كتاب : الفرقانُ بينَ أولياءِ الرَّحمَنِ وأولياءِ الشَّيْطانِ
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

الفرق بين الأمور الكونية والأمور الشرعية
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ " الْإِرَادَةِ " وَ " الْأَمْرِ " وَ " الْقَضَاءِ " وَ " الْإِذْنِ " وَ " التَّحْرِيمِ " وَ " الْبَعْثِ " وَ " الْإِرْسَالِ " وَ " الْكَلَامِ " وَ " الْجَعْلِ " : بَيْنَ الْكَوْنِيِّ الَّذِي خَلَقَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَضَاهُ ؛ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَا يُحِبُّهُ وَلَا يُثِيبُ أَصْحَابَهُ وَلَا يَجْعَلُهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ ،وَبَيْنَ الدِّينِيِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ وَأَثَابَ عَلَيْهِ وَأَكْرَمَهُمْ وَجَعَلَهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ ؛ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوقِ الَّتِي يُفَرَّقُ بِهَا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ، فَمَنِ اسْتَعْمَلَهُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ فِيمَا يُبْغِضُهُ الرَّبُّ وَيَكْرَهُهُ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَعْدَائِهِ .
فَ " الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ " (1)هِيَ مَشِيئَتُهُ لِمَا خَلَقَهُ، وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ دَاخِلَةٌ فِي مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ.
وَالْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ(2): هِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَجَعَلَهُ شَرْعًا وَدِينًا ، وَهَذِهِ مُخْتَصَّةٌ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (3)(125) سورة الأنعام ،وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ : {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (4)(34) سورة هود ،وَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}(5)
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 412) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 82) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 131) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 188) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 189) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 440) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 25)
(2) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 411) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 82) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 131) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 140) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 188) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 189) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 440)
(3) - إِذَا أَرَادَ اللهُ هِدَايَةَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ يُيَسِّرُهُ لِلإِسْلاَمِ ، وَيُوَسِّعُ قَلْبَهُ لِلْتَّوْحِيدِ ، وَالإِيمَانِ بِهِ ، وَيَقْذِفُ اللهُ فِي قَلْبِهِ نُوراً يَنْشَرِحُ لَهُ وَيَنْفَسِحُ ، كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم .
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُضِلَّ أَحَداً يَجْعَلُ صَدْرَهُ ضَيِّقاً لاَ يَتَّسِعُ لِشَيءٍ مِنَ الهُدَى وَلاَ يَخْلُصُ إِلَيهِ شَيءٌ مِنَ الإِيمَانِ ، فَإِذَا طُلِبَ إِلَيْهِ التَّأَمُّلُ فِيمَا يُدْعَى إِلَيْهِ مِنْ دَلاَئِلِ التَّوْحِيدِ وَالنَّظَرِ فِي الأَنْفُسِ وَالآفَاقِ . وَجَدَ فِي صَدرِهِ ضِيقاً عَنْ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ مِثْلُهُ فِي ضِيقِ الصَّدْرِ مَثَلُ مَنْ يَصْعَدُ إلى الطَّبَقَاتِ العُلْيا مِنَ السَّمَاءِ إِذْ يَشْعُرُ بِضِيقٍ فِي التَّنَفُّسِ ، وَكُلَّمَا تَزَايَدَ صُعُودُهُ تَزَايَدَ شُعُورُهُ بِضِيقٍ فِي التَّنَفُّسِ .
وَكَمَا يَجْعَلُ اللهُ صَدْرَ مَنْ أَرَادَ إِضْلاَلَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ، كَذَلِكَ يُسَلِّطُ اللهُ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ مِمَّنْ أَبَوا الإِيمَانَ ، فَيَغْوِيهِ ، وَيَصُدُّهُ عَنْ سَبِيلِ اللهِ .
( وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الرِّجْسُ هُنَا هُوَ الشَّيْطَانُ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ مَا لاَ خَيْرَ فِيهِ ) .
(4) - وَأَيُّ شَيءٍ يُفِيدُكُمْ نُصْحِي وَإِبْلاَغِي إِيَّاكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي إِنْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُضِلَّكُمْ وَيَغْوِيكُمْ؟ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَالِكُ أَزِمَّةِ الأُمُورِ ، المُتَصَرِّفُ المُطْلَقُ ، العَادِلُ الذِي لا يَجُورُ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ النَّاسُ ، يَوْمَ الحِسَابِ ، لِيَجْزِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ أَنَّ النُّصْحَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُهُ المُسْتَعِدُّ لِلرَّشَادِ ، وَيَرْفُضُهُ مَنْ غَلَبَ عَلَيهِ الغَيُّ وَالفَسَادُ .
(5) - إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ ، مِنْ خَيْرٍ إِلَى سُوءٍ ، إِلاَّ إِذَا غَيَّرُوا مَا هُمْ عَلَيهِ ، وَلا يُغَيِّرُ اللهُ مَا بِقَوْمٍ مِنْ سُوءٍ إِلَى خَيْرٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بَأَنْفُسِهِمْ .
( وَرُوِيَ : أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ قُلْ لِقَوْمِكَ : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ ، وَلاَ أَهْلِ بَيْتٍ يَكُونُونَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ ، فَيَتَحَوَّلُونَ مِنْهَا إِلى مَعْصِيَتِهِ ، إِلاَّ حَوَّلَ اللهُ عَنْهُمْ مَا يُحِبُّونَ إِلَى مَا يَكْرَهُونَ ) .
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُصِيبَ قَوْماً بِشَرٍّ عِقَاباً لَهُمْ ، فَلاَ رَادَّ لإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ وَلِيٌّ يَنْصُرُهُمْ مِنْ دُوْنِ اللهِ ، أَوْ يَرُدُّ قَضَاءَ اللهِ عَنْهُمْ .

(11) سورة الرعد ،وَقَالَ تَعَالَى فِي الثَّانِيَةِ : {. وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1)(185) سورة البقرة ، وَقَالَ فِي آيَةِ الطَّهَارَةِ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(2) (6) سورة المائدة، وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَحَلَّهُ وَمَا حَرَّمَهُ مِنْ النِّكَاحِ قَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) }(3)
__________
(1) - وَيُكَرِّرُ تَعَالَى ذِكْرَ الرُّخْصَةِ فِي الإِفْطَارِ لِلْمَرْضَى وَالمُسَافِرِينَ بِشَرْطِ قَضَاءِ الأَيَّامِ التِي يُفْطِرُونَهَا إِكْمَالاً لِلعِدَّةِ ، وَمَتَى أنْهَى المُؤْمِنُ عِبَادَتَهُ مِنْ صِيَامٍ وَصَلاَةٍ ، كَبَّرَ اللهُ ، وَذَكَرَهُ وَشَكَرَهُ عَلَى مَا هَدَاهُ ، لَعَلَّهُ إِنْ فَعَلَ ذلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّاكِرِينَ للهِ عَلَى مَا أَعَانَهُ عَلَيهِ مِنَ القِيَامِ بِطَاعَتِهِ ، وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ .
(2) - فِي هَذِهِ الآيَةِ يَبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ شُرُوطَ الوَضُوءِ وَالتَّيَمُمِ ، وَيَأمُرُ المُؤْمِنِينَ بِالوُضُوءِ إذا قَامُوا إلى الصَّلاَةِ وَهُمْ مُحْدِثُونَ ( وَيُسْتَحَبُّ الوُضُوءَ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ ) . وَالوُضُوءُ هُوَ غَسْلُ الوَجْهِ ، وَغَسْلُ اليَدَينِ إلى المِرْفَقَيْنِ ، وَمَسْحُ الرَّأسِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ ، وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ إلَى الكَعْبَيْنِ . وَيَقُولُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ : إذَا كُنْتُمْ جُنُباً فَاغْتَسِلُوا ، وَإِذَا كُنْتُمْ مَرْضَى لاَ تَسْتَطِيعُونَ مَسَّ المَاءِ لِلْوُضُوءِ وَالاغْتِسَالِ ، أَوْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَكُمُ المَاءُ ، وَإذا أَحْدَثْتُمْ ( جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ ) ، أَوْ بَاشَرْتُمُ النِّسَاءَ . وَلَمْ تَجِدُوا مَاءَ لِتَغْتَسِلُوا وَتَتَوضَّؤُوا فَتَيَمَّمُوا مَا صَعَدَ عَلى سَطْحِ الأَرْضِ مِنْ تُرَابٍ طَاهِرٍ ( طَيِّبٍ ) فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ، وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يُيَسِّرَ الأَمْرَ عَلَيْكُمْ ، وَلاَ يُحْرِجَكُمْ فِي أمُورِ دِينِكُمْ ، وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ أنْ يُطَهِّرَكُمْ ، وَأَنْ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ، فَيَجْمَعَ لَكُمْ بَيْنَ طَهَارَةِ الأًَبْدَانِ وَطَهَارَةِ الرُّوحِ ، لِيُعِدَّكُمْ بِذَلِكَ لِدَوَامِ شُكْرِهِ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ ، وَعَلَى مَا يَسَّرَهُ لَكُمْ .
(3) - إنَّ اللهَ يُرِيدُ أنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ ، أيُّها المُؤْمِنُونَ ، مَا أَحَلَّ لَكُمْ ، وَمَا حَرَّمَ عَلَيْكُم ، وَأَنْ يَهْدِيكُمْ إلى سُنَنِ مَنْ كَانُوا قَبْلَكُمْ ، وَطَرَائِقِهِمُ الحَمِيدَةُ ، وَإلى اتِّبَاعِ شَرَائِعِهِ التِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا ، وَيُرِيدُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْكُم مِمَّا ارْتَكَبْتُمْ مِنَ الإِثْمِ وَالمَحَارِمِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ، حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ .
وَاللهُ يُرِيدُ بِمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الأَحْكَامِ أنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ مَا فِيهِ مَصَالِحُكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ ، وَأَنْ تَهْتَدُوا وَتَعْمَلُوا صَالِحاً ، وَتَتَّبِعُوا شَرْعَهُ لِيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَيُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِئَاتِكُمْ ، وَيُرِيدُ أَتْبَاعُ الشَّيْطَانِ الضَّالُونَ أنْ تَمِيلُوا عَنِ الحَقِّ إلى البَاطِلِ مَيْلاً عَظِيماً .
وَيُريدُ اللهُ تَعَالَى أنْ يُخَفِّفَ عنَكْمُ التَّكَالِيفَ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَشَرْعِهِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، لأنَّ الإِنْسَانَ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ وَعَزْمِهِ وَهِمَّتِهِ ، لِذَلِكَ أَبَاحَ لَكُمُ الزَّوَاجَ مِنَ الإِمَاءِ بِشُرُوطٍ حَدَّدَهَا .

[النساء]، وَقَالَ لَمَّا ذَكَرَ مَا أَمَرَ بِهِ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ : {.. إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (1)(33) سورة الأحزاب ،وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِمَا يُذْهِبُ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ،فَمَنْ أَطَاعَ أَمْرَهُ كَانَ مُطَهَّرًا قَدْ أُذْهِبَ عَنْهُ الرِّجْسُ بِخِلَافِ مَنْ عَصَاهُ .
وَأَمَّا " الْأَمْرُ " فَقَالَ فِي الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (2)(40) سورة النحل ،وَقَالَ تَعَالَى : {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (3)(50) سورة القمر ،وَقَالَ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) }(4) [يونس/24، 25].
__________
(1) - ، فَاللهُ تَعالى يُريدُ أَنْ يُطَهِّرَ أَهلَ بَيْتِ رَسُولِهِ تَطهيراً لا تُخَالِطُهُ شُبْهَةٌ مِنْ دَنَسِ الفِسْقِ والفُجُورِ ، وأَنْ يُذْهِبَ عَنْهُم السُّوءَ والفَحْشَاءَ .
(2) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ ، وَأَنَّ بَعْثَ الخَلاَئِقِ ، يَوْمَ القِيَامَةِ ، سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ دَاعِيَ لأَنْ يستبعده الكفار ، فإذا أراد الله أمرا فإنه يقول له : كن ، فيكون الشيء لوفته دون أن يكرر الله أمره مرة أخرى { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر . }
(3) - يُخْبرُ اللهُ تَعَالى عَنْ نُفُوذِ مشِيئِتهِ في خَلْقِهِ فيقولُ : إِذَا أردْنا أمْراً قُلْنَا لَهُ : كُنْ . فَإِذا هُوَ كَائِنٌ ، في مِثْلِ لَمْحِ البَصَرِ دُونَ إبْطَاءٍ وَلاَ تَأخِيرٍ ، وَلاَ يَحْتَاجُ أمْرُنا إلى تَأكِيدِهِ مَرَّةً أُخْرَى .
(4) - ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي جَمَالِهَا وَبَهْجَتِهَا ، ثُمَّ فِي سُرْعَةِ فَنَائِهَا ، بِالنَّبَاتِ الذِي أَخْرَجَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الأَرْضِ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهَا مِنَ المَطَرِ ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا ، وَمِمَّا تَأْكُلُ الحَيَوَانَاتُ ( الأَنْعَامُ ) حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زِينَتَهَا الفَانِيَةَ ( زُخْرُفَها ) وَازَّيَّنَتْ بِمَا خَرَجَ فِي رُبَاهَا مِنْ زُهُورٍ نَضِرَةٍ مُخْتَلِفَةِ الأَشْكَالِ وَالأَلْوَانِ ، كَمَا تَتَزَيَّنُ العَرُوسُ لَيْلَةَ زَفَافِهَا ، وَظَنَّ أَهْلُهَا ، الذِينَ زَرَعُوهَا وَغَرَسُوهَا ، أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى جَزَازِهَا وَحَصَادِهَا ، وَجَنْيِ ثِمَارِهَا ، وَالتَّمَتُّعِ بِهَا ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَأْمُلُونَ ذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهَا صَاعِقَةٌ ، أَوْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بَارِدَةٌ فَأَيْبَسَتْ أَوْرَاقَها ، وَأَتْلَفَتْ ثِمَارَها ، فَأَصْبَحَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حِيناً قَبْلَ ذَلِكَ ، وَهَكَذا يُبَيَّنُ اللهُ الحُجَجَ وَالآيَاتِ ، لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ ، فَيَعْتَبِرُونَ بِهَذَا المَثَلِ ، فِي زَوَالِ الدُّنْيَا عَنْ أَهْلِهَا سَرِيعاً ، مَعَ اغْتِرَارِهِمْ بِهَا .

وَأَمَّا : الْأَمْرُ الدِّينِيُّ (1): فَقَالَ تَعَالَى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }(2) (90) سورة النحل ، وَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) }(3) [النساء/58].
وَأَمَّا " الْإِذْنُ " فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ لَمَّا ذَكَرَ السِّحْرَ : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } (4)[البقرة/102] أَيْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ وَإِلَّا فَالسِّحْرُ لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 77) ومجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 264) ومجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 320) ومجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 411) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 24) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 673)
(2) - إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُ فِي كِتَابِهِ الذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِالعَدْلِ وَالإِنْصَافِ ، وَيَنْدُبُ إِلَى الإِحْسَانِ وَالفَضْلِ ، وَيَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحْمِ وَإِعْطَاءِ ذَوِي القُرْبَى مَا هُمْ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ ، وَيَنْهَى عَنِ ارْتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ وَالمُنْكَرَاتِ وَالفَوَاحِشِ ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، مِمَّا يَأْتِيهِ العَبْدُ سِرّاً وَخِفْيَةً وَاللهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالخَيْرِ ، وَيَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَالشَّرِّ ، لَعَلَّكُمْ تَتَذَكَّرُونَ مَا أَوْدَعَهُ اللهُ فِي الفِطْرَةِ مِنْ وَحْيٍ قَوِيمٍ أَصِيلٍ ، فَتَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ .
(3) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِأَدَاءِ الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا . وَأَدَاءِ الأَمَانَاتِ يَشْمَلُ جَمِيعَ الأَمَانَاتِ الوَاجِبَةِ عَلى الإِنْسَانِ : مِنْ حُقُوقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ( مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ . . . ) وَمِنْ حُقُوقِ العِبَادِ ( كَالوَدَائِعِ وَغَيرَ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْتَمَنُ الإِنْسَانُ عَلَيهِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ بِيَدِ أَصْحَابِهَا وَثَائِقَ وَبَيَنَاتٍ عَلَيهَا ) . هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، فَقَدْ كَانَتْ لَهُ حِجَابَةُ الكَعْبَةِ . وَلَمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِالكَعْبَةِ ، ثُمَّ دَعَا بِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، وَأَخَذَ مِنْهُ مُفْتَاحَ الكَعْبَةِ وَدَخَلَها . فَجَاءَهُ العَبَّاسُ ( وَقِيلَ بَلْ جَاءَهُ عَلِي ) فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، اجْمَعْ لَنَا حَجَابَةَ الكَعْبَةِ مَعَ السِّقَايَةِ . فَدَعَا رَسُولَ اللهِ بِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَدَفَعَ إِلَيهِ المُفْتَاحَ ، وَخَرَجَ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ .
وَيَأْمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ النَّاسِ بِالعَدْلِ ، وَأَنْ يَكُونَ العَدْلُ عَاماً لِلْبَرِّ وَالفَاجِرِ ، وَلِكُلِّ أحَدٍ ، وَأنْ لاَ يَمْنَعَهُمْ مِنْ إِقَامَةِ العَدْلِ حِقْدٌ أَوْ كَرَاهِيَةٌ أوْ عَدَاؤةٌ .
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى إنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ ، وَيَعِظُ بِهِ المُؤْمِنِينَ ، هُوَ الشَّرْعُ الكَامِلُ ، وَفِيهِ خَيْرُهُمْ ، وَاللهُ سَمِيعٌ لأَقْوَالِ العِبَادِ ، بَصِيرٌ بِأَفْعَالِهِمْ ، فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِمَا يَسْتَحِقُّ
(4) - وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِسِحْرِهِمْ هذا أحَداً ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الذِي يَأْذَنُ بِالضَّرَرِ إنْ شَاءَ

وَقَالَ فِي " الْإِذْنِ الدِّينِيِّ " (1): {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2)(21) سورة الشورى ،وَقَالَ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) } (3) [الأحزاب/45-47]، وَقَالَ تَعَالَى : {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}(4) (5) سورة الحشر.
وَأَمَّا " الْقَضَاءُ " فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ : {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (5)(12) سورة فصلت ،وَقَالَ سُبْحَانَهُ : {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(6) (47) سورة آل عمران.
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 412) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 25)
(2) - إِنَّهُمْ لاَ يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ اللهُ مِنَ الدِّينِ القَوِيمِ بَلْ يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ لَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُو عَلَيْهِمْ مِنَ البَحَائِرِ والوَصَائِلِ والسَّوَائِب ، وَتَحْلِيلِ أَكْلِ المِيتَةِ والدَّمِ ، وَالمَيْسِرِ ، وَإِنْكَارِ البَعْثِ والنُّشُورِ والحِسَابِ . . وَلَوْلاَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَضَى بِأَنْ يُؤخِّرَ عِقَابِهُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لَعَاجَلَهُمْ بِالعُقُوبَةِ والعَذَابِ . والذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِشَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنِ اللهُ لَهُمْ بِهِ ، لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ .
(3) - يَا أَيُّها الرَّسُولُ إِن اللهَ تَعَالى بَعَثَكَ شَاهِداً عَلَى مَنْ أُرْسِلْتَ إِليهِمِ ، تُرَاقِبُ أحْوَالَهُم ، وَتَرَى أَعْمَالَهُمْ ، وَتَشْهَدُ عَلَيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَأَرْسَلَكَ مُبَشِّراً لَهُمْ بِالجَنَّةِ إِنْ صَدَّقُوكَ ، وَعَمِلُوا بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَمُنْذِراً لَهُمْ بِعَذَابِ النَّارِ إِنْ هُمْ كَذَّبُوكَ وَخَالَفُوا مَا أَمَرْتَهُمْ بِهِ ، وَنَهَيْتَهُمْ عَنْهُ .
وَإِنَّهُ تَعَالَى بَعَثَكَ دَاعِياً الخَلْقَ إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ، وَمُرَاقَبَتِهِ فِي السِّرِّ والعَلَنِ ، وَجَعَلَ أَمْرَكَ ظَاهِراً كالشَّمْسِ في إِشْرَاقِها وَإِضَاءَتِها لاَ يَجْحَدُها إِلاَّ مَكَابِرٌ .
( أَوْ إِن المَعْنى هُوَ : وَجَعَلْنَاكَ سَرَاجاً مُنيراً لِيَسْتَضِيءَ بِكَ الضَّالُّونَ ، وَيَتقْتَبِسَ مِنْ نُورِكَ المُهْتَدُونَ ) .
(4) - لَمَّا حَاصَرَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَنِي النَّضِيرِ فِي حُصُونِهِمْ أَمَرَ بِقَطْعِ نَخْلِهِمْ إِرْعَاباً لَهُمْ ، فَبَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ يَقُولُونَ : إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الفَسَادِ ، فَمَا بَالُكَ تَأْمُرُ بِقَطْعِ الأَشْجَارِ؟ فَأْنَزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَفِيهَا يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنينَ : إِنَّ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ أَشْجَارِ النَّخِيلِ ، وَمَا تَرَكْتُمُوهُ دُونَ قَطْعٍ فَالجَمِيعُ بِإِذْنِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ ، وَلاَ بَأْسَ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَلاَ حَرَجَ ، وَفِيهِ نِكَايَةٌ وَخِزْيٌ وَنكَالٌ لِلفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ .
(5) - فَأَتَمَّ خَلْقَهُنَّ وَجَعَلَهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَينِ آخَرَينِ ، فَأَصْبَحَ خَلْقُ الكَوْنِ كُلِّهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . وَجَعَلَ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَا تَحْتَاجُ إِلَيهِ ، وَمَا هِيَ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ . وَزَيَّنَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِكَوَاكِبَ مَضِيئَةٍ مَتَلأْلِئَةٍ كَالمَصَابِيحِ ، وَحَفِظَها مِنَ الاضْطِرَابِ فِي سَيْرِهَا ( وَحِفْظَاً ) ، وَجَعَلَهَا تَسِيرُ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ مَا دَامَ هَذَا النِّظَامُ بَاقِياً حَتَّى يَأْتِي اليَوْمُ المَوْعُودُ . وَذِلِكَ الذِي تَقَدَّمَ هُوَ تَقْدِيرُ اللهِ الذِي عَزَّ كُلَّ شَيءٍ وَقَهَرَهُ ، العَلِيمِ بِحَرَكَاتِ مَخْلُوقَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِمْ .
(6) - فَلَمَّا جَاءَتْها البُشْرَى مِنَ المَلاَئِكَةِ أَخَذَتْ تُنَاجِي رَبَّها وَتَقُولُ : كَيْفَ يَا رَبِّ يَكُونُ لِي وَلَدٌ ، وَأنَا لَسْتُ بِذَاتِ زَوْجٍ ، وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟ فَأجَابْتها المَلاَئِكَةُ : إنَّ اللهَ إذا أرَادَ أمْراً فَلا يُعْجِزُهُ شَيءٌ ، وَيَخْلُقُ مَا يُرِيدُ بِأنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الشَّيءُ فَوْرَ أمْرِ اللهِ ، مِنْ غَيْرِ رَيْثٍ وَلاَ إِبْطَاءٍ .

وَقَالَ فِي الدِّينِيِّ(1) : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ ..}(2) (23) سورة الإسراء ،أَيْ أَمَرَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ قَدَّرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ عُبِدَ غَيْرُهُ كَمَا أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(3) (18) سورة يونس، وَقَوْلُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) } (4)[الشعراء/75-78]، وَقَالَ تَعَالَى : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}(5)
__________
(1) - أي في القضاء الديني
(2) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ( وَقَضَى رَبُّكَ - يَعْنِي أَمَرَ رَبُّكَ وَوَصَّى ) ، وَوَصَّى اللهُ المُؤْمِنِينَ بِالإِحْسَانِ إِلَى الوَالِدَيْنِ ،
(3) - وَهَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ الذِينَ يَعْبُدُونَ آلِهَةً غَيْرَ اللهِ هِيَ فِي الحَقِيقَةِ أَصْنَامٌ مِنْ حِجَارَةٍ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَهَا لِتَكُونَ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ ، اسْأَلْهُمْ يَا مُحَمَّدُ : هَلْ تُخْبِرُونَ اللهَ بِشَرِيكٍ لَهُ لاَ يَعْلَمُ اللهُ لَهُ وُجُوداً فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ مَلاَئِكَةٍ ، وَفِي الأَرْضِ مِنْ خَوَاصِّ خَلْقِه؟ وَلَوْ كَانَ لَهُ شُفَعَاءَ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ لَكَانَ هُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْكُمْ ، إِذْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ .
ثُمَّ نَزَّهَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةَ عَنْ شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ .
(4) - قالَ إبراهيمُ لقومِهِ : هلْ تَرَوْنَ هذهِ الأصنامَ التي تَعْبُدُونها أنتم؟ أفرأيتُمْ - أتَأَمَّلْتُمْ فَعَلِمْتُمْ .والتي عَبَدَهَا آباؤُكُم الأقْدَمُون من قَبْلِكُمْ؟
إِنَّنِي بَرَاءٌ منها جَميعاً ، وَأَنَا لا أَعتَرِفُ برُبوبيَّةِ شَيءٍ منْها ، وإِنَّنِي لا أَعْبُدُ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ سُبحانَهُ ، فَهُوَ رَبُّ العَالمِينَ ، وَلا رَبَّ سِوَاهُ .
(5) - أَفَلاَ تَأَسَّى هَؤُلاَءِ الذِينَ يُوَادُّونَ الكَافِرِينَ بِأَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ ، وَأَصْحَابِهِ المُؤْمِنينَ ، حِينَ قَالُوا لِقَوْمِهِم الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ : إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الآلِهَةِ وَالأَنْدَادِ ، وَجََحَدْنَا ما أَنْتُمْ عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ ، وَأَنْكَرْنَا عِبَادَتَكُمْ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ حِجَارَةٍ وَأَوْثَانٍ وَأَصْنَامٍ ، وَقَدْ أَعْلَنَّا الحَرْبَ عَلَيْكُمْ ، فَلاَ هَوَادَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ، وَسَنَبْقَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللهِ وَتُوَحِّدُوهُ ، وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلاَ صَاحِبَةَ وَلاَ وَلَدَ ، وَتَتَخَلَّصُوا مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ .
وَلَكُمْ فِي أَبْيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَتَأَسَّوْنَ بِهَا ، وَتَعْتَبِرُونَ بِهَا فِي مَسْلَكِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ ، وَلاَ تَسْتَثْنُوا مِنْ تَصَرُّفَاتِ إِبْرَاهِيمَ التِي تَقْتَدُونَ بِهَا إِلاَّ اسْتْغْفَارَهُ لأَبِيهِ الذِي بَقِيَ مُقِيماً عَلَى الكُفْرِ ، فَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ : إِنَّهُ سَيَسْتَغْفِرُ لَهُ اللهَ ، وَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفَعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَالأَمْرُ مَرْدُودٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ . وَلَكِنَّ هَذَا القَوْلَ صَدَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمِ حِينَمَا وَعَدَهُ أَبُوهُ بِأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ بِاللهِ ، وَيَتْبَعُهُ فِيمَا يَعْبُدُ . فَلَمَّا تَبَيَّنَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ عَدُوٌ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ .
وَحِينَمَا فَارَقَ إِبْرَاهِيمُ وَالمُؤْمِنُونُ مَعَهُ قَوْمَهُمْ لَجَؤُوا إِلَى اللهِ مُتَضَرِّعِينَ قَائِلِينَ : رَبَّنَا إِنَّنَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا ( تَوَكَّلْنَا ) ، وَرَجَعْنَا إِلَيكَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِنَا ، وَإِلَيكَ مَصِيرُنَا حِينَ تَبْعَثُنَا مِنْ قُبُورِنَا لِلْعََرْضِ وَالحِسَابِ . فَاقْتَدُوا بِهِمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ، وَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ .

(4) سورة الممتحنة ،وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) (1)}سورة الكافرون، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ تَقْتَضِي بَرَاءَتَهُ مِنْ دِينِهِمْ وَلَا تَقْتَضِي رِضَاهُ بِذَلِكَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ}(2) (41) سورة يونس.
وَمَنْ ظَنَّ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ هَذَا رِضَا مِنْهُ بِدِينِ الْكُفَّارِ فَهُوَ مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ وَأَكْفَرِهِمْ ،كَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ :{ وَقَضَى رَبُّكَ } بِمَعْنَى قَدَّرَ ،وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا قَضَى بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ، وَجَعَلَ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا بِالْكُتُبِ .
وَأَمَّا لَفْظُ " الْبَعْثِ " فَقَالَ تَعَالَى فِي الْبَعْثِ الْكَوْنِيِّ : {فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً}(3)
__________
(1) - كَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَدْ عَرَضُوا عَلَى رَُسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْبُدَ مَعَهُمْ آلِهَتَهُمْ مِنَ الأوْثَانِ سَنَةً ، ويَعْبُدُونَ مَعَهُ رَبَّهُ سَنَةً ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ الكَرِيمَةَ . وَفِيهَا يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ .د
إِنَّنِي لاَ أَعْبُدُ الأَصْنَامَ التِي تَعْبُدُونَهَا أَنْتُمْ لأَنَّهَا حِجَارَةٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ ، وَلاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً .
وَلاَ أَنْتُمْ تَعْبُدُونَ إِلهِي الذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَهُوَ الإِلهُ الوَاحِدُ الأَحَدُ ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُوجِدُهُ ، وَمُدَبِّرُ الأَمْرِ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ .
وَلاَ أَنَا أَعْبُدُ مِثْلَ عِبَادَتِكُمْ فَلاَ أَسْلُكُهَا ، وَلا أَقْتَدِي بِهَا ، وَإِنَّمَا أَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ عَلَى الوَجْهِ الذِي يُحِبُّهُ وَيَرْتَضِيهِ .
وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مِثْلَ عِبَادَتِي ، فَعِبَادَتِي خَالِصَةٌ للهِ ، وَعِبَادَتُكُمْ يَشُوبُهَا الشِّرْكُ .
لَكُمْ دِينُكُم الذِي اعْتَقَدْتُمُوهُ . وَلَكُمْ جَزَاؤُكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَلِي إِسْلاَمِي ، وَلِي جَزَائِي عَلَى أَعْمَالِي .
(2) - وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِكَ ، مَعَ وُضُوحِ الأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِكَ فِيمَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيهِ ، فَقُلْ لَهُمْ : إِنَّ لِي جَزَاءَ عَمَلِي ، وَلَكُمْ أَنْتُمْ جَزَاءَ أَعْمَالِكُمْ ، وَلَنْ يَحْمِلَ أَحَدٌ شَيْئاً مِنْ وِزْرِ أَحَدٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ بَرِيءٌ مِنْ عَمَلِ الآخَرِ ، وَلاَ يُؤَاخِذُ أَحَدٌ بِعَمَلِ غَيْرِهِ .
(3) - فَإِذَا حَانَ وَقْتُ العِقَابِ ، عَلَى إِفْسَادِهِمْ فِي الأَرْضِ فِي المَرَّةِ الأُوْلَى ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عِبَاداً مُؤْمِنِينَ مِنْ خَلْقِهِ ، ذَوِي بَطْشٍ شَدِيدٍ فِي الحُرُوبِ ، فَقَهَرُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَتَرَدَّدُوا خِلاَلَ بُيُوتِهِمْ وَمَساكِنِهِمْ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً ، وَلاَ يَخَافُونَ عَلَيْهِمْ رِدَّةً . وَكَانَ وَعْدُ اللهِ وَمَا قَضَاهُ كَائِناً لاَ بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ ، كَمَا قَضَى اللهُ وَأَعْلَمَ .
وَقَدْ وَرَدَتْ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ حَوْلَ ( العِبِادِ ) الذِينَ سَيُسَلِّطُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكُلُّهَا تَجْعَلُ هؤُلاَءِ مِنَ الأَقْوَامِ البَائِدَةِ ( الآشُورِيِّينَ وَالكِلْدَانِيِّينَ وَالرُّومَانِ . . . ) عَلَى اعْتِبَارِ أَنْ تِلْكَ الأَقْوَامَ سَبَقَ لَهَا أَنْ أَذَاقَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الوَيْلاَتَ ، وَدَمَّرَتْ مُلْكَهُمْ ، وَشَرَّدَتْهُمْ فِي الأَرْضِ .
وَلَكِّنَ الأُسْتَاذَ مُحَمَّد مُتْوَلِّي الشِّعْرَاوِيَّ يَرَى أَنَّ العِبَادَ الذِينَ عَنَاهُمُ النَّصُّ هُمُ المُسْلِمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ شُعُوبِ الأَرْضِ . وَيَدْعَمُ رَأْيَهُ بِمَا خُلاَصَتُهُ :
أ - اسْتَعْمَلَتِ الآيَةُ تَعْبِيرَ ( فَإِذَا جَاءَ ) ؛ ( وَإِذَا ) ظَرَفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ ، يَعْنِي أَنَّ الفِعْلَ المُحْكِيَّ عَنْهُ سَيَحْدُثُ بَعْدَ القَوْلِ الذِي تَضَمَّنَ لَفْظَةَ ( إِذَا جَاءَ ) . وَهَذا يَعْنِي أَنَّ الأَمْرَ الذِي قَضَاهُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ سَيَقَعُ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ القُرْآنِيَّةِ التِي أَشَارَتْ إِلَى مَا قَضَاهُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقاً بِحَادِثٍ وَقَعَ قَبْلَهَا .
ب - اسْتَعْمَلَتِ الآيَةُ عِبَارَةَ ( عِبَاداً لَنَا ) . وَعِبَادُ اللهِ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ، فِي التَّعْبِيرِ القُرْآنِي تَعْنِي أَنَّ القَوْمَ الذِينَ سَيُسَلِّطُهُمُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَبِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كُتُبٍ ، وَمَنْ أَرْسَلَ مِنْ رُسُلٍ وَأَنْبِيَاءٍ لِهِدَايَةِ البَشَرِ ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ اليَوْمَ مَنْ تَجْتَمِعُ فِيهِمْ هَذِهِ الأَوْصَافُ غَيْرُ المُسْلِمِينَ .
كَمَا أَنَّ الأُمَمَ الخَالِيَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَها مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَنْهَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ الخَالِصِ .
ج - إِنَّ العِبَادَ الذِينَ سَيُسَلِّطُهُمُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمْ أَنْفُسُهُمْ فِي المَرَّتَيْنِ ، وَإِنَّ اليَهُودَ سَيَتَغَلَّبُونَ عَلَى هؤُلاَءِ العِبَادِ بَعْدَ المَرَّةِ الأًُولَى ، ثُمَّ يَرُدُّ اللهُ تَعَالَى الكَرَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، بَعْدَ أَنْ يُمْعِنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَسَاداً فِي الأَرْضِ وَطُغْيَاناً . وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الأُمَمِ الخَالِيَّةِ بَقِيَّةٌ يُمْكِنُ أَنْ تُنْسَبَ إِلَى أَسْلاَفِهَا المُؤْمِنِينَ أَيْضاً لِتَقُومَ عَنْهُمْ بِالانْتِقَامِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ .
وَيَرَى الأُسْتَاذُ مُحَمَّد مُتْوَلِّي الشَّعْرَاوِيّ أَنَّ اليَهُودَ كَانَ لَهُمْ سُلْطَانٌ فِي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ فَأَكْثَرُوا الفَسَادَ زَمَنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ، وَتَآمَرُوا عَلَى الرَّسُولِ وَالمُسْلِمِينَ ، فَسَلَّطَ اللهُ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ ، فَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ ، وَأَخْرَجُوا البَاقِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ تَعَالَى فِي النَّصِّ قَهْرَ اليَهُودِ فِي المَرَّةِ الأُوْلَى مِنْ قِبَلِ عِبَادِ اللهِ مُتَلاَزِماً مَعَ دُخُولِ هَؤُلاَءِ العِبَادِ المَسْجِدَ الأَقْصَى ، وَلاَ بِحُدُوثِ ذَلِكَ فِي أَرْضِ فِلَسْطِينَ . وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّ المَسْجِدَ الأَقْصَى كَانَ ، حِينَمَا قَهَرَ المُسْلِمُونَ اليَهُودَ فِي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ ، تَحْتَ حُكْمِ الرُّومَانِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْيَهُودِ فِي فِلَسْطِينَ سُلْطَانٌ وَلاَ كَيَانٌ مُتَمَيِّزٌ فِي ذَلِكَ الحِينِ .
قلت : وهذا هو الصواب في تفسير هذه الآيات

(5) سورة الإسراء، وَقَالَ فِي الْبَعْثِ الدِّينِيِّ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) } (1) [الجمعة/2]،وقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) }(2) [النحل/36] .
وَأَمَّا لَفْظُ " الْإِرْسَالِ " فَقَالَ فِي الْإِرْسَالِ الْكَوْنِيِّ : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) } (3) [مريم83]، وَقَالَ تَعَالَى : {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا}(4) (48) سورة الفرقان ،وَقَالَ فِي الدِّينِيِّ (5): {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}(6) (45) سورة الأحزاب ،وَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) }(7) [نوح/1]، وَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) }(8)
__________
(1) - وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولاً فِي العَرَبِ الأُميِّينَ هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ، وَهُوَ أُميٌّ مِنْهُمْ . لاَ يَقْرَأُ وَلاَ يَكْتُبُ ، وَقَدْ بَعَثَهُ اللهُ إِليْهِمْ لِيَتْلُوَ عَلَيْهِمْ آيَاتِ القُرآنِ التِي أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى ، لِيُطهرَهُمْ مِنْ خَبَائِث العَقَائِِدِ وَلِيعَلِّمَهُم الشَّرَائِعَ والأَحْكَامَ ، وَحِكْمَتَهَا وَأَسْرَارَهَا ، وَقَدْ كَانَ هَؤُلاَءِ الأُمِّيونَ ، قَبْلَ إِرْسَالِ النَّبِيِّ إِليهِمْ ، فِي ضَلاَلٍ بَيِّنٍ عَنْ جَادَّةِ الهُدَى ، إِذْ إِنَّ العَرَبَ كَانُوا قَبْلاً عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ ، ثُمَّ ابْتَعَدُوا عَنِ التَّوْحِيدِ ، وَتَسَرَّبَتِ الضَّلاَلاَتُ إِلَى عَقِيدَتِهِمْ ، فأَصْبَحُوا مُشْرِكِينَ .
(2) - لَقَدْ بَعَثَ اللهُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ ( الطَّاغُوتِ ) ، وَعَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ ، وَعَنِ الشِّرْكِ بِاللهِ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ، وَاتَّبَعَ الرُّسُلَ فَاهْتَدَى ، وَمِنْهُمْ مَنَ ضَلَّ وَاسْتَكْبَرَ وَعَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ ، لِهؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ : سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَتْ نِهَايَةُ المُكَذِبِينَ ، وَكَيْفَ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَأَهْلَكَهُمْ ، وَجَعَلَ عَاقِبَتَهُمْ أَسْوَأَ عَاقِبَةٍ ، وَلِذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ بُرْهَانَ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّ اللهَ رَضِيَ لَهُمُ الكُفْرَ .
(3) - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ سَلَّطَ الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ وَالمُشْرِكِينَ ، لِيَغْوُوهُمْ ، وَيُغْرُوهُمْ بِارْتِكَابِ المَعَاصِي ، وَيَهِيجُوهُمْ لِلْوُقُوعِ فِيهَا؟
(4) - ومِنْ دلائلِ قُدرتِه تَعالى أَنَّهُ يُرسِلُ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بمَجيءِ ، السَّحابِ بَعدَها ( بين يديْ رحمتِهِ ) ، ومن الرياحِ ما يُثير السَّحابَ ، ومنها ما يَحْمِلُه ، ومنها ما يَسُوقُه ، ومنها ما يَلْقَحُ السَّحابَ ليُمْطِرَ ، ويُنزلُ اللهُ تعالى مَطراً من السَّماءِ يَتَطَهَّرُ بهِ الناسُ .
(5) - أي وَقَالَ فِي الْإِرْسَالِ الدِّينِيِّ
(6) - يَا أَيُّها الرَّسُولُ إِن اللهَ تَعَالى بَعَثَكَ شَاهِداً عَلَى مَنْ أُرْسِلْتَ إِليهِمِ ، تُرَاقِبُ أحْوَالَهُم ، وَتَرَى أَعْمَالَهُمْ ، وَتَشْهَدُ عَلَيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَأَرْسَلَكَ مُبَشِّراً لَهُمْ بِالجَنَّةِ إِنْ صَدَّقُوكَ ، وَعَمِلُوا بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَمُنْذِراً لَهُمْ بِعَذَابِ النَّارِ إِنْ هُمْ كَذَّبُوكَ وَخَالَفُوا مَا أَمَرْتَهُمْ بِهِ ، وَنَهَيْتَهُمْ عَنْهُ .
(7) - إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ وَقُلْنَا لَهُ : أَنْذِرْ قَوْمَكَ بَأْسَ اللهِ وَعَذَابَهُ ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ الأَلِيمُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ .
(8) - إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ رَسُولاً يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ ، بِمَا أَجَبْتُمُوهُ عَلَى دَعْوَتِهِ لَكُمْ ، كَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلُ مُوسَى رَسُولاً إِلى فِرْعَوْنَ يَدْعُوهُ إِلَى الإِيْمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ .
فَعَصَى فِرْعَوْنُ رَسُولَ رَبِّهِ ، وَهُوَ مُوسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَأَخَذَهُ اللهُ أَخْذاً شَدِيداً ، وَأَغْرَقَهُ وَقَوْمَهُ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ .

[المزمل/15، 16]، وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) }(1) [الحج/75] .
وَأَمَّا لَفْظُ " الْجُعْلِ " فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)(2) } [القصص/41، 42]، وَقَالَ فِي الدِّينِيِّ : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (3)
__________
(1) - اقْتَضَتْ مَشِيئَةُُ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَخْتَارَ رُسُلاً مِنَ مَلاَئِكَتِهٍِ الكِرَامِ ، فِيمَا يَشَاءُ إِبْلاَغَههُ إِلى رُسُُلِهِ مِنَ البَشَرِ ، وَأَنْ يَخْتَارًَ رُسُلاً مَنَ البَشَرِ لإِبْلاَغِ رسَالاَتِه إِلَى النَّاسِ ، فَكَيْفَ تَقْتَرِحُونَ عَلَى مَنْ اخْتَارَهُ اللهُ رَسُولاً إِلَيْكُمْ؟ وَاللهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ العِبَادِ ، بَصِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ . عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُم أَنْ يَخْتَارَ رُسُلاً مَنَ البَشَرٍ لإِبْلاَغِ رسًَالاَتِه إِلى النَّاسِ ، فَكَيْفَ تَقْتَرِحُونَ عَلَى مَنْ اخْتَارَهُ اللهُ رَسُولاً إِلَيْكُمْ؟ وَاللهُ سَمِيعٌ لأَقْوَالِ العِبَادِ ، بَصِيرٌ بِأْحْوَالِهِمْ . عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُم أَنْ يَخْتَارَهُ اللهُ لِحَمْلِ رِسَالَتِهِ .
(2) - وَجَعَلَ اللهُ فِرْعَونَ وَقَوْمَهُ أَئِمَّةً ، يَقْتَدِي بِهِمْ أهلُ العُتُوِّ والكُفْرِ والضَّلاَلِ ، فَهُمْ يَبْحَثُونَ عَن الشُّرُورِ والمَعَاصِي ، التي تُلقِي بِصَاحِبهِا في النَّارِ ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ اللهُ تَعَالى مَصِيرَ مَنْ يَتْبَعُهُمْ ، وَيَقْتَدِي بِهِمْ في الكُفْرِ ، وتَكْذِيبِ الرُّسُل مِثْل مَصيرِهِمْ في نَارِ جَهَنَّمَ ، وَلا يَجِدُونَ أَحَداً يَنْصُرُهُمْ يومَ القِيَامَةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيِهِمْ خِزْيُ الدُّنيا ، مُتَّصِلاً بِذُلِّ الآخِرَةِ .
(3) - وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى القُرْآنَ ( الكِتَابَ ) إلَيكَ يَا مُحَمَّدُ بِالحَقِّ وَالصِّدْقِ الذِي لاَ رَيْبَ فِيهِ ، وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، مُصَدَّقاً لِلْكُتُبِ السَّابِقَةِ المُتَضَمِّنَةِ ذِكْرَهُ وَمَدْحَهُ ، وَالإِشَارَةَ إلَى أَنَّهُ مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فَكَانَ نُزُولَهُ كَمَا أَخْبَرْتَ بِهِ مِمَّا زَادَهَا صِدْقاً عِنْدَ حَامِلِيهَا مِنْ ذَوِي البَصَائِرِ ، الذِينَ اتَّبَعُوا أَمْرَ اللهِ وَشَرْعَهُ ، وَصَدَّقُوا رُسُلَهُ .
وَالقُرْآنُ جَاءَ أَمِيناً عَلَى الكُتُبِ السَّابِقَةِ ، وَشَاهِداً عَلَيْهَا بِالحَقِّ وَالصِّحَّةِ بِمَا بَيَّنَهُ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِهَا ( مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) ، وَمُبَيِّناً حَالَ مَنْ خُوطِبُوا بِهَا : مِنْ نِسْيانِ حَظٍّ عَظيمٍ مِنْهَا ، وَتَحْرِيفِ كَثيرٍ مِمَّا بَقِيَ ، أَوْ تَأْوِيلِهِ ، وَالإِعْرَاضِ عَنِ العَمَلِ بِهِ .
وَبِمَا أنَّ الٌرْآنَ جَاءَ رَقِيباً وَأمِيناً وَشَاهِداً ( مُهَيْمِناً ) عَلَى الكُتُبِ السَّابِقَةِ ، التِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى أنْبِيَائِهِ ، فَاحْكُمْ يَا مُحَمَّدُ بَيْنَ أهْلِ الكِتَابِ - إذا تَحَاكَمُوا إلَيكَ - بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إليكَ مِنَ الأَحْكَامِ ، دُونَ مَا أنْزَلَهُ اللهُ إلَيْهِمْ ، لأنَّ شَرِيعَتَكَ نَاسِخَةٌ لِشَرِيعَتِهِمْ ، وَلاَ تَتَّبِعَ أهْوَاءَهُمْ وَرَغَبَاتِهِمْ فِي الحُكْمِ لَهُمْ بِمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ ، وَيَخفُّ احْتِمَالُهُ .
ثُمَّ يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ أمَّةٍ مِنَ النَّاسِ شَرِيعَةً أوْجَبَ عَلَيهْمِ إقَامَةَ أَحْكَامِهَا ، وَمِنْهَاجِاً وَطَرِيقاً فَرَضَ عَلَيهِمْ سُلُوكَهُ لِتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ ( فَأصْلُ الدِّينِ وَاحِدٌ ، وَلَكِنَّ الشَّرَائِعَ العَمَلِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ أحْوَالِ البَشَرِ ، وَطِبَاعِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ ) .
وَلَوْ شَاءَ اللهُ أنْ يَجْعَلَ النَّاسَ أمَّةً وَاحدَةً ، ذَاتَ شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْهَاجٍ وَاحِدٍ ، يَسِيرُونَ عَلَيْهِ ، لَفَعَلَ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ ، لِيَخْتَبِرَهُمْ فِيمَا شَرَعَ لَهُمْ ، وَلِيُثِيبَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ ، وَيُعَاقِبَهُمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِ .
وَيَحُثُّ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ عَلَى المُبَادَرَةِ وَالإِسْرَاعِ إلَى طَاعَةِ اللهِ ، وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ الذِي جَعَلَهُ نَاسِخاً مَا قَبْلَهُ مِنَ الشَرَائِعِ ، وَيُخْبِرُهُمْ أنَّ إلَيهِ مَرْجِعَهُمْ وَمَصِيرَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ ، وَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ .

(48) سورة المائدة،وَقَالَ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) } (1) [المائدة/103] .
وَأَمَّا لَفْظُ " التَّحْرِيمِ " فَقَالَ فِي الْكَوْنِيِّ : {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} (2)(12) سورة القصص ،وَقَالَ تَعَالَى : {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }(3) (26) سورة المائدة.
__________
(1) - البَحِيرَةُ هِيَ الوَاحِدَةُ مِنَ الأنْعَامِ التِي يَبْحَرُونَ أذْنَهَا ، أيْ يَشُقُّونَهَا شَقّاً وَاسِعاً ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إذَا انْتَجَتْ خَمْسَةَ أبِطُنٍ وَكَانَ الخَامِسُ أنْثَى . وَكَانُوا يَجْعَلُونَ دَرَّهَا لِلطَّوَاغِيتِ ، فَلاَ يَحْلِبُهَا أحَدٌ مِنَ النَّاسِ ، وَيُسَيِّبُونَهَا لآلِهَتِهِمْ .
السَّائِبَةُ - وَهِيَ التِي تُسَيَّبُ بِأنْ يَنْذُرُهَا لىلِهَتِهِمْ ، فَتَرْعَى حَيْثُ تَشَاءُ ، وَلا يُحْمَلُ عَلَيهَا شَيءٌ ، وَلا يُجَزُّ صُوفُها ، وَلا يُحْلَبُ لَبَنُها إلاَّ لِضَيْفٍ .
الوَصِيلَةُ - هِيَ النَّاقَةُ البكْرُ ، تُبْكِرُ فِي أوَّلِ نَتَاجِ الإِبْلِ ، ثُمَّ تُثنِّي بِأنْثَى ، وَكَانُوا يُسَيِّبُونَها لِطَواغِيتِهِمْ إنْ وَصَلَتْ إِحْداهما بِالأخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ .
الحَامِي - هُوَ فَحْلُ الإِبِلِ يُولدُ مِنْ ظَهْرِهِ عَشَرَةُ أبْطُنٍ ، فَيَقُولُونَ حَمَى ظَهْرَهُ ، فَلاَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ ، وَلا يُمْنَعُ مَاءً وَلا مَرْعَى .
وَيَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لِهَؤُلاءِ بِأنْ يُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّهُ اللهُ ، وَلَمْ يَشُرَعْ مَا شَرَعَهُ البُغَاةُ لأنْفُسِهِمْ ، وَلكنَّ الذِينَ كَفَروا يَفْتَرُونَ الكَذِبَ عَلَى اللهِ ، ثُمَّ يَجْعَلُونَهُ شَرْعاً وَقُرْبةً يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إليهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَاصِلٍ ، بَلْ هُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ ، وَأكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ .
(2) - وَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُوسَى في دَارِ آلِ فِرْعَونَ ، عَرَضُوا عَليهِ المَراضِعَ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنْ يَرْضَعَ مِنْ ثَدْيِ امرَأَةٍ مِنْهُنَّ ، فَخَرجُوا بِهِ إِلى السُّوقِ لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ امرَأَةً تَصْلُحُ لإِرضَاعِهِ ، فَلَمَّا رَاته أُختُهُ في أيدِيهِمْ عَرَفَتْهُ وَلم تُظْهِرْ ذَلِكَ ، وَلَم يَشْعُرُوا بِها ، فَقَالَتْ لَهُمْ : هَلْ تُريدُونَ أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلى أََهلِ بَيتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ حَافِظُونَ؟ فَذَهَبُوا مَعَهَا إِلى أَمِّهَا ، فَأعْطَتْهُ ثَدْيَهَا فَالتَقَمَهُ ، فَفرحُوا بذلك ، وَبَشَّرُوا امْرَأَةَ فِرْعُونَ ، فَاسْتَدعَتْ أُمَّ مُوسَ ، وأَحْسَنَتْ إِليها ، وَهِيَ لاَ تَعرِفُ أَنَّها أُمُّهُ ، ثُمَّ سَلأَلَتْها أَنْ تُقِيمَ عِندَهَا لتُرِضِعَهُ فَأَبتْ عَليها ، وَقَالَتْ لَها إِنَّ لَهَا زَوْجاً وَأَولاَداً ، فَسَمَحَتْ لَها امرَأَةُ فِرعَونَ بأَنْ تَأْخُذَهُ ، إِلى بَيِتِها لِتُرْضِعَهُ ، وَأَجْزَلَتْ لَهَا العَطَاءَ .
(3) - فَلَمَّا دَعَا مُوسَى عَلَيهِم ، حِينَ نَكَلُوا عَنِ الجِهَادِ ، قَضَى اللهُ عَلَيْهِمْ بِأنْ حَرَّمَ عَلَيهِمْ دُخُولَها أربعينَ سَنَةً ، يَتِيهُونَ خِلاَلَهَا فِي الأَرْضِ ( أيْ فِي صَحْرَاءِ سِينَاءَ ) ، وَيَبْقَوْنَ مُتَحَيِّرِينَ مُتَرَدِّدينَ ، لاَ يَدْرُونَ مَصِيرَهُمْ ، وَلاَ يَهْتَدُونَ إلى الخُرُوجِ مِمَّا هُمْ فِيهِ ، خِلاَلَ المُدَّةِ التِي قَضَاهَا . اللهُ عَلَيْهِمْ .
وَخِلاَلَ وُجُودِهِمْ فِي صَحْرَاءِ سِينَاءَ تُوُفِّيَ مُوسَى وَهَارُونُ ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ ، وَتَوَلَّى قِيَادَةَ بَني إسْرَائِيلَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ ( وَهُوَ مِنْ نَسْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ) وَجَعَلَهُ الله نَبِيّاً فِيهِمْ ، وَتُوُفِّيَ أكْثَرُ الجِيلِ القَدِيمِ ، وَنَشَأ فِي الصَّحْرَاءِ وَالحُرِّيَّةِ جِيلٌ جَدِيدٌ . فَلَمَّا انْقَضَتِ المُدَّةُ التِي قَضَاهَا اللهُ عَلَيهِمْ ، خَرَجَ بِهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ ، وَتَوَجَّهَ بِهِمْ إلى إحْدَى المُدُنِ فَحَاصَرَهَا وَفَتَحَها .
ثُمَّ سَلَّى اللهُ نَبِيَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ لَهُ : لاَ تَأسَفْ عَلَيْهِمْ ، وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ فِيمَا قَضَيْتُ عَلَيْهِمْ ، فَإنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ .
وَهَذِهِ القِصَّةُ تَتَضَمَّنُ تَقْرِيعاً لِليَهُودِ ، وَبَياناً لِفَضَائِحِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ أمْرَ رَبِّهِمْ وَأمْرَ رَسُولِهِ ، ونكُولِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِمَا .

وَقَالَ فِي الدِّينِيِّ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) }(1) [المائدة/3]، وَقَالَ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) } (2)
__________
(1) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةش مَا حَرَّمَ أكْلَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ لَحْمِ الأنْعَامِ وَهِيَ :
المَيْتَةُ - وَهِيَ التِي مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ وَلاَ اصْطِيَادٍ وَذَلِكَ لِمَ فِيهَا مِنَ المَضَرَّةِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنَ المَيْتَةِ السَّمَكُ ، فَإنَّهُ حَلالٌ سَوَاءٌ مَاتَ بتَذْكِيَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا .
وَالدَّمُ المَسْفُوحُ - وَهُوَ الدَّمُ الذِي يَسِيلُ مِنَ الحَيَوَانَاتِ .
وَكَانَ الأَعْرَابُ فِي البَادِيَةِ إذا جَاعُوا فِي الصَّحْرَاءِ يَأخُذُونَ شَيْئاً مُحَدَّداً مِنْ عَظْمٍ أوْ نَحْوِهِ فَيَفْصِدُونَ بِهِ حَيَواناً فَيَجْمَعُونَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ مِنْ دَمٍ فَيَشْرَبُونَهُ ، فَحَرَّمَ اللهُ ذَلِكَ .
وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ : أحِلَّتْ لَنَا مِيتَتَانِ وَدَمَانِ ، فَأمَّا المِيتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالجَرَادُ ، وَأمَّا الدَّمَانِ فَالكَبِدُ وَالطِّحَالُ . ( رَوَاهُ أحْمَدُ وَالبَيْهَقِيُّ ) .
لَحْمُ الخِنْزِيرِ - إنْسِيَّهِ وَوَحْشِيِّهِ . فَلَحْمُهُ حَرَامٌ .
مَا أهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ - أيْ مَا ذُبِحَ فَذُكِرَ اسْمٌ غَيْرُ اسْمِ اللهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ . لأنَّ اللهَ تَعَالَى أوْجَبَ أنْ تُذْبَحَ الأنْعَامُ عَلَى اسْمِهِ العَظِيمِ .
( وَالإِهْلالُ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ ، وَالإِهْلالُ هُنَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِذِكْرِ اسْمٍ غَيْرِ اسْمِ اللهِ عِنْدَ المُسْلِمِينَ .
وَالمَوْقُوذَةُ - وَهِيَ التِي تَضرَبُ بِشَيءٍ ثَقيلٍ غَيْرِ مُحَدَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ .
وَالمُتَرَدِّيَةُ - وَهِيَ التِي تَقَعُ مِنْ مَكَانِ مُرْتَفِعٍ ، أوْ تَقَعُ فِي بِئْرٍ فَتَمُوتُ فَلا يَحِلُّ أكْلُ لَحْمِهَا .
وَالنَّطِيحَةُ - وَهِيَ التِي مَاتَتْ بِسَبَبِ نَطْحِ غَيْرِهَا لَهَا ، فَهِيَ حَرَامٌ وَلَوُ خَرَجَ مِنَهَا الدَّمُ ، وَلَوْ مِنْ مَذْبَحِهَا .
وَمَا أكَلَ السَّبُعُ - وَهِيَ مَا عَدَتْ عَلَيهَا الحَيَوَانَاتُ الجَارِحَةُ فَقَتَلَتْها فَلا تَحِلُّ بِالإِجْمَاعِ .
وَاسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ الحَيَوَانُ الذِي لَحِقَهُ الإِنْسَانُ بِالذَّبْحِ ، قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ، وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ، فَإنَّهُ إذَا ذُبِحَ أَصْبَحَ حَلالاً يَجُوزُ أَكْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ - مُحَرَّمٌ أَكْلُهُ .
وَالنُّصُبُ هِيَ حِجَارَةٌ حَوْلَ الكَعْبَةِ ، كَانَتِ العَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا تَذْبَحُ عِنْدَهَا الذَّبَائِحَ ، وَيُنْضَحُ مَا أَقْبلَ مِنْها إلَى البَيْتَ بِدِمَاءِ تِلْكَ الذَّبَائِحِ ، وَيُشَرِّحُونَ اللحْمَ وَيَضَعُونَهُ عَلَى النُّصُبِ فَحَرَّمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُؤْمِنِينَ أَكْلَ الذَّبَائِحِ التِي تَمَّ ذَبْحُها عِنْدَ تِلْكَ النُّصُبِ . فَالذَّبْحُ عِنْدَ النُّصُبِ مِنْ الشِّرْكِ .
ثُمَّ أضَافَ اللهُ تَعَالَى إلَى مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ التِي كَانَ أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحِلُّونَهَا ، عَمَلاً آخَرَ مِنْ أعْمَالِهِمْ وَهُوَ الاسْتِقْسَامُ بِالأَزْلاَمِ .
وَالأَزْلاَمُ وَاحِدُهَا ( زَلَمٌ ) ، هِيَ عِبَارَةَ عَنْ قِدَاحٍ ( سِهَامٍ ) ثَلاَثَةٍ أحَدُهَا مُكْتُوبٌ عَلَيْهِ : ( افْعَلْ ) وَثَانِيهَا مَكْتُوبٌ عَلَيهِ . ( لاَ تَفْعَلْ ) . وثَالِثُهَا لَمْ يُكْتَبُ عَلَيهِ شَيءٌ . فَإِذا أجَالَهَا فَطَلَعَ السَّهْمُ المَكْتُوبُ عَلَيْهِ ( لاَ تَفْعَلْ ) ، لَمْ يَفْعَلْ . وَإِذَا خَرَجَ السَّهْمُ المَكْتُوبُ عَلَيْهِ ( افْعَلْ ) فَعَلَ . وَإذَا خَرَجَ السَّهْمُ الغُفْلُ مِنَ الكِتَابَةِ أعَادَ . فَحَرَّمَ اللهُ الاسْتِقْسَامَ بِالأزْلاَمِ ، وَعَدَّهُ فِسْقاً ، وخُرُوجاً عَنَ طَاعَةِ اللهِ .
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ إذَا تَرَدَّدُوا فِي أمْرِهِمْ أنْ يَسْتَخِيرُوهُ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ ، ثُمَّ يَسْأَلُوهُ الخِيَرَةَ فِي الأَمْرِ الذِي يُرِيدُونَ .
(2) - هَذِهِ الآيَةُ تَحْوِي تَحْرِيمَ المَحَارِمِ مِنَ النَّسَبِ وَمِنَ الرَّضَاعِ ، وَالمَحَارِمِ بِالصِّهْرِ .
فَمِنَ النَّسَبِ - تَحْرُمُ : الأمُّ وَالجَدَّاتُ وَإنْ عَلَوْنَ ، وَبَنَاتُ الأَصْلاَبِ ، وَبَنَاتُ الأَوْلاَدِ وَإِنْ نَزَلْنَ ، وَالأُخْتُ وَالعَمَّةُ وَالخَالَةُ ، وَبَنَاتُ الأُخْتِ ، وَبَنَاتُ الأَخِ وَإِنْ نَزَلْنَ .
وَمِنَ الرَّضَاعِ - تَحْرُمُ : الأمُّ وَالأُخْتُ مِنَ الرَّضَاعِ .
وَمِنَ الصِّهْرِ - تَحْرُمُ أمُّ الزَّوْجَةِ ( وَتَحْرُمُ بِمُجَّرَدِ العَقْدِ عَلَى ابْنَتِهَا ) ، وَبِنْتُ الزَّوْجَةِ ( الرَّبِيبَةُ ) المَدْخُولِ بِهَا ، وَزَوْجَةُ الابْنِ ، وَجَمْعُ أخْتِ الزَّوْجَةِ مَعَ الزَّوْجَةِ ، إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْ زَوَاجٍ قَبْلَ هَذا التَّحْرِيمِ ، فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

[النساء/23] .
وَأَمَّا لَفْظُ " الْكَلِمَاتِ " فَقَالَ فِي الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ :{ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) }(1) [التحريم/12]، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : « أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ »(2).
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :« مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فَقَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ كُلِّهَا مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ فِى مَنْزِلِهِ ذَلِكَ شَىْءٌ حَتَّى يَظْعَنَ عَنْهُ »(3).
وَكَانَ يَقُولُ : " قَالَ قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِى لاَ يُجَاوزُهُنَّ بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِى الأَرْضِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلاَّ طَارِقاً يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ. فَطَفِئَتْ نَارُ الشَّيَاطِينِ وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "(4) . وَ " { كَلِمَاتُ اللَّهِ التَّامَّاتُ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ } " هِيَ الَّتِي كَوَّنَ بِهَا الْكَائِنَاتِ فَلَا يَخْرُجُ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ عَنْ تَكْوِينِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ .
وَأَمَّا " كَلِمَاتُهُ الدِّينِيَّةُ " وَهِيَ كُتُبُهُ الْمُنَزَّلَةُ وَمَا فِيهَا مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَأَطَاعَهَا الْأَبْرَارُ وَعَصَاهَا الْفُجَّارُ .
وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمْ الْمُطِيعُونَ لِكَلِمَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَجَعْلِهِ الدِّينِيِّ وَإِذْنِهِ الدِّينِيِّ وَإِرَادَتِهِ الدِّينِيَّةِ . وَأَمَّا كَلِمَاتُهُ الْكَوْنِيَّةُ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَهَا جَمِيعُ الْخَلْقِ حَتَّى إبْلِيسَ وَجُنُودَهُ وَجَمِيعَ الْكُفَّارِ وَسَائِرَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ، فَالْخَلْقُ وَإِنْ اجْتَمَعُوا فِي شُمُولِ الْخَلْقِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْقَدَرِ لَهُمْ فَقَدْ افْتَرَقُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ .
وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمْ الَّذِينَ فَعَلُوا الْمَأْمُورَ وَتَرَكُوا الْمَحْظُورَ، وَصَبَرُوا عَلَى الْمَقْدُورِ، فَأَحَبَّهُمْ وَأَحَبُّوهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ .
وَأَعْدَاؤُهُ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ ،وَإِنْ كَانُوا تَحْتَ قُدْرَتِهِ، فَهُوَ يُبْغِضُهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِمْ وَيَلْعَنُهُمْ وَيُعَادِيهِمْ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْجُمَلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَإِنَّمَا كَتَبْت هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى مَجَامِعِ " الْفَرْقِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ " وَجَمْعُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارُهُمْ بِمُوَافَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ السُّعَدَاءِ وَأَعْدَائِهِ الْأَشْقِيَاءِ، وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَعْدَائِهِ أَهْلِ النَّارِ، وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ أَهْلِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ ،وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ أَهْلِ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ وَالْفَسَادِ، وَأَعْدَائِهِ حِزْبِ الشَّيْطَانِ ،وَأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ .
__________
(1) - وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً آخَرَ لِلَّذِينَ آمَنُوا حَالَ مَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ ، وَمَا أُوتِيَتْ مِنْ كَرَامَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فاصْطَفَاهَا اللهُ رَبُّهَا ، وَأَرْسَلَ إِليهَا مَلَكاً كَرِيماً مَنْ مَلاَئِكَتِهِ تَمَثَّلَ لَهَا فِي صَورَةِ بَشَرٍ دَخَلَ عَلَيهَا ، وَهِيَ فِي خَلْوَتِهَا ، فَاسْتَعَاذَتْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهِ ، فَبَشَّرَهَا بِأَنَّهَا سَيَكُونُ لَهَا وَلَدٌ يُولَدُ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ ، وَيَكُونَ نِبِيّاً كَرِيماً .
وَنَفَخَ فِيهَا المَلَكُ مِنْ رُوحِ اللهِ فَحَمَلَتْ بِعِيسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَصَدَّقَتْ مَرْيَمُ بِشَرَائِعِ اللهِ ، وَبِكُتُبِهِ التِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ ، وَكَانَتْ فِي عِدَادِ القَانِتِينَ العَابِدِينَ المُطِيعِينَ للهِ تَعَالَى .
(2) - سنن أبى داود(3895 ) صحيح
(3) - مسند أحمد (27884) صحيح لغيره = يظعن : يسافر
(4) - مسند أحمد(15859) وفيه ضعف

قَالَ تَعَالَى : {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1) (22) سورة المجادلة ، وَقَالَ تَعَالَى : إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) (2) [الأنفال/12، 13].
وَقَالَ فِي أَعْدَائِهِ :{ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) }(3)
__________
(1) - لاَّ تَجِدُ قَوْماً يَجْمَعُونَ بَيْنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ، وَبَينَ مُوَادَّةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ ، لأَنَّ المُؤْمِنِينَ حَقّاً لاَ يُوَالُونَ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ هُمْ أَهْلَهُمْ ، وَأَقْرِبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ الذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيهِمْ ، وَالمُؤْمِنُونَ الذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُوَادَّةِ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَاءَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ ، هُمُ الذِينَ ثَبَّتَ اللهُ الإِيْمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى ، وَقَوَّاهُمْ بِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } ، وَسَيُدْخِلُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، رَضِيَ اللهَ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَبِمَا عَوَّضَهُمْ بِهِ لاِسْخَاطِهِم الأَقَارِبَ وَالأَبْنَاءَ . وَهَؤُلاَءِ هُم أَنْصَارُ اللهِ ، وَجُنْدُهُ ، وَحِزْبُهُ ، وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ ، وَهُمْ أَهْلُ الفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ والنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
بِرُوحٍ مِنْهُ - بِنُورٍ يَقْذِفُهُ فِي قُلُوبِهِمْ أَو بِالقُرآنِ .
(2) - وَهَذِهِ نِعْمَةٌ خَفيّةٌ أَظْهَرَهَا اللهُ تَعَالَى لِلمُسْلِمِينَ لِيَشْكُرُوهُ عَلَيْها ، فَقَدْ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إلَى المَلاَئِكَةِ الذِينَ أَرْسَلَهُمْ لِنَصْرِ المُسْلِمِينَ ، بِأَنْ يُثَبِّتُوا المُسْلِمِينَ وَيُقَوُّوا قُلُوبَهُمْ ، فَيُلْهِمُوهُمْ تَذَكُّرَ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّصْرِ ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ ، وَأنَّهُ تَعَالَى سَيَجْعَلُ الرَّعْبَ يَسْتَوْلي عَلَى قُلوبِ المُشْرِكِينَ فَيُصِيبُهُمُ الفَزَعُ .
ثُمَّ أمَر اللهُ المَلاَئِكَةِ بِأنْ يَضْرِبُوا رِقَابَ المُشْرِكِينَ وَيَقْطَعُوهَا ، وَبِأَنْ يَقْطَعُوا الأَيْدِي ذَاتِ البَنَانِ التِي هِيَ أَدَاةُ الضَّرْبِ فِي الحَرْبِ .
(3) - فَلاَ تَأْكُلُوا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ مِمَّا مَاتَ فَلَمْ تَذْبَحُوهُ ، وَلاَ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، مِمَّا ذَبَحَهُ المُشْرِكُونَ لأَوْثَانِهِمْ ، فَإِنَّ أَكْلَ ذَلِكَ فِسْقٌ وَمَعْصِيَةٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ حَنْبَلٍ : إنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ عَمْداً أَوْ سَهْواً يَجْعَلُ الذَّبِيحَةَ غَيْرَ حَلاَلٍ . وَقَالاَ الذَّبْحُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ فِسْقٌ ، وَكَذَلِكَ الأَكْلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ التِي لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهَا فِسْقٌ .
- وَقَالَ الشَّافِعِي : لاَ تَشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ، فَإِنْ تُرِكَتْ عَمْداً أَوْ سَهْواً فَلاَ ضَرَرَ فِي ذَلِكَ ، وَيَحِلّ الأَكْلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ . وَقَالَ إنَّ المُحَرَّمَ هُوَ مَا ذُبِحَ لِغَيرِ اللهِ ، كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ قُرَيْشٍ مِنْ نَحْرِ الذَّبَائِحِ لِلأَوْثَانِ .
- وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ نِسْيَاناً لاَ يَضُرُّ ، أَمَّا تَرْكُها عَمْداً فَيَجْعَلُها غَيْرَ حَلاَلٍ .
وَإِنَّ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ ليُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ بِالوَسْوَسَةِ بِمَا يُجَادِلُونَكُمْ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ فَقَدْ جَادَلَتِ اليَهُودُ النَّبِيَّ : فَقَالُوا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلْنَا ، وَلاَ نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللهُ ( أَيْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفهِ ) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةُ ، أَرْسَلَتْ فَارِسُ إلَى قُرَيْشٍ أَنْ خَاصِمُوا مُحَمَّداً ، وَقُولُوا لَهُ : فَمَا تَذْبَحُ أَنْتَ بِسِكِينٍ فَهُوَ حَلاَلٌ ، وَمَا ذَبَحَ اللهُ بِشَمْشِيرٍ مِنْ ذَهَبِ ( أَيْ المَيْتَةَ ) فَهُوَ حَرَامٌ؟
وَسَمِعَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ هَذَا القَوْلَ فَوَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ : ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ . . . ) ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى : فَإِنْ أَطَعْتُمُ المُشْرِكِينَ فِي أَكْلِ المَيْتَةِ فَإِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ، لأَنَّكُمْ تَكُونُونَ قَدْ عَدَلْتُمْ عَنْ شَرْعِ اللهِ وَأَمْرِهِ ، إلَى قَوْلِ غَيْرِهِ ، فَقَدَّمْتُمْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ ، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ .

[الأنعام/121] ، وَقَالَ : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } (1)(112) سورة الأنعام، وَقَالَ : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) }(2)
__________
(1) - وَكَمَا جَعَلْنَا هؤُلاَءِ وَأَمْثَالَهُمْ أَعْدَاءً لَكَ يَا مُحَمَّدُ ، يُخَالِفُونَكَ وَيُعَانِدُونَكَ ، وَيُعَادُونَكَ ، كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ قَبْلِكَ أَعْدَاءً مِنْ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ ( شَيَاطِينُ الإِنْسِ هُمُ الكُبُرَاءُ وَمَنْ يُضِلُّونَ النَّاسَ عَنِ الهُدَى بِالوَسْوَسَةِ وَالإِغْرَاءِ وَالمُخَادَعَةِ ) ، وَيُلْقِي بَعْضُ هَؤُلاَءِ الشَّيَاطِينِ مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ إلى بَعْضِ القَوْلِ المُمَوَّهَ الذِي يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَسْتُرُونَ بِهِ قُبْحَ بَاطِلِهِمْ ، وَيُؤَدُّونَهُ بِطُرُقٍ خَفِيَّةٍ لاَ يَفْطَنُ إلَى بَاطِلِهَا كُلُّ وَاحِدٍ ، حَتَّى يَغُرُّوا النَّاسَ وَيَخْدَعُوهُمْ وَيُمِيلُوهُمْ إلَى مَا يُرِيدُونَ ، كَمَا وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ لآدَمَ وَحَوْاءَ لِلأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ التِي نَهَاهُمَا اللهُ عَنْهَا ، وَكَمَا يُوَسْوِسُ شَيَاطِينُ الإِنْسِ لِمَنْ يَجْتَرِحُونَ السَّيِّئَاتِ ، فَيُزَيِّنُونَ لَهُمْ مَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ اللَّذَّةِ ، وَالتَّمَتُّعِ بِالحُرِّيَّةِ ، وَيُمَنُّونَهُمْ بِعَفْوِ اللهِ .
وَلَوْ شَاءَ اللهُ أَنْ لاَ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لَمَا فَعَلُوهُ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ إِذْ خَلَقَ النَّاسُ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِقُبُولِ الحَقِّ وَالبَاطِلِ ، وَالخَيْرِ وَالشَّرِّ .
(2) - زعَمَ بعضُ المُشركينَ أنَّ ما جَاءَ بهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليسَ بِحَقٍّ ، وأنَّهُ شيءٌ افْتَعَلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، وأتَاهُ بِهِ رِئيٌّ مِنَ الجَانِّ .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعالى عَلَى هَؤلاءِ المُفْتَرِينَ مُنَزِّهاً رَسُولَهُ الكَريمَ عَنْ قولِهِمْ وافْتِرَائِهِمْ ، ومُنَبِّهاً إلى أنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ إنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وليْسَ مِنْ قِبَلِ الشَّيَاطينِ ، لأنَّ الشَّياطِينَ إنَّمَا تَتَنَزَّلُ عَلى مَنْ يُشَاكِلُهُمْ ويُشَابِهُهُمْ مِنَ الكهَّانِ الكَذَبَةِ الفَسَقَةِ .
إِنَّهُمْ يَتَنَزَّلُونَ عَلَى كُلِّ كَاذِبٍ ( أَفَّاكٍ ) فَاجِرٍ كَثيرِ الإِثْمِ مِنَ الكَهَنَةِ .
ويَسْتَرِقُ الشَّياطينُ السَّمْعَ منَ السَّمَاءِ فيَسْمَعُونَ الكَلِمَةِ منْ عِلْمِ الغَيْبِ ، فَيَزِيدُونَ فِيها الكَذِبَ مِنْ أنْفُسِهِمْ ، ويُلْقُونَهُ إلى أوْلِيَائِهِمْ مِنَ الإِنْسِ ، فَيُحَدِّثُونَ بِهِ ، ويَزِيدُونَ فيهِ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ ، فَيُصدِّقُهُمْ النَّاسُ في كُلِّ ما قَالُوا بِسبِبِ صِدْقِهِمْ في تِلكَ الكلمَةِ التي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ . ومُحَمَّدٌ رَجُلٌ لا يَكْذِبُ ، فلا سَبِيلَ إلى مُقَارَنَتِهِ بِالكَهَنَةِ الكَذَّابيْنَ .
قَالَ المُشْرِكُونَ : إنَّ مُحَمَّداً لَشاعرٌ ، وقالوا : إن القرآنُ شِعْرٌ فأنزَلَ اللهُ تَعالى هذهِ الآيةَ الكريمةَ يُرُدُّ بها على افْتِرَائِهِمْ هَذا ، ويقولُ لهمْ إنَّ القرآنَ فيما حَوَاه من حِكَمٍ وأحْكَامٍ ، وفي أُسْلُوبِه يَتَنَاقَضُ مع الشِّعْرِ . وإنَّ حَالَ مُحَمَّدٍ يَتَنَافَى مَعَ حَالِ الشُّعْراءِ ، فهوَ لا يَنْطِقُ إلا بالحَقِّ والحِكْمَةِ ، والصِّدْقِ ، ويَتَّبِعُهُ الصَّادِقُونَ المُخْلِصُونَ . والشُّعَراءُ يقولونَ الباطِلَ والزُّورَ ، ولا يَتَّبِعُهُمْ إلا الضَّالُّونَ .
والشُّعَرَاءُ يَخُوضُونَ في كُلِّ لغْوٍ ، ويَهِيمُونَ على وجُوهِهِمْ في كلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الكَلاَمِ ، فَهُمْ يَخُوضُونَ مرةً فِي شَتيمةِ فلانٍ ، ومَرةً في مَدِيحِ فُلانٍ ، فلا يَهْتَدُونَ إلى الحقِّ .
والشُّعْرَاءُ يقُولُونَ مَا لاَ يَلْتَزِمُونَ بهِ في عَمَلِهِمْ ، ويَتَبَجَّحُونَ بأقْوَالٍ وأَفْعَالٍ لمْ تَصْدُرْ عَنْهُمْ ولا مِنْهُمْ ، فَيتَكَثَّرُونَ بِمَا ليسَ لهُمْ ، والرَّسُولُ الذي أُنْزِلَ عليهِ القُرآنُ ليسَ بِكَاهِنٍ ، ولا شَاعِرٍ لأنَّ حالَهُ مُنَافٍ لِحَالِ الشُّعَراءِ مِنْ وُجُوهٍ ظَاهِرَةٍ .
واسْتَثْنَى اللهُ تَعالى مِنَ الصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ الشُّعراءَ الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، وَذَكَرُوا الله كَثيراًُ ، وتَوَلَّوا الرَّدَّ على الكُفَّارِ الذينَ كانُوا يَهْجُونَ المُؤْمِنِينَ .
( وفي الحَديثِ : " إِنَّ المُؤمنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ ولِسَانِهِ ، والذي نَفْسِي بِيدَهِ لَكَأَنَّ مَا تَرمُونَ بهِ نَضحُ النَّبْلِ " ) . ( أََخرَجهُ الإِمامُ أحمدُ ) . وسَيَعْلَمُ الذينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالشِّرْكِ ، وهِجَاءِ الرَّسُولِ ، كَيفَ يَكُونَ مُنْقَلَبُهُمْ يومَ القيَامَةِ ، وفي ذَلكَ اليومِ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ معذِرَتُهُمْ .

[الشعراء/221-227]، وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) }(1) سورة الحاقة ، وَقَالَ تَعَالَى : { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) } (2)
__________
(1) - قَسَماً بِمَا تُشَاهِدُونَهُ فِي عَالَمِ المَرْئِيَّاتِ . وَقَسَماً بِمَا غَابَ عَنْكُمْ مِنْ عَالَمِ الغَيْب .
إِنَّ هَذَا القُرْآنَ هُوَ كَلاَمُ اللهِ وَوَحْيُهُ أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فَمَا يَقُولُهُ لَكُمْ أَيُّهَا الكَافِرُونَ المُكَذِّبُونَ هُوَ قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، يُبَلِّغُكُمْ عَنْ رَبِّهِ .وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ، لأَنَّ مُحَمَّداً لَيْسَ شَاعِراً ، وَإِنَّكُمْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ لاَ تُؤْمِنُونَ إِلاَّ إِيمَاناً قَلِيلاً .
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ كَمَا تَزْعُمُونَ ، لأَنَّهُ سَبَّ الشَّيَاطِينَ ، فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَا يَقُولُهُ إِلهَاماً مِنْهُمْ . وَلَكنَّكُمْ لَمَّا لَمْ تَسْتَطِيعُوا فَهْمَهُ قُلْتُمْ إِنَّهً كَلاَمُ كُهَّانٍ ، فَمَا أَقَلَّ تَذَكِّرَكُمْ وَتَدَبُّرَكُمْ .
لَيْسَ القُرْآنُ قَوْلَ شَاعِرٍ ، وَلاَ قَوْلَ كَاهِنٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ ، عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ الرُّوحِ الأَمِينِ ، عَلَيهِ السَّلاَمُ .
وَلَوْ أَنَّ مُحَمَّداً افْتَرَى عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقْوَالِ البَاطِلَةِ ، فَزَادَ فِي الرِّسَالَةِ أَوْ نَقَّصَ مِنْهَا ، أَوْ قَالَ شَيْئاً مِنْ عِنْدِهِ فَنَسَبَهُ إِلينَا ، لَعَاجَلْنَاهُ بِالعُقوبَةِ .لأَمْسَكْنَا بِيَمِينِهِ كَمَا يُفَعَلُ بِمَنْ تُضْرَبُ أَعْنَاقُهُمْ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ عِرْقَ العُنُقِ الأَكْبَرِ . وَمَتَى قُطِعَ الوَتِينُ كَانَ المَوْتُ المُحَقَّقُ . وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَحْجِزَ عِقَابَنَا وَيَمْنَعَهُ مِنَ النُّزُولِ بِهِ . وَإِنَّ هَذَا القُرْآنَ لَعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُتَّقِينَ ، الذِينَ يَخْشَونَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ ، فَيُطِيعُونَ أَوَامِرَهُ ، وَيَنْتَهُونَ عَمَّا زَجَرَهُمْ عَنْهُ .وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ يُكَذِّبُونَ النَّبِيَّ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِ .
وَإِنَّ هَذَا القُرْآنَ يُسَبِّبُ حَسْرَةً عَظِيمَةً لِلْكَافِرِينَ ، حِينَمَا يَرَوْنَ فَوْزَ المُؤْمِنِينَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا ، وَإِنَّهُ سَبَبُ حَسْرَةٍ عَلَيْهِمْ فِي الآخِرَةِ ، حِينَمَا يَرَوْنَ فَوْزَهُمْ بِرِضْوَانِ اللهِ ، وَإِكْرَامِهِ لَهُمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ .
وَإِنَّ هَذَا القُرْآنَ لَهُوَ الحَقُّ الذِي لاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى .
فَسَبِّحْ بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى وَنَزِّهْهُ عَمَّا لاَ يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ وَكَمَالِهِ ، وَدُمْ عَلَى ذِكْرِ اسْمِ رَبِّكَ الكَرِيمِ .
(2) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى رَسُولَهُ الكَرِيمَ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ إِلى النَّاسِ ، وَبِأَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ عَليهِ وَيَقُولُ لَهُ تَعَالى : إِنَّكَ لَسْتَ ، بِحَمْدِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيكَ ، بِكَاهِنٍ مِنَ الكُهَّانِ ، الذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُم يَتَّصِلُونَ بِالجِنِّ ، وَيَأْتُون بِأْسْرارِ الغَيبِ مِنْهُم ، وَلَسْتَ بِمَجْنُونٍ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ المَسِّ .
( كَانَ مُشْرِكُوا قُريشٍ لا يَجِدُونَ مَا يَرُدُّونَ بِهِ الحَقَّ الذِي جَاءَهُم بِهِ رَسُولُ اللهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ إِلاَّ القَوْلَ تَارةً إِنَّهُ كَاهِنٌ ، وَتَارةً إِنَّهُ مَجْنُونٌ يَهْذي بِكَلامٍ لا مَعْنًى لَهُ ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالى عَلَيهِم قَوْلَهم هذا نافياً ما يَتَّهِمُونَ بِهِ الرَّسُولَ ) .
بَلْ هُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ شَاعِرٌ نَنْتَظِرُ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ قَوارعُ الدَّهْرِ فَيمُوتَ وَنْسْتَرِيحَ مِنْهُ .
فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : انتَظِروا أَنْ يَنْزِلَ رَيْبُ المَنُونِ فَإِنِّي مُتَرَبِّصٌ مَعَكُم ، مَنْتَظِرٌ قَضاءَ اللهِ فِيَّ وَفِيكُمْ ، وَسَتَعْلَمُونَ لمنْ تَكُونُ العَاقِبَةُ الحَسَنَةُ والظَّفَرُ ، في الدُّنيا وَالآخِرةِ .
بَلْ تَأْمُرُهُمْ عُقُولُهُمْ بهذا الذِي يَقُولُونَ في الرَّسُولِ مِنَ الأَقَاوِيلِ البَاطِلةِ التي يَعْلَمُونَ في أَنْفِسِهِمْ أَنَّها كَذِبٌ ، وَأَنَّها مُتَنَاقِضَةٌ فِيما بَيْنَها ، فَالشَّاعرُ غَيْرُ الكَاهِنِ وَغَيْرُ المَجْنُونِ ، وَلكِنَّهُمْ قَومٌ طَاغُونَ ، ضَالَّونَ ، مُعَانِدُونَ .
أَيَقُولُونَ شَاعرٌ ، أَمْ يَقُولُونَ كَاهِنٌ ، أَمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ اخْتَلَقَ القُرآنَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَنَسَبَه إِلى اللهِ كَذِباً وافْتِرَاءً عَلَى اللهِ . وَالحَقِيقةُ هِيَ أَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ الذِي يَحمِلُهُمْ عَلَى قَوْلِ مَا يَقُولُونَ .
فَإِنْ كَانُوا صَادِقينَ في قَولِهِمْ إِنَّ مُحمَّداً تَقَوَّلَ مِنْ هذا القُرآنِ ، إِنَّهُمْ عَنْ ذلكَ عَاجِزُونَ ، مَعَ أَنَّ القُرآن جَاءَ بِاللُّغَةِ العَرَبيَّةِ ، وَكَانُوا هُمْ أَسَاطِينَ البلاغَةِ في عَصْرهِمْ .

[الطور/29-34].
فَنَزَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ تَقْتَرِنُ بِهِ الشَّيَاطِينُ مِنَ الْكُهَّانِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْمَجَانِينِ ؛ وَبَيْنَ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُ بِالْقُرْآنِ مَلَكٌ كَرِيمٌ اصْطَفَاهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) } (1) [الحج/75، 76] ،وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) }(2) [الشعراء/192-196]، وَقَالَ تَعَالَى : {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }(3) (97) سورة البقرة.
وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) } (4)
__________
(1) - اقْتَضَتْ مَشِيئَةُُ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَخْتَارَ رُسُلاً مِنَ مَلاَئِكَتِهٍِ الكِرَامِ ، فِيمَا يَشَاءُ إِبْلاَغَههُ إِلى رُسُُلِهِ مِنَ البَشَرِ ، وَأَنْ يَخْتَارًَ رُسُلاً مَنَ البَشَرِ لإِبْلاَغِ رسَالاَتِه إِلَى النَّاسِ ، فَكَيْفَ تَقْتَرِحُونَ عَلَى مَنْ اخْتَارَهُ اللهُ رَسُولاً إِلَيْكُمْ؟ وَاللهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ العِبَادِ ، بَصِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ . عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُم أَنْ يَخْتَارَ رُسُلاً مَنَ البَشَرٍ لإِبْلاَغِ رسًَالاَتِه إِلى النَّاسِ ، فَكَيْفَ تَقْتَرِحُونَ عَلَى مَنْ اخْتَارَهُ اللهُ رَسُولاً إِلَيْكُمْ؟ وَاللهُ سَمِيعٌ لأَقْوَالِ العِبَادِ ، بَصِيرٌ بِأْحْوَالِهِمْ . عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُم أَنْ يَخْتَارَهُ اللهُ لِحَمْلِ رِسَالَتِهِ .
(2) - وإنَّ القرآنَ الذِيْ تَقَدَّمَ التَّنْوِيهُ بِهِ في أَوَّلِ السُّورَةِ { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن } أَنْزَلَهُ اللهُ ربُّ العالَمِين عليكَ يا مُحَمَّدُ ، وأوْحَاهُ إِليكَ ، وَهُوَ ربُّ العَالَمِين ، فَخَبَرُهُ صَادِقٌ ، وحُكْمُهُ نَافِذٌ .
وهَذا القُرآنُ أنْزَلَهُ اللهُ تَعالى عَلَيكَ يا مُحَمَّدُ ، وجَاءَكَ بهِ جِبْرِيلُ عَليهِ السَّلامُ ( الرُّوحَ الأمِينُ ) .
وهَذا القُرآنُ أنْزَلَهُ عليكَ يا مُحَمَّدُ ، وتَلاهُ عليكَ الرُّوحُ الأمينُ حَتَّى وَعَيْتَهُ بِقَلْبِكَ لِتُنْذِرَ بِهِ قَوْمَكَ .
وقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعالى هَذا القرآنَ عليكَ بِلسَانٍ عَربيٍّ فَصيحٍ واضِحٍ لِيكونَ بَيِّناً واضِحاً في دَلاَلَتِهِ ، قَاطِعاً لِلْعُذْرِ .
(3) - نَاظَرَ اليَهُودُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِ نُبُوَّتِهِ ، فَقَالُوا لَهُ : يَا أَبَا القَاسِمِ أَخْبِرْنَا عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ فَإِن أنْبَأَتَنَا بِهَا عَرَفْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَاتّبَعْنَاكَ فَأَخَذَ النَّبِيُّ عَلَيهِمِ المِيثَاقَ إِذْ قَالَ : ( وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) . ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : هَاتُوا . فَسَألُوهُ أَسْئِلَةً أَرْبَعَةً أَجَابَهُمْ عَلَيْها ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ : لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَ وَلَهُ مَلَكٌ يَأتِيهِ بِالخَبَرِ ، فَأخْبِرْنَا مَنْ صَاحِبُكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ( صَاحِبِي جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ ) . قَالُوا جِبْرِيلُ ذَاكَ الذِي يَنْزِلُ بِالحَرْبِ وَالقِتَالِ وَالعَذَابِ عَدُوُّنَا ، وَإِنَّهُ أنْذَرَ اليَهُودَ بِخَرَابِ بَيْتِ المَقْدِسِ ، فَكَانَ مَا أنْذَرَ بِهِ ، لَوْ قُلْتَ : إنَّ صَاحِبَكَ مِيكَائِيلُ لاتَّبَعْنَاكَ ، لأَنَّهُ المَلَكُ الذِي يَنْزِلُ بِالرَّحْمَةِ وَالغَيْثِ . فَأَنزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ .
وَمَعْنَى الآيَةِ : إنَّ مَنْ عَادَى جِبْرِيلَ فَإنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الرُّوحُ الأمَينُ الذَي أنْزَلَ القُرآنَ عَلَى قَلبِكَ يَا مُحَمَّدُ ، بأمْرِ اللهِ ، مُصَدِّقاً لِمَا سَبَقَهُ مِنَ الكُتُبِ المَنَزَّلةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَمِنْهَا التَّورَاةُ ، وَهُوَ هُدًى لِلْمُؤْمِنينَ وَبُشْرَى لِقُلُوبِهِمْ بِالجَنَّةِ .
(4) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَعِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، إِذَا أَرَادُوا قِرَاءَةَ القُرْآنِ .
وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى : أَنَّ الشَّيْطَانَ لاَ سُلْطَةَ لَهُ وَلاَ سُلْطَانَ عَلَى المُؤْمِنِينَ المُتَوَّكِلِينَ عَلَى اللهِ ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ارْتِكَابِ ذَنْبٍ لاَ يَتُوبُونَ مِنْهُ .
سُلْطَانٍ - تَسَلُّطٌ أَوْ وِلاَيَةٌ .
إِنَّمَا تَسَلُّطُهُ بِالغَوَايَةِ وَالضَّلاَلَةِ يَكُونُ عَلَى الذِينَ يَجْعَلُونَهُ نَصِيراً فَيُحِبُّونَهُ وَيُطِيعُونَهُ ، وَيَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَتِهِ ، وَالذِينَ هُمْ بِسَبَبِ إِغْوَائِهِ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ .
وَإِذَا نَسَخْنَا حُكْمَ آيَةٍ فَأَبْدَلْنَا مَكَانَهُ حُكْمَ آيَةٍ أُخْرَى ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِالَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لِخَلْقِهِ ، فِيمَا يُبْدِّلُ مِنْ أَحْكَامٍ ، قَالَ المُشْرِكُونَ المُكَذِّبُونَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ مُتَقَوِّلٌ عَلَى اللهِ ، تَأْمُرُ بِشَيءٍ ، ثُمَّ تَعُودُ فَتَنْهَى عَنْهُ ، وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّبْدِيلِ مِنْ حِكَمٍ بَالِغَةٍ . وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيُنْكِرُونَ الفَائِدَةَ عِنَاداً وَاسْتِكْبَاراً .
قُلْ لَهُمْ : إِنَّ القُرْآنَ قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ مِنْ رَبِّي مَعَ جِبْرِيلَ الرُّوحِ الطَّاهِرِ ، مُقْتَرِناً بِالحَقِّ وَمُشْتَمِلاً عَلَيْهِ لِيُثَبِّتَ بِهِ المُؤْمِنِينَ ، وَلِيَهْدِي بِهِ النَّاسَ إِلَى الخَيْرِ بِمَا فِيهِ مِنْ أَدِلَّةٍ قَاطِعَةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ ، وَبِمَا فِيهِ مِنْ تَشْرِيعٍ وَتَعَالِيمٍ وَأَحْكَامٍ ، فَهُوَ هَادٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَبَشِيرٌ لَهُمْ بِحُسْنِ الثَّوَابِ عِنْدَ اللهِ فِي الآخِرَةِ .

[النحل/98-102]، فَسَمَّاهُ الرُّوحَ الْأَمِينَ وَسَمَّاهُ رُوحَ الْقُدُسِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) } [التكوير/15-17](1)، يَعْنِي : الْكَوَاكِبَ الَّتِي تَكُونُ فِي السَّمَاءِ خَانِسَةً ،أَيْ : مُخْتَفِيَةً قَبْلَ طُلُوعِهَا فَإِذَا ظَهَرَتْ رَآهَا النَّاسُ جَارِيَةً فِي السَّمَاءِ فَإِذَا غَرَبَتْ ذَهَبَتْ إلَى كناسها الَّذِي يَحْجُبُهَا :{ وَاللَّيْلِ إذَا عَسْعَسَ } أَيّ إذَا أَدْبَرَ وَأَقْبَلَ الصُّبْحُ { وَالصُّبْحِ إذَا تَنَفَّسَ } أَيْ أَقْبَلَ { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } أَيْ مُطَاعٍ فِي السَّمَاءِ أَمِينٍ ثُمَّ قَالَ : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } أَيْ صَاحِبُكُمْ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِهِ إذْ بَعَثَهُ إلَيْكُمْ رَسُولًا مِنْ جِنْسِكُمْ يَصْحَبُكُمْ ،إذْ كُنْتُمْ لَا تُطِيقُونَ أَنْ تَرَوْا الْمَلَائِكَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) } [الأنعام/8] .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } أَيْ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أَيْ بِمُتَّهَمِ وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى : { بِضَنِينٍ } أَيْ بِبَخِيلِ يَكْتُمُ الْعِلْمَ وَلَا يَبْذُلُهُ إلَّا بِجُعْلٍ، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يَكْتُمُ الْعِلْمَ إلَّا بِالْعِوَضِ . { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } فَنَزَّهَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانًا، كَمَا نَزَّهَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَوْ كَاهِنًا .
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُقْتَدُونَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2)
__________
(1) - أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِالنُّجُومِ التِي تَغِيبُ عَنِ العُيُونِ فِي النَّهَارِ ، وَتَخْتَفِي عَنِ الأبْصَارِ ، وَكَأَنَّهَا تَخْنُسُ فِي النَّهَارِ [ وَلاَ لِتَوْكِيدِ القَسَمِ ، وَقِيلَ إِنَّهَا صِلَةٌ مِثلهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ( لَئِلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ ) ] .
وَهِيَ تَجْرِي فِي أَفْلاَكِهَا وَمَدَارَاتِهَا وَتَعُودُ لِتَظْهَرَ فِي اللَّيْلِ ، وَكَأَنَّهَا عَادَتْ إِلَى مَوَاقِعَهَا كَمَا يَعُودُ الظَّبْيُ إِلَى كِنَاسِهِ ( أَيْ بَيْتِهِ ) .
(2) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 83) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 176) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 178) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 400) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 202) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 298) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 299) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 302) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 635) ومجموع الفتاوى - (ج 19 / ص 55) ومجموع الفتاوى - (ج 27 / ص 497) ومجموع الفتاوى - (ج 35 / ص 117)
وفي شرح الطحاوية في العقيدة السلفية - (ج 3 / ص 207)
قَوْلُهُ : ( وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ ، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ ) .
ش : فالْمُعْجِزَةُ فِي اللُّغَةِ تَعُمُّ كُلَّ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ ، وَ [ كذلك الكرامة] فِي عُرْفِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُتَقَدِّمِينَ . وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يُفَرِّقُونَ فِي اللَّفْظِ بَيْنَهُمَا ، فَيَجْعَلُونَ الْمُعْجِزَةَ لِلنَّبِيِّ ، وَالْكَرَامَةَ لِلْوَلِيِّ . وَجِمَاعُهُمَا : الْأَمْرُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ .
والْكَمَالُ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةٍ : الْعِلْمِ ، وَالْقُدْرَةِ ، وَالْغِنَى . وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَا تَصْلُحُ عَلَى الْكَمَالِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ ، فَإِنَّهُ الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ . وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ دَعْوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ : { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } (الْأَنْعَامِ : 50 ) .
وَكَذَلِكَ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَهَذَا أَوَّلُ أُولِي الْعَزْمِ ، وَأَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ، وَهَذَا خَاتَمُ الرُّسُلِ ، وَخَاتَمُ أُولِي الْعَزْمِ ، وَكِلَاهُمَا تَبَرَّأَ مِنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ يُطَالِبُونَهُمْ تَارَةً بِعِلْمِ الْغَيْبِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } ( النَّازِعَاتِ : 42) ، وَتَارَةً بِالتَّأْثِيرِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا } الْآيَاتِ ( الْإِسْرَاءِ : 90 ) ، وَتَارَةً يَعِيبُونَ عَلَيْهِمُ الْحَاجَةَ الْبَشَرِيَّةَ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } ( الْفُرْقَانِ : 7) الْآيَةَ .
فَأُمِرَ الرَّسُولُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَنَالُ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ بِقَدْرِ مَا يُعْطِيهِ اللَّهُ ، فَيَعْلَمُ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ ، وَيَسْتَغْنِي عَمَّا أَغْنَاهُ عَنْهُ ، وَيَقْدِرُ عَلَى مَا أَقْدَرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ لِلْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ ، أَوْ لِعَادَةِ أَغْلَبِ النَّاسِ . فَجَمِيعُ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ مَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ
ثُمَّ الْخَارِقُ : إِنْ حَصَلَ بِهِ فَائِدَةٌ مَطْلُوبَةٌ فِي الدِّينِ ، كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا دِينًا وَشَرْعًا ، إِمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ، وَإِنْ حَصَلَ بِهِ أَمْرٌ مُبَاحٌ ، كَانَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي شُكْرًا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ ، كَانَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ أَوِ الْبُغْضِ ، كَالَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا : بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَا ، [ لكن قد يكون صاحبها معذورا ] لِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ ، أَوْ نَقْصِ عَقْلٍ أَوْ عِلْمٍ ، أَوْ غَلَبَةِ حَالٍ ، أَوْ عَجْزٍ أَوْ ضَرُورَةٍ .
فَالْخَارِقُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : مَحْمُودٌ فِي الدِّينِ ، وَمَذْمُومٌ ، وَمُبَاحٌ . فَإِنْ كَانَ الْمُبَاحُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ كَانَ نِعْمَةً ، وَإِلَّا فَهُوَ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا .
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَوْزَجَانِيُّ : كُنْ طَالِبًا لِلِاسْتِقَامَةِ ، لَا طَالِبًا لِلْكَرَامَةِ ، فَإِنَّ نَفْسَكَ مُتَحَرِّكَةٌ فِي طَلَبِ الْكَرَامَةِ ، وَرَبُّكَ يَطْلُبُ مِنْكَ الِاسْتِقَامَةَ .
قَالَ الشَّيْخُ السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي عَوَارِفِهِ : [وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْبَابِ] ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ [وَالْمُتَعَبِّدِينَ] سَمِعُوا [عن] سَلَفِ الصَّالِحِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَمَا مُنِحُوا بِهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ ، فَنُفُوسُهُمْ لَا تَزَالُ تَتَطَلَّعُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُرْزَقُوا شَيْئًا مِنْهُ ، وَلَعَلَّ أَحَدَهُمْ يَبْقَى مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ ، مُتَّهِمًا لِنَفْسِهِ فِي صِحَّةِ عَمَلِهِ ، حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ خَارِقٌ ، وَلَوْ عَلِمُوا بِسِرِّ ذَلِكَ لَهَانَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ ، فَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَفْتَحُ عَلَى بَعْضِ [الْمُجتهِدِينَ] الصَّادِقِينَ مِنْ ذَلِكَ بَابًا ، وَالْحِكْمَةُ [فِيهِ] أَنْ يَزْدَادَ بِمَا [يَرَى] مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَآثَارِ الْقُدْرَةِ - يَقِينًا ، فَيَقْوَى عَزْمُهُ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ، وَالْخُرُوجِ عَنْ دَوَاعِي الْهَوَى . فَسَبِيلُ الصَّادِقِ مُطَالَبَةُ النَّفْسِ بِالِاسْتِقَامَةِ ، فَهِيَ كُلُّ الْكَرَامَةِ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْقُلُوبِ مِنَ التَّأْثِيرِ أَعْظَمَ مِمَّا لِلْأَبْدَانِ ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ صَالِحَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا صَالِحًا ، وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً كَانَ تَأْثِيرُهَا فَاسِدًا . فَالْأَحْوَالُ يَكُونُ تَأْثِيرُهَا مَحْبُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى تَارَةً ، وَمَكْرُوهًا لِلَّهِ أُخْرَى .
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى مَنْ يَقْتُلُ غَيْرَهُ فِي الْبَاطِنِ . وَهَؤُلَاءِ يَشْهَدُونَ بِبَوَاطِنِهِمْ وَقُلُوبِهُمُ الْأَمْرَ الْكَوْنِيَّ ، وَيَعُدُّونَ مُجَرَّدَ خَرْقِ الْعَادَةِ لِأَحَدِهِمْ أَنَّهُ كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا الْكَرَامَةُ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكْرِمْ عَبْدًا بِكَرَامَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ، وَهُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ ، وَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ ، وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .
وَأَمَّا مَا يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ عَبْدَهُ ، مِنَ السِّرِّ بِخَرْقِ الْعَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا أَوْ بِالضَّرَّاءِ - فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ كَرَامَةِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَلَا هَوَانِهِ عَلَيْهِ ، بَلْ قَدْ سَعِدَ بِهَا قَوْمٌ إِذَا أَطَاعُوهُ ، وَشِقِيَ بِهَا قَوْمٌ إِذَا عَصَوْهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي }{ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي }{ كَلَّا } (الْفَجْرِ : 15 - 17 ) .
وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ تَرْتَفِعُ دَرَجَتُهُمْ بِخَرْقِ الْعَادَةِ ، وَقِسْمٌ يَتَعَرَّضُونَ بِهَا لِعَذَابِ اللَّهِ ، وَقِسْمٌ يَكُونُ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحَاتِ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
وَتَنَوُّعُ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ بِاعْتِبَارِ تَنَوُّعِ كَلِمَاتِ اللَّهِ . وَكَلِمَاتُ اللَّهِ نَوْعَانِ : كَوْنِيَّةٌ ، وَدِينِيَّةٌ :
فَكَلِمَاتُهُ الْكَوْنِيَّةُ هِيَ الَّتِي اسْتَعَاذَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : « أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ » . قَالَ تَعَالَى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ( يس : 82 ) . وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } ( الْأَنْعَامِ : 115 ) . وَالْكَوْنُ كُلُّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ ، وَسَائِرِ الْخَوَارِقِ .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي : الْكَلِمَاتُ الدِّينِيَّةُ ، وَهِيَ الْقُرْآنُ وَشَرْعُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ ، وَهِيَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَخَبَرُهُ ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهَا الْعِلْمُ بِهَا ، وَالْعَمَلُ ، وَالْأَمْرُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ، كَمَا أَنَّ حَظَّ الْعِبَادِ عُمُومًا وَخُصُوصًا الْعِلْمُ بِالْكَوْنِيَّاتِ وَالتَّأْثِيرُ فِيهَا ، أَيْ بِمُوجَبِهَا . فَالْأُولَى تَدْبِيرِيَّةٌ كَوْنِيَّةٌ ، وَالثَّانِيَةُ شَرْعِيَّةٌ دِينِيَّةٌ . فَكَشْفُ الْأُولَى الْعِلْمُ بِالْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ ، وَكَشْفُ الثَّانِيَةِ الْعِلْمُ بِالْمَأْمُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَقُدْرَةُ الْأُولَى التَّأْثِيرُ فِي الْكَوْنِيَّاتِ ، إِمَّا فِي نَفْسِهِ كَمَشْيِهِ عَلَى الْمَاءِ ، وَطَيَرَانِهِ فِي الْهَوَاءِ ، وَجُلُوسِهِ فِي النَّارِ ، وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ ، بِإِصْحَاحٍ وَإِهْلَاكٍ ، وَإِغْنَاءٍ وَإِفْقَارٍ .
وَقُدْرَةُ الثَّانِيَةِ التَّأْثِيرُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ ، إِمَّا فِي نَفْسِهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ فَيُطَاعُ فِي ذَلِكَ طَاعَةً شَرْعِيَّةً .
فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ الْخَوَارِقِ عِلْمًا وَقُدْرَةً لَا تَضُرُّ الْمُسْلِمَ فِي دِينِهِ ، فَمَنْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ ، وَلَمْ يُسَخَّرْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْكَوْنِيَّاتِ - : لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ فِي مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ عَدَمُ ذَلِكَ أَنْفَعَ لَهُ ، فَإِنَّهُ إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ الدِّينُ وَإِلَّا هَلَكَ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَإِنَّ الْخَارِقَ قَدْ يَكُونُ مَعَ الدِّينِ ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ عَدَمِهِ ، أَوْ فَسَادِهِ ، أَوْ نَقْصِهِ .
فَالْخَوَارِقُ النَّافِعَةُ تَابِعَةٌ لِلدِّينِ ، خَادِمَةٌ لَهُ ، كَمَا أَنَّ الرِّيَاسَةَ النَّافِعَةَ هِيَ [ التَّابِعَةُ] لِلدِّينِ ، وَكَذَلِكَ الْمَالُ النَّافِعُ ، كَمَا كَانَ السُّلْطَانُ وَالْمَالُ النَّافِعُ بِيَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . فَمَنْ جَعَلَهَا هِيَ الْمَقْصُودَةَ ، وَجَعَلَ الدِّينَ تَابِعًا لَهَا ، وَوَسِيلَةً إِلَيْهَا ، لَا لِأَجْلِ الدِّينِ فِي الْأَصْلِ - : فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ يَأْكُلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ، وَلَيْسَتْ حَالُهُ كَحَالِ مَنْ تَدَيَّنَ خَوْفَ الْعَذَابِ ، أَوْ رَجَاءَ الْجَنَّةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ ، وَشَرِيعَةٍ صَحِيحَةٍ .
وَالْعَجَبُ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّ هَمَّهُ قَدِ ارْتَفَعَ عَنْ أَنْ يَكُونَ خَوْفًا مِنَ النَّارِ أَوْ طَلَبًا لِلْجَنَّةِ - يَجْعَلُ هَمَّهُ بِدِينِهِ أَدْنَى خَارِقٍ مِنْ خَوَارِقِ الدُّنْيَا !! ثُمَّ إِنَّ الدِّينَ إِذَا صَحَّ عِلْمًا وَعَمَلًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجِبَ خَرْقَ الْعَادَةِ ، إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } ( الطَّلَاقِ : 2 - 3) . وَقَالَ تَعَالَى : { إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } ( الْأَنْفَالِ : 29 ) . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا }{ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا }{ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } (النِّسَاءِ : 66 - 68 ) . وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }{ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }{ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } ( يُونُسَ : 62 - 64 ) .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ " ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ }» (الْحِجْرِ : 75 ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ .
وَقَالَ تَعَالَى ، فِيمَا يَرْوِي عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لِأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ » . فَظَهَرَ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ حَظُّ الرَّبِّ ، وَطَلَبَ الْكَرَامَةِ حَظُّ النَّفْسِ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُقْتَدُونَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَفْعَلُونَ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَنْتَهُونَ عَمَّا عَنْهُ زَجَرَ ؛ وَيَقْتَدُونَ بِهِ فِيمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُ فِيهِ، فَيُؤَيِّدُهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ وَرُوحٍ مِنْهُ، وَيَقْذِفُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَنْوَارِهِ ،وَلَهُمُ الْكَرَامَاتُ الَّتِي يُكْرِمُ اللَّهُ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ .
وَخِيَارُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَرَامَاتُهُمْ لِحُجَّةٍ فِي الدِّينِ(1)، أَوْ لِحَاجَةِ بِالْمُسْلِمِينَ (2)،كَمَا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ .
وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهُ إنَّمَا حَصَلَتْ بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَدْخُلُ فِي مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ(3)، وَتَسْبِيحِ الْحَصَا فِي كَفِّهِ(4)
__________
(1) - أي لإقامة الحجة في الدين على المعاندين والمتشككين ، بأن يمكنهم الله تعالى من الردِّ عليهم ، وكشف شبهاتهم ، وتفنيدها .
(2) - كقحط ، أو فقر أو جوع أو خوف أو مرض ونحو ذلك
(3) - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً ، فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ . صحيح البخارى (3637) وهو متواتر نظم المتناثر - (ج 1 / ص 211)264 (انشقاق القمر).
(4) - عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنِّى لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّى لأَعْرِفُهُ الآنَ ».صحيح مسلم(6078 )
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 7864) رقم الفتوى 38736 روايات حديث تسبيح الحصى -تاريخ الفتوى : 17 شعبان 1424
السؤال
الأحاديث الخاصة بتسبيح الحصى.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فحديث تسبيح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم رواه الطبراني في معجمه الأوسط ، و البيهقي في السنن الصغير، و الخلال في السنة، و ابن أبي عاصم في السنة، و الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي ذر الغفاري قال: إني لشاهد عند النبي صلى الله عليه وسلم في حلقة وفي يده حصى فسبحن في يده، وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن النبي إلى أبي بكر فسبحن مع أبي بكر ، سمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن إلى النبي فسبحن في يده، ثم دفعهن النبي إلى عمر فسبحن في يده، وسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن النبي إلى عثمان بن عفان فسبحن في يده، ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن مع أحد منا.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن أبي حميد وهو ضعيف، وله طريق أحسن من هذا في علامات النبوة وإسناده صحيح.
ورواه البزار بإسنادين، قال الهيثمي: رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما ثقات، وفي بعضهم ضعف، وضعف الحديث النسائي والعراقي .
قال ابن حجر في الفتح: والذي أقول: إنها كلها مشتهرة عند الناس، وأما من حيث الرواية، فليست على حد سواء، فإن حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كل منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق ذلك من أئمة الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة له في ذلك، وأما تسبيح الحصى، فليست إلا هذه الطريق الواحدة، مع ضعفها، وأما تسليم الغزالة، فلم نجد له إسنادا، لا من وجه قوي، ولا من وجه ضعيف. اهـ.والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
وفي فتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 76) = الكون يسبح الله
المفتي : عطية صقر .مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
فى الآيات القرآنية أن كل شىء يسبِّح الله ، فبأى لغة يكون هذا التسبيح ؟
الجواب
التسبيح معناه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به ، وقد يكون ذلك بالقول وبالفعل ، وبأية صورة تنبئ عن ذلك كالصلاة وذكر الله تعالى ، وهذا التسبيح يلزمه الإِيمان بوجود الله وبألوهيته ، ومثله السجود بمعناه العام وهو الخضوع واللجوء إليه ، والكون كله ساجد لله ومسبح له بهذا المعنى، والنصوص فى ذلك كثيرة، منها قوله تعالى : { سبَّح لله ما فى السماوات وما فى الأرض } وقوله تعالى : { ألم تر أن الله يسبح له من فى السماوات والأرض والطير صافات كلٌّ قد علم صلاته وتسبيحه } النور : 41 وقوله : { ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب ... } الحج : 18 وقوله تعالى : { وإن من شىء إلا يسبِّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } الإِسراء : 44 والتسبيح الذى يعتمد على اللغة ليس كل إنسان قادرا على فهمه ، فلكل من المخلوقات لغته ، ولا يفهمها إلا من خصه اللّه من عباده المقربين كداود وسليمان عليهما السلام {وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علِّمنا منطق الطير وأوتينا من كل شىء} النمل : 16 .
وبعض العلماء يقول : إن التسبيح باللغة يكون من الأحياء النامية كالحيوان والنبات ، وأما تسبيح غيرها كالجماد فهو بمعنى الدلالة على وجود اللّه ووجوب عبادته ، وقال بعض آخر : قد يكون تسبيح الجمادات بلغة خاصة كما جاء فى إكرام الله لداود بقوله تعالى : { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإِشراق . والطير محشورة كل له أوَّاب } ص : 18 ، 19 .
والمهم أن كل الكائنات تسبح وتسجد وتخضع لقدرة الله ، ولكلٍّ لغتها وطريقتها فى ذلك ، ومما جاء من النصوص والأخبار فى هذاالموضوع إلى جانب ما ذكر :
1 -روى البخارى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال " لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل " وفى غير هذه الرواية عنه رضى الله عنه : كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطعام ونحن نسمع تسبيحه . وهناك عدة روايات فى تسبيح الطعام مذكورة فى الزرقانى على المواهب "ج 5 ص 121" .
2-روى مسلم عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علىَّ قبل أن أبعث ، إنى لأعرفه الآن " قيل هو الحجر الأسود . وهناك عدة حوادث فى تسبيح الحصا فى يد الرسول وأبى بكر وعمر "المرجع السابق ص 120 " .
3- حنين الجذع الذى كان يخطب إليه ، رواه البخارى وغيره ، وقيل إنه متواتر، وسمع لحنينه صوت كصوت الناقة العشراء ، والكلام طويل عنه فى " الزرقانى على المواهب ج 5ص 133" .
4 -أخرج النسائى فى سننه عن عبد الله بن عمر وأن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع وقال " نقيقها تسبيح ". وأخرجه ابن سبيع فى " شفاء الصدور " كما ذكره الدميرى .
5-روى ابن ماجه فى سننه ومالك فى موطئه قول النبى صلى الله عليه وسلم " لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شىء إلا شهد له يوم القيامة " .
6 -ذكر القرطبى فى تفسير قوله تعالى : { وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } بعض أقوال منقولة عن عبد الله ابن مسعود وأنس بن مالك أن الجبال يكلم بعضها بعضا ، كما ذكر فى "ج 13 ص 165 " ما تقوله بعض الطيور ، وليس لذلك سند صحيح يعتمد عليه ، ثم قال : الصحيح أن الكل يسبح ، للأخبار الدالة على ذلك ، ولو كان التسبيح تسبيح دلالة فأى تخصيص لداود؟ وإنما ذلك تسبيح المقال ، بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح ، وقد نصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شىء ، فالقول به أولى .
وأقول : لقد أثبت العلم أن للحيوانات والطيور لغات تتفاهم بها ، فلا استحالة فى كون كل المخلوقات تسبح بحمد اللّه بلغة خاصة بها، وإن كنا لا نفهمها ، كما أنه لا مانع من تفسير التسبيح بأنه بلسان الحال ليعتبر الإِنسان ويؤمن ويسجد لله ويسبِّحه { قل انظروا ماذا فى السماوات و الأرض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } يونس : 101

، وَإِتْيَانِ الشَّجَرِ إلَيْهِ وَحَنِينِ الْجِذْعِ إلَيْهِ(1)، وَإِخْبَارِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِصِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ (2)،وَإِخْبَارِهِ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ(3)، وَإِتْيَانِهِ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً (4)،كَمَا أَشْبَعَ فِي الْخَنْدَقِ الْعَسْكَرَ مِنْ قِدْرِ طَعَامٍ وَهُوَ لَمْ يَنْقُصْ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَشْهُورِ(5)
__________
(1) - عَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ ، فَيَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَأَنَّهُ لَمَّا صَنَعَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ فَحَنَّ الْجِذْعُ ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَسَحَهُ.صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 435)(6506) وهو صحيح ، وحنين الجذع متواتر نظم المتناثر - (ج 1 / ص 210)263 (حنين الجذع).
(2) - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« لَمَّا كَذَّبَنِى قُرَيْشٌ قُمْتُ فِى الْحِجْرِ ، فَجَلاَ اللَّهُ لِى بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ » . صحيح البخارى (3886 )
(3) - عن عَمْرَو بْنِ أَخْطَبَ - قَالَ :صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْفَجْرَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ فَنَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا.صحيح مسلم (7449 )
(4) - وفي نظم المتناثر - (ج 1 / ص 213)267 تكثير الطعام ببركته وردت من رواية جماعة من الصحابة حتى قال بعضهم أنها متواترة تواترا معنويا وأشار لتواترها أيضا عياض فيما تقدم قريبا عنه بل أشار إلى أن القصص المشهورة عنه صلى الله عليه وسلم في هذا المعني كلها معلومة على القطع ثم قال بعد كلام في الاستدلال على ذلك وهذا حق لا غطاء عليه وقد قال به من أئمتنا القاضي أي أبو بكر الباقلاني والأستاذ أبو بكر أي ابن فورك وغيرهما وما عندي أوجب قول القائل أن هذه القصص المشهورة من با ب خبر الواحد إلا قلة مطالعته للأخبار وروايتها وشغله بغير ذلك من المعارف وإلا فمن اعتنى بطرق النقل وطالع الأحاديث والسير لم يرتب في صحة هذه القصص المشهورة على الوجه الذي ذكرناه اه.
وقال أيضا في فصل تكثير الطعام ببركته ودعائه بعدما أورد فيه أحاديث وقضايا وقد اجتمع على معنى هذا الفصل بضعة عشر من الصحابة ورواه عنهم أضعافهم من التابعين ثم من لا يعد بعدهم وأكثرها في قصص مشهورة ومجامع مشهودة لا يمكن التحدث عنها إلا بالحق ولا يسكت الحاضر لها على ما أنكره اه.
(5) - عن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ :لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - خَمَصًا شَدِيدًا ، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِى فَقُلْتُ هَلْ عِنْدَكِ شَىْءٌ فَإِنِّى رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَمَصًا شَدِيدًا . فَأَخْرَجَتْ إِلَىَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا ، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِى ، وَقَطَّعْتُهَا فِى بُرْمَتِهَا ، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ لاَ تَفْضَحْنِى بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبِمَنْ مَعَهُ . فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ . فَصَاحَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا فَحَىَّ هَلاً بِكُمْ » . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ ، وَلاَ تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِىءَ » . فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْدُمُ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِى ، فَقَالَتْ بِكَ وَبِكَ . فَقُلْتُ قَدْ فَعَلْتُ الَّذِى قُلْتِ . فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا ، فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ ثُمَّ قَالَ « ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِى وَاقْدَحِى مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلاَ تُنْزِلُوهَا ، وَهُمْ أَلْفٌ ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا ، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِىَ ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ . صحيح البخارى (4102 ) ومسلم (5436 )
البرمة : القِدر من الحجر = الخمص : الجوع = الداجن : ما يألف البيت من الحيوان =تغط : تغلى ويسمع غليانها
وفي صحيح مسلم (5437 ) عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ قَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَىْءٍ فَقَالَتْ نَعَمْ. فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِى وَرَدَّتْنِى بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسًا فِى الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ ». قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ. فَقَالَ « أَلِطَعَامٍ ». فَقُلْتُ نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ مَعَهُ « قُومُوا ». قَالَ فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - قَالَ - فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِىَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَعَهُ حَتَّى دَخَلاَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « هَلُمِّى مَا عِنْدَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ». فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَفُتَّ وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ قَالَ « ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ ». فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ « ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ ». فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ « ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ ». حَتَّى أَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلاً أَوْ ثَمَانُونَ.
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 4425) = رقم الفتوى 55360 الذين شاركوا النبي صلى الله عليه وسلم الطعام يوم الخندق =تاريخ الفتوى : 20 رمضان 1425
السؤال
كم كان عدد الرجال الذين أكلو مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد وردت قصة جابر وزوجته رضي الله عنهما ـ ودعوتهما للنبي صلى الله عليه وسلم على طعام صنعاه له ولبعض أصحابه في غزوة الخندق، وردت هذه القصة في صحيح البخاري وفي غيره.كما ذكرت مفصلة في كتب السيرة، ولكن رواية الإمام البخاري لم تحدد عدد الذين أكلوا من ذلك الطعام، ومن المعلوم عند أهل العلم أن هذه القصة وما جرى فيها من تكثير الطعام من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم كما جاء في قصص أخرى صحيحة... وقد ذكر الحافظ في الفتح عدة روايات للحديث فيها أنه صلى الله عليه وسلم دعا أهل الخندق، وفي رواية: جاء بالمهاجرين والأنصار، وذكر رواية أخرى فيها أنهم كانوا تسع مائة وقيل ثمان مائة وقيل غير ذلك. والذي لا شك فيه أنهم كانوا عددا كبيرا لا يتناسب مع ذبيحة صغيرة وصاع من الشعير. وهي كما قلنا معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

، وَأَرْوَى الْعَسْكَرَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ مَزَادَةِ مَاءٍ وَلَمْ تَنْقُصْ(1)، وَمَلَأ أَوْعِيَةَ الْعَسْكَرِ عَامَ تَبُوكَ مِنْ طَعَامٍ قَلِيلٍ وَلَمْ يَنْقُصْ وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا(2)، وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً حَتَّى كَفَى النَّاسَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ (3)
__________
(1) - ففي مسند أحمد (2307)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ وَلَيْسَ فِى الْعَسْكَرِ مَاءٌ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ فِى الْعَسْكَرِ مَاءٌ. قَالَ « هَلْ عِنْدَكَ شَىْءٌ ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ « فَأْتِنِى بِهِ ». قَالَ فَأَتَاهُ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ قَلِيلٍ - قَالَ - فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصَابِعَهُ فِى فَمِ الإِنَاءِ وَفَتَحَ أَصَابِعَهُ - قَالَ - فَانْفَجَرَتْ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ عُيُونٌ وَأَمَرَ بِلاَلاً فَقَالَ « نَادِ فِى النَّاسِ الْوَضُوءَ الْمُبَارَكَ ». حسن لغيره
وفي صحيح البخارى (3579 ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا نَعُدُّ الآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا ، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ :« اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ » . فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِى الإِنَاءِ ، ثُمَّ قَالَ :« حَىَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ ، وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ » فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهْوَ يُؤْكَلُ .
(2) - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَوْ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ لَمَّا كَانَ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « افْعَلُوا ». قَالَ فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ ثُمَّ ادْعُ اللَّهَ لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ فِى ذَلِكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَعَمْ ». قَالَ فَدَعَا بِنِطَعٍ فَبَسَطَهُ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ - قَالَ - فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِىءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ - قَالَ - وَيَجِىءُ الآخَرُ بَكَفِّ تَمْرٍ - قَالَ - وَيَجِىءُ الآخَرُ بِكِسْرَةٍ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَىْءٌ يَسِيرٌ - قَالَ - فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ قَالَ « خُذُوا فِى أَوْعِيَتِكُمْ ». قَالَ فَأَخَذُوا فِى أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا فِى الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلاَّ مَلأُوهُ - قَالَ - فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَفَضِلَتْ فَضْلَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ لاَ يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ ».صحيح مسلم (148 )
النواضح : جمع الناضح وهى الناقة التى يسقى عليها الماء = النطع : البساط من الجلد
(3) - عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ ، فَأُتِىَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ . قَالَ أَنَسٌ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ ، قَالَ أَنَسٌ فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ . صحيح البخارى (200 ، 169 ، 195 ، 3572 ، 3573 ، 3574 ، 3575 ) ومسلم (6080 )
حزر : قدر وخمن
وفي صحيح مسلم (6081 ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَحَانَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ - قَالَ - فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ.
وفي صحيح مسلم (6082 )عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ بِالزَّوْرَاءِ - قَالَ وَالزَّوْرَاءُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ السُّوقِ وَالْمَسْجِدِ فِيمَا ثَمَّهْ - دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَوَضَعَ كَفَّهُ فِيهِ فَجَعَلَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ. قَالَ قُلْتُ كَمْ كَانُوا يَا أَبَا حَمْزَةَ قَالَ كَانُوا زُهَاءَ الثَّلاَثِمِائَةِ.

،كَمَا كَانُوا فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةَ نَحْوُ أَلْفٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ أَوْ خَمْسُمِائَةٍ(1)، وَرَدِّهِ لِعَيْنِ أَبِي قتادة حِينَ سَالَتْ عَلَى خَدِّهِ فَرَجَعَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ (2)
__________
(1) - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ فَجَهَشَ النَّاسُ نَحْوَهُ ، فَقَالَ « مَا لَكُمْ » . قَالُوا لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلاَ نَشْرَبُ إِلاَّ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِى الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا . قُلْتُ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا ، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً . صحيح البخارى (3576 ) = جهش : فزع ولجأ
(2) - عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، أَنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ سَقَطَتْ عَيْنُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ يَوْمَ أُحُدٍ , فَرَدَّهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنٍ وَأَحَدَّهَا .مصنف ابن أبي شيبة (36768) وهو صحيح مرسل
وفي مسند أبي عوانة (5550 )حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، أَوْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَسَالَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا، ثُمَّ قَالُوا: نَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَشِيرُهُ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: فَوَضَعَهَا فِي مَوْضِعِهَا، ثُمَّ غَمَزَهَا بِرَاحَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَكْسِبْهُ جَمَالا، قَالَ: فَمَا يَدْرِي مَنْ لَقِيَهُ أَيَّ عَيْنَيْهِ أُصِيبَتْ. وهو صحيح لغيره
وانظر الإصابة في تمييز الصحابة [ جزء 5 - صفحة 416 ] (7081)

،وَلَمَّا أَرْسَلَ مُحَمَّدَ بْنَ مسلمة لِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَوَقَعَ وَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ فَمَسَحَهَا فَبَرِئَتْ (1)،وَأَطْعَمَ مِنْ شِوَاءٍ مِائَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا كُلًّا مِنْهُمْ حَزَّ لَهُ قِطْعَةً وَجَعَلَ مِنْهَا قِطْعَتَيْنِ فَأَكَلُوا مِنْهَا جَمِيعُهُمْ ثُمَّ فَضَلَ فَضْلَةٌ (2)
__________
(1) - عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى أَبِى رَافِعٍ الْيَهُودِىِّ رِجَالاً مِنَ الأَنْصَارِ ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُؤْذِى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيُعِينُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ فِى حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ ، وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ ، وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لأَصْحَابِهِ اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ ، فَإِنِّى مُنْطَلِقٌ ، وَمُتَلَطِّفٌ لِلْبَوَّابِ ، لَعَلِّى أَنْ أَدْخُلَ . فَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنَ الْبَابِ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِى حَاجَةً ، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ ، فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلْ ، فَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ الْبَابَ . فَدَخَلْتُ فَكَمَنْتُ ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّاسُ أَغْلَقَ الْبَابَ ، ثُمَّ عَلَّقَ الأَغَالِيقَ عَلَى وَتَدٍ قَالَ فَقُمْتُ إِلَى الأَقَالِيدِ ، فَأَخَذْتُهَا فَفَتَحْتُ الْبَابَ ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُسْمَرُ عِنْدَهُ ، وَكَانَ فِى عَلاَلِىَّ لَهُ ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ صَعِدْتُ إِلَيْهِ ، فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُ عَلَىَّ مِنْ دَاخِلٍ ، قُلْتُ إِنِ الْقَوْمُ نَذِرُوا بِى لَمْ يَخْلُصُوا إِلَىَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ . فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ ، فَإِذَا هُوَ فِى بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسْطَ عِيَالِهِ ، لاَ أَدْرِى أَيْنَ هُوَ مِنَ الْبَيْتِ فَقُلْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ . قَالَ مَنْ هَذَا فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ ، فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ ، وَأَنَا دَهِشٌ فَمَا أَغْنَيْتُ شَيْئًا ، وَصَاحَ فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ ، فَأَمْكُثُ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ . فَقَالَ لأُمِّكَ الْوَيْلُ ، إِنَّ رَجُلاً فِى الْبَيْتِ ضَرَبَنِى قَبْلُ بِالسَّيْفِ ، قَالَ فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ ، ثُمَّ وَضَعْتُ ظُبَةَ السَّيْفِ فِى بَطْنِهِ حَتَّى أَخَذَ فِى ظَهْرِهِ ، فَعَرَفْتُ أَنِّى قَتَلْتُهُ ، فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الأَبْوَابَ بَابًا بَابًا حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَهُ ، فَوَضَعْتُ رِجْلِى وَأَنَا أُرَى أَنِّى قَدِ انْتَهَيْتُ إِلَى الأَرْضِ فَوَقَعْتُ فِى لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ ، فَانْكَسَرَتْ سَاقِى ، فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَةٍ ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى الْبَابِ فَقُلْتُ لاَ أَخْرُجُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ أَقَتَلْتُهُ فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ قَامَ النَّاعِى عَلَى السُّورِ فَقَالَ أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ تَاجِرَ أَهْلِ الْحِجَازِ . فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِى فَقُلْتُ النَّجَاءَ ، فَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ أَبَا رَافِعٍ . فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ « ابْسُطْ رِجْلَكَ » . فَبَسَطْتُ رِجْلِى ، فَمَسَحَهَا ، فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ . صحيح البخارى (4039 )
(2) - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ » . فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ ، فَعُجِنَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً - أَوْ قَالَ - أَمْ هِبَةً » . قَالَ لاَ ، بَلْ بَيْعٌ . فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً ، فَصُنِعَتْ وَأَمَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى ، وَايْمُ اللَّهِ مَا فِى الثَّلاَثِينَ وَالْمِائَةِ إِلاَّ قَدْ حَزَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا ، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ ، فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ ، وَشَبِعْنَا ، فَفَضَلَتِ الْقَصْعَتَانِ ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْبَعِيرِ . أَوْ كَمَا قَالَ . صحيح البخارى (2618 ) ومسلم (5485 )
المشعان : منتقش الشعر ثائر الرأس

،وَدَيْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي جَابِرٍ لِلْيَهُودِيِّ وَهُوَ ثَلَاثُونَ وَسْقًا . قَالَ جَابِرٌ : فَأَمَرَ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ التَّمْرَ جَمِيعَهُ بِاَلَّذِي كَانَ لَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ فَمَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِجَابِرِ جُدْ لَهُ فَوَفَّاهُ الثَّلَاثِينَ وَسْقًا وَفَضَلَ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا(1)، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ قَدْ جُمِعَتْ نَحْوَ أَلْفِ مُعْجِزَةٍ (2).
وَكَرَامَاتُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ كَثِيرَةٌ جِدًّا : مِثْلُ مَا كَانَ " أسيد بْنُ حضير " يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ فَنَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ نَزَلَتْ لِقِرَاءَتِهِ،(3) وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (4)؛ وَكَانَ سَلْمَانُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ يَأْكُلَانِ فِي صَحْفَةٍ فَسَبَّحَتْ الصَّحْفَةُ أَوْ سَبَّحَ مَا فِيهَا(5)
__________
(1) - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّىَ ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلاَثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ ، فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ ، فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ ، فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَشْفَعَ لَهُ إِلَيْهِ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَلَّمَ الْيَهُودِىَّ لِيَأْخُذَ ثَمَرَ نَخْلِهِ بِالَّذِى لَهُ فَأَبَى ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّخْلَ ، فَمَشَى فِيهَا ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ « جُدَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ الَّذِى لَهُ » . فَجَدَّهُ بَعْدَ مَا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَوْفَاهُ ثَلاَثِينَ وَسْقًا ، وَفَضَلَتْ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا ، فَجَاءَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُخْبِرَهُ بِالَّذِى كَانَ ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّى الْعَصْرَ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُ بِالْفَضْلِ ، فَقَالَ « أَخْبِرْ ذَلِكَ ابْنَ الْخَطَّابِ » . فَذَهَبَ جَابِرٌ إِلَى عُمَرَ ، فَأَخْبَرَهُ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ عَلِمْتُ حِينَ مَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا .صحيح البخارى (2396 )
(2) - ذكرها البيهقي في دلائل النبوة والسيوطي في الخضائص الكبرى ، وفيها الصحيح والحسن والضعيف والواهي
(3) - عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قَالَ بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطٌ عِنْدَهُ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ فَقَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ ، فَسَكَتَ وَسَكَتَتِ الْفَرَسُ ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ ، فَانْصَرَفَ وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَرَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ » . قَالَ فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَرَفَعْتُ رَأْسِى فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ فَرَفَعْتُ رَأْسِى إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ فَخَرَجَتْ حَتَّى لاَ أَرَاهَا . قَالَ « وَتَدْرِى مَا ذَاكَ » . قَالَ لاَ . قَالَ « تِلْكَ الْمَلاَئِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ وَلَوْ قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لاَ تَتَوَارَى مِنْهُمْ » . البخارى (5018 ) معلقاً ووصله السنن الإمام النسائي في الكبرىالرسالة (8020)ومسند أبي عوانة (3156) وهو صحيح
(4) - عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ قَالَ لِى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ وَقَدْ كَانَ يُسَلَّمُ عَلَىَّ حَتَّى اكْتَوَيْتُ فَتُرِكْتُ ثُمَّ تَرَكْتُ الْكَىَّ فَعَادَ. " صحيح مسلم(3033 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 4 / ص 326)
وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ عِمْرَان بْن الْحُصَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَتْ بِهِ بَوَاسِير فَكَانَ يَصْبِر عَلَى الْمُهِمَّات وَكَانَتْ الْمَلَائِكَة تُسَلِّم عَلَيْهِ ، فَاكْتَوَى فَانْقَطَعَ سَلَامهمْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ تَرَكَ الْكَيّ فَعَادَ سَلَامهمْ عَلَيْهِ .
(5) - عن قيس ، قال : كان أبو الدرداء إذا كتب إلى سلمان أو سلمان إلى أبي الدرداء كتب إليه بآية الصحيفة، قال : كنا نتحدث أنهما بينما هما يأكلان من صحفة إذا سبحت وما فيها ، أو بما فيها ، فانظر هذه الكرامة " دلائل النبوة للبيهقي (2313 ) وفيه ضعف
الصحيفة : ما يكتب فيه من ورق ونحوه

، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وأسيد بْنُ حضير خَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَأَضَاءَ لَهُمَا نُورٌ مِثْلُ طَرَفِ السَّوْطِ فَلَمَّا افْتَرَقَا افْتَرَقَ الضَّوْءُ مَعَهُمَا . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ (1).
وَقِصَّةُ { الصِّدِّيقِ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَمَّا ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَضْيَافٍ مَعَهُ إلَى بَيْتِهِ وَجَعَلَ لَا يَأْكُلُ لُقْمَةً إلَّا رَبَّى مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا فَشَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا هِيَ قَبْلَ ذَلِكَ فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ وَامْرَأَتُهُ فَإِذَا هِيَ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ فَرَفَعَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ إلَيْهِ أَقْوَامٌ كَثِيرُونَ فَأَكَلُوا مِنْهَا وَشَبِعُوا }(2) .
__________
(1) - عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ ، وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ يُضِيآنِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا ، فَلَمَّا افْتَرَقَا صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ .صحيح البخارى(465 )
وفي رواية ( 3805 ) عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَجُلَيْنِ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ ، وَإِذَا نُورٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى تَفَرَّقَا ، فَتَفَرَّقَ النُّورُ مَعَهُمَا . وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَرَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ . قَالَ حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -
(2) - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ ، وَأَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ ، وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ » . وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاَثَةٍ فَانْطَلَقَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَشَرَةٍ ، قَالَ فَهْوَ أَنَا وَأَبِى وَأُمِّى ، فَلاَ أَدْرِى قَالَ وَامْرَأَتِى وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِى بَكْرٍ . وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَمَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ - أَوْ قَالَتْ ضَيْفِكَ - قَالَ أَوَمَا عَشَّيْتِيهِمْ قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى تَجِىءَ ، قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا . قَالَ فَذَهَبْتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ فَقَالَ يَا غُنْثَرُ ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ ، وَقَالَ كُلُوا لاَ هَنِيئًا . فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُهُ أَبَدًا ، وَايْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلاَّ رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا . قَالَ يَعْنِى حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِىَ كَمَا هِىَ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا . فَقَالَ لاِمْرَأَتِهِ يَا أُخْتَ بَنِى فِرَاسٍ مَا هَذَا قَالَتْ لاَ وَقُرَّةِ عَيْنِى لَهِىَ الآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاَثِ مَرَّاتٍ . فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ - يَعْنِى يَمِينَهُ - ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً ، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ ، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ ، فَمَضَى الأَجَلُ ، فَفَرَّقَنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً ، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ ، أَوْ كَمَا قَالَ . صحيح البخارى (602 ) ومسلم (5486 )
جَدع : دعا بقطع الأنف =الغنثر : الثقيل الوخم

وَ " خبيب بْنُ عَدِيٍّ " كَانَ أَسِيرًا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ يُؤْتَى بِعِنَبِ يَأْكُلُهُ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ عِنَبَةٌ (1).
__________
(1) - عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عَمْرُو بْنُ أَبِى سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِىُّ - وَهْوَ حَلِيفٌ لِبَنِى زُهْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِى هُرَيْرَةَ - أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِىَّ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ وَهْوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَىٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَىْ رَجُلٍ ، كُلُّهُمْ رَامٍ ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ . فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ فَقَالُوا لَهُمُ انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ ، وَلاَ نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا . قَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لاَ أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِى ذِمَّةِ كَافِرٍ ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ . فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِى سَبْعَةٍ ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِىُّ وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ ، وَاللَّهِ لاَ أَصْحَبُكُمْ ، إِنَّ فِى هَؤُلاَءِ لأُسْوَةً . يُرِيدُ الْقَتْلَى ، فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى فَقَتَلُوهُ ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا ، فَأَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ ، فَأَخَذَ ابْنًا لِى وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ قَالَتْ فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِى وَجْهِى فَقَالَ تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ .
وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِى يَدِهِ ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِى الْحَدِيدِ ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِى الْحِلِّ ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ ذَرُونِى أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ . فَتَرَكُوهُ ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَوْلاَ أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِى جَزَعٌ لَطَوَّلْتُهَا اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا . وَلَسْتُ أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِى وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ ، فَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ ، فَأَخْبَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَىْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَبُعِثَ عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا . صحيح البخارى(3045)

وَ " عَامِرُ بْنُ فهيرة : قُتِلَ شَهِيدًا فَالْتَمَسُوا جَسَدَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَكَانَ لَمَّا قُتِلَ رُفِعَ فَرَآهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَقَدْ رُفِعَ ،وَقَالَ : عُرْوَةُ : فَيَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْهُ (1).
وَخَرَجَتْ " أُمُّ أَيْمَنَ " مُهَاجِرَةً وَلَيْسَ مَعَهَا زَادٌ وَلَا مَاءٌ فَكَادَتْ تَمُوتُ مِنْ الْعَطَشِ فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْفِطْرِ وَكَانَتْ صَائِمَةً سَمِعَتْ حِسًّا عَلَى رَأْسِهَا فَرَفَعَتْهُ فَإِذَا دَلْوٌ مُعَلَّقٌ فَشَرِبَتْ مِنْهُ حَتَّى رُوِيَتْ وَمَا عَطِشَتْ بَقِيَّةَ عُمْرِهَا (2).
وَ " سَفِينَةُ " مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ الْأَسَدَ بِأَنَّهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَشَى مَعَهُ الْأَسَدُ حَتَّى أَوْصَلَهُ مَقْصِدَهُ (3).
__________
(1) - عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتِ اسْتَأْذَنَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَبُو بَكْرٍ فِى الْخُرُوجِ حِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الأَذَى ، فَقَالَ لَهُ « أَقِمْ » . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَطْمَعُ أَنْ يُؤْذَنَ لَكَ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنِّى لأَرْجُو ذَلِكَ » قَالَتْ فَانْتَظَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ ظُهْرًا فَنَادَاهُ فَقَالَ « أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ » . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَاىَ . فَقَالَ « أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِى فِى الْخُرُوجِ » . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الصُّحْبَةُ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « الصُّحْبَةُ » .
قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِى نَاقَتَانِ قَدْ كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ . فَأَعْطَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - إِحْدَاهُمَا وَهْىَ الْجَدْعَاءُ ، فَرَكِبَا فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا الْغَارَ ، وَهْوَ بِثَوْرٍ ، فَتَوَارَيَا فِيهِ ، فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ غُلاَمًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ أَخُو عَائِشَةَ لأُمِّهَا ، وَكَانَتْ لأَبِى بَكْرٍ مِنْحَةٌ ، فَكَانَ يَرُوحُ بِهَا وَيَغْدُو عَلَيْهِمْ ، وَيُصْبِحُ فَيَدَّلِجُ إِلَيْهِمَا ثُمَّ يَسْرَحُ ، فَلاَ يَفْطُنُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّعَاءِ ، فَلَمَّا خَرَجَ خَرَجَ مَعَهُمَا يُعْقِبَانِهِ حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ ، فَقُتِلَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ . وَعَنْ أَبِى أُسَامَةَ قَالَ قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ فَأَخْبَرَنِى أَبِى قَالَ لَمَّا قُتِلَ الَّذِينَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِىُّ قَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ مَنْ هَذَا فَأَشَارَ إِلَى قَتِيلٍ ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ هَذَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ . فَقَالَ لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ مَا قُتِلَ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى إِنِّى لأَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَرْضِ ، ثُمَّ وُضِعَ . فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرُهُمْ فَنَعَاهُمْ فَقَالَ « إِنَّ أَصْحَابَكُمْ قَدْ أُصِيبُوا ، وَإِنَّهُمْ قَدْ سَأَلُوا رَبَّهُمْ ، فَقَالُوا رَبَّنَا أَخْبِرْ عَنَّا إِخْوَانَنَا بِمَا رَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا . فَأَخْبَرَهُمْ عَنْهُمْ » . وَأُصِيبَ يَوْمَئِذٍ فِيهِمْ عُرْوَةُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ ، فَسُمِّىَ عُرْوَةُ بِهِ ، وَمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو سُمِّىَ بِهِ مُنْذِرًا . صحيح البخارى(4093 )
(2) - عَنِ ابْن سيرين قال خرجت أم أيمن مهاجرة إلى الله وإلى رسوله صلي الله عليه وسلم وهي صائمة ليس معها زاد ولا حمولة ولا سقاء في شدة حر تهامة وقد كادت تموت من الجوع والعطش حتي إذا كان الحين الذي فيه يفطر الصائم سمعت حفيفا علي رأسها فرفعت رأسها فإذا دلو معلق برشاء أبيض قالت فأخذته بيدي فشربت منه حتى رويت فما عطشت بعد قال فكانت تصوم وتطوف لكي تعطش في صومها فما قدرت على أن تعطش حتى ماتت" مصنف عبد الرزاق( 7901) وبنحوه من طريق آخر اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (ج 3 / ص 17)([2180]) وهو حسن لغيره
(3) - عَنْ مُحَمَّدِ بن الْمُنْكَدِرِ، أَنَّ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:"رَكِبْتُ الْبَحْرَ، فَانْكَسَرَتْ سَفِينَتِي الَّتِي كُنْتُ فِيهَا، فَرَكِبْتُ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِهَا، فَطَرَحَنِي اللَّوْحُ فِي أَجَمَةٍ فِيهَا الأَسَدُ، فَأَقْبَلَ يُرِيدُنِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْحَارِثِ، أَنَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ، وَأَقْبَلَ إِلَيَّ، فَدَفَعَنِي بِمَنْكِبِهِ حَتَّى أَخْرَجَنِي مِنَ الأَجَمَةِ، وَوَضَعَنِي عَلَى الطَّرِيقِ، وَهَمْهَمَ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوَدِّعُنِي، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ عَهْدِي بِهِ".المعجم الكبير للطبراني (6319 ) والمستدرك للحاكم(6550) وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا

وَ " الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ " كَانَ إذَا أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَبَرَّ قَسَمَهُ وَكَانَ الْحَرْبُ إذَا اشْتَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِهَادِ يَقُولُونَ : يَا بَرَاءُ أَقْسِمْ عَلَى رَبِّك فَيَقُولُ : يَا رَبِّ أَقْسَمْت عَلَيْك لَمَا مَنَحْتنَا أَكْتَافَهُمْ فَيُهْزَمُ الْعَدُوُّ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ " الْقَادِسِيَّةِ " قَالَ : أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَبِّ لَمَا مَنَحْتنَا أَكْتَافَهُمْ وَجَعَلْتنِي أَوَّلَ شَهِيدٍ فَمُنِحُوا أَكْتَافَهُمْ وَقُتِلَ الْبَرَاءُ شَهِيدًا (1).
وَ " خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ " حَاصَرَ حِصْنًا مَنِيعًا فَقَالُوا لَا نُسْلِمُ حَتَّى تَشْرَبَ السُّمَّ فَشَرِبَهُ فَلَمْ يَضُرَّهُ .(2)
وَ " سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ " كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ مَا دَعَا قَطُّ إلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ وَهُوَ الَّذِي هَزَمَ جُنُودَ كِسْرَى وَفَتَحَ الْعِرَاقَ .(3)
وَ " عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ " لَمَّا أَرْسَلَ جَيْشًا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُسَمَّى " سَارِيَةَ " فَبَيْنَمَا عُمَرُ يَخْطُبُ فَجَعَلَ يَصِيحُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ يَا سَارِيَةَ الْجَبَلَ فَقَدِمَ رَسُولُ الْجَيْشِ فَسَأَلَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقِينَا عَدُوًّا فَهَزَمُونَا فَإِذَا بِصَائِحِ : يَا سَارِيَةَ الْجَبَلَ يَا سَارِيَةَ الْجَبَلَ فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا بِالْجَبَلِ فَهَزَمَهُمْ اللَّهُ .(4)
__________
(1) - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كَمْ مِنْ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ ذِي طِمْرَيْنِ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّ قَسَمَهُ مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ ، فَإِنَّ الْبَرَاءَ لَقِيَ زَحْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَقَدْ أَوْجَعَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالُوا : يَا بَرَاءُ ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : إِنَّكَ لَوْ أَقْسَمْتَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّكَ ، فَأَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ ، فَقَالَ : أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ لِمَا مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ ، ثُمَّ الْتَقَوْا عَلَى قَنْطَرَةِ السُّوسِ ، فَأَوْجَعُوا فِي الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالُوا لَهُ : يَا بَرَاءُ ، أَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ ، فَقَالَ : أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ لِمَا مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ ، وَأَلْحَقْتَنِي بِنَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم ، فَمُنِحُوا أَكْتَافَهُمْ ، وَقُتِلَ الْبَرَاءُ شَهِيدًا" المستدرك للحاكم (5274) وهو صحيح
(2) - عَنْ أَبِي السَّفَرِ ، قَالَ : لَمَّا قَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى الْحِيرَةِ نَزَلَ عَلَى بَنِي الْمَرَازِبَةِ ، قَالَ : فَأُتِيَ بِالسُّمِّ فَأَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي رَاحَتِهِ ، وَقَالَ : بِسْمِ اللهِ , فَاقْتَحَمَهُ , فَلَمْ يَضُرَّهُ بِإِذْنِ اللهِ شَيْئًا" مصنف ابن أبي شيبة(33724) و تاريخ دمشق - (ج 37 / ص 365) والإصابة في تمييز الصحابة [ جزء 2 - صفحة 254 ] ومعرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني(2172 ) وهو حسن لغيره
وكتب لأهل الحيرة كتاب أمان، فكان الذي راوده عليه عمرو بن عبد المسيح ابن نقيلة، ووجد خالد معه كيساً فقال: ما في هذا؟ وفتحه خالد فوجد فيه شيئاً. فقال ابن بقيلة: هو سمُّ السَّاعة. فقال: ولم استصحبته معك ؟
فقال: حتى إذا رأيت مكروهاً في قومي أكلته، فالموت أحبُّ إليَّ من ذلك، فأخذه خالد في يده وقال: إنَّه لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، ثمَّ قال: بسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسَّماء الذي ليس يضر مع اسمه داء، الرَّحمن الرَّحيم.قال: وأهوى إليه الأمراء ليمنعوه منه فبادرهم فابتلعه، فلمَّا رأى ذلك ابن بقيلة قال: والله يا معشر العرب لتملكنَّ ما أردتم ما دام منكم أحد، ثمَّ التفت إلى أهل الحيرة فقال: لم أر كاليوم أوضح إقبالاً من هذا.تاريخ الرسل والملوك - (ج 2 / ص 191) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 7 / ص 474)
(3) - انظر المعجم الأوسط للطبراني (6683 ) و تاريخ دمشق - (ج 20 / ص 287) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 9 / ص 432) والإصابة في تمييز الصحابة [ جزء 3 - صفحة 74 ]
(4) - أخرجه ابن عساكر (20/25) وأخرجه ابن عساكر (20/24) والإستيعاب في معرفة الأصحاب - (ج 2 / ص 10) والإصابة في معرفة الصحابة - (ج 1 / ص 410) وتاريخ دمشق - (ج 2 / ص 366) وتاريخ دمشق - (ج 20 / ص 20) وتاريخ دمشق - (ج 20 / ص 23- 27) وتاريخ دمشق - (ج 44 / ص 96) وتاريخ الرسل والملوك - (ج 2 / ص 397) وتاريخ الرسل والملوك - (ج 2 / ص 398) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 7 / ص 29) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 8 / ص 178) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 8 / ص 179) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 8 / ص 180)وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 1 / ص 111) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 1 / ص 407) قلت : فالحديث صحيح

وَلَمَّا عُذِّبَتِ " الزَّنيرَةُ " عَلَى الْإِسْلَامِ فِي اللَّهِ فَأَبَتْ إلَّا الْإِسْلَامَ وَذَهَبَ بَصَرُهَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابَ بَصَرَهَا اللَّاتَ وَالْعُزَّى قَالَتْ كَلَّا وَاَللَّهِ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا .(1)
وَدَعَا " سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ " عَلَى أَرْوَى بِنْتِ الْحَكَمِ فَأُعْمِيَ بَصَرُهَا لَمَّا كَذَبْت عَلَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا فَعَمِيَتْ وَوَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ مِنْ أَرْضِهَا فَمَاتَتْ .(2)
" وَالْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ " كَانَ عَامِلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : يَا عَلِيمُ يَا حَلِيمُ يَا عَلِيُّ يَا عَظِيمُ فَيُسْتَجَابُ لَهُ وَدَعَا اللَّهَ بِأَنْ يُسْقُوا وَيَتَوَضَّئُوا لَمَّا عَدِمُوا الْمَاءَ وَالْإِسْقَاءَ لِمَا بَعْدَهُمْ فَأُجِيبَ وَدَعَا اللَّهَ لَمَّا اعْتَرَضَهُمْ الْبَحْرُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمُرُورِ بِخُيُولِهِمْ فَمَرُّوا كُلُّهُمْ عَلَى الْمَاءِ مَا ابْتَلَّتْ سُرُوجُ خُيُولِهِمْ ؛ وَدَعَا اللَّهَ أَنْ لَا يَرَوْا جَسَدَهُ إذَا مَاتَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فِي اللَّحْدِ .(3)
__________
(1) - قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَمُرّ بِهِ وَهُوَ يُعَذّبُ بِذَلِكَ وَهُوَ يَقُول : أَحَدٌ أَحَدٌ ؛ فَيَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ وَاَللّهِ يَا بِلَالُ ثُمّ يُقْبِلُ عَلَى أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَمَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِهِ مِنْ بَنِي جُمَحٍ فَيَقُولُ أَحْلِفُ بِاَللّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لَأَتّخِذَنّهُ حَنَانًا ، حَتّى مَرّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ( ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ) رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَوْمًا ، وَهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ بِهِ وَكَانَتْ دَارُ أَبِي بَكْرٍ فِي بَنِي جُمَحٍ فَقَالَ لِأُمَيّةِ بْنِ خَلَفٍ أَلَا تَتّقِي اللّهَ فِي هَذَا الْمِسْكِينِ ؟ حَتّى مَتَى ؟ قَالَ أَنْت الّذِي أَفْسَدْته فَأَنْقِذْهُ مِمّا تَرَى ؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ . أَفْعَلُ عِنْدِي غُلَامٌ أَسْوَدُ أَجْلَدُ مِنْهُ وَأَقْوَى ، عَلَى دِينِك ، أُعْطِيكَهُ بِهِ قَالَ قَدْ قَبِلْتُ فَقَالَ هُوَ لَك . فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ غُلَامَهُ ذَلِكَ وَأَخَذَهُ فَأَعْتَقَهُ .ثُمّ أَعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ سِتّ رِقَابٍ بِلَالٌ سَابِعُهُمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا ، وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا ؛ وَأُمّ عُبَيْسٍ وَزِنّيرَةُ ، وَأُصِيبَ بَصَرُهَا حِينَ أَعْتَقَهَا ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : مَا أَذْهَبَ بَصَرَهَا إلّا اللّاتُ وَالْعُزّى ؛ فَقَالَتْ كَذَبُوا وَبَيْتِ اللّهِ مَا تَضُرّ اللّاتُ وَالْعُزّى وَمَا تَنْفَعَانِ فَرَدّ اللّهُ بَصَرَهَا . وَأَعْتَقَ النّهْدِيّةَ وَبِنْتَهَا ، وَكَانَتَا لِامْرَأَةِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ فَمَرّ بِهِمَا وَقَدْ بَعَثَتْهُمَا أَبَدًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حِلّ يَا أُمّ فُلَانٍ فَقَالَتْ حِلّ أَنْت أَفْسَدْتَهُمَا فَأَعْتِقْهُمَا ، قَالَ فَبِكَمْ هُمَا ؟ قَالَتْ بِكَذَا وَكَذَا ، قَالَ قَدْ أَخَذْتُهُمَا وَهُمَا حُرّتَانِ أَرْجِعَا إلَيْهَا طَحِينَهَا ، قَالَتَا : أَوَنَفْرُغُ مِنْهُ يَا أَبَا بَكْرٍ ثُمّ نَرُدّهُ إلَيْهَا ؟ قَالَ وَذَلِكَ إنْ شِئْتُمَا . وَمَرّ بِجَارِيَةِ بَنِي مُؤَمّلٍ حَيّ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يُعَذّبُهَا لِتَتْرُكَ الْإِسْلَامَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ وَهُوَ يَضْرِبُهَا ، حَتّى إذَا مَلّ قَالَ إنّي أَعْتَذِرُ إلَيْك ، إنّي لَمْ أَتْرُكْ إلّا مَلَالَةً فَتَقُولُ كَذَلِكَ فَعَلَ اللّهُ بِك . فَابْتَاعَهَا أَبُو بَكْرٍ ، فَأَعْتَقَهَا .
سيرة ابن هشام - (ج 1 / ص 317) ودلائل النبوة للبيهقي (588 ) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني (7024 ) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 1 / ص 57) والإصابة في معرفة الصحابة - (ج 3 / ص 493)من طرق وهو صحيح لغيره
(2) - عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّ أَرْوَى خَاصَمَتْهُ فِى بَعْضِ دَارِهِ فَقَالَ دَعُوهَا وَإِيَّاهَا فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ فِى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِى دَارِهَا. قَالَ فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ تَقُولُ أَصَابَتْنِى دَعْوَةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ. فَبَيْنَمَا هِىَ تَمْشِى فِى الدَّارِ مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِى الدَّارِ فَوَقَعَتْ فِيهَا فَكَانَتْ قَبْرَهَا.صحيح مسلم (4218 )
(3) - مصنف ابن أبي شيبة(29797) ودلائل النبوة للبيهقي (2302 ) ومجابو الدعوة (25 ) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 7 / ص 141) وفي سنده ضعف

وَجَرَى مِثْلُ ذَلِكَ " لِأَبِي مُسْلِمٍ الخولاني " الَّذِي أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَإِنَّهُ مَشَى هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْعَسْكَرِ عَلَى دِجْلَةَ وَهِيَ تُرْمَى بِالْخَشَبِ مِنْ مَدِّهَا ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : تَفْقِدُونَ مِنْ مَتَاعِكُمْ شَيْئًا حَتَّى أَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : فَقَدْت مِخْلَاةً فَقَالَ: اتْبَعْنِي فَتَبِعَهُ فَوَجَدَهَا قَدْ تَعَلَّقَتْ بِشَيْءِ فَأَخَذَهَا.(1)
وَطَلَبَهُ الْأَسْوَدُ العنسي لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ فَقَالَ لَهُ : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ مَا أَسْمَعُ قَالَ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ بِنَارِ فَأُلْقِيَ فِيهَا فَوَجَدُوهُ قَائِمًا يُصَلِّي فِيهَا وَقَدْ صَارَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا (2)؛ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ عُمَرُ بَيْنَهُ وَبَيْن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَى مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ (3). وَوَضَعَتْ لَهُ جَارِيَةٌ السُّمَّ فِي طَعَامِهِ فَلَمْ يَضُرَّهُ . وَخَبَّبَتِ امْرَأَةٌ عَلَيْهِ زَوْجَتَهُ فَدَعَا عَلَيْهَا فَعَمِيَتْ وَجَاءَتْ وَتَابَتْ فَدَعَا لَهَا فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا . (4)
وَكَانَ " عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ " يَأْخُذُ عَطَاءَهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي كُمِّهِ وَمَا يَلْقَاهُ سَائِلٌ فِي طَرِيقِهِ إلَّا أَعْطَاهُ بِغَيْرِ عَدَدٍ ثُمَّ يَجِيءُ إلَى بَيْتِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ عَدَدُهَا وَلَا وَزْنُهَا (5). وَمَرَّ بِقَافِلَةٍ قَدْ حَبَسَهُمْ الْأَسَدُ فَجَاءَ حَتَّى مَسَّ بِثِيَابِهِ الْأَسَدَ ثُمَّ وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَقَالَ : إنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ مِنْ كِلَابِ الرَّحْمَنِ وَإِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أَخَافَ شَيْئًا غَيْرَهُ، وَمَرَّتْ الْقَافِلَةُ (6)،وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُهَوِّنَ عَلَيْهِ الطَّهُورَ فِي الشِّتَاءِ فَكَانَ يُؤْتَى بِالْمَاءِ لَهُ بُخَارٌ وَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يَمْنَعَ قَلْبَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ (7).
__________
(1) - دلائل النبوة للبيهقي (2304 ) وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - (ج 10 / ص 244) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 7 / ص 142) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 7 / ص 320) وهو صحيح
(2) - عن اسماعيل بن عيَّاش الحطيميّ، حدَّثني شراحيل ابن مسلم الخولانيّ، أنَّ الأسود بن قيس بن ذي الحمار العنسيّ تنبَّأ باليمن، فأرسل إلى أبي مسلم الخولانيّ فأتي به.فلمَّا جاء به قال: أتشهد أني رسول الله ؟
قال: ما أسمع.قال: أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله ؟
قال: نعم.قال: أتشهد أني رسول الله ؟
قال: ما أسمع.قال: أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله ؟
قال: نعم.قال: فردَّد عليه ذلك مراراً، ثمَّ أمر بنار عظيمة فأجِّجت فألقي فيها فلم تضرَّه.فقيل للأسود: إنفه عنك وإلا أفسد عليك من اتَّبعك، فأمره فارتحل فأتى المدينة وقد قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واستخلف أبو بكر، فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد، ثمَّ دخل المسجد وقام يصلِّي إلى سارية فبصر به عمر بن الخطَّاب فأتاه فقال: ممن الرَّجل ؟
فقال: من أهل اليمن.قال: ما فعل الرَّجل الذي حرقة الكذَّاب بالنَّار ؟
قال: ذاك عبد الله بن أيُّوب.قال: فأنشدك بالله أنت هو ؟
قال: اللَّهم نعم."سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - (ج 10 / ص 266) وتاريخ دمشق - (ج 27 / ص 201) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج/ص:6/299) وهو حديث قوي
(3) - أخرجه ابن عساكر (27/200) والإستيعاب في معرفة الأصحاب - (ج 2 / ص 66) وتاريخ دمشق - (ج 27 / ص 200) وتاريخ دمشق - (ج 27 / ص 201) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 7 / ص 332-333) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 2 / ص 126) وهو حديث فيه انقطاع
(4) - سير أعلام النبلاء (4/11) وهو حديث حسن
(5) - مصنف عبد الرزاق مشكل (20543) و والزهد لأحمد بن حنبل (1255) والزهد والرقائق لابن المبارك (849 ) والإصابة في معرفة الصحابة - (ج 2 / ص 356) وتاريخ دمشق - (ج 26 / ص 29) وتاريخ دمشق - (ج 26 / ص 30) و سير أعلام النبلاء (4/19) وفيها جهالة
(6) - عن مالك بن دينار ، قال : مر عامر بن عبد الله القيسي فإذا قافلة قد احتبست ، فقال لهم : « ما لكم ؟ » قالوا : الأسد حال بيننا وبين الطريق قال : « إنما ذا كلب من كلاب الله فمر به حتى أصاب ثوبه فم الأسد » تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي (732 ) وحلية الأولياء - (ج 1 / ص 244) والإصابة في تمييز الصحابة [ جزء 5 - صفحة 77 ] حسن
حال : حجز وفرق ومنع
(7) - عن قتادة قال : كان عامر بن عبد قيس « سأل ربه تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء ، فكان يؤتى بالماء وله بخار » ، قال : « وسأل ربه عز وجل أن ينزع شهوة النساء من قلبه ، فكان لا يبالي أذكرا لقي أم أنثى ، وسأل ربه عز وجل أن يمنع قلبه من الشيطان ، وهو في الصلاة فلم يقدر عليه »
الزهد والرقائق لابن المبارك (848 ) وشعب الإيمان للبيهقي (976 ) و حلية الأولياء - (ج 1 / ص 244) وصفة الصفوة - (ج 1 / ص 351) والإصابة في معرفة الصحابة - (ج 2 / ص 356) والطبقات الكبرى لابن سعد - (ج 7 / ص 106) وتاريخ دمشق - (ج 26 / ص 22) صحيح لغيره

وَتَغَيَّبَ " الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ " عَنْ الْحَجَّاجِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ سِتَّ مَرَّاتٍ فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمْ يَرَوْهُ (1)وَدَعَا عَلَى بَعْضِ الْخَوَارِجِ كَانَ يُؤْذِيه فَخَرَّ مَيِّتًا .
وَ " صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ " مَاتَ فَرَسُهُ وَهُوَ فِي الْغَزْوِ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِمَخْلُوقِ عَلَيَّ مِنَّةً وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَحْيَا لَهُ فَرَسَهُ . فَلَمَّا وَصَلَ إلَى بَيْتِهِ قَالَ يَا بُنَيَّ خُذْ سَرْجَ الْفَرَسِ فَإِنَّهُ عَارِيَةٌ فَأَخَذَ سَرْجَهُ فَمَاتَ الْفَرَسُ(2)، وَجَاعَ مَرَّةً بِالْأَهْوَازِ فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَطْعَمَهُ فَوَقَعَتْ خَلْفَهُ دَوْخَلَةِ رُطَبٍ فِي ثَوْبِ حَرِيرٍ فَأَكَلَ التَّمْرَ وَبَقِيَ الثَّوْبُ عِنْدَ زَوْجَتِهِ زَمَانًا . وَجَاءَ الْأَسَدُ وَهُوَ يُصَلِّي فِي غَيْضَةٍ بِاللَّيْلِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لَهُ اُطْلُبْ الرِّزْقَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَوَلَّى الْأَسَدُ وَلَهُ زَئِيرٌ .(3)
وَكَانَ " سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ " فِي أَيَّامِ الْحَرَّةِ يَسْمَعُ الْأَذَانَ مِنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ وَكَانَ الْمَسْجِدُ قَدْ خَلَا فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ .(4)
__________
(1) - ورد نحوه في قوت القلوب - (ج 1 / ص 99) وسنده واه
(2) - لم أجده
(3) - عن جعفر بن زيد قال: خرجنا في غزاة وفي الجيش صلة بن أشيم، فنزل الناس عند العتمة فقلت: لأرمقن عمله الليلة، فدخل غيضة ودخلت في أثره فقام يصلي وجاء الأسد حتى دنا منه وصعدت أنا في شجرة، قال: فتراه التفت أو عدَّه جرواً حتى سجد فقلت: الآن يفترسه، فجلس ثم سلم فقال: أيها السبع إن كنت أمرت بشيء فافعل وإلا فاطلب الرزق من مكان آخر، فولى الأسد وإن له لزئيراً تصدع منه الجبال، فلما كان عند الصباح جلس فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة. ثم رجع إلى الجيش فأصبح كأنه بات على الحشا، وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عليم. قال: وذهبت بغلته بثقلها فقال: اللهم إني أسألك أن ترد علي بغلتي بثقلها، فجاءت حتى قامت بين يديه، قال: فلما التقينا العدو حمل هو وهشام بن عامر فصنعا بهم طعناً وضرباً، فقال العدو: رجلان من العرب صنعا بنا هذا فكيف لو قاتلونا كلهم؟ أعطوا المسلمين حاجتهم - يعني انزلوا على حكمهم - وقال صلة: جعت مرة في غزاة جوعاً شديداً فبينما أنا أسير أدعو ربي وأستطعمه، إذ سمعت وجبة من خلفي، فالتفت فإذا أنا بمنديل أبيض فإذا فيه دوخلة ملآنة رطباً فأكلت منه حتى شبعت، وأدر كنى المساء فملت إلى دير راهب فحدثته الحديث فاستطعمني من الرطب فأطعمته، ثم إني مررت على ذلك الراهب بعد زمان فإذا نخلات حسان فقال: إنهن لمن الرطبات التي أطعمتني، وجاء بذلك المنديل إلى امرأته فكانت تريه للناس، ولما أهديت معاذة إلى صلة أدخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله بيت العروس بيتاً مطيباً فقام يصلي فقامت تصلي معه، فلم يزالا يصليان حتى برق الصبح، قال: فأتيته فقلت له: أي عمْ أُهديت إليك ابنة عمك الليلة فقمت تصلي وتركتها؟ قال: إنك أدخلتني بيتاً أول النهار أذكرتني به النار، وأدخلتني بيتاً آخر النهار أذكرتني به الجنة، فلم تزل فكرتي فيهما حتى أصبحت،البداية والنهاية لابن كثير(ج/ص: 9 /22) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 2 / ص 88) وكلاهما ورد بسند قوي
(4) - ففي شعب الإيمان للبيهقي (4006 ) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو سعيد بن أبي عمرو ، قالا : حدثنا أبو عبد الله الصفار ، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثني سويد بن سعيد ، حدثني ابن أبي الرجال ، عن سليمان بن سحيم ، قال : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ، قلت : يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك أتفقه سلامهم ؟ ، قال : » نعم وأرد عليهم «(حسن مرسل )
وفي دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (491 ) حدثنا محمد بن عبد العزيز بن سهل الخشاب النيسابوري قال : ثنا إبراهيم بن إسحاق الأنماطي ثنا محمد بن سليمان لوين قال : ثنا عبد الحميد بن سليمان ، عن أبي حازم ، عن سعيد بن المسيب قال : لقد رأيتني ليالي الحرة وما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان من القبر ثم أتقدم فأقيم وأصلي وإن أهل الشام ليدخلون المسجد زمرا فيقولون : انظروا إلى الشيخ المجنون( ضعيف ، عبد الحميد بن سليمان ضعيف )
وفي الطبقات الكبرى لابن سعد - (ج 5 / ص 132)
قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني طلحة بن محمد بن سعيد عن أبيه قال: كان سعيد بن المسيب أيام الحرة في المسجد لم يبايع ولم يبرح، وكان يصلي معهم الجمعة ويخرج إلى العيد، وكان الناس يقتتلون وينتبهون وهو في المسجد لا يبرح إلا ليلا إلى الليل. قال فكنت إذا حانت الصلاة أسمع أذانا يخرج من قبل القبر حتى أمن الناس وما رأيت خبرا من الجماعة.( وفيه الواقدي وهو متهم )
وفي سنن الدارمى(94) أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : لَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْحَرَّةِ لَمْ يُؤَذَّنْ فِى مَسْجِدِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثاً وَلَمْ يُقَمْ ، وَلَمْ يَبْرَحْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْمَسْجِدَ ، وَكَانَ لاَ يَعْرِفُ وَقْتَ الصَّلاَةِ إِلاَّ بِهَمْهَمَةٍ يَسْمَعُهَا مِنْ قَبْرِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ مَعْنَاهُ.( وفيه انقطاع ) فالحديث حسن لغيره
وانظر سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - (ج 12 / ص 357-359)

وَرَجُلٌ مِنْ " النَّخْعِ " كَانَ لَهُ حِمَارٌ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ ،فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ هَلُمَّ نَتَوَزَّعُ مَتَاعَك عَلَى رِحَالِنَا فَقَالَ لَهُمْ : أَمْهِلُونِي هُنَيْهَةً ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَأَحْيَا لَهُ حِمَارَه،ُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ مَتَاعَهُ (1).
وَلَمَّا مَاتَ " أُوَيْسٌ الْقَرْنِيُّ " وَجَدُوا فِي ثِيَابِهِ أَكْفَانًا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ قَبْلُ وَوَجَدُوا لَهُ قَبْرًا مَحْفُورًا فِيهِ لَحْدٌ فِي صَخْرَةٍ فَدَفَنُوهُ فِيهِ وَكَفَّنُوهُ فِي تِلْكَ الْأَثْوَابِ .(2)
وَكَانَ " عَمْرُو بْنُ عُتبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ " يُصَلِّي يَوْمًا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَأَظَلَّتْهُ غَمَامَةٌ وَكَانَ السَّبْعُ يَحْمِيه وَهُوَ يَرْعَى رِكَابَ (3)أَصْحَابِهِ،لِأَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الْغَزْوِ أَنَّهُ يَخْدِمُهُمْ .(4)
وَكَانَ " مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشخير " إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ سَبَّحَتْ مَعَهُ آنِيَتُهُ وَكَانَ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ يَسِيرَانِ فِي ظُلْمَةٍ فَأَضَاءَ لَهُمَا طَرَفُ السَّوْطِ .(5)
__________
(1) - لم أجده ، والأغلب عدم صحته
(2) - عن المعافى بن مدرك حدثنا داود بن الجراح حدثنا عثمان بن عطاءعن أبيه قال خرج أويس القرني عاريا راجلا إلى ثغر أرمينية فأصابه البطن فالتجأ إلى أهل خيمة فمات عندهم ومعه جراب وقعب فقالوا لرجلين منهم اذهبا فاحفرا له قبرا قالوا فنظرنا في جرابه فإذا فيه ثوبان ليسا من ثياب الدنيا وجاء الرجلان فقالا قد أصبنا قبرا محفورا في صخرة كأنما رفعت الأيدي عنه الساعة فكفنوه ودفنوه ثم التفتوا فلم يروا شيئا "
تاريخ دمشق - (ج 9 / ص 454) ولا يصح فيه جهالة وضعف
ويعارضه ما ورد من طريق عبد الله بن المبارك أنبأ جعفر بن سليمان عن الجريري عن أبي نضرة العبدي عن أسير بن جابر قال قال لي صاحب لي وأنا بالكوفة * هل لك في رجل تنظر إليه قلت نعم قال هذه مدرجته وأنه أويس القرني وأظنه أنه سيمر الآن قال فجلسنا له فمر فإذا رجل عليه سمل قطيفة قال والناس يطئون عقبة قال وهو يقبل فيغلظ لهم ويكلمهم في ذلك فلا ينتهون عنه فمضينا مع الناس حتى دخل مسجد الكوفة ودخلنا معه فتنحى إلى سارية فصلى ركعتين ثم أقبل إلينا بوجهه فقال يا أيها الناس ما لي ولكم تطئون عقبي في كل سكة وأنا إنسان ضعيف تكون لي الحاجة فلا أقدر عليها معكم لاَ تفعلوا رحمكم الله من كانت له إلي حاجة فليلقني ها هنا قال وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل وفدا قدموا عليه هل سقط إليكم رجل من قرن من أمره كيت وكيت فقال الرجل لأويس ذكرك أمير المؤمنين ولم يذكر ذلك كما يقال ما كان ذلك من ذكره ما أتبلغ إليكم به قال وكان أويس أخذ على الرجل عهدا وميثاقا أن لاَ يحدث به غيره قال ثم قال أويس إن هذا المجلس يغشاه ثلاثة نفر مؤمن فقيه ومؤمن لم يتفقه ومنافق وذلك في الدنيا مثل الغيث ينزل من السماء إلى الأرض فيصيب الشجرة المورقة المونعة المثمرة فيزيد ورقها حسنا ويزيدها إيناعا وكذلك يزيد ثمرها طيبا ويصيب الشجرة المورقة المونعة التي ليس لها ثمرة فيزيدها إيناقا ويزيدها ورقا حسنا وتكون لها ثمرة فتلحق بأختها ويصيب الهشيم من الشجر فيحطمه فيذهب به قال ثم قرأ الآية !< وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا >! لم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان فقضاء الله الذي قضى !< شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا >! اللهم ارزقني شهادة تسبق كسرتها أذاها وأمنها فزعها توجب الحياة والرزق ثم سكت قال أسير فقال لي صاحبي كيف رأيت الرجل قلت ما ازددت فيه إلا رغبة وما أنا بالذي أفارقه فلزمنا فلم نلبث إلا يسيرا حتى ضرب على الناس بعث أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فخرج صاحب القطيفة أويس فيه وخرجنا معه فيه وكنا نسير معه وننزل معه حتى نزلنا بحضرة العدو قال بن المبارك فأخبرني حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي نضرة عن أسير بن جابر قال فنادى منادي علي رضي الله عنه يا خيل الله اركبي وأبشري قال فصف الثلثين لهم فانتضى صاحب القطيفة أويس سيفه حتى كسر جفنه فألقاه ثم جعل يقول يا أيها الناس تموا تموا ليتمن وجوه ثم لاَ تنصرف حتى ترى الجنة يا أيها الناس تموا تموا جعل يقول ذلك ويمشي وهو يقول ذلك ويمشي إذ جاءته رمية فأصابت فؤاده فبرد مكانه كأنما مات منذ دهر قال حماد في حديثه فواريناه في التراب " المستدرك للحاكم مشكلا - (ج 3 / ص 146)(3386 ) وصححه ووافقه الذهبي
قلت : هذا الحديث صحيح وهو أقوى ما ورد في موت أويس رحمه الله .
وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة [ جزء 1 - صفحة 222 ] بعد روايته : وهو صحيح السند
(3) - الركاب : وهي الإبل المركوبة أو الحاملة شيئا أو التي يراد الحمل عليها
(4) - الأولياء (110 ) وحلية الأولياء - (ج 2 / ص 148) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 2 / ص 170)
(5) - عن قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ مُطَرِّفُ بنُ عَبْدِ اللهِ وَصَاحِبٌ لَهُ سَرَيَا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَإِذَا طَرَفُ سَوْطِ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُ ضَوْءٌ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَوْ حَدَّثْنَا النَّاسَ بِهَذَا، كَذَّبُوْنَا.
فَقَالَ مُطَرِّفٌ: المُكَذِّبُ أَكْذَبُ - يَقُوْلُ: المُكَذِّبُ بِنِعْمَةِ اللهِ أَكْذَبُ
مصنف عبد الرزاق(20544) والاعتقاد للبيهقي (287) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي(2496) وحلية الأولياء - (ج 1 / ص 300) وتاريخ دمشق - (ج 58 / ص 321) و سير أعلام النبلاء (4/193)وتهذيب التهذيب 10 / 174 وهو صحيح

وَلَمَّا مَاتَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ وَقَعَتْ قَلَنْسُوَةُ رَجُلٍ فِي قَبْرِهِ، فَأَهْوَى لِيَأْخُذَهَا فَوَجَدَ الْقَبْرَ قَدْ فُسِحَ فِيهِ مَدَّ الْبَصَرِ .(1)
وَكَانَ " إبْرَاهِيمُ التيمي " يُقِيمُ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا وَخَرَجَ يَمْتَارُ لِأَهْلِهِ طَعَامًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَمَرَّ بِسَهْلَةِ حَمْرَاءَ فَأَخَذَ مِنْهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَفَتَحَهَا فَإِذَا هِيَ حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ فَكَانَ إذَا زَرَعَ مِنْهَا تَخْرُجُ السُّنْبُلَةُ مِنْ أَصْلِهَا إلَى فَرْعِهَا حَبًّا مُتَرَاكِبًا .(2)
وَكَانَ " عتبةُ الْغُلَامُ " سَأَلَ رَبَّهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ صَوْتًا حَسَنًا وَدَمْعًا غَزِيرًا وَطَعَامًا مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ . فَكَانَ إذَا قَرَأَ بَكَى وَأَبْكَى وَدُمُوعُهُ جَارِيَةٌ دَهْرَهُ وَكَانَ يَأْوِي إلَى مَنْزِلِهِ فَيُصِيبُ فِيهِ قُوتَهُ وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ يَأْتِيه .(3)
وَكَانَ " عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ " أَصَابَهُ الْفَالِجُ فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُطْلِقَ لَهُ أَعْضَاءَهُ وَقْتَ الْوُضُوءِ فَكَانَ وَقْتَ الْوُضُوءِ تُطْلَقُ لَهُ أَعْضَاؤُهُ ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَهُ .(4)
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .(5)
وَأَمَّا مَا نَعْرِفُهُ عَنْ أَعْيَانٍ وَنَعْرِفُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَكَثِيرٌ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْكَرَامَاتِ قَدْ تَكُونُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الرَّجُلِ ،فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهَا الضَّعِيفُ الْإِيمَانِ أَوْ الْمُحْتَاجُ أَتَاهُ مِنْهَا مَا يُقَوِّي إيمَانَهُ وَيَسُدُّ حَاجَتَهُ ،وَيَكُونُ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ وِلَايَةً لِلَّهِ مِنْهُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَأْتِيه مِثْلُ ذَلِكَ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ وَغِنَاهُ عَنْهَا لَا لِنَقْصِ وِلَايَتِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الصَّحَابَةِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ الْخَوَارِقُ لِهَدْيِ الْخَلْقِ وَلِحَاجَتِهِمْ فَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ دَرَجَةً .
__________
(1) - قلت : لم أجدها
(2) - قلت :روي عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، قَالَ : انْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْتَارُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الطَّعَامِ , فَمَرَّ بِسَهْلَةٍ حَمْرَاءَ , فَأَخَذَ مِنْهَا ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَقَالُوا : مَا هَذَا ، قَالَ : حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ ، قَالَ : افْتَحُوهَا فَوَجَدُوهَا حِنْطَةً حَمْرَاءَ ، قَالَ : فَكَانَ إذَا زَرَعَ مِنْهَا شَيْئًا خَرَجَ سُنْبُلَةً مِنْ أَصْلِهَا إلَى فَرْعِهَا حَبًّا مُتَرَاكِبًا.
مصنف ابن أبي شيبة(31813) وسنده صحيح إلى أبي صالح
أما إبراهيم التيمي فلم أجد قصته ، ولعله وقع التباس بينهما
(3) - شعب الإيمان للبيهقي (1333 ) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (2521 ) ومجابو الدعوة (104 ) وحلية الأولياء - (ج 3 / ص 69) ولا يصح فيه جهالة
(4) -
قَالَ ابْنُ أَبِي الحَوَارِيِّ: قَالَ لِي أَبُو سُلَيْمَانَ:أَصَابَ عَبْدَ الوَاحِدِ الفَالِجُ، فَسَأَلَ اللهَ أَنْ يُطْلِقَهُ فِي وَقْتِ الوُضُوْءِ، فَكَانَ إِذَا أَرَادَ الوُضُوْءَ، انْطَلَقَ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى سَرِيْرِه، فُلِجَ.
قوت القلوب - (ج 1 / ص 405) وتاريخ دمشق - (ج 37 / ص 226) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 3 / ص 145) و سير أعلام النبلاء (7/180) وحلية الأولياء - (ج 3 / ص 28) قلت : إن سمع أبو سليمان الداراني منه فالخبر صحيح إليه
(5) - انظر الدرر السنية كاملة - (ج 1 / ص 146) والدرر السنية كاملة - (ج 24 / ص 39) وشروح الطحاوية - (ج 2 / ص 62) وشروح الطحاوية - (ج 2 / ص 382-385) والاعتقاد للبيهقي - (ج 1 / ص 316)فما بعدها وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي - (ج 6 / ص 394) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 224 / ص 45) والفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي - (ج 1 / ص 228) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 1 / ص 499) وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - (ج 10 / ص 235)

وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ مِثْلُ حَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ الَّذِي ظَهَرَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَدْ ظَنَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ الدَّجَّالُ (1)، وَتَوَقَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الدَّجَّالُ ؛ لَكِنَّهُ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَبَّأْت لَك خَبْئًا قَالَ : الدُّخُّ الدُّخُّ . وَقَدْ كَانَ خَبَّأَ لَهُ سُورَةَ الدُّخَانِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَك (2)
__________
(1) - عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ أَقْبَلْنَا فِى جَيْشٍ مِنَ الْمَدِينَةِ قِبَلَ هَذَا الْمَشْرِقِ. قَالَ فَكَانَ فِى الْجَيْشِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَيَّادٍ وَكَانَ لاَ يُسَايِرُهُ أَحَدٌ وَلاَ يُرَافِقُهُ وَلاَ يُؤَاكِلُهُ وَلاَ يُشَارِبُهُ وَيُسَمُّونَهُ الدَّجَّالَ فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ نَازِلٌ فِى مَنْزِلٍ لِى إِذْ رَآنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَيَّادٍ جَالِساً فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَىَّ فَقَالَ يَا أَبَا سَعِيدٍ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا يَصْنَعُ النَّاسُ لاَ يُسَايِرُنِى أَحَدٌ وَلاَ يُرَافِقُنِى أَحَدٌ وَلاَ يُشَارِبُنِى أَحَدٌ وَلاَ يُؤَاكِلُنِى أَحَدٌ وَيَدْعُونِى الدَّجَّالَ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنْتَ يَا أَبَا سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الدَّجَّالَ لاَ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ ». وَإِنِّى وُلِدْتُ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ الدَّجَّالَ لاَ يُولَدُ لَهُ ». وَقَدْ وُلِدَ لِى فَوَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ مِمَّا يَصْنَعُ بِى هَؤُلاَءِ النَّاسُ أَنْ آخُذَ حَبْلاً فَأَخْلُوَ فَأَجْعَلَهُ فِى عُنُقِى فَأَخْتَنِقَ فَأَسْتَرِيحَ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّاسِ وَاللَّهِ مِا أَنَا بِالدَّجَّالِ وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَوْ شِئْتَ لأَخْبَرْتُكَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ أُمِّهِ وَاسْمِ الْقَرْيَةِ الَّتِى يَخْرُجُ مِنْهَا. مسند أحمد (12068)صحيح
(2) - عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِى مَغَالَةَ ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لاِبْنِ صَيَّادٍ « تَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ » . فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ . فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ فَرَفَضَهُ وَقَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ . فَقَالَ لَهُ « مَاذَا تَرَى » . قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ يَأْتِينِى صَادِقٌ وَكَاذِبٌ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ » ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّى قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا » . فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ هُوَ الدُّخُّ . فَقَالَ « اخْسَأْ ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ » . فَقَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه - دَعْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِى قَتْلِهِ » . صحيح البخارى (1354 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 9 / ص 291)
وَقَوْله ( وَقَدْ قَارَبَ اِبْن صَيَّاد يَوْمئِذٍ يَحْتَلِم ) فِي رِوَايَة يُونُس وَشُعَيْب " وَقَدْ قَارَبَ اِبْن صَيَّاد الْحُلُم " وَلَمْ يَقَع ذَلِكَ فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ فَاعْتَرَضَ بِهِ فَقَالَ : لَا يَلْزَم مِنْ كَوْنه غُلَامًا أَنْ يَكُون لَمْ يَحْتَلِم .
قَوْله : ( أَشْهَد أَنَّك رَسُول الْأُمِّيِّينَ ) فِيهِ إِشْعَار بِأَنَّ الْيَهُود الَّذِينَ كَانَ اِبْن صَيَّاد مِنْهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِبَعْثَةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَكِنْ يَدَّعُونَ أَنَّهَا مَخْصُوصَة بِالْعَرَبِ ، وَفَسَاد حُجَّتهمْ وَاضِح جِدًّا ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَقَرُّوا بِأَنَّهُ رَسُول اللَّه اِسْتَحَالَ أَنْ يَكْذِب عَلَى اللَّه ، فَإِذَا اِدَّعَى أَنَّهُ رَسُوله إِلَى الْعَرَب وَإِلَى غَيْرهَا تَعَيَّنَ صِدْقه ، فَوَجَبَ تَصْدِيقه .
قَوْله : ( فَقَالَ اِبْن صَيَّاد أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُول اللَّه ) فِي حَدِيث أَبِي سَعِيد عِنْد التِّرْمِذِيّ " فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنْتَ أَنِّي رَسُول اللَّه " .
قَوْله : ( قَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنْت بِاللَّهِ وَرُسُله ) وَلِلْمُسْتَمْلِيّ " وَرَسُوله " بِالْإِفْرَادِ ، وَفِي حَدِيث أَبِي سَعِيد " آمَنْت بِاللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله وَالْيَوْم الْآخِر " قَالَ الزَّيْن بْن الْمُنِير ، إِنَّمَا عَرَضَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَام عَلَى اِبْن صَيَّاد بِنَاء عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الدَّجَّال الْمُحَذَّر مِنْهُ . قُلْت : وَلَا يَتَعَيَّن ذَلِكَ ، بَلْ الَّذِي يَظْهَر أَنَّ أَمْره كَانَ مُحْتَمَلًا فَأَرَادَ اِخْتِبَاره بِذَلِكَ فَإِنْ أَجَابَ غَلَبَ تَرْجِيح أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ تَمَادِي الِاحْتِمَال ، أَوْ أَرَادَ بِاسْتِنْطَاقِهِ إِظْهَار كَذِبه الْمُنَافِي لِدَعْوَى النُّبُوَّة ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَاد أَجَابَهُ بِجَوَابٍ مُنْصِف فَقَالَ " آمَنْت بِاللَّهِ وَرُسُله " . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : كَانَ اِبْن صَيَّاد عَلَى طَرِيقَة الْكَهَنَة يُخْبِر بِالْخَبَرِ فَيَصِحّ تَارَة وَيَفْسُد أُخْرَى ، فَشَاعَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْزِل فِي شَأْنه وَحَيّ ، فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلُوك طَرِيقَة يَخْتَبِر حَاله بِهَا ، أَيْ فَهُوَ السَّبَب فِي اِنْطِلَاق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ ، وَقَدْ رَوَى أَحَد مِنْ حَدِيث جَابِر قَالَ " وَلَدَتْ اِمْرَأَة مِنْ الْيَهُود غُلَامًا مَمْسُوحَة عَيْنه ، وَالْأُخْرَى طَالِعَة نَاتِئَة ، فَأَشْفَقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُون هُوَ الدَّجَّال " . وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرَة مَرْفُوعًا " يَمْكُث أَبُو الدَّجَّال وَأُمّه ثَلَاثِينَ عَامًا لَا يُولَد لَهُمَا ثُمَّ يُولَد لَهُمَا غُلَام أَضَرّ شَيْء وَأَقَلّه مَنْفَعَة ، قَالَ وَنَعَتَهُمَا فَقَالَ : أَمَّا أَبُوهُ فَطَوِيل ضَرْب اللَّحْم كَأَنَّ أَنْفه مِنْقَار ، وَأَمَّا أُمّه فَرْضَاخِيَّةٌ " أَيْ بِفَاءِ مَفْتُوحَة وَرَاء سَاكِنَة وَبِمُعْجَمَتَيْنِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا ضَخْمَة طَوِيلَة الْيَدَيْنِ " قَالَ فَسَمِعْنَا بِمَوْلُودٍ بِتِلْكَ الصِّفَة ، فَذَهَبْت أَنَا وَالزُّبَيْر بْن الْعَوَّام حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبَوَيْهِ - يَعْنِي اِبْن صَيَّاد - فَإِذَا هُمَا بِتِلْكَ الصِّفَة " وَلِأَحْمَد وَالْبَزَّار مِنْ حَدِيث أَبِي ذَرّ قَالَ " بَعَثَنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمّه فَقَالَ : سَلْهَا كَمْ حَمَلَتْ بِهِ ؟ فَقَالَتْ حَمَلْت بِهِ اِثَّنَى عَشَر شَهْرًا ، فَلَمَّا وَقَعَ صَاحَ صِيَاح الصَّبِيّ اِبْن شَهْر " اِنْتَهَى ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْل فِي إِرَادَة اِسْتِكْشَاف أَمْره .
قَوْله : ( مَاذَا تَرَى قَالَ اِبْن صَيَّاد يَأْتِينِي صَادِق وَكَاذِب )
فِي حَدِيث جَابِر عِنْد التِّرْمِذِيّ وَنَحْوه لِمُسْلِمِ " فَقَالَ أَرَى حَقًّا وَبَاطِلًا ، وَأَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاء " وَفِي حَدِيث أَبِي سَعِيد عِنْده " أَرَى صَادِقَيْنِ وَكَاذِبًا " وَلِأَحْمَد " أَرَى عَرْشًا عَلَى الْبَحْر حَوْله الْحِيتَان " .
قَوْله : ( قَالَ لُبِسَ ) بِضَمِّ اللَّام وَتَخْفِيف الْمُوَحَّدَة الْمَكْسُورَة بَعْدهَا مُهْمَلَة أَيْ خُلِطَ ، وَفِي حَدِيث أَبِي الطُّفَيْل عِنْد أَحْمَد فَقَالَ " تَعُوذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرّ هَذَا " .
قَوْله : ( إِنِّي قَدْ خَبَّأْت لَك خِبْئًا ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَة وَبِفَتْحِهَا وَسُكُون الْمُوَحَّدَة بَعْدهَا هَمْز ، وَبِفَتْحِ الْمُعْجَمَة وَكَسْر الْمُوَحَّدَة بَعْدهَا تَحْتَانِيَّة سَاكِنَة ثُمَّ هَمْز أَيْ أَخْفَيْت لَك شَيْئًا .
قَوْله : ( هُوَ الدُّخّ ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَة بَعْدهَا مُعْجَمَة ، وَحَكَى صَاحِب الْمُحْكَم الْفَتْح ، وَوَقَعَ عِنْد الْحَاكِم " الزَّخّ " بِفَتْحِ الزَّاي بَدَل الدَّالّ وَفَسَّرَهُ بِالْجِمَاعِ ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّة عَلَى تَغْلِيظه فِي ذَلِكَ ، وَيَرُدّهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي ذَرّ الْمَذْكُور " فَأَرَادَ أَنْ يَقُول الدُّخَان فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالَ الدُّخّ " ، وَلِلْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي " الْأَوْسَط " مِنْ حَدِيث زَيْد اِبْن حَارِثَة قَالَ " كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَّأَ لَهُ سُورَة الدُّخَّان " وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ السُّورَة وَأَرَادَ بَعْضهَا ، فَإِنَّ عِنْد أَحْمَد عَنْ عَبْد الرَّزَّاق فِي حَدِيث الْبَاب " وَخَبَّأْت لَهُ : يَوْم تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُبِينٍ " وَأَمَّا جَوَاب اِبْن صَيَّاد بِالدُّخِّ فَقِيلَ إِنَّهُ اِنْدَهَشَ فَلَمْ يَقَع مِنْ لَفْظ الدُّخَان إِلَّا عَلَى بَعْضه ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ الْآيَة حِينَئِذٍ كَانَتْ مَكْتُوبَة فِي يَد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَهْتَدِ اِبْن صَيَّاد مِنْهَا إِلَّا لِهَذَا الْقَدْر النَّاقِص عَلَى طَرِيقَة الْكَهَنَة ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَنْ تَعْدُو قَدْرك " أَيْ قَدْر مِثْلك مِنْ الْكُهَّان الَّذِينَ يَحْفَظُونَ مِنْ إِلْقَاء شَيَاطِينهمْ مَا يَحْفَظُونَهُ مُخْتَلَطًا صِدْقه بِكَذِبِهِ . وَحَكَى أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ أَنَّ السِّرّ فِي اِمْتِحَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِهَذِهِ الْآيَة الْإِشَارَة إِلَى أَنَّ عِيسَى ابْن مَرْيَم يَقْتُل الدَّجَّال بِجَبَلِ الدُّخَّان ، فَأَرَادَ التَّعْرِيض ، لِابْنِ الصَّيَّاد بِذَلِكَ وَاسْتَبْعَدَ الْخَطَّابِيُّ مَا تَقَدَّمَ وَصَوَّبَ أَنَّهُ أَخَبَأَ لَهُ الدُّخّ وَهُوَ نَبْت يَكُون بَيْن الْبَسَاتِين ، وَسَبَب اِسْتِبْعَاده لَهُ أَنَّ الدُّخَان لَا يُخَبَّأ فِي الْيَد وَلَا الْكُمّ . ثُمَّ قَالَ : إِلَّا أَنْ يَكُون خَبَّأَ لَهُ اِسْم الدُّخَان فِي ضَمِيره ، وَعَلَى هَذَا فَيُقَال : كَيْف اِطَّلَعَ اِبْن صَيَّاد أَوْ شَيْطَانه عَلَى مَا فِي الضَّمِير ؟ وَيُمْكِن أَنْ يُجَاب بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّثَ مَعَ نَفْسه أَوْ أَصْحَابه بِذَلِكَ قَبْل أَنْ يَخْتَبِرهُ فَاسْتَرَقَ الشَّيْطَان ذَلِكَ أَوْ بَعْضه .
قَوْله : ( اِخْسَأْ ) سَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهَا فِي كِتَاب الْأَدَب فِي بَابٍ مُفْرَدٍ .
قَوْله : ( فَلَنْ تَعْدُو قَدْرك ) أَيْ لَنْ تُجَاوِز مَا قَدَّرَ اللَّه فِيك أَوْ مِقْدَار أَمْثَالك مِنْ الْكُهَّان . قَالَ الْعُلَمَاء : اِسْتَكْشَفَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْره لِيُبَيِّن لِأَصْحَابِهِ تَمْوِيهه لِئَلَّا يَلْتَبِس حَاله عَلَى ضَعِيف لَمْ يَتَمَكَّن فِي الْإِسْلَام وَمُحَصِّل مَا أَجَابَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ عَلَى طَرِيق الْفَرْض وَالتَّنَزُّل : إِنْ كُنْت صَادِقًا فِي دَعْوَاك الرِّسَالَة وَلَمْ يَخْتَلِط عَلَيْك الْأَمْر آمَنْت بِك . وَإِنْ كُنْت كَاذِبًا وَخُلِطَ عَلَيْك الْأَمْر فَلَا . وَقَدْ ظَهَرَ كَذِبك وَالْتِبَاس الْأَمْر عَلَيْك فَلَا تَعْدُو قَدْرك .
قَوْله : ( إِنْ يَكُنْ هُوَ ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ ، وَلِلْكُشْميهَنِيّ " إِنْ يَكُنْهُ " عَلَى وَصْل الضَّمِير ، وَاخْتَارَ اِبْن مَالِك جَوَازه ، ثُمَّ الضَّمِير لِغَيْرِ مَذْكُور لَفْظًا ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود عِنْد أَحْمَد " أَنْ يَكُون هُوَ الَّذِي تَخَاف فَلَنْ تَسْتَطِيعهُ " وَفِي مُرْسَل عُرْوَة عِنْد الْحَارِث بْن أَبِي أُسَامَة " إِنْ يَكُنْ هُوَ الدَّجَّال " .
قَوْله : ( فَلَنْ تُسَلَّط عَلَيْهِ ) فِي حَدِيث جَابِر " فَلَسْت بِصَاحِبِهِ ، إِنَّمَا صَاحِبه عِيسَى ابْن مَرْيَم " .
قَوْله : ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْر لَك فِي قَتْله ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَإِنَّمَا لَمْ يَأْذَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْله مَعَ اِدِّعَائِهِ النُّبُوَّة بِحَضْرَتِهِ لِأَنَّهُ كَانَ غَيْر بَالِغ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَة أَهْل الْعَهْد ، قُلْت : الثَّانِي هُوَ الْمُتَعَيَّن ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيث جَابِر عِنْد أَحْمَد ، وَفِي مُرْسَل عُرْوَة " فَلَا يَحِلّ لَك قَتْله " ثُمَّ إِنَّ فِي السُّؤَال عِنْدِي نَظَرًا ، لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّح بِدَعْوَى النُّبُوَّة ، وَإِنَّمَا أَوْهَمَ أَنَّهُ يَدَّعِي الرِّسَالَة ، وَلَا يَلْزَم مِنْ دَعْوَى الرِّسَالَة دَعْوَى النُّبُوَّة ، قَالَ اللَّه تَعَالَى ( إِنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِين عَلَى الْكَافِرِينَ ) الْآيَة .

" يَعْنِي إنَّمَا أَنْتَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ ؛ وَالْكُهَّانُ كَانَ يَكُونُ لِأَحَدِهِمْ الْقَرِينُ مِنَ الشَّيَاطِينِ يُخْبِرُهُ بِكَثِيرِ مِنْ الْمُغَيَّبَاتِ بِمَا يَسْتَرِقُهُ مِنْ السَّمْعِ ،وَكَانُوا يَخْلِطُونَ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَنْزِلُ فِى الْعَنَانِ - وَهْوَ السَّحَابُ - فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِىَ فِى السَّمَاءِ ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ ، فَتَسْمَعُهُ فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ » (1).
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى عَلِىُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَخْبَرَنِى رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الأَنْصَارِ أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رُمِىَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا رُمِىَ بِمِثْلِ هَذَا ». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَإِنَّهَا لاَ يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ وَلَكِنْ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ - قَالَ - فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَوَاتِ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَيُرْمَوْنَ بِهِ فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ » (2).
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ مُعَمَّرٌ قُلْت لِلزُّهْرِيِّ قُلْتُ لِلزُّهْرِىِّ أَكَانَ يُرْمَى بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ نَعَمْ ولَكِنْ غُلِّظَتْ حِينَ بُعِثَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-.(3)
__________
(1) - صحيح البخارى(3210 )
(2) - صحيح مسلم(5955 ) =يقرفون : يكذبون فيه
(3) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِساً فِى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ - قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنَ الأَنْصَارِ - فَرُمِىَ بِنَجْمٍ عَظِيمٍ فَاسْتَنَارَ قَالَ « مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ ». قَالَ كُنَّا نَقُولُ يُولَدُ عَظِيمٌ أَوْ يَمُوتُ عَظِيمٌ. قُلْتُ لِلزُّهْرِىِّ أَكَانَ يُرْمَى بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ نَعَمْ ولَكِنْ غُلِّظَتْ حِينَ بُعِثَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَإِنَّهُ لاَ يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ ولَكِنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ اسْمُهُ إِذَا قَضَى أَمْراً سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا ثُمَّ يَسْتَخْبِرُ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ فَيَقُولُ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فَيُخْبِرُونَهُمْ وَيُخْبِرُ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ سَمَاءً حَتَّى يَنْتَهِىَ الْخَبَرُ إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ. وَيَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيُرْمَوْنَ فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ يَقْذِفُونَ وَيَزِيدُونَ ». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - قَالَ أَبِى قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَيَخْطَفُ الْجِنُّ وَيُرْمَوْنَ. مسند أحمد (1910) وهو صحيح

وَ " الْأَسْوَدُ العنسي " الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ كَانَ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يُخْبِرُهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ، فَلَمَّا قَاتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَخَافُونَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ يُخْبِرُوهُ بِمَا يَقُولُونَ فِيهِ : حَتَّى أَعَانَتْهُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهَا كُفْرُهُ فَقَتَلُوهُ .(1)
وَكَذَلِكَ " مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ " كَانَ مَعَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يُخْبِرُهُ . بِالْمُغَيَّبَاتِ وَيُعِينُهُ عَلَى بَعْضِ الْأُمُورِ(2)
__________
(1) - عن النعمان بن بزرج ، قال : « خرج أسود الكذاب وكان رجلا من بني عنس ، وكان معه شيطانان يقال لأحدهما سحيق والآخر شقيق ، وكانا يخبرانه بكل شيء يحدث من أمر الناس ، فسار الأسود حتى أخذ ذمار ، وكان باذان إذ ذاك مريضا بصنعاء ، فلما مات ، جاء الأسود شيطانه وهو على قصر ذمار ، فأخبره بموت باذان ، فنادى الأسود في قومه : يا آل يحابر ، ويحابر فخذ من مراد : إن سحيقا قد أجار ذمار ، وأباح لكم صنعاء » فذكر الحديث في خروجه إلى صنعاء ، وأخذه صنعاء واستنكاحه المرزبانة امرأة باذان ، وإرسالها إلى داذويه خليفة باذان ، وفيروز ، وخرزاذ بن بزرج وجرجست هذا الشيطان فائتمروا به وأنا أكفيكموه ، وأنهم ائتمروا بقتله مع قيس بن عبد يغوث ، فاجتمع داذويه ، وفيروز ، وأصحابهما ، وكان على باب الأسود ألف رجل يحرسونه ، فجعلت المرزبانة تسقيه خمرا صرفا فكلما قال : شوبوه صبت عليه من خمر كان حتى سكر ، فدخل في فراش باذان ، وكان من ريش . فانقلب عليه الفراش وجعل داذويه وأصحابه ينضحون الجدار بالخل ويحفرونه من نحو بيوت أهل بزرج بحديدة ، حتى فتحوه قريبا منه ، فذكر الحديث في دخول داذويه ، وجرجست ، فلم يرزقا قتله ، فخرجا فدخل فيروز ، وابن بزرج فأشارت إليهما المرأة أنه في الفراش ، فتناول فيروز برأسه ولحيته فعصر عنقه فدقها وطعنه ابن بزرج بالخنجر فشقه من ترقوته إلى عانته ، ثم احتز رأسه ، وخرجوا وأخرجوا المرأة معهم وما أحبوا من متاع البيت ، وذكر الحديث .."دلائل النبوة للبيهقي (2084 )
(2) - عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو الضَّمْرِىِّ قَالَ َرَجْتُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِىِّ بْنِ الْخِيَارِ إِلَى الشَّامِ فَلَمَّا قَدِمْنَا حِمْصَ قَالَ لِى عُبَيْدُ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِى وَحْشِىٍّ نَسْأَلُهُ عَنْ قَتْلِ حَمْزَةَ قُلْتُ َعَمْ. وَكَانَ وَحْشِىٌّ يَسْكُنُ حِمْصَ - قَالَ - فَسَأَلْنَا عَنْهُ فَقِيلَ لَنَا ُوَ ذَاكَ فِى ظِلِّ قَصْرِهِ كَأَنَّهُ حَمِيتٌ - قَالَ - فَجِئْنَا حَتَّى وَقَفْنَا عَلَيْهِ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْنَا السَّلاَمَ - قَالَ - وَعُبَيْدُ اللَّهِ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَتِهِ مَا يَرَى وَحْشِىٌّ إِلاَّ عَيْنَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ َا وَحْشِىُّ أَتَعْرِفُنِى قَالَ َنَظَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ َ وَاللَّهِ إِلاَّ أَنِّى أَعْلَمُ أَنَّ عَدِىَّ بْنَ الْخِيَارِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قِتَالٍ ابْنَةُ أَبِى الْعِيصِ فَوَلَدَتْ لَهُ غُلاَماً بِمَكَّةَ فَاسْتَرْضَعَهُ فَحَمَلْتُ ذَلِكَ الْغُلاَمَ مَعَ أُمِّهِ فَنَاوَلْتُهَا إِيَّاهُ فَلَكَأَنِّى نَظَرْتُ إِلَى قَدَمَيْكَ. قَالَ َكَشَفَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَجْهَهُ ثُمَّ قَالَ أَلاَ تُخْبِرُنَا بِقَتْلِ حَمْزَةَ. قَالَ َعَمْ إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِىٍّ بِبَدْرٍ فَقَالَ لِى مَوْلاَىَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّى فَأَنْتَ حُرٌّ. فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ يَوْمَ عِينِينَ - قَالَ وَعِينِينُ جُبَيْلٌ تَحْتَ أُحُدٍ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَادِى - خَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إِلَى الْقِتَالِ فَلَمَّا أَنِ اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ - قَالَ - خَرَجَ سِبَاعٌ مَنْ مُبَارِزٌ قَالَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ يَا سِبَاعُ يَا ابْنَ أُمِّ أَنْمَارٍ يَا ابْنَ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ أَتُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ وَأَكْمَنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ حَتَّى إِذَا مَرَّ عَلَىَّ فَلَمَّا أَنْ دَنَا مِنِّى رَمَيْتُهُ فَأَضَعُهَا فِى ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيْهِ - قَالَ - فَكَانَ ذَلِكَ الْعَهْدُ بِهِ - قَالَ - فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ رَجَعْتُ مَعَهُمْ - قَالَ - فَأَقَمْتُ بِمَكَّةَ حَتَّى فَشَا فِيهَا الإِسْلاَمُ - قَالَ - ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الطَّائِفِ - قَالَ - فَأَرْسَلَ إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَقِيلَ لَهُ ِنَّهُ لاَ يَهِيجُ لِلرُّسُلِ.
قَالَ َخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فَلَمَّا رَآنِى قَالَ « أَنْتَ وَحْشِىٌّ ». قَالَ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ « أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ ». قَالَ قُلْتُ َدْ كَانَ مِنَ الأَمْرِ مَا بَلَغَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذْ. قَالَ « مَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّى وَجْهَكَ ». قَالَ فَرَجَعْتُ فَلَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ قَالَ قُلْتُ لأَخْرُجَنَّ إِلَى مُسَيْلِمَةَ لَعَلِّى أَقْتُلُهُ فَأُكَافِئَ بِهِ حَمْزَةَ - قَالَ - فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا كَانَ - قَالَ - فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِى ثَلْمَةِ جِدَارٍ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقٌ ثَائِرٌ رَأْسُهُ - قَالَ - فَأَرْمِيهِ بِحَرْبَتِى فَأَضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ - قَالَ - وَدَبَّ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ - قَالَ - فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ. مسند أحمد(16503) وهو صحيح
ثلمة : النقصان والخلل = الثنة : الثنة من الإنسان ما دون السرة فوق العانة أسفل البطن =الحميت : الزق =المعتجر : الذى يلفها على رأسه ويرد طرفها على وجهه ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه =الأورق : الأسمر

.
وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ ،مِثْلُ : الْحَارِثِ الدِّمَشْقِيِّ " الَّذِي خَرَجَ بِالشَّامِ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ يُخْرِجُونَ رِجْلَيْهِ مِنَ الْقَيْدِ وَتَمْنَعُ السِّلَاحَ أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ، وَتُسَبِّحُ الرَّخَامَةُ إذَا مَسَحَهَا بِيَدِهِ ،وَكَانَ يَرَى النَّاسَ رِجَالًا وَرُكْبَانًا عَلَى خَيْلٍ فِي الْهَوَاءِ، وَيَقُولُ : هِيَ الْمَلَائِكَةُ وَإِنَّمَا كَانُوا جِنًّا ،وَلَمَّا أَمْسَكَهُ الْمُسْلِمُونَ لِيَقْتُلُوهُ طَعَنَهُ الطَّاعِنُ بِالرُّمْحِ فَلَمْ يَنْفُذْ فِيهِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ : إنَّك لَمْ تُسَمِّ اللَّهَ فَسَمَّى اللَّهَ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ .(1)
__________
(1) - الحارث بن سعيد المتنبئ الكذاب، ويقال له الحارث بن عبد الرحمن بن سعيد الدمشقي، مولى أبي الجلاس العبدري، ويقال مولى الحكم بن مروان، كان أصله من الجولة فنزل دمشق وتعبد بها وتنسك وتزهد ثم مكر به ورجع القهري على عقبيه، وانسلخ من آيات الله تعالى، وفارق حزب الله المفلحين، واتبع الشيطان فكان من الغاوين، ولم يزل الشيطان يزج في قفاه حتى أخسره دينه ودنياه، وأخزاه وأشقاه. فإنا لله وحسبنا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال أبو بكر بن أبي خيثمة، ثنا عبد الوهاب نجدة الجولي، حدثنا محمد بن مبارك، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن حسان، قال: كان الحارث الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لأبي الجلاس، وكان له أب بالجولة، فعرض له إبليس، وكان رجلاً متعبداً زاهداً لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه الزهادة والعبادة، وكان إذا أخذ بالتحميد لم يسمع السامعون مثل تحميده ولا أحسن من كلامه، فكتب إلى أبيه وكان بالجولة: يا أبتاه أعجل عليَّ فإني قد رأيت أشياء أتخوف أن يكون الشيطان قد عرض لي، قال فزاده أبوه غيَّاً على غيه، فكتب إليه أبوه: يا بني أقبل على ما أمرت به فإن الله تعالى يقول: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222] ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به، وكان يجيء إلى أهل المسجد رجلاً رجلاً، فيذاكرهم أمره ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو يرى ما يرضى وإلا كتم عليه.
قال: وكان يريهم الأعاجيب. كان يأتي إلى رخامة في المسجد فينقرها بيده فتسبح تسبيحاً بليغاً حتى يضج من ذلك الحاضرون.
قلت: وقد سمعت شيخنا العلامة أبا العباس بن تيمية رحمه الله يقول: كان ينقر هذه الرخامة الحمراء التي في المقصورة فتسبح، وكان زنديقاً.
قال ابن أبى خيثمة في روايته وكان الحارث يطعمهم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وكان يقول لهم: اخرجوا حتى أريكم الملائكة، فيخرج بهم إلى دير المراق فيريهم رجالاً على خيل فيتبعه على ذلك بشر كثير، وفشا أمره في المسجد وكثر أصحابه وأتباعه، حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة، قال فعرض على القاسم أمره وأخذ عليه العهد إن هو رضي أمر قبله، وإن كرهه كتم عليه، قال فقال له: إني نبي.
فقال القاسم: كذبت يا عدو الله، ما أنت نبي، وفي رواية ولكنك أحد الكذابين الدجالين الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الساعة لا تقوم حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي)) وأنت أحدهم ولا عهد لك، ثم قام فخرج إلى أبي إدريس - وكان على القضاء بدمشق - فأعلمه بما سمع من الحارث فقال أبو إدريس نعرفه، ثم أعلم أبو إدريس عبد الملك بذلك، وفي رواية أخرى أن مكحولاً وعبد الله بن زائدة دخلا على الحارث فدعاهما إلى نبوته فكذباه وردا عليه ما قال، ودخلا على عبد الملك فأعلماه بأمره، فتطلبه عبد الملك طلباً حثيثاً، واختفى الحارث وصار إلى دار بيت المقدس يدعو إلى نفسه سراً واهتم عبد الملك بشأنه حتى ركب إلى النصرية فنزلها فورد عليه هناك رجل من أهل النصرية ممن كان يدخل على الحارث وهو ببيت المقدس فأعلمه بأمره وأين هو، وسأل من عبد الملك أن يبعث معه بطائفة من الجند الأتراك ليحتاط عليه، فأرسل معه طائفة وكتب إلى نائب القدس ليكون في طاعة هذا الرجل ويفعل ما يأمره به، فلما وصل الرجل إلى النصرية ببيت المقدس بمن معه، انتدب نائب القدس لخدمته فأمره أن يجمع ما يقدر عليه من الشموع ويجعل مع كل رجل شمعته، فإذا أمرهم بإشعالها في الليل أشعلوها كلهم في سائر الطرق والأزقة حتى لا يخفى أمره، وذهب الرجل بنفسه فدخل الدار التي فيها الحارث فقال لبوابة: استأذن على نبي الله، فقال: في هذه الساعة لا يؤذن عليه حتى يصبح، فصاح النصري أسرجوا، فأشعل الناس شموعهم حتى صار الليل كأنه النهار، وهمَّ النصري على الحارث فاختفى منه في سرب هناك فقال أصحابه هيهات يريدون أن يصلوا إلى نبي الله، إنه قد رفع إلى السماء، قال فأدخل النصري يده في ذلك السرب فإذا بثوبه فاجتره فأخرجه، ثم قال للفرعانين من أتراك الخليفة قال: فأخذوه فقيدوه، فيقال: إن القيود والجامعة سقطت من عنقه مراراً ويعيدونها وجعل يقول: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50] وقال لأولئك الأتراك: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [المؤمن: 28] فقالوا له بلسانهم ولغتهم: هذا كراننا فهات كرانك، أي هذا قرآننا فهات قرآنك، فلما انتهوا به إلى عبد الملك أمر بصلبه على خشبة وأمر رجلاً فطعنه بحربة فانثنت في ضلع من أضلاعه، فقال له عبد الملك: ويحك أذكرت اسم الله حين طعنته؟
فقال: نسيت، فقال: ويحك سم الله ثم اطعنه، قال: فذكر اسم الله ثم طعنه فأنفذه، وقد كان عبد الملك حبسه قبل صلبه وأمر رجالاً من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويعلموه أن هذا الذي به من الشيطان، فأبى أن يقبل منهم فصلبه بعد ذلك وهذا من تمام العدل والدين.
وقد قال الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، فحدثني من سمع الأعور، يقول: سمعت العلاء بن زياد العدوي.
يقول: ما غبطت عبد الملك بشيء من ولايته إلا بقتله حارثاً حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي، فمن قاله فاقتلوه، ومن قتل منهم أحداً فله الجنة)).
البداية والنهاية لابن كثير (ج/ص: 9/34) فما بعدها وتاريخ دمشق - (ج 11 / ص 428)و تاريخ الإسلام للذهبي - (ج 2 / ص 147)

وَهَكَذَا أَهْلُ " الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ "(1)
__________
(1) - وفي تاريخ الإسلام للذهبي - (ج 11 / ص 253)409 _ يوسف القُمَّينيّ . شيخ مشهور بدمشق . للنّاس فيه حُسن اعتقاد . وكان يأوي إلى القمامين والمزابل الّتي مأوى الشياطين ، ويلبس ثياباً تكنس الأرض ، وتتنجّس ببوْله ، ويمشي حافياً ، ويترنّح في مشْيته . وله أكمامٌ ، طوال ، ورأسه مكشوف .
وكان طويل السّكوت ، ذا مهابة وولهٍ ما .
ويُحكى عنه عجائب وكشوفات . وكان يأوي إلى قمّين حمّام نور الدّين .
ولمّا توفّي شيعه خلْقٌ لا يُحْصون من العامّة .
وقد بصّرنا الله وله الحمد وعرّفنا هذا النّموذج ، وأنّ لهم شياطين تطمع فيهم لنقْص عقولهم ، وتجري منهم مجرى الدّم ، وتتكلّم على ألسنتهم بالمُغيَّبات ، فيضلّ النّاس ، ويتألّهونهم ، ويعتقدون أنّهم أولياء الله ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون . فقد عمّ البلاء في الخلق بهذا الضّرب ، ولكن الله يثيب النّاس على حسن قصدهم ، وإن جهلوا وأخطأوا ، ويغفر لهم بلا شكّ إذا كان قصدُهم ابتغاء وجهه الكريم .
وهذا زماننا فيه واحد اسمه إبراهيم بظاهر باب شرقيّ ، له كشوفات كالشّمس ، وما أكثرها . أمَّ أربع سنين في دُكّان برّ الباب ، ثمّ تحوّل إلى قمين حمّام الفواخير ، وهو زُطّيٌّ ، سفيه ، نجِس ، قد أحرقته السّوداء ، وله شيطان ينطق على لسانه ، فما أجهل من يعتقد في هذا وشبهه أنّه وليّ الله ، والله يقول في أوليائه { الّذي آمنوا وكانوا يتقون } .
وقد كان في الجاهليّة خلْقٌ من الكُهّان يخبرون بالمغيِّبات ، والرُّهبان لهم كشْفٌ وإخبار بالمغيّبات ، والسّاحر يخبر بالمغيّبات . وفي زماننا نساءٌ ورجالٌ بهم مسٌّ من الجِنّ يخبرون بالمغيّبات على عدد الأنفاس .
وقد صنّف شيخُنا ابن تيْميّة غير مسألةٍ في أنّ أحوال هؤلاء وأشباههم شيطانيّة ، ومن هذه الأحوال الشّيطانيّة الّتي تضلّ العامّة أكْلُ الحيّات ، ودخول النّار ، والمشْي في الهواء ، ممّن يتعانى المعاصي ، ويخلّ بالواجبات . فنسأل الله العون على اتّباع صراط المستقيم ، وأن يكتب الإيمان في قلوبنا ، وأن يؤيّدنا بروحٍ منه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقد يجيء الجاهل فيقول : اسكُتْ لا تتكلّم في أولياء الله . ولم يشعر أنّه هو الّذي تكلّم في أولياء الله وأهانهم ، إذْ أدخل فيهم هؤلاء الأوباش المجانين أولياء الشّياطين ، قال الله تعالى : { وإنّ الشّياطين ليُوحُون إلى أوليائهم لِيُجادلوكم } ثمّ قال : { وإنْ أطعْتموهم إنّكم لمُشركون } وما اتّبع النّاس الأسود العنسيّ ومُسيلمة الكذّاب إلاّ لإخبارهما بالمغيّبات ، ولا عُبدت الأوثان إلاّ لذلك ، ولا ارتبط خلقٌ بالمنجّمين إلا لشيءٍ من ذلك ، مع أنّ تسعة أعشار ما يُحْكى من كذب النّاقلين . وبعض الفُضلاء تراه يخضع للمولّهين والفُقراء النّصّابين لما يرى منهم . وما يأتي به هؤلاء يأتي بمثله الرُّهبان ، فلهم كشوفات وعجائب ، ومع هذا فهم ضُلاّلٌ من عبدة الصُّلبان ، فأين يُذْهب بك ؟ ! ثبّتنا الله بالقول الثّابت في الحياة الدّنيا وفي الآخر ة، وإيّاك .
وانظر مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 84) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 176) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 363) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 364) ومجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 232) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 278) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 431) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 443) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 470) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 495-496) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 538) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 611) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 667-668) ومجموع الفتاوى - (ج 14 / ص 226)ومجموع الفتاوى - (ج 14 / ص 359) و مجموع الفتاوى - (ج 27 / ص 499) ومجموع الفتاوى - (ج 35 / ص 111) ومجموع الفتاوى - (ج 35 / ص 114)

تَنْصَرِفُ عَنْهُمْ شَيَاطِينُهُمْ إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُمْ مَا يَطْرُدُهَا، مِثْلُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ وَكَّلَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ ، فَأَتَانِى آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ ، وَقُلْتُ وَاللَّهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ إِنِّى مُحْتَاجٌ ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ ، وَلِى حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ . قَالَ فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ » . قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً فَرَحِمْتُهُ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ . قَالَ « أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ » . فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّهُ سَيَعُودُ . فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ دَعْنِى فَإِنِّى مُحْتَاجٌ ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ لاَ أَعُودُ ، فَرَحِمْتُهُ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ ، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ » . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً ، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ . قَالَ « أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ » . فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لاَ تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ . قَالَ دَعْنِى أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا . قُلْتُ مَا هُوَ قَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ ( اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ) حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ . فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ ، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ » . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِى كَلِمَاتٍ ، يَنْفَعُنِى اللَّهُ بِهَا ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ . قَالَ « مَا هِىَ » . قُلْتُ قَالَ لِى إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ ( اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ) وَقَالَ لِى لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَىْءٍ عَلَى الْخَيْرِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ » . قَالَ لاَ . قَالَ « ذَاكَ شَيْطَانٌ »(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (2311 ) معلقاً بصيغة الجزم والسنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (ج 6 / ص 394)(10729) وهو صحيح
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 7 / ص 155)
قَوْله : ( ذَاكَ شَيْطَان )كَذَا لِلْجَمِيعِ أَيْ شَيْطَان مِنْ الشَّيَاطِين ، وَوَقَعَ فِي فَضَائِل الْقُرْآن " ذَاكَ الشَّيْطَان " وَاللَّام فِيهِ لِلْعَهْدِ الذَّهَبِيّ ، وَقَدْ وَقَعَ أَيْضًا لِأُبَيِّ بْن كَعْب عِنْد النَّسَائِيِّ وَأَبِي أَيُّوب الْأَنْصَارِيّ عِنْد التِّرْمِذِيّ وَأَبِي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ عِنْد الطَّبَرَانِيِّ وَزَيْد بْن ثَابِت عِنْد اِبْن أَبِي الدُّنْيَا قِصَص فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُشْبِه قِصَّة أَبِي هُرَيْرَة إِلَّا قِصَّة مُعَاذ بْن جَبَل الَّتِي ذَكَرْتهَا ، وَهُوَ مَحْمُول عَلَى التَّعَدُّد ، فَفِي حَدِيث أُبَيِّ بْن كَعْب أَنَّهُ " كَانَ لَهُ جُرْن فِيهِ تَمْر وَأَنَّهُ كَانَ يَتَعَاهَدهُ ، فَوَجَدَهُ يَنْقُص ، فَإِذَا هُوَ بِدَابَّةٍ شِبْه الْغُلَام الْمُحْتَلِم ، فَقُلْت لَهُ أَجِنِّيّ أَمْ إِنْسِيّ ؟ قَالَ بَلْ جِنِّيّ " وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ " بَلَغَنَا أَنَّك تُحِبّ الصَّدَقَة وَأَحْبَبْنَا أَنْ نُصِيب مِنْ طَعَامك ، قَالَ فَمَا الَّذِي يَجْبُرنَا مِنْكُمْ ؟ قَالَ هَذِهِ الْآيَة آيَة الْكُرْسِيّ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : صَدَقَ الْخَبِيث " وَفِي حَدِيث أَبِي أَيُّوب " أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ سَهْوَة - أَيْ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْهَاء وَهِيَ الصِّفَة - فِيهَا تَمْر ، وَكَانَتْ الْغُول تَجِيء فَتَأْخُذ مِنْهُ ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِذَا رَأَيْتهَا فَقُلْ بِسْمِ اللَّه أَجِيبِي رَسُول اللَّه ، فَأَخَذَهَا فَحَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُود ، فَذَكَرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا فَقَالَتْ إِنِّي ذَاكِرَة لَك شَيْئًا آيَة الْكُرْسِيّ اِقْرَأْهَا فِي بَيْتك فَلَا يَقْرُبك شَيْطَان وَلَا غَيْره " الْحَدِيث ، وَفِي حَدِيث أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ لَمَّا قَطَعَ تَمْر حَائِطه جَعَلَهَا فِي غُرْفَة ، وَكَانَتْ الْغُول تُخَالِفهُ فَتَسْرِق تَمْره وَتُفْسِدهُ عَلَيْهِ فَذَكَرَ نَحْو حَدِيث أَبِي أَيُّوب سَوَاء وَقَالَ فِي آخِره " وَأَدُلّك عَلَى آيَة تَقْرَؤُهَا فِي بَيْتك فَلَا يُخَالَف إِلَى أَهْلك ، وَتَقْرَؤُهَا عَلَى إِنَائِك فَلَا يُكْشَف غِطَاؤُهُ وَهِيَ آيَة الْكُرْسِيّ ، ثُمَّ حَلَّتْ اِسْتهَا فَضَرَطَتْ " الْحَدِيث . وَفِي حَدِيث زَيْد بْن ثَابِت أَنَّهُ " خَرَجَ إِلَى حَائِطه فَسَمِعَ جَلَبَة فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : رَجُل مِنْ الْجِنّ ، أَصَابَتْنَا السَّنَة ، فَأَرَدْت أَنْ أُصِيب مِنْ ثِمَاركُمْ . قَالَ لَهُ : فَمَا الَّذِي يُعِيذنَا مِنْكُمْ ؟ قَالَ آيَة الْكُرْسِيّ " .
قَوْله : ( وَهُوَ كَذُوب ) مِنْ التَّتْمِيم الْبَلِيغ الْغَايَة فِي الْحُسْن لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ الصِّدْق فَأَوْهَمَ لَهُ صِفَة الْمَدْح ، ثُمَّ اِسْتَدْرَكَ ذَلِكَ بِصِفَةِ الْمُبَالَغَة فِي الذَّمّ بِقَوْلِهِ " وَهُوَ كَذُوب " وَفِي الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّيْطَان قَدْ يَعْلَم مَا يَنْتَفِع بِهِ الْمُؤْمِن ، وَأَنَّ الْحِكْمَة قَدْ يَتَلَقَّاهَا الْفَاجِر فَلَا يَنْتَفِع بِهَا وَتُؤْخَذ عَنْهُ فَيَنْتَفِع بِهَا ، وَأَنَّ الشَّخْص قَدْ يَعْلَم الشَّيْء وَلَا يَعْمَل بِهِ وَأَنَّ الْكَافِر قَدْ يَصْدُق بِبَعْضِ مَا يَصْدُق بِهِ الْمُؤْمِن وَلَا يَكُون بِذَلِكَ مُؤْمِنًا ، وَبِأَنَّ الْكَذَّاب قَدْ يَصْدُق ، وَبِأَنَّ الشَّيْطَان مِنْ شَأْنه أَنْ يَكْذِب ، وَأَنَّهُ قَدْ يَتَصَوَّر بِبَعْضِ الصُّوَر فَتُمْكِن رُؤْيَته ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ) مَخْصُوص بِمَا إِذَا كَانَ عَلَى صُورَته الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا ، وَأَنَّ مَنْ أُقِيمَ فِي حِفْظ شَيْء سُمِّيَ وَكِيلًا ، وَأَنَّ الْجِنّ يَأْكُلُونَ مِنْ طَعَام الْإِنْس ، وَأَنَّهُمْ يَظْهَرُونَ لِلْإِنْسِ لَكِنْ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُور ، وَأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ الْإِنْس ، وَأَنَّهُمْ يَسْرِقُونَ وَيَخْدَعُونَ ، وَفِيهِ فَضْل آيَة الْكُرْسِيّ وَفَضْل آخَر سُورَة الْبَقَرَة ، وَأَنَّ الْجِنّ يُصِيبُونَ مِنْ الطَّعَام الَّذِي لَا يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ . وَفِيهِ أَنَّ السَّارِق لَا يُقْطَع فِي الْمَجَاعَة ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْقَدْر الْمَسْرُوق لَمْ يَبْلُغ النِّصَاب وَلِذَلِكَ جَازَ لِلصَّحَابِيِّ الْعَفْو عَنْهُ قَبْل تَبْلِيغه إِلَى الشَّارِع . وَفِيهِ قَبُول الْعُذْر وَالسَّتْر عَلَى مَنْ يُظَنّ بِهِ الصِّدْق . وَفِيهِ اِطِّلَاع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُغَيَّبَات . وَوَقَعَ فِي حَدِيث مُعَاذ بْن جَبَل أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ . وَفِيهِ جَوَاز جَمْع زَكَاة الْفِطْر قَبْل لَيْلَة الْفِطْر وَتَوْكِيل الْبَعْض لِحِفْظِهَا وَتَفْرِقَتهَا .

.
وَلِهَذَا إذَا قَرَأَهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ بِصِدْقِ أَبْطَلَتْهَا، مِثْلُ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ بِحَالِ شَيْطَانِيٍّ أَوْ يَحْضُرُ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ ،فَتَنْزِلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ وَتَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ كَلَامًا لَا يُعْلَمُ ،وَرُبَّمَا لَا يُفْقَهُ، وَرُبَّمَا كَاشَفَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ بِمَا فِي قَلْبِهِ ،وَرُبَّمَا تَكَلَّمَ بِأَلْسِنَةِ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ، وَالْإِنْسَانُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ الْحَالُ لَا يَدْرِي بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْرُوعِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ (1)وَلَبِسَهُ وَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهِ، فَإِذَا أَفَاقَ لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءِ مِمَّا قَالَ، وَلِهَذَا قَدْ يُضْرَبُ الْمَصْرُوعُ وَذَلِكَ الضَّرْبُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِنْسِيِّ، وَيُخْبِرُ إذَا أَفَاقَ أَنَّهُ لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءِ، لِأَنَّ الضَّرْبَ كَانَ عَلَى الْجِنِّيِّ الَّذِي لَبِسَهُ .
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَأْتِيه الشَّيْطَانُ بِأَطْعِمَةِ وَفَوَاكِهَ وَحَلْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ،وَمِنْهُمْ مَنْ يَطِيرُ بِهِمْ الْجِنِّيُّ إلَى مَكَّةَ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ غَيْرِهِمَا ،وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ثُمَّ يُعِيدُهُ مِنْ لَيْلَتِهِ فَلَا يَحُجُّ حَجًّا شَرْعِيًّا ؛ بَلْ يَذْهَبُ بِثِيَابِهِ وَلَا يُحْرِمُ إذَا حَاذَى الْمِيقَاتَ وَلَا يُلَبِّي وَلَا يَقِفُ بمزدلفة وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ؛ وَلَا يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَا يَرْمِي الْجِمَارَ، بَلْ يَقِفُ بِعَرَفَةَ بِثِيَابِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَجِّ [ وَلِهَذَا رَأَى بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ الْحُجَّاجَ ] فَقَالَ أَلَا تَكْتُبُونِي ؟ فَقَالُوا لَسْت مِنْ الْحُجَّاجِ . يَعْنِي حَجًّا شَرْعِيًّا .
- - - - - - - - - - - - - - - -
الفرقُ َبَيْنَ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يُشْبِهُهَا مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ (2)
وَبَيْنَ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يُشْبِهُهَا مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فُرُوقٌ مُتَعَدِّدَةٌ :
__________
(1) - قال تعالى :{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) }[البقرة/275]
الذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ - أي المَصْرُوعُ . وَكَانَتِ العَرَبُ تَعْتَقِدُ أنَّ الشَيْطَانَ يَخْبِطُ الإِنْسَانَ فَيَصْرَعُهُ .
(2) - وَأَيْضًا " كَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ " لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى فَمَا كَانَ سَبَبُهُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَهُوَ مِنْ خَوَارِقِ أَعْدَاءِ اللَّهِ لَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَمَنْ كَانَتْ خَوَارِقُهُ لَا تَحْصُلُ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالدُّعَاءِ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ الشِّرْكِ : مِثْلُ دُعَاءِ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ أَوْ بِالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ وَأَكْلِ الْمُحَرَّمَاتِ : كَالْحَيَّاتِ وَالزَّنَابِيرِ وَالْخَنَافِسِ وَالدَّمِ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَمِثْلِ الْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ النِّسْوَةِ الْأَجَانِبِ والمردان وَحَالَةُ خَوَارِقِهِ تَنْقُصُ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتَقْوَى عِنْدَ سَمَاعِ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ فَيَرْقُصُ لَيْلًا طَوِيلًا فَإِذَا جَاءَتْ الصَّلَاةُ صَلَّى قَاعِدًا أَوْ يَنْقُرُ الصَّلَاةَ نَقْرَ الدِّيكِ وَهُوَ يَبْغُضُ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَيَنْفِرُ عَنْهُ وَيَتَكَلَّفُهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ مَحَبَّةٌ وَلَا ذَوْقٌ وَلَا لَذَّةٌ عِنْدَ وَجْدِهِ وَيُحِبُّ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَيَجِدُ عِنْدَهُ مَوَاجِيدَ . فَهَذِهِ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ ؛ وَهُوَ مِمَّنْ يَتَنَاوَلُهُ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } . فَالْقُرْآنُ هُوَ ذِكْرُ الرَّحْمَنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } يَعْنِي تَرَكْت الْعَمَلَ بِهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ كِتَابَهُ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ ؛ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ . مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 302)

مِنْهَا أَنَّ " كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ " سَبَبُهَا الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى، وَ " الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ " سَبَبُهَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (1)(33) سورة الأعراف ،فَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَالشِّرْكُ وَالظُّلْمُ وَالْفَوَاحِشُ قَدْ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ، فَلَا تَكُونُ سَبَبًا لِكَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكَرَامَاتِ عَلَيْهَا فَإِذَا كَانَتْ لَا تَحْصُلُ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، بَلْ تَحْصُلُ بِمَا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ وَبِالْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا شِرْكٌ كَالِاسْتِغَاثَةِ بِالْمَخْلُوقَاتِ، أَوْ كَانَتْ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى ظُلْمِ الْخَلْقِ وَفِعْلِ الْفَوَاحِشِ، فَهِيَ مِنَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ لَا مِنْ الْكَرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ .
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا حَضَرَ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ حَتَّى يَحْمِلَهُ فِي الْهَوَاءِ وَيُخْرِجَهُ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ، فَإِذَا حَصَلَ رَجُلٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْدَ شَيْطَانِهِ فَيَسْقُطُ كَمَا جَرَى هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ .
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِمَخْلُوقِ إمَّا حَيٌّ أَوْ مَيِّتٌ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْحَيُّ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مُشْرِكًا فَيَتَصَوَّرُ الشَّيْطَانُ بِصُورَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ وَيَقْضِي بَعْضَ حَاجَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغِيثِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَوْ هُوَ مَلَكٌ عَلَى صُورَتِهِ ،وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ أَضَلَّهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ كَمَا كَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَدْخُلُ الْأَصْنَامَ وَتُكَلِّمُ الْمُشْرِكِينَ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَصَوَّرُ لَهُ الشَّيْطَانُ وَيَقُولُ لَهُ : أَنَا الْخَضِرُ، وَرُبَّمَا أَخْبَرَهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ وَأَعَانَهُ عَلَى بَعْضِ مَطَالِبِهِ كَمَا قَدْ جَرَى ذَلِكَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَثِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَمُوتُ لَهُمُ الْمَيِّتُ فَيَأْتِي الشَّيْطَانُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى صُورَتِهِ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ ذَلِكَ الْمَيِّتُ وَيَقْضِي الدُّيُونَ وَيَرُدُّ الْوَدَائِعَ وَيَفْعَلُ أَشْيَاءَ تَتَعَلَّقُ بِالْمَيِّتِ، وَيَدْخُلُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَيَذْهَبُ ،وَرُبَّمَا يَكُونُونَ قَدْ أَحْرَقُوا مَيِّتَهُمْ بِالنَّارِ كَمَا تَصْنَعُ كُفَّارُ الْهِنْدِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَمِنْ هَؤُلَاءِ شَيْخٌ كَانَ بِمِصْرِ أَوْصَى خَادِمَهُ فَقَالَ : إذَا أَنَا مُتّ فَلَا تَدَعُ أَحَدًا يُغَسِّلُنِي فَأَنَا أَجِيءُ وَأُغَسِّلُ نَفْسِي فَلَمَّا مَاتَ رأَى خَادِمُهُ شَخْصًا فِي صُورَتِهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ دَخَلَ وَغَسَّلَ نَفْسَهُ، فَلَمَّا قَضَى ذَلِكَ الدَّاخِلُ غُسْلَهُ - أَيْ غُسْلَ الْمَيِّتِ - غَابَ ،وَكَانَ ذَلِكَ شَيْطَانًا، وَكَانَ قَدْ أَضَلَّ الْمَيِّتَ وَقَالَ : إنَّك بَعْدَ الْمَوْتِ تَجِيءُ فَتُغَسِّلُ نَفْسَك فَلَمَّا مَاتَ جَاءَ أَيْضًا فِي صُورَتِهِ لِيُغْوِيَ الْأَحْيَاءَ كَمَا أَغْوَى الْمَيِّتَ قَبْلَ ذَلِكَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى عَرْشًا فِي الْهَوَاءِ وَفَوْقَهُ نُورٌ وَيَسْمَعُ مَنْ يُخَاطِبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا رَبُّك، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عَلِمَ أَنَّهُ شَيْطَانٌ فَزَجَرَهُ وَاسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ مِنْهُ فَيَزُولُ .
__________
(1) - قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَافْتَرُوْا عَلَى اللهِ الكَذِبَ ، فَزَعَمُوا أَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِن كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِم الزِّينَةَ : إِنَّ اللهَ لَمْ يُحَرِّمْ فِيمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ إلاَّ الأُمُ رَ التَّاليةَ .
أ - الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ( كَالزِّنَى وَالمَعَاصِي الأُخْرَى ) .
ب - الإِثْمَ - وَهُوَ المَعْصِيَةُ .
ج - البَغْيَ عَلَى النَّاسِ ، وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ .
د - وَحَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُشْرِكُوا مَعَهُ أَحَداً فِي عِبَادَتِهِ .
ه - وَأَنْ يَفْتَرُوا عَلَى اللهِ وَيَكْذِبُوا ، وَأَنْ يَقُولُوا عَلَيْهِ مَا لا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ ( كَقِوْلِهِمْ إنَّ لَهُ وَلَداً أَوْ نَحْوَ ذلِكَ . . . ) .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَشْخَاصًا فِي الْيَقَظَةِ يَدَّعِي أَحَدُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَيْخٌ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَقَدْ جَرَى هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ بَعْضَ الْأَكَابِرِ : إمَّا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ غَيْرُهُ قَدْ قَصَّ شَعْرَهُ أَوْ حَلَقَهُ أَوْ أَلْبَسَهُ طَاقِيَّتَهُ أَوْ ثَوْبَهُ، فَيُصْبِحُ وَعَلَى رَأْسِهِ طَاقِيَّةٌ وَشَعَرُهُ مَحْلُوقٌ أَوْ مُقَصَّرٌ ،وَإِنَّمَا الْجِنُّ قَدْ حَلَقُوا شَعْرَهُ أَوْ قَصَّرُوهُ ،وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ تَحْصُلُ لِمَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمْ دَرَجَاتٌ ،وَالْجِنُّ الَّذِينَ يَقْتَرِنُونَ بِهِمْ مِنْ جِنْسِهِمْ ،وَهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَالْجِنُّ فِيهِمُ الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ وَالْمُخْطِئُ، فَإِنْ كَانَ الْإِنْسِيُّ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ جَاهِلًا دَخَلُوا مَعَهُ فِي الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالضَّلَالِ وَقَدْ يُعَاوِنُونَهُ إذَا وَافَقَهُمْ عَلَى مَا يَخْتَارُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ مِثْلُ الْإِقْسَامِ عَلَيْهِمْ بِأَسْمَاءِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْجِنِّ وَغَيْرِهِمْ ،وَمِثْلُ أَنْ يَكْتُبَ أَسْمَاءَ اللَّهِ أَوْ بَعْضَ كَلَامِهِ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ يَقْلِبَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أَوْ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ أَوْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ أَوْ غَيْرَهُنَّ ،وَيَكْتُبَهُنَّ بِنَجَاسَةِ فَيُغَوِّرُونَ لَهُ الْمَاءَ وَيَنْقُلُونَهُ بِسَبَبِ مَا يُرْضِيهِمْ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ . وَقَدْ يَأْتُونَهُ بِمَا يَهْوَاهُ مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ إمَّا فِي الْهَوَاءِ وَإِمَّا مَدْفُوعًا مَلْجَأً إلَيْهِ . إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَطُولُ وَصْفُهَا، وَالْإِيمَانُ بِهَا إيمَانٌ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ . وَالْجِبْتُ السِّحْرُ وَالطَّاغُوتُ الشَّيَاطِينُ وَالْأَصْنَامُ .
وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَمْ يُمْكِنْهُمُ الدُّخُولُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ مُسَالَمَتُهُ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْرُوعَةُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ بُيُوتُ اللَّهِ كَانَ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ أَبْعَدَ عَنِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ (1)وَكَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ يُعَظِّمُونَ الْقُبُورَ وَمَشَاهِدَ الْمَوْتَى، فَيَدْعُونَ الْمَيِّتَ أَوْ يَدْعُونَ بِهِ ،أَوْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَهُ مُسْتَجَابٌ أَقْرَبُ إلَى الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ « لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا » . قَالَتْ وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّى أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا .(2)
__________
(1) - لاشك أن للمسجد أهمية عظيمة في نشر الإسلام وتوعية المسلمين واجتماعهم وتآلفهم وتفقد حال من يحتاج إلى إعانة، فهو مجمع الفضائل ومحل العبادة، وقد شهد الله لمن يعمره بالطاعة بالإيمان فقال: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ {التوبة: 18}. وأثنى الله عز وجل على عمار المساجد بالطاعات والذكر فقال: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رجال ..{النور:36}. وحث على عمارته الحسية، وأخبر أن من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة.
ولأهمية المسجد فقد كان من أول ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قدومه المدينة هو بناؤه للمسجد، وقد كان مأوى للضعفاء أصحاب الصفة ومن أصيب بهم أو غيره، فعن أبي سعيد الخدري قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: يا أبا أمامة، ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك! قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني . ولا ينكر أهمية المسجد في الإسلام إلا جاهل أو مكابر. والله أعلم.
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 1824) =رقم الفتوى 62176 المسجد ودوره في حياة الأمة الإسلامية =تاريخ الفتوى : 07 ربيع الثاني 1426
(2) - صحيح البخارى(1330 ) ومسلم (1212 )
فتح الباري لابن رجب - (ج 3 / ص 217)
قال الشافعي - رحمه الله - : وأكره أن يعظم مخلوق حتى يتخذ قبره مسجدا ، خشية الفتنة عليه وعلى من بعده .
وقال صاحب ((التنبيه)) من أصحابه : أما الصلاة عند رأس قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوجها إليه فحرام .
قال القرطبي : بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأعلوا حيطان تربته ، وسدوا الداخل إليها ، وجعلوها محدقة بقبره - صلى الله عليه وسلم - ، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذ كان مستقبل المصلين فتتصور إليه الصلاة بصورة العبادة ، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين ، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال ، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره . ولهذا المعنى قالت عائشة : ولو لا ذلك لأبرز قبره .

وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي جُنْدُبٌ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ كَانَ لِي فِيكُمْ إِخْوَةٌ وَأَصْدِقَاءُ، وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلا، أَلا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ.(1)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ - أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ - بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ » (2).
وَفِي الْمُسْنَدِ وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ».(3)
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى مَرْثَدٍ الْغَنَوِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لاَ تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلاَ تُصَلُّوا إِلَيْهَا ». (4)
وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِى وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ».(5)
__________
(1) - صحيح مسلم (1216 ) ومسند أبي عوانة (928 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 2 / ص 292)
قَالَ الْعُلَمَاء : إِنَّمَا نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اِتِّخَاذ قَبْره وَقَبْر غَيْره مَسْجِدًا خَوْفًا مِنْ الْمُبَالَغَة فِي تَعْظِيمه وَالِافْتِتَان بِهِ ، فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْكُفْر كَمَا جَرَى لِكَثِيرٍ مِنْ الْأُمَم الْخَالِيَة . وَلَمَّا اِحْتَاجَتْ الصَّحَابَة - رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَالتَّابِعُونَ إِلَى الزِّيَادَة فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَامْتَدَّتْ الزِّيَادَة إِلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوت أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ ، وَمِنْهَا حُجْرَة عَائِشَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - مَدْفِن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْر وَعُمَر - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا - بَنَوْا عَلَى الْقَبْر حِيطَانًا مُرْتَفِعَة مُسْتَدِيرَة حَوْله لِئَلَّا يَظْهَر فِي الْمَسْجِد ، فَيُصَلِّي إِلَيْهِ الْعَوَامّ وَيُؤَدِّي الْمَحْذُور ، ثُمَّ بَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيْ الْقَبْر الشَّمَالِيَّيْنِ ، وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى اِلْتَقَيَا حَتَّى لَا يَتَمَكَّن أَحَد مِنْ اِسْتِقْبَال الْقَبْر ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيث : لَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْره ، غَيْر أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ .
(2) - صحيح البخارى (434 ) ومسلم (1209 )
وفي شرح سنن النسائي - (ج 1 / ص 494)
قَالَ الْبَيْضَاوِيّ : لَمَّا كَانَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى يَسْجُدُونَ لِقُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمْ وَيَجْعَلُونَهَا قِبْلَة يَتَوَجَّهُونَ فِي الصَّلَاة نَحْوهَا وَاِتَّخَذُوهَا أَوْثَانًا لَعَنَهُمْ وَمَنَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِثْل ذَلِكَ فَأَمَّا مَنْ اِتَّخَذَ مَسْجِدًا فِي جِوَار صَالِح وَقَصَدَ التَّبَرُّك بِالْقُرْبِ مِنْهُ لَا التَّعْظِيم لَهُ ، وَلَا التَّوَجُّه نَحْوه فَلَا يَدْخُل فِي ذَلِكَ الْوَعِيد
(3) - مسند أحمد (3921) وصحيح ابن حبان (6973 )صحيح
(4) - صحيح مسلم(2294)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 394)
فِيهِ تَصْرِيح بِالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاة إِلَى قَبْر . قَالَ الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّه - : وَأَكْرَه أَنْ يُعَظَّم مَخْلُوق حَتَّى يُجْعَل قَبْره مَسْجِدًا مَخَافَة الْفِتْنَة عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ بَعْده مِنْ النَّاس .
(5) - موطأ مالك( 419 ) مرسلا ووصله أحمد ( 7561) وهو صحيح
وفي المنتقى - شرح الموطأ - (ج 1 / ص 426)376 -
( ش ) : دُعَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يُجْعَلَ قَبْرُهُ وَثَنًا يُعْبَدُ تَوَاضُعًا وَالْتِزَامًا لِلْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِقْرَارًا بِالْعِبَادَةِ وَكَرَاهِيَةً أَنْ يُشْرِكَهُ أَحَدٌ فِي عِبَادَتِهِ وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لِذَلِكَ كَرِهَ أَنْ يُدْفَنَ فِي الْمَسْجِدِ وَهَذَا وَجْهٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُإِذَا دُفِنَ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا فَرُبَّمَا صَارَ مِمَّا يُعْبَدُ
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ يُرِيدُ أَنَّهُ أَرَادَ عَذَابَ قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ تَحْذِيرًا مِمَّا صَنَعَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ ذَلِكَ .
( مَسْأَلَةٌ ) وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيمَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ فَغَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْمَقَابِرِ الَّتِي دُرِسَتْ وَغُيِّرَتْ قَالَ وَإِنَّمَا هِيَ مِثْلُ غَيْرِهَا مِنْ الْأَرْضِينَ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّالْمُؤْمِنَ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ لَا يُصَلَّى فِي الْمَقَابِرِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا النَّبْشُ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ .
( مَسْأَلَةٌ ) فَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ نَصَّالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَابُقْعَةٌ خُصَّتْ بِأَهْلِ الْعَذَابِ وَسَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى فَشُرِعَ اجْتِنَابُهَا كَمَا شُرِعَ تَحَرِّي مَوَاضِعِ الصَّالِحِينَ وَلِذَلِكَ كَانَ يَتَحَرَّى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَالنَّاسُ بَعْدَهُ مَوْضِعَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُصَلُّونَ فِيهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11