كتاب : الفرقانُ بينَ أولياءِ الرَّحمَنِ وأولياءِ الشَّيْطانِ
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ عَلَى تَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ (1). لَكِنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ تَصِحُّ عِبَادَاتُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ (2). وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ عِبَادَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ (3). وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ ؛ بَلْ لَا يَصْلُحُ هُوَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ لِأُمُورِ الدُّنْيَا كَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ . فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَزَّازًا وَلَا عَطَّارًا وَلَا حَدَّادًا وَلَا نَجَّارًا وَلَا تَصِحُّ عُقُودُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَلَا نِكَاحُهُ وَلَا طَلَاقُهُ وَلَا إقْرَارُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ . وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ بَلْ أَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ . بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَإِنَّ لَهُ أَقْوَالًا مُعْتَبَرَةً فِي مَوَاضِعَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَفِي مَوَاضِعَ فِيهَا نِزَاعٌ .
وَإِذَا كَانَ الْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَلَا التَّقْوَى وَلَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ ؛ لَا سِيَّمَا أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ إمَّا مُكَاشَفَةُ(4)
__________
(1) - قال الترمذي : وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.سنن الترمذى (1488)
(2) - انظر الموسوعة الفقهية الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 27 / ص 20)فما بعد
(3) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 16 / ص 99)فما بعد
(4) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 613)
وَمَا يَحْصُلُ مِنْ نَوْعِ الْمُكَاشَفَةِ وَالتَّصَرُّفِ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " مَلَكِيٌّ وَنَفْسِيٌّ وَشَيْطَانِيٌّ فَإِنَّ الْمَلَكَ لَهُ قُوَّةٌ وَالنَّفْسَ لَهَا قُوَّةٌ وَالشَّيْطَانَ لَهُ قُوَّةٌ وَقَلْبَ الْمُؤْمِنِ لَهُ قُوَّةٌ . فَمَا كَانَ مِنْ الْمَلَكِ وَمِنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا كَانَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَةِ النَّفْسِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَدْ اشْتَبَهَ هَذَا بِهَذَا عَلَى طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ بَلْ صَارُوا يَظُنُّونَ فِي مَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ - أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ - أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَلِهَذَا فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَرَى جَوَازَ قِتَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْأَنْوَاعِ الشَّيْطَانِيَّةِ والنفسانية مَا ظَنُّوا أَنَّهَا مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ . وَأَصْلُ هَذَا أَنَّهُمْ تَعَبَّدُوا بِمَا تُحِبُّهُ النَّفْسُ ؛ وَأَمَّا الْعِبَادَةُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ فَلَا يُحِبُّونَهُ وَلَا يُرِيدُونَهُ وَحْدَهُ وَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ إذَا عَبَدُوا اللَّهَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَرُسُلُهُ حَطَّ لَهُمْ عَنْ مَنْصِبِ الْوِلَايَةِ فَيُحْدِثُونَ مَحَبَّةً قَوِيَّةً وَتَأَلُّهًا وَعِبَادَةً وَشَوْقًا وَزُهْدًا ؛ وَلَكِنْ فِيهِ شِرْكٌ وَبِدْعَةٌ . وَمَحَبَّةُ " التَّوْحِيدِ " إنَّمَا تَكُونُ لِلَّهِ وَحْدَهُ عَلَى مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } فَلِهَذَا يَكُونُ أَهْلُ الِاتِّبَاعِ فِيهِمْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ فِي مَحَبَّتِهِمْ ؛ يُحِبُّونَ لِلَّهِ وَيَبْغَضُونَ لَهُ . وَهُمْ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ . وَاَلَّذِينَ مَعَهُ { إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } وَأُولَئِكَ مَحَبَّتُهُمْ فِيهَا شِرْكٌ وَلَيْسُوا مُتَابِعِينَ لِلرَّسُولِ وَلَا مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَيْسَتْ هِيَ الْمَحَبَّةُ الإخلاصية . فَإِنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالتَّوْحِيدِ . وَلِهَذَا سَمَّى أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ كِتَابَهُ " قُوتَ الْقُلُوبِ فِي مُعَامَلَةِ الْمَحْبُوبِ وَوَصْفِ طَرِيقِ الْمُرِيدِ إلَى مَقَامِ التَّوْحِيدِ " وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وفي الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي - (ج 1 / ص 730)
مطلب في الفرق بين الحقيقة والشريعة
وسئل نفع الله به : عن حقيقة الفرق بين الحقيقة والشريعة ؟ .
فأجاب بقوله : فرق بينهما بفروق : منها أن الحقيقة هي مشاهدة أسرار الربوبية ولها طريقة هي عزائم الشريعة ونهاية الشيء غير مخالفة له على ما يأتي ، فالشريعة هي الأصل ومن ثم شبهت بالبحر والمعدن واللبن والشجرة ، والحقيقة هي الفرع المستخرج من الشريعة ومن ثم شبهت بالدر والتبر والزيدة والثمرة ، ومعنى سلب المخالفة لخما المذكور أنه لس بينهما اختلاف في مجاري أحكام العبودية وإنما يختلفان في مشاهدة أسرار الربوبية ، ولا شك أن أهلهما متفاوتون في الاعتناء والاهتمام بعلم صفات القلب والأخذ بعزائم الأحكام وليس ذلك اختلافا بينهما ، وبين ذلك اليافعي رحمه الله بأن الشريعة علم وعمل ، والعلم ظاهر وباطن ، والظاهر شرعي وغيره ، والشرعي فرض ومندوب ، والفرض عين وكفاية ، والعين علم صفات القلب وعلم أصل وعلم فرع ، والعمل عزائم ورخص ، والحقيقة مشتملة على قسمين علم وعمل ، والعلم وهبي وكسبي ، فالوهبي علم المكاشفة والكسبي فرض عين وفرض كفاية وفرض العين علم القلب وعلم أصل وعلم فرع ، فالكسبي الذي هو أحد علم نوعي قسمي الحقيقة هو علم الشريعة والعمل الذي هو العزائم مشتمل على سلوك طريق الحقيقة ، والطريقة مشتملة على منازل السالكين وتسمى مقامات اليقين ، والحقيقة موافقة للشريعة في جميع علمها وعملها أصولها وفروعها وفرضها ومندوبها ليس بينهما مخالفة أصلا ، نعم هنا شيئان : أحدهما علم صفا تالقلب فأهل الحقيقة لهم به اهتمام واعتناء جدا وسلوك طريقتهم موقوف على معرفته وتبديل صفاته الذميمة ، وأكثر أهل الشريعة يهملون ذلك ويتهاونون به مع كونه فرض عين في الشريعة والحقيقة بلا خلاف ، والثاني الرخص فأهل الحقيقة من حيث العلم والاعتقاد لا يشكون في حقيقتها وأنها من رحمة الله عباده ، وأما من حيث علمهم فإنما يسلكون شوامخ عزائم الشريعة الغراء إلى الله بتوفيقه وعنايته وجميل لطفه وصيانته ، فمنهم من لا يقطعها إلا في سبعين سنة ومنهم من يقطعها في ساعة واحدة بحسب معونة الله وتسهيله .

سَمْعِهَا مِنْهُ أَوْ نَوْعٌ مِنْ تَصَرُّفٍ مِثْلِ أَنْ يَرَاهُ قَدْ أَشَارَ إلَى وَاحِدٍ فَمَاتَ أَوْ صُرِعَ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ - مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ - لَهُمْ مُكَاشَفَاتٌ وَتَصَرُّفَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ كَالْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ وَعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ وَلِيًّا لِلَّهِ ،وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ وِلَايَةَ اللَّهِ فَكَيْفَ إذَا عُلِمَ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ وِلَايَةَ اللَّهِ ؛مِثْلُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ الشَّرْعَ الظَّاهِرَ دُونَ الْحَقِيقَةِ الْبَاطِنَةِ . أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ . أَوْ يَقُولُ : إنَّ الْأَنْبِيَاءَ ضَيَّقُوا الطَّرِيقَ(1) أَوْ هُمْ عَلَى قُدْوَةِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ، فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ . فَضْلًا عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
__________
(1) - وفي مدارج السالكين - (ج 7 / ص 57)
وأما الاتحاديه فالتوحيد عندهم أن الحق المنزه هو عين الخلق المشبه ،وأنه سبحانه هو عين وجود كل موجود وحقيقته وماهيته وأنه آية كل شيء وله فيه آية تدل على أنه عينه وهذا عند محققيهم من خطإ التعبير بل هو نفس الآية ونفس الدليل ونفس المستدل ونفس المستدل عليه فالتعدد بوجود اعتبارات وهمية لا بالحقيقة والوجود فهو عندهم عين الناكح وعين المنكوح وعين الذابح وعين المذبوح وعين الآكل وعين المأكول وهذا عندهم هو السر الذي رمزت إليه هوامس الدهور الأولية ورامت إفادته الهداية النبوية كما قاله محققهم وعارفهم ابن سبعين
ومن فروع هذا التوحيد أن فرعون وقومه مؤمنون كاملوا الإيمان عارفون بالله على الحقيقة ومن فروعه أن عباد الأصنام على الحق والصواب وأنهم إنما عبدوا عين الله سبحانه لا غيره ومن فروعه أن الحق أن لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية ولا فرق بين الماء والخمر والزنا والنكاح الكل من عين واحدة بل هو العين الواحدة وإنما المحجوبون عن هذا السر قالوا هذا حرام وهذا حلال نعم هو حرام عليكم لأنكم في حجاب عن حقيقة هذا التوحيد ومن فروعه أن الأنبياء ضيقوا الطريق على الناس وبعدوا عليهم المقصود والأمر وراء ما جاءوا به ودعوا إليه

فَمَنِ احْتَجَّ بِمَا يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ عَلَى وِلَايَتِهِمْ كَانَ أَضَلَّ مِنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ ؛ فَإِنَّ كَوْنَهُ مَجْنُونًا يُنَاقِضُ أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ ،وَمَنْ كَانَ يَجُنُّ أَحْيَانًا وَيُفِيقُ أَحْيَانًا إذَا كَانَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ ؛ فَهَذَا إذَا جُنَّ لَمْ يَكُنْ جُنُونُهُ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُثِيبَهُ اللَّهُ عَلَى إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ الَّذِي أَتَى بِهِ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ وَيَكُونُ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ بَعْدَ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ وَيَأْجُرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ . وَلَا يُحْبِطُهُ بِالْجُنُونِ الَّذِي اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ فَعَلَهُ، وَالْقَلَمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ . فَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَظْهَرَ الْوِلَايَةَ وَهُوَ لَا يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَلَا يَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ، بَلْ قَدْ يَأْتِي بِمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ هَذَا وَلِيٌّ لِلَّهِ فَإِنَّ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مَجْنُونًا ؛ بَلْ كَانَ مُتَوَلِّهًا(1) مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ كَانَ يَغِيبُ عَقْلُهُ بِالْجُنُونِ تَارَةً وَيُفِيقُ أُخْرَى وَهُوَ لَا يَقُومُ بِالْفَرَائِضِ بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا قَدْ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْقَلَمُ ؛ فَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَاقَبًا عُقُوبَةَ الْكَافِرِينَ فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَحِقًّا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَجُوزُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ ،وَلَكِنْ إنْ كَانَ لَهُ حَالَةٌ فِي إفَاقَتِهِ كَانَ فِيهَا مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ مُتَّقِيًا كَانَ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ فِيهِ كُفْرٌ أَوْ نِفَاقٌ أَوْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ فَهَذَا فِيهِ مِنِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ ،وَجُنُونُهُ لَا يُحْبِطُ عَنْهُ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ حَالَ إفَاقَتِهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ نِفَاقٍ .
- - - - - - - - - - - - - - - - -
لا يتميَّزُ أولياءُ الله عن الناس في الظاهر بشيءٍ
__________
(1) - ( وله ) الوَلَهُ الحزن وقيل هو ذهاب العقل والتحير من شدّة الوجد أَو الحزن أَو الخوف والوَلَهُ ذهاب العقل لفِقْدانِ الحبيب "لسان العرب - (ج 13 / ص 561)

وَلَيْسَ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ شَيْءٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ النَّاسِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُبَاحَاتِ، فَلَا يَتَمَيَّزُونَ بِلِبَاسِ دُونَ لِبَاسٍ إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُبَاحًا، وَلَا بِحَلْقِ شَعْرٍ أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ ظَفْرِهِ إذَا كَانَ مُبَاحًا، كَمَا قِيلَ : كَمْ مِنْ صِدِّيقٍ فِي قَبَاءٍ وَكَمْ مِنْ زِنْدِيقٍ فِي عَبَاءٍ ؛ بَلْ يُوجَدُونَ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الظَّاهِرَةِ وَالْفُجُورِ(1) ،فَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْجِهَادِ وَالسَّيْفِ وَيُوجَدُونَ فِي التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ وَالزُّرَّاعِ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَصْنَافَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (20) (2)سورة المزمل .
وَكَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الدِّينِ وَالْعِلْمِ " الْقُرَّاءَ " فَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْعُلَمَاءُ وَالنُّسَّاكُ ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْمُ " الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ " .
وَاسْمُ " الصُّوفِيَّةِ " هُوَ نِسْبَةٌ إلَى لِبَاسِ الصُّوفِ (3)؛ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى صَفْوَةِ الْفُقَهَاءِ وَقِيلَ إلَى صُوفَةَ بْنِ أد بْنِ طانجة قَبِيلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالنُّسُكِ، وَقِيلَ إلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَقِيلَ إلَى الصَّفَا ،وَقِيلَ إلَى الصَّفْوَةِ ،وَقِيلَ إلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ صفيٌّ أَوْ صَفَائِيٌّ أَوْ صفويٌّ أَوْ صِفِّيٌّ وَلَمْ يَقُلْ صُوفِيٌّ .
وَصَارَ أَيْضًا اسْمُ " الْفُقَرَاءِ (4)
__________
(1) - أي المعاصي
(2) - إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَقَلَّ مِنْ ثُلْثَي اللَّيْلِ ، وَأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِ ، وَتَقُومُ النِّصْفَ ، وَتَقُومُ الثُّلُثَ ، أَنْتَ وَطَائِفَةٌ مِنَ أَصْحَابِكَ المُؤْمِنِينَ ، حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ قِيَامُ اللَّيْلِ . وَلاَ يَعْلَمُ مَقَادِيرَ اللَّيْلِ والنَّهَارِ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنْتُمْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ ضَبْطَ المَوَاقِيتِ ، وَإِحْصَاءَ السَّاعَاتِ ، فَتَابَ عَلَيْكُمْ بِأَنْ رَخَّصَ لَكُمْ تَرْكَ القِيَامِ المُقَدَّرِ ، وَعَفَا عَنْكُمْ ، وَرَفَعَ عَنْكُمْ هَذِهِ المَشَقَّةَ ، فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ لَكُمْ مِنَ الصَّلاَةِ فِي اللَّيْلِ ، وَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ فِيهَا ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَكُمْ ذَوُوا أَعْذَارٍ لاَ يَسْتَطِيعُونَ مَعَهَا القِيَامَ بِاللَّيْلِ ، كَالمَرَضِ والسَّفَرِ وَابْتِغَاءِ الرِّزْقِ ( الضَّرْبِ فِي الأَرْضِ ) وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَهَؤُلاَءِ إِذَا لَمْ يَنَامُوا اللَّيْلَ تَعِبَتْ أَجْسَادُهُمْ ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا القِيَامَ بِوَاجِبِهِمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ ، وَصَلُّوا الصَّلاَةِ المَفْرُوضَةَ ، وَقُومُوهَا فَلاَ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ غَافِلَةً ، وَآتُوا الزَّكَاةَ الوَاجِبَةَ عَلَيْكُمْ ، وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فِي أَوْجُهِ الطَّاعَاتِ ، وَسَيَجْعَلُ رَبُّكُمْ هَذَا الإِنْفَاقَ بِمَثَابَةِ القَرْضِ لَهُ ، وَسَيَجْزِيكُمْ فِي الآخِرَةِ أَحْسَنَ الجَزَاءِ ، وَمَا تُقَدِّمُوا فِي الدُّنْيَا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ فَعْلِ خَيْرٍ فَإِنَّكُمْ وَاجِدُونَ ثَوَابَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى ، وَاسْتَغْفِرُو اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
(3) - وفي الأَساس : وآل صَوْفانَ : كانُوا يَخْدُمونَ الكعبةَ وَيَتَنَسَكُونَ ولَعَلَّ الصُّوفِيّةَ نُسِبَتْ إِليهم تَشْبيهاً بهم في التَّنَسُّكِ والتَّعَبُّدِ أَو إِلى أَهْلِ الصُّفَّةِ فيُقالُ مكان الصُّفِّيَةِ : الصُّوفِيَّةُ بقلبِ إِحْدَى الفائَين واواً للتَّخْفِيفِ أَو إِلى الصُّوفِ الذي هو لِباسُ العُبّادِ وأَهْلِ الصَّوامِعِ .تاج العروس - (ج 1 / ص 5970)
(4) - قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (15) سورة فاطر
وَأَمَّا الْمُسْتَأْخِرُونَ فَـ " الْفَقِيرُ " فِي عُرْفِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ السَّالِكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ " الصُّوفِيُّ " فِي عُرْفِهِمْ أَيْضًا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ مُسَمَّى " الصُّوفِيِّ " عَلَى مُسَمَّى " الْفَقِيرِ " لِأَنَّهُ عِنْدَهُ الَّذِي قَامَ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ مُسَمَّى الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ الَّذِي قَطَعَ الْعَلَائِقَ وَلَمْ يَشْتَغِلْ فِي الظَّاهِرِ بِغَيْرِ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ وَهَذِهِ مُنَازَعَاتٌ لَفْظِيَّةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ الْمُرَادَ الْمَحْمُودَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الصِّدِّيقِ وَالْوَلِيِّ وَالصَّالِحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَمِنْ حَيْثُ دَخَلَ فِي الْأَسْمَاءِ النَّبَوِيَّةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّسَالَةُ وَأَمَّا مَا تَمَيَّزَ بِهِ مِمَّا يَعُدُّهُ صَاحِبُهُ فَضْلًا وَلَيْسَ بِفَضْلِ أَوْ مِمَّا يُوَالِي عَلَيْهِ صَاحِبُهُ غَيْرَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا زِيَادَةُ الدَّرَجَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَهِيَ أُمُورٌ مُهْدَرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ إلَّا إذَا جُعِلَتْ مِنْ الْمُبَاحَاتِ كَالصِّنَاعَاتِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ بِشَرْطِ أَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ تِلْكَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَحَبَّاتِ . وَأَمَّا مَا يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ فِي دِينِ اللَّهِ : مِنْ أَنْوَاعِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ . فَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ .مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 70)

" يَعْنِي بِهِ أَهْلَ السُّلُوكِ ،وَهَذَا عُرْفٌ حَادِثٌ ،وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ أَيُّمَا أَفْضَلُ مُسَمًّى " الصُّوفِيُّ " أَوْ مُسَمَّى " الْفَقِيرِ (1)
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 5- 24) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 442)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنْ " الصُّوفِيَّةِ " وَأَنَّهُمْ أَقْسَامٌ " وَالْفُقَرَاءُ " أَقْسَامٌ فَمَا صِفَةُ كُلِّ قِسْمٍ ؟ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْلُكَهُ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا لَفْظُ " الصُّوفِيَّةِ " فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَإِنَّمَا اُشْتُهِرَ التَّكَلُّمُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ نُقِلَ التَّكَلُّمُ بِهِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالشُّيُوخِ : كَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَغَيْرِهِمَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَتَنَازَعُوا فِي " الْمَعْنَى " الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الصُّوفِيُّ - فَإِنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّسَبِ : كَالْقُرَشِيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَقِيلَ : إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى " أَهْلِ الصُّفَّةِ " وَهُوَ غَلَطٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ : صفي . وَقِيلَ نِسْبَةٌ إلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَهُوَ أَيْضًا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ : صفي . وَقِيلَ نِسْبَةٌ إلَى الصَّفْوَةِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَهُوَ غَلَطٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ : صفوي وَقِيلَ : نِسْبَةٌ إلَى صُوفَةَ بْنِ بِشْرِ بْنِ أد بْنِ طانجة قَبِيلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يُجَاوِرُونَ بِمَكَّةَ مِنْ الزَّمَنِ الْقَدِيمِ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ النُّسَّاكُ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلنَّسَبِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَشْهُورِينَ وَلَا مَعْرُوفِينَ عِنْدَ أَكْثَرِ النُّسَّاكِ وَلِأَنَّهُ لَوْ نُسِبَ النُّسَّاكُ إلَى هَؤُلَاءِ لَكَانَ هَذَا النَّسَبُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ أَوْلَى وَلِأَنَّ غَالِبَ مَنْ تَكَلَّمَ بِاسْمِ " الصُّوفِيِّ " لَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْقَبِيلَةَ وَلَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى قَبِيلَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْإِسْلَامِ . وَقِيلَ : - وَهُوَ الْمَعْرُوفُ - إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى لُبْسِ الصُّوفِ ؛ فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا ظَهَرَتْ الصُّوفِيَّةُ مِنْ الْبَصْرَةِ وَأَوَّلُ مَنْ بَنَى دويرة الصُّوفِيَّةِ بَعْضُ أَصْحَابِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ وَكَانَ فِي الْبَصْرَةِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْخَوْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي سَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ : فِقْهٌ كُوفِيٌّ وَعِبَادَةٌ بَصْرِيَّةٌ . وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا يُفَضِّلُونَ لِبَاسَ الصُّوفِ فَقَالَ : إنَّ قَوْمًا يَتَخَيَّرُونَ الصُّوفَ يَقُولُونَ : إنَّهُمْ مُتَشَبِّهُونَ بِالْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَهَدْيُ نَبِيِّنَا أَحَبُّ إلَيْنَا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ الْقُطْنَ وَغَيْرَهُ أَوْ كَلَامًا نَحْوًا مِنْ هَذَا . وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يُحْكَى مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا الْبَابِ إنَّمَا هُوَ عَنْ عُبَّادِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِثْلُ حِكَايَةِ مَنْ مَاتَ أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِ فِي سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ . كَقِصَّةِ زرارة بْنِ أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ : { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } فَخَرَّ مَيِّتًا وَكَقِصَّةِ أَبِي جَهِيرٍ الْأَعْمَى الَّذِي قَرَأَ عَلَيْهِ صَالِحُ المري فَمَاتَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ رُوِيَ أَنَّهُمْ مَاتُوا بِاسْتِمَاعِ قِرَاءَتِهِ وَكَانَ فِيهِمْ طَوَائِفُ يُصْعَقُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ هَذَا حَالُهُ ؛ فَلَمَّا ظَهَرَ ذَلِكَ أَنْكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : كَأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سيرين وَنَحْوِهِمْ . وَالْمُنْكِرُونَ لَهُمْ مَأْخَذَانِ : مِنْهُمْ مَنْ ظَنَّ ذَلِكَ تَكَلُّفًا وَتَصَنُّعًا . يُذْكَرُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين أَنَّهُ قَالَ : مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُصْعَقُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إلَّا أَنْ يُقْرَأَ عَلَى أَحَدِهِمْ وَهُوَ عَلَى حَائِطٍ فَإِنْ خَرَّ فَهُوَ صَادِقٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَآهُ بِدْعَةً مُخَالِفًا لِمَا عُرِفَ مِنْ هَدْيِ الصَّحَابَةِ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَسْمَاءَ وَابْنِهَا عَبْدِ اللَّهِ . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ إذَا كَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ حَالُ الثَّابِتِ أَكْمَلَ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ هَذَا . فَقَالَ : قُرِئَ الْقُرْآنُ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَلَوْ قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ لَدَفَعَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فَمَا رَأَيْت أَعْقَلَ مِنْهُ وَنَحْوَ هَذَا . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَصَابَهُ ذَلِكَ وَعَلِيُّ بْنُ الفضيل بْنِ عِيَاضٍ قِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا كَثِيرٌ مِمَّنْ لَا يُسْتَرَابُ فِي صِدْقِهِ . لَكِنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي كَانَتْ فِي الصَّحَابَةِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ وَهِيَ وَجَلُ الْقُلُوبِ وَدُمُوعُ الْعَيْنِ وَاقْشِعْرَارُ الْجُلُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَقَالَ : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } وَقَالَ : { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } . وَقَدْ يَذُمُّ حَالَ هَؤُلَاءِ مَنْ فِيهِ مِنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ وَالرَّيْنِ عَلَيْهَا وَالْجَفَاءِ عَنْ الدِّينِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ وَقَدْ فَعَلُوا وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ حَالَهُمْ هَذَا أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ وَأَتَمُّهَا وَأَعْلَاهَا وَكِلَا طَرَفَيْ هَذِهِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ . بَلْ الْمَرَاتِبُ ثَلَاثٌ : ( أَحَدُهَا حَالُ الظَّالِمِ لِنَفَسِهِ الَّذِي هُوَ قَاسِي الْقَلْبِ لَا يَلِينُ لِلسَّمَاعِ وَالذِّكْرِ وَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُود . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } . وَ ( الثَّانِيَةُ ) حَالُ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ الَّذِي فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ حَمْلِ مَا يَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ فَهَذَا الَّذِي يُصْعَقُ صَعْقَ مَوْتٍ أَوْ صَعْقَ غَشْيٍ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِقُوَّةِ الْوَارِدِ وَضَعْفِ الْقَلْبِ عَنْ حَمْلِهِ وَقَدْ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي مَنْ يَفْرَحُ أَوْ يَخَافُ أَوْ يَحْزَنُ أَوْ يُحِبُّ أُمُورًا دُنْيَوِيَّةً يَقْتُلُهُ ذَلِكَ أَوْ يُمْرِضُهُ أَوْ يَذْهَبُ بِعَقْلِهِ . وَمِنْ عُبَّادِ الصُّوَرِ مَنْ أَمْرَضَهُ الْعِشْقُ أَوْ قَتَلَهُ أَوْ جَنَّنَهُ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ هَذَا إلَّا لِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرٌ ضَعُفَتْ نَفْسُهُ عَنْ دَفْعِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَرِدُ عَلَى الْبَدَنِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُمْرِضُهُ أَوْ تَقْتُلُهُ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ مَغْلُوبًا عَلَى ذَلِكَ . فَإِذَا كَانَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ وَلَا عُدْوَانٌ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَنْبٌ فِيمَا أَصَابَهُ فَلَا وَجْهَ لِلرِّيبَةِ . كَمَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ السَّمَاعَ الشَّرْعِيَّ وَلَمْ يُفَرِّطْ بِتَرْكِ مَا يُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَا يَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ مِمَّا يُسَمُّونَهُ السُّكْرَ وَالْفَنَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُغَيِّبُ الْعَقْلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ صَاحِبِهَا ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَذْمُومًا بَلْ مَعْذُورًا فَإِنَّ السَّكْرَانَ بِلَا تَمْيِيزٍ وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَنَاوُلِ السَّكَرِ مِنْ الْخَمْرِ وَالْحَشِيشَةِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ اسْتَحَلَّ السَّكَرَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَهُوَ كَافِرٌ وَقَدْ يَحْصُلُ بِسَبَبِ مَحَبَّةِ الصُّوَرِ وَعِشْقِهَا كَمَا قِيلَ : سَكْرَانُ : سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ وَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سَكْرَانُ وَهَذَا مَذْمُومٌ لِأَنَّ سَبَبَهُ مَحْظُورٌ وَقَدْ يَحْصُلُ بِسَبَبِ سَمَاعِ الْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ الَّتِي تُورِثُ مِثْلَ هَذَا السُّكْرِ وَهَذَا أَيْضًا مَذْمُومٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْأَصْوَاتِ الَّتِي لَمْ يُؤْمَرْ بِسَمَاعِهَا مَا يُزِيلُ عَقْلَهُ إذْ إزَالَةُ الْعَقْلِ مُحَرَّمٌ وَمَتَى أَفْضَى إلَيْهِ سَبَبٌ غَيْرُ شَرْعِيٍّ كَانَ مُحَرَّمًا وَمَا يَحْصُلُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ مِنْ لَذَّةٍ قَلْبِيَّةٍ أَوْ رُوحِيَّةٍ وَلَوْ بِأُمُورِ فِيهَا نَوْعٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَهِيَ مَغْمُورَةٌ بِمَا يَحْصُلُ مَعَهَا مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَنَا اللَّهُ أَنْ نُمَتِّعَ قُلُوبَنَا وَلَا أَرْوَاحَنَا مِنْ لَذَّاتِ الْإِيمَانِ وَلَا غَيْرِهَا بِمَا يُوجِبُ زَوَالَ عُقُولِنَا ؛ بِخِلَافِ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبِ مَشْرُوعٍ . أَوْ بِأَمْرِ صَادَفَهُ لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ . وَقَدْ يَحْصُلُ السُّكْرُ بِسَبَبِ لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ فِيهِ كَسَمَاعِ لَمْ يَقْصِدْهُ يُهَيِّجُ قَاطِنَهُ وَيُحَرِّكُ سَاكِنَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَهَذَا لَا مَلَامَ عَلَيْهِ فِيهِ وَمَا صَدَرَ عَنْهُ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِ فَهُوَ فِيهِ مَعْذُورٌ ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْ كُلِّ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبِ غَيْرِ مُحَرَّمٍ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونِ وَنَحْوِهِمَا . وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِالْخَمْرِ . فَهَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ حَالَ زَوَالِ عَقْلِهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَفِي طَلَاقِ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ يُلْحَقُ بِهِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَقِيلَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا يُشْتَهَى وَهَذَا لَا يُشْتَهَى ؛ وَلِهَذَا أَوْجَبَ الْحَدَّ فِي هَذَا دُونَ هَذَا وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ الْوَارِدُ حَتَّى يَصِيرَ مَجْنُونًا إمَّا بِسَبَبِ خَلْطٍ يَغْلِبُ عَلَيْهِ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْ هَؤُلَاءِ عُقَلَاءُ الْمَجَانِينِ الَّذِينَ يُعَدُّونَ فِي النُّسَّاكِ وَقَدْ يُسَمَّوْنَ الْمُوَلَّهِينَ . قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا ؛ فَسَلَبَ عُقُولَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ بِمَا سَلَبَ . فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي يَقْتَرِنُ بِهَا الْغَشْيُ أَوْ الْمَوْتُ أَوْ الْجُنُونُ أَوْ السُّكْرُ أَوْ الْفَنَاءُ حَتَّى لَا يَشْعُرَ بِنَفْسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ أَسْبَابُهَا مَشْرُوعَةً وَصَاحِبُهَا صَادِقًا عَاجِزًا عَنْ دَفْعِهَا كَانَ مَحْمُودًا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا نَالَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَعْذُورًا فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ وَأَصَابَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَهُمْ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ مَنْزِلَتَهُمْ لِنَقْصِ إيمَانِهِمْ وَقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ تَرْكَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ أَوْ فِعْلَ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ . وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا حَصَلَ لَهُمْ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ أَكْمَلُ مِنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ . وَهَذِهِ حَالُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ وَأَرَاهُ اللَّهُ مَا أَرَاهُ وَأَصْبَحَ كَبَائِتِ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ حَالُهُ فَحَالُهُ أَفْضَلُ مِنْ حَالِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي خَرَّ صَعِقًا لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ وَحَالُ مُوسَى حَالٌ جَلِيلَةٌ عَلِيَّةٌ فَاضِلَةٌ : لَكِنَّ حَالَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ وَأَعْلَى وَأَفْضَلُ . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي فِيهَا زِيَادَةٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالْأَحْوَالِ خَرَجَتْ مِنْ الْبَصْرَةِ وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْخَوْفِ فَإِنَّ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ مِنْ خَوْفِ عَتَبَةِ الْغُلَامِ وَعَطَاءِ السُّلَيْمِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا أَمْرٌ عَظِيمٌ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَالَهُمْ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ مَا قَابَلَهُمْ أَوْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ . وَمَنْ خَافَ اللَّهَ خَوْفًا مُقْتَصِدًا يَدْعُوهُ إلَى فِعْلِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَتَرْكِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَحَالُهُ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ وَهُوَ حَالُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ عَطَاءً السُّلَيْمِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُئِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ : مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك ؟ فَقَالَ : قَالَ لِي : يَا عَطَاءُ أَمَا اسْتَحْيَتْ مِنِّي أَنْ تَخَافَنِي كُلَّ هَذَا أَمَا بَلَغَك أَنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَكَذَلِكَ مَا يُذْكَرُ عَنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَحْوَالِ مِنْ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَالْعِبَادَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ قَدْ يُنْقَلُ فِيهَا مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى حَالِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَلَى مَا سَنَّهُ الرَّسُولُ أُمُورٌ تُوجِبُ أَنْ يَصِيرَ النَّاسُ طَرَفَيْنِ . قَوْمٌ يَذُمُّونَ هَؤُلَاءِ وينتقصونهم وَرُبَّمَا أَسْرَفُوا فِي ذَلِكَ . وَقَوْمٌ يَغْلُونَ فِيهِمْ وَيَجْعَلُونَ هَذَا الطَّرِيقَ مِنْ أَكْمَلِ الطُّرُقِ وَأَعْلَاهَا . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَحْوَالِ مُجْتَهِدُونَ كَمَا كَانَ جِيرَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مُجْتَهِدِينَ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَخَرَجَ فِيهِمْ الرَّأْيُ الَّذِي فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَنْكَرَهُ جُمْهُورُ النَّاسِ . وَخِيَارُ النَّاسِ مِنْ " أَهْلِ الْفِقْهِ وَالرَّأْيِ " فِي أُولَئِكَ الْكُوفِيِّينَ عَلَى طَرَفَيْنِ . قَوْمٌ يَذُمُّونَهُمْ وَيُسْرِفُونَ فِي ذَمِّهِمْ . وَقَوْمٌ يَغْلُونَ فِي تَعْظِيمِهِمْ وَيَجْعَلُونَهُمْ أَعْلَمَ بِالْفِقْهِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَرُبَّمَا فَضَّلُوهُمْ عَلَى الصَّحَابَةِ . كَمَا أَنَّ الْغُلَاةَ فِي أُولَئِكَ الْعِبَادِ قَدْ يُفَضِّلُونَهُمْ عَلَى الصَّحَابَةِ وَهَذَا بَابٌ يَفْتَرِقُ فِيهِ النَّاسُ . وَالصَّوَابُ : لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَيْرَ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ وَأَنَّ أَفْضَلَ الطُّرُقِ وَالسُّبُلِ إلَى اللَّهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ وَوُسْعِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } . وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ - الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ - قَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَا حَصَلَ لِلصَّحَابَةِ فَيَتَّقِي اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَيُطِيعُهُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ خَطَأٌ إمَّا فِي عُلُومِهِ وَأَقْوَالِهِ وَإِمَّا فِي أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَيُثَابُونَ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } - إلَى قَوْلِهِ - { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَدْ فَعَلْت . فَمَنْ جَعَلَ طَرِيقَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ أَوْ طَرِيقَ أَحَدٍ مِنْ الْعُبَّادِ وَالنُّسَّاكِ أَفْضَلَ مِنْ طَرِيقِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ وَمَنْ جَعَلَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي طَاعَةٍ أَخْطَأَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَذْمُومًا مَعِيبًا مَمْقُوتًا فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ . ثُمَّ النَّاسُ فِي الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ هُمْ أَيْضًا مُجْتَهِدُونَ يُصِيبُونَ تَارَةً وَيُخْطِئُونَ تَارَةً وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إذَا عَلِمَ مِنْ الرَّجُلِ مَا يُحِبُّهُ أَحَبَّ الرَّجُلَ مُطْلَقًا وَأَعْرَضَ عَنْ سَيِّئَاتِهِ وَإِذَا عَلِمَ مِنْهُ مَا يُبْغِضُهُ أَبْغَضَهُ مُطْلَقًا وَأَعْرَضَ عَنْ حَسَنَاتِهِ مُحَاطٌ ( ؟ وَحَالُ مَنْ يَقُولُ بالتحافظ ( ؟ وَهَذَا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَقُولُونَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَحِقُّ وَعْدَ اللَّهِ وَفَضْلُهُ الثَّوَابُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَإِنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَجْتَمِعُ فِيهِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَمَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَمَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ وَمَا يُذَمُّ عَلَيْهِ وَمَا يُحَبُّ مِنْهُ وَمَا يُبْغَضُ مِنْهُ فَهَذَا هَذَا . وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ مَنْشَأَ " التَّصَوُّفِ " كَانَ مِنْ الْبَصْرَةِ وَأَنَّهُ كَانَ فِيهَا مَنْ يَسْلُكُ طَرِيقَ الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ مِمَّا لَهُ فِيهِ اجْتِهَادٌ كَمَا كَانَ فِي الْكُوفَةِ مَنْ يَسْلُكُ مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ مَا لَهُ فِيهِ اجْتِهَادٌ وَهَؤُلَاءِ نُسِبُوا إلَى اللُّبْسَةِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ لِبَاسُ الصُّوفِ . فَقِيلَ فِي أَحَدِهِمْ : " صُوفِيٌّ " وَلَيْسَ طَرِيقُهُمْ مُقَيَّدًا بِلِبَاسِ الصُّوفِ وَلَا هُمْ أَوْجَبُوا ذَلِكَ وَلَا عَلَّقُوا الْأَمْرَ بِهِ لَكِنْ أُضِيفُوا إلَيْهِ لِكَوْنِهِ ظَاهِرَ الْحَالِ . ثُمَّ " التَّصَوُّفُ " عِنْدَهُمْ لَهُ حَقَائِقُ وَأَحْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي حُدُودِهِ وَسِيرَتِهِ وَأَخْلَاقِهِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : " الصُّوفِيُّ " مَنْ صَفَا مِنْ الْكَدَرِ وَامْتَلَأَ مِنْ الْفِكْرِ وَاسْتَوَى عِنْدَهُ الذَّهَبُ وَالْحَجَرُ . التَّصَوُّفُ كِتْمَانُ الْمَعَانِي وَتَرْكُ الدَّعَاوَى . وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ : وَهُمْ يَسِيرُونَ بِالصُّوفِيِّ إلَى مَعْنَى الصِّدِّيقِ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ الصِّدِّيقُونَ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } وَلِهَذَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الصُّوفِيِّ ؛ لَكِنْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنْ الصِّدِّيقِينَ فَهُوَ الصِّدِّيقُ الَّذِي اخْتَصَّ بِالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اجْتَهَدُوا فِيهِ فَكَانَ الصِّدِّيقُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الطَّرِيقِ كَمَا يُقَالُ : صِدِّيقُو الْعُلَمَاءِ وَصِدِّيقُو الْأُمَرَاءِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الصِّدِّيقِ الْمُطْلَقِ وَدُونَ الصِّدِّيقِ الْكَامِلِ الصديقية مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ . فَإِذَا قِيلَ عَنْ أُولَئِكَ الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ : إنَّهُمْ صِدِّيقُونَ فَهُوَ كَمَا يُقَالُ عَنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ إنَّهُمْ صِدِّيقُونَ أَيْضًا كُلٌّ بِحَسَبِ الطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ أَجْلِ الصِّدِّيقِينَ بِحَسَبِ زَمَانِهِمْ فَهُمْ مِنْ أَكْمَلِ صِدِّيقِي زَمَانِهِمْ وَالصِّدِّيقُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ أَكْمَلُ مِنْهُمْ وَالصِّدِّيقُونَ دَرَجَاتٌ وَأَنْوَاعٌ ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ لِكُلِّ مِنْهُمْ صِنْفٌ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْعِبَادَاتِ حَقَّقَهُ وَأَحْكَمَهُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الصِّنْفِ أَكْمَلَ مِنْهُ وَأَفْضَلَ مِنْهُ . وَلِأَجْلِ مَا وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالتَّنَازُعِ فِيهِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي طَرِيقِهِمْ ؛ فَطَائِفَةٌ ذَمَّتْ " الصُّوفِيَّةَ وَالتَّصَوُّفَ " . وَقَالُوا : إنَّهُمْ مُبْتَدِعُونَ خَارِجُونَ عَنْ السُّنَّةِ وَنُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ . وَطَائِفَةٌ غَلَتْ فِيهِمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْمَلُهُمْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَكِلَا طَرَفَيْ هَذِهِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ . وَ " الصَّوَابُ " أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا اجْتَهَدَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ فَفِيهِمْ السَّابِقُ الْمُقَرَّبُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَفِيهِمْ الْمُقْتَصِدُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ وَفِي كُلٍّ مِنْ الصِّنْفَيْنِ مَنْ قَدْ يَجْتَهِدُ فَيُخْطِئُ وَفِيهِمْ مَنْ يُذْنِبُ فَيَتُوبُ أَوْ لَا يَتُوبُ . وَمِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ مَنْ هُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ عَاصٍ لِرَبِّهِ . وَقَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالزَّنْدَقَةِ ؛ وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ لَيْسُوا مِنْهُمْ : كَالْحَلَّاجِ مَثَلًا ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ أَنْكَرُوهُ وَأَخْرَجُوهُ عَنْ الطَّرِيقِ . مِثْلُ : الجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ وَغَيْرِهِ . كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي ؛ فِي " طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ " وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ . فَهَذَا أَصْلُ التَّصَوُّفِ . ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَشَعَّبَ وَتَنَوَّعَ وَصَارَتْ الصُّوفِيَّةُ " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ " صُوفِيَّةُ الْحَقَائِقِ وَصُوفِيَّةُ الْأَرْزَاقِ وَصُوفِيَّةُ الرَّسْمِ . فَأَمَّا " صُوفِيَّةُ الْحَقَائِقِ " : فَهُمْ الَّذِينَ وَصَفْنَاهُمْ . وَأَمَّا " صُوفِيَّةُ الْأَرْزَاقِ " فَهُمْ الَّذِينَ وُقِفَتْ عَلَيْهِمْ الْوُقُوفُ . كالخوانك فَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْحَقَائِقِ . فَإِنَّ هَذَا عَزِيزٌ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحَقَائِقِ لَا يَتَّصِفُونَ بِلُزُومِ الخوانك ؛ وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ شُرُوط : ( أَحَدُهَا الْعَدَالَةُ الشَّرْعِيَّةُ بِحَيْثُ يُؤَدُّونَ الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُونَ الْمَحَارِمَ . وَ ( الثَّانِي التَّأَدُّبُ بِآدَابِ أَهْلِ الطَّرِيقِ وَهِيَ الْآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ وَأَمَّا الْآدَابُ الْبِدْعِيَّةُ الْوَضْعِيَّةُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا . وَ ( الثَّالِثُ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمْ مُتَمَسِّكًا بِفُضُولِ الدُّنْيَا فَأَمَّا مَنْ كَانَ جَمَّاعًا لِلْمَالِ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَخَلِّقٍ بِالْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ وَلَا يَتَأَدَّبُ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ كَانَ فَاسِقًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ . وَأَمَّا " صُوفِيَّةُ الرَّسْمِ " فَهُمْ الْمُقْتَصِرُونَ عَلَى النِّسْبَةِ فَهَمُّهُمْ فِي اللِّبَاسِ وَالْآدَابِ الْوَضْعِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ فِي الصُّوفِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَقْتَصِرُ عَلَى زِيِّ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْجِهَادِ وَنَوْعٌ مَا مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِحَيْثُ يَظُنُّ الْجَاهِلُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا اسْمُ " الْفَقِيرِ " فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْفَقِيرُ الْمُضَادُّ لِلْغِنَى . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( ؟ " وَالْفُقَرَاءُ وَالْفَقْرُ " أَنْوَاعٌ : فَمِنْهُ الْمُسَوِّغُ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ . وَضِدُّهُ الْغِنَى الْمَانِعُ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ وَلَا لِقَوِيِّ مُكْتَسِبٍ } وَالْغِنَى الْمُوجِبُ لِلزَّكَاةِ غَيْرُ هَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ وَعِنْدَهُمْ قَدْ تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الزَّكَاةُ وَيُبَاحُ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ الْفُقَرَاءَ فِي مَوَاضِعَ ؛ لَكِنْ ذَكَرَ اللَّهُ الْفُقَرَاءَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ فِي آيَةٍ وَالْفُقَرَاءَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْفَيْءِ فِي آيَةٍ . فَقَالَ فِي الْأُولَى : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا } . وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } - الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ - { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَهَؤُلَاءِ " الْفُقَرَاءُ " قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ أَيُّمَا أَفْضَلُ : الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَوْ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ ؟ وَالصَّحِيحُ : أَنَّ أَفْضَلَهُمَا أَتْقَاهُمَا ؛ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ الْفُقَرَاءَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ إلَى الْجَنَّةِ [ لِأَنَّهُ ] لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ . ثُمَّ الْأَغْنِيَاءُ يُحَاسَبُونَ فَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَرْجَحَ مِنْ حَسَنَاتِ فَقِيرٍ كَانَتْ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ أَعْلَى وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فِي الدُّخُولِ . وَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ دُونَ حَسَنَاتِهِ كَانَتْ دَرَجَتُهُ دُونَهُ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ جِنْسُ الزُّهْدِ فِي الْفُقَرَاءِ أَغْلَبَ صَارَ الْفَقْرُ فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ عِبَارَةً عَنْ طَرِيقِ الزُّهْدِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ التَّصَوُّفِ . فَإِذَا قِيلَ : هَذَا فِيهِ فَقْرٌ أَوْ مَا فِيهِ فَقْرٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ عَدَمُ الْمَالِ وَلَكِنْ يُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ بِاسْمِ الصُّوفِيِّ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ قَدْ تَنَازَعُوا أَيُّمَا أَفْضَلُ : الْفَقِيرُ أَوْ الصُّوفِيُّ ؟ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى تَرْجِيحِ الصُّوفِيِّ كَأَبِي جَعْفَرٍ السهروردي وَنَحْوِهِ وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى تَرْجِيحِ الْفَقِيرِ - كَطَوَائِفَ كَثِيرِينَ - وَرُبَّمَا يَخْتَصُّ هَؤُلَاءِ بِالزَّوَايَا وَهَؤُلَاءِ بالخوانك وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ النَّاسِ قَدْ رَجَّحُوا الْفَقِيرَ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَفْضَلَهُمَا أَتْقَاهُمَا فَإِنْ كَانَ الصُّوفِيُّ أَتْقَى لِلَّهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَعْمَلَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَأَتْرَكَ لِمَا لَا يُحِبُّهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْفَقِيرِ وَإِنْ كَانَ الْفَقِيرُ أَعْمَلُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَأَتْرَكَ لِمَا لَا يُحِبُّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي فِعْلِ الْمَحْبُوبِ وَتَرْكِ غَيْرِ الْمَحْبُوبِ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ . وَ " أَوْلِيَاءُ اللَّهِ " هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ سَوَاءٌ سُمِّيَ أَحَدُهُمْ فَقِيرًا أَوْ صُوفِيًّا أَوْ فَقِيهًا أَوْ عَالِمًا أَوْ تَاجِرًا أَوْ جُنْدِيًّا أَوْ صَانِعًا أَوْ أَمِيرًا أَوْ حَاكِمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابَ الْيَمِينِ وَالْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ . فَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ : الَّذِينَ تَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ . وَالصِّنْفُ الثَّانِي الَّذِي تَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ وَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا يَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أَحَبَّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى . وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ قَدْ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَمَا قَالَ : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } { يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ } { خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } { وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ } { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَتُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا . وَقَالَ تَعَالَى : { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا } . { عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } { وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } { أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ } { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } { وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } { فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } وَهَذَا الْجَوَابُ فِيهِ جُمَلٌ تَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ لَمْ يَتَّسِعْ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

" ؟ وَيَتَنَازَعُونَ أَيْضًا أَيُّمَا أَفْضَلُ : الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ أَوْ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ ؟(1)
__________
(1) - ففي مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 119) فما بعد ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 476)
وَسُئِلَ عَمَّنْ قَالَ : إنَّ " الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ " لَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ إلَّا بِالتَّقْوَى . فَمَنْ كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ كَانَ أَفْضَلَ وَأَحَبَّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَإِنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الَّذِي قَالَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَدْخُلُ فُقَرَاءُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ } هَذَا فِي حَقِّ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَصَعَالِيكِهِمْ الْقَائِمِينَ بِفَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِمُجَرَّدِ مَا عُرِفَ وَاشْتُهِرَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْ السَّجَّادِ وَالْمُرَقَّعَةِ وَالْعُكَّازِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُنَمَّقَةِ ؛ بَلْ هَذِهِ الْهَيْئَاتُ الْمُعْتَادَةُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ مُخْتَرَعَةٌ مُبْتَدَعَةٌ فَهَلْ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ أَمْ لَا ؟ ؟ .
الْجَوَابُ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَصْلٌ قَدْ كَثُرَ تَنَازُعُ النَّاسِ : أَيُّهُمَا أَفْضَلُ " الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَوْ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ " ؟ ؟ وَأَكْثَرُ كَلَامِهِمْ فِيهَا مَشُوبٌ بِنَوْعِ مِنْ الْهَوَى أَوْ بِنَوْعِ مِنْ قِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ وَالنِّزَاعُ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعَامَّةِ وَالرُّؤَسَاءِ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي كِتَابِ " التَّمَامِ لِكِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ " لِأَبِيهِ فِيهَا عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَيْنِ . ( إحْدَاهُمَا أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ . وَذُكِرَ أَنَّهُ اخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَبُو إسْحَاقَ بْنُ شاقلا وَوَالِدُهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَنَصَرَهَا هُوَ . وَ ( الثَّانِيَةُ : أَنَّ الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ أَفْضَلُ اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ قُتَيْبَةَ . وَ " الْقَوْلُ الْأَوَّلُ " يَمِيلُ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْفِقْهِ وَالصَّلَاحِ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ وَيُحْكَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ الجنيد وَغَيْرِهِ وَ " الْقَوْلُ الثَّانِي " يُرَجِّحُهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ . كَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ وَرُبَّمَا حَكَى بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ إجْمَاعًا وَهُوَ غَلَطٌ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ " قَوْلٌ ثَالِثٌ " وَهُوَ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ هَذَا أَفْضَلَ مِنْ هَذَا مُطْلَقًا وَلَا هَذَا أَفْضَلَ مِنْ هَذَا مُطْلَقًا بَلْ أَفْضَلُهُمَا أَتْقَاهُمَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : الْغِنَى وَالْفَقْرُ مَطِيَّتَانِ لَا أُبَالِي أَيَّتَهمَا رَكِبْت . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الشَّيْخُ ابْنُ حَفْصٍ السهروردي وَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ لِقَوْمِ وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ . وَهَذَا أَفْضَلَ لِقَوْمِ وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْكَرَامَةِ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ وَإِنْ فَضَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي سَبَبِهَا تَرَجَّحَ عَلَيْهِ ؛ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الْعَامُّ . وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى حَالَانِ يَعْرِضَانِ لِلْعَبْدِ بِاخْتِيَارِهِ تَارَةً وَبِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ أُخْرَى كَالْمَقَامِ وَالسَّفَرِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَالْإِمَارَةِ والائتمار وَالْإِمَامَةِ والائتمام . وَكُلُّ جِنْسٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِهِ عَلَى الْآخَرِ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ فِي حَالٍ ؛ وَهَذَا فِي حَالٍ وَقَدْ يَسْتَوِيَانِ فِي حَالٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي ( شَرْحِ السُّنَّةِ للبغوي عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى : { وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا الْغِنَى ؛ وَلَوْ أَفْقَرْته لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ أَغْنَيْته لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا الصِّحَّةُ وَلَوْ أَسْقَمْته لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا السَّقَمُ وَلَوْ أَصْحَحْته لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ إنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي ؛ إنِّي بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } . وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يُرْوَى : { إنَّ اللَّهَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الدُّنْيَا ؛ كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمْ مَرِيضَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ } . وَيُرْوَى فِي مُنَاجَاةِ مُوسَى نَحْوُ هَذَا . ذَكَرَهُ أَحْمَد فِي الزُّهْدِ . فَهَذَا فِيمَنْ يَضُرُّهُ الْغِنَى وَيُصْلِحُهُ الْفَقْرُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ } . وَكَمَا أَنَّ الْأَقْوَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ " ثَلَاثَةٌ " فَالنَّاسُ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " : غَنِيٌّ وَهُوَ مَنْ مَلَكَ مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ . وَفَقِيرٌ ؛ وَهُوَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمَامِ كِفَايَتِهِ . وَقِسْمٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ مَنْ يَمْلِكُ وَفْقَ كِفَايَتِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ فِي أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مَنْ كَانَ غَنِيًّا : كَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَأَيُّوبَ وداود وَسُلَيْمَانَ وَعُثْمَانَ بْنِ عفان وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وأسيد بْنِ الحضير وَأَسْعَدَ بْنِ زرارة وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وعبادة بْنِ الصَّامِتِ وَنَحْوِهِمْ . مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْخَلْقِ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ . وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ فَقِيرًا : كَالْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَنَحْوِهِمْ . مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْخَلْقِ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ اجْتَمَعَ لَهُ الْأَمْرَانِ : الْغِنَى تَارَةً وَالْفَقْرُ أُخْرَى ؛ وَأَتَى بِإِحْسَانِ الْأَغْنِيَاءِ وَبِصَبْرِ الْفُقَرَاءِ : كَنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَالنُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَاكِمَةٌ بِالْقِسْطِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يُفَضِّلْ أَحَدًا بِفَقْرِ وَلَا غِنًى كَمَا لَمْ يُفَضِّلْ أَحَدًا بِصِحَّةِ وَلَا مَرَضٍ . وَلَا إقَامَةٍ وَلَا سَفَرٍ وَلَا إمَارَةٍ وَلَا ائْتِمَارٍ وَلَا إمَامَةٍ وَلَا ائْتِمَامٍ ؛ بَلْ قَالَ : { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وَفَضَّلَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ : مِنْ الْإِيمَانِ وَدَعَائِمِهِ وَشُعَبِهِ كَالْيَقِينِ وَالْمَعْرِفَةِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَرَجَائِهِ وَخَشْيَتِهِ وَشُكْرِهِ وَالصَّبْرِ لَهُ . وَقَالَ فِي آيَةِ الْعَدْلِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا } . وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يَعْدِلُونَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ فِي أُمُورِهِمْ . وَلَمَّا طَلَبَ بَعْضُ الْأَغْنِيَاءِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبْعَادَ الْفُقَرَاءِ نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ . وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ . فَقَالَ : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } الْآيَةَ . وَقَالَ : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } وَلَمَّا طَلَبَ بَعْضُ الْفُقَرَاءِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ : { يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي . لَا تَأَمَّرَن عَلَى اثْنَيْنِ . وَلَا تَوَلَّيَن مَالَ يَتِيمٍ } . وَكَانُوا يَسْتَوُونَ فِي مَقَاعِدِهِمْ عِنْدَهُ وَفِي الِاصْطِفَافِ خَلْفَهُ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَمَنْ اخْتَصَّ مِنْهُمْ بِفَضْلِ عَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلَ كَمَا قَنَتَ لِلْقُرَّاءِ السَّبْعِينَ وَكَانَ يَجْلِسُ مَعَ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَكَانَ أَيْضًا لِعُثْمَانِ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وأسيد بْنِ الحضير وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ وَنَحْوِهِمْ مِنْ سَادَاتِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الْأَغْنِيَاءِ مَنْزِلَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَهَذِهِ سِيرَةُ الْمُعْتَدِلِينَ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ . وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهِيَ طَرِيقَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ . وَغَيْرِهِمْ . فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلْأَقْوِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ . وَفِي الْأَئِمَّةِ كَالثَّوْرِيِّ وَنَحْوِهِ مَنْ كَانَ يَمِيلُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَيَمِيلُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مُجْتَهِدًا فِي ذَلِكَ طَالِبًا بِهِ رِضَا اللَّهِ حَتَّى عُتِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَرَجَعَ عَنْهُ . وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ يَمِيلُ مَعَ الْأَغْنِيَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ : كَالزُّهْرِيِّ وَرَجَاءِ بْنِ حيوة وَأَبِي الزِّنَادِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأُنَاسٍ آخَرِينَ وَتَكَلَّمَ فِيهِمْ مَنْ تَكَلَّمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلٌ وَاجْتِهَادٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَنُصُوصُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَدِلَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ { أَنَّ الْفُقَرَاءَ قَالُوا لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ . يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَلَهُمْ فُضُولُ أَمْوَالٍ يَتَصَدَّقُونَ بِهَا وَلَا نَتَصَدَّقُ فَقَالَ : أَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا ؟ إذَا فَعَلْتُمُوهُ أَدْرَكْتُمْ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يَلْحَقْكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ إلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ فَعَلَّمَهُمْ التَّسْبِيحَ الْمِائَةَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ . فَجَاءُوا إلَيْهِ فَقَالُوا : إنَّ إخْوَانَنَا مِنْ الْأَغْنِيَاءِ سَمِعُوا ذَلِكَ فَفَعَلُوهُ فَقَالَ : ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ } وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ مَرَاسِيلِ أَبِي صَالِحٍ فَهَذَا فِيهِ تَفْضِيلٌ لِلْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ عَمِلُوا مِثْلَ عَمَلِ الْفُقَرَاءِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَزَادُوا عَلَيْهِمْ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ . وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { يَدْخُلُ فُقَرَاءُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ - خَمْسِمِائَةِ عَامٍ - وَفِي رِوَايَةٍ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا } فَهَذَا فِيهِ تَفْضِيلُ الْفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ ؛ فَإِنَّ الْفَقِيرَ لَيْسَ مَعَهُ مَالٌ كَثِيرٌ يُحَاسَبُ عَلَى قَبْضِهِ وَصَرْفِهِ فَلَا يُؤَخَّرُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ لِأَجْلِ الْحِسَابِ فَيَسْبِقُ فِي الدُّخُولِ وَهُوَ أَحْوَجُ إلَى سُرْعَةِ الثَّوَابِ لِمَا فَاتَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ . وَالْغَنِيُّ يُحَاسَبُ فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا فِي غِنَاهُ غَيْرَ مُسِيءٍ وَهُوَ فَوْقَهُ رُفِعَتْ دَرَجَتُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ سَاوَاهُ وَإِنْ كَانَ دُونَهُ نَزَلَ عَنْهُ . وَلَيْسَتْ حَاجَتُهُ إلَى سُرْعَةِ الثَّوَابِ كَحَاجَةِ الْفَقِيرِ . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " حَوْضِهِ " : الَّذِي طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ : { مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ أَوَّلُ النَّاسِ عَلَيَّ وِرْدًا فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ : الدَّنِسِينَ ثِيَابًا الشُّعْثِ رُءُوسًا الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ وَلَا تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ الْمُلُوكِ يَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ تَخْتَلِجُ فِي صَدْرِهِ لَا يَجِدُ لَهَا قَضَاءً } فَكَانُوا أَسْبَقَ إلَى الَّذِي يُزِيلُ مَا حَصَلَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ اللَّأْوَاءِ وَالشِّدَّةِ وَهَذَا مَوْضِعُ ضِيَافَةٍ عَامَّةٍ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَشَدُّ جُوعًا فِي الْإِطْعَامِ وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِ الْمُسْتَأْخِرِينَ نَوْعُ إطْعَامٍ لَيْسَ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِاسْتِحْقَاقِهِ ذَلِكَ بِبَذْلِهِ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَحُّ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَفِيهَا الْحُكْمُ الْفَصْلُ : إنَّ الْفُقَرَاءَ لَهُمْ السَّبْقُ وَالْأَغْنِيَاءَ لَهُمْ الْفَضْلُ وَهَذَا قَدْ يَتَرَجَّحُ تَارَةً وَهَذَا كَالسَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَمَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا ؛ وَقَدْ يُحَاسَبُ بَعْدَهُمْ مَنْ إذَا دَخَلَ رُفِعَتْ دَرَجَتُهُ عَلَيْهِمْ . وَمَا رُوِيَ : { أَنَّ ابْنَ عَوْفٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْوًا } كَلَامٌ مَوْضُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ أَفْضَلَ الْأُمَّةِ أَهْلُ بَدْرٍ ثُمَّ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَالْعَشْرَةُ مُفَضَّلُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَالْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ : { اطَّلَعَتْ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ } وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { احْتَجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ الْجَنَّةُ : مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَقَالَتْ النَّارُ : مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إلَّا الْجَبَّارُونَ والمتكبرون } وَقَوْلُهُ : { وَقَفْت عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ يَدْخُلُهَا الْمَسَاكِينُ وَإِذَا أَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ إلَّا أَهْلُ النَّارِ فَقَدْ أُمِرَ بِهِمْ إلَى النَّارِ } هَذَا مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلِّ خَيْرٍ } . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجَنَّةَ دَارُ الْمُتَوَاضِعِينَ الْخَاشِعِينَ لَا دَارُ الْمُتَكَبِّرِينَ الْجَبَّارِينَ سَوَاءٌ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ . فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا أَفَمِنْ الْكِبْرِ . ذَاكَ فَقَالَ : لَا - إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ وَلَكِنَّ الْكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّجَمُّلَ فِي اللِّبَاسِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْغِنَى وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْكِبْرِ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : فَقِيرٌ مُخْتَالٌ وَشَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ } وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ : { لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ جَبَّارًا وَمَا يَمْلِكُ إلَّا أَهْلَهُ } . فَعُلِمَ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ : أَنَّ مِنْ الْفُقَرَاءِ مَنْ يَكُونُ مُخْتَالًا ؛ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ . وَأَنَّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ مَنْ يَكُونُ مُتَجَمِّلًا غَيْرَ مُتَكَبِّرٍ ؛ يُحِبُّ اللَّهُ جَمَالَهُ . مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ هِرَقْلَ لِأَبِي سُفْيَانَ : أَفَضُعَفَاءُ النَّاسِ اتَّبَعَهُ أَمْ أَشْرَافُهُمْ ؟ قَالَ : بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ . قَالَ : وَهُمْ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ . وَقَدْ قَالُوا لِنُوحِ : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } فَهَذَا فِيهِ أَنَّ أَهْلَ الرِّئَاسَةِ وَالشَّرَفِ يَكُونُونَ أَبْعَدَ عَنْ الِانْقِيَادِ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ ؛ لِأَنَّ حُبَّهُمْ لِلرِّئَاسَةِ يَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمُسْتَضْعَفِينَ . وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ - إنْ كَانَ مَحْفُوظًا - { اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ } فَالْمَسَاكِينُ ضِدُّ الْمُتَكَبِّرِينَ . وَهُمْ الْخَاشِعُونَ لِلَّهِ . الْمُتَوَاضِعُونَ لِعَظَمَتِهِ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ . سَوَاءٌ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إنَّ اللَّهَ خَيَّرَهُ : بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ سَيِّدِهِ ؛ لَا لِأَجْلِ حَظِّهِ وَأَمَّا الْمَلِكُ فَيَتَصَرَّفُ لِحَظِّ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا . كَمَا قِيلَ لِسُلَيْمَانَ : { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ : أَنَّهُ اخْتَارَ الْعُبُودِيَّةَ وَالتَّوَاضُعَ . وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَعْلَى هُوَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ . كَمَا قَالَ : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ } وَقَالَ : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } وَلَمْ يُرِدْ الْعُلُوَّ وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُ . وَقَدْ أُعْطِيَ مَعَ هَذَا مِنْ الْعَطَاءِ مَا لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا يُفَضَّلُ الْغِنَى لِأَجْلِ الْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِلَّا فَذَاتُ مِلْكِ الْمَالِ لَا يَنْفَعُ بَلْ قَدْ يَضُرُّ وَقَدْ صَبَرَ مَعَ هَذَا مِنْ اللَّأْوَاءِ وَالشِّدَّةِ عَلَى مَا لَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَنَالَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الشَّاكِرِينَ وَأَفْضَلَ مَقَامَاتِ الصَّابِرِينَ وَكَانَ سَابِقًا فِي حَالَيْ الْفَقْرِ وَالْغِنَى لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا أَحَدُهُمَا كَبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ . ( الْمَعْنَى الثَّانِي أَنَّ الصَّلَاحَ فِي الْفُقَرَاءِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْأَغْنِيَاءِ . كَمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْأَغْنِيَاءِ فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ فِي الْفُقَرَاءِ فَهَذَا فِي هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ وَفِي هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ لِأَنَّ فِتْنَةَ الْغِنَى أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ فَالسَّالِمُ مِنْهَا أَقَلُّ . وَمَنْ سَلِمَ مِنْهَا كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ سَلِمَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ فَقَطْ ؛ وَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ يَطْلُبُونَ الصَّلَاحَ فِي الْفُقَرَاءِ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ فِيهِمْ أَكْثَرُ . فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَتْ الْمَسْكَنَةُ نِسْبَتُهُ وَكَذَلِكَ لَمَّا رَأَوْا الْمَسْكَنَةَ وَالتَّوَاضُعَ فِي الْفُقَرَاءِ أَكْثَرَ اعْتَقَدُوا أَنَّ التَّوَاضُعَ وَالْمَسْكَنَةَ هُوَ الْفَقْرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . بَلْ الْفَقْرُ هُنَا عَدَمُ الْمَالِ وَالْمَسْكَنَةُ خُضُوعُ الْقَلْبِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى وَقَالَ : بَعْضُ الصَّحَابَةِ اُبْتُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا وَابْتَلَيْنَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَللَّهِ مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَافَ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فتنافسوها } وَلِهَذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْفَقْرَ وَالْغَالِبُ عَلَى الْأَنْصَارِ الْغِنَى وَالْمُهَاجِرُونَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْصَارِ وَكَانَ فِي الْمُهَاجِرِينَ أغنياؤهم مِنْ أَفْضَلِ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ أَنَّهُمْ بِالْهِجْرَةِ تَرَكُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا صَارُوا بِهِ فُقَرَاءَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ .

. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ قَدِيمٌ بَيْنَ الجنيد وَبَيْن أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَطَاءٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ وَالصَّوَابُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَا قَالَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيْثُ قَالَ : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(1) (13) سورة الحجرات . وَفِي اِ لصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ قَالَ :« أَتْقَاهُمْ » . فَقَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ . قَالَ :« فَيُوسُفُ نَبِىُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِىِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِىِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ » . قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ . قَالَ :« فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونَ خِيَارُهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِى الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا » (2).
__________
(1) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالى في هذِهِ الآيةِ أنَّ النَّاسَ جَمِيعاً إخوةٌ لأمٍّ وأبٍ ، وَلِذَلِكَ فَلَيسَ لأحَدٍ مْنهُمْ أنْ يَسْتَعْلِيَ عَلَى أحَدٍ مِنْ إخْوَتِهِ ، وَلا أنْ يُسيءَ إليهِ ، وَلا أنْ يَنْتَقِصَهُ ، وَلا أنْ يَغْتَابَهُ . وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى البَشَرَ بالتَّكاثُرِ شُعُوباً وَقَبَائِلَ مُخْتَلِفَةً لِيتَمَكَّنَ بَعْضُهُم مِنْ مَعْرِفَةِ بَعْضٍ ، كأنْ يُقَالَ هذا فُلانُ بنُ فَلاَنٍ مِنْ قَبيلَةِ كَذَا مِنْ بَطْنِ كَذَا . وَلاَ فَضْلَ لأحَدٍ عَلَى أحَدٍ إلا بالتَّقْوى ، وَالأتْقَى هُوَ الأكْرِمُ عِنْدَ اللهِ ، وَالأرْفَعُ مَنْزِلَةً ، وَلاَ قِيمَةَ في مِيِزَانِ اللهِ لِلأمْوالِ والأحْسَابِ وَالأولادِ ، وَإِنَّما القِيمَةُ للتُّقى وَالصَّلاحِ وَطَهَارَةِ القَلْبِ ، وَالخَوفِ مِنَ اللهِ ، وَالإِخْلاَصِ في مَحَبَّةِ النَّاسِ ، وَالنُّصْح لَهُمْ . وَاللهُ عَلِيمٌ بِما تَنْطَوِي عَلَيهِ الصُّدُورُ ، خَبيرٌ بأُمُورِ العِبَادِ .
( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : " يَا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللهَ أذْهَبَ عَنْكُمْ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ ، وَتَعظُّمَها بِآبائِها ، فَالنَّاسُ رَجُلانِ : رَجُلٌ بَرٌّ نَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ ، وَرَجُلٌ فَاجِرٌ شَقيُّ هَيِّنٌ عَلَى الله تَعَالى " ) . ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ .
(2) - صحيح البخارى (3353 ) ومسلم (6311 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 112)
قَالَ الْعُلَمَاء : وَأَصْل الْكَرَم كَثْرَة الْخَيْر ، وَقَدْ جَمَعَ يُوسُف صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَارِم الْأَخْلَاق ، مَعَ شَرَف النُّبُوَّة ، مَعَ شَرَف النَّسَب ، وَكَوْنه نَبِيًّا اِبْن ثَلَاثَة أَنْبِيَاء مُتَنَاسِلِينَ أَحَدهمْ خَلِيل اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ شَرَف عِلْم الرُّؤْيَا ، وَتَمَكُّنه فِيهِ ، وَرِيَاسَة الدُّنْيَا ، وَمُلْكهَا بِالسِّيرَةِ الْجَمِيلَة ، وَحِيَاطَته لِلرَّعِيَّةِ ، وَعُمُوم نَفْعه إِيَّاهُمْ ، وَشَفَقَته عَلَيْهِمْ ، وَإِنْقَاذه إِيَّاهُمْ مِنْ تِلْكَ السِّنِينَ . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَالَ الْعُلَمَاء : لَمَّا سُئِلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاس أَكْرَم ؟ أَخْبَرَ بِأَكْمَل الْكَرَم وَأَعَمّه ، فَقَالَ : أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْل الْكَرَم كَثْرَة الْخَيْر ، وَمَنْ كَانَ مُتَّقِيًا كَانَ كَثِير الْخَيْر وَكَثِير الْفَائِدَة فِي الدُّنْيَا ، وَصَاحِب الدَّرَجَات الْعُلَا فِي الْآخِرَة . فَلَمَّا قَالُوا : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُك قَالَ : يُوسُف الَّذِي جَمَعَ خَيْرَات الْآخِرَة وَالدُّنْيَا وَشَرَفهمَا . فَلَمَّا قَالُوا : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُ ، فَهِمَ عَنْهُمْ أَنَّ مُرَادهمْ قَبَائِل الْعَرَب قَالَ : " خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَام إِذَا فَقُهُوا " وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَصْحَاب الْمُرُوءَات وَمَكَارِم الْأَخْلَاق فِي الْجَاهِلِيَّة إِذَا أَسْلَمُوا أَوْ فَقُهُوا فَهُمْ خِيَار النَّاس . قَالَ الْقَاضِي : وَقَدْ تَضَمَّنَ الْحَدِيث فِي الْأَجْوِبَة الثَّلَاثَة أَنَّ الْكَرَم كُلّه عُمُومه وَخُصُوصه وَمُجْمَله وَمُبَانه . إِنَّمَا هُوَ الدِّين مِنْ التَّقْوَى وَالنُّبُوَّة وَالْإِغْرَاق فِيهَا وَالْإِسْلَام مَعَ الْفِقْه ، وَمَعْنَى مَعَادِن الْعَرَب أُصُولهَا وَفَقُهُوا بِضَمِّ الْقَاف عَلَى الْمَشْهُور ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا أَيْ صَارُوا فُقَهَاء عَالَمِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة الْفِقْهِيَّة وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :{ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى . كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ } (1).
وَعَنْهُ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِىٌّ وَفَاجِرٌ شَقِىٌّ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلاَنِ الَّتِى تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتْنَ »(2).
فَمَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَتْقَى لِلَّهِ فَهُوَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ . وَلَفْظُ " الْفَقْرِ " فِي الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ مِنَ الْمَالِ، وَيُرَادُ بِهِ فَقْرُ الْمَخْلُوقِ إلَى خَالِقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (60) سورة التوبة، وَقَالَ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (3)
__________
(1) - قلت : لم أجده في السنن بل في مسند أحمد ( 24204) عَنْ أَبِى نَضْرَةَ حَدَّثَنِى مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِىٍّ عَلَى أَعْجَمِىٍّ وَلاَ لِعَجَمِىٍّ عَلَى عَرَبِىٍّ وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ ». قَالُوا بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ « أُىُّ يَوْمٍ هَذَا ». قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ. ثُمَّ قَالَ « أَىُّ شَهْرٍ هَذَا ». قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ. قَالَ ثُمَّ قَالَ « أَىُّ بَلَدٍ هَذَا ». قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ. قَالَ « فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ ». قَالَ وَلاَ أَدْرِى قَالَ أَوْ أَعْرَاضَكُمْ أَمْ لاَ « كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَلَّغْتُ ». قَالُوا بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ « لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ». وهو حديث صحيح
وآخره وردفي حديث آخر صحيح
(2) - سنن أبى داود(5118 ) صحيح
الجعل : جمع الجعل وهو دويبة سوداء كالخنفساء تدير الخراء بأنفها = العبية : الكبر والفخر
وفي تحفة الأحوذي - (ج 9 / ص 405)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ رَجُلَانِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ فَهُوَ الْخَيْرُ الْفَاضِلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسِيبًا فِي قَوْمِهِ ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ فَهُوَ الدَّنِيءُ وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِهِ شَرِيفًا رَفِيعًا ، اِنْتَهَى . وَقِيلَ مَعْنَاهُ : إِنَّ الْمُفْتَخِرَ الْمُتَكَبِّرَ إِمَّا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ فَإِذَنْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ فَهُوَ ذَلِيلٌ عِنْدَ اللَّهِ وَالذَّلِيلُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّكَبُّرَ ، فَالتَّكَبُّرُ مَنْفِيٌّ بِكُلِّ حَالٍ " النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ " أَيْ فَلَا يَلِيقُ بِمِنْ أَصْلُهُ التُّرَابُ النَّخْوَةُ وَالتَّجَبُّرُ أَوْ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ وَاحِدًا فَالْكُلُّ إِخْوَةٌ فَلَا وَجْهَ لِلتَّكَبُّرِ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْأُمُورِ عَارِضَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا حَقِيقَةً ، نَعَمْ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَهِيَ مُبْهَمَةٌ فَالْخَوْفُ أَوْلَى لِلسَّالِكِ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْمَسَالِكِ .
(3) - إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم بهذه الحقيقة في معرض دعوتهم إلى الهدى , ومجاهدتهم ليخرجوا مما هم فيه من الظلمات الى نور الله وهداه . في حاجة الى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله . وأن الله غني عنهم كل الغنى . وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم , وهو المحمود بذاته . وأنهم لا يعجزون الله ولا يعزون عليه فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض , فإن ذلك عليه يسير . .
الناس في حاجة إلى أن يذكروا بهذه الحقيقة , لئلا يركبهم الغرور وهم يرون أن الله - جل وعلا - يعنى بهم , ويرسل إليهم الرسل ; ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة الى الهدى , ويخرجوهم من الظلمات إلى النور . ويركبهم الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على الله ! وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئاً في ملكه تعالى ! والله هو الغني الحميد .
وإن الله سبحانه يمنح العباد من رعايته , ويفيض عليهم من رحمته , ويغمرهم بسابغ فضله - بإرسال رسله إليهم , واحتمال هؤلاء الرسل ما يحتملون من إعراضهم وإيذائهم , وثباتهم على الدعوة إلى الله بعد الإعراض والإيذاء . . إن الله سبحانه إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلاً وكرماً ومناً . لأن هذه صفاته المتعلقة بذاته . لا لأن هؤلاء العباد يزيدون في ملكه شيئاً بهداهم , أو ينقصون من ملكه شيئاً بعماهم . ولا لأن هؤلاء العباد مخلوقات نادرة عزيزة صعبة الإعادة أو الاستبدال , فيغتفر لهم ما يقع منهم لأنهم صنف لا يعاد ولا يستبدل .
وإن الإنسان ليدهش ويحار في فضل الله ومنه وكرمه , حين يرى هذا الإنسان الصغير الضئيل الجاهل القاصر , الضعيف العاجز , ينال من عناية الله ورعايته كل هذا القدر الهائل !
والإنسان ساكن صغير من سكان هذه الأرض . والأرض تابع صغير من توابع الشمس . والشمس نجم مما لا عد له ولا حصر من النجوم . والنجوم إن هي إلا نقط صغيرة - على ضخامتها الهائلة - متناثرة في فضاء الكون الذي لا يعلم الناس حدوده . وهذا الفضاء الذي تتناثر فيه تلك النجوم كالنقط التائهة إن هو إلا بعض خلق الله !
ثم ينال الإنسان من الله كل هذه الرعاية . . ينشئه , ويستخلفه في الأرض , ويهبه كل أدوات الخلافة - سواء في تكوينه وتركيبه أو تسخير القوى والطاقات الكونية اللازمة له في خلافته - ويضل هذا المخلوق ويتبجح حتى ليشرك بربه أو ينكره . فيرسل الله إليه الرسل , رسولاً بعد رسول , وينزل على الرسل الكتب والخوارق . ويطرد فضل الله ويفيض حتى لينزل في كتابه الأخير للبشر قصصاً يحدث بها الناس , ويقص عليهم ما وقع لأسلافهم , ويحدثهم عن ذوات أنفسهم , ويكشف لهم عما فيها من قوى وطاقات , ومن عجز وضعف , بل إنه - سبحانه - ليحدث عن فلان وفلان بالذات , فيقول لهذا:أنت فعلت وأنت تركت , ويقول لذاك:هاك حلاً لمشكلتك , وهاك خلاصاً من ضيقتك !
كل ذلك , وهذا الإنسان هو الساكن الصغير من سكان هذه الأرض , التابعة الصغيرة من توابع الشمس , التائهة في هذا الوجود الكبير حتى ما تكاد تحس ! والله - سبحانه - هو فاطر السماوات والأرض , وخالق هذا الوجود بما فيه ومن فيه بكلمة . بمجرد توجه الإرادة . وهو قادر على ان يخلق مثله بكلمة وبمجرد توجه الإرادة . .
والناس خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة ليدركوا مدى فضل الله ورعايته ورحمته , وليستحيوا أن يستجيبوا للفضل الخالص والرعاية المجردة والرحمة الفائضة بالإعراض والجحود والنكران .
فهي من هذه الناحية لمسة وجدانية موحية , الى جانب أنها حقيقة صادقة واقعة . والقرآن يلمس بالحقائق قلوب البشر , لأن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس , ولأنه هو الحق وبالحق نزل . فلا يتحدث إلا بالحق , ولا يقنع الا بالحق , ولا يعرض إلا بالحق , ولا يشير بغير الحق . .في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 395)

(15) سورة فاطر ،وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ صِنْفَيْنِ مِنْ الْفُقَرَاءِ : أَهْلَ الصَّدَقَاتِ وَأَهْلَ الْفَيْءِ فَقَالَ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ : {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (273)(1) سورة البقرة، وَقَالَ فِي الصِّنْفِ الثَّانِي وَهُمْ أَفْضَلُ الصِّنْفَيْنِ :{لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (2)(8) سورة الحشر. وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئَاتِ وَجَاهَدُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ مَنِ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ »(3).
أَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيه بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ { رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ }(4)
__________
(1) - اجْعَلُوا مَا تُنْفِقُونَ لِلَّذِينَ ذَكَرَ اللهُ صِفَاتِهِم الخَمْسَ ، التِي هِيَ أجَلُّ الأوْصَافِ قَدْراً ، وَهِيَ : ( الإِحْصَارُ ، وَالعَجْزُ عَنِ الكَسْبِ ، وَالتَّعَفُّفُ ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِسِيمَاهُمْ ، وَعَدَمُ سُؤَالِهِمْ شَيئاً مِمَّا فِي أيدِي النَّاسِ ) . وَهؤُلاءِ هُمُ الفُقَرَاءُ مِنَ المُهَاجِرِينَ الذِينَ انْقَطَعُوا للهِ وَرَسُولِهِ ، وَسَكَنُوا المَدِينةَ ، وَلَيسَ لَهُمْ وَسيلةُ عَيْشٍ يُنْفِقُونَ مِنْها عَلَى أنْفُسِهِمْ ، وَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَفَراً لِلْبَحْثِ عَن الرِّزْقِ ، وَيَحْسَبُهُمْ مَنْ لاَ يَعْرِفُهُمْ ، وَلا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ ، أنَّهُمْ أغْنِيَاءُ مِنْ تَعَفَّفِهِمْ فِي لِبَاسِهِمْ وَحَالِهِمْ وَمَقَالِهِمْ ، وَتَعْرِفُهُمْ بِمَا يَظْهَرُ لِذَوِي الألْبَابِ مِنْ صِفَاتِهِمْ : لاَ يُلِحُّونَ فِي المَسْألَةِ ، وَلاَ يَطْلُبُونَ مِنَ النَّاسِ مَا لاَ يَحْتَاجُونَ إليهِ .
وَجَميعُ مَا تُنْفِقُونَهُ مِنْ خَيرٍ فَإنَّ اللهُ عَالِمٌ بِهِ ، وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَيهِ أوْفَى الجَزَاءِ يَوَمَ القيَامَةِ .
(2) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى حَالَةَ الفُقَرَاءِ المُسْتَحِقِّينَ لِمَالِ الفَيْءِ فَيَذْكُرُ أَنَّهُم الذِينَ اضْطَرَّهُم كُفَّارُ مَكَّةَ إِلَى الخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ ، وَتَرْكِ أَمْوَالِهِمْ ، وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ طَلَباً لِمَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى ، وابْتِغَاءَ ثَوَابِهِ ، وَنُصْرَةً للهِ وَرَسُولِهِ ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ الصَّادِقُونَ فِي إِيْمَانِهِمْ ، الذِينَ وَفَّقُوا قَوْلَهُمْ مَعَ فِعْلِهِمْ ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ المُهَاجِرُونَ .
(3) - مسند أحمد (24685و24694) وهو صحيح لغيره وبعضه في صحيح البخارى (10 )
(4) - وفي كشف الخفاء من المحدث (1362 ) رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر قال جهاد القلب.قال الحافظ ابن حجر في تسديد القوس هو مشهور على الألسنة وهو من كلام إبراهيم بن عيلة، انتهى،
وأقول الحديث في الإحياء قال العراقي رواه بسند ضعيف عن جابر ورواه الخطيب في تاريخه عن جابر بلفظ قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزاة فقال عليه الصلاة والسلام: قدمتم خير مقدم وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه، انتهى،
والمشهور على الألسنة رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر دون باقيه ففيه اقتصار، انتهى
وفي تخريج أحاديث الكشاف - (ج 2 / ص 395)
825 - الحَدِيث الثَّالِث عشر عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنه رَجَعَ من بعض غَزَوَاته فَقَالَ ( رَجعْنَا من الْجِهَاد الْأَصْغَر إِلَى الْجِهَاد الْأَكْبَر )قلت غَرِيب جدا وَذكره الثَّعْلَبِيّ هَكَذَا من غير سَنَد وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب الزّهْد وَهُوَ مُجَلد لطيف أخبرنَا عَلّي بن أَحْمد بن عَبْدَانِ حَدثنَا أَحْمد بن عبيد حَدثنَا تمْتَام حَدثنَا عِيسَى بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا يَحْيَى بن يعلي عَن لَيْث عَن عَطاء عَن جَابر قَالَ قدم عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قوم غزَاة فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام قدمتم خير مقدم من الْجِهَاد الْأَصْغَر إِلَى الْجِهَاد الْأَكْبَر ) قيل وَمَا الْجِهَاد الْأَكْبَر قَالَ مجاهدة العَبْد هَوَاهُ )انْتَهَى قَالَ الْبَيْهَقِيّ هَذَا إِسْنَاد فِيهِ ضعف انْتَهَى.
وَرَوَى النَّسَائِيّ فِي كتاب الكنى أَخْبرنِي حَدثنَا أَبُو مَسْعُود مُحَمَّد بن زِيَاد الْمَقْدِسِي سَمِعت إِبْرَاهِيم بن أبي عبلة يَقُول لِأُنَاس جَاءُوا من الْغَزْو وَقد جئْتُمْ من الْجِهَاد الْأَصْغَر فَمَا فَعلْتُمْ فِي الْجِهَاد الْأَكْبَر قَالُوا يَا أَبَا إِسْمَاعِيل وَمَا الْجِهَاد الْأَكْبَر قَالَ جِهَاد الْقلب انْتَهَى
وانظر السلسلة الضعيفة (2460)
وفي زاد المعاد - (ج 3 / ص 5)
[ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللّهِ فَرْعٌ عَلَى جِهَادِ النّفْسِ ]
وَلَمّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللّهِ فِي الْخَارِجِ فَرْعًا عَلَى جِهَادِ الْعَبْدِ نَفْسِهِ فِي ذَاتِ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللّهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللّهُ عَنْهُ كَانَ جِهَادُ النّفْسِ مُقَدّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوّ فِي الْخَارِجِ وَأَصْلًا لَهُ فَإِنّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوّلًا لِتَفْعَلَ مَا أُمِرْت بِهِ وَتَتْرُكَ مَا نُهِيت عَنْهُ وَيُحَارِبُهَا فِي اللّهِ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوّهِ فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوّهِ وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ وَعَدُوّهُ الّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ مُتَسَلّطٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجَاهِدْهُ وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللّهِ بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَى عَدُوّهِ حَتّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ .

فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْعَالِهِ ،وَجِهَادُ الْكُفَّارِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ (1)؛ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(2)
__________
(1) - عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ». أَوْ « أَمِيرٍ جَائِرٍ ».سنن أبى داود (4346 ) وهو صحيح لغيره
وفي مسند أحمد (15106)عَنْ أَبِى الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْتُ جَابِراً أَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « أَفْضَلُ الْجِهَادِ مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُرِيقَ دَمُهُ ». فَقَالَ جَابِرٌ نَعَمْ. حديث صحيح لغيره
(2) - قال الآلوسى : قوله - تعالى - { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون } . شروع فى الحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه ، وليرغبوا عما يوجب خللا فيه . والمراد بالقاعدين : الذين أذن لهم فى القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم . وروى البخارى عن ابن عباس : هم القاعدون عن بدر وهو الظاهر الموافق للتاريخ على ما قيل . وقال أبو حمزة : إنهم المتخلفون عن تبوك . وروى أن الآية نزلت فى كعب بن مالك من بنى سلمة ومرارة بن الربيع من بنى عمرو بن عوف . وهلال بن أمية من بنى واقف حين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم فى تلك الغزوة .
وقوله { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } جملة معترضة جئ بها لبيان أنهم غير مقصودين بعدم المساواة مع المجاهدين فى الأجر .
والضرر : مصد ضرِر مثل مرض . وهذه الزنة تجئ - غالبا - فى العاهات ونحوها ، مثل عمى وحصر وعرج ورِمد .
والمراد بقوله { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } أى : غير أصحاب العلل والأمراض التى تحول بينهم وبين الجهاد فى سبيل الله من عمى أو عرج أو ضعف أو غير ذلك من الأعذار .
وقد روى المفسريون فى سبب نزول قوله - تعالى - { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } روايات منها ما أخرجه البخارى عن البراء قال : لما نزلت { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين } . دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها جاء ابن أم مكتوب فشكا ضرارته . فأنزل الله : { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } .
وقال القرطبى : روى الأئمة - واللفظ لأبى داود عن زيد بن ثابت قال : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذى فما وجدت ثقل شئ أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سرى عنه فقال : " أكتب " فكتبت فى كتف - أى فى عظم عريض كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم - { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله } . . . . الآية .
فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله السكينة فوقعت فخذه على خفذى . ووجدت من ثقلها فى المرة الثاينة كما وجدت فى المرة الأولى ثم سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اقرأ يا زيد . فقرأت : { لا يستوى الأقاعدون من المؤمنين } . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } الاية كلها .
قال زيد : فأنزلها الله وحدها فألحقتها . والذى نفسى بيده لكأنى أنظر إلى ملحقها عند صدع فى كتف .
والمعنى : لا يستوى عند الله - تعالى - الذين قعدوا عن الجهاد لإِعلاء كلمة الحق دون أن يكون عندهم من الأعذار ما يمنعهم من ذلك ، لا يستوى هؤلاء مع الذين جاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم . أما الين قعدوا عن الجهاد لأعذار تمنعهم عن مباشرته ، فإن نيتهم الصادقة سترفع منزلتهم عند الله - تعالى - ، وستجعلهم فى مصاف المجاهدين بأموالهم وأنفسهم أو قريبين منهم .
ويشهد لذلك ما رواه البخارى وأبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وهو يسر إلى تبوك : " إن بالمدينة أقواما ما سرتم من سير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه . قالوا : يا رسول الله ، وهم بالمدينة قال : نعم حبسهم العذر " .
قال ابن كثير : وفى هذا المعنى قال الشاعر :
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد ... سرتم جسوماً وسرنا نحن أوراحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر ... ومن أقام على عذر كمن راحا
وقوله : { لاَّ يَسْتَوِي } نفى لاستواء المجاهدين والقاعدين ، والمقصود بهذا النفى التعريض بالمفضول لتفريطه وزهده فى الخير ، وحض على الاقتداء بمن هو أفضل منه ، إذ من المعروف أن القاعد عن الجهاد لا يساوى المجاهد فى الفضل والثواب . فتعين أن يكون المراد بهذا التعبير التعريض بالقاعدين ليتأسوا بالمجاهدين ، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله :
فإن قلت : معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان فما فائدة نفى الاستواء؟ قلت : معناه الإِذكار بما بينهما من التفاوت العظيم ، والبون البعيد ، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته . فيهتز للجهاد ويرغب فيه ، وفى ارتفاع طبقته ، ونحوه : { هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } أريد به التحريك من الجهل إلى التعلم . ولينهض الشخص بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم .
وقوله { مِنَ المؤمنين } جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من القاعدين .
وفائدة قوله : { مِنَ المؤمنين } الإِيذان من أول الأمر بأن قعودهم عن الجهاد لم يمنعهم عن الوصف بالإِيمان ، لأن قعودهم عن الجهاد لم يكن عن نفاق أو عن ضعف فى دينهم ، وإنما كان عن تراخ أو اشتغال ببعض الأمور الدنيوية .
قال الجمل وقوله : { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم { غَيْرُ } بالرفع : وقرأ الباقون بالنصب . وقرأ الأعمش بالجر .
فالرفع على وجهين :
أظهرما أنه على البدل من { القاعدون } . وإنما كان هذا أظهر لأن الكلام نفى والبدل معه أرجح .
والثاني : أنه رفع على أنه صفة لقوله { القاعدون } لأنهم لما لم يكونوا أناساً بأعيانهم بل أريد بهم الجنس أشبهوا النكرة فوصفوا بها .
وأما النصب فعلى : الاستثناء من { القاعدون } وهو الأظهر ، لأنه المحدث عنه . وأما الجر فعلى أنه صفة للمؤمنين .
وقوله : { فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } بيان لمزية المجاهدين على غيرهم .
والمراد بالقاعدين هنا - الذين قعدوا عن الجهاد لسبب مانع من مباشرته أى : فضل الله - تعالى - المجاهدين بأموالهم وأنفسهم من أجل إعزاز دينه ، فضلهم درجة على القاعدين بأعذار ، لأن المجاهدين قد عرضوا أنفسهم للمخاطر والأهوال ، وبذلوا أرواحهم وأمولهم فى سبيل إعلاء كلمة الله .
والدرجة هنا مستعارة للعلو المعنوى أى أن المراد بها هو الفضل ، ووفرة الأجر وزيادة الثواب . والتنوين فيها للتعظيم .
قال ابن جرير : فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من أولى الضرر درجة واحدة ، يعنى فضيلة واحدة . وذلك بفضل جهادهم بأنفسهم فأما فيما سوى ذلك فهما مستويان .
وقوله { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } جملة معترضة جئ بها تاركا لما عسى أن يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول .
أى : وكل واحد من فريقى المجاهدين والقاعدين من أهل الضرر وعده الله المثوبة الحسنى وهى الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم ، وإنما التفاوت فى زيادة العمل المتقضى لمزيد الثواب .
وقوله { كُلاًّ } مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإِفادة القصر تأكيدا للوعد وتنوينه عوض عن المضاف إليه . وقوله { الحسنى } مفعول ثان .
ثم بين - سبحانه - أنه قد فضل المجاهدين على القاعدين بغير عذر بدرجات عظيمة فقال { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً } .
أى : وفضل الله - تعالى - المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين دون أن يكون هناك عذر يمنعهم عن الجهاد ، فضل الله المجاهدين على هؤلاء القاعدين بالأجر العظيم والثواب الجزيل ، والمنزلة الرفيعة .
وقوله { أَجْراً عَظِيماً } منصوب على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع ، لأن الأجر هو ذلك التفضيل . أو على نزع الخافض أى فضلهم بأجر عظيم . أو على أنه مفعول ثان بتضمين فضل معنى أعطى أى أعطاهم أجرا تفضلا منه .
ثم فصل - سبحانه - هذا الأجر العظيم فقال { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } .
أى فضل الله - تعالى - المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين عن الجهاد بغير عذر بالأجر العظيم؛ الذى يرفعهم عند الله - تعالى - درجات عالية ويقربهم من مقامات قدسه ، ويغفر لهم ما فرط منهم ، ويتغمدهم بسابغ رحمته وكان الله كثير الغفران لأوليائه واسع الرحمة بأهل طاعته .
وقوله { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ } بدل أو عطف بيان من قوله { أَجْراً عَظِيماً } . وقوله { مِّنْهُ } جار ومجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجات .
ونكرت الدرجات للإِشعار بأنها درجات عظيمة لا يحدها الحصر ، ولا يعينها المقدار ، بل هى شرف عظيم لا يناله إلا المقربون الأبرار .
هذا ، وما جرينا عليه من أن المجاهدين يمتازون عن القاعدين بعذر بدرجة ، ويمتازون عن القاعدين بغير عذر بدرجات هو رأى كثير من المفسرين ، وقد عبر عنه صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : قد ذكر الله - تعالى - مفضلين درجة ومفضلين درجات فمن هم؟ قلت : أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء .
وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم فى التخلف اكتفاء بغيرهم ، لأن الغزو فرض كفاية .
ومن المفسرين من يرى أن الذين فضل الله عليهم المجاهدين بدرجة وبدرجات هم صنف واحد ، وهم الذين قعدوا عن الجهاد بدون عذر . أما الذين قعدوا بعذر فهم متساوون فى الأجر مع المجاهدين .
وعلى هذا الرأى سار الآلوسى فى تفسيره فقد قال ما ملخصه : { فَضَّلَ الله المجاهدين } فى سبيله { بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين } من المؤمنين غير أولى الضرر { دَرَجَةً } لا يقادر قدرها . { وَكُلاًّ } أى : كل واحد من الفريقين المجاهدين والقاعدين { وَعَدَ الله الحسنى } . وقوله { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين } عطف على ما قبله { أَجْراً عَظِيماً } .
ثم قال : ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة . وتقييده تارة بدرجة وتارة بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه . إما لتنزيل الاختلاف العنوانى بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتى تمهيداً لسلوك طريق الإِبهام ثم التفسير . . . . وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين والدرجة والدرجات .
وقد حكى الإِمام القرطبى هذين الوجهين فقال : قوله - تعالى - { فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً } وقد قال بعد هذا : { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } فقال قوم : التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغى وبيان وتأكيد .
وقيل : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر بدرجة واجدة . وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات .
والذى نراه أولى من هذين القولين من قال بأن الله - تعالى - فضل المجاهدين على القاعدين بعذر بدرجة ، وفضل المجاهدين على القاعدين بغير عذر بدرجات ، وذلك لأن هذا التفسير هو المأثور عن ابن عباس وغيره من الصحابة . فقد قال ابن عباس فى قوله - تعالى - { فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً } أراد بالقاعدين هنا أولى الضرر ولأن القاعدين بعذر وإن كانوا لهم من حسن النية ما يرفع منزلتهم إلا أن المجاهدين الذين باشروا الجهاد وعرضوا أنفسهم لأخطار القتال يفوقونهم منزلة وأجراً .
وهذا ما يقتضيه منطق العقول البشرية ، أما عطاء الله بعد ذلك لكل فريق فمرجعه إليه وحده على حسب ما تقتضيه حكمته وسعة رحمته .
هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أن الجهاد من أفضل الأعمال وأن المجاهدين لهم عند الله - تعالى - منازل عالية . ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن فى الجنة مائة درجة أعدها للمجاهدين فى سبيله . بين كل درجتين كما بين السماء والأرض . فإذا سألتم الله فاسألوه الفردون فإنه أوسط الجنة ومنه تتفجر أنهار الجنة " .
وبعد أن رفع - سبحانه - من شأن المجاهدين ، وبين حال القاعدين عن الجهاد يعذر أو بغير عذر ، أتبع ذلك ببيان حال القاعدين فى دار الكفر بدون هجرة إلى دار الإِسلام ، ووعد المهاجرين فى سبيل الله بحسن العاقبة فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ . . . غَفُوراً رَّحِيماً } .الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1041)

(95) سورة النساء، وَقَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)(1) [التوبة/19، 22] } . وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلاَّمٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَّمٍ قَالَ حَدَّثَنِى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ رَجُلٌ :مَا أُبَالِى أَنْ لاَ أَعْمَلَ عَمَلاً بَعْدَ الإِسْلاَمِ إِلاَّ أَنْ أُسْقِىَ الْحَاجَّ. وَقَالَ آخَرُ :مَا أُبَالِى أَنْ لاَ أَعْمَلَ عَمَلاً بَعْدَ الإِسْلاَمِ إِلاَّ أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَقَالَ آخَرُ: الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ. فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ وَقَالَ: لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ :{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(2) (19) سورة التوبة . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِىَّ قَالَ حَدَّثَنِى صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ - وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ - قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَىُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ :« الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا ». قُلْتُ ثُمَّ أَىٌّ قَالَ: « ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ». قُلْتُ ثُمَّ أَىٌّ قَالَ :« ثُمَّ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » قَالَ حَدَّثَنِى بِهِنَّ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِى(3)
__________
(1) - نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، حِينَ أُسِرَ بِبَدْرٍ ، فَقَالَ لَئِنْ سَبَقْتُمُونَا بِالإِسْلاَمِ وَالهِجْرَةِ وَالجِهَادِ ، لَقَدْ كُنَّا نُعَمِّرُ المَسْجِدَ الحَرَامَ ، وَنَسْقِي الحَاجَّ ، وَنَفكُّ العَانِيَ . فَرَدَّ اللهَ تَعَالَى عَلَيْهِ قَائِلاً : إِنَّ سِقَايَةَ الحَاجِّ ، وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ لاَ تَسْتَوِيَانِ عِنْدَ اللهِ مَعَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَالجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ إلَى الحَقِّ فِي أَعْمَالِهِمْ ، وَلاَ إلى الحُكْمِ العَدْلِ فِي أعْمَالِ غَيْرِهِمْ .
فَالذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، هُمْ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ دَرَجَةً وَمَقَاماً ، وَأَكْثَرُ مَثُوبَةً مِنَ الذِينَ عَمَّرُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ ، وَسَقَوْا الحَاجَّ فِي الجَّاهِلِيةِ . وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُجَاهِدُونَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُمُ الفَائِزُونَ بِرَحْمَةِ اللهِ ، وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّاتِهِ .
وَهَؤُلاَءِ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فِي كِتَابِهِ ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ، وَعَلَى لِسَانِ مَلاَئِكَتِهِ حِينَ مَوْتِهِمْ ، بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانٍ ، وَبِأَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِهِ الوَاسِعَةَ ، وَسَيبقَوْنَ فِيهَا أَبَداً فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ ، وَالرِضْوَانُ مِنَ اللهِ هُوَ نِهَايَةُ الإِحْسَانِ ، وَأَعْلَى النَّعِيمِ ، وَأَكْمَلُ الجَزَاءِ .
وَسَيَكُونُ هَؤُلاَءِ الكِرَامُ مُخَلَّدِينَ فِي الجَنَّةِ أَبَداً وَهَذا جَزَاءٌ لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ ، وَاللهُ تَعَالَى عِنْدَهُ الأَجْرُ العَظِيمُ لِمَنْ آمَنَ وَجَاهَدَ ، وَقَامَ بِمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ الإِسْلاَمُ .أيسر التفاسير لأسعد حومد - (ج 1 / ص 1255)
(2) - صحيح مسلم (4979 ) وأحمد(18864 )
(3) - صحيح مسلم (264 ) وصحيح البخارى (527 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 2 / ص 294)
قَوْله ( أَيّ الْعَمَلِ أَحَبّ إِلَى اللَّهِ ) فِي رِوَايَةِ مَالِك بْن مِغْوَل " أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَل " وَكَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظ هُوَ الْمَسْئُولُ بِهِ فَلَفْظ حَدِيث الْبَابِ مَلْزُوم عَنْهُ . وَمُحَصِّلُ مَا أَجَابَ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْره مِمَّا اِخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأَجْوِبَة بِأَنَّهُ أَفْضَل الْأَعْمَالِ أَنَّ الْجَوَابَ اِخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ السَّائِلِينَ بِأَنْ أَعْلَمَ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ ، أَوْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ رَغْبَة ، أَوْ بِمَا هُوَ لَائِقٌ بِهِمْ ، أَوْ كَانَ الِاخْتِلَاف بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ بِأَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ ، فَقَدْ كَانَ الْجِهَاد فِي اِبْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ أَفْضَل الْأَعْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ الْوَسِيلَةُ إِلَى الْقِيَامِ بِهَا وَالتَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا ، وَقَدْ تَضَافَرَتْ النُّصُوص عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَل مِنْ الصَّدَقَةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَفِي وَقْتِ مُوَاسَاةِ الْمُضْطَرِّ تَكُونُ الصَّدَقَةُ أَفْضَلَ ، أَوْ أَنَّ " أَفْضَلَ " لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا بَلْ الْمُرَاد بِهَا الْفَضْل الْمُطْلَق ، أَوْ الْمُرَاد مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَحُذِفَتْ مِنْ وَهِيَ مُرَادَة . وَقَالَ اِبْن دَقِيقِ الْعِيدِ : الْأَعْمَالُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَحْمُولَة عَلَى الْبَدَنِيَّةِ ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ، فَلَا تَعَارُضَ حِينَئِذٍ بَيْنَهُ وَبَيْن حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " أَفْضَل الْأَعْمَالِ إِيمَان بِاللَّهِ " الْحَدِيثَ . وَقَالَ غَيْره : الْمُرَادُ بِالْجِهَادِ هُنَا مَا لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْن ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِ الْوَالِدَيْنِ فَيَكُونُ بَرُّهُمَا مُقَدَّمًا عَلَيْهِ .
قَوْله ( الصَّلَاة عَلَى وَقْتِهَا ) قَالَ اِبْن بَطَّال فِيهِ أَنَّ الْبِدَارَ إِلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا أَفْضَل مِنْ التَّرَاخِي فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا شَرَطَ فِيهَا أَنْ تَكُونَ أَحَبّ الْأَعْمَالِ إِذَا أُقِيمَتْ لِوَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ .
قُلْت : وَفِي أَخْذِ ذَلِكَ مِنْ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ نَظَر ، قَالَ اِبْن دَقِيقِ الْعِيدِ : لَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي أَوَّلًا وَلَا آخِرًا ُ وَكَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الِاحْتِرَاز عَمَّا إِذَا وَقَعَتْ قَضَاء . وَتُعُقِّبُ بِأَنَّ إِخْرَاجَهَا عَنْ وَقْتِهَا مُحَرَّم ، وَلَفْظ " أَحَبَّ " يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الِاسْتِحْبَابِ فَيَكُونُ الْمُرَاد الِاحْتِرَاز عَنْ إِيقَاعِهَا آخِر الْوَقْتِ . وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُشَارَكَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ ، فَإِنْ وَقَعَتْ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا كَانَتْ أَحَبّ إِلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ ؛ فَوَقَعَ الِاحْتِرَاز عَمَّا إِذَا وَقَعَتْ خَارِجَ وَقْتِهَا مِنْ مَعْذُورٍ كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي فَإِنَّ إِخْرَاجَهُمَا لَهَا عَنْ وَقْتِهَا لَا يُوصَفُ بِالتَّحْرِيمِ وَلَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ مَعَ كَوْنِهِ مَحْبُوبًا لَكِنَّ إِيقَاعَهَا فِي الْوَقْتِ أَحَبّ .
قَوْله ( حَدَّثَنِي بِهِنَّ )هُوَ مَقُولُ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَفِيهِ تَقْرِيرٌ وَتَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ بَاشَرَ السُّؤَالَ وَسَمِعَ الْجَوَابَ .
قَوْله ( وَلَوْ اِسْتَزَدْته ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَهُوَ مَرَاتِب أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مِنْ مُطْلَقِ الْمَسَائِلِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا ، وَزَاد التِّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيق الْمَسْعُودِيّ عَنْ الْوَلِيدِ " فَسَكَتَ عَنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ اِسْتَزَدْته لَزَادَنِي " فَكَأَنَّهُ اِسْتَشْعَرَ مِنْهُ مَشَقَّة ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِم " فَمَا تَرَكْت أَنْ أَسْتَزِيدَهُ إِلَّا إِرْعَاء عَلَيْهِ " أَيْ شَفَقَةً عَلَيْهِ لِئَلَّا يَسْأَمَ . وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ تَعْظِيم الْوَالِدَيْنِ ، وَأَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ يُفَضَّلُ بَعْضهَا عَلَى بَعْض . وَفِيهِ السُّؤَالُ عَنْ مَسَائِلَ شَتَّى فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَالرِّفْق بِالْعَالِمِ ، وَالتَّوَقُّف عَنْ الْإِكْثَارِ عَلَيْهِ خَشْيَة مَلَالِهِ ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَة مِنْ تَعْظِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّفَقَة عَلَيْهِ ، وَمَا كَانَ هُوَ عَلَيْهِ مِنْ إِرْشَادِ الْمُسْتَرْشِدِينَ وَلَوْ شَقَّ عَلَيْهِ . وَفِيهِ أَنَّ الْإِشَارَةَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَة التَّصْرِيح إِذَا كَانَتْ مُعَيَّنَة لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ مُمَيِّز لَهُ عَنْ غَيْرِهِ . قَالَ اِبْن بَزِيزَةَ : الَّذِي يَقْتَضِيه النَّظَرُ تَقَدُّمُ الْجِهَادِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبَدَنِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَذْلَ النَّفْسِ ، إِلَّا أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَأَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَمْر لَازِم مُتَكَرِّر دَائِم لَا يَصْبِرُ عَلَى مُرَاقَبَة أَمْر اللَّهِ فِيهِ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقَالَ « إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ » . قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ « الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » . قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ « حَجٌّ مَبْرُورٌ »(1) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ « لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ ». قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ « لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ ». وَقَالَ فِى الثَّالِثَةِ « مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلاَ صَلاَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى »(2)
__________
(1) - صحيح البخارى (26 ) ومسلم (258 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 1 / ص 43)
قَالَ النَّوَوِيّ : ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيث الْجِهَاد بَعْد الْإِيمَان ، وَفِي حَدِيث أَبِي ذَرّ لَمْ يَذْكُر الْحَجّ وَذَكَرَ الْعِتْق ، وَفِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود بَدَأَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ الْبِرّ ثُمَّ الْجِهَاد ، وَفِي الْحَدِيث الْمُتَقَدِّم ذَكَرَ السَّلَامَة مِنْ الْيَد وَاللِّسَان . قَالَ الْعُلَمَاء : اِخْتِلَاف الْأَجْوِبَة فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال ، وَاحْتِيَاج الْمُخَاطَبِينَ ، وَذَكَرَ مَا لَمْ يَعْلَمهُ السَّائِل وَالسَّامِعُونَ وَتَرَكَ مَا عَلِمُوهُ ، وَيُمْكِن أَنْ يُقَال : إِنَّ لَفْظَة " مِنْ " مُرَادَة كَمَا يُقَال فُلَان أَعْقَل النَّاس وَالْمُرَاد مِنْ أَعْقَلهمْ ، وَمِنْهُ حَدِيث " خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِهِ " وَمِنْ الْمَعْلُوم أَنَّهُ لَا يَصِير بِذَلِكَ خَيْر النَّاس ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَدَّمَ الْجِهَاد وَلَيْسَ بِرُكْنٍ عَلَى الْحَجّ وَهُوَ رُكْن ؟ فَالْجَوَاب : أَنَّ نَفْع الْحَجّ قَاصِر غَالِبًا ، وَنَفْع الْجِهَاد مُتَعَدٍّ غَالِبًا ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ الْجِهَاد فَرْض عَيْن - وَوُقُوعه فَرْض عَيْن إِذْ ذَاكَ مُتَكَرِّر - فَكَانَ أَهَمَّ مِنْهُ فَقُدِّمَ ، وَاَللَّه أَعْلَم .
قلت ومثله عَنْ أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه - قَالَ سَأَلْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ، قَالَ :« إِيمَانٌ بِاللَّهِ ، وَجِهَادٌ فِى سَبِيلِهِ » . قُلْتُ فَأَىُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ :« أَغْلاَهَا ثَمَنًا ، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا » . قُلْتُ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ . قَالَ :« تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ » . قَالَ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ . قَالَ :« تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ » صحيح البخارى (2518 ) .
الأخرق : الجاهل بما يجب أن يعمله ولم يكن فى يديه صنعة يكتسب بها
(2) - صحيح مسلم (4977 ) والبخاري (2787 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 357)
وَفِي هَذَا الْحَدِيث عَظِيم فَضْل الْجِهَاد ؛ لِأَنَّ الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْقِيَام بِآيَاتِ اللَّه أَفْضَل الْأَعْمَال ، وَقَدْ جَعَلَ الْمُجَاهِد مِثْل مَنْ لَا يَفْتُر عَنْ ذَلِكَ فِي لَحْظَة مِنْ اللَّحَظَات ، وَمَعْلُوم أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَسْتَطِيعُونَهُ " وَاللَّهُ أَعْلَم .
وفي المنتقى - شرح الموطأ - (ج 3 / ص 20)
849 - ( ش ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ السَّبِيلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الطَّرِيقُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَجَمِيعُ أَعْمَالِ الْبِرِّ هِيَ سَبِيلُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ إِذَا أُطْلِقَتْ فِي الشَّرْعِ اِقْتَضَتْ الْغَزْوَ إِلَى الْعَدُوِّ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى بِمَالٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ : سُبُلُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي الْغَزْوِ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ إِطْلَاقَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَظْهَرُ فِي الْغَزْوِ وَتَمْثِيلُهُ الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالصَّائِمِ الْقَائِمِ يُرِيدُ فِي عِظَمِ ثَوَابِهِ وَكَثْرَتِهِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ لَهُ مِنْ الثَّوَابِ عَلَى جِهَادِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِثْلَ ثَوَابِ الْمُسْتَدِيمِ لِلْقِيَامِ وَالصِّيَامِ لَا يَفْتُرُ عَنْهُمَا وَإِنَّمَا أَحَالَ عَلَى ثَوَابِ الصَّائِمِ وَالْقَائِمِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ مِقْدَارَهُ لِمَا قَرَّرَ الشَّرْعُ مِنْ كَثْرَتِهِ وَعُرِفَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَالْمُرَادُ بِالْقَائِمِ هَهُنَا الْمُصَلِّي يُقَالُ فُلَانٌ يَقُومُ بِاللَّيْلِ إِذَا كَانَ يُصَلِّي فِيهِ .
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ حَتَّى يَرْجِعَ يُرِيدُ أَنَّ حَالَ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي أَجْرِهِ وَثَوَابِهِ مِثْلُ أَجْرِ هَذَا لِأَنَّ جَمِيعَ تَصَرُّفِ الْمُجَاهِدِ وَأَكْلِهِ وَنَوْمِهِ وَغَفْلَتِهِ يُمَاثِلُ ثَوَابُهُ ثَوَابَ الَّذِي يَقْرِنُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فَقَالَ : لَا أَجِدُ هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ تُصَلِّي لَا تَفْتُرُ وَتَصُومُ لَا تُفْطِرُ قَالَ : مَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ .

.
وَفِي السُّنَنِ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِى. قَالَ « اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ » أَوْ « أَيْنَمَا كُنْتَ ».قَالَ زِدْنِى. قَالَ « أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ». قَالَ زِدْنِى. قَالَ « خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ »(1)
__________
(1) - مسند أحمد (22709) وهذا لفظه وسنن الترمذى (2115 )
عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ». وهو صحيح لغيره
وفي تحفة الأحوذي - (ج 5 / ص 229)
قَوْلُهُ : ( اِتَّقِ اللَّهَ ) أَيْ بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ سَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ ، فَإِنَّ التَّقْوَى أَسَاسُ الدِّينِ وَبِهِ يَرْتَقِي إِلَى مَرَاتِبِ الْيَقِينِ
( حَيْثُ مَا كُنْت ) أَيْ فِي الْخَلَاءِ وَفِي النَّعْمَاءِ وَالْبَلَاءِ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِسِرِّ أَمْرِك كَمَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ظَوَاهِرِك ، فَعَلَيْك بِرِعَايَةِ دَقَائِقِ الْأَدَبِ فِي حِفْظِ أَوَامِرِهِ وَمَرَاضِيهِ ، وَالِاحْتِرَازِ عَنْ مَسَاخِطِهِ وَمَسَاوِيهِ { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }
( وَأَتْبِعْ ) أَمْرٌ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ
( السَّيِّئَةَ ) الصَّادِرَةَ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَذَا كَبِيرَةٍ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ عُمُومُ الْخَبَرِ وَجَرَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ لَكِنْ خَصَّهُ الْجُمْهُورُ بِالصَّغَائِرِ
( الْحَسَنَةَ ) صَلَاةً أَوْ صَدَقَةً أَوْ اِسْتِغْفَارًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ
( تَمْحُهَا ) أَيْ تَدْفَعُ الْحَسَنَةُ السَّيِّئَةَ وَتَرْفَعُهَا ، وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ ، وَالْمُرَادُ يَمْحُو اللَّهُ بِهَا آثَارَهَا مِنْ الْقَلْبِ أَوْ مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرَضَ يُعَالَجُ بِضِدِّهِ فَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ
( وَخَالِقْ النَّاسَ ) أَمْرٌ مِنْ الْمُخَالَقَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ أَيْ خَالِطْهُمْ وَعَامِلْهُمْ
( بِخُلُقٍ حَسَنٍ ) أَيْ تَكَلَّفْ مُعَاشَرَتَهُمْ بِالْمُجَامَلَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ نَحْوِ طَلَاقَةِ وَجْهٍ ، وَخَفْضِ جَانِبٍ ، وَتَلَطُّفٍ وَإِينَاسٍ ، وَبَذْلِ نَدًى ، وَتَحَمُّلِ أَذًى ، فَإِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُرْجَى لَهُ فِي الدُّنْيَا الْفَلَاحُ ، وَفِي الْآخِرَةِ الْفَوْزُ بِالنَّجَاةِ وَالنَّجَاحِ .
فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (ج 1 / ص 59)
1 ـ هذا الحديث اشتمل بجُملِه الثلاث على ما هو مطلوب من المسلم لربِّه ولنفسه ولغيره.
2 ـ قوله: (( اتَّق الله حيثما كنت ))، أصلُ التقوى في اللغة: أن يجعل بينه وبين الذي يخافه وقاية تقيه منه، مثل اتِّخاذ النِّعال والخفاف للوقاية مِمَّا يكون في الأرض من ضرر، وكاتِّخاذ البيوت والخيام لاتِّقاء حرارة الشمس، ونحو ذلك، والتقوى في الشرع: أن يجعلَ الإنسانُ بينه وبين غضب الله وقاية تقيه منه، وذلك بفعل المأمورات وترك المنهيات، وتصديق الأخبار، وعبادة الله وفقاً للشرع، لا بالبدع والمحدثات، وتقوى الله مطلوبةٌ في جميع الأحوال والأماكن والأزمنة، فيتَّقي الله في السرِّ والعلن، وبروزه للناس واستتاره عنهم، كما جاء في هذا الحديث: (( اتَّق الله حيثما كنت )).
3 ـ قوله: (( وأتْبع السيِّئة الحسنةَ تَمحُها ))، عندما يفعل المرءُ سيِّئةً فإنَّه يتوب منها، والتوبةُ حسنة، وهي تجبُّ ما قبلها من الكبائر والصغائر، ويكون أيضاً بفعل الحسنات، فإنَّها تمحو الصغائر، وأمَّا الكبائر فلا يمحوها إلاَّ التوبة منها.
4 ـ قوله: (( وخالِق الناسَ بخُلُق حسن ))، فإنَّه مطلوب من الإنسان أن يُعامل الناسَ جميعاً معاملة حسنة، فيُعاملهم بمثل ما يحبُّ أن يُعاملوه به؛ لقوله *: (( لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه ))، وقوله *: (( فمَن أحبَّ أن يُزحزح عن النار ويُدخل الجنَّة، فلتأته منيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليه ))، فقد وصف الله نبيَّه * بأنَّه على خُلُق عظيم، وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنَّ خلقَه * القرآن، رواه مسلم (746)، أي: أنَّه يقوم بتطبيق ما فيه، وجاء في السنة أحاديث كثيرة تدلُّ على فضل حسن الخُلُق، وتحثُّ على التخلُّق بالأخلاق الحسنة، وتحذِّر من الأخلاق السيِّئة.
5 ـ مِمَّا يُستفاد من الحديث:
1 ـ كمال نصح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمَّته، ومن ذلك ما اشتمل عليه هذا الحديث من هذه الوصايا الثلاث العظيمة الجامعة.
2 ـ الأمر بتقوى الله في جميع الأحوال والأمكنة والأزمان.
3 ـ الحثُّ على إتباع السيِّئات بالحسنات.
4 ـ أنَّ الحسنات تمحو السيِّئات.
5 ـ الحثُّ على مخالقة الناس بالأخلاق الحسنة.
وفي شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 1 / ص 301)
هذا الحديث من أحاديث الأربعين النووية للمؤلف رحمه الله وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاث وصايا عظيمة الوصية الأولى قال اتق الله حيثما كنت وتقوى الله هي اجتناب المحارم وفعل الأوامر هذه هي التقوى أن تفعل ما أمرك الله به إخلاصا لله واتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تترك ما نهى الله عنه امتثالا لنهي الله عز وجل وتنزها عن محارم الله مثاله تقوم بما أوجب الله عليك في أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي الصلاة فتأتي بها كلمة بشروطها وأركانها وواجباتها وتكملها بالمكملات فمن أخل بشيء من شروط الصلاة أو واجباتها فإنه لم يتق الله بل نقص من تقواه ما نقص من المأمور في الزكاة تقوى الله فيها أن تحصي جميع أموالك التي فيها الزكاة وتخرج زكاتك طيبة بها نفسك من غير بخل ولا تقتير ولا تأخير فمن لم يفعل فإنه لم يتق الله في الصيام تأتي بالصوم كما أمرت مجتنبا فيه اللغو والرفث والصخب والغيبة والنميمة وغير ذلك مما ينقص الصوم ويزيل روح الصوم ومعناه الحقيقي وهو الصوم عما حرم الله عز وجل وهكذا بقية الواجبات تقوم بها طاعة لله وامتثالا لأمره وإخلاصا له واتباعا لرسوله وكذلك في المنهيات تترك ما نهى الله عنه امتثالا لنهي الله عز وجل حيث نهاك فانتهي الوصية الثانية أتبع السيئة الحسنة تمحها أي إذا عملت سيئة فاتبعها بحسنة فإن الحسنات يذهبن السيئات ومن الحسنات بعد السيئات أن تتوب إلى الله من السيئات فإن التوبة من أفضل الحسنات كما قال الله عز وجل إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقال الله تعالى { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } وكذلك الأعمال الصالحة تكفر السيئات كما ما قال النبي عليه الصلاة والسلام الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر وقال العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما فالحسنات يذهبن السيئات الوصية الثالثة خالق الناس بخلق حسن والوصيتان الأوليان في معاملة الخالق والثالثة في معاملة الخلق أن تعاملهم بخلق حسن تحمد عليه ولا تذم فيه وذلك بطلاقة الوجه وصدق القول وحسن المخاطبة وغير ذلك من الأخلاق الحسنة وقد جاءت النصوص الكثيرة في فضل الخلق الحسن حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وأخبر أن أولى الناس به صلى الله عليه وسلم وأقربهم منه منزلة يوم القيامة أحاسنهم أخلاقا فالأخلاق الحسنة مع كونها مسلكا حسنا في المجتمع ويكون صاحبها محبوبا إلى الناس هي فيها أجر عظيم يناله الإنسان في يوم القيامة فاحفظ هذه الوصايا الثلاث من النبي صلى الله عليه وسلم والله الموفق
وقد شرح شيخ الإسلام رحمه الله هذا الحديث في م مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 653) فما بعد

., وَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ :« يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ ». فَقَالَ « أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ »(1)
__________
(1) - سنن أبى داود (1524 )صحيح
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ (ج 3 / ص 447):
( أَخَذَ بِيَدِهِ ) : كَأَنَّهُ عَقَدَ مَحَبَّة وَبَيْعَة مَوَدَّة
( وَاَللَّه إِنِّي لَأُحِبُّك ) : لَامُهُ لِلِابْتِدَاءِ وَقِيلَ لِلْقَسَمِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَحَدًا يُسْتَحَبُّ لَهُ إِظْهَار الْمَحَبَّةِ لَهُ
( فَقَالَ أُوصِيك يَا مُعَاذ لَا تَدَعَنَّ ) : إِذَا أَرَدْت ثَبَات هَذِهِ الْمَحَبَّة فَلَا تَتْرُكَنَّ
( فِي دُبُرِ كُلّ صَلَاة ) : أَيْ عَقِبَهَا وَخَلْفَهَا أَوْ فِي آخِرِهَا
( تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرك ) : مِنْ طَاعَة اللِّسَان
( وَشُكْرِك ) : مِنْ طَاعَة الْجِنَان
( وَحُسْنِ عِبَادَتك ) : مِنْ طَاعَة الْأَرْكَان . قَالَ الطِّيبِيُّ : ذِكْر اللَّه مُقَدِّمَة اِنْشِرَاح الصَّدْر ، وَشُكْرُهُ وَسِيلَة النِّعَم الْمُسْتَجَابَة ، وَحُسْنُ الشَّهَادَة الْمَطْلُوب مِنْهُ التَّجَرُّدُ عَمَّا يَشْغَلُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ النَّوَوِيُّ إِسْنَادُهُ صَحِيح ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاة
وفي شرح بلوغ المرام - (ج 70 / ص 3)
قول الرسول صلى الله عليه وسلم له: (إني أحبك) ويكفي ذلك فضلاً لـ معاذ أن الرسول يحبه، وكما جاء في مثل هذا المعنى في غزوة خيبر لما استعصى حصن مرحب ، ورجعوا متأثرين، فقال صلى الله عليه وسلم: ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يقول عمر : فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، ويقول عمر وهو محل الشاهد: والله! ما تطلعت نفسي لرئاسة ولا لإمارة إلا تلك الليلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ويحبه الله ورسوله )؛ لأن هذا ليس بالأمر الهين، ومع هذه المحبة يقول له: (أريد أن أوصيك)، فهو أعلن من جانبه أيضاً: ( وأنا والله يا رسول الله أحبك )، وكون معاذ يحب رسول الله هذا أمر واجب، ( والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين ) { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا } [التوبة:24]، ولا ينبغي أبداً أن يقدم محبة مخلوق عرضاً كان أو أصلاً، إنساناً أو مالاً؛ على محبة رسول الله؛ لأن محبة رسول الله هي معيار الإيمان.
طلب العون من الله للعبد في العبادة
قال: (أوصني، قال: أوصيك إن استطعت -يعني بقدر ما تستطيع- ألا تدع -بمعنى: لا تترك- أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني) تطلب العون من الله على ماذا؟ (أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
المتأمل في أكثر الأدعية والأذكار الواردة عقب الصلوات يجدها مرتبطة بجزئيات في صلاته، فالتسبيح والتحميد والتكبير، والاستعاذة من النار ومن عذاب القبر ومن فتنة ومن ومن ، وكذلك افتتاحية صلاتك بالفاتحة، ففي سورة الفاتحة: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة:5]، (أعني على) أعني: بمعنى الاستعانة، استعن بالله على ذكره، إياك نعبد، فهي جزء من الصلاة في الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وما لم يكن هناك عون من الله للإنسان على طاعته وعبادته فليست هناك فائدة، فلا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول عن معصية، ولا قوة على طاعة إلا بالله سبحانه.
(أعني على ذكرك) والصلاة من الذكر، أي: استعن بالله على الحفاظ على الصلاة، والصلاة عون هي بذاتها، قال الله: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [البقرة:45].
(وعلى شكرك) شكر النعم بحسبها: تكون بالقول، وبالفعل، وبالقلب، وكما يقال: شكر النعمة عامل دوامها وحفظها، وبشكرها تدوم.
الوسطية في العبادة
وقوله: (وحسن عبادتك) ولم يقل: وكثرة؛ لأن الكثرة قد تكون كغثاء السيل، وكما في الحديث: ( تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقيامكم مع قيامهم، لم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )، والمولى سبحانه يقول: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك:2]، ليس أكثر، فالنتيجة ليست بالكثرة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كره الكثرة؛ لأنها قد تؤدي إلى الملل ثم العجز.

.و عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ رِدْفَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ إِلاَّ مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ « يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ». قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ « يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ». قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةَ ثُمَّ قَالَ « يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ». قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ « هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ». ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ « يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ». قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ « هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ ».(1)
__________
(1) - صحيح البخارى(2856 ) ومسلم (152 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 105)
قَالَ صَاحِب التَّحْرِير اِعْلَمْ أَنَّ الْحَقّ كُلّ مَوْجُود مُتَحَقِّق أَوْ مَا سَيُوجَدُ لَا مَحَالَة وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى هُوَ الْحَقّ الْمَوْجُود الْأَزَلِيّ الْبَاقِي الْأَبَدِيُّ وَالْمَوْت وَالسَّاعَة وَالْجَنَّة وَالنَّار حَقّ لِأَنَّهَا وَاقِعَة لَا مَحَالَة وَإِذَا قِيلَ لِلْكَلَامِ الصِّدْق حَقّ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْء الْمُخْبَر عَنْهُ بِذَلِكَ الْخَبَر وَاقِع مُتَحَقِّق لَا تَرَدُّد فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْحَقّ الْمُسْتَحَقّ عَلَى الْعَبْد مِنْ غَيْر أَنْ يَكُون فِيهِ تَرَدُّد وَتَحَيُّر . فَحَقّ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْعِبَاد مَعْنَاهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِمْ مُتَحَتِّمًا عَلَيْهِمْ وَحَقّ الْعِبَاد عَلَى اللَّه تَعَالَى مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُتَحَقِّق لَا مَحَالَة . هَذَا كَلَام صَاحِب التَّحْرِير وَقَالَ غَيْره : إِنَّمَا قَالَ حَقّهمْ عَلَى اللَّه تَعَالَى عَلَى جِهَة الْمُقَابَلَة لِحَقِّهِ عَلَيْهِمْ ، وَيَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ نَحْو قَوْل الرَّجُل لِصَاحِبِهِ حَقّك وَاجِب عَلَيّ أَيْ مُتَأَكِّد قِيَامِي بِهِ . وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَقّ عَلَى كُلّ مُسْلِم أَنْ يَغْتَسِل فِي كُلّ سَبْعَة أَيَّام " . وَاَللَّه أَعْلَم .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 339)
قَوْله ( أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) الْمُرَاد بِالْعِبَادَةِ عَمَلُ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَعَاصِي وَعَطَفَ عَلَيْهَا عَدَمَ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ تَمَامُ التَّوْحِيدِ ، وَالْحِكْمَةُ فِي عَطْفِهِ عَلَى الْعِبَادَة أَنَّ بَعْضَ الْكَفَرَةِ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ آلِهَةً أُخْرَى فَاشْتَرَطَ نَفْي ذَلِكَ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْجُمْلَة حَالِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ يَعْبُدُونَهُ فِي حَالِ عَدَمِ الْإِشْرَاكِ بِهِ . قَالَ اِبْن حِبَّانَ : عِبَادَة اللَّه إِقْرَار بِاللِّسَانِ وَتَصْدِيق بِالْقَلْبِ وَعَمَل بِالْجَوَارِحِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْجَوَاب " فَمَا حَقّ الْعِبَاد إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ " فَعَبَّرَ بِالْفِعْلِ وَلَمْ يُعَبِّرْ بِالْقَوْلِ .
قَوْله ( هَلْ تَدْرِي مَا حَقّ الْعِبَاد عَلَى اللَّه إِذَا فَعَلُوهُ ) ؟ الضَّمِير لَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله " يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " فِي رِوَايَة مُسْلِمٍ " إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ " .
قَوْله ( حَقّ الْعِبَاد عَلَى اللَّه أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ ) فِي رِوَايَة اِبْن حِبَّانَ مِنْ طَرِيق عَمْرو بْن مَيْمُون " أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا يُعَذِّبَهُمْ " وَفِي رِوَايَة أَبِي عُثْمَان " يُدْخِلهُمْ الْجَنَّة " وَفِي رِوَايَة أَبِي الْعَوَّامِ مِثْلُهُ وَزَادَ " وَيَغْفِر لَهُمْ " وَفِي رِوَايَة عَبْد الرَّحْمَن بْن غُنْمٍ " أَنْ يُدْخِلَهُمْ الْجَنَّةَ " قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنْ الثَّوَاب وَالْجَزَاءِ ، فَحُقَّ ذَلِكَ وَوَجَبَ بِحُكْمِ وَعْدِهِ الصِّدْق ، وَقَوْله الْحَقُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فِي الْخَبَرِ وَلَا الْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ ، فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِحُكْمِ الْأَمْرِ إِذْ لَا آمِرَ فَوْقَهُ وَلَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ لِأَنَّهُ كَاشِفٌ لَا مُوجِبٌ اِنْتَهَى . وَتَمَسَّكَ بَعْض الْمُعْتَزِلَةِ بِظَاهِرِهِ . وَلَا مُتَمَسَّكَ لَهُمْ فِيهِ مَعَ قِيَام الِاحْتِمَال . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ غَيْرُ هَذِهِ ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَاد بِالْحَقِّ هُنَا الْمُتَحَقِّق الثَّابِت أَوْ الْجَدِير ، لِأَنَّ إِحْسَانَ الرَّبِّ لِمَنْ لَمْ يَتَّخِذْ رَبًّا سِوَاهُ جَدِيرٌ فِي الْحِكْمَة أَنْ لَا يُعَذِّبَهُ ، أَوْ الْمُرَاد أَنَّهُ كَالْوَاجِبِ فِي تَحَقُّقِهِ وَتَأَكُّدِهِ ، أَوْ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَة . قَالَ : وَفِي الْحَدِيث جَوَازُ رُكُوبِ اِثْنَيْنِ عَلَى حِمَارٍ ، وَفِيهِ تَوَاضُعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفَضْلُ مُعَاذ وَحُسْنُ أَدَبِهِ فِي الْقَوْلِ وَفِي الْعِلْمِ بِرَدِّهِ لِمَا لَمْ يُحِطْ بِحَقِيقَتِهِ إِلَى عِلْم اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَقُرْبِ مَنْزِلَتِهِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ تَكْرَارُ الْكَلَامِ لِتَأْكِيدِهِ وَتَفْهِيمِهِ ، وَاسْتِفْسَار الشَّيْخِ تِلْمِيذَهُ عَنْ الْحُكْمِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُ وَيُبَيِّنَ لَهُ مَا يُشْكِل عَلَيْهِ مِنْهُ . وَقَالَ اِبْن رَجَبٍ فِي شَرْحِهِ لِأَوَائِل الْبُخَارِيِّ : قَالَ الْعُلَمَاءُ يُؤْخَذ مِنْ مَنْعِ مُعَاذ مِنْ تَبْشِيرِ النَّاسِ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا أَنَّ أَحَادِيث الرُّخَصِ لَا تُشَاعُ فِي عُمُومِ النَّاسِ لِئَلَّا يَقْصُر فَهْمُهُمْ عَنْ الْمُرَادِ بِهَا ، وَقَدْ سَمِعَهَا مُعَاذ فَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا اِجْتِهَادًا فِي الْعَمَلِ وَخَشْيَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَنْزِلَتَهُ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يُقَصِّر اِتِّكَالًا عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْخَبَرِ ، وَقَدْ عَارَضَهُ مَا تَوَاتَرَ مِنْ نُصُوص الْكِتَاب وَالسُّنَّة أَنَّ بَعْضَ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ ، فَعَلَى هَذَا فَيَجِب الْجَمْع بَيْن الْأَمْرَيْنِ ، وَقَدْ سَلَكُوا فِي ذَلِكَ مَسَالِك : أَحَدهَا قَوْل الزُّهْرِيِّ إِنَّ هَذِهِ الرُّخْصَة كَانَتْ قَبْل نُزُول الْفَرَائِض وَالْحُدُود ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ عَنْهُ فِي حَدِيث عُثْمَان فِي الْوُضُوء ، وَاسْتَبْعَدَهُ غَيْره مِنْ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَدْخُل الْخَبَر ، وَبِأَنَّ سَمَاع مُعَاذ لِهَذِهِ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ أَكْثَرِ نُزُولِ الْفَرَائِضِ . وَقِيلَ لَا نَسْخَ بَلْ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرَائِطَ كَمَا تُرَتَّبُ الْأَحْكَامُ عَلَى أَسْبَابِهَا الْمُقْتَضِيَةِ الْمُتَوَقِّفَةِ عَلَى اِنْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ ، فَإِذَا تَكَامَلَ ذَلِكَ عَمِلَ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ بِقَوْلِهِ الْمُتَقَدِّم فِي كِتَاب الْجَنَائِز فِي شَرْحِ " أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ " : لَيْسَ مِنْ مِفْتَاحٍ إِلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ ، وَقِيلَ الْمُرَاد تَرْك دُخُول نَار الشِّرْك ، وَقِيلَ تَرْكُ تَعْذِيبِ جَمِيعِ بَدَنِ الْمُوَحِّدِينَ لِأَنَّ النَّار لَا تَحْرِق مَوَاضِع السُّجُود ، وَقِيلَ لَيْسَ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ وَحَّدَ وَعَبَدَ بَلْ يَخْتَصُّ بِمَنْ أَخْلَصَ ، وَالْإِخْلَاصُ يَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْقَلْبِ بِمَعْنَاهَا ، وَلَا يُتَصَوَّر حُصُولُ التَّحْقِيقِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِامْتِلَاءِ الْقَلْبِ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَتِهِ فَتَنْبَعِث الْجَوَارِح إِلَى الطَّاعَة وَتَنْكَفُّ عَنْ الْمَعْصِيَةِ . اِنْتَهَى مُلَخَّصًا . وَفِي آخِر حَدِيثِ أَنَس عَنْ مُعَاذ فِي نَحْو هَذَا الْحَدِيث " فَقُلْت أَلَا أُخْبِرُ النَّاسَ ؟ قَالَ : لَا لِئَلَّا يَتَّكِلُوا ، فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْد مَوْته تَأَثُّمًا . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَاب الْعِلْمِ .

.
وَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِى سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِى مِنَ النَّارِ. قَالَ :« لَقَدْ سَأَلْتَنِى عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ ». ثُمَّ قَالَ: « أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ». قَالَ ثُمَّ تَلاَ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) }سورة السجدة ، ثُمَّ قَالَ :« أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ ». قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ :« رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ ». ثُمَّ قَالَ :« أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ». قُلْتُ بَلَى يَا نَبِىَّ اللَّهِ، قَالَ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ :« كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا ». فَقُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ :« ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ».(1)
__________
(1) - سنن الترمذى (2825 )صحيح لغيره
وفي فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (ج 1 / ص 101)
1- قوله: "قلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يُدخلني الجنَّة ويُباعدني عن النار"يدلُّ على حرص الصحابة على الخير ومعرفة الأعمال التي بها حصول الجنَّة والسلامة من النار، ويدلُّ على وجود الجنَّة والنار، وأنَّ أولياء الله يعملون الصالحات ليظفروا بالجنَّة ويسلموا من النار، وهذا بخلاف ما يقوله بعضُ الصوفية أنَّهم لا يعبدون الله رغبة في جنَّته ولا خوفاً من ناره، وهو باطل؛ لحرص الصحابة على معرفة الأعمال الموصلة إلى الجنَّة والمباعدة من النار، وقد قال الله عن خليله:{وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} ، ويدلُّ أيضاً على أنَّ الأعمالَ الصالحة سببٌ في دخول الجنَّة، وقد جاء في ذلك آياتٌ كثيرة، منها قول الله عزَّ وجلَّ: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وذلك لا يُنافي ما جاء في الحديث: "لن يدخل أحدكم بعمله الجنَّة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلاَّ أن يتغمَّدني الله برحمة منه" رواه البخاري (6463)، ومسلم (2816)، فإنَّ الباءَ في الحديث للمعاوضة، وفي الآيات للسببية، ودخول الجنَّات ليس عوضاً عن الأعمال، وإنَّما الأعمال الصالحة أسباب لها، والله عزَّ وجلَّ تفضَّل بالتوفيق للسبب، وهو العمل الصالح، وتفضَّل بالجزاء الذي هو دخول الجنَّة، فرجع الفضل في السبب والمسبب إلى الله سبحانه وتعالى.
2 قوله: "لقد سألت عن عظيم، وإنَّه ليسير على مَن يسَّره الله تعالى عليه" ، فيه بيان عظيم منزلة هذا السؤال وأهميَّته والتشجيع على مثله؛ حيث وصف الرسول صلى الله عليه وسلم المسئول عنه فيه بأنَّه عظيم، ومع عظمه ومشقَّة الإتيان به فقد أتبعه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بما يُبيِّن سهولته ويُسرَه على مَن يسَّره الله عليه، وهو يدلُّ على أنَّ المسلمَ يصبر على الطاعات ولو شقَّت على النفوس؛ لأنَّ عاقبة الصبر حميدة، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} ، وقال صلى الله عليه وسلم: "حُفَّت الجنَّة بالمكاره، وحُفَّت النَّار بالشهوات" رواه البخاري (6487)، ومسلم (2822).
3 قوله: "تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت" ، بيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ أهمَّ شيء يُتقرَّب به إلى الله ويحصل به الظفر بالجنَّة والسلامة من النار أداء الفرائض، وهي في هذا الحديث أركان الإسلام الخمسة التي جاءت في حديث جبريل وحديث ابن عمر: "بُني الإسلام على خمس" ، وقد جاء في الحديث القدسي: "وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبُّ إليَّ مِمَّا افترضته عليه" ، وقوله: "تعبد الله ولا تشرك به شيئاً" مشتملٌ على بيان حقِّ الله، وهو إخلاص العبادة لله، ويدخل في ذلك شهادة أنَّ محمداً رسول الله؛ لأنَّ عبادةَ الله لا تُعرف إلاَّ بتصديقه صلى الله عليه وسلم، والعمل بما جاء به، وكلُّ عمل يُتقرَّب به إلى الله لا ينفع صاحبَه إلاَّ إذا كان خالصاً لله ومبنيًّا على اتِّباع سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشهادتان متلازمتان، لا بدَّ مع شهادة أن لا إله إلاَّ الله من شهادة أنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكِرت في الحديث هذه الأركان مرتَّبة حسب أهميَّتها، وقُدِّمت الصلاة لكونها صلة وثيقة بين العبد وبين ربِّه؛ لتكرُّرِها في اليوم والليلة خمس مرَّات، وذكر بعدها الزكاة؛ لأنَّها لا تأتي في العام إلاَّ مرَّة واحدة، ونفعها يحصل لدافع الزكاة والمدفوعة إليه، ثم بعد ذلك الصيام؛ لتكرُّره في كلِّ عام، وبعده الحج؛ لأنَّه لا يجب في العمر إلاَّ مرَّة واحدة.
4 قوله: "ألاَ أدلُّك على أبواب الخير؟ الصومُ جُنَّة، والصدقةُ تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النار، وصلاةُ الرجل في جَوف الليل، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} "، حتى بلغ {يَعْلَمُونَ} لَمَّا بيَّن صلى الله عليه وسلم الفرائضَ التي هي سبب في دخول الجنَّة والسلامة من النار، أرشد صلى الله عليه وسلم إلى جملة من النوافل التي يحصل للمسلم بها زيادة الإيمان وزيادة الثواب وتكفير الذنوب، وهي الصدقة والصيام وقيام الليل، وقال عن الصوم: "الصومُ جُنَّة"، والجُنَّة هي الوقاية، والصوم وقاية في الدنيا والآخرة، فهو وقاية في الدنيا من الوقوع في المعاصي، فعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الشباب! مَن استطاع منكم الباءة فليتزوَّج، فإنَّه أحصن للفرج وأغض للبصر، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنَّه له وِجاء" رواه البخاري (1905)، ومسلم (1400)، وهو وقاية في الآخرة من دخول النار، وقد جاء في الحديث :."مَن صام يوماً في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" رواه البخاري (2840).
وقوله: "والصدقة تطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار" ، فيه بيان عظم شأن الصدقة النافلة، وأنَّ الله تعالى يحطُّ بها الخطايا ويُطفئها بها كما يُطفئ الماءُ النارَ، والخطايا هي الصغائر، وكذلك الكبائر مع التوبة منها، وتشبيه النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إطفاء الصدقة للخطايا بإطفاء الماء النار يدلُّ على زوال الخطايا كلّها؛ فإنَّ المشاهد في الماء إذا وقع على النار أنَّه يزيلها حتى لا يبقى لها وجود.
وقوله: "وصلاة الرَّجل في جوف الليل" هذا هو الأمر الثالث من أبواب الخير، التي يُتقرَّب إلى الله عزَّ وجلَّ بها، وقد تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ أفضلَ الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل، رواه مسلم (1163)، وقد مهَّد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لبيان أبواب الخير هذه بالاستفهام، وذلك في قوله لمعاذ: "ألاَ أدلُّك على أبواب الخير؟" ؛ لِمَا في ذلك من لفت نظر معاذ إلى أهميَّة ما يُلقَى عليه، ليتهيَّأ لذلك ويستعدَّ لوعي كلِّ ما يُلقَى عليه.
5 قوله: "ألاَ أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سَنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد" ، المراد بالأمر الشأن الذي هو أعظم الشؤون، وهو الدِّين الذي بُعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأسه الإسلام وهو عام، يشمل الصلاة والجهاد وغيرهما، وقد ذكر الصلاة ووصفها بأنَّها عمود الإسلام، شبَّه ذلك بالبناء الذي يقوم على أعمدته، وهي أهمُّ العبادات البدنية القاصر نفعها على صاحبها، ثم ذكر الجهاد الذي يشمل جهاد النفس وجهاد الأعداء من كفَّار ومنافقين، ووصفه بأنَّه ذروة سنام الإسلام؛ وذلك أنَّ في الجهاد قوةَ المسلمين وظهورَ دينهم وعلوَّه على غيره من الأديان.
6 قوله: "ألاَ أخبرك بمِلاكِ ذلك كلِّه؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسانه، ثم قال: كُفَّ عليك هذا، قلت: يا نبيَّ الله! وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟ فقال: ثكِلتك أمُّك! وهل يَكبُّ الناسَ في النَّار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم؟!" ، في هذا بيان خطر اللسان، وأنَّه الذي يوقع في المهالك، وأنَّ مِلاَك الخير في حفظه، حتى لا يصدر منه إلاَّ ما هو خير، كما قال صلى الله عليه وسلم: "مَن يضمن لي ما بين لحْيَيْه ورِجليه أضمن له الجنَّة" رواه البخاري (6474)، وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" ، قال ابن رجب في شرح هذا الحديث في جامع العلوم والحكم (2/146 147): "هذا يدلُّ على أنَّ كَفَّ اللسان وضبطَه وحَبسَه هو أصلُ الخير كلِّه، وأنَّ مَن مَلَكَ لسانَه فقد ملَكَ أمرَه وأحكمَه وضبطَه"، وقال: "والمرادُ بحصائد الألسنة جزاءُ الكلام المحرَّم وعقوباته، فإنَّ الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيِّئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمَن زرَع خيراً مِن قول أو عمل حصد الكرامةَ، ومَن زرع شرًّا من قول أو عمل حصد غداً النَّدامةَ، وظاهرُ حديث معاذ يدلُّ على أنَّ أكثرَ ما يدخل به الناسُ النارَ النطقُ بألسنتهم، فإنَّ معصيةَ النطق يدخل فيها الشركُ، وهو أعظم الذنوب عند الله عز وجل، ويدخل فيها القولُ على الله بغير علم، وهو قرين الشرك، ويدخل فيها شهادةُ الزور التي عدَلت الإشراك بالله عز وجل، ويدخل فيها السِّحر والقذف وغير ذلك من الكبائر والصغائر، كالكذب والغيبة والنَّميمة، وسائرُ المعاصي الفعلية لا يخلو غالباً من قول يقترن بها يكون معيناً عليها".
وقوله: "ثكلتك أمُّك" قال الشيخ ابن عثيمين في شرح هذا الحديث: "أي: فقدتك حتى كانت ثكلى من فقدك، وهذه الجملة لا يُراد بها معناها، وإنَّما يُراد بها الحثُّ والإغراء على فهم ما يُقال"، بل إنَّ ما جاء من ذلك في هذا الحديث وما يُماثله يكون من قبيل الدعاء لِمَن أضيف إليه، ويدلُّ له الحديث في صحيح مسلم (2603) عن أنس، وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أمَّ سُليم! أمَا تعلمين أنَّ شرطي على ربِّي أنِّي اشترطتُّ على ربِّي، فقلت: إنَّما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيُّما أحد دعوت عليه من أمَّتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهوراً وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة" ، ومن دقَّة الإمام مسلم رحمه الله وحسن ترتيبه صحيحه أنَّه أورد عقب هذا الحديث حديثَ ابن عباس رضي الله عنهما في قوله في معاوية: "لا أشبع اللهُ بطنَه" ، فيكون دعاءً له، وليس دعاء عليه.
7 مِمَّا يُستفاد من الحديث:
1 حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير ومعرفة ما يوصل إلى الجنَّة ويُباعد من النار.
2 أنَّ الجنَّة والنار موجودتان، وهما باقيتان لا تفنيان.
3 أنَّ عبادة الله يُرجى فيها دخول الجنَّة والسلامة من النار، وليس كما يقول بعض الصوفية إنَّ الله لا يُعبد رغبة في جنَّته ولا خوفاً من ناره.
4 بيان أهميَّة العمل المسئول عنه، وأنَّه عظيم.
5 أنَّ الطريقَ الموصل إلى النجاة شاق، وسلوكه يحصل بتيسير الله.
6 أنَّ أهمَّ شيء كُلِّف به الثقلان عبادة الله عزَّ وجلَّ، وقد أُنزلت الكتب وأُرسلت الرسل لذلك.
7 أنَّ عبادةَ الله لا تُعتبر إلاَّ إذا بُنيت على الشهادتين، وهما متلازمتان، ولا يُقبل العمل إلاَّ إذا كان خالصاً لله، ومطابقاً لِما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
8 بيان عظم شأن أركان الإسلام؛ حيث دلَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذاً عليها من بين الفرائض التي فرضها الله.
9 أنَّ هذه الفرائض مرتَّبة في أهميَّتها حسب ترتيبها في هذا الحديث.
10 الحثُّ على الإتيان بالنوافل مع الإتيان بالفرائض.
11 أنَّ مِن أهمِّ ما يُتقرَّب به إلى الله بعد أداء الفرائض الصدقة والصوم وقيام الليل.
12 بيان عظم شأن الصلاة وأنَّها عمود الإسلام.
13 بيان فضل الجهاد، وأنَّه ذروة سنام الإسلام.
14 بيان خطورة اللسان، وأنَّه يُفضي إلى المهالك ويُوقع في النار.

.
وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ »(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (6018 ) ومسلم (182 )
وفي المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 334)
1454 - ( ش ) : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا ، أَوْ لِيَصْمُتْ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ هَذَا حُكْمُ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَعَلِمَ أَنَّهُ يُجَازَى فِي الْآخِرَةِ وَمِمَّا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ خَيْرًا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ ، أَوْ يَصْمُتَ عَنْ شَرٍّ يُعَاقِبُ عَلَيْهِ وَأَمَّا الصَّمْتُ عَنْ الْخَيْرِ وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَلَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ ، أَوْ نَهْيَ كَرَاهَةٍ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ خَيْرًا ، أَوْ يَسْكُتَ عَنْ شَرٍّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ، أَوْ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى يَقُولُ خَيْرًا وَيَصْمُتُ عَنْ شَرٍّ وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ ، أَوْ يَزِيدُونَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ هَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَالْمَعْنَيَانِ غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ حَضَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَلَى إكْرَامِ الْجَارِ وَحُسْنِ مُجَاوَرَتِهِ وَأَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ وَبِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ هَذَا وَيَعْمَلَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدِينَ إحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا وَابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ : مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ وَرَوَى طَلْحَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي قَالَ : إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْك بَابًا .
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ هَذَا مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ وَالضِّيَافَةُ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ وَأَوَّلُ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَلْ أَتَاك حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أُكْرِمُوا ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَصَفَ ذَلِكَ بِالْكَرَامَةِ فَقَالَ : فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَلَمْ يَقُلْ : فَلْيَقْضِهِ حَقَّهُ وَالْإِكْرَامُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَقَدْ يَتَعَيَّنُ وُجُوبُهَا فِي مَوَاضِعَ لِلْمُجْتَازِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُبَلِّغُهُ وَيَخَافُ الْهَلَاكَ إِنْ لَمْ يُضَيِّفْ وَتَكُونُ وَاجِبَةً عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعَامِرِينَ لِأَرْضِ الْعَنْوَةِ إِنْ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ . رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك تَبْعَثُنَا فَنَمُرُّ بِقَوْمٍ لَا يُقْرُونَنَا فَمَاذَا تَرَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : إِنْ أَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي يَحْتَمِلُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِمَنْ كَانَ يَجْتَازُ غَازِيًا عَلَى أَهْلِ عَهْدٍ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِصْحَابِ الزَّادِ إِلَى رَأْسِ مَغْزَاتِهِ وَلَا يَصِلُ إِلَى الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ الَّذِي تَعَيَّنَ فَرْضُهُ وَوُجُوبُهُ إِلَّا بِالْقِرَى فِي الطَّرِيقِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ اُفْتُتِحَتْ خَيْبَرُ وَغَيْرُهَا مِنْ بِلَادِ الْعَنْوَةِ إِنْ كَانَ شُرِطَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِهَا وَأَمَّا أَهْلُ الْحَضَرِ فَقَوْلُهُ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْحَضَرِ ضِيَافَةٌ وَقَالَ سَحْنُونٌ الضِّيَافَةُ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى وَأَمَّا أَهْلُ الْحَضَرِ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا قَدِمَ الْحَضَرَ وَجَدَ مَنْزِلًا وَهُوَ الْفُنْدُقُ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ النَّدْبُ إِلَيْهِ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى أَهْلِ الْحَضَرِ بِعَيْنِهِ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى لِمَعَانٍ أَحَدُهَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَكَرَّرُ عَلَى أَهْلِ الْحَضَرِ فَلَوْ الْتَزَمَ أَهْلُ الْحَضَرِ الضِّيَافَةَ لَمَا خَلَوْا مِنْهَا وَأَهْلُ الْقُرَى يَنْدُرُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَيَقِلُّ فَلَا تَلْحَقُهُمْ بِذَلِكَ مَشَقَّةٌ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ الْمُسَافِرَ يَجِدُ فِي الْحَضَرِ مِنْ الْمَسْكَنِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَلَا تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ لِعَدَمِ الضِّيَافَةِ وَأَمَّا فِي الْقُرَى الصِّغَارِ فَلَا يَجِدُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَهُوَ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى مَنْ يُضَيِّفُهُ وَحُكْمُ الْقُرَى الْكِبَارِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا الْفَنَادِقُ وَالْمَطَاعِمُ لِلشِّرَاءِ وَيَكْثُرُ تَرْدَادُ النَّاسِ عَلَيْهَا حُكْمُ الْحَضَرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ ، وَهَذَا فِيمَنْ لَا يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ وَأَمَّا مَنْ يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةَ مَوَدَّةٍ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْنًى يَقْتَضِي الْمُوَاصَلَةَ وَالْمُكَارَمَةَ فَحُكْمُهُ فِي الْحَضَرِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْحَتَهُ وَعَطِيَّتَهُ ؛ لِأَنَّ الْجَائِزَةَ الْعَطِيَّةُ وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا يَجُوزُ وَيَمْضِي بِهِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَهُوَ قُوتُهُ فِي مَبِيتِهِ عِنْدَهُ وَغِذَاؤُهُ فِي غَدِهِ قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ فِي الْمُزَنِيَّةِ مَعْنَى جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ يُتْحِفُهُ وَيُكْرِمُهُ وَيَفْعَلُ بِهِ أَفْضَلَ مَا يَسْتَطِيعُ وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ ابْنِ نَافِعٍ فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَاهُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بَعْدَ ذَلِكَ : وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ . يُرِيدُ يُطْعِمُهُ فِيهَا مَا يَسْتَطِيعُ عَلَيْهِ وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ خَصَّ الضِّيَافَةَ لِمَنْ أَرَادَ الْمُقَامَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَمَنْ أَرَادَ الْجَوَازَ فَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ .
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْجَائِزَةِ الْمُتَأَكِّدِ حُكْمُهَا لِلْمُجْتَازِ لَا حُكْمُ الضِّيَافَةِ الْمَشْرُوعَةِ لِلضَّيْفِ وَإِنَّمَا هِيَ صَدَقَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُعْتَرِضِ وَالْمُقِيمُ عَلَيْهَا طَالِبُ صَدَقَةٍ إِلَّا أَنَّهَا صَدَقَةُ نَفْلٍ وَصَدَقَةُ النَّفْلِ تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَإِنَّمَا الَّذِي يَحْرُمُ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ صَدَقَةٌ وَجَبَتْ لِلْفُقَرَاءِ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقْبَلُ الضِّيَافَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، ثُمَّ يَقُولُ لِنَافِعٍ : أَنْفِقْ فَإِنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَيَقُولُ : احْبِسُوا عَنَّا صَدَقَتَكُمْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ وَمَعْنَاهُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ وَلَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَةً يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَيْهِ مَعَ السَّلَامَةِ وَلَوْ قَبِلَهَا حَلَّتْ لَهُ وَيَحْتَمِلُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُرِيدَ بِهِ لَا نَقْبَلُ صَدَقَةَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَزَلْنَا عِنْدَهُمْ وَلَوْ نَزَلَ عَلَى غَيْرِهِمْ لَقَبِلَ ضِيَافَتَهُمْ شَهْرًا ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ عَلَى أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ، أَوْ عَلَى ابْنِهِ سَالِمٍ ، أَوْ عَلَى أَخِيهِ عَاصِمٍ لَمْ يَرُدَّ طَعَامَهُمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .
( فَصْلٌ ) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ يُرِيدُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ يُرِيدُ يُضَيِّقُ عَلَيْهِ وَيُثْقِلُهُ مِنْ الْحَرَجِ وَهُوَ الضِّيقُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ حَتَّى يُؤْثِمَهُ وَهُوَ أَنْ يَضُرَّ بِهِ مُقَامُهُ عِنْدَهُ حَتَّى يَقُولَ قَوْلًا ، أَوْ يَفْعَلَ فِعْلًا يَأْثَمُ بِهِ مَعَ أَنَّ مَا يُعْطِيهِ بَعْدَ أَنْ يُبْرِمَ بِطُولِ مُقَامِهِ عِنْدَهُ لَا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُهُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَحِلُّ لِلْمُقِيمِ عِنْدَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .

. فَالتَّكَلُّمُ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ ،وَالصَّمْتُ عَنِ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنَ التَّكَلُّمِ بِهِ ،فَأَمَّا الصَّمْتُ الدَّائِمُ فَبِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ الِامْتِنَاعُ عَنْ أَكْلِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَشُرْبِ الْمَاءِ فَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ أَيْضًا(1)
__________
(1) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية (ج 22 / ص 310)فما بعدها
وَأَمَّا الْأَكْلُ وَاللِّبَاسُ : فَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ خُلُقُهُ فِي الْأَكْلِ أَنَّهُ يَأْكُلُ مَا تَيَسَّرَ إذَا اشْتَهَاهُ وَلَا يَرُدُّ مَوْجُودًا وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا فَكَانَ إنْ حَضَرَ خُبْزٌ وَلَحْمٌ أَكَلَهُ وَإِنْ حَضَرَ فَاكِهَةٌ وَخُبْزٌ وَلَحْمٌ أَكَلَهُ وَإِنْ حَضَرَ تَمْرٌ وَحْدَهُ أَوْ خُبْزٌ وَحْدَهُ أَكَلَهُ وَإِنْ حَضَرَ حُلْوٌ أَوْ عَسَلٌ طَعِمَهُ أَيْضًا وَكَانَ أَحَبَّ الشَّرَابِ إلَيْهِ الْحُلْوُ الْبَارِدُ وَكَانَ يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ . بِالرُّطَبِ فَلَمْ يَكُنْ إذَا حَضَرَ لَوْنَانِ مِنْ الطَّعَامِ يَقُولُ : لَا آكُلُ لَوْنَيْنِ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ طَعَامٍ لِمَا فِيهِ مِنْ اللَّذَّةِ وَالْحَلَاوَةِ . وَكَانَ أَحْيَانًا يَمْضِي الشَّهْرَانِ وَالثَّلَاثَةُ لَا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ نَارٌ وَلَا يَأْكُلُونَ إلَّا التَّمْرَ وَالْمَاءَ وَأَحْيَانًا يَرْبُطُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ وَكَانَ لَا يَعِيبُ طَعَامًا فَإِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ . وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ لَحْمُ ضَبٍّ فَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ وَقَالَ : { إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافَهُ } . وَكَذَلِكَ اللِّبَاسُ كَانَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَالْعِمَامَةَ وَيَلْبَسُ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ وَيَلْبَسُ الْجُبَّةَ وَالْفَرُّوجَ وَكَانَ يَلْبَسُ مِنْ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . لَبِسَ فِي السَّفَرِ جُبَّةَ صُوفٍ وَكَانَ يَلْبَسُ مِمَّا يُجْلَبُ مِنْ الْيَمَنِ وَغَيْرِهَا وَغَالِبُ ذَلِكَ مَصْنُوعٌ مِنْ الْقُطْنِ وَكَانُوا يَلْبَسُونَ مِنْ قَبَاطِيِّ مِصْرَ وَهِيَ مَنْسُوجَةٌ مِنْ الْكَتَّانِ . فَسُنَّتُهُ فِي ذَلِكَ تَقْتَضِي أَنْ يَلْبَسَ الرَّجُلُ وَيَطْعَمَ مِمَّا يَسَّرَهُ اللَّهُ بِبَلَدِهِ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ . وَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأَمْصَارِ . وَقَدْ كَانَ اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَنَحْوِهِ وَعَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَزَوُّجِ النِّسَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رِجَالًا قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقْوَمُ لَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ . فَقَالَ : { لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } فَأَمَرَ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ فَمَنْ حَرَّمَ الطَّيِّبَاتِ كَانَ مُعْتَدِيًا وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ كَانَ مُفَرِّطًا مُضَيِّعًا لِحَقِّ اللَّهِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا } وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ } . فَهَذِهِ الطَّرِيقُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ أَعْدَلُ الطُّرُقِ وَأَقْوَمُهَا . وَالِانْحِرَافُ عَنْهَا إلَى وَجْهَيْنِ . قَوْمٌ يُسْرِفُونَ فِي تَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ مَعَ إعْرَاضِهِمْ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } . وَقَوْمٌ يُحَرِّمُونَ الطَّيِّبَاتِ وَيَبْتَدِعُونَ رَهْبَانِيَّةً لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ } وَكُلُّ حَلَالٍ طَيِّبٌ وَكُلُّ طَيِّبٍ حَلَالٌ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ لَكِنَّ جِهَةَ طِيبِهِ كَوْنُهُ نَافِعًا لَذِيذًا . وَاَللَّهُ حَرَّمَ عَلَيْنَا كُلَّ مَا يَضُرُّنَا وَأَبَاحَ لَنَا كُلَّ مَا يَنْفَعُنَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ بِظُلْمِ مِنْهُمْ : حَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ عُقُوبَةً لَهُمْ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا شَيْئًا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَالنَّاسُ تَتَنَوَّعُ أَحْوَالُهُمْ فِي الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْجُوعِ وَالشِّبَعِ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَتَنَوَّعُ حَالُهُ وَلَكِنَّ خَيْرَ الْأَعْمَالِ مَا كَانَ لِلَّهِ أَطْوَعَ وَلِصَاحِبِهِ أَنْفَعَ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَيْسَرَ الْعَمَلَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ أَشَدَّهُمَا فَلَيْسَ كُلُّ شَدِيدٍ فَاضِلًا وَلَا كُلُّ يَسِيرٍ مَفْضُولًا . بَلْ الشَّرْعُ إذَا أَمَرَنَا بِأَمْرِ شَدِيدٍ فَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لَا لِمُجَرَّدِ تَعْذِيبِ النَّفْسِ . كَالْجِهَادِ الَّذِي قَالَ فِيهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } . وَالْحَجُّ هُوَ الْجِهَادُ الصَّغِيرُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْعُمْرَةِ : { أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك } وَقَالَ تَعَالَى فِي الْجِهَادِ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . } وَأَمَّا مُجَرَّدُ تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ فَلَيْسَ هَذَا مَشْرُوعًا لَنَا بَلْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِمَا يَنْفَعُنَا وَنَهَانَا عَمَّا يَضُرُّنَا . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ } وَقَالَ لِمُعَاذِ وَأَبِي مُوسَى لَمَّا بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ : { يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا } وَقَالَ { هَذَا الدِّينُ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ فَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا } وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ } . فَالْإِنْسَانُ إذَا أَصَابَهُ فِي الْجِهَادِ وَالْحَجِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَرٌّ أَوْ بَرْدٌ أَوْ جُوعٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَهُوَ مِمَّا يُحْمَدُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } . وَكَذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْكَفَّارَاتُ : إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَى إلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ } . وَأَمَّا مُجَرَّدُ بُرُوزِ الْإِنْسَانِ لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ . بِلَا مَنْفَعَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَاحْتِفَاؤُهُ وَكَشْفُ رَأْسِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ فَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْإِنْسَانِ [ أ ] وَطَاعَةٌ لِلَّهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ : { مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ . فَقَالَ : مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ } . وَلِهَذَا نَهَى عَنْ الصَّمْتِ الدَّائِمِ بَلْ الْمَشْرُوعُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ } فَالتَّكَلُّمُ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ وَالسُّكُوتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهِ .

، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :بَيْنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا : أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ وَلاَ يَسْتَظِلَّ وَلاَ يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ »(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (6704 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 19 / ص 76)
وَفِي حَدِيثه أَنَّ السُّكُوت عَنْ الْمُبَاح لَيْسَ مِنْ طَاعَة اللَّه ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث عَلِيّ " وَلَا صُمْت يَوْمًا إِلَى اللَّيْل " وَتَقَدَّمَ فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة قَوْل أَبِي بَكْر الصِّدِّيق لِلْمَرْأَةِ إِنَّ هَذَا - يَعْنِي الصَّمْت - مِنْ فِعْل الْجَاهِلِيَّة " وَفِيهِ أَنَّ كُلّ شَيْء يَتَأَذَّى بِهِ الْإِنْسَان ، وَلَوْ مَآلًا مِمَّا لَمْ يَرِد بِمَشْرُوعِيَّتِهِ كِتَاب أَوْ سُنَّة كَالْمَشْيِ حَافِيًا وَالْجُلُوس فِي الشَّمْس لَيْسَ هُوَ مِنْ طَاعَة اللَّه فَلَا يَنْعَقِد بِهِ النَّذْر ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا إِسْرَائِيل بِإِتْمَامِ الصَّوْم دُون غَيْره وَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَشُقّ عَلَيْهِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْعُد وَيَتَكَلَّمَ وَيَسْتَظِلَّ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : فِي قِصَّة أَبِي إِسْرَائِيل هَذِهِ أَوْضَحُ الْحُجَج لِلْجُمْهُورِ فِي عَدَم وُجُوب الْكَفَّارَة عَلَى مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَة أَوْ مَا لَا طَاعَة فِيهِ فَقَدْ قَالَ مَالِك لَمَّا ذَكَرَهُ : وَلَمْ أَسْمَع أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ .
وفي شرح ابن بطال - (ج 11 / ص 170)
ليس فى هذه الأحاديث شىء من معنى النذر فيما لا يملك، وقد تقدم قبل هذا شىء منه، وإنما فى هذه الأحاديث من نذر معصية أو ما ليس بطاعة.
وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك: من نذر معصية كقوله: لله على أن أشرب الخمر أو أزنى أو أسفك دمًا، فلا شىء عليه وليستغفر الله، استدلالا بقوله عليه السلام: « ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه » ولم يذكر كفارة. قال مالك: وكذلك إذا نذر ما ليس لله بطاعة ولا معصية كقوله: لله على أن أدخل الدار أو آكل أو أشرب، فلا شىء عليه أيضًا؛ لأنه ليس فى شىء من ذلك لله طاعة، استدلالا بحديث أبى إسرائيل. قال مالك: ولم أسمع رسول الله أمره بكفارة. وقد أمره أن يتم ما كان لله طاعة، ويترك ما خالف ذلك. وقول الشافعى كقول مالك.
وقال أبو حنيفة والثورى: من نذر معصية كان عليه مع تركها كفارة يمين، واحتجوا بحديث عمران بن حصين و أبى هريرة أن الرسول قال: « لا نذر فى معصية الله، وكفارته كفارة يمين » ، وهذا حديث لا أصل له؛ لأن حديث أبى هريرة إنما يدور على سليمان بن أرقم، وهو متروك الحديث، وحديث عمران بن حصين يدور على زهير بن محمد عن أبيه، و أبوه مجهول، لم يرو عنه غير ابنه زهير، وزهير أيضًا عنده مناكير.
وفى قوله عليه السلام: « من نذر أن يعصى الله فلا يعصه » حجة لمن قال: إن من نذر ينحر ابنه فلا كفارة عليه؛ لأنه لا معصية أعظم من إراقة دم مسلم بغير حق، ولا معنى للاعتبار فى ذلك بكفارة الظهار فى قول المنكر والزور، كما اعتبر ذلك ابن عباس؛ لأن الظهار ليس بنذر، والنذر فى المعصية قد جاء فيه نص عن النبى - عليه السلام.
قال مالك: من نذرك أن ينحر ابنه ولم ولم يقل عند مقام إبراهيم، فلا شىء عليه، وكذلك إن لم يرد أن يحجه، وإن نوى وجه ما ينحر فعليه الهدى.
وقال أبو حنيفة: علية شاة إذا حلف أن ينحر ولده.
وقال أبو يوسف: لا شىء عليه. وبه يأخذ الطحاوى.
وفى حديث أبى إسرائيل دليل على السكوت عن المباح أو عن ذكر الله ليس من طاعة الله، وكذلك الجلوس فى الشمس، وفى معناه كل ما يتأذى به الإنسان مما لا طاعة لله فيه ولا قربة بنص كتاب أو سنة كالجهاد وغيره، وإنما الطاعة ما أمر الله ورسوله مما يُتقرب بعمله لله، ألا ترى أنه عليه السلام أمره بإتمام الصيام لما كان لله طاعة.
وفي شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 2 / ص 47)
ذكر المؤلف رحمه الله في باب الاقتصاد في العبادة هذا الحديث الذي نذر فيه رجل يقال له أبو إسرائيل أن يقوم في الشمس ولا يقعد وأن يصمت ولا يتكلم وأن يصوم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فرأى هذا الرجل قائما في الشمس فسأل عنه فأخبر عن قصته فقال النبي صلى الله عليه وسلم مروه فليقعد وليستظل وليتكلم وليتم صومه وهذا النذر كان قد تضمن أشياء محبوبة إلى الله عز وجل وأشياء غير محبوبة أما المحبوبة إلى الله فهي الصوم لأن الصوم عبادة والنبي صلى الله عليه وسلم قال من نذر أن يطيع الله فليطعه وأما وقوفه قائما في الشمس من غير أن يستظل وكونه لا يتكلم فهذا غير محبوب إلى الله عز وجل فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل أن يترك ما نذر وليعلم أن النذر أصله مكروه بل قال بعض العلماء محرم وإنه لا يجوز للإنسان أن ينذر لأن الإنسان إذا نذر كلف نفسه ما لم يكلفه الله ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ولكن إذا قدر أن الإنسان نذر فالنذر أقسام قسم حكمه حكم اليمين وقسم آخر نذر معصية وقسم ثالث نذر طاعة أما الذي حكمه حكم اليمين فهو الذي قصد الإنسان به تأكيد الشيء نفيا أو إثباتا أو تصديقا أو تأكيدا ومثاله إذا قيل للرجل أخبرتنا بكذا وكذا ولكنك لم تصدق فقال إن كنت كاذبا فلله علي نذر أن أصوم سنة فلا شك أن غرضه من ذلك أن يؤكد قوله ليصدقه الناس هذا حكمه حكم اليمين لأنه قصد بذلك تأكيد ما قال وكذلك أيضا إذا قصد الحث مثل أن يقول إن لم أفعل كذا فلله علي نذر أن أصوم سنة فهذا أيضا قصد الحث وأن يفعل ما ذكر حكمه حكم اليمين أيضا ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى وهذا نوى اليمين فله ما نوي أما القسم الثاني فهو المحرم فالمحرم إذا نذره الإنسان يحرم عليه الوفاء به مثل أن يقول لله عليه نذر أن يشرب الخمر فهذا نذر محرم فلا يحل له أن يشرب الخمر ولكن عليه كفارة يمين على القول الراجح وإن كان بعض العلماء قال إنه لا شيء عليه لأنه نذر غير منعقد ولكن الصحيح أنه نذر منعقد ولكن لا يجوز الوفاء به ومثل ذلك أن تقول المرأة لله عليها نذر أن تصوم أيام حيضها فهذا حرام ولا يجوز أن تصوم أيام الحيض وعليها كفارة يمين أما القسم الثالث فهو نذر الطاعة أن ينذر الإنسان نذر طاعة مثل أن يقول لله علي نذر أن أصوم الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فيلزمه أن يوفي بنذره لقول النبي صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه أو يقول لله علي نذر أن أصلي ركعتين في الضحى فيلزمه أن يوفي بنذره لأنه طاعة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه فإن اشتمل نذره على طاعة وغير طاعة وجب أن يوفي بالطاعة أما غير الطاعة فلا يوف ويكفر كفارة يمين مثل قصة هذا الرجل حيث نذر أن يقوم في الشمس وألا يستظل وألا يتكلم وأن يصوم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوم لأنه طاعة ولكنه قال في القيام وعدم الاستظلال وعدم الكلام مروه فليستظل وليقعد وليتكلم وكثير من الناس اليوم إذا استبعد الأمر أو أشفق عليه ينذر فمثلا إذا مرض له إنسان قال لله علي نذر إن شفى الله مريضي لأفعلن كذا وكذا فهذا منهي عنه إما نهي كراهة أو نهي تحريم اسأل الله العافية لمريضك بدون نذر لكن لو فرضنا أنه نذر إن شفى الله مريضه أن يفعل كذا وكذا فشفاه الله وجب عليه أن يوفي بالنذر .
وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 40 / ص 136- 223) نَذْرٌ

.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عن حُمَيْدِ بْنِ أَبِى حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ :جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . قَالَ أَحَدُهُمْ :أَمَّا أَنَا فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا . وَقَالَ آخَرُ :أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ . وَقَالَ آخَرُ :أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى » (1)
__________
(1) - صحيح البخارى (5063) ومسلم (3470 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 14 / ص 290)
قَوْله ( كَأَنَّهُمْ تَقَالّوهَا ) بِتَشْدِيدِ اللَّام الْمَضْمُومَة أَيْ اِسْتَقَلُّوهَا ، وَأَصْل تَقَالّوهَا تَقَالَلُوهَا أَيْ رَأَى كُلّ مِنْهُمْ أَنَّهَا قَلِيلَة .
قَوْله ( فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَدْ غَفَرَ اللَّه لَهُ ) فِي رِوَايَة الْحَمَوِيِّ وَالْكُشْمِيهَنِيّ " قَدْ غُفِرَ لَهُ " بِضَمِّ أَوَّله . وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَم بِحُصُولِ ذَلِكَ لَهُ يُحْتَاج إِلَى الْمُبَالَغَة فِي الْعِبَادَة عَسَى أَنْ يَحْصُل ، بِخِلَافِ مَنْ حَصَلَ لَهُ ، لَكِنْ قَدْ بَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، فَأَشَارَ إِلَى هَذَا بِأَنَّهُ أَشَدّهمْ خَشْيَة وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِمَقَامِ الْعُبُودِيَّة فِي جَانِب الرُّبُوبِيَّة ، وَأَشَارَ فِي حَدِيث عَائِشَة وَالْمُغِيرَة - كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَلَاة اللَّيْل - إِلَى مَعْنًى آخَر بِقَوْلِهِ " أَفَلَا أَكُون عَبْدًا شَكُورًا " .
قَوْله ( فَقَالَ أَحَدهمْ أَمَّا أَنَا فَأَنَا أُصَلِّي اللَّيْل أَبَدًا )
هُوَ قَيْد لِلَّيْلِ لَا لِأُصَلِّيَ ، وَقَوْله " فَلَا أَتَزَوَّج أَبَدًا " أَكَّدَ الْمُصَلِّي وَمُعْتَزِل النِّسَاء بِالتَّأْبِيدِ وَلَمْ يُؤَكِّد الصِّيَام لِأَنَّهُ لَا بُدّ لَهُ مِنْ فِطْر اللَّيَالِي وَكَذَا أَيَّام الْعِيد ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم " فَقَالَ بَعْضهمْ لَا أَتَزَوَّج النِّسَاء ، وَقَالَ بَعْضهمْ لَا آكُل اللَّحْم ، وَقَالَ بَعْضهمْ لَا أَنَام عَلَى الْفِرَاش ، وَظَاهِره مِمَّا يُؤَكِّد زِيَادَة عَدَد الْقَائِلِينَ . لِأَنَّ تَرْكَ أَكْل اللَّحْم أَخَصّ مِنْ مُدَاوَمَة الصِّيَام ، وَاسْتِغْرَاق اللَّيْل بِالصَّلَاةِ أَخَصّ مِنْ تَرْكِ النَّوْم عَلَى الْفِرَاش . وَيُمْكِن التَّوْفِيق بِضُرُوبٍ مِنْ التَّجَوُّز .
قَوْله ( فَجَاءَ إِلَيْهِمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ )
فِي رِوَايَة مُسْلِم فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ مَا بَال أَقْوَام قَالُوا كَذَا ؟ وَيُجْمَع بِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ عُمُومًا جَهْرًا مَعَ عَدَم تَعْيِينهمْ وَخُصُوصًا فِيمَا بَيْنه وَبَيْنهمْ رِفْقًا بِهِمْ وَسَتْرًا لَهُمْ .
قَوْله ( أَمَا وَاللَّه ) بِتَخْفِيفِ الْمِيم حَرْف تَنْبِيه بِخِلَافِ قَوْله فِي أَوَّل الْخَبَر أَمَّا أَنَا فَإِنَّهَا بِتَشْدِيدِ الْمِيم لِلتَّقْسِيمِ .
قَوْله ( إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ) فِيهِ إِشَارَة إِلَى رَدّ مَا بَنَوْا عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَغْفُور لَهُ لَا يَحْتَاج إِلَى مَزِيد فِي الْعِبَادَة بِخِلَافِ غَيْره ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ مَعَ كَوْنه يُبَالِغ فِي التَّشْدِيد فِي الْعِبَادَة أَخْشَى لِلَّهِ وَأَتْقَى مِنْ الَّذِينَ يُشَدِّدُونَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشَدِّد لَا يَأْمَن مِنْ الْمَلَل بِخِلَافِ الْمُقْتَصِد فَأَنَّهُ أَمْكَنَ لِاسْتِمْرَارِهِ وَخَيْر الْعَمَل مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبه ، وَقَدْ أَرْشَد إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْله فِي الْحَدِيث الْآخَر " الْمُنْبَتّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى " وَسَيَأْتِي مَزِيد لِذَلِكَ فِي كِتَاب الرِّقَاق إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ، وَتَقَدَّمَ فِي كِتَاب الْعِلْم شَيْء مِنْهُ .
قَوْله ( لَكِنِّي ) اِسْتِدْرَاك مِنْ شَيْء مَحْذُوف دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاق أَيْ أَنَا وَأَنْتُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيَّ الْعُبُودِيَّة سَوَاء ، لَكِنْ أَنَا أَعْمَل كَذَا .
قَوْله ( فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ) الْمُرَاد بِالسُّنَّةِ الطَّرِيقَة لَا الَّتِي تُقَابِل الْفَرْض ، وَالرَّغْبَة عَنْ الشَّيْء الْإِعْرَاض عَنْهُ إِلَى غَيْره ، وَالْمُرَاد مَنْ تَرَكَ طَرِيقَتِي وَأَخَذَ بِطَرِيقَةِ غَيْرِي فَلَيْسَ مِنِّي ، وَلَمَّحَ بِذَلِكَ إِلَى طَرِيق الرَّهْبَانِيَّة فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ اِبْتَدَعُوا التَّشْدِيد كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّه تَعَالَى وَقَدْ عَابَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَا وَفُّوهُ بِمَا اِلْتَزَمُوهُ ، وَطَرِيقَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَنِيفِيَّة السَّمْحَة فَيُفْطِر لِيَتَقَوَّى عَلَى الصَّوْم وَيَنَام لِيَتَقَوَّى عَلَى الْقِيَام وَيَتَزَوَّج لِكَسْرِ الشَّهْوَة وَإِعْفَاف النَّفْس وَتَكْثِير النَّسْل . وَقَوْله فَلَيْسَ مِنِّي إِنْ كَانَتْ الرَّغْبَة بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيل يُعْذَر صَاحِبه فِيهِ فَمَعْنَى " فَلَيْسَ مِنِّي " أَيْ عَلَى طَرِيقَتِي وَلَا يَلْزَم أَنْ يَخْرُج عَنْ الْمِلَّة وَإِنْ كَانَ إِعْرَاضًا وَتَنَطُّعًا يُفْضِي إِلَى اِعْتِقَاد أَرْجَحِيَّة عَمَله فَمَعْنَى فَلَيْسَ مِنِّي لَيْسَ عَلَى مِلَّتِي لِأَنَّ اِعْتِقَاد ذَلِكَ نَوْع مِنْ الْكُفْر . وَفِي الْحَدِيث دَلَالَة عَلَى فَضْلِ النِّكَاح وَالتَّرْغِيب فِيهِ ، وَفِيهِ تَتَبُّع أَحُول الْأَكَابِر لِلتَّأَسِّي بِأَفْعَالِهِمْ وَأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَته مِنْ الرِّجَال جَازَ اِسْتِكْشَافه مِنْ النِّسَاء ، وَأَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى عَمَل بِرّ وَاحْتَاجَ إِلَى إِظْهَاره حَيْثُ يَأْمَن الرِّيَاء لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَمْنُوعًا . وَفِيهِ تَقْدِيم الْحَمْد وَالثَّنَاء عَلَى اللَّه عِنْد إِلْقَاء مَسَائِل الْعِلْم وَبَيَان الْأَحْكَام لِلْمُكَلَّفِينَ وَإِزَالَة الشُّبْهَة عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَأَنَّ الْمُبَاحَات قَدْ تَنْقَلِب بِالْقَصْدِ إِلَى الْكَرَاهَة وَالِاسْتِحْبَاب . وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : فِيهِ الرَّدّ عَلَى مَنْ مَنَعَ اِسْتِعْمَال الْحَلَال مِنْ الْأَطْعِمَة وَالْمَلَابِس وَآثَرَ غَلِيظ الثِّيَاب وَخَشِن الْمَأْكَل . قَالَ عِيَاض هَذَا مِمَّا اِخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَف فَمِنْهُمْ مَنْ نَحَا إِلَى مَا قَالَ الطَّبَرِيُّ وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُمْ الدُّنْيَا ) قَالَ وَالْحَقّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة فِي الْكُفَّار وَقَدْ أَخَذَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرَيْنِ . قُلْت : لَا يَدُلّ ذَلِكَ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ إِنْ كَانَ الْمُرَاد الْمُدَاوَمَة عَلَى إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ ، وَالْحَقّ أَنَّ مُلَازَمَة اِسْتِعْمَال الطَّيِّبَات تُفْضِي إِلَى التَّرَفُّه وَالْبَطَر وَلَا يَأْمَن مِنْ الْوُقُوع فِي الشُّبُهَات لِأَنَّ مَنْ اِعْتَادَ ذَلِكَ قَدْ لَا يَجِدهُ أَحْيَانًا فَلَا يَسْتَطِيع الِانْتِقَال عَنْهُ فَيَقَع فِي الْمَحْظُور كَمَا أَنَّ مَنْعَ تَنَاوُل ذَلِكَ أَحْيَانًا يُفْضِي إِلَى التَّنَطُّع الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَيَرُدّ عَلَيْهِ صَرِيح قَوْله تَعَالَى ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ ) كَمَا أَنَّ الْأَخْذ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَة يُفْضِي إِلَى الْمَلَل الْقَاطِع لِأَصْلِهَا وَمُلَازَمَة الِاقْتِصَار عَلَى الْفَرَائِض مَثَلًا وَتَرْك التَّنَفُّل يُفْضِي إِلَى إِيثَار الْبَطَالَة وَعَدَم النَّشَاط إِلَى الْعِبَادَة وَخَيْر الْأُمُور الْوَسَط ، وَفِي قَوْله إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ مَعَ مَا اِنْضَمَّ إِلَيْهِ إِشَارَة إِلَى ذَلِكَ ، وَفِيهِ أَيْضًا إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْعِلْم بِاللَّهِ وَمَعْرِفَة مَا يَجِب مِنْ حَقّه أَعْظَم قَدْرًا مِنْ مُجَرَّد الْعِبَادَة الْبَدَنِيَّة ، وَاللَّهُ أَعْلَم .

. أَيْ سَلَكَ غَيْرَهَا ظَانًّا أَنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ تَعَالَى : {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (1)(130) سورة البقرة ،بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ بِذَلِكَ كُلَّ يَوْمِ جُمْعَةٍ (2)
__________
(1) - لَقَدْ تَجَرَّدَ إِبراهِيمُ فِي عِبَادَةِ اللهِ فَلَمْ يَدْعُ مَعَهُ غَيْرَهُ ، وَلَمْ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً ، وَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ حَتَّى تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ ، وَخَالفَ قَوْمَهُ . فَمَنْ يَتْرُكَ طَرِيقَ إِبْراهيمَ هذا وَمَسْلَكَهُ وَمِلَّتَهُ ، وَيَتَّبِعْ طَرِيقَ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ ، فَهُوَ سَفِيهٌ ، وَلاَ يَرْتَكِبُ الضَّلاَلَةَ إِلاَّ السَّفيهُ .
وَلَقَدِ اصْطَفَى اللهُ إِبراهِيمَ وَاخْتَارَهُ في الدُّنيَا ، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ المُقَرَّبينَ عِنْدَ اللهِ .
(2) - قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَأَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَإِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ .صحيح البخارى(7277 )
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلاَ صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ « صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ ». وَيَقُولُ « بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ ». وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ». صحيح مسلم (2042 )
فتح الباري لابن حجر - (ج 20 / ص 330)
و " الْمُحْدَثَات " بِفَتْحِ الدَّالّ جَمْع مُحْدَثَة وَالْمُرَاد بِهَا مَا أُحْدِث ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْل فِي الشَّرْع وَيُسَمَّى فِي عُرْف الشَّرْع " بِدْعَة " وَمَا كَانَ لَهُ أَصْل يَدُلّ عَلَيْهِ الشَّرْع فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ ، فَالْبِدْعَة فِي عُرْف الشَّرْع مَذْمُومَة بِخِلَافِ اللُّغَة فَإِنَّ كُلّ شَيْء أُحْدِث عَلَى غَيْر مِثَال يُسَمَّى بِدْعَة سَوَاء كَانَ مَحْمُودًا أَوْ مَذْمُومًا ، وَكَذَا الْقَوْل فِي الْمُحْدَثَة وَفِي الْأَمْر الْمُحْدَث الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيث عَائِشَة " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمَرْنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدّ " كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحه وَمَضَى بَيَان ذَلِكَ قَرِيبًا فِي " كِتَاب الْأَحْكَام " وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث جَابِر الْمُشَار إِلَيْهِ " وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة " وَفِي حَدِيث الْعِرْبَاض بْن سَارِيَة " وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَات الْأُمُور فَإِنَّ كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة " وَهُوَ حَدِيث أَوَّله " وَعَظَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَة بَلِيغَة " فَذَكَرَهُ وَفِيهِ هَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ اِبْن مَاجَهْ وَابْن حِبَّان وَالْحَاكِم ، وَهَذَا الْحَدِيث فِي الْمَعْنَى قَرِيب مِنْ حَدِيث عَائِشَة الْمُشَار إِلَيْهِ وَهُوَ مِنْ جَوَامِع الْكَلِم.
قَالَ الشَّافِعِيّ " الْبِدْعَة بِدْعَتَانِ : مَحْمُودَة وَمَذْمُومَة ، فَمَا وَافَقَ السُّنَّة فَهُوَ مَحْمُود وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ مَذْمُوم " أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيق إِبْرَاهِيم بْن الْجُنَيْد عَنْ الشَّافِعِيّ ، وَجَاءَ عَنْ الشَّافِعِيّ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبه قَالَ " الْمُحْدَثَات ضَرْبَانِ مَا أُحْدِث يُخَالِف كِتَابًا أَوْ سُنَّة أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا فَهَذِهِ بِدْعَة الضَّلَال ، وَمَا أُحْدِث مِنْ الْخَيْر لَا يُخَالِف شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ مُحْدَثَة غَيْر مَذْمُومَة " اِنْتَهَى . وَقَسَّمَ بَعْض الْعُلَمَاء الْبِدْعَة إِلَى الْأَحْكَام الْخَمْسَة وَهُوَ وَاضِح ، وَثَبَتَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : قَدْ أَصْبَحْتُمْ عَلَى الْفِطْرَة وَإِنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَث لَكُمْ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مُحْدَثَة فَعَلَيْكُمْ بِالْهَدْيِ الْأَوَّل ، فَمِمَّا حَدَثَ تَدْوِين الْحَدِيث ثُمَّ تَفْسِير الْقُرْآن ثُمَّ تَدْوِين الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّة الْمُوَلَّدَة عَنْ الرَّأْي الْمَحْض ثُمَّ تَدْوِين مَا يَتَعَلَّق بِأَعْمَالِ الْقُلُوب ، فَأَمَّا الْأَوَّل فَأَنْكَرَهُ عُمَر وَأَبُو مُوسَى وَطَائِفَة وَرَخَّصَ فِيهِ الْأَكْثَرُونَ وَأَمَّا الثَّانِي فَأَنْكَرَهُ جَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ كَالشَّعْبِيِّ ، وَأَمَّا الثَّالِث فَأَنْكَرَهُ الْإِمَام أَحْمَد وَطَائِفَة يَسِيرَة وَكَذَا اِشْتَدَّ إِنْكَار أَحْمَد لِلَّذِي بَعْده ، وَمِمَّا حَدَثَ أَيْضًا تَدْوِين الْقَوْل فِي أُصُول الدِّيَانَات فَتَصَدَّى لَهَا الْمُثْبِتَة وَالنُّفَاة ، فَبَالَغَ الْأَوَّل حَتَّى شَبَّهَ وَبَالِغ الثَّانِي حَتَّى عَطَّلَ ، وَاشْتَدَّ إِنْكَار السَّلَف لِذَلِكَ كَأَبِي حَنِيفَة وَأَبِي يُوسُف وَالشَّافِعِيّ ، وَكَلَامُهمْ فِي ذَمّ أَهْل الْكَلَام مَشْهُور ، وَسَبَبه أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه ، وَثَبَتَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْر وَعُمَر شَيْء مِنْ الْأَهْوَاء - يَعْنِي بِدَع الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض وَالْقَدَرِيَّة - وَقَدْ تَوَسَّعَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْ الْقُرُون الثَّلَاثَة الْفَاضِلَة فِي غَالِب الْأُمُور الَّتِي أَنْكَرَهَا أَئِمَّة التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعهمْ ، وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِذَلِكَ حَتَّى مَزَجُوا مَسَائِل الدِّيَانَة بِكَلَامِ الْيُونَان ، وَجَعَلُوا كَلَام الْفَلَاسِفَة أَصْلًا يَرُدُّونَ إِلَيْهِ مَا خَالَفَهُ مِنْ الْآثَار بِالتَّأْوِيلِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَكْرَهًا ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ الَّذِي رَتَّبُوهُ هُوَ أَشْرَفُ الْعُلُوم وَأَوْلَاهَا بِالتَّحْصِيلِ ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَعْمِل مَا اِصْطَلَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ عَامِّيٌّ جَاهِل ، فَالسَّعِيد مَنْ تَمَسَّكَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَف وَاجْتَنَبَ مَا أَحْدَثَهُ الْخَلَف ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ بُدّ فَلْيَكْتَفِ مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَاجَة ، وَيَجْعَل الْأَوَّل الْمَقْصُود بِالْأَصَالَةِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَد بِسَنَدٍ جَيِّد عَنْ غُضَيْف بْن الْحَارِث قَالَ بَعَثَ إِلَيَّ عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان فَقَالَ : إِنَّا قَدْ جَمَعْنَا النَّاس عَلَى رَفْع الْأَيْدِي عَلَى الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة ، وَعَلَى الْقَصَص بَعْد الصُّبْح وَالْعَصْر ، فَقَالَ : أَمَّا إِنَّهُمَا أَمْثَل بِدَعكُمْ عِنْدِي وَلَسْت بِمُجِيبِكُمْ إِلَى شَيْء مِنْهُمَا لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ مِنْ السُّنَّة مِثْلُهَا ؛ فَتَمَسُّكٌ بِسَنَةِ خَيْرٌ مِنْ إِحْدَاثِ بِدْعَةٍ " . اِنْتَهَى وَإِذَا كَانَ هَذَا جَوَاب هَذَا الصَّحَابِيّ فِي أَمْر لَهُ أَصْل فِي السُّنَّة فَمَا ظَنَّك بِمَا لَا أَصْل لَهُ فِيهَا ، فَكَيْف بِمَا يَشْتَمِل عَلَى مَا يُخَالِفهَا . وَقَدْ مَضَى فِي " كِتَاب الْعِلْم " أَنَّ اِبْن مَسْعُود كَانَ يُذَكِّر الصَّحَابَة كُلّ خَمِيس لِئَلَّا يَمَلُّوا وَمَضَى فِي " كِتَاب الرِّقَاق " أَنَّ اِبْن عَبَّاس قَالَ : حَدِّثْ النَّاس كُلّ جُمْعَة فَإِنْ أَبَيْت فَمَرَّتَيْنِ ، وَنَحْوه وَصِيَّة عَائِشَة لِعُبَيْدِ بْن عُمَيْر ، وَالْمُرَاد بِالْقَصَصِ التَّذْكِير وَالْمَوْعِظَة ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلهُ رَاتِبًا كَخُطْبَةِ الْجُمُعَة بَلْ بِحَسْب الْحَاجَة ، وَأَمَّا قَوْله فِي حَدِيث الْعِرْبَاض " فَإِنَّ كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة " بَعْد قَوْله " وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَات الْأُمُور " فَإِنَّهُ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَث يُسَمَّى بِدْعَة وَقَوْله " كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة " قَاعِدَة شَرْعِيَّة كُلِّيَّة بِمَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومهَا ، أَمَّا مَنْطُوقهَا فَكَأَنْ يُقَال " حُكْم كَذَا بِدْعَة وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة " فَلَا تَكُون مِنْ الشَّرْع لِأَنَّ الشَّرْع كُلّه هَدْي ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَكَم الْمَذْكُور بِدْعَة صَحَّتْ الْمُقَدِّمَتَانِ ، وَأَنْتَجَتَا الْمَطْلُوب ، وَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ " كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة " مَا أُحْدِث وَلَا دَلِيل لَهُ مِنْ الشَّرْع بِطَرِيقِ خَاصّ وَلَا عَامّ . وَقَوْله فِي آخِر حَدِيث اِبْن مَسْعُود ( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أَرَادَ خَتْم مَوْعِظَته بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآن يُنَاسِب الْحَال . وَقَالَ اِبْن عَبْد السَّلَام : فِي أَوَاخِر " الْقَوَاعِد " الْبِدْعَة خَمْسَة أَقْسَام " فَالْوَاجِبَة " كَالِاشْتِغَالِ بِالنَّحْوِ الَّذِي يُفْهَم بِهِ كَلَام اللَّه وَرَسُوله لِأَنَّ حِفْظ الشَّرِيعَة وَاجِب ، وَلَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِذَلِكَ فَيَكُون مِنْ مُقَدَّمَة الْوَاجِب ، وَكَذَا شَرْح الْغَرِيب وَتَدْوِين أُصُول الْفِقْه وَالتَّوَصُّل إِلَى تَمْيِيز الصَّحِيح وَالسَّقِيم " وَالْمُحَرَّمَة " مَا رَتَّبَهُ مَنْ خَالَفَ السُّنَّة مِنْ الْقَدَرِيَّة وَالْمُرْجِئَة وَالْمُشَبِّهَة " وَالْمَنْدُوبَة " كُلّ إِحْسَان لَمْ يُعْهَد عَيْنُهُ فِي الْعَهْد النَّبَوِيّ كَالِاجْتِمَاعِ عَلَى التَّرَاوِيح وَبِنَاء الْمَدَارِس وَالرُّبَط وَالْكَلَام فِي التَّصَوُّف الْمَحْمُود وَعَقْد مَجَالِس الْمُنَاظَرَة إِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ وَجْه اللَّه " وَالْمُبَاحَة " كَالْمُصَافَحَةِ عَقِب صَلَاة الصُّبْح وَالْعَصْر ، وَالتَّوَسُّع فِي الْمُسْتَلَذَّات مِنْ أَكْل وَشُرْب وَمَلْبَس وَمَسْكَن . وَقَدْ يَكُون بَعْض ذَلِكَ مَكْرُوهًا أَوْ خِلَاف الْأَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

.
وَلَيْسَ مَنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا عنِ الخطأِ(1)
__________
(1) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 403)
فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ : { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ : مِنْهَا أَنَّ أَمْرَهُ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوْبَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مُؤْمِنٌ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ : تَرْكُ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَتَرْكُ إبْدَاءِ الزِّينَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَّا أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةِ إلَّا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا } وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ نَظَرٍ وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ . } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " مَا رَأَيْت شَيْئًا أَشْبَهُ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ } الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ . وَفِيهِ : { وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى ذَلِكَ وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا يُدْرِكُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ : الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدَانِ زِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرَّجُلَانِ زِنَاهُمَا الْخُطَى وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ } وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثًا وَاسْتَغْرَبَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ { إلَّا اللَّمَمَ } { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا . } وَمِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الْفَوَاحِشِ الَّذِينَ لَمْ يَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ وَلَمْ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّوْبَةِ وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِهَا لِتُقْبَلَ مِنْهُمْ فَالتَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ مِنْهُمْ وَمِنْ سَائِرِ الْمُذْنِبِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْفَوَاحِشُ مُغَلَّظَةً لِشِدَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا - كَإِتْيَانِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - وَسَوَاءٌ تَابَ الْفَاعِلُ أَوْ الْمَفْعُولُ بِهِ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ إذَا رَأَوْا مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ شَيْئًا أَيَّسُوهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ : مَنْ عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَا يُفْلِحُ أَبَدًا وَلَا يَرْجُونَ لَهُ قَبُولَ تَوْبَةٍ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : مِنَّا كَذَا وَمِنَّا كَذَا وَالْمَعْفُوجُ لَيْسَ مِنَّا وَيَقُولُونَ : إنَّ هَذَا لَا يَعُودُ صَالِحًا وَلَوْ تَابَ مَعَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا مُقِرًّا بِتَحْرِيمِ مَا فَعَلَ . وَيُدْخِلُونَ فِي ذَلِكَ مَنْ اُسْتُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ وَيَقُولُونَ : لَوْ كَانَ لِهَذَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مَا سَلَّطَ عَلَيْهِ مَنْ فَعَلَ بِهِ مِثْلَ هَذَا وَاسْتَكْرَهَهُ كَمَا يُفْعَلُ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَمَالِيكِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَكَمَا يُفْعَلُ بِأُجَرَاءِ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَكَذَلِكَ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ صِبْيَانِ الْكَتَاتِيبِ وَغَيْرِهِمْ وَنَسُوا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْلَمُونَ صُورَةَ التَّوْبَةِ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا حَالًا وَعَمَلًا لِأَحَدِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ اعْتِقَادًا فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ ؛ فَإِنَّ الْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَالُهُمْ مُقَابِلٌ لِحَالِ مُسْتَحِلِّي الْفَوَاحِشِ ؛ فَإِنَّ هَذَا أَمِنَ مَكْرَ اللَّهِ بِأَهْلِهَا وَذَاكَ قَنَّطَ أَهْلَهَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ؛ وَالْفَقِيهُ كُلُّ الْفَقِيهِ هُوَ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ . وَهَذَا فِي أَصْلِ الذُّنُوبِ الْإِرَادِيَّةِ نَظِيرُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَعْتَقِدُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ فَيَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ تَوْبَةَ الْمُبْتَدِعِ لَا تُقْبَلُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَقَالَ : أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَد وَالْمُقَفَّى وَالْحَاشِرُ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَأَنَا نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ } وَذَلِكَ أَنَّهُ بُعِثَ بِالْمَلْحَمَةِ وَهِيَ : الْمَقْتَلَةُ لِمَنْ عَصَاهُ وَبِالتَّوْبَةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَبِالرَّحْمَةِ لِمَنْ صَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُؤْمَرُ بِقِتَالِ . وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْ أُمَمِهِمْ إذَا أَصَابَ بَعْضَ الذُّنُوبِ يَحْتَاجُ مَعَ التَّوْبَةِ إلَى عُقُوبَاتٍ شَدِيدَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِ : أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إذَا أَصَابَ ذَنْبًا أَصْبَحَتْ الْخَطِيئَةُ وَالْكَفَّارَةُ مَكْتُوبَةٌ عَلَى بَابِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ : { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } إلَى قَوْلِهِ : { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } فَخَصَّ الْفَاحِشَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ قَوْلِهِ { ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } وَالظُّلْمُ يَتَنَاوَلُ الْفَاحِشَةَ وَغَيْرَهَا تَحْقِيقًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ الْفَوَاحِشِ مُطْلَقًا : مِنْ الَّذِينَ يَأْتِيَانِهَا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَابَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا } وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَالَ الشَّيْطَانُ وَعِزَّتِك يَا رَبِّ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ فَقَالَ الرَّبُّ تَعَالَى : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي } وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْت لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْت لَك وَلَا أُبَالِي ابْنَ آدَمَ لَوْ لَقِيتنِي بِقِرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً ثُمَّ لَقِيتنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُك بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً . } وَاَلَّذِي يَمْنَعُ تَوْبَةَ أَحَدِ هَؤُلَاءِ إمَّا بِحَالِهِ وَإِمَّا بِقَالِهِ وَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَنْ يَقُولَ : إذَا تَابَ أَحَدُهُمْ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ : لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيَّ أَبَدًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَتَوْبَةِ الدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا نِزَاعٌ ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّمْثِيلِ وَالْبَيَانِ فِي " الْجَامِعِ " وَغَيْرِهِ وَتَكَلَّمُوا أَيْضًا فِي تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهُمْ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي كَوْنِ التَّوْبَةِ فِي الظَّاهِرِ تَدْفَعُ الْعُقُوبَةَ : إمَّا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهَا وَإِمَّا لِكَوْنِهَا لَا تَمْنَعُ مَا وَجَبَ مِنْ الْحَدِّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الزِّنْدِيقَ وَنَحْوَهُ إذَا تَابَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَوْبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَتَقَبَّلْهَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا الْقَاتِلُ وَالْمُضِلُّ فَذَاكَ لِأَجْلِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وَالتَّوْبَةُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَهَا حَالٌ آخَرُ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْكَلَامِ فِيهَا وَفِي تَفْصِيلِهَا وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَالْفَوَاحِشُ خُصُوصًا مَا عَلِمْت أَحَدًا نَازَعَ فِي التَّوْبَةِ مِنْهَا وَالزَّانِي وَالْمُزْنَى بِهِ مُشْتَرِكَانِ فِي ذَلِكَ إنْ تَابَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَيُبَيِّنُ التَّوْبَةَ خُصُوصًا مِنْ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ الْفَاحِشَةَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ دَعَاهُمْ جَمِيعَهُمْ إلَى تَقْوَى اللَّهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَلَوْ كَانَتْ تَوْبَةُ الْمَفْعُولِ بِهِ أَوْ غَيْرِهِ لَا تُقْبَلُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمَا لَا يُقْبَلُ قَالَ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ } { إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ } { إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } فَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِتَوْبَتِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ لِلْفَاعِلِ فَإِنَّهُ إنَّمَا خُصَّ بِهِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الشَّهْوَةِ وَالطَّلَبِ فِي الْعَادَةِ ؛ بِخِلَافِ الْمَفْعُولِ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ تُخْلَقْ فِيهِ شَهْوَةٌ لِذَلِكَ فِي الْأَصْلِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَعْرِضُ لَهُ لِمَرَضِ طَارِئٍ أَوْ أَجْرٍ يَأْخُذُهُ مِنْ الْفَاعِلِ أَوْ لِغَرَضِ آخَرَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . وانظر مجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 51)

فَصْلٌ -وَلَيْسَ مَنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا لَا يَغْلَطُ وَلَا يُخْطِئُ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ ،وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُمُورِ الدِّينِ حَتَّى يَحْسَبَ بَعْضُ الْأُمُورِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ فِي بَعْضِ الْخَوَارِقِ أَنَّهَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكُونُ مِنِ الشَّيْطَانِ لَبَّسَهَا عَلَيْهِ لِنَقْصِ دَرَجَتِهِ، وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ(1)
__________
(1) - قال شيخ الإسلام رحمه الله :
فَكُلٌّ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَانَ لَهُ حَالٌ : مِنْ مُكَاشَفَةٍ أَوْ تَأْثِيرٍ ؛ فَإِنَّهُ صَاحِبُ حَالٍ نَفْسَانِيٍّ ؛ أَوْ شَيْطَانِيٍّ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَالٌ بَلْ هُوَ يَتَشَبَّهُ بِأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ صَاحِبُ حَالٍ بهتاني . وَعَامَّةُ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْحَالِ الشَّيْطَانِيِّ وَالْحَالِ البهتاني كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } . و " الْحَلَّاجُ " كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ هَؤُلَاءِ : أَهْلُ الْحَالِ الشَّيْطَانِيِّ وَالْحَالِ البهتاني . وَهَؤُلَاءِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ . فَأَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ هُمْ شُيُوخُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ مِثْلَ الْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ كَانُوا لِلْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ وَمِثْلَ الْكُهَّانِ الَّذِينَ هُمْ بِأَرْضِ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَجِيءُ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ فَيُكَلِّمُهُمْ وَيَقْضِي دُيُونَهُ وَيَرُدُّ وَدَائِعَهُ وَيُوصِيهِمْ بِوَصَايَا فَإِنَّهُمْ تَأْتِيهِمْ تِلْكَ الصُّورَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ وَهُوَ شَيْطَانٌ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ ؛ فَيَظُنُّونَهُ إيَّاهُ . وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَسْتَغِيثُ بِالْمَشَايِخِ فَيَقُولُ : يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَوْ يَا شَيْخُ فُلَانٍ اقْضِ حَاجَتِي . فَيَرَى صُورَةَ ذَلِكَ الشَّيْخِ تُخَاطِبُهُ وَيَقُولُ : أَنَا أَقْضِي حَاجَتَك وَأُطَيِّبُ قَلْبَك فَيَقْضِي حَاجَتَهُ أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ عَدُوَّهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا قَدْ تَمَثَّلَ فِي صُورَتِهِ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَدَعَا غَيْرَهُ . وَأَنَا أَعْرِفُ مِنْ هَذَا وَقَائِعُ مُتَعَدِّدَةٌ ؛ حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِي ذَكَرُوا أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِي فِي شَدَائِدَ أَصَابَتْهُمْ . أَحَدُهُمْ كَانَ خَائِفًا مِنْ الْأَرْمَنِ وَالْآخَرُ كَانَ خَائِفًا مِنْ التتر : فَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغَاثَ بِي رَآنِي فِي الْهَوَاءِ وَقَدْ دَفَعْت عَنْهُ عَدُوَّهُ . فَأَخْبَرْتهمْ أَنِّي لَمْ أَشْعُرْ بِهَذَا وَلَا دَفَعْت عَنْكُمْ شَيْئًا ؛ وَإِنَّمَا هَذَا الشَّيْطَانُ تَمَثَّلَ لِأَحَدِهِمْ فَأَغْوَاهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى . وَهَكَذَا جَرَى لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمَشَايِخِ مَعَ أَصْحَابِهِمْ ؛ يَسْتَغِيثُ أَحَدُهُمْ بِالشَّيْخِ فَيَرَى الشَّيْخَ قَدْ جَاءَ وَقَضَى حَاجَتَهُ وَيَقُولُ ذَلِكَ الشَّيْخُ : إنِّي لَمْ أَعْلَمِ بِهَذَا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَيْطَانًا . وَقَدْ قُلْت لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا لَمَّا ذَكَرَ لِي أَنَّهُ اسْتَغَاثَ بِاثْنَيْنِ كَانَ يَعْتَقِدُهُمَا وَأَنَّهُمَا أَتَيَاهُ فِي الْهَوَاءِ ؛ وَقَالَا لَهُ طَيِّبِ قَلْبَك نَحْنُ نَدْفَعُ عَنْك هَؤُلَاءِ وَنَفْعَلُ وَنَصْنَعُ . قُلْت لَهُ : فَهَلْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ : لَا . فَكَانَ هَذَا مِمَّا دَلَّهُ عَلَى أَنَّهُمَا شَيْطَانَانِ ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ وَإِنْ كَانُوا يُخْبِرُونَ الْإِنْسَانَ بِقَضِيَّةِ أَوْ قِصَّةٍ فِيهَا صِدْقٌ فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ أَضْعَافَ ذَلِكَ كَمَا كَانَتْ الْجِنُّ يُخْبِرُونَ الْكُهَّانَ . وَلِهَذَا مَنْ اعْتَمَدَ عَلَى مُكَاشَفَتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخْبَارِ الْجِنِّ كَانَ كَذِبُهُ أَكْثَرَ مِنْ صِدْقِهِ ؛ كَشَيْخِ كَانَ يُقَالُ لَهُ : " الشياح " توبناه وَجَدَّدْنَا إسْلَامَهُ كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنْ الْجِنِّ يُقَالُ لَهُ : " عَنْتَرٌ " يُخْبِرُهُ بِأَشْيَاءَ فَيَصْدُقُ تَارَةً وَيَكْذِبُ تَارَةً فَلَمَّا ذَكَرْت لَهُ أَنَّك تَعْبُدُ شَيْطَانًا مِنْ دُونِ اللَّهِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ : يَا عَنْتَرُ لَا سُبْحَانَك ؛ إنَّك إلَهٌ قَذِرٌ وَتَابَ مِنْ ذَلِكَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ . وَقَدْ قَتَلَ سَيْفُ الشَّرْعِ مَنْ قَتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِثْلَ الشَّخْصِ الَّذِي قَتَلْنَاهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَكَانَ لَهُ قَرِينٌ يَأْتِيهِ وَيُكَاشِفُهُ فَيَصْدُقُ تَارَةً وَيَكْذِبُ تَارَةً وَقَدْ انْقَادَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرِّئَاسَةِ فَيُكَاشِفُهُمْ حَتَّى كَشَفَهُ اللَّهُ لَهُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ الْقَرِينَ كَانَ تَارَةً يَقُولُ لَهُ : أَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَيَذْكُرُ أَشْيَاءَ تُنَافِي حَالَ الرَّسُولِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الرَّسُولَ يَأْتِينِي وَيَقُولُ لِي كَذَا وَكَذَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ أَضَافَهَا إلَى الرَّسُولِ ؛ فَذَكَرْت لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ وَأَنَّ الَّذِي يَرَاهُ شَيْطَانًا ؛ وَلِهَذَا لَا يَأْتِيهِ فِي الصُّورَةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَأْتِيهِ فِي صُورَةٍ مُنَكَّرَةٍ وَيَذْكُرُ عَنْهُ أَنَّهُ يَخْضَعُ لَهُ ؛ وَيُبِيحُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُسْكِرَ وَأُمُورًا أُخْرَى . وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الرُّؤْيَةِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي أَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الصُّورَةَ ؛ لَكِنْ كَانَ كَافِرًا فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَلِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تنزلات شَيْطَانِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا فَعَلُوهُ مِنْ مُرَادِ الشَّيْطَانِ ؛ فَكُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ قَرُبُوا مِنْ الشَّيْطَانِ . فَيَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ ؛ وَالشَّيْطَانُ طَارَ بِهِمْ . وَمِنْهُمْ مِنْ يَصْرَعُ الْحَاضِرِينَ وَشَيَاطِينُهُ صَرَعَتْهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْضِرُ طَعَامًا وَإِدَامًا وَمَلَأَ الْإِبْرِيقَ مَاءً مِنْ الْهَوَاءِ وَالشَّيَاطِينُ فَعَلَتْ ذَلِكَ فَيَحْسَبُ الْجَاهِلُونَ أَنَّ هَذِهِ كَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ أَحْوَالِ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَأَمْثَالِهِمْ . وَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ والنفسانية اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَمَنْ لَمْ يُنَوِّرْ اللَّهُ قَلْبَهُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ لَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَ الْمُحِقِّ مِنْ الْمُبْطِلِ ؛ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْحَالُ كَمَا الْتَبَسَ عَلَى النَّاسِ حَالُ مُسَيْلِمَةَ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَذَّابِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ ؛ وَإِنَّمَا هُمْ كَذَّابُونَ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ فِيكُمْ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ } . وَأَعْظَمُ الدَّجَاجِلَةِ فِتْنَةً " الدَّجَّالُ الْكَبِيرُ " الَّذِي يَقْتُلُهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ؛ فَإِنَّهُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَتِهِ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِيذُوا مِنْ فِتْنَتِهِ فِي صَلَاتِهِمْ . وَقَدْ ثَبَتَ " أَنَّهُ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ : أَمْطِرِي ؛ فَتُمْطِرُ ؛ وَلِلْأَرْضِ أَنْبِتِي فَتُنْبِتُ " " وَأَنَّهُ يَقْتُلُ رَجُلًا مُؤْمِنًا ؛ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ قُمْ فَيَقُومُ ؛ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّك ؛ فَيَقُولُ لَهُ كَذَبْت ؛ بَلْ أَنْتَ الْأَعْوَرُ الْكَذَّابُ الَّذِي أَخْبَرَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهِ مَا ازْدَدْت فِيك إلَّا بَصِيرَةً فَيَقْتُلُهُ مَرَّتَيْنِ فَيُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَلَا يُسَلِّطُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ " وَهُوَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ . وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ تُنَافِي مَا يَدَّعِيهِ : أَحَدُهَا " { أَنَّهُ أَعْوَرُ ؛ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ } . وَالثَّانِيَةُ " { أَنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ مِنْ قَارِئٍ وَغَيْرِ قَارِئٍ } . وَالثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : " { وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ } . فَهَذَا هُوَ الدَّجَّالُ الْكَبِيرُ وَدُونَهُ دَجَاجِلَةُ مِنْهُمْ مِنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ ؛ وَمِنْهُمْ مِنْ يُكَذَّبُ بِغَيْرِ ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ } . فَالْحَلَّاجُ كَانَ مِنْ الدَّجَاجِلَةِ بِلَا رَيْبٍ ؛ وَلَكِنْ إذَا قِيلَ : هَلْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ أَمْ لَا ؟ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ ؛ فَلَا يَقُولُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ ؛ وَلَكِنْ ظَهَرَ عَنْهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ مَا أَوْجَبَ كُفْرَهُ وَقَتْلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ .مجموع الفتاوى - (ج 35 / ص 114)

، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ(1)، فَقَالَ تَعَالَى : { آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) } (2)
__________
(1) - عَنْ أَبِى ذَرٍّ الْغِفَارِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِى الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ »سنن ابن ماجه(2121 ) وهو صحيح لغيره
وفي فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (ج 1 / ص 130)
1 أمَّةُ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم أمَّتان: أمَّة دعوة وأمَّة إجابة، فأمَّة الدعوة هم كلُّ إنسيٍّ وجنيٍّ من حين بعثته إلى قيام الساعة، وأمَّة الإجابة هم الذين وفَّقهم الله للدخول في دينه الحنيف وصاروا من المسلمين، والمراد من الأمَّة في هذا الحديث أمَّة الإجابة، ومن أمثلة أمَّة الدعوة قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يَموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلاَّ كان من أصحاب النار" رواه مسلم (153).
والخطأ: فعل الشيء من غير قصد، والنسيان: أن يكون ذاكراً لشيء فينساه عند الفعل، والإكراه: الإلجاء على قول أو فعل، والإثم مرفوع في هذه الثلاثة؛ وقد جاءت الأدلة من كتاب الله عزَّ وجلَّ على رفع ذلك، قال الله عزَّ وجلَّ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، قال الله: "قد فعلت"أخرجه مسلم (126)، وقال: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ، وقال: {ِإلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} وأمَّا ما أتلفه لغيره فهو مضمون، كالقتل خطأ تجب فيه الدية مع الكفارة، وإذا أُكره على الزنا أو قَتْل معصوم فلا يجوز له ذلك؛ فلا يستبقي حياته بقتل غيره.
2 مِمَّا يُستفاد من الحديث:
1 بيان سعة رحمة الله وفضله وإحسانه إلى عباده؛ حيث رفع عنهم الإثم في هذه الثلاثة.
2 رفع المؤاخذة على الخطأ، فإن كان الخطأ في ترك واجب فَعَلَه، وإن كان في إتلاف حقٍّ لغيره ضمنه.
(2) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأنَّهُ صَدَّقَ بِمَا جَاءَهُ مِنَ الوَحْي ، وَآمَنَ بِمَا أَنْزَلَ إِليهِ مِنْ رَبِّهِ . وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ كَذَلِكَ بِوُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَتَمَامِ حِكْمَتِهِ فِي نِظَامِ خَلِيقَتِهِ ، وَيْؤْمِنُونَ بِوُجُودِ مَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَيُصَدِّقُونَ بِجَميعِ الأَنْبياءِ وَالرُّسُلِ وَالكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالأنبِياءِ ، لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرُّسُلِ وَالأنبياءِ ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ جَمِيعاً صَادِقُونَ ، هَادُونَ إلى سَبيلِ الخَيْرِ ، وَإنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَنْسَخُ شَرِيعَةَ بَعْضٍ بِإذْنِ اللهِ . وَقَالُوا : سَمِعْنَا قَوْلَكَ يَا رَبَّنَا وَفَهِمْنَاهُ ، وَامْتَثَلْنَا لِلْعَملِ بِمُقْتَضَاهُ ، نَسْألُكَ المَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَإليكَ نَحْنُ صَائِرُونَ .
لاَ يُكَلِّفُ اللهُ أحَداً فَوْقَ طَاقَتِهِ ، وَهذا مِنْ لُطْفِ اللهِ بِخَلْقِهِ . وَللنَّفْسِ مَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ . وَعَلَيهَا مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ شَرٍّ ، مِنْ قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ . وَأرْشَدَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ إِلى دُعَائِهِ وَاسْتِرْحَامِهِ ، وَالضَّرَاعَةِ إليهِ ، وَذَلِكَ بِأنْ يَقُولُوا : رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ تَرَكْنا فَرْضَنَا وَنَحْنُ نَاسُونَ أوِ ارْتَكَبْنَا مُحَرَّماً وَنَحْنُ نَاسُونَ أوْ مُخْطِئُونَ ، أوْ عَنْ جَهْلٍ بِوَجْهِهِ الشَّرْعِيِّ ، رَبَّنا وَلا تُكَلِّفْنا مِنَ الأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَإنْ أَطَقْنَاهَا ، كَمَا شَرَّعْتَهُ لِلأمَمِ السَّالِفَةِ مِنَ الأغْلاَلِ وَالآصَارِ ، رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنَ التَّكْلِيفِ وَالمَصَائِبِ وَالبَلاَءِ ، وَاعْفُ عَنَّا فِيمَا بَيْنَنا وَبَيْنَكَ وَاغْفِرْ لَنَا فِيمَا بَيْنَنا وَبَيْنَ العِبَادِ ، فَلاَ تُظْهِرْهُمْ عَلَى أَعْمَالِنا القَبِيحَةِ وَمَسَاوئِنا ، وَارْحَمْنَا لِكَيْلاَ نَقَعَ مُسْتَقْبَلاً فِي ذَنبِ ، أنْتَ وَلِيُّنا وَمَوْلاَنا ، فَانْصُرْنا عَلَى القَوْمِ الذِينَ كَفَرُوا بِكَ ، وَجَحَدُوا دِينك .

[البقرة/285، 286]، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ(1) وَقَالَ : قَدْ فَعَلْت، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِى أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) قَالَ :دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَىْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَىْءٍ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-: « قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا ». قَالَ فَأَلْقَى اللَّهُ الإِيمَانَ فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قَالَ قَدْ فَعَلْتُ (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) - قَالَ قَدْ فَعَلْتُ (وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا) قَالَ قَدْ فَعَلْتُ.(2)
__________
(1) - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (لِلَّهِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِى أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ) قَالَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا أَىْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلاَ نُطِيقُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ». قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِى إِثْرِهَا (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قَالَ نَعَمْ (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) قَالَ نَعَمْ (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قَالَ نَعَمْ (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) قَالَ نَعَمْ.صحيح مسلم(344 ) وأخرجه البخارى(4545)مختصرا عن ابن عمر
(2) - صحيح مسلم(345 )
وفي شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 2 / ص 112)
قال المؤلف رحمه الله باب وجوب الانقياد لحكم الله تعالى ثم ذكر آيتين سبق الكلام عليهما منهما قوله تعالى فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الصحابة رضي الله عنهم لما أنزل الله على نبيه هذه الآية { وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ } كبر ذلك عليهم وشق عليهم ذلك لأن ما في النفس من الحديث أمر لا ساحل له فالشيطان يأتي الإنسان ويحدثه في نفسه بأشياء منكرة عظيمة منها ما يتعلق بالأمور الدينية ومنها ما يتعلق بالأمور الدنيوية ومنها ما يتعلق بالنفس ومنها ما يتعلق بالمال أشياء كثيرة يلقيها الشيطان في قلب الإنسان والله عز وجل يقول { وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ } فإذا كان كذلك هلك الناس فجاء الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجثوا على ركبهم فعلوا ذلك من شدة الأمر والإنسان إذا نزل به أمر شديد يجثو على ركبتيه وقالوا يا رسول الله إن الله تعالى أمرنا بما نطيق الصلاة والجهاد والصيام والصدقة هذه نطيقها نصلي نجاهد نتصدق نصوم لكنه أنزل هذه الآية { وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ } وهذه شديدة عليهم لا أحد يطيق أن يمنع الإنسان نفسه عما تحدثه به من الأمور التي لو حوسب عليها لهلك فقال النبي عليه الصلاة والسلام أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا أهل الكتابين هم اليهود والنصارى اليهود كتابهم التوراة وهي أشرف الكتب المنزلة بعد القرآن والنصارى كتابهم الإنجيل وهو متمم التوراة واليهود والنصارى عصوا أنبياءهم وقالوا سمعنا وعصينا فهل تريدون أن تكونوا مثلهم ولكن قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير وهكذا يجب على المسلم إذا سمع أمر الله ورسوله أن يقول سمعنا وأطعنا ويمتثل بقدر ما يستطيع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها كثير من الناس اليوم يأتي إليك يقول إن الرسول أمر بكذا هل هو واجب أو سنة ؟ والواجب أنه إذا أمرك أن تفعل إن كان واجبا فقد أبرأت الذمة وحصلت خيرا وإن كان مستحبا فقد حصلت خيرا أيضا أما أن تقول هو واجب أو مستحب وتتوقف عن العمل حتى تعرف فهذا لا يكون إلا من إنسان كسول لا يحب الخير ولا الزيادة فيه أما الإنسان الذي يحب الزيادة في الخير فهو إذا علم أمر الله ورسوله قال: سمعنا وأطعنا ثم فعل ولا يسأل هو واجب أو مستحب إلا إذا خالف حينئذ يسأل ولهذا لم نعهد ولم نعلم أن الصحابة كانوا إذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر قالوا يا رسول الله أعلى سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب ما سمعنا بهذا كانوا يقولون سمعنا وأطعنا ويمشون فأنت افعل وليس عليك من كونه مستحبا أو واجبا ولا يستطيع الإنسان أن يقول إن هذا الأمر مستحب أو واجب إلا بدليل والحجة أن يقول لك المفتي هكذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام ونحن نجد ابن عمر رضي الله عنه لما حدث ابنه بلالا قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لا تمنعوا نساءكم المساجد وقد تغيرت الحال بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام قال بلال والله لنمنعهن فسبه عبد الله بن عمر سبا شديدا لماذا يقول والله لنمنعهن والرسول يقول: لا تمنعونهن ثم إنه هجره حتى مات وهذا يدل على شدة تعظيم الصحابة لأمر الله ورسوله أما نحن فنقول هل هذا الأمر واجب أم مستحب هذا النهي للتحريم أم للكراهة لكن إذا وقع الأمر فلك أن تسأل حينئذ هل أثمت بذلك أم لا لأجل أنه إذا قيل لك إنك آثم تجدد توبتك وإذا قيل إنك غير آثم يستريح قلبك أما حين يوجه الأمر فلا تسأل عن الاستحباب أو الوجوب كما كان أدب الصحابة مع الرسول عليه الصلاة والسلام يفعلون ما أمر ويتركون ما عنه نهى وأجر لكن مع ذلك نحن نبشركم بحديث قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم الحمد لله رفع الحرج كل ما حدثت به نفسك ولكن ما ركنت إليه ولا عملت ولا تكلمت فهو معفو عنه حتى ولو كان أكبر من الجبال فاللهم لك الحمد حتى إن الصحابة قالوا يا رسول الله نجد في نفوسنا ما نحب أن تكون حممة يعني فحمة محترقة ولا نتكلم به قال ذاك صريح الإيمان يعني ذاك هو الإيمان الخالص لأن الشيطان ما يلقى مثل هذه الوساوس في قلب خرب في قلب فيه شك إنما يتسلط الشيطان أعاذنا الله منه على قلب مؤمن خالص ليفسده ولما قيل لابن عباس أو ابن مسعود إن اليهود إذا دخلوا في الصلاة لا يوسوسون قال وما يصنع الشيطان بقلب خراب فاليهود كفار قلوبهم خربة فالشيطان لا يوسوس لهم عند صلاتهم لأنها باطلة من أساسها الشيطان يوسوس للمسلم الذي صلاته صحيحة مقبولة ليفسدها يأتي للمؤمن صريح الإيمان ليفسد هذا الإيمان الصريح ولكن والحمد لله من أعطاه الله تعالى طب القلوب والأبدان محمد صلى الله عليه وسلم وصف لنا لهذا طبا ودواء فأرشد إلى الاستعاذة بالله والانتهاء فإذا أحس الإنسان بشيء من هذه الوساوس الشيطانية فإنه يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولينته يعرض عنها ولا يلتفت إليها امض فيما أنت عليه فإذا رأى الشيطان أنه لا سبيل إلى إفساد هذا القلب المؤمن الخالص نكص على عقبيه ورجع ثم إنهم لما قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ولانت لها نفوسهم وذلت لها ألسنتهم أنزل الله بعدها { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } يعني والمؤمنون آمنوا { كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فبين الله عز وجل في هذه الآية الثناء عليهم وعلى رسوله وعلى المؤمنين لأنهم قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ثم أنزل الله { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } فالذي ليس في وسع الإنسان لا يكلفه الله به ولا حرج عليه فيه مثل الوساوس التي تهجم على القلب ولكن الإنسان إذا لم يركن إليها ولم يصدق بها ولم يرفع بها رأسا فإنها لا تضره لأن هذه ليست داخلة في وسعه والله عز وجل يقول { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } فقد يحدث الشيطان الإنسان في نفسه عن أمور فظيعة عظيمة ولكن الإنسان إذا أعرض عنها واستعاذ بالله من الشيطان ومنها زالت عنه { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال نعم يعني قال الله نعم لا أؤاخذكم إن نسيتم أو أخطأتم { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } قال نعم ولهذا قال الله تعالى في وصف رسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } { ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به } قال الله نعم ولهذا لا يكلف الله تعالى في شرعه ما لا يطيقه الإنسان بل إذا عجز عن الشيء انتقل إلى بدله إذا كان له بدل أو سقط عنه إن لم يكن له بدل أما أن يكلف ما لا طاقة له به فإن الله تعالى قال هنا نعم يعني لا أحملكم ما لا طاقة لكم به { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } قال الله نعم فاعف عنا واغفر لنا وارحمنا هذه ثلاث كلمات كل كلمة لها معنى واعف عنا يعني تقصيرنا في الواجب واغفر لنا يعني انتهاكنا للمحرم وارحمنا يعني وفقنا للعمل الصالح فالإنسان إما يترك واجبا أو يفعل محرما فإن ترك الواجب فإنه يقول اعف عنا أي اعف عنا ما قصرنا فيه من الواجب وإن فعل المحرم فإنه يقول اغفر لنا يعني ما اقترفنا من الذنوب أو يطلب تثبيتا وتأييدا وتنشيطا على الخير في قوله { وارحمنا } فهذه ثلاث كلمات كل كلمة لها معنى { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا } أي متولي أمورنا في الدنيا والآخرة فتولنا في الدنيا وانصرنا على القوم الكافرين { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } قد يتبادر للإنسان أن المراد أعداؤنا من الكفار ولكنه أعم حتى إنه يتناول الانتصار على الشيطان لأن الشيطان رأس الكافرين إذن نستفيد من هذه الآيات الكريمة الأخيرة: أن الله سبحانه وتعالى لا يحملنا مالا طاقة لنا به ولا يكلفنا إلا وسعنا وأن الوساوس التي تجول في صدورنا إذا لم نركن إليها ولم نطمئن إليها ولم نأخذ بها فإنها لا تضر

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11