كتاب : الفرقانُ بينَ أولياءِ الرَّحمَنِ وأولياءِ الشَّيْطانِ
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا }(1) (5) سورة الأحزاب. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » . قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالَ هَكَذَا حَدَّثَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ(2)
__________
(1) - يَنْسَخُ اللهُ تَعالى في هذهِ الآيةِ حُكْم التَّبَنِّي الذِيْ كَانَ مَعْمُولاً بهِ في الجاهليةِ ، فقدْ كانَ التَّبَنِّي جَائزاً وظَلَّ حُكْمُ التَّبَنِّي سَارياً في ابْتِدَاءِ أَمْرِ الإِسْلامِ ، فكانَ الرَّجُلُ يتبنَّى وَلَدَ غيرِهِ ، فَيُصْبِحُ حُكْمُهُ حُكْمَ الوَلَدِ مِنَ الصُّلْبِ ، في أمورِ النَّسَبِ والمِيراثِ . . . ولكنَّ اللهَ تَعَالى نَسَخَ حُكْمَ التَّبَنِّي في هذهِ الآيةِ . وأمَرَ المؤمنينَ بِرَدِّ نِسْبَةِ الأدْعِيَاءِ ( الأَولادِ بالتَّبَنِّي ) إلى آبائِهِمْ الحَقِيقِيِّينَ ، لأنَّ هذَا هُوَ العَدْلُ والقِسْطُ والبِرُّ .
( فَعَلَيْهِمْ أَن يَقُولُوا زَيْدُ بنُ حَارِثَة لا زَيْدُ بنُ محمدٍ ) ، أمَّا إذا كَانَ الولدُ المُتَبَنَّى لا يُعرَفُ أبُوه لِيُنْسَبَ إليهِ ، فَعَلى المؤمنينَ أنْ يَعُدُّوا هؤلاءِ الأدْعياءِ إخْوَاناً لَهُمْ في الدِّينِ - إنْ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا في الإِسْلامِ - وأنْ يَعُدُّوهُمْ موالِيَهُمْ إن كانُوا مُحَرَّرِينَ ( فيُقَالُ سَالِمُ مَوْلَى أبِي حُذَيْفَةَ ) .
وَلاَ حَرَجَ على المُؤْمِنِين فيما اخْطَؤُوا فيهِ من نِسْبَةِ بَعْضِ هؤُلاءِ الأَدْعياءِ إلى غَيْرِ آبَائِهِمْ ، بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الجهْدِ في البَحْثِ والاسْتِقْصَاءِ ، أو فيما يَسْبِقُهُمْ بهِ لِسَانُهُمْ ، ولكنَّ الحَرَجَ والإِثمَ والمُؤاخَذَةَ تَقَعُ على منْ يَفْعَلُونَهُ مُتَعَمِّدينَ بهِ الباطِلَ ، واللهُ غفورٌ لذَنْبِ مَنْ تَابَ أو أخْطَأ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، وهو رحيمٌ بهِ فَلا يُعاقِبُهُ مِنْ بَعْدِ التًَّوْبَةِ .
(2) - صحيح البخارى (7352 ) ومسلم (4584 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 148)
قَالَ الْعُلَمَاء : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيث فِي حَاكِم عَالِم أَهْل لِلْحُكْمِ ، فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ : أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ ، وَأَجْرٌ بِإِصَابَتِهِ ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ .
وَفِي الْحَدِيث مَحْذُوف تَقْدِيره : إِذَا أَرَادَ الْحَاكِم فَاجْتَهَدَ ، قَالُوا : فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَلَا يَحِلّ لَهُ الْحُكْم ، فَإِنْ حَكَمَ فَلَا أَجْر لَهُ بَلْ هُوَ آثِمٌ ، وَلَا يَنْفُذ حُكْمه ، سَوَاء وَافَقَ الْحَقّ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ إِصَابَته اِتِّفَاقِيَّة لَيْسَتْ صَادِرَة عَنْ أَصْل شَرْعِيّ فَهُوَ عَاصٍ فِي جَمِيع أَحْكَامه ، سَوَاء وَافَقَ الصَّوَاب أَمْ لَا ، وَهِيَ مَرْدُودَة كُلّهَا ، وَلَا يُعْذَر فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث فِي السُّنَن " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : قَاضٍ فِي الْجَنَّة ، وَاثْنَانِ فِي النَّار ، قَاضٍ عَرَفَ الْحَقّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّة ، وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقّ فَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّار ، وَقَاضٍ قَضَى عَلَى جَهْل فَهُوَ فِي النَّار " ، وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَنَّ كُلّ مُجْتَهِد مُصِيب أَمْ الْمُصِيب وَاحِد ، وَهُوَ مَنْ وَافَقَ الْحُكْم الَّذِي عِنْد اللَّه تَعَالَى وَالْآخَر مُخْطِئ لَا إِثْم عَلَيْهِ لِعُذْرِهِ ؟ وَالْأَصَحّ عِنْد الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه أَنَّ الْمُصِيب وَاحِد ، وَقَدْ اِحْتَجَّتْ الطَّائِفَتَانِ بِهَذَا الْحَدِيث ، وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ الْقَائِلُونَ : ( كُلّ مُجْتَهِد مُصِيب ) فَقَالُوا : قَدْ جُعِلَ لِلْمُجْتَهِدِ أَجْر فَلَوْلَا إِصَابَته لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْر ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَقَالُوا : سَمَّاهُ مُخْطِئًا ، لَوْ كَانَ مُصِيبًا لَمْ يُسَمِّهِ مُخْطِئًا ، وَأَمَّا الْأَجْر فَإِنَّهُ حَصَلَ لَهُ عَلَى تَعَبه فِي الِاجْتِهَاد ، قَالَ الْأَوَّلُونَ : إِنَّمَا سَمَّاهُ مُخْطِئًا لِأَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ أَخْطَأَ النَّصّ أَوْ اِجْتَهَدَ فِيمَا لَا يَسُوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَغَيْره ، وَهَذَا الِاخْتِلَاف إِنَّمَا هُوَ فِي الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع ، فَأَمَّا أُصُول التَّوْحِيد فَالْمُصِيب فِيهَا وَاحِد بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدّ بِهِ ، وَلَمْ يُخَالِف إِلَّا عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن الْعَبْتَرِيّ وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ فَصَوَّبَا الْمُجْتَهِدِينَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ، قَالَ الْعُلَمَاء : الظَّاهِر أَنَّهُمَا أَرَادَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دُون الْكُفَّار . وَاللَّهُ أَعْلَم .

. فَلَمْ يُؤَثِّمْ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ ؛ بَلْ جَعَلَ لَهُ أَجْرًا عَلَى اجْتِهَادِهِ وَجَعَلَ خَطَأَهُ مَغْفُورًا لَهُ، وَلَكِنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُصِيبَ لَهُ أَجْرَانِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَغْلَطَ لَمْ يَجِبْ عَلَى النَّاسِ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ مَنْ هُوَ وَلِيٌّ لِلَّهِ لِئَلَّا يَكُونَ نَبِيًّا ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى مَا يُلْقَى إلَيْهِ فِي قَلْبِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا [ لِلشَّرْعِ ]، وَعَلَى مَا يَقَعُ لَهُ مِمَّا يَرَاهُ إلْهَامًا وَمُحَادَثَةً وَخِطَابًا مِنَ الْحَقِّ ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ وَافَقَهُ قَبْلَهُ وَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يَقْبَلْهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَمُوَافِقٌ هُوَ أَمْ مُخَالِفٌ ؟ تَوَقَّفَ فِيهِ .
- - - - - - - - - - - - - -
موقفُ الناس من إلإلهام(1)
__________
(1) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 469)
فَمَضْمُونُ هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ النَّاسَ فِي الْمُبَاحَاتِ مِنْ الْمُلْكِ وَالْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ " : قَوْمٌ لَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا إلَّا بِحُكْمِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ . وَهُوَ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ حَالُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ فِي ذَلِكَ . وَ قَوْمٌ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِحُكْمِ إرَادَتِهِمْ وَالشَّهْوَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً . وَهَذَا حَالُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ . وَهُوَ حَالُ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ . وَقَوْمٌ لَا يَتَصَرَّفُونَ بِهَذَا وَلَا بِهَذَا . أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَلِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهِ . وَأَمَّا " الثَّانِي " فَلِزُهْدِهِمْ فِيهِ ؛ بَلْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِحُكْمِ الْقَدَرِ الْمَحْضِ اتِّبَاعًا لِإِرَادَةِ اللَّهِ الْخِلْقِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ حِينَ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ الْإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةُ الْأَمْرِيَّةُ وَهَذَا كَالتَّرْجِيحِ بِالْقُرْعَةِ إذَا تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ بِسَبَبِ شَرْعِيٍّ مَعْلُومٍ وَقَدْ يَتَصَرَّفُ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِإِلْهَامِ يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ وَخِطَابٍ . وَكَلَامُ " الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ " - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ؛ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالزُّهْدِ فِي إرَادَةِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا حَتَّى لَا يَتَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْإِرَادَةِ وَالنَّفْسِ وَهَذَا رَفْعٌ لَهُ عَنْ حَالِ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ وَعَنْ طَرِيقِ الْمُلُوكِ مُطْلَقًا وَمَنْ حَصَلَ هَذَا وَتَصَرَّفَ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ الْقُرْآنِيِّ فَهُوَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ لَكِنَّ هَذَا قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا عَلَى التَّفْصِيلِ قَدْ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَحَكَمَ بِقَتْلِ مُقَاتِلَتِهِمْ ، وَبِسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ وَغَنِيمَةِ أَمْوَالِهِمْ . قَالَ : لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ } " . وَذَلِكَ أَنَّ تَخْيِيرَ وَلِيِّ الْأَمْرِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ ، وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ لَيْسَ تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ بَلْ تَخْيِيرَ رَأْيٍ وَمَصْلَحَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ الْأَصْلَحَ ، فَإِنْ اخْتَارَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقَ حُكْمَ اللَّهِ وَإِلَّا فَلَا . وَلَمَّا كَانَ هَذَا يَخْفَى كَثِيرًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { إذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك ، وَحُكْمِ أَصْحَابِك } " وَالْحَاكِمُ الَّذِي يُنْزِلُ أَهْلَ الْحِصْنِ عَلَى حُكْمِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ فَلَمَّا أَمَرَ سَعْدًا بِمَا هُوَ الْأَرْضَى لِلَّهِ وَالْأَحَبُّ إلَيْهِ حَكَمَ بِحُكْمِهِ وَلَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَنَفَذَ حُكْمُهُ فَإِنَّهُ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ . فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي لَا يَتَبَيَّنُ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ فِي الْوَاقِعَةِ الْمُعَيَّنَةِ يَأْمُرُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الشُّيُوخِ : " تَارَةً " بِالرُّجُوعِ إلَى الْأَمْرِ الْبَاطِنِ وَالْإِلْهَامِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ وَ " تَارَةً " بِالرُّجُوعِ إلَى الْقَدَرِ الْمَحْضِ لِتَعَذُّرِ الْأَسْبَابِ الْمُرَجِّحَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ كَمَا يُرَجِّحُ الشَّارِعُ بِالْقُرْعَةِ . فَهُمْ يَأْمُرُونَ أَلَّا يُرَجِّحَ بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ وَهَوَاهُ فَإِنَّ هَذَا إمَّا مُحَرَّمٌ وَإِمَّا مَكْرُوهٌ وَإِمَّا مُنْقِصٌ ، فَهُمْ فِي هَذَا النَّهْيِ كَنَهْيِهِمْ عَنْ فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ . ثُمَّ إنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِهِ وَإِلَّا رَجَّحُوا : إمَّا " بِسَبَبِ بَاطِنٍ " مِنْ الْإِلْهَامِ وَالذَّوْقِ وَإِمَّا " بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ " الَّذِي لَا يُضَافُ إلَيْهِمْ . وَمَنْ يُرَجِّحُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ " بِاسْتِخَارَةِ اللَّهِ " كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَدْ أَصَابَ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ أَدِلَّةُ " الْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ " عِنْدَ النَّاظِرِ الْمُجْتَهِدِ وَعِنْدَ الْمُقَلِّدِ الْمُسْتَفْتِي فَإِنَّهُ لَا يُرَجِّحُ شَيْئًا . بَلْ مَا جَرَى بِهِ الْقَدَرُ أَقَرُّوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ . وَتَارَةً يُرَجِّحُ أَحَدُهُمْ : إمَّا بِمَنَامِ وَإِمَّا بِرَأْيٍ مُشِيرٍ نَاصِحٍ وَإِمَّا بِرُؤْيَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ . وَأَمَّا التَّرْجِيحُ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ بِحَيْثُ إذَا تَكَافَأَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ يُرَجِّحُ بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ . فَهَذَا لَيْسَ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَلَكِنْ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي الْعَامِّيِّ الْمُسْتَفْتِي : إنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمُفْتِينَ الْمُخْتَلِفِينَ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ السَّالِكِينَ إذَا اسْتَوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ فِي الشَّرِيعَةِ رَجَّحَ بِمُجَرَّدِ ذَوْقِهِ وَإِرَادَتِهِ فَالتَّرْجِيحُ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ الَّتِي لَا تَسْتَنِدُ إلَى أَمْرٍ عِلْمِيٍّ بَاطِنٍ وَلَا ظَاهِرٍ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ . فَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ لَا يَقُولُونَ هَذَا . وَلَكِنْ مَنْ جَوَّزَ لِمُجْتَهِدِ أَوْ مُقَلِّدٍ التَّرْجِيحَ بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ فَهُوَ نَظِيرُ مَنْ شَرَعَ لِلسَّالِكِ التَّرْجِيحَ بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ وَذَوْقِهِ . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : الْقَلْبُ الْمَعْمُورُ بِالتَّقْوَى إذَا رَجَّحَ بِإِرَادَتِهِ فَهُوَ تَرْجِيحٌ شَرْعِيٌّ . وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ مِنْ هَذَا فَمَنْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ إرَادَةُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَبُغْضُ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ إذَا لَمْ يَدْرِ فِي الْأَمْرِ الْمُعَيَّنِ هَلْ هُوَ مَحْبُوبٌ لِلَّهِ أَوْ مَكْرُوهٌ وَرَأَى قَلْبَهُ يُحِبُّهُ أَوْ يَكْرَهُهُ كَانَ هَذَا تَرْجِيحًا عِنْدَهُ . كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ مَنْ صِدْقُهُ أَغْلَبُ مِنْ كَذِبِهِ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ بِخَبَرِ هَذَا عِنْدَ انْسِدَادِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحٌ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ . فَفِي " الْجُمْلَةِ " مَتَى حَصَلَ مَا يَظُنُّ مَعَهُ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَحَبّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ هَذَا تَرْجِيحًا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلْهَامِ طَرِيقًا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَخْطَئُوا كَمَا أَخْطَأَ الَّذِينَ جَعَلُوهُ طَرِيقًا شَرْعِيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَلَكِنْ إذَا اجْتَهَدَ السَّالِكُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا تَرْجِيحًا وَأُلْهِمَ حِينَئِذٍ رُجْحَانَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ مَعَ حُسْنِ قَصْدِهِ وَعِمَارَتِهِ بِالتَّقْوَى فَإِلْهَامُ مِثْلِ هَذَا دَلِيلٌ فِي حَقِّهِ ؛ قَدْ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ الضَّعِيفَةِ ؛ وَالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالظَّوَاهِرِ الضَّعِيفَةِ وَالِاسْتِصْحَابات الضَّعِيفَةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي الْمَذْهَبِ وَالْخِلَافِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ ؛ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُ تَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي } وَ ( أَيْضًا فَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ : وَهُوَ حُبّ الْمَعْرُوفِ وَبُغْضُ الْمُنْكَرِ فَإِذَا لَمْ تَسْتَحِلْ الْفِطْرَةُ فَالْقُلُوبُ مَفْطُورَةٌ عَلَى الْحَقِّ فَإِذَا كَانَتْ الْفِطْرَةُ مُقَوَّمَةٌ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ مُنَوَّرَةٌ بِنُورِ الْقُرْآنِ وَخَفِيَ عَلَيْهَا دَلَالَةُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَرَأَى قَلْبَهُ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَانَ هَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَمَارَاتِ عِنْدَ مِثْلِهِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } الْآيَةَ . ثُمَّ قَالَ : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْأَمَانَةَ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ ، وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ } " وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ النَّوَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . وَعَلَى جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ ، وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ . فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ ، وَالسُّتُورُ حُدُودُ اللَّهِ ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ نَادَاهُ الْمُنَادِي - أَوْ كَمَا قَالَ - يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَفْتَحْهُ فَإِنَّك إنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ . وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ } " . فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَاعِظٌ وَالْوَاعِظُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِتَرْغِيبِ وَتَرْهِيبٍ ؛ فَهَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الَّذِي يَقَعُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مُطَابِقٌ لِأَمْرِ الْقُرْآنِ وَنَهْيِهِ وَلِهَذَا يَقْوَى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي الْآيَةِ : هُوَ الْمُؤْمِنُ يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فِيهَا بِأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَ بِالْأَثَرِ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ . نُورُ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ يُطَابِقُ نُورَ الْقُرْآنِ كَمَا أَنَّ الْمِيزَانَ الْعَقْلِيَّ يُطَابِقُ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ . وَقَدْ يُؤْتَى الْعَبْدُ أَحَدَهُمَا وَلَا يُؤْتَى الْآخَرَ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ . وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا ؛ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ } .
وَالْإِلْهَامُ فِي الْقَلْبِ تَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْقَوْلِ وَالْعِلْمِ وَالظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَالْحُبِّ وَالْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ فَقَدْ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَرْجَحُ وَأَظْهَرُ وَأَصْوَبُ وَقَدْ يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } " وَالْمُحَدَّثُ الْمُلْهَمُ الْمُخَاطَبُ ، وَفِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ { : الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ وَسَكَنَ إلَيْهِ الْقَلْبُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْك } " وَهُوَ فِي السُّنَنِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّوَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ } " وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الْإِثْمُ حِزَازُ الْقُلُوبِ . وَ ( أَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُورُ الْكَوْنِيَّةُ قَدْ تَنْكَشِفُ لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا فَالْأُمُورُ الدِّينِيَّةُ كَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ إلَى كَشْفِهَا أَحْوَجُ لَكِنَّ هَذَا فِي الْغَالِبِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَشْفًا بِدَلِيلِ وَقَدْ يَكُونُ بِدَلِيلِ يَنْقَدِحُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ وَهَذَا أَحَدُ مَا فُسِّرَ بِهِ مَعْنَى " الِاسْتِحْسَانِ " . وَقَدْ قَالَ مَنْ طَعَنَ فِي ذَلِكَ - كَأَبِي حَامِدٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ - : مَا لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ فَهُوَ هَوَسٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُمْكِنُهُ إبَانَةَ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِقَلْبِهِ ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُبَيِّنُهَا بَيَانًا نَاقِصًا وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَشْفِ يُلْقَى فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ حَرَامٌ أَوْ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَافِرٌ أَوْ فَاسِقٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ وَبِالْعَكْسِ قَدْ يُلْقَى فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةُ شَخْصٍ وَأَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ أَوْ أَنَّ هَذَا الْمَالَ حَلَالٌ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانَ أَنَّ هَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ لَكِنْ إنَّ مِثْلَ هَذَا يَكُونُ تَرْجِيحًا لِطَالِبِ الْحَقِّ إذَا تَكَافَأَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ الظَّاهِرَةُ . فَالتَّرْجِيحُ بِهَا خَيْرٌ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ قَطْعًا فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا بَاطِلَةٌ قَطْعًا . كَمَا قُلْنَا : إنَّ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ ظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ بِنَقِيضِهِ إذَا اُحْتِيجَ إلَى الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يَجُوزُ تَكَافُؤُ الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنْ قَدْ تَتَكَافَأُ عِنْدَ النَّاظِرِ لِعَدَمِ ظُهُورِ التَّرْجِيحِ لَهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقٌّ مُعَيَّنٌ بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ عَالِمٍ بِالْحَقِّ الْبَاطِنِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَزِيَّةٌ فِي عِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ فَهَؤُلَاءِ قَدْ يُجَوِّزُونَ أَوْ بَعْضُهُمْ تَكَافُؤَ الْأَدِلَّةِ وَيَجْعَلُونَ الْوَاجِبَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَيْسَ عَلَى الظَّنِّ دَلِيلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ وَإِنَّمَا رُجْحَانُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ هُوَ مِنْ بَابِ الرُّجْحَانِ بِالْمَيْلِ وَالْإِرَادَةِ كَتَرْجِيحِ النَّفْسِ الْغَضَبِيَّةِ لِلِانْتِقَامِ وَالنَّفْسِ الْحَلِيمَةِ لِلْعَفْوِ . وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ حَقٍّ مُعَيَّنٍ يُصِيبُهُ الْمُسْتَدِلُّ تَارَةً وَيُخَطِّئُهُ أُخْرَى . كَالْكَعْبَةِ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَالْمُجْتَهِدُ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ بِالصَّلَاةِ إلَيْهَا كَالْمُجْتَهِدِ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى قَوْلٍ فَعَمِلَ بِمُوجِبِهِ كِلَاهُمَا مُطِيعٌ لِلَّهِ وَهُوَ مُصِيبٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ مُصِيبًا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلِمَ الْحَقَّ الْمُعَيَّنَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا وَمُصِيبُهُ لَهُ أَجْرَانِ وَهَذَا فِي كَشْفِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَكِنْ قَدْ يَخْفَى عَلَى الْعَبْدِ . فَإِنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَ ( الْأَحْكَامَ الْكُلِّيَّةَ ) . وَأَمَّا ( الْأَحْكَامُ الْمُعَيَّنَاتُ الَّتِي تُسَمَّى تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ " مِثْلُ كَوْنِ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُؤْمِنًا أَوْ مُنَافِقًا أَوْ وَلِيًّا لِلَّهِ أَوْ عَدُوًّا لَهُ وَكَوْنِ هَذَا الْمُعَيَّنِ عَدُوًّا لِلْمُسْلِمِينَ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ ، وَكَوْنِ هَذَا الْعَقَارِ لِيَتِيمِ أَوْ فَقِيرٍ يَسْتَحِقُّ الْإِحْسَانَ إلَيْهِ ، وَكَوْنِ هَذَا الْمَالِ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ ظُلْمِ ظَالِمٍ فَإِذَا زَهِدَ فِيهِ الظَّالِمُ انْتَفَعَ بِهِ أَهْلُهُ فَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يَجِبُ أَنْ تُعْلَمَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ الْكُلِّيَّةِ بَلْ تُعْلَمُ بِأَدِلَّةِ خَاصَّةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا . وَمِنْ طُرُقِ ذَلِكَ " الْإِلْهَامُ " فَقَدْ يُلْهِمُ اللَّهُ بَعْضَ عِبَادِهِ حَالَ هَذَا الْمَالِ الْمُعَيَّنِ وَحَالَ هَذَا الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ . وَقِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَيْسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِشَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَطُّ لِأَحَدٍ لَا نَبِيٍّ وَلَا وَلِيٍّ أَنْ يُخَالِفَ شَرْعَ اللَّهِ لَكِنْ فِيهَا عِلْمُ حَالِ ذَاكَ الْمُعَيَّنِ بِسَبَبِ بَاطِنٍ يُوجِبُ فِيهِ الشَّرْعُ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ كَمَنْ دَخَلَ إلَى دَارٍ وَأَخَذَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَالِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ صَاحِبَهَا أَذِنَ لَهُ وَغَيْرُهُ لَمْ يَعْلَمْ ، وَمِثْلُ مَنْ رَأَى ضَالَّةً أَخَذَهَا وَلَمْ يُعَرِّفْهَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ أَتَى بِهَا هَدِيَّةً لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ . وَ ( النَّوْعُ الثَّانِي ) عَكْسُ هَذَا . وَهُوَ أَنَّهُمْ يَتْبَعُونَ هَوَاهُمْ لَا أَمْرَ اللَّهِ ؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَأْمُرُونَ إلَّا بِمَا يُحِبُّونَهُ بِهَوَاهُمْ وَلَا يَتْرُكُونَ وَيَنْهَوْنَ إلَّا عَنْ مَا يَكْرَهُونَهُ بِهَوَاهُمْ وَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْخَلْقِ . قَالَ تَعَالَى : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } قَالَ الْحَسَنُ : هُوَ الْمُنَافِقُ لَا يَهْوَى شَيْئًا إلَّا رَكِبَهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ إذَا وَافَقَ هَوَاهُ وَيُخَالِفُهُ إذَا خَالَفَ هَوَاهُ فَإِذَا أَنْتَ لَا تُثَابُ عَلَى مَا اتَّبَعْته مِنْ الْحَقِّ وَتُعَاقَبُ عَلَى مَا خَالَفْته . وَهُوَ كَمَا قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا قَصَدَ اتِّبَاعَ هَوَاهُ لَمْ يَعْمَلْ لِلَّهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ " أَبَا طَالِبٍ " نَصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَبَّ عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ لَا لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَتَقَبَّلْ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يُثِبْهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعَانَهُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لِلَّهِ ؛ فَقَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } . ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) : الَّذِي يُرِيدُ تَارَةً إرَادَةً يُحِبُّهَا اللَّهُ ؛ وَتَارَةً إرَادَةً يُبْغِضُهَا اللَّهُ . وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ يُطِيعُونَ اللَّهَ تَارَةً وَيُرِيدُونَ مَا أَحَبَّهُ وَيَعْصُونَهُ تَارَةً وَيُرِيدُونَ مَا يَهْوُونَهُ وَإِنْ كَانَ يَكْرَهُهُ .
وَ ( الْقِسْمُ الرَّابِعُ ) : أَنْ يَخْلُوَ عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ فَلَا يُرِيدُ لِلَّهِ وَلَا لِهَوَاهُ وَهَذَا يَقَعُ لِكَثِيرِ مِنْ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيَقَعُ لِكَثِيرِ مِنْ الزُّهَّادِ وَالنُّسَّاكِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ . وَأَمَّا خُلُوُّ الْإِنْسَانِ عَنْ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا فَمُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ مَفْطُورٌ عَلَى إرَادَةِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَعَلَى كَرَاهَةِ مَا يَضُرُّهُ وَيُؤْذِيهِ وَالزَّاهِدُ النَّاسِكُ إذَا كَانَ مُسْلِمًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَ أَشْيَاءَ يُحِبُّهَا اللَّهُ : مِثْلُ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، وَتَرْكِ الْمَحَارِمِ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ لَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمْ أَشْيَاءَ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَإِلَّا فَمَنْ لَمْ يُحِبّ اللَّهَ وَلَا أَحَبّ شَيْئًا لِلَّهِ فَلَمْ يُحِبّ شَيْئًا مِنْ الطَّاعَاتِ لَا الشَّهَادَتَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا ، وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ لِبَعْضِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ؛ وَأَمَّا إرَادَةُ الْعَبْدِ لِمَا يَهْوَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَهَذَا لَازِمٌ لِكُلِّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَإِنَّهُ أَرَادَ الْمَعْصِيَةَ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَاهَا . وَأَمَّا الْخُلُوُّ عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ فَيَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ :
( أَحَدُهُمَا ) : مَعَ إعْرَاضِ الْعَبْدِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ وَإِنْ عَلِمَ بِهَا فَإِنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُورِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا وَلَا يَكْرَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِعْلَهَا وَإِذَا اقْتَتَلَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِانْتِصَارِ هَؤُلَاءِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَلَا لِانْتِصَارِ هَؤُلَاءِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ .
وَ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : يَقَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الزُّهَّادِ الْعُبَّادِ الْمُمْتَثِلِينَ لِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ الْمُجْتَنِبِينَ لِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْهُ وَأُمُورٌ أُخْرَى لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا وَلَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَلَا يُرِيدُونَهَا وَلَا يَكْرَهُونَهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَقَدْ يَرْضَوْنَهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً مُقَدَّرَةً وَقَدْ يُعَاوِنُونَ عَلَيْهَا وَيَرَوْنَ هَذَا مُوَافَقَةً لِلَّهِ وَأَنَّهُمْ لَمَّا خَلَوْا عَنْ هَوَى النَّفْسِ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالرِّضَا بِكُلِّ حَادِثٍ ؛ بَلْ وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَيْهِ . وَهَذَا مَوْضِعٌ يَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ فَإِنَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَعَلَيْنَا أَنْ نُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَكْلِيفَ فِيهَا مِثْلُ أَفْعَالِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ فَهَذَا إذَا كَانَ اللَّهُ لَا يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَلَا يَكْرَهُهَا وَيَذُمُّهَا فَالْمُؤْمِنُ أَيْضًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحِبَّهَا وَيَرْضَاهَا وَلَا يَكْرَهَهَا . وَأَمَّا كَوْنُهَا مَقْدُورَةً وَمَخْلُوقَةً لِلَّهِ فَذَاكَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا بَلْ هُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مَا خَلَقَهُ لَمَّا شَاءَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَقَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ .
وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " :
( أَحَدُهَا ) الرِّضَا بِالطَّاعَاتِ ؛ فَهَذَا طَاعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا .
وَ ( الثَّانِي ) : الرِّضَا بِالْمَصَائِبِ فَهَذَا مَأْمُورٌ بِهِ : إمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا وَاجِبٌ .
وَ ( الثَّالِثُ ) : الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ فَهَذَا لَا يُؤْمَرُ بِالرِّضَا بِهِ بَلْ يُؤْمَرُ بِبُغْضِهِ وَسَخَطِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } وَقَالَ : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وَقَالَ : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وَقَالَ : { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } . وَهُوَ وَإِنْ خَلَقَهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُقَ مَا لَا يُحِبُّهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا كَمَا خَلَقَ الشَّيَاطِينَ . فَنَحْنُ رَاضُونَ عَنْ اللَّهِ فِي أَنْ يَخْلُقَ مَا يَشَاءُ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا نَفْسُ هَذَا الْفِعْلِ الْمَذْمُومِ وَفَاعِلُهُ فَلَا نَرْضَى بِهِ وَلَا نَحْمَدُهُ . وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَمَا يُرَادُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ مَعَ كَوْنِهِ مُبْغِضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْوَاحِدَ يُرَادُ مِنْ وَجْهٍ وَيُكْرَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ ؛ فَإِنَّهُ يُبْغِضُ الدَّوَاءَ وَيَكْرَهُهُ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُرِيدُ اسْتِعْمَالَهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَحْبُوبٌ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَرِهَ مُسَاءَةَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَكْرَهُ الْمَوْتَ كَانَ هَذَا مُقْتَضِيًا أَنْ يَكْرَهَ إمَاتَتَهُ مَعَ أَنَّهُ يُرِيدُ إمَاتَتَهُ ؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَالْأُمُورُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَنْهَى عَنْهَا لَا تُحَبُّ وَلَا تُرْضَى ؛ لَكِنْ نَرْضَى بِمَا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ حَيْثُ خَلَقَهَا لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ فَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا وَلَا يُبْغِضُهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُحَبّ وَلَا تُرْضَى كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُبْغَضَ . وَالرِّضَا الثَّابِتُ بِالنَّصِّ هُوَ أَنْ يَرْضَى بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ } " وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَدَرِ فَيَرْضَى عَنْ اللَّهِ إذْ لَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَرْضَى بِمَا يَرْضَاهُ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي خَلَقَ لِأَجْلِهَا مَا خَلَقَ وَإِنْ كُنَّا نُبْغِضُ مَا يُبْغِضُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَحَيْثُ انْتَفَى الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ أَوْ خَفِيَ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ لَا يَكُونُ الِامْتِثَالُ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَقْدُورًا . وَهَذَا مَوْضِعٌ يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ خَاصَّةِ " السَّالِكِينَ " وَشُيُوخِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَامَّتِهِمْ وَيَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَطَاعَتِهِمْ لَهُ . فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَأَطْوَعُ لَهُ فَهَذَا تَكُونُ حَالُهُ أَحْسَنَ مِمَّنْ يَقْصُرُ عَنْهُ فِي الْمَعْرِفَةِ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَالطَّاعَةِ لَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْعُدُ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَيَسْتَرْسِلُ حَتَّى يَنْسَلِخَ مِنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَبْقَى وَاقِفًا مَعَ هَوَاهُ وَالْقَدَرِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَمُوتُ كَافِرًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ فَاسِقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَهَؤُلَاءِ يَنْظُرُونَ إلَى الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ مُعْرِضِينَ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ اتِّبَاعِ أَمْرِ وَنَهْيِ غَيْرِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ إمَّا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إذْ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ الْقَدَرِ مُطْلَقًا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مَفْطُورٌ عَلَى مَحَبَّةِ أَشْيَاءَ وَبُغْضِ أَشْيَاءَ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : " إنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ مَعَ اللَّهِ كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ " لَا يَصِحُّ وَلَا يَسُوغُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِخَفَاءِ أَمْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَإِذَا عَلِمَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ . فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ .

وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " طَرَفَانِ وَوَسَطٌ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ إذَا اعْتَقَدَ فِي شَخْصٍ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ وَافَقَهُ فِي كُلِّ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ حَدَّثَ بِهِ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا رَآهُ قَدْ قَالَ أَوْ فَعَلَ مَا لَيْسَ بِمُوَافِقِ لِلشَّرْعِ أَخْرَجَهُ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ ،وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا ،وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا وَهُوَ أَنْ لَا يُجْعَلَ مَعْصُومًا وَلَا مَأْثُومًا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فَلَا يُتَّبَعُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ ،وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ مَعَ اجْتِهَادِهِ . وَالْوَاجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ (1)،وَأَمَّا إذَا خَالَفَ قَوْلَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَوَافَقَ قَوْلَ آخَرِينَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِقَوْلِ الْمُخَالِفِ وَيَقُولَ هَذَا خَالَفَ الشَّرْعَ .(2)
__________
(1) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 383)
فَجِمَاعُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تُعْطَى حَقَّهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مَنْ خَالَفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَلَمْ يَجُزْ اتِّبَاعُ أَحَدٍ فِي خِلَافِ ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ مِنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَطَاعَتِهِ وَأَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ يُعْطَى عُذْرَهُ حَيْثُ عَذَرَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِأَنْ يَكُونَ مَسْلُوبَ الْعَقْلِ أَوْ سَاقِطَ التَّمْيِيزِ أَوْ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا اجْتِهَادًا قَوْلِيًّا أَوْ عَمَلِيًّا أَوْ مَغْلُوبًا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ بِلَا ذَنْبٍ فَعَلَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ بِلَا ذَنْبٍ فَعَلَهُ وَيَكُونُ هَذَا الْبَابُ نَوْعُهُ مَحْفُوظًا بِحَيْثُ لَا يُتَّبَعُ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ شِرْعَةً وَلَا مِنْهَاجًا ؛ بَلْ لَا سَبِيلَ إلَى اللَّهِ وَلَا شِرْعَةَ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ خَالَفُوا بَعْضَ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَيُعْذَرُونَ وَلَا يُذَمُّونَ وَلَا يُعَاقَبُونَ . فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَفْعَالِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا مَنْ لَهُ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ لَا يُتَّبَعُ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُذَمُّ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ الَّتِي لَمْ يُعْلَمْ قَطْعًا مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ هِيَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ قَدْ تَكُونُ قَطْعِيَّةً عِنْدَ بَعْضِ مَنْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ الْحَقَّ فِيهَا ؛ لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِمَا بَانَ لَهُ وَلَمْ يَبِنْ لَهُمْ فَيَلْتَحِقُ مِنْ وَجْهٍ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ . وَمِنْ وَجْهٍ بِالْقِسْمِ الثَّانِي . وَقَدْ تَكُونُ اجْتِهَادِيَّةً عِنْدَهُ أَيْضًا فَهَذِهِ تَسْلَمُ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ وَمَنْ قَلَّدَهُ طَرِيقَهُمْ تَسْلِيمًا نَوْعِيًّا بِحَيْثُ لَا يُنْكَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَمَا سَلِمَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ تَسْلِيمًا شَخْصِيًّا .
وفي مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 546)
فَالْكَمَالُ فِي كَمَالِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَتَرَكَ هَوَاهُ وَاسْتَسْلَمَ لِلْقَدَرِ أَوْ اجْتَهَدَ فِي الطَّاعَةِ فَأَخْطَأَ ، فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى مَا اعْتَقَدَهُ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ فَتَوَقَّفَ عَمَّا هُوَ طَاعَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهَؤُلَاءِ مُطِيعُونَ لِلَّهِ مُثَابُونَ عَلَى مَا أَحْسَنُوهُ مِنْ الْقَصْدِ لِلَّهِ وَاسْتَفْرَغُوهُ مِنْ وُسْعِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا عَجَزُوا عَنْ عِلْمِهِ فَأَخْطَئُوهُ إلَى غَيْرِهِ فَمَغْفُورٌ لَهُمْ . وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ فِتَنٍ تَقَعُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَإِنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ أُمُورًا هُمْ مُجْتَهِدُونَ فِيهَا وَقَدْ أَخْطَئُوا فَتَبْلُغُ أَقْوَامًا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا فِيهَا الذَّنْبَ أَوْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَا يُعْذَرُونَ بِالْخَطَأِ وَهُمْ أَيْضًا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ فَيَكُونُ هَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فِي فِعْلِهِ وَهَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فِي إنْكَارِهِ وَالْكُلُّ مَغْفُورٌ لَهُمْ . وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُذْنِبًا كَمَا قَدْ يَكُونَانِ جَمِيعًا مُذْنِبِينَ . وَخَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ .
(2) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 66)
و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ مَنْ خَالَفَ الرَّسُولَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَّبِعَ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } . وَقَالَ فِي الَّذِينَ يُخْبِرُونَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ إنَاثٌ : { إنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى } { وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } { فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } وَهُمْ جَعَلُوهُمْ إنَاثًا كَمَا قَالَ : { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا } وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ الرَّحْمَنِ { إناثا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } وَهَؤُلَاءِ قَالَ عَنْهُمْ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ } لِأَنَّهُ خَبَرٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ عَمَلٌ وَهُنَاكَ : { وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ } لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيَدْعُونَهَا فَهُنَاكَ عِبَادَةٌ وَعَمَلٌ بِهَوَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ } وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَمَا قَالَ : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } { إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ الرَّسُولَ لَا يَخْرُجُ عَنْ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ مَا قَالَهُ وَلَهُ فِيهِ حُجَّةٌ يَسْتَدِلُّ بِهَا كَانَ غَايَتَهُ الظَّنَّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا كَاحْتِجَاجِهِمْ بِقِيَاسِ فَاسِدٍ أَوْ نَقْلٍ كَاذِبٍ أَوْ خِطَابٍ أُلْقِيَ إلَيْهِمْ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ وَكَانَ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ . وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ عُمْدَةُ مَنْ يُخَالِفُ السُّنَّةَ بِمَا يَرَاهُ حُجَّةً وَدَلِيلًا أَمَّا أَنْ يَحْتَجَّ بِأَدِلَّةِ عَقْلِيَّةٍ وَيَظُنَّهَا بُرْهَانًا وَأَدِلَّةً قَطْعِيَّةً وَتَكُونَ شُبُهَاتٍ فَاسِدَةً مُرَكَّبَةً مِنْ أَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ وَمَعَانٍ مُتَشَابِهَةٍ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ حَقِّهَا وَبَاطِلِهَا كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إنَّمَا يُرَكِّبُ حُجَجَهُ مِنْ أَلْفَاظٍ مُتَشَابِهَةٍ فَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ تَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ وَهَذِهِ هِيَ الْحُجَجُ الْعَقْلِيَّةُ وَإِنْ تَمَسَّكَ الْمُبْطِلُ بِحُجَجِ سَمْعِيَّةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ كَذِبًا عَلَى الرَّسُولِ أَوْ تَكُونَ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى مَا احْتَجَّ بِهَا أَهْلُ الْبُطُولِ فَالْمَنْعُ إمَّا فِي الْإِسْنَادِ وَأَمَّا فِي الْمَتْنِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ السَّمْعِيَّةُ هَذِهِ حُجَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ . وَأَمَّا حُجَّةُ أَهْلِ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ وَالْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَهُمْ إلْهَامَاتٌ صَحِيحَةٌ مُطَابِقَةٌ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهَا تُجْلَى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } } وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : أَظُنُّهُ وَاَللَّهِ لِلْحَقِّ يَقْذِفُهُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا } وَفِي رِوَايَةٍ { فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِالْحَقِّ وَيُبْصِرُ بِهِ . وَكَانُوا يَقُولُونَ إنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { نُورٌ عَلَى نُورٍ } نُورُ الْإِيمَانِ مَعَ نُورِ الْقُرْآنِ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وَهُوَ الْمُؤْمِنُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْبَعُهُ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ شَهِدَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ بِمِثْلِ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ بَيِّنَةِ الْإِيمَانِ ...

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِى أُمَّتِى هَذِهِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ » (1)
__________
(1) - صحيح البخارى (3469 ) وصحيح مسلم(6357)
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 10 / ص 485)
قَوْله : ( مُحَدَّثُونَ ) بِفَتْحِ الدَّال جَمْع مُحَدَّث ، وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيله فَقِيلَ : مُلْهَم ، قَالَهُ الْأَكْثَر قَالُوا : الْمُحَدَّث بِالْفَتْحِ هُوَ الرَّجُل الصَّادِق الظَّنّ ، وَهُوَ مَنْ أُلْقِيَ فِي رُوعه شَيْء مِنْ قِبَل الْمَلَأ الْأَعْلَى فَيَكُون كَالَّذِي حَدَّثَهُ غَيْره بِهِ ، وَبِهَذَا جَزَمَ أَبُو أَحْمَد الْعَسْكَرِيّ . وَقِيلَ مَنْ يَجْرِي الصَّوَاب عَلَى لِسَانه مِنْ غَيْر قَصْد ، وَقِيلَ مُكَلَّم أَيْ تُكَلِّمهُ الْمَلَائِكَة بِغَيْرِ نُبُوَّة ، وَهَذَا وَرَدَ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا وَلَفْظه " قِيلَ يَا رَسُول اللَّه وَكَيْف يُحَدَّث ؟ قَالَ تَتَكَلَّم الْمَلَائِكَة عَلَى لِسَانه " رَوَيْنَاهُ فِي " فَوَائِد الْجَوْهَرِيّ " وَحَكَاهُ الْقَابِسِيّ وَآخَرُونَ ، وَيُؤَيِّدهُ مَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَة الْمُعَلَّقَة . وَيَحْتَمِل رَدّه إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّل أَيْ تُكَلِّمهُ فِي نَفْسه وَإِنْ لَمْ يَرَ مُكَلِّمًا فِي الْحَقِيقَة فَيَرْجِع إِلَى الْإِلْهَام ، وَفَسَّرَهُ اِبْن التِّين بِالتَّفَرُّسِ ، وَوَقَعَ فِي مُسْنَد " الْحُمَيْدِيّ " عَقِب حَدِيث عَائِشَة " الْمُحَدَّث الْمُلْهَم بِالصَّوَابِ الَّذِي يُلْقَى عَلَى فِيهِ " وَعِنْد مُسْلِم مِنْ رِوَايَة اِبْن وَهْب " مُلْهَمُونَ ، وَهِيَ الْإِصَابَة بِغَيْرِ نُبُوَّة " وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَنْ بَعْض أَصْحَاب اِبْن عُيَيْنَةَ " مُحَدَّثُونَ يَعْنِي مُفَهَّمُونَ " وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " قَالَ إِبْرَاهِيم - يَعْنِي اِبْن سَعْد رِوَايَة - قَوْله مُحَدَّث أَيْ يُلْقَى فِي رُوعه " اِنْتَهَى ، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث " إِنَّ اللَّه جَعَلَ الْحَقّ عَلَى لِسَان عُمَر وَقَلْبه " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر ، وَأَحْمَد مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيث بِلَال ، وَأَخْرَجَهُ فِي " الْأَوْسَط " مِنْ حَدِيث مُعَاوِيَة وَفِي حَدِيث أَبِي ذَرّ عِنْد أَحْمَد وَأَبِي دَاوُدَ " يَقُول بِهِ " بَدَل قَوْله " وَقَلْبه " وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي " الْأَوْسَط " مِنْ حَدِيث عُمَر نَفْسه .
قَوْله : ( زَادَ زَكَرِيَّا بْن أَبِي زَائِدَة عَنْ سَعْد ) هُوَ اِبْن إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور ، وَفِي رِوَايَته زِيَادَتَانِ : إِحْدَاهُمَا بَيَان كَوْنهمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل ، وَالثَّانِيَة تَفْسِير الْمُرَاد بِالْمُحَدَّثِ فِي رِوَايَة غَيْره فَإِنَّهُ قَالَ بَدَلهَا " يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْر أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاء " .
قَوْله : ( مِنْهُمْ أَحَد ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " مِنْ أَحَد " وَرِوَايَة زَكَرِيَّا وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبُو نُعَيْم فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا ، وَقَوْله " وَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي " قِيلَ لَمْ يُورِد هَذَا الْقَوْل مَوْرِد التَّرْدِيد فَإِنَّ أُمَّته أَفْضَل الْأُمَم ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ وُجِدَ فِي غَيْرهمْ فَإِمْكَان وُجُوده فِيهِمْ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ مَوْرِد التَّأْكِيد كَمَا يَقُول الرَّجُل : إِنْ يَكُنْ لِي صَدِيق فَإِنَّهُ فُلَان ، يُرِيد اِخْتِصَاصه بِكَمَالِ الصَّدَاقَة لَا نَفْي الْأَصْدِقَاء ، وَنَحْوه قَوْل الْأَجِير : إِنْ كُنْت عَمِلْت لَك فَوَفِّنِي حَقِّي ، وَكِلَاهُمَا عَالِم بِالْعَمَلِ لَكِنْ مُرَاد الْقَائِل أَنَّ تَأْخِيرك حَقِّي عَمَل مَنْ عِنْده شَكّ فِي كَوْنِي عَمِلْت . وَقِيلَ الْحِكْمَة فِيهِ أَنَّ وُجُودهمْ فِي بَنِي إِسْرَائِيل كَانَ قَدْ تَحَقَّقَ وُقُوعه ، وَسَبَب ذَلِكَ اِحْتِيَاجهمْ حَيْثُ لَا يَكُون حِينَئِذٍ فِيهِمْ نَبِيّ ، وَاحْتَمَلَ عِنْده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا تَحْتَاج هَذِهِ الْأُمَّة إِلَى ذَلِكَ لِاسْتِغْنَائِهَا بِالْقُرْآنِ عَنْ حُدُوث نَبِيّ ، وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْر كَذَلِكَ حَتَّى إِنَّ الْمُحَدَّث مِنْهُمْ إِذَا تَحَقَّقَ وُجُوده لَا يَحْكُم بِمَا وَقَعَ لَهُ بَلْ لَا بُدّ لَهُ مِنْ عَرْضه عَلَى الْقُرْآن ، فَإِنْ وَافَقَهُ أَوْ وَافَقَ السُّنَّة عَمِلَ بِهِ وَإِلَّا تَرَكَهُ ، وَهَذَا وَإِنْ جَازَ أَنْ يَقَع لَكِنَّهُ نَادِر مِمَّنْ يَكُون أَمْره مِنْهُمْ مَبْنِيًّا عَلَى اِتِّبَاع الْكِتَاب وَالسُّنَّة ، وَتَمَحَّضَت الْحِكْمَة فِي وُجُودهمْ وَكَثْرَتهمْ بَعْد الْعَصْر الْأَوَّل فِي زِيَادَة شَرَف هَذِهِ الْأُمَّة بِوُجُودِ أَمْثَالهمْ فِيهِ ، وَقَدْ تَكُون الْحِكْمَة فِي تَكْثِيرهمْ مُضَاهَاة بَنِي إِسْرَائِيل فِي كَثْرَة الْأَنْبِيَاء فِيهِمْ ، فَلَمَّا فَاتَ هَذِهِ الْأُمَّة كَثْرَة الْأَنْبِيَاء فِيهَا لِكَوْنِ نَبِيّهَا خَاتَم الْأَنْبِيَاء عُوِّضُوا بِكَثْرَةِ الْمُلْهَمِينَ . وَقَالَ الطِّيبِيُّ : الْمُرَاد بِالْمُحَدَّثِ الْمُلْهَم الْبَالِغ فِي ذَلِكَ مَبْلَغ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّدْق ، وَالْمَعْنَى لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلكُمْ مِنْ الْأُمَم أَنْبِيَاء مُلْهَمُونَ ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَد هَذَا شَأْنه فَهُوَ عُمَر ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ فِي اِنْقِطَاع قَرِينه فِي ذَلِكَ هَلْ نَبِيّ أَمْ لَا فَلِذَلِكَ أَتَى بِلَفْظِ " إِنْ " وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث " لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيّ لَكَانَ عُمَر " فَلَوْ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ إِنْ فِي الْآخَر عَلَى سَبِيل الْفَرْض وَالتَّقْدِير ، اِنْتَهَى . وَالْحَدِيث الْمُشَار إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ وَحَسَّنَهُ وَابْن حِبَّانَ وَالْحَاكِم مِنْ حَدِيث عُقْبَة بْن عَامِر ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي " الْأَوْسَط " مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد ، وَلَكِنْ فِي تَقْرِير الطِّيبِيّ نَظَر ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْس الْحَدِيث " مِنْ غَيْر أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاء " وَلَا يَتِمّ مُرَاده إِلَّا بِفَرْضِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاء .

.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لَوْ كَانَ بَعْدِى نَبِىٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ »(1).
و عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ ». وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا نَزَلَ بِالنَّاسِ أَمْرٌ قَطُّ فَقَالُوا فِيهِ وَقَالَ فِيهِ عُمَرُ إِلاَّ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ عُمَرُ(2)
__________
(1) - سنن الترمذى(4050 ) وأحمد (17867 )والصحيحة (327) و صحيح الجامع (5284) صحيح لغيره
وفي مجموع الفتاوى - (ج 35 / ص 123)
وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا إنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّ وَافِرٍ } . فَغَايَةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَكُونُوا وَرَثَةَ أَنْبِيَاءٍ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَالْإِجْمَاعِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلصِّدِّيقِ فِي تَأْوِيلِ رُؤْيَا عَبَّرَهَا : أَصَبْت بَعْضًا وَأَخْطَأْت بَعْضًا } وَقَالَ الصِّدِّيقُ : أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللَّهَ فَإِذَا عَصَيْت اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ وَغَضِبَ مَرَّةً عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ : دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ فَقَالَ لَهُ : أَكُنْت فَاعِلًا قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ : مَا كَانَتْ لِأَحَدِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنْ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا قُتِلَ وَمَنْ سَبَّ غَيْرَ النَّبِيِّ لَا يُقْتَلُ بِكُلِّ سَبٍّ سَبَّهُ ؛ بَلْ يُفَصَّلُ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ؛ لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي نَسَبِهِ وَلَوْ قَذَفَ غَيْرَ أُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ بَرَاءَتَهَا لَمْ يُقْتَلْ " . وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَوَاضِعَ بِمِثْلِ هَذِهِ فَيَرْجِعُ عَنْ أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فِي خِلَافِ مَا قَالَ وَيَسْأَلُ الصَّحَابَةَ عَنْ بَعْضِ السُّنَّةِ حَتَّى يَسْتَفِيدَهَا مِنْهُمْ وَيَقُولَ فِي مَوَاضِعَ : وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَوْ أَخْطَأَهُ . وَيَقُولُ : امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ ؛ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } وَفِي التِّرْمِذِيِّ : " { لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ } وَقَالَ : " { إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ } فَإِذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَتَهُ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَأَعْظَمُ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ سَائِرِهِمْ وَأَوْلَى بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ مِنْهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ } رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا أوتى بِأَحَدِ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي . وَالْأَقْوَالُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَثِيرَةٌ .
(2) - سنن الترمذى (4046) وأحمد(5264 و 9451 و21901) وصحيح الجامع ( 1736) من طرق وهو صحيح مشهور
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2469)
رقم الفتوى 62984 فضل عمربن الخطاب وموافقاته للقرآن الكريم
تاريخ الفتوى : 01 جمادي الأولى 1426
السؤال
إذا أمكن يا فضيلة الشيخ أن تسرد الأيات التي وافقت عند نزولها كلام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الأحاديث التي خصها به سيد الخلق محمد صلى عليه وآله وصحبه وسلم وبعض الصحابة رضي الله عنهم؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه قد ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء، والهيثمي في مجمع الزوائد كثيراً من الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة في فضل عمر رضي الله عنه، وقد فصل السيوطي في بيان موافقات الوحي لكلام عمر فقال: فصل في موافقات عمر رضي الله عنه: قد أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرين، أخرج ابن مردويه عن مجاهد قال: كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن، وأخرج ابن عساكر عن علي قال: إن في القرآن لرأيا من رأي عمر. وأخرج عن ابن عمر مرفوعاً ما قال الناس في شيء وقال فيه عمر إلا جاء القرآن بنحو ما يقول عمر.
وأخرج الشيخان عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى. وقلت: يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يحتجبن فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن فنزلت كذلك.
وأخرج مسلم عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث في الحجاب وفي أساري بدر وفي مقام إبراهيم ففي هذا الحديث خصلة رابعة، وفي التهذيب للنووي: نزل القرآن بموافقته في أسرى بدر وفي الحجاب وفي مقام إبراهيم وفي تحريم الخمر فزاد خصلة خامسة، وحديثها في السنن ومستدرك الحاكم أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فأنزل الله تحريمها.
وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع نزلت هذه الآية: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ. الآية فلما نزلت قلت: أنا فتبارك الله حسن الخالقين فنزلت: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. فزاد في هذا الحديث خصلة سادسة وللحديث طريق آخر عن ابن عباس أوردته في التفسير المسند.
ثم رأيت في كتاب فضائل الإمامين لأبي عبد الله الشيباني قال: وافق عمر ربه في أحد وعشرين موضعاً فذكر هذه الستة وزاد سابعاً قصة عبد الله ابن أبي، قلت: حديثها في الصحيح عنه قال: لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام إليه فقمت حتى وقفت في صدره فقلت: يا رسول الله أو على عدو الله ابن أبي القائل يوم كذا كذا، فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا. الآية، وثامناً: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ. الآية، وتاسعاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ. الآية، قلت: هما مع آية المائدة خصلة واحدة والثلاثة في الحديث السابق.
وعاشراً لما أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستغفار لقوم: قال عمر: سواء عليهم فأنزل الله: سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. قلت: أخرجه الطبراني عن ابن عباس، الحادي عشر لما استشار صلى الله عليه وسلم الصحابة في الخروج إلى بدر أشار عمر بالخروج فنزلت: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ. الآية، الثاني عشر لما استشار الصحابة في قصة الإفك قال عمر: من زوجكها يا رسول الله قال: الله، قال: أفتظن أن ربك دلس عليك فيها سبحانك هذا بهتان عظيم فنزلت كذلك.
الثالث عشر قصته في الصيام لما جامع زوجته بعد الانتباه وكان ذلك محرما في أول الإسلام فنزل: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ. الآية، قلت: أخرجه أحمد في مسنده.
الرابع عشر قوله تعالى: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ. الآية، قلت: أخرجه ابن جرير وغيره من طرق عديدة وأقر بها للموافقة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا لقي عمر فقال: إن جبريل الذي يذكره صاحبكم عدو لنا، فقال له عمر: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين فنزلت على لسان عمر.
الخامس عشر قوله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ. الآية، قلت أخرج قصتها ابن أبي حاتم وابن مروديه عن أبي الأسود قال اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما فقال الذي قضى عليه ردنا إلى عمر بن الخطاب فأتيا إليه فقال الرجل قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا فقال ردنا إلى عمر فقال أكذاك قال: نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكم فخرج إليهما مشتملا على سيفه فضرب الذي قال ردنا إلى عمر فقتله وأدبر الآخر فقال يا رسول الله قتل عمر والله صاحبي، فقال: ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن، فأنزل الله: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ. الآية، فأهدر دم الرجل وبرئ عمر من قتله وله شاهد موصول أوردته في التفسير المسند.
السادس عشر الاستئذان في الدخول وذلك أنه دخل عليه غلامه وكان نائماً فقال: اللهم حرم الدخول فنزلت آية الاستئذان. السابع عشر قوله في اليهود إنهم قوم بهت.
الثامن عشر قوله تعالى ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، قلت أخرج قصتها ابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله وهي في أسباب النزول.
التاسع عشر رفع تلاوة الشيخ والشيخة إذا زنيا الآية. العشرون قوله يوم أحد لما قال أبو سفيان أفي القوم فلان ،لا نجيبنه، فوافقه رسول اله صلى الله عليه وسلم، قلت: أخرج قصته أحمد في مسنده.
وفي مجمع الزوائد للهيثمي في باب مناقب عمر كثير من الأحاديث وأقوال الصحابة نذكر أثبتها مع كلام الهيثمي على سنده فمن ذلك ما روى عن أبي وائل قال : قال عبد الله لو أن علم عمر وضع في كفة الميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح علمه بعلمهم، قال وكيع: قال الأعمش فأنكرت ذلك فأتيت إبراهيم فذكرته له، فقال: وما أنكرت من ذلك فوالله لقد قال عبد الله أفضل من ذلك قال إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر رواه الطبراني بأسانيد ورجال هذا رجال الصحيح غير أسد بن موسى وهو ثقة.
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت في النوم أني أعطيت عسا مملوءا لبنا فشربت حتى تملأت حتى رأيته يجري في عروقي بين الجلد واللحم ففضلت فضلة فأعطيتها عمر بن الخطاب فأولوها قالوا: يا نبي الله هذا علم أعطاكه الله فملأك منه ففضلت فضلة فأعطيتها عمر بن الخطاب فقال: أصبتم، قلت: هو في الصحيح بغير سياقه رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب صدر عمر بيده حين أسلم ثلاث مرات وهو يقول اللهم أخرج ما في صدر عمر من غل وأبدله إيماناً يقول ذلك ثلاث مرات. رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح غير الجهم ابن أبي الجهم وهو ثقة.
وعن علي قال: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر ما كنا نبعد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن السكينة تنطق على لسان عمر. رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.
وعن ابن مسعود قال: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر. رواه الطبراني وإسناده حسن، وعن طارق بن شهاب قال: كنا نتحدث أن السكينة تنزل على لسان عمر. رواه الطبراني ورجاله ثقات.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

.
وَفِيهِ { لَوْ كَانَ نَبِيٌّ بَعْدِي لَكَانَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ"}(1).
وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَا كُنَّا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ (2). ثَبَتَ هَذَا عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ .
وَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ مَا سَمِعْتُ عُمَرَ لِشَىْءٍ قَطُّ يَقُولُ إِنِّى لأَظُنُّهُ كَذَا . إِلاَّ كَانَ كَمَا يَظُنُّ(3). وَ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ عُمَرَ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ.(4)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني (13911) وسنده واه ولكنه متنه صحيح
(2) - مصنف عبد الرزاق(20381) وابن ابي شيبة (31969 ) وإسناده صحيح والمعجم الكبير للطبراني (8739) عن ابن مسعود وهو حسن وقد ثبتت عن من رواية زر بن حبيش والشَّعْبِيِّ
(3) - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ مَا سَمِعْتُ عُمَرَ لِشَىْءٍ قَطُّ يَقُولُ إِنِّى لأَظُنُّهُ كَذَا . إِلاَّ كَانَ كَمَا يَظُنُّ ، بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَقَالَ لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّى ، أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ ، عَلَىَّ الرَّجُلَ ، فَدُعِىَ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ، قَالَ فَإِنِّى أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلاَّ مَا أَخْبَرْتَنِى . قَالَ كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ . قَالَ فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِى السُّوقِ جَاءَتْنِى أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ ، فَقَالَتْ أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلاَسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا وَلُحُوقَهَا بِالْقِلاَصِ وَأَحْلاَسِهَا قَالَ عُمَرُ صَدَقَ ، بَيْنَمَا أَنَا عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ ، فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ ، لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ يَا جَلِيحْ ، أَمْرٌ نَجِيحْ رَجُلٌ فَصِيحْ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ . فَوَثَبَ الْقَوْمُ قُلْتُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا ثُمَّ نَادَى يَا جَلِيحْ ، أَمْرٌ نَجِيحْ ، رَجُلٌ فَصِيحْ ، يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَقُمْتُ فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ هَذَا نَبِىٌّ . صحيح البخارى (3866 )
(4) - أخرجه ابن عساكر (44/111) وسير أعلام النبلاء - (ج 9 / ص 203)صحيح
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 66):
وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } فَجُمْلَةُ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ أَفْضَلُ مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّانِي أَفْضَلُ مِنْ الثَّالِثِ وَالثَّالِثُ أَفْضَلُ مِنْ الرَّابِعِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي الرَّابِعِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ الثَّالِثِ وَكَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ مَعَ الثَّانِي . وَهَلْ يَكُونُ فِيمَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ المفضولين لَا الْفَاضِلِينَ ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَفْرِضُهَا فِي مِثْلِ مُعَاوِيَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ لَهُ مَزِيَّةُ الصُّحْبَةِ وَالْجِهَادِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمَرَ لَهُ مَزِيَّةُ فَضِيلَتِهِ مِنْ الْعَدْلِ وَالزُّهْدِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ مَنْ خَالَفَ الرَّسُولَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَّبِعَ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } . وَقَالَ فِي الَّذِينَ يُخْبِرُونَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ إنَاثٌ : { إنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى } { وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } { فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } وَهُمْ جَعَلُوهُمْ إنَاثًا كَمَا قَالَ : { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا } وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ الرَّحْمَنِ { إناثا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } وَهَؤُلَاءِ قَالَ عَنْهُمْ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ } لِأَنَّهُ خَبَرٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ عَمَلٌ وَهُنَاكَ : { وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ } لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيَدْعُونَهَا فَهُنَاكَ عِبَادَةٌ وَعَمَلٌ بِهَوَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ } وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَمَا قَالَ : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } { إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ الرَّسُولَ لَا يَخْرُجُ عَنْ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ مَا قَالَهُ وَلَهُ فِيهِ حُجَّةٌ يَسْتَدِلُّ بِهَا كَانَ غَايَتَهُ الظَّنَّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا كَاحْتِجَاجِهِمْ بِقِيَاسِ فَاسِدٍ أَوْ نَقْلٍ كَاذِبٍ أَوْ خِطَابٍ أُلْقِيَ إلَيْهِمْ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ وَكَانَ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ . وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ عُمْدَةُ مَنْ يُخَالِفُ السُّنَّةَ بِمَا يَرَاهُ حُجَّةً وَدَلِيلًا أَمَّا أَنْ يَحْتَجَّ بِأَدِلَّةِ عَقْلِيَّةٍ وَيَظُنَّهَا بُرْهَانًا وَأَدِلَّةً قَطْعِيَّةً وَتَكُونَ شُبُهَاتٍ فَاسِدَةً مُرَكَّبَةً مِنْ أَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ وَمَعَانٍ مُتَشَابِهَةٍ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ حَقِّهَا وَبَاطِلِهَا كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إنَّمَا يُرَكِّبُ حُجَجَهُ مِنْ أَلْفَاظٍ مُتَشَابِهَةٍ فَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ تَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ وَهَذِهِ هِيَ الْحُجَجُ الْعَقْلِيَّةُ وَإِنْ تَمَسَّكَ الْمُبْطِلُ بِحُجَجِ سَمْعِيَّةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ كَذِبًا عَلَى الرَّسُولِ أَوْ تَكُونَ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى مَا احْتَجَّ بِهَا أَهْلُ الْبُطُولِ فَالْمَنْعُ إمَّا فِي الْإِسْنَادِ وَأَمَّا فِي الْمَتْنِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ السَّمْعِيَّةُ هَذِهِ حُجَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ . وَأَمَّا حُجَّةُ أَهْلِ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ وَالْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَهُمْ إلْهَامَاتٌ صَحِيحَةٌ مُطَابِقَةٌ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهَا تُجْلَى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } } وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : أَظُنُّهُ وَاَللَّهِ لِلْحَقِّ يَقْذِفُهُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا } وَفِي رِوَايَةٍ { فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِالْحَقِّ وَيُبْصِرُ بِهِ . وَكَانُوا يَقُولُونَ إنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { نُورٌ عَلَى نُورٍ } نُورُ الْإِيمَانِ مَعَ نُورِ الْقُرْآنِ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وَهُوَ الْمُؤْمِنُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْبَعُهُ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ شَهِدَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ بِمِثْلِ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ بَيِّنَةِ الْإِيمَانِ وَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ حُذَّاقُ النُّظَّارِ لَمَّا تَكَلَّمُوا فِي وُجُوبِ النَّظَرِ وَتَحْصِيلِهِ لِلْعِلْمِ فَقِيلَ لَهُمْ : أَهْلُ التَّصْفِيَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالتَّأَلُّهِ تَحْصُلُ لَهُمْ الْمَعَارِفُ وَالْعُلُومُ الْيَقِينِيَّةُ بِدُونِ النَّظَرِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْمُلَقَّبُ بالكبيري - للرازي وَرَفِيقِهِ وَقَدْ قَالَا لَهُ يَا شَيْخُ بَلَغَنَا أَنَّك تَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَقَالَ : نَعَمْ فَقَالَا : كَيْفَ تَعْلَمُ وَنَحْنُ نَتَنَاظَرُ فِي زَمَانٍ طَوِيلٍ كُلَّمَا ذَكَرَ شَيْئًا أَفْسَدْته وَكُلَّمَا ذَكَرْت شَيْئًا أَفْسَدَهُ ؟ فَقَالَ : - هُوَ وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَنْ رَدِّهَا فَجَعَلَا يَعْجَبَانِ مِنْ ذَلِكَ وَيُكَرِّرَانِ الْكَلَامَ وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا أَنْ تَحْصُلَ لَهُ هَذِهِ الْوَارِدَاتُ فَعَلَّمَهُ الشَّيْخُ وَأَدَّبَهُ حَتَّى حَصَلَتْ لَهُ وَكَانَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْنُّفَاةِ
مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 473)
فَفِي " الْجُمْلَةِ " مَتَى حَصَلَ مَا يَظُنُّ مَعَهُ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَحَبّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ هَذَا تَرْجِيحًا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلْهَامِ طَرِيقًا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَخْطَئُوا كَمَا أَخْطَأَ الَّذِينَ جَعَلُوهُ طَرِيقًا شَرْعِيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَلَكِنْ إذَا اجْتَهَدَ السَّالِكُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا تَرْجِيحًا وَأُلْهِمَ حِينَئِذٍ رُجْحَانَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ مَعَ حُسْنِ قَصْدِهِ وَعِمَارَتِهِ بِالتَّقْوَى فَإِلْهَامُ مِثْلِ هَذَا دَلِيلٌ فِي حَقِّهِ ؛ قَدْ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ الضَّعِيفَةِ ؛ وَالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالظَّوَاهِرِ الضَّعِيفَةِ وَالِاسْتِصْحَابات الضَّعِيفَةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي الْمَذْهَبِ وَالْخِلَافِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ ؛ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُ تَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي } وَ ( أَيْضًا فَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ : وَهُوَ حُبّ الْمَعْرُوفِ وَبُغْضُ الْمُنْكَرِ فَإِذَا لَمْ تَسْتَحِلْ الْفِطْرَةُ فَالْقُلُوبُ مَفْطُورَةٌ عَلَى الْحَقِّ فَإِذَا كَانَتْ الْفِطْرَةُ مُقَوَّمَةٌ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ مُنَوَّرَةٌ بِنُورِ الْقُرْآنِ وَخَفِيَ عَلَيْهَا دَلَالَةُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَرَأَى قَلْبَهُ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَانَ هَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَمَارَاتِ عِنْدَ مِثْلِهِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } الْآيَةَ . ثُمَّ قَالَ : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْأَمَانَةَ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ ، وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ } " وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ النَّوَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . وَعَلَى جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ ، وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ . فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ ، وَالسُّتُورُ حُدُودُ اللَّهِ ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ نَادَاهُ الْمُنَادِي - أَوْ كَمَا قَالَ - يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَفْتَحْهُ فَإِنَّك إنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ . وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ } " . فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَاعِظٌ وَالْوَاعِظُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِتَرْغِيبِ وَتَرْهِيبٍ ؛ فَهَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الَّذِي يَقَعُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مُطَابِقٌ لِأَمْرِ الْقُرْآنِ وَنَهْيِهِ وَلِهَذَا يَقْوَى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي الْآيَةِ : هُوَ الْمُؤْمِنُ يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فِيهَا بِأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَ بِالْأَثَرِ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ . نُورُ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ يُطَابِقُ نُورَ الْقُرْآنِ كَمَا أَنَّ الْمِيزَانَ الْعَقْلِيَّ يُطَابِقُ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ . وَقَدْ يُؤْتَى الْعَبْدُ أَحَدَهُمَا وَلَا يُؤْتَى الْآخَرَ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ . وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا ؛ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ } .
وَالْإِلْهَامُ فِي الْقَلْبِ تَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْقَوْلِ وَالْعِلْمِ وَالظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَالْحُبِّ وَالْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ فَقَدْ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَرْجَحُ وَأَظْهَرُ وَأَصْوَبُ وَقَدْ يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } " وَالْمُحَدَّثُ الْمُلْهَمُ الْمُخَاطَبُ ، وَفِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ { : الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ وَسَكَنَ إلَيْهِ الْقَلْبُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْك } " وَهُوَ فِي السُّنَنِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّوَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ } " وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الْإِثْمُ حِزَازُ الْقُلُوبِ . وَ ( أَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُورُ الْكَوْنِيَّةُ قَدْ تَنْكَشِفُ لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا فَالْأُمُورُ الدِّينِيَّةُ كَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ إلَى كَشْفِهَا أَحْوَجُ لَكِنَّ هَذَا فِي الْغَالِبِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَشْفًا بِدَلِيلِ وَقَدْ يَكُونُ بِدَلِيلِ يَنْقَدِحُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ وَهَذَا أَحَدُ مَا فُسِّرَ بِهِ مَعْنَى " الِاسْتِحْسَانِ " . وَقَدْ قَالَ مَنْ طَعَنَ فِي ذَلِكَ - كَأَبِي حَامِدٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ - : مَا لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ فَهُوَ هَوَسٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُمْكِنُهُ إبَانَةَ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِقَلْبِهِ ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُبَيِّنُهَا بَيَانًا نَاقِصًا وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَشْفِ يُلْقَى فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ حَرَامٌ أَوْ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَافِرٌ أَوْ فَاسِقٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ وَبِالْعَكْسِ قَدْ يُلْقَى فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةُ شَخْصٍ وَأَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ أَوْ أَنَّ هَذَا الْمَالَ حَلَالٌ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانَ أَنَّ هَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ لَكِنْ إنَّ مِثْلَ هَذَا يَكُونُ تَرْجِيحًا لِطَالِبِ الْحَقِّ إذَا تَكَافَأَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ الظَّاهِرَةُ . فَالتَّرْجِيحُ بِهَا خَيْرٌ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ قَطْعًا فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا بَاطِلَةٌ قَطْعًا . كَمَا قُلْنَا : إنَّ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ ظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ بِنَقِيضِهِ إذَا اُحْتِيجَ إلَى الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يَجُوزُ تَكَافُؤُ الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنْ قَدْ تَتَكَافَأُ عِنْدَ النَّاظِرِ لِعَدَمِ ظُهُورِ التَّرْجِيحِ لَهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقٌّ مُعَيَّنٌ بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ عَالِمٍ بِالْحَقِّ الْبَاطِنِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَزِيَّةٌ فِي عِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ فَهَؤُلَاءِ قَدْ يُجَوِّزُونَ أَوْ بَعْضُهُمْ تَكَافُؤَ الْأَدِلَّةِ وَيَجْعَلُونَ الْوَاجِبَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَيْسَ عَلَى الظَّنِّ دَلِيلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ وَإِنَّمَا رُجْحَانُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ هُوَ مِنْ بَابِ الرُّجْحَانِ بِالْمَيْلِ وَالْإِرَادَةِ كَتَرْجِيحِ النَّفْسِ الْغَضَبِيَّةِ لِلِانْتِقَامِ وَالنَّفْسِ الْحَلِيمَةِ لِلْعَفْوِ . وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ حَقٍّ مُعَيَّنٍ يُصِيبُهُ الْمُسْتَدِلُّ تَارَةً وَيُخَطِّئُهُ أُخْرَى . كَالْكَعْبَةِ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَالْمُجْتَهِدُ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ بِالصَّلَاةِ إلَيْهَا كَالْمُجْتَهِدِ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى قَوْلٍ فَعَمِلَ بِمُوجِبِهِ كِلَاهُمَا مُطِيعٌ لِلَّهِ وَهُوَ مُصِيبٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ مُصِيبًا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلِمَ الْحَقَّ الْمُعَيَّنَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا وَمُصِيبُهُ لَهُ أَجْرَانِ وَهَذَا فِي كَشْفِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَكِنْ قَدْ يَخْفَى عَلَى الْعَبْدِ . فَإِنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَ ( الْأَحْكَامَ الْكُلِّيَّةَ ) .
وفي إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 5 / ص 140)
[ يَجْمُلُ بِالْمُفْتِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ بِالتَّوْفِيقِ ] الْفَائِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالسِّتُّونَ : حَقِيقٌ بِالْمُفْتِي أَنْ يُكْثِرَ الدُّعَاءَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ ، إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَكَانَ شَيْخُنَا كَثِيرَ الدُّعَاءِ بِذَلِكَ ، وَكَانَ إذَا أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ يَقُولُ " يَا مُعَلِّمَ إبْرَاهِيمَ عَلِّمْنِي " وَيُكْثِرُ الِاسْتِعَانَةَ بِذَلِكَ اقْتِدَاءً بِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ لِمَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ السَّكْسَكِيِّ عِنْدَ مَوْتِهِ ، وَقَدْ رَآهُ يَبْكِي ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَا كُنْتُ أُصِيبُهَا مِنْكَ ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ اللَّذَيْنِ كُنْتُ أَتَعَلَّمُهُمَا مِنْكَ ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانَهُمَا ، مَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا ، اُطْلُبْ الْعِلْمَ عِنْدَ أَرْبَعَةٍ : عِنْدَ عُوَيْمِرٍ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، وَذَكَرَ الرَّابِعَ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ هَؤُلَاءِ فَسَائِرُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَنْهُ أَعْجَزُ ، فَعَلَيْكَ بِمُعَلِّمِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ .
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ عِنْدَ الْإِفْتَاءِ : سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .
وَكَانَ مَكْحُولٌ يَقُولُ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ، وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ : مَا شَاءَ اللَّهُ ، لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ : { رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي } وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ : اللَّهُمَّ وَفِّقْنِي وَاهْدِنِي وَسَدِّدْنِي وَاجْمَعْ لِي بَيْنَ الصَّوَابِ وَالثَّوَابِ وَأَعِذْنِي مِنْ الْخَطَأِ وَالْحِرْمَانِ .
وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ ، وَجَرَّبْنَا نَحْنُ ذَلِكَ فَرَأَيْنَاهُ أَقْوَى أَسْبَابِ الْإِصَابَةِ .
وَالْمُعَوِّلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى حُسْنِ النِّيَّةِ ، وَخُلُوصِ الْقَصْدِ ، وَصِدْقِ التَّوَجُّهِ فِي الِاسْتِمْدَادِ مِنْ الْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ مُعَلَّمِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ مَنْ صَدَقَ فِي التَّوَجُّهِ إلَيْهِ لِتَبْلِيغِ دِينِهِ وَإِرْشَادِ عَبِيدِهِ وَنَصِيحَتِهِمْ وَالتَّخَلُّصِ مِنْ الْقَوْلِ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ ، فَإِذَا صَدَقَتْ نِيَّتُهُ وَرَغْبَتُهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَعْدَمْ أَجْرًا إنْ فَاتَهُ أَجْرَانِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فَقِيلَ لَهُ : رُبَّمَا اشْتَدَّ عَلَيْنَا الْأَمْرُ مِنْ جِهَتِكَ ، فَلِمَنْ نَسْأَلُ بَعْدَكَ ؟ فَقَالَ : سَلُوا عَبْدَ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقَ ، فَإِنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُوَفَّقَ لِلصَّوَابِ .
وَاقْتَدَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ ؛ فَإِنَّهُمْ تُجْلَى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ ، وَذَلِكَ لِقُرْبِ قُلُوبِهِمْ مِنْ اللَّهِ ، وَكُلَّمَا قَرُبَ الْقَلْبُ مِنْ اللَّهِ زَالَتْ عَنْهُ مُعَارَضَاتُ السُّوءِ ، وَكَانَ نُورُ كَشْفِهِ لِلْحَقِّ أَتَمَّ وَأَقْوَى ، وَكُلَّمَا بَعُدَ عَنْ اللَّهِ كَثُرَتْ عَلَيْهِ الْمُعَارَضَاتُ ، وَضَعُفَ نُورُ كَشْفِهِ لِلصَّوَابِ ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ ، يُفَرِّقُ بِهِ الْعَبْدُ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ .
وَقَالَ مَالِكٌ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي أَوَّلِ مَا لَقِيَهُ : إنِّي أَرَى اللَّهَ قَدْ أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } وَمِنْ الْفُرْقَانِ النُّورُ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ الْعَبْدُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَكُلَّمَا كَانَ قَلْبُهُ أَقْرَبَ إلَى اللَّهِ كَانَ فُرْقَانُهُ أَتَمَّ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 107)
رقم الفتوى 50142 لا سبيل لمعرفة كيفية قذف الله نو العلم في قلوب المتقين
تاريخ الفتوى : 28 ربيع الثاني 1425
السؤال
العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء ...كيف يكون ذلك؟؟؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالكيفية التي يقذف الله تعالى بها العلوم في قلوب من يشاء لا سبيل إلى معرفتها، فهي من فعل الله الذي ليس لنا أن ندرك منه أو نعرف إلا ما أخبر به الله، أو أخبر به عنه نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد قال تعالى: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ] (الأنفال: 29).
فالله يقذف نور العلم في قلوب المتقين من عباده المبتعدين عن معصيته. قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": واقتدى الإمام أحمد بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم تجلى لهم أمور صادقة، وذلك لقرب قلوبهم من الله، وكلما قرب القلب من ا لله زالت عنه معارضات السوء، وكان نور كشفه للحق أتم وأقوى، وكلما بعد عن الله كثرت عليه المعارضات، وضعف نور كشفه للصواب، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب يفرق به العبد بين الخطأ والصواب، وقال مالك للشافعي رضي الله عنهما في أول ما لقيه: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمات المعصية. (2/ 513). والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

.
وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُ تَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ (1). وَهَذِهِ الْأُمُورُ الصَّادِقَةُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا تَتَجَلَّى لِلْمُطِيعِينَ هِيَ الْأُمُورُ الَّتِي يَكْشِفُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ .
فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مُخَاطَبَاتٍ وَمُكَاشَفَاتٍ ؛ فَأَفْضَلُ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ (2).
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ تَعْيِينُ عُمَرَ بِأَنَّهُ مُحَدَّثٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَأَيُّ مُحَدَّثٍ وَمُخَاطَبٍ فُرِضَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُمَرُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَفْعَلُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَيَعْرِضُ مَا يَقَعُ لَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَارَةً يُوَافِقُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِ عُمَرَ كَمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِمُوَافَقَتِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ (3)
__________
(1) - عن عمر قال : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله واعقلوا ما تسمعون منهم فإنهم تجلى لهم أمور صادقة (سعيد بن منصور ، والمروزى فى الجنائز) [كنز العمال 42805]وجامع الأحاديث - (ج 28 / ص 319)(31223)
(2) - عَنْ وَهْبٍ السُّوَائِىِّ قَالَ خَطَبَنَا عَلِىٌّ فَقَالَ مَنْ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا فَقُلْتُ أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ لاَ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَمَا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ. مسند أحمد (846) صحيح
(3) - عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ وَافَقْتُ رَبِّى فِى ثَلاَثٍ وَوَافَقَنِى رَبِّى فِى ثَلاَثٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ وَبَلَغَنِى مُعَاتَبَةُ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَعْضَ نِسَائِهِ قَالَ فَاسْتَقْرَيْتُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ فَجَعَلْتُ أَسْتَقْرِيهِنَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَاللَّهِ لَئِنِ انْتَهَيْتُنَّ وَإِلاَّ لَيُبَدِّلَنَّ اللَّهُ رَسُولَهُ خَيْراً مِنْكُنَّ قَالَ فَأَتَيْتُ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ قَالَتْ يَا عُمَرُ أَمَا فِى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ تَعِظُهُنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ ). صحيح البخاري (387 ) ومسند أحمد (256)
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 2 / ص 119)
قَوْله : ( وَافَقْت رَبِّي فِي ثَلَاث ) أَيْ وَقَائِع ، وَالْمَعْنَى وَافَقَنِي رَبِّي فَأَنْزَلَ الْقُرْآن عَلَى وَفْق مَا رَأَيْت ، لَكِنْ لِرِعَايَةِ الْأَدَب أَسْنَدَ الْمُوَافَقَة إِلَى نَفْسه ، أَوْ أَشَارَ بِهِ إِلَى حُدُوث رَأْيه وَقِدَم الْحُكْم ، وَلَيْسَ فِي تَخْصِيصه الْعَدَد بِالثَّلَاثِ مَا يَنْفِي الزِّيَادَة عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ الْمُوَافَقَة فِي أَشْيَاء غَيْر هَذِهِ مِنْ مَشْهُورهَا قِصَّة أُسَارَى بَدْر وَقِصَّة الصَّلَاة عَلَى الْمُنَافِقِينَ ، وَهُمَا فِي الصَّحِيح ، وَصَحَّحَ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر أَنَّهُ قَالَ " مَا نَزَلَ بِالنَّاسِ أَمْر قَطّ فَقَالُوا فِيهِ وَقَالَ فِيهِ عُمَر إِلَّا نَزَلَ الْقُرْآن فِيهِ عَلَى نَحْو مَا قَالَ عُمَر " وَهَذَا دَالٌّ عَلَى كَثْرَة مُوَافَقَته ، وَأَكْثَر مَا وَقَفْنَا مِنْهَا بِالتَّعْيِينِ عَلَى خَمْسَة عَشَر لَكِنْ ذَلِكَ بِحَسَب الْمَنْقُول ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَى مَقَام إِبْرَاهِيم ، وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى مَسْأَلَة الْحِجَاب فِي تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب ، وَعَلَى مَسْأَلَة التَّخْيِير فِي تَفْسِير سُورَة التَّحْرِيم ، وَقَوْله فِي هَذِهِ الرِّوَايَة " وَاجْتَمَعَ نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَيْرَة عَلَيْهِ فَقُلْت لَهُنَّ : عَسَى رَبّه إِلَخْ " وَذَكَرَ فِيهِ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة زِيَادَة يَأْتِي التَّنْبِيه عَلَيْهَا فِي بَاب عِشْرَة النِّسَاء فِي أَوَاخِر النِّكَاح . وَقَالَ بَعْضهمْ : كَانَ اللَّائِق إِيرَاد هَذَا الْحَدِيث فِي الْبَاب الْمَاضِي وَهُوَ قَوْله : ( وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) وَالْجَوَاب أَنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى حَدِيث اِبْن عُمَر لِلتَّنْصِيصِ فِيهِ عَلَى وُقُوع ذَلِكَ مِنْ فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ حَدِيث عُمَر هَذَا فَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيح بِذَلِكَ ، وَأَمَّا مُنَاسَبَته لِلتَّرْجَمَةِ فَأَجَابَ الْكَرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمُرَاد مِنْ التَّرْجَمَة مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَة وَمَا يَتَعَلَّق بِهَا ، فَأَمَّا عَلَى قَوْل مَنْ فَسَّرَ مَقَام إِبْرَاهِيم بِالْكَعْبَةِ فَظَاهِر ، أَوْ بِالْحَرَمِ كُلّه فَمِنْ فِي قَوْله : ( مِنْ مَقَام إِبْرَاهِيم ) لِلتَّبْعِيضِ ، وَمُصَلًّى أَيْ قِبْلَة ، أَوْ بِالْحَجَرِ الَّذِي وَقَفَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم وَهُوَ الْأَظْهَر فَيَكُون تَعَلُّقه بِالْمُتَعَلِّقِ بِالْقِبْلَةِ لَا بِنَفْسِ الْقِبْلَة ، وَقَالَ اِبْن رَشِيد : الَّذِي يَظْهَر لِي أَنَّ تَعَلُّق الْحَدِيث بِالتَّرْجَمَةِ الْإِشَارَة إِلَى مَوْضِع الِاجْتِهَاد فِي الْقِبْلَة ؛ لِأَنَّ عُمَر اِجْتَهَدَ فِي أَنْ اِخْتَارَ أَنْ يَكُون الْمُصَلَّى إِلَى مَقَام إِبْرَاهِيم الَّذِي هُوَ فِي وَجْه الْكَعْبَة فَاخْتَارَ إِحْدَى جِهَات الْقِبْلَة بِالِاجْتِهَادِ ، وَحَصَلَتْ مُوَافَقَته عَلَى ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى تَصْوِيب اِجْتِهَاد الْمُجْتَهِد إِذَا بَذَلَ وُسْعه وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ .

وَتَارَةً يُخَالِفُهُ فَيَرْجِعُ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا رَجَعَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا كَانَ قَدْ رَأَى مُحَارَبَةَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اعْتَمَرَ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ نَحْوُ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَهُمْ الَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَكَانَ قَدْ صَالَحَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مُرَاجَعَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَيَعْتَمِرَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ وَشَرَطَ لَهُمْ شُرُوطًا فِيهَا نَوْعُ غَضَاضَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الظَّاهِرِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ،وَكَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم وَأَحْكَمَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ،وَكَانَ عُمَرُ فِيمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ « إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِى » . قُلْتُ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ « بَلَى ، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ » . قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ « فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ » . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ . قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى ، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ . قَالَ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً . }(1)
__________
(1) - عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ، حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِى خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ » . فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ ، وَسَارَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِى يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا ، بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ . فَقَالَ النَّاسُ حَلْ حَلْ . فَأَلَحَّتْ ، فَقَالُوا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ . فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ، ثُمَّ قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » . ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ ، قَالَ فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ ، عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا ، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ ، وَشُكِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَطَشُ ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّىِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِىُّ فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ ، فَقَالَ إِنِّى تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَمَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً ، وَيُخَلُّوا بَيْنِى وَبَيْنَ النَّاسِ ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا ، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِى هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى ، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ » . فَقَالَ بُدَيْلٌ سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ . قَالَ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا قَالَ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً ، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا ، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَىْءٍ . وَقَالَ ذَوُو الرَّأْىِ مِنْهُمْ هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ . قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا ، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم . فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَىْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ قَالُوا بَلَى . قَالَ أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ قَالُوا بَلَى . قَالَ فَهَلْ تَتَّهِمُونِى . قَالُوا لاَ . قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّى اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَىَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِى وَوَلَدِى وَمَنْ أَطَاعَنِى قَالُوا بَلَى . قَالَ فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، اقْبَلُوهَا وَدَعُونِى آتِهِ . قَالُوا ائْتِهِ . فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَىْ مُحَمَّدُ ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى ، فَإِنِّى وَاللَّهِ لأَرَى وُجُوهًا ، وَإِنِّى لأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ . فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ فَقَالَ مَنْ ذَا قَالُوا أَبُو بَكْرٍ . قَالَ أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِى لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ . قَالَ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ ، وَقَالَ لَهُ أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ . فَقَالَ أَىْ غُدَرُ ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِى غَدْرَتِكَ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَتَلَهُمْ ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِى شَىْءٍ » . ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنَيْهِ . قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ أَىْ قَوْمِ ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِىِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ ، يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا ، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، فَاقْبَلُوهَا . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى كِنَانَةَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « هَذَا فُلاَنٌ ، وَهْوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ » . فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِى لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ . فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ . فَقَالَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « هَذَا مِكْرَزٌ وَهْوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ » . فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو . قَالَ مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ » . قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِىُّ فِى حَدِيثِهِ فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ هَاتِ ، اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا ، فَدَعَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الْكَاتِبَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ » . قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ . كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ . فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ » . ثُمَّ قَالَ « هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ » . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « وَاللَّهِ إِنِّى لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِى . اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ » . قَالَ الزُّهْرِىُّ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ « لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » . فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ » . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ ، إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا . قَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ . فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ » . قَالَ فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَىْءٍ أَبَدًا . قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « فَأَجِزْهُ لِى » . قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ . قَالَ « بَلَى ، فَافْعَلْ » . قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ . قَالَ مِكْرَزٌ بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ . قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ . قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ « إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِى » . قُلْتُ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ « بَلَى ، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ » . قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ « فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ » . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ . قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى ، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ . قَالَ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً . قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ « قُومُوا فَانْحَرُوا ، ثُمَّ احْلِقُوا » . قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ . فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ . فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ ، قَامُوا فَنَحَرُوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا ، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) حَتَّى بَلَغَ ( بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهْوَ مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ ، فَقَالُوا الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا . فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا . فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ . فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْهِ ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ ، وَفَرَّ الآخَرُ ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ « لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا » . فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ ، قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ . قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ » . فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ . قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ ، فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا ، فَقَتَلُوهُمْ ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) حَتَّى بَلَغَ ( الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ . البخاري (2770 )

، وَلَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ يَسْمَعُ جَوَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْمَلَ مُوَافَقَةً لِلَّهِ وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمَرَ ،وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا (1).
وَكَذَلِكَ لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ عُمَرُ مَوْتَهُ أَوَّلًا فَلَمَّا قَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنَّهُ مَاتَ رَجَعَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ(2)
__________
(1) - وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 8 / ص 283)
قَوْله : ( قَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ عُمَر : فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا ) :هُوَ مَوْصُول إِلَى الزُّهْرِيِّ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُور وَهُوَ مُنْقَطِع بَيْن الزُّهْرِيِّ وَعُمَر ، قَالَ بَعْض الشُّرَّاح . قَوْله " أَعْمَالًا " أَيْ مِنْ الذَّهَاب وَالْمَجِيء وَالسُّؤَال وَالْجَوَاب ، وَلَمَّا يَكُنْ ذَلِكَ شَكًّا مِنْ عُمَر ، بَلْ طَلَبًا لِكَشْفِ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ ، وَحَثًّا عَلَى إِذْلَال الْكُفَّار ، لَمَّا عَرَفَ مِنْ قُوَّته فِي نُصْرَة الدِّين ا ه . وَتَفْسِير الْأَعْمَال بِمَا ذَكَرَ مَرْدُود ، بَلْ الْمُرَاد بِهِ الْأَعْمَال الصَّالِحَة لِيُكَفِّر عَنْهُ مَا مَضَى مِنْ التَّوَقُّف فِي الِامْتِثَال اِبْتِدَاء ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَر التَّصْرِيح بِمُرَادِهِ بِقَوْلِهِ : " أَعْمَالًا " : فَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَكَانَ عُمَر يَقُول مَا زِلْت أَتَصَدَّق وَأَصُوم وَأُصَلِّي وَأُعْتِق مِنْ الَّذِي صَنَعْت يَوْمئِذٍ مَخَافَة كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْت بِهِ " وَعِنْد الْوَاقِدِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس " قَالَ عُمَر : لَقَدْ أَعْتَقْت بِسَبَبِ ذَلِكَ رِقَابًا ، وَصُمْت دَهْرًا " . وَأَمَّا قَوْله : " وَلَمْ يَكُنْ شَكًّا " فَإِنْ أَرَادَ نَفْي الشَّكّ فِي الدِّين فَوَاضِح ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " أَنَّ أَبَا بَكْر لَمَّا قَالَ لَهُ : اِلْزَمْ غَرْزه فَإِنَّهُ رَسُول اللَّه ، قَالَ عُمَر وَأَنَا أَشْهَد أَنَّهُ رَسُول اللَّه " وَإِنْ أَرَادَ نَفْي الشَّكّ فِي وُجُود الْمَصْلَحَة وَعَدَمهَا فَمَرْدُود ، وَقَدْ قَالَ السُّهَيْلِيّ : هَذَا الشَّكّ هُوَ مَا لَا يَسْتَمِرّ صَاحِبه عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَاب الْوَسْوَسَة ، كَذَلِكَ قَالَ ، وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّهُ تَوَقُّف مِنْهُ لِيَقِف عَلَى الْحِكْمَة فِي الْقِصَّة وَتَنْكَشِف عَنْهُ الشُّبْهَة ، وَنَظِيره قِصَّته فِي الصَّلَاة عَلَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأُولَى لَمْ يُطَابِق اِجْتِهَاده الْحُكْم بِخِلَافِ الثَّانِيَة ، وَهِيَ هَذِهِ الْقِصَّة ، وَإِنَّمَا عَمِلَ الْأَعْمَال الْمَذْكُورَة لِهَذِهِ ، وَإِلَّا فَجَمِيع مَا صَدَرَ مِنْهُ كَانَ مَعْذُورًا فِيهِ بَلْ هُوَ مَأْجُور لِأَنَّهُ مُجْتَهِد فِيهِ .
(2) - عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بِالسُّنْحِ فَقَامَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِى نَفْسِى إِلاَّ ذَاكَ وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقْطَعَنَّ أَيْدِىَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَبَّلَهُ وَقَالَ : بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا. ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ : أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ حَىٌّ لاَ يَمُوتُ وَقَالَ ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) وَقَالَ ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) الآيَةَ كُلَّهَا فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ .البخاري (3712 )
وفي رواية قَالَ الزُّهْرِىُّ وَحَدَّثَنِى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ اجْلِسْ يَا عُمَرُ ، فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ . فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّا بَعْدُ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَىٌّ لاَ يَمُوتُ ، قَالَ اللَّهُ ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) إِلَى قَوْلِهِ ( الشَّاكِرِينَ ) وَقَالَ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ حَتَّى تَلاَهَا أَبُو بَكْرٍ ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إِلاَّ يَتْلُوهَا . فَأَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلاَهَا فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِى رِجْلاَىَ ، وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلاَهَا أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ .البخاري (4497 )
وَكَذَا عِنْد عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ " فَعُقِرْت وَأَنَا قَائِم حَتَّى خَرَرْت إِلَى الْأَرْض ، فَأَيْقَنْت أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ "
فيقول عمر : هي في كتاب الله؟ والله لكأني لم أسمعها إلا اليوم، وعقرتني قدماي] أي: سقط من شدة ما سمع.
وفي هذا الموقف يقال: هل عمر ينكر الموت؟ الجواب: لا، ولكن عظم عليه المصاب في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصيبة إذا عظمت أذهلت، وقد يتوقف العقل -كما يقولون: انشل التفكير- وعمر له نظرة بعيدة فيما يتعلق بنصرة الدين،شرح بلوغ المرام للشيخ عطية محمد سالم - (ج 2 / ص 230)
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 10 / ص 465)
وَأَمَّا وُقُوع الْحَلِف مِنْ عُمَر عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَبَنَاهُ عَلَى ظَنّه الَّذِي أَدَّاهُ إِلَيْهِ اِجْتِهَاده ، وَفِيهِ بَيَان رُجْحَان عِلْم أَبِي بَكْر عَلَى عُمَر فَمَنْ دُونه ، وَكَذَلِكَ رُجْحَانه عَلَيْهِمْ لِثَبَاتِهِ فِي مِثْل ذَلِكَ الْأَمْر الْعَظِيم .
قَوْله : ( أَيّهَا الْحَالِف عَلَى رِسْلك ) بِكَسْرِ الرَّاء أَيْ هِينَتك وَلَا تَسْتَعْجِل ،
وفي جامع العلوم والحكم - (ج 8 / ص 5)
ولمَّا شكَّ النَّاسُ في موته - صلى الله عليه وسلم - ، قال عمُّه العباس - رضي الله عنه - : والله ما ماتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى تركَ السبيلَ نهجاً واضحاً ، وأحلَّ الحلالَ وحرَّم الحرامَ ، ونكَحَ وطلَّق ، وحارب وسالم ، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يَخْبِطُ عليها العِضاةَ بمِخْبَطهِ ، ويَمْدُرُ حوضَها بيده بأنصَب ولا أدأب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ فيكُم .(أخرجه : ابن سعد في " طبقاته " 2/204-205 ، والدارمي ( 83 ) ، من حديث عكرمة مرسلاً . ) اهـ

. وَكَذَلِكَ فِي " قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ " قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لأَبِى بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ(1).
وَلِهَذَا نَظَائِرُ تُبَيِّنُ تَقَدُّمَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ مَعَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُحَدَّثٌ ؛ فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الصِّدِّيقِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْمُحَدَّثِ، لِأَنَّ الصِّدِّيقَ يَتَلَقَّى عَنْ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ ،وَالْمُحَدَّثُ يَأْخُذُ عَنْ قَلْبِهِ أَشْيَاءَ وَقَلْبُهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2)
__________
(1) - صحيح مسلم(133 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 91)
وَوَقَعَتْ الشُّبْهَة لِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَرَاجَعَ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، وَنَاظَرَهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . فَمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَقَدْ عَصَمَ نَفْسه وَمَاله " . وَكَانَ هَذَا مِنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ الْكَلَام قَبْل أَنْ يَنْظُر فِي آخِره وَيَتَأَمَّل شَرَائِطه . فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إِنَّ الزَّكَاة حَقّ الْمَال ، يُرِيد أَنَّ الْقَضِيَّة قَدْ تَضَمَّنَتْ عِصْمَة دَم وَمَال مُعَلَّقَة بِإِيفَاءِ شَرَائِطهَا . وَالْحُكْم الْمُعَلَّق بِشَرْطَيْنِ لَا يَحْصُل بِأَحَدِهِمَا وَالْآخَر مَعْدُوم . ثُمَّ قَايَسَهُ بِالصَّلَاةِ وَرَدّ الزَّكَاة إِلَيْهَا وَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْله دَلِيل عَلَى أَنَّ قِتَال الْمُمْتَنِع مِنْ الصَّلَاة كَانَ إِجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَة وَكَذَلِكَ رَدّ الْمُخْتَلَف فِيهِ إِلَى الْمُتَّفَق عَلَيْهِ فَاجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّة الِاحْتِجَاج مِنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِالْعُمُومِ وَمِنْ أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِالْقِيَاسِ . وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعُمُوم يُخَصّ بِالْقِيَاسِ ، وَأَنَّ جَمِيع مَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَاب الْوَارِد فِي الْحُكْم الْوَاحِد مِنْ شَرْط وَاسْتِثْنَاء مُرَاعًى فِيهِ وَمُعْتَبَر صِحَّته بِهِ . فَلَمَّا اِسْتَقَرَّ عِنْد عُمَر صِحَّة رَأْي أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَبَانَ لَهُ صَوَابه تَابَعَهُ عَلَى قِتَال الْقَوْم وَهُوَ مَعْنَى قَوْله ( فَلَمَّا رَأَيْت اللَّه قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْر لِلْقِتَالِ عَرَفْت أَنَّهُ الْحَقّ ) يُشِير إِلَى اِنْشِرَاح صَدْره بِالْحُجَّةِ الَّتِي أَدْلَى بِهَا ، وَالْبُرْهَان الَّذِي أَقَامَهُ نَصًّا وَدَلَالَة .
(2) - قال شيخ الإسلام في مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 18) :
إِنَّ الْمُكَاشَفَاتِ يَقَعُ فِيهَا مِنْ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ نَظِيرُ مَا يَقَعُ فِي الرُّؤْيَا وَتَأْوِيلِهَا وَالرَّأْيِ وَالرِّوَايَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مَعْصُومًا عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا مَا ثَبَتَ عَنْ الرَّسُولِ ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ رَدُّ جَمِيعِ الْأُمُورِ إلَى مَا بُعِثَ بِهِ وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ الْمُتَلَقِّي عَنْ الرَّسُولِ كُلَّ شَيْءٍ ؛ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ الْمُحَدَّثِ مِثْلُ عُمَرَ ؛ وَكَانَ الصِّدِّيقُ يُبَيِّنُ لِلْمُحَدَّثِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ؛ حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى الصَّوَابِ . كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بِعُمَرِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ وَيَوْمَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا الْبَابُ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ مَا يَسُوغُ مُخَالَفَةَ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ . نَعَمْ لَفْظُ " الشَّرْعِ " قَدْ صَارَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ فِي عُرْفِ الْعَامَّةِ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عِبَارَةً عَنْ حُكْمِ الْحُكَّامِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ قَدْ يُطَابِقُ الْحَقَّ فِي الْبَاطِنِ وَقَدْ يُخَالِفُهُ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ : { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْحُقُوقِ الْمُرْسَلَةِ لَا يُغَيِّرُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ فِي الْبَاطِنِ فَلَوْ حَكَمَ بِمَالِ زَيْدٍ لِعُمَرِ لِإِقْرَارِ أَوْ بَيِّنَةٍ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يُبَحْ ذَلِكَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّةِ لَوْ حَكَمَ بِعَقْدِ أَوْ فَسْخِ نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ وَبَيْعٍ فَإِنَّ حُكْمَهُ لَا يُغَيِّرُ الْبَاطِنَ عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : حُكْمُهُ يُغَيَّرُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْعُقُودِ والفسوخ . فَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْحَدِيثِ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه في مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 345)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فَصْلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا } الْآيَةُ : قِرَاءَتَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ؛ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ . وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقْرَأُ بِالتَّثْقِيلِ وَتُنْكِرُ التَّخْفِيفَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُ - وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِهِ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } مُخَفَّفَةً قَالَتْ - مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا - قُلْت : فَمَا هَذَا النَّصْرُ - { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } بِمَنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنَّتْ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ لَعَمْرِي لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ جريج سَمِعْت ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } خَفِيفَةً ذَهَبَ بِهَا هُنَالِكَ وَتَلَا { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } فَلَقِيت عُرْوَةَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : مَعَاذَ اللَّهِ وَاَللَّهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إلَّا عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى ظَنُّوا وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُهُمْ ؛ فَكَانَتْ تَقْرَؤُهَا : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } مُثَقَّلَةً . فَعَائِشَةُ جَعَلَتْ اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ وَظَنَّهُمْ التَّكْذِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ وَلَكِنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى ثَابِتَةٌ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهَا وَقَدْ تَأَوَّلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ مَعَهُ وَالْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا إنَّمَا فِيهَا اسْتِبْطَاءُ النَّصْرِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ : { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } فَإِنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ تُبْطِئُ لِطَلَبِ التَّعْجِيلِ . وَقَوْلُهُ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قَدْ يَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ : { إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } وَالظَّنُّ لَا يُرَادُ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ كَمَا هُوَ فِي اصْطِلَاحِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ وَيُسَمُّونَ الِاعْتِقَادَ الْمَرْجُوحَ وَهْمًا بَلْ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } . فَالِاعْتِقَادُ الْمَرْجُوحُ هُوَ ظَنٌّ وَهُوَ وَهْمٌ وَهَذَا الْبَابُ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ } وَقَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي هِيَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ كَمَا ثَبَتَ { فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يُحْرَقَ حَتَّى يَصِيرَ حُمَمَةً أَوْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ : أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ . } فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ تَعْرِضُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : مِنْهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ يَضْعُفُ بِهِ الْإِيمَانُ وَإِنْ كَانَ لَا يُزِيلُهُ . وَالْيَقِينُ فِي الْقَلْبِ لَهُ مَرَاتِبُ وَمِنْهُ مَا هُوَ عَفْوٌ يُعْفَى عَنْ صَاحِبِهِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ يَقْتَرِنُ بِهِ صَرِيحُ الْإِيمَانِ . وَنَظِيرُ هَذَا : مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ؛ وَلَوْ لَبِثْت فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْت الدَّاعِيَ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ : { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } } وَقَدْ تَرَكَ الْبُخَارِيُّ ذِكْرَ قَوْلِهِ : " بِالشَّكِّ " لَمَّا خَافَ فِيهَا مِنْ تَوَهُّمِ بَعْضِ النَّاسِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى } وَلَكِنْ طَلَبَ طُمَأْنِينَةَ قَلْبِهِ كَمَا قَالَ : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالِاطْمِئْنَانِ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكًّا لِذَلِكَ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَذَلِكَ الْوَعْدُ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا : يَكُونُ الشَّخْصُ مُؤْمِنًا بِذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ فَلَا يَطْمَئِنُّ فَيَكُونُ فَوَاتُ الِاطْمِئْنَانِ ظَنًّا أَنَّهُ قَدْ كُذِّبَ فَالشَّكُّ مَظِنَّةُ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَقْدَحُ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي أَفْعَالِهِمْ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أُصُولِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . وَفِي قَصَصِ هَذِهِ الْأُمُورِ عِبْرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُبْتَلَوْا بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَيْأَسُوا إذَا اُبْتُلُوا بِذَلِكَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَكَانَتْ الْعَاقِبَةُ إلَى خَيْرٍ فَلْيَتَيَقَّنْ الْمُرْتَابُ وَيَتُوبُ الْمُذْنِبُ وَيَقْوَى إيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ فَبِهَا يَصِحُّ الاتساء بِالْأَنْبِيَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ . } وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَصِ الْمُرْسَلِينَ الَّتِي فِيهَا تَسْلِيَةٌ وَتَثْبِيتٌ لِيَتَأَسَّى بِهِمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } وَلَنَا لِأَنَّهُ أُسْوَةٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } وَقَالَ : { مَا يُقَالُ لَكَ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } وَقَالَ : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ . } وَإِذَا كَانَ الاتساء بِهِمْ مَشْرُوعًا فِي هَذَا وَفِي هَذَا فَمِنْ الْمَشْرُوعِ التَّوْبَةُ مِنْ الذَّنْبِ وَالثِّقَةُ بِوَعْدِ اللَّهِ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ ظَنٌّ مِنْ الظُّنُونِ وَطَلَبُ مَزِيدِ الْآيَاتِ لِطُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ كَمَا هُوَ الْمُنَاسِبُ للاتساء وَالِاقْتِدَاءِ دُونَ مَا كَانَ الْمَتْبُوعُ مَعْصُومًا مُطْلَقًا . فَيَقُولُ التَّابِعُ : أَنَا لَسْت مِنْ جِنْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَذْكُرُ بِذَنْبِ فَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَيْأَسَ مِنْ الْمُتَابَعَةِ وَالِاقْتِدَاءِ ؛ لِمَا أَتَى بِهِ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي يُفْسِدُ الْمُتَابِعَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعِصْمَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ مَجْبُورٌ بِالتَّوْبَةِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ مَعَهُ الْمُتَابَعَةُ كَمَا قِيلَ : أَوَّلُ مَنْ أَذْنَبَ وَأَجْرَمَ ثُمَّ تَابَ وَنَدِمَ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ مَا ظَلَمَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَصَّ عَلَيْنَا قِصَصَ تَوْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ لِنَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي الْمَتَابِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي أُقِرُّوا عَلَيْهَا فَلَمْ يُنْهَوْا عَنْهَا وَلَمْ يَتُوبُوا مِنْهَا فَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ . فَأَمَّا مَا نُهُوا عَنْهُ وَتَابُوا مِنْهُ فَلَيْسَ بِدُونِ الْمَنْسُوخِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَا أُمِرُوا بِهِ أُبِيحَ لَهُمْ ثُمَّ نُسِخَ تَنْقَطِعُ فِيهِ الْمُتَابَعَةُ ؛ فَمَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ أَحْرَى وَأَوْلَى . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قَدْ يَكُونُونَ ظَنُّوا فِي الْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُمْ ؛ فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَهَذَا جَائِزٌ عَلَيْهِمْ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فَإِذَا ظَنَّ بِالْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ وَكَانَ كَذِبًا مِنْ جِهَةِ ظَنٍّ فِي الْخَبَرِ مَا لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ . فَأَمَّا الشَّكُّ فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ هُنَا شَيْئَانِ : " أَحَدُهُمَا " اسْتِيئَاسُ الرُّسُلِ . و " الثَّانِي " ظَنُّ أَنَّهُمْ كُذِبُوا . وَقَدْ ذَكَرْنَا لَفْظَ " الظَّنِّ " فَأَمَّا لَفْظُ ( اسْتَيْأَسُوا فَإِنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } وَلَمْ يَقُلْ يَئِسَ الرُّسُلُ وَلَا ذَكَرَ مَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ وَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ . } وَقَدْ يُقَالُ : الِاسْتِيئَاسُ لَيْسَ هُوَ الْإِيَاسُ ؛ لِوُجُوهِ : " أَحَدُهَا " أَنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ لَمْ يَيْأَسُوا مِنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّ قَوْلَ كَبِيرِهِمْ : { فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْجُو أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ لَهُ وَحُكْمُهُ هُنَا لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَخْلِيصنَا لِيُوسُفَ مِنْهُمْ وَإِلَّا فَحُكْمُهُ لَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ قُعُودَهُ فِي مِصْرَ لِأَجْلِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا : ف " الْيَأْسُ " يَكُونُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَلَمْ يَجِئْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إنَّا إذًا لَظَالِمُونَ } فَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ إلَيْهِمْ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ إلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ عَزْمُهُ وَنِيَّتُهُ وَمَا أَكْثَرَ تَقْلِيبَ الْقُلُوبِ وَقَدْ يَتَبَدَّلُ الْأَمْرُ بِغَيْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ الْحُكْمُ إلَى غَيْرِهِ وَقَدْ يَتَخَلَّصُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَالْعَادَاتُ قَدْ جَرَتْ بِهَذَا عَلَى مِثْلِ مَنْ عِنْدَهُ مَنْ قَالَ لَا يُعْطِيهِ . فَقَدْ يُعْطِيهِ وَقَدْ يَخْرُجُ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَقَدْ يَمُوتُ عَنْهُ فَيَخْرُجُ وَالْعَالَمُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَا . " الْوَجْهُ الثَّانِي " قَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } . فَنَهَاهُمْ عَنْ الْيَأْسِ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ الِاسْتِيئَاسِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ . وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَافِرِينَ فَهَذَا هُوَ " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَيْضًا . وَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ { لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ يَأْسٌ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَأَنْ يَقَعُوا فِي الِاسْتِيئَاسِ بَلْ الْمُؤْمِنُونَ مَا دَامُوا مُؤْمِنِينَ لَا يَيْأَسُونَ مِنْ رُوحِ اللَّهِ وَهَذِهِ السُّورَةُ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ الْمُسْتَيْئِسِينَ وَأَنَّ الْفَرَحَ جَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَيْأَسَ الْمُؤْمِنُ ؛ وَلِهَذَا فِيهَا : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } فَذِكْرُ اسْتِيئَاسِ الْإِخْوَةِ مِنْ أَخِي يُوسُفَ وَذِكْرُ اسْتِيئَاسِ الرُّسُلِ يَصْلُحُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ جَمِيعًا . " الْوَجْهُ الرَّابِعُ " أَنَّ الِاسْتِيئَاسَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْيَأْسِ وَالِاسْتِفْعَالُ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ : يَكُونُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ مِنْ الْغَيْرِ فَالِاسْتِخْرَاجُ وَالِاسْتِفْهَامُ وَالِاسْتِعْلَامُ يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ يُقَالُ : اسْتَخْرَجْت الْمَالَ مِنْ غَيْرِي وَكَذَلِكَ اسْتَفْهَمْت وَلَا يَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِيئَاسِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَطْلُبُ الْيَأْسَ وَيَسْتَدْعِيهِ ؛ وَلِأَنَّ اسْتَيْأَسَ فِعْلٌ لَازِمٌ لَا مُتَّعَدٌ . وَيَكُونُ لِلِاسْتِفْعَالِ لِصَيْرُورَةِ الْمُسْتَفْعِلِ عَلَى صِفَةِ غَيْرِهِ وَهَذَا يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ كَقَوْلِهِمْ : اسْتَحْجَرَ الطِّينُ أَيْ صَارَ كَالْحَجَرِ . وَاسْتَنْوَقَ الْفَحْلُ أَيْ صَارَ كَالنَّاقَةِ . وَأَمَّا النَّظَرُ فِيمَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ إخْوَةِ يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ } . وَأَمَّا الرُّسُلُ فَلَمْ يَذْكُرْ مَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ بَلْ أَطْلَقَ وَصْفَهُمْ بِالِاسْتِيئَاسِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِأَنَّهُمْ اسْتَيْأَسُوا مِمَّا وُعِدُوا بِهِ وَأُخْبِرُوا بِكَوْنِهِ وَلَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ . وَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } لَا يَدُلُّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَضْلًا عَنْ بَاطِنِهِ : أَنَّهُ حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِثْلُ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ فِيمَا أُخْبِرُوا بِهِ فَإِنَّ لَفْظَ الظَّنِّ فِي اللُّغَةِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ بَلْ يُسَمَّى ظَنًّا مَا هُوَ مِنْ أَكْذَبِ الْحَدِيثِ عَنْ الظَّانِّ ؛ لِكَوْنِهِ أَمْرًا مَرْجُوحًا فِي نَفْسِهِ . وَاسْمُ الْيَقِينِ وَالرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَنَحْوِهَا يَتَنَاوَلُ عِلْمَ الْقَلْبِ وَعَمَلَهُ وَتَصْدِيقَهُ وَعَدَمَ تَصْدِيقِهِ وَسَكِينَتَهُ وَعَدَمَ سَكِينَتِهِ لَيْسَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ فَقَطْ كَمَا يَحْسَبُ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ كَمَا نَبَّهْنَا [ عَلَيْهِ ] فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } . فَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ عَنْ اسْتِيئَاسِهِمْ مُطْلَقًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ إذَا وَعَدَ الرُّسُلَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ مُطْلَقٍ - كَمَا هُوَ غَالِبُ إخباراته - لَمْ يُقَيِّدْ زَمَانَهُ وَلَا مَكَانَهُ وَلَا سَنَتَهُ وَلَا صِفَتَهُ فَكَثِيرًا مَا يَعْتَقِدُ النَّاسُ فِي الْمَوْعُودِ بِهِ صِفَاتٍ أُخْرَى لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهَا خِطَابُ الْحَقِّ بَلْ اعْتَقَدُوهَا بِأَسْبَابِ أُخْرَى كَمَا اعْتَقَدَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَيَطُوفُونَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا وَرَجَا أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامَ وَيَطُوفَ وَيَسْعَى . فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامَ - لَمَّا صَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى قَاضَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصُّلْحِ الْمَشْهُورِ - بَقِيَ فِي قَلْبِ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ حَتَّى { قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تُخْبِرْنَا أَنَّا نَدْخُلُ الْبَيْتَ وَنَطُوفُ ؟ قَالَ : بَلَى . فَأَخْبَرْتُك أَنَّك تَدْخُلُهُ هَذَا الْعَامَ ؟ . قَالَ : لَا . قَالَ : فَإِنَّك دَاخِلُهُ وَمُطَوِّفٌ } وَكَذَلِكَ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرَ عِلْمًا وَإِيمَانًا مِنْ عُمَرَ حَتَّى تَابَ عُمَرُ مِمَّا صَدَرَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُحَدِّثًا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } فَهُوَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ ؛ وَلَكِنْ مَزِيَّةُ التَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مُتَابَعَةً لِلرَّسُولِ وَعِلْمًا وَإِيمَانًا بِمَا جَاءَ بِهِ دَرَجَتُهُ فَوْقَ دَرَجَتِهِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ الْأُمَّةِ صَاحِبَ الْمُتَابَعَةِ لِلْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ فَهُوَ مُعَلِّمٌ لِعُمَرِ وَمُؤَدِّبٌ لِلْمُحَدِّثِ مِنْهُمْ الَّذِي يَكُونُ لَهُ مِنْ رَبِّهِ إلْهَامٌ وَخِطَابٌ كَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُعَلِّمًا لِعُمَرِ وَمُؤَدِّبًا لَهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ : فَأَخْبَرَك أَنَّك تَدْخُلُهُ هَذَا الْعَامَ ؟ قَالَ : لَا قَالَ إنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ . فَبَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ أَنَّ وَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِوَقْتِ وَكَوْنُهُ سَعَى فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَقَصَدَهُ لَا يُوجِبُ أَنْ يَعْنِيَ مَا أَخْبَرَ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الشَّيْءَ وَلَا يَكُونُ ؛ بَلْ يَكُونُ غَيْرُهُ ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَصَدَهُ ؛ بَلْ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ أَنْ يُقَيِّدَهُ عَمَّا يَقْصِدُهُ إلَى أَمْرٍ آخَرَ هُوَ أَنْفَعُ مِمَّا قَصَدَهُ كَمَا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْفَعَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ دُخُولِهِمْ ذَلِكَ الْعَامِ بِخِلَافِ خَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَادِقٌ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَيَتَحَقَّقَ . وَكَذَلِكَ ظَنُّ النَّبِيِّ كَمَا { قَالَ فِي تَأْبِيرِ النَّخْلِ : إنَّمَا ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ } فَاسْتِيئَاسُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ دُخُولِ ذَلِكَ هُوَ اسْتِيئَاسٌ مِمَّا ظَنُّوهُ مَوْعُودًا بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْعُودًا بِهِ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَظُنُّوا شَيْئًا فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا [ ظَنُّوهُ ] فَقَدْ يَظُنُّونَ فِيمَا وَعَدُوهُ تَعْيِينًا وَصِفَاتٍ وَلَا يَكُونُ كَمَا ظَنُّوهُ فَيَيْأَسُونَ مِمَّا ظَنُّوهُ فِي الْوَعْدِ لَا مِنْ تَعْيِينِ الْوَعْدِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأَيْت أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَدْ أَسْلَمَ ؛ فَلَمَّا أَسْلَمَ خَالِدٌ ظَنُّوهُ هُوَ فَلَمَّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ عُلِمَ أَنَّهُ هُوَ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمِ يُلَقِّحُونَ : فَقَالَ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا هَذَا لَصَلَحَ قَالَ : فَخَرَجَ سَبْتًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ : مَا لِفَحْلِكُمْ ؟ قَالُوا : قُلْت : كَذَا وَكَذَا . قَالَ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ } وَرُوِيَ أَيْضًا { عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ طَلْحَةَ ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : مَرَرْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ : مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ فَقَالَ : يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَتُلَقَّحُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ . فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ : إنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنَّنِي ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ } . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إذَا حَدَّثَنَا بِشَيْءِ عَنْ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ بِهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ أَتْقَانَا لِلَّهِ وَأَعْلَمُنَا بِمَا يُتَّقَى وَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ آخِذًا بِمَا يُحَدِّثُنَا عَنْ اللَّهِ فَإِذَا أَخْبَرَهُ اللَّهُ بِوَعْدِ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ هُوَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ تَصْدِيقِنَا وَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَشُكَّ فِيهِ وَهُوَ - بِأَبِي - أَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ لَا يَشُكَّ فِيهِ ؛ لَكِنْ قَدْ يَظُنُّ ظَنًّا كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ } وَإِنْ كَانَ أَخْبَرَهُ بِهِ مُطْلَقًا فَمُسْتَنَدُهُ ظُنُونٌ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ : { مَا قَصَرْت الصَّلَاةَ وَلَا نَسِيت } . وَقَدْ يَظُنُّ الشَّيْءَ ثُمَّ يُبَيِّنُ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَى جَلِيَّتِهِ كَمَا وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أُمُورٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ لَمَّا اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ وَهَمَّ أَنْ ] يَغْزُوَهُمْ لَمَّا ظَنَّ صِدْقَهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ بَنِي أبيرق الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } وَذَلِكَ لَمَّا جَاءَ قَوْمٌ تَرَكُوا السَّارِقَ الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ وَأَخْرَجُوا الْبَرِيءَ ؛ فَظَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدْقَهُمْ حَتَّى تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ . { وَقَالَ فِي حَدِيثِ قَصْرِ الصَّلَاةِ : لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ فَقَالُوا : بَلَى قَدْ نَسِيت } . وَكَانَ قَدْ نَسِيَ فَأَخْبَرَ عَنْ مُوجَبِ ظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ . { وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنِّي لَا أَنْسَى لِأَسُنَّ } وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } شَامِلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ حَيْثُ قَالَ فِي صَدْرِ الْآيَاتِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } الْآيَاتُ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بينا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ إلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ : هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ وَقَالَ : أَبْشِرْ بنورين أُوتِيتهمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَك : فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيته } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ آدَمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } دَخَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ مِثْلُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا قَالَ : فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } الْآيَاتُ إلَى قَوْلِهِ : { أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ قَدْ فَعَلْت إلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ : قَدْ فَعَلْت } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرَّكْبِ فَقَالُوا : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْك هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ؟ بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَك رَبَّنَا وَإِلَيْك الْمَصِيرُ فَلَمَّا اقْتَرَاهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ : أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَثَرِهَا : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا سُبْحَانَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } إلَى قَوْلِهِ : { قَبْلِنَا } قَالَ : نَعَمْ : { وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قَالَ : نَعَمْ . إلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ : نَعَمْ } . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ ؛ لَكِنْ لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَكَيْفَ فِي الْخَبَرِ ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } فَنَفْسُ مَا يَعِدُ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَقًّا لَا يَمْتَرُونَ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ . وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ قَدْ يَكُونُ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } إلَى قَوْلِهِ : { صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلِلنَّاسِ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ؛ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ التَّمَنِّيَ هُوَ التِّلَاوَةُ وَالْقُرْآنُ كَمَا عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ السَّلَفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } وَأَمَّا مَنْ أَوَّلَ النَّهْيَ عَلَى تَمَنِّي الْقَلْبِ فَذَاكَ فِيهِ كَلَامٌ آخَرُ ؛ وَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ النَّوْعَيْنِ ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ فِي التَّفْسِيرِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَمُرَادُ الْآيَةِ قَطْعًا لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } . وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَكُونُ فِي مُجَرَّدِ الْقَلْبِ إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ النَّبِيُّ ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي ظَنِّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بَعْضُهُ النَّخْلُ وَنَحْوُهَا وَهُوَ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ . وَإِذَا كَانَ التَّمَنِّي لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْقَوْلُ فَفِيهِ قَوْلَانِ : " الْأَوَّلُ " أَنَّ الْإِلْقَاءَ هُوَ فِي سَمْعِ الْمُسْتَمِعِينَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ بِمَنْعِ جَوَازِ الْإِلْقَاءِ فِي كَلَامِهِ . و " الثَّانِي " - وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ - أَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي نَفْسِ التِّلَاوَةِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَسِيَاقُهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ الْمُتَعَدِّدَةُ وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ إلَّا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ هُوَ خَطَأٌ وَغَلَطٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إلَّا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَنْ يُقِرَّ عَلَى خَطَأٍ كَمَا قَالَ : { فَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ بِشَيْءِ فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ } وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَامَتْ الْحُجَّةُ بِهِ فَإِنَّ كَوْنَهُ رَسُولَ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَالصِّدْقُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْكَذِبِ وَنَفْيَ الْخَطَأِ فِيهِ . فَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ . وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا أَنْ يَقَعَ الْإِلْقَاءُ فِي تَبْلِيغِهِ فَرُّوا مِنْ هَذَا وَقَصَدُوا خَيْرًا وَأَحْسَنُوا فِي ذَلِكَ ؛ لَكِنْ يُقَالُ لَهُمْ : أَلْقَى ثُمَّ أَحْكَمَ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذَا يُشْبِهُ النَّسْخَ لِمَنْ بَلَغَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّهُ إذًا مُوقِنٌ مُصَدِّقٌ بِرَفْعِ قَوْلٍ سَبَقَ لِسَانُهُ بِهِ لَيْسَ أَعْظَمَ مِنْ إخْبَارِهِ بِرَفْعِهِ . وَلِهَذَا قَالَ فِي النَّسْخِ : { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } فَظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا هُوَ يَتَّبِعُ مَا يَظُنُّونَهُ مِنْ مَعْنَى الْوَعْدِ وَهَذَا جَائِزٌ لَا مَحْذُورَ فِيهِ . إذَا لَمْ يُقِرُّوا عَلَيْهِ وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلِسَائِرِ الْأُصُولِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ [ ذَلِكَ ] أَنَّ بَابَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَيْسَ بِأَعْظَمِ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَإِذَا كَانَ مِنْ الْجَائِزِ فِي بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَنْ يَظُنُّوا شَيْئًا ثُمَّ يَتَبَيَّنُ الْأَمْرُ لَهُمْ بِخِلَافِهِ ؛ فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى حَتَّى إنَّ بَابَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إذَا تَمَسَّكُوا فِيهِ بِالِاسْتِصْحَابِ لَمْ يَقَعْ فِي ذَلِكَ ظَنُّ خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ ؛ فَإِنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِخِطَابِ إذَا نَفَوْهُ قَبْلَ الْخِطَابِ كَانَ ذَلِكَ اعْتِقَادًا مُطَابِقًا لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ وَبَابُ الْوَعْدِ إذَا لَمْ يُخْبَرُوا بِهِ قَدْ يَظُنُّونَ انْتِفَاءَهُ كَمَا ظَنَّ الْخَلِيلُ جَوَازَ الْمَغْفِرَةِ لِأَبِيهِ حَتَّى اسْتَغْفَرَ لَهُ وَنُهِينَا عَنْ الِاقْتِدَاءِ . كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ : لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك مَا لَمْ أُنْهَ عَنْك } وَحَتَّى اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ وَحَتَّى صَلَّى عَلَى الْمُنَافِقِينَ قَبْلَ أَنْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ يَرْجُو لَهُمْ الْمَغْفِرَةَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } الْآيَةُ . وَقَالَ { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لن يغفر الله لهم } فَإِذَا كَانَ صَلَّى عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ رَاجِيًا أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ . وَلِهَذَا سَوَّغَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يُرْوَى فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْإِسْنَادِ . بِخِلَافِ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِيهِ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ أَنَّهُ صِدْقٌ ؛ لِأَنَّ بَابَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ صِدْقًا وَأَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ الْخَبَرُ كَذِبًا لَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ ؛ لَا سِيَّمَا بِلَا عِلْمٍ كَمَا لَمْ يَجُزْ الْجَزْمُ بِثُبُوتِهِ بِلَا عِلْمٍ ؛ إذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ . مَنَابِتُ النَّاسِ اللَّفْظُ تَعْيِينُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَلَا يَجُوزُ مَنْعُ ذَلِكَ بِمَنْعِ الْحَدِيثِ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبْطَالًا لِمَا هُوَ حَقٌّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ } وَهَذَا الْبَابُ وَهُوَ " بَابُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ " هُوَ فِي الْكِتَابِ بِأَسْمَاءِ مُطْلَقَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَظُنُّ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعْدِ وَيَكُونُ اللَّفْظُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِمَا يَدْخُلُ فِي الْوَعْدِ لَا فِي اعْتِقَادِ صَدْقِ الْوَعْدِ فِي نَفْسِهِ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وَقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } الْآيَتَيْنِ فَقَدْ يَظُنُّ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَالَ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحِقِّ لِلنَّصْرِ وَإِنَّ جُنْدَ اللَّهِ الْغَالِبُونَ وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَقَدْ يَقَعُ مِنْ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَا يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ الْمَوْعُودِ بِهِ فَالظَّنُّ الْمُخْطِئُ فَهِمَ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا أَكْثَرُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَ كَثْرَةِ مَا وَقَعَ مِنْ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا لَا يَحْصُرُ الْغَلَطَ فِيهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا عَامٌّ لِجَمِيعِ الْآدَمِيِّينَ ؛ لَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ لَا يُقِرُّونَ ؛ بَلْ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ وَغَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا . وَلِهَذَا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَأْمُرُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَصْدِيقِ الْوَعْدِ وَالْإِيمَانِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ الصَّبْرِ إلَى أَنْ يَجِيءَ الْوَقْتُ وَمِنْ الِاسْتِغْفَارِ لِزَوَالِ الذُّنُوبِ الَّتِي بِهَا تَحْقِيقُ اتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْوَعْدِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } الْآيَةُ . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

،وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَيُنَاظِرُهُمْ وَيَرْجِعُ إلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ(1)، وَيُنَازِعُونَهُ فِي أَشْيَاءَ فَيَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُقَرِّرُهُمْ عَلَى مُنَازَعَتِهِ وَلَا يَقُولُ لَهُمْ : أَنَا مُحَدَّثٌ مُلْهَمٌ مُخَاطَبٌ فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا مِنِّي وَلَا تُعَارِضُونِي، فَأَيُّ أَحَدٍ ادَّعَى أَوْ ادَّعَى لَهُ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ وَأَنَّهُ مُخَاطَبٌ يَجِبُ عَلَى أَتْبَاعِهِ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَلَا يُعَارِضُوهُ وَيُسَلِّمُوا لَهُ حَالَهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَهُوَ وَهُمْ مُخْطِئُونَ ،وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ، فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُنَازِعُونَهُ فِيمَا يَقُولُهُ ،وَهُوَ وَهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ،وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(2)
__________
(1) - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ عُمَرُ ادْعُ لِى الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ . فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفُوا . فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ ، وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ . فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّى . ثُمَّ قَالَ ادْعُوا لِى الأَنْصَارَ . فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ ، فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّى . ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِى مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ . فَدَعَوْتُهُمْ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ ، فَقَالُوا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ ، وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ ، فَنَادَى عُمَرُ فِى النَّاسِ ، إِنِّى مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ قَالَ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِى بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِى فِى هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ » . قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ . أخرجه البخاري (5788 )
(2) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 286)
( فَصْلٌ ) : وَأَنْتُمْ أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِالِانْتِسَابِ إلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ وَعَافَاكُمْ اللَّهُ مِمَّا ابْتَلَى بِهِ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . وَالْإِسْلَامُ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَجَلُّهَا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وَعَافَاكُمْ اللَّهُ بِانْتِسَابِكُمْ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَكْثَرِ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ بِدَعِ الرَّوَافِضِ والجهمية وَالْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ بِحَيْثُ جَعَلَ عِنْدَكُمْ مِنْ الْبُغْضِ لِمَنْ يُكَذِّبُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ أَوْ يَسُبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَكَمَالِ الدِّينِ وَلِهَذَا كَثُرَ فِيكُمْ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَأَهْلِ الْقِتَالِ الْمُجَاهِدِينَ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي طَوَائِفِ الْمُبْتَدِعِينَ وَمَا زَالَ فِي عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ الْمَنْصُورَةِ وَجُنُودِ اللَّهِ الْمُؤَيَّدَةِ مِنْكُمْ مَنْ يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ وَيُعِزُّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ . وَفِي أَهْلِ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ مِنْكُمْ مَنْ لَهُ الْأَحْوَالُ الزَّكِيَّةُ وَالطَّرِيقَةُ الْمَرْضِيَّةُ وَلَهُ الْمُكَاشَفَاتُ وَالتَّصَرُّفَاتُ . وَفِيكُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ مَنْ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْعَالَمِينَ فَإِنَّ قُدَمَاءَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ كَانُوا فِيكُمْ مِثْلَ الْمُلَقَّبِ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ " أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَد بْنِ يُوسُفَ الْقُرَشِيِّ الهكاري " وَبَعْدَهُ الشَّيْخُ الْعَارِفُ الْقُدْوَةُ عَدِيُّ بْنُ مُسَافِرٍ الْأُمَوِيُّ " وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمَا فِيهِمْ مِنْ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَارَهُمْ وَرَفَعَ بِهِ مَنَارَهُمْ . وَالشَّيْخُ عَدِيٌّ " - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - كَانَ مِنْ أَفَاضِلِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَكَابِرِ الْمَشَايِخِ الْمُتَّبَعِينَ وَلَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ وَالْمَنَاقِبِ الْعَلِيَّةِ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ . وَلَهُ فِي الْأُمَّةِ صيت مَشْهُورٌ ، وَلِسَانُ صِدْقٍ مَذْكُورٌ وَعَقِيدَتُهُ الْمَحْفُوظَةُ عَنْهُ لَمْ يَخْرُجْ فِيهَا عَنْ عَقِيدَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ كَالشَّيْخِ الْإِمَامِ الصَّالِحِ " أَبِي الْفَرَجِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ الشِّيرَازِيِّ ثُمَّ " الدِّمَشْقِيِّ " وَكَشَيْخِ الْإِسْلَامِ الهكاري " وَنَحْوِهِمَا . وَهَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ لَمْ يَخْرُجُوا فِي الْأُصُولِ الْكِبَارِ عَنْ أُصُولِ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " بَلْ كَانَ لَهُمْ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالدُّعَاءِ إلَيْهَا وَالْحِرْصِ عَلَى نَشْرِهَا وَمُنَابَذَةِ مَنْ خَالَفَهَا مَعَ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ مَا رَفَعَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَارَهُمْ وَأَعْلَى مَنَارَهُمْ ، وَغَالِبُ مَا يَقُولُونَهُ فِي أُصُولِهَا الْكِبَارِ جَيِّدٌ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِي كَلَامِهِمْ وَكَلَامِ نُظَرَائِهِمْ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَرْجُوحَةِ وَالدَّلَائِلِ الضَّعِيفَةِ ؛ كَأَحَادِيثَ لَا تَثْبُتُ وَمَقَايِيسُ لَا تَطَّرِدُ ( مَعَ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا سِيَّمَا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُحَكِّمُوا مَعْرِفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ فِيهِمَا وَيُمَيِّزُوا بَيْنَ صَحِيحِ الْأَحَادِيثِ وَسَقِيمِهَا وَنَاتِجِ الْمَقَايِيسِ وَعَقِيمِهَا مَعَ مَا يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ غَلَبَةِ الْأَهْوَاءِ وَكَثْرَةِ الْآرَاءِ وتغلظ الِاخْتِلَافِ وَالِافْتِرَاقِ وَحُصُولِ الْعَدَاوَةِ وَالشِّقَاقِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ وَنَحْوَهَا مِمَّا يُوجِبُ " قُوَّةَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ " اللَّذَيْنِ نَعَتَ اللَّهُ بِهِمَا الْإِنْسَانَ فِي قَوْلِهِ : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } فَإِذَا مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ أَنْقَذَهُ مِنْ هَذَا الضَّلَالِ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَالْعَصْرِ } { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ " السُّنَّةَ " الَّتِي يَجِبُ اتِّبَاعُهَا وَيُحْمَدُ أَهْلُهَا وَيُذَمُّ مَنْ خَالَفَهَا : هِيَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي أُمُورِ الِاعْتِقَادَاتِ وَأُمُورِ الْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ . وَذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِمَعْرِفَةِ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةِ عَنْهُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَا تَرَكَهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ . ثُمَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَذَلِكَ " فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفَةِ " : مِثْلَ صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَكُتُبِ السُّنَنِ . مِثْلَ سُنَنِ أَبِي داود والنسائي وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَمُوَطَّأِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَمِثْلَ الْمَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ ؛ كَمِثْلِ مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَيُوجَدُ فِي كُتُبِ " التَّفَاسِيرِ " وَ " الْمَغَازِي " وَسَائِرِ " كُتُبِ الْحَدِيثِ " جُمَلِهَا وَأَجْزَائِهَا مِنْ الْآثَارِ مَا يُسْتَدَلُّ بِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ . وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ أَقَامَ اللَّهُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَنْ اعْتَنَى بِهِ حَتَّى حَفِظَ اللَّهُ الدِّينَ عَلَى أَهْلِهِ . وَقَدْ جَمَعَ طَوَائِفُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي أَبْوَابِ " عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ " مِثْلَ : حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدارمي ؛ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرِهِمْ فِي طَبَقَتِهِمْ . وَمِثْلُهَا مَا بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو داود والنسائي وَابْنُ ماجه وَغَيْرُهُمْ فِي كُتُبِهِمْ . وَمِثْلُ مُصَنَّفَاتِ أَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ وَأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَأَبِي الْقَاسِمِ الطبراني وَأَبِي الشَّيْخِ الأصبهاني وَأَبِي بَكْرٍ الآجري وَأَبِي الْحَسَنِ الدارقطني وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَأَبِي الْقَاسِمِ اللالكائي وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بَطَّةَ ؛ وَأَبِي عَمْرٍو الطلمنكي وَأَبِي نُعَيْمٍ الأصبهاني وَأَبِي بَكْرٍ البيهقي وَأَبِي ذَرٍّ الهروي . وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمُصَنَّفَاتِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ . وَقَدْ يَرْوِي كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ : فِي الصِّفَاتِ وَسَائِرِ أَبْوَابِ الِاعْتِقَادَاتِ وَعَامَّةِ أَبْوَابِ الدِّينِ : أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَكُونُ مَكْذُوبَةً مَوْضُوعَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ قِسْمَانِ : - مِنْهَا مَا يَكُونُ كَلَامًا بَاطِلًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُضَافَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكَلَامِ : مَا يَكُونُ قَدْ قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ أَوْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوْ بَعْضُ النَّاسِ وَيَكُونُ حَقًّا . أَوْ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ أَوْ مَذْهَبًا لِقَائِلِهِ فَيُعْزَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا كَثِيرٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ مِثْلَ الْمَسَائِلِ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّيْخُ " أَبُو الْفَرَجِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ " وَجَعَلَهَا مِحْنَةً يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ وَهِيَ " مَسَائِلُ مَعْرُوفَةٌ " عَمِلَهَا بَعْضُ الْكَذَّابِينَ وَجَعَلَ لَهَا إسْنَادًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَهَا مِنْ كَلَامِهِ وَهَذَا يَعْلَمُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ مُفْتَرًى . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَإِنْ كَانَ غَالِبُهَا مُوَافِقًا لِأُصُولِ السُّنَّةِ فَفِيهَا مَا إذَا خَالَفَهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّهُ مُبْتَدِعٌ مِثْلَ أَوَّلِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالنِّزَاعُ فِيهَا لَفْظِيٌّ ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ اللَّذَّةَ [ الَّتِي ] يَعْقُبُهَا أَلَمٌ ؛ هَلْ تُسَمَّى نِعْمَةً أَمْ لَا ؟ وَفِيهَا أَيْضًا أَشْيَاءُ مَرْجُوحَةٌ . فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالْحَدِيثِ الْكَذِبِ فَإِنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْحَقُّ دُونَ الْبَاطِلِ ؛ وَهِيَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ دُونَ الْمَوْضُوعَةِ : فَهَذَا " أَصْلٌ عَظِيمٌ " لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ عُمُومًا وَلِمَنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ خُصُوصًا .
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 9 / ص 212)
وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُمْ بِمُجَرَّدِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُتْرَكُ بَعْضُ كَلَامِهِ لِخَطَأِ أَخَطَأَهُ يُكَفَّرُ ولا يُفَسَّقُ ؛ بل ولا يَأْثَمُ ؛ فإن الله تعالى قال في دُعَاءِ المؤمنين : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وفي الصَّحِيحِ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أن اللَّهَ تَعَالَى قَالَ قَدْ فَعَلْت }
وفي فتاوى الشيخ ابن جبرين - (ج 63 / ص 252)
هذه هي المذاهب الأربعة، ولكن هل كان بعضُهم يضلل بعضاً؟، حاشى وكلا، كلهم متآخون ومتحابون ومجتمعون على الحق.
سئل الإمام الشافعي فقيل له: هل نصلي خلف من يقلّد مالكاً؟ فارتعد وقال: ألست أصلي خلف مالك! فمالك شيخ الشافعي الذي أفاده فوائد كثيرة جمة، فأنكر على هذا الذي قال إننا نتورع أن نصلي خلف المالكية لأنهم يخالفوننا في أشياء، والخلافات التي بينهم في الصلاة مثلاً في الجهر بالبسملة أو التلفظ بالنية، أو في بعض الأشياء اليسيرة القليلة، وكذلك بينه وبين الحنفية خلافات لا تبطل بها الصلاة.
مع ذلك كله فإن هؤلاء الأئمة ليسوا هم العلماء كلهم، بل في زمانهم من هو أهلٌ للاتباع وأهلٌ للعلم؛ فالإمام الليث بن سعد عالم مصر كان أيضاً عالماً جليلاً كبيراً، وله أيضاً أتباع، وإن لم يكن له مؤلفات ولا مذهب متبع. وكذلك الإمام الأوزاعي أبو عبدالرحمن عالم الشام في زمانه، وله أيضاً أتباع، وله تلاميذ كثيرون.
ولكن المجمع واحد، فكلهم يتبع الآخر إذا ظهر له الحق مع أحدهم، فإنهم يتبرؤن من الخطأ ويقولون لتلامذتهم: إذا اتضح لكم الخطأ في قولنا فلا تتبعوه، اتبعوا الحق وخذوا به.
ذكروا أن الإمام أبا حنيفة يقول: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين، فنحن رجال وهم رجال؛ وذلك لأنه من التابعين.
واشتهر عن مالك رحمه الله أنه يقول: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر. يعترف على نفسه بأن أقواله عرضة للخطأ وعرضة للترك، وإذا اتضح فيها خطأ فلتُترك.
وجاء رجل إلى الشافعي رحمه الله، وسأله عن مسألة فقال: هذه المسألة أفتى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا. فقال السائل: فما تقول أنت يا أبا عبدالله؛ فغضب الشافعي غضباً شديداً وقال: ويحك أتراني في بيعة؟ أتراني في صومعة؟ أتراني على وسطي زنار؟ أقول لك أفتى فيها رسول الله صلى عليه وسلم وتقول ماذا تقول أنت، أترى أني أخالف فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم! هكذا غيرتهم وحماستهم على السنة النبوية.
كذلك الإمام أحمد رحمه الله اشتهرت مقالته التي يقول فيها: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأى سفيان، والله تعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)(النور:63) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
هذه مقالتهم التي يحثون فيها على الرجوع إلى السنة، ومع ذلك وللأسف؛ فإن كثيراً من أتباعهم المقلدة صاروا يرون الحق والصواب معهم فقط، ويتعصبون للمذاهب هذا التعصب الذي سبّب الفرقة.
فقد نتج عن التعصب لمذهب هذا على هذا؛ أنه حصل بينهم منافسات ومجادلات سواءً في الكتب أو في الأعمال أو نحوها، حتى ذكروا أن المسجد الأموي الذي في دمشق كانت تقام الصلاة فيه أربع مرات يصلي الإمام الحنفي بمن معه، ثم يصلي الشافعي، ثم المالكي، ثم الحنبلي، وهذه تفرقه بين المسلمين.

وَهَذَا مِنْ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ يَجِبُ لَهُمُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ (1)؛ بِخِلَافِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ(2)، وَلَا الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ ؛ بَلْ يُعْرَضُ أَمْرُهُمْ وَخَبَرُهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا وَافَقَ الْكِتَاب وَالسُّنَّةَ وَجَبَ قَبُولُهُ ،وَمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مَرْدُودًا(3)، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَكَانَ مُجْتَهِدًا مَعْذُورًا فِيمَا قَالَهُ، لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ (4). لَكِنَّهُ إذَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مُخْطِئًا، وَكَانَ مِنَ الْخَطَإِ الْمَغْفُورِ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ قَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ..} (5)
__________
(1) - قال تعالى : {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر
(2) - أو ما ينهون عنه .
(3) - قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء
(4) - عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ،وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ».صحيح مسلم (4584 )
(5) - يأمر تعالى بتقواه، التي هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويقيد ذلك بالاستطاعة والقدرة.
فهذه الآية، تدل على أن كل واجب عجز عنه العبد، أنه يسقط عنه، وأنه إذا قدر على بعض المأمور، وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما يعجز عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".ويدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع، ما لا يدخل تحت الحصر،تفسير السعدي - (ج 1 / ص 868)
و { مَا استطعتم } مصدرية ظرفية . والمراد بالاستطاعة : نهاية الطاقة والجهد .
أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن المؤمن الصادق فى إيمانه هو الذى لا يشغله ماله أو ولده أو زوجه عن ذكر الله - تعالى - فابذلوا نهاية قدرتكم واستطاعتكم فى طاعة الله - تعالى - وداوموا على ذلك فى جميع الأوقات والأزمان .
وليس بين هذه الآية ، وبين قوله - تعالى - { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } تعارض ، لأن كلتا الآيتين تأمران المسلم بأن يبذل قصارى جهده ، ونهاية طاقته ، فى المواظبة على أداء ما كلفه الله به ، ولذلك فلا نرى ما يدعو إلى قول من قال : إن الآية التى معنا نسخت الآية التى تقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } قال الآلوسى : أخرج ابن أبى حاتم عند سعيد بن جبير قال : لما نزلت : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } اشتد على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت أقدامهم . فأنزل الله هذه الآية { فاتقوا الله مَا استطعتم } تخفيفا على المسلمين .
وحذف متعلق التقوى ، لقصد التعميم ، أى : فاتقوا الله مدة استطاعتكم فى كل ما تأتون وما تذرون ، واعلموا أنه - تعالى - { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } و{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ومن الأحاديث التى وردت فى معنى الآية الكريمة ، ما رواه البخارى عن جابر بن عبد الله قال : " بايعت رسول الله - صلى الله - عليه وسلم - على السمع والطاعة ، فلقننى " فيما استطعت " " .
وعطف قوله - تعالى - { واسمعوا وَأَطِيعُواْ } على قوله { فاتقوا الله } من باب عطف الخاص على العام ، للاهتمام به .
أى : فاتقوا الله - تعالى - فى كل ما تأتون وما تذرون ، واسمعوا ما يبلغكم إياه رسولنا عنا سماع تدبر وتفكر ، وأطيعوه فى كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه .الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 4231)

(16) سورة التغابن ،وَهَذَا تَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ : حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى ؛ وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ(1)، أَيْ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ...}(2) (286) سورة البقرة ، وَقَالَ تَعَالَى : {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3)
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 5 / ص 470)( 5960-5963) وتفسير ابن كثير - (ج 3 / ص 57) وهو صحيح
(2) - والوسع - كما يقول الزمخشري - : ما يسع الإِنسان ، ولا يضيق عليه ، ولا يحرج فيه ، أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ، ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود . وهذا إخبار عن عدله . ورحمته كقوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } لأنه كان في إمكان الإِنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويجمع أكثر من حجة .
فالجملة الكريمة تحكى لنا بعض مظاهر فضل الله علينا ورحمته بنا ، حيث كلفنا بما تسعه قدرتنا ، وتستطيعه نفوسنا ، وقد حكى القرآن هذا المعنى في آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وقوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } وإذا كانت بعض التكاليف التي كلفنا الله بها في مشقة ، فإن هذه المشقة محتملة وفي وسع الإِنسان وقدرته وطاقته ، وسثيبنا الله - تعالى - عليها ثوابا جزيلا ، فهو القائل : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ثم بين - سبحانه - أن كل نفس ستجازى بما عملت فقال : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } أي لها وحدها ثواب ما كسبت من حسنات بسبب أعمالها الصالحة ، وعليها وحدها عقاب ما اكتسبت من سيئات بسبب أعمالها القبيحة .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم خص الخير بالكسب ، والشر بالاكتساب؟ قلت . في الاكتساب اعتمال ، فلما ان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به ، كانت في تحصيلة أعمل وأجد ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه ، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال .
وقال الأستاذ الإِمام محمد عبده : " لا شك أن الميل إلى الخير مما أودع في نفس الإِنسان والإِنسان يفعل الخير بطبعه وتكون فيه لذته . ولا يحتاج إلى تكلف في فعل الخير ، لأنه يعلم أن كل أحد يرتاح إليه ويراه بعين الرضا وأما الشر فإنه يعرض للنفس بأسباب ليست من طبيعتها ولا من مقتضى فطرتها ومهما كان الإِنسان شريراً فإنه لا يخفى عليه أن الشر ممقوت عند الناس وصاحبه مهين عندهم . . وهكذا شأن الإِنسان عند اقتراف كل شر يشعر في نفسه بقبحه ، ويجد من أعمال سريرته هاتفا يقول له : لا تفعل ، ويحاسبه بعد الفعل ويوبخه إلا في النادر . . " .
وبعد بيان سنة الله - تعالى - في التكليف وفي الجزاء عليه ، ختم - سبحانه - السورة الكريمة بتلك الدعوات الجامعات للسعادة حتى يكثر المؤمنون من التضرع بها فقال - تعالى - : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } أي : ربنا يا واسع العفو والمغفرة لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا { نَّسِينَآ } أمرك ونهيك { أَوْ أَخْطَأْنَا } ففعلنا خلاف الصواب جهلا منا بوجهه الشرعي .
فأنت ترى أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم ، فصفت نفوسهم ، وطهرت قلوبهم ، وخشعت جوارحهم ، يتضرعون إلى الله أن يغفر لهم ما فرط فمنهم نسياناً أو خطأ ، وذلك لأن المؤمن عندما يصل إلى هذه الدرجة من التقوى والصفاء يشعر بأن الله - تعالى - يحاسبه على ما لا حساب عليه ، ويشعر بأن حسناته - مهما كثرت - فهي قليلة بجانب هفواته وسيئاته ، فهو لشدة خشيته من الله يرجح جانب المؤاخذة على جانب العفو فيكثر من الضراعة والدعاء .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله : فإن قلت : النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ قلت : . . . لأنهم كانوا متقين الله حق تقاته ، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ . فكأن وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به . كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به ، فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان . ويجوز أن يدعو الإِنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه .
هذا هو الدعاء الأول الذي حكاه القرآن عن المؤمنين الصادقين .الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 533)
(3) - وَالذِينَ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَصَدَّقُوا رُسُلَ اللهِ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، بِجَوارِحِهِمْ ، فَهَؤُلاَءِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِيهَا أَبَداً .
وَالإِيمَانُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ سَهْلانِ مَيْسُورٌ فِعْلُهُمَا لِجَمِيعِ النَّاسِ ، لأنَّ اللهَ لاَ يُكَلِّفُ أَحَداً إلاَّ قَدْرَ طَاقَتِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ .

(42) سورة الأعراف، وَقَالَ تَعَالَى : {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1)(152) سورة الأنعام. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) } (2)[البقرة/136]، وَقَالَ تَعَالَى : { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }(3)
__________
(1) - وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى ، فِي هَذِهِ الآيَةِ ، بَيَانَ مَا أَوْصَى بِهِ النَّاسَ ، وَمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ ، فَيَقُولُ تَعَالَى : وَمِمَّا أَوْصَى بِهِ النَّاسَ : ألاَّ يَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ ، إذَا وَلُّوا أَمْرَهُ ، أَوْ تَعَامَلُوا مَعَهُ ، إلاَّ بِالطَّرِيقَةِ الحَسَنَةِ ( إلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ ) التِي تَحْفَظُ مَالَهُ ، وَتُثَمِّرُهُ ، وَتُرَجِّحُ مَصْلَحَتَهُ ، وَأَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ تَرْبِيَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ ، وَأَنْ يَسْتَمِرَّ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ اليَتِيمُ سِنَّ الرُّشْدِ ، وَالقُوَّةِ وَالقُدّرَةِ عَلَى الإِدْرَاكِ وَالتَّصَرُّفِ .
وَلَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ ، فَأَخَذُوا فِي عَزْلِ مَالِ اليَتِيمِ وَطَعَامِهِ ، عَنْ مَالِهِمْ ، فَكَانَ طَعَامُ اليَتِيمِ يَفْسَدُ ، لاَ يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِمَّنْ هُوَ عِنْدَهُمْ . فَشَكَوا ذَلِكَ لِلْنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ . } فَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُ النَّاسَ بِمُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ اليَتِيمِ ، وَالعِنَايَةِ بِمَالِهِ ، وَعَدَمِ التَّصَرُّفِ فِيهِ إلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ ، وَيُحَذِّرَهُمْ تَعَالَى مِنَ التَّجَاوُزِ عَلَى مَالِ اليَتِيمِ .
وَيَقُولُ تَعَالَى : إنَّ مِمَّا أَوْصَى بِهِ النَّاسَ أَيْضاً : إِيفَاءَ الكَيْلِ وَالمِيْزَانِ عِنْدَ البَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَعَدَمَ غَمْطِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ وَاللهُ تَعَالَى يَدْعُو المُؤْمِنَ أَنْ يَبْلُغَ جُهْدَهُ فِي أَدَاءِ ذَلِكَ ، فَإِذَا بَلَغَ جُهْدَهُ ، وَعَمِلَ مَا فِي وُسْعِهِ ، يَكُونُ قَدْ قَامَ بِأَمْرِ اللهِ ، وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ إِن أَخَطَأَ بَعْدَ ذَلِكَ ، لأنَّ اللهَ لاَ يُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها ، وَقَدرَ طَاقَتِهَا .
وَيَقُولُ تَعَالَى : إنَّ مِمَّا وَصَّى بِهِ النَّاسَ أَيْضاً العَدْلُ فِي القَوْلِ واَلفِعْلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَفِي كُلِّ حَالٍ : فِي الشَّهَادَةِ وَفِي الحُكْمِ وَفِي الكَيْلِ وَالمِيْزَانِ ، وَلَوْ كَانَ الأَمْرُ يَتَعَلَّقُ بِقَرِيبٍ ، فَإِنَّ القَرَابَةَ وَالصَّدَاقَةَ يَجِبُ ألاَّ تَصْرِفَا الإِنْسَانَ عَنْ قَوْلِ الحَقِّ ، وَعَنِ العَدْلِ فِيهِ .
كَمَا يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالوَفَاءِ بِعَهْدِ اللهِ ، وَالقِيَامِ بِطَاعَتِهِ ، فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى ، وَفِيمَا عَاهَدُوا النَّاسَ عَلَيْهِ .
وَهَذَا مَا أَوْصَى بِهِ اللهُ المُؤْمِنِينَ ، وَأَمَرَهُمْ بِهِ ، وَأَكَّدَ عَلَيهِ .
وَيَقُولُ تَعَالَى : إذَا اجْتَهَدْتُمْ بِالوَفَاءِ بِمَا أَمَرَ اللهُ ، وَتَوَاصَيْتُمء بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَيْتُمْ عَنِ المُنْكَرِ ، فَلَعَلَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ تَتَّعِظُونَ ، وَتَنْتَهُونَ عَمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلِ .
(2) - وَقُولُوا يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ لِهؤُلاءِ وَهؤُلاءِ : إِنّنا نُؤْمِنُ بمَا أُنزِلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَلَى جَميعِ الأَنبياءِ وَالمُرْسَلِينَ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ لِرَبِّنا . ( كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ مِنَ اليَهُودِ يَقْرَؤُونَ التَّورَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَها لِلمُسْلِمينَ بِالعَرَبِيَّةِ ، فَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم : " لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ ، وَقُولُوا : آمَنَّا باللهِ وَمَا أُنزِلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ " .
(3) - لاَ شَكَّ في أَنَّ هَذَا القُرآنَ ( الكِتَابُ ) مُنْزَلٌ مِنْ عِندِ اللهِ ، وَهُوَ هُدًى وَنُورٌ يَهتَدِي بِهِ المُتَّقُونَ ، الذِينَ يَجتَهِدُونَ في العَمَلِ بِطَاعَةِ اللهِ ، وَيَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَأَسْبَابَ العِقَابِ .
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بِحَزمٍ وَإيمانٍ وإِذعَانٍ بما لاَ يَقَعُ تَحْتَ حَواسِّهِمْ ( الغَيْبِ ) فَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَبِمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَنَّتِهِ وَلِقَائِهِ ، وَبِالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ . وَهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَيُؤَدُّونَها حَقَّ أَدَائِهَا وَيُتِمُّونَ - بِخُشُوعٍ تَامٍّ ، وَحُضُورِ قَلْبٍ - رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَتِلاوَتَهَا ، وَيُنْفِقُونَ ممَّا رَزَقَهُمُ اللهُ في وُجُوهِ الخَيرِ ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ .
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بما جِئْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَبمَا أُنزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ ، لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ ، وَلا يَجْحَدُونَ بما جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ بِصِدْقِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُوَّاتُ مِنَ البَعْثِ وَالحِسَابِ في الآخِرَةِ .
فَهؤُلاءِ المُتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ : مِنْ إِيمَانٍ باللهِ ، وَإِيمَانٍ بِالبَعْثِ وَالحِسَابِ ، وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ ، وَتَأْدِيةِ الزَّكَاةِ . . . هُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ ، وَهُمُ المُفْلِحُونَ الفَائِزُونَ الذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوهُ بعدَ السَّعيِ الحَثِيثِ فِي الحُصُولِ عَليهِ ، وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا اجْتَنَبُوهُ .

[البقرة/1-5]، وَقَالَ تَعَالَى : {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1)(177) سورة البقرة. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ يَسُوغُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ اتِّبَاعُ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِمْ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْرِطًا فِي الْجَهْلِ .
وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْمَشَايِخِ كَقَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّهُ لَيَقَعُ فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (2)
__________
(1) - بَعْدَ أَن حَوَّلَ اللهُ قِبْلَةَ المُسْلِمِينَ مِنْ بَيْتِ المَقْدِسِ إِلى البَيتِ الحَرامِ ، شَقَّ ذلِكَ عَلَى نُفُوسِ طَائِفَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ ، وَأَخَذَ اليَهُودُ فِي الدَّسِّ والنَّقْدِ بُغْيَةَ زَعْزَعَةِ ثِقةِ المُسِلِمِينَ بِرَبِّهِمْ وَنَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم ، فَأَوْضَحَ اللهُ فِي عَدَدٍ مِنَ الآيَاتِ حِكْمَتِهِ مِنْ ذلِكَ ، وَهِيَ : أَنَّ المُرَادَ أَسَاساً هُوَ طَاعَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَامْتِثَالُ أَوَامِرِهِ ، وَالتَّوَجُّهِ حَيثُما أَمَرَ وَوَجَّهَ ، فَهذا هُوَ البِرُّ وَالتَّقوَى وَالإِيمَانُ الكَامِلُ ، وَليسَ فِي التَّوجُّهِ نَحْوَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ بِحَدِّ ذَاتِهِ طَاعَةٌ ولا بِرٌّ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ شَرْعِ اللهِ وَأَمْرِهِ . فَالبِرُّ يَقُومُ بِالإِيمَانِ بِاللهِ ، وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلاَئِكَةِ ، وَالكِتَابِ المُنْزَلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَالإيمَانِ بِالنَّبِيِّينَ الذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللهُ إِلى النَّاسِ ، وَبِإِنْفَاقِ المَالِ فِي طَاعَتِهِ - وَالإِنْسَانُ حَيٌ سَلِيمٌ صَحِيحٌ يَأْملُ العَيْشَ ، وَيَخْشَى الفَقْرَ - عَلَى ذَوِي قُرْبَاهُ ، وَعَلَى اليَتَامَى الذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ ، وَهُمْ صِغَارٌ غَيْرُ قَادِرِينَ عَلَى الكَسْبِ ، وَعَلى المَسَاكِينِ الذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يَكْفِيهِمْ فِي قُوتِهِمْ وَمَسْكِنِهِمْ وَكُسْوَتِهِمْ ، وَعَلَى ابنِ السَّبيلِ - وَهُوَ المُسَافِرُ المُجْتَازُ الذِي نَفَدَتْ نَفَقَتُهُ - وَعَلَى مَنْ يُريدُ سَفَراً فِي طَاعَةِ اللهِ فَيُعطَى مَا يَكْفِيهِ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَّابِهِ ، وَعَلَى السَّائِلِينَ الذِينَ يَتَعرَّضُونَ لِلسُّؤالِ ، وَعَلَى العَبيدِ المُكَاتَبِينَ الذِين لاَ يَجِدُونَ مَا يُؤَدُّونَهُ في كِتَابَتِهِمْ .
كَمَا أَنَّ البِرَّ يَقُومُ : بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ ( وَإِتمَامِ أَفْعَالِهَا بِخُشُوعٍ تَامِّ فِي أَوْقَاتِهَا وَإِتْمَامِ رُكُوعِهِا وَسُجُودِها ) ، وَبِدَفْعِ الزَّكَاةِ ، وَبِالتَّمسُّكِ بالعُهُودِ والمَواثِيقِ وَعَدَمِ النَّكْثِ بِها ، وَبِالصَّبرِ فِي البَأْسَاءِ - أَيْ فِي حَالِ الفَقْرِ - وَفِي الضَّرَّاءِ - أَيْ فِي حَالِ المَرَضِ - ، وَالصَّبرِ حِينَ البَأْسِ - أَيْ فِي حَالَةِ القِتالِ وَلِقَاءِ الأَعْدَاءِ- .
فَالذِينَ اتَّصَفُوا بِالصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ هُمُ البَرَرَةُ الذِينَ صَدقُوا فِي إِيمَانِهِمْ ، وَفَازُوا بِرِضَا اللهِ .
( وَقَدْ نَصَبَ اللهُ تَعَالَى الصَّابِرينَ عَلَى المَدْحِ والثَّناءِ عَلَى الصَّبرِ ، وَالحَثِّ عَليهِ لِشِدَّتِهِ ، وَصُعُوبَةِ احِتِمَالِهِ عَلَى النُّفُوسِ ) .
(2) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 44):
وَجِمَاعُ الدِّينِ أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَعْبُدُهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ وَلَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } . قَالَ الفضيل بْنُ عِيَاضٍ : أَخْلَصَهُ وَأَصْوَبَهُ قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ . قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ . وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ . حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الفضيل مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمَشَايِخِ كَمَا قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّهُ لَتَمُرُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ اثْنَيْنِ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا : لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَسْمَعَ فِيهِ بِأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَ بِأَثَرٍ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ . وَقَالَ الجنيد : عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنَّ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا هَذَا وَقَالَ سَهْلٌ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَالَ : كُلُّ عَمَلٍ عَلَى ابْتِدَاعٍ فَإِنَّهُ عَذَابٌ عَلَى النَّفْسِ وَكُلُّ عَمَلٍ بِلَا اقْتِدَاءٍ فَهُوَ غِشُّ النَّفْسِ . وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ : مَنْ أَمَرَّ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ وَمَنْ أَمَرَّ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْلُكَ إلَى اللَّهِ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ لِأُمَّتِهِ فَهُوَ الدَّاعِي إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ الْهَادِي إلَى صِرَاطِهِ الَّذِي مَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ . آخِرَهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 46)
فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْلَمَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا يُقَرِّبُ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ وَلَا شَيْئًا يُبْعِدُ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ وَأَنَّ هَذَا السَّمَاعَ لَوْ كَانَ مَصْلَحَةً لَشَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَإِذَا وَجَدَ فِيهِ مَنْفَعَةً لِقَلْبِهِ وَلَمْ يَجِدْ شَاهِدَ ذَلِكَ لَا مِنْ الْكِتَابِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ . قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّهُ لَتَلُمُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا : لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَجِدَ فِيهِ أَثَرًا فَإِذَا وَجَدَ فِيهِ أَثَرًا كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ . وَقَالَ الجنيد بْنُ مُحَمَّدٍ : عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا .
وفي كتاب فضل علم السلف على الخلف - (ج 1 / ص 6)
ومما أحدث من العلوم الكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب وتوابع ذلك بمجرد الرأي والذوق أو الكشف وفيه خطر عظيم: وقد أنكره أعيان الأئمة كالإمام أحمد وغيره: وكان أبو سليمان يقول أنه لتَمُرُّ بي النكتةُ من نُكَتِ القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة.
وقال الجنيد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في علمنا هذا:
وفي بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 1 / ص 286)
وَقَوْلُهُ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنِي مُؤْنَةَ الْأَكْلِ وَمُؤْنَةَ النِّسَاءِ ثُمَّ قُلْت كَيْفَ يَجُوزُ لِي أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى هَذَا وَلَمْ يَسْأَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَسْأَلْهُ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ كَفَانِي مُؤْنَةَ النِّسَاءِ حَتَّى لَا أُبَالِيَ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ أَوْ حَائِطٌ .
( وَقَالَ أَبُو سَلْمَانَ الدَّارَانِيُّ ) نِسْبَةً إلَى دَارَيَّا قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى دِمَشْقَ مَاتَ سَنَةَ خَمْسَ عَشَرَةَ وَمِائَتَيْنِ ( رُبَّمَا تَقَعُ ) بِطَرِيقِ الْفَيْضِ ( فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ ) الدَّقِيقَةُ مِنْ غَوَامِضِ الْأَسْرَارِ وَمُنَازَلَاتِ الْأَخْيَارِ وَتَجَلِّيَاتِ الْأَنْوَارِ ( مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ ) أَيْ الصُّوفِيَّةِ جَمْعُ نُكْتَةٍ مِنْ النُّكَتِ وَهُوَ أَنْ يَنْكُتَ فِي الْأَرْضِ بِقَضِيبٍ أَيْ يَضْرِبُ فَيُؤَثِّرُ فِيهَا وَالنُّكْتَةُ كَالنُّقْطَةِ كَمَا فِي الْجَوْهَرِيِّ وَكَأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا تَنْكُتُ فِي الْقَلْبِ أَيْ تُؤَثِّرُ فِيهِ بِلُطْفِ بَلَاغَتِهَا ( أَيَّامًا ) الظَّاهِرُ التَّنْوِينُ لِلتَّكْثِيرِ ( فَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ قَلْبِي ( إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ ) ثِقَتَيْنِ ( مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ) بَيَانٌ لِلشَّاهِدَيْنِ ، فَإِنَّهُمَا عَدْلَانِ مُطْلَقًا أَوْ عَدْلُ الْكِتَابِ مَا يَكُونُ تَوَاتُرًا دُونَ قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ وَكَانَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى عَلَى وَجْهِ الظُّهُورِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْخَفَاءِ وَعَدْلُ السُّنَّةِ هُوَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ دُونَ الضَّعِيفَةِ .
وفي بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 1 / ص 286)
وَقِيلَ عَنْ ابْنِ الْهُمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ وَيُسْتَحَبُّ الْعَمَلُ فِي الْفَضَائِلِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا أَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِعَدَمِ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ إذْ الْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَأَوْرَدَ الْعَلَّامَةُ الدَّوَانِيُّ أَنَّ مَآلَ الْفَضَائِلِ رَاجِعٌ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا وَجْهَ لِتَقْيِيدٍ كَالْجَوَازِ وَالِاسْتِحْبَابِ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ نَحْوِ الِاسْتِحْبَابِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَثْبُتُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ .
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ جَوَازُ رِوَايَةِ الضَّعِيفِ فِيمَا ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ فِي فَضِيلَةِ شَيْءٍ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ هَذَا الْمُحَقِّقُ هَذَا إرَادَةَ مَعْنًى مِنْ لَفْظٍ لَا يَتَحَمَّلُهُ عَلَى أَنَّ رِوَايَتَهُ فِيمَا لَمْ يَثْبُتْ بِالصَّحِيحِ جَائِزَةٌ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى ضَعْفِهِ ، وَالتَّعْوِيلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَحْتَمِلْ لِلْحَظْرِ ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ وَيُسْتَحَبُّ لِلْأَمْنِ مِنْ الْحَظْرِ وَرَجَاءِ النَّفْعِ فَعُمِلَ بِالِاحْتِيَاطِ ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّقْلِ أَيْضًا صَرِيحُ الرَّدِّ لَهُمْ فِي أَنَّهُمْ ادَّعَوْا مُتَارَكَةَ الشَّرِيعَةِ فِي الْوُصُولِ وَمِمَّا نُقِلَ عَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ أَحْسَنَ فِي نَهَارِهِ كُوفِيَ فِي لَيْلِهِ وَمَنْ أَحْسَنَ فِي لَيْلِهِ كُوفِيَ فِي نَهَارِهِ وَمَنْ صَدَقَ فِي تَرْكِ شَهْوَةٍ ذَهَبَ اللَّهُ بِهَا مِنْ قَلْبِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَ قَلْبًا تَرَكَ شَهْوَةً لَهُ وَأَيْضًا إذَا سَكَنَتْ الدُّنْيَا الْقَلْبَ تَرَحَّلَتْ مِنْهُ الْآخِرَةُ . وانظر : الرسالة القشيرية - (ج 1 / ص 14) وصفة الصفوة - (ج 1 / ص 469) وبريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 1 / ص 192) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 433)

.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الجنيد رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ : عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا أَوْ قَالَ : لَا يُقْتَدَى بِهِ (1).
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ(2): مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ ،وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ (3)
__________
(1) - وقال ابن عربي في الفتوحات المكية - (ج 5 / ص 6)
ولكن لا يخرج علم هذا الولي عن الذي جاء ذلك الرسول به من الوحي عن الله وكتابه وصحيفته لابد من ذلك لكل ولي صديق برسوله إلا هذه الأمة فإن لهم من حيث صديقيتهم بكل رسول ونبي العلم والفتح والفيض الإلهي بكل ما يقتضيه وحي كل نبي وصفته وكتابه وصحيفته وبهذا فضلت على كل أمة من الأولياء فلا يتعدى كشف الولي في العلوم الإلهية فوق ما يعطيه كتاب نبيه ووحيه قال الجنيد في هذا المقام علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة وقال الآخر كل فتح لا يشهد له الكتاب والسنة فليس بشيء فلا يفتح لولي قط إلا في الفهم في الكتاب العزيز فلهذا قال ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال في ألواح موسى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فلا يخرج علم الولي جمله واحدة عن الكتاب والسنة فإن خرج أحد عن ذلك فليس بعلم ولا علم ولاية معاً بل إذا حققته وجدته جهلاً والجهل عدم والعلم وجود محقق فالولي لا يأمر أبداً بعلم فيه تشريع ناسخ لشرعه ولكن قد يلهم الترتيب صورة لا عين لها في الشرع من حيث مجموعها ولكن من حيث تفصيل كل جزء منها وجدته أمراً مشروعاً فهو تركيب أمور مشروعة أضاف بعضها إلى بعض هذا الولي أو أضيفت له بطريق الإلقاء أو اللقاء أو الكتابة فظهر بصورة لم تظهر في الشرع بجمعيتها فهذا القدر له من التشريع وما خرج بهذا الفعل من الشرع المكلف به فإن الشارع قد شرع له أنه يشرع مثل هذا فما شرع إلا عن أمر الشارع فما خرج عن أمره فمثل هذا قد يؤمر به الولي من هناك وأما خلاف هذا فلا فإن قلت وأين جعل الله للولي العالم ذلك بلسان الشرع قلنا قال صلى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً فقد سن له أن يسن ولكن مما لا يخالف فيه شرعاً مشروعاً ليحل به ما حرم أو يحرم به ما حلل فهذا حظ الولي من النبوة إذا سن من هنالك وهو جزء من أجزاء النبوة كما هي المبشرات من أجزاء النبوة وكثير من الأشياء على ذلك .
فضل علم السلف على الخلف - (ج 1 / ص 6) والرسالة القشيرية - (ج 1 / ص 18) والفتوحات المكية - (ج 1 / ص 476) والفتوحات المكية - (ج 2 / ص 251) والفتوحات المكية - (ج 2 / ص 283) والفتوحات المكية - (ج 3 / ص 249) والفتوحات المكية - (ج 4 / ص 447)
(2) - الرسالة القشيرية - (ج 1 / ص 19) وحلية الأولياء - (ج 4 / ص 368) وصفة الصفوة - (ج 1 / ص 429) ومدارج السالكين - (ج 2 / ص 466) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4232) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4933) و مفاهيم يجب أن تصحح لابن علوي - (ج 1 / ص 15)
(3) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 584)
. وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَرِّمُونَ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ أَشْيَاءَ وَيَتَّخِذُونَ ذَلِكَ دِينًا وَكَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَدْ عَزَمُوا عَلَى التَّرَهُّبِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا } الْآيَةَ .
وَجِمَاعُ الدِّينِ أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَعْبُدُهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ وَلَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } . قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ : أَخْلَصَهُ وَأَصْوَبَهُ قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ . قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ . وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ . حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْفُضَيْل مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمَشَايِخِ كَمَا قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّهُ لَتَمُرُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ اثْنَيْنِ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا : لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَسْمَعَ فِيهِ بِأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَ بِأَثَرٍ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ . وَقَالَ الْجُنَيْد : عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنَّ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا هَذَا وَقَالَ سَهْلٌ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَالَ : كُلُّ عَمَلٍ عَلَى ابْتِدَاعٍ فَإِنَّهُ عَذَابٌ عَلَى النَّفْسِ وَكُلُّ عَمَلٍ بِلَا اقْتِدَاءٍ فَهُوَ غِشُّ النَّفْسِ .
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ : مَنْ أَمَرَّ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ وَمَنْ أَمَرَّ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْلُكَ إلَى اللَّهِ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ لِأُمَّتِهِ فَهُوَ الدَّاعِي إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ الْهَادِي إلَى صِرَاطِهِ الَّذِي مَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ . آخِرَهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .

؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كَلَامِهِ الْقَدِيمِ :{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1)(54) سورة النور ،وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ نجيد : كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ (2)
__________
(1) - قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : أطِيعُوا الله ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ طَاعَةً صَادِقَةً ، واتَّبِعُوا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُوِلِهِ ، فَفِي اتِّبَاعِهِمَا الهِدَايَةُ والرَّسَادُ ، أَمَّا إِذَا تَوَلَّيْتُمْ وأَعْرَضْتُم وَتَرَكْتُم مَا جَاءَكُم بِهِ رَسُولُ اللهِ ، فَعَلَى الرُّسُولِ إِبْلاَغُ الرِّسَالَةِ ، وأَدَاءُ الأَمَانَةِ ( عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ) ، فَهِيَ مَا حَمَّلَهُ اللهُ ، أَمَّا أَنْتُمْ فَقَدْ حُمِّلْتُمْ قَبُولَ ذَلِكَ ، والإِيْمَانَ بِهِ وتَعْظِيمَهُ ، والقِيَامَ بِمُقْتَضَاهُ ، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَبْلُغُوا الهِدَايَةَ لأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى صِرَاطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ ، والرَّسُولُ مُكَلَّفٌ بِدَعْوَتِكُمْ وَإِبْلاَغِكُمْ
(2) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 452)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مِنْ أَحْمَدَ ابْنِ تَيْمِيَّة : إلَى الشَّيْخِ الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ السَّالِكِ النَّاسِكِ أَبِي الْفَتْحِ نَصْرٍ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مَا فَتَحَ بِهِ عَلَى قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ وَنَصَرَهُ عَلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي جَهْرِهِ وَإِخْفَائِهِ وَنَهَجَ بِهِ الطَّرِيقَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ الْمُوَافِقَةَ لِشِرْعَتِهِ وَكَشَفَ بِهِ الْحَقِيقَةَ الدِّينِيَّةَ الْمُمَيَّزَةَ بَيْنَ خَلْقِهِ وَطَاعَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ ؛ حَتَّى يَظْهَرَ لِلنَّاسِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّةِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الصَّالِحِينَ وَمَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَمَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ .
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الشَّيْخِ وَأَنْعَمَ بِهِ نِعْمَةً بَاطِنَةً وَظَاهِرَةً فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَجَعَلَ لَهُ عِنْدَ خَاصَّةِ الْمُسْلِمِينَ - الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا - مَنْزِلَةً عَلِيَّةً وَمَوَدَّةً إلَهِيَّةً ؛ لِمَا مَنَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ حُسْنِ الْمَعْرِفَةِ وَالْقَصْدِ فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِرَادَةَ أَصْلٌ لِطَرِيقِ الْهُدَى وَالْعِبَادَةِ . وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْمَلِ مَحَبَّةٍ فِي أَكْمَلِ مَعْرِفَةٍ فَأَخْرَجَ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْأَعْمَالِ - الْمَحَبَّةَ الَّتِي فِيهَا إشْرَاكٌ وَإِجْمَالٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } . وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلذَّوْقِ الْإِيمَانِيِّ وَالْوَجْدِ الدِّينِيِّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُودَ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ مُعَلَّقًا بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْفَاضِلَةِ وَبِالْمَحَبَّةِ فِيهِ فِي اللَّهِ وَبِكَرَاهَةِ ضِدِّ الْإِيمَانِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَبَّاسِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا } فَجَعَلَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ مُعَلَّقًا بِالرِّضَى بِهَذِهِ الْأُصُولِ كَمَا جَعَلَ الْوَجْدَ مُعَلَّقًا بِالْمَحَبَّةِ ؛ لِيُفَرِّقَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَثَمَرَةُ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَبَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ إذْ كَانَ كُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا فَلَهُ ذَوْقٌ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ . وَلِهَذَا طَالَبَ اللَّهُ تَعَالَى مُدَّعِي مَحَبَّتِهِ بِقَوْلِهِ : { إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : ادَّعَى قَوْمٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ ؛ فَطَالَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَجَعَلَ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ مُوجِبَةً لِمُتَابَعَةِ رَسُولِهِ وَجَعَلَ مُتَابَعَةَ رَسُولِهِ مُوجِبَةً لِمَحَبَّةِ الرَّبِّ عَبْدَهُ . وَقَدْ ذَكَرَ نَعْتَ الْمُحِبِّينَ فِي قَوْلِهِ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } فَنَعَتَ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ بِوَصْفِ الْكَمَالِ الَّذِي نَعَتَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الْجَامِعِ بَيْنَ مَعْنَى الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ الْمُفَرِّقِ فِي الْمِلَّتَيْنِ قَبْلَنَا : وَهُوَ الشِّدَّةُ وَالْعِزَّةُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَالذِّلَّةُ وَالرَّحْمَةُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَهُ وَجْدٌ وَحُبٌّ مُجْمَلٌ مُطْلَقٌ كَمَا قَالَ فِيهِ كَبِيرٌ مِنْ كُبَرَائِهِمْ :
مُشَرَّدٌ عَنْ الْوَطَنِ * * * مُبْعَدٌ عَنْ السَّكَنِ
يَبْكِي الطُّولُ والدمن * * * يَهْوِي وَلَا يَدْرِي لِمَنْ
فَالشَّيْخُ - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْهِ - قَدْ جَعَلَ اللَّهَ فِيهِ مِنْ النُّورِ وَالْمَعْرِفَةِ - الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ - مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَحَبَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الْمُفَصَّلَةُ عَنْ الْمُجْمَلَةِ الْمُشْتَرِكَةُ وَكَمَا يَقَعُ هَذَا الْإِجْمَالُ فِي الْمَحَبَّةِ يَقَعُ أَيْضًا فِي التَّوْحِيدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أُمِّ الْكِتَابِ الَّتِي هِيَ مَفْرُوضَةٌ عَلَى الْعَبْدِ - وَوَاجِبَةٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ - أَنْ يَقُولَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ : نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي أَوْ قَالَ فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ : فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } . وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ مَعَانِيَهَا فِي الْقُرْآنِ وَمَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ وَمَعَانِيَ الْمُفَصَّلِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَمَعَانِيَ أُمِّ الْكِتَابِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ ثناه اللَّهُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَوْلِهِ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } . { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي نُسُكِهِ : اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَلَك } . فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقُّ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ دُعَاؤُهُ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لِي : دُعَاءُ الْعِبَادَةِ بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْخَشْيَةِ وَالرَّجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي تَأَلُّهِهِ وَعِبَادَتِهِ وَدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ وَالسُّؤَالِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُ سُبْحَانَهُ بِمُقْتَضَى رُبُوبِيَّتِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ . وَلِهَذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةِ فِي الْعِبَادَةِ بِاسْمِ اللَّهِ وَفِي السُّؤَالِ بِاسْمِ الرَّبِّ فَيَقُولُ الْمُصَلِّي وَالذَّاكِرُ : اللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ ؛ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكَلِمَاتُ الْأَذَانِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إلَى آخِرِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَفِي السُّؤَالِ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } { رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ } { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } { رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ .
مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 718)
وَأَصْلُ مَا يُبْتَلَى بِهِ السَّالِكُونَ أَهْلُ الْإِرَادَةِ وَالْعَامَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ هِيَ " الْقَدَرِيَّةُ المشركية " فَيَشْهَدُونَ الْقَدَرَ وَيُعْرِضُونَ عَنْ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ . وَإِنَّمَا الْمَشْرُوعُ الْعَكْسُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الطَّاعَةِ يَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْفِعْلِ وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْفِعْلِ وَيَجْتَهِدُ أَنْ لَا يَعْصِيَ فَإِذَا أَذْنَبَ وَعَصَى بَادَرَ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَمَا فِي حَدِيثِ سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ : { أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي } وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ { يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ فِي تَرْكِ الدُّعَاءِ وَآخَرُونَ جَعَلُوا التَّوَكُّلَ وَالْمَحَبَّةَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَغَالِيطِ الَّتِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ فِي ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ الْوَصِيَّةُ بِاتِّبَاعِ الْعِلْمِ وَالشَّرِيعَةِ حَتَّى قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ . وَقَالَ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ : عِلْمُنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 2194)
رقم الفتوى 31967 سبيل الوصول إلى الله التزام الكتاب والسنة
تاريخ الفتوى : 11 ربيع الأول 1424
السؤال
ما هو رأي سيادتكم فى الطرق الصوفية كطريق للوصول إلى الله؟ مع وجود أشياء كثيره محيرة مثل التوسل بالموتى من أولياء الله الصالحين واعتبارهم لا زالوا ذوي نفوذ فى قضاء مصالح الناس حتى بعد موتهم، وأيضا زيارة الأضرحة والطواف حولها والذبح عندها على سبيل الصدقة، وأيضا تقبيل أيدي المشايخ وتبجيلهم بدرجة مبالغ فيها، وسلوكيات كثيرة محيرة جداً؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن السبيل الصحيح إلى معرفة الحق هو الكتاب والسنة على مقتضى فهم سلف هذه الأمة الصالح، فقد قال الله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى:10]، وقال سبحانه: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:115].
فالدين الحق هو ما كان عليه الصدر الأول، قبل أن يقع الاختلاف في هذه الأمة وقبل أن يتفرق الناس إلى شيع وأحزاب، لذا فقد أثر عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: ما لم يكن يومئذ ديناً فلن يكون اليوم دينا. انتهى.
وقد كان الأوائل من أهل التصوف يحثون على اتباع الكتاب والسنة، فها هو الجنيد يقول: علمنا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث، لا يصح أن يتكلم في علمنا. انتهى.
وقال سهل بن عبد الله تستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل. انتهى.
ثم خلف من بعد هؤلاء خلف خلطوا التصوف بالفلسفة، فنتج عن ذلك مذهب باطل، ومنهج منحرف، لا تجوز نسبته إلى الإسلام دين الفطرة بحال، بل هو فكر باطني خبيث يقوم على كثير من الباطل، فلبسوا به على العوام، وأفسدوا عقائدهم إلا من رحم ربي، ولمزيد من الفائدة تراجع الفتوى رقم: 8500 ، والفتوى رقم: 596 .
وأما ما ذكره السائل من بعض الانحرافات، فنحيله على بعض الفتاوى السابقة فيها، فالتوسل في الفتوى رقم:الفتوى رقم: 16690 ، والفتوى رقم: 14955 .
وبدع القبور في الفتوى رقم: 30053 ، والفتوى رقم: 9943 .
وتقبيل اليد في الفتوى رقم: 906 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
وانظر : إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 138)

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11