كتاب : الفرقانُ بينَ أولياءِ الرَّحمَنِ وأولياءِ الشَّيْطانِ
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
فَلَفْظُ ( مَعَ ) لَا تَقْتَضِي فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مُخْتَلِطًا بِالْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}(1) (119) سورة التوبة، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (2)(29) سورة الفتح ،وقَوْله تَعَالَى:{وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(3) (75) سورة الأنفال .
وَلَفْظُ ( مَعَ ) جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ عَامَّةً وَخَاصَّةً ؛فَ " الْعَامَّةُ " فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَةِ الْمُجَادَلَةِ :{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4)(7) سورة المجادلة، فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِالْعِلْمِ وَخَتَمَهُ بِالْعِلْمِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : هُوَ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ .(5)
__________
(1) - يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ، وَرَاقِبُوهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَوَاجِبَاتِهِ ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ ، وَاصْدقوا وَالزَمُوا الصِّدْقَ تَكُونُوا أَهْلَهُ ، وَتَنْجُوا مِنَ المَهَالِكِ ، وَيَجْعَلُ اللهُ لَكُمْ فَرَجاً مِنْ أُمُورِكِمْ وَمَخْرَجاً .
(2) - إِن مُحمداً صلى الله عليه وسلم رَسُولُ اللهِ حَقّاً وَصِدْقاً ، بِلاَ شَكٍّ وَلاَ رَيبٍ ، وَإِنَّ أصْحَابَهُ يَتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ الجَمِيلةِ الحَسَنةِ ، فَهُمْ أشِدَّاءٌ غِلاَظُ القُلُوبِ عَلَى الكُفارِ ، وَهُمْ رُحَماءُ مُتَوَادُّونَ فيما بَيْنَهم يَرَاهُم النَّاظِرُ إليهِمْ دَائِبينَ عَلَى أدَاءِ الصَّلاةِ ، مُخْلِصِينَ فيها للهِ ، مُحْتَسِبينَ أجْرَهَا عِنْدَ اللهِ ، يَبْتَغُونَ بِصَلاتِهِمْ رِضَا اللهِ وَرِضْوَانَهُ ، تَتْرُكُ نُفُوسُهُمُ المُطْمَئِنَّةُ أَثَراً عَلَى وُجُوهِهِمْ ، فَهِي هَادِئَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ مَسْتَبْشِرَةٌ ، وَهَذِهِ هِيَ صِفَاتُ المُؤمِنينَ المُخْلِصِينَ في التورَاةِ . وَجَاءَ وَصْفُهُمْ في الإِنجيلِ أَنَّ أتْبَاعَ مُحَمَّدٍ سَيَكُونُونَ قَليلينَ ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيكْثُرُونَ وَيَسْتَغْلظُونَ كَزَرْعٍ أخْرَجَ مُحَمَّدٍ سَيَكُونُونَ قَلِيلينَ ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ وَيَسْتَغْلظُونَ كَزَرْعٍ أخْرَجَ فُروعَهُ ( شَطْأهُ ) التي تَتَفَرَّعُ مِنْهُ عَلَى جَوَانِبِهِ ، فَيَقْوى وَيَتَحَوَّلُ من الدِّقَّةِ إِلى الغِلْظَةِ ، وَيَسْتَقيمُ عَلَى أصُولِهِ فَيُعْجَبُ بِهِ الزَّراعِ لِخِصْبِهِ ، وَقُوَّتِهِ ، وَحُسْنِ مَظْهَرِهِ ، وَقَدْ نَمَّاهُمُ اللهُ وأكْثَرَ عَدَدَهُم لِيَغِيظَ بهم الكُفَّارَ ، وَقَدْ وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، العَامِلِينَ للصَّالِحَاتِ ، بأن يَغْفِرَ لَهُمْ ذُنُوبَهمْ ، وَأنْ يُجْزِلَ لَهُمُ الأجْرَ والعَطَاءَ ، وبِأنْ يُدْخِلَهُمْ جَنَّاتِهِ ، وَاللهُ لاَ يُخْلِفَ وَعْدَهُ أبَداً .
(3) - يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الذِينَ يَتَّبِعُونَ المُؤْمِنِينَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ إِيمَانٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ ، وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللهِ ، يَكُونُونَ مَعَ السَّابِقِينَ فِي الآخِرَةِ . وَذَوُو الأَرْحَامِ مِنَ الأَقَارِبِ جَمِيعاً لَهُمْ وَلاَيَةُ القَرَابَةِ ، وَبَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي المَوَدَّةِ وَالمَالِ وَالنُّصْرَةِ كَمَا شَرَعَ اللهُ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيءٍ فِي هَذَا الوُجُودِ .
(4) - وَكَيْفَ لاَ يَعْلَمُ اللهُ مَا عَمِلَ هَؤُلاَءِ ، وَهُوَ خَالقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَالِكُهُمَا ، وَالمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا ، وَيَعْلَمُ مَا فِيهِمَا ، فَلا يَتَنَاجَى ثَلاَثَةٌ إِلاَّ كَانَ مَعَهُمْ يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ ، وَيَعْلَمُ مَا يُدَبِّرُونَ ، وَلاَ يَجْتَمِعُ خَمْسَةٌ إِلاَّ وَيَكُونُ اللهُ تَعَالَى سَادِسَهُمْ ، وَلاَ يَجْتَمِعُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ العَدَدِ وَلاَ أَقَلُّ ، وَلاَ يَتَنَاجَوْنَ إِلاَّ كَانَ مَعَهُمْ يسْمَعُ وَيَرى ، وَيُثْبِتُ ذَلِكَ عِنْدَهُ ، ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يُنَبِّئُهُمْ بِنَجْوَاهُمْ وَأَسْرَارِهِمْ ، وَاللهُ تَعَالَى عَالمٌ وَلاَ تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِ خَلْقِهِ .
(5) - انظر مجموع الفتاوى - (ج 5 / ص 102)
وَأَمَّا " الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ " فَفِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}(1) (128) سورة النحل، وقَوْله تَعَالَى لِمُوسَى : {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } (2)(46) سورة طه ،وَقَالَ تَعَالَى : {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(3) (40) سورة التوبة ،يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ دُونَ فِرْعَوْنَ، وَمَعَ مُحَمَّدٍ وَصَاحِبِهِ دُونَ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ ،وَمَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ دُونَ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ .
__________
(1) - إِنَّ اللهَ مُؤَيِّدٌ بِنَصْرِهِ وَعَوْنِهِ وَهُدَاهُ الذِينَ آمَنُوا ، وَاتَّقَوْا مَحَارِمَ رَبِّهِمْ ، فَاجْتَنَبُوهَا خَوْفاً مِنْ عِقَابِهِ ، وَالذِينَ يُحْسِنُونَ رِعَايَةَ فَرَائِضِهِ ، وَالقِيَامَ بِحُقُوقِهِ ، وَلُزُومَ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ ، وَفِي تَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ .
(2) - قَالَ اللهُ تَعَالَى : لاَ تَخَافَا فَإِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ كَلاَمَكُمَا وَكَلاَمَهُ ، وَأَرَى مَكَانَكُمَا وَمَكَانَهُ ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيِّ مِنْ أَمْرِكُمْ شَيءٌ ، وَاعْلَمَا أَنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي ، فَلاَ يَتَكَلَّمُ ، وَلاَ يَتَنَفَّسُ ، وَلاَ يَبْطِشُ إِلاَّ بِإِذْنِي ، وَأَنْتُمَا فِي حِفْظِي وَرِعَايَتِي .
إِنَّنِي مَعَكُمَا - إِنِّي حَافِظُكُمَا وَنَاصِرُكُمَا .
(3) - يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ إِذَا لَمْ تَنْصُرُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ اللهَ نَاصِرُهُ وَمُؤَيِّدُهُ وَكَافِيهِ ، كَمَا تَوَلَّى نَصْرَهُ حِينَ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَكَّةَ حِينَ هَاجِرَ ، فَخَرَجَ مِنْهَا هَارِباً بِصُحْبَةِ صَدِيقِهِ وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ ، فَلَجَأَ إلَى غَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي آثَارِهِمَا حَتَّى وَقَفُوا بِبَابِ الغَارِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكرٍ جَزِعاً : لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ لَرَآنَا . فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم : مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ طُمَأْنِينَتَهُ وَتَأْيِيدَهُ وَنَصْرَهُ عَلَى رَسُولِهِ ، وَأَيَّدَهُ بِالمَلاَئِكَةِ تَحْفَظَهُ وَتَحْمِيهِ ( بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الشِّرْكِ وَأَهْلَهُ السُّفْلَى ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الإِيمَانِ ( لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ) هِيَ الْعُلْيَا ، وَاللهُ عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ وَانْتِصَارِهِ ، وَهُوَ مَنِيعُ الْجَانِبِ لاَ يُضَامُ ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ .
فَلَوْ كَانَ مَعْنَى " الْمَعِيَّةِ " أَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ تَنَاقَضَ الْخَبَرُ الْخَاصُّ وَالْخَبَرُ الْعَامُّ ؛ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَعَ هَؤُلَاءِ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ دُونَ أُولَئِكَ . وقَوْله تَعَالَى : {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}(1) (84) سورة الزخرف ،أَيْ هُوَ إلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ ،كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(2) (27) سورة الروم، وَكَذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى : {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}(3) (3) سورة الأنعام ، كَمَا فَسَّرَهُ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَنَّهُ الْمَعْبُودُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . وَأَجْمَعَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى بَائِنٌ(4) مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ ،يُوصَفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ دُونَ صِفَاتِ النَّقْصِ ،وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)(5)
__________
(1) - وَهُوَ اللهُ الذِي يَعْبُدُهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلُ الأَرْضِ ، وَلاَ تَصْلُحُ العِبَادَةُ إِلاَّ لَهُ ، وَهُوَ الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَقَدرِهِ وَتَدْبِيرِهِ ، العَلِيمُ بِأَحْوَالِ العِبَادِ .
(2) - وَهُوَ تَعَالى الذي بَدَأَ خَلْقَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ عَلَى غَيرِ مِثَالٍ ، سَبَقَ ، ثُم يقضِي بِفَنَائِها وَزَوالِها ، ثُمّ يُعيدُ خَلْقَها ، وَكُلُّ ذَلِكَ هَيِّنٌ عَليه . ثُمَّ لَفَتَ اللهُ تَعَالى نَظَرَ البَشَرِ إِلى أَنَّ إِعَادَةَ الخَلْقِ والصُّنْعِ أهوَنُ عَلَيهِ منْ ابتِدَائِهِ ، فإِذَا كَانَ اللهُ هُوَ الذي بَدَأ الخَلْقِ بعدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيئاً ، فَمِنَ المَفْرُوضِ في البَشَرِ أَنْ يُدْرِكُوا أَنَّ إِعَادَةَ خَلْقِ الكَائِنَاتِ أهوَنُ مِنْ خَلْقِهَا ابْتَداءً ، وَأَنَّ ذَلكَ لَنْ يُعْجِزَ اللهَ تَعَالى ، فَبَعْثُ البَشَرِ يومَ القيامةِ أَسْهَلُ عَلى اللهِ مِنْ خَلْقِهِمْ ، وللهِ الوَصْفُ البَدِيعُ في السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ليسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، وهُوَ العَزيزُ الذي لا يُغَالَبُ ولا يُضَامُ ، وهُوَ الحَكِيمُ في خَلْقِهِ وَتدبِيرِهِ ، فَلا يَخْلُقُ شَيئاً عَبَثاً لا فَائِدةَ مِنْهُ .
(3) - وَهُوَ اللهُ الذِي يَعْبُدُهُ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَيَدِينُونَ لَهُ الالُوهِيَّةِ ، رَغَباً وَرَهَباً ، وَلا يَشُذُّ عَنْ ذلِكَ إِلاَّ مَنْ كَفَرَ مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ ، وَهُوَ تَعَالى يَعْلَمُ مَا يُسِرُّ الخَلْقُ وَمَا يُعْلِنُونَ ، وَيَعْلَمُ جَمِيعَ مَا يَعْمَلُهُ الخَلْقُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍ ، وَهُوَ يُحْصِيهِ عَلَيْهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيهِ يَوْمَ الحِسَابِ .
(4) - البائن : المنفصل
(5) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنْ سَأَلَكَ مُسْتَهْزِئاً : صِفْ لَنَا رَبَّكَ : إِنَّ رَبِّي هُوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ ، المُنَزَّهُ عَنِ التَّعَدُّدِ ، وَعَنِ الزَّوْجَةِ وَالصَّاحِبَةِ وَالوَالِدِ وَالوَلَدِ .
وَهُوَ الذِي يَقْصدُهُ العِبَادُ فِي الحَاجَاتِ ، وَيَتَوَّجَّهُونَ إِلَيهِ بِالدُّعَاءِ وَالرَّجَاءِ فِيمَا أَهَمَّهُمْ وَأَغَمَّهُمْ .
تَنَزَّهَ رَبُّنَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ .
وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي العَرَبِ الذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ المَلاَئِكَةَ بَنَاتُ اللهِ .
وَرَدَّ عَلَى مَزَاعِمِ النَّصَارَى الذِينَ جَعَلُوا المَسِيحَ ابْنَ اللهِ ، وَعَلَى اليَهُودِ الذِينَ قَالُوا : إِنَّ عُزَيْراً هُوَ ابْنُ اللهِ .
وَاللهُ تَعَالَى لَمْ يُولَدْ لأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي مَجَانَسَتَهُ لِسِوَاهُ ، كَمَا يَقْتَضِي سَبْقَ العَدَمِ قَبْلَ الوُجُودِ ، تَنَزَّهَ اللهُ عَنْ ذَلِكَ .
لَيْسَ لَهُ نِدٌّ وَلاَ مَثِيلٌ . وَفِي هَذَا نَفْيٌ لِمَا يَعْتَقِدَهُ بَعْضُ المُبْطِلِينَ مِنْ أَنَّ للهِ نِدّاً فِي أَفْعَالِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُ مُشْرِكِي العَرَبِ الذِينَ جَعَلُوا المَلاَئِكَةَ شُرَكَاءَ للهِ .
} سورة الإخلاص، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ( الصَّمَدُ الْعَلِيمُ الَّذِي كَمُلَ فِي عِلْمِهِ الْعَظِيمُ الَّذِي كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ الْقَدِيرُ الْكَامِلُ فِي قُدْرَتِهِ الْحَكِيمُ الْكَامِلُ فِي حِكْمَتِهِ السَّيِّدُ الْكَامِلُ فِي سُؤْدُدِهِ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ : هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ . وَ الْأَحَدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ (1). فَاسْمُهُ الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ عَنْهُ، وَاسْمُهُ الْأَحَدُ يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي كَوْنِهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ .(2)
- - - - - - - - - - - - - - -
الفرق ُ بينَ الْحَقَائِقِ الْأَمْرِيَّةِ الدِّينِيَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ والْحَقَائِقِ الْخِلْقِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ تُشْتَبَهُ عَلَيْهِمُ الْحَقَائِقُ الْأَمْرِيَّةُ الدِّينِيَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ بِالْحَقَائِقِ الْخِلْقِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(3) (54) سورة الأعراف ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ ،مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ،فَكَلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ فَبِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ ،وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ ،وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رُسُلِهِ، أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَنَهَى عَنْ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ، فَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ التَّوْحِيدُ و،َأَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ الشِّرْكُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } (4)
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 24 / ص 691) وتفسير ابن كثير - (ج 8 / ص 528-529)
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 17 / ص 6) فما بعدها
(3) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ : السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِما وَمَا بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ اسْتِواءً يَليقُ بِجَلاَلِهِ ، وَأَخَذَ يُدَبِّرُ أَمْرَهُمَا ، فَيُتْبعُ اللَّيْلَ النَّهَارَ ، فَيَغْشَى الوُجُودَ بِالظُّلْمَةِ ، وَيُتْبعُ النَّهارَ اللَّيْلَ ، فَيَغْشَاهُ بِالضِّيَاءِ ، يَتَتَابَعَانِ سَرِيعاً ، لاَ يَتَأَخَّرُ أَحَدُهُما عَنِ الآخَرِ ، وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنَّجُومُ كُلُّهَا تَسِيرُ مُسَخَّرةً ، بِأَمْرِ رَبِّهَا ، وَمُنْقَادَةً لِحُكْمِهِ ومَشِيئَتِهِ ، وَللهِ الأَمْرُ وَالمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ ، وَهُوَ رَبُّ العَالَمِينَ .
وَنَسُوقُ هُنَا مَا قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ حَوْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ ) : ( نَسْلكُ فِي هَذا المَقَامِ مَذْهَبَ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَهُوَ إِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْييفٍ وَلاَ تَشْبيِهٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ ، وَالظَّاهِرُ المُتَبَادِرُ إلَى أَذْهَانِ المُشَبِّهِينَ مَنْفِيٌّ عَنِ اللهِ ، فَإِنَّ اللهَ لا يُشْبِهُهُ شَيءٌ ( وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ) . وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الخُزَاعِيُّ شَيْخُ البُخَارِيِّ : ( مَنْ شَبَّهَ اللهُ بِخَلْقِهِ كَفَرَ ، وَمَن جَحَدَ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ ، وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلاَ رَسُولهُ تَشْبِيهٌ ، فَمَنْ أَثْبَتَ مَا وَرَدَتْ بِهِ الآثَارُ الصَّرِيحَةُ وَالأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى الوَجْهِ الذِي يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ ، وَنَفَى عَنِ اللهِ النَّقَائِصَ فَقَدْ سَلَكَ سَبيلَ الهُدَى ) .
(4) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى العِبَادَ بِأَنَّهُ لاَ يَغْفِرُ لِعَبْدٍ جَاءَ اللهُ مُشْرِكاً بِعِبَادَتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَأَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ ، لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ ارْتَكَبَ ذَنْباً عَظِيماً ، لاَ يَسْتَحِقُّ مَعَهُ الغُفْرَانَ .
وَالشِّرْكُ ضَرْبَانِ :
- شِرْكٌ فِي الأُلُوهِيَّةِ - وَهُوَ الشُّعُورُ بِسْلَطَةٍ وَرَاءَ الأسْبَابِ وَالسُّنَنِ الكَوْنِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ .
- شِرْكٌ فِي الرّبُوبِيَّةِ - وَهُوَ الأَخْذُ بِشَيءٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ عَنْ بَعْضِ البَشَرِ دُونَ الوَحْي .
(48) سورة النساء، وَقَالَ تَعَالَى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} (1)(165) سورة البقرة .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (2):قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ قَالَ « أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ » . ثُمَّ قَالَ أَىُّ قَالَ « أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ » . قَالَ ثُمَّ أَىُّ قَالَ « أَنْ تُزَانِىَ حَلِيلَةَ جَارِكَ » . وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ قَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) (3)} [الفرقان/68-70].
وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَنَهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ(4)
__________
(1) - وَمَعَ قِيَامِ الأَدِلَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِنَ الكُفَّارِ يَتَّخِذُونَ للهِ شُرَكَاءَ وَأَمْثَالاً ( أَنْدَاداً ) يَعْبُدُونَهُمْ مَعَهُ ، وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ ، وَهُوَ اللهُ الذِي لاَ مَثِيلَ لَهُ ، وَلاَ شَرِيكَ مَعَهُ . أَمَّا الذِينَ آمَنُوا فَإِنَّهُم يَعْبُدُونَ اللهُ وَحْدَهُ ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، وَيُحِبُّونَهُ وَحْدَهُ ، وَهُمْ أَشَدُّ حُبَاً للهِ مِنْ أَيِّ شَيءٍ آخَرَ . وَحِينَ يَرَى المُشْرِكُونَ العَذَابَ الشَّديدَ الذِي يُنْزِلُهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِالكُفَّارِ ، فَتَتَقَطَّعُ بِهِمُ الأَسْبَابُ ، وَلاَ تُغْنِي عَنْهُم الأَنْدَادُ ، يُدْرِكُونَ حِينَئِذٍ أنَّ القُوَّةَ جَميعَهَا للهِ ، وَأَنَّ الحُكْمَ لَهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ .
(2) - صحيح البخارى (6001 ) ومسلم (267 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 187)
فِيهِ أَنَّ أَكْبَر الْمَعَاصِي الشِّرْك وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاء فِيهِ . وَأَنَّ الْقَتْل بِغَيْرِ حَقّ يَلِيه ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابنَا : أَكْبَر الْكَبَائِر بَعْد الشِّرْك الْقَتْل . وَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي كِتَاب الشَّهَادَات مِنْ ( مُخْتَصَر الْمُزَنِيِّ ) ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُمَا مِنْ الزِّنَا وَاللِّوَاط وَعُقُوق الْوَالِدَيْنِ وَالسِّحْر وَقَذْف الْمُحْصَنَات وَالْفِرَار يَوْم الزَّحْف وَأَكْل الرِّبَا وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِر فَلَهَا تَفَاصِيلُ وَأَحْكَامٌ تُعْرَف بِهَا مَرَاتِبهَا ، وَيَخْتَلِف أَمْرهَا بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال وَالْمَفَاسِد الْمُرَتَّبَة عَلَيْهِ . وَعَلَى هَذَا يُقَال فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا هِيَ مِنْ أَكْبَر الْكَبَائِر وَإِنْ جَاءَ فِي مَوْضِعٍ أَنَّهَا أَكْبَرُ الْكَبَائِر كَانَ الْمُرَاد مِنْ أَكْبَر الْكَبَائِر كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَفْضَل الْأَعْمَال . وَاَللَّه أَعْلَم .
(3) - وهمْ مُخْلِصُون في عِبادَتِهِم للهِ تَعالى وحدَهُ ، لا يُشْرِكُون بهِ شَيئاً ، ولا يَدْعُونَ معهُ أحَداً ، ولا يَعْبُدُونَ سِوَاهُ ولا يقْتُلُونَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ قَتْلَها إِلا بِحَقِّها ، وَفْقاً لما شَرَعَهُ اللهُ تَعالى ، ولا يَرْتَكِبُون الزِّنى ، ولا يَأْتُونَ ما حَرَّمَ اللهُ من الفُروجِ . ومَنْ يَرْتَكِبْ هَذِهِ الكبائرَ فإِنَّهُ يَلْقَى عَذاباً ألِيماً يومَ القيامةِ ، جَزَاءً لَهُ على ما ارْتَكَبَ .
وَيُزَادُ في عذابهِ يومَ القيامةِ ، ويُغْلَظُ لهُ فيهِ ، وَيخْلُدُ في جهنمَ مُهَاناً ذَلِيلاً حَقِيراً ، جَزَاءً لهُ على ما ارْتَكَبَ من الأعمالِ المُنْكَرَةِ .
إلا مَنْ تَابَ في الدُّنْيا ، وأخْلَصَ التوبةَ وهو مُؤْمنٌ ، وقدْ عَمِلَ الصالحاتِ ، ورجَعَ إلى رَبِّهِ مُسْتَغْفِراً مُنِيباً ، فإنَّ اللهَ تَعالى يتوبُ عليه ، ويُحْسِنُ عاقِبَتَهُ ، ( وفي ذلك دَلالةٌ على صِحَّةِ توبةِ القَاتل ) ، وهؤلاءِ هُمُ المُؤمنون ، كانُوا قبلَ إيْمَانِهِمْ يَعْمَلُونَ السَّيّئاتِ ، فَحَوَّلَهُمُ اللهُ تَعالى إلى الحَسَناتِ ، وأبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيئاتِ الحَسَنَاتِ ، واللهُ غفورٌ لذُنُوبِ عِبادِه ، رَحيمٌ بِهمْ .
( وقيلَ بلْ مَعْنَاهُ : إِنَّ السَّيئاتِ السَّابِقةَ تَنْقَلبُ بِنَفْسِ التَّوبَةِ إلى حَسَناتٍ ) .
(4) - قال تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (90) سورة النحل
إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُ فِي كِتَابِهِ الذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِالعَدْلِ وَالإِنْصَافِ ، وَيَنْدُبُ إِلَى الإِحْسَانِ وَالفَضْلِ ، وَيَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحْمِ وَإِعْطَاءِ ذَوِي القُرْبَى مَا هُمْ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ ، وَيَنْهَى عَنِ ارْتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ وَالمُنْكَرَاتِ وَالفَوَاحِشِ ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، مِمَّا يَأْتِيهِ العَبْدُ سِرّاً وَخِفْيَةً وَاللهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالخَيْرِ ، وَيَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَالشَّرِّ ، لَعَلَّكُمْ تَتَذَكَّرُونَ مَا أَوْدَعَهُ اللهُ فِي الفِطْرَةِ مِنْ وَحْيٍ قَوِيمٍ أَصِيلٍ ، فَتَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ .
، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(1) وَيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(2) وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (3)؛ وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (4)،وَيُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (5)،وَهُوَ يَكْرَهُ مَا نَهَى عَنْهُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (6)(38) سورة الإسراء، وَقَدْ نَهَى عَنْ الشِّرْكِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ ؛ وَأَمَرَ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى الْحُقُوقَ(7)، وَنَهَى عَنْ التَّبْذِيرِ (8)؛ وَعَنْ التَّقْتِيرِ؛ وَأَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِهِ ؛ وَأَنْ يَبْسُطَهَا كُلَّ الْبَسْطِ (9)،وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَعَنْ الزِّنَا وَعَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(10) إلَى أَنْ قَالَ:{ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) } (11) [الإسراء/38]،وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ(12) وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ (13).
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
الأمرُ بالتوبة تَعَالَى دَائِمًا
__________
(1) - قال تعالى : {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (76) سورة آل عمران
(2) - قال تعالى : {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (195) سورة البقرة
(3) - قال تعالى : {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (9) سورة الحجرات
(4) - قال تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (222) سورة البقرة
(5) - قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} (4) سورة الصف
(6) - لَقَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى فِي الآيَاتِ السَّابِقَاتِ عَنْ أُمُورٍ ، كَمَا أَمَرَ بِأُمُورٍ ، وَجَمِيعِ مَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ ( وَهُوَ سَيِّئُهُ ) : مِنَ الإِشْرَاكِ بِاللهِ تَعَالَى ، وَالتَّبْذِيرِ وَالتَّأَفُفِ مِنَ الوَالِدَيْنِ ، وَغَلِّ اليَدِ بُخْلاً ، وَقَتْلِ الأَبْنَاءِ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ ، وَالمَشْيِ مَرَحاً . . . هُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ اللهِ مَمْقُوتٌ .
(7) - قال تعالى : {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} (36) سورة النساء
(8) - قال تعالى : {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (26) سورة الإسراء
(9) - قال تعالى : {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (29) سورة الإسراء
(10) - قال تعالى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) }[الإسراء/31-34]
(11) - لَقَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى فِي الآيَاتِ السَّابِقَاتِ عَنْ أُمُورٍ ، كَمَا أَمَرَ بِأُمُورٍ ، وَجَمِيعِ مَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ ( وَهُوَ سَيِّئُهُ ) : مِنَ الإِشْرَاكِ بِاللهِ تَعَالَى ، وَالتَّبْذِيرِ وَالتَّأَفُفِ مِنَ الوَالِدَيْنِ ، وَغَلِّ اليَدِ بُخْلاً ، وَقَتْلِ الأَبْنَاءِ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ ، وَالمَشْيِ مَرَحاً . . . هُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ اللهِ مَمْقُوتٌ .
(12) - قال تعالى : {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (205) سورة البقرة
(13) - قال تعالى : {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (7) سورة الزمر
وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى دَائِمًا،قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {..وتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1) (31) سورة النور،وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبَ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً }(2) "، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الأَغَرِّ الْمُزَنِىِّ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِى وَإِنِّى لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِى الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ »(3).
وَفِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ :« رَبِّ اغْفِرْ لِى وَتُبْ عَلَىَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ »(4)
__________
(1) - وارْجِعُوا تَائِبينَ إِلَى طَاعَةِ اللهِ يا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ، وافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ ربُّكُم مِنَ التَّخَلُّقِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الجَمِيلَةِ والأَخْلاقِ الحَمِيدَةِ ، واتْرُكُوا مَا كَانَ عَلَيْهِ أهلُ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ الصِّفَاتِ والأْخْلاقِ الذَّمِيمَةِ ، فإِنَّ الفَلاَحَ فِي فِعْلِ ما أَمَرَ اللهَ وَرَسُولُه بِهِ ، وَتَرْكِ مَا نَهَيا عَنْهُ .
(2) - قلت : هما حديثان وليس حديثاً واحداً
عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« وَاللَّهِ إِنِّى لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِى الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً » . صحيح البخارى (6307 )
عَنِ ابْنَ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّى أَتُوبُ فِى الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ ».صحيح مسلم (7034 )
(3) - صحيح مسلم (7033 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 65)
قَالَ أَهْل اللُّغَة : ( الْغَيْن ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة ، وَالْغَيْم بِمَعْنًى ، وَالْمُرَاد هُنَا مَا يَتَغَشَّى الْقَلْب ، قَالَ الْقَاضِي : قِيلَ : الْمُرَاد الْفَتَرَات وَالْغَفَلَات عَنْ الذِّكْر الَّذِي كَانَ شَأْنه الدَّوَام عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَفْتَرَ عَنْهُ أَوْ غَفَلَ عَدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا ، وَاسْتَغْفَرَ مِنْهُ ، قَالَ : وَقِيلَ هُوَ هَمّه بِسَبَبِ أُمَّته ، وَمَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالهَا بَعْده ، فَيَسْتَغْفِر لَهُمْ ، وَقِيلَ : سَبَبه اِشْتِغَاله بِالنَّظَرِ فِي مَصَالِح أُمَّته وَأُمُورهمْ ، وَمُحَارَبَة الْعَدُوّ وَمُدَارَاته ، وَتَأْلِيف الْمُؤَلَّفَة ، وَنَحْو ذَلِكَ فَيَشْتَغِل بِذَلِكَ مِنْ عَظِيم مَقَامه ، فَيَرَاهُ ذَنْبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظِيم مَنْزِلَته ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُور مِنْ أَعْظَم الطَّاعَات ، وَأَفْضَل الْأَعْمَال ، فَهِيَ نُزُول عَنْ عَالِي دَرَجَته ، وَرَفِيع مَقَامه مِنْ حُضُوره مَعَ اللَّه تَعَالَى ، وَمُشَاهَدَته وَمُرَاقَبَته وَفَرَاغه مِمَّا سِوَاهُ ، فَيَسْتَغْفِر لِذَلِكَ ، وَقِيلَ : يَحْتَمِل أَنَّ هَذَا الْغَيْن هُوَ السَّكِينَة الَّتِي تَغْشَى قَلْبه ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَأَنْزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِ } وَيَكُون اِسْتِغْفَاره إِظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَار ، وَمُلَازَمَة الْخُشُوع ، وَشُكْرًا لِمَا أَوْلَاهُ ، وَقَدْ قَالَ الْمُحَاشِيّ : خَوْف الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة خَوْف إِعْظَام ، وَإِنْ كَانُوا آمِنِينَ عَذَاب اللَّه تَعَالَى ، وَقِيلَ : يَحْتَمِل أَنَّ هَذَا الْغَيْن حَال خَشْيَة وَإِعْظَام يَغْشَى الْقَلْب ، وَيَكُون اِسْتِغْفَاره شُكْرًا ، كَمَا سَبَقَ ، وَقِيلَ : هُوَ شَيْء يَعْتَرِي الْقُلُوب الصَّافِيَة مِمَّا تَتَحَدَّث بِهِ النَّفْس فَهُوَ شها . وَاَللَّه أَعْلَم .
(4) - سنن أبى داود(1518 )صحيح
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 62)
وَقَدْ اسْتَشْكَلَ وُقُوع الِاسْتِغْفَار مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَعْصُوم ، وَالِاسْتِغْفَار يَسْتَدْعِي وُقُوع مَعْصِيَة . وَأُجِيبَ بِعِدَّةِ أَجْوِبَة : مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِير الْغَيْن ، وَمِنْهَا قَوْل اِبْن الْجَوْزِيّ : هَفَوَات الطِّبَاع الْبَشَرِيَّة لَا يَسْلَم مِنْهَا أَحَد ، وَالْأَنْبِيَاء وَإِنْ عُصِمُوا مِنْ الْكَبَائِر فَلَمْ يُعْصَمُوا مِنْ الصَّغَائِر . كَذَا قَالَ ، وَهُوَ مُفَرَّع عَلَى خِلَاف الْمُخْتَار ، وَالرَّاجِح عِصْمَتهمْ مِنْ الصَّغَائِر أَيْضًا . وَمِنْهَا قَوْل اِبْن بَطَّال : الْأَنْبِيَاء أَشَدّ النَّاس اِجْتِهَادًا فِي الْعِبَادَة لِمَا أَعْطَاهُمْ اللَّه تَعَالَى مِنْ الْمَعْرِفَة ، فَهُمْ دَائِبُونَ فِي شُكْره مُعْتَرِفُونَ لَهُ بِالتَّقْصِيرِ اِنْتَهَى . وَمُحَصَّل جَوَابه أَنَّ الِاسْتِغْفَار مِنْ التَّقْصِير فِي أَدَاء الْحَقّ الَّذِي يَجِب لِلَّهِ تَعَالَى ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون لِاشْتِغَالِهِ بِالْأُمُورِ الْمُبَاحَة مِنْ أَكْل أَوْ شُرْب أَوْ جِمَاع أَوْ نَوْم أَوْ رَاحَة ، أَوْ لِمُخَاطَبَةِ النَّاس وَالنَّظَر فِي مَصَالِحهمْ ، وَمُحَارَبَة عَدُوّهُمْ تَارَة وَمُدَارَاته أُخْرَى ، وَتَأْلِيف الْمُؤَلَّفَة وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَحْجُبهُ عَنْ الِاشْتِغَال بِذِكْرِ اللَّه وَالتَّضَرُّع إِلَيْهِ وَمُشَاهَدَته وَمُرَاقَبَته ، فَيَرَى ذَلِكَ ذَنْبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَقَام الْعَلِيّ وَهُوَ الْحُضُور فِي حَظِيرَة الْقُدْس . وَمِنْهَا أَنَّ اِسْتِغْفَاره تَشْرِيع لِأُمَّتِهِ ، أَوْ مِنْ ذُنُوب الْأُمَّة فَهُوَ كَالشَّفَاعَةِ لَهُمْ . وَقَالَ الْغَزَالِيّ فِي " الْإِحْيَاء " كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِم التَّرَقِّي ، فَإِذَا اِرْتَقَى إِلَى حَال رَأَى مَا قَبْلهَا دُونهَا فَاسْتَغْفَرَ مِنْ الْحَالَة السَّابِقَة ، وَهَذَا مُفَرَّع عَلَى أَنَّ الْعَدَد الْمَذْكُور فِي اِسْتِغْفَاره كَانَ مُفَرَّقًا بِحَسَبِ تَعَدُّد الْأَحْوَال ، وَظَاهِر أَلْفَاظ الْحَدِيث يُخَالِف ذَلِكَ . وَقَالَ الشَّيْخ السُّهْرَوَرْدِيّ : لَمَّا كَانَ رُوح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ فِي التَّرَقِّي إِلَى مَقَامَات الْقُرْب يَسْتَتْبِع الْقَلْب ، وَالْقَلْب يَسْتَتْبِع النَّفْس ، وَلَا رَيْب أَنَّ حَرَكَة الرُّوح وَالْقَلْب أَسْرَع مِنْ نَهْضَة النَّفْس فَكَانَتْ خُطَا النَّفْس تَقْصُر عَنْ مَدَاهُمَا فِي الْعُرُوج ، فَاقْتَضَتْ الْحِكْمَة إِبْطَاء حَرَكَة الْقَلْب لِئَلَّا تَنْقَطِع عَلَاقَة النَّفْس عَنْهُ فَيَبْقَى الْعِبَاد مَحْرُومِينَ ، فَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْزَع إِلَى الِاسْتِغْفَار لِقُصُورِ النَّفْس عَنْ شَأْو تَرَقِّي الْقَلْب ، وَاَللَّه أَعْلَم .
.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ أَنْ يَخْتِمُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ بِالِاسْتِغْفَارِ، فكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا وَقَالَ: « اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ».كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ،(1) وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (2)(17) سورة آل عمران ،فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُومُوا بِاللَّيْلِ وَيَسْتَغْفِرُوا بِالْأَسْحَارِ . وَكَذَلِكَ خَتَمَ سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ وَهِيَ سُورَةُ قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {.. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (20)(3) سورة المزمل ،وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحَجِّ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) }(4)
__________
(1) - صحيح مسلم (1362 )
(2) - وَهؤلاءِ العِبَادُ المُتَّقُونَ هُمُ : الصَّابِرُونَ عَلَى قِيَامِهِمْ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ ، وَتَرْكِ مُحَرَّمَاتِهِ ، وَهُمُ الصَّادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ إيمَانِهِمْ بِمَا التَزَمُوا بِهِ مِنَ الأعْمَالِ الشَّاقَّةِ ، والمُلْتَزِمُونَ بِطَاعَةِ اللهِ ، وَالخُضُوعِ لَهُ ( القَانِتُونَ ) ، وَهُمْ المُنْفِقُونَ مِنْ أمْوالِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ ، وَصِلَةِ الأرْحَامِ وَمُوَاسَاةِ ذَوِي الحَاجَاتِ ، وَهُمُ المُسْتَغْفِرُونَ رَبَّهُمْ فِي أوْقَاتش السَّحَرِ ، حِينَما يَكُونُ النَّاسُ نَائِمِينَ . وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " يَنْزِلُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى اللَّيْلِ الأخِيرِ فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأغْفِرَ لَهُ؟ "
(3) - وفي الأمر بالاستغفار بعد الحث على أفعال الطاعة والخير، فائدة كبيرة، وذلك أن العبد ما يخلو من التقصير فيما أمر به، إما أن لا يفعله أصلا أو يفعله على وجه ناقص، فأمر بترقيع ذلك بالاستغفار، فإن العبد يذنب آناء الليل والنهار، فمتى لم يتغمده الله برحمته ومغفرته، فإنه هالك.
(4) - ظَنَّ المُسْلِمُونَ فِي بَادِئِ أَمْرِهِمْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي اتِّجَارِهِمْ أَيَّامَ مَوْسِمِ الحَجِّ إِثْمٌ . إَذْ كَانَ العَرَبُ يَتْجُرونَ فِي أَسْوَاقِ عُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ وَذِي المجَازِ . فَنَزَلَتْ هذِهِ الآيَةُ لإِشْعَارِ المُسْلِمِينَ بِأَنَّهُ لا إِثْمَ ، وَلاَ حَرَجَ عَلَيهِمْ ، إِنِ اتَّجَرُوا وَابْتَغوا فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ . ( أَيْ رِبْحاً مِنْ رَبِّهِمْ بِالتِّجَارَةِ ، عَلَى أَنْ لاَ يَكُونَ الكَسْبُ وَالرِّبْحُ هُمَا المَقْصُودَينِ بِالذَّاتِ ) .
فَإِذَا أَفَاضَ المُسْلِمُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ ، بَعْدَ الوُقُوفِ بِهَا مِنْ زَوَالِ اليَوْمِ التَّاسِعِ إِلى مَا قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ( وَ الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ هُوَ عُمْدَةُ الحَجِّ ) ، فَيَتَوقَّفُونَ ، وَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ إِلى مِنًى ، فِي المُزْدَلِفَةِ - وَهِيَ المَشْعَرُ الحَرَامُ ، ( وَالمَشَاعِرُ هِيَ المَعَالِمُ الظَّاهِرَةُ ) - لِيَذْكُرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاهُمْ إِلى مَعْرِفَةِ أُمُورِ دِينِهِمْ ، وَمَشَاعِرِ حَجِّهِمْ ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ هُدَى اللهِ لَهُمْ مِنَ الضَّالِينَ .
رَوَتْ عَائِشَةُ أُمُّ المُؤْمِنينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ، أَنَّ قُرَيْشاً وَمَنْ وَالاَهَا مِنْ كِنَانَةَ وَجُدَيْلَةَ وَقَيْسٍ ، كَانُوا يَقِفُونَ بِالمُزْدَلِفَةِ تَرَفُّعاً عَنْ الوُقُوفِ مَعَ النَّاسِ فِي عَرَفَاتٍ ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ بِالحُمُسِ ، أَيِ الشَّدِيدِي التَّصَلُّبِ فِي الدِّينِ ، أَمَّا سَائِرُ العَرَبِ فَتَقِفُ فِي عَرَفَاتٍ ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ الكَرِيمَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ ثُمَّ يَقِفَ بِهَا مَعَ النَّاسِ ، ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا . وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ وَالمُؤْمِنينَ بِالاسْتِغْفَارِ ، وَبِذِكْرِ اللهِ فِي هذِهِ الأَمَاكِنِ المُبَارَكَةِ .
[البقرة/198-200]، بَلْ أَنْزَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَمَّا غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)(1) } [التوبة/117-118]، وَهِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ (2).
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْله تَعَالَى: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) (3)} سورة النصر، فَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَخْتِمَ عَمَلَهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ(4)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ :كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِى رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ « سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى » يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ (5)
__________
(1) - نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ التِي كَانَتْ فِي سَنَةِ جَدْبٍ ، وَوَقْتَ حَرٍّ شَديدٍ ، وَعُسْرٍ فِي الزَّادِ وَالمَاءِ ، وَقَدْ أَكْرَمَ اللهَ تَعَالَى المَهُاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ الذِينَ اتَّبَعُوا رَسُولَ اللهِ فِي وَقْتِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّفَقَةِ وَالظَّهْرِ وَالزَّادِ ، بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ لِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ ، وَلاسْتِجَابَتِهِمْ لِدَعْوَةِ رَسُولِهِ الكَرِيمِ ، بَعْدَ أَنْ كَادَتْ تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنَ المُسْلِمِينَ عَنِ الحَقِّ ، وَهُمُ الذِينَ تَخَلَّفُوا لِغَيْرِ عِلَّةِ النِّفَاقِ مِمَّنْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ، وَاعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ، لِعِظَمِ مَا نَالَهُمْ مِنَ المَشَقَّةِ وَالشِّدَّةِ فِي سَفَرِهِمْ وَغَزْوِهِمْ . ثُمَّ رَزَقَهُمُ اللهُ الإِنَابَةَ إِلَيْهِ ، وَالرُّجُوعَ وَالثَّبَاتَ عَلَى دِينِهِ ، فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَإِنَّهُ تَعَالَى رَؤُوفٌ رَحِيمٌ بِهِمْ .
الثَّلاَثَةُ هُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ ، وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِي ، وَهَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوك ، وَاعْتَرَفُوا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَعْذَارٌ ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " قُومُوا حَتَّى يَقْضِي اللهُ فِي أَمْرِكُمْ " وأَمْر الرَّسُولُ النَّاسَ أَنْ لاَ يُكَلِّمُوهُمْ ، فَفَعَلُوا حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ عَلَى رَحْبِهَا وَسَعَتِهَا ، وَضَاقَتْ أَنْفُسُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، لِمَا كَانُوا يَشْعُرُونَ بِهِ مِنْ ضِيقِ صُدُورِهِمْ بِامْتِلاَئِهَا بِالهَمِّ وَالغَمِّ ، وَلَبِثُوا فِي ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً ، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ، وَفِيهَا التَّوْبَةُ عَلَيهِمْ .
وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ : إِنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِمْ ، وَأَنْزَلَ قبُولَ تَوْبَتِهِمْ لِيَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا إِلَيْهِ ، بَعْدَ أَنْ قَصَّرُوا فِي اتِّبَاعِ رَسُولِهِ إِلَى الغَزَاةِ ، فَكَانَ عَاقِبَةُ صِدْقِهِمْ خَيْراً لَهُمْ ، وَتَوْبَةً عَلَيْهِمْ .
(2) - لعل من قال ذلك بقصد أحكام التوبة
(3) - إِذَا رَأَيْتَ نَصْرَ اللهِ لِدِينِهِ الحَقِّ ، وَانْهِزَامَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ وَخِذْلاَنَهُمْ ، وَإِذَا رَأَيْتَ الغَلَبَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ لَكَ عَلَى المُشْرِكِينَ ، وََفَتَحَ اللهُ عَلَيْكَ .
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ قَدْ أَصْبحُوا يَدْخُلُونَ فِي الإِسْلاَمِ جَمَاعَاتٍ وَأَفْواجاً ، لاَ أَفْرَاداً مُتَفَرِّقِينَ كَمَا كَانَ يَحْدُثُ فِي السِّنِينَ الأُولَى لِلدَّعْوَةِ .
فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الخَوْفَ مِنْ اسْتِطَالَةِ المُشْرِكِينَ عَلَى المُسْلِمِينَ قَدْ وَلَّى ، فَعَلَيْكَ أَنْ تُسَبِّحَ رَبِّكَ وَتَشْكُرَهُ عَلَى نِصْرِهِ دِينَهُ ، وَإِعْزَازِهِ جُنْدَهُ عَلَى الكُفْرِ وَالكَافِرِينَ ، وَعَلَيْكَ أَنْ تَسْتَغْفِرَهُ وَتَتُوبَ إِلَيهِ ، فَهُوَ الكَثِيرُ القَبُولِ لِتَوْبَةِ عِبَادِهِ .
( وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ : هَذِهِ السُّورَةُ عَلاَمَةٌ عَلَى أَجَلِ الرَّسُولِ ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السَّورَةُ ." نُعِيَتْ إِلَيًَّ نَفْسِي ، وَأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ "
(4) - آخر آية نزلت قوله تعالى :{وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (281) سورة البقرة
كما ثبت عن ابن عباس وغيره انظر السنن الكبرى للإمام النسائي (10991) ومصنف ابن أبي شيبة ( 30207-30208 )
(5) - صحيح البخارى(817 ) ومسلم (1113 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 2 / ص 232)
مَعْنَى يَتَأَوَّل الْقُرْآن يَعْمَل مَا أُمِرَ بِهِ فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبّك وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول هَذَا الْكَلَام الْبَدِيع فِي الْجَزَالَة الْمُسْتَوْفِي مَا أَمَرَ بِهِ فِي الْآيَة ، وَكَانَ يَأْتِي بِهِ فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود لِأَنَّ حَالَة الصَّلَاة أَفْضَل مِنْ غَيْرهَا ، فَكَانَ يَخْتَارهَا لِأَدَاءِ هَذَا الْوَاجِب الَّذِي أُمِرَ بِهِ لِيَكُونَ أَكْمَل : قَالَ أَهْل اللُّغَة الْعَرَبِيَّة وَغَيْرهمْ : التَّسْبِيح التَّنْزِيه ، وَقَوْلهمْ : سُبْحَان اللَّه مَنْصُوب عَلَى الْمَصْدَر ، يُقَال : سَبَّحْت اللَّه تَسْبِيحًا وَسُبْحَانًا ، فَسُبْحَان اللَّه مَعْنَاهُ بَرَاءَة وَتَنْزِيهًا لَهُ مِنْ كُلّ نَقْص وَصِفَة لِلْمُحَدِّثِ . قَالُوا : وَقَوْله : وَبِحَمْدِك أَيْ وَبِحَمْدِك سَبَّحْتُك ، وَمَعْنَاهُ بِتَوْفِيقِك لِي وَهِدَايَتك وَفَضْلك عَلَيَّ سَبَّحْتُك لَا بِحَوْلِي وَقُوَّتِي . فَفِيهِ شُكْر اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَة وَالِاعْتِرَاف بِهَا وَالتَّفْوِيض إِلَى اللَّه تَعَالَى ، وَأَنَّ كُلّ الْأَفْعَال لَهُ وَاَللَّه أَعْلَم .
.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو :« اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى خَطِيئَتِى وَجَهْلِى وَإِسْرَافِى فِى أَمْرِى ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى هَزْلِى وَجِدِّى وَخَطَاىَ وَعَمْدِى ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِى » (1).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضى الله عنه - . أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: عَلِّمْنِى دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِى صَلاَتِى . قَالَ :« قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِى مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ ، وَارْحَمْنِى إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » (2).
وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضى الله عنه قَالَ :يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِى بِكَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ. قَالَ :« قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَىْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِى وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ ». قَالَ « قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ »(3).
__________
(1) - صحيح البخارى (6399 ) ومسلم (7076 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 84)
أَيْ : أَنَا مُتَّصِف بِهَذِهِ الْأَشْيَاء ، اِغْفِرْهَا لِي ، قِيلَ : قَالَهُ تَوَاضُعًا وَعَدَّ عَلَى نَفْسه فَوَات الْكَمَال ذُنُوبًا ، وَقِيلَ : أَرَادَ مَا كَانَ عَنْ سَهْو وَقِيلَ : مَا كَانَ قَبْل النُّبُوَّة ، وَعَلَى كُلّ حَال فَهُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَغْفُور لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه وَمَا تَأَخَّرَ ، فَدَعَا بِهَذَا وَغَيْره تَوَاضُعًا ، لِأَنَّ الدُّعَاء عِبَادَة ، قَالَ أَهْل اللُّغَة : الْإِسْرَاف مُجَاوَزَة الْحَدّ .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنْتَ الْمُقَدِّم وَأَنْتَ الْمُؤَخِّر ) يُقَدِّم مَنْ يَشَاء مِنْ خَلْقه إِلَى رَحْمَته بِتَوْفِيقِهِ ، وَيُؤَخِّر مَنْ يَشَاء عَنْ ذَلِكَ لِخِذْلَانِهِ .
(2) - صحيح البخارى (834 ) ومسلم (7044 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 93)
قَالَ الطَّبَرِيُّ : فِي حَدِيث أَبِي بَكْر دَلَالَة عَلَى رَدّ قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقّ اِسْم الْإِيمَان إِلَّا مَنْ لَا خَطِيئَة لَهُ وَلَا ذَنْب ؛ لِأَنَّ الصِّدِّيق مِنْ أَكْبَر أَهْل الْإِيمَان . وَقَدْ عَلَّمَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُول " إِنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِر الذُّنُوب إِلَّا أَنْتَ " . وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : هَذَا الدُّعَاء مِنْ الْجَوَامِع ؛ لِأَنَّ فِيهِ الِاعْتِرَاف بِغَايَةِ التَّقْصِير وَطَلَب غَايَة الْإِنْعَام ، فَالْمَغْفِرَة سَتْر الذُّنُوب وَمَحَوْهَا ، وَالرَّحْمَة إِيصَال الْخَيْرَات ، فَفِي الْأَوَّل طَلَب الزَّحْزَحَة عَنْ النَّار وَفِي الثَّانِي طَلَب إِدْخَال الْجَنَّة وَهَذَا هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم . وَقَالَ اِبْن أَبِي حَمْزَة مَا مُلَخَّصه : فِي الْحَدِيث مَشْرُوعِيَّة الدُّعَاء فِي الصَّلَاة ، وَفَضْل الدُّعَاء الْمَذْكُور عَلَى غَيْره ، وَطَلَب التَّعْلِيم مِنْ الْأَعْلَى وَإِنْ كَانَ الطَّالِب يَعْرِف ذَلِكَ النَّوْع ، وَخَصَّ الدُّعَاء بِالصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَقْرَب مَا يَكُون الْعَبْد مِنْ رَبّه وَهُوَ سَاجِد " وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْء يَنْظُر فِي عِبَادَته إِلَى الْأَرْفَع فَيَتَسَبَّب فِي تَحْصِيله . وَفِي تَعْلِيم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْر هَذَا الدُّعَاء إِشَارَة إِلَى إِيثَار أَمْر الْآخِرَة عَلَى أَمْر الدُّنْيَا ، وَلَعَلَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ حَال أَبِي بَكْر وَإِيثَاره أَمْر الْآخِرَة قَالَ : وَفِي قَوْله " ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِر الذُّنُوب إِلَّا أَنْتَ " أَيْ لَيْسَ لِي حِيلَة فِي دَفْعه فَهِيَ حَالَة اِفْتِقَار ، فَأَشْبَهَ حَال الْمُضْطَرّ الْمَوْعُود بِالْإِجَابَةِ ، وَفِيهِ هَضْم النَّفْس وَالِاعْتِرَاف بِالتَّقْصِيرِ ، وَتَقَدَّمَتْ بَقِيَّة فَوَائِده هُنَاكَ .
(3) - سنن أبى داود (5069 ) والترمذي (3873 ) وهو صحيح
وفي التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوى - (ج 2 / ص 387)
تضمن الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته فإن الشر كله إما يصدر من النفس أو من الشيطان وغايته اما أن يعود على العامل أو أخيه المسلم فتضمن الحديث مصدري الشر الذي يصدر عنهما وغايته
فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَظُنَّ اسْتِغْنَاءَهُ عَنِ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ الذُّنُوبِ ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ دَائِمًا . قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) }(1) [الأحزاب/72، 73]، فَالْإِنْسَانُ ظَالِمٌ جَاهِلٌ، وَغَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ التَّوْبَةُ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِتَوْبَةِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ » . قَالُوا :وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ :« لاَ ، وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ » (2)
__________
(1) - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الأَمَانَةُ هُنَا تَعْنِي الطَّاعَةَ ، وَقَالَ أَيْضاً : إِنَّها الفَرَائِضُ .
يَقُولُ تَعَالى : إِنَّهُ عَرَضَ التَّكَاليفَ عَلَى السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَالجِبَالِ ، فَلَمْ يُطِقْنَ حَمْلَها ، وأَشْفَقَتْ مِنْها مَخَافَةَ التَّقْصِيرِ فِي أَمرٍ أَرَادَهُ اللهُ ، ثُمَّ عَرَضَهَا عَلَى آدَمَ وَقَالَ لَهُ : إِنَّنِي قَدْ عَرَضْتُ الأَمَانَةُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبالِ فَلَم يُطِقْنَها ، فَهَلْ أَنْتَ آخذٌ بِمَا فِيها؟
قَال : يَا رَبِّ وَمَا فِيها؟ قَالَ : إِنْ أَحْسَنْتَ جُزِيْتَ ، وَإِنَّ أَسَأْتَ عُوقِبْتَ .
فَقَبلَ آدمُ حَمْلَها بِمَا فِيها . وَهكَذَا حَمَلَ الإِنسَانُ الأَمَانَةَ عَلَى ضَعْفِهِ ، وَكَانَ جَاهِلاً بِثِقَلِها ، ظَلُوماً نَفْسَهُ بِحَمْلِها ، إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللهُ .
وَقَدْ حَمَّلَ اللهُ الإِنسَانَ الأَمَانةَ ( وَهِيَ التَّكَالِيفُ ) لِتَكُونَ نَتيجَةُ ذلِكَ أَنْ يُعَذِّبَ مَنْ خَانَها ، وَقَصَّرَ فِي حَمْلِها وَأَدَائِهَا ، مِنْ المُنَافِقينَ وَالمُنَافِقَاتِ الذِينَ يُبْطِنُونَ الكُفْرَ والشِّرْكَ ، وَيُظْهِرُونَ الإِيمَانَ خَوْفاً وَتَحَسُّباً ، ومنَ الكَافِرِينَ الجَاحِدِينَ بِوُجُودِ اللهِ وَوحْدَانِيَّتِهِ ، وَلِيَقْبَلَ تَوْبَةَ المُؤْمِنينَ وَالمُؤمِناتِ إِذا رَجَعُوا إِليهِ تَائِبينَ مُنِيبِينَ ، لِتَلافِيهِمْ مَا فَرطَ مِنْهُمْ عَنْ جَهْلٍ وَعَدَمِ تَبَصُّرٍ ، وَتَدَارُكِهِمْ ذَلِكَ بالتَّوْبَةِ .
واللهُ تَعَالى غَفَّارٌ لِلذُّنُوبِ ، سَتَّارٌ لِلْعُيوبِ ، كَثيرُ الرَّحْمَةِ لِلْعِبَادِ التَّائِبِينَ إِليْهِ .
(2) - صحيح البخارى (5673 ) ومسلم (7292 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 197)
اِعْلَمْ أَنَّ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة : أَنَّهُ لَا يَثْبُت بِالْعَقْلِ ثَوَاب وَلَا عِقَاب وَلَا إِيجَاب وَلَا تَحْرِيم وَلَا غَيْرهمَا مِنْ أَنْوَاع التَّكْلِيف ، وَلَا تَثْبُت هَذِهِ كُلّهَا وَلَا غَيْرهَا إِلَّا بِالشَّرْعِ ، وَمَذْهَب أَهْل السُّنَّة أَيْضًا : أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَجِب عَلَيْهِ شَيْء تَعَالَى اللَّه ، بَلْ الْعَالَم مُلْكه ، وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة فِي سُلْطَانه ، يَفْعَل فِيهِمَا مَا يَشَاء ، فَلَوْ عَذَّبَ الْمُطِيعِينَ ، وَالصَّالِحِينَ أَجْمَعِينَ ، وَأَدْخَلَهُمْ النَّار كَانَ عَدْلًا مِنْهُ وَإِذَا أَكْرَمَهُمْ وَنَعَّمَهُمْ وَأَدْخَلَهُمْ الْجَنَّة فَهُوَ فَضْل مِنْهُ ، وَلَوْ نَعَّمَ الْكَافِرِينَ وَأَدْخَلَهُمْ الْجَنَّة كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ وَخَبَره صِدْق ، أَنَّهُ لَا يَفْعَل هَذَا ، بَلْ يَغْفِر لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُدْخِلهُمْ الْجَنَّة بِرَحْمَتِهِ ، وَيُعَذِّب الْمُنَافِقِينَ وَيُخَلِّدهُمْ فِي النَّار عَدْلًا مِنْهُ .
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَة فَيُثْبِتُونَ الْأَحْكَام بِالْعَقْلِ ، وَيُوجِبُونَ ثَوَاب الْأَعْمَال ، وَيُوجِبُونَ الْأَصْلَح ، وَيَمْنَعُونَ خِلَاف هَذَا فِي خَبْط طَوِيل لَهُمْ ، تَعَالَى اللَّه عَنْ اِخْتِرَاعَاتهمْ الْبَاطِلَة الْمُنَابِذَة لِنُصُوصِ الشَّرْع . وَفِي ظَاهِر هَذِهِ الْأَحَادِيث : دَلَالَة لِأَهْلِ الْحَقّ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقّ أَحَد الثَّوَاب وَالْجَنَّة بِطَاعَتِهِ ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { اُدْخُلُوا الْجَنَّة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } { وَتِلْك الْجَنَّة الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وَنَحْوهمَا مِنْ الْآيَات الدَّالَّة عَلَى أَنَّ الْأَعْمَال يُدْخَل بِهَا الْجَنَّة ، فَلَا يُعَارِض هَذِهِ الْأَحَادِيث ، بَلْ مَعْنَى الْآيَات : أَنَّ دُخُول الْجَنَّة بِسَبَبِ الْأَعْمَال ، ثُمَّ التَّوْفِيق لِلْأَعْمَالِ وَالْهِدَايَة لِلْإِخْلَاصِ فِيهَا ، وَقَبُولهَا بِرَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَفَضْله ، فَيَصِحّ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُل بِمُجَرَّدِ الْعَمَل . وَهُوَ مُرَاد الْأَحَادِيث ، وَيَصِحّ أَنَّهُ دَخَلَ بِالْأَعْمَالِ أَيْ بِسَبَبِهَا ، وَهِيَ مِنْ الرَّحْمَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
.
وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تعالَى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}(1) (24) سورة الحاقة، فَإِنَّ الرَّسُولَ نَفَى بَاءَ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَادَلَةِ ،وَالْقُرْآنُ أَثْبَتَ بَاءَ السَّبَبِ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا لَمْ تَضُرَّهُ الذُّنُوبُ . مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ، فَلَمْ يُصِرَّ عَلَى الذُّنُوبِ ،وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّ مَنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا ، فَهُوَ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)(2)} سورة الزلزلة.
وَإِنَّمَا عِبَادُهُ الْمَمْدُوحُونَ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } (3)[آل عمران/133-136]
القدرُ ليسَ حجَّةً لأهلِ الذنوبِ
__________
(1) - وَيُقَالُ لَهُمْ : كُلُوا يَا أَيُّهَا الأَبْرَارُ مِنْ ثِمَارِ هَذِهِ الجَنَّةِ هَنِيئاً ، وَاشْرَبُوا مِنْ خَمْرِهَا وَمِيَاهِهَا مَريئاً ، لاَ تَغَصُّونَ بِهِ ، وَلاَ تَتَأَذَّوْنَ ، وَذَلِكَ جَزَاءٌ مِنَ اللهِ لَكُمْ ، وَثَوَابٌ عَلَى مَا عَمِلْتُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ ، وَكَرِيمِ الطَّاعَاتِ الخَالِصَةِ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى .
(2) - فَمَنْ عَمِلَ عَمَلَ خَيْرٍ فَإِنَّهُ سَيَجِدُ ثَوَابَهُ مَهْمَا كَانَ حَقِيراً ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ فِي وَزْنِ الذَّرَّةِ . وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئاً وَلَو أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ المُسْتَسقِي " وَقَالَ أَيْضاً : " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ " ( أَخْرَجَهُمَا البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ) .وَمَنْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ سُوءٍ فَإنَّهُ وَاجِدٌ جَزَاءَهُ عِنْدَ رَبِّهِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ .
(3) - وَيَنْدُبُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ إلَى القِيَامِ بِالأَعْمِالِ الصَّالِحَةِ ، وَإلى المُسَارَعَةِ فِي فِعْلِ الخَيْرَاتِ ، لِيَنَالُوا مَغْفِرَةَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ ، وَجَنَّتَهُ الوَاسِعَةَ العَرِيضَةَ التِي أَعَدَّهَا اللهُ لِعِبَادِهِ المُتَّقِينَ ، الذِينَ يَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُ .
يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ صِفَاتِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيَقُولُ : إِنَّهُمُ الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ ، فِي الرَّخَاءِ ( السَّرَاءِ ) ، وَفِي الشِّدَّةِ ( الضَرَّاءِ ) ، وَفِي الصِّحَّةِ وَالمَرَضِ ، وَفِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ ، لاَ يَشْغَلُهُمْ أَمْرٌ عَنْ طَاعَةِ اللهِ ، وَالإِنْفَاقِ فِي سَبيلِ مَرْضَاتِهِ ، وَإِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ غَيْظَهُمْ إذَا ثَارَ ، وَيَعْفُونَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيهِمْ . وَاللهُ يُحِبُّ الذِينَ يَتَفَضَّلُونَ عَلَى عِبَادِهِ البَائِسِينَ ، وَيُوَاسُونَهُمْ شُكْراً للهِ عَلَى جَزِيلِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ . ( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ مَلأَ اللهُ جَوْفَهُ أَمْناً وَإِيمَاناً " ) .
وَمِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الجَنَّةِ أَنَّهُمْ إذَا صَدَرَ عَنْهُمْ فِعْلَ قَبيحٌ يَتَعَدَّى أثرُهُ إلَى غَيْرِهِمْ ( كَغَيبَةِ إِنْسَانٍ ) ، أَو صَدَرَ عَنْهُمْ ذَنْبٌ يَكُونُ مُقْتَصِراً عَلَيْهِمْ ( كَشُرْبِ خَمْرٍ وَنَحْوَهُ ) ، ذَكَرُوا اللهَ تَعَالَى وَوَعِيدَهُ ، وَعَظَمَتَهُ وَجَلاَلَهُ ، فَرَجَعُوا إلَى اللهِ تَائِبِينَ ، طَالِبِينَ مَغْفِرَتَهُ ، وَلَمْ يُقِيمُوا عَلى القَبِيحِ مِنْ غَيْرِ اسْتِغْفَارٍ ، لِعِلْمِهِمْ أنَّ اللهَ هُوَ الذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى الذَّنْبِ ، لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أنَّ مَنْ تَابَ إلَى اللهِ ، تَابَ اللهُ عَلَيهِ ، وَغَفَرَ لَهُ .
وَالمُتَّقُونَ المُتَمَتِّعُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ سَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ عَلَيهَا بِالمَغْفِرَةِ ، وَبِالأَمْرِ مِنَ العِقَابِ ، وَلَهُمْ ثَوَابٌ عَظِيمٌ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا أَبَداً ، وَالجَنَّةُ خَيْرُ مَا يُكَافَأُ بِهِ المُؤْمِنُونَ العَامِلُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَاتِ .
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ " الْقَدَرَ " حُجَّةٌ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ : { كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) (1) } [الأنعام/148-149] .
وَلَوْ كَانَ " الْقَدَرُ " حُجَّةً لِأَحَدِ لَمْ يُعَذِّبْ اللَّهُ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ وَقَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُعْتَدِينَ.
__________
(1) - سَيَقُولُ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ ، اعْتِذَاراً عَنْ شِركِهِمْ ، لَوْ شَاءَ اللهُ ألاَّ نُشْرِكَ بِهِ ، وَلاَ يُشْرِكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلِنا ، لَمَا أَشْرَكْنَا ، وَلَمَا أَشْرَكُوا ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ أَلاَّ نُحَرِّمَ شَيْئاً مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ وَغَيْرِها ، لَمَا حَرَّمْنَا ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ نُشْرِكَ بِهِ الأَوْلِيَاءَ وَالشُّفَعَاءِ ، وَشَاءَ أَنْ نُحَرِّمَ مَا حَرَّمْنَا مِنَ البَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِها فَحَرَّمْنَاهَا ، فَإِتْيَانُنا بِهَا دَلِيلٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى ، وَعَلَى رِضَاهُ بِهَا .
وَكَمَا كَذَّبَ مُشْرِكُو مَكَّةَ رَسُولَهُمْ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ، فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ ، كَذَلِكَ كَذَّبَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ رُسُلَهُمْ تَكْذِيباً غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ العِلْمِ . وَالرُّسُلُ قَدْ أَقَامُوا الأَدِلَّةَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى ، وَأَيَّدَهُمُ اللهُ بِالآيَاتِ ، وَالمُعْجِزَاتِ عَلَى صِدْقِهِمْ ، فَأَعْرَضَ المُكَذِّبُونَ ، وَأَصَرُّوا عَلَى جُحُودِهِمْ ، فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ ( حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا ) .
وَلَوُ كَانَ اللهُ رَاضِياً عَنْ أَفْعَالِهِمْ لَمَا عَاقَبَهُمْ عَلَيْهَا ، كَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ صَادِرَةً عَنْهُمْ جَبْراً ، لَمَا اسْتَحَقُّوا العِقَابَ عَلَيْها ، وَلَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى : إنَّهُ أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ، وَأَهْلَكَهُمْ بِظُلْمِهِمْ . وَاسْأَلْهُمْ يَا مُحَمَّدُ : هَلْ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يَقُولُونَ وَيَحْتَجُّونَ؟ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مُسْتَنَدٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّ اللهَ رَضِيَ لَهُم الشِّرْكَ ، وَالتَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ ، فَلْيُظْهِرُوهُ .
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى : إِنَّكُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيءٍ مِنَ العِلْمِ الصَّحِيحِ ، بَلْ تَتَّبِعُونَ فِي عَقَائِدِكُمْ وَآرَائِكُمُ الحَدْسَ وَالتَّخْمِينَ الذِي لاَ يَسْتَقِرُّ عِنْدَهُ حُكْمٌ .
وَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : للِه الحُجَّةُ التَّامَّةُ ، وَالحُجَّةُ البّالِغَةُ فِي هِدَايَةِ مِنْ اهْتَدَى ، وَضَلاَلِ مَنْ ضَلَّ ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ هِدَايَتَكُمْ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعيِن ، َ فَكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرِهِ ، وَمَشِيئَتِهِ ، وَاخْتِيَارِهِ .
وَلَا يَحْتَجُّ أَحَدٌ بِالْقَدَرِ إلَّا إذَا كَانَ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَمَنْ رَأَى الْقَدَرَ حُجَّةً لِأَهْلِ الذُّنُوبِ يَرْفَعُ عَنْهُمْ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَذُمَّ أَحَدًا وَلَا يُعَاقِبَهُ إذَا اعْتَدَى عَلَيْهِ ؛ بَلْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ مَا يُوجِبُ اللَّذَّةَ وَمَا يُوجِبُ الْأَلَمَ، فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ يَفْعَلُ مَعَهُ خَيْرًا ،وَبَيْنَ مَنْ يَفْعَلُ مَعَهُ شَرًّا ،وَهَذَا مُمْتَنِعٌ طَبْعًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } (1)(28) سورة ص ، وَقَالَ تَعَالَى : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}(2) (35) سورة القلم ،وَقَالَ تَعَالَى : {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}(3) (21) سورة الجاثية ،وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) }(4) [المؤمنون/115، 116] ،وَقَالَ تَعَالَى : {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (5)(36) سورة القيامة ،أَيْ مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى .
__________
(1) - أنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم نجعل أهل التقوى المؤمنين كأصحاب الفجور الكافرين؟ هذه التسوية غير لائقة بحكمة الله وحُكْمه، فلا يستوون عند الله، بل يثيب الله المؤمنين الأتقياء، ويعاقب المفسدين الأشقياء.
(2) - أفنجعل الخاضعين لله بالطاعة كالكافرين؟ ما لكم كيف حكمتم هذا الحكم الجائر، فساويتم بينهم في الثواب؟
(3) - أيَظُنُّ الذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ، وَاكتَسَبُوا الآثَامَ وَالمَعَاصِيَ في الدُّنيا ، فَكَفُروا باللهِ ، وكَذَّبوا رسُلَهُ ، وخَالَفُوا أوامِرَه . . أَن يُسَاوِيَهُمُ اللهُ بالذِينَ آمنُوا بِهِ ، وَصَدَّقوا رُسُلَه ، وَعَمِلُوا الأَعمالَ الصَّالحةَ في الدُّنيا؟ إِن اللهَ تَعَالى لا يُسَاوِي بَينَ هؤُلاءِ وَهؤُلاءِ في الدُّنيا ، وَفي رَحمةِ اللهِ ورِضْوانِهِ في الآخِرةِ . وَجَعَلَ اللهُ الكَفَرَةَ الفَجَرةَ في ذُلِّ الكُفْرِ وَالمَعَاصي في الدُّنيا ، وفي لَعْنَةِ اللهِ وَعَذَابِهِ الخَالِدِ في نَارِ جَهنَّمَ في الآخِرَةِ ، فَشَتَّانَ مَا بينَ هؤلاءِ وَهؤلاءِ ، وَسَاءَ مَا ظَنَّهُ ، وَمَا قَدَّرَهُ هؤُلاءِ المُجرِمُونَ ، تَعَالى اللهُ مِنْ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ بِالمُؤْمِنينَ الأَطْهَارِ .
(4) - هَلْ ظَنَنْتُمْ أَيُّهَا الأَشْقِيَاءُ أَنَّنا خَلَقْنَاكُمْ لَعِباً وَبَاطِلاً ( عَبَثاً ) ، وَأَنَّنا لاَ حِكْمَةَ لَنَا فِي خَلْقِكُمْ؟ إِنَّنا لَمْ نَخْلُقْكُم عَبَثاً وَلاَ بَاطِلاً لِلَّعِبِ والتَّسْلِيَةِ ، وإِنَّمَا خَلَقْنَاكُمَ لِتَعْبُدوا اللهَ ، وَتُقِيمُوا أَوَامِرَهُ ، فَهْلْ حَسَبْتُمْ أَنَّكُمْ لاَ تَرْجِعُونَ إِلَيْنَا فِي الآخِرَةِ لِنُحَاسِبَكُم عَلَى أَعْمَالِكُمْ؟
( وَقِيلَ بَلْ مَعْنَى الآيَةِ هُوَ : هَلْ تَظُنُّونَ أَنَّكُمْ خُلِقْتُمْ لِتَعْبَثُوا وَتَلْعَبُوا كَمَا خُلِقَتِ البَهَائِمُ ، لاَ ثَوابَ وَلاَ عِقَابَ؟ )
فَتَعَالَى اللهُ وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ أَنْ يَخْلِقُ شَيئْاً عَبَثاً ، فَإِنَّهُ المَلِكُ الحَقُّ المُنَزِّهُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ ، لاَ إِلَه إِلاَّ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ، وَرَبُّ العَرْشِ ، ( والعَرْشَ هُوَ سَقْفُ جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ ) فَهُوَ تَعَالَى المُهَيْمِنُ المُسَيْطِرُ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي الوُجَودِ ، وَهُوَ الكَرِيمُ .
(5) - أَيَظُنُّ الإِنْسَانُ المُنْكِرُ لِلْبَعْثِ أَنَّ اللهَ خَلَقَهُ بِغَيْرِ غَايَةٍ ، وَأَنَّهُ يَتْرُكُهُ وَشَأْنَهُ فِي الحَيَاةِ يَفْعَلُ فِيهَا مَا يَشَاءُ ، لاَ يُؤْمِرُ بِأَمْرٍ ، وَلاَ يُنْهَى عَنْ نَهْيٍ ، وَلاَ يُبْعَثُ وَلاَ يُحَاسَبُ؟
كَلاَّ إِنَّهُ لَنْ يُتْرَكَ سُدًى ، وَسَيُبَعَثُ وَسَيُحَاسَبُ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ يَزِيدَ - وَهُوَ ابْنُ هُرْمُزَ - وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ قَالاَ سَمِعْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ عِنْدَ رَبِّهِمَا فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى قَالَ مُوسَى أَنْتَ آدَمُ الَّذِى خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ وَأَسْكَنَكَ فِى جَنَّتِهِ ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الأَرْضِ فَقَالَ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ وَأَعْطَاكَ الأَلْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَىْءٍ وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ قَالَ مُوسَى بِأَرْبَعِينَ عَامًا. قَالَ آدَمُ فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) قَالَ نَعَمْ. قَالَ أَفَتَلُومُنِى عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلاً كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَىَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِى بِأَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى »(1)
__________
(1) - صحيح البخارى(3409 ) وصحيح مسلم (6914 ) واللفظ له
المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 277)
1394 - ( ش ) : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى يَقْتَضِي صِحَّةَ جَوَازِ الْمُحَاجَّةِ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا وَقَوْلُ مُوسَى عليه السلام لِآدَمَ أَنْتَ الَّذِي أَغْوَيْت النَّاسَ وَأَخْرَجْتهمْ مِنْ الْجَنَّةِ مَعْنَى أَغْوَيْت ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ عَرَّضْتَهُمْ لِلْإِغْوَاءِ لَمَّا كُنْت سَبَبَ خُرُوجِهِمْ مِنْ الْجَنَّةِ وَتَعْرِيضِهِمْ لِلتَّكْلِيفِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جَعَلْتهمْ غَاوِينَ لِكَوْنِهِمْ مِنْ ذُرِّيَّتِك حِينَ غَوَيْت مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى وَقَوْلُ آدَمَ عليه السلام لَهُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ يُرِيدُ أَعْلَمَهُ بِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مِمَّا أَعْلَمَ بِهِ الْبَشَرَ ، وَقَوْلُهُ وَاصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ آثَرَهُ بِإِرْسَالِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يُرْسِلْهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ لَهُ عَلَى فَضْلِهِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي الْإِصَابَةَ فِي مُحَاجَّتِهِ ، وَأَنْ لَا يَلُومَ أَبَاهُ عَلَى مَا يَعِي وَاسِعُ عِلْمِهِ وَفَضْلِهِ ، وَلَوْمُهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا قَالَ مُوسَى نَعَمْ لَزِمَهُ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُحَاجَّةِ لَا عَلَى وَجْهِ الْفَخْرِ وَالْمُبَاهَاةِ وَقَالَ لَهُ آدَمُ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِمَعْنَى أَنَّ لَوْمَك لِي عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أَنَّهُ قَالَ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى مَعْنَاهُ ظَهَرَ عَلَيْهِ فِي الْحُجَّةِ وَاحْتِجَاجُ آدَمَ بِالْقَدَرِ عَلَى نَفْيِ اللَّوْمِ عَنْهُ يَجِبُ أَنْ يُبَيَّنَ ، فَإِنَّ الْعَاصِيَ إِذَا عَصَى يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ ، وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ قُدِّرَتْ عَلَيْهِ الْمَعْصِيَةُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ وَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَى مَنْ لَامَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ بِأَنْ يَقُولَ إِنَّ ذَلِكَ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا بِمُجَرَّدِهِ حُجَّةً لَمَا وَجَبَ أَنْ يُلَامَ أَحَدٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا يُنْكَرَ عَلَيْهِ وَلَا يُتَوَعَّدَ عَلَيْهَا بِعَذَابٍ فِي دُنْيَا وَلَا آخِرَةٍ ، وَلَكِنَّ آدَمَ عليه السلام إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى مُوسَى أَنْ لَامَهُ فَقَالَ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ وَآدَمُ عليه السلام قَدْ كَانَ تَابَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى التَّائِبُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ إِذَا تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُلَامَ عَلَيْهِ . وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ آدَمَ أَبٌ لِمُوسَى وَلَمْ يَسُغْ لِلِابْنِ لَوْمَ أَبِيهِ فِي مَعْصِيَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبُهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام لِأَبِيهِ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ الْإِيمَانِ سَلَامٌ عَلَيْك سَأَسْتَغْفِرُ لَك رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا فَهَذَا بَيَّنَ حُجَّةَ آدَمَ عليه السلام وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 499)
قَالَ أَبُو الْحَسَن الْقَاضِي : اِلْتَقَتْ أَرْوَاحهمَا فِي السَّمَاء ، فَوَقَعَ الْحِجَاج بَيْنهمَا . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : وَيَحْتَمِل أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره . وَأَنَّهُمَا اِجْتَمَعَا بِأَشْخَاصِهِمَا ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيث الْإِسْرَاء أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِجْتَمَعَ بِالْأَنْبِيَاءِ ، صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فِي السَّمَاوَات ، وَفِي بَيْت الْمَقْدِس ، وَصَلَّى بِهِمْ . قَالَ : فَلَا يَبْعُد أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَحْيَاهُمْ كَمَا جَاءَ فِي الشُّهَدَاء . قَالَ : وَيَحْتَمِل أَنَّ ذَلِكَ جَرَى فِي حَيَاة مُوسَى ؛ سَأَلَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُرِيَهُ آدَم فَحَاجَّهُ .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَقَالَ مُوسَى : يَا آدَم أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتنَا ، وَأَخْرَجْتنَا مِنْ الْجَنَّة ) وَفِي رِوَايَة ( أَنْتَ آدَم الَّذِي أَغْوَيْت النَّاس ، وَأَخْرَجْتهمْ مِنْ الْجَنَّة ) وَفِي رِوَايَة ( أُهْبِطَتْ النَّاس بِخَطِيئَتِك إِلَى الْأَرْض ) . مَعْنَى ( خَيَّبْتنَا ) أَوْقَعْتنَا فِي الْخَيْبَة ، وَهِيَ الْحِرْمَان وَالْخُسْرَان . وَقَدْ خَابَ يَخِيب وَيَخُوب ، وَمَعْنَاهُ كُنْت سَبَب خَيْبَتنَا وَإِغْوَائِنَا بِالْخَطِيئَةِ الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا إِخْرَاجُكَ مِنْ الْجَنَّة ، ثُمَّ تَعَرَّضْنَا نَحْنُ لِإِغْوَاءِ الشَّيَاطِين . وَالْغَيّ الِانْهِمَاك فِي الشَّرّ . وَفِيهِ جَوَاز إِطْلَاق الشَّيْء عَلَى سَبَبه . وَفِيهِ ذِكْر الْجَنَّة وَهِيَ مَوْجُودَة مِنْ قَبْل آدَم . هَذَا مَذْهَب أَهْل الْحَقّ .
قَوْله : ( اِصْطَفَاك اللَّه بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَك بِيَدِهِ ) فِي ( الْيَد ) هُنَا الْمَذْهَبَانِ السَّابِقَانِ فِي كِتَاب الْإِيمَان وَمَوَاضِع فِي أَحَادِيث الصِّفَات : أَحَدهمَا الْإِيمَان بِهَا ، وَلَا يُتَعَرَّض لِتَأْوِيلِهَا ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرهَا غَيْر مُرَاد . وَالثَّانِي تَأْوِيلهَا عَلَى الْقُدْرَة . وَمَعْنَى ( اِصْطَفَاك ) أَيْ اِخْتَصَّك وَآثَرَك بِذَلِكَ .
قَوْله : ( أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْر قَدَّرَهُ اللَّه عَلَيَّ قَبْل أَنْ يَخْلُقنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَة ؟ )
الْمُرَاد بِالتَّقْدِيرِ هُنَا الْكِتَابَة فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ ، وَفِي صُحُف التَّوْرَاة وَأَلْوَاحهَا ، أَيْ كَتَبَهُ عَلَيَّ قَبْل خَلْقِي بِأَرْبَعِينَ سَنَة ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ ، ( فَقَالَ : بِكَمْ وَجَدْت اللَّه كَتَبَ التَّوْرَاة قَبْل أَنْ أُخْلَق ؟ قَالَ مُوسَى : بِأَرْبَعِينَ سَنَة . قَالَ : أَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْت عَمَلًا كَتَبَ اللَّه عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلهُ قَبْل أَنْ يَخْلُقنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَة ؟ ) فَهَذِهِ الرِّوَايَة مُصَرِّحَة بِبَيَانِ الْمُرَاد بِالتَّقْدِيرِ ، وَلَا يَجُوز أَنْ يُرَاد بِهِ حَقِيقَة الْقَدَر ، فَإِنَّ عِلْم اللَّه تَعَالَى وَمَا قَدَّرَهُ عَلَى عِبَاده وَأَرَادَ مِنْ خَلْقه أَزَلِيّ لَا أَوَّل لَهُ ، وَلَمْ يَزَلْ سُبْحَانه مُرِيدًا لِمَا أَرَادَهُ مِنْ خَلْقه مِنْ طَاعَة وَمَعْصِيَة ، وَخَيْر وَشَرّ .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَحَجَّ آدَم مُوسَى ) هَكَذَا الرِّوَايَة فِي جَمِيع كُتُب الْحَدِيث بِاتِّفَاقِ النَّاقِلِينَ وَالرُّوَاة وَالشُّرَّاح وَأَهْل الْغَرِيب : ( فَحَجَّ آدَم مُوسَى ) بِرَفْعِ آدَم ، وَهُوَ فَاعِل ، أَيْ غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ ، وَظَهَرَ عَلَيْهِ بِهَا . وَمَعْنَى كَلَام آدَم أَنَّك يَا مُوسَى تَعْلَم أَنَّ هَذَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْل أَنْ أُخْلَق ، وَقُدِّرَ عَلَيَّ ، فَلَا بُدّ مِنْ وُقُوعه ، وَلَوْ حَرَصْت أَنَا وَالْخَلَائِق أَجْمَعُونَ عَلَى رَدِّ مِثْقَال ذَرَّة مِنْهُ لَمْ نَقْدِر ، فَلِمَ تَلُومنِي عَلَى ذَلِكَ ؟ وَلِأَنَّ اللَّوْم عَلَى الذَّنْب شَرْعِيّ لَا عَقْلِيّ ، وَإِذْ تَابَ اللَّه تَعَالَى عَلَى آدَم ، وَغَفَرَ لَهُ ، زَالَ عَنْهُ اللَّوْم فَمَنْ لَامَهُ كَانَ مَحْجُوجًا بِالشَّرْعِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْعَاصِي مِنَّا لَوْ قَالَ : هَذِهِ الْمَعْصِيَة قَدَّرَهَا اللَّه عَلَيَّ لَمْ يَسْقُط عَنْهُ اللَّوْم وَالْعُقُوبَة بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِيمَا قَالَهُ . فَالْجَوَاب أَنَّ هَذَا الْعَاصِي بَاقٍ فِي دَار التَّكْلِيف ، جَارٍ عَلَيْهِ أَحْكَام الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْعُقُوبَة وَاللَّوْم وَالتَّوْبِيخ وَغَيْرهَا ، وَفِي لَوْمه وَعُقُوبَته زَجْر لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَنْ مِثْل هَذَا الْفِعْل ، وَهُوَ مُحْتَاج إِلَى زَجْر مَا لَمْ يَمُتْ فَأَمَّا آدَم فَمَيِّت خَارِج عَنْ دَار التَّكْلِيف وَعَنْ الْحَاجَة إِلَى الزَّجْر ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَوْل الْمَذْكُور لَهُ فَائِدَة ، بَلْ فِيهِ إِيذَاء وَتَخْجِيل . وَاَللَّه أَعْلَم .
. أَيْ : غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَلَّتْ فِيهِ طَائِفَتَانِ :
" طَائِفَةٌ " كَذَّبَتْ بِهِ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهُ يَقْتَضِي رَفْعَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَمَّنْ عَصَى اللَّهَ لِأَجْلِ الْقَدَرِ .
وَ " طَائِفَةٌ " شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ جَعَلُوهُ حُجَّةً ،وَقَدْ يَقُولُونَ : الْقَدَرُ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْحَقِيقَةِ الَّذِينَ شَهِدُوهُ، أَوْ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ أَنَّ لَهُمْ فِعْلًا .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّمَا حَجَّ آدَمَ مُوسَى لِأَنَّهُ أَبُوهُ ،أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَابَ، أَوْ لِأَنَّ الذَّنْبَ كَانَ فِي شَرِيعَةٍ ،وَاللَّوْمَ فِي أُخْرَى، أَوْ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْأُخْرَى . وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ .
وَلَكِنَّ وَجْهَ الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَلُمْ أَبَاهُ إلَّا لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَقَالَ لَهُ : لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ لَمْ يَلُمْهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَتَابَ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ مُوسَى يَعْلَمُ أَنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ لَا يُلَامُ، وَهُوَ قَدْ تَابَ مِنْهُ أَيْضًا، وَلَوْ كَانَ آدَمَ يَعْتَقِدُ رَفْعَ الْمَلَامِ عَنْهُ لِأَجْلِ الْقَدَرِ لَمْ يَقُلْ : { . رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1)(23) سورة الأعراف.
وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ عِنْدَ الْمَصَائِبِ أَنْ يَصْبِرَ وَيُسَلِّمَ، وَعِنْدَ الذُّنُوبِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ ،قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}(2) (55) سورة غافر، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنَ المعائب . وَقَالَ تَعَالَى : {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3)(11) سورة التغابن ،قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ(4)، فَالْمُؤْمِنُونَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ مِثْلُ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالذُّلِّ صَبَرُوا لِحُكْمِ اللَّهِ ،وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذَنْبِ غَيْرِهِمْ ،كَمَنْ أَنْفَقَ أَبُوهُ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي فَافْتَقَرَ أَوْلَادُهُ لِذَلِكَ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَصْبِرُوا لِمَا أَصَابَهُمْ ،وَإِذَا لَامُوا الْأَبَ لِحُظُوظِهِمْ ذَكَرَ لَهُمْ الْقَدَرَ .
وَ " الصَّبْرُ " وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ(5)
__________
(1) - فَقَالَ آدَمُ وَزَوْجُهُ نَادِمَيْنِ مُتَضَرِّعَيْنِ : رَبَّنَا إِنَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا بِطَاعَتِنَا لِلشَّيْطَانِ ، وَمَعْصِيَتِنا لأَمْرِكَ ، وَقَدْ أَنْذَرْتَنَا ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا مَا ظَلَمْنَا بِهِ أَنْفُسَنَا ، وَتَرْحَمْنَا بِالرِّضا عَنَّا ، وَتُوَفِقْنَا لِلهِدَايَةِ ، وَتَرْكِ الظُّلْمِ ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ لأَنْفُسِنَا .
( وَهَذِهِ هِيَ الكَلِمَاتُ التِي تَلَقَّاهَا آدَمُ مِنْ رَبِّهِ مُعْتَذِراً لِيَغْفِرَ لَهُ ) .
(2) - فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ لأَمْرِ رَبِّكَ ، وَبَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وَأَيْقِنْ بِأَنَّ اللهَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لَكَ ، وَنَاصِرُكَ وَمُؤَيِّدُكَ عَلَى مِنْ عَادَاكَ وَعَانَدَكَ ، وَكَفَرَ بِرِسَالَتِكَ ، وَسَلْ رَبَّكَ المَغْفِرَةِ لِذَنْبِكَ ، والصَّفْحَ عَنْكَ ، وَصَلِّ فِي طَرَفِيْ النِّهَارِ ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً فِي الصِّبَاحِ والمَسَاءِ .
(3) - مَا أَصَابَ أَحَداً شَيءٌ مِنْ رَزَايَا الدُّنْيَا وَمَصَائِبِهَا ، إِلاَّ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، فَالمَرْءُ يَعْمَلُ وَيَتَّخِذُ مِنَ الأَسْبَابِ مَا هُوَ في طَوقِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ ، لَجَلْبِ الخَيْرِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَلَكِنَّ النَّتَائِجَ بِيَدِ اللهِ وَوفْقَ قَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، فَإِذَا مَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَعَلَيْهِ أَلاَّ يَغْتَمَّ وَلاَ يَحْزَنَ ، وَعَلَيهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّما كَانَ ذَلِكَ بإِرَادَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ . وَمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ وَآمَنَ أَنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ بِقَضَاءِ اللهِ ، وَقَدَرِهِ ، فَصَبَرَ واحْتَسَبَ ، عَوَّضَهُ اللهُ عَنْ إِصَابَتِهِ فِي الدُّنْيَا ، هُدًى فِي قَلْبِهِ ، وَيَقِينا صَادِقاً بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالأَشْيَاءِ كُلِّهَا . فَالمُؤْمِنُ عَلَيهِ وَاجبَانِ :
- السَّعْيُ وَبَذْلُ الجُهْدِ واتِّخَاذُ الأَسْبَابِ لِجَلْبِ الخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ مَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً .
- ثُمَّ التَّوكُّلُ عَلَى اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ اليَقِينَ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَحْدُثُ هُوَ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَلاَ يَغْتَمُّ وَلاَ يَحْزَنُ لِمَا يَقَعُ .
(4) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 4 / ص 66)(7384)حسن
(5) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 38)
وَيَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اُبْتُلِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ وَيَثْبُتَ وَلَا يَتَّكِلَ حَتَّى يَكُونَ مِنْ الرِّجَالِ الْمُوقِنِينَ الْقَائِمِينَ بِالْوَاجِبَاتِ . وَلَا بُدَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ الصَّبْرِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ وَاجِبًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ . وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ عَنْ أَنْ يَجْزَعَ فِيهَا وَالصَّبْرُ عَنْ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الصَّبْرَ فِي كِتَابِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِينَ مَوْضِعًا وَقَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } إلَى قَوْلِهِ { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } الْآيَةَ وَجَعَلَ " الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ " مَوْرُوثَةً عَنْ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ بِقَوْلِهِ : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } فَإِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ عِلْمٌ بِالْحَقِّ وَعَمَلٌ بِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الصَّبْرِ بَلْ وَطَلَبُ عِلْمِهِ يَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ طَلَبَهُ لِلَّهِ عِبَادَةٌ وَمَعْرِفَتَهُ خَشْيَةٌ وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ ؛ وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ . بِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ وَيُعْبَدُ وَبِهِ يُمَجَّدُ اللَّهُ وَيُوَحَّدُ يَرْفَعُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ أَقْوَامًا يَجْعَلُهُمْ لِلنَّاسِ قَادَةً وَأَئِمَّةً يَهْتَدُونَ بِهِمْ وَيَنْتَهُونَ إلَى رَأْيِهِمْ . فَجَعَلَ الْبَحْثَ عَنْ الْعِلْمِ مِنْ الْجِهَادِ وَلَا بُدَّ فِي الْجِهَادِ مِنْ الصَّبْرِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْعَصْرِ } { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } فَالْعِلْمُ النَّافِعُ هُوَ أَصْلُ الْهُدَى وَالْعَمَلُ بِالْحَقِّ هُوَ الرَّشَادُ وَضِدُّ الْأَوَّلِ الضَّلَالُ وَضِدُّ الثَّانِي الْغَيُّ فَالضَّلَالُ الْعَمَلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَالْغَيُّ اتِّبَاعُ الْهَوَى . قَالَ تَعَالَى : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } فَلَا يُنَالُ الْهُدَى إلَّا بِالْعِلْمِ وَلَا يُنَالُ الرَّشَادُ إلَّا بِالصَّبْرِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ : أَلَا إنَّ الصَّبْرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ - فَإِذَا انْقَطَعَ الرَّأْسُ بَانَ الْجَسَدُ - ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ أَلَا لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ
، وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الرِّضَا بِحُكْمِ اللَّهِ.(1)
__________
(1) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 40)
وَأَمَّا " الرِّضَا " فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ وَالْمَشَايِخُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ : هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْمُقْتَصِدِينَ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْمُقَرَّبِينَ . قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرِّضَا عَزِيزٌ وَلَكِنَّ الصَّبْرَ مِعْوَلُ الْمُؤْمِنِ . وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا } .
وَلِهَذَا لِمَ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا مَدْحُ الرَّاضِينَ لَا إيجَابُ ذَلِكَ وَهَذَا فِي الرِّضَا بِمَا يَفْعَلُهُ الرَّبُّ بِعَبْدِهِ مِنْ الْمَصَائِبِ كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالزِّلْزَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } وَقَالَ تَعَالَى { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا } فَالْبَأْسَاءُ فِي الْأَمْوَالِ وَالضَّرَّاءُ فِي الْأَبْدَانِ وَالزِّلْزَالُ فِي الْقُلُوبِ . وَأَمَّا " الرِّضَا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ " فَأَصْلُهُ وَاجِبٌ وَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا } وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمَحَبَّةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } وَمِنْ " النَّوْعِ الْأَوَّلِ " مَا رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ لِلَّهِ وَرِضَاهُ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ . وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُ اسْتِخَارَتِهِ لِلَّهِ وَسُخْطُهُ بِمَا يَقْسِمُ اللَّهُ لَهُ } .
وَأَمَّا " الرِّضَا بِالْمَنْهِيَّاتِ " مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ لَا يَشْرَعُ الرِّضَا بِهَا كَمَا لَا تَشْرَعُ مَحَبَّتُهَا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَرْضَاهَا وَلَا يُحِبُّهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ قَدَّرَهَا وَقَضَاهَا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } بَلْ يَسْخَطُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَالَتْ طَائِفَةٌ تَرْضَى مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُضَافَةً إلَى اللَّهِ خَلْقًا وَتَسْخَطُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُضَافَةً إلَى الْعَبْدِ فِعْلًا وَكَسْبًا . وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَافِي الَّذِي قَبْلَهُ بَلْ هُمَا يَعُودَانِ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ لِحِكْمَةِ فَهِيَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ مَحْبُوبَةٌ مَرْضِيَّةٌ وَقَدْ تَكُونُ فِي نَفْسِهَا مَكْرُوهَةٌ وَمَسْخُوطَةٌ . إذْ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَجْتَمِعُ فِيهِ وَصْفَانِ يُحِبُّ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَكْرَهُ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ وَصْفُ اللَّهِ وَفِعْلُهُ لَا بِالْمَقْضِيِّ الَّذِي هُوَ مَفْعُولُهُ فَهُوَ خُرُوجٌ مِنْهُ عَنْ مَقْصُودِ الْكَلَامِ . فَإِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الرِّضَا فِيمَا يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الرِّضَا بِمَفْعُولَاتِهِ وَالْكَلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا قَدْ بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالرِّضَا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فَكَمَالُهُ هُوَ الْحَمْدُ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ فَسَّرَ الْحَمْدَ بِالرِّضَا ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَمْدُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَذَلِكَ بِتَضَمُّنِ الرِّضَا بِقَضَائِهِ . وَفِي الْحَدِيثِ : { أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ إذَا أَتَاهُ الْأَمْرُ يَسُرُّهُ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ وَإِذَا أَتَاهُ الْأَمْرُ الَّذِي يَسُوءُهُ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ } وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ { قَالَ : إذَا قُبِضَ وَلَدُ الْعَبْدِ يَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : أَقَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيَقُولُ : أَقَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيَقُولُ : مَاذَا قَالَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : حَمِدَك وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ } وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ وَأُمَّتُهُ هُمْ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ . وَالْحَمْدُ عَلَى الضَّرَّاءِ يُوجِبُهُ مَشْهَدَانِ :
أَحَدُهُمَا : عِلْمُ الْعَبْدِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُسْتَوْجِبٌ لِذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ لِنَفْسِهِ ؛ فَإِنَّهُ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَأَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . الْخَبِيرُ الرَّحِيمُ .
وَالثَّانِي : عِلْمُهُ بِأَنَّ اخْتِيَارَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ } فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كُلَّ قَضَاءٍ يَقْضِيهِ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ وَيَشْكُرُ عَلَى السَّرَّاءِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } وَذَكَرَهُمَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ . فَأَمَّا مَنْ لَا يَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَا يَشْكُرُ عَلَى الرَّخَاءِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ خَيْرًا لَهُ . وَلِهَذَا أُجِيبُ مَنْ أَوْرَدَ هَذَا عَلَى مَا يُقْضَى عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ الْمَعَاصِي بِجَوَابَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ لَا مَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } أَيْ مِنْ سَرَّاءَ { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أَيْ مِنْ ضَرَّاءَ . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أَيْ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } فَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ يُرَادُ بِهَا المسار وَالْمَضَارُّ وَيُرَادُ بِهَا الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي . ( وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ الصَّبَّارِ الشَّكُورِ . وَالذُّنُوبُ تُنْقِصُ الْإِيمَانَ فَإِذَا تَابَ الْعَبْدُ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَقَدْ تَرْتَفِعُ دَرَجَتُهُ بِالتَّوْبَةِ . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كَانَ دَاوُد بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ فَمَنْ قُضِيَ لَهُ بِالتَّوْبَةِ كَانَ كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَتَكُونُ نُصْبَ عَيْنِهِ وَيَعْجَبُ بِهَا وَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَتَكُونُ نُصْبَ عَيْنِهِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ إلَيْهِ مِنْهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ } وَالْمُؤْمِنُ إذَا فَعَلَ سَيِّئَةً فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ بِعَشَرَةِ أَسْبَابٍ : أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ . أَوْ يَسْتَغْفِرُ فَيُغْفَرُ لَهُ أَوْ يَعْمَلُ حَسَنَاتٍ تَمْحُوهَا فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ . أَوْ يَدْعُو لَهُ إخْوَانُهُ الْمُؤْمِنُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا . أَوْ يَهْدُونَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ مَا يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ أَوْ يَشْفَعُ فِيهِ نَبِيُّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَوْ يَبْتَلِيهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُ عَنْهُ أَوْ يَبْتَلِيهِ فِي الْبَرْزَخِ بِالصَّعْقَةِ فَيُكَفِّرُ بِهَا عَنْهُ . أَوْ يَبْتَلِيهِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ مِنْ أَهْوَالِهَا بِمَا يُكَفِّرُ عَنْهُ . أَوْ يَرْحَمُهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ .
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 5329) =رقم الفتوى 35549 الاعتراض القلبي على القضاء لا يجوز =تاريخ الفتوى : 04 جمادي الثانية 1424
السؤال
السلام عليكم والرحمة والبركات أريد الإفادة في أنه إذا وقع بالإنسان أي نوع من الإبتلاء من الله ولم يصبر عليه، بأن اعترض مع نفسه وتذمر من داخله بهذا القضاء، وأراد تغييره بأي طريقة ولم يستطع، فهل هذا يؤدي به إلى غضب من الله أم أن الله يعطي له أجر هذا الابتلاء بغض النظر عن صبره عليه أم لا؟ وأفادكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: الصبر على البلاء وعدم الجزع أمر مطلوب شرعًا، والأجر فيه بقدر الصبر والتسليم لله عز وجل، وذلك لأن الابتلاء تمحيص للمؤمن واختبار له. قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ[العنكبوت:2]. وقد بسطنا القول في هذا في الفتوى رقم: 9803 . وعليه فلا يجوز للمسلم أن يصدر عنه قول أو فعل ينافي الرضا بقضاء الله تعالى وقدره، وإلا كان فاعل ذلك في غاية العصيان لله تعالى، وذلك لأن قضاء الله تعالى خير كله، وعدل وحكمة، فيرضى به كله. فإن وقع منه لا على سبيل التسخط فلا حرج فيه إن شاء الله تعالى، كما وقع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، حين قالت: وا رأساه. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا وا رأساه. قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: وفيه أن ذكر الوجع ليس بشكاية، فكم من ساكت وهو ساخط، وكم شاك وهو راضٍ، فالمعول في ذلك على عمل القلب لا على نطق اللسان. ومن هذا يتضح للسائل عدم جواز اعتراض القلب على قضاء الله وقدره، اللهم إلاَّ إذا كان ذلك وسوسة لا يستطيع دفعها، فحينئذ لا مؤاخذة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم. رواه البخاري ومسلم. وليس من عدم الرضا بالقضاء طلب تغيير الابتلاء بالطرق الشرعية، كأن يكون الإنسان مريضًا فيذهب إلى الطبيب للمعالجة أو الرقية الشرعية. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
وَ " الرِّضَا " قَدْ قِيلَ : إنَّهُ وَاجِبٌ وَقِيلَ : هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الصَّحِيحُ ،وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى الْمُصِيبَةِ لِمَا يَرَى مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِهَا حَيْثُ جَعَلَهَا سَبَبًا لِتَكْفِيرِ خَطَايَاهُ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِ وَإِنَابَتِهِ وَتَضَرُّعِهِ إلَيْهِ وَإِخْلَاصِهِ لَهُ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَرَجَائِهِ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْبَغْيِ وَالضَّلَالِ فَتَجِدُهُمْ يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ إذَا أَذْنَبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ،وَيُضِيفُونَ الْحَسَنَاتِ إلَى أَنْفُسِهِمْ إذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهَا ،كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ :أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ ؛ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ (1)
__________
(1) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 8 / ص 107)
وَالنَّاسُ فِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ عَلَى " أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ " فَشَرُّ الْخَلْقِ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَرَاهُ حُجَّةً لِغَيْرِهِ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ فِي الذُّنُوبِ والمعائب وَلَا يَطْمَئِنُّ إلَيْهِ فِي الْمَصَائِبِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ . وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ خَيْرُ الْخَلْقِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرُونَ مِنْ المعائب كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ . قَالَ تَعَالَى { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ مَا فَعَلَ قَالَ { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَعَنْ إبْلِيسَ أَنَّهُ قَالَ { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } فَمَنْ تَابَ أَشْبَهَ أَبَاهُ آدَمَ وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ أَشْبَهَ إبْلِيسَ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى . { أَنْتَ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَعَلَّمَك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ فَبِكَمْ وَجَدْت مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } قَالَ : بِكَذَا وَكَذَا سَنَةً قَالَ فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى } . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا حَجَّ مُوسَى لِأَنَّ مُوسَى لَامَهُ عَلَى مَا فَعَلَ لِأَجْلِ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْمُصِيبَةِ بِسَبَبِ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ لَمْ يَكُنْ لَوْمُهُ لَهُ لِأَجْلِ حَقِّ اللَّهِ فِي الذَّنْبِ . فَإِنَّ آدَمَ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } وَمُوسَى - وَمَنْ هُوَ دُونَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ لَا يَبْقَى مَلَامٌ عَلَى الذَّنْبِ وَآدَمُ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى الذَّنْبِ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يَقْبَلَ هَذِهِ الْحُجَّةَ فَإِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ حُجَّةً عَلَى الذَّنْبِ لَكَانَتْ حُجَّةً لإبليس عَدُوِّ آدَمَ وَحُجَّةً لِفِرْعَوْنَ عَدُوِّ مُوسَى وَحُجَّةً لِكُلِّ كَافِرٍ وَفَاجِرٍ وَبَطَلَ أَمْرُ اللَّهِ وَنَهْيُهُ ؛ بَلْ إنَّمَا كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِآدَمَ عَلَى مُوسَى لِأَنَّهُ لَامَ غَيْرَهُ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِفِعْلِ ذَلِكَ وَتِلْكَ الْمُصِيبَةُ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } . وَقَالَ أَنَسٌ : { خَدَمْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي : أُفٍّ قَطُّ وَلَا قَالَ لِشَيْءِ فَعَلْته : لِمَ فَعَلْته ؟ وَلَا لِشَيْءِ لَمْ أَفْعَلْهُ : لِمَ لَا فَعَلْته ؟ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ إذَا عَاتَبَنِي عَلَى شَيْءٍ يَقُولُ دَعُوهُ فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ } . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا } . فَفِي أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ يُسَارِعُ إلَى الطَّاعَةِ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ وَلَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَإِذَا آذَاهُ مُؤْذٍ أَوْ قَصَّرَ مُقَصِّرٌ فِي حَقِّهِ عَفَا عَنْهُ وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ نَظَرًا إلَى الْقَدَرِ . فَهَذَا سَبِيلُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . وَهَذَا وَاجِبٌ فِيمَا قُدِّرَ مِنْ الْمَصَائِبِ بِغَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ كَالْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ أَوْ بِفِعْلِ لَا سَبِيلَ فِيهِ إلَى الْعُقُوبَةِ كَفِعْلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى لَوْمِهِ شَرْعًا - لِأَجْلِ التَّوْبَةِ - وَلَا قَدَرًا ؛ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ . وَأَمَّا إذَا ظَلَمَ رَجُلٌ رَجُلًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَظْلِمَتَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ وَإِنْ عَفَا عَنْهُ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } . وَأَمَّا " الصِّنْفُ الثَّالِثُ " فَهُمْ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ إلَى الْقَدَرِ لَا فِي المعائب وَلَا فِي الْمَصَائِبِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بَلْ يُضِيفُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ إلَى الْعَبْدِ وَإِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا وَهَذَا حَسَنٌ ؛ لَكِنْ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِفِعْلِ الْعَبْدِ لَمْ يَنْظُرُوا إلَى الْقَدَرِ الَّذِي مَضَى بِهِ عَلَيْهِمْ وَلَا يَقُولُونَ لِمَنْ قَصَّرَ فِي حَقِّهِمْ دَعُوهُ فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْمُصِيبَةُ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ فَلَا يَنْظُرُونَ إلَيْهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } . وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } . فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَنَازَعَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ مُثْبِتِي الْقَدَرِ ونفاته : هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا مِنْ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَةُ مِنْ نَفْسِك لِقَوْلِهِ { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } . وَقَدْ يُجِيبُهُمْ الْأَوَّلُونَ بِقِرَاءَةِ مَكْذُوبَةٍ { فَمِنْ نَفْسِكَ } بِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَرُبَّمَا قَدَّرَ بَعْضُهُمْ تَقْدِيرًا : أَيْ أَفَمِنْ نَفْسِك ؟ وَرُبَّمَا قَدَّرَ بَعْضُهُمْ الْقَوْلَ فِي قَوْله تَعَالَى { مَا أَصَابَكَ } فَيَقُولُونَ : تَقْدِيرُ الْآيَةِ { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } يَقُولُونَ فَيُحَرِّفُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ وَيَجْعَلُونَ مَا هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ - قَوْلَ الصِّدْقِ - مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَنْكَرَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ وَيُضْمِرُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ بَلْ سِيَاقُ الْكَلَامِ يَنْفِيهِ ؛ فَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ جَاهِلَةٌ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ وَبِحَقِيقَةِ الْمَذْهَبِ الَّذِي تَنْصُرُهُ . وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَكَقَوْلِهِ : { إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ } { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا } الْآيَةَ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أَيْ بِالنِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ . وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى إشْكَالٌ ؛ بَلْ هُوَ مُبِينٌ . وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ : { مَا أَصَابَكَ } وَمَا { مِسْكٌ } وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِك بِك كَمَا قَالَ { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى { إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } . وَإِذَا قَالَ { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ } كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْجَائِي بِهَا فَهَذَا يَكُونُ فِيمَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ لَا فِيمَا فُعِلَ بِهِ . وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ ذَكَرَ هَذَا فِي سِيَاقِ الْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ وَذَمِّ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهُ فَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } { وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } . فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْجِهَادِ وَذَمَّ الْمُثَبِّطِينَ وَذَكَرَ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ تَارَةً مِنْ الْمُصِيبَةِ فِيهِ وَتَارَةً مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فِيهِ كَمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مُصِيبَةٌ فَقَالَ : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } . وَأَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ بِنَصْرِهِ لَهُمْ وَتَأْيِيدِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ } - إلَى قَوْلِهِ - { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } فَهَذَا مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ إذَا أَصَابَهُمْ نَصْرٌ وَغَيْرُهُ مِنْ النِّعَمِ قَالُوا هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ أَصَابَهُمْ ذُلٌّ وَخَوْفٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَائِبِ قَالُوا : هَذَا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ بِسَبَبِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ يُضِيفُونَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْمَصَائِبِ إلَى فِعْلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ . وَقَدْ ذَكَرَ نَظِيرَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } . وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ يس { قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } { وَمَا عَلَيْنَا إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } { قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ جَعَلُوهُ بِسَبَبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْخَيْرِ جَعَلُوهُ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ تَعَالَى { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } وَاَللَّهُ تَعَالَى نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ فَلَوْ فَهِمُوا الْقُرْآنَ لَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ أَمَرَ بِالْخَيْرِ وَنَهَى عَنْ الشَّرِّ فَلَيْسَ فِيمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّرِّ بَلْ الشَّرُّ حَصَلَ بِذُنُوبِ الْعِبَادِ فَقَالَ تَعَالَى { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } أَيْ مَا أَصَابَك مِنْ نَصْرٍ وَرِزْقٍ وَعَافِيَةٍ فَمِنْ اللَّهِ نِعْمَةً أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْك وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ أَعْمَالِك الصَّالِحَةِ فَهُوَ الَّذِي هَدَاك وَأَعَانَك ويسرك لِلْيُسْرَى وَمَنَّ عَلَيْك بِالْإِيمَانِ وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِك وَكَرَّهَ إلَيْك الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ . وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي ؛ فَاغْفِرْ لِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ . مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ } مِنْ ذُلٍّ وَخَوْفٍ وَهَزِيمَةٍ كَمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ { فَمِنْ نَفْسِكَ } أَيْ بِذُنُوبِك وَخَطَايَاك وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا مُقَدَّرًا عَلَيْك فَإِنَّ الْقَدَرَ لَيْسَ حُجَّةً لِأَحَدِ لَا عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى خَلْقِهِ وَلَوْ جَازَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ لَمْ يُعَاقَبْ ظَالِمٌ وَلَمْ يُقَاتَلْ مُشْرِكٌ وَلَمْ يُقَمْ حَدٌّ وَلَمْ يَكُفَّ أَحَدٌ عَنْ ظُلْمِ أَحَدٍ وَهَذَا مِنْ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا الْمَعْلُومُ ضَرُورَةً فَسَادُهُ لِلْعَالَمِ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ الْمُطَابِقِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . فَالْقَدَرُ يُؤْمِنُ بِهِ وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ ضَارَعَ الْمَجُوسَ وَمَنْ احْتَجَّ بِهِ ضَارَعَ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ أَقَرَّ بِالْأَمْرِ وَالْقَدَرِ وَطَعَنَ فِي عَدْلِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ كَانَ شَبِيهًا بإبليس فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ طَعَنَ فِي حِكْمَتِهِ وَعَارَضَهُ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ وَأَنَّهُ قَالَ { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْمَقَالَاتِ كالشهرستاني أَنَّهُ نَاظَرَ الْمَلَائِكَةَ فِي ذَلِكَ مُعَارِضًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ ؛ لَكِنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ بَيْنَ إبْلِيسَ وَالْمَلَائِكَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي أَوَّلِ الْمَقَالَاتِ وَنَقَلَهَا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَلَوْ وَجَدْنَاهَا فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ أَنْ نُصَدِّقَهَا لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ { إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُونَهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُونَهُ } . وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمُنَاظَرَةُ مِنْ وَضْعِ بَعْضِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ إمَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَّا مِنْ الْمُسْلِمِينَ . والشهرستاني نَقَلَهَا مِنْ كُتُبِ الْمَقَالَاتِ وَالْمُصَنِّفُونَ فِي الْمَقَالَاتِ يَنْقُلُونَ كَثِيرًا مِنْ الْمَقَالَاتِ مِنْ كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ كَمَا نَقَلَ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ مَا نَقَلَهُ فِي الْمَقَالَاتِ مِنْ كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَكْثَرِ الطَّوَائِفِ وَأَوَّلِهَا تَصْنِيفًا فِي هَذَا الْبَابِ وَلِهَذَا تُوجَدُ الْمَقَالَاتُ مَنْقُولَةً بِعِبَارَاتِهِمْ فَوَضَعُوا هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ عَلَى لِسَانِ إبْلِيسَ كَمَا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْهُمْ يَضَعُ كِتَابًا أَوْ قَصِيدَةً عَلَى لِسَانِ بَعْضِ الْيَهُودِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَمَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ يَقُولُونَ إنَّ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ ؛ كَمَا وَضَعُوا فِي مَثَالِبِ ابْنِ كُلَّابٍ أَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ وَعِنْدَهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ فَقَدْ أَشْبَهَ النَّصَارَى وَتُتَلَقَّى أَمْثَالُ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ بِالْقَبُولِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ أَمْرِهَا . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ حُجَّةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ : حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فَلَوْ كَانَتْ حُجَّتُهُمْ مَقْبُولَةً لَمْ يُعَذِّبْهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَحُجَّةٌ عَلَى مَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ السَّيِّئَةَ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ وَالْقَدَرِيَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِلْمَعْصِيَةِ كَمَا هُوَ الْمُحْدِثُ لِلطَّاعَةِ وَاَللَّهُ عِنْدَهُمْ مَا أَحْدَثَ لَا هَذَا وَلَا هَذَا ؛ بَلْ أَمَرَ بِهَذَا وَنَهَى عَنْ هَذَا . وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ لِلَّهِ نِعْمَةٌ أَنْعَمَهَا عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّينِ إلَّا وَقَدْ أَنْعَمَ بِمِثْلِهَا عَلَى الْكُفَّارِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَبَا لَهَبٍ مُسْتَوِيَانِ فِي نِعْمَةِ اللَّهِ الدِّينِيَّةِ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا أُرْسِلَ إلَيْهِ الرَّسُولُ وَأُقْدِرَ عَلَى الْفِعْلِ وَأُزِيحَتْ عِلَّتُهُ لَكِنَّ هَذَا فَعَلَ الْإِيمَانَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخُصَّهُ بِنِعْمَةِ آمَنَ بِهَا وَهَذَا فَعَلَ الْكُفْرَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَضِّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ وَلَا خَصَّهُ بِنِعْمَةِ آمَنَ لِأَجْلِهَا وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ حَبَّبَ الْإِيمَانَ إلَى الْكُفَّارِ كَأَبِي لَهَبٍ وَأَمْثَالِهِ كَمَا حَبَّبَهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ كَعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمْثَالِهِ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِ الطَّائِفَتَيْنِ وَكَرَّهَ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ إلَى الطَّائِفَتَيْنِ سَوَاءٌ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ كَرِهُوا مَا كَرَّهَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ بِغَيْرِ نِعْمَةٍ خَصَّهُمْ بِهَا وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكْرَهُوا مَا كَرَّهَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ . وَمَنْ تَوَهَّمَ عَنْهُمْ أَوْ مَنْ نَقَلَ عَنْهُمْ أَنَّ الطَّاعَةَ مِنْ اللَّهِ وَالْمَعْصِيَةَ مِنْ الْعَبْدِ فَهُوَ جَاهِلٌ بِمَذْهَبِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَدَرِيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَهُ فَإِنَّ أَصْلَ قَوْلِهِمْ إنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لِلطَّاعَةِ كَفِعْلِهِ لِلْمَعْصِيَةِ كِلَاهُمَا فَعَلَهُ بِقُدْرَةِ تَحْصُلُ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخُصَّهُ اللَّهُ بِإِرَادَةِ خَلَقَهَا فِيهِ وَلَا قُوَّةٍ جَعَلَهَا فِيهِ تَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا فَإِذَا احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ كَانُوا جَاهِلِينَ بِمَذْهَبِهِمْ وَكَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ الْحَسَنَاتُ الْمَفْعُولَةُ وَلَا السَّيِّئَاتُ الْمَفْعُولَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بَلْ كِلَاهُمَا مِنْ الْعَبْدِ وقَوْله تَعَالَى { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ الْحَسَنَةَ الْمَفْعُولَةَ وَالسَّيِّئَةَ الْمَفْعُولَةَ مِنْ الْعَبْدِ لَا مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ احْتَجَّ مِنْ مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ بِالْآيَةِ عَلَى إثْبَاتِهِ إذَا احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } كَانَ مُخْطِئًا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَةُ مِنْ الْعَبْدِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ طَوَائِفِ النَّاسِ ؛ أَنَّ الْحَسَنَةَ الْمَفْعُولَةَ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَةَ الْمَفْعُولَةَ مِنْ الْعَبْدِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ نَفْسَ فِعْلِ الْعَبْدِ وَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ : أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ وَمَفْعُولٌ لَهُ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمُتَحَرِّكُ بِالْأَفْعَالِ وَبِهِ قَامَتْ وَمِنْهُ نَشَأَتْ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَلَقَهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ هَذَا { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } يَمْتَنِعُ أَنْ يُفَسَّرَ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْإِثْبَاتِ لَا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ خَالِقُ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى ؛ بَلْ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَكُلِّ الْحَوَادِثِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ - مَعَ قَوْلِهِمْ : اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْعَبْدَ هَلُوعًا إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا وَنَحْوَ ذَلِكَ - إنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ حَقِيقَةً وَلَهُ مَشِيئَةٌ وَقُدْرَةٌ قَالَ تَعَالَى : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { كَلَّا إنَّهُ تَذْكِرَةٌ } { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } { وَمَا يَذْكُرُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } . وَهَذَا الْمَوْضِعُ اضْطَرَبَ فِيهِ الْخَائِضُونَ فِي الْقَدَرِ فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ النفاة : الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ أَفْعَالٌ قَبِيحَةٌ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَكُونُ فِعْلًا لَهُ . وَقَالَ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَائِلِينَ إلَى الْجَبْرِ بَلْ هِيَ فِعْلُهُ وَلَيْسَتْ أَفْعَالًا لِلْعِبَادِ بَلْ هِيَ كَسْبٌ لِلْعَبْدِ : وَقَالُوا : إنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي حُدُوثِ مَقْدُورِهَا وَلَا فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا وَإِنَّ اللَّهَ أَجْرَى الْعَادَةَ بِخَلْقِ مَقْدُورِهَا مُقَارِنًا لَهَا فَيَكُونُ الْفِعْلُ خَلْقًا مِنْ اللَّهِ إبْدَاعًا وَإِحْدَاثًا وَكَسْبًا مِنْ الْعَبْدِ لِوُقُوعِهِ مُقَارِنًا لِقُدْرَتِهِ وَقَالُوا : إنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مُحْدِثًا لِأَفْعَالِهِ وَلَا مُوجِدًا لَهَا وَمَعَ هَذَا فَقَدَ يَقُولُونَ : إنَّا لَا نَقُولُ بِالْجَبْرِ الْمَحْضِ بَلْ نُثْبِتُ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً حَادِثَةً وَالْجَبْرِيُّ الْمَحْضُ الَّذِي لَا يُثْبِتُ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً . وَأَخَذُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْكَسْبِ الَّذِي أَثْبَتُوهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فَقَالُوا : الْكَسْبُ عِبَارَةٌ عَنْ اقْتِرَانِ الْمَقْدُورِ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ وَالْخَلْقُ هُوَ الْمَقْدُورُ بِالْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ وَقَالُوا : أَيْضًا الْكَسْبُ هُوَ الْفِعْلُ الْقَائِمُ بِمَحَلِّ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالْخَلْقُ هُوَ الْفِعْلُ الْخَارِجُ عَنْ مَحَلِّ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ . فَقَالَ لَهُمْ النَّاسُ : هَذَا لَا يُوجِبُ فَرْقًا بَيْنَ كَوْنِ الْعَبْدِ كَسَبَ وَبَيْنَ كَوْنِهِ فَعَلَ وَأَوْجَدَ وَأَحْدَثَ وَصَنَعَ وَعَمِلَ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ فِعْلَهُ وَإِحْدَاثَهُ وَعَمَلَهُ وَصُنْعَهُ هُوَ أَيْضًا مَقْدُورٌ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ وَهُوَ قَائِمٌ فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ . وَ ( أَيْضًا فَهَذَا فَرْقٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّ كَوْنَ الْمَقْدُورِ فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ أَوْ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّهَا لَا يَعُودُ إلَى نَفْسِ تَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ فِيهِ : وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى " أَصْلَيْنِ " إنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّ خَلْقَهُ لِلْعَالَمِ هُوَ نَفْسُ الْعَالَمِ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ . وَ ( الثَّانِي إنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ مَقْدُورُهَا إلَّا فِي مَحَلِّ وُجُودِهَا وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ مَقْدُورِهَا خَارِجًا عَنْ مَحَلِّهَا . وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ طَوِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَ ( أَيْضًا فَإِذَا فُسِّرَ التَّأْثِيرُ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفَارِقُ فِي الْمَحَلِّ أَوْ خَارِجًا عَنْ الْمَحَلِّ . وَ ( أَيْضًا قَالَ لَهُمْ الْمُنَازِعُونَ : مِنْ الْمُسْتَقِرِّ فِي فِطَرِ النَّاسِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْعَدْلَ فَهُوَ عَادِلٌ وَمَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ فَهُوَ ظَالِمٌ وَمَنْ فَعَلَ الْكَذِبَ فَهُوَ كَاذِبٌ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ فَاعِلًا لِكَذِبِهِ وَظُلْمِهِ وَعَدْلِهِ بَلْ اللَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَّصِفَ بِالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ قَالُوا : وَهَذَا كَمَا قُلْتُمْ أَنْتُمْ وَسَائِرُ الصفاتية : مِنْ الْمُسْتَقِرِّ فِي فِطَرِ النَّاسِ أَنَّ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ فَهُوَ عَالِمٌ وَمَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ فَهُوَ قَادِرٌ وَمَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ فَهُوَ مُتَحَرِّكٌ وَمَنْ قَامَ بِهِ التَّكَلُّمُ فَهُوَ مُتَكَلِّمٌ وَمَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ فَهُوَ مُرِيدٌ وَقُلْتُمْ إذَا كَانَ الْكَلَامُ مَخْلُوقًا كَانَ كَلَامًا لِلْمَحَلِّ الَّذِي خَلَقَهُ فِيهِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْمُطَّرِدَةُ فِيمَنْ قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ نَظِيرُهَا أَيْضًا مَنْ فَعَلَ الْأَفْعَالَ . وَقَالُوا أَيْضًا : الْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ إضَافَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ إلَى الْعِبَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَقَوْلِهِ : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَقَالُوا ( أَيْضًا إنَّ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يُحْمَدُ وَيُذَمُّ عَلَى فِعْلِهِ وَيَكُونُ حَسَنَةً لَهُ أَوْ سَيِّئَةً فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا فِعْلُ غَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمَحْمُودَ الْمَذْمُومَ عَلَيْهَا . وَفِي " الْمَسْأَلَةِ " كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ لَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَى نُكَتٍ نَافِعَةٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُشْكِلِ فَنَقُولُ : قَوْلُ الْقَائِلِ : هَذَا فَعَلَ هَذَا وَفَعَلَ هَذَا : لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ ؛ فَإِنَّهُ تَارَةً يُرَادُ بِالْفِعْلِ نَفْسُ الْفِعْلِ وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ . فَيَقُولُ فَعَلْت هَذَا أَفْعَلُهُ فِعْلًا وَعَمِلْت هَذَا أَعْمَلُهُ عَمَلًا فَإِذَا أُرِيدَ بِالْعَمَلِ نَفْسُ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ كَصَلَاةِ الْإِنْسَانِ وَصِيَامِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالْعَمَلُ هُنَا هُوَ الْمَعْمُولُ وَقَدْ اتَّحَدَ هُنَا مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَالْفِعْلِ ؛ وَإِذَا أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ كَنِسَاجَةِ الثَّوْبِ وَبِنَاءِ الدَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالْعَمَلُ هُنَا غَيْرُ الْمَعْمُولِ قَالَ تَعَالَى { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } فَجَعَلَ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ مَعْمُولَةً لِلْجِنِّ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } فَإِنَّهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ { مَا } بِمَعْنَى الَّذِي وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَنْحِتُونَهُ مِنْ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } أَيْ وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ الْأَصْنَامَ الَّتِي تَنْحِتُونَهَا . وَمِنْهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ } لَكِنْ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَيُقَالُ : إذَا كَانَ خَالِقًا لِمَا يَعْمَلُونَهُ مِنْ الْمَنْحُوتَاتِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَالِقَ لِلتَّأْلِيفِ الَّذِي أَحْدَثُوهُ فِيهَا فَإِنَّهَا إنَّمَا صَارَتْ أَوْثَانًا بِذَلِكَ التَّأْلِيفِ وَإِلَّا فَهِيَ بِدُونِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مَعْمُولَةً لَهُمْ وَإِذَا كَانَ خَالِقًا لِلتَّأْلِيفِ كَانَ خَالِقًا لِأَفْعَالِهِمْ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ لَفْظَ " الْفِعْلِ " وَ " الْعَمَلِ " وَ " الصُّنْعِ " أَنْوَاعٌ وَذَلِكَ كَلَفْظِ الْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ وَالنِّجَارَةِ تَقَعُ عَلَى نَفْسِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَعَلَى الْمَفْعُولِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التِّلَاوَةِ " وَ " الْقِرَاءَةِ " وَ " الْكَلَامِ " وَ " الْقَوْلِ " يَقَعُ عَلَى نَفْسِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَعَلَى مَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ فَيُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ نَفْسُ الْقُرْآنِ الْمَقْرُوءِ الْمَتْلُوِّ ؛ كَمَا يُرَادُ بِهَا مُسَمَّى الْمَصْدَرِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ فِعْلُ اللَّهِ أَوْ فِعْلُ الْعَبْدِ ؛ فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا فِعْلُ اللَّهِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَبِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَلَكِنْ مَنْ قَالَ هِيَ فِعْلُ اللَّهِ وَأَرَادَ بِهِ أَنَّهَا مَفْعُولَةٌ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ كَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ [ فَهَذَا حَقٌّ ] . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِعْلٌ يَقُومُ بِهِ فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَمَفْعُولِهِ وَخَلْقِهِ وَمَخْلُوقِهِ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَيَقُولُونَ هَذِهِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مَفْعُولَةٌ لِلَّهِ لَيْسَتْ هِيَ نَفْسَ فِعْلِهِ وَأَمَّا الْعَبْدُ فَهِيَ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ وَهِيَ أَيْضًا مَفْعُولَةٌ لَهُ إذَا أُرِيدَ بِالْفِعْلِ الْمَفْعُولُ ؛ فَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ فِي حَقِّ الرَّبِّ تَعَالَى بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ إذَا قَالَ إنَّهَا فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ لِمُسَمَّى فِعْلِ اللَّهِ عِنْدَهُ مَعْنَيَانِ وَحِينَئِذٍ فَلَا تَكُونُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ وَلَا مَفْعُولَةً لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ قَالَ هِيَ فِعْلٌ لِلرَّبِّ وَلِلْعَبْدِ فَأَثْبَتَ مَفْعُولًا بَيْنَ فَاعِلَيْنِ . وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ يُوَافِقُونَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الرَّبِّ تَعَالَى لَا يَكُونُ إلَّا بِمَعْنَى مَفْعُولِهِ مَعَ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ فِي الْعَبْدِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ ؛ فَلِهَذَا عَظُمَ النِّزَاعُ وَأَشْكَلَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ وَحَارُوا فِيهَا . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : خَلْقُ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَخْلُوقَاتِهِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ مَخْلُوقَاتِهِ قَالَ : إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ كَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَفْعُولَةٌ لِلرَّبِّ كَسَائِرِ الْمَفْعُولَاتِ وَلَمْ يَقُلْ : إنَّهَا نَفْسُ فِعْلِ الرَّبِّ وَخَلْقِهِ بَلْ قَالَ إنَّهَا نَفْسُ فِعْلِ الْعَبْدِ وَعَلَى هَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ الْكَذِبُ وَالظُّلْمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْقَبَائِحِ يَتَّصِفُ بِهَا مَنْ كَانَتْ فِعْلًا لَهُ كَمَا يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ وَتَقُومُ بِهِ وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا مَنْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لَهُ إذَا كَانَ قَدْ جَعَلَهَا صِفَةً لِغَيْرِهِ كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَتَّصِفُ بِمَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الطُّعُومِ وَالْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأَشْكَالِ وَالْمَقَادِيرِ وَالْحَرَكَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِذَا كَانَ قَدْ خَلَقَ لَوْنَ الْإِنْسَانِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُتَلَوِّنَ بِهِ وَإِذَا خَلَقَ رَائِحَةً مُنْتِنَةً أَوْ طَعْمًا مُرًّا أَوْ صُورَةً قَبِيحَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَكْرُوهٌ مَذْمُومٌ مُسْتَقْبَحٌ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْقَبِيحَةِ الْمَذْمُومَةِ الْمَكْرُوهَةِ وَالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ . وَمَعْنَى قُبْحِهَا كَوْنُهَا ضَارَّةً لِفَاعِلِهَا وَسَبَبًا لِذَمِّهِ وَعِقَابِهِ وَجَالِبَةً لِأَلَمِهِ وَعَذَابِهِ . وَهَذَا أَمْرٌ يَعُودُ عَلَى الْفَاعِلِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ ؛ لَا عَلَى الْخَالِقِ الَّذِي خَلَقَهَا فِعْلًا لِغَيْرِهِ . ثُمَّ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَهُ حِكْمَةٌ فِيمَا خَلَقَهُ فِي الْعَالَمِ مِمَّا هُوَ مُسْتَقْبَحٌ وَضَارٌّ وَمُؤْذٍ يَقُولُونَ : لَهُ فِيمَا خَلَقَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ الضَّارَّةِ لِفَاعِلِهَا حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ ؛ كَمَا لَهُ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ فِيمَا خَلَقَهُ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْغُمُومِ . وَمَنْ يَقُولُ : لَا تُعَلَّلُ أَفْعَالُهُ لَا يُعَلَّلُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا خَلَقَ فِي الْإِنْسَانِ عَمًى وَمَرَضًا وَجُوعًا وَعَطَشًا وَوَصَبًا وَنَصَبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْمَرِيضَ الْجَائِعَ الْعَطْشَانَ الْمُتَأَلِّمَ فَضَرَرُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَذَى وَالْكَرَاهَةِ عَادَ إلَيْهِ وَلَا يَعُودُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ مَا خَلَقَ فِيهِ مِنْ كَذِبٍ وَظُلْمٍ وَكُفْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ أُمُورٌ ضَارَّةٌ مَكْرُوهَةٌ مُؤْذِيَةٌ . وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهَا سَيِّئَاتٍ وَقَبَائِحَ أَيْ أَنَّهَا تَسُوءُ صَاحِبَهَا وَتَضُرُّهُ وَقَدْ تَسُوءُ أَيْضًا غَيْرَهُ وَتَضُرُّهُ كَمَا أَنَّ مَرَضَهُ وَنَتَنَ رِيحِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ قَدْ يَسُوءُ غَيْرَهُ وَيَضُرُّهُ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ سَلَّمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَخْلُقُ فِي الْعَبْدِ كُفْرًا وَفُسُوقًا عَلَى سَبِيلِ الْجَزَاءِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَقَوْلِهِ { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } وَقَوْلِهِ { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } . ثُمَّ إنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ تَكُونُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ وَكَسْبًا لَهُ يُجْزَى عَلَيْهَا وَيَسْتَحِقُّ الذَّمَّ عَلَيْهَا وَالْعِقَابَ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْقَوْلُ عِنْدَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِيمَا يَخْلُقُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ ابْتِدَاءً كَالْقَوْلِ فِيمَا يَخْلُقُهُ جَزَاءً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ افْتَرَقَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا بِفَرْقِ يَعُودُ إلَى كَوْنِ هَذَا فِعْلًا لِلَّهِ دُونَ هَذَا وَهَذَا فِعْلًا لِلْعَبْدِ دُونَ هَذَا ؛ وَلَكِنْ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا يَحْسُنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِ جَزَاءً لِلْعَبْدِ وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ ابْتِدَاءً لِلْعَبْدِ بِمَا يَضُرُّهُ وَهُمْ يَقُولُونَ لَا يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَضُرَّ الْحَيَوَانَ إلَّا بِجُرْمِ سَابِقٍ أَوْ عِوَضٍ لَاحِقٍ . وَأَمَّا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ لِلْقَدَرِ فَمَنْ لَمْ يُعَلِّلْ مِنْهُمْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ . وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْحِكْمَةِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ : لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَخْلُقُهُ مِنْ أَذَى الْحَيَوَانِ حِكَمٌ عَظِيمَةٌ كَمَا لَهُ حِكَمٌ فِي غَيْرِ هَذَا وَنَحْنُ لَا نَحْصُرُ حِكْمَتَهُ فِي الثَّوَابِ وَالْعِوَضِ فَإِنَّ هَذَا قِيَاسٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ النَّاسِ وَتَمْثِيلٌ لِحِكْمَةِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ بِحِكْمَةِ الْوَاحِدِ مِنْ النَّاسِ وَعَدْلِهِ . وَ " الْمُعْتَزِلَةُ " مُشَبِّهَةٌ فِي الْأَفْعَالِ مُعَطِّلَةٌ فِي الصِّفَاتِ وَمِنْ أُصُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا يَخْلُقُهُ فِي الْعَالَمِ إذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ صِفَةٌ لِلَّهِ قَائِمَةٌ بِهِ وَلَا فِعْلٌ قَائِمٌ بِهِ فَيُسَمُّونَهُ بِهِ وَيَصِفُونَهُ بِمَا يَخْلُقُهُ فِي الْعَالَمِ : مِثْلُ قَوْلِهِمْ : هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ وَمُرِيدٌ بِإِرَادَةِ يُحْدِثُهَا لَا فِي مَحَلٍّ وَقَوْلُهُمْ : أَنَّ رِضَاهُ وَغَضَبَهُ وَحُبَّهُ وَبُغْضَهُ هُوَ نَفْسُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَخْلُقُهُ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ لَوْ كَانَ خَالِقًا لَظَلَمَ الْعَبْدَ وَكَذَّبَهُ لَكَانَ هُوَ الظَّالِمَ الْكَاذِبَ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي إذَا تَدَبَّرَهَا الْعَاقِلُ عَلِمَ فَسَادَهَا بِالضَّرُورَةِ . وَلِهَذَا اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ عَلَيْهِمْ لَا سِيَّمَا لَمَّا أَظْهَرُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَعَلِمَ السَّلَفُ أَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ إنْكَارٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَلَامُهُ هُوَ مَا يَخْلُقُهُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ مَخْلُوقٍ كَلَامًا لَهُ فَيَكُونُ إنْطَاقُهُ لِلْجُلُودِ يَوْمَ الْقِيَامَة وَإِنْطَاقُهُ لِلْجِبَالِ وَالْحَصَى بِالتَّسْبِيحِ وَشَهَادَةُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَلَامًا لَهُ وَإِذَا كَانَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ كَانَ كُلُّ كَلَامٍ مَوْجُودٍ كَلَامَهُ وَهَذَا قَوْلُ الْحُلُولِيَّةِ مِنْ الجهمية كَصَاحِبِ الْفُصُوصِ وَأَمْثَالِهِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَقَدْ عُلِمَ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا خَلَقَ صِفَةً فِي مَحَلٍّ كَانَتْ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ فَإِذَا خَلَقَ حَرَكَةً فِي مَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَحَرِّكُ بِهَا ؛ وَإِذَا خَلَقَ لَوْنًا أَوْ رِيحًا فِي جِسْمٍ كَانَ هُوَ الْمُتَلَوِّنَ الْمُتَرَوِّحَ بِذَلِكَ وَإِذَا خَلَقَ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ حَيَاةً فِي مَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْعَالِمَ الْقَادِرَ الْحَيَّ فَكَذَلِكَ إذَا خَلَقَ إرَادَةً وَحُبًّا وَبُغْضًا فِي مَحَلٍّ كَانَ هُوَ الْمُرِيدَ الْمُحِبَّ الْمُبْغِضَ وَإِذَا خَلَقَ فِعْلًا لِعَبْدِ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْفَاعِلَ فَإِذَا خَلَقَ لَهُ كَذِبًا وَظُلْمًا وَكُفْرًا كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْكَاذِبَ الظَّالِمَ الْكَافِرَ وَإِنْ خَلَقَ لَهُ صَلَاةً وَصَوْمًا وَحَجًّا كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْمُصَلِّي الصَّائِمَ الْحَاجَّ . وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بَلْ صِفَاتُهُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَهَذَا مُطَّرِدٌ عَلَى أُصُولِ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَيَقُولُونَ إنَّ خَلْقَ اللَّهِ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ؛ بَلْ الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ لَا سِيَّمَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ وَافَقُوهُمْ عَلَى إثْبَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَفْعَالِهِ . فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ نَقَضُوا هَذَا الْأَصْلَ عَلَى مَنْ لَمْ يَقُلْ إنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ كَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ فَقَالُوا ؛ إذَا قُلْتُمْ إنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ دُونَ غَيْرِهِ - كَمَا ذَكَرْتُمْ فِي الْحَرَكَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَسَائِرِ الْأَعْرَاضِ - انْتَقَضَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُسَمَّى عَادِلًا بِعَدْلِ خَلْقِهِ فِي غَيْرِهِ مُحْسِنًا بِإِحْسَانِ خَلْقِهِ فِي غَيْرِهِ فَكَذَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ . وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ يُجِيبُونَ بِالْتِزَامِ هَذَا الْأَصْلِ وَيَقُولُونَ إنَّمَا كَانَ عَادِلًا بِالْعَدْلِ الَّذِي قَامَ بِنَفْسِهِ وَمُحْسِنًا بِالْإِحْسَانِ الَّذِي قَامَ بِنَفْسِهِ . وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ الَّذِي حَصَلَ لِلْعَبْدِ فَهُوَ أَثَرُ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ رَحْمَنٌ رَحِيمٌ بِالرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ صِفَتُهُ وَأَمَّا مَا يَخْلُقُهُ مِنْ الرَّحْمَةِ فَهُوَ أَثَرُ تِلْكَ الرَّحْمَةِ وَاسْمُ الصِّفَةِ يَقَعُ تَارَةً عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَيَقَعُ تَارَةً عَلَى مُتَعَلِّقِهَا الَّذِي هُوَ مُسَمَّى الْمَفْعُولِ كَلَفْظِ " الْخَلْقِ " يَقَعُ تَارَةً عَلَى الْفِعْلِ وَعَلَى الْمَخْلُوقِ أُخْرَى وَالرَّحْمَةُ تَقَعُ عَلَى هَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ يَقَعُ عَلَى أَمْرِهِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ أَمَرَ يَأْمُرُ أَمْرًا وَيَقَعُ عَلَى الْمَفْعُولِ تَارَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْعِلْمِ " يَقَعُ عَلَى الْمَعْلُومِ وَ " الْقُدْرَةِ " تَقَعُ عَلَى الْمَقْدُورِ وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَالُوا الِاسْتِعَاذَةُ لَا تَحْصُلُ بِالْمَخْلُوقِ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِك مِنْك } . وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا الْبَابَ وَنَحْوَهُ وَجَدَ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ لَا يَسْتَطِيلُونَ عَلَى فَرِيقٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْهُدَى إلَّا بِمَا دَخَلُوا فِيهِ مِنْ نَوْعِ بِدْعَةٍ أُخْرَى وَضَلَالٍ آخَرَ لَا سِيَّمَا إذَا وَافَقُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِمَا وَافَقُوهُمْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَطْلُبُونَ لَوَازِمَهُ حَتَّى يُخْرِجُوهُمْ مِنْ الدِّينِ إنْ اسْتَطَاعُوا خُرُوجَ الشَّعْرَةِ مِنْ الْعَجِينِ كَمَا فَعَلَتْ الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ وَالْفَلَاسِفَةُ وَأَمْثَالُهُمْ بِفَرِيقِ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ . وَ " الْمُعْتَزِلَةُ " اسْتَطَالُوا عَلَى " الْأَشْعَرِيَّةِ " وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ بِمَا وَافَقُوهُمْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْيِ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَنَقَضُوا بِذَلِكَ أَصْلَهُمْ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَيْهِمْ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْكَلَامَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأُمُورِ إذَا خُلِقَ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ . وَاسْتَطَالُوا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي " مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ " وَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَنْ جَعَلُوا نَفْسَ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْقَبِيحِ فِعْلًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دُونَ الْعَبْدِ ثُمَّ أَثْبَتُوا كَسْبًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ فَرْقٌ بَيْنَ الْكَسْبِ وَالْفِعْلِ ؛ وَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ يَسْخَرُونَ بِمَنْ قَالَ هَذَا وَيَقُولُونَ : ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا : طَفْرَةُ النِّظَامِ وَأَحْوَالُ أَبِي هَاشِمٍ وَكَسْبُ الْأَشْعَرِيِّ . وَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَنْ فَسَّرُوا تَأْثِيرَ الْقُدْرَةِ فِي الْمَقْدُورِ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ وَالِاقْتِرَانُ الْعَادِيُّ يَقَعُ بَيْنَ كُلِّ مَلْزُومٍ وَلَازِمِهِ وَيَقَعُ بَيْنَ الْمَقْدُورِ وَالْقُدْرَةِ فَلَيْسَ جَعْلُ هَذَا مُؤَثِّرًا فِي هَذَا بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ وَيَقَعُ بَيْنَ الْمَعْلُولِ وَعِلَّتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ مَعَ أَنَّ قُدْرَةَ الْعِبَادِ عِنْدَهُ لَا تَتَجَاوَزُ مَحَلَّهَا . وَلِهَذَا فَرَّ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إلَى قَوْلٍ وَأَبُو إسْحَاقَ الإسفراييني إلَى قَوْلٍ وَأَبُو الْمَعَالِي الجويني إلَى قَوْلٍ ؛ لَمَّا رَأَوْا مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ التَّنَاقُضِ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ . وَمِنْ النُّكَتِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ لَفْظَ " التَّأْثِيرِ " وَلَفْظَ " الْجَبْرِ " وَلَفْظَ " الرِّزْقِ " وَنَحْوَ ذَلِكَ أَلْفَاظُ جُمْلَةٍ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : هَلْ قُدْرَةُ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي مَقْدُورِهَا أَمْ لَا ؟ قِيلَ لَهُ أَوَّلًا : لَفْظُ الْقُدْرَةِ يَتَنَاوَلُ نَوْعَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُصَحِّحَةُ لِلْفِعْلِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . ( وَالثَّانِي الْقُدْرَةُ الْقَدَرِيَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْفِعْلِ الَّتِي هِيَ مُقَارِنَةٌ لِلْمَقْدُورِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا . فَالْأَوْلَى هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } فَإِنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُقَارِنَةَ لِلْفِعْلِ لَمْ يَجِبْ حِجُّ الْبَيْتِ إلَّا عَلَى مَنْ حَجَّ فَلَا يَكُونُ مَنْ لَمْ يَحْجُجْ عَاصِيًا بِتَرْكِ الْحَجِّ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَكَذَلِكَ { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } وَكَذَا قَوْله تَعَالَى { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } لَوْ أَرَادَ اسْتِطَاعَةً لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ لَكَانَ قَدْ قَالَ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا تَفْعَلُونَ فَلَا يَكُونُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا عَاصِيًا لَهُ وَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَلِسَانِ الْعُمُومِ .
.
وَأَهْلُ الْهُدَى وَالرَّشَادِ إذَا فَعَلُوا حَسَنَةً شَهِدُوا إنْعَامَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِهَا، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ مُسْلِمِينَ وَجَعَلَهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَأَلْهَمَهُمْ التَّقْوَى، وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ، فَزَالَ عَنْهُمْ بِشُهُودِ الْقَدَرِ الْعَجَبُ وَالْمَنُّ وَالْأَذَى ،وَإِذَا فَعَلُوا سَيِّئَةً اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَتَابُوا إلَيْهِ مِنْهَا ؛ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ الْعَدَوِىِّ قَالَ حَدَّثَنِى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - « سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِى ، اغْفِرْ لِى ، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ » . قَالَ « وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا ، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِىَ ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ بِهَا ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ ، فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ » (1)
__________
(1) - صحيح البخارى (6306 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 60)
وْله ( وَأَنَا عَلَى عَهْدك ) سَقَطَتْ الْوَاو فِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ : يُرِيد أَنَا عَلَى مَا عَهِدْتُك عَلَيْهِ وَوَاعَدْتُك مِنْ الْإِيمَان بِك وَإِخْلَاص الطَّاعَة لَك مَا اِسْتَطَعْت مِنْ ذَلِكَ . وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد أَنَا مُقِيم عَلَى مَا عَهِدْت إِلَيَّ مِنْ أَمْرك وَمُتَمَسِّك بِهِ وَمُنْتَجِز وَعْدك فِي الْمَثُوبَة وَالْأَجْر . وَاشْتِرَاط الِاسْتِطَاعَة فِي ذَلِكَ مَعْنَاهُ الِاعْتِرَاف بِالْعَجْزِ وَالْقُصُور عَنْ كُنْه الْوَاجِب مِنْ حَقّه تَعَالَى . وَقَالَ اِبْن بَطَّال : قَوْله " وَأَنَا عَلَى عَهْدك وَوَعْدك " يُرِيد الْعَهْد الَّذِي أَخَذَهُ اللَّه عَلَى عِبَاده حَيْثُ أَخْرَجَهُمْ أَمْثَال الذَّرّ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسهمْ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ فَأَقَرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ . وَبِالْوَعْدِ مَا قَالَ عَلَى لِسَان نَبِيّه " إنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِك بِاَللَّهِ شَيْئًا وَأَدَّى مَا اِفْتَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُدْخِلهُ الْجَنَّة " . قُلْت : وَقَوْله وَأَدَّى مَا اِفْتَرَضَ عَلَيْهِ زِيَادَة لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي هَذَا الْمَقَام لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُرَاد بِالْعَهْدِ الْمِيثَاق الْمَأْخُوذ فِي عَالَم الذَّرّ وَهُوَ التَّوْحِيد خَاصَّة ، فَالْوَعْد هُوَ إِدْخَال مَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّة .
قَالَ وَفِي قَوْله " مَا اِسْتَطَعْت "
إِعْلَام لِأُمَّتِهِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِر عَلَى الْإِتْيَان بِجَمِيعِ مَا يَجِب عَلَيْهِ لِلَّهِ . وَلَا الْوَفَاء بِكَمَالِ الطَّاعَات وَالشُّكْر عَلَى النِّعَم ، فَرَفَقَ اللَّه بِعِبَادِهِ فَلَمْ يُكَلِّفهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا وُسْعهمْ . وَقَالَ الطِّيبِيُّ : يَحْتَمِل أَنْ يُرَاد بِالْعَهْدِ وَالْوَعْد مَا فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة ، كَذَا قَالَ : وَالتَّفْرِيق بَيْن الْعَهْد وَالْوَعْد أَوْضَح .
قَوْله ( أَبُوء لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ ) سَقَطَ لَفْظ لَك مِنْ رِوَايَة النَّسَائِيِّ ، وَأَبُوء بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْهَمْز مَمْدُود مَعْنَاهُ أَعْتَرِف . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة عُثْمَان بْن رَبِيعَة عَنْ شَدَّاد " وَأَعْتَرِف بِذُنُوبِي " وَأَصْله الْبَوَاء وَمَعْنَاهُ اللُّزُوم ، وَمِنْهُ بَوَّأَهُ اللَّه مَنْزِلًا إِذَا أَسْكَنَهُ فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَهُ بِهِ .
قَوْله ( وَأَبُوء لَك بِذَنْبِي ) أَيْ أَعْتَرِف أَيْضًا ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَحْمِلهُ بِرَغْمِي لَا أَسْتَطِيع صَرْفه عَنِّي . وَقَالَ الطِّيبِيُّ : اِعْتَرَفَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُقَيِّدهُ لِأَنَّهُ يَشْمَل أَنْوَاع الْإِنْعَام ، ثُمَّ اِعْتَرَفَ بِالتَّقْصِيرِ وَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِأَدَاءِ شُكْرهَا ، ثُمَّ بَالَغَ فَعَدَّهُ ذَنْبًا مُبَالَغَة فِي التَّقْصِير وَهَضْم النَّفْس . قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَوْله " أَبُوء لَك بِذَنْبِي " أَعْتَرِف بِوُقُوعِ الذَّنْب مُطْلَقًا لِيَصِحّ الِاسْتِغْفَار مِنْهُ ، لَا أَنَّهُ عَدَّ مَا قَصَّرَ فِيهِ مِنْ أَدَاء شُكْر النِّعَم ذَنْبًا .
قَوْله ( فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِر الذُّنُوب إِلَّا أَنْتَ ) يُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ مَنْ اِعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ غُفِرَ لَهُ ، وَقَدْ وَقَعَ صَرِيحًا فِي حَدِيث الْإِفْك الطَّوِيل وَفِيهِ " الْعَبْد إِذَا اِعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ وَتَابَ تَابَ اللَّه عَلَيْهِ " .
قَوْله ( مَنْ قَالَهَا مُوقِنًا بِهَا ) أَيْ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبه مُصَدِّقًا بِثَوَابِهَا ، وَقَالَ الدَّاوُدِيّ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا مِنْ قَوْله إِنَّ الْحَسَنَات يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات وَمِثْل قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوُضُوء وَغَيْره ؛ لِأَنَّهُ بُشِّرَ بِالثَّوَابِ ثُمَّ بُشِّرَ بِأَفْضَل مِنْهُ فَثَبَتَ الْأَوَّل وَمَا زِيدَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ يُبَشِّر بِالشَّيْءِ ثُمَّ يُبَشِّر بِأَقَلّ مِنْهُ مَعَ اِرْتِفَاع الْأَوَّل ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ نَاسِخًا وَأَنْ يَكُون هَذَا فِيمَنْ قَالَهَا وَمَاتَ قَبْل أَنْ يَفْعَل مَا يَغْفِر لَهُ بِهِ ذُنُوبه ، أَوْ يَكُون مَا فَعَلَهُ مِنْ الْوُضُوء وَغَيْره لَمْ يَنْتَقِل مِنْهُ بِوَجْهٍ مَا ، وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى يَفْعَل مَا يَشَاء . كَذَا حَكَاهُ اِبْن التِّين عَنْهُ ، وَبَعْضه يَحْتَاج إِلَى تَأَمُّل .
قَوْله ( وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَار ) فِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ " فَإِنْ قَالَهَا حِين يُصْبِح " وَفِي رِوَايَة عُثْمَان بْن رَبِيعَة " لَا يَقُولهَا أَحَدكُمْ حِين يُمْسِي فَيَأْتِي عَلَيْهِ قَدَر قَبْل أَنْ يُصْبِح ، أَوْ حِين يُصْبِح فَيَأْتِي عَلَيْهِ قَدَر قَبْل أَنْ يُمْسِي " .
قَوْله ( فَهُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة ) فِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ " دَخَلَ الْجَنَّة " وَفِي رِوَايَة عُثْمَان بْن رَبِيعَة " إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة " قَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة : جَمَعَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ بَدِيع الْمَعَانِي وَحُسْن الْأَلْفَاظ مَا يَحِقّ لَهُ أَنَّهُ يُسَمَّى سَيِّد الِاسْتِغْفَار ، فَفِيهِ الْإِقْرَار لِلَّهِ وَحْده بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّة ، وَالِاعْتِرَاف بِأَنَّهُ الْخَالِق ، وَالْإِقْرَار بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِ ، وَالرَّجَاء بِمَا وَعَدَهُ بِهِ ، وَالِاسْتِعَاذَة مِنْ شَرّ مَا جَنَى الْعَبْد عَلَى نَفْسه ، وَإِضَافَة النَّعْمَاء إِلَى مُوجِدهَا ، وَإِضَافَة الذَّنْب إِلَى نَفْسه ، وَرَغْبَته فِي الْمَغْفِرَة ، وَاعْتِرَافه بِأَنَّهُ لَا يَقْدِر أَحَد عَلَى ذَلِكَ إِلَّا هُوَ ، وَفِي كُلّ ذَلِكَ الْإِشَارَة إِلَى الْجَمْع بَيْن الشَّرِيعَة وَالْحَقِيقَة ، فَإِنَّ تَكَالِيف الشَّرِيعَة لَا تَحْصُل إِلَّا إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ عَوْن مِنْ اللَّه تَعَالَى . وَهَذَا الْقَدَر الَّذِي يُكَنَّى عَنْهُ بِالْحَقِيقَةِ . فَلَوْ اِتَّفَقَ أَنَّ الْعَبْد خَالَفَ حَتَّى يَجْرِي عَلَيْهِ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ وَقَامَتْ الْحُجَّة عَلَيْهِ بِبَيَانِ الْمُخَالَفَة لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَحَد أَمْرَيْنِ : إِمَّا الْعُقُوبَة بِمُقْتَضَى الْعَدْل أَوْ الْعَفْو بِمُقْتَضَى الْفَضْل ، اِنْتَهَى مُلَخَّصًا . أَيْضًا : مِنْ شُرُوط الِاسْتِغْفَار صِحَّة النِّيَّة ، وَالتَّوَجُّه وَالْأَدَب ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا حَصَّلَ الشُّرُوط وَاسْتَغْفَرَ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظ الْوَارِد وَاسْتَغْفَرَ آخَر بِهَذَا اللَّفْظ الْوَارِد لَكِنْ أَخَلَّ بِالشُّرُوطِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ ؟ فَالْجَوَاب أَنَّ الَّذِي يَظْهَر أَنَّ اللَّفْظ الْمَذْكُور إِنَّمَا يَكُون سَيِّد الِاسْتِغْفَار إِذَا جَمَعَ الشُّرُوط الْمَذْكُورَة ، وَاَللَّه أَعْلَم .
.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: « يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِى أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِى أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِى أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّى فَتَضُرُّونِى وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِى مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِى إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ »(1)
__________
(1) - صحيح مسلم (6737 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 384)
قَوْله تَعَالَى : { إِنِّي حَرَّمْت الظُّلْم عَلَى نَفْسِي } قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ تَقَدَّسْت عَنْهُ وَتَعَالَيْت ، وَالظُّلْم مُسْتَحِيل فِي حَقِّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى . كَيْف يُجَاوِز سُبْحَانه حَدًّا وَلَيْسَ فَوْقه مَنْ يُطِيعهُ ؟ وَكَيْف يَتَصَرَّف فِي غَيْر مُلْك ، وَالْعَالَم كُلّه فِي مُلْكه وَسُلْطَانه ؟ وَأَصْل التَّحْرِيم فِي اللُّغَة الْمَنْع ، فَسَمَّى تَقَدُّسه عَنْ الظُّلْم تَحْرِيمًا لِمُشَابَهَتِهِ لِلْمَمْنُوعِ فِي أَصْل عَدَم الشَّيْء .
قَوْله تَعَالَى : { وَجَعَلْته بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا } هُوَ بِفَتْحِ التَّاء أَيْ لَا تَتَظَالَمُوا ، وَالْمُرَاد لَا يَظْلِم بَعْضكُمْ بَعْضًا ، وَهَذَا تَوْكِيد لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا عِبَادِي وَجَعَلْته بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا } وَزِيَادَة تَغْلِيظ فِي تَحْرِيمه .
قَوْله تَعَالَى : { كُلّكُمْ ضَالّ إِلَّا مَنْ هَدَيْته } قَالَ الْمَازِرِيُّ : ظَاهِر هَذَا أَنَّهُمْ خُلِقُوا عَلَى الضَّلَال إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّه تَعَالَى . وَفِي الْحَدِيث الْمَشْهُور " كُلّ مَوْلُود يُولَد عَلَى الْفِطْرَة " قَالَ : فَقَدْ يَكُون الْمُرَاد بِالْأَوَّلِ وَصْفهمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْل مَبْعَث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَّهُمْ لَوْ تُرِكُوا وَمَا فِي طِبَاعهمْ مِنْ إِيثَار الشَّهَوَات وَالرَّاحَة وَإِهْمَال النَّظَر لَضَلُّوا . وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَر . وَفِي هَذَا دَلِيل لِمَذْهَبِ أَصْحَابنَا وَسَائِر أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْمُهْتَدِي هُوَ مَنْ هَدَاهُ اللَّه ، وَبِهُدَى اللَّه اِهْتَدَى ، وَبِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ هِدَايَة بَعْض عِبَاده وَهُمْ الْمُهْتَدُونَ ، وَلَمْ يُرِدْ هِدَايَة الْآخَرِينَ ، وَلَوْ أَرَادَهَا لَاهْتَدَوْا ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلهمْ الْفَاسِد : أَنَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى أَرَادَ هِدَايَة الْجَمِيع . جَلَّ اللَّه أَنْ يُرِيد مَا لَا يَقَع ، أَوْ يَقَع مَا لَا يُرِيد .
قَوْله تَعَالَى : { مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُص الْمِخْيَط إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْر } الْمِخْيَط بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح الْيَاء هُوَ الْإِبْرَة : قَالَ الْعُلَمَاء : هَذَا تَقْرِيب إِلَى الْأَفْهَام ، وَمَعْنَاهُ لَا يَنْقُص شَيْئًا أَصْلًا كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيث الْآخَر : " لَا يَغِيضهَا نَفَقَة " أَيْ لَا يَنْقُصهَا نَفَقَة ؛ لِأَنَّ مَا عِنْد اللَّه لَا يَدْخُلهُ نَقْص ، وَإِنَّمَا يَدْخُل النَّقْص الْمَحْدُود الْفَانِي ، وَعَطَاء اللَّه تَعَالَى مِنْ رَحْمَته وَكَرَمه ، وَهُمَا صِفَتَانِ قَدِيمَتَانِ لَا يَتَطَرَّق إِلَيْهِمَا نَقْص ، فَضَرَبَ الْمَثَل بِالْمِخْيَطِ فِي الْبَحْر ، لِأَنَّهُ غَايَة مَا يُضْرَب بِهِ الْمَثَل فِي الْقِلَّة ، وَالْمَقْصُود التَّقْرِيب إِلَى الْإِفْهَام بِمَا شَاهَدُوهُ ؛ فَإِنَّ الْبَحْر مِنْ أَعْظَم الْمَرْئِيَّات عَيَانًا ، وَأَكْبَرهَا ، وَالْإِبْرَة مِنْ أَصْغَر الْمَوْجُودَات ، مَعَ أَنَّهَا صَقِيلَة لَا يَتَعَلَّق بِهَا مَاء . وَاَللَّه أَعْلَم .
وفي فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (ج 1 / ص 82)
1 قوله: "عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه"هذا من الأحاديث القدسية، وهذه العبارة من العبارات التي يُعبَّر بها عن الحديث القدسي، ومثلها عبارة: "قال الله عزَّ وجلَّ فيما يرويه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم"، والحديث القدسي هو ما يسنده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه تعالى ويضيفه إليه، ويشتمل على ضمائر التكلُّم التي تعود إليه سبحانه وتعالى.
2 قوله: "يا عبادي! إنِّي حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم مُحرَّماً، فلا تظالَموا" ، الظلم وضعُ الشيء في غير موضعه، وقد حرَّمه الله على نفسه ومنَعها منه، مع قدرته عليه وعلى كلِّ شيء، فلا يقع منه الظلم أبداً؛ لكمال عدله سبحانه وتعالى، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} ، وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} ، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} ، أي: لا يخاف نقصاً من حسناته ولا زيادة في سيّئاته، أو تحميله سيِّئات غيره، ونفيُ الظلم عن الله عزَّ وجلَّ في هذه الآيات متضمِّنٌ إثبات كمال عدله سبحانه، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/36): "وكونُه خَلَقَ أفعالَ العباد وفيها الظلم لا يقتضي وصفه بالظلم سبحانه وتعالى، كما أنَّه لا يُوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد، وهي خَلْقُهُ وتقدِيرُه، فإنَّه لا يُوصَف إلاَّ بأفعاله، لا يوصف بأفعال عباده، فإنَّ أفعالَ عباده مخلوقاته ومفعولاته، وهو لا يوصف بشيء منها، إنَّما يوصف بما قام به مِن صفاته وأفعاله، والله أعلم".
وقد حرَّم الله تعالى على عباده الظلم، فلا يظلمُ أحد نفسَه ولا يظلم غيرَه.
3 قوله: "يا عبادي! كلُّكم ضالٌّ إلاَّ مَن هَديته، فاستهدوني أهْدِكم" ، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/39 40): "قد ظنَّ بعضُهم أنَّه معارض لحديث عياض بن حمار عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: خلقت عبادي حُنفاء وفي رواية: مسلمين فاجتالتهم الشياطين)، وليس كذلك، فإنَّ الله خلق بني آدم وفطَرَهم على قبول الإسلام والميل إليه دون غيره، والتهيؤ لذلك والاستعداد له بالقوَّة، لكن لا بدَّ للعبد من تعليم الإسلام بالفعل، فإنَّه قبل التعليم جاهلٌ لا يعلم شيئاً، كما قال عزَّ وجلَّ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} ، وقال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ، والمراد وَجَدَك غيرَ عالِم بما علَّمك من الكتاب والحكمة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} ، فالإنسانُ يُولَد مفطوراً على قبول الحقِّ، فإن هداه الله سبَّب له مَن يعلِّمه الهدى، فصار مهتدياً بالفعل، بعد أن كان مهتدياً بالقوة، وإن خذله الله قيَّض له مَن يعلِّمه ما يغيِّر فطرتَه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلُّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه) ".
وفي هذا الحديث الأمر بسؤال الله الهداية، وهي تشمل هداية الدلالة والإرشاد وهداية التوفيق والتسديد، وحاجة العباد إلى الهداية أشدُّ من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وقد جاء في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، فهم يسألون الله عزَّ وجلَّ أن يُثبِّتَهم على الهداية الحاصلة، وأن يزيدهم هدى على هدى.
4 قوله: "يا عبادي! كلُّكم جائعٌ إلاَّ مَن أطعمته، فاستطعموني أُطْعمكم، يا عبادي! كلُّكم عار إلاَّ مَن كَسوته، فاسْتكسوني أَكْسُكُم" ، في هاتَين الجملتين بيان شدَّة افتقار العباد إلى ربِّهم، وحاجتهم إليه في تحصيل أرزاقهم وكسوتهم، وأنَّ عليهم أن يسألوه سبحانه وتعالى طعامهم وكسوتهم.
5 قوله: "يا عبادي! إنَّكم تُخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعاً، فاستغفروني أغفرْ لكم" ، أوجب الله عزَّ وجلَّ على العباد امتثال الأوامر واجتناب المنهيات، والعباد يحصل منهم التقصير في أداء ما وجب عليهم، والوقوع في شيء مِمَّا نُهوا عنه، وطريق السلامة من ذلك رجوعهم إلى الله، وتوبتهم من ذنوبهم، وسؤال الله عزَّ وجلَّ أن يغفرها لهم، وفي الحديث: "كلُّ بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون" حديث حسن، أخرجه ابن ماجه (4251) وغيرُه.
6 قوله: "يا عبادي! إنَّكم لن تَبلُغوا ضُرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني" ، قال ابن رجب (2/43): "يعني أنَّ العبادَ لا يقدرون أن يوصلوا نفعاً ولا ضرًّا؛ فإنَّ الله تعالى في نفسه غنيٌّ حميد، لا حاجة له بطاعات العباد، ولا يعود نفعها إليه، وإنَّما هم ينتفعون بها، ولا يتضرَّر بمعاصيهم، وإنَّما هم يتضرَّرون بها، قال الله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} ، وقال: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} ".
7 قوله: "يا عبادي! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً، يا عبادي! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً" ، في هاتين الجملتين بيان كمال ملك الله عزَّ وجلَّ، وكمال غناه عن خلقه، وأنَّ العبادَ لو كانوا كلُّهم على أتقى ما يكون أو أفجر ما يكون، لَم يزد ذلك في ملكه شيئاً، ولم ينقص شيئاً، وأنَّ تقوى كلّ إنسان إنَّما تكون نافعةً لذلك المتَّقي، وفجورَ كلّ فاجر إنَّما يكون ضررُه عليه.
8 قوله: "يا عبادي! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجِنَّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيتُ كلَّ واحد مسألتَه، ما نقص ذلك مِمَّا عندي إلاَّ كما ينقص المِخْيَط إذا أُدخل البحر" ، هذا يدلُّ على كمال غنى الله سبحانه وتعالى وافتقار عباده إليه، وأنَّ الجنَّ والإنسَ لو اجتمعوا أوَّلُهم وآخرُهم، وسأل كلٌّ ما يريد، وحقَّق الله لهم ذلك، لم ينقص ذلك مِمَّا عند الله إلاَّ كما ينقص المِخيَط إذا أُدخل البحر، والمعنى أنَّه لا يحصل نقصٌ أصلاً؛ لأنَّ ما يعلق بالمخيَط وهو الإبرة من الماء لا يُعتبَر شيئاً، لا في الوزن ولا في رأي العين.
9 قوله: "ياعبادي! إنَّما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثمَّ أوَفِّيكم إيَّاها، فمَن وَجَدَ خيراً فليحمَد الله، ومَن وَجَدَ غيرَ ذلك فلا يَلُومنَّ إلاَّ نفسه" ، الناسُ في هذه الحياة مكلَّفون بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وكلُّ ما يحصل منهم من عمل خيراً أو شرًّا فهو مُحصًى عليهم، وسيجدُ كلٌّ أمامه ما قدَّم، إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر، قال الله عزَّ وجلَّ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ، فمَن قدَّم خيراً وجد ثوابه أمامه، والثواب من فضل الله على العبد، وفعل الخير في الدنيا هو من توفيق الله عزَّ وجلَّ للعبد، فله الفضل أوَّلاً وآخراً، ومَن وَجَدَ أمامه غير الخير فإنَّما أُتي العبد من قبل نفسه ومعصيته لربِّه وجنايته على نفسه، فإذا وجد أمامه العذاب فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه.
10 مِمَّا يُستفاد من الحديث:
1 أنَّ من الأحاديث ما يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربِّه يشتمل على ضمائر التكلُّم ترجع إلى الله، ويُقال له الحديث القدسي.
2 تحريم الله الظلم على نفسه وتنزيهه عنه، مع إثبات كمال ضدِّه وهو العدل.
3 تحريم الله الظلم على العباد لأنفسهم ولغيرهم.
4 شدَّة حاجة العباد إلى سؤال ربِّهم الهُدى والطعام والكسوة وغير ذلك من أمور دينهم ودنياهم.
5 أنَّ الله يحبُّ من عباده أن يسألوه كلَّ ما يحتاجون إليه من أمور الدنيا والدِّين.
6 كمال ملك الله عزَّ وجلَّ، وأنَّ العبادَ لا يبلغون نفعه وضرَّه، بل يعود نفعُهم وضرُّهم إلى أنفسهم.
7 أنَّ العباد لا يسلمون من الخطأ، وأنَّ عليهم التوبة من ذلك والاستغفار.
8 أنَّ التقوى والفجور يكونان في القلوب؛ لقوله: "على أتقى قلب رجل"، و"على أفجر قلب رجل".
9 أنَّ ملكَ الله لا تزيده طاعة المطيعين، ولا تنقصه معاصي العاصين.
10 كمال غنى الله وكمال ملكه، وأنَّه لو أعطى عبادَه أوَّلَهم وآخرَهم كلَّ ما سألوه لم ينقص من ملك الله عزَّ وجلَّ وخزائنه شيئاً.
11 حثُّ العباد على الطاعة، وتحذيرهم من المعصية، وأنَّ كلَّ ذلك محصى عليهم.
12 أنَّ من وفَّقه الله لطريق الخير ظفر بسعادة الدنيا والآخرة، والفضل لله للتوفيق لسلوك سبيل الهُدى، ولحصول الثواب على ذلك.
13 أنَّ مَن فرَّط وأساء العمل ظفر بالخسران، وندم حيث لا ينفع النَّدم.
.
فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى مَا يَجِدُهُ الْعَبْدُ مِنْ خَيْرٍ، وَأَنَّهُ إذَا وَجَدَ شَرًّا فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ " الْحَقِيقَةِ " وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِخَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ ،وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ مُوَافِقًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ وَبَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِوَجْدِهِ وَذَوْقِهِ غَيْرَ مُعْتَبِرٍ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
كَمَا أَنَّ لَفْظَ " الشَّرِيعَةِ " يَتَكَلَّمُ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْعَ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنَ الْخَلْقِ الْخُرُوجُ عَنْهُ ،وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا كَافِرٌ وَبَيْنَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْحَاكِمِ، فَالْحَاكِمُ تَارَةً يُصِيبُ وَتَارَةً يُخْطِئُ . هَذَا إذَا كَانَ عَالِمًا عَادِلًا ،وَإِلَّا فَفِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ قَاضِيَانِ فِى النَّارِ وَقَاضٍ فِى الْجَنَّةِ رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِى النَّارِ وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِى النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِى الْجَنَّةِ »(1).
وَأَفْضَلُ الْقُضَاةِ الْعَالِمِينَ الْعَادِلِينَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :« إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا » (2)
__________
(1) - سنن الترمذى (1372 )صحيح
(2) - البخاري (2721) ومسلم (4570)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 140)
مَعْنَاهُ التَّنْبِيه عَلَى حَالَة الْبَشَرِيَّة ، وَأَنَّ الْبَشَر لَا يَعْلَمُونَ مِنْ الْغَيْب وَبَوَاطِن الْأُمُور شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُطْلِعهُمْ اللَّه تَعَالَى عَلَى شَيْء مِنْ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ يَجُوز عَلَيْهِ فِي أُمُور الْأَحْكَام مَا يَجُوز عَلَيْهِمْ ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْكُم بَيْن النَّاس بِالظَّاهِرِ ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِر ، فَيُحْكَم بِالْبَيِّنَةِ وَبِالْيَمِينِ وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ أَحْكَام الظَّاهِر مَعَ إِمْكَان كَوْنه فِي الْبَاطِن خِلَاف ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ الْحُكْم بِالظَّاهِرِ ، وَهَذَا نَحْو قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه ) وَفِي حَدِيث الْمُتَلَاعِنَيْنِ : " لَوْلَا الْأَيْمَان لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْن " وَلَوْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى لَأَطْلَعَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَاطِن أَمْر الْخَصْمَيْنِ فَحَكَمَ بِيَقِينِ نَفْسه مِنْ غَيْر حَاجَة إِلَى شَهَادَة أَوْ يَمِين ، لَكِنْ لَمَّا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى أُمَّته بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاء بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَاله وَأَحْكَامه أَجْرَى لَهُ حُكْمهمْ فِي عَدَم الِاطَّلَاع عَلَى بَاطِن الْأُمُور ، لِيَكُونَ حُكْم الْأُمَّة فِي ذَلِكَ حُكْمه ، فَأَجْرَى اللَّه تَعَالَى أَحْكَامه عَلَى الظَّاهِر الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ هُوَ وَغَيْره ؛ لِيَصِحّ الِاقْتِدَاء بِهِ ، وَتَطِيب نُفُوس الْعِبَاد لِلِانْقِيَادِ لِلْأَحْكَامِ الظَّاهِرَة مِنْ غَيْر نَظَر إِلَى الْبَاطِن . وَاللَّهُ أَعْلَم .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الْحَدِيث ظَاهِر أَنَّهُ قَدْ يَقَع مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِر مُخَالِف لِلْبَاطِنِ ، وَقَدْ اِتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَرّ عَلَى خَطَأ فِي الْأَحْكَام ، فَالْجَوَاب أَنَّهُ لَا تَعَارُض بَيْن الْحَدِيث وَقَاعِدَة الْأُصُولِيِّينَ ؛ لِأَنَّ مُرَاد الْأُصُولِيِّينَ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ ، فَهَلْ يَجُوز أَنْ يَقَع فِيهِ خَطَأ ؟ فِيهِ خِلَاف ، الْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازه ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ ، فَاَلَّذِينَ جَوَّزُوهُ قَالُوا : لَا يُقَرّ عَلَى إِمْضَائِهِ ، بَلْ يُعْلِمهُ اللَّه تَعَالَى بِهِ وَيَتَدَارَكهُ ، وَأَمَّا الَّذِي فِي الْحَدِيث فَمَعْنَاهُ : إِذَا حَكَمَ بِغَيْرِ اِجْتِهَاد كَالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِين فَهَذَا إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا يُخَالِف ظَاهِره بَاطِنه لَا يُسَمَّى الْحُكْم خَطَأ ، بَلْ الْحُكْم صَحِيح بِنَاء عَلَى مَا اِسْتَقَرَّ بِهِ التَّكْلِيف ، وَهُوَ وُجُوب الْعَمَل بِشَاهِدَيْنِ مَثَلًا ، فَإِنْ كَانَا شَاهِدَيْ زُور أَوْ نَحْو ذَلِكَ فَالتَّقْصِير مِنْهُمَا وَمِمَّنْ سَاعَدَهُمَا ، وَأَمَّا الْحُكْم فَلَا حِيلَة لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا عَيْب عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخْطَأَ فِي الِاجْتِهَاد ، فَإِنَّ هَذَا الَّذِي حَكَمَ بِهِ لَيْسَ هُوَ حُكْم الشَّرْع . وَاللَّهُ أَعْلَم .
وَفِي هَذَا الْحَدِيث : دَلَالَة لِمَذْهَبِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَجَمَاهِير عُلَمَاء الْإِسْلَام وَفُقَهَاء الْأَمْصَار مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ أَنَّ حُكْم الْحَاكِم لَا يُحِيل الْبَاطِن ، وَلَا يُحِلّ حَرَامًا ، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدًا زُور لِإِنْسَانٍ بِمَالٍ ، فَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِم ؛ لَمْ يَحِلّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ ذَلِكَ الْمَال ، وَلَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ لَمْ يَحِلّ لِلْوَلِيِّ قَتْله مَعَ عِلْمه بِكَذِبِهِمَا ، وَإِنْ شَهِدَا بِالزُّورِ أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته لَمْ يَحِلّ لِمَنْ عَلِمَ بِكَذِبِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجهَا بَعْد حُكْم الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - : يُحِلّ حُكْم الْحَاكِم الْفُرُوج دُون الْأَمْوَال ، فَقَالَ : يَحِلّ نِكَاح الْمَذْكُورَة ، وَهَذَا مُخَالِف لِهَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح وَلِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْله ، وَمُخَالِف لِقَاعِدَةٍ وَافَقَ هُوَ وَغَيْره عَلَيْهَا ، وَهِيَ أَنَّ الْأَبْضَاع أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنْ الْأَمْوَال . وَاللَّهُ أَعْلَم .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِنَّمَا أَقْطَع لَهُ بِهِ قِطْعَة مِنْ النَّار ) مَعْنَاهُ : إِنْ قَضَيْت لَهُ بِظَاهِرٍ يُخَالِف الْبَاطِن فَهُوَ حَرَام يَؤُول بِهِ إِلَى النَّار .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرهَا ) لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّخْيِير ، بَلْ هُوَ التَّهْدِيد وَالْوَعِيد ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } وَكَقَوْلِهِ سُبْحَانه : { اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } .
وفي شرح ابن بطال - (ج 15 / ص 72)
اختلف العلماء فى هذه المسألة، فذهب جمهور العلماء إلى أنه إن استحلف المدعى عليه، ثم أقام المدعى البينة قبلت بينته وقضى له بها على ما ذكر البخارى، عن شريح وطاوس والنخعى، وهو قول الثورى والكوفيين، والليث والشافعى، وأحمد وإسحاق، وقال مالك فى المدونة: إن استحلفه وهو لا يعلم بالبينة ثم علمها قضى له بها، وإن استحلفه ورضى بيمينه تاركًا لبينته وهى حاضرة أو غائبة فلا حق له إذا شهدت له. قاله مطرف، وابن الماجشون. وقال ابن أبى ليلى: لا تقبل بينته بعد استحلاف المدعى عليه.وبه قال أبو عبيد وأهل الظاهر.
قال ابن المنذر: واحتج لابن أبى ليلى بعض الناس فقال: لما حكم النبى - صلى الله عليه وسلم - بالبينة على المدعى واليمين على المنكر كان المدعى لا يستحق المال بدعواه والمنكر لا يبرأ من حق المدعى بجحوده، فإذا أقام المدعى البينة أخذ المال، وإذا حلف المدعى عليه برئ، وإذا برئ فلا سبيل إليه.
واحتج أهل المقالة الأولى بقوله - صلى الله عليه وسلم - : « فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من النار » فدل هذا أن يمين المدعى عليه لا يسقط الحق، وقطعه لا يوجب له ملكه، فهو كالقاطع الطريق لا يملك ما قطعه، ألا ترى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قد نهاه عن أخذه بقوله: « فلا يأخذه » .
وقد ذكر ابن حبيب أن عمر بن الخطاب تخاصم إليه يهودى ورجل من المسلمين، فقال عمر: بينتك. فقال: ما تحضرنى اليوم. فأحلف عمر المدعى عليه، ثم أتى اليهودى بعد ذلك بالبينة فقضى له عمر ببينته. وقال: البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة. وروى أبو زيد عن ابن الماجشون فى اليمانية أنه يقضى له بالبينة، وإن كان عالمًا بها على قول عمر بن الخطاب.
واختلف عن مالك، إذا أقام الطالب شاهدًا واحدًا، وأبى أن يحلف معه فحلف المطلوب، ثم وجد الطالب شاهدًا آخر هل يضيفه إلى الشاهد الأول أم لا؟ فروى ابن الماجشون عن مالك أنه يضيفه إلى الأول، وروى ابن كنانة عن مالك أنه لا يضيفه إلى الشاهد الأول، ورواه يحيى، عن ابن القاسم.
. فَقَدْ أَخْبَرَ سَيِّدُ الْخَلْقِ أَنَّهُ إذَا قَضَى بِشَيْءِ مِمَّا سَمِعَهُ وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا قَضَى بِهِ لَهُ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُطْلَقَةِ إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِمَا ظَنَّهُ حُجَّةً شَرْعِيَّةً كَالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَكَانَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا قُضِيَ بِهِ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ . وَإِنْ حَكَمَ فِي الْعُقُودِ والفسوخ بِمِثْلِ ذَلِكَ ؛ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ :إنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ .
فَلَفْظُ " الشَّرْعِ وَالشَّرِيعَةِ " إذَا أُرِيدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَمْ يُتَابِعْهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ كَافِرٌ . وَمَنْ احْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ كَانَ غالطا مِنْ وَجْهَيْنِ :
" أَحَدُهُمَا " أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَا كَانَ عَلَى الْخَضِرِ اتِّبَاعُهُ ؛ فَإِنَّ مُوسَى كَانَ مَبْعُوثًا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ،وَلَوْ أَدْرَكَهُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْخَضِرِ : كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَجَبَ عَلَيْهِمُْ اتِّبَاعُهُ، فَكَيْفَ بِالْخَضِرِ سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى : " يا مُوسَى إِنِّى عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لاَ أَعْلَمُهُ "(1) .وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنَ الثَّقَلَيْنِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا .
" الثَّانِي " أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ،وَمُوسَى لَمْ يَكُنْ عَلِمَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُبِيحُ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَيَّنَهَا لَهُ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ ثُمَّ تَرْقِيعُهَا لِمَصْلَحَةِ أَهْلِهَا خَوْفًا مِنْ الظَّالِمِ أَنْ يَأْخُذَهَا إحْسَانٌ إلَيْهِمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَقَتْلُ الصَّائِلِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَمَنْ كَانَ تَكْفِيرُهُ لِأَبَوَيْهِ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِقَتْلِهِ جَازَ قَتْلُهُ . قَالَ : ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لنجدة الحروري لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ الْغِلْمَانِ - َكَتَبْتَ تَسْأَلُنِى عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَقْتُلْهُمْ وَأَنْتَ فَلاَ تَقْتُلْهُمْ إِلاَّ أَنْ تَعْلَمَ مِنْهُمْ مَا عَلِمَ صَاحِبُ مُوسَى مِنَ الْغُلاَمِ الَّذِى قَتَلَهُ" رَوَاهُ مسْلِمٌ (2). وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إلَى الْيَتِيمِ بِلَا عِوَضٍ وَالصَّبْرُ عَلَى الْجُوعِ، فَهَذَا مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مُخَالِفًا شَرْعَ اللَّهِ .
وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالشَّرْعِ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَقَدْ يَكُونُ ظَالِمًا وَقَدْ يَكُونُ عَادِلًا وَقَدْ يَكُونُ صَوَابًا وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً، وَقَدْ يُرَادُ بِالشَّرْعِ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ والأوزاعي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وداود وَغَيْرِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ أَقْوَالُهُمْ يُحْتَجُّ لَهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ،وَإِذَا قَلَّدَ غَيْرَهُ حَيْثُ يَجُوزُ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا أَيْ لَيْسَ اتِّبَاعُ أَحَدِهِمْ وَاجِبًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ ،كَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،وَلَا يَحْرُمُ تَقْلِيدُ أَحَدِهِمْ كَمَا يَحْرُمُ اتِّبَاعُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ .(3)
__________
(1) - البخاري (122 )
(2) - صحيح مسلم (4789)
(3) - وفي الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 13 / ص 159)
تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ :
10 - التَّقْلِيدُ قَبُول قَوْل الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ ، كَأَخْذِ الْعَامِّيِّ مِنَ الْمُجْتَهِدِ فَالرُّجُوعُ إِلَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ تَقْلِيدًا ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الإِْجْمَاعِ لَيْسَ تَقْلِيدًا كَذَلِكَ ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ رُجُوعٌ إِلَى مَا هُوَ الْحُجَّةُ فِي نَفْسِهِ (1) .
حُكْمُ التَّقْلِيدِ :
11 - أَهْل التَّقْلِيدِ لَيْسُوا طَبَقَةً مِنْ طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ ، فَالْمُقَلِّدُ لَيْسَ فَقِيهًا ، فَإِنَّ الْفِقْهَ مَمْدُوحٌ فِي كَلاَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّقْلِيدُ مَذْمُومٌ ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنَ التَّقْصِيرِ (2) .
أ - حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ :
12 - التَّقْلِيدُ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ فِي الْعَقَائِدِ ، كَوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَوُجُوبِ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ ، وَمَعْرِفَةِ صِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ بُدَّ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ وَإِلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ ، وَمَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ ذَلِكَ . وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ فِي الْعَقِيدَةِ بِمِثْل قَوْله تَعَالَى : { بَل قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } (سورة الزخرف / 22) ، وَلَمَّا نَزَل قَوْله تَعَالَى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَْلْبَابِ } (سورة آل عمران / 190 ) قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ . وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا (3) .
وَلأَِنَّ الْمُقَلِّدَ فِي ذَلِكَ يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى مُقَلَّدِهِ ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي إِخْبَارِهِ ، وَلاَ يَكْفِي التَّعْوِيل فِي ذَلِكَ عَلَى سُكُونِ النَّفْسِ إِلَى صِدْقِ الْمُقَلَّدِ ، إِذْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ سُكُونِ أَنْفُسِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَلَّدُوا أَسْلاَفَهُمْ وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْل ، فَعَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ (4) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الاِكْتِفَاءِ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الظَّاهِرِيَّةِ (5) .
ثُمَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يُلْحَقُ بِالْعَقَائِدِ فِي هَذَا الأَْمْرِ كُل مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ، فَلاَ تَقْلِيدَ فِيهِ ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ بِهِ يَحْصُل بِالتَّوَاتُرِ وَالإِْجْمَاعِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الأَْخْذُ بِأَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ الْخَمْسَةِ .
ب - حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْفُرُوعِ :
13 - اخْتُلِفَ فِي التَّقْلِيدِ فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى رَأْيَيْنِ :
الأَْوَّل : جَوَازُ التَّقْلِيدِ فِيهَا وَهُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ (6) ، قَالُوا : لأَِنَّ الْمُجْتَهِدَ فِيهَا إِمَّا مُصِيبٌ وَإِمَّا مُخْطِئٌ مُثَابٌ غَيْرُ آثِمٍ ، فَجَازَ التَّقْلِيدُ فِيهَا ، بَل وَجَبَ عَلَى الْعَامِّيِّ ذَلِكَ ؛ لأَِنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَل بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الأَْدِلَّةِ عَلَيْهَا خَفَاءٌ يُحْوِجُ إِلَى النَّظَرِ وَالاِجْتِهَادِ ، وَتَكْلِيفُ الْعَوَّامِ رُتْبَةَ الاِجْتِهَادِ يُؤَدِّي إِلَى انْقِطَاعِ الْحَرْثِ وَالنَّسْل ، وَتَعْطِيل الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ ، فَيُؤَدِّي إِلَى الْخَرَابِ ، وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَ يُفْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَيُفْتُونَ غَيْرَهُمْ ، وَلاَ يَأْمُرُونَهُمْ بِنَيْل دَرَجَةِ الاِجْتِهَادِ . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِسُؤَال الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } (سورة النحل / 43 ) .
الثَّانِي : إِنَّ التَّقْلِيدَ مُحَرَّمٌ لاَ يَجُوزُ . قَال بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَابْنُ الْقَيِّمِ ، وَالشَّوْكَانِيُّ ، وَغَيْرُهُمْ . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (سورة التوبة / 31 ) وَقَوْلِهِ { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ } (سورة الأحزاب / 67) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ ، وَإِنَّ الأَْئِمَّةَ قَدْ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ ، قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : لاَ يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يَقُول بِقَوْلِنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ . وَقَال الْمُزَنِيُّ فِي أَوَّل مُخْتَصَرِهِ : اخْتَصَرْتُ هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ ، وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ مَعَ إِعْلاَمِهِ نَهْيَهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيُنْظَرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ وَقَال أَحْمَدُ : لاَ تُقَلِّدْنِي ، وَلاَ تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلاَ الثَّوْرِيَّ ، وَلاَ الأَْوْزَاعِيَّ ، وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا (7) .
وَفِي بَعْضِ كَلاَمِ ابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّ التَّقْلِيدَ الَّذِي يَرَى امْتِنَاعَهُ هُوَ ( اتِّخَاذُ أَقْوَال رَجُلٍ بِعَيْنِهِ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلٍ سِوَاهُ ، بَل لاَ إِلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ ، إِلاَّ إِذَا وَافَقَتْ نُصُوصَ قَوْلِهِ . قَال فَهَذَا هُوَ التَّقْلِيدُ الَّذِي أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ اللَّهِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الأُْمَّةِ إِلاَّ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ ) (8) .
وَأَثْبَتَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَالشَّوْكَانِيُّ فَوْقَ التَّقْلِيدِ مَرْتَبَةً أَقَل مِنَ الاِجْتِهَادِ ، هِيَ مَرْتَبَةُ الاِتِّبَاعِ ، وَحَقِيقَتُهَا الأَْخْذُ بِقَوْل الْغَيْرِ مَعَ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ ، عَلَى حَدِّ مَا وَرَدَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( لاَ يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يَقُول مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا ) (9) . غَيْرَ أَنَّ التَّقْلِيدَ يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ . وَمِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَظْفَرِ الْعَالِمُ بِنَصٍّ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ ، وَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ قَوْل مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ ، فَيُقَلِّدُهُ . أَمَّا التَّقْلِيدُ الْمُحَرَّمُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَعْدِل إِلَى التَّقْلِيدِ ، فَهُوَ كَمَنْ يَعْدِل إِلَى الْمَيْتَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُذَكَّى .
وَالتَّقْلِيدُ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الاِجْتِهَادِ ، أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَكِنْ لَمْ يَجِدِ الْوَقْتَ لِذَلِكَ ، فَهِيَ حَال ضَرُورَةٍ كَمَا قَال ابْنُ الْقَيِّمِ . وَقَدْ أَفْتَى الإِْمَامُ أَحْمَدُ بِقَوْل الشَّافِعِيِّ ، وَقَال : إِذَا سُئِلْتُ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ أَعْرِفْ فِيهَا خَبَرًا أَفْتَيْتُ فِيهَا بِقَوْل الشَّافِعِيِّ ، لأَِنَّهُ إِمَامٌ عَالِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ (10) ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لاَ تَسُبُّوا قُرَيْشًا ، فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلأَُ طِبَاقَ الأَْرْضِ عِلْمًا (11) .
شُرُوطُ مَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ :
14 - لاَ يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَسْتَفْتِيَ إِلاَّ مَنْ يَعْرِفُهُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ ، أَمَّا مَنْ عَرَفَهُ بِالْجَهْل فَلاَ يَسْأَلُهُ اتِّفَاقًا ، وَكَذَا لاَ يَسْأَل مَنْ عَرَفَهُ بِالْفِسْقِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ ، لِمَا يَرَاهُ مِنَ انْتِصَابِهِ لِلْفُتْيَا وَأَخْذِ النَّاسِ عَنْهُ بِمَشْهَدٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ ، وَمَا يَلْمَحُهُ فِيهِ مِنْ سِمَاتِ أَهْل الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالسَّتْرِ ، أَوْ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ ثِقَةٌ . قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى إِلاَّ مَنْ يُفْتِي بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ . أَمَّا مَجْهُول الْحَال فِي الْعِلْمِ فَلاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ إِذْ قَدْ يَكُونُ أَجْهَل مِنَ السَّائِل . وَأَمَّا مَجْهُول الْحَال فِي الْعَدَالَةِ فَقَدْ قِيل : لاَ بُدَّ مِنَ السُّؤَال عَنْهُ مِنْ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ كَذِبَهُ وَتَدْلِيسَهُ ، وَقِيل : لاَ يَلْزَمُ السُّؤَال عَنِ الْعَدَالَةِ ؛ لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ (12) .
وَلاَ يُقَلِّدُ مُتَسَاهِلاً فِي الْفُتْيَا ، وَلاَ مَنْ يَبْتَغِي الْحِيَل الْمُحَرَّمَةَ ، وَلاَ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى الأَْقْوَال الشَّاذَّةِ الَّتِي يُنْكِرُهَا الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ (13) .
مَنْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ :
15 - تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ هُوَ الْعَامِّيُّ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِ مِنْ غَيْرِ الْقَادِرِينَ عَلَى الاِجْتِهَادِ . وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاِجْتِهَادِ إِذَا اسْتَشْعَرَ الْفَوَاتَ لَوِ اشْتَغَل بِالاِجْتِهَادِ فِي الأَْحْكَامِ ، فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا . فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ لَوْ أَرَادَ التَّقْلِيدَ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ وَإِمْكَانِ الاِجْتِهَادِ فَقَدْ قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ بَل عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ . وَقِيل : يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ .
وَدَلِيل الْقَوْل بِأَنَّ الاِجْتِهَادَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّ اجْتِهَادَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يُضَاهِي النَّصَّ ، فَلاَ يَعْدِل عَنِ الاِجْتِهَادِ عِنْدَ إِمْكَانِهِ ، كَمَا لاَ يَعْدِل عَنِ النَّصِّ إِلَى الْقِيَاسِ (14) . أَمَّا إِنِ اجْتَهَدَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلاِجْتِهَادِ ، فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَصِيرَ إِلَى الْعَمَل أَوِ الإِْفْتَاءِ بِقَوْل غَيْرِهِ تَقْلِيدًا لِمَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ ، قَال صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ : " إِجْمَاعًا " أَيْ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ ، لأَِنَّ مَا عَلِمَهُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ فَلاَ يَتْرُكُهُ لِقَوْل أَحَدٍ . وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُجْتَهِدَ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ نَفَذَ حُكْمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةٍ ، وَلَمْ يَنْفُذْ عَلَى الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى ، وَلاَ عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (15) .
وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِتَجَزُّؤِ الاِجْتِهَادِ يَجِبُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ أَنْ يُقَلِّدَ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ ، فَيَكُونُ مُجْتَهِدًا فِي الْبَعْضِ مُقَلِّدًا فِي الْبَعْضِ الآْخَرِ ، وَلَكِنْ قِيل : إِنَّهُ مَا دَامَ عَالِمًا فَلاَ يُقَلِّدُ إِلاَّ بِشَرْطِ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الصِّحَّةِ ، بِأَنْ يُظْهِرَهُ لَهُ الْمُجْتَهِدُ الآْخَرُ (16) .
وَأَيْضًا قَدْ يُقَلِّدُ الْعَالِمَ فِي الثُّبُوتِ ، كَمَنْ قَلَّدَ الْبُخَارِيَّ فِي تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ ، ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي الدَّلاَلَةِ أَوِ الْقِيَاسِ أَوْ دَفْعِ التَّعَارُضِ بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَ غَيْرِهِ .
تَعَدُّدُ الْمُفْتِينَ وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَى الْمُقَلِّدِ :
16 - إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ مُفْتٍ وَاحِدٌ وَجَبَ عَلَى الْمُقَلِّدِ مُرَاجَعَتُهُ وَالْعَمَل بِمَا أَفْتَاهُ بِهِ مِمَّا لاَ يَعْلَمُهُ . وَإِنْ تَعَدَّدَ الْمُفْتُونَ وَكُلُّهُمْ أَهْلٌ ، فَلِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَسْأَل مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ ، وَلاَ يَلْزَمُهُ مُرَاجَعَةُ الأَْعْلَمِ ، وَذَلِكَ لِمَا عُلِمَ أَنَّ الْعَوَامَّ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْأَلُونَ الْفَاضِل وَالْمَفْضُول ، وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَى أَحَدٍ فِي سُؤَال غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . فَلاَ يَلْزَمُ إِلاَّ مُرَاعَاةُ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ .
لَكِنْ إِذَا تَنَاقَضَ قَوْل عَالِمَيْنِ ، فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ مَا أَفْتَاهُ بِهِ الآْخَرُ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الأَْخْذُ بِقَوْل مَنْ يَرَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ الأَْفْضَل مِنْهُمَا فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ . فَوَاجِبُهُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمُقَلَّدِينَ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ . قَال صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى : يَحْرُمُ الْحُكْمُ وَالْفُتْيَا بِقَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ إِجْمَاعًا . وَهَذَا لأَِنَّ الْغَلَطَ عَلَى الأَْعْلَمِ أَبْعَدُ وَمِنَ الأَْقَل عِلْمًا أَقْرَبُ . وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَجْعَل نَفْسَهُ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ مَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ ، وَخَاصَّةً إِذَا تَتَبَّعَ الرُّخَصَ لِيَأْخُذَ بِمَا يَهْوَاهُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي . وَذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ وَاجِبُهُ التَّرْجِيحُ
بَيْنَ الأَْدِلَّةِ وَلَيْسَ لَهُ التَّخَيُّرُ مِنْهَا اتِّفَاقًا . وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا التَّخَيُّرَ - وَهُمْ قِلَّةٌ - إِنَّمَا أَجَازُوهُ عِنْدَ عَدَمِ إِمْكَانِ التَّرْجِيحِ (17) . وَيُنْظَرُ الْخِلاَفُ فِي ذَلِكَ وَالتَّفْصِيل فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ ، إِذْ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ .
تَقْلِيدُ الْمَذَاهِبِ :
17 - قَال الشَّوْكَانِيُّ : اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ لِلتَّقْلِيدِ هَل يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ ، فَقَال جَمَاعَةٌ : يَلْزَمُهُ ، وَاخْتَارَهُ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ . وَقَال آخَرُونَ : لاَ يَلْزَمُهُ ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ وَالنَّوَوِيُّ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ . وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل وَبَعْضِهِمْ فِي الْبَعْضِ الآْخَرِ . وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ مَنْ شَاءُوا قَبْل ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ (18) . وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ ، إِلاَّ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالاِلْتِزَامِ مِنْهُ . قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ فَلاَ يَعْدِل عَنْهُ ، وَلاَ يَتْبَعُ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَيْضًا الْخُرُوجُ عَنْهُ بِتَقْلِيدٍ سَائِغٍ ، أَيْ بِتَقْلِيدِ عَالِمٍ مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ أَفْتَاهُ (19) .
أَثَرُ الْعَمَل بِالتَّقْلِيدِ الصَّحِيحِ :
18 - مَنْ عَمِل بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ فَلاَ إِنْكَارَ عَلَيْهِ ، لأَِنَّهُ لاَ إِنْكَارَ فِي الْمَسَائِل الاِجْتِهَادِيَّةِ . وَدَعْوَى الْحِسْبَةِ أَيْضًا لاَ تَدْخُل فِيهَا ، وَلِذَلِكَ فَلاَ يَمْنَعُهُ الْحَاكِمُ مَا فَعَل . وَهَذَا وَاضِحٌ فِيمَا ضَرَرُهُ قَاصِرٌ عَلَى الْمُقَلِّدِ نَفْسِهِ ، كَمَنْ مَسَّ فَرْجَهُ ثُمَّ صَلَّى دُونَ أَنْ يَتَوَضَّأَ . لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي فِعْلِهِ ضَرَرٌ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ ، فَقَدْ قِيل : إِنَّ الْحَاكِمَ أَوِ الْمُحْتَسِبَ إِنْ كَانَ يَرَى حُرْمَةَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الاِعْتِرَاضُ عَلَيْهِ (20) .
وَلَيْسَ مَعْنَى عَدَمِ الإِْنْكَارِ عَلَى مَنْ عَمِل بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ تَرْكَ الْبَيَانِ لَهُ مِنْ عَالِمٍ يَرَى مَرْجُوحِيَّةَ فِعْلِهِ ، وَكَانَ الْبَيَانُ دَأْبَ أَهْل الْعِلْمِ وَلاَ يَزَال ، فَضْلاً عَنِ الأَْخْذِ وَالرَّدِّ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ . وَقَدْ يُخَطِّئُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَخَاصَّةً مَنْ خَالَفَ نَصًّا صَحِيحًا سَالِمًا مِنَ الْمُعَارَضَةِ . وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى قَوْل أَكْثَرِ الأُْصُولِيِّينَ ، وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ تَخْطِئَةِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمَسَائِل الاِجْتِهَادِيَّةِ . إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ يَكُونُ مَعَ تَمْهِيدِ الْعُذْرِ لِلْمُخَالِفِ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ ، وَحِفْظِ رُتْبَتِهِ وَإِقَامَةِ هَيْبَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَيْضًا لاَ تَمْنَعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مُقَلِّدٍ رُفِعَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ بِمَا يَرَاهُ طِبْقًا لاِجْتِهَادِهِ ، إِذْ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِخِلاَفِ مُعْتَقَدِهِ (21)
إِفْتَاءُ الْمُقَلِّدِ :
19 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا ، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطَ صِحَّةٍ وَلَكِنَّهُ شَرْطُ أَوْلَوِيَّةٍ ، تَسْهِيلاً عَلَى النَّاسِ (22) .
وَصَحَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ إِفْتَاءَ الْمُقَلِّدِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ وُجُودِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ (23) ، وَقَيَّدَهُ ابْنُ حَمْدَانَ - مِنَ الْحَنَابِلَةِ - بِالضَّرُورَةِ (24) . وَنَقَل الشَّوْكَانِيُّ اشْتِرَاطَ بَعْضِ الأُْصُولِيِّينَ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي أَهْلاً لِلنَّظَرِ مُطَّلِعًا عَلَى مَأْخَذِ مَا يُفْتِي بِهِ وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ (25) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ : الْمُفْتِي يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا سَمِعَ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ مُفْتِيًا فِي تِلْكَ الْحَال وَإِنَّمَا هُوَ مُخْبِرٌ ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ فَيَكُونُ مَعْمُولاً بِخَبَرِهِ لاَ بِفُتْيَاهُ (26) . وَصَحَّحَ الشَّوْكَانِيُّ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الْمُقَلِّدُ عَنْ مُقَلَّدِهِ إِلَى الْمُسْتَفْتِي لَيْسَ مِنَ الْفُتْيَا فِي شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ نَقْل قَوْلٍ . قَال : الَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْمُفْتِيَ الْمُقَلِّدَ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفْتِيَ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ ، أَوْ عَنِ الْحَقِّ ، أَوْ عَمَّا يَحِل لَهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ؛ لأَِنَّ الْمُقَلِّدَ لاَ يَدْرِي بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ ، بَل لاَ يَعْرِفُهَا إِلاَّ الْمُجْتَهِدُ . وَهَذَا إِنْ سَأَلَهُ السَّائِل سُؤَالاً مُطْلَقًا . وَأَمَّا إِنْ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ قَوْل فُلاَنٍ وَرَأْيِ فُلاَنٍ فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَنْقُل إِلَيْهِ ذَلِكَ وَيَرْوِيهِ لَهُ إِنْ كَانَ عَارِفًا بِمَذْهَبِهِ (27) .
وَنَقَل ابْنُ الصَّلاَحِ عَنِ الْحَلِيمِيِّ وَالرُّويَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ ، ثُمَّ قَال ابْنُ الصَّلاَحِ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُذَكِّرَهُ فِي صُورَةِ مَا يَقُولُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ، بَل يُضَيِّفُهُ وَيَحْكِيهِ عَنْ إِمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ . قَال ابْنُ الصَّلاَحِ : فَعَلَى هَذَا مَنْ عَدَدْنَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمُفْتِينَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ لَيْسُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُفْتِينَ ، وَلَكِنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَهُمْ وَأَدَّوْا عَنْهُمْ (28) .
--------------
(1) شرح مسلم الثبوت 2 / 400 . القاهرة ، مطبعة بولاق ، 1322هـ ، والمستصفى مطبوع مع مسلم الثبوت 2 / 387 . الطبعة المذكورة ، وروضة الناظر 2 / 450 .
(2) شرح مسلم الثبوت 1 / 10 .
(3) حديث : " لقد نزلت على الليلة آية ، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ( إن في خلق السموات ) الآية كلها . أخرجه ابن حبان ( موارد الظمآن ص 140ط السلفية ) .
(4) كشاف القناع 6 / 306 ، ومطالب أولي النهى 6 / 441 ، دمشق ، المكتب الإسلامي .
(5) إرشاد الفحول ص266 .
(6) روضة الناظر 2 / 451 ، 452 ، وإعلام الموقعين 4 / 187 ـ 201 ، وإرشاد الفحول ص 266 .
(7) إعلام الموقعين 4 / 187 - 201 ، 211 ، ومختصر المزني المطبوع مع الأم للشافعي ص1 ، وإرشاد الفحول ص 266 .
(8) إعلام الموقعين 4 / 236 ، 192 .
(9) إعلام الموقعين 4 / 260 . ولعل الوجه في نهي الأئمة عن تقليدهم أنهم قالوه لتلامذتهم المؤهلين الذين لديهم القدرة على معرفة حجية الأدلة ، ومدى صحتها ، وعلى تفهم دلالاتها ، فهؤلاء لا يصح منهم التقليد الصرف فيما يمكنهم فيه الرجوع إلى الأدلة ، أما العامي الذي لديه القدرة على معرفة حجية الأدلة فيجوز له التقليد .
(10) مطالب أولي النهى 6 / 448 .
(11) حديث : " لا تسبوا قريشا ، فإن عالمها يملأ " أخرجه الطيالسي في مسنده ( 2 / 199 ـ منحة المعبود ط . المنيرية ) من حديث عبد الله بن مسعود ، وضعف إسناده العجلوني في كشف الخفاء ( 2 / 68 ط . الرسالة ) .
(12) المستصفى 2 / 390 ، وروضة الناظر 2 / 452 .
(13) مطالب أولي النهى 6 / 441 ، 446 ، 447 ، وتبصرة الحكام 1 / 52 ، القاهرة المطبعة العامرة الشرفية 1301 هـ .
(14) البرهان للجويني 2 / 1340 بتحقيق د . عبد العظيم الديب ، نشر على نفقة أمير قطر ، 1399هـ ، وروضة الطالبين 11 / 100 .
(15) مسلم الثبوت 2 / 392 ، 393 .
(16) مسلم الثبوت 2 / 402 .
(17) المستصفى 2 / 391 ، 392 ، وروضة الناظر 2 / 454 ، وإرشاد الفحول ص 271 ، والبرهان للجويني 2 / 1342 ـ 1344 ، نهاية المحتاج 1 / 41 ، ومطالب أولي النهى 6 / 441 ، وتبصرة الحكام 1 / 51 .
(18) إرشاد الفحول ص 272 .
(19) كشاف القناع 6 / 307 .
(20) نهاية المحتاج 1 / 219 القاهرة .
(21) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 158 . القاهرة ، مصطفى الحلبي . 1378 هـ ، والمغني لابن قدامة 8 / 306 .
(22) مجمع الأنهر 2 / 146 ، والمغني9 / 52 .
(23) إعلام الموقعين 1 / 46 .
(24) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ، لابن حمدان ص 24 . دمشق . المكتب الإسلامي ص 24 .
(25) إرشاد الفحول ص 296 .
(26) المغني 9 / 41 .
(27) رسالة القول المفيد في الاجتهاد والتقليد للشوكاني ـ خاتمة الرسالة .
(28) فتاوى ابن الصلاح مخطوطة بدار الكتب المصرية برقم ( 1889 أصول فقه ) ق10 .
وَأَمَّا إنْ أَضَافَ أَحَدٌ إلَى الشَّرِيعَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا مِنْ أَحَادِيثَ مُفْتَرَاةٍ، أَوْ تَأَوَّلَ النُّصُوصَ بِخِلَافِ مُرَادِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَهَذَا مِنْ نَوْعِ التَّبْدِيلِ، فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ وَالشَّرْعِ الْمُؤَوَّلِ وَالشَّرْعِ الْمُبَدَّلِ كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ مَا يُكْتَفَى فِيهَا بِذَوْقِ صَاحِبِهَا وَوَجْدِهِ .(1)
__________
(1) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 263)
وَلَفْظُ الشَّرْعِ يُقَالُ فِي عُرْفِ النَّاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ : " الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ " وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَمَنْ خَالَفَهُ وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ . وَالثَّانِي " الشَّرْعُ الْمُؤَوَّلُ " وَهُوَ آرَاءُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَنَحْوِهِ . فَهَذَا يَسُوغُ اتِّبَاعُهُ وَلَا يَجِبُ وَلَا يَحْرُمُ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ عُمُومَ النَّاسِ بِهِ وَلَا يَمْنَعَ عُمُومَ النَّاسِ مِنْهُ . وَالثَّالِثُ " الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ " وَهُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَلَى النَّاسِ بِشَهَادَاتِ الزُّورِ وَنَحْوِهَا وَالظُّلْمِ الْبَيِّنِ فَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا مِنْ شَرْعِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ بِلَا نِزَاعٍ . كَمَنْ قَالَ : إنَّ الدَّمَ وَالْمَيْتَةَ حَلَالٌ - وَلَوْ قَالَ هَذَا مَذْهَبِي وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَلَوْ كَانَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ ابْنُ مَخْلُوفٍ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَوْ الْأَشْعَرِيِّ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ جَمِيعَ النَّاسِ بِهِ وَيُعَاقِبَ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ ، فَكَيْفَ وَالْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُهُ وَيُلْزِمُ بِهِ هُوَ خِلَافَ نَصِّ مَالِكٍ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ وَخِلَافَ نَصِّ الْأَشْعَرِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ : كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الطبري وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فورك وَأَبِي الْقَاسِمِ القشيري وَأَبِي بَكْرٍ البيهقي ؟ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ ، كُلُّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِمِثْلِ مَا قُلْنَاهُ ، وَبِنَقِيضِ مَا قَالَهُ . وَلِهَذَا اصْطَلَحَتْ الْحَنْبَلِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَاتَّفَقَ النَّاسُ كُلُّهُمْ . وَلَمَّا رَأَى الْحَنْبَلِيَّةُ كَلَامَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَالُوا : هَذَا خَيْرٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ وَزَالَ مَا كَانَ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْأَضْغَانِ وَصَارَ الْفُقَهَاءُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ : يَقُولُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى اتِّفَاقِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا الَّذِي حَكَمَ فِيهِ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَ غَيْرِهِ فَكَيْفَ إذَا نُقِضَ حُكْمُ حُكَّامِ الشَّامِ جَمِيعِهِمْ بِلَا شُبْهَةٍ ، بَلْ بِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ حُكَّامَ الشَّامِ مُكْرَهُونَ ، فَفِيهِمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِعَدَمِ الْإِكْرَاهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَهَؤُلَاءِ بِمِصْرِ كَانُوا أَظْهَرَ إكْرَاهًا لِمَا اُشْتُهِرَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ غَرَضِ الدَّوْلَةِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُلْكِ وَأَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَتَكَلَّمَ الْحُكَّامُ بِأَشْيَاءَ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ حُكَّامِ مِصْرَ . فَكَيْفَ وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ مُخَالِفٌ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا ؟ وَعَامَّتُهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْوُجُوهُ مَكْتُوبَةٌ مَعَ الشَّرَفِ مُحَمَّدٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرَّفَ الشَّيْخُ " نَصْرٌ " بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَبَاطِنِ الْقَضِيَّةِ لِيَطِبَّهَا بِتَدْبِيرِهِ . فَأَنَا لَيْسَ مُرَادِي إلَّا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا يُخَافُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ إلَّا مِنْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ : كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ . وَقَدْ سَمِعْتُمْ مَا جَرَى بِدِمَشْقَ - مَعَ أَنَّ أُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى الِاتِّفَاقِ - مِنْ تَجْدِيدِ الْقَاضِي الْمَذْكُورِ إسْلَامُهُ عِنْدَ الْقَاضِي الْآخَرِ . وَأَنَا لَمَّا كُنْت هُنَاكَ كَانَ هَذَا الْآذِنُ " يَحْيَى الْحَنَفِيُّ " فَذَهَبَ إلَى الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ الْحَنْبَلِيِّ وَجَدَّدَ إسْلَامَهُ وَحَكَمَ بِحَقْنِ دَمِهِ لَمَّا قَامَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ فِي أَشْيَاءَ . وَكَانَ مِنْ مُدَّةٍ لَمَّا كَانَ الْقَاضِي حُسَامُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ مُبَاشِرًا لِقَضَاءِ الشَّامِ : أَرَادَ أَنْ يَحْلِقَ لِحْيَةَ هَذَا الأذرعي وَأَحْضَرَ الْمُوسَى وَالْحِمَارَ لِيَرْكَبَهُ وَيَطُوفَ بِهِ فَجَاءَ أَخُوهُ عَرَّفَنِي ذَلِكَ فَقُمْت إلَيْهِ وَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى كَفَّ عَنْ ذَلِكَ . وَجَرَتْ أُمُورٌ لَمْ أَزَلْ فِيهَا مُحْسِنًا إلَيْهِمْ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِي وَلَا فِعْلِ أَمْثَالِي . نَحْنُ إنَّمَا نَدْخُلُ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، لَيْسَ لَنَا غَرَضٌ مَعَ أَحَدٍ ، بَلْ نَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ وَنَعْفُو وَنَغْفِرُ . وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ قَدْ انْتَشَرَتْ وَظَهَرَ مَا فَعَلَ فِيهَا وَعِلْمُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ . فَلَوْ تَغَيَّرَتْ الْأَحْوَالُ حَتَّى جَاءَ أَمِيرٌ أَوْ وَزِيرٌ لَهُ فِي نَقْلِ مِلْكٍ قَدْ أَثْبَتَهُ أَوْ حَكَمَ بِهِ : لَكَانَ هَذَا عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ أَسْهَلِ مَا يَكُونُ . فَيُثْبِتُونَ رِدَّتَهُ وَالْمُرْتَدُّ أَحْكَامُهُ مَرْدُودَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَيَعُودُ ضَرَرُهُ عَلَى الَّذِينَ أَعَانُوهُ وَنَصَرُوهُ بِالْبَاطِلِ مِنْ أَهْلِ الدَّوْلَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا أَمْرٌ كَبِيرٌ لَا يَنْبَغِي إهْمَالُهُ . فَالشَّيْخُ خَبِيرٌ يَعْرِفُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ . وَأَنَا وَاَللَّهِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مُعَاوَنَةً عَلَى إطْفَاءِ كُلِّ شَرٍّ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا وَإِقَامَةِ كُلِّ خَيْرٍ ، وَابْنُ مَخْلُوفٍ لَوْ عَمِلَ مَهْمَا عَمِلَ وَاَللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى خَيْرٍ إلَّا وَأَعْمَلُهُ مَعَهُ وَلَا أُعِينُ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ قَطُّ . وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . هَذِهِ نِيَّتِي وَعَزْمِي ، مَعَ عِلْمِي بِجَمِيعِ الْأُمُورِ . فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَنْ أَكُونَ عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى إخْوَانِي الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ كُنْت خَارِجًا لَكُنْت أَعْلَمُ بِمَاذَا أُعَاوِنُهُ ، لَكِنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ فَعَلُوهَا زُورًا وَاَللَّهُ يَخْتَارُ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ مَا فِيهِ الْخِيَرَةُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . وَلَنْ يَنْقَطِعَ الدَّوْرُ وَتَزُولَ الْحَيْرَةُ إلَّا بِالْإِنَابَةِ إلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ وَصِدْقِ الِالْتِجَاءِ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا مَلْجَأَ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 232)
وَأَمَّا " الْمَحَبَّةُ الشركية " فَلَيْسَ فِيهَا مُتَابَعَةٌ لِلرَّسُولِ وَلَا بُغْضٌ لِعَدُوِّهِ وَمُجَاهَدَةٌ لَهُ كَمَا يُوجَدُ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ يَدَّعُونَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَلَا يُتَابِعُونَ الرَّسُولَ وَلَا يُجَاهِدُونَ عَدُوَّهُ . وَكَذَلِكَ " أَهْلُ الْبِدَعِ " الْمُدَّعُونَ لِلْمَحَبَّةِ لَهُمْ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ بِحَسَبِ بِدْعَتِهِمْ وَهَذَا مِنْ حُبِّهِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ وَتَجِدُهُمْ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مُوَالَاةِ أَوْلِيَاءِ الرَّسُولِ وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي هِيَ شُعْبَةٌ مِنْ الشِّرْكِ . وَاَلَّذِينَ ادَّعَوْا الْمَحَبَّةَ مِنْ " الصُّوفِيَّةِ " وَكَانَ قَوْلُهُمْ فِي الْقَدَرِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الجهمية الْمُجْبِرَةِ هُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَا يَشْهَدُونَ لِلرَّبِّ مَحْبُوبًا إلَّا مَا وَقَعَ وَقُدِّرَ وَكُلُّ مَا وَقَعَ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ فَهُوَ مَحْبُوبُهُ عِنْدَهُمْ فَلَا يَبْقَى فِي هَذَا الشُّهُودِ فَرْقٌ بَيْنَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَلَا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي جَهْلٍ وَلَا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ وَلَا بَيْنَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ؛ بَلْ هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْفَانِي فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ سَوَاءٌ ؛ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ حَادِثٍ وَحَادِثٍ إلَّا مِنْ جِهَةِ مَا يَهْوَاهُ وَيُحِبُّهُ ؛ وَهَذَا هُوَ الَّذِي اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ إنَّمَا يَأْلَهُ وَيُحِبُّ مَا يَهْوَاهُ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَحَبَّةً لِلَّهِ فَقَدْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَهُمْ مَنْ يَهْوَاهُ ؛ هَذَا مَا دَامَ فِيهِ مَحَبَّةً لِلَّهِ ؛ وَقَدْ يَنْسَلِخُ مِنْهَا حَتَّى يَصِيرَ إلَى التَّعْطِيلِ كَفِرْعَوْنَ وَأَمْثَالِهِ الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَنَحْوِهِمْ . وَلِهَذَا هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ بِلَا عِلْمٍ وَيُبْغِضُونَ بِلَا عِلْمٍ وَالْعِلْمُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَمَا قَالَ : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } وَهُوَ الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ وَلِهَذَا كَانَ الشُّيُوخُ الْعَارِفُونَ كَثِيرًا مَا يُوصُونَ الْمُرِيدِينَ بِاتِّبَاعِ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا قِطْعَةً مِنْ كَلَامِهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَحَبَّةَ إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَشَرْعٍ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَحَبَّةِ الْكُفَّارِ وَإِرَادَتِهِمْ ، فَهَؤُلَاءِ السَّالِكُونَ الْمُرِيدُونَ الصُّوفِيَّةُ وَالْفُقَرَاءُ الزَّاهِدُونَ الْعَابِدُونَ الَّذِينَ سَلَكُوا طَرِيقَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ إنْ لَمْ يَتَّبِعُوا الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ وَالْعِلْمَ الْمَوْرُوثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُحِبُّونَ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُبْغِضُونَ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِلَّا أَفْضَى بِهِمْ الْأَمْرُ إلَى شُعَبٍ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ . وَلَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ إلَّا بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ . وَمِنْ الْإِيمَانِ بِمَا أَخْبَرَ الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ فَمَنْ نَفَى الصِّفَاتِ فَقَدْ كَذَّبَ خَبَرَهُ . وَمِنْ الْإِيمَانِ بِمَا أَمَرَ فِعْلُ مَا أَمَرَ ، وَتَرْكُ مَا حَظَرَ وَمَحَبَّةُ الْحَسَنَاتِ وَبُغْضُ السَّيِّئَاتِ وَلُزُومُ هَذَا الْفَرْقِ إلَى الْمَمَاتِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَحْسِنْ الْحَسَنَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَلَمْ يَسْتَقْبِحْ السَّيِّئَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } . وَكَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّتِهِ قَبْلِي إلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ ؛ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَأَضْعَفُ الْإِيمَانِ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ بُغْضُ الْمُنْكَرِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ الْمُبْتَدِعُونَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْمَحَبَّةَ الْمُجْمَلَةَ الْمُشْتَرَكَةَ الَّتِي تُضَاهِي مَحَبَّةَ الْمُشْرِكِينَ يَكْرَهُونَ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَيَقُولُونَ : فُلَانٌ يُنْكِرُ وَفُلَانٌ يُنْكِرُ وَقَدْ يُبْتَلَوْنَ كَثِيرًا بِمَنْ يُنْكِرُ مَا مَعَهُمْ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ فَيَصِيرُ هَذَا يُشْبِهُ النَّصْرَانِيَّ الَّذِي يُصَدِّقُ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيُحِبُّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ كَالْمُشْرِكِ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ وَيُحِبُّ الْأَنْدَادَ وَهَذَا كَالْيَهُودِيِّ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيُبْغِضُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَلَا يُحِبُّ اللَّهَ وَلَا يُحِبُّ الْأَنْدَادَ ؛ بَلْ يَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا اسْتَكْبَرَ فِرْعَوْنُ وَأَمْثَالُهُ . وَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرًا فِي أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَالْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ هَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى ، وَهَؤُلَاءِ يُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مُضَاهَاةً لِلْيَهُودِ وَإِنَّمَا دِينُ الْإِسْلَامِ وَطَرِيقُ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ إنْكَارُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْحَقِّ ، وَالتَّكْذِيبُ بِالْبَاطِلِ فَهُمْ فِي تَصْدِيقِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ مُعْتَدِلُونَ يُصَدِّقُونَ بِالْحَقِّ وَيُكَذِّبُونَ بِالْبَاطِلِ وَيُحِبُّونَ الْحَقَّ وَيُبْغِضُونَ الْبَاطِلَ . يُصَدِّقُونَ بِالْحَقِّ الْمَوْجُودِ وَيُكَذِّبُونَ بِالْبَاطِلِ الْمَفْقُودِ وَيُحِبُّونَ الْحَقَّ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ ، وَيُبْغِضُونَ الْمُنْكَرَ الَّذِي نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَا طَرِيقَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ فَلَا يُصَدِّقُونَ بِهِ وَلَا يُحِبُّونَهُ ، وَلَا الضَّالِّينَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ وَيُحِبُّونَ مَا لَمْ يُنَزِّلْ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا ) أَنَّ الْمَحَبَّةَ الشركية الْبِدْعِيَّةَ هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتْ هَؤُلَاءِ فِي أَنْ آلَ أَمْرُهُمْ إلَى أَنْ لَا يَسْتَحْسِنُوا حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُوا سَيِّئَةً ؛ لِظَنِّهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَأْمُورًا وَلَا يُبْغِضُ مَحْظُورًا فَصَارُوا فِي هَذَا مِنْ جِنْسِ مَنْ أَنْكَرَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ شَيْئًا وَيُبْغِضُ شَيْئًا كَمَا هُوَ قَوْلُ الجهمية نفاة الصِّفَاتِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ مُثْبِتًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَفِي أَصْلِ اعْتِقَادِهِ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ لَكِنْ إذَا جَاءَ إلَى الْقَدَرِ لَمْ يُثْبِتْ شَيْئًا غَيْرَ الْإِرَادَةِ الشَّامِلَةِ وَهَذَا وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ تَكَلَّمُوا فِي الْقَدَرِ بِمَا يُوَافِقُ رَأْيَ جَهْمٍ وَالْأَشْعَرِيَّةِ فَصَارُوا مُنَاقِضِينَ لِمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ الصِّفَاتِ كَحَالِ صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا أَئِمَّةُ الصُّوفِيَّةِ وَالْمَشَايِخُ الْمَشْهُورُونَ مِنْ الْقُدَمَاءِ : مِثْلُ الجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعِهِ وَمِثْلُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَأَمْثَالِهِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ لُزُومًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَتَوْصِيَةً بِاتِّبَاعِ ذَلِكَ وَتَحْذِيرًا مِنْ الْمَشْيِ مَعَ الْقَدَرِ كَمَا مَشَى أَصْحَابُهُمْ أُولَئِكَ وَهَذَا هُوَ " الْفَرْقُ الثَّانِي " الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ الجنيد مَعَ أَصْحَابِهِ . وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ كَلَامُهُ كُلُّهُ يَدُورُ عَلَى اتِّبَاعِ الْمَأْمُورِ ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ وَلَا يُثْبِتُ طَرِيقًا تُخَالِفُ ذَلِكَ أَصْلًا لَا هُوَ وَلَا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَيُحَذِّرُ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْقَدَرِ الْمَحْضِ بِدُونِ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا أَصَابَ أُولَئِكَ الصُّوفِيَّةَ الَّذِينَ شَهِدُوا الْقَدَرَ وَتَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَغَابُوا عَنْ الْفَرْقِ الْإِلَهِيِّ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَمَكْرُوهِهِ ، وَيُثْبِتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا تَجِبُ رِعَايَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ زَاغَ عَنْهُ فَضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ هَذَا مَنْ تَوَجَّهَ بِقَلْبِهِ وَانْكَشَفَتْ لَهُ حَقَائِقُ الْأُمُورِ وَصَارَ يَشْهَدُ الرُّبُوبِيَّةَ الْعَامَّةَ والقيومية الشَّامِلَةَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ نُورُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْفُرْقَانُ حَتَّى يَشْهَدَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَبَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ وَبَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ وَإِلَّا خَرَجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِحَسَبِ خُرُوجِهِ عَنْ هَذَا فَإِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ الْعَامَّةَ قَدْ أَقَرَّ بِهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } . وَإِنَّمَا يَصِيرُ الرَّجُلُ مُسْلِمًا حَنِيفًا مُوَحِّدًا إذَا شَهِدَ : أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . فَعَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ بِحَيْثُ لَا يُشْرِكُ مَعَهُ أَحَدًا فِي تَأَلُّهِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ وَعُبُودِيَّتِهِ وَإِنَابَتِهِ إلَيْهِ وَإِسْلَامِهِ لَهُ وَدُعَائِهِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَمُوَالَاتِهِ فِيهِ ؛ وَمُعَادَاتِهِ فِيهِ ؛ وَمَحَبَّتِهِ مَا يُحِبُّ ؛ وَبُغْضِهِ مَا يُبْغِضُ وَيَفْنَى بِحَقِّ التَّوْحِيدِ عَنْ بَاطِلِ الشِّرْكِ ؛ وَهَذَا فَنَاءٌ يُقَارِنُهُ الْبَقَاءُ فَيَفْنَى عَنْ تَأَلُّهِ مَا سِوَى اللَّهِ بِتَأَلُّهِ اللَّهِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَيَنْفِي وَيَفْنَى مِنْ قَلْبِهِ تَأَلُّهَ مَا سِوَاهُ ؛ وَيُثْبِتُ وَيُبْقِي فِي قَلْبِهِ تَأَلُّهَ اللَّهِ وَحْدَهُ ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - : { مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ : { لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهَا حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا مَاتَ مُسْلِمًا } . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا أَلَّا نَمُوتَ إلَّا عَلَى الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ الصِّدِّيقُ { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } وَالصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ الْمَوْتَ وَلَمْ يَتَمَنَّهُ . وَإِنَّمَا سَأَلَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ يَمُوتُ عَلَى الْإِسْلَامِ ؛ فَسَأَلَ الصِّفَةَ لَا الْمَوْصُوفَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ ؛ وَأَمَرَ بِهِ خَلِيلَهُ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ ؛ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 411)
فَأَمَّا مَنْ خَلَطَ الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ بِالْمُبَدَّلِ وَالْمُؤَوَّلِ ، وَخَلَطَ الْقَصْدَ الْحَسَنَ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى فَهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مخلطون فِي عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَتَخْلِيطُ هَؤُلَاءِ فِي الْعِلْمِ سِوَى تَخْلِيطِهِمْ وَتَخْلِيطِ غَيْرِهِمْ فِي الْقَصْدِ ، وَتَخْلِيطُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَصْدِ سِوَى تَخْلِيطِهِمْ وَتَخْلِيطِ غَيْرِهِمْ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . وَ " حُسْنُ الْقَصْدِ " مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى نَيْلِ الْعِلْمِ وَدَرْكِهِ . وَ " الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ " مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى حُسْنِ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّ الْعِلْمَ قَائِدٌ وَالْعَمَلَ سَائِقٌ ، وَالنَّفْسَ حَرُونٌ فَإِنْ وَنَى قَائِدُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِسَائِقِهَا وَإِنْ وَنَى سَائِقُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِقَائِدِهَا فَإِذَا ضَعُفَ الْعِلْمُ حَارَ السَّالِكُ وَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَسْلُكُ فَغَايَتُهُ أَنْ يستطرح لِلْقَدَرِ وَإِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ حَارَ السَّالِكُ عَنْ الطَّرِيقِ فَسَلَكَ غَيْرَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ تَرَكَهُ فَهَذَا حَائِرٌ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَسْلُكُ مَعَ كَثْرَةِ سَيْرِهِ وَهَذَا حَائِرٌ عَنْ الطَّرِيقِ زَائِغٌ عَنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ . قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } . هَذَا جَاهِلٌ وَهَذَا ظَالِمٌ . قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } . مَعَ أَنَّ الْجَهْلَ وَالظُّلْمَ مُتَقَارِبَانِ لَكِنَّ الْجَاهِلَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ ظَالِمٌ وَالظَّالِمُ جَهِلَ الْحَقِيقَةَ الْمَانِعَةَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ . قَالَ تَعَالَى { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَقَالُوا : كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ . وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي حَيَّانَ التيمي قَالَ : " الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ " فَعَالِمٌ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ ، وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِاَللَّهِ ، وَعَالِمٌ بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ . فَالْعَالِمُ بِاَللَّهِ الَّذِي يَخْشَاهُ وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّه الَّذِي يَعْرِفُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ . قُلْت : وَالْخَشْيَةُ تَمْنَعُ اتِّبَاعَ الْهَوَى ، قَالَ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } . وَالْكَمَالُ فِي عَدَمِ الْهَوَى وَفِي الْعِلْمِ هُوَ لِخَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَالَ فِيهِ : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } { إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } فَنَفَى عَنْهُ الضَّلَالَ وَالْغَيَّ وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى فَنَفَى الْهَوَى وَأَثْبَتَ الْعِلْمَ الْكَامِلَ وَهُوَ الْوَحْيُ فَهَذَا كَمَالُ الْعِلْمِ وَذَاكَ كَمَالُ الْقَصْدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَوَصَفَ أَعْدَاءَهُ بِضِدِّ هَذَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } فَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ لِلْإِنْسَانِ هُوَ تَكْمِيلُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ عِلْمًا وَقَصْدًا . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْ إبْلِيسَ : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } . وَ " عِبَادَتُهُ " طَاعَةُ أَمْرِهِ ، وَأَمْرُهُ لَنَا مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ عَنْهُ ؛ فَالْكَمَالُ فِي كَمَالِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَتَرَكَ هَوَاهُ وَاسْتَسْلَمَ لِلْقَدَرِ أَوْ اجْتَهَدَ فِي الطَّاعَةِ فَأَخْطَأَ ، فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى مَا اعْتَقَدَهُ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ فَتَوَقَّفَ عَمَّا هُوَ طَاعَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهَؤُلَاءِ مُطِيعُونَ لِلَّهِ مُثَابُونَ عَلَى مَا أَحْسَنُوهُ مِنْ الْقَصْدِ لِلَّهِ وَاسْتَفْرَغُوهُ مِنْ وُسْعِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا عَجَزُوا عَنْ عِلْمِهِ فَأَخْطَئُوهُ إلَى غَيْرِهِ فَمَغْفُورٌ لَهُمْ . وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ فِتَنٍ تَقَعُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَإِنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ أُمُورًا هُمْ مُجْتَهِدُونَ فِيهَا وَقَدْ أَخْطَئُوا فَتَبْلُغُ أَقْوَامًا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا فِيهَا الذَّنْبَ أَوْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَا يُعْذَرُونَ بِالْخَطَأِ وَهُمْ أَيْضًا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ فَيَكُونُ هَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فِي فِعْلِهِ وَهَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فِي إنْكَارِهِ وَالْكُلُّ مَغْفُورٌ لَهُمْ . وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُذْنِبًا كَمَا قَدْ يَكُونَانِ جَمِيعًا مُذْنِبِينَ . وَخَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ . وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يُعْطَى طَرَفًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَيُوَلِّي وَيَعْزِلُ وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا كَمَالٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَالًا إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْأَمْرِ فَيَكُونُ طَاعَةً لِلَّهِ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُلْكِ وَأَفْعَالِ الْمُلْكِ : إمَّا ذَنَبٌ وَإِمَّا عَفْوٌ وَإِمَّا طَاعَةٌ . فَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَفْعَالُهُمْ طَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ وَهُمْ أَتْبَاعُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ . وَهِيَ طَرِيقَةُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ . وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْمُلُوكِ الْعَادِلِينَ فَإِمَّا طَاعَةٌ وَإِمَّا عَفْوٌ ؛ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُلُوكِ ؛ وَطَرِيقَةُ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ . وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ : فَتَتَضَمَّنُ الْمَعَاصِيَ ؛ وَهِيَ طَرِيقَةُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ . قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } فَلَا يَخْرُجُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ : إمَّا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَإِمَّا مُقْتَصِدٌ وَإِمَّا سَابِقٌ بِالْخَيِّرَاتِ . وَ " خَوَارِقُ الْعَادَاتِ " إمَّا مُكَاشَفَةٌ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ الْخَارِقِ وَإِمَّا تَصَرُّفٌ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْقُدْرَةِ الْخَارِقَةِ ؛ وَأَصْحَابُهَا لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ .
مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 33)
فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : لِمَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْتَ شَرْعِيٌّ . فَكَلَامٌ صَحِيحٌ فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَتَّبِعُهُ أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ وَأَنَا خَارِجٌ عَنْ اتِّبَاعِهِ فَلَفْظُ الشَّرْعِ قَدْ صَارَ لَهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ " ثَلَاثُ مَعَانٍ " الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ وَالشَّرْعُ الْمُؤَوَّلُ وَالشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ . فَأَمَّا الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ : فَهُوَ مَا ثَبَتَ عَنْ الرَّسُولِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَذَا الشَّرْعُ يَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِينَ والآخرين اتِّبَاعُهُ وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ أَكْمَلُهُمْ اتِّبَاعًا لَهُ وَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ هَذَا الشَّرْعَ أَوْ طَعَنَ فِيهِ أَوْ جَوَّزَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَأَمَّا الْمُؤَوَّلُ فَهُوَ مَا اجْتَهَدَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْأَحْكَامِ فَهَذَا مَنْ قَلَّدَ فِيهِ إمَامًا مِنْ الْأَئِمَّةِ سَاغَ ذَلِكَ لَهُ وَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْتِزَامُ قَوْلِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ . وَأَمَّا الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ فَهُوَ الْأَحَادِيثُ الْمَكْذُوبَةُ وَالتَّفَاسِيرُ الْمَقْلُوبَةُ وَالْبِدَعُ الْمُضِلَّةُ الَّتِي أُدْخِلَتْ فِي الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ . فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدِ اتِّبَاعُهُ . وَإِنَّمَا حُكْمُ الْحُكَّامِ بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الْأَشْيَاءَ عَنْ حَقَائِقِهَا . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ . وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } فَهَذَا قَوْلُ إمَامِ الْحُكَّامِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ : فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } " وَقَالَ { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ . رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ بِجَهْلِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ } " . وَمَنْ خَرَجَ عَنْ الشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَانًّا أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ مُضَاهٍ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَلَفْظُ " الْحَقِيقَةِ " يُقَالُ : عَلَى " حَقِيقَةٍ كَوْنِيَّةٍ " وَ " حَقِيقَةٍ بِدْعِيَّةٍ " وَ " حَقِيقَةٍ شَرْعِيَّةٍ " . فَ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " مَضْمُونُهَا الْإِيمَانُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ . وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ بَلْ لِلَّهِ عَلَيْنَا الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ وَمَنْ اعْتَذَرَ بِالْقَدَرِ عَنْ الْمَعَاصِي فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ . وَأَمَّا " الْحَقِيقَةُ الْبِدْعِيَّةُ " فَهِيَ سُلُوكُ طَرِيقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا يَقَعُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْهَوَى مِنْ غَيْرِ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . كَطَرِيقِ النَّصَارَى فَهُمْ تَارَةً يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَتَارَةً يَعْبُدُونَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ . كَالنَّصَارَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مَنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ فَأَشْرَكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَشَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . وَأَمَّا دِينُ الْمُسْلِمِينَ فَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ الفضيل بْنُ عِيَاضٍ : [ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا : ] وَمَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا " . وَأَمَّا " الْحَقِيقَةُ الدِّينِيَّةُ " وَهِيَ تَحْقِيقُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِثْلُ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ وَالصَّبْرِ لِحُكْمِ اللَّهِ وَالْحَبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَهَذَا حَقَائِقُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَطَرِيقُ أَهْلِ الْعِرْفَانِ .
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 9 / ص 276)
وَعَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لَا يَحْكُمُوا إلَّا بِالْعَدْلِ . " وَالْعَدْلُ " هُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَأَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ مَعَ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَأَوْجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ إذَا تَنَازَعُوا أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْحَكَمُ الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِهِ وَالْحُكْمُ لَهُ وَحْدَهُ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ؛ فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ كَانَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَكَانَتْ لَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ عَصَى الرَّسُولَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَالْعَذَابِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْت تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا أَخْتَلِفُ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك ؛ إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَقَالَ تَعَالَى { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ هَدَاهُمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقَّ ؛ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَبْغِي عَلَى بَعْضٍ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِالْحَقِّ فَيَتَّبِعُ هَوَاهُ وَيُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيَزِيغُ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَالَ يُوسُفُ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } فَالْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَرُسُلُهُ يُبَلِّغُونَ عَنْهُ ؛ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُهُ وَأَمْرُهُمْ أَمْرُهُ وَطَاعَتُهُمْ طَاعَتُهُ فَمَا حَكَمَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَمَرَهُمْ بِهِ وَشَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ اتِّبَاعُهُ وَطَاعَتُهُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ . وَالرَّسُولُ يُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَنْ يُحَكِّمُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلَ الْمُرْسَلِينَ وَأَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ حُكْمِهِ فِي شَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْمُلُوكِ أَوْ الشُّيُوخِ أَوْ غَيْرِهِمْ . وَلَوْ أَدْرَكَهُ مُوسَى أَوْ عِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنْ الرُّسُلِ كَانَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ - عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا - قَالُوا : لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ عَهْدِ نُوحٍ إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهْم أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ أَنْ يُصَدِّقَ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ وَعَلَى النَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ أَنْ يُصَدِّقَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَخْتَلِفْ الْأَنْبِيَاءُ بَلْ دِينُهُمْ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } أَيْ مِلَّتُكُمْ مِلَّةً وَاحِدَةً كَقَوْلِهِمْ : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } أَيْ مِلَّةٍ . وَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ } فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ كَمَا قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ ؛ لَكِنَّ بَعْضَ الشَّرَائِعِ تَتَنَوَّعُ فَقَدْ يُشَرِّعُ فِي وَقْتٍ أَمْرًا لِحِكْمَةِ ثُمَّ يُشَرِّعُ فِي وَقْتٍ آخَرَ أَمْرًا آخَرَ لِحِكْمَةِ ؛ كَمَا شَرَعَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ الصَّلَاةَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ فَتَنَوَّعَتْ الشَّرِيعَةُ وَالدِّينُ وَاحِدٌ وَكَانَ اسْتِقْبَالُ الشَّامِ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ السَّبْتُ لِمُوسَى مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ لَمَّا نُسِخَ صَارَ دِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ النَّاسِخَ وَهُوَ الصَّلَاةُ إلَى الْكَعْبَةِ فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالْمَنْسُوخِ دُونَ النَّاسِخِ فَلَيْسَ هُوَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَا هُوَ مُتَّبِعٌ لِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ بَدَّلَ شَرْعَ الْأَنْبِيَاءِ وَابْتَدَعَ شَرْعًا فَشَرْعُهُ بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَلِهَذَا كَفَرَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِشَرْعِ مُبَدَّلٍ مَنْسُوخٍ . وَاَللَّهُ أَوْجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الرُّسُلِ ؛ فَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ وَاتِّبَاعُ مَا شَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ وَهُوَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ الشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ ؛ - وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْهُ وَهُوَ الشَّرْعُ الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ الْمُجَاهِدُونَ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَسُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ تَنْصُرُ هَذَا الشَّرْعَ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَضْرِبَ بِهَذَا - يَعْنِي السَّيْفَ - مَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا . يَعْنِي الْمُصْحَفَ } قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَنْزَلَ الْعَدْلَ وَمَا بِهِ يُعْرَفُ الْعَدْلُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ . فَمَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ قُوتِلَ بِالْحَدِيدِ . فَالْكِتَابُ وَالْعَدْلُ مُتَلَازِمَانِ وَالْكِتَابُ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِلشَّرْعِ ؛ فَالشَّرْعُ هُوَ الْعَدْلُ وَالْعَدْلُ هُوَ الشَّرْعُ وَمَنْ حَكَمَ بِالْعَدْلِ فَقَدْ حَكَمَ بِالشَّرْعِ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَنْسُبُونَ مَا يَقُولُونَهُ إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ ؛ بَلْ يَقُولُونَ ذَلِكَ إمَّا جَهْلًا وَإِمَّا غَلَطًا وَإِمَّا عَمْدًا وَافْتِرَاءً وَهَذَا هُوَ الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَصْحَابُهُ الْعُقُوبَةَ ؛ لَيْسَ هُوَ الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إلَى خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ كُلُّهُ عَدْلٌ لَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ وَلَا جَهْلٌ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } فَاَلَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ الْقِسْطُ وَالْقِسْطُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } فَاَلَّذِي أَرَاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ هُوَ الْعَدْلُ .
وَقَدْ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالًا بِاجْتِهَادِهِمْ ؛ فَهَذِهِ يَسُوغُ الْقَوْلُ بِهَا وَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَلْتَزِمَ إلَّا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَهَذَا شَرْعٌ دَخَلَ فِيهِ التَّأْوِيلُ وَالِاجْتِهَادُ وَقَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ فَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ أَجْرَانِ وَقَدْ لَا يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُ ؛ لَكِنْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا ؛ فَإِذَا اتَّقَى الْعَبْدُ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ آجَرَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَغَفَرَ لَهُ خَطَأَهُ . وَمَنْ كَانَ هَكَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَذُمَّهُ وَلَا يَعِيبَهُ وَلَا يُعَاقِبَهُ وَلَكِنْ إذَا عُرِفَ الْحَقُّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ تَرْكُ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ وَذَلِكَ هُوَ الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لَا يُجَاهِدُونَ عَلَى قَوْلِ عَالِمٍ وَلَا شَيْخٍ وَلَا مُتَأَوِّلٍ ؛ بَلْ يُجَاهِدُونَ لِيُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَيَكُونَ الدِّينُ لَهُ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً : فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . فَالْمَقْصُودُ بِالْجِهَادِ أَنْ لَا يُعْبَدَ أَحَدٌ إلَّا اللَّهُ ؛ فَلَا يَدْعُو غَيْرَهُ وَلَا يُصَلِّي لِغَيْرِهِ وَلَا يَسْجُدُ لِغَيْرِهِ ؛ وَلَا يَصُومُ لِغَيْرِهِ وَلَا يَعْتَمِرُ وَلَا يَحُجُّ إلَّا إلَى بَيْتَهُ وَلَا يَذْبَحُ الْقَرَابِينَ إلَّا لَهُ وَلَا يَنْذِرُ إلَّا لَهُ وَلَا يَحْلِفُ إلَّا بِهِ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَخَافُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَتَّقِي إلَّا إيَّاهُ . فَهُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا هُوَ وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إلَّا هُوَ وَلَا يَهْدِي الْخَلْقَ إلَّا هُوَ ؛ وَلَا يَنْصُرُهُمْ إلَّا هُوَ وَلَا يَرْزُقُهُمْ إلَّا هُوَ وَلَا يُغْنِيهِمْ إلَّا هُوَ وَلَا يَغْفِرُ ذُنُوبَهُمْ إلَّا هُوَ قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } { وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } { ثُمَّ إذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } { لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الشِّرْكَ كُلَّهُ وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ نِدًّا ؛ فَلَا يُدْعَى غَيْرُهُ لَا الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا الصَّالِحُونَ وَلَا الشَّمْسُ وَلَا الْقَمَرُ وَلَا الْكَوَاكِبُ وَلَا الْأَوْثَانُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ ؛ بَلْ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَنْ يَدْعُو الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَلَا تَحْوِيلَهُ وَأَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ بِالْوَسِيلَةِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ فَكَيْفَ يَدْعُونَ الْمَخْلُوقِينَ وَيَذَرُونَ الْخَالِقَ وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا } وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ رَحِيمٌ بِهِمْ ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً مِنْ السَّبْيِ إذْ رَأَتْ وَلَدًا أَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا فَقَالَ : أَتَرَوْنَ هَذِهِ وَاضِعَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ قَالُوا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا } وَهُوَ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلَيَّ رَبِّي إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } وَهُوَ تَعَالَى رَحِيمٌ وَدُودٌ . و " الْوُدُّ " اللُّطْفُ وَالْمَحَبَّةُ ؛ فَهُوَ يَوَدُّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَجْعَلُ لَهُمْ الْوُدَّ فِي الْقُلُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : يُحِبُّهُمْ وَيُحَبِّبُهُمْ إلَى عِبَادِهِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تُغَلِّطُهُ الْمَسَائِلُ وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ ؛ بَلْ يُحِبُّ مَنْ يَدْعُوهُ وَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ وَيُبْغِضُ مَنْ لَا يَدْعُوهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ يَغْضَبُ عَلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَبُّنَا قَرِيبٌ فَنُنَاجِيهِ ؟ أَوْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ كَالْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ تُرْفَعُ إلَيْهِمْ الْحَوَائِجُ بِالْحِجَابِ ؛ بَلْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ اللَّهُ : مَجَّدَنِي عَبْدِي ؛ فَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَوَلَّى كَلَامَ عِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْطُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْظُرُ أَمَامَهُ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ } وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَرِيبٌ مِمَّنْ دَعَاهُ يَتَقَرَّبُ مِمَّنْ عَبَدَهُ وَأَطَاعَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي إنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً } . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُولِي عِبَادَهُ إحْسَانًا وَجُودًا وَكَرَمًا ؛ لَا لِحَاجَةٍ إلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } وَلَا يُحَاسِبُ الْعِبَادَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ وَهُوَ الَّذِي يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . وَهُوَ الَّذِي يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيَنْصُرُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ ؛ لَا أَحَدَ غَيْرَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ الْكَافِرُونَ إلَّا فِي غُرُورٍ } { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ } وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَكْلَؤُكُمْ بَدَلًا مِنْ اللَّهِ ؟ مِنْ الَّذِي يَدْفَعُ الْآفَاتِ عَنْكُمْ الَّتِي تَخَافُونَهَا مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . وَالرَّسُولُ هُوَ الْوَاسِطَةُ وَالسَّفِيرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ الَّذِي يُبَلِّغُهُمْ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ وَتَحْلِيلَهُ وَتَحْرِيمَهُ : فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا شَرَعَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ إلْزَامُ النَّاسِ بِهِ وَيَجِبُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ الْجِهَادُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ اتِّبَاعُهُ وَنَصْرُهُ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ اللَّازِمِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ " حُكْمُ الْحَاكِمِ " وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ ؛ بَلْ حُكْمُ الْحَاكِمِ الْعَالِمِ الْعَادِلِ يُلْزِمُ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ تَحَاكَمُوا إلَيْهِ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ لَا يَلْزَمُ جَمِيعَ الْخُلُقِ وَلَا يَجِبُ عَلَى عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَلِّدَ حَاكِمًا لَا فِي قَلِيلٍ وَلَا فِي كَثِيرٍ إذَا كَانَ قَدْ عَرَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ؛ بَلْ لَا يَجِبُ عَلَى آحَادِ الْعَامَّةِ تَقْلِيدُ الْحَاكِمِ فِي شَيْءٍ ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ يَجُوزُ لَهُ اسْتِفْتَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا وَمَتَى تَرَكَ الْعَالِمُ مَا عَلِمَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَاتَّبَعَ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمُخَالِفِ لِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ مُرْتَدًّا كَافِرًا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى : { المص } { كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } . وَلَوْ ضُرِبَ وَحُبِسَ وَأُوذِيَ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى لِيَدَعَ مَا عَلِمَهُ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَاتَّبَعَ حُكْمَ غَيْرِهِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِعَذَابِ اللَّهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ وَإِنْ أُوذِيَ فِي اللَّهِ فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الم } { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمَ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ قَدْ تَنَازَعَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَحُكْمُ الْحَاكِمِ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُخَالِفُ مَا حَكَمَ بِهِ فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ مَا عَلِمَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرَ بِذَلِكَ وَيُفْتِيَ بِهِ وَيَدْعُوَ إلَيْهِ وَلَا يُقَلِّدَ الْحَاكِمَ . هَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ تَرَكَ الْمُسْلِمُ عَالِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ مَا عَلِمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ غَيْرِهِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ قَالَ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَاكِمُ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا النَّصُّ - مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلَ بِاجْتِهَادِهِمْ وَكَانَ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُخَالِفُ اجْتِهَادَهُمْ - فَهُمْ مَعْذُورُونَ لِكَوْنِهِمْ اجْتَهَدُوا و { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَلَكِنْ مَنْ عَلِمَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ السُّنَّةِ إلَى غَيْرِهَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } وَمَنْ اتَّبَعَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ كَانَ مَهْدِيًّا مَنْصُورًا بِنُصْرَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } { إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } وَإِذَا أَصَابَتْ الْعَبْدَ مُصِيبَةٌ كَانَتْ بِذَنْبِهِ لَا بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْحَمُ وَيُنْصَرُ وَبِذُنُوبِهِ يُعَذَّبُ وَيُخْذَلُ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } وَلِهَذَا لَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ بِذُنُوبِهِمْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ حِكْمَةَ ابْتِلَائِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وَاَللَّهُ قَدَّرَهَا وَقَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ . لَكِنْ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ مِنْ عَافِيَةٍ وَنَصْرٍ وَرِزْقٍ فَهُوَ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ فَالْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْ اللَّهِ ؛ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ بَلْ هُوَ فَقِيرٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا : وَمَا أَصَابَهُ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِذُنُوبِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ ذُنُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الْمَصَائِبِ وَيَأْجُرُهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا وَيَغْفِرُ لِمَنْ اسْتَغْفَرَ وَيَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا غَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةِ يشاكها ؛ إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } { وَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ جَاءَتْ قَاصِمَةَ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا ؟ قَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَنْصَبُ ؟ أَلَسْت تَحْزَنُ ؟ أَلَسْت تُصِيبُك اللَّأْوَاءُ ؟ فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ } وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا أَصَابَهُمْ وَمَا أَصَابَ أَتْبَاعَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَذَى فِي اللَّهِ ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُمْ وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ وَقَصَّ عَلَيْنَا ذَلِكَ لِنَعْتَبِرَ بِهِ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
فَالشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَّبِعَهُ وَيَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ نَصْرُهُ وَالْجِهَادُ عَلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَأَمَّا حُكْمُ الْحَاكِمِ فَذَاكَ يُقَالُ لَهُ قَضَاءُ الْقَاضِي ؛ لَيْسَ هُوَ الشَّرْعَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ طَاعَتُهُ ؛ بَلْ الْقَاضِي الْعَالِمُ الْعَادِلُ يُصِيبُ تَارَةً وَيُخْطِئُ تَارَةً وَلَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ لِشَخْصِ بِخِلَافِ الْحَقِّ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ سَيِّدَ الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } فَهَذَا سَيِّدُ الْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ يَقُولُ إذَا حَكَمْت لِشَخْصِ بِشَيْءِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَلَا يَأْخُذُهُ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لَا يَنْفُذُ فِي الْبَاطِنِ فَلَوْ حَكَمَ لِزَيْدِ بِمَالِ عَمْرٍو وَكَانَ مُجْتَهِدًا مُتَحَرِّيًا لِلْحَقِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ . وَأَمَّا فِي " الْعُقُودِ والفسوخ " مِثْلُ أَنْ يَحْكُمَ بِنِكَاحِ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ فَسْخِ بَيْعٍ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ لَا يَنْفُذُ أَيْضًا وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ ؛ وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَاكِمُ عَالِمًا عَادِلًا وَقَدْ حَكَمَ فِي أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ . و " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ . وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ . وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ } فَالْقَاضِي الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إذَا حَكَمَ لِلْإِنْسَانِ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُهُ ؛ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ إذَا حَكَمَ فِي الدِّينِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ ؛ بَلْ هُوَ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ تَكَلَّمَ وَإِلَّا سَكَتَ . مِثْلُ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مَشْرُوعٌ مُسْتَحَبٌّ يُثَابُ فَاعِلُهُ وَأَنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ يُؤْذَى وَيُعَاقَبُ أَوْ يُحْبَسُ : فَهَذَا الْحُكْمُ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَا يَحِلُّ لِمَنْ عَرَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَّبِعَهُ وَلَا لِوَلِيِّ أَمْرٍ أَنْ يُنَفِّذَهُ وَمَنْ نَفَّذَ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمِ وَنَصَرَهُ كَانَ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ إنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ وَخَالَفَهَا اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ وَكَذَلِكَ إنْ أَلْزَمَ بِمِثْلِ هَذَا جَهْلًا وَأَلْزَمَ النَّاسَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا عُفِيَ عَنْهُ . وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى وُلَاةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِذَا تَنَازَعَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ وَلَوْ كَانَ الْمُنَازِعُ مِنْ آحَادِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يُلْزِمُوهُ بِاتِّبَاعِ حُكْمِ حَاكِمٍ ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَيِّنُوا لَهُ الْحَقَّ كَمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ لِلْجَاهِلِ الْمُتَعَلِّمُ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَظَهَرَ وَعَانَدَهُ بَعْدَ هَذَا اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ : إنَّ الَّذِي قُلْته هُوَ قَوْلِي أَوْ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَقَدْ قُلْته اجْتِهَادًا أَوْ تَقْلِيدًا : فَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ خَطَأً مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ عُوقِبَ هَذَا لَعُوقِبَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ أَقْوَالٌ اجْتَهَدَ فِيهَا أَوْ قَلَّدَ فِيهَا وَهُوَ مُخْطِئٌ فِيهَا ؛ فَلَوْ عَاقَبَ اللَّهُ الْمُخْطِئَ لَعَاقَبَ جَمِيعَ الْخَلْقِ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَلَمَّا قَالَ الْمُؤْمِنُونَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ اللَّهُ : قَدْ فَعَلْت } وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الدُّعَاءِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } فَالْمُفْتِي وَالْجُنْدِيُّ وَالْعَامِّيُّ إذَا تَكَلَّمُوا بِالشَّيْءِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ اجْتِهَادًا أَوْ تَقْلِيدًا قَاصِدِينَ لِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَخْطَئُوا خَطَأً مُجْمَعًا عَلَيْهِ . وَإِذَا قَالُوا إنَّا قُلْنَا الْحَقَّ وَاحْتَجُّوا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ : لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَلَا يَحْكُمَ بِأَنَّ الَّذِي قَالَهُ هُوَ الْحَقُّ دُونَ قَوْلِهِمْ بَلْ يَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لَا يُغَطَّى بَلْ يَظْهَرُ فَإِنْ ظَهَرَ رَجَعَ الْجَمِيعُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ سَكَتَ هَذَا عَنْ هَذَا وَسَكَتَ هَذَا عَنْ هَذَا ؛ كَالْمَسَائِلِ الَّتِي تَقَعُ يَتَنَازَعُ فِيهَا أَهْلُ الْمَذَاهِبِ لَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ مَذْهَبٍ أَنْ يَتَّبِعَ مَذْهَبَ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ حَاكِمًا فَإِنَّ هَذَا يَنْقَلِبُ فَقَدْ يَصِيرُ الْآخَرُ حَاكِمًا فَيَحْكُمُ بِأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ الصَّوَابُ . فَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُهُ ؛ بِخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؛ حَقٌّ وَهُدًى وَبَيَانٌ لَيْسَ فِيهِ خَطَأٌ قَطُّ وَلَا اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ قَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَعَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ مِنْ التَّظَالُمِ فَإِذَا تَعَدَّى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَنَعُوهُمْ الْعُدْوَانَ ؛ وَهُمْ قَدْ أُلْزِمُوا بِمَنْعِ ظُلْمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ وَأَنْ يَكُونَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ فِي بِلَادِهِمْ إذَا قَامَ بِالشُّرُوطِ الْمَشْرُوطَةِ عَلَيْهِمْ لَا يُلْزِمُهُ أَحَدٌ بِتَرْكِ دِينِهِ ؛ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ دِينَهُ يُوجِبُ الْعَذَابَ فَكَيْفَ يَسُوغُ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يُمَكِّنُوا طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ اعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ؛ وَحُكْمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بُقُولِهِ وَمَذْهَبِهِ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الدُّوَلِ وَانْتِقَاضِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلْعِبَادِ عَلَى مِثْلِ هَذَا . وَهَذَا إذَا كَانَ الْحُكَّامُ قَدْ حَكَمُوا فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا اجْتِهَادٌ وَنِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي قَدْ حَكَمُوا بِهِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا هُوَ مَذْهَبُ أَئِمَّتِهِمْ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ ؛ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ؛ وَلَا فِيهِ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ قَوْلُهُمْ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ فَكَيْفَ يَحِلُّ مَعَ هَذَا أَنْ يُلْزِمَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّبَاعِ هَذَا الْقَوْلِ وَيَنْفُذُ فِيهِ هَذَا الْحُكْمُ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَأَنْ يُقَالَ : الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ لَا يُقَالُ وَلَا يُفْتَى بِهِ بَلْ يُعَاقَبُ وَيُؤْذَى مَنْ أَفْتَى بِهِ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَغَيْرُهُمْ وَيُؤْذَى الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِكَوْنِهِمْ اتَّبَعُوا مَا عَلِمُوهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَهُمْ يَعْذِرُونَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يُلْزِمُونَ بِاتِّبَاعِهِمْ وَلَا يَعْتَدُونَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُعَانُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ بَلْ يُحْكَمُ بِالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَيُلْزَمُ مَنْ عَرَفَ مَا عَرَفَهُ مِنْ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ أَنْ يَتْرُكَ مَا عَلِمَهُ مِنْ شَرْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ هَذَا لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ وَاَللَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْ مِثْلِ هَذَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِي هَذَا لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ فَإِنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا عَلِمُوهُ مِنْ شَرْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَظْلِمُوا أَحَدًا فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عِرْضٍ وَلَا لِأَحَدِ عَلَيْهِمْ دَعْوَى ؛ بَلْ هُمْ قَالُوا نَحْنُ نَتَّبِعُ مَا عَرَفْنَاهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ فَلَا نَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَعْبُدُهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُهُ وَشَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ فَمَا دَعَانَا إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَنَا بِهِ أَطَعْنَاهُ وَمَا جَعَلَهُ الرَّسُولُ دِينًا وَقُرْبَةً وَطَاعَةً وَحَسَنَةً وَعَمَلًا صَالِحًا وَخَيْرًا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَاعْتَقَدْنَاهُ قُرْبَةً وَطَاعَةً وَفَعَلْنَاهُ وَأَحْبَبْنَا مَنْ يَفْعَلُ بِهِ وَدَعَوْنَا إلَيْهِ وَمَا نَهَانَا عَنْهُ الرَّسُولُ انْتَهَيْنَا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُنَا يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ فَنَحْنُ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ الرَّسُولَ لَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ مَنْ خَالَفَهُ وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَأَهْلَ الْبِدَعِ يَتَعَبَّدُونَ تَعَبُّدَاتٍ كَثِيرَةً يَرَوْنَهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً وَقَدْ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ قَالَ أَنَا أُطِيعُ الرَّسُولَ وَلَا أَتَعَبَّدُ بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ بَلْ أَنْهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُعَارَضَ بَلْ لَوْ كَانَ مُخْطِئًا مَعَ اجْتِهَادِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ حُكْمِ أَحَدٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ هَذَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ طَاعَةٌ أَوْ قُرْبَةٌ أَوْ لَيْسَ بِطَاعَةِ وَلَا قُرْبَةٍ وَلَا بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى الْمَسَاجِدِ وَالْقُبُورِ وَقَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْرَعُ أَوْ لَا يُشْرَعُ لَيْسَ لِلْحُكَّامِ فِي هَذَا مَدْخَلٌ إلَّا كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ الْكَلَامُ فِي هَذَا لِجَمِيعِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ تَكَلَّمَ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى عَالِمٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يُبَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فَإِنْ بَيَّنَ لَهُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ قَبُولُهَا أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ وَظَهَرَ خَطَؤُهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَرْجِعْ بَلْ أَصَرَّ عَلَى إظْهَارِ مَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالدُّعَاءَ إلَى ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَيُعَاقَبَ إنْ لَمْ يَمْتَنِعْ وَأَمَّا إذَا لَمْ يُبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ تَجُزْ عُقُوبَتُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَلَا الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُهُ إذَا كَانَ يَقُولُ إنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَالَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَهَذَا إذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَالْمُنَازِعُ لَهُ يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ وَالْحُكْمُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْكِبَارُ لَوْ قَالُوا بِمِثْلِ قَوْلِ الْحُكَّامِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إلْزَامُ النَّاسِ بِذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ لَا بِمُجَرَّدِ حُكْمِهِمْ .
فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ وَطَاعَتَهُ وَاتِّبَاعَ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَشَرْعِهِ وَدِينِهِ ؛ وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ؛ وَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَطَرِيقِ الْجَنَّةِ وَطَرِيقِ النَّارِ وَبِهِ هَدَى اللَّهُ الْخَلْقَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } فَالْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ تَقُومُ بِالرُّسُلِ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ الشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ قَبُولُهُ وَإِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَتَحَاكَمُ جَمِيعُ الْخَلْقِ . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَصُولُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ لَا يَجِبُ أَنْ يَنْفَرِدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعِلْمِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ ؛ بَلْ عِلْمُ الدِّينِ الَّذِي سَنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَرِكُ الْمُسْلِمُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ وَإِذَا كَانَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْ الْحَدِيثِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ بَلَّغَهُ هَؤُلَاءِ لِأُولَئِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْخُلَفَاءُ يَسْأَلُونَ الصَّحَابَةَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ : هَلْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ سُنَّةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمُوا بِهَا كَمَا سَأَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَنْ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لَمَّا أَتَتْهُ فَقَالَ : مَا لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وَمَا عَلِمْت لَك فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئًا ؛ وَلَكِنْ حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ . فَسَأَلَهُمْ ؛ فَأَخْبَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مسلمة وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا السُّدْسَ . وَكَذَلِكَ { عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا سَأَلَهُمْ عَنْ الْجَنِينِ إذَا قُتِلَ قَامَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ } أَيْ مَنْ قَتَلَ جَنِينًا ضَمِنَهُ بِمَمْلُوكِ أَوْ جَارِيَةٍ لِوَرَثَتِهِ فَقَضَى بِذَلِكَ قَالُوا : وَتَكُونُ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ عُشْرِ دِيَةِ أُمِّهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ : { إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } وَرُوِيَ { أَنَّهُ ضُرِبَ الْحَقُّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ } وَقَالَ { لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ } وَمَعَ هَذَا فَمَا كَانَ يُلْزِمُ أَحَدًا بِقَوْلِهِ وَلَا يَحْكُمُ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ ؛ بَلْ كَانَ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ وَيُرَاجِعُ فَتَارَةً يَقُولُ قَوْلًا فَتَرُدُّهُ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا كَمَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الصَّدَاقَ مَحْدُودًا لَا يُزَادُ عَلَى صَدَاقَاتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : مَنْ زَادَ جُعِلَتْ الزِّيَادَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ - وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُعَجِّلُونَ الصَّدَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لَمْ يَكُونُوا يُؤَخِّرُونَهُ إلَّا أَمْرًا نَادِرًا - فَقَالَتْ امْرَأَةٌ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَ تَحْرِمُنَا شَيْئًا أَعْطَانَا اللَّهُ إيَّاهُ فِي كِتَابِهِ ؟ فَقَالَ : وَأَيْنَ ؟ فَقَالَتْ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } فَرَجَعَ عُمَرُ إلَى قَوْلِهَا وَقَالَ : امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ . وَكَانَ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ مِثْلَ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ وَالطَّلَاقِ يَرَى رَأْيًا وَيَرَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَأْيًا وَيَرَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَأْيًا وَيَرَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَأْيًا ؛ فَلَمْ يُلْزِمْ أَحَدًا أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمْ يُفْتِي بِقَوْلِهِ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إمَامُ الْأُمَّةِ كُلُّهَا وَأَعْلَمُهُمْ وأدينهم وَأَفْضَلُهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْ الْحُكَّامِ خَيْرًا مِنْ عُمَرَ . هَذَا إذَا كَانَ قَدْ حَكَمَ فِي مَسْأَلَةِ اجْتِهَادٍ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَا قَالَهُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا الْأَرْبَعَةِ وَلَا مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ؛ وَإِنَّمَا يَقُولُهُ مِثْلُهُ وَأَمْثَالُهُ مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ؛ وَإِنَّمَا يَحْكُمُونَ بِالْعَادَاتِ الَّتِي تَرَبَّوْا عَلَيْهَا كَاَلَّذِينَ قَالُوا : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } وَكَمَا تَحْكُمُ الْأَعْرَابُ بِالسَّوَالِفِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ وَهِيَ عَادَاتٌ كَمَا يَحْكُمُ التتر " بالياسق " الَّذِي جَرَتْ بِهِ عَادَاتُهُمْ وَأَمَّا أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ فَإِنَّمَا يَحْكُمُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ وَاحِدٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إذَا خِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا الظَّالِمُ ؛ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ ؛ بَلْ أَمَرَ بِحُكْمَيْنِ ؛ وَأَنْ [ لَا ] يَكُونَا مُتَّهَمَيْنِ ؛ بَلْ حَكَمًا مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا } أَيْ الْحَكَمَيْنِ { يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } أَيْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ . فَإِنْ رَأَيَا الْمَصْلَحَةَ أَنْ يَجْمَعَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ جَمَعَا وَإِنْ رَأَيَا الْمَصْلَحَةَ أَنْ يُفَرِّقَا بَيْنَهُمَا فَرَّقَا : إمَّا بِعِوَضِ تَبْذُلُهُ الْمَرْأَةُ فَتَكُونُ الْفُرْقَةُ خُلْعًا إنْ كَانَتْ هِيَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الظَّالِمَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ حَكَمَانِ كَمَا سَمَّاهُمَا اللَّهُ حَكَمَيْنِ يَحْكُمَانِ بِغَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا وَقِيلَ هُمَا وَكِيلَانِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْمَذْهَبَيْنِ . فَهُنَا لَمَّا اشْتَبَهَ الْحَقُّ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ الْحُكْمَ لِوَاحِدِ وَهُوَ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ . وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ وَاحِدٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي أَمْرٍ ظَاهِرٍ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ بِأُمُورِ الدِّينِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ اشْتَبَهَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ . هَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحْكُمُ فِيهِ إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَهُ وَأَوْضَحَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمُونَ إذَا عَرَفُوا شَرْعَ نَبِيِّهِمْ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ قَوْمٍ يَقُولُونَ عِنْدَنَا عِلْمٌ مِنْ الرَّسُولِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ يُجْمَعُونَ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ كَانَ أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ لَهُمْ أَجْرَانِ وَالْآخَرُونَ لَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } . " وَوَلِيُّ الْأَمْرِ " إنْ عَرَفَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَعْلَمَ مَا يَقُولُ هَذَا وَمَا يَقُولُ هَذَا حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ حَكَمَ بِهِ ؛ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا تَرَكَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ كُلٌّ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ أَحَدًا بِقَبُولِ قَوْلِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا . وَإِذَا خَرَجَ وُلَاةُ الْأُمُورِ عَنْ هَذَا فَقَدْ حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَوَقَعَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَّا وَقَعَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ } وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ تَغْيِيرِ الدُّوَلِ كَمَا قَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فِي زَمَانِنَا وَغَيْرِ زَمَانِنَا وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ سَعَادَتَهُ جَعَلَهُ يَعْتَبِرُ بِمَا أَصَابَ غَيْرَهُ فَيَسْلُكُ مَسْلَكَ مَنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَنَصَرَهُ وَيَجْتَنِبُ مَسْلَكَ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَأَهَانَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } فَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ بِنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَنَصْرُهُ هُوَ نَصْرُ كِتَابِهِ وَدِينِهِ وَرَسُولِهِ ؛ لَا نَصْرُ مَنْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فَإِنَّ الْحَاكِمَ إذَا كَانَ دَيِّنًا لَكِنَّهُ حَكَمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا لَكِنَّهُ حَكَمَ بِخِلَافِ الْحَقِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِذَا حَكَمَ بِلَا عَدْلٍ وَلَا عِلْمٍ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . وَهَذَا إذَا حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِشَخْصِ . وَأَمَّا إذَا حَكَمَ حُكْمًا عَامًّا فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَ الْحَقَّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ حَقًّا وَالسُّنَّةَ بِدْعَةً وَالْبِدْعَةَ سُنَّةً وَالْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا وَنَهَى عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَمَرَ بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ : فَهَذَا لَوْنٌ آخَرُ . يَحْكُمُ فِيهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَإِلَهُ الْمُرْسَلِينَ مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ الَّذِي { لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 9 / ص 280)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ " الدَّعَاوَى " الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا وُلَاةُ الْأُمُورِ سَوَاءٌ سُمُّوا قُضَاةً أَوْ وُلَاةً أَوْ تَسَمَّى بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وُلَاةَ الْأَحْدَاثِ أَوْ وُلَاةَ الْمَظَالِمِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ ؛ فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ . وَعَلَى كُلِّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ الْأُمَّةِ أَوْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ وَأَنْ يَحْكُمَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا هُوَ الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } فَالدَّعَاوَى " قِسْمَانِ " : دَعْوَى تُهْمَةٍ وَغَيْرِ تُهْمَةٍ . فَدَعْوَى التُّهْمَةِ أَنْ يَدَّعِيَ فِعْلًا يَحْرُمُ عَلَى الْمَطْلُوبِ يُوجِبُ عُقُوبَتَهُ ؛ مِثْلَ قَتْلٍ ؛ أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ أَوْ سَرِقَةٍ ؛ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُدْوَانِ الْمُحَرَّمِ كَاَلَّذِي يَسْتَخْفِي بِهِ بِمَا يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ فِي الْعَادَةِ . وَغَيْرُ التُّهْمَةِ أَنْ يَدَّعِيَ دَعْوَى عَقْدٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ دَعْوَى لَا يَكُونُ فِيهَا سَبَبُ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ ؛ مِثْلَ دَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ صَدَاقٍ أَوْ دِيَةِ خَطَأٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَكُلٌّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ قَدْ يَكُونُ دَعْوَى حَدٍّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَحْضٌ كَالشُّرْبِ وَالزِّنَا . وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا مَحْضًا لِآدَمِيِّ : كَالْأَمْوَالِ . وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ الْأَمْرَانِ كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ فَهَذَانِ " الْقِسْمَانِ " إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِيَ فِيهِ حُجَّةً شَرْعِيَّةً وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالِهِمْ ؛ وَلَكِنْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصَّ أَنَّ أَحَدًا لَا يُعْطَى بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ . وَنَصَّ فِي أَنَّ الدَّعْوَى الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْإِعْطَاءِ تَجِبُ فِيهَا الْيَمِينُ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الدَّعَاوَى الْمُوجِبَةَ لِلْعُقُوبَاتِ لَا تُوجِبُ إلَّا الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ بَلْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِلْأَنْصَارِ لَمَّا اشْتَكَوْا إلَيْهِ لِأَجْلِ قَتِيلِهِمْ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبْنَاءُ عَمِّهِ حويصة وَمَحِيصَة وَكَانَ محيصة مَعَهُ بِخَيْبَرِ وَقَالَ : أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ قَالُوا : وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ ؟ قَالَ : فتبريكم يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا قَالُوا : وَكَيْفَ نَأْخُذُ بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ ؟ } أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ جَمِيعُهُمْ مِثْلُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي داود وَالتِّرْمِذِيِّ والنسائي وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ : { يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ ماجه مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَرَوَاهُ أَبُو داود وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ ماجه مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ . وَابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ } وَأَنَّ هَذَا قَضَى بِهِ فِي دَعَاوَى وَقَضَى بِهَذَا فِي دَعَاوَى . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فِي أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ { الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } فَهَذَا قَدْ رُوِيَ أَيْضًا ؛ لَكِنْ لَيْسَ إسْنَادُهُ فِي الصِّحَّةِ وَالشُّهْرَةِ مِثْلَ غَيْرِهِ وَلَا رَوَاهُ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ وَلَا قَالَ بِعُمُومِهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ ؛ إلَّا طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ الْيَمِينَ دَائِمًا فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ حَتَّى فِي الْقَسَامَةِ يُحَلِّفُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يَقْضُونَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَلَا يَرَوْنَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ النُّكُولِ وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ . وَأَمَّا سَائِرُ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ : مِثْلَ ابْنِ جريح وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وَغَيْرِهِمْ : فَتَارَةً يُحَلِّفُونَ الْمُدَّعِي وَتَارَةً يُحَلِّفُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ سُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْأَصْلُ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ أَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ فِي أَقْوَى الْجَانِبَيْنِ . " وَالْبَيِّنَةُ " عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ . وَبَيْنَهُمْ نِزَاعٌ فِي تَفَارِيعِ ذَلِكَ ؛ فَتَارَةً يَكُونُ لَوْثًا مَعَ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ . وَتَارَةً يَكُونُ شَاهِدًا وَيَمِينًا . وَتَارَةً يَكُونُ دَلَائِلَ غَيْرِ الشُّهُودِ كَالصِّفَةِ لِلْقِطَّةِ . وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ : تَارَةً بِالتَّضْعِيفِ . وَتَارَةً بِأَنَّهُ عَامٌّ وَأَحَادِيثُهُمْ خَاصَّةٌ . وَتَارَةً بِأَنَّ أَحَادِيثَهُمْ أَصَحُّ وَأَكْثَرُ وَأَشْهَرُ ؛ فَالْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ طَلَبَ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ مِنْ الْمُنْكِرِ فِي حُكُومَاتٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ دَعَاوَى التُّهَمِ ؛ مِثْلَ مَا خَرَّجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ حُكُومَةٌ فِي بِئْرٍ ؛ فَاخْتَصَمْنَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ فَقُلْت : إذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي فَقَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْطَعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غضبان وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ بَيِّنَتُك أَنَّهَا بِئْرُك ؛ وَإِلَّا فَيَمِينُهُ } وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حجر قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لِأَبِي . فَقَالَ الْكِنْدِيُّ : هِيَ أَرْضِي وَبِيَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ . فَقَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ : أَلَك بَيِّنَةٌ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَلَك يَمِينُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ : لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالٍ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْمَطْلُوبِ إلَّا الْيَمِينَ مَعَ ذِكْرِ الْمُدَّعِي لِفُجُورِهِ وَقَالَ " لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ " وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَانَ خَصْمُ الْأَشْعَثِ يَهُودِيًّا هَكَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَمَعَ هَذَا لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ إلَّا الْيَمِينَ وَفِي حَدِيثِ الْقَسَامَةِ أَنَّ الْأَنْصَارَ لَمَّا قَالُوا : كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ ؟ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الدَّعَاوَى مُخْتَلِفَةٌ فِي ذَلِكَ . وَهَذَا الْقِسْمُ لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا . أَعْنِي أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ الْيَمِينِ إذَا لَمْ يَأْتِ الْمُدَّعِي بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ ؛ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ .
[ وَالْبَيِّنَةُ ] الَّتِي هِيَ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ : تَارَةً تَكُونُ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ رَجُلَيْنِ . وَتَارَةً رَجُلٍ وامرأتين . وَتَارَةً أَرْبَعِ شُهَدَاءَ وَتَارَةً ثَلَاثَةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ دَعْوَى الْإِفْلَاسِ فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ مَالًا فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مخارق الْهِلَالِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ لِأَحَدِ إلَّا لِثَلَاثَةِ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ ؛ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ؛ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الحجى مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُونَ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ؛ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا } وَلِأَنَّ الْغِنَى مِنْ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي تَقْوَى بِهَا التُّهْمَةُ بِإِخْفَاءِ الْمَالِ . وَتَارَةً تَكُونُ الْحُجَّةُ شَاهِدًا وَيَمِينُ الطَّالِبِ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْل الْحِجَازِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . وَتَارَةً تَكُونُ الْحُجَّةُ نِسَاءً : إمَّا امْرَأَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَإِمَّا امْرَأَتَيْنِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ وَإِمَّا أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ . وَتَارَةً تَكُونُ الْحُجَّةُ غَيْرَ ذَلِكَ . وَتَارَةً تَكُونُ الْحُجَّةُ اللَّوْثُ وَاللَّطْخُ وَالشُّبْهَةُ مَعَ أَيْمَانِ الْمُدَّعِي خَمْسِينَ يَمِينًا وَهِيَ الْقَسَامَةُ الَّتِي يُبْدَأُ فِيهَا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعِي عِنْدَ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ . وَتَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهَا بِأَنَّ الْيَمِينَ فِيهَا خَمْسُونَ يَمِينًا كَمَا امْتَازَتْ أَيْمَانُ اللِّعَانِ بِأَنْ كَانَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ لِأَنَّ كُلَّ يَمِينٍ أُقِيمَتْ مَقَامَ شَاهِدٍ . وَالْقَسَامَةُ تُوجِبُ الْقَوَدَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَتُوجِبُ الدِّيَةَ فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ . وَأَهْلُ الرَّأْيِ لَا يُحَلِّفُونَ فِيهَا إلَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّهُمْ مَعَ تَحْلِيفِهِ يُوجِبُونَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ . عَلَى تَفْصِيلٍ مَعْرُوفٍ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرَهُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَجَامِعِ الْأَحْكَامِ فِي الدَّعَاوَى فَإِنَّهُ بَابٌ عَظِيمٌ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ شَدِيدَةٌ عَامَّةٌ . وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ التَّفْرِيطُ مِنْ بَعْضِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْعُدْوَانُ مِنْ بَعْضِهِمْ مَا أَوْجَبَ الْجَهْلَ بِالْحَقِّ وَالظُّلْمَ لِلْخَلْقِ وَصَارَ لَفْظُ " الشَّرْعِ " غَيْرَ مُطَابِقٍ لِمُسَمَّاهُ الْأَصْلِيِّ ؛ بَلْ لَفْظُ الشَّرْعِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " . " أَحَدُهَا " الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتِّبَاعُهُ وَاجِبٌ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ وَجَبَ قَتْلُهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ أُصُولُ الدِّينِ وَفُرُوعُهُ ؛ وَسِيَاسَةُ الْأُمَرَاءِ وَوُلَاةِ الْمَالِ وَحُكْمُ الْحُكَّامِ وَمَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين خُرُوجٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . و " الثَّانِي " الشَّرْعُ الْمُؤَوَّلُ وَهُوَ مَوَارِدُ النِّزَاعِ وَالِاجْتِهَادِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَمَنْ أَخَذَ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ أُقِرَّ عَلَيْهِ وَلَمْ تَجِبْ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ مُوَافَقَتُهُ إلَّا بِحُجَّةِ لَا مَرَدَّ لَهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . و " الثَّالِثُ " الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ مِثْلَ مَا يَثْبُتُ مِنْ شَهَادَاتِ الزُّورِ أَوْ يُحْكَمُ فِيهِ بِالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ بِغَيْرِ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ حُكْمًا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَوْ يُؤْمَرُ فِيهِ بِإِقْرَارِ بَاطِلٍ لِإِضَاعَةِ حَقٍّ : مِثْلَ أَمْرِ الْمَرِيضِ أَنْ يُقِرَّ لِوَارِثِ بِمَا لَيْسَ بِحَقِّ لِيُبْطِلَ بِهِ حَقَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ وَالشَّهَادَةَ عَلَيْهِ مُحَرَّمَةٌ وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ بَاطِنَ الْأَمْرِ إذَا حَكَمَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ لَمْ يَأْثَمْ فَقَدْ قَالَ سَيِّدُ الْحُكَّامِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ؛ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءِ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ }