كتاب : الفرقانُ بينَ أولياءِ الرَّحمَنِ وأولياءِ الشَّيْطانِ
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله


الباب الأول
مقدمات حول الموضوع ، والباب الثاني نص رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) [يوسف/108]}
هذا وأسأل الله تعالى رب العرش العظيم أن يزيح بهذا الكتاب كثيرا من الأخطاء الواقعة حول مفهول الولاية والكرامة في عصرنا هذا ، وأن ينفع به محققه وناشره والدال عليه في الدارين .
وكتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
8 محرم لعام 1429 هـ الموافق 16/1م2008 م
- - - - - - - - - - - - - -
البابُ الأولُ
وِلاَيَةُ اللَّهِ تَعَالَى(1)
مَفْهُومُ وِلاَيَةِ اللَّهِ تَعَالَى
ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ وِلاَيَةَ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَانِ : عَامَّةٌ ، وَخَاصَّةٌ :
فَأَمَّا الْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ فَهِيَ وِلاَيَةُ كُل مُؤْمِنٍ ، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ، لِلَّهِ تَقِيًّا ، كَانَ اللَّهُ لَهُ وَلِيًّا . وَفِيهِ مِنَ الْوِلاَيَةِ بِقَدْرِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ . (2)
يَدُل عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى :{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (68) سورة آل عمران،وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (257) سورة البقرة .
وَفِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوِلاَيَةِ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَهْل الإِْيمَانِ مَعَهُ مِنْ وِلاَيَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ ، كَمَا مَعَهُ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ بِقَدْرِ فُجُورِهِ ، إِذِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ تَجْتَمِعُ فِيهِ الْحَسَنَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلثَّوَابِ وَالسَّيِّئَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِقَابِ ، حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يُثَابَ وَيُعَاقَبَ ، وَهَذَا قَوْل جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةِ الإِْسْلاَمِ وَأَهْل السُّنَّةِ . (3)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 45 / ص 175)
(2) - بدائع الفوائد 3 106 ، وانظر حاشية المدابغي على فتح المعين لابن حجر المكي ص 269، وشرح العقيدة الطحاوية للغنيمي ص 103 .
(3) - مختصر الفتاوى المصرية ص 588، والتحفة العراقية في أعمال القلوب ص 15 وما بعدها و مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 345)

وَأَمَّا الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ فَهِيَ الْقِيَامُ لِلَّهِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ ، وَإِيثَارُهُ عَلَى كُل مَا سِوَاهُ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال ، حَتَّى تَصِيرَ مَرَاضِي اللَّهِ وَمَحَابُّهُ هِيَ هَمَّهُ وَمُتَعَلِّقَ خَوَاطِرِهِ ، يُصْبِحُ وَيُمْسِي وَهَمُّهُ مَرْضَاةُ رَبِّهِ وَإِنْ سَخِطَ الْخَلْقُ .(1)
وَفِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوِلاَيَةِ يَقُول الشَّوْكَانِيُّ : الْوَلِيُّ فِي اللُّغَةِ : الْقَرِيبُ . وَالْمُرَادُ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ : خُلَّصُ الْمُؤْمِنِينَ ، لأَِنَّهُمْ قَرُبُوا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ . (2)
وَقَدْ تَنَوَّعَتْ تَعْرِيفَاتُ الْعُلَمَاءِ لِهَذِهِ الْوِلاَيَةِ ، فَقَال الْغُنَيْمِيُّ الْمَيْدَانِيُّ : الأَْوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ ، بِوَزْنِ فَعِيلٍ ( بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَتِيلٍ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ ، أَوْ ( بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَعَلِيمٍ بِمَعْنَى عَالَمٍ . قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ : وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَرْجَحَ ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يُمْدَحُ إِلاَّ عَلَى فِعْل نَفْسِهِ ، وَقَدْ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى .
- فَعَلَى الأَْوَّل يَكُونُ الْوَلِيُّ مَنْ تَوَلَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَل رِعَايَتَهُ وَحِفْظَهُ ، فَلاَ يَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ ، كَمَا قَال سُبْحَانَهُ : {إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (196) سورة الأعراف .
- وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْوَلِيُّ مَنْ تَوَلَّى عِبَادَةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهِ ، فَهُوَ يَأْتِي بِهَا عَلَى التَّوَالِي ، آنَاءَ اللَّيْل وَأَطْرَافَ النَّهَارِ . وَيَجْنَحُ إِلَى هَذَا مَا عَرَّفَهُ بِهِ السَّعْدُ فِي " شَرْحِ الْعَقَائِدِ " حَيْثُ قَال : هُوَ الْعَارِفُ بِاللَّهِ حَسَبَ مَا يُمْكِنُ ، الْمُوَاظِبُ عَلَى الطَّاعَاتِ ، الْمُجْتَنِبُ لِلْمَعَاصِي ، الْمُعْرِضُ عَنِ الاِنْهِمَاكِ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ .(3)
وَكَذَا تَعْرِيفُ الْهَيْتَمِيِّ لِلأَْوْلِيَاءِ بِأَنَّهُمُ : الْقَائِمُونَ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ ، بِجَمْعِهِمْ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَل ، وَسَلاَمَتِهِمْ مِنَ الْهَفَوَاتِ وَالزَّلَل .(4)
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ سَلاَمَتَهُمْ مِنَ الْهَفَوَاتِ وَالزَّلَل لاَ تَعْنِي الْعِصْمَةَ ، إِذْ لاَ عِصْمَةَ إِلاَّ لِنَبِيٍّ ، وَلَكِنْ كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ الْوَلِيَّ مِنْ تَمَادِيهِ فِي الزَّلَل وَالْخَطَأِ إِنْ وَقَعَ فِيهِمَا ، بِأَنْ يُلْهِمَهُ التَّوْبَةَ فَيَتُوبَ مِنْهُمَا ، وَإِلاَّ فَهُمَا لاَ يَقْدَحَانِ فِي وِلاَيَتِهِ . (5)
الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالنَّبِيِّ :
ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مِمَّا يَفْتَرِقُ الْوَلِيُّ عَنِ النَّبِيِّ فِيهِ : (6)
أ - الْعِصْمَةُ :
- فَالأَْنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ وُجُوبًا ، وَلَيْسَ الأَْوْلِيَاءُ كَذَلِكَ ، فَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا يَجُوزُ عَلَى سَائِرِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ . قَال الشَّوْكَانِيُّ : لَكِنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى رُتْبَةٍ رَفِيعَةٍ وَمَنْزِلَةٍ عَلِيَّةٍ ، فَقَل أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ مَا يُخَالِفُ الصَّوَابَ وَيُنَافِي الْحَقَّ ، وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فَلاَ يُخْرِجُهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ .(7)
وَقَال النَّوَوِيُّ : وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مَحْفُوظًا ، فَلاَ يُصِرُّ عَلَى الذُّنُوبِ ، وَإِنْ حَصَلَتْ مِنْهُ هَفَوَاتٌ فِي أَوْقَاتٍ أَوْ زَلاَّتٌ ، فَلاَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ . (8)
ب - الإِْيمَانُ بِهِ وَوُجُوبُ الاِتِّبَاعِ :
__________
(1) - بدائع الفوائد 3 107 .
(2) - فتح القدير 2 436 .
(3) - شرح العقيدة الطحاوية للميداني ص 103، وانظر لوامع الأنوار ار البهية للسفاريني 2 392 ، والمحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار عليه 2 481 ، وتعريفات الجرجاني ص 132، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 1528 ، وفتح الباري 11 342 ، وبستان العارفين للنووي ص 171، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 277 ، وحاشية المدابغي على فتح المعين ص 269 .
(4) - الفتاوى الحديثة لابن حجر الهيثمي ص 301 .
(5) - مجموعة رسائل ابن عابدين 2 277 .
(6) - مجموع فتاوى ابن تيمية 11 208 ،221، 223، ولوامع الأنوار البهية 2 301 ، وقطر الولي للشوكاني ص 248، وشرح العقيدة الطحاوية للغنيمي الميداني ص 139، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 /1529 .
(7) - قطر الولي ص 248 .
(8) - بستان العارفين ص 173 .

- الأَْنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَجِبُ لَهُمُ الإِْيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَتَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ ، بِخِلاَفِ الأَْوْلِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لاَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِي كُل مَا يَأْمُرُونَ وَلاَ الإِْيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ . قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : بَل يُعْرَضُ أَمْرُهُمْ وَخَبَرُهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَجَبَ قَبُولُهُ ، وَمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مَرْدُودًا . ثُمَّ قَال : ذَلِكَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الاِعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنُّةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ يُسَوَّغُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ اتِّبَاعُ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنُّةِ . (1)
ج - الْوَحْيُ :
- الأَْنْبِيَاءُ مُكَرَّمُونَ بِتَلَقِّي الْوَحْيِ وَمُشَاهَدَةِ الْمَلَكِ ، وَلَيْسَ الأَْوْلِيَاءُ كَذَلِكَ . فَالْوَلِيُّ لاَ يَسَعُهُ إِلاَّ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ ، حَتَّى إِنَّ الْوَلِيَّ لَوِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ صَارَ عَدُوًّا لِلَّهِ ، لاَ وَلِيًّا لَهُ .
د ) وُجُوبُ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ :
- الأَْنْبِيَاءُ مَأْمُورُونَ بِتَبْلِيغِ الأَْحْكَامِ وَسَائِرِ مَا يُوحَى إِلَيْهِمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَإِرْشَادِ الأَْنَامِ لِدِينِهِ ، وَلَيْسَ الأَْوْلِيَاءُ كَذَلِكَ ، لأَِنَّهُمْ لاَ يَتَلَقَّوْنَ ذَلِكَ مُبَاشَرَةً بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الأَْنْبِيَاءَ .
هـ - الأَْمْنُ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ :
- فَالأَْنْبِيَاءَ مَأْمُونُونَ عَنْ خَوْفِ سُوءِ الْخَاتِمَةِ ، أَمَّا الْوَلِيُّ فَلاَ يَعْلَمُ هُوَ وَلاَ غَيْرُهُ مَا دَامَ حَيًّا هَل سَيُخْتَمُ لَهُ بِالْمُوَافَاةِ عَلَى الإِْيمَانِ ، أَمْ أَنَّهُ سَيَلْقَى اللَّهَ غَيْرَ ذَلِكَ .
و ) خَتْمُ النُّبُوَّةِ :
- فَالنُّبُوَّةَ مَخْتُومَةٌ مِنْ حَيْثُ الإِْنْبَاءُ وَالإِْخْبَارُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ ، أَمَّا الْوِلاَيَةُ فَدَائِمَةٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ .
ز ) حُكْمُ السَّبِّ :
- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنَ الأَْوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ فَإِنَّهُ لاَ يَكْفُرُ ، إِلاَّ إِذَا كَانَ سَبُّهُ مُخَالِفًا لأَِصْلٍ مِنْ أَصُول الإِْيمَانِ ، مِثْل أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ السَّبَّ دِينًا ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِدِينٍ .(2)
فَضْل النَّبِيِّ عَلَى الْوَلِيِّ :
- اتَّفَقَ سَلَفُ الأُْمَّةِ وَخَلَفُهَا مِنْ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الأَْنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَفْضِيل أَحَدٍ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ . قَال الْقُشَيْرِيُّ : رُتْبَةُ الأَْوْلِيَاءِ لاَ تَبْلُغُ رُتْبَةَ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لِلإِْجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى ذَلِكَ . (3)
أَمَّا مَا نُقِل عَنْ بَعْضِ الْكَرَّامِيَّةِ وَغُلاَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ جَوَازِ كَوْنِ الْوَلِيِّ أَفْضَل مِنَ النَّبِيِّ فَهُوَ بَاطِلٌ .
قَال الْغُنَيْمِيُّ الْمَيْدَانِيُّ : هُوَ كُفْرٌ وَضَلاَلٌ .(4)
- أَمَا أَفْضَل الأَْوْلِيَاءِ وَالأَْنْبِيَاءِ ، فَقَدْ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : أَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى هُمْ أَنْبِيَاؤُهُ ، وَأَفْضَلُ أَنْبِيَائِهِ هُمُ الْمُرْسَلُونَ ، وَأَفْضَلُ الرُّسُل هُمْ أُولُو الْعَزْمِ : نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَفْضَلُ الرُّسُل : نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ .(5)
ثُمَّ قَال : وَإِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل هُمُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ ، فَبِحَسَبِ إِيمَانِ الْعَبْدِ وَتَقْوَاهُ تَكُونُ وِلاَيَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَمَنْ كَانَ أَكْمَل إِيمَانًا وَتَقْوَى ، كَانَ أَكْمَل وِلاَيَةً لِلَّهِ ، فَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي وِلاَيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الإِْيمَانِ وَالتَّقْوَى . (6)
مِعْيَارُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءَ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ
- نَبَّهَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يُمَيَّزُونَ عَمَّنْ سِوَاهُمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ ، لأَِنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ كَمَا تَقَعُ لأَِوْلِيَاءِ اللَّهِ ، فَقَدْ تَظْهَرُ عَلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُونَ وَيُمَيَّزُونَ بِصِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمُ الَّتِي دَل عَلَى خَبَرِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . (7)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية11 / 208 ـ209 .
(2) - مختصر الفتاوى المصرية ص 560، ومغني المحتاج 4 135 .
(3) - بستان العارفين ص 169 .
(4) - شرح العقيدة الطحاوية للميداني الحنفي ص 139 .
(5) - مجموع فتاوى ابن تيمية 11 /161 ، وانظر قطر الولي ص 238 .
(6) - مجموع فتاوى ابن تيمية 11 /175 .
(7) - مجموع فتاوى ابن تيمية 10 /431 ، 11 /214 ،271،274 .

وَفِي ذَلِكَ يَقُول الشَّوْكَانِيُّ : وَالْحَاصِل أَنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمَعْدُودِينَ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ ، إِنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنَ اللَّهِ ، مُقِيمًا لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، تَارِكًا لِمَا نَهَاهُ عَنْهُ ، مُسْتَكْثِرًا مِنْ طَاعَاتِهِ ، فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ الَّتِي لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ ، فَهِيَ مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل لاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يُنْكِرَهَا .
وَمَنْ كَانَ بِعَكْسِ هَذِهِ الصِّفَاتِ ، فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَيْسَتْ وِلاَيَتُهُ رَحْمَانِيَّةً ، بَل شَيْطَانِيَّةً ، وَخَوَارِقُهُ مِنْ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاسِ . وَلَيْسَ هَذَا بِغَرِيبٍ وَلاَ مُسْتَنْكَرٍ ، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ مَخْدُومًا بِخَادِمٍ مِنَ الْجِنِّ أَوْ بِأَكْثَرَ ، فَيَخْدِمُونَهُ فِي تَحْصِيلٍ مَا يَشْتَهِيهِ وَرُبَّمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ . وَالْمِعْيَارُ الَّذِي لاَ يَزِيغُ ، وَالْمِيزَانُ الَّذِي لاَ يَجُورُ هُوَ مِيزَانُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُمَا مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا ، فَكَرَامَاتُهُ وَجَمِيعُ أَحْوَالِهِ رَحْمَانِيَّةٌ ، وَمَنْ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِهِمَا وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حُدُودِهِمَا فَأَحْوَالُهُ شَيْطَانِيَّةٌ . (1)
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ ضَابِطَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ مَا يَتَلَبَّسُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَحَالٍ ، فَإِنْ كَانَ وَفْقَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ فِي الأُْمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ وَفِي الأَْعْمَال الظَّاهِرَةِ الَّتِي عَلَى الْجَوَارِحِ ، كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْرِضًا فِي ذَلِكَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَهَدْيِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مُخَالِفًا لَهُمَا إِلَى غَيْرِهِ ، فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ .
ثُمَّ قَال : فَإِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْكَ ، فَاكْشِفْهُ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ : فِي صَلاَتِهِ ، وَمَحَبَّتِهِ لِلسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا أَوْ نَفْرَتِهُ عَنْهُمْ ، وَدَعْوَتِهِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَالْمُتَابَعَةِ وَتَحْكِيمِ السُّنَّةِ ، فَزِنْهُ بِذَلِكَ ، وَلاَ تَزِنْهُ بِحَالٍ وَلاَ كَشْفٍ وَلاَ خَارِقٍ ، وَلَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ وَطَارَ فِي الْهَوَاءِ .(2)
كَرَامَاتُ الأَْوْلِيَاءِ
- الْكَرَامَاتُ جَمْعُ كَرَامَةٍ ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ : الشَّرَفُ . مِنَ الْكَرَمِ : الَّذِي يَعْنِي شَرَفَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي خُلُقٍ مِنَ الأَْخْلاَقِ . أَوِ الإِْكْرَامُ : الَّذِي هُوَ إِيصَال نَفْعٍ إِلَى الإِْنْسَانِ ، لاَ يَلْحَقُهُ فِيهِ غَضَاضَةٌ ، أَوْ أَنْ يَجْعَل مَا يُوَصَل إِلَيْهِ شَيْئًا كَرِيمًا ، أَيْ شَرِيفًا .(3)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ ، فَقَدْ عَرَّفَ ابْنُ عَابِدِينَ الْكَرَامَةَ بِأَنَّهَا : ظُهُورُ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ ، عَلَى يَدِ عَبْدٍ ظَاهِرِ الصَّلاَحِ ، مُلْتَزِمٍ لِمُتَابَعَةِ نَبِيٍّ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ ، مُقْتَرِنًا بِصَحِيحِ الاِعْتِقَادِ وَالْعَمَل الصَّالِحِ غَيْرِ مُقَارِنٍ لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ . (4)
فَامْتَازَتِ الْكَرَامَةُ بِعَدَمِ الاِقْتِرَانِ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ عَنِ الْمُعْجِزَةِ ، وَبِكَوْنِهَا عَلَى يَدِ ظَاهِرِ الصَّلاَحِ وَهُوَ الْوَلِيُّ عَمَّا يُسَمُّونَهُ مَعُونَةً وَهِيَ الْخَارِقُ الظَّاهِرُ عَلَى أَيْدِي عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ ، تَخَلُّصًا لَهُمْ مِنَ الْمِحَنِ وَالْمَكَارِهِ ، وَبِمُقَارَنَةِ صَحِيحِ الاِعْتِقَادِ وَالْعَمَل الصَّالِحِ عَنِ الاِسْتِدْرَاجِ ، وَبِمُتَابَعَةِ نَبِيٍّ قَبْلَهُ عَنْ خَوَارِقِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِكَذِبِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالإِْهَانَةِ كَبَصْقِ مُسَيْلِمَةَ فِي بِئْرٍ عَذْبَةِ الْمَاءِ لِيَزْدَادَ مَاؤُهَا حَلاَوَةً ، فَصَارَ مِلْحًا أُجَاجًا .(5)
__________
(1) - قطر الولي للشوكاني ص 272 .
(2) - الروح لابن القيم ص 359 .
(3) - معجم مقاييس اللغة 5 /172 ، ومفردات الراغب ص 707 .
(4) - مجموعة رسائل ابن عابدين 2 /278 .
(5) - المحلي على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2 481/ ، وشرح العقيدة الطحاوية للغنيمي الميداني ص 139، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 /975 ، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 2 392/ ، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 /278 ، وتعريفات الجرجاني ص 115 .

- وَقَدْ ذَهَبَ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ - خِلاَفًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ - إِلَى أَنَّ ظُهُورَ الْكَرَامَةِ عَلَى الأَْوْلِيَاءِ جَائِزٌ عَقْلاً ، لأَِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُمْكِنَاتِ ، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ نَقْلاً مُفِيدًا لِلْيَقِينِ مِنْ جِهَةٍ مَجِيءِ الْقُرْآنِ بِهَا ، وَوُقُوعِ التَّوَاتُرِ عَلَيْهَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلاً بَعْدَ جِيلٍ . وَبَعْدَ ثُبُوتِ الْوُقُوعِ لاَ حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ الْجَوَازِ . (1)
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَكَرَامَاتُ الأَْوْلِيَاءِ حَقٌّ بِاتِّفَاقِ أَهْل الإِْسْلاَمِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَقَدْ دَل عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَالأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالآْثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَهَا أَهْل الْبِدَعِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعِيهَا أَوْ تُدَّعَى لَهُ يَكُونُ كَذَّابًا أَوْ مَلْبُوسًا عَلَيْهِ . (2)
الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُعْجِزَةِ :
- الْمُعْجِزَةُ اسْمُ فَاعِلٍ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَجْزِ الْمُقَابِل لِلْمَقْدِرَةِ ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِعْجَازِ الْخَصْمِ عِنْدَ التَّحَدِّي ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ .
وَهِيَ فِي الشَّرْعِ : مَا خَرَقَ الْعَادَةَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ، إِذَا وَافَقَ دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَقَارَنَهَا وَطَابَقَهَا ، عَلَى جِهَةِ التَّحَدِّي ابْتِدَاءً ، بِحَيْثُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَيْهَا وَلاَ عَلَى مِثْلِهَا وَلاَ عَلَى مَا يُقَارِبُهَا .(3)
وَتَسْمِيَةُ دَلاَئِل النُّبُوَّةِ وَأَعْلاَمِهَا " مُعْجِزَاتٍ " إِنَّمَا هُوَ اصْطِلاَحُ النُّظَّارِ ، إِذْ لَمْ يَرِدْ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْكِتَابِ وَلاَ فِي السُّنَّةِ ، وَالَّذِي فِيهِ لَفْظُ الآْيَةِ وَالْبَيِّنَةِ وَالْبُرْهَانِ .(4)
- أَمَّا وُجُوهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُعْجِزَةِ فَهِيَ :
أَوَّلاً : أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَقْتَرِنُ بِالتَّحَدِّي ، وَهُوَ طَلَبُ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُقَابَلَةِ يُقَال تَحَدَّيْتُ فُلاَنًا : إِذَا بَارَيْتَهُ فِي فِعْلٍ وَنَازَعْتَهُ لِلْغَلَبَةِ أَمَّا الْكَرَامَةُ فَلاَ تَقْتَرِنُ بِذَلِكَ .
وَلاَ شَكَّ أَنَّ كُل مَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِنْ مُعْجِزَاتٍ كَنُطْقِ الْحَصَى وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْرُونٌ بِالتَّحَدِّي ، لأَِنَّ قَرَائِنَ أَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ نَاطِقَةٌ بِدَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ وَتَحَدِّيهِ لِلْمُخَالِفِينَ وَإِظْهَارِهِ مَا يَقْمَعُهُمْ وَيَقْطَعُهُمْ ، فَكَانَ كُل مَا ظَهَرَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمَّى آيَاتٍ وَمُعْجِزَاتٍ ، وَلأَِنَّ الْمُرَادَ مِنَ اقْتِرَانِهَا بِالتَّحَدِّي الاِقْتِرَانُ بِالْقُوَّةِ أَوِ الْفِعْل .(5)
ثَانِيًا : أَنَّ الأَْنْبِيَاءَ مَأْمُورُونَ بِإِظْهَارِ مُعْجِزَاتِهِمْ ، لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ ، وَلاَ يُعْرَفُ النَّبِيُّ إِلاَّ بِمُعْجِزٍ . أَمَّا الْكَرَامَةُ فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ إِظْهَارُهَا ، بَل يَسْتُرُ كَرَامَتَهُ وَيُسِرُّهَا وَيَجْتَهِدُ عَلَى إِخْفَاءِ أَمْرِهِ .(6)
ثَالِثًا : أَنَّ دَلاَلَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ قَطْعِيَّةٌ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، بَيْنَمَا دَلاَلَةُ الْكَرَامَةِ عَلَى الْوِلاَيَةِ ظَنِّيَّةٌ ، وَلاَ يَعْلَمُ مُظْهِرُهَا أَوْ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ أَنَّهُ وَلِيٌّ ، وَلاَ غَيْرُهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ مَمْكُورًا بِهِ .(7)
قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : وَالدَّلاَلَةُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا وَلِيٌّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْقَطْعِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَمُوتُ إِلاَّ مُؤْمِنًا ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نَقْطَعَ عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ ، لأَِنَّ الْوَلِيَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ يُوَافِي إِلاَّ بِالإِْيمَانِ ، وَلَمَّا اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقْطَعَ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يُوَافِي إِلاَّ بِالإِْيمَانِ ، عُلِمَ أَنَّ الْفِعْل الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ لاَ يَدُل عَلَى وِلاَيَتِهِ .(8)
__________
(1) - قطر الولي للشوكاني ص 257 وما بعدها، وبستان العارفين للنووي ص 141 ـ 155، والمعتمد لأبي يعلى ص 161، والفتاوى الحديثية لابن حجر المكي ص 301، وشرح الطحاوية للغنيمي ص 139، ولوامع الأنوار البهية 239/4 ، والمحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار عليه 2 /481 .
(2) - مختصر الفتاوى المصرية ص 600 .
(3) - التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص 665، ، والتعريفات للجرجاني ص 115، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 /975 ، ولوامع الأنور البهية للسفاريني 2/290 .
(4) - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 4 /67 .
(5) - الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ص 308 .
(6) - لوامع الأنوار البهية 2 /396 ، وبستان العارفين للنووي ص 161، 165 .
(7) - الفتاوى الحديثية ص 305، وبستان العارفين ص 161 .
(8) - المعتمد لأبي يعلي ص 165 .

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُل عَلَى عِصْمَةِ صَاحِبِهَا وَعَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ ، أَمَّا الْكَرَامَةُ فَلاَ تَدُل عَلَى عِصْمَةِ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ ، وَلاَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي كُل مَا يَقُول ، وَلاَ عَلَى وِلاَيَتِهِ ، لِجَوَازِ سَلْبِهَا أَوْ أَنْ تَكُونَ اسْتِدْرَاجًا لَهُ .(1)
رابِعًا : أَنَّ الْكَرَامَةَ لاَ يَجُوزُ بُلُوغُهَا مَبْلَغَ الْمُعْجِزَةِ فِي جِنْسِهَا وَعِظَمِهَا ، كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَانْفِلاَقِ الْبَحْرِ وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً وَخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الأَْصَابِعِ ، وَبِذَلِكَ قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ .
وَقَال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءَ الْمَذْهَبَيْنِ وَغَيْرِهِمْ : كُل مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَقْتَرِنُ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ ، وَالْكَرَامَةُ لاَ تَقْتَرِنُ بِذَلِكَ ، بَل إِنَّ الْوَلِيَّ لَوِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ صَارَ عَدُوًّا لِلَّهِ ، لاَ يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ بَل اللَّعْنَةَ وَالإِْهَانَةَ . (2)
خَوَارِقُ الأَْنْبِيَاءِ قَبْل الْبَعْثَةِ :
- مِنْ جُمْلَةِ الْكَرَامَاتِ الْخَوَارِقُ الَّتِي وَقَعَتْ لِلأَْنْبِيَاءِ قَبْل النُّبُوَّةِ ، كَإِظْلاَل الْغَمَامِ وَشَقِّ الصَّدْرِ الْوَاقِعَيْنِ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل الْبَعْثَةِ ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِمُعْجِزَاتٍ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى التَّحَدِّي وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ ، بَل كَرَامَاتٍ ، وَتُسَمَّى " إِرْهَاصًا " أَيْ تَأْسِيسًا لِلنُّبُوَّةِ ، ذَكَرَ ذَلِكَ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الأُْصُول وَغَيْرُهُمْ .(3)
كَرَامَةُ الْوَلِيِّ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
- قَال ابْنُ عَابِدِينَ : اعْلَمْ أَنَّ كُل خَارِقٍ ظَهَرَ عَلَى يَدِ أَحَدٍ مِنَ الْعَارِفِينَ فَهُوَ ذُو جِهَتَيْنِ : جِهَةُ كَرَامَةٍ ، مِنْ حَيْثُ ظُهُورِهِ عَلَى يَدِ ذَلِكَ الْعَارِفِ . وَجِهَةُ مُعْجِزَةٍ لِلرَّسُول مِنْ حَيْثُ أَنَّ الَّذِي ظَهَرَتْ هَذِهِ الْكَرَامَةُ عَلَى يَدِهِ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ أُمَّتِهِ ، لأَِنَّهُ لاَ يَظْهَرُ بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ الآْتِي بِهَا وَلِيٌّ إِلاَّ وَهُوَ مُحِقٌّ فِي دِيَانَتِهِ ، وَدِيَانَتُهُ هِيَ التَّصْدِيقُ وَالإِْقْرَارُ بِرِسَالَةِ ذَلِكَ الرَّسُول مَعَ الإِْطَاعَةِ لأَِوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ، حَتَّى لَوِ ادَّعَى هَذَا الْوَلِيُّ الاِسْتِقْلاَل بِنَفْسِهِ وَعَدَمَ الْمُتَابَعَةِ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا . (4)
الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ
- ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْخَارِقَ غَيْرَ الْمُقْتَرِنِ بِتَحَدِّي النُّبُوَّةِ إِذَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ عَبْدٍ صَالِحٍ ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ خَلْقِهِ فَهُوَ الْكَرَامَةُ . أَمَّا إِذَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ مُطَابِقًا لِدَعْوَاهُ فَهُوَ " الاِسْتِدْرَاجُ " وَقَدْ يُسَمَّى " سِحْرًا وَشَعْوَذَةً " .
وَإِنْ ظَهَرَ عَلَى يَدِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ مِنْ أَهْل الضَّلاَل فَهُوَ " الإِْهَانَةُ " ، كَنُطْقِ الْجَمَادِ بِأَنَّهُ مُفْتَرٍ كَذَّابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، لأَِنَّ خَارِقَ الْعَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلدَّعْوَى ، بَل مُثْبِتًا لِكَذِبِهَا . (5)
وَأَسَاسُ ذَلِكَ أَنَّ كَرَامَاتِ الأَْوْلِيَاءِ لاَ يَكُونُ سَبَبُهَا إِلاَّ الإِْيمَانَ وَالتَّقْوَى ، أَمَّا خَوَارِقُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَسَبَبُهَا الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ . (6)
وَفِي ذَلِكَ يَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ : إِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ لاَ تَدُل عَلَى عِصْمَةِ صَاحِبِهَا ، وَلاَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي كُل مَا يَقُول ، لأَِنَّ بَعْضًا مِنْهَا قَدْ يَصْدُرُ عَنِ الْكُفَّارِ وَالسَّحَرَةِ بِمُؤَاخَاتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّجَّال أَنَّهُ يَقُول لِلسَّمَاءِ : أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ ، وَلِلأَْرْضِ : أَنْبِتِي فَتُنْبِتُ ، وَأَنَّهُ يَقْتُل وَاحِدًا ثُمَّ يُحْيِيهِ ، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ خَلْفَهُ كُنُوزُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . (7)
__________
(1) - مختصر الفتاوى المصرية ص 600، ولوامع الأنوار البهية 2 /393 .
(2) - قطر الولي للشوكاني ص 258، ورد المحتار 3/308 ، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 /279 ، وبستان العارفين ص 156،162، والفتاوى الحديثية ص 301، 302، والمحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار 2 /481 ، ولوامع الأنوار البهية 2 /396.
(3) - الفتاوى الحديثية ص 307، بستان العارفين ص 157، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 /278 ، ولوامع الأنوار البهية 2 /392
(4) - مجموعة رسائل ابن عابدين 2 279/ ، وانظر مجموعة فتاوى ابن ابن تيمية 11 /275 .
(5) - بستان العارفين ص 157، ولوامع الأنوار 2 /290 ، وشرح العقيدة الطحاوية للميداني ص 139، والفتاوى الحديثية ص 304، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 /975 .
(6) - مجموع فتاوى ابن تيمية 11 /302 .
(7) - حديث الدجال أخرجه مسلم ( 4/2252 ـ 2253 ـ ط الحلبي ) .

وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ الرَّجُل لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ ، لَمْ تَثْبُتْ لَهُ وِلاَيَةٌ ، بَل وَلاَ إِسْلاَمٌ حَتَّى يُنْظَرَ وُقُوفُهُ عِنْدَ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . (1)
- - - - - - - - - - - - - - -
الولايةُ والأولياءُ(2)
تعريفه :
إن الولي في لغة العرب خلاف العدو، وهو مشتق ومأخوذ من الولاء وهو الدنو والتقرب، فولي الله هو من والى الله بموافقته محبوباته والتقرب إليه بمرضاته، ومن صحت ولايته فهو من أهل الجنة ولا ريب. ولما كان من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يجزمون لمعين بالجنة،فإنه لا يجوز لنا أن نجزم بولاية أحد من الناس كائنًا من كان، قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره(3): " قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ - : وَمَنْ أَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ كَرَامَات وَخَوَارِق لِلْعَادَاتِ فَلَيْسَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى وِلَايَته , خِلَافًا لِبَعْضِ الصُّوفِيَّة وَالرَّافِضَة حَيْثُ قَالُوا : إِنَّ ذَلِكَ يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ وَلِيّ , إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا مَا أَظْهَرَ اللَّه عَلَى يَدَيْهِ مَا أَظْهَرَ .
وَدَلِيلنَا أَنَّ الْعِلْم بِأَنَّ الْوَاحِد مِنَّا وَلِيّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحّ إِلَّا بَعْد الْعِلْم بِأَنَّهُ يَمُوت مُؤْمِنًا , وَإِذَا لَمْ يُعْلَم أَنَّهُ يَمُوت مُؤْمِنًا لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نَقْطَع عَلَى أَنَّهُ وَلِيّ لِلَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّ الْوَلِيّ لِلَّهِ تَعَالَى مَنْ عَلِمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُوَافِي إِلَّا بِالْإِيمَانِ .
وَلَمَّا اِتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّنَا لَا يُمْكِننَا أَنْ نَقْطَع عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُل يُوَافِي بِالْإِيمَانِ , وَلَا الرَّجُل نَفْسه يَقْطَع عَلَى أَنَّهُ يُوَافِي بِالْإِيمَانِ , عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ يَدُلّ عَلَى وِلَايَته لِلَّهِ " اهـ.
صفاتهم :
وبالرجوع إلى قوله تعالى:{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }نعرف أهم صفات أولياء الله، فقد وصفهم الله بأنهم الذين آمنوا وكانوا يتقون. فما الإيمان؟ وما الشيء الذي آمنوا به؟ وما التقوى حتى نتصف بهما، وحتى نعرف من أولياء الله؟
أمَّا الإيمان فهو الاعتراف المستلزم للقبول، وقد بينه المصطفى في حديث جبريل المشهور حينما سأله عن الإيمان فقال: « أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ »(4).
أما التقوى ـ وهي الصفة الثانية من صفات أولياء الله ـ فهي أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه، جاء في تفسير الطبري عند تفسير قوله تعالى: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ [الأنفال:34]، يقول: مَا أَوْلِيَاء اللَّه إِلَّا الْمُتَّقُونَ , يَعْنِي : الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّه بِأَدَاءِ فَرَائِضه , وَاجْتِنَاب مَعَاصِيه . (5)
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنفال:34]، يقول: ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن أولياء الله المتقون". والتقوى هي المذكورة في قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (177) سورة البقرة .
ومن صفات أولياء الله أنهم إذا رُؤوا ذُكِر الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله، من أولياء الله؟ قال: ((الذين إذا رُؤوا ذُكِر الله)) رواه البزار (6) .
__________
(1) - مختصر الفتاوى المصرية ص 600 و مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 488) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 108) والفتاوى الكبرى - (ج 1 / ص 206)
(2) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4560) -عبد الله بن محمد البصري
(3) - تفسير القرطبي - (ج 1 / ص 297)
(4) - صحيح مسلم(102)
(5) - تفسير الطبري - (ج 12 / ص 161)
(6) - المجمع 1/78 وأخرجه في الحلية 1/26 و7/231 وصححه في صحيح الجامع (2587)

ومن صفاتهم أنهم يحبون في الله ويبغضون في الله، ويوالون في الله ويعادون في الله، كما ورد في الحديث: ((من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك))(1)، وروى الإمام عَنْ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« لاَ يَحِقُّ الْعَبْدُ صَرِيحَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَبْغَضُ لِلَّهِ فَإِذَا أَحَبَّ لِلَّهِ تَبَارَك وَتَعَالَى وَأَبْغَضَ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْوَلاَءَ مِنَ اللَّهِ وَإِنَّ أَوْلِيَائِى مِنْ عِبَادِى وَأَحِبَّائِى مِنْ خَلْقِى الَّذِينَ يُذْكَرُونَ بِذِكْرِى وَأُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ » .(2)
ومن صفات الأولياء المحافظة على الصلوات الخمس وصيام رمضان طاعة لله وإخراج الزكاة واجتناب الكبائر، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ : أَنَّهُ حَدَّثَهُ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ :« أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُصَلُّونَ مَنْ يُقِمِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ الَّتِى كُتِبْنَ عَلَيْهِ وَيَصُومُ رَمَضَانَ يَحْتَسِبُ صَوْمَهُ يَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ حَقٌّ ، وَيُعْطِى زَكَاةَ مَالِهِ يَحْتَسِبُهَا ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ الَّتِى نَهَى اللَّهُ عَنْهَا ». ثُمَّ إِنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ فَقَالَ :« هُنَّ تِسْعٌ الشِّرْكُ إِشْرَاكٌ بِاللَّهِ ، وَقَتْلُ نَفْسٍ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَفِرَارٌ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَأَكَلُ مَالُ الْيَتِيمِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ، وَاسْتِحْلاَلُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ، ثُمَّ قَالَ : لاَ يَمُوتُ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ هَؤُلاَءِ الْكَبَائِرَ ، وَيُقِيمُ الصَّلاَةَ ، وَيُؤْتِى الزَّكَاةَ إِلاَّ كَانَ مَعَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِى دَارٍ أَبْوَابُهَا مَصَارِيعُ مِنْ ذَهَبٍ ». سَقَطَ مِنْ كِتَابِى أَوْ مِنْ كِتَابِ شَيْخِى السِّحْرُ.(3).
ومن صفات الأولياء أنهم يخفون أعمالهم ولا يبرزونها للناس، بل قد لا يعرفهم الناس ولا يأبهون لهم، فعن زيد بن أسلم عن أبيه ، أن عمر ، خرج إلى المسجد يوما فوجد معاذ بن جبل عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي ، فقال : ما يبكيك يا معاذ ؟ قال : يبكيني حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : « اليسير من الرياء شرك ، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة ، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء ، الذين إن غابوا لم يفتقدوا ، وإن حضروا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، يخرجون من كل غبراء مظلمة » (4)
ومن صفات الأولياء التحلي بالعلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والاتصاف بالفضل وصفاء القلوب والعقيدة والإخلاص لله تعالى والدعوة إليه، قال ابن عبد البر: "فمن الحب في الله حب أولياء الله، وهم الأنقياء العلماء الفضلاء، ومن البغض في الله بغض من حاد الله وجاهر بمعاصيه أو ألحد في صفاته وكفر به وكذب رسله أو نحو هذا كله".(5)
ويروى عن الخليل بن أحمد كما في تهذيب الكمال أنه قال: "إن لم تكن هذه الطائفة ـ يعني أهل العلم ـ أولياء الله فليس لله ولي"(6). وروى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري رحمه الله أنه تلا هذه الآية الكريمة: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) [فصلت:33]، فقال: " هذا حبيب الله، هذا وليّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحبّ الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، فهذا خليفة الله "(7)
وقال شيخ الإسلام (8): " فَمَنْ كَانَ مُخْلِصًا فِي أَعْمَالِ الدِّينِ يَعْمَلُهَا لِلَّهِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ أَهْلِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) } [يونس/62-65] . وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا بِنَوْعَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : ثَنَاءُ الْمُثْنِينَ عَلَيْهِ .
__________
(1) - الإبانة الكبرى لابن بطة(851 ) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 11 / ص 46)(13355) و المعجم الأوسط للطبراني (11137) حسن لغيره
(2) - مسند أحمد (15948) وفيه ضعف
(3) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 3 / ص 408) (6970) وفيه لين
(4) - ك 1/4 و 4/328 وكثير 6/344 والإتحاف 8/236 و 263 و 264 صحيح
الرياء : إظهار العمل للناس ليروه ويظنوا به خيرا = الأبرار : جمع بر وهم الأتقياء والصالحون = غبراء مظلمة : مسألة مشكلة وبلية معضلة
(5) - قاله في التمهيد شرح الموطأ ( 17/431 )
(6) - تهذيب الكمال للمزي - (ج 8 / ص 331)
(7) - تفسير الطبري - (ج 21 / ص 469)صحيح
(8) - مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 8)

الثَّانِي : الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ ؛ أَوْ تُرَى لَهُ . عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ :« تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ »(1).
وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ : سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فَقَالَ : { هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ ؛ أَوْ تُرَى لَهُ }(2) . وَالْقَائِمُونَ بِحِفْظِ الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّبَّانُ الْحَافِظُونَ لَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، هُمْ مِنْ أَعْظَمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ ، بَلْ لَهُمْ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (11) سورة المجادلة، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَرْفَعْ اللَّهُ [ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنَ الْمَؤْمِنِينَ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ](3) " .
وقال رحمه الله(4): " وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ رِضَاهُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَهَا بَسْطٌ طَوِيلٌ لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَكَانُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" .
وقال رحمه الله: " فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ وَتَرْكِ مَا حَظَرَ وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ وَلَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ إلَّا ذَلِكَ وَهَذَا سَبِيلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِ اللَّهِ الْغَالِبِينَ . وَكُلُّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ طُرُقِ أَهْلِ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا فَقَالَ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1-4]، وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ }[الفاتحة:6، 7]"(5).
وقال رحمه الله: " فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ".(6)
__________
(1) - صحيح مسلم(6891 )
(2) - مسند الشاميين(1025و1026) ومسند أحمد (28322) والمستدرك للحاكم (3302)من طرق صحيح
(3) - المستدرك للحاكم(3793)حسن
(4) - مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 85)
(5) - مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 197)
(6) - مجموع الفتاوى - (ج 3 / ص 417)

ومما لبّس به الشيطان على كثير من الناس أن أجرى أمورًا خارقة للعادة وخارجة عن المألوف على أيدي من يسمونهم أولياء وما هم بأولياء، ونسي أولئك الجهلة أو تناسوا أنه لا يشترط في الولي أن يكون له كرامات أو أمور خارقة للعادة. قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: "وبالجملة فأولياء الله هم أحبابه المتقرّبون إليه بالفرائض والنوافل وترك المحارم، الموحدون له الذين لا يشركون بالله شيئًا، وإن لم تجر على أيديهم خوارق، فإن كانت الخوارق دليلاً على ولاية الله فلتكن دليلاً على ولاية الساحر والكاهن والمنجّم والمُتَفَرِّس ورهبان اليهود والنصارى وعُبّاد الأصنام، فإنهم يجري لهم من الخوارق ألوف، ولكن هي من قبل الشياطين، فإنهم يتنزلون عليهم لمجانستهم لهم في الأفعال والأقوال، كما قال تعالى:{ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }[الشعراء:221، 222]، وقال تعالى:{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }[الزخرف:36]. وتجد عمدة كثير من الناس في اعتقادهم الولاية في شخص أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض الخوارق للعادة، مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أحيانًا، أو يمشي على الماء، أو يملأ إبريقًا من الهواء، أو يخبر في بعض الأوقات بشيء من الغيب، أو يختفي أحيانًا عن أعين الناس، أو يخبر بعض الناس بما سرق له أو بحال غائب أو مريض، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته أو نحو ذلك، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها مسلم فضلاً عن أن يكون وليًا لله،(1) بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله وموافقته لأمره ونهيه. ومثل هذه الأمور قد يكون صاحبها وليًا لله، وقد يكون عدوًا له، فإنها قد تكون لكثير من الكفار والمشركين واليهود والنصارى والمنافقين وأهل البدع، وتكون لهؤلاء من قبل الشياطين، أو تكون استدراجًا، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور فهو ولي لله، بل يعرف أولياء الله بصفاتهم وأحوالهم وأفعالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، وأكثر هذه الأمور قد توجد في أشخاص يكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي المكتوبة، ولا يتنظف ولا يتطهر الطهارة الشرعية، بل يكون مُلابِسًا للنجاسات، معاشرًا للكلاب، يأوي إلى المزابل، رائحته خبيثة، رَكّابًا للفواحش، يمشي في الأسواق كاشفًا لعورته، غامزًا للشرع مستهزئًا به وبحملته، يأكل العقارب والخبائث التي تحبها الشياطين، كافرًا بالله، ساجدًا لغير الله من القبور وغيرها، يكره سماع القرآن وينفر منه، ويؤثر سماع الأغاني والأشعار ومزامير الشيطان على كلام الرحمن، فلو جرى على يدي شخص من الخوارق ماذا عساه أن يجري فلا يكون وليًا لله محبوبًا عنده حتى يكون متبعًا لرسوله باطنًا وظاهرًا" اهـ.(2)
وقال في شرح العقيدة الطحاوية(3): " فَلَا طَرِيقَةَ إِلَّا طَرِيقَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا حَقِيقَةَ إِلَّا حَقِيقَتُهُ ، وَلَا شَرِيعَةَ إِلَّا شَرِيعَتُهُ ، وَلَا عَقِيدَةَ إِلَّا عَقِيدَتُهُ ، وَلَا يَصِلُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ بَعْدَهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ إِلَّا بِمُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا .
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُصَدِّقًا فِيمَا أَخْبَرَ ، مُلْتَزِمًا لِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ ، فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ ، وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي عَلَى الْأَبَدَانِ - : لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ ، وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ ، وَأَنْفَقَ مِنَ الْغَيْبِ ، وَأَخْرَجَ الذَّهَبَ مِنَ الْخَشَبِ ، وَلَوْ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْخَوَارِقِ مَاذَا عَسَى أَنْ يَحْصُلَ !! فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ، مَعَ تَرْكِهِ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ وَعَمْلِ الْمَحْظُورِ - إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ ، الْمُبْعِدَةِ لِصَاحِبِهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ، الْمُقَرِّبَةِ إِلَى سُخْطِهِ وَعَذَابِهِ . لَكِنْ مَنْ لَيْسَ يُكَلَّفُ مِنَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينَ ، قَدْ رُفِعَ عَنْهُمُ الْقَلَمُ ، فَلَا يُعَاقَبُونَ ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْإِقْرَارِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَا يَكُونُونَ بِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ ، وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ ،وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ . لَكِنْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } (الطُّورِ : 21 ) .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 213)
(2) - انظر أولياء الرحمن وأولياء الشيطان - (ج 1 / ص 46)
(3) - شرح الطحاوية في العقيدة السلفية - (ج 3 / ص 248) فما بعد

فَمَنِ اعْتَقَدَ فِي بَعْضِ الْبُلْهِ أَوِ الْمُولَعِينَ ، مَعَ تَرْكِهِ لِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ - أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ، وَيُفَضِّلُهُ عَلَى مُتَّبِعِي طَرِيقَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ ، مُخْطِئٌ فِي اعْتِقَادِهِ . فَإِنَّ ذَاكَ الْأَبْلَهَ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْطَانًا زِنْدِيقًا ، أَوْ زُوكَارِيًّا(1) مُتَحَيِّلًا ، أَوْ مَجْنُونًا مَعْذُورًا !
فَكَيْفَ يُفَضَّلُ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ، الْمُتَّبِعِينَ لِرَسُولِهِ ؟! أَوْ يُسَاوَى بِهِ ؟! وَلَا يُقَالُ : يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُتَّبِعًا فِي الْبَاطِنِ [وَإِنْ كَانَ تَارِكًا لِلِاتِّبَاعِ فِي الظَّاهِرِ] ؟ فَإِنَّ هَذَا خَطَأٌ أَيْضًا ، بَلِ الْوَاجِبُ مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا . قَالَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ : قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ : إِنَّ صَاحِبَنَا اللَّيْثَ كَانَ يَقُولُ : إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْترُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : قَصَّرَ اللَّيْثُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، بَلْ إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ ، وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ ، فَلَا تَغْترُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَاب (2).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " وَتَعَيَّنَ تَقْيِيدُ قَوْلِ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّ كُلَّ مُعْجِزَةٍ وُجِدَتْ لِنَبِيٍّ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ ، وَوَرَاء ذَلِكَ كُلّه أَنَّ الَّذِي اِسْتَقَرَّ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ خَرْقَ الْعَادَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ غَلَطٌ مِمَّنْ يَقُولُهُ ، فَإِنَّ الْخَارِقَ قَدْ يَظْهَرُ عَلَى يَدِ الْمُبْطِلِ مِنْ سَاحِرٍ وَكَاهِنٍ وَرَاهِبٍ ، فَيَحْتَاجُ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى وِلَايَةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى فَارِقٍ ، وَأَوْلَى مَا ذَكَرُوهُ أَنْ يُخْتَبَرَ حَالُ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِالْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَالنَّوَاهِي كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةَ وِلَايَتِهِ وَمَنْ لَا فَلَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ."(3)
الأولياء لا يستغنون عن الشريعة المحمدية :
لا يجوز لأحد كائنًا من كان الاستغناء عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فضلاً عن مخالفتها، قال شيخ الإسلام رحمه الله (4): " مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْمُرْسَلِينَ وَطَاعَتُهُمْ فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ،مِثْلُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ مُتَابَعَتِهِ كَمَا اسْتَغْنَى الْخَضِرُ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى، فَإِنَّ مُوسَى لَمْ تَكُنْ دَعْوَتُهُ عَامَّةً بِخِلَافِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ مَبْعُوثٌ إلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مُتَابَعَةُ أَمْرِهِ، وَإِذَا كَانَ مَنْ اعْتَقَدَ سُقُوطَ طَاعَتِهِ عَنْهُ كَافِرًا ؛ فَكَيْفَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ ؟ أَوْ أَنَّهُ يَصِيرُ مِثْلَهُ ".
- - - - - - - - - - - - - - - -
الخلاصةُ في أحكام السِّحْرِ(5)
التَّعْرِيفُ :
1 - السِّحْرُ لُغَةً : كُل مَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ ، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا »(6)
__________
(1) - هذه لفظة مولدة . وفي شرح القاموس 3 : 240 «الزواكرة : من يتلبس فيظهر النسك والعبادة ، ويبطن الفسق والفساد . نقله المقري في نفح الطيب» .
(2) - هكذا وردت القصة في الأصل . وانظر القصة في تفسير ابن كثير 1 / 80
(3) - فتح الباري لابن حجر - (ج 11 / ص 420)
(4) - مجموع الفتاوى - (ج 4 / ص 318)
(5) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 24 / ص 259-269)
(6) - صحيح البخارى (5767 )
وفي المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 449)
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْنَاهُ أَنْ يَمْدَحَ الْإِنْسَانُ فَيُصَدَّقُ بِهِ حَتَّى يَصْرِفَ الْقُلُوبَ إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ يَذُمَّهُ فَيُصَدَّقُ حَتَّى يَصْرِفَ الْقُلُوبَ إِلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فَكَأَنَّهُ سَحَرَ السَّامِعِينَ وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَفْدٌ فِيهِمْ قَيْسُ بْنُ الْأَصَمِّ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْثَمِ فَفَخَرَ الزِّبْرِقَانُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا سَيِّدُ تَمِيمٍ وَالْمُطَاعُ فِيهِمْ وَالْمُجَابُ فِيهِمْ آخِذٌ لَهُمْ بِحُقُوقِهِمْ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ الظُّلْمِ وَهَذَا يَعْلَمُ ذَلِكَ يَعْنِي عَمْرَو بْنَ الْأَهْثَمِ فَقَالَ عَمْرٌو : إنَّهُ لَشَدِيدُ الْعَارِضَةِ مَانِعٌ لِجَانِبِهِ مُطَاعٌ فِي أَدَانِيهِ ، فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كَذَبَ وَمَا مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلَّا الْحَسَدُ ؛ فَقَالَ عَمْرٌو : أَنَا أَحْسُدُك ! فَوَاَللَّهِ إنَّك لَلَئِيمُ الْخَالِ حَدِيثُ الْمَالِ أَحْمَقُ الْوَالِدِ مُبْغَضُ فِي الْعَشِيرِ ، وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَدَقْت أَوَّلًا وَمَا كَذَبْت آخِرًا وَلَكِنِّي رَجُلٌ رَضِيت فَقُلْت أَحْسَنَ مَا عَلِمْت وَغَضِبْت فَقُلْت أَقْبَحَ مَا وَجَدْت ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا .

وَسَحَرَهُ أَيْ خَدَعَهُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } (سورة الشعراء / 153) أَيِ الْمَخْدُوعِينَ .
وَيُطْلَقُ السِّحْرُ عَلَى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ قَال الأَْزْهَرِيُّ : السِّحْرُ عَمَلٌ تُقُرِّبَ بِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ وَبِمَعُونَةٍ مِنْهُ ، كُل ذَلِكَ الأَْمْرِ كَيْنُونَةٌ لِلسِّحْرِ . قَال : وَأَصْل السِّحْرِ صَرْفُ الشَّيْءِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَكَأَنَّ السَّاحِرَ لَمَّا أَرَى الْبَاطِل فِي صُورَةِ الْحَقِّ ، وَخَيَّل الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ ، قَدْ سَحَرَ الشَّيْءَ عَنْ وَجْهِهِ ، أَيْ صَرَفَهُ . ا هـ . وَرَوَى شِمْرٌ : أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا سَمَّتِ السِّحْرَ سِحْرًا لأَِنَّهُ يُزِيل الصِّحَّةَ إِلَى الْمَرَضِ ، وَالْبُغْضَ إِلَى الْحُبِّ (1) .
وَقَدْ يُسَمَّى السِّحْرُ طِبًّا ، وَالْمَطْبُوبُ الْمَسْحُورُ ، قَال أَبُو عُبَيْدَةَ : إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَفَاؤُلاً بِالسَّلاَمَةِ ، وَقِيل : إِنَّمَا سُمِّيَ السِّحْرُ طِبًّا ؛ لأَِنَّ الطِّبَّ بِمَعْنَى الْحِذْقِ ، فَلُوحِظَ حِذْقُ السَّاحِرِ فَسُمِّيَ عَمَلُهُ طِبًّا (2) . وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَفْظُ الْجِبْتِ ، فَسَّرَهُ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيُّ بِالسِّحْرِ ، وَقِيل : الْجِبْتُ أَعَمُّ مِنَ السِّحْرِ ، فَيَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى الْكِهَانَةِ وَالْعِرَافَةِ . وَالتَّنْجِيمِ (3) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ :فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْرِيفِهِ اخْتِلاَفًا وَاسِعًا ، وَلَعَل مَرَدَّ الاِخْتِلاَفِ إِلَى خَفَاءِ طَبِيعَةِ السِّحْرِ وَآثَارِهِ . فَاخْتَلَفَتْ تَعْرِيفَاتُهُمْ لَهُ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ تَصَوُّرِهِمْ لِحَقِيقَتِهِ .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَال الْبَيْضَاوِيُّ : الْمُرَادُ بِالسِّحْرِ مَا يُسْتَعَانُ فِي تَحْصِيلِهِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى الشَّيْطَانِ مِمَّا لاَ يَسْتَقِل بِهِ الإِْنْسَانُ ، وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ لِمَنْ يُنَاسِبُهُ فِي الشَّرَارَةِ وَخُبْثِ النَّفْسِ .
قَال : وَأَمَّا مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحِيَل وَالآْلاَتِ وَالأَْدْوِيَةِ ، أَوْ يُرِيهِ صَاحِبُ خِفَّةِ الْيَدِ فَغَيْرُ مَذْمُومٍ ، وَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا هُوَ عَلَى سَبِيل التَّجَوُّزِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ ؛ لأَِنَّ السِّحْرَ فِي الأَْصْل لِمَا خَفِيَ سَبَبُهُ ا هـ(4) .
وَنَقَل التَّهَانُوِيُّ عَنِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ : السِّحْرُ نَوْعٌ يُسْتَفَادُ مِنَ الْعِلْمِ بِخَوَاصِّ الْجَوَاهِرِ وَبِأُمُورٍ حِسَابِيَّةٍ فِي مَطَالِعِ النُّجُومِ ، فَيُتَّخَذُ مِنْ ذَلِكَ هَيْكَلاً عَلَى صُورَةِ الشَّخْصِ الْمَسْحُورِ ، وَيَتَرَصَّدُ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ فِي الْمَطَالِعِ ، وَتُقْرَنُ بِهِ كَلِمَاتٌ يُتَلَفَّظُ بِهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْفُحْشِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ ، وَيُتَوَصَّل بِهَا إِلَى الاِسْتِعَانَةِ بِالشَّيَاطِينِ ، وَيَحْصُل مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَحْوَالٌ غَرِيبَةٌ فِي الشَّخْصِ الْمَسْحُورِ (5) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ : السِّحْرُ شَرْعًا مُزَاوَلَةُ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ لأَِقْوَالٍ أَوْ أَفْعَالٍ يَنْشَأُ عَنْهَا أُمُورٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ (6) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ : عُقَدٌ وَرُقًى وَكَلاَمٌ يُتَكَلَّمُ بِهِ ، أَوْ يَكْتُبُهُ ، أَوْ يَعْمَل شَيْئًا يُؤَثِّرُ فِي بَدَنِ الْمَسْحُورِ أَوْ قَلْبِهِ أَوْ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لَهُ (7) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الشَّعْوَذَةُ :
2 - قَال فِي اللِّسَانِ : الشَّعْوَذَةُ خِفَّةٌ فِي الْيَدِ ، وَأَخْذٌ كَالسِّحْرِ ، يُرِي الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِ مَا عَلَيْهِ أَصْلُهُ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ ، وَقَالُوا : رَجُلٌ مُشَعْوِذٌ وَمُشَعْوِذَةٌ ، وَقَدْ يُسَمَّى الشَّعْبَذَةَ (8) .
ب - النَّشْرَةُ :
__________
(1) - لسان العرب ، والجمل على شرح المنهج 5 / 110 القاهرة ، الميمنية ، 1305 هـ .
(2) - لسان العرب - ( طب ) ، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 648 .
(3) - لسان العرب ( جبت ) ، وتفسير القرطبي عند الآية 51 من سورة النساء .
(4) - تفسير البيضاوي عند قوله تعالى : ( يعلمون الناس السحر ) الآية 102 من سورة البقرة ، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 648 بيروت ، شركة خياط بالتصوير عن طبعة الهند .
(5) - التهانوي : كشاف اصطلاحات الفنون 3 / 648 .
(6) - الجمل على شرح المنهج 5 / 110 ، والقليوبي 4 / 169 ، وحاشية الكازروني على تفسير البيضاوي عند الآية 51 من سورة البقرة .
(7) - كشاف القناع آخر باب حد الردة 6 / 186 ، الرياض مكتبة النصر الحديثة ، ومطالب أولي النهى 6 / 303 بيروت . المكتب الإسلامي .
(8) - لسان العرب : ( شعذ ) .

3 - النَّشْرَةُ ضَرْبٌ مِنَ الرُّقْيَةِ وَالْعِلاَجِ يُعَالَجُ بِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ بِهِ مَسًّا مِنَ الْجِنِّ . سُمِّيَتْ نَشْرَةً لأَِنَّهُ يَنْشُرُ بِهَا مَا خَامَرَهُ مِنَ الدَّاءِ ، أَيْ يُكْشَفُ وَيُزَال ، قَال الْحَسَنُ : النَّشْرَةُ مِنَ السِّحْرِ (1) . وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ سُئِل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّشْرَةِ ، فَقَال : هِيَ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ (2) .
ج - الْعَزِيمَةُ :
4 - الْعَزِيمَةُ مِنَ الرُّقَى الَّتِي كَانُوا يَعْزِمُونَ بِهَا عَلَى الْجِنِّ ، وَجَمْعُهَا الْعَزَائِمُ ، يُقَال : عَزَمَ الرَّاقِي : كَأَنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى الدَّاءِ ، وَأَصْلُهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ : الإِْقْسَامُ وَالتَّعْزِيمُ عَلَى أَسْمَاءٍ مُعَيَّنَةٍ زَعَمُوا أَنَّهَا أَسْمَاءُ مَلاَئِكَةٍ وَكَّلَهُمْ سُلَيْمَانُ بِقَبَائِل الْجَانِّ ، فَإِذَا أَقْسَمَ عَلَى صَاحِبِ الاِسْمِ أَلْزَمَ الْجِنَّ بِمَا يُرِيدُ (3) .
د - الرُّقْيَةُ :
5 - الرُّقْيَةُ وَجَمْعُهَا الرُّقَى ، وَهِيَ أَلْفَاظٌ خَاصَّةٌ يَحْدُثُ عِنْدَ قَوْلِهَا الشِّفَاءُ مِنَ الْمَرَضِ ، إِذَا كَانَتْ مِنَ الأَْدْعِيَةِ الَّتِي يَتَعَوَّذُ بِهَا مِنَ الآْفَاتِ مِنَ الصَّرْعِ وَالْحُمَّى ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِىِّ قَالَ كُنَّا نَرْقِى فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِى ذَلِكَ فَقَالَ :« اعْرِضُوا عَلَىَّ رُقَاكُمْ لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ »(4).
وَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ »(5).
وَمِنَ الرُّقَى مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ كَرُقَى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَأَهْل الْهِنْدِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَسْتَشْفُونَ بِهَا مِنَ الأَْسْقَامِ وَالأَْسْبَابِ الْمُهْلِكَةِ . قَال الْقَرَافِيُّ : الرُّقْيَةُ لِمَا يُطْلَبُ بِهِ النَّفْعُ ، أَمَّا مَا يُطْلَبُ بِهِ الضَّرَرُ فَلاَ يُسَمَّى رُقْيَةً بَل هُوَ سِحْرٌ (6) . وَانْظُرْ ( تَعْوِيذَةٌ ) .
هـ - الطَّلْسَمُ :
6 - الطَّلْسَمَاتُ أَسْمَاءٌ خَاصَّةٌ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهَا تَعَلُّقًا بِالْكَوَاكِبِ ، تُجْعَل فِي أَجْسَامٍ مِنَ الْمَعَادِنِ أَوْ غَيْرِهَا ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُحْدِثُ آثَارًا خَاصَّةً (7) .
و - الأَْوْفَاقُ :
7 - الأَْوْفَاقُ هِيَ أَعْدَادٌ تُوضَعُ فِي أَشْكَالٍ هَنْدَسِيَّةٍ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ ، كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ عَمِلَهُ فِي وَرَقٍ وَحَمَلَهُ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى تَيْسِيرِ الْوِلاَدَةِ ، أَوْ نَصْرِ جَيْشٍ عَلَى جَيْشٍ ، أَوْ إِخْرَاجِ مَسْجُونٍ مِنْ سِجْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.(8)
ز - التَّنْجِيمُ :
8 - التَّنْجِيمُ لُغَةً : النَّظَرُ فِي النُّجُومِ ، اصْطِلاَحًا : مَا يُسْتَدَل بِالتَّشَكُّلاَتِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ الأَْرْضِيَّةِ كَمَا يَزْعُمُونَ .
حَقِيقَةُ السِّحْرِ :
9 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ السِّحْرَ هَل لَهُ حَقِيقَةٌ وَوُجُودٌ وَتَأْثِيرٌ حَقِيقِيٌّ فِي قَلْبِ الأَْعْيَانِ ، أَمْ هُوَ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ ؟.
فَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْجَصَّاصِ ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الإِْسْتِرَابَاذِيُّ وَالْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ، إِلَى إِنْكَارِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ السِّحْرِ وَأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَخْيِيلٌ مِنَ السَّاحِرِ عَلَى مَنْ يَرَاهُ ، وَإِيهَامٌ لَهُ بِمَا هُوَ خِلاَفُ الْوَاقِعِ ، وَأَنَّ السِّحْرَ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ أَنْ يَسْتَعْمِل السَّاحِرُ سُمًّا أَوْ دُخَانًا يَصِل إِلَى بَدَنِ الْمَسْحُورِ فَيُؤْذِيهِ ، وَنُقِل مِثْل هَذَا عَنِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَأَنَّ السَّاحِرَ لاَ يَسْتَطِيعُ بِسِحْرِهِ قَلْبَ حَقَائِقِ الأَْشْيَاءِ ، فَلاَ يُمْكِنُهُ قَلْبُ الْعَصَا حَيَّةً ، وَلاَ قَلْبُ الإِْنْسَانِ حِمَارًا .
__________
(1) - لسان العرب .
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 7 / ص 387) (23982) ومسند البزار(6709) ومجمع الزوائد ( 8397 ) وحسنه ابن حجر في الفتح ( 10 / 233 - ط السلفية ) وهو صحيح
(3) - لسان العرب ، والفروق للقرافي فرق ( 242 ) .
(4) - صحيح مسلم(5862)
(5) - سنن أبى داود (3886 )صحيح
(6) - لسان العرب ، والفروق للقرافي 4 / 147 الفرق ( 242 ) .
(7) - الفروق للقرافي الفرق ( 242 ) 4 / 142 .
(8) - الفروق للقرافي 4 / 142 الفرق ( 242 ) .

قَال الْجَصَّاصُ : السِّحْرُ مَتَى أُطْلِقَ فَهُوَ اسْمٌ لِكُل أَمْرٍ مُمَوَّهٍ بَاطِلٍ لاَ حَقِيقَةَ لَهُ وَلاَ ثَبَاتَ ، قَال اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ } (سورة الأعراف / 116) يَعْنِي مَوَّهُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى ، وَقَال تَعَالَى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّل إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } (سورة الشعراء / 66) فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا ظَنُّوهُ سَعْيًا مِنْهَا لَمْ يَكُنْ سَعْيًا وَإِنَّمَا كَانَ تَخْيِيلاً ، وَقَدْ قِيل : إِنَّهَا كَانَتْ عِصِيًّا مُجَوَّفَةً مَمْلُوءَةً زِئْبَقًا ، وَكَذَلِكَ الْحِبَال كَانَتْ مَعْمُولَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةً زِئْبَقًا ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُمَوَّهًا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ .(1)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْل السُّنَّةِ إِلَى أَنَّ السِّحْرَ قِسْمَانِ :
10 - قِسْمٌ هُوَ حِيَلٌ وَمُخْرَقَةٌ وَتَهْوِيلٌ وَشَعْوَذَةٌ ، وَإِيهَامٌ لَيْسَ لَهُ حَقَائِقُ ، أَوْ لَهُ حَقَائِقُ لَكِنْ لَطُفَ مَأْخَذُهَا ، وَلَوْ كُشِفَ أَمْرُهَا لَعُلِمَ أَنَّهَا أَفْعَالٌ مُعْتَادَةٌ يُمْكِنُ لِمَنْ عَرَفَ وَجْهَهَا أَنْ يَفْعَل مِثْلَهَا ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ خَوَاصِّ الْمَوَادِّ وَالْحِيَل الْهَنْدَسِيَّةِ وَنَحْوِهَا ، وَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلاً فِي مُسَمَّى السِّحْرِ ، كَمَا قَال تَعَالَى : { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } (سورة الأعراف / 116) وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ خَفَاءُ وَجْهِهِ ضَعِيفًا فَلاَ يُسَمَّى سِحْرًا اصْطِلاَحًا ، وَقَدْ يُسَمَّى سِحْرًا لُغَةً ، كَمَا قَالُوا : ( سَحَرْتُ الصَّبِيَّ ) بِمَعْنَى خَدَعْتُهُ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَهُ حَقِيقَةٌ وَوُجُودٌ وَتَأْثِيرٌ فِي الأَْبْدَانِ . فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ . وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ(2) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِتَأْثِيرِ السِّحْرِ وَإِحْدَاثِهِ الْمَرَضَ وَالضَّرَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ :
مِنْهَا قَوْله تَعَالَى : { قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } (سورة الفلق) وَالنَّفَّاثَاتُ فِي الْعُقَدِ : هُنَّ السَّوَاحِرُ مِنَ النِّسَاءِ ، فَلَمَّا أُمِرَ بِالاِسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِنَّ عُلِمَ أَنَّ لَهُنَّ تَأْثِيرًا وَضَرَرًا .
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } (سورة البقرة / 102) .
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ مِنْ بَنِى زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّىْءَ وَمَا فَعَلَهُ ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهْوَ عِنْدِى لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ « يَا عَائِشَةُ ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ ، أَتَانِى رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى ، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَىَّ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ فَقَالَ مَطْبُوبٌ . قَالَ مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ . قَالَ فِى أَىِّ شَىْءٍ قَالَ فِى مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ ، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ . قَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِى بِئْرِ ذَرْوَانَ » . فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ « يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ » . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أَسْتَخْرِجُهُ قَالَ « قَدْ عَافَانِى اللَّهُ ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا » . فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ . تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَابْنُ أَبِى الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ . وَقَالَ اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ فِى مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ . يُقَالُ الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعَرِ إِذَا مُشِطَ ، وَالْمُشَاقَةُ مِنْ مُشَاقَةِ الْكَتَّانِ (3).
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص عند الآية ( 102 ) من سورة البقرة 1 / 43 وما بعدها ، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 652 ، والجمل على شرح المنهج 5 / 100 ، وروضة الطالبين 9 / 128 ، 346 .
(2) - الجمل على شرح المنهج 5 / 100 ، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 7 / 379 ، وفتح القدير 4 / 408 ، والفروق للقرافي 4 / 149 ، 150 ، الفرق ( 242 ) ، وروضة الطالبين 9 / 346 ، والمغني 8 / 150 .
(3) - صحيح البخارى (5763 ، 3175 ، 3268 ، 5765 ، 5766 ، 6063 ، 6391 ) ومسلم (5832 )

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ قَالَ سُفْيَانُ وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا فَقَالَ يَا عَائِشَةُ أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ مَا بَالُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ وَفِيمَ قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ قَالَ وَأَيْنَ قَالَ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ (1)فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ قَالَتْ فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ فَقَالَ هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قَالَ فَاسْتُخْرِجَ قَالَتْ فَقُلْتُ أَفَلَا أَيْ تَنَشَّرْتَ فَقَالَ أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ شَرًّا "(2)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ فَقَالَ « نَعَمْ ». قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ..(3)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
11 - عَمَل السِّحْرِ مُحَرَّمٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ، وَقَدْ نَقَل النَّوَوِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ ، وَأَدِلَّةُ تَحْرِيمِهِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا :
أ - قَوْله تَعَالَى : { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } (سورة طه / 69) .
ب - قَوْله تَعَالَى : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } (سورة البقرة / 102) فَجَعَلَهُ مِنْ تَعْلِيمِ الشَّيَاطِينِ وَقَال فِي آخِرِ الآْيَةِ : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ } فَأَثْبَتَ فِيهِ ضَرَرًا بِلاَ نَفْعٍ .
ج - قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ : { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (سورة هود / 73) فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ رَغِبُوا إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ يَغْفِرَ لَهُمُ السِّحْرَ ، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى أَنَّهُ ذَنْبٌ.
د - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا هُنَّ قَالَ « الشِّرْكُ بِاللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ » (4)
__________
(1) - الراعوفة : صخرة تترك في أسفل البئر إذا احتفرت ، تكون هناك ليجلس عليها المستقي حين تنقية البئر . ( القاموس / رعف ) .
(2) - صحيح البخاري (5323 )
(3) - صحيح مسلم (5829)
وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ مِنْ شَكْوَاهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين سُحِرَ ثُمَّ عَافَاهُ اللَّه تَعَالَى وَشَفَاهُ وَرَدَّ كَيْد السَّحَرَة الْحُسَّاد مِنْ الْيَهُود فِي رُءُوسهمْ وَجَعَلَ تَدْمِيرهمْ فِي تَدْبِيرهمْ وَفَضَحَهُمْ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَمْ يُعَاتِبهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مِنْ الدَّهْر بَلْ كَفَى اللَّه وَشَفَى وَعَافَى . تفسير ابن كثير - (ج 8 / ص 536)
وانظر كشاف القناع 6 / 186 ، والمغني لابن قدامة 8 / 151 .
(4) - صحيح البخارى(2766 ) وصحيح مسلم (272 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 192)
وَالْمُرَاد بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا الْعَفَائِف ، وَبِالْغَافِلَاتِ الْغَافِلَات عَنْ الْفَوَاحِش ، وَمَا قُذِفْنَ بِهِ . وَقَدْ وَرَدَ الْإِحْصَان فِي الشَّرْع عَلَى خَمْسَة أَقْسَام : الْعِفَّة ، وَالْإِسْلَام ، وَالنِّكَاح ، وَالتَّزْوِيج ، وَالْحُرِّيَّة . وَقَدْ بَيَّنْت مَوَاطِنه وَشَرَائِطه وَشَوَاهِده فِي كِتَاب تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات وَاَللَّه أَعْلَم .
وَأَمَّا عَدُّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّوَلِّي يَوْم الزَّحْف مِنْ الْكَبَائِر فَدَلِيل صَرِيح لِمَذْهَبِ الْعُلَمَاء كَافَّة فِي كَوْنِهِ كَبِيرَة إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ هُوَ مِنْ الْكَبَائِر . قَالَ : وَالْآيَة الْكَرِيمَة فِي ذَلِكَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي أَهْل بَدْرٍ خَاصَّةً . وَالصَّوَاب مَا قَالَهُ الْجَمَاهِير أَنَّهُ عَامٌّ بَاقٍ . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَأَمَّا عَدُّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّحْر مِنْ الْكَبَائِر فَهُوَ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِنَا الصَّحِيح الْمَشْهُور . وَمَذْهَب الْجَمَاهِير أَنَّ السِّحْر حَرَام مِنْ الْكَبَائِر فِعْله وَتَعَلُّمه وَتَعْلِيمه . وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : إِنَّ تَعَلُّمه لَيْسَ بِحَرَامٍ ، بَلْ يَجُوز لِيُعْرَف وَيُرَدّ عَلَى صَاحِبه وَيُمَيَّز عَنْ الْكَرَامَة لِلْأَوْلِيَاءِ : وَهَذَا الْقَائِلُ يُمْكِنهُ أَنْ يَحْمِل الْحَدِيث عَلَى فِعْل السِّحْر . وَاَللَّه أَعْلَم .
وفي شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 5 / ص 313)
والسحر عبارة عن عقد ورقى يعني قراءات مطلسمة في صور الشياطين وعفاريت الجن ينفث بها الساحر فيؤذي المسحور بمرض أو موت أو صرف أو عطف صرف يصرفه عن ما يريد عطف يعني يعطفه على ما لا يريد كما قال الله تعالى فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجته وهو من كبائر الذنوب والساحر يجب أن يقتل حدا سواء تاب أو لم يتب وذلك لعظم مضرته على الناس وشدة جرأته والعياذ بالله ولهذا جاء في الحديث حد الساحر ضربه بالسيف وفي رواية ضربه بالسيف ثم إن السحر منه ما يكون كفرا وهو أن يستعين بالشياطين والجن وهذا كفر لقول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } وهذا نص صريح بأن السحر كفر إذا كان متلقيا من الشياطين لأن الشياطين لا يمكن أن تخدم الإنسان إلا بشيء يكون شركا وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم سحره يهودي خبيث يقال له لبيد بن الأعصم وضع له سحرا في بئر في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر يعني النخلة الفحل لجمرته جف يسمى الكافور أو الكفرة هذا الخبيث وضع السحر للرسول صلى الله عليه وسلم في مشط المشط الذي يمشط به عادة مشاطة يعني ما سقط من الشعر عند المشط فوضعه في هذا البئر لكن لم يؤثر على النبي صلى الله عليه وسلم في أمر يتعلق بالرسالة أبدا لكن صار يخيل إليه أنه أتى أهله أو أنه فعل الشيء ولم يفعله حتى أنزل الله عز وجل سورتي { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } فرقاه بهما جبريل فشفي بإذن الله ثم استخرج السحر من هذه البئر وفله وأبطله وهذا دليل على خبث اليهود وأنهم من أشد الناس عداوة بل قال الله تعالى: { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } فبدأ اليهود قبل المشركين فهم أشد الناس عداوة للمسلمين ولهذا سحروا النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الله ولله الحمد أبطل سحرهم فصار السحر ينقسم إلى قسمين سحر كفر وهو الاستعانة بالأرواح الشيطانية وغير كفر وهو أن يكون بالعقد والأدوية والأخشاب وما أشبه ذلك أما حكم الساحر فإنه يجب أن يقتل بكل حال إن كان كافرا فلردته وإن كان سحره دون الكفر فلأذيته قال الله تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } الإشراك بالله والسحر

..
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ السِّحْرِ تَمْوِيهًا وَحِيلَةً ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، فَقَالُوا : إِنَّ الأَْوَّل مُبَاحٌ ؛ أَيْ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ اللَّهْوِ فَيُبَاحُ مَا لَمْ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى مُحَرَّمٍ كَالإِْضْرَارِ بِالنَّاسِ وَإِرْهَابِهِمْ . قَال الْبَيْضَاوِيُّ : أَمَّا مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحِيَل بِمَعُونَةِ الآْلاَتِ وَالأَْدْوِيَةِ ، أَوْ يُرِيهِ صَاحِبُ خِفَّةِ الْيَدِ فَغَيْرُ مَذْمُومٍ ، وَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا عَلَى التَّجَوُّزِ ، أَوْ لِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ (1) .
كُفْرُ السَّاحِرِ بِفِعْل السِّحْرِ (2):
12 - لِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ فِي تَكْفِيرِ السَّاحِرِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي :
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ يَكْفُرُ بِفِعْلِهِ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ أَمْ لاَ (3). ثُمَّ قَال الْحَنَابِلَةُ : أَمَّا الَّذِي يَسْحَرُ بِأَدْوِيَةٍ وَتَدْخِينٍ وَسَقْيِ شَيْءٍ فَلَيْسَ كَافِرًا ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَعْزِمُ عَلَى الْجِنِّ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُهَا فَتُطِيعُهُ .(4)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَكْفِيرِ السَّاحِرِ بِفِعْل السِّحْرِ إِنْ كَانَ سِحْرُهُ مُشْتَمِلاً عَلَى كُفْرٍ ، أَوْ كَانَ سِحْرُهُ مِمَّا يُفَرِّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ (5). وَأَضَافَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى حَالَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَالَةَ تَحْبِيبِ الرَّجُل إِلَى الْمَرْأَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى ( التُّوَلَةُ )(6) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعَمَل بِالسِّحْرِ حَرَامٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ مِنْ حَيْثُ الأَْصْل ، وَأَنَّ السَّاحِرَ لاَ يَكْفُرُ إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ هُمَا : أَنْ يَعْتَقِدَ مَا هُوَ كُفْرٌ ، أَوْ أَنْ يَعْتَقِدَ إِبَاحَةَ السِّحْرِ (7). وَأَضَافَ ابْنُ الْهُمَامِ حَالَةً ثَالِثَةً هِيَ مَا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَفْعَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ (8).
حُكْمُ تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَتَعْلِيمِهِ :
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ دُونَ الْعَمَل بِهِ .
__________
(1) - روضة الطالبين 9 / 346 ، ومطالب أولي النهى 6 / 303 ، 304 ، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 648 ، وتفسير البيضاوي 1 / 175 القاهرة المكتبة التجارية عند الآية 51 من سورة البقرة .
(2) - فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 295-302) و فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5714) -سؤال رقم 69914- هل تُقبل توبة الساحر؟ وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 634) -رقم الفتوى 20595 طعام الساحر ..يؤكل أم يُرمَى ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 2 / ص 144) ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 9 / ص 415) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 1 / ص 477) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 225)
(3) - حاشية رد المحتار - (ج 4 / ص 426) وفتح القدير - (ج 13 / ص 297) ورد المحتار - (ج 16 / ص 305)
(4) - الشرح الكبير لابن قدامة - (ج 10 / ص 116) والإنصاف - (ج 16 / ص 118) وشرح منتهى الإرادات - (ج 11 / ص 334) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 21 / ص 174) والمبدع شرح المقنع - (ج 9 / ص 440) وكشف المخدرات والرياض الزاهرات لشرح أخصر المختصرات - (ج 2 / ص 29) والإقناع - (ج 4 / ص 307)
(5) - الذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 10 / ص 422) و الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني - (ج 1 / ص 231)
(6) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 1 / ص 53)
(7) - فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 295) والحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 13 / ص 96)
(8) - الفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 225) وحاشية رد المحتار - (ج 4 / ص 426) وفتح القدير - (ج 13 / ص 297) ورد المحتار - (ج 16 / ص 305)

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) إِلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ حَرَامٌ وَكُفْرٌ (1)، وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنِ اسْتَثْنَى أَحْوَالاً . فَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ ذَخِيرَةِ النَّاظِرِ أَنَّ تَعَلُّمَهُ لِرَدِّ فِعْل سَاحِرِ أَهْل الْحَرْبِ فَرْضٌ ، وَأَنَّ تَعَلُّمَهُ لِيُوَفِّقَ بَيْنَ زَوْجَيْنِ جَائِزٌ ، وَرَدَّهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّه وردَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ ». قَالَتْ قُلْتُ لِمَ تَقُولُ هَذَا وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِى تَقْذِفُ وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلاَنٍ الْيَهُودِىِّ يَرْقِينِى فَإِذَا رَقَانِى سَكَنَتْ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّمَا ذَاكِ عَمَلُ الشَّيْطَانِ كَانَ يَنْخَسُهَا بِيَدِهِ فَإِذَا رَقَاهَا كَفَّ عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِى كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِى لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا » .(2)
وَالتُّوَلَةُ شَيْءٌ كَانُوا يَصْنَعُونَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُحَبِّبُ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا .
وَاسْتَدَل الطُّرْطُوشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } (سورة البقرة / 102) أَيْ بِتَعَلُّمِهِ ،وقَوْله تَعَالَى : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } (سورة البقرة / 102) وَلأَِنَّهُ لاَ يَتَأَتَّى إِلاَّ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَادِرٌ بِهِ عَلَى تَغْيِيرِ الأَْجْسَامِ ، وَالْجَزْمُ بِذَلِكَ كُفْرٌ . قَال الْقَرَافِيُّ : أَيْ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ظَاهِرًا ؛ وَلأَِنَّ تَعْلِيمَهُ لاَ يَتَأَتَّى إِلاَّ بِمُبَاشَرَتِهِ ، كَأَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى الْكَوْكَبِ وَيَخْضَعَ لَهُ ، وَيَطْلُبَ مِنْهُ قَهْرَ السُّلْطَانِ .
ثُمَّ فَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ مَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ بِمُجَرَّدِ مَعْرِفَتِهِ لِمَا يَصْنَعُ السَّحَرَةُ كَأَنْ يَقْرَؤُهُ فِي كِتَابٍ ، وَبَيْنَ أَنْ يُبَاشِرَ فِعْل السِّحْرِ لِيَتَعَلَّمَهُ فَلاَ يَكْفُرُ بِالنَّوْعِ الأَْوَّل ، وَيَكْفُرُ بِالثَّانِي حَيْثُ كَانَ الْفِعْل مُكَفِّرًا (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ : تَعْلِيمُهُ حَرَامٌ ، إِلاَّ إِنْ كَانَ لِتَحْصِيل نَفْعٍ ، أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ ، أَوْ لِلْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ (4).
وَقَال الْفَخْرُ الرَّازِيُّ : الْعِلْمُ بِالسِّحْرِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ وَلاَ مَحْظُورٍ ، قَال : وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ لِذَاتِهِ شَرِيفٌ ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُل هَل يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } (سورة الزمر / 9) وَلأَِنَّ السِّحْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُعَلَّمُ لَمَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزِ ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُعْجِزِ مُعْجِزًا وَاجِبٌ ، وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ فَهُوَ وَاجِبٌ . قَال : فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالسِّحْرِ وَاجِبًا فَكَيْفَ يَكُونُ قَبِيحًا أَوْ حَرَامًا ؟(5).
النَّشْرَةُ ، أَوْ حَل السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ :
14 - يُحَل السِّحْرُ عَنِ الْمَسْحُورِ بِطَرِيقَتَيْنِ :
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 295) ونيل الأوطار - (ج 11 / ص 412) ونيل الأوطار - (ج 11 / ص 427) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 147) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 225) وحاشية رد المحتار - (ج 4 / ص 426) وفتح القدير - (ج 13 / ص 296) ورد المحتار - (ج 16 / ص 305) وشرح مختصر خليل للخرشي - (ج 22 / ص 426) وروضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 3 / ص 355) وشرح البهجة الوردية - (ج 17 / ص 341) وشرح البهجة الوردية - (ج 17 / ص 350) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 39 / ص 238) ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 15 / ص 359) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 26 / ص 280) وحاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 12 / ص 351)
(2) - سنن أبى داود (3885 ) صحيح
التولة : نوع من السحر يحبب المرأة إلى زوجها
(3) - فتح القدير 4 / 408 ، وابن عابدين 1 / 31 ، وكشاف القناع 6 / 186 ، والفروق للقرافي 4 / 152 ، 153 ، 159 ، 165 ، الفرق 242 .
(4) - القليوبي على شرح المنهاج 4 / 169 .
(5) - تفسير الرازي 3 / 238

الأُْولَى : أَنْ يُحَل بِالرُّقَى الْمُبَاحَةِ وَالتَّعَوُّذِ الْمَشْرُوعِ ، كَالْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالاِسْتِعَاذَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِ الْمَأْثُورَةِ وَلَكِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْمَأْثُورِ ، فَهَذَا النَّوْعُ جَائِزٌ إِجْمَاعًا . وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُحِرَ ، اسْتَخْرَجَ الْمُشْطَ وَالْمِشَاطَةَ اللَّتَيْنِ سُحِرَ بِهِمَا ، ثُمَّ كَانَ يَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ ، فَشَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى .(1)
الثَّانِيَةُ : أَنْ يُحَل السِّحْرُ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ . وَهَذَا النَّوْعُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
الأَْوَّل - أَنَّهُ حَرَامٌ لاَ يَجُوزُ ؛ لأَِنَّهُ سِحْرٌ وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ السِّحْرِ الْمُتَقَدِّمُ بَيَانُهَا . وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ . وَتَوَقَّفَ فِيهِ أَحْمَدُ . وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ : لاَ يَحُل السِّحْرَ إِلاَّ سَاحِرٌ ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ سُئِل عَنِ امْرَأَةٍ يُعَذِّبُهَا السَّحَرَةُ ، فَقَال رَجُلٌ : أَخُطُّ خَطًّا عَلَيْهَا وَأَغْرِزُ السِّكِّينَ عِنْدَ مَجْمَعِ الْخَطِّ وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ . فَقَال مُحَمَّدٌ : مَا أَعْلَمُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَأْسًا ، وَلاَ أَدْرِي مَا الْخَطُّ وَالسِّكِّينُ . وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ : حَل السِّحْرِ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ ، فَيَتَقَرَّبُ النَّاشِرُ وَالْمُنْتَشِرُ إِلَى الشَّيْطَانِ بِمَا يُحِبُّ فَيَبْطُل الْعَمَل عَنِ الْمَسْحُورِ .
الْقَوْل الثَّانِي - أَنَّ حَل السِّحْرِ بِسِحْرٍ لاَ كُفْرَ فِيهِ وَلاَ مَعْصِيَةَ جَائِزٌ ، فَقَدْ نَقَل الْبُخَارِيُّ عَنْ قَتَادَةَ : قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ ، أَوْ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ أَيُحَل عَنْهُ ، أَوْ يُنْشَرُ ؟ قَال : لاَ بَأْسَ ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإِْصْلاَحَ ، فَإِنَّ مَا يَنْفَعُ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ .
وَالْقَوْلاَنِ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . قَال الرَّحِيبَانِيُّ : يَجُوزُ حَل السِّحْرِ بِسِحْرٍ لأَِجْل الضَّرُورَةِ ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ ، وَقَال فِي الْمُغْنِي : تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي الْحِل ، وَهُوَ إِلَى الْجَوَازِ أَمْيَل (2).
عُقُوبَةُ السَّاحِرِ (3):
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ يُقْتَل فِي حَالَيْنِ : الأَْوَّل أَنْ يَكُونَ سِحْرُهُ كُفْرًا ، وَالثَّانِي إِذَا عُرِفَتْ مُزَاوَلَتُهُ لِلسِّحْرِ بِمَا فِيهِ إِضْرَارٌ وَإِفْسَادٌ وَلَوْ بِغَيْرِ كُفْرٍ .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال : السَّاحِرُ إِذَا أَقَرَّ بِسِحْرِهِ أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ يُقْتَل وَلاَ يُسْتَتَابُ ، وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي هَذَا سَوَاءٌ ، وَقِيل : لاَ يُقْتَل إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا .
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ الْهُمَامِ أَنَّ قَتْلَهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيل التَّعْزِيرِ ، لاَ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُ ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ : يَجِبُ قَتْل السَّاحِرِ وَلاَ يُسْتَتَابُ ، وَذَلِكَ لِسَعْيِهِ فِي الأَْرْضِ بِالْفَسَادِ لاَ بِمُجَرَّدِ عَمَلِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُ ، لَكِنْ إِنْ جَاءَ تَائِبًا قَبْل أَنْ يُؤْخَذَ قُبِلَتْ (4) .
__________
(1) - ومما يدفع السحر: التوكل على الله ودعاؤه والتحصن بالقرآن الكريم وأنواع الذكر الثابتة وكمال التوحيد والحذر من الوقوع في شَرَك الأشرار والفجار ومجانبة المفسدين الظالمين. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:208].
(2) - المغني 8 / 154 ، ومطالب أولي النهى 6 / 305 ، وفتح المجيد ص 304 ، وتيسير العزيز الحميد ص 366 ، ومواهب الجليل للحطاب 6 / 256 ، وفتح الباري 10 / 236 .
(3) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 1 / ص 120-129) وشرح الطحاوية في العقيدة السلفية - (ج 3 / ص 241) ومجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 346) ومجموع الفتاوى - (ج 29 / ص 384) ونيل الأوطار - (ج 11 / ص 413-420) والروضة الندية - (ج 2 / ص 83) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 869) والفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني - (ج 7 / ص 134)
وقتل الساحر لحماية الناس من ضرره وشره وللوقاية من كثرة مفاسده ولاقتلاع جذور الشرك بالله تعالى من المجتمع المسلم وللحفاظ على صفاء عقائد المسلمين وعقولهم وأموالهم ودرء المفاسد عن المسلمين، والإسلام وحده هو الذي يرعى كل خير ويحارب كل شر.
فقتل الساحر والساحرة هو الصحيح من قولي أهل العلم حتى وإن أظهر التوبة، لأن الصحابة لم يستتيبوا السحرة الذين قُتلوا، ولأن الغالب على الساحر الكذب فلا يصدق في توبته، فإن كان صادقاً في نيته وقصده نفعته التوبة عند الله عز جل ولكن لا تدفع عنه حد القتل لأنه مفسد شرير، خبيث السيرة والسريرة.
(4) - فتح القدير 4 / 408 ، وابن عابدين 1 / 31 و 3 / 295 ، 296 .

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى قَتْل السَّاحِرِ ، لَكِنْ قَالُوا : إِنَّمَا يُقْتَل إِذَا حُكِمَ بِكُفْرِهِ ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ لَدَى الإِْمَامِ ، فَإِنْ كَانَ مُتَجَاهِرًا بِهِ قُتِل وَمَالُهُ فَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ ، وَإِنْ كَانَ يُخْفِيهِ فَهُوَ كَالزِّنْدِيقِ يُقْتَل وَلاَ يُسْتَتَابُ (1) ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ - أَيْضًا - السَّاحِرَ الذِّمِّيَّ ، فَقَالُوا : لاَ يُقْتَل ، بَل يُؤَدَّبُ . لَكِنْ قَالُوا : إِنْ أَدْخَل السَّاحِرُ الذِّمِّيُّ ضَرَرًا عَلَى مُسْلِمٍ فَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ ، وَلاَ تُقْبَل مِنْهُ تَوْبَةٌ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ ، نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ مَالِكٍ . لَكِنْ قَال الزَّرْقَانِيُّ : الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ انْتِقَاضَ عَهْدِهِ ، فَيُخَيَّرُ الإِْمَامُ فِيهِ .
أَمَّا إِنْ أَدْخَل السَّاحِرُ الذِّمِّيُّ ضَرَرًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْل مِلَّتِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ مَا لَمْ يَقْتُلْهُ ، فَإِنْ قَتَلَهُ قُتِل بِهِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : إِنْ كَانَ سِحْرُ السَّاحِرِ لَيْسَ مِنْ قَبِيل مَا يَكْفُرُ بِهِ ، فَهُوَ فِسْقٌ لاَ يُقْتَل بِهِ مَا لَمْ يَقْتُل أَحَدًا وَيَثْبُتُ تَعَمُّدُهُ لِلْقَتْل بِهِ بِإِقْرَارِهِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ يُقْتَل حَدًّا وَلَوْ لَمْ يَقْتُل بِسِحْرِهِ أَحَدًا ، لَكِنْ لاَ يُقْتَل إِلاَّ بِشَرْطَيْنِ :
الأَْوَّل : أَنْ يَكُونَ سِحْرُهُ مِمَّا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ كُفْرًا مِثْل فِعْل لَبِيدِ بْنِ الأَْعْصَمِ ، أَوْ يَعْتَقِدُ إِبَاحَةَ السِّحْرِ ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ كُفْرًا ، كَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْجِنَّ فَتُطِيعُهُ ، أَوْ يَسْحَرُ بِأَدْوِيَةٍ وَتَدْخِينٍ ، وَسَقْيِ شَيْءٍ لاَ يَضُرُّ .
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا ، فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لَمْ يُقْتَل ؛ لأَِنَّهُ أُقِرَّ عَلَى شِرْكِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ السِّحْرِ ، وَلأَِنَّ لَبِيدَ بْنَ الأَْعْصَمِ الْيَهُودِيَّ سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ ، قَالُوا : وَالأَْخْبَارُ الَّتِي وَرَدَتْ بِقَتْل السَّاحِرِ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ لأَِنَّهُ يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ .
وَالذِّمِّيُّ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ فَلاَ يُقْتَل بِهِ ، لَكِنْ إِنْ قُتِل بِسِحْرٍ يَقْتُل غَالِبًا ، قُتِل قِصَاصًا .
وَشَرْطٌ آخَرُ أَضَافَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي : وَهُوَ أَنْ يَعْمَل بِالسِّحْرِ ، إِذْ لاَ يُقْتَل بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ بِهِ .
ثُمَّ قَال بَعْضُهُمْ : وَيُعَاقَبُ بِالْقَتْل أَيْضًا مَنْ يَعْتَقِدُ حِل السِّحْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَيُقْتَل كُفْرًا ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ أَنْكَرَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ .
وَاحْتَجُّوا لِقَتْل السَّاحِرِ بِمَا رَوَى عَنْ جُنْدَبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ » (4) .
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ بَجَالَةَ يُحَدِّثُ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ وَأَبَا الشَّعْثَاءِ ، قَالَ : كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ : فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ أَنَ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ , وَفَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ , وَانْهَوْهُمْ ، عَنِ الزَّمْزَمَةِ فَقَتَلْنَا ثَلاَثَ سَوَاحِرَ , وَجَعَلْنَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ حَرِيمِهِ فِي كِتَابِ اللهِ"(5).
وَبِأَنَّ حَفْصَةَ أَمَرَتْ بِقَتْل سَاحِرَةٍ سَحَرَتْهَا . وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ قَبْل مَوْتِهِ بِسَنَةٍ : أَنِ اقْتُلُوا كُل سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ ، وَقَتَل جُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ سَاحِرًا كَانَ يَسْحَرُ بَيْنَ يَدَيِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي عُقْبَةَ (6) .
حُكْمُ السَّاحِرِ إِذَا قَتَل بِسِحْرِهِ :
16 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْل بِالسِّحْرِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا ، وَفِيهِ الْقِصَاصُ . وَيَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الإِْقْرَارِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ إِنْ قَتَل بِسِحْرِهِ مَنْ هُوَ مُكَافِئٌ لَهُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ إِنْ تَعَمَّدَ قَتْلَهُ بِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِ السَّاحِرِ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا ، كَقَوْلِهِ : قَتَلْتُهُ بِسِحْرِي ، أَوْ قَوْلِهِ : قَتَلْتُهُ بِنَوْعِ كَذَا ، وَيَشْهَدُ عَدْلاَنِ يَعْرِفَانِ ذَلِكَ ، وَقَدْ كَانَا تَابَا ، بِأَنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ يَقْتُل غَالِبًا . فَإِنْ كَانَ لاَ يَقْتُل غَالِبًا فَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ . فَإِنْ قَال : أَخْطَأْتُ مِنَ اسْمِ غَيْرِهِ إِلَى اسْمِهِ فَخَطَأٌ .
__________
(1) - الزرقاني 8 / 63 .
(2) - الزرقاني 8 / 68 .
(3) - تفسير الرازي 3 / 239 ، وروضة الطالبين 9 / 347 .
(4) - سنن الترمذى (1532 ) والصواب وقفه وإرساله
(5) - مسند أحمد (1679)ومصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 10 / ص 136)(29585) ومصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 12 / ص 244)(33320) وهو صحيح
(6) - كشاف القناع 6 / 187 ، والمغني 8 / 153 ، 154 ، وتيسير العزيز الحميد ص 342 ، ومطالب أولي النهى 6 / 304 ، 305 .

وَلاَ يَثْبُتُ الْقَتْل الْعَمْدُ بِالسِّحْرِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِتَعَذُّرِ مُشَاهَدَةِ الشُّهُودِ قَصْدَ السَّاحِرِ وَتَأْثِيرَ سِحْرِهِ (1) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ مِمَّنْ قَتَل بِسِحْرِهِ بِالسَّيْفِ وَلاَ يُسْتَوْفَى بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ، أَيْ لأَِنَّ السِّحْرَ مُحَرَّمٌ ؛ وَلِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ إِنْ قَتَل بِسِحْرِهِ أَحَدًا مِنْ أَهْل مِلَّتِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَل بِهِ .
تَعْزِيرُ السَّاحِرِ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَتْل :
17 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ السَّاحِرَ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقَتْل ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ سِحْرُهُ كُفْرًا وَلَمْ يَقْتُل بِسِحْرِهِ أَحَدًا ، إِذَا عَمِل بِسِحْرِهِ يُعَزَّرُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا لِيَنْكَفَّ هُوَ وَمَنْ يَعْمَل مِثْل عَمَلِهِ ، وَلَكِنْ بِحَيْثُ لاَ يَبْلُغُ بِتَعْزِيرِهِ الْقَتْل عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاِرْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً . وَفِي قَوْلٍ لِلإِْمَامِ : تَعْزِيرُهُ بِالْقَتْل (3) .
الإِْجَارَةُ عَلَى فِعْل السَّحَرِ أَوْ تَعْلِيمِهِ :
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِئْجَارَ لِعَمَل السِّحْرِ لاَ يَحِل إِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّوْعُ مِنَ السِّحْرِ حَرَامًا - عَلَى الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِهِ - وَلاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ ، وَلاَ تَحِل إِعْطَاءُ الأُْجْرَةِ ، وَلاَ يَحِل لآِخِذِهَا أَخْذُهَا ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفْصِيلاَتِ :
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ سَاحِرًا لِيَعْمَل لَهُ عَمَلاً هُوَ سِحْرٌ فَالإِْجَارَةُ حَرَامٌ وَلاَ تَصِحُّ ، وَلاَ يُقْتَل الْمُسْتَأْجَرُ لأَِنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ لَيْسَ بِسِحْرٍ ، حَتَّى لَوْ قَتَل السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ ذَاكَ أَحَدًا ، وَيُؤَدَّبُ الْمُسْتَأْجَرُ أَدَبًا شَدِيدًا ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مَنْ يَسْتَأْجِرُ لِحَل السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ ، فَأَجَازُوا ذَلِكَ - أَيْ عَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ حَل السِّحْرِ - لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الْعِلاَجِ (4) ، وَكَذَا أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الإِْجَارَةَ عَلَى إِزَالَةِ السِّحْرِ نَحْوَ مَا يَحْصُل لِلزَّوْجِ مِنَ الاِنْحِلاَل الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالرَّبْطِ . قَالُوا : وَالأُْجْرَةُ عَلَى مَنِ الْتَزَمَ الْعِوَضَ ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الرَّجُل نَفْسَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ أَجْنَبِيًّا (5) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِسْتِئْجَارُ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ وَلاَ تُسْتَحَقُّ عَلَى تَعْلِيمِ السِّحْرِ أُجْرَةٌ (6) ، وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ كُتُبِ السِّحْرِ وَيَجِبُ إِتْلاَفُهَا (7) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ : لاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ عَلَى السِّحْرِ إِنْ كَانَ مُحَرَّمًا ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُبَاحًا فَلاَ مَانِعَ مِنَ الاِسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ ، كَتَعْلِيمِ رُقًى عَرَبِيَّةً لِيَحِل بِهَا السِّحْرَ (8) . وَلاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِكُتُبِ سِحْرٍ لأَِنَّهَا إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ آلَةَ سِحْرٍ (9) . .
19-الفرقُ بين السحر والكرامة
هناك أناس التبس عليهم حال السحرة الكذابين والمشعوذين فتحيروا فيما يصدر من السحرة من خوارق العادات كالطيران في الهواء والمشي على الماء وقطع المسافة الطويلة في زمن قصير والإخبار عن الغيب فيقع الخبر كذلك، وشفاء المرضى فيظن هؤلاء الجهال أن هذا الساحر من أولياء الله وقد يؤول الأمر إلى أن يعبد من دون الله ويرجى منه النفع والضر والعياذ بالله، فظن بعض الناس أن خوارق العادات التي تجري من السحرة والعرافين كرامات من الله فالتبس عند الجهال حال أولياء الرحمن بحال أولياء الشيطان.
والشرع فرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان، فأولياء الله عز وجل هم الحافظون لحدود الله المتمسكون بشرعه ظاهراً وباطناً، الممتثلون لأوامر الله المجتنبون لنواهيه، المحافظون على صلاة الجماعة قال الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62-63].
__________
(1) - نهاية المحتاج 7 / 379 ، 380 ، والقليوبي 4 / 179 ، وروضة الطالبين 9 / 347 ، والزرقاني 8 / 29 .
(2) - نهاية المحتاج 7 / 290 ، والقليوبي وشرح المنهاج 4 / 124 ، ومواهب الجليل للحطاب 6 / 256 ، والزرقاني 8 / 29 .
(3) - مطالب أولي النهى 6 / 304 ، ومغني المحتاج 2 / 183 .
(4) - الزرقاني 8 / 63 ، والمواق بهامش مواهب الجليل 6 / 280 ، وابن عابدين 5 / 57 .
(5) - الشبراملسي على نهاية المحتاج 5 / 268 و تحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 24 / ص 298) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 17 / ص 265) وحاشية البجيرمي على المنهج - (ج 10 / ص 173)
(6) - حاشية القليوبي على المنهاج 3 / 70 .
(7) - حاشية الشيخ عميرة على شرح المنهاج 2 / 158 .
(8) - مطالب أولي النهى 3 / 604 .
(9) - مطالب أولي النهى 4 / 98 ، 483 .

وليس من شرط الولاية لله تعالى أن يكون للولي كرامة بخرق العادات فإن أعظم الكرامة هي الاستقامة، وأما أولياء الشيطان فيظهر منهم خوارق عادات يظنها الجهال كرامات، وهي في الحقيقة أحوال شيطانية تخدمهم فيها الشياطين ليضلوا بها المفتونين, فلا تغتر بمن دخل النار وخرج سالماً أو طار في الهواء أو مشى على الماء أو أمسك بالثعابين، بل انظر إلى تمسكهم بالشرع تجدهم لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا يسمعون القرآن بل يسمعون أغاني الزور ويغشون الفجور أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ [المجادلة:19]. واعتبر ذلك بالدجال الأكبر الذي يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض انبتي فتنبت، ويحيي الموتى بإذن الله، وهو أخطر خلق الله.
20- الكهان والعرافون والمنجمون
وممن يدخل في ذم السحرة: الكهان والعرافون والمنجمون والذين يخطون في الرمل، وكل هؤلاء يدّعون علم الغيب، وهم كفرة خارجون عن الإسلام بادعائهم الغيب. قال الله تعالى: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ [النمل:65]. ومن صدقهم في دعواهم فهو كافر بالله مشرك. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً فِى دُبُرِهَا وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً حَائِضًا فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- »(1)..
21- الوقايةُ منَ السِّحرِ
إن الوقاية من السحر هو:
بكمال التوحيد والتوكل على الله تعالى، قال الله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
والوقاية من السحر بالدعاء والاستعاذة منه ،عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ ، وَإِنَّ الْبَلاءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ."(2)
ومن الوقاية من السحر التحصن بتلاوة القرآن وأنواع الذكر الصحيحة صباحاً ومساءً عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَّمٍ يَقُولُ حَدَّثَنِى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِىُّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ ». قَالَ مُعَاوِيَةُ بَلَغَنِى أَنَّ الْبَطَلَةَ السَّحَرَةُ(3). يعني السحرة لا يقدرون على ضرر من قرأها وحفظها.
ومن الوقاية من السحر تحريق كتبه، وقتل الإمام للسحرة ورفع أمرهم إلى السلطان لكف شرهم وعظيم ضررهم عن الناس, وإذا وقع السحر بأحد فعلاجه بإحراق مادته التي انعقد بها السحر إذا عُثر عليها وعُلمت، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَهُودِىٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِى زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ - قَالَتْ - حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّىْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ دَعَا ثُمَّ دَعَا ثُمَّ قَالَ :« يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ جَاءَنِى رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَىَّ. فَقَالَ الَّذِى عِنْدَ رَأْسِى لِلَّذِى عِنْدَ رِجْلَىَّ أَوِ الَّذِى عِنْدَ رِجْلَىَّ لِلَّذِى عِنْدَ رَأْسِى مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ. قَالَ مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ فِى أَىِّ شَىْءٍ قَالَ فِى مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ. قَالَ وَجُبِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ. قَالَ فَأَيْنَ هُوَ ؟قَالَ فِى بِئْرِ ذِى أَرْوَانَ ».
قَالَتْ فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ :« يَا عَائِشَةُ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ». قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أَحْرَقْتَهُ قَالَ :« لاَ أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِى اللَّهُ وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا فَأَمَرْتُ بِهَا فَدُفِنَتْ » .(4)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 198)(14504)وصحيح الجامع ( 5942)وهو حديث صحيح
(2) - المستدرك للحاكم(1813)وصحيح الجامع (7739) والدعاطب (33)حسن
(3) - صحيح مسلم (1910 )
البطلة : السحرة = الصواف : جمع صافة وهى الباسطة أجنحتها فى الهواء =الغيايتان : مثنى غياية وهى السحابة =الفرقان : الجماعتان
(4) - صحيح مسلم (5832 ) .الجُب : وعاء طلع النخل = المطبوب : المسحور = المشاطة : ما يسقط من الشعر عند تسريحه = النقاعة : الماء الذى توضع فيه الحناء والمراد أنه متغير اللون

وعلاج السحر بدوام الدعاء بالعافية منه عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طُبَّ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ قَدْ صَنَعَ الشَّىْءَ وَمَا صَنَعَهُ ، وَإِنَّهُ دَعَا رَبَّهُ ثُمَّ قَالَ « أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ » . (1)
وسحر النبي صلى الله عليه وسلم نوع من المرض لا يقدح في عصمته وتبليغه، ولم يتسلط على عقله ، ولكنه نوع من الأذى من الجن كما أوذي من الإنس فأظهره الله على أعدائه من الجن والإنس وعافاه ونصره وعافاه من هذا المرض، والله تبارك وتعالى جعل هذا ليكون فعل الرسول تشريعاً، وزيادةً في رفعة النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم أجره.
ومما يعالج به السحر مداومة قراءة الفاتحة والمعوذات وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]. وآية الكرسي، فإنها تضعف سلطانه حتى يضمحل، وسواءً قرأ المسحور على نفسه أو قرأ عليه أحد الصالحين.
ولا يحوز أن يحل السحر بسحر مثله لأن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حُرِّم عليها، ويجوز أن يتداوى المسحور من السحر بالعقاقير المباحة من الأعشاب ونحوها.(2)
- - - - - - - - - - - - - - -
الإِلْهَامُ(3)
التَّعْرِيفُ :
1 - الإِْلْهَامُ لُغَةً : مَصْدَرُ أَلْهَمَ ، يُقَال : أَلْهَمَهُ اللَّهُ خَيْرًا أَيْ لَقَّنَهُ إِيَّاهُ ، وَالإِْلْهَامُ أَنْ يُلْقِيَ اللَّهُ فِي النَّفْسِ أَمْرًا يَبْعَثُ عَلَى الْفِعْل أَوِ التَّرْكِ ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْوَحْيِ يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ . (4)
وَعِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ : إِيقَاعُ شَيْءٍ فِي الْقَلْبِ يَطْمَئِنُّ لَهُ الصَّدْرُ يَخُصُّ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ (5) .
وَقَدْ عَدَّ الأُْصُولِيِّينَ الإِْلْهَامَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْوَحْيِ إِلَى الأَْنْبِيَاءِ ، وَفِي كِتَابِ التَّقْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ عَنِ الإِْلْهَامِ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ : أَنَّهُ إِلْقَاءُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ بِلاَ وَاسِطَةِ عِبَارَةِ الْمَلَكِ وَإِشَارَتِهِ مَقْرُونٍ بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْهُ تَعَالَى (6) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الْوَسْوَسَةُ :
2 - الْوَسْوَسَةُ : إِلْقَاءُ مَعْنًى فِي النَّفْسِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبٍ نَشَأَ مِنَ الشَّيْطَانِ لَهُ (7) .
ب - التَّحَرِّي :
3 - التَّحَرِّي فِيهِ بَذْل جَهْدٍ وَإِعْمَال فِكْرٍ ، أَمَّا الإِْلْهَامُ فَيَقَعُ بِلاَ كَسْبٍ . (8)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ :
4 - يَتَّفِقُ الأُْصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ الإِْلْهَامَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لأَِنْبِيَائِهِ حَقٌّ ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ ، كَذَلِكَ هُوَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ ، وَيَكْفُرُ مُنْكِرُ حَقِيقَتِهِ ، وَيَفْسُقُ تَارِكُ الْعَمَل بِهِ كَالْقُرْآنِ . (9)
أَمَّا إِلْهَامُ غَيْرِ الأَْنْبِيَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، لأَِنَّ مَنْ لَيْسَ مَعْصُومًا لاَ ثِقَةَ بِخَوَاطِرِهِ لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ مِنْ دَسِيسَةِ الشَّيْطَانِ فِيهَا ، وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ أَهْل الْعِلْمِ ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَلاَ عِبْرَةَ بِمَا قَالَهُ قَوْمٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الأَْحْكَامِ .
وَقِيل : هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُلْهَمِ لاَ عَلَى غَيْرِهِ ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ مِنْ نَصٍّ أَوِ اجْتِهَادٍ أَوْ خَاطِرٍ آخَرَ ، وَهَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ، فَيَجِبُ الْعَمَل بِهِ فِي حَقِّ الْمُلْهَمِ ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ إِلَيْهِ .
وَاعْتَمَدَهُ الإِْمَامُ الرَّازِيُّ فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ .(10)
وَهَل هُوَ فِي حَقِّ الأَْنْبِيَاءِ مِنَ الْوَحْيِ الظَّاهِرِ أَمِ الْوَحْيِ الْبَاطِنِ ؟ خِلاَفٌ بَيْنَ الأُْصُولِيِّينَ .(11)
__________
(1) - صحيح البخارى (6391 )
(2) - انظر موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1654) -علي بن عبد الرحمن الحذيفي -المدينة المنورة -28/12/1421
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 6 / ص 188)فما بعد
(4) - لسان العرب ، كشاف اصطلاحات الفنون : باب اللام فصل الميم
(5) - جمع الجوامع 2 / 356 ط الحلبي
(6) - التقرير والتحبير 3 / 295 ط بولاق الأولى
(7) - كشاف اصطلاحات الفنون ( لهم ) ، والعقائد النسفية وحواشيها ص 41 ط الحلبي
(8) - ابن عابدين 1 / 290 ط بولاق الأولى ، البحر الرائق 1 / 302 ط العلمية
(9) - جمع الجوامع 2 / 356
(10) - جمع الجوامع 2 / 356 ، والتقرير والتحبير 3 / 295 ،296
(11) - التقرير والتحبير 3 / 396، مسلم الثبوت 2 / 370
وفي الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي - (ج 1 / ص 754)
مطلب في أن

الإلهام
ليس بحجة على ما هو الأرجح عند الفقهاء
واختلف العلماء في حجية الإلهام بقيده السابق فالأرجح عند الفقهاء أنه ليس بحجة إذ لا ثقة بخواطر غير المعصوم ، وعند الصوفية أنه حجة ممن حفظه الله من سائر أعماله الظاهرة والباطنة ، والأولياء وإن لم يكن لهم العصمة لجواز وقوع الذنب منهم ولا ينافيه الولاية ، ومن ثم قيل للجنيد أيزني الولي ؟ فقال وكان أمر الله قدرا مقدورا ،لكن لهم الحفظ فلا تقع منهم كبيرة ولا صغيرة غالبا ، وعلى القول بحجيته فهو ينسب إلى الله تعالى بمعنى أنه الملقى له في القلب كرامة لذلك الولي وإنعاما عليه بما يكون سببا للمزيد له أو صلاحا لغيره .

وقال ابن رجب رحمه الله (1):"وقد ذكر طوائفُ مِن فقهاءِ الشافعيَّة والحنفية المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام : هل هو حجَّةٌ أم لا ؟ وذكروا فيه اختلافاً بينهم ، وذكر طائفةٌ من أصحابنا أنَّ الكشفَ ليس بطريق للأحكام ، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذمِّ المتكلِّمين في الوساوس والخطرات ، وخالفهم طائفةٌ من أصحابنا في ذلك ، وقد ذكرنا نصَّ أحمد هاهنا بالرُّجوع إلى حوازِّ القلوب ، وإنَّما ذمَّ أحمدُ وغيرُه المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامُهم في ذلك لا يستندُ إلى دليلٍ شرعيٍّ ، بل إلى مجرَّد رأي وذوقٍ ، كما كان ينكرُ الكلامَ في مسائلِ الحلال والحرام بمجرَّدِ الرَّأي من غير دليلٍ شرعيٍّ .
فأمَّا الرُّجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حوازِّ القلوب ، فقد دلَّت عليه النُّصوص النبوية ، وفتاوى الصحابة ، فكيف يُنكره الإمام أحمد بعدَ ذلك ؟ لا سيَّما وقد نصَّ على الرُّجوع إليه موافقةً لهم .
وقال الزركشي (2):" دَلَالَةُ الْإِلْهَامِ ذَكَرَهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَقَالَ : مَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ فَهُوَ إلْهَامٌ ، أَوْ الشَّرِّ فَهُوَ وَسْوَاسٌ ،وَقَالَ بِهَا بَعْضُ الشِّيعَةِ فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ اللُّبَابِ " قَالَ الْقَفَّالُ : وَلَوْ ثَبَتَتْ الْعُلُومُ بِالْإِلْهَامِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّظَرِ مَعْنًى ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ دَلَالَةٌ وَلَا عِبْرَةٌ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (53) سورة فصلت، فَلَوْ كَانَتْ الْمَعَارِفُ إلْهَامًا لَمْ يَكُنْ لِإِرَادَةِ الْأَمَارَاتِ وَجْهٌ، قَالَ : وَيُسْأَلُ الْقَائِلُ بِهَذَا عَنْ دَلِيلِهِ ، فَإِنِ احْتَجَّ بِغَيْرِ الْإِلْهَامِ فَقَدْ نَاقَضَ قَوْلَهُ ، وَإِنْ احْتَجَّ بِهِ أَبْطَلَ بِمِنِ ادَّعَى إلْهَامًا فِي إبْطَالِ الْإِلْهَامِ .
وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ فِي حُجِّيَّةِ الْإِلْهَامِ خِلَافًا ، وَفَرَّعَا عَلَيْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ هَلْ يَجُوزُ انْعِقَادُهُ لَا عَنْ دَلِيلٍ ؟ فَإِنْ قُلْنَا : لَمْ يَصِحَّ جَعْلُهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا جَوَّزْنَا الِانْعِقَادَ لَا عَنْ دَلِيلٍ ، وَإِلَّا فَلَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْقَائِلُ بِانْعِقَادِهِ لَا عَنْ دَلِيلٍ هُوَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْإِلْهَامَ دَلِيلًا، قُلْت : وَقَدْ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اعْتِمَادَ الْإِلْهَامِ ، مِنْهُمْ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِهِ " فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ ، وَابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ " فَقَالَ : إلْهَامُ خَاطِرٍ حَقٌّ مِنْ الْحَقِّ ، قَالَ : وَمِنْ عَلَامَاتِهِ أَنْ يُشْرَحَ لَهُ الصَّدْرُ وَلَا يُعَارِضَهُ مُعَارِضٌ مِنْ خَاطِرٍ آخَرَ .
__________
(1) - جامع العلوم والحكم محقق - (ج 29 / ص 16)
(2) - البحر المحيط - (ج 7 / ص 384)فما بعدها

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ " : ذَهَبَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ تَقَعُ اضْطِرَارًا لِلْعِبَادِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِشَرْطِ التَّقْوَى ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (29) سورة الأنفال، أَيْ تُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (2) سورة الطلاق ،أَيْ مَخْرَجًا عَلَى كُلِّ مَا الْتَبَسَ عَلَى النَّاسِ وَجْهُ الْحُكْمِ فِيهِ ، { .. وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (282) سورة البقرة ،فَهَذِهِ الْعُلُومُ الدِّينِيَّةُ تَحْصُلُ لِلْعِبَادِ إذَا زَكَتْ أَنْفُسُهُمْ وَسَلِمَتْ قُلُوبُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى ، بِتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ ، إذْ خَبَرُهُ صِدْقٌ ، وَوَعْدُهُ حَقٌّ ، فَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ بَعْدَ الْقَلْبِ لِحُصُولِ الْمُعَارَضَةِ فِيهِ بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ كَإِعْدَادِهِ بِإِحْضَارِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِيهِ مَعَ التَّفَطُّنِ لِوُجُوهِ لُزُومِ النَّتِيجَةِ عَقِيبَ النَّظَرِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ اضْطِرَارًا ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ فِيهِ وَأَمَّا حُصُولُ هَذِهِ الْمَعَارِفِ عَلَى سَبِيلِ إلْهَامِ الْمُبْتَدَأِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ يَكُونُ مِنْ الْعَبْدِ ، فَأَحَدُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الْعَقْلِ وَيَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ مَدَارَكَ الْعُلُومِ الْإِلْهَامُ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّفْصِيلِ ، وَهُوَ غَلَطٌ فِي الْحَصْرِ إذْ لَيْسَ هُوَ جَمِيعُ الْمَدَارِكِ ، بَلْ مُدْرَكٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا بَيِّنَاهُ وَتَأَوَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَهُمْ ، وَقَالَ : يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدُوا أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ مُخْتَرَعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ،وَقَالَ الْإِمَامُ شِهَابُ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ أَمَالِيهِ مُحْتَجًّا عَلَى الْإِلْهَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (7) سورة القصص ،وَقَوْلِهِ : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (68) سورة النحل ،فَهَذَا الْوَحْيُ مَجْرَدُ الْإِلْهَامِ ، ثُمَّ إنَّ مِنَ الْإِلْهَامِ عُلُومًا تَحْدُثُ فِي النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ الْمُطْمَئِنَّةِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : « إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِى أُمَّتِى هَذِهِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ » (1). وَقَالَ تَعَالَى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) } (2)[الشمس/7، 8].
__________
(1) - صحيح البخارى(3469 )
(2) - ثُمَّ أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِالنَّفْسِ وَخَلْقِهَا سَوِيَّةً عَلَى الفِطْرَةِ القَوِيمَةِ .
فَبَيَّنَ لِلنَّفْسِ الخَيْرَ وَالشَّرَ ، وَأَعْطَاهَا القُدْرَةَ عَلى التَّمِيِيزِ بَيْنَهُمَا ، والقُدْرَةَ عَلَى الاخْتِيَارِ .

فَأَخْبَرَ أَنَّ النُّفُوسَ مُلْهَمَةٌ ، فَالنَّفْسُ الْمُلْهَمَةُ عُلُومٌ لَدُنِّيَّةٌ هِيَ الَّتِي تَبَدَّلَتْ صِفَتُهَا وَاطْمَأَنَّتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أَمَّارَةً، قَالَ: وَهَذَا النَّوْعُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ مِنْ عَالِمِ الْمُلْكِ وَالشَّهَادَةِ ، بَلْ تَخْتَصُّ فَائِدَتُهُ بِصَاحِبِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، إذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ ثَمَرَةُ السِّرَايَةِ إلَى الْغَيْرِ عَلَى طَرِيقِ الْعُمُومِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِبَارِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ ، قَالَ : وَإِنَّمَا لَمْ تَكُنْ لَهُ السِّرَايَةُ إلَى الْغَيْرِ عَلَى طَرِيقِ الْعُمُومِ عَنْ مَفَاتِيحِ الْمُلْكِ لِكَوْنِ مَحَلِّهَا النَّفْسَ ، وَقُرْبِهَا مِنَ الْأَرْضِ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيُّ ، بِخِلَافِ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى ، وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي قَامَ [ بِنَقْلِهِ ] الْمَلَكُ الْمُلَقَّى ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ الْمُجَانِسُ لِلرُّوحِ الرُّوحَانِيِّ الْعُلْوِيِّ، قَالَ : وَبَيْنَهُمَا ثَالِثَةٌ وَهِيَ النَّفْثُ فِي الرَّوْعِ يَزْدَادُ بِهَا الْقَلْبُ عِلْمًا بِاَللَّهِ وَبِإِدْرَاكِ الْمُغَيَّبَاتِ ، وَهِيَ رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ تَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ فِيهَا نَصِيبٌ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْثًا فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَّصِلُ بِرُوحِ الْقُدْسِ ، وَتَرِدُ عَلَيْهِ كَمَوْجَةٍ تَرِدُ عَلَى الْبَحْرِ ، فَيَكْشِفُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلُ عَقِبَ وُرُودِهَا عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَتَصِيرُ الرَّحْمَةُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ وَاصِلَةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْثٍ فِي رَوْعِهِ .انْتَهَى .
وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِى مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ » (1).
قَالَ ابْنُ وُهَيْبٍ : يَعْنِي مُلْهَمُونَ وَلِهَذَا ،قَالَ صَاحِبُ نِهَايَةِ الْغَرِيبِ " : جَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهُ أَنَّهُمْ الْمُلْهَمُونَ ، وَالْمُلْهَمُ هُوَ الَّذِي يُلْقَى فِي نَفْسِهِ الشَّيْءُ فَيُخْبِرُ بِهِ حَدْسًا وَفِرَاسَةً ، وَهُوَ نَوْعٌ يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، كَأَنَّهُمْ حُدِّثُوا بِشَيْءٍ فَقَالُوهُ،وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « اسْتَفْتِ نَفْسَكَ ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ - ثَلاَثاً - الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِى النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِى الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ »(2). فَذَلِكَ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي تَتَعَارَضُ فِيهَا الشُّبَهُ وَالرِّيَبُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَاسْتِفْتَاءُ الْقَلْبِ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ أَبَاحَ الشَّيْءَ ، أَمَّا حَيْثُ حُرِّمَ فَيَجِبُ الِامْتِنَاعُ ، ثُمَّ لَا يُعَوَّلُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ ، فَرُبَّ مُوَسْوَسٍ يَنْفِي كُلَّ شَيْءٍ ، وَرُبَّ مُسَاهِلٍ نَظَرَ إلَى كُلِّ شَيْءٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَذَيْنِ الْقَلْبَيْنِ ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِ الْعَالِمِ الْمُوَفَّقِ الْمُرَاقِبِ لِدَقَائِقِ الْأَحْوَالِ ، فَهُوَ الْمِحَكُّ الَّذِي تُمْتَحَنُ بِهِ حَقَائِقُ الصُّوَرِ ، وَمَا أَعَزَّ هَذَا الْقَلْبَ ،وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ (3)" : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يُعْرَفُ فِي شَأْنِهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ مَا عَسَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ يُحَدِّثُ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ : « قَدْ كَانَ يَكُونُ فِى الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِى أُمَّتِى أَحَدٌ فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : يَعْنِي يُلْقَى فِي رَوْعِهِ "
تَنْبِيهٌ: لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَإِلَّا فَمِنْ جُمْلَةِ طُرُقِ الْوَحْيِ الْإِلْهَامُ .
__________
(1) - صحيح البخارى (3689 )
(2) - سنن الدارمى (2588) صحيح
(3) - شعب الإيمان للبيهقي(5494 )

الْهَاتِفُ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ مِثْلُ الَّذِي سَمِعُوهُ يَأْمُرُ بِغُسْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَمِيصِهِ كَذَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمُسَوَّدَةِ " فِي ذَيْلِ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا قَالَ : لَكِنَّهُ مِنْ بَابِ الْفَضَائِلِ وَكَذَلِكَ مَا اسْتَخَارَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ، كَقَوْلِ الْعَبَّاسِ فِي حَدْوِ الصَّارِخِ : اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّك (1)، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْعَةِ فَعَلَهُ تَكْرِيمًا لَهُ قُلْت : وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا كِتَابًا فِي الْهَوَاتِفِ ، وَصَدَّرَهُ بِحَدِيثِ { هَتَفَ جِبْرِيلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (2) }."(3)
وقال الشوكاني (4): " دلالة الإلهام ذكرها بعض الصوفية، وحكى الماوردي والروياني، في "باب"القضاء في حجية الإلهام خلافًا وفرعًا عليه أن الإجماع هل يجوز انعقاده لا عن دليل "فإن قلنا: يصح جعله دليلا شرعيا جوزنا الانعقاد لا عن دليل" وإلا فلا.
قال الزركشي في "البحر": وقد اختار جماعة من المتأخرين اعتماد الإلهام، منهم في "تفسيره" في أدلة القبلة، وابن الصلاح في "فتاويه" (5)، فقال: إلهام خاطر الحق من الحق. قال: ومن علامته أن ينشرح له الصدر، ولا يعارضه معارض "من خاطر آخر".
قال أبو علي التميمي في كتاب "التذكرة في أصول الدين" (6): ذهب بعض الصوفية إلى أن المعارف تقع اضطرارًا للعباد على سبيل الإلهام، بحكم وعد الله سبحانه وتعالى، بشرط التقوى، واحتج بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (7) أي: ما تفرقون به بين الحق والباطل، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (8) أي: عن كل ما يلتبس على غيره وجه الحكم فيه وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (9).
فهذه العلوم الدينية تحصل للعباد إذا زكت أنفسهم، وسلمت قلوبهم لله تعالى، بترك المنهيات وامتثال المأمورات؛ "إذ" وخبره صدق ووعده حق.
واحتج شهاب الدين السهروردي (10) على الإلهام بقوله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (11) وبقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} (12) فهذا الوحي هو مجرد الإلهام.
ثم إن من "الإلهام"علوما تحدث في النفوس الزكية المطمئنة، عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ « قَدْ كَانَ يَكُونُ فِى الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِى أُمَّتِى مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ ». قَالَ ابْنُ وَهْبٍ تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ مُلْهَمُونَ.(13) وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (14) فأخبر أن النفوس ملهمة.
__________
(1) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلاَنِ يَحْفِرَانِ الْقُبُورَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ يَحْفِرُ لأَهْلِ مَكَّةَ وَأَبُو طَلْحَةَ يَحْفِرُ لِلأَنْصَارِ وَيَلْحَدُ لَهُمْ - قَالَ - فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ الْعَبَّاسُ رَجُلَيْنِ إِلَيْهِمَا فَقَالَ اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ. فَوَجَدُوا أَبَا طَلْحَةَ وَلَم يَجِدُوا أَبَا عُبَيْدَةَ فَحَفَرَ لَهُ وَلَحَدَ. مسند أحمد (2713) وهو صحيح لغيره
(2) - لم أجده
(3) - انظر حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 5 / ص 380)
(4) - إرشاد الفحول - (ج 2 / ص 199)
(5) - واسمها "فتاوى ابن الصلاح، لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشافعي، وهي من محاسنه، جمعها بعض طلبته، وهو الكمال إسحاق المعزي، وهي في مجلد كثير الفوائد نسخة منها مرتبة على الأبواب ونسخة غير مرتبة ا. هـ كشف الظنون 2/ 1218.
(6) - التذكرة في أصول الدين - للشيخ أبى طاهرأسماعيل بن مكى بنإسماعيل بن عوف المالكى الاسكندرانى المتوفى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.حاجي خليفة [ 393 ]
(7) - جزء من الآية 29 من سورة الأنفال
(8) - جزء من الآية 22 من سورة الطلاق.
(9) - جزء من الآية 282 من سورة البقرة.
(10) - هو عمر بن محمد بن عبد الله التيمي القرشي، البكري السهروردي، الشيخ الإمام العالم القدوة، العارف، المحدث، شيخ الإسلام، شهاب الدين، ولد سنة ثلاثين وخمسمائة هـ وتوفي سنة اثنتنين وثلاثين وستمائة هي، صنف في التصوف كتابا فيه أحوال القوم ا. هـ سير أعلام النبلاء 22/ 375 شذرات الذهب 5/ 153.
(11) - جزء من الآية 7 من سورة القصص.
(12) - جزء من الآية 68 من سورة النحل.
(13) - صحيح مسلم (6357 )
المحدث : الصادق الظن الملهم الذى يلقَى فى نفسه الشىء فيخبر به فراسة
(14) - الآيتان 7-8 من سورة الشمس.

قلت: وهذا الحديث الذي ذكره هو ثابت في الصحيح بمعناه، قال ابن وهب (1) في تفسير الحديث: أي: ملهمون، ولهذا قال صاحب "نهاية الغريب" (2): جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون، والملهم: هو الذي يلقى في نفسه الشيء، فيخبر به حدسا وفراسة، وهو نوع يخص به الله من يشاء من عباده، كأنهم حدثوا بشيء فقالوه.
وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "استفت قلبك، وإن أفتاك الناس" (3) فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة.
قال الغزالي: واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتي، أما حيث حرم فيجب الامتناع، ثم لا نقول على كل قلب، فرب قلب موسوس ينفي كل شيء، ورب قلب متساهل يطير إلى كل شيء، فلا اعتبار بهذين القلبين، وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق لدقائق الأحوال، فهو المحك الذي يمتحن به حقائق الأمور، وما أعز هذا القلب.
قال البيهقي في "شعب الإيمان" (4): هذا محمول على أنه يعرف في منامه من عالم الغيب ما عسى يحتاج إليه، أو يحدث على لسان ملك بشيء من ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « قد كان يكون في الأمم محدثون ، فإن يكن في أمتي منهم أحد كان عمر بن الخطاب منهم »(5).
وقد روي عن إبراهيم بن سعد (6) أنه قال في هذا الحديث يعني: يلقي في روعه.
قال القفال: لو تثبت العلوم بالإلهام لم "يكن" للنظر معنى، ونسأل القائل بهذا عن دليله، فإن احتج بغير الإلهام "فقد ناقض قوله. انتهى.
ويجاب عن هذا الكلام: بأن مدعي الإلهام لا يحصر الأدلة في الإلهام، حتى يكون استدلاله بغير الإلهام مناقضا لقوله، نعم إن استدل على إثبات الإلهام بالإلهام، كان في ذلك مصادرة على المطلوب؛ لأنه استدل على محل النزاع بمحل النزاع.
ثم على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدم من الأدلة، من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول الإلهام له صحيحة، وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة.
6- في هذه الأمة مُلهمونَ(7)
إن بعض الناس يطلعهم الله عز وجل على شيء من الغيب عن طريق الرؤيا الصالحة أو الإلهام والتحديث، كماروي عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ ». " رواه مسلم(8)، وهو عند البخاري عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: « الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ » .(9)
__________
(1) - هو عبد الله بن وهب بن مسلم، الفقه، المصري، أبو محمد ولد سنة خمس وعشرين ومائة هـ، وتوفي سنة سبع وتسعين ومائة هـ، كان صاحبًا للإمام مالك، جمع بين الفقه والحديث والعبادة، من آثاره: "الجامع، الموطأ" وغيرها ا. هـ سير أعلام النبلاء 14/ 400 الأعلام 4/ 144 شذرات الذهب 2/ 252.
(2) - واسمه "النهاية في غريب الحديث" للإمام مبارك بن أبي الكرم محمد المعروف بابن الأثير، أخذه من الغريبين للهروي وغريب الحديث لأبي موسى الأصبهاني ورتبه على حروف المعجم بالتزام الأول والثاني من كل كلمة واتباعهما بالثالث. وهو مطبوع، انظر: كشف الظنون 2/ 1989.
(3) - مر تخريجه
(4) - الجامع المصنف في شعب الإيمان". للإمام أحمد بن الحسين البيهقي، كتاب كبير من الكتب المشهور، وله مختصرات منها مختصر شمس الدين القونوي ا. هـ كشف الظنون "1/ 574.
(5) - مر تخريجه
(6) - هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، الإمام الكبير، الحافظ، أبو إسحاق القرشي، الزهري، العوفي، المدني، ولد سنة ثمان ومائة هـ، سمع من الزهري وهو حدث واختلف في سنة وفاته فقيل سنة أربع وثمانين ومائة هـ وقيل خمس وقيل سبع وغير ذلك ا. هـ سير أعلام النبلاء 8/ 304 تهذيب التهذيب 1/ 121 الأعلام 1/ 40.
(7) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2289) -رقم الفتوى 5416 في هذه الأمة ملهمون ، والمدار على الصلاح والاستقامة.
تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420
(8) - صحيح مسلم (6053 )
(9) - صحيح البخارى(6989 )
وفي المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 384)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ يَحْتَمِلُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُرِيدَ بِهِ الصَّادِقَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمُبَشِّرَةَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ لِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ الْإِنْبَاءِ بِمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ وَيَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ قَالَ : جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلرُّؤْيَا مَلَكًا وُكِّلَ بِهَا يَرَى الرَّائِي مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَكُونُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ قِيلَ مَعْنَى هَذِهِ التَّجْزِئَةِ أَنَّ مُدَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كَانَتْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ كَانَتْ نُبُوَّتُهُ بِالرُّؤْيَا وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَقِيلَ إنَّهَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ . وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ : الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَمِثْلُهُ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا مِنْ الرُّوَاةِ وَحَدِيثُ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَثْبَتُ مِنْ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجْتَمِعَ بَيْنَهُمَا فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا عَلَى الرُّؤْيَا الْجَلِيَّةِ وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا عَلَى الرُّؤْيَا الْخَفِيَّةِ وَقَالَ : مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ رُؤْيَا الْفَاسِقِ وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ فَخَصَّ بِذَلِكَ رُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَيَحْتَمِلُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْجُزْءَ مِنْ السِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ هِيَ الرُّؤْيَا الْمُبَشِّرَةُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَطَاءٍ بَعْدَ هَذَا لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِ هَذَا الصِّنْفِ مِنْ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْذَارِ وَالزَّجْرِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَنْوَاعِ يَكُونُ جُزْءًا مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ لِقِلَّةِ تَكَرُّرِهِ وَلِمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ تَحْزِينًا وَتَخْوِيفًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .

وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا ، فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ » (1).
و

الرؤيا
الصالحة بشرى خير للمسلم، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ .. »(2).
وأما الإلهام والتحديث فهو واقع في الأمم السابقة ويقع أيضا في هذه الأمة، وقد اختلف في معناه على أقوال فقيل: هو الإصابة بغير نبوة، وقيل المحدَّث هو الملهم بالصواب الذي يُلْقَى على فيه. وقيل غير ذلك، والأصل في إثبات الإلهام والتحديث ما ورد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِى أُمَّتِى هَذِهِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ».(3)
وربما أطلق العلماء على هذا النوع من العلم بالمغيبات الكشف، ومدار الأمر على استقامة الحال وسلامة المعتقَد، فإنَّ جنس هذا العلم يحصل للبرِّ والفاجرِ، والمسلم والكافر، والمحدَّث والكاهن.
وكما قال السلف: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء، فلا تغتروا بعمله، حتى يعرض على الكتاب والسنة.
ووجود الكرامة والولاية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمر مقطوع به، لكن من الخطأ البين أن يعطى أحد من الناس شيئاً من التقديس والتعظيم لأجل صلاحه واستقامته .
وعليه فقد يلقي الشيطان بعض الأمور الغيبية على لسان شخص ما، ليفتتن به الناس، لا سيما إذا كانوا جهالا مولعين بالخرافات ، يثبتون الولاية والكرامة بأوهى سبب. فالحذر الحذر من مكر الشيطان وحيله.
- - - - - - - - - - - - - - - -
الرُؤْيَا(4)
التَّعْرِيفُ :
1 - الرُّؤْيَا عَلَى وَزْنِ فُعْلَى مَا يَرَاهُ الإِْنْسَانُ فِي مَنَامِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لأَِلِفِ التَّأْنِيثِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ ، وَتُجْمَعُ عَلَى رُؤًى .
وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ بِالْهَاءِ فَهِيَ رُؤْيَةُ الْعَيْنِ وَمُعَايَنَتُهَا لِلشَّيْءِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ ، وَتَأْتِي أَيْضًا بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ وَاللِّسَانِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى النَّظَرِ بِالْعَيْنِ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ (5) .
وَالرُّؤْيَا فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ تَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الإِْلْهَامُ :
2 - الإِْلْهَامُ فِي اللُّغَةِ : تَلْقِينُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَيْرَ لِعَبْدِهِ ، أَوْ إِلْقَاؤُهُ فِي رُوعِهِ (6) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ : إِيقَاعُ شَيْءٍ يَطْمَئِنُّ لَهُ الصَّدْرُ يَخُصُّ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ (7) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( إِلْهَامٌ ) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرُّؤْيَا وَالإِْلْهَامِ أَنَّ الإِْلْهَامَ يَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ ، بِخِلاَفِ الرُّؤْيَا فَإِنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ فِي النَّوْمِ .
ب - الْحُلُمُ :
3 - الْحُلُمُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ اللاَّمِ وَقَدْ تُسَكَّنُ تَخْفِيفًا هُوَ الرُّؤْيَا ، أَوْ هُوَ اسْمٌ لِلاِحْتِلاَمِ وَهُوَ الْجِمَاعُ فِي النَّوْمِ (8) . وَالْحُلُمُ وَالرُّؤْيَا وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَحْدُثُ فِي النَّوْمِ إِلاَّ أَنَّ الرُّؤْيَا اسْمٌ لِلْمَحْبُوبِ فَلِذَلِكَ تُضَافُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَالْحُلُمُ اسْمٌ لِلْمَكْرُوهِ فَيُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ ولما وردَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا ، فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ » (9)، وَقَال عِيسَى بْنُ دِينَارٍ : الرُّؤْيَا رُؤْيَةُ مَا يُتَأَوَّل عَلَى الْخَيْرِ وَالأَْمْرِ الَّذِي يُسَرُّ بِهِ ، وَالْحُلُمُ هُوَ الأَْمْرُ الْفَظِيعُ الْمَجْهُول يُرِيهِ الشَّيْطَانُ لِلْمُؤْمِنِ لِيُحْزِنَهُ وَلِيُكَدِّرَ عَيْشَهُ (10) .ج - الْخَاطِرُ :
__________
(1) - صحيح البخارى (3292 ) ومسلم (6039 )
(2) - صحيح مسلم (1102 ) = قمن : خليق وجدير
(3) - صحيح البخارى (3469 )
(4) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 22 / ص 7-15)
(5) - المصباح، والقاموس مادة : ( روى ) ، الصحاح واللسان ، مادة : ( رأى ) ، والكليات 2 / 384 ط - دمشق .
(6) - القاموس ، واللسان ، والصحاح، مادة : ( لهم ) .
(7) - كشاف اصطلاحات الفنون .
(8) - القاموس المحيط ، مادة : ( حلم ) ، صحيح مسلم بشرح النووي 15 / 16 ط - المصرية، تفسير القرطبي 9 / 124 ط - المصرية .
(9) - صحيح البخارى (3292) ومسلم (6037 )
(10) - المنتقى 7 / 277 ط - العربي .

4 - الْخَاطِرُ هُوَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرَاتِبِ حَدِيثِ النَّفْسِ ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ مَا يَخْطِرُ فِي الْقَلْبِ مِنْ تَدْبِيرِ أَمْرٍ ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ مَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْخِطَابِ أَوِ الْوَارِدُ الَّذِي لاَ عَمَل لِلْعَبْدِ فِيهِ ، وَالْخَاطِرُ غَالِبًا يَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ بِخِلاَفِ الرُّؤْيَا (1) .
د - الْوَحْيُ :
5 - مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَال ابْنُ فَارِسٍ الإِْشَارَةُ وَالرِّسَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَكُل مَا أَلْقَيْتَهُ إِلَى غَيْرِك لِيَعْلَمَهُ ، وَهُوَ مَصْدَرُ وَحَى إِلَيْهِ يَحِي مِنْ بَابِ وَعَدَ ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ بِالأَْلِفِ مِثْلُهُ ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَال الْوَحْيِ فِيمَا يُلْقَى إِلَى الأَْنْبِيَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى (2) . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّؤْيَا وَاضِحٌ ، وَرُؤْيَا الأَْنْبِيَاءِ وَحْيٌ ، وَفِي الْحَدِيثِ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِى النَّوْمِ ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ(3) .
الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَمَنْزِلَتُهَا(4)
__________
(1) - المصباح مادة : ( مطر ) ، والمنثور للزركشي 2 / 33 ط - الأولى، والتعريفات للجرجاني / 129 ط - العربي، والكليات 2 / 309 ط - دمشق .
(2) - المصباح مادة : ( وحي ) .
(3) - البخاري ( 6982) ومسلم (422)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 287)
قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء : إِنَّمَا اُبْتُدِئَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأهُ الْمَلَك وَيَأْتِيه صَرِيح النُّبُوَّة بَغْتَة فَلَا يَحْتَمِلهَا قُوَى الْبَشَرِيَّة فَبُدِئَ بِأَوَّلِ خِصَال النُّبُوَّة وَتَبَاشِير الْكَرَامَة مِنْ صِدْق الرُّؤْيَا وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر مِنْ رُؤْيَة الضَّوْء وَسَمَاع الصَّوْت وَسَلَام الْحَجَر وَالشَّجَر عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ .
(4) - الرؤيا فهي على ثلاثة أضرب : الرؤيا الصالحة وهي ما يراه الشخص الصالح في منامه من المبشرات ، وهي من إكرام الله لعباده الصالحين ، وحديث النفس فقد ينام الإنسان وهو مهتم بشيء ما فيرى حلما في النوم في شأنه، وتخويف من الشيطان للعباد ، ففي حديث البخاري : لم يبق من النبوة إلا المبشرات .قالوا : وما المبشرات؟ قال : الرؤيا الصالحة . وفي رواية مسلم : لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة .
وروى البخاري عن أبي الطفيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نبوة بعدي إلا المبشرات، قال: قيل وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الحسنة، أو قال: الرؤيا الصالحة .
وفي الحديث : الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة . رواه مسلم .
وهوعند البخاري بلفظ : الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .
وفي الصحيحين أيضا : الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان .
وفي الحديث : الرؤيا ثلاث: فبشرى من الله ، وحديث النفس ، وتخويف من الشيطان ، فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقص إن شاء ، وإن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد ، وليقم يصلي . رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وصححه الألباني.
وروى ابن ماجه عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الرؤيا ثلاثة: منها تهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم ، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته ، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة . وصححه الألباني أيضا.
قال المناوي في فيض القدير : الرؤيا الصالحة الحسنة أو الصحيحة المطابقة للواقع . وقال أيضا في شرح حديث عوف بن مالك السابق ( الرؤيا ثلاثة منها تهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم ) ولا حقيقة لها في نفس الأمر ( ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه ) قال القرطبي : ويدخل فيه ما يلازمه في يقظته من الأعمال والعلوم والأقوال وما يقوله الأطباء من أن الرؤيا من خلط غالب على الرائي ( ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) قال الحكيم : أصل الرؤيا حق جاء من عند الحق المبين يخبرنا عن أنباء الغيب وهي بشارة أو نذارة أو معاينة وكانت عامة أمور الأولين بها ثم ضعفت في هذه الأمة لعظيم ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي ولما فيها من التصديق وأهل الإلهام واليقين فاستغنوا بها عن الرؤيا والمؤمن محسود ولع به الشيطان لشدة عداوته فهو يكبده ويحزنه من كل وجه ويلبس عليه فإذا رأى رؤيا صادقة خلطها ليفسد عليه بشراه أو نذارته أو معاينته ونفسه دون الشيطان فيلبس عليه بما اهتم به في يقظته فهذان الصنفان ليسا من أنباء الغيب والصنف الثالث هي الرؤيا الصادقة التي هي من أجزاء النبوة . اهـ
واعلم أن الرؤيا الصالحة تعتبر وحيا من الله وجزءا من النبوة باعتبار ما فيها من الأخباروالبشائر ولكنها لا تعتبر من ناحية التشريع والأحكام فلا يبنى عليها حكم شرعي ولا يثبت بها حق ، فقد حكى الإمام النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض في الاحتجاج بما يراه النائم في منامه قوله: أنه لا يبطل بسببه -أي المنام- سنة ثبتت، ولا يثبت به سنة لم تثبت، وهذا بإجماع العلماء .
وقال النووي : وكذا قال غيره من أصحابنا وغيرهم، فنقلوا الاتفاق على أنه لا يغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع. انتهى
وقال النووي أيضا في المجموع: لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان ولم ير الناس الهلال، فرأى إنسان النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: الليلة أول رمضان لم يصح الصوم بهذا المنام، لا لصاحب المنام ولا لغيره. انتهى.
وأما الإلهام فقد اختلف في معناه على أقوال فقيل: هو الإصابة بغير نبوة، وقيل المحدث هو الملهم بالصواب الذي يلقى على فيه. وقيل غير ذلك، والأصل في إثبات الإلهام والتحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب . متفق عليه.
وربما أطلق العلماء على هذا النوع من العلم بالمغيبات الكشف، ومدار الأمر على استقامة الحال وسلامة المعتقد، فإن جنس هذا العلم يحصل للبر والفاجر، والمسلم والكافر، والمحدث والكاهن فقد يلقي الشيطان بعض الأمور الغيبية على لسان شخص ما، ليفتتن به الناس، لا سيما إذا كانوا جهالا. وكما قال السلف : إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء، فلا تغتروا بعمله، حتى يعرض على الكتاب والسنة. فيجب على المسلم أن يعرف الفرق بين الإلهامات الإلهية والإيحاءات الشيطانية حتى لا يقع في شرك المبطلين. فالإلهامات الإلهية هي ما يحصل لمن كان مستقيم الظاهر والباطن على شرع الله تعالى في الاعتقاد والقول والعمل. وأما الإيحاءات الشيطانية فهي ما يحصل لأولياء الشيطان من الزنادقة والمبتدعة المنحرفين الضالين ، وأن المدرك الوحيد لأخذ الأحكام الشرعية هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بفهم السلف الصالح لهذه الأمة وأما غير ذلك من المكاشفات والإلهامات فليس مدركا للأحكام البتة، فلا ينبني عليه حكم شرعي إطلاقا .والله أعلم .فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 1952) -رقم الفتوى 72203 الرؤيا والوحي والإلهام

:
6 - الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ كَمَا ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ .. » (1).
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْل مِصْرَ سَأَل أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَوْله تَعَالَى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (64) سورة يونس ، قَال : مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا ، فَقَال : مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ غَيْرُك مُنْذُ أُنْزِلَتْ ، هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ (2) .
وَ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ » (3). وَرُوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ .(4)
وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ غَالِبُ رُؤَى الصَّالِحِينَ كَمَا قَال الْمُهَلَّبُ ، وَإِلاَّ فَالصَّالِحُ قَدْ يَرَى الأَْضْغَاثَ وَلَكِنَّهُ نَادِرٌ لِقِلَّةِ تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْهُمْ ، بِخِلاَفِ عَكْسِهِمْ ، فَإِنَّ الصِّدْقَ فِيهَا نَادِرٌ لِغَلَبَةِ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ ، فَالنَّاسُ عَلَى هَذَا ثَلاَثُ دَرَجَاتٍ .
- الأَْنْبِيَاءُ وَرُؤَاهُمْ كُلُّهَا صِدْقٌ ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ .
- وَالصَّالِحُونَ وَالأَْغْلَبُ عَلَى رُؤَاهُمُ الصِّدْقُ ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ .
- وَمَنْ عَدَاهُمْ وَقَدْ يَقَعُ فِي رُؤَاهُمُ الصِّدْقُ وَالأَْضْغَاثُ .
وَقَال الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْعَرَبِيُّ : إِنَّ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ هِيَ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ لِصَلاَحِهَا وَاسْتِقَامَتِهَا ، بِخِلاَفِ رُؤْيَا الْفَاسِقِ فَإِنَّهَا لاَ تُعَدُّ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ ، وَقِيل تُعَدُّ مِنْ أَقْصَى الأَْجْزَاءِ ، وَأَمَّا رُؤْيَا الْكَافِرِ فَلاَ تُعَدُّ أَصْلاً . وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمَ الصَّادِقَ الصَّالِحَ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ حَالُهُ حَال الأَْنْبِيَاءِ فَأُكْرِمَ بِنَوْعٍ مِمَّا أُكْرِمَ بِهِ الأَْنْبِيَاءُ وَهُوَ الاِطِّلاَعُ عَلَى الْغَيْبِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ وَالْمُخَلِّطُ فَلاَ ، وَلَوْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ أَحْيَانًا فَذَاكَ كَمَا قَدْ يَصْدُقُ الْكَذُوبُ ، وَلَيْسَ كُل مَنْ حَدَّثَ عَنْ غَيْبٍ يَكُونُ خَبَرُهُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ كَالْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ (5) .
هَذَا ، وَقَدِ اسْتُشْكِل كَوْنُ الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ مَعَ أَنَّ النُّبُوَّةَ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فَقِيل فِي الْجَوَابِ : إِنْ وَقَعَتِ الرُّؤْيَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ حَقِيقَةً ، وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ عَلَى سَبِيل الْمَجَازِ . وَقَال الْخَطَّابِيُّ : قِيل مَعْنَاهُ : أَنَّ الرُّؤْيَا تَجِيءُ عَلَى مُوَافَقَةِ النُّبُوَّةِ لاَ أَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنَ النُّبُوَّةِ ، وَقِيل الْمَعْنَى : إِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ عِلْمِ النُّبُوَّةِ ؛ لأَِنَّ النُّبُوَّةَ وَإِنِ انْقَطَعَتْ فَعِلْمُهَا بَاقٍ (6) .
رُؤْيَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْمَنَامِ :
7 - اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ رُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْمَنَامِ فَقِيل : لاَ تَقَعُ ، لأَِنَّ الْمَرْئِيَّ فِيهِ خَيَالٌ وَمِثَالٌ ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَدِيمِ مُحَالٌ ، وَقِيل : تَقَعُ لأَِنَّهُ لاَ اسْتِحَالَةَ لِذَلِكَ فِي الْمَنَامِ (7) .
رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ :
__________
(1) - صحيح مسلم (1102) = قمن : خليق وجدير
(2) - سنن الترمذى (2442)حسن لغيره
(3) - صحيح البخارى (6989 ) ومسلم (6049 )
(4) - فتح الباري 12 / 362 - 363 ط الرياض، صحيح مسلم بشرح النووي 15 / 20 - 21 ط المصرية، تحفة الأحوذي 6 / 549 ط . الفجالة، وتفسير القرطبي 9 / 122 - 123 ط المصرية .
(5) - فتح الباري ( 12 / 362 - 391 ط - الرياض، وصحيح مسلم بشرح النووي 15 / 20 - 21 ط المصرية ، وتفسير القرطبي 9 / 124 ط الأولى .
(6) - فتح الباري 12 / 363 ، 364
(7) - الفروق 4 / 446، وتهذيب الفروق 4 / 271، وفتح الباري 12 / 387 .

8 - ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ بَابًا بِعِنْوَانِ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ مِنْهَا : مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال : سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« مَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَسَيَرَانِى فِى الْيَقَظَةِ ، وَلاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِى » (1)..
وَهَذِهِ الأَْحَادِيثُ تَدُل عَلَى جَوَازِ رُؤْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ ، وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَقْوَالاً مُخْتَلِفَةً فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ .
وَالصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي كُل حَالَةٍ لَيْسَتْ بَاطِلَةً وَلاَ أَضْغَاثًا ، بَل هِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا ، وَلَوْ رُئِيَ عَلَى غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصَوُّرُ تِلْكَ الصُّورَةِ لَيْسَ مِنَ الشَّيْطَانِ بَل هُوَ مِنْ قِبَل اللَّهِ ، وَقَال : وَهَذَا قَوْل الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ : « مَنْ رَآنِى فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ »(2) . أَيْ رَأَى الْحَقَّ الَّذِي قَصَدَ إِعْلاَمَ الرَّائِي بِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا وَإِلاَّ سَعَى فِي تَأْوِيلِهَا وَلاَ يُهْمِل أَمْرَهَا ، لأَِنَّهَا إِمَّا بُشْرَى بِخَيْرٍ ، أَوْ إِنْذَارٌ مِنْ شَرٍّ إِمَّا لِيُخِيفَ الرَّائِيَ ، إِمَّا لِيَنْزَجِرَ عَنْهُ ، وَإِمَّا لِيُنَبِّهَ عَلَى حُكْمٍ يَقَعُ لَهُ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ (3) .
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا تَصِحُّ لأَِحَدِ رَجُلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : صَحَابِيٌّ رَآهُ فَعَلِمَ صِفَتَهُ فَانْطَبَعَ فِي نَفْسِهِ مِثَالُهُ فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ الْمَعْصُومَ مِنَ الشَّيْطَانِ ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ اللَّبْسُ وَالشَّكُّ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَثَانِيهِمَا : رَجُلٌ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ سَمَاعُ صِفَاتِهِ الْمَنْقُولَةِ فِي الْكُتُبِ حَتَّى انْطَبَعَتْ فِي نَفْسِهِ صِفَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَمِثَالُهُ الْمَعْصُومُ ، كَمَا حَصَل ذَلِكَ لِمَنْ رَآهُ ، فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا يَجْزِمُ بِهِ مَنْ رَآهُ ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ اللَّبْسُ وَالشَّكُّ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ فَلاَ يَحِل لَهُ الْجَزْمُ بَل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمِثَالِهِ ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مِنْ تَخْيِيل الشَّيْطَانِ ، وَلاَ يُفِيدُ قَوْل الْمَرْئِيِّ لِمَنْ رَآهُ أَنَا رَسُول اللَّهِ ، وَلاَ قَوْل مَنْ يَحْضُرُ مَعَهُ هَذَا رَسُول اللَّهِ ؛ لأَِنَّ الشَّيْطَانَ يَكْذِبُ لِنَفْسِهِ وَيَكْذِبُ لِغَيْرِهِ ، فَلاَ يَحْصُل الْجَزْمُ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ مِثَالِهِ الْمَخْصُوصِ لاَ يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي التَّعْبِيرِ أَنَّ الرَّائِيَ يَرَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيْخًا وَشَابًّا وَأَسْوَدَ ، وَذَاهِبَ الْعَيْنَيْنِ ، وَذَاهِبَ الْيَدَيْنِ ، وَعَلَى أَنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ الْمُثُل الَّتِي لَيْسَتْ مِثَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ صِفَاتُ الرَّائِينَ وَأَحْوَالُهُمْ تَظْهَرُ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ كَالْمِرْآةِ لَهُمْ (4) .
تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِهِ فِي الرُّؤْيَا (5)
__________
(1) - صحيح البخارى (6993 ) ومسلم (6057 )
(2) - صحيح البخارى(6996 ) ومسلم (6058 )
(3) - فتح الباري ( 12 / 384 - 385 ط الرياض )
(4) - الفروق ( 4 / 245 ط الأولى ) و تهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 4 / ص 462) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 390- 392)
(5) - وفي البحر المحيط - (ج 7 / ص 389)
رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ ، عَلَى وَجْهٍ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ ، يَكُونُ حُجَّةً وَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ ، وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنَامَ لَا يُثْبِتُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَلَا بَيِّنَةً ، وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا ، وَالشَّيْطَانُ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِ ، وَلَكِنْ النَّائِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحَمُّلِ وَالرِّوَايَةِ لِعَدَمِ تَحَفُّظِهِ وَأَمَّا الْمَنَامُ الَّذِي رُوِيَ فِي الْأَذَانِ ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَمَلِ بِهِ ، فَلَيْسَ الْحُجَّةُ فِيهِ الْمَنَامَ ، بَلْ الْحُجَّةُ فِيهِ أَمْرُهُ بِذَلِكَ فِي مَدَارِكِ الْعِلْمِ .
وفي إرشاد الفحول - (ج 2 / ص 202)
"الفائدة" السابعة: في رؤيا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذكر جماعة من أهل العلم منهم الأستاذ أبو إسحاق: أنه يكون حجة ويلزم العمل به.
وقيل: لا يكون حجة، لا يثبت به حكم شرعي، وإن كانت رؤية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، والشيطان لا يتمثل به لكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية، لعدم حفظه.
وقيل: إنه يعمل به، ما لم يخالف شرعا ثابتا.
ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كمله الله عز وجل، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ( الآية 3 من سورة المائدة)، ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا قال فيها بقول، أو فعل فيها فعلا يكون دليلا وحجة، بل قد قبضه الله إليه بعد أن كمل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه، ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة في أمر دينها، وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع، وتبيينها بالموت، وإن كان رسولا حيًّا وميتًا، وبهذا تعلم أن لو قدرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله حجة عليه، ولا على غيره من الأمة.

:
9 - مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ يَقُول قَوْلاً أَوْ يَفْعَل فِعْلاً فَهَل يَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا أَوْ فِعْلُهُ حُجَّةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ أَوْ لاَ ؟ .
ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ :
الأَْوَّل : أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً وَيَلْزَمُ الْعَمَل بِهِ ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ مِنْهَا الأُْسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ حَقٌّ وَالشَّيْطَانُ لاَ يَتَمَثَّل بِهِ .
الثَّانِيَ : أَنَّهُ لاَ يَكُونُ حُجَّةً وَلاَ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا حَقٍّ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّل بِهِ لَكِنِ النَّائِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّحَمُّل لِلرِّوَايَةِ لِعَدَمِ حِفْظِهِ .
الثَّالِثَ : أَنَّهُ يُعْمَل بِذَلِكَ مَا لَمْ يُخَالِفْ شَرْعًا ثَابِتًا .
قَال الشَّوْكَانِيُّ : وَلاَ يَخْفَاكَ أَنَّ الشَّرْعَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَمَّلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل وَقَال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (سورة المائدة 3) .
وَلَمْ يَأْتِنَا دَلِيلٌ يَدُل عَلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي النَّوْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَال فِيهَا بِقَوْلٍ ، أَوْ فَعَل فِيهَا فِعْلاً يَكُونُ دَلِيلاً وَحُجَّةً ، بَل قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَمَّل لِهَذِهِ الأُْمَّةِ مَا شَرَعَهُ لَهَا عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ حَاجَةٌ لِلأُْمَّةِ فِي أَمْرِ دِينِهَا ، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْبَعْثَةُ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ وَتَبْيِينِهَا بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ رَسُولاً حَيًّا وَمَيِّتًا ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا ضَبْطَ النَّائِمِ لَمْ يَكُنْ مَا رَآهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ وَلاَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأُْمَّةِ (1).
وَذَكَرَ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ أَيْضًا أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الرُّؤْيَا التَّعْوِيل عَلَيْهَا فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لاِحْتِمَال الْخَطَأِ فِي التَّحَمُّل وَعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْيَقَظَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالنَّوْمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ ، قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ لِرَجُلٍ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ يَقُول لَهُ إِنَّ فِي الْمَحَل الْفُلاَنِيِّ رِكَازًا اذْهَبْ فَخُذْهُ وَلاَ خُمُسَ عَلَيْكَ فَذَهَبَ وَوَجَدَهُ وَاسْتَفْتَى ذَلِكَ الرَّجُل الْعُلَمَاءَ ، فَقَال لَهُ الْعِزُّ : أَخْرِجِ الْخُمُسَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ ، وَقُصَارَى رُؤْيَتِكَ الآْحَادُ ، فَلِذَلِكَ لَمَّا اضْطَرَبَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ بِالتَّحْرِيمِ وَعَدَمِهِ فِيمَنْ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَنَامِ فَقَال لَهُ إِنَّ امْرَأَتَكَ طَالِقٌ ثَلاَثًا وَهُوَ يَجْزِمُ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا لِتَعَارُضِ خَبَرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ تَحْرِيمِهَا فِي النَّوْمِ ، وَإِخْبَارِهِ فِي الْيَقَظَةِ فِي شَرِيعَتِهِ الْمُعَظَّمَةِ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ ، اسْتَظْهَرَ الأَْصْل أَنَّ إِخْبَارَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْيَقَظَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْخَبَرِ فِي النَّوْمِ لِتَطَرُّقِ الاِحْتِمَال لِلرَّائِي بِالْغَلَطِ فِي ضَبْطِهِ الْمِثَال قَال : فَإِذَا عَرَضْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا احْتِمَال طُرُوِّ الطَّلاَقِ مَعَ الْجَهْل بِهِ وَاحْتِمَال طُرُوِّ الْغَلَطِ فِي الْمِثَال فِي النَّوْمِ وَجَدْنَا الْغَلَطَ فِي الْمِثَال أَيْسَرَ وَأَرْجَحَ ، أَمَّا ضَبْطُ عَدَمِ الطَّلاَقِ فَلاَ يَخْتَل إِلاَّ عَلَى النَّادِرِ مِنَ النَّاسِ ، وَالْعَمَل بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَال عَنْ حَلاَلٍ إِنَّهُ حَرَامٌ ، أَوْ عَنْ حَرَامٍ إِنَّهُ حَلاَلٌ ، أَوْ عَنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ قَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى مَا رَأَى فِي النَّوْمِ ، كَمَا لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ مِنْ أَخْبَارِ الْيَقَظَةِ صَحِيحَانِ فَإِنَّا نُقَدِّمُ الأَْرْجَحَ بِالسَّنَدِ ، أَوْ بِاللَّفْظِ ، أَوْ بِفَصَاحَتِهِ ، أَوْ قِلَّةِ الاِحْتِمَال فِي الْمَجَازِ أَوْ غَيْرِهِ ، فَكَذَلِكَ خَبَرُ الْيَقَظَةِ وَخَبَرُ النَّوْمِ يَخْرُجَانِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ(2).
تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا :
__________
(1) - إرشاد الفحول / 249 ط . الحلبي .
(2) - تهذيب الفروق ( 4 / 270 - 271 ط - الأولى ) و أنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 394- 396)

10 - التَّعْبِيرُ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ خَاصٌّ بِتَفْسِيرِ الرُّؤْيَا ، وَمَعْنَاهُ الْعُبُورُ مِنْ ظَاهِرِهَا إِلَى بَاطِنِهَا ، وَقِيل : هُوَ النَّظَرُ فِي الشَّيْءِ ، فَيُعْتَبَرُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ حَتَّى يَحْصُل عَلَى فَهْمِهِ حَكَاهُ الأَْزْهَرِيُّ ، وَبِالأَْوَّل جَزَمَ الرَّاغِبُ ، وَقَال أَصْلُهُ مِنَ الْعَبْرِ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ ، وَهُوَ التَّجَاوُزُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ، وَخَصُّوا تَجَاوُزَ الْمَاءِ بِسِبَاحَةٍ أَوْ فِي سَفِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا بِلَفْظِ الْعُبُورِ بِضَمَّتَيْنِ ، وَعَبَرَ الْقَوْمُ إِذَا مَاتُوا كَأَنَّهُمْ جَازُوا الْقَنْطَرَةَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الآْخِرَةِ ، قَال : وَالاِعْتِبَارُ وَالْعِبْرَةُ الْحَالَةُ الَّتِي يُتَوَصَّل بِهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدِ إِلَى مَا لَيْسَ بِمُشَاهَدٍ ، وَيُقَال : عَبَرْتُ الرُّؤْيَا بِالتَّخْفِيفِ إِذَا فَسَّرْتَهَا ، وَعَبَّرْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ (1) .
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } (سورة يوسف / 43) أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ عُبُورِ النَّهْرِ ، فَعَابِرُ الرُّؤْيَا يَعْبُرُ بِمَا يَؤُول إِلَيْهِ أَمْرُهَا ، وَيَنْتَقِل بِهَا كَمَا فِي رُوحِ الْمَعَانِي مِنَ الصُّورَةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْمَنَامِ إِلَى مَا هِيَ صُورَةٌ وَمِثَالٌ لَهَا مِنَ الأُْمُورِ الآْفَاقِيَّةِ وَالأَْنْفُسِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْخَارِجِ (2) .
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلاَمِ الْمُوَقِّعِينَ صُوَرًا لِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَتَأْوِيلِهَا ، وَمِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ : تَأْوِيل الثِّيَابِ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ ، فَإِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّل الْقَمِيصَ فِي الْمَنَامِ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ (3).
وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْتُرُ صَاحِبَهُ وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ ، فَالْقَمِيصُ يَسْتُرُ بَدَنَهُ ، وَالْعِلْمُ وَالدِّينُ يَسْتُرُ رُوحَهُ وَقَلْبَهُ ، وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ .
وَتَأْوِيل اللَّبَنِ بِالْفِطْرَةِ لِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ التَّغْذِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَيَاةِ وَكَمَال النَّشْأَةِ . وَتَأْوِيل الْبَقَرِ بِأَهْل الدِّينِ وَالْخَيْرِ الَّذِينَ بِهِمْ عِمَارَةُ الأَْرْضِ كَمَا أَنَّ الْبَقَرَ كَذَلِكَ .
وَتَأْوِيل الزَّرْعِ وَالْحَرْثِ بِالْعَمَل ، لأَِنَّ الْعَامِل زَارِعٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ .
وَتَأْوِيل الْخَشَبِ الْمَقْطُوعِ الْمُتَسَانِدِ بِالْمُنَافِقِينَ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ لاَ رُوحَ فِيهِ وَلاَ ظِل وَلاَ ثَمَرَ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَشَبِ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ .
وَتَأْوِيل النَّارِ بِالْفِتْنَةِ لإِِفْسَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَمُرُّ عَلَيْهِ وَيَتَّصِل بِهِ .
وَتَأْوِيل النُّجُومِ بِالْعُلَمَاءِ وَالأَْشْرَافِ لِحُصُول هِدَايَةِ أَهْل الأَْرْضِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا ، وَلاِرْتِفَاعِ الأَْشْرَافِ بَيْنَ النَّاسِ كَارْتِفَاعِ النُّجُومِ .
وَتَأْوِيل الْغَيْثِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ وَصَلاَحِ حَال النَّاسِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصُّوَرِ الْوَارِدَةِ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَالْمَأْخُوذَةِ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ ، ثُمَّ قَال : وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثَال الْقُرْآنِ كُلِّهَا أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ لِعِلْمِ التَّعْبِيرِ لِمَنْ أَحْسَنَ الاِسْتِدْلاَل بِهَا ، وَكَذَلِكَ مَنْ فَهِمَ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُعَبِّرُ بِهِ الرُّؤْيَا أَحْسَنَ تَعْبِيرٍ ، وَأُصُول التَّعْبِيرِ الصَّحِيحَةُ إِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ مِشْكَاةِ الْقُرْآنِ ، فَالسَّفِينَةُ تُعَبَّرُ بِالنَّجَاةِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } (سورة العنكبوت / 15) وَتُعَبَّرُ بِالتِّجَارَةِ . وَالطِّفْل الرَّضِيعُ يُعَبَّرُ بِالْعَدُوِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَالْتَقَطَهُ آل فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } (سورة القصص / 8) .
وَالرَّمَادُ بِالْعَمَل الْبَاطِل لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَثَل الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ } (سورة إبراهيم / 18) فَإِنَّ الرُّؤْيَا أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِيَسْتَدِل الرَّائِي بِمَا ضُرِبَ لَهُ مِنَ الْمَثَل عَلَى نَظِيرِهِ ، وَيَعْبُرُ مِنْهُ إِلَى شَبَهِهِ (4) .
__________
(1) - المصباح المنير، فتح الباري ( 12 / 352 ط - الرياض ) .
(2) - تفسير القرطبي ( 9 / 200 ط - المصرية ) ، روح المعاني ( 12 / 250 ط المنيرية ) .
(3) - عَنْ أَبِى أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَىَّ ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِىَّ ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ ، وَعُرِضَ عَلَىَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ » . قَالُوا فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الدِّينَ » . صحيح البخارى(23 ) ومسلم (6340 )
(4) - أعلام الموقعين 1 / 190 - 195 ط - الكليات وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 258) وحجة الله البالغة - (ج 2 / ص 347)

هَذَا وَمِمَّا وَرَدَ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا مِنَ السُّنَّةِ عَنْ أَبِى مُوسَى - أُرَاهُ - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ أَنِّى أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ ، فَذَهَبَ وَهَلِى إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ ، فَإِذَا هِىَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ ، وَرَأَيْتُ فِى رُؤْيَاىَ هَذِهِ أَنِّى هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ بِأُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ ، وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِى آتَانَا اللَّهُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ »(1).
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَال : قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أُوتِيتُ خَزَائِنَ الأَرْضِ ، فَوُضِعَ فِى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ ، فَكَبُرَا عَلَىَّ وَأَهَمَّانِى ، فَأُوحِىَ إِلَىَّ أَنِ انْفُخْهُمَا ، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا ، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ » (2).
وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ ، خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ ، حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ - وَهْىَ الْجُحْفَةُ - فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَيْهَا » .(3)
وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِى مُوسَى - أُرَاهُ - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ أَنِّى أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ ، فَذَهَبَ وَهَلِى إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ ، فَإِذَا هِىَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ ، وَرَأَيْتُ فِى رُؤْيَاىَ هَذِهِ أَنِّى هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ بِأُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ ، وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِى آتَانَا اللَّهُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ » (4) .
هَذَا وَلاَ تُقَصُّ الرُّؤْيَا عَلَى غَيْرِ شَفِيقٍ وَلاَ نَاصِحٍ ، وَلاَ يُحَدَّثُ بِهَا إِلاَّ عَاقِلٌ مُحِبٌّ ، أَوْ نَاصِحٌ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَال يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا } (سورة يوسف / 5) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لاَ تُقَصُّ الرُّؤْيَا إِلاَّ عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ ». (5)
وَأَنْ لاَ يَقُصَّهَا عَلَى مَنْ لاَ يُحْسِنُ التَّأْوِيل ، لِقَوْل مَالِكٍ : لاَ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا إِلاَّ مَنْ يُحْسِنُهَا ، فَإِنْ رَأَى خَيْرًا أَخْبَرَ بِهِ ، وَإِنْ رَأَى مَكْرُوهًا فَلْيَقُل خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ، قِيل : فَهَل يُعَبِّرُهَا عَلَى الْخَيْرِ وَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ لِقَوْل مَنْ قَال : إِنَّهَا عَلَى مَا تَأَوَّلَتْ عَلَيْهِ ، فَقَال : لاَ ، ثُمَّ قَال : الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ ، فَلاَ يُتَلاَعَبُ بِالنُّبُوَّةِ .
وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ ، وَلْيَتْفُل ثَلاَثًا ، وَلاَ يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ ، وَإِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ ، وَأَنْ يُحَدِّثَ بِهَا ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ قَال : سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُول : " لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُول : وَأَنَا كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : « الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ اللَّهِ ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلاَ يُحَدِّثْ بِهِ إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا ، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَلْيَتْفِلْ ثَلاَثًا وَلاَ يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ » . (6) .
__________
(1) - صحيح البخارى (3622 ) ومسلم (6072 ) = الوهل : الاعتقاد والظن
(2) - صحيح البخارى (7037 )
(3) - صحيح البخارى(7038 )
(4) - صحيح البخارى (3622 )
(5) - الترمذي (2449 ) صحيح
(6) - صحيح البخارى(7044 )

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا ، فَإِنَّهَا مِنَ اللَّهِ ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا ، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا ، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ ، فَإِنَّمَا هِىَ مِنَ الشَّيْطَانِ ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا ، وَلاَ يَذْكُرْهَا لأَحَدٍ ، فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ »(1).
- - - - - - - - - - - - - - - -

قد يكشف الله تعالى لبعض الناس عن بعض الغيب
(2)
قال الله تعالى في محكم كتابه: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65].
فالغيب المطلق لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وقد يكشف الله تعالى لبعض الناس عن بعض الغيب وخاصة عباده الصالحين وأولياءه المتقين، هذا فضلاً عما يطلع عليه أنبياءه بطريق الوحي.
فقد جاء في صحيح البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِى أُمَّتِى هَذِهِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ »(3) ..
والمحدثون: الملهمون، الذين يجري الله تعالى على ألسنتهم بعضاً من المغيبات كأنما حدثوا بها.
ومن ذلك الرؤيا الصادقة التي تحصل لبعض الناس، فيرى بعضهم شيئاً من المغيبات، وبعد فترة تتحقق الرؤيا كما أخبر، وهذا مشاهد في كل زمان ومكان.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ » . رواه البخاري ومسلم.(4)
وأما إمكان تحقق ذلك لبعض الأشخاص فلا مانع منه شرعاً ولا عقلاً، ولكن ما كان منه على جهة الكرامة فلا بد لصاحبه أن يكون تقياً يتحرى الحلال في مطعمه ومشربه وملبسه وصدق حديثه.
كما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:"الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالتَّحْزِينُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمِنَ الرُّؤْيَا مَا يُحَدِّثُ بِهِ الرَّجُلُ نَفْسَهُ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا، فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَأَكْرَهُ الْغُلَّ فِي النَّوْمِ، وَيُعْجِبُنِي الْقَيْدُ، لأَنَّهُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، فِي آخِرِ الزَّمَانِ لا تَكَادُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا أَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا"(5). .
وبعض ذلك يكون بالملكة والفطنة والتأمل والفراسة، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75]. أي المتفكرين الناظرين المعتبرين.
وقد حصل كثير من هذا لكثير من السلف الصالح، مثل الإمام مالك والشافعي ومحمد بن الحسن.وما يحصل من تحقق توقعات بعض المحللين أو المراقبين، أكثره نتيجة للتأمل والاستقراء والتجربة وطول الخبرة ومعرفة التاريخ وأحوال الناس.
ومثل ذلك ما تخبر به مصالح الأرصاد الجوية من هُطول الأمطار وهبوب الرياح والمد والجزر، ولا مانع من أن يحصل ذلك عن طريق الإلهام والمكاشفات الإلهية.
- - - - - - - - - - - - - - -
هل الأولياءُ معصومون ؟
أجمع المسلمون أن العصمة لا تكون إلا للأنبياء عليهم السلام، وأما من دونهم كأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فليسوا بمعصومين إجماعاً فضلا عمن دونهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (6):" وَالْأَوْلِيَاءُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُحَدِّثُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِى مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ » (7).
__________
(1) - صحيح البخارى (7045 )
(2) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 5762) -رقم الفتوى 25660 قد يكشف الله تعالى لبعض الناس عن بعض الغيب -تاريخ الفتوى : 23 رمضان 1423
(3) - صحيح البخارى (3469 )
(4) - صحيح البخارى(6987 ) ومسلم (6043-6048)
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 19 / ص 120)(276 )صحيح
(6) - مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 226)
(7) - صحيح البخارى (3689 )

فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عُمَرُ ؛ وَأَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْهُ إذْ هُوَ الصِّدِّيقُ فَالْمُحَدِّثُ - وَإِنْ كَانَ يُلْهَمُ وَيُحَدِّثُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى- فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ،فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ كَمَا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الشاذلي : قَدْ ضُمِنَتْ لَنَا الْعِصْمَةُ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَمْ تُضْمَنْ لَنَا الْعِصْمَةُ فِي الْكُشُوفِ وَالْإِلْهَامِ . وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ ،وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يُبَيِّنُ لَهُ أَشْيَاءَ تُخَالِفُ مَا يَقَعُ لَهُ كَمَا بَيَّنَ لَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ وَيَوْمَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَوْمَ قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ ،وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ ؛ فَتَارَةً يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وَتَارَةً يَرْجِعُونَ إلَيْهِ ،وَرُبَّمَا قَالَ الْقَوْلَ : فَتَرُدُّ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَوْلَهُ وَتُبَيِّنُ لَهُ الْحَقَّ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا وَيَدَعُ قَوْلَهُ ،كَمَا قُدِّرَ الصَّدَاقُ(1) وَرُبَّمَا يَرَى رَأْيًا فَيُذْكَرُ لَهُ حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَعْمَلُ بِهِ وَيَدَعُ رَأْيَهُ(2)، وَكَانَ يَأْخُذُ بَعْضَ السُّنَّةِ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ(3) ،وَكَانَ يَقُولُ الْقَوْلَ فَيُقَالُ لَهُ : أَصَبْت فَيَقُولُ وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَهُ ؟ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا إمَامَ الْمُحَدِّثِينَ فَكُلُّ ذِي قَلْبٍ يُحَدِّثُهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ دُونَ عُمَرَ، فَلَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ بَلِ الْخَطَأُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ ،وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ تَدَّعِي أَنَّ الْوَلِيَّ مَحْفُوظٌ ،وَهُوَ نَظِيرُ مَا يَثْبُتُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعِصْمَةِ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ قَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا - فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .
__________
(1) - عَنِ الشَّعْبِىِّ قَالَ : خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : أَلاَ لاَ تُغَالُوا فِى صَدَاقِ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَبْلُغُنِى عَنْ أَحَدٍ سَاقَ أَكْثَرَ مِنْ شَىْءٍ سَاقَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَوْ سِيقَ إِلَيْهِ إِلاَّ جَعَلْتُ فَضْلَ ذَلِكَ فِى بَيْتِ الْمَالِ. ثُمَّ نَزَلَ فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَوْ قَوْلُكَ قَالَ : بَلْ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَتْ : نَهَيْتَ النَّاسَ آنِفًا أَنْ يُغَالُوا فِى صَدَاقِ النِّسَاءِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِى كِتَابِهِ ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ لِلنَّاسِ : إِنِّى كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُغَالُوا فِى صَدَاقِ النِّسَاءِ أَلاَ فَلْيَفْعَلْ رَجُلٌ فِى مَالِهِ مَا بَدَا لَهُ. هَذَا مُنْقَطِعٌ.السنن الكبرى للبيهقي (ج 7 / ص 233)(14725)
ومجمع الزوائد ( 7502 ) وهو حسن لغيره
انظر إحياء علوم الدين - (ج 1 / ص 47) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 168)
(2) - عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كُنْتُ فِى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَالَ اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلاَثًا ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى فَرَجَعْتُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ قُلْتُ اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى فَرَجَعْتُ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، فَلْيَرْجِعْ » . فَقَالَ وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ . أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَاللَّهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ ، فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ . صحيح البخارى(6245 )
(3) - عنْ عَمْروٍ قَالَ :كُنْتُ جَالِسًا مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَمْرِو بْنِ أَوْسٍ ، فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ سَنَةَ سَبْعِينَ - عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ - عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ قَالَ كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الأَحْنَفِ ، فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِى مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ . وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرٍ . صحيح البخارى (3156 -3157)

وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ : يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1)، وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْهُدَى وَالنُّورِ وَالْإِصَابَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُحَدِّثِ ،لِأَنَّ الصِّدِّيقَ يَأْخُذُ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ فَلَا يَأْخُذُ إلَّا شَيْئًا مَعْصُومًا مَحْفُوظًا . وَأَمَّا الْمُحَدِّثُ فَيَقَعُ لَهُ صَوَابٌ وَخَطَأٌ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَمَيَّزَ صَوَابُهُ مِنْ خَطَئِهِ ؛ وَبِهَذَا صَارَ جَمِيعُ الْأَوْلِيَاءِ مُفْتَقِرِينَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَزِنُوا جَمِيعَ أُمُورِهِمْ بِآثَارِ الرَّسُولِ، فَمَا وَافَقَ آثَارَ الرَّسُولِ فَهُوَ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِيهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يُثِيبُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَعْظَمُ اهْتِدَاءً وَاتِّبَاعًا لِلْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ فَهُمْ أَعْظَمُ إيمَانًا وَتَقْوَى ".اهـ
وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة بقوله عز وجل: ِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً {المائدة: 3}. وبموته صلى الله عليه وسلم انقطع عن الدنيا وعن اتصاله بالخلق، فمن ادعى أن له صلة به صلى الله عليه وسلم أو أنه يجالسه أو يأخذ عنه العلم أو يتلقى منه الأوامر فقد افترى إثما مبينا وكذب على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال شيخ الإسلام في موضع آخر(2):" وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَشْخَاصًا فِي الْيَقَظَةِ يَدَّعِي أَحَدُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَيْخٌ مِنْ الصَّالِحِينَ وَقَدْ جَرَى هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ بَعْضَ الْأَكَابِرِ : إمَّا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ غَيْرُهُ قَدْ قَصَّ شَعْرَهُ أَوْ حَلَقَهُ أَوْ أَلْبَسَهُ طَاقِيَّتَهُ أَوْ ثَوْبَهُ فَيُصْبِحُ وَعَلَى رَأْسِهِ طَاقِيَّةٌ وَشَعَرُهُ مَحْلُوقٌ أَوْ مُقَصَّرٌ وَإِنَّمَا الْجِنُّ قَدْ حَلَقُوا شَعْرَهُ أَوْ قَصَّرُوهُ وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ تَحْصُلُ لِمَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ " .
- - - - - - - - - - - - - - - -
الفرقُ بين الوليِّ ومدَّعي الولايةَ(3)
المفهوم الشرعي لكلمة (ولي الله) يتجلى واضحاً في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) }[يونس/62، 63]، فكل من كان مؤمناً تقيًا فهو من أولياء الله تعالى. وليست الولاية محصورةً في أشخاص معينين، ولا يشترط لحصولها وقوع الكرامة.
قال القرطبي رحمه الله(4):" قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ - : وَمَنْ أَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ كَرَامَات وَخَوَارِق لِلْعَادَاتِ فَلَيْسَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى وِلَايَته , خِلَافًا لِبَعْضِ الصُّوفِيَّة وَالرَّافِضَة حَيْثُ قَالُوا : إِنَّ ذَلِكَ يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ وَلِيّ , إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا مَا أَظْهَرَ اللَّه عَلَى يَدَيْهِ مَا أَظْهَرَ .
وَدَلِيلنَا أَنَّ الْعِلْم بِأَنَّ الْوَاحِد مِنَّا وَلِيّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحّ إِلَّا بَعْد الْعِلْم بِأَنَّهُ يَمُوت مُؤْمِنًا , وَإِذَا لَمْ يُعْلَم أَنَّهُ يَمُوت مُؤْمِنًا لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نَقْطَع عَلَى أَنَّهُ وَلِيّ لِلَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّ الْوَلِيّ لِلَّهِ تَعَالَى مَنْ عَلِمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُوَافِي إِلَّا بِالْإِيمَانِ .
وَلَمَّا اِتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّنَا لَا يُمْكِننَا أَنْ نَقْطَع عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُل يُوَافِي بِالْإِيمَانِ , وَلَا الرَّجُل نَفْسه يَقْطَع عَلَى أَنَّهُ يُوَافِي بِالْإِيمَانِ , عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ يَدُلّ عَلَى وِلَايَته لِلَّهِ ".
__________
(1) - انظر الأحكام للآمدي - (ج 1 / ص 10) والأحكام لابن حزم - (ج 6 / ص 857) والأحكام لابن حزم - (ج 6 / ص 883) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 4 / ص 52) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 2 / ص 32) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 2 / ص 73) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 3 / ص 72) ومن أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية - (ج 1 / ص 175) والخلاف بين العلماء - الرقمية - (ج 1 / ص 32) وشرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام - (ج 1 / ص 2) والموافقات - (ج 5 / ص 134) وقوت القلوب - (ج 1 / ص 225)
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 289)
(3) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1934)-رقم الفتوى 4445

الفرق بين الولي ومدعي الولاية
-تاريخ الفتوى : 03 ربيع الثاني 1422
(4) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 122)

وروى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ » (1)..
فطريق الولاية في الكتاب والسنة هو المحافظة على الفرائض والحرص على النوافل، والتحقق بمقامات الإيمان، والتزين بلباس التقوى.
وبهذا يعلم أن المجانين والفسقة والعصاة لا يدخلون في ذلك، وغاية المجنون أن يرفع عنه القلم، لا أن يكون ولياً، فضلاً عن أن يكشف عنه الحجاب، فإن الحجاب لا يكشف لأحد في الدنيا، والوحي لا يتنزل إلا على الأنبياء، وإذا كان الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء لم يكن هذا دليلاً على ولايته، فإن الخوارق تقع على يد الكافر والملحد والفاسق كما تقع على يد المؤمن. ولهذا قال الجنيد رحمه الله: علمنا مضبوط بالكتاب والسنة،من لم يحفظ الكتاب ولم يكتب الحديث، فلم يتفقه، فلا يقتدى به.
وقال:"الطرق كلها مسدودة عن الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته، لأن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه، وعلى المقتفين أثره والمتابعين.
وليس للولي أن يدعي الولاية لنفسه أو يشهد لها بذلك، فإن هذا من التزكية المذمومة.
كما أن من المفاهيم الباطلة حول الولاية ما يلي:
1- اعتقاد أن الولي يتصرف في الكون، ويجوز دعاؤه والاستغاثة به في الشدائدمن دون الله تعالى .
2- اعتقاد عصمة الولي ،وأن الله لا يخلق له الخذلان الذي هو قدرة العصيان، كما يقول القشيري عفا الله عنه.
3- اعتقاد أن الولي يعلم الغيب، وأنه يغني عن نفسه وعن الخلق.
4- أو أن الولي يتطور ويظهر في أشكال مختلفة، فتارة تراه أسداً، وتارة تراه شيخاً، وتارة تراه صبياً. وأنه يوجد في أماكن مختلفة في وقت واحد.
5- اعتقاد أن الولي يباح له مخالفة الشريعة، وأنه يجب التسليم له وعدم الإنكار عليه ولو ترك الجمع والجماعات، لأنه صاحب حال كما يقول بعض الجهال .
6- اعتقاد أن الولاية تكون بيد الولي الكبير يعطيها لمن يشاء من أتباعه، وهذا ضلال لا يحتاج إلى إقامة الدليل على بطلانه.
7- اعتقاد أن للولاية خاتماً كما أن للنبوة خاتماً وهذا من الضلا المبين.
8- اعتقاد أن الولي يمكنه سلب العلم والهداية من مخالفيه،وهذا داخل تحت اعتقادهم أنه يتصرف في الكون.
فهذه الاعتقادات الباطلة مما يعلم يقيناً أنها مخالفة للكتاب والسنة ولما عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأنها سبيل أولياء الشيطان لا أولياء الرحمن..
- - - - - - - - - - - - - - - - -
خاتمُ الأولياءِ(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" قال ابن عربي :"( السَّابِعُ ) أَنَّهُ قَالَ : " وَمِنَّا مَنْ عَلِمَ فَلَمْ يَقُلْ مِثْلَ هَذَا وَهُوَ أَعْلَى الْقَوْلِ، بَلْ أَعْطَاهُ الْعِلْمَ وَالسُّكُوتَ مَا أَعْطَاهُ الْعَجْزَ وَهَذَا هُوَ أَعْلَى عَالِمٍ بِاَللَّهِ، وَلَيْسَ هَذَا الْعِلْمُ إلَّا لِخَاتَمِ الرُّسُلِ وَخَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالرُّسُلِ : إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الْوَلِيِّ الْخَاتَمِ ؛ حَتَّى إنَّ الرُّسُلَ لَا يَرَوْنَهُ مَتَى رَأَوْهُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ .
فَإِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ - أَعْنِي نُبُوَّةَ التَّشْرِيعِ وَرِسَالَتِهِ - يَنْقَطِعَانِ وَالْوِلَايَةُ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا ؛ فَالْمُرْسَلُونَ مِنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ : لَا يَرَوْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ فَكَيْفَ مَنْ دُونَهُمْ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ؟.
وَإِنْ كَانَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ تَابِعًا فِي الْحُكْمِ لِمَا جَاءَ بِهِ خَاتَمُ الرُّسُلِ مِنَ التَّشْرِيعِ ،فَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي مَقَامِهِ وَلَا يُنَاقِضُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ، فَإِنَّهُ مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ أَنْزَلَ كَمَا أَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ أَعْلَى - إلَى قَوْلِهِ - وَلَمَّا مَثَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّبُوَّةَ بِالْحَائِطِ مِنَ اللَّبِنِ ."
__________
(1) - صحيح البخارى (6502 )
(2) - انظر مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 149) , مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 219- 229

فَفِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ وَتَنْقِيصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مَا لَا تَقُولُهُ لَا الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى ؛ وَمَا أَشْبَهَهُ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِمَا ذَكَرَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ : فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ تَحْتِهِمْ أَنَّ هَذَا لَا عَقْلٌ وَلَا قُرْآنٌ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ هُنَا - مِنْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ تَسْتَفِيدُ مِنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي بَعْدَهُمْ - هُوَ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ، فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ . وَمُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا أَنْبِيَاءَ وَلَا رُسُلًا . وَقَدْ يَزْعُمُ أَنَّ الْعِلْمَ - الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ - أَعْلَى الْعِلْمِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَحَقِيقَةُ تَعْطِيلِ الصَّانِعِ وَجَحْدِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي يُظْهِرُهُ فِرْعَوْنُ فَلَمْ يَكْفِهِ زَعْمُهُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ حَتَّى زَعَمَ أَنَّهُ أَعْلَى الْعِلْمِ، وَلَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ حَتَّى زَعَمَ أَنَّ الرُّسُلَ إنَّمَا يَرَوْنَهُ مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ .
فَجَعَلَ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَجَعَلَهُمْ يَرَوْنَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْ مِشْكَاتِهِ . ثُمَّ أَخَذَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ فَقَالَ : فَإِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ : - أَعْنِي نُبُوَّةَ التَّشْرِيعِ وَرِسَالَتَهُ - يَنْقَطِعَانِ وَالْوِلَايَةُ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا . فَالْمُرْسَلُونَ مِنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لَا يَرَوْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ فَكَيْفَ بِالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا أَنْبِيَاءَ وَلَا رُسُلًا ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا، فَإِنَّ هَذَا كُفْرٌ ظَاهِرٌ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ إنَّمَا تَنْقَطِعُ نُبُوَّةُ التَّشْرِيعِ وَرِسَالَتُهُ يَعْنِي، وَأَمَّا نُبُوَّةُ التَّحْقِيقِ وَرِسَالَةُ التَّحْقِيقِ - وَهِيَ الْوِلَايَةُ عِنْدَهُمْ - فَلَمْ تَنْقَطِعْ ،وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ أَفْضَلُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ : -
مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيّ
وَقَالَ فِي الْفُصُوصِ فِي : ( كَلِمَةٍ عزيرية فَإِذَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ أَهْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ أَوْ يُنْقَلُ إلَيْك عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْوِلَايَةُ أَعْلَى مِنْ النُّبُوَّةِ : فَلَيْسَ يُرِيدُ ذَلِكَ الْقَائِلُ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ . أَوْ يَقُولُ : إنَّ الْوَلِيَّ فَوْقَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ ؛ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَلِيٌّ : أَتَمُّ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ لَا أَنَّ الْوَلِيَّ التَّابِعُ لَهُ أَعْلَى مِنْهُ ،فَإِنَّ التَّابِعَ لَا يُدْرِكُ الْمَتْبُوعَ أَبَدًا فِيمَا هُوَ تَابِعٌ لَهُ فِيهِ إذْ لَوْ أَدْرَكَهُ لَمْ يَكُنْ تَابِعًا لَهُ " .
وَإِذَا حَقَّقُوا عَلَى ذَلِكَ قَالُوا : إنَّ وِلَايَةَ النَّبِيِّ فَوْقَ نُبُوَّتِهِ وَإِنَّ نُبُوَّتَهُ فَوْقَ رِسَالَتِهِ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِوِلَايَتِهِ عَنْ اللَّهِ ثُمَّ يَجْعَلُونَ مِثْلَ وِلَايَتِهِ ثَابِتَةً لَهُمْ وَيَجْعَلُونَ وِلَايَةَ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ أَعْظَمَ مِنْ وِلَايَتِهِ ،وَأَنَّ وِلَايَةَ الرَّسُولِ تَابِعَةٌ لِوِلَايَةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي ادَّعُوهُ .
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ أَنْوَاعٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ :
( مِنْهَا ) أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وُجُودَ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى مَا ادَّعُوهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ . وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا أَحَدٌ مِنَ الْمَعْرُوفِينَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ إلَّا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي كِتَابِ ( خَتْمُ الْوِلَايَةِ )وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَا هُوَ خَطَأٌ وَغَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَهُوَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ وَمَعْرِفَةٌ وَلَهُ مِنَ الْكَلَامِ الْحَسَنِ الْمَقْبُولِ وَالْحَقَائِقِ النَّافِعَةِ أَشْيَاءُ مَحْمُودَةٌ - فَفِي كَلَامِهِ مِنْ الْخَطَأِ : مَا يَجِبُ رَدُّهُ وَمِنْ أَشْنَعِهَا مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ ( خَتْمُ الْوِلَايَةِ )مِثْلُ دَعْوَاهُ فِيهِ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ دَرَجَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ دَرَجَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا . ثُمَّ إنَّهُ تَنَاقَضَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ لَمَّا حَكَى عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ الْوَلِيَّ يَكُونُ مُنْفَرِدًا عَنْ النَّاسِ فَأَبْطَلَ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَقَالَ : يَلْزَمُ هَذَا أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَبْطَلَ ذَلِكَ .

( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مَا يُشْعِرُ أَنَّ تَرْكَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ - وَلَوْ أَنَّهَا التَّطَوُّعَاتُ الْمَشْرُوعَةُ - أَفْضَلُ فِي حَقِّ الْكَامِلِ ذِي الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ ،وَهَذَا أَيْضًا خَطَأٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الطَّرِيقِ ،فَإِنَّ أَكْمَلَ الْخَلْقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا زَالَ مُحَافِظًا عَلَى مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْأَوْرَادِ وَالتَّطَوُّعَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إلَى مَمَاتِهِ .
( وَمِنْهَا ) مَا ادَّعَاهُ مِنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَتَفْضِيلِهِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُمْ كَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ . وَهَذَا ضَلَالٌ وَاضِحٌ ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الْمَشْهُورَةِ . وَخَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ }(1) وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ « هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ إِلاَّ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ ».(2)
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ عُمَرُ وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ قُلْتُ ثُمَّ أَنْتَ قَالَ مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (3)" وَرَوَى بِضْعٌ وَثَمَانُونَ نَفْسًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ " (4).
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (5)(69) سورة النساء ،وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مَرَاتِبُ الْعِبَادِ : أَفْضَلُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ . وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدٌ مِنَّا نَفْسَهُ عَلَى يُونُسَ بْنِ متى (6)
__________
(1) - صحيح البخاري (2457 ) وصحيح مسلم(6632 )
(2) - سنن الترمذى (4026) وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وهو كما قال
(3) - صحيح البخاري(3395 ) وفي صحيح البخاري (3382 ) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم
(4) - أحمد ( 846 و848 و849 و891 و892 و938 و944 و1043 و1044 و1064 و1072 ) وهو متواتر عنه
(5) - وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَعَمِلَ بِمَا أَمَرا بِهِ ، وَانْتَهَى عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُسْكِنُهُ دَارَ كَرَامَتِهِ ، وَيَجْعَلُهُ مُرَافِقاً لِلأَنْبِيَاءَ ، ثُمَّ لِمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الرُّتْبَةِ ، وَهُمُ الصِّدِّيقُونَ ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ، ثُمَّ عُمُومُ المُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ الذِينَ صَلُحَتْ سَرَائِرُهُمْ وَعَلاَنِيَتُهُمْ وَمَا أَحْسَنَ رِفْقَةَ هَؤُلاءِ الذِينَ لاَ يَشْقَى جَلِيسُهُمْ .
( وَيُذْكَرُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ : أنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ جَاءَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَحْزُوناً ، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ عَنْ سَبَبِ حُزْنِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ شَيءٌ فَكَّرْتُ فِيهِ . فَقَالَ النَّبِيُّ : وَمَا هُوَ؟ قَالَ : نَحْنُ نَغْدُو وَنَرُوحُ ، وَنَنْظُرُ إلى وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ ، وَغَداً تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ فَلا نَصِلُ إِلَيْكَ . فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ بِشَيءٍ ، فَجَاءَهُ جِبْريلٌ عَلَيهِ السَّلاَمُ بِهَذِهِ الآيَةِ ) . ( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ : " مَنْ أَحَبَّ قَوْماً حُشِرَ مَعَهُمْ " ) . ( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ أَيْْضاً : " المَرْءُ مَعَ مَْن أَحَبَّ " )
(6) - عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ حَدَّثَنَا ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ "صحيح البخاري (3144 )
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى "صحيح البخاري (3160 )

، مَعَ قَوْلِهِ : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) } [القلم/48-50]، وَقَوْلِهِ {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}(1) (142) سورة الصافات ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُفَضِّلَ أَحَدٌ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ ابْنِ متى } (2)،وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا يَنْبَغِي لِعَبْدِ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ يُونُسَ بْنِ متى }(3)، وَفِي لَفْظٍ : { أَنْ يَقُولَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى }(4)، وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى فَقَدْ كَذَبَ }(5) ،وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ - يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - { لَا يَنْبَغِي لِعَبْدِ أَنْ يَقُولَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى }(6)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا يَنْبَغِى لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى »(7)، وَهَذَا فِيهِ نَهْيٌ عَامٌّ .
وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ متى } وَيُفَسِّرُهُ بِاسْتِوَاءِ حَالِ صَاحِبِ الْمِعْرَاجِ وَحَالِ صَاحِبِ الْحُوتِ : فَنَقْلٌ بَاطِلٌ وَتَفْسِيرٌ بَاطِلٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « اثْبُتْ أُحُدُ فَمَا عَلَيْكَ إِلاَّ نَبِىٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدَانِ »(8) . وَأَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ الصِّدِّيقِينَ .
__________
(1) - فَابْتَلَعَهُ الحُوتُ ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْمَلاَمَةِ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ قَوْمِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ ، وَتَخَلِّيهِ عَنْ دَعْوتِهِمْ إِلَى اللهِ ، والدَّعْوَةُ تَسْتَدْعِي الصَّبْرَ والثَّبَاتَ .
(2) - البخاري (3160 )
(3) - صحيح البخاري(3160 )
(4) - صحيح البخاري(3144 )
(5) - صحيح البخاري (4238)
(6) - صحيح البخاري (3163 ) ومسلم (6309 )
(7) - صحيح البخاري(3144 ) و صحيح مسلم (6310 )
(8) - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى أُحُدٍ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ ، فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ ، قَالَ « اثْبُتْ أُحُدُ فَمَا عَلَيْكَ إِلاَّ نَبِىٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدَانِ » . صحيح البخارى (3686 )-رجف : خفق واضطرب

وَلَفْظُ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ : لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا وَلَا لَهُ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَمُوجَبُ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ آخِرُ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } [يونس/62، 63] ،فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا " . وَهُمْ عَلَى دَرَجَتَيْنِ : السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ الْمُقْتَصِدُونَ كَمَا قَسَّمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ فَاطِرٍ وَسُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْإِنْسَانِ وَالْمُطَفِّفِينَ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ » (1). فالمتقربون إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ : هُمْ الْأَبْرَارُ الْمُقْتَصِدُونَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ ،والمتقربون إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي يُحِبُّهَا بَعْدَ الْفَرَائِضِ ، هُمْ السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ، وَإِنَّمَا تَكُونُ النَّوَافِلُ بَعْدَ الْفَرَائِضِ . وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرِ ابْنِ الْخَطَّابِ:" إِنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِالنَّهَارِ لاَ يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَإِنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لاَ يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَأَنَّهُ لاَ يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ ".(2)
والاتحادية يَزْعُمُونَ أَنَّ قُرْبَ النَّوَافِلِ : يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الْحَقِّ عَيْنَ أَعْضَائِهِ ،وَأَنَّ قُرْبَ الْفَرَائِضِ : يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عَيْنَ وُجُودِهِ كُلِّهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ،بَلْ كُفْرٌ صَرِيحٌ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
__________
(1) - صحيح البخارى (6502 )
(2) - عَنْ زُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ ؛ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ يَسْتَخْلِفُهُ ، فَقَالَ النَّاسُ : تَسْتَخْلِفُ عَلَيْنَا فَظًّا غَلِيظًا ، وَلَوْ قَدْ وَلِيَنَا كَانَ أَفَظَّ وَأَغْلَظَ ، فَمَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا لَقِيتَهُ ، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنَا عُمَرَ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَبِرَبِّي تُخَوِّفُونَنِي ؟ أَقُولُ : اللَّهُمَّ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمْ خَيْرَ خَلْقِك.
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ ، فَقَالَ : إِنِّي مُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ إِنْ أَنْتَ حَفِظْتَهَا : إِنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِالنَّهَارِ لاَ يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَإِنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لاَ يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَأَنَّهُ لاَ يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ ، وَإِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا الْحَقَّ وَثِقَلُهُ عَلَيْهِمْ ، وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ لاَ يُوضَعُ فِيهِ إِلاَّ الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ ثَقِيلاً ، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمَ الْبَاطِلَ وَخِفَّتُهُ عَلَيْهِمْ ، وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ لاَ يُوضَعُ فِيهِ إِلاَّ الْبَاطِلُ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا ، وَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِصَالِحِ مَا عَمِلُوا ، وَأَنَّهُ تَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ : لاَ أَبْلُغُ هَؤُلاَءِ ، وَذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِأَسْوَإِ مَا عَمِلُوا ، وَأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ صَالِحَ مَا عَمِلُوا ، فَيَقُولُ قَائِلٌ : أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَؤُلاَءِ ، وَذَكَرَ آيَةَ الرَّحْمَةِ وَآيَةَ الْعَذَابِ ، لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاغِبًا وَرَاهِبًا ، لاَ يَتَمَنَّى عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَلاَ يُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
فَإِنْ أَنْتَ حَفِظْت وَصِيَّتِي ، لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيْك مِنَ الْمَوْتِ ، وَإِنْ أَنْتَ ضَيَّعْت وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَبْغَضَ إِلَيْك مِنَ الْمَوْتِ ، وَلَنْ تَعْجِزَهُ.
مصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 14 / ص 572)(38211) وأخرجه ابن المبارك (1/319 ، رقم 914) ، وابن أبى شيبة (7/434 ، رقم 37056) ، وهناد (1/284 ، رقم 496) ، وأبو نعيم فى الحلية (1/36) وهو صحيح لغيره .

وَإِذَا كَانَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ آخِرَ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ فِي الدُّنْيَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَفْضَلَ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا أَكْمَلَهُمْ ،بَلْ أَفْضَلُهُمْ وَأَكْمَلُهُمْ سَابِقُوهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَخَصُّ بِأَفْضَلِ الرُّسُلِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْوَلِيُّ أَعْظَمَ اخْتِصَاصًا بِالرَّسُولِ وَأَخْذًا عَنْهُ وَمُوَافَقَةً لَهُ كَانَ أَفْضَلَ ،إذِ الْوَلِيُّ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ فَعَلَى قَدْرِ الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ : يَكُونُ قَدْرُ الْوِلَايَةِ لِلَّهِ .
وَالْأَوْلِيَاءُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُحَدِّثُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، فَإِنْ يَكُ فِى أُمَّتِى أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ » (1). فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عُمَرُ ؛ وَأَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْهُ إذْ هُوَ الصِّدِّيقُ، فَالْمُحَدَّثُ - وَإِنْ كَانَ يُلْهَمُ وَيُحَدِّثُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى- فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ كَمَا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الشاذلي : قَدْ ضُمِنَتْ لَنَا الْعِصْمَةُ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَمْ تُضْمَنْ لَنَا الْعِصْمَةُ فِي الْكُشُوفِ وَالْإِلْهَامِ . وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ ،وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يُبَيِّنُ لَهُ أَشْيَاءَ تُخَالِفُ مَا يَقَعُ لَهُ كَمَا بَيَّنَ لَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ ،وَيَوْمَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،وَيَوْمَ قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ ،وَغَيْرَ ذَلِكَ ،وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ ؛ فَتَارَةً يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وَتَارَةً يَرْجِعُونَ إلَيْهِ، وَرُبَّمَا قَالَ الْقَوْلَ : فَتَرُدُّ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَوْلَهُ وَتُبَيِّنُ لَهُ الْحَقَّ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا وَيَدَعُ قَوْلَهُ، كَمَا قُدِّرَ الصَّدَاقُ ،وَرُبَّمَا يَرَى رَأْيًا فَيُذْكَرُ لَهُ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَعْمَلُ بِهِ وَيَدَعُ رَأْيَهُ ،وَكَانَ يَأْخُذُ بَعْضَ السُّنَّةِ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ، وَكَانَ يَقُولُ الْقَوْلَ فَيُقَالُ لَهُ : أَصَبْت فَيَقُولُ وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَهُ ؟ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا إمَامَ الْمُحَدَّثِينَ فَكُلُّ ذِي قَلْبٍ يُحَدِّثُهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ دُونَ عُمَرَ ، فَلَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ بَلْ الْخَطَأُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ ،وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ تَدَّعِي أَنَّ الْوَلِيَّ مَحْفُوظٌ ،وَهُوَ نَظِيرُ مَا يَثْبُتُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعِصْمَةِ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ قَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا - فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ : يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْهُدَى وَالنُّورِ وَالْإِصَابَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُحَدَّثِ؛ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ يَأْخُذُ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ فَلَا يَأْخُذُ إلَّا شَيْئًا مَعْصُومًا مَحْفُوظًا .
وَأَمَّا الْمُحَدِّثُ فَيَقَعُ لَهُ صَوَابٌ وَخَطَأٌ ،وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَمَيَّزَ صَوَابُهُ مِنْ خَطَئِهِ ؛ وَبِهَذَا صَارَ جَميعُ الْأَوْلِيَاءِ مُفْتَقِرِينَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَزِنُوا جَمِيعَ أُمُورِهِمْ بِآثَارِ الرَّسُولِ، فَمَا وَافَقَ آثَارَ الرَّسُولِ فَهُوَ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ ،وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِيهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُثِيبُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَعْظَمُ اهْتِدَاءً وَاتِّبَاعًا لِلْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ، فَهُمْ أَعْظَمُ إيمَانًا وَتَقْوَى وَأَمَّا آخِرُ الْأَوْلِيَاءِ : فَلَا يَحْصُلُ لَهُ مِثْلُ مَا حَصَلَ لَهُمْ .
وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى : « مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ » (2)
__________
(1) - صحيح البخارى (3689 ) وصحيح مسلم (6357 )عَنْ عَائِشَةَ
المحدث : الصادق الظن الملهم الذى يلقَى فى نفسه الشىء فيخبر به فراسة
(2) - سنن الترمذى (3109 ) ومسند أحمد (19394) والمعجم الأوسط للطبراني (3802 ) ومسند البزار( 1412و3527 و6896 ) ومسند الشهاب القضاعي (1244 ) ومسند الطيالسي (682و2135 )ومجمع 10/68 ومطالب (4216) بغوى 1/405 وفتح 7/6 وكثير 7/493 وخط 11/114 وصحيح الجامع (5854) وهو حديث صحيح
وفي تحفة الأحوذي - (ج 7 / ص 188)
قَالَ التوربشتي : لَا يُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى التَّرَدُّدِ فِي فَضْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الْآخِرِ فَإِنَّ الْقَرْنَ الْأَوَّلَ هُمْ الْمُفَضَّلُونَ عَلَى سَائِرِ الْقُرُونِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَفِي الرَّابِعِ اِشْتِبَاهٌ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِمْ نَفْعُهُمْ فِي بَثِّ الشَّرِيعَةِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحَقِيقَةِ . قَالَ الْقَاضِي : نَفَى تَعَلُّقَ الْعِلْمِ بِتَفَاوُتِ طَبَقَاتِ الْأُمَّةِ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَأَرَادَ بِهِ نَفْيَ التَّفَاوُتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } أَيْ بِمَا لَيْسَ فِيهِنَّ كَأَنَّهُ قَالَ لَوْ كَانَ لَعُلِمَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَخْفَى وَلَكِنْ لَا يُعْلَمُ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهُمْ بِخَاصِّيَّةٍ وَفَضِيلَةٍ تُوجِبُ خَيْرِيَّتَهَا كَمَا أَنَّ كُلَّ نَوْبَةٍ مِنْ نُوَبِ الْمَطَرِ لَهَا فَائِدَةٌ فِي النُّشُوءِ وَالنَّمَاءِ لَا يُمْكِنُك إِنْكَارُهَا وَالْحُكْمُ بِعَدَمِ نَفْعِهَا ، فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ آمَنُوا بِمَا شَاهَدُوا مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَتَلَقَّوْا دَعْوَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِجَابَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْآخِرِينَ آمَنُوا بِالْغَيْبِ لِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْآيَاتِ وَاتَّبَعُوا مَنْ قَبْلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ ، وَكَمَا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ اِجْتَهَدُوا فِي التَّأْسِيسِ وَالتَّمْهِيدِ فَالْمُتَأَخِّرُونَ بَذَلُوا وُسْعَهُمْ فِي التَّلْخِيصِ وَالتَّجْرِيدِ وَصَرَفُوا عُمْرَهُمْ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ ، فَكُلُّ ذَنْبِهِمْ مَغْفُورٌ وَسَعْيُهُمْ مَشْكُورٌ وَأَجْرُهُمْ مَوْفُورٌ اِنْتَهَى . قَالَ الطِّيبِيُّ : وَتَمْثِيلُ الْأُمَّةِ بِالْمَطَرِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَا أَنَّ تَمْثِيلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَيْثَ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ فَتَخْتَصُّ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمُشَبَّهَةُ بِالْمَطَرِ بِالْعُلَمَاءِ الْكَامِلِينَ مِنْهُمْ الْمُكَمِّلِينَ لِغَيْرِهِمْ فَيَسْتَدْعِي هَذَا التَّفْسِيرُ أَنْ يُرَادَ بِالْخَيْرِ النَّفْعُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْمُسَاوَاةُ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ ، وَلَوْ ذُهِبَ إِلَى الْخَيْرِيَّةِ فَالْمُرَادُ وَصْفُ الْأُمَّةِ قَاطِبَةً سَابِقِهَا وَلَاحِقِهَا وَأَوَّلِهَا وَآخِرِهَا بِالْخَيْرِ وَأَنَّهَا مُلْتَحِمَةٌ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ مَرْصُوصَةٌ بِالْبُنْيَانِ مُفَرَّغَةٌ كَالْحَلْقَةِ الَّتِي لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا . وَفِي أُسْلُوبِ هَذَا الْكَلَامِ قَوْلُ الْأَنْمَارِيَّةِ : هُمْ كَالْحَلْقَةِ الْمُفَرَّغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا تُرِيدُ الْمُكَمِّلَةَ ، وَيُلَمِّحُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ : إِنَّ الْخِيَارَ مِنْ الْقَبَائِلِ وَاحِدٌ وَبَنُو حَنِيفَةَ كُلُّهُمْ أَخْيَارُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأُمَّةَ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ فِي الْخَيْرِيَّةِ بِحَيْثُ أُبْهِمَ أَمْرُهَا فِيهَا وَارْتَفَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ سَوْقِ الْمَعْلُومِ مَسَاقَ غَيْرِهِ وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ : تَشَابَهَ يَوْمَاهُ عَلَيْنَا فَأَشْكَلَا فَمَا نَحْنُ نَدْرِي أَيُّ يَوْمَيْهِ أَفْضَلُ يَوْمٍ بَدَاءُ الْعُمْرِ أَمْ يَوْمُ يَأْسِهِ وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا أَغَرُّ مُحَجَّلُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ عِلْمًا جَلِيًّا أَنَّ يَوْمَ بُدَاءَةِ الْعُمْرِ أَفْضَلُ مِنْ يَوْمِ يَأْسِهِ ، لَكِنَّ الْبَدْءَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَكْمُلُ وَيَسْتَتِبُّ إِلَّا بِالْيَأْسِ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَقَالَ مَا قَالَ وَكَذَا أَمْرُ الْمَطَرِ وَالْأُمَّةِ اِنْتَهَى .

، قَدْ تُكُلِّمَ فِي إسْنَادِهِ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ إنَّمَا مَعْنَاهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الْأُمَّةِ مَنْ يُقَارِبُ أَوَّلَهَا حَتَّى يَشْتَبِهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَيُّهُمَا خَيْرٌ كَمَا يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ طَرَفَا الثَّوْبِ ،مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ خَيْرٌ مِنَ الْآخَرِ ،وَلِهَذَا قَالَ : " لَا يُدْرَى " وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا السَّلْبَ لَيْسَ عَامًّا لَهَا، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَيَّهُمَا أَفْضَلُ .
ثُمَّ إنَّ هَذَا خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ صَارَ مَرْتَبَةً مَوْهُومَةً لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَصَارَ يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِشَيْخِهِ طَوَائِفُ وَقَدْ ادَّعَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ ،وَلَمْ يَدَّعِهَا إلَّا مَنْ فِي كَلَامِهِ مِنَ الْبَاطِلِ مَا لَمْ تَقُلْهُ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى كَمَا ادَّعَاهَا صَاحِبُ الْفُصُوصِ وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْكَلَامِ فِي الْحُرُوفِ ،وَشَيْخٌ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ كَانَ بِدِمَشْقَ ،وَآخَرُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي يُزَوِّجُ بِنْتَهُ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ،وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ وَيَدَّعِي هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الْأُمُورِ مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ ،كَمَا قَدْ يَدَّعِي الْمُدَّعِي مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ أَوْ لِشَيْخِهِ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ .
ثُمَّ صَاحِبُ الْفُصُوصِ وَأَمْثَالُهُ بَنَوْا الْأَمْرَ : عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ عَنِ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَالنَّبِيُّ يَأْخُذُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ فَلِهَذَا صَارَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلَ عِنْدَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ وَكَذِبٌ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يَأْخُذُ عَنِ اللَّهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ مُحَدَّثًا قَدْ أُلْقِيَ إلَيْهِ شَيْءٌ : وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَزِنَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَتَكْلِيمُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : - مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى . وَبِإِرْسَالِ رَسُولٍ كَمَا أَرْسَلَ الْمَلَائِكَةَ إلَى الْأَنْبِيَاءِ . وَبِالْإِيحَاءِ، وَهَذَا فِيهِ لِلْوَلِيِّ نَصِيبٌ ،وَأَمَّا الْمَرْتَبَتَانِ الْأُولَيَانِ : فَإِنَّهُمَا لِلْأَنْبِيَاءِ خَاصَّةً ،فَالْأَوْلِيَاءُ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِالرُّسُلِ لَا يَأْخُذُونَ عِلْمَ الدِّينِ إلَّا بِتَوَسُّطِ رُسُلِ اللَّهِ إلَيْهِمْ ،وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا عَرْضُهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ،وَلَنْ يَصِلُوا فِي أَخْذِهِمْ عَنِ اللَّهِ إلَى مَرْتَبَةِ نَبِيٍّ أَوْ رَسُولٍ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ آخِذِينَ عَنِ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَكُونُ هَذَا الْأَخْذُ أَعْلَى ،وَهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى مَقَامِ تَكْلِيمِ مُوسَى وَلَا إلَى مَقَامِ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا نَزَلَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ؟ وَهَذَا دِينُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .
- - - - - - - - - - - - - - -
الْقَلْبُ الْمَعْمُورُ بِالتَّقْوَى إذَا رَجَّحَ بِمُجَرَّدِ رَأْيِهِ فَهُوَ تَرْجِيحٌ شَرْعِيٌّ(1)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية رحمه الله :"الْقَلْبُ الْمَعْمُورُ بِالتَّقْوَى إذَا رَجَّحَ بِمُجَرَّدِ رَأْيِهِ فَهُوَ تَرْجِيحٌ شَرْعِيٌّ .
قَالَ : فَمَتَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ وَحَصَلَ فِي قَلْبِهِ مَا بَطَنَ مَعَهُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَوْ هَذَا الْكَلَامَ أَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ هَذَا تَرْجِيحًا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ .
وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلْهَامِ لَيْسَ طَرِيقًا إلَى الْحَقَائِقِ مُطْلَقًا أَخْطَؤُوا ،فَإِذَا اجْتَهَدَ الْعَبْدُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ كَانَ تَرْجِيحُهُ لِمَا رَجَّحَ أَقْوَى مِنْ أَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ ضَعِيفَةٍ، فَإِلْهَامُ مِثْلِ هَذَا دَلِيلٌ فِي حَقِّهِ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الضَّعِيفَةِ وَالْمَوْهُومَةِ وَالظَّوَاهِرِ والاستصحابات الْكَثِيرَةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخَائِضِينَ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْخِلَافِ ؛ وَأُصُولِ الْفِقْهِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : اقْرَبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ ؛ فَإِنَّهُمْ تَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ (2). وَحَدِيثُ مَكْحُولٍ الْمَرْفُوعُ { مَا أَخْلَصَ عَبْدٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا إِلاَّ ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ}(3) وَفِي رِوَايَةٍ إلَّا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ }(4) .
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّ الْقُلُوبَ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى التَّقْوَى جَالَتْ فِي الْمَلَكُوتِ ؛ وَرَجَعَتْ إلَى أَصْحَابِهَا بِطَرَفِ الْفَوَائِدِ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهَا عَالِمٌ عِلْمًا .(5)
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 42)
(2) - لم أجده بهذا اللفظ
(3) - مصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 13 / ص 231)(35485) ومسند الشهاب القضاعي (446) حسن مرسل
(4) - في الذي قبله
(5) - حلية الأولياء - (ج 4 / ص 250) وصفة الصفوة - (ج 1 / ص 470) ولفظه :" إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام جالت في الملكوت وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علماً."

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالصَّلاَةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ ،وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ }(1)، وَمَنْ مَعَهُ نُورٌ وَبُرْهَانٌ وَضِيَاءٌ كَيْفَ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ مِنْ فَحْوَى كَلَامِ أَصْحَابِهَا ؟ وَلَا سِيَّمَا الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ ؛ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ مَعْرِفَةً تَامَّةً ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ الْعَمَلَ بِهَا ؛ فتتساعدُ فِي حَقِّهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَعَ الِامْتِثَالِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى أَنَّ الْمُحِبَّ يَعْرِفُ مِنْ فَحْوَى كَلَامِ مَحْبُوبِهِ مُرَادَهُ مِنْهُ تَلْوِيحًا لَا تَصْرِيحًا .
وَالْعَيْنُ تَعْرِفُ مِنْ عَيْنَيْ مُحَدِّثِهَا * * * إنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهَا أَوْ مِنْ أَعَادِيهَا
إنَارَةُ الْعَقْلِ مَكْسُوفٌ بِطَوْعِ هَوًى * * * وَعَقْلُ عَاصِي الْهَوَى يَزْدَادُ تَنْوِيرًا(2)
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا }(3)
__________
(1) - عَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا ».صحيح مسلم (556 ) -الموبق : المُهْلَك
(2) - غرر الخصائص الواضحة - (ج 1 / ص 21)
(3) - صحيح البخارى (6502 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 342)
قَوْله ( فَكُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ " بِهِ " .
قَوْله ( وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ )فِي حَدِيث عَائِشَة فِي رِوَايَة عَبْد الْوَاحِد " عَيْنَهُ الَّتِي يُبْصِرُ بِهَا " وَفِي رِوَايَة يَعْقُوبَ بْن مُجَاهِد " عَيْنَيْهِ الَّتِي يُبْصِرُ بِهِمَا " بِالتَّثْنِيَةِ وَكَذَا قَالَ فِي الْأُذُنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، وَزَادَ عَبْد الْوَاحِد فِي رِوَايَته " وَفُؤَادَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ " وَنَحْوه فِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ وَفِي حَدِيث مَيْمُونَةَ " وَقَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ " وَفِي حَدِيث أَنَس " وَمَنْ أَحْبَبْته كُنْت لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا "
وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ كَيْفَ يَكُونُ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا سَمْعَ الْعَبْدِ وَبَصَرَهُ إِلَخْ ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيلِ ، وَالْمَعْنَى كُنْت سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فِي إِيثَارِهِ أَمْرِي فَهُوَ يُحِبُّ طَاعَتِي وَيُؤْثِرُ خِدْمَتِي كَمَا يُحِبّ هَذِهِ الْجَوَارِح .
ثَانِيهَا أَنَّ الْمَعْنَى كُلِّيَّته مَشْغُولَةٌ بِي فَلَا يُصْغِي بِسَمْعِهِ إِلَّا إِلَى مَا يُرْضِينِي ، وَلَا يَرَى بِبَصَرِهِ إِلَّا مَا أَمَرْتُهُ بِهِ .
ثَالِثهَا الْمَعْنَى أُحَصِّلُ لَهُ مَقَاصِدَهُ كَأَنَّهُ يَنَالُهَا بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ إِلَخْ .
رَابِعهَا كُنْت لَهُ فِي النُّصْرَة كَسَمْعِهِ وَبَصَره وَيَده وَرِجْلِهِ فِي الْمُعَاوَنَة عَلَى عَدُوِّهِ .
خَامِسهَا قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ وَسَبَقَهُ إِلَى مَعْنَاهُ اِبْن هُبَيْرَة : هُوَ فِيمَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ، وَالتَّقْدِيرُ كُنْت حَافِظ سَمْعِهِ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ فَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يَحِلُّ اِسْتِمَاعُهُ ، وَحَافِظ بَصَرِهِ كَذَلِكَ إِلَخْ .
سَادِسُهَا قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : يَحْتَمِل مَعْنًى آخَرَ أَدَقَّ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُون مَعْنَى سَمْعِهِ مَسْمُوعَهُ ، لِأَنَّ الْمَصْدَر قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْل فُلَانٌ أَمْلَى بِمَعْنَى مَأْمُولِي ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ إِلَّا ذِكْرِي وَلَا يَلْتَذُّ إِلَّا بِتِلَاوَةِ كِتَابِي وَلَا يَأْنَسُ إِلَّا بِمُنَاجَاتِي وَلَا يَنْظُرُ إِلَّا فِي عَجَائِبِ مَلَكُوتِي وَلَا يَمُدُّ يَدَهُ إِلَّا فِيمَا فِيهِ رِضَايَ وَرِجْله كَذَلِكَ ، وَبِمَعْنَاهُ قَالَ اِبْن هُبَيْرَة أَيْضًا .
وَقَالَ الطُّوفِيُّ : اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء مِمَّنْ يُعْتَدّ بِقَوْلِهِ أَنَّ هَذَا مَجَاز وَكِنَايَة عَنْ نُصْرَة الْعَبْد وَتَأْيِيده وَإِعَانَته ، حَتَّى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَزِّلُ نَفْسَهُ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةَ الْآلَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ " فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي " قَالَ : وَالِاتِّحَادِيَّة زَعَمُوا أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ الْحَقَّ عَيْنُ الْعَبْدِ ، وَاحْتَجُّوا بِمَجِيءِ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ ، قَالُوا فَهُوَ رُوحَانِيٌّ خَلَعَ صُورَتَهُ وَظَهَرَ بِمَظْهَرِ الْبَشَرِ ، قَالُوا فَاَللَّهُ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَظْهَرَ فِي صُورَةِ الْوُجُودِ الْكُلِّيِّ أَوْ بَعْضِهِ ، تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هَذِهِ أَمْثَالٌ وَالْمَعْنَى تَوْفِيقُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ ، وَتَيْسِير الْمَحَبَّة لَهُ فِيهَا بِأَنْ يَحْفَظ جَوَارِحه عَلَيْهِ وَيَعْصِمَهُ عَنْ مُوَاقَعَة مَا يَكْرَه اللَّهُ مِنْ الْإِصْغَاء إِلَى اللَّهْو بِسَمْعِهِ ، وَمِنْ النَّظَر إِلَى مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ بِبَصَرِهِ ، وَمِنْ الْبَطْش فِيمَا لَا يَحِلّ لَهُ بِيَدِهِ ، وَمَنْ السَّعْيِ إِلَى الْبَاطِلِ بِرِجْلِهِ . وَإِلَى هَذَا نَحَا الدَّاوُدِيُّ ، وَمِثْله الْكَلَابَاذِيّ ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ أَحْفَظُهُ فَلَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا فِي مَحَابِّي ، لِأَنَّهُ إِذَا أَحَبَّهُ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَكْرَهُهُ مِنْهُ . سَابِعُهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا : وَقَدْ يَكُون عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنْ سُرْعَة إِجَابَة الدُّعَاء وَالنُّجْحِ فِي الطَّلَب ، وَذَلِكَ أَنَّ مَسَاعِيَ الْإِنْسَان كُلَّهَا إِنَّمَا تَكُون بِهَذِهِ الْجَوَارِحِ الْمَذْكُورَةِ . وَقَالَ بَعْضهمْ : وَهُوَ مُنْتَزَع مِمَّا تَقَدَّمَ لَا يَتَحَرَّك لَهُ جَارِحَةٌ إِلَّا فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ ، فَهِيَ كُلُّهَا تَعْمَلُ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ . وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " عَنْ أَبِي عُثْمَان الْجِيزِيّ أَحَد أَئِمَّة الطَّرِيق قَالَ : مَعْنَاهُ كُنْت أَسْرَعَ إِلَى قَضَاء حَوَائِجه مِنْ سَمْعِهِ فِي الْأَسْمَاع وَعَيْنِهِ فِي النَّظَرِ وَيَده فِي اللَّمْس وَرِجْله فِي الْمَشْي . وَحَمَلَهُ بَعْض مُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّة عَلَى مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ مَقَام الْفِنَاء وَالْمَحْو ، وَأَنَّهُ الْغَايَة الَّتِي لَا شَيْء وَرَاءَهَا ، وَهُوَ أَنْ يَكُون قَائِمًا بِإِقَامَةِ اللَّه لَهُ مُحِبًّا بِمَحَبَّتِهِ لَهُ نَاظِرًا بِنَظَرِهِ لَهُ مِنْ غَيْر أَنْ تَبْقَى مَعَهُ بَقِيَّةٌ تُنَاط بِاسْمٍ أَوْ تَقِفُ عَلَى رَسْمٍ أَوْ تَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ أَوْ تُوصَفُ بِوَصْفٍ ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَام أَنَّهُ يَشْهَدُ إِقَامَةَ اللَّهِ لَهُ حَتَّى ، قَامَ وَمَحَبَّته لَهُ حَتَّى أَحَبَّهُ وَنَظَرَهُ إِلَى عَبْدِهِ حَتَّى أَقْبَلَ نَاظِرًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ .
وَحَمَلَهُ بَعْض أَهْل الزَّيْغ عَلَى مَا يَدْعُونَهُ مِنْ أَنَّ الْعَبْد إِذَا لَازَمَ الْعِبَادَةَ الظَّاهِرَة وَالْبَاطِنَة حَتَّى يُصَفَّى مِنْ الْكُدُورَات أَنَّهُ يَصِير فِي مَعْنَى الْحَقّ ، تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ يَفْنَى عَنْ نَفْسه جُمْلَةً حَتَّى يَشْهَد أَنَّ اللَّه هُوَ الذَّاكِر لِنَفْسِهِ الْمُوَحِّد لِنَفْسِهِ الْمُحِبّ لِنَفْسِهِ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَاب وَالرُّسُوم تَصِير عَدَمًا صَرْفًا فِي شُهُوده وَإِنْ لَمْ تُعْدَم فِي الْخَارِج ، وَعَلَى الْأَوْجُه كُلّهَا فَلَا مُتَمَسَّكَ فِيهِ لِلِاتِّحَادِيَّةِ وَلَا الْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَة لِقَوْلِهِ فِي بَقِيَّة الْحَدِيث " وَلَئِنْ سَأَلَنِي ، وَلَئِنْ اِسْتَعَاذَنِي " فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11