كتاب : الفرقانُ بينَ أولياءِ الرَّحمَنِ وأولياءِ الشَّيْطانِ
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَغْلَطُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَيَظُنُّ فِي شَخْصٍ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ وَيَظُنُّ أَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ يَقْبَلُ مِنْهُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ ،وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ ،وَإِنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ،فَيُوَافِقُ ذَلِكَ الشَّخْصُ لَهُ وَيُخَالِفُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ تَصْدِيقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ ،وَطَاعَتَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَجَعَلَهُ الْفَارِقَ بَيْن أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ ،وَبَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَجُنْدِهِ الْمُفْلِحِينَ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ ؛ وَمَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ كَانَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْخَاسِرِينَ الْمُجْرِمِينَ، فَتَجُرُّهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ وَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ أَوَّلًا إلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ وَآخِرًا إلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ ،وَيَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) }(1) [الفرقان/27-30]، وقَوْله تَعَالَى :{ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) }(2)
__________
(1) - وَيَنْدَمُ فِي ذَلِكَ اليومِ الظَّالِمُونَ الكَافِرُونَ ، الذين تَرَكُوا طَريقَ الرَّسُولِ ، وَكَفُرُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الحَقِّ المُبِينِ ، وَيَعَضُّونَ عَلَى أَيْدِيهِمْ نَدَماً عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ ، وَيَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا اتَّبَعْنَا طَرِيقَ الرَّسُولِ المُوصِلِ إِلى الجَنَّةِ ، وَلَكِنَّ النَّدَمَ لاَ يَنْفَعُهُمْ حِيْنَئِذٍ .
( وَيُرَوَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُقْبَةَ بن أَبِي مُعَيْطٍ ، إِذْ كَانَ يَزْجُرُ أُبَيَّ بْنَ خَلَفَ لِحَضُورِهِ مَجْلِسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ) .
وَيَقُولَ الظَالِمُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ مُتَحَسِّراً : يَا خَسَارَهُ وَيَا هَلاَكَهُ ، وَيَا لَيْتَهُ لَمْ يَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً وَصَدِيقاً ( وَيَذْكُرُ اسمَ من أَضَلَّهُ وَصَرَفَهُ عَنِ الحَقِّ والهُدَى ) ، وَيَتَمَّنى لَوْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَسْتَجِبْ لِدَعْوَتِهِ .
لَقَدْ أَضْلَّنِي هَذَا الصَّدِيقُ عَنِ الإِيْمَانِ بالقُرْآنِ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَيَّ ، وَمَنَّانِي بالنَّصْرِ والفَلاَحِ ، وَمِنْ عَادَةِ الشَّيْطَانِ أَنْ يُمَنِّي وَيَعِدَ ، وَيُمَنِّي كَذِباً وَغُرُوراً ، وَأَنْ يَخْذُلَ الإِنْسَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيَتْرِكَهُ لِمَصِيرِهِ ، وَيَقُولَ لأَوْلِيَائِهِ : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ . } ( وَقِيلَ بَلْ إِنَّ المَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ : أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَذِّلُ الإِنْسَانَ عَنِ الحَقِّ ، وَيَصْرِفُهُ عَنْهُ ، وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي البَاطِل وَيَدْعُوهُ إٍِلَيْهِ ) .
(2) - وَهُمْ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً يَنْصُرهُم ، وَيُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ ، حِين تُقَلَّبُ وُجُوهُهُم فِي النَّارِ مِنْ جَانِبٍ إِلى جَانِبٍ آخَرَ ، كَمَا يُقَلَّبُ اللَّحْمُ فَوْقَ النَّارِ ، وَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ مُتَحَسِّرِينَ : يَا لِيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا جَاءَنا بهِ في حَيَاتنا الدُّنْيا ، مِنْ دَعْوةٍ إِلى اللهِ ، وَتَحْذِيرٍ مِنْ عَذَابِهِ ، وَلَوْ أَنّنا أَطْعْنا اللهَ وَرَسُولَهُ لَمَا كُنّا اليَوْمَ نَتَقَلَّبُ في نَارِ جَهَنَّمَ ، وَلا نَجِدُ لَنَا سمَنْ يُنْقِذُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ ، وَلاَ مَنْ يُجِيرُنا مِنْ عَذَابِهِ .
وَقَالَ الكَافِرُونَ ، وَهُمْ يُقَاسُونَ شِدَّةَ العَذَابِ في نَارِ جَهَنَّمَ : رَبَّنا إِننا أَطَعْنا أَئِمَّتَنا في الضَّلاَلةِ ، وَكُبَرَاءَنا ، وَأَشْرَافَ قَوْمِنا ، فَجَعَلُونا نَضِلُّ طَرِيقَ الهُدَى وَالحَقِّ الذِي يُؤَدِّي إلى الإِيمَانِ بِكَ وَإِلى الإِقْرَارِ بِوحْدَانِيِّتِكَ .
رَبَّنا وَأَضْعِفْ لَهُمُ العَذابَ مَرَّتِينِ : مَرَّةً لِكُفِرِهِمْ بِكَ ، وَمَرَّةً لإِضْلالِهِمْ إِيَّانا ، اللهُمَّ وَاخْزِهِمْ وَاطْرُدْهُمْ مِنْ رَحْمَتِكَ .

[الأحزاب/66-69]، وقَوْله تَعَالَى :{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) (1)} البقرة/165-168]. وَهَؤُلَاءِ مُشَابِهُونَ لِلنَّصَارَى الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2)(31) سورة التوبة ،وَفِي الْمَسْنَدِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَفِى عُنُقِى صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: « يَا عَدِىُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ ». وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِى سُورَةِ بَرَاءَةَ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ « أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ »(3)
__________
(1) - وَمَعَ قِيَامِ الأَدِلَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِنَ الكُفَّارِ يَتَّخِذُونَ للهِ شُرَكَاءَ وَأَمْثَالاً ( أَنْدَاداً ) يَعْبُدُونَهُمْ مَعَهُ ، وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ ، وَهُوَ اللهُ الذِي لاَ مَثِيلَ لَهُ ، وَلاَ شَرِيكَ مَعَهُ . أَمَّا الذِينَ آمَنُوا فَإِنَّهُم يَعْبُدُونَ اللهُ وَحْدَهُ ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، وَيُحِبُّونَهُ وَحْدَهُ ، وَهُمْ أَشَدُّ حُبَاً للهِ مِنْ أَيِّ شَيءٍ آخَرَ . وَحِينَ يَرَى المُشْرِكُونَ العَذَابَ الشَّديدَ الذِي يُنْزِلُهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِالكُفَّارِ ، فَتَتَقَطَّعُ بِهِمُ الأَسْبَابُ ، وَلاَ تُغْنِي عَنْهُم الأَنْدَادُ ، يُدْرِكُونَ حِينَئِذٍ أنَّ القُوَّةَ جَميعَهَا للهِ ، وَأَنَّ الحُكْمَ لَهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ .
وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَتَبَرَّأُ الذِينَ كَانَ المُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونَ اللهِ - المَلائِكَةُ وَالجِنُّ وَالبَشَرُ - كَمَا يَتَبَرَّأُ الرُّؤَسَاءُ المُضِلُّونَ الذِينَ اتَّبَعَهُمُ الضُّعَفَاءُ وَالأَعْوَانُ ، مِنْ أَتْبَاعِهِم الذِينَ أَغْوَوْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا ، وَيَتَنَصَّلُونَ مِنْ إِضْلاَلِهِمْ لأَنَّهُمْ قَدْ تَضَاعَفَ عَذَابُهُمْ ، وَحَمْلُهُمْ أَوْزَاراً فَوْقَ أَوْزَارِهِمْ ، وَتَتَقَطَّعُ الرَّوَابِطُ وَالصِّلاَتُ التِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا ، وَيَصِيرُ بَعْضُهُم عَدُوّاً لِبَعْضٍ .
تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ - تَصَرَّمَتِ الصِّلاَتُ التِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنيا مِنْ نَسَبٍ وَصَدَاقَةٍ .
وَيَقُولُ التَّابِعُونَ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي ضَلاَلٍ : لَوْ أَنَّ لَنَا رَجْعَةً إِلََى الدَّارِ الدُّنيا لِنَتَبَرَأَ مِنْ هؤُلاءِ ، وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ ، فَلاَ نَلْتَفِتَ إِلَيهِمْ ، بَلْ نُوَحِّدُ الله ، وَنَهْتَدِي بِهَدْيِهِ . وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي هذا القَوْلِ ، إِذْ أَنَّهُمْ لوْ عَادُوا إِلى الدُّنيا لَعَادُوا إِلى مَا نُهُوا عَنْهُ . وَكَمَا أَرَاهُمُ الله العَذَابَ ، كَذلِكَ سَيُرِيهِمْ أَعْمَالَهُمْ تَذْهَبُ وَتَضْمَحِلُّ فَيَتَحَسَّرُونَ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ ، وَلاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ ، لأَنَّهُمْ لَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ ، وَلَنْ يَعُودُوا إِلى الدُّنيا .
(2) - اتَّخَذَ أَهْلُ الكِتَابِ ، مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، كِبَارَ رِجَالِ دِينِهِمْ أَرْبَاباً وَمُشَرِّعِينَ ، فَأحَلُّوا لَهُمُ الحَرَامَ ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلاَلَ ، فَاتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَهَذِهِ المُتَابَعَةُ هِيَ المَقْصُودَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً } ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ للهِ وَلَداً عَبَدُوهُ مَعَ اللهِ ، كَعُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ ، لاَ إِلهَ غَيْرُ اللهِ ، تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنِ الشِّرْكِ وَالوَلَدْ وَالصَّاحِبَةِ ، وَعَنِ النُّظَرَاءَ وَالأَعْوَانِ ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ .
وَهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِأَنْ يَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ .
(3) - سنن الترمذى (3378 ) ومصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 13 / ص 245)(34930) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 116)(و20847 و20848)حسن لغيره
قَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَزْجُرُ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ، عَنْ التَّقْلِيدِ فِي دِينِ اللَّهِ ، وَتَأْثِيرِ مَا يَقُولُهُ الْأَسْلَافُ عَلَى مَا فِي الْكِتَاب الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ ، فَإِنَّ طَاعَةَ الْمُتَمَذْهِبِ لِمَنْ يَقْتَدِي بِقَوْلِهِ وَيَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِ مِنْ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، مَعَ مُخَالَفَته لِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَقَامَتْ بِهِ حِجَجُ اللَّهِ وَبَرَاهِينُهُ هُوَ كَاِتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ بَلْ أَطَاعُوهُمْ وَحَرَّمُوا مَا حَرَّمُوا وَحَلَّلُوا مَا حَلَّلُوا ، وَهَذَا هُوَ صَنِيعُ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ شَبَهِ الْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَةِ ، وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَةِ ، وَالْمَاءِ بِالْمَاءِ . فَيَا عِبَادَ اللَّهِ مَا بَالُكُمْ تَرَكْتُمْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ جَانِبًا وَعَمَدْتُمْ إِلَى رِجَالٍ هُمْ مِثْلُكُمْ فِي تَعَبُّدِ اللَّهِ لَهُمْ بِهِمَا ، وَطَلَبِهِ لِلْعَمَلِ مِنْهُمْ بِمَا دَلَّا عَلَيْهِ وَأَفَادَاهُ فَعَمِلْتُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْآرَاءِ الَّتِي لَمْ تُعْمَدْ بِعِمَادِ الْحَقِّ ، وَلَمْ تُعْضَدْ بِعَضُدِ الدِّينِ وَنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، تُنَادِي بِأَبْلَغِ نِدَاءٍ ، وَتُصَوِّتُ بِأَعْلَى صَوْتٍ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَيُبَايِنُهُ ، فَأَعَرْتُمُوهَا آذَانًا صُمًّا ، وَقُلُوبًا غُلْفًا ، وَأَذْهَانًا كَلِيلَةً ، وَخَوَاطِرَ عَلِيلَةً ، وَأَنْشَدْتُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ : وَمَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْت وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدُ اِنْتَهَى . وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ : قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ شَاهَدْت جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ قُرِئَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ فَكَانَتْ مَذَاهِبُهُمْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْآيَاتِ ، فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَبَقَوْا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ ، يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ إِلَى خِلَافِهَا ، وَلَوْ تَأَمَّلْت حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْت هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا اِنْتَهَى .تحفة الأحوذي - (ج 7 / ص 418)

.
وَلِهَذَا قِيلَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ: إنَّمَا حُرِمُوا الْوُصُولَ بِتَضْيِيعِ الْأُصُولِ(1)، فَإِنَّ أَصْلَ الْأُصُولِ تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ وَعَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ عُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ مُلُوكِهِمْ وَسُوقَتِهِمْ ،وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ،حَتَّى لَوْ أَدْرَكَهُ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)(2) } [آل عمران/81-83] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : :مَا بَعَثَ اللَّه نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاء إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاق لَئِنْ بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا وَهُوَ حَيّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذ الْمِيثَاق عَلَى أُمَّته لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّد وَهُمْ أَحْيَاء لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنّه. (3)
__________
(1) - وفي حديث معاذ رضي اللّه عنه: فإن جاءك ما ليس في كتاب اللّه تعالى ولا سنة رسول اللّه قال: أقضي فيه بما قضى الصالحون فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله، وفي بعضها اجتهد رأيي وحدثونا عن الجنيد قال: كنت إذا قمت من عند سري السقطي قال لي: إذا فارقتني من تجالس؟ فقلت: الحارث المحاسبي فقال: نعم خذ من علمه وأدبه ودع عنك تشقيقه للكلام ورده على المتكلمين، قال: فلما وليت سمعته يقول جعلك اللّه صاحب حديث صوفياً ولا جعلك صوفياً صاحب حديث يعني أنك إذا ابتدأت بعلم الحديث والأثر ومعرفة الأصول والسنن ثم تزهدت وتعبدت تقدمت في علم الصوفية وكنت صوفياً عارفاً وإذا ابتدأت بالتعبد والتقوى والحال شغلت به عن العلم والسنن فخرجت إما شاطحاً أو غالطاً لجهلك بالأصول والسنن فأحسن أحوالك أن ترجع إلى العلم الظاهر، وكتب الحديث لأنه هو الأصل الذي تفرع عليه العبادة والعلم وأنت قد بودئت بالفرع قبل الأصل، وقد قيل: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول هو كتب الحديث ومعرفة الآثار والسنن فإذا أتمت رددت إلى الأصل فقد انحططت عن مرتبة الناقدين ونزلت من درجة العارفين وفاتك مزيد اليقين والإيمان. قوت القلوب - (ج 1 / ص 126) وقوت القلوب - (ج 1 / ص 223)
(2) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَ المِيثَاقَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ مِنْ لَدُنء آدَمَ ، أَنَّه مَهْمَا آتَى أَحَدَهُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ، وَبَلَغَ أيَّ مَبْلَغٍ ، ثُمَّ جَاءَ رَسُولٌ بَعْدَهُ فَإِنَّ عَلَيهِ أنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيَنْصُرَهُ ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مَا هُوَ عَلَيهِ مِنَ العِلْمش وَالنُّبُوَّةِ مِنِ اتِّباعِ مَنْ بُعِثَ بَعْدَهُ ، وَمِنْ نُصْرَتِهِ .
وَقَالَ اللهُ لِلأنْبِيَاءِ : أأقْرَرْتُمْ بِذلِكَ ، وَعَاهَدْتُمُونِي عَهْداً وَثِيقاً مُؤَكَّداً؟ قَالُوا : أقْرَرْنا . قَالَ اللهُ تَعَالَى للأنْبِيَاءِ : فَاشْهَدُوا وَأنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَقَدْ أبْلَغَ الأنْبيَاءُ ، صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ ، أُمَمَهُمْ بِهَذَا العَهْدِ ، فَوَجَبَ عَلَى أُمَمِهِمْ أنْ يُؤْمِنُوا بِالنَّبِيِّ الذِي يَبْعَثُهُ اللهُ ، وَيَنْصُرُوهُ ، وَفَاءً وَاتِّبَاعاً بِمَا الْتَزَمَ بِهِ أنْبِياؤُهُمْ .
فَمَنْ تَخَلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذا العَهْدِ وَالمِيثَاقِ ، وَاتَّخَذَ الدِّينَ وَسِيلَةً لِلتَّفْرِيقِ وَالعُدْوانِ ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ المُتَأخِّرِ المُصَدِّقِ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ ، وَلَمْ يَنْصُرْهُ ، فَأولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ الجَاحِدُونَ الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ . فَأهْلُ الكِتَابِ الذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، هُمْ خَارِجُونَ عَنْ مِيثَاقِ اللهِ ،
(3) - تفسير الطبري - (ج 6 / ص 555) وتفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 67)
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى - (ج 3 / ص 91):
فَالْإِسْلَامُ يَتَضَمَّنُ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ؛ فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ وَالْمُشْرِكُ بِهِ وَالْمُسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ كَافِرٌ وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ وَحْدَهُ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَطَاعَتَهُ وَحْدَهُ . فَهَذَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ ؛ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُطَاعَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ فَإِذَا أَمَرَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الصَّخْرَةِ ثُمَّ أَمَرَنَا ثَانِيًا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ : كَانَ كُلٌّ مِنْ الْفِعْلَيْنِ حِينَ أَمَرَ بِهِ دَاخِلًا فِي الْإِسْلَامِ فَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ لَهُ فِي الْفِعْلَيْنِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَوُّعُ بَعْضِ صُوَرِ الْفِعْلِ وَهُوَ وَجْهُ الْمُصَلَّى فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ وَالْوَجْهُ وَالْمَنْسَكُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ وَاحِدًا كَمَا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ : أَنَّ أَوَّلَهُمْ يُبَشِّرُ بِآخِرِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ وَآخِرَهُمْ يُصَدِّقُ بِأَوَّلِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } وَجَعَلَ الْإِيمَانَ مُتَلَازِمًا وَكَفَّرَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } إلَى قَوْلِهِ : { تَعْمَلُونَ } وَقَدْ قَالَ لَنَا : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فَأَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ : آمَنَّا بِهَذَا كُلِّهِ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَمَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا مُؤْمِنًا ؛ بَلْ يَكُونُ كَافِرًا وَإِنْ زَعْم أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ . كَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } قَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى : فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } فَقَالُوا : لَا نَحُجُّ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } فَإِنَّ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِقْرَارِ بِمَا لَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ حِجِّ الْبَيْتِ ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ } وَلِهَذَا لَمَّا وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى هَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ لَا ؟ " وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ " فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْخَاصَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَضَمِّنُ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ : لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِسْلَامُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَأَمَّا الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الْمُتَنَاوِلُ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيًّا فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ إسْلَامَ كُلِّ أُمَّةٍ مُتَّبِعَةٍ لِنَبِيِّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ .
وفي مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 422)
وَأَمَّا " الْوَجْهُ الثَّانِي " : فَإِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ : أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَسُوغُ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْ الشَّرِيعَةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا سَاغَ لِلْخَضِرِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْوَلِيِّ فِي الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ فِي عُمُومِ أَحْوَالِهِ أَوْ بَعْضِهَا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُفَضِّلُ الْوَلِيَّ فِي زَعْمِهِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عَلَى النَّبِيِّ زَاعِمِينَ أَنَّ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ حُجَّةٌ لَهُمْ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ مِنْ أَعْظَمِ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ ؛ بَلْ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ النِّفَاقِ وَالْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ . فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : أَنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجَمِيعِ النَّاسِ : عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ وَزُهَّادِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ وَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ بَلْ عَامَّةُ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلَائِقِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَمُلَازَمَةِ مَا يَشْرَعُهُ لِأُمَّتِهِ مِنْ الدِّينِ . وَمَا سَنَّهُ لَهُمْ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ بَلْ لَوْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ قَبْلَهُ أَحْيَاءً لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مُتَابَعَتُهُ وَمُطَاوَعَتُهُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ ؛ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَن بِهِ وَلَيَنْصُرَنهُ وَأَمَرَهُ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ . وَفِي سُنَنِ النَّسَائِي عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَرَقَةً مِنْ التَّوْرَاةِ فَقَالَ : أَمُتَهَوِّكُونَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي } - هَذَا أَوْ نَحْوُهُ - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَلَفْظُهُ : { وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ } وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد قَالَ : { كَفَى بِقَوْمِ ضَلَالَةً أَنْ يَبْتَغُوا كِتَابًا غَيْرَ كِتَابِكُمْ . أُنْزِلَ عَلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ } وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } الْآيَةَ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ بَلْ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ { أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إذَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَإِذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مَنْ يُدْرِكُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ ؟ بَلْ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ أَنْ يَتَّبِعَ شَرِيعَةَ رَسُولٍ غَيْرِهِ كَمُوسَى وَعِيسَى . فَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ إلَى شَرِيعَةِ رَسُولٍ فَكَيْفَ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ وَالرُّسُلِ ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } .
وانظر مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 12) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 728) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 212) وبريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 1 / ص 56)

,وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) }(1)
__________
(1) - يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَدِّعِي الإِيمَانَ بِاللهِ ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَهُوَ مَعْ ذَلِكَ يُرِيدُ أنْ يَتَحَاكَمَ فِي فَصْل ِالخُصُومَاتِ إلى غَيْرِ كِتَابِ اللهِ ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ .
( وَقِيلَ : إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَنْصَاريٍّ وَيَهُودِيٍّ اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ ، فَقَالَ اليَهُودِيُّ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ مُحَمَّدٌ . وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ ( وَهُوَ مِنْ كُبَرَاءِ اليَهُودِ ) . وَيَذُمُّ اللهُ تَعَالَى الذِينَ يَعْدِلُونَ عَنْ شَرْعِ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ، إلَى مَا سِوَاهُمَا مِنَ البِاطِلِ ( وَهُوَ المُرَادٌ هُنَا بِالطَّاغُوتِ ) ، وَقَدْ أُمِرُوا بِأَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ، وَبِحُكْمِ الجَاهِلِيَّةِ ، وََلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْعُوهُمْ الى اتِّبَاعِهِ لِيُضِلَّهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَشَرْعِهِمْ وَهُدَى رَبِّهِمْ ، وَيُبْعِدَهُمْ عَنْهَا .
وَإِذَا دُعِيَ هَؤُلاءِ - الذِينَ يَدَّعُونَ الإِيمَانَ ، ثُمَّ يُرِيدُونَ التَّحَاكُمَ إلى الطَّاغُوتِ - إلى رَسُولِ اللهِ لِلتَّحَاكُمِ لَدَيْهِ ، وِفْقاً لِمَا شَرَعَ اللهُ ، اسْتَكْبَرُوا وَأَعْرَضُوا وَرَغِبُوا عَنْ حُكْمِ رَسُولِ اللهِ إَعْرَاضاً مُتَعَمَّداً مِنْهُمْ .
فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إذَا سَاقَتْهُمُ المَقَادِيرُ إلَيكَ فِي مَصَائِبَ تَحِلُّ بِهِمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ ، وَاحْتَاجُوا إِلَيْكَ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ جَاؤُوكَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكَ ، وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ أَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِذَهَابِهِمْ إلى غَيْرِكَ ، وَبِتَحَاكُمِهِمْ إلَى أَعْدَائِكَ ، إلا المُدَارَاةَ وَالمُصَانَعَةَ ( إحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ) ، لاَ اعْتِقَاداً مِنْهُمْ بِصِحَّةِ تِلْكَ الحُكُومَةِ .
وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ هُمُ المُنَافِقٌُونَ ، وَاللهُ وَحْدَهُ يَعْلَمُ مَبْلَغَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الكُفْرِ وَالحِقْدِ وَالكَيْدِ ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ ، فَإنَّهُ لاَ تَخْفَى عَلَيهِ مِنْهُمْ خَافِيةٌ . ثُمَّ يَدْعُو اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم إلى مُعَامَلَتِهِمْ :
- أَوْلاً : بِالإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَعَدَمِ الإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ بِالبَشَاشَةِ وَالتَّكْرِيمِ ، وَهَذَا النَّوعُ مِنَ المُعَامُلَةِ يُثِيرُ فِي نُفُوسِهِمُ الهَوَاجِسَ وَالشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ .
- ثُمَّ بِالنُّصْحِ وَالتَّذْكِيرِ بِالخَيْرِ ، عَلَى وَجْهٍ تَرِقُّ لَهُ قُلُوبُهُمْ ، وَيَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّأمُّلِ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ العِظَاتِ .
- ثُمَّ بِالقَوْلِ البَلِيغِ ، الذِي يُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِهِمْ ، كَالتَّوَعُّدِ بِالقّتْلِ ، وَالاسْتِئْصَالِ إنْ ظَهَرَ مِنْهُمْ نِفَاقٌ ، وَأنْ يُخْبِرَهُمْ أنَّ اللهَ عَالِمٌ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ .
مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي رُسُلِهِ أنَّهُ لاَ يُرْسِلُهُمْ إلاَّ لِيُطَاعُوا بِإِذْنِ اللهِ ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِمْ ، أَوْ رَغِبَ عَنْ حُكْمِهِمْ ، خَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَسُنَّتِهِ ، وَارْتَكَبَ إثْماً عَظِيماً . وَلًوْ أنَّ هَؤُلاءِ القَوْمَ ، حِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَرَغِبُوا عَنْ حُكْمِ رَسُولِ اللهِ إلى حُكْمِ الطَّاغُوتِ ، جَاؤُوا الرَّسُولَ ، عَقِبَ الذَّنْبِ مُبَاشَرَةً ، فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ ، وَأَظْهَرُوا نَدَمَهُمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ لِلرَّسُولِ لِيَصْفَحَ عَنْهُمْ ، لاعْتِدَائِهِمْ عَلَى حَقْهِ ، وَلِيَدْعُوَ لَهُمْ بِالمَغْفِرَةِ ، وَلَوْ أنَّ الرَّسُولَ دَعَا لَهُمْ بِالمَغْفِرَةِ ، لَتَقَبَّلَ اللهُ تَوْبَتَهُمْ ، وَلَغَمَرَهُمْ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ ، وَلَشَمِلَهُمْ بِعَفْوِهِ ، فَرَحْمَةُ اللهِ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ( وَسَمَّى اللهُ تَعَالَى تَرْكَ طَاعَةِ الرَّسُولِ ظُلْماً لِلنَّفْسِ أَيْ إِفْسَاداً لَهَا ) .
يُقْسِمُ اللهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ المُقَدَّسَةِ عَلَى أنَّ أولَئِكَ الذِينَ رَغِبُوا عَنِ التَّحَاكُمِ إلى الرَّسُولِ ، وَمَنْ مَاثَلَهُمْ مِنَ المُنَافِقِينَ ، لاَ يُؤْمِنُونَ إيمَاناً حَقّاً ( أَيْ إيمَانَ إِذْعَانٍ وَانْقِيَادٍ ) إلاّ إذَا كَمُلَتْ لَهُمْ ثَلاثُ خِصَالٍ :
- أنْ يُحَكِّمُوا الرَّسُولَ فِي القَضَايَا التِي يَخْتَصِمُونَ فِيهَا ، وَلاَ يَبِينُ لَهُمْ فِيهَا وَجْهُ الحَقِّ .
- ألاّ يَجِدُوا ضِيقاً وَحَرَجاً مِمَّا يَحْكُمُ بِهِ ، وَأنْ تُذْعِنَ نُفُوسُهُمْ لِقَضَائِهِ ، إذْعَاناً تَامَاً دُونَ امِتْعَاضٍ مِنْ قَبُولِهِ وَالعَمَلِ بِهِ ، لأَنَّهُ الحَقُّ وَفِيهِ الخَيْرُ .
- أنْ يَنْقَادُوا وَيُسَلِّمُوا لِذَلِكَ الحُكْمِ ، مُوقِنِينَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ فِي حُكْمِهِ ، وَبِعِصْمَتِهِ عَنِ الخَطَأ .

[النساء/60] .
وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُقَلِّدًا فِي ذَلِكَ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ، فَإِنَّهُ بَنَى أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ ؛ وَأَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ لَا يُخَالِفُ فِي شَيْءٍ ،وَلَوْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أَكْبَرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ؛ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؟.
وَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ عُمْدَتُهُمْ فِي اعْتِقَادِ كَوْنِهِ وَلِيًّا لِلَّهِ أَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْهُ مُكَاشَفَةٌ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ أَوْ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ ،مِثْلِ أَنْ يُشِيرَ إلَى شَخْصٍ فَيَمُوتَ ؛ أَوْ يَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ يَمْشِيَ عَلَى الْمَاءِ أَحْيَانًا ؛ أَوْ يَمْلَأَ إبْرِيقًا مِنْ الْهَوَاءِ ؛ أَوْ يُنْفِقَ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ مِنَ الْغَيْبِ ،أَوْ أَنْ يَخْتَفِيَ أَحْيَانًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ ؛ أَوْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اسْتَغَاثَ بِهِ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ فَرَآهُ قَدْ جَاءَهُ فَقَضَى حَاجَتَهُ ؛ أَوْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا سُرِقَ لَهُمْ ؛ أَوْ بِحَالِ غَائِبٍ لَهُمْ أَوْ مَرِيضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ ؛ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا وَلِيٌّ لِلَّهِ ؛ بَلْ قَدِ اتَّفَقَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ لَمْ يُغْتَرَّ بِهِ حَتَّى يَنْظُرَ مُتَابَعَتَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُوَافَقَتَهُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ .(1)
__________
(1) - وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3443)
وقد اتفق أهل المعرفة والتحقيق أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يتبع إلا أن يكون موافقا لأمر الله ورسوله ومن رأى من رجل مكاشفة أو تأثيرا فاتبعه في خلاف الكتاب والسنة كان من جنس أتباع الدجال فإن الدجال يقول للسماء : أمطري فتمطر ويقول للأرض : أنبتي فتنبت ويقول للخربة أخرجي كنوزك فيخرج معه كنوز الذهب والفضة ويقتل رجلا ثم يأمره أن يقوم فيقوم وهو مع هذا كافر ملعون عدو لله قال النبي صلى الله أنذركموه إنه أعور وإن الله ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر - ك ف ر - يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت } . وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : { إذا قعد أحدكم في الصلاة فليستعذ بالله من أربع يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال } . وقال صلى الله عليه وسلم : { لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه رسول الله } وقال صلى الله عليه وسلم : { يكون بين يدي الساعة كذابون دجالون يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم } . وهؤلاء تنزل عليهم الشياطين وتوحي إليهم كما قال تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين. تنزل على كل أفاك أثيم . يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } ومن أول من ظهر من هؤلاء المختار بن أبي عبيد المتقدم ذكره . ومن لم يفرق بين الأحوال الشيطانية والأحوال الرحمانية : كان بمنزلة من سوى بين محمد رسول الله وبين مسيلمة الكذاب فإن مسيلمة كان له شيطان ينزل عليه ويوحي إليه . ومن علامات هؤلاء أن الأحوال إذا تنزلت عليهم وقت سماع المكاء والتصدية أزبدوا وأرعدوا - كالمصروع - وتكلموا بكلام لا يفقه معناه فإن الشياطين تتكلم على ألسنتهم كما تتكلم على لسان المصروع . والأصل في هذا الباب : أن يعلم الرجل أن أولياء الله هم الذين نعتهم الله في كتابه حيث قال : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولم يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها . فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه و لإن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته . ولا بد له منه } . ودين الإسلام مبني على أصلين على ألا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع . قال تعالى : { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } فالعمل الصالح ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع المسنون ولهذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا . ولهذا كانت أصول الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث : قول النبي صلى الله عليه وسلم { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } وقوله : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } . وقوله : { الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب } والحمد لله رب العالمين . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم . ) انتهى نقلا عن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج 25 ص 299
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 4151)
قال في تيسير العزيز الحميد: اتفق العلماء على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يعتد به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه، ومثل هذه الأمور قد يكون صاحبها وليا لله وقد يكون عدوا له. والعبارة للشافعي رحمه الله، كما في معارج القبول، وأثرت عن غير واحد من السلف،
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1697)
يقول الإمام الشافعي: "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تعتدوا به حتى تعرضوا أعماله على الكتاب والسنة ويقول الإمام ابن تيمية: وكرامات الأولياء حق باتفاق أئمة أهل الإسلام والسنة والجماعة، وقد دل عليها القرآن في غير موضع، والأحاديث الصحيحة، والآثار والمتواترة عن الصحابة وغيرهم والتابعين لكن كثيراً ممن يدعونها أو تدعى له يكون كذاباً أو ملبوساً عليه.
وأيضاً فإنها لا تدل على عصمة صاحبها وعلى وجوب اتباعه في كل ما يقوله بل قد تصدر بعض الخوارق من الكفار والسحرة بمؤاخاتهم للشياطين كما ثبت عن الدجال أنه يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وأنه يقتل واحداً ثم يحييه، وأنه يخرج خلفه كنوز الذهب والفضة ولهذا اتفق أئمة الدين على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يثبت له ولاية ولا إسلام حتى ننظر وقوفه عند الأمر والنهي الذي بعث به رسوله .
إذن يجب أن نتحقق من دين من تظهر عليه بعض الخوارق، فإذا كان ملتزماً بالكتاب والسنة والشريعة اعتقدنا بكرامته، ولو أن ذلك لا يترتب عليه إثبات أو نفي الأحكام شرعية أو أن يكون ذلك باباً وسبباً لتحصيل المال والجاه بغير حق، وإلا فهو محتال أو ممن يتخذهم الشيطان طمعاً كالسذج من الناس ليصدهم عن الطريق السوي والشريعة السمحاء.

وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ ؛ وَهَذِهِ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهَا وَلِيًّا لِلَّهِ فَقَدْ يَكُونُ عَدُوًّا لِلَّهِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ تَكُونُ لِكَثِيرِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَتَكُونُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ، وَتَكُونُ مِنَ الشَّيَاطِينِ،فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ ؛ بَلْ يُعْتَبَرُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِصِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَيُعْرَفُونَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ وَبِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ .
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ وَأَمْثَالَهَا قَدْ تُوجَدُ فِي أَشْخَاصٍ وَيَكُونُ أَحَدُهُمْ لَا يَتَوَضَّأُ ؛ وَلَا يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةَ ؛ بَلْ يَكُونُ مُلَابِسًا لِلنَّجَاسَاتِ مُعَاشِرًا لِلْكِلَابِ ؛ يَأْوِي إلَى الْحَمَّامَاتِ والقمامين وَالْمَقَابِرِ وَالْمَزَابِلِ ؛ رَائِحَتُهُ خَبِيثَةٌ لَا يَتَطَهَّرُ الطَّهَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ ؛ وَلَا يَتَنَظَّفُ ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :« لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلاَ كَلْبٌ وَلاَ جُنُبٌ »(1). وَقَالَ عَنْ هَذِهِ الأخلية : « إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْخَلاَءَ فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ »(2)
__________
(1) - سنن أبى داود ( 227 و 4152) ون 1/141 وحم 1/10 و 4/28 وهق 1/201 و 7/271 وش 5/410 وعب ( 19483) ومجمع 5/173 و 174 وحب ( 1484) وسنة 2/36 وترغيب 1/148 و 4/45 وك 1/171 وهو صحيح لغيره
وفي عون المعبود - (ج 1 / ص 262)
قَالَ الْإِمَام الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِم السُّنَن : يُرِيد الْمَلَائِكَة الَّذِينَ يَنْزِلُونَ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَة دُون الْمَلَائِكَة الَّذِينَ هُمْ الْحَفَظَة فَإِنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَ الْجُنُب وَغَيْر الْجُنُب . وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْجُنُبِ هَاهُنَا مَنْ أَصَابَتْهُ جَنَابَة فَأَخَّرَ الِاغْتِسَال إِلَى حُضُور الصَّلَاة ، وَلَكِنْ الَّذِي يُجْنِب فَلَا يَغْتَسِل وَيَتَهَاوَن بِهِ وَيَتَّخِذ تَرْكه عَادَة ، وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَطُوف عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْل وَاحِد ، وَفِي هَذَا تَأْخِير الِاغْتِسَال عَنْ أَوَّل وَقْت وُجُوبه . وَقَالَتْ عَائِشَة : " كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَام وَهُوَ جُنُب مِنْ غَيْر أَنْ يَمَسّ مَاء " . وَأَمَّا الْكَلْب فَهُوَ أَنْ يَقْتَنِيَ كَلْبًا لَيْسَ لِزَرْعٍ أَوْ لِضَرْعٍ أَوْ لِصَيْدٍ ، فَأَمَّا إِذْ يَرْبُطهُ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي بَعْض هَذِهِ الْأُمُور أَوْ لِحِرَاسَةِ دَاره إِذَا اُضْطُرَّ إِلَيْهِ فَلَا جُنَاح عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَأَمَّا الصُّورَة فَهِيَ كُلّ مُصَوَّر مِنْ ذَوَات الْأَرْوَاح كَانَتْ لَهُ أَشْخَاص مُنْتَصِبَة ، أَوْ كَانَتْ مَنْقُوشَة فِي سَقْف أَوْ جِدَار أَوْ مَصْنُوعَة فِي نَمَط أَوْ مَنْسُوجَة فِي ثَوْب أَوْ مَا كَانَ ، فَإِنَّ قَضِيَّة الْعُمُوم تَأْتِي عَلَيْهِ فَلْيُجْتَنَبْ . اِنْتَهَى كَلَامه بِحُرُوفِهِ .
قَالَ الْحَافِظ اِبْن حَجَر : يَحْتَمِل كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ الْمُرَاد بِالْجُنُبِ مَنْ يَتَهَاوَن بِالِاغْتِسَالِ وَيَتَّخِذ تَرْكه عَادَة لَا مَنْ يُؤَخِّرهُ لِيَفْعَلهُ ، قَالَ وَيُقَوِّيه أَنَّ الْمُرَاد بِالْكَلْبِ غَيْر مَا أُذِنَ فِي اِتِّخَاذه ، وَبِالصُّورَةِ مَا فِيهِ رُوح . قَالَ النَّوَوِيّ : وَفِي الْكَلْب نَظَر وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْجُنُبِ فِي حَدِيث عَلِيّ مَنْ لَمْ يَرْتَفِع حَدَثه كُلّه وَلَا بَعْضه وَإِذَا تَوَضَّأَ اِرْتَفَعَ بَعْض حَدَثه عَلَى الصَّحِيح ، وَعَلَيْهِ تَبْوِيب الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه حَيْثُ قَالَ بَاب كَيْنُونَة الْجُنُب فِي الْبَيْت إِذَا تَوَضَّأَ ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيث عَائِشَة أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْقُد وَهُوَ جُنُب إِذَا تَوَضَّأَ ، وَأَوْرَدَ النَّسَائِيُّ حَدِيث عَلِيّ هَذَا فِي بَاب الْجُنُب إِذَا لَمْ يَتَوَضَّأ ، فَظَهَرَ مِنْ تَبْوِيبه أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الِاحْتِمَال الثَّانِي . وَاَلَّذِي قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ هُوَ أَحَبّ إِلَيَّ إِنْ صَحَّ الْحَدِيث . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ ، وَلَيْسَ فِي حَدِيث اِبْن مَاجَهْ : وَلَا جُنُب . وَقَالَ الْبُخَارِيّ : عَبْد اللَّه بْن نُجَيّ الْحَضْرَمِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيّ فِيهِ نَظَر . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيث أَبِي طَلْحَة زَيْد بْن سَهْل الْأَنْصَارِيّ قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول " لَا تَدْخُل الْمَلَائِكَة بَيْتًا فِيهِ كَلْب وَلَا صُورَة " اِنْتَهَى .
(2) - سنن أبى داود(6 )صحيح
الحشوش : جمع الحش وهى الكنف ومواضع قضاء الحاجة

. أَيْ يَحْضُرُهَا الشَّيْطَانُ ،وَقَالَ : « مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ - وَقَالَ مَرَّةً مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ - فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ »(1)
__________
(1) - صحيح مسلم (1282 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 2 / ص 328)
قَالَ الْعُلَمَاء : وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى مَنْع آكِل الثَّوْم وَنَحْوه مِنْ دُخُول الْمَسْجِد - وَإِنْ كَانَ خَالِيًا - لِأَنَّهُ مَحَلّ الْمَلَائِكَة ، وَلِعُمُومِ الْأَحَادِيث .
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 22 / ص 41)
يُسْتَحَبُّ تَطْيِيبُ الْمَسَاجِدِ ، وَيُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ مِنْ ثُومٍ أَوْ بَصَلٍ وَنَحْوِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ ، كَمَا يُكْرَهُ لِمَنْ أَكَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ دُخُول الْمَسَاجِدِ وَيُرَخَّصُ لَهُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَمِثْلُهُ مَنْ لَهُ صُنَانٌ أَوْ بَخَرٌ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ إِخْرَاجِ مَنْ بِهِ ذَلِكَ إِزَالَةً لِلأَْذَى (1) ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَخْرَجَ أَذًى مِنَ الْمَسْجِدِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ (2) ، وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَنْ أَكَل ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا - أَوْ قَال : فَلْيَعْتَزِل مَسْجِدَنَا (3) .
وَقَال : مَنْ أَكَل مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ يَعْنِي الثُّومَ فَلاَ يَقْرَبْنَا فِي الْمَسْجِدِ وَفِي رِوَايَةٍ : فَلاَ يَقْرَبْ مُصَلاَّنَا (4) .
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِخْرَاجُ الرِّيحِ فِي الْمَسْجِدِ بِجَامِعِ الإِْيذَاءِ بِالرَّائِحَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ (5) ، لِخَبَرِ : إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ (6) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ ذَلِكَ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ ؛ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ يُنَزَّهُ عَنِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ (7) . وَانْظُرْ : ( مَسَاجِدُ ) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 365، وأسنى المطالب 1 / 215، وجواهر الإكليل 2 / 203، ومواهب الجليل 6 / 13
(2) حديث : " من أخرج أذى من المسجد بنى الله له بيتًا في الجنة " أخرجه ابن ماجه 1 / 250 - ط الحلبي من حديث أبي سعيد الخدري ، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة ( 1 / 163 - ط دار الجنان ) : " هذا إسناد ضعيف، ومسلم - هو ابن يسار - لم يسمع من أبي سعيد، ومحمد - يعني ابن صالح المدني - فيه لين " .
(3) حديث : " من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا - أو قال : فليعتزل مسجدنا " أخرجه البخاري ( الفتح 2 / 239 - ط السلفية ) ، ومسلم ( 1 / 394 - ط الحلبي ) من حديث جابر بن عبد الله
(4) حديث : " من أكل من هذه الشجرة الخبيثة ( يعني الثوم ) فلا يقربنا في المسجد " . وفي رواية : " فلا يقرب مصلانا " . أخرجه مسلم ( 1 / 395 - ط الحلبي ) وأبو عوانة ( 1 / 412 - ط دائرة المعارف العثمانية ) من حديث أبي سعيد الخدري، والرواية الأخرى لأبي عوانة . (5) المصادر السابقة، وكشاف القناع 1 / 497 .
(6) حديث : " إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم " أخرجه مسلم ( 1 / 395 - ط الحلبي ) من حديث جابر بن عبد الله .
(7) مواهب الجليل 6 / 13 .
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 34 / ص 226)
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ : أَكْل كُل ذِي رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ كَبَصَلٍ وَثُومٍ وَكُرَّاثٍ وَفُجْلٍ إِذَا تَعَذَّرَ زَوَال رَائِحَتِهِ (1) لِحَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال : مَنْ أَكَل مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ وَقَال مَرَّةً : مَنْ أَكَل الْبَصَل وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ (2)
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 390 ، وجواهر الإكليل 1 / 100 ، ومغني المحتاج 1 / 236 ، والقليوبي وعميرة 1 / 227 ، وكشاف القناع 1 / 497 ، والمغني 11 / 88 - 89 ، وعمدة القاري 6 / 146
(2) حديث : " من أكل من هذه . . . " أخرجه مسلم ( 1 / 395 ) .

.. وَقَالَ { إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا } (1)،وَقَالَ : { إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ }(2) ،وَقَالَ : { « خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِى الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْحَيَّةُ وَالْغُرَابُ الأَبْقَعُ وَالْفَارَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْحُدَيَّا »(3). وَفِي رِوَايَةٍ { الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ } (4).
وَأَمَرَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَقَالَ : « مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لاَ يُغْنِى عَنْهُ زَرْعًا وَلاَ ضَرْعًا ، نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ »(5)، وَقَالَ : « لاَ تَصْحَبُ الْمَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلاَ جَرَسٌ »(6). وَقَالَ : « إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِى إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ »(7).
وَقَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) (8)
__________
(1) - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ». ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ».صحيح مسلم(2393 )
(2) - ت ( 329) والإتحاف 4/126 وعدى 3/878 وجامع الأصول 4/766 وحسنه وبنحوه الدولابى 2/16 والإتحاف 2/311 وعدى 5/292 , وهو حسن لغيره
(3) - صحيح مسلم(2919 ) =الأبقع : الذى فى ظهره أو بطنه بياض
(4) - سنن أبى داود (922 )صحيح
(5) - صحيح البخارى (2323 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 426)
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي سَبَب نُقْصَان الْأَجْر بِاقْتِنَاءِ الْكَلْب ، فَقِيلَ : لِامْتِنَاعِ الْمَلَائِكَة مِنْ دُخُول بَيْته بِسَبَبِهِ . وَقِيلَ : لِمَا يَلْحَق الْمَارِّينَ مِنْ الْأَذَى مِنْ تَرْوِيع الْكَلْب لَهُمْ وَقَصْده إِيَّاهُمْ ، وَقِيلَ : إِنَّ ذَلِكَ عُقُوبَة لَهُ لِاِتِّخَاذِهِ مَا نُهِيَ عَنْ اِتِّخَاذه ، وَعِصْيَانه فِي ذَلِكَ ، وَقِيلَ : لِمَا يُبْتَلَى بِهِ مِنْ وُلُوغه فِي غَفْلَة صَاحِبه وَلَا يَغْسِلهُ بِالْمَاءِ وَالتُّرَاب . وَاَللَّه أَعْلَم .
(6) - صحيح مسلم(5668 )
(7) - سنن النسائى (340 ) صحيح وأصله في مسلم
(8) - وَسَأُثْبِتُ رَحْمَتِي بِمَشِيئَتِي لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكُفْرَ وَالمَعَاصِيَ ، وَيُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ ، وَيُؤْتُونَ الصَّدَقَاتِ التِي تَتَزَكَّى بِهَا نُفُوسُهُمْ ، وَلِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَيُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ آيَاتِي الدَّالَّةِ عَلَى الوحْدَانِيَّةِ ، وَيُصَدِّقُونَ رُسُلِي ، وَمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ .
وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى وَصْفَ الذِينَ يَشْمَلُهُمْ بِرَحْمَتِهِ الوَاسِعَةِ فَيَقُولُ : إِنَّهُمْ الذِينَ يَتَّبِعُونَ مُحَمَّداً النَّبيِّ الأُمِّيَّ ، الذِي لاَ يَكْتُبُ وَلاَ يَقْرَأُ ، وَقَدْ جَاءَ وَصْفُهُ وَالبِشَارَةُ بِهِ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ ، وَهُوَ يَأْمُرُهُمْ بِفِعْلِ الخَيْرَاتِ ، وَبِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ، وَيَضَعُ عَنْهُمُ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ ، كَاشْتِرَاطِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ ، وَالقِصَاصِ فِي القَتْلِ العَمْدِ أَوِ الخَطَإِ ، مِنْ غَيْرَ شَرْعٍ لِلدِّيَةِ ، وَقَطْعِ الأَعْضَاءِ الخَاطِئَةِ ، وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ ، وَتَحْرِيمِ السَّبْتِ . . . فَقَدْ جَاءَ مُحَمَّدٌ بِمَا هُوَ يُسْرٌ وِسَمَاحَةٌ .
[ وَقَالَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم يُوصِي أَمِيرِينِ أَرْسَلَهُمَا فِي بَعْثَينِ إِلى اليَمَنِ : " بَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا ، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا " ] .
وَوَسَّعَ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أُمُورَهَا ، وَسَهَّلَهَا لَهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " فَالذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ النَّبِيِّ الأُميِّ ، حِينَ بُعِثَ ، مِنْ قَومِ مُوسَى وَعِيسَى ، وَمِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ، وَعَزَّرُوهُ بِأَنْ مَنَعُوهُ وَحَمَوْهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُعَادِيهِ ، مَعَ التَّعْظِيمِ وَالإِجْلاَلِ ، وَنَصَرُوهُ بِاللِّسَانِ وَاليَدِ ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الأَعْظَمَ الذِي أُنْزِلَ مَعَ رِسَالَتِهِ ، وَهُوَ القُرآنُ . . فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ، الفَائِزُونَ بالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ .

} [الأعراف/156-158] .
فَإِذَا كَانَ الشَّخْصُ مُبَاشِرًا لِلنَّجَاسَاتِ وَالْخَبَائِثِ الَّتِي يُحِبُّهَا الشَّيْطَانُ ،أَوْ يَأْوِي إلَى الْحَمَّامَاتِ وَالْحُشُوشِ الَّتِي تَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ ،أَوْ يَأْكُلُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَالزَّنَابِيرَ ؛ وَآذَانَ الْكِلَابِ الَّتِي هِيَ خَبَائِثُ وَفَوَاسِقُ، أَوْ يَشْرَبُ الْبَوْلَ وَنَحْوَهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا الشَّيْطَانُ، أَوْ يَدْعُو غَيْرَ اللَّهِ فَيَسْتَغِيثَ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَيَتَوَجَّهَ إلَيْهَا أَوْ يَسْجُدُ إلَى نَاحِيَةِ شَيْخِهِ، وَلَا يُخْلِصُ الدِّينَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ يُلَابِسُ الْكِلَابَ أَوْ النِّيرَانَ، أَوْ يَأْوِي إلَى الْمَزَابِلِ وَالْمَوَاضِعِ النَّجِسَةِ أَوْ يَأْوِي إلَى الْمَقَابِرِ ؛ وَلَا سِيَّمَا إلَى مَقَابِرِ الْكُفَّارِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ الْمُشْرِكِينَ ،أَوْ يَكْرَهُ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَيَنْفِرُ عَنْهُ وَيُقَدِّمُ عَلَيْهِ سَمَاعَ الْأَغَانِي وَالْأَشْعَارِ، وَيُؤْثِرُ سَمَاعَ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ عَلَى سَمَاعِ كَلَامِ الرَّحْمَنِ، فَهَذِهِ عَلَامَاتُ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ لَا عَلَامَاتُ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ . قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الْقُرْآَنَ فَهُوَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"(1). وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أنَّ قُلُوبَنَا طَهُرَتْ ما شَبِعَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (2)؛ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الذِّكْرُ يُنْبِتُ الْإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ وَالْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ (3). وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ خَبِيرًا بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ فَارِقًا بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ(4)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني (8575) وشعب الإيمان للبيهقي(1960)حديث حسن
(2) - الأسماء والصفات للبيهقي(507 ) وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (749 ) و فضائل عثمان بن عفان لعبد الله بن أحمد (66 )حسن
(3) - السنة لأبي بكر بن الخلال (1670 ) و تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي(598 ) وفيه ضعف
(4) - مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 400)
وَالْمُخْلَصُونَ هُمْ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا يُعْبَدُ اللَّهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ تَوَلَّتْهُ الشَّيَاطِينُ . وَهَذَا بَابٌ دَخَلَ فِيهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ ؛ وَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ الْأَحْوَالُ الرَّحْمَانِيَّةُ بِالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَحَصَلَ لَهُمْ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ لِلْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 635)
فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُبْغِضُ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ تَعَالَى وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِي أَعْدَاءَ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَيُبْغِضُونَ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَيُوَالُونَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيُعَادُونَ أَوْلِيَاءَهُ ؛ وَلِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تنزلات شَيْطَانِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا فَعَلُوهُ مِنْ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ وَكُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ قَرُبُوا مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ . فِيهِمْ مَنْ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَالشَّيْطَانُ طَائِرٌ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْرَعُ الْحَاضِرِينَ وَشَيَاطِينُهُ تَصْرَعُهُمْ وَفِيهِمْ مَنْ يُحْضِرُ طَعَامًا وَإِدَامًا . وَيَمْلَأُ الْإِبْرِيقَ مِنْ الْهَوَاءِ وَالشَّيَاطِينِ فَعَلَتْ ذَلِكَ . فَيَحْسَبُ الْجَاهِلُونَ أَنَّ هَذِهِ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ أَحْوَالِ الْكَهَنَةِ وَالسَّحَرَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الشَّيَاطِينِ وَمَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ والنفسانية والشيطانية لَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ .
مجموع الفتاوى - (ج 35 / ص 116)
إِنَّ الشَّيَاطِينَ وَإِنْ كَانُوا يُخْبِرُونَ الْإِنْسَانَ بِقَضِيَّةِ أَوْ قِصَّةٍ فِيهَا صِدْقٌ فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ أَضْعَافَ ذَلِكَ كَمَا كَانَتْ الْجِنُّ يُخْبِرُونَ الْكُهَّانَ . وَلِهَذَا مَنْ اعْتَمَدَ عَلَى مُكَاشَفَتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخْبَارِ الْجِنِّ كَانَ كَذِبُهُ أَكْثَرَ مِنْ صِدْقِهِ ؛ كَشَيْخِ كَانَ يُقَالُ لَهُ : " الشياح " توبناه وَجَدَّدْنَا إسْلَامَهُ كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنْ الْجِنِّ يُقَالُ لَهُ : " عَنْتَرٌ " يُخْبِرُهُ بِأَشْيَاءَ فَيَصْدُقُ تَارَةً وَيَكْذِبُ تَارَةً فَلَمَّا ذَكَرْت لَهُ أَنَّك تَعْبُدُ شَيْطَانًا مِنْ دُونِ اللَّهِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ : يَا عَنْتَرُ لَا سُبْحَانَك ؛ إنَّك إلَهٌ قَذِرٌ وَتَابَ مِنْ ذَلِكَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ . وَقَدْ قَتَلَ سَيْفُ الشَّرْعِ مَنْ قَتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِثْلَ الشَّخْصِ الَّذِي قَتَلْنَاهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَكَانَ لَهُ قَرِينٌ يَأْتِيهِ وَيُكَاشِفُهُ فَيَصْدُقُ تَارَةً وَيَكْذِبُ تَارَةً وَقَدْ انْقَادَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرِّئَاسَةِ فَيُكَاشِفُهُمْ حَتَّى كَشَفَهُ اللَّهُ لَهُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ الْقَرِينَ كَانَ تَارَةً يَقُولُ لَهُ : أَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَيَذْكُرُ أَشْيَاءَ تُنَافِي حَالَ الرَّسُولِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الرَّسُولَ يَأْتِينِي وَيَقُولُ لِي كَذَا وَكَذَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ أَضَافَهَا إلَى الرَّسُولِ ؛ فَذَكَرْت لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ وَأَنَّ الَّذِي يَرَاهُ شَيْطَانًا ؛ وَلِهَذَا لَا يَأْتِيهِ فِي الصُّورَةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَأْتِيهِ فِي صُورَةٍ مُنَكَّرَةٍ وَيَذْكُرُ عَنْهُ أَنَّهُ يَخْضَعُ لَهُ ؛ وَيُبِيحُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُسْكِرَ وَأُمُورًا أُخْرَى . وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الرُّؤْيَةِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي أَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الصُّورَةَ ؛ لَكِنْ كَانَ كَافِرًا فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَلِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تنزلات شَيْطَانِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا فَعَلُوهُ مِنْ مُرَادِ الشَّيْطَانِ ؛ فَكُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ قَرُبُوا مِنْ الشَّيْطَانِ . فَيَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ ؛ وَالشَّيْطَانُ طَارَ بِهِمْ . وَمِنْهُمْ مِنْ يَصْرَعُ الْحَاضِرِينَ وَشَيَاطِينُهُ صَرَعَتْهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْضِرُ طَعَامًا وَإِدَامًا وَمَلَأَ الْإِبْرِيقَ مَاءً مِنْ الْهَوَاءِ وَالشَّيَاطِينُ فَعَلَتْ ذَلِكَ فَيَحْسَبُ الْجَاهِلُونَ أَنَّ هَذِهِ كَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ أَحْوَالِ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَأَمْثَالِهِمْ . وَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ والنفسانية اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَمَنْ لَمْ يُنَوِّرْ اللَّهُ قَلْبَهُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ لَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَ الْمُحِقِّ مِنْ الْمُبْطِلِ ؛ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْحَالُ كَمَا الْتَبَسَ عَلَى النَّاسِ حَالُ مُسَيْلِمَةَ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَذَّابِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ ؛ وَإِنَّمَا هُمْ كَذَّابُونَ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ فِيكُمْ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ } . وَأَعْظَمُ الدَّجَاجِلَةِ فِتْنَةً " الدَّجَّالُ الْكَبِيرُ " الَّذِي يَقْتُلُهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ؛ فَإِنَّهُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَتِهِ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِيذُوا مِنْ فِتْنَتِهِ فِي صَلَاتِهِمْ . وَقَدْ ثَبَتَ " أَنَّهُ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ : أَمْطِرِي ؛ فَتُمْطِرُ ؛ وَلِلْأَرْضِ أَنْبِتِي فَتُنْبِتُ " " وَأَنَّهُ يَقْتُلُ رَجُلًا مُؤْمِنًا ؛ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ قُمْ فَيَقُومُ ؛ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّك ؛ فَيَقُولُ لَهُ كَذَبْت ؛ بَلْ أَنْتَ الْأَعْوَرُ الْكَذَّابُ الَّذِي أَخْبَرَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهِ مَا ازْدَدْت فِيك إلَّا بَصِيرَةً فَيَقْتُلُهُ مَرَّتَيْنِ فَيُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَلَا يُسَلِّطُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ " وَهُوَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ .

فَيَكُونُ قَدْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نُورِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1) (28) سورة الحديد، وَقَالَ تَعَالَى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (2)(52) سورة الشورى، فَهَذَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ »(3)
__________
(1) - يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ، مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى ، عَلَى تَقْوى اللهِ ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالإِيْمَانِ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَيَعِدُهُمْ إِنْ هُمْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ، وَاتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا العَمَلَ بِأنَّهُ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أَجْرَهُمْ ضِعْفَيْنِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيْمَانِهِمْ بِنَبِّيهِمْ وَبِالأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ قَبْلَهُ ، وَأَجْراً آخَرَ لإِيْمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ، وَأَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُمْ هُدى وَنُوراً يَمْشُونَ بِهِ فَيُجِنِّبُهُمْ العَمَى وَالضَّلاَلَةَ ، وَأَنَّهُ سَوْفَ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ ، وَيُعْلِمُهُمْ بِأَنَّ اللهَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ لِمَنْ شَاءَ ، رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ ، يَقْبَلُ إِنْ أَحْسَنُوا التَّوْبَةَ إِلَيهِ .
( وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ حِينَمَا فَخَرَ مُؤْمِنُوا أَهْلِ الكِتَابِ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَتِ الآيَةُ { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } فَجَعَلَ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَجْرَينِ وَزَادَهُمْ نُوراً ) .
وَفِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ : " ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ :
- رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيَّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ .
- وَعَبَدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ فَلَهُ أَجْرَانِ .
- وَرَجُلٌ أَدَّبَ أَمَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأَدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ " ) . ( رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ) .
(2) - وَكَمَا أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ ، كَذَلِكَ أَوْحَى إِلَيكَ القُرْآنَ ، وَلَمْ تَكُنْ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْكَ وَحْيَهُ ، تَعْلَمُ مَا القُرْآنُ ، وَمَا الشَّرَائِعُ ، التِي بِهَا هِدَايَةُ البَشَرِ ، وَلَكِنَّ الله تَعَالَى هُوَ الذِي أَوْحَى إِلَيكَ القُرْآنَ ، وَجَعَلَهُ نُوراً يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ .
وَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَتَهْدِي بِذَلِكَ النُّورِ المُنَزَّلِ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، مَنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ .
رُوحاً مِنْ أمْرِنَا - قُرآناً - أَوْ جِبْرِيلَ ، عَلْيهِ السَّلاَمُ ، أَوْ نُبُوَّةً .
(3) - سنن الترمذى (3419 ) والمعجم الكبير للطبراني (7369 ) ومسند الشاميين(2042) وغيرهم من طرق حسن لغيره
وفي تحفة الأحوذي - (ج 7 / ص 456)
( اِتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ ) الْفِرَاسَةُ بِالْكَسْرِ ، اِسْمٌ مِنْ قَوْلِك : تَفَرَّسْت فِي فُلَانٍ الْخَيْرَ ، وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ، وَهُوَ مَا يُوقِعُهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ فَيَعْلَمُونَ بِذَلِكَ أَحْوَالَ النَّاسِ بِنَوْعٍ مِنْ الْكَرَامَاتِ وَإِصَابَةِ الْحَدْسِ وَالنَّظَرِ وَالظَّنِّ وَالتَّثَبُّتِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : مَا يَحْصُلُ بِدَلَائِلِ التَّجَارِبِ وَالْخُلُقِ وَالْأَخْلَاقِ تُعْرَفُ بِذَلِكَ أَحْوَالُ النَّاسِ أَيْضًا . وَلِلنَّاسِ فِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ تَصَانِيفُ قَدِيمَةٌ وَحَدِيثَةٌ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْخَازِنِ . وَقَالَ الْمَنَاوِيُّ : اِتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ ، أَيْ اِطِّلَاعَهُ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ بِسَوَاطِعِ أَنْوَارٍ أَشْرَقَتْ عَلَى قَلْبِهِ ، فَتَجَلَّتْ لَهُ بِهَا الْحَقَائِقُ .
( فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ) أَيْ يُبْصِرُ بِعَيْنِ قَلْبِهِ الْمَشْرِقِ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى . وَأَصْلُ الْفِرَاسَةِ : أَنَّ بَصَرَ الرُّوحِ مُتَّصِلٌ بِبَصَرِ الْعَقْلِ فِي عَيْنَيْ الْإِنْسَانِ فَالْعَيْنُ جَارِحَةٌ وَالْبَصَرُ مِنْ الرُّوحِ ، وَإِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ مِنْ بَيْنِهِمَا ، فَإِذَا تَفَرَّغَ الْعَقْلُ وَالرُّوحُ مِنْ أَشْغَالِ النَّفْسِ أَبْصَرَ الرُّوحُ وَأَدْرَكَ الْعَقْلُ مَا أَبْصَرَ الرُّوحُ ، وَإِنَّمَا عَجَزَ الْعَامَّةُ عَنْ هَذَا لِشُغْلِ أَرْوَاحِهِمْ بِالنُّفُوسِ وَاشْتِبَاكِ الشَّهَوَاتِ بِهَا فَشُغِلَ بَصَرُ الرُّوحِ عَنْ دَرْكِ الْأَشْيَاءِ الْبَاطِنَةِ وَمَنْ أَكَبَّ عَلَى شَهَوَاتِهِ وَتَشَاغَلَ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ حَتَّى خَلَّطَ عَلَى نَفْسِهِ الْأُمُورَ وَتَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ الظُّلُمَاتُ ، كَيْفَ يُبْصِرُ شَيْئًا غَابَ عَنْهُ
( ثُمَّ قَرَأَ )رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ }
قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ : لِلنَّاظِرِينَ ، وَقَالَ قَتَادَةُ : لِلْمُعْتَبَرِينَ ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ : لِلْمُتَفَكِّرِينَ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : لِلْمُتَفَرِّسِينَ .الْخَازِنُ : وَيُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اِتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ إِلَخْ .

. ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}(1)
__________
(1) - وَأَمَّا حُجَّةُ أَهْلِ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ وَالْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَهُمْ إلْهَامَاتٌ صَحِيحَةٌ مُطَابِقَةٌ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهَا تُجْلَى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } } وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : أَظُنُّهُ وَاَللَّهِ لِلْحَقِّ يَقْذِفُهُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا } وَفِي رِوَايَةٍ { فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِالْحَقِّ وَيُبْصِرُ بِهِ . وَكَانُوا يَقُولُونَ إنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { نُورٌ عَلَى نُورٍ } نُورُ الْإِيمَانِ مَعَ نُورِ الْقُرْآنِ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وَهُوَ الْمُؤْمِنُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْبَعُهُ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ شَهِدَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ بِمِثْلِ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ بَيِّنَةِ الْإِيمَانِ وَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ حُذَّاقُ النُّظَّارِ لَمَّا تَكَلَّمُوا فِي وُجُوبِ النَّظَرِ وَتَحْصِيلِهِ لِلْعِلْمِ فَقِيلَ لَهُمْ : أَهْلُ التَّصْفِيَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالتَّأَلُّهِ تَحْصُلُ لَهُمْ الْمَعَارِفُ وَالْعُلُومُ الْيَقِينِيَّةُ بِدُونِ النَّظَرِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْمُلَقَّبُ بالكبيري - للرازي وَرَفِيقِهِ وَقَدْ قَالَا لَهُ يَا شَيْخُ بَلَغَنَا أَنَّك تَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَقَالَ : نَعَمْ فَقَالَا : كَيْفَ تَعْلَمُ وَنَحْنُ نَتَنَاظَرُ فِي زَمَانٍ طَوِيلٍ كُلَّمَا ذَكَرَ شَيْئًا أَفْسَدْته وَكُلَّمَا ذَكَرْت شَيْئًا أَفْسَدَهُ ؟ فَقَالَ : - هُوَ وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَنْ رَدِّهَا فَجَعَلَا يَعْجَبَانِ مِنْ ذَلِكَ وَيُكَرِّرَانِ الْكَلَامَ وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا أَنْ تَحْصُلَ لَهُ هَذِهِ الْوَارِدَاتُ فَعَلَّمَهُ الشَّيْخُ وَأَدَّبَهُ حَتَّى حَصَلَتْ لَهُ وَكَانَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْنُّفَاةِ . فَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَعَلِمَ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ رَأَيْت هَذِهِ الْحِكَايَةَ بِخَطِّ الْقَاضِي نَجْمِ الدِّينِ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ المقدسي وَذَكَرَ أَنَّ الشَّيْخَ الْكَبِيرِيَّ حَكَاهَا لَهُ وَكَانَ قَدْ حَدَّثَنِي بِهَا عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ حَتَّى رَأَيْتهَا بِخَطِّهِ وَكَلَامُ الْمَشَايِخِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ وَهَذَا الْوَصْفُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ جَوَابٌ لَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَعْرِفُونَ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَسَّمُوا الْعِلْمَ إلَى ضَرُورِيٍّ وَنَظَرِيٍّ وَالنَّظَرِيُّ مُسْتَنِدٌ إلَى الضَّرُورِيِّ وَالضَّرُورِيُّ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَلْزَمُ نَفْسَ الْمَخْلُوقِ لُزُومًا لَا يُمْكِنُهُ مَعَهُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ هَذَا حَدُّ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ . فَخَاصَّتُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ النَّفْسَ لُزُومًا لَا يُمْكِنُ مَعَ ذَلِكَ دَفْعُهُ فَقَالَ لَهُمْ : عِلْمُ الْيَقِينِ عِنْدَنَا هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَهُوَ عِلْمٌ يَلْزَمُ النَّفْسَ لُزُومًا لَا يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ وَقَالَ : وَارِدَاتٌ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ مَعَ الْعِلْمِ طُمَأْنِينَةٌ وَسَكِينَةٌ تُوجِبُ الْعَمَلَ بِهِ فَالْوَارِدَاتُ تَحْصُلُ بِهَذَا وَهَذَا وَهَذَا قَدْ أَقَرَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ حُذَّاقِ النُّظَّارِ مُتَقَدِّمِيهِمْ كالكيا الهراسي وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا - وَمُتَأَخِّرِيهِمْ - كالرَّازِي والآمدي - وَقَالُوا نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنْ يَحْصُلَ لِنَاسِ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ بِمَا يَحْصُلُ لَنَا بِالنَّظَرِ هَذَا لَا نَدْفَعُهُ لَكِنْ إنْ لَمْ يَكُنْ عِلْمًا ضَرُورِيًّا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ وَالدَّلِيلُ يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الدَّلِيلِ انْتِفَاءُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ . قَالُوا : فَإِنْ كَانَ لَوْ دَفَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ لَزِمَ دَفْعُ شَيْءٍ مِمَّا يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ فَهَذَا هُوَ الدَّلِيلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهَذَا هَوَسٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ وَاقِعٌ لَكِنْ يَقَعُ أَيْضًا مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْهُ كَثِيرٌ أَوْ لَا يُمَيِّزُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ كَمَا يَقَعُ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ . فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْمَعُ خِطَابًا أَوْ يَرَى مَنْ يَأْمُرُهُ بِقَضِيَّةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْخِطَابُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي يُخَاطِبُهُ الشَّيْطَانُ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ . وَرِجَالُ الْغَيْبِ هُمْ الْجِنُّ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ إنْسِيٌّ وَقَدْ يَقُولُ لَهُ : أَنَا الْخَضِرُ أَوْ إلْيَاسُ بَلْ أَنَا مُحَمَّدٌ أَوْ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ أَوْ الْمَسِيحُ أَوْ أَبُو بَكْرٍ أَوْ عُمَرُ أَوْ أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ أَوْ الشَّيْخُ فُلَانٌ مِمَّنْ يُحْسِنُ بِهِمْ الظَّنَّ وَقَدْ يَطِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَأْتِيهِ بِطَعَامِ أَوْ شَرَابٍ أَوْ نَفَقَةٍ فَيَظُنُّ هَذَا كَرَامَةً ؛ بَلْ آيَةً وَمُعْجِزَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا لَبَّسَ عَلَيْهِ فَهَذَا وَمِثْلُهُ وَاقِعٌ كَثِيرًا أَعْرِفُ مِنْهُ وَقَائِعَ كَثِيرَةً كَمَا أَعْرِفُ مِنْ الْغَلَطِ فِي السَّمْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ . فَهَؤُلَاءِ يَتَّبِعُونَ ظَنًّا لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا وَلَوْ لَمْ يَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ بَلْ اعْتَصَمُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَتْبَعُ ذَوْقَهُ وَوَجْدَهُ وَمَا يَجِدُهُ مَحْبُوبًا إلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا بَصِيرَةٍ فَيَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِلَا ظَنٍّ وَخِيَارُهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ . وَهَؤُلَاءِ إذَا طُلِبَ مِنْ أَحَدِهِمْ حُجَّةٌ ذَكَرَ تَقْلِيدَهُ لِمَنْ يُحِبُّهُ مِنْ آبَائِهِ وَأَسْلَافِهِ كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } وَإِنْ عَكَسُوا احْتَجُّوا بِالْقَدَرِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ هَذَا وَسَلَّطَنَا عَلَيْهِ فَهُمْ يَعْمَلُونَ بِهَوَاهُمْ وَإِرَادَةِ نُفُوسِهِمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ كَالْمُلُوكِ الْمُسَلَّطِينَ وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ فَيَتَّبِعُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ لَا يَتَّبِعُونَ إرَادَتَهُمْ وَمَا يُحِبُّونَهُ هُمْ وَيَرْضَوْنَهُ وَأَنْ يَسْتَعِينُوا بِاَللَّهِ فَيَقُولُونَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مَا أُوتُوهُ مِنْ الْقُوَّةِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْحَالِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجِدِّ وَقَدْ كَانَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَقِبَ الصَّلَاةِ وَفِي الِاعْتِدَالِ بَعْدَ الرُّكُوعِ : اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ } .
فَالذَّوْقُ وَالْوَجْدُ هُوَ يَرْجِعُ إلَى حُبِّ الْإِنْسَانِ وَوَجْدِهِ بِحَلَاوَتِهِ وَذَوْقِهِ وَطَعْمِهِ وَكُلُّ صَاحِبِ مَحَبَّةٍ فَلَهُ فِي مَحْبُوبِهِ ذَوْقٌ وَوَجْدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِسُلْطَانِ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ صَاحِبُهُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } .
وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّبَعَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْخِطَابِ أَوْ مَا يَرَاهُ مِنْ الْأَنْوَارِ وَالْأَشْخَاصِ الْغَيْبِيَّةِ وَلَا يَعْتَبِرُ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّمَا يَتَّبِعُ ظَنًّا لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا . فَلَيْسَ فِي الْمُحَدَّثِينَ الْمُلْهَمِينَ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ مِنْهُمْ } وَقَدْ وَافَقَ عُمَرُ رَبَّهُ فِي عِدَّةِ أَشْيَاءَ وَمَعَ هَذَا فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَصِمَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَقْبَلَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ بَلْ يَجْعَلُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءُ خِلَافُ مَا وَقَعَ لَهُ فَيَرْجِعُ إلَى السُّنَّةِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُبَيِّنُ لَهُ أَشْيَاءَ خَفِيَتْ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ إلَى بَيَانِ الصِّدِّيقِ وَإِرْشَادِهِ وَتَعْلِيمِهِ كَمَا جَرَى يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَيَوْمَ مَاتَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَوْمَ نَاظَرَهُ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَرُدُّ عَلَيْهِ مَا يَقُولُهُ وَتَذْكُرُ الْحُجَّةَ مِنْ الْقُرْآنِ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا كَمَا جَرَى فِي مُهُورِ النِّسَاءِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِلْهَامِ وَالْخِطَابِ وَالْمُكَاشَفَةِ لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ مِنْ عُمَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْلُكَ سَبِيلَهُ فِي الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْعَلُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ تَبَعًا لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْطَئُوا وَضَلُّوا وَتَرَكُوا ذَلِكَ وَاسْتَغْنَوْا بِمَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يُغْنِيهِمْ عَنْ اتِّبَاعِ الْعِلْمِ الْمَنْقُولِ . وَصَارَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ : أَخَذُوا عِلْمَهُمْ مَيِّتًا عَنْ مَيِّتٍ وَأَخَذْنَا عِلْمَنَا عَنْ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ فَيُقَالُ لَهُ : أَمَا مَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ عَنْ الْمَعْصُومِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَوْلَا النَّقْلُ الْمَعْصُومُ لَكُنْت أَنْتَ وَأَمْثَالُك إمَّا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَإِمَّا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَلَيْك فَمِنْ أَيْنَ لَك أَنَّهُ وَحْيٌ مِنْ اللَّهِ ؟ وَمِنْ أَيْنَ لَك أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ ؟
و " الْوَحْيُ " وَحْيَانِ : وَحْيٌ مِنْ الرَّحْمَنِ وَوَحْيٌ مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } وَقَدْ كَانَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبَى عُبَيْدٍ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ حَتَّى قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قِيلَ لِأَحَدِهِمَا إنَّهُ يَقُولُ إنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَقَالَ : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } وَقِيلَ لِلْآخَرِ : إنَّهُ يَقُولُ إنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فَقَالَ { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } . فَهَؤُلَاءِ يَحْتَاجُونَ إلَى الْفُرْقَانِ الْإِيمَانِيِّ الْقُرْآنِيِّ النَّبَوِيِّ الشَّرْعِيِّ أَعْظَمَ مِنْ حَاجَةِ غَيْرِهِمْ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حِسِّيَّاتٌ يَرَوْنَهَا وَيَسْمَعُونَهَا وَالْحِسِّيَّاتُ يُضْطَرُّ إلَيْهَا الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا قَدْ يَرَى الْإِنْسَانُ أَشْيَاءَ وَيَسْمَعُ أَشْيَاءَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا أَنَّ النُّظَّارَ لَهُمْ قِيَاسٌ وَمَعْقُولٌ وَأَهْلُ السَّمْعِ لَهُمْ أَخْبَارٌ مَنْقُولَاتٌ وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ هِيَ طُرُقُ الْعِلْمِ : الْحِسُّ وَالْخَبَرُ وَالنَّظَرُ وَكُلُّ إنْسَانٍ يَسْتَدِلُّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ ؛ لَكِنْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَنْوَاعِ أَغْلَبَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي الدِّينِ وَغَيْرِ الدِّينِ كَالطِّبِّ فَإِنَّهُ تَجْرِبَاتٌ وَقِيَاسَاتٌ وَأَهْلُهُ مِنْهُمْ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ التَّجْرِبَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ وَالْقِيَاسُ أَصْلُهُ التَّجْرِبَةُ وَالتَّجْرِبَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قِيَاسٍ ؛ لَكِنْ مِثْلَ قِيَاسِ الْعَادِيَّاتِ لَا تُعْرَفُ فِيهِ الْعِلَّةُ وَالْمُنَاسَبَةُ وَصَاحِبُ الْقِيَاسِ مَنْ يَسْتَخْرِجُ الْعِلَّةَ الْمُنَاسِبَةَ وَيُعَلِّقُ الْحُكْمَ بِهَا وَالْعَقْلُ خَاصَّةُ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ وَالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ لِيَعْتَبِرَ بِهَا وَالْحِسُّ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ صَاحِبِهِ عَقْلٌ وَإِلَّا فَقَدْ يَغْلَطُ . وَالنَّاسُ يَقُولُونَ : غَلِطَ الْحِسُّ وَالْغَلَطُ تَارَةً مِنْ الْحِسِّ وَتَارَةً مِنْ صَاحِبِهِ ؛ فَإِنَّ الْحِسَّ يَرَى أَمْرًا مُعَيَّنًا فَيَظُنُّ صَاحِبُهُ فِيهِ شَيْئًا آخَرَ فَيُؤْتَى مِنْ ظَنِّهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْعَقْلِ . وَلِهَذَا النَّائِمُ يَرَى شَيْئًا وَتِلْكَ الْأُمُورُ لَهَا وُجُودٌ وَتَحْقِيقٌ ؛ وَلَكِنْ هِيَ خَيَالَاتٌ وَأَمْثِلَةٌ ؛ فَلَمَّا عَزَبَ ظَنَّهَا الرَّائِي نَفْسَ الْحَقَائِقِ كَاَلَّذِي يَرَى نَفْسَهُ فِي مَكَانٍ آخَرَ يُكَلِّمُ أَمْوَاتًا وَيُكَلِّمُونَهُ وَيَفْعَلُ أُمُورًا كَثِيرَةً وَهُوَ فِي النَّوْمِ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ نَفْسَهُ الَّذِي يَقُولُ وَيَفْعَلُ لِأَنَّ عَقْلَهُ عَزَبَ عَنْهُ وَتِلْكَ الصُّورَةُ الَّتِي رَآهَا مِثَالُ صُورَتِهِ وَخَيَالُهَا ؛ لَكِنْ غَابَ عَقْلُهُ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ الْمِثَالَ هُوَ نَفْسُهُ فَلَمَّا ثَابَ إلَيْهِ عَقْلُهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ خَيَالَاتٌ ومثالات ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَغِيبُ عَقْلُهُ بَلْ يَعْلَمُ فِي الْمَنَامِ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ وَهَذَا كَاَلَّذِي يَرَى صُورَتَهُ فِي الْمِرْآةِ أَوْ صُورَةَ غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ ظَنَّ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ هِيَ الشَّخْصُ حَتَّى أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَفْعَلُ بِالشَّخْصِ . مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 68) فما بعد

(75) سورة الحجر. قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ قَالَ فِيهِ : « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ » (1).
فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مِنْ هَؤُلَاءِ فُرِّقَ بَيْنَ حَالِ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ ،كَمَا يُفَرِّقُ الصَّيْرَفِيُّ بَيْنَ الدِّرْهَمِ الْجَيِّدِ وَالدِّرْهَمِ الزَّيْفِ، وَكَمَا يُفَرِّقُ مَنْ يَعْرِفُ الْخَيْلَ بَيْنَ الْفَرَسِ الْجَيِّدِ وَالْفَرَسِ الرَّدِيءِ، وَكَمَا يُفَرِّقُ مَنْ يَعْرِفُ الْفُرُوسِيَّةَ بَيْنَ الشُّجَاعِ وَالْجَبَانِ، وَكَمَا أَنَّهُ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ الصَّادِقِ وَبَيْنَ الْمُتَنَبِّئِ الْكَذَّابِ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ الْأَمِينِ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمُوسَى وَالْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمْ وَبَيْنَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ ؛ وَالْأَسْوَدِ العنسي وطليحة الأسدي وَالْحَارِثِ الدِّمَشْقِيِّ ؛ وَبَابَاهُ الرُّومِيِّ ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكَذَّابِينَ ؛ وَكَذَلِكَ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ الضَّالِّينَ .
- - - - - - - - - - - - - -
" الْحَقِيقَةُ " حَقِيقَةُ الدِّينِ : دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
وَ " الْحَقِيقَةُ " حَقِيقَةُ الدِّينِ : دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . هِيَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ ؛ وَإِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ شِرْعَةٌ وَمِنْهَاجٌ .
فَ " الشِّرْعَةُ " هِيَ الشَّرِيعَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}(2)
__________
(1) - صحيح البخارى (6502 )
(2) - وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى القُرْآنَ ( الكِتَابَ ) إلَيكَ يَا مُحَمَّدُ بِالحَقِّ وَالصِّدْقِ الذِي لاَ رَيْبَ فِيهِ ، وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، مُصَدَّقاً لِلْكُتُبِ السَّابِقَةِ المُتَضَمِّنَةِ ذِكْرَهُ وَمَدْحَهُ ، وَالإِشَارَةَ إلَى أَنَّهُ مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فَكَانَ نُزُولَهُ كَمَا أَخْبَرْتَ بِهِ مِمَّا زَادَهَا صِدْقاً عِنْدَ حَامِلِيهَا مِنْ ذَوِي البَصَائِرِ ، الذِينَ اتَّبَعُوا أَمْرَ اللهِ وَشَرْعَهُ ، وَصَدَّقُوا رُسُلَهُ .
وَالقُرْآنُ جَاءَ أَمِيناً عَلَى الكُتُبِ السَّابِقَةِ ، وَشَاهِداً عَلَيْهَا بِالحَقِّ وَالصِّحَّةِ بِمَا بَيَّنَهُ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِهَا ( مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) ، وَمُبَيِّناً حَالَ مَنْ خُوطِبُوا بِهَا : مِنْ نِسْيانِ حَظٍّ عَظيمٍ مِنْهَا ، وَتَحْرِيفِ كَثيرٍ مِمَّا بَقِيَ ، أَوْ تَأْوِيلِهِ ، وَالإِعْرَاضِ عَنِ العَمَلِ بِهِ .
وَبِمَا أنَّ الٌرْآنَ جَاءَ رَقِيباً وَأمِيناً وَشَاهِداً ( مُهَيْمِناً ) عَلَى الكُتُبِ السَّابِقَةِ ، التِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى أنْبِيَائِهِ ، فَاحْكُمْ يَا مُحَمَّدُ بَيْنَ أهْلِ الكِتَابِ - إذا تَحَاكَمُوا إلَيكَ - بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إليكَ مِنَ الأَحْكَامِ ، دُونَ مَا أنْزَلَهُ اللهُ إلَيْهِمْ ، لأنَّ شَرِيعَتَكَ نَاسِخَةٌ لِشَرِيعَتِهِمْ ، وَلاَ تَتَّبِعَ أهْوَاءَهُمْ وَرَغَبَاتِهِمْ فِي الحُكْمِ لَهُمْ بِمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ ، وَيَخفُّ احْتِمَالُهُ .
ثُمَّ يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ أمَّةٍ مِنَ النَّاسِ شَرِيعَةً أوْجَبَ عَلَيهْمِ إقَامَةَ أَحْكَامِهَا ، وَمِنْهَاجِاً وَطَرِيقاً فَرَضَ عَلَيهِمْ سُلُوكَهُ لِتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ ( فَأصْلُ الدِّينِ وَاحِدٌ ، وَلَكِنَّ الشَّرَائِعَ العَمَلِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ أحْوَالِ البَشَرِ ، وَطِبَاعِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ ) .
وَلَوْ شَاءَ اللهُ أنْ يَجْعَلَ النَّاسَ أمَّةً وَاحدَةً ، ذَاتَ شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْهَاجٍ وَاحِدٍ ، يَسِيرُونَ عَلَيْهِ ، لَفَعَلَ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ ، لِيَخْتَبِرَهُمْ فِيمَا شَرَعَ لَهُمْ ، وَلِيُثِيبَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ ، وَيُعَاقِبَهُمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِ .
وَيَحُثُّ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ عَلَى المُبَادَرَةِ وَالإِسْرَاعِ إلَى طَاعَةِ اللهِ ، وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ الذِي جَعَلَهُ نَاسِخاً مَا قَبْلَهُ مِنَ الشَرَائِعِ ، وَيُخْبِرُهُمْ أنَّ إلَيهِ مَرْجِعَهُمْ وَمَصِيرَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ ، وَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ .

(48) سورة المائدة، وَقَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) }(1) [الجاثية/18، 19] .
وَ " الْمِنْهَاجُ " هُوَ الطَّرِيقُ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (2)(17) } [الجن/16-17] .
فَالشِّرْعَةُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيعَةِ لِلنَّهْرِ، وَالْمِنْهَاجُ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي سَلَكَ فِيهِ، وَالْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الدِّينِ ،وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ،وَهِيَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَسْتَسْلِمُ لِغَيْرِهِ(3)
__________
(1) - لَقَدْ بَعَثَكَ اللهُ يَا مُحمَّدُ ، بَعْدَ اختِلافِ أَهلِ الكِتَابِ ، عَلَى مِنهَاجٍ وَاضِحٍ مِنْ أَمْرِ الدِّين شَرَعَهُ لَكَ ، ولمنْ قَبلَكَ مِنَ الرُّسُلِ ، فاتَّبعْ مَا أَوْحى إِليكَ رَبُّكَ ، وَلا تَتَّبعْ مَا دَعَاكَ المُشرِكُونَ الجَاهِلُونَ إِليهِ مِن عِبَادةِ آلهتِهم ، فَهؤلاءِ لا يَعلَمُونَ طَرِيقَ الحقِّ .
وهؤُلاءِ الجَاهِلُونَ لاَ يَدْفَعُونَ عَنْكَ شَيئاً ممّا أَرادَهُ اللهُ بِك إِنِ اتَّبعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ، وَتَرَكْتَ شَرْعَ رَبِّكَ . والكَافِرونَ يَتَولَّى بَعْضُهُمْ بَعْضاً في الدُّنيا ، وَيُظَاهِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ، أَمَّا في الآخِرةِ فلا يُغني أَحَدٌ عنْ أَحَدٍ شَيئاً . أَمَّا المُتَّقُون المهتَدُون فإِنَّ اللهَ وَليُّهُم يَنْصُرُهُم وَيُخرِجُهُم مِنَ الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ .
(2) - وََأَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى طَرِيقَةِ الإِيْمَانِ بِاللهِ ، والطَّاعَةِ لَهُ ، لأَوْسَعَ اللهُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا ، وَلأَنْزَلَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً . ( وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ حِينَمَا مُنِعُوا المَطَرَ سَبْعَ سِنِينَ ) .
لِيَخْتَبِرَهُمْ بِإِغْدَاقِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ ، وَإِرْسَالِ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ بِالمَطَرِ ، لِيَرَى هَلْ يَشْكُرُونَ رَبَّهُمْ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ أَمْ يَكْفُرُونَ؟ فَإِنْ وَفَّوْا النِّعَمَ حَقَّهَا مِنَ الشُّكْرِ كَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ الجَزَاءُ الأَوْفَى ، وَإِنْ كَفَرُوا اسْتَدْرَجَهُمْ وَأَمْهَلَهُمْ ثُمَّ أَخَذَهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقَتَدِرٍ .
وَمَنْ يُعْرِضْ عَنِ القُرْآنِ وَعِظَاتِهِ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُدْخِلُهُ فِي العَذَابِ الشَّاقِّ المُتَوَاصِلِ الذِي لاَ يُطِيقُهُ ، وَلاَ يَجِدُ فِيهِ لَحْظَةَ رَاحَةٍ .
(3) - قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [البقرة/208-210]
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان . بهذا الوصف المحبب إليهم , والذي يميزهم ويفردهم , ويصلهم بالله الذي يدعوهم . . دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة . .
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله , في ذوات أنفسهم , وفي الصغير والكبير من أمرهم . أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور , ومن نية أو عمل , ومن رغبة أو رهبة , لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه . استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية . الاستسلاملليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد ; وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير , في الدنيا والآخرة سواء .
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن . وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية . . وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ; ليخلصوا ويتجردوا ; وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم , وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم , في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت .
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام . عالم كله ثقة واطمئنان , وكله رضى واستقرار . لا حيرة ولا قلق , ولا شرود ولا ضلال . سلام مع النفس والضمير . سلام مع العقل والمنطق . سلام مع الناس والأحياء . سلام مع الوجود كله ومع كل موجود . سلام يرف في حنايا السريرة . وسلام يظلل الحياة والمجتمع . سلام في الأرض وسلام في السماء .
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه , ونصاعة هذا التصور وبساطته . . إنه إله واحد . يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه ; فلا تتفرق به السبل , ولا تتعدد به القبل ; ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح .
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر . . فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود . وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح . ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا , وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر . ولم يعد يخشى فوت شيء . ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء .
وهو إله عادل حكيم , فقوته وقدرته ضمان من الظلم , وضمان من الهوى , وضمان من البخس . وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات . ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد , ينال فيه العدل والرعاية والأمان .
وهو رب رحيم ودود . منعم وهاب . غافر الذنب وقابل التوب . يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء . فالمسلم في كنفه آمن آنس , سالم غانم , مرحوم إذا ضعف , مغفور له متى تاب . .
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام ; فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه , وما يطمئن روحه , وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام . .
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب . وبين الخالق والكون . وبين الكون والإنسان . . فالله خلق هذا الكون بالحق ; وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة . وهذا الإنسان مخلوق قصدا , وغير متروك سدى , ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده , ومسخر له ما في الأرض جميعا . وهو كريم على الله , وهو خليفته في أرضه . والله معينه على هذه الخلافة . والكون من حوله صديق مأنوس , تتجاوب روحه مع روحه , حين يتجه كلاهما إلى الله ربه . وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به . وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجودالكبير , الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان ! والذي يؤلفون كلهم هذا المهرجان !
والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة , وهي توحي إليه أن له أجرا حين يرويها من عطش , وحين يعينها على النماء , وحين يزيل من طريقها العقبات . . هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة . عقيدة تسكب في روحه السلام ; وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود ; ويشيع من حوله الأمن والرفق , والحب والسلام .
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ; ونفي القلق والسخط والقنوط . . إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض ; والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة . . إن الحساب الختامي هناك ; والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب . فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه . ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس , فسوف يوفاه بميزان الله . ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد , فالعدل لا بد واقع . وما الله يريد ظلما للعباد .
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات . بلا تحرج ولا حياء . فهناك الآخرة فيها عطاء , وفيها غناء , وفيها عوض عما يفوت . وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة ; وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين ; وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود !
ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة , وأنه مخلوق ليعبد الله . . من شأنها - ولا شك - أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء . ترفع شعوره وضميره , وترفع نشاطه وعمله , وتنظف وسائله وأدواته . فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله ; وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه ; وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها . فأولى به ألا يغدر ولا يفجر ; وأولى به ألا يغش ولا يخدع ; وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر ; وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة . وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل , وألا يعتسف الطريق , وألا يركب الصعب من الأمور . فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة . . ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع , وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق . فهو يعبد في كل خطوة ; وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة , وهو يرتقي صعدا إلى الله في كل نشاط وفي كل مجال .
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله , في طاعة الله , لتحقيق إرادة الله . . وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار ; والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق ; وبلا قنوط من عون الله ومدده ; وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء . . ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه . فهو إنما يقاتل لله , وفي سبيل الله , ولإعلاء كلمة الله ; ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة .
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله . قانونه قانونه , ووجهته وجهته . فلا صدام ولا خصام , ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة . وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته , وتهتدي بالنور الذي يهتدي به , وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله .
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة . لا تتجاوز الطاقة ; ولاتتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ; ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ; ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء . . ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه . يحمل منها ما يطيق حمله , ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام .
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني , في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة , والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال . . كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام .
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق . هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره . ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب , تختلف درجة صفائه , ولكنه يظل في جملته خيرا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر , وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية !
هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة - آصرة العقيدة - حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان , واللغات والألوان , وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان . .
هذا المجتمع الذي يسمع الله يقول له: (إنما المؤمنون إخوة ) . . والذي يرى صورته في قول النبي الكريم:" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " .
هذا المجتمع الذي من آدابه: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) . . (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا , إن الله لا يحب كل مختال فخور) . . (ادفع بالتي هي أحسن - فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) . . (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم , ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن . ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان . ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) . . (ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) . .
هذا المجتمع الذي من ضماناته:(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) . . (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا) . (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) . . و . . " كل المسلم على المسلم حرام:دمه وعرضه وماله " . .
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة ; ولا يتبجح فيه الإغراء , ولا تروج فيه الفتنة , ولا ينتشر فيه التبرج , ولا تتلفت فيه الأعين على العورات , ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات , ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا . . هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة , والذي يسمع الله - سبحانه - يقول:
(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون) . . (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة , ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله , إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ; وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) . . (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة , ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا , وأولئك هم الفاسقون) . . (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم , ذلك أزكى لهم , إن الله خبير بما يصنعون . وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن , ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها , وليضربن بخمرهن على جيوبهن , ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن , أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن , أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن , أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء . ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن , وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) . . والذي يخاطب فيه نساء النبي - أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان:(يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن . فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا . وقرن في بيوتكن , ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى , وأقمن الصلاة وآتين الزكاة , وأطعن الله ورسوله . إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) . .
وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها , ويأمن الزوج على زوجته , ويامن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم , ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم . حيث لا تقع العيون على المفاتن , ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم . فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب . . بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن , ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان !
وأخيرا إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملا ورزقا , ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم , ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة , والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لو مات فيهم جائع ; حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية .
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع , بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع . فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة , ولا يتسور على أحد بيته , ولا يتجسس على أحد فيه متجسس , ولا يذهب فيه دم هدرا والقصاص حاضر ; ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهبا والحدود حاضرة .
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون . كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم , و لا هوى حاشية , ولا قرابة كبير .
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية , الذي لا يخضع البشر فيه للبشر . إنما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته ; وينفذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته . فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام الله رب العالمين وأحكم الحاكمين , في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين . .
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة . ليسلموا أنفسهم كلها لله ; فلا يعود لهم منها شيء , ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ ; إنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقيادوفي تسليم . .
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان , في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام , أو التي عرفته ثم تنكرت له , وارتدت إلى الجاهلية , تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان . . هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري , وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين .
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو "السويد" . حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام . وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدا والعلاج المجاني في المستشفيات . وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان , مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت . . وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب . .
ولكن ماذا ? ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله ?
إنه شعب مهدد بالانقراض , فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط ! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط ! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ; ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة . والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب . . ثم الانتحار . . والحال كهذا في أمريكا . . والحال أشنع من هذا في روسيا . .
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة . فلا يذوق طعم أسلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة , ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار:
(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة . . ولا تتبعوا خطوات الشيطان . إنه لكم عدو مبين) . .
ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة . . حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان . فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان . إما الدخول في السلم كافة , وإما اتباع خطوات الشيطان . إما هدى وأما ضلال . إما إسلام وإما جاهلية . إما طريق الله وإما طريق الشيطان . وإما هدى الله وإما غواية الشيطان . . وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه , فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات .
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدا منها , أو يخلط واحدا منها بواحد . . كلا ! إنه من لا يدخل في السلم بكليته , ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته , ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر . . إن هذا في سبيل الشيطان , سائر على خطوات الشيطان . .
ليس هنالك حل وسط , ولا منهج بين بين , ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك ! إنما هناك حق وباطل . هدى وضلال . إسلام وجاهلية . منهج الله أو غواية الشيطان . والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة ; ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان . ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم , ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم , تلك العداوة الواضحة البينة , التي لا ينساها إلا غافل . والغفلة لا تكون مع الإيمان .في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 28)

،فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا ،وَاَللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ،وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِلَّهِ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَتِهِ كَانَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(1) (60) سورة غافر.
وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وقَوْله تَعَالَى {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(2) (85) سورة آل عمران، عَامٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ . فَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَالْحَوَارِيُّونَ كُلُّهُمْ دِينُهُمُ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ،قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) (3)
__________
(1) - يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى دُعَائِهِ ، وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِالإِجَابَةِ عَلَى دُعَائِهِمْ؛ وَدُعَاءُ العَبْدِ رَبِّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِيْمَانِهِ بِرَبِّهِ ، وَخَوْفِهِ مِنْهُ ، وَطَمَعِهِ فِي ثَوَابِهِ وَكَرَمِهِ ، وَرَحْمَتِهِ ، وَمَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْتَمُّ بِإِجَابَةِ دُعَائِهِ لأَنَّهُ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ ، وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الخَلاَئِقِ ، وَتَصْرِيفِ شُؤُونِهِمْ ، وَإحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ ، وَإِعَادَةِ بَعْثِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَيْهَا ، وَيَجْزِيَهُمْ بِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ فَإِنَّهُ سَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَهُمْ أَذِلاءُ صَاغِرُونَ .
(2) - مَنِ ابْتَغَى دِيناً لاَ يَقُودُهُُ إلَى الإسْلاَمِ الكَامِلِ للهِ ، وَالخُضُوعِ التَّامِّ لَهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، فَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُ هَذا الدِّينُ ، وَيَكُونُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ، لأنَّهُ يَكُونُ قَدْ سَلَكَ طَريقاً غَيْرَ مَا شَرَعَهُ اللهُ . وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ : " مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ) .
(3) - يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يُلاَقِيهِ مِنْ إِيذَاءِ قَوْمِهِ ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِمَا يَقُصُّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ . وَيَبْدَأُ تَعَالَى بِقِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَيَقُولُ تَعَالَى : أَخْبِرْ يَا مُحَمَّدُ كُفَّارَ مَكَّةَ الذِينَ يُكَذِبُونَكَ خَبَرَ نُوحٍ مَعْ قَوْمِهِ الذِينَ كَذَّبُوهُ ، كَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ ، وَدَمَّرَهُمْ بِالغَرَقِ أَجْمَعِينَ ، وَلَيْحَذَرْ هَؤُلاَءِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ البَلاَءِ وَالهَلاَكِ وَالدَّمَارِ مَا أَصَابَ أُوْلَئِكَ .
لَقَدْ قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ : يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ ثَقُلَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي بَيْنَكُمْ ( كَبُرَ ) ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْكُمْ تَذْكِيرِي إِيَّاكًُمْ بِآيَاتِ اللهِ ، وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ ، فَإِنِّي قَدْ وَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى اللهِ الذِي أَرْسَلَنِي ، وَاعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ ، وَإِنِّي لاَ أُبَالِي بِكُمْ ، وَلاَ أَكُفُّ عَنْكُمْ ، سَوَاءَ عَظُمَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي أَوْ لاَ ، فَاجْتَمِعُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ، مِنَ الأَصْنَامِ الذِينَ تَدْعُونَهُمْ ، وَلاَ تَتْرُكُوا أَمْرَكُمْ مُلْتَبَساً عَلَيْكُمْ ( غَمَّةً ) ، بَلْ كُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ ، لِكَيْلا تَتَحَوَّلُوا عَنْهُ ، وَافْصِلُوا أَمْرَكُمْ مَعِيَ ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ مُحِقُّونَ فَاقْضُوا إِلَيَّ ، وَافْعَلُوا مَا تَسْتَطِيعُونَ ، وَلاَ تُؤَخِرُونِي سَاعَةً وَاحِدَةً ( وَلاَ تُنْظِرُونَ ) .
فَإِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ تَذْكِيرِي ، وَأَدْبَرْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ ( تَوَلَّيْتُمْ ) ، فَلاَ يَضُرُّنِي ذَلِكَ لأَنَّنِي لَمْ أَطْلُبْ مِنْكُمْ أَجْراً عَلَى نُصْحِي لَكُمْ ، وَإِنَّمَا أَطْلُبُ الأَجْرَ مِنَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ الذِي أَمَرَنِي بِأَن أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ ، المُؤْمِنِينَ العَابِدِينَ القَائِمِينَ بِأَمْرِ رَبِّهِمْ .

} [يونس/71، 72]، وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) } (1)
__________
(1) - لَقَدْ تَجَرَّدَ إِبراهِيمُ فِي عِبَادَةِ اللهِ فَلَمْ يَدْعُ مَعَهُ غَيْرَهُ ، وَلَمْ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً ، وَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ حَتَّى تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ ، وَخَالفَ قَوْمَهُ . فَمَنْ يَتْرُكَ طَرِيقَ إِبْراهيمَ هذا وَمَسْلَكَهُ وَمِلَّتَهُ ، وَيَتَّبِعْ طَرِيقَ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ ، فَهُوَ سَفِيهٌ ، وَلاَ يَرْتَكِبُ الضَّلاَلَةَ إِلاَّ السَّفيهُ .
وَلَقَدِ اصْطَفَى اللهُ إِبراهِيمَ وَاخْتَارَهُ في الدُّنيَا ، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ المُقَرَّبينَ عِنْدَ اللهِ .
أَمَرَ اللهُ إِبراهيمَ بِالإِخلاَصِ لَهُ ، وَالاسْتِسْلامِ لِحُكْمِهِ ، فَامْتَثَلَ لأَمْرِ رَبِّهِ ، وَقَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ جَمِيعاً .
وَكَانَتْ كَلِمَةُ الإِسْلامِ للهِ مُحَبَّبَةً إِلَى نَفْسِ إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فَأَوصَوْا بِهَا أَبْنَاءَهُمْ حِينَ حَضَرَتْهُمُ الوَفَاةُ وَقَالُوا لَهُمْ : إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَأَحْسِنُوا فِي حَيَاتِكُمْ ، وَالْزَمُوا ذلِكَ لِيَرزُقَكُمُ اللهُ الوَفَاةَ عَلَيهِ ، لأنَّ المَرْءَ يَمُوتُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيهِ ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيهِ .

[البقرة/130-134]، وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) }(1) [يونس/84] ،وَقَالَ السَّحَرَةُ : {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } (2)(126) سورة الأعراف ، وَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ :{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (3)(101) سورة يوسف، وَقَالَتْ بلقيس : {.. قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4)(44) سورة النمل ،وَقَالَ تَعَالَى : {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (44)(5)
__________
(1) - وَلَمَّا أَعْلَنَ جَمَاعَةُ مُوسَى لَهُمْ إِيمَانَهُمْ بِاللهِ وَبِرِسَالاَتِهِ ، وَهُمْ خَائِفُونَ مِنَ العَذَابِ وَالفِتْنَةِ ، قَالَ لَهُمْ مُوسَى : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ إِيمَاناً حَقّاً ، فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ، وَبِوُعُودِهِ ثِقُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مُذْعِنِينَ ، إِذْ إِنَّ الإِيمَانَ لاَ يَكُونُ يَقِيناً إِلاَّ إِذَا صَدَّقَهُ العَمَلُ ، وَهُوَ الإِسْلاَمُ للهِ وَحْدَهُ .
(2) - وَنَحْنُ لَمْ نَرْتَكِبْ إِثْماً أَوْ جُرْماً تَنْقِمُ بِهِ عَلَينا ، وَالشَّيءُ الوَحِيدُ الذِي تُؤاخِذُنَا عَليهِ هُوَ أَنَّنَا آمَنَّا بِرَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا آيَاتُهُ . ثُمَّ اتَّجَهَ السَّحَرَةُ بِالدُّعَاءِ إِلى اللهِ تَعَالَى قَائِلِينَ : اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى دِينِكَ ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الصَّابِرِينَ عَلَى الأَذَى الذِي سَيُلْحِقُهُ فِرْعَوْنُ بِنا ، وَتَوَفَّنَا وَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ دِينَكَ وَنَبِسَّكَ ، مُسْتَسْلِمُونَ لِقَضَائِكَ .
(3) - لَمَا تَمَّتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى يُوسُفَ بِاجْتِمَاعِهِ بِأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ ، وَرَأَى مَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالمُلْكِ ، وَمَا وَهَبَهُ مِنَ العِلْمِ وَالقُدْرَةِ عَلَى تَفْسِيرِ الأَحْلاَمِ ، اتَّجَهَ إِلَى اللهِ رَبِّهِ بِالدُّعَاءِ قَائِلاً : يَا رَبِّ أَنْتَ خَالِقِي وَمَالِكُ أَمْرِي ، وَمُتَوَلِّي نِعْمَتِي ، فِي حَيَاتِي وَبَعَدَ مَمَاتِي ، تَوَفَّنِي عَلَى مَا ارْتَضَيْتَ لأَنْبِيَائِكَ مِنْ دِينِ الإِسْلاَمِ ، وَأَدْخِلْنِي فِي زُمْرَةِ مَنْ هَدَيْتَهُمْ إِلَى الصَّلاَحِ مِنْ عِبَادِكَ المُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ .
(4) - كانَ سليمانُ عليهِ السلامُ قد أمَرَ الشَّياطينَ فَبَنَوْا لَها قَصْراً ( صَرْحاً ) عَظيماً من زُجَاجٍ ، أُجِريَ الماءُ من تحتِهِ ، فمَنْ لا يَعْرِفُ أَمْرَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ ماءٌ ، ولكنَّ الزُّجَاجَ يَحُولُ بينَ الماءِ وبينَ الماشي . ثمَّ قالَ لها سليمانُ : ادْخُلِي الصَّرْحَ لِيُرِيَها مُلْكاً أعَزَّ من مُلْكِها ، وسُلْطَاناً أعْظَمَ من سُلْطَانِها ، فَلَمّا رأتِ الماءَ تَحْتَ الزُّجَاجِ ظَنَّتْ أنَّهَا سَتَخُوضُ فيهِ ، فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْها لِتَخُوضُ فقَالَ لَها سُليمانُ إِنَّهُ زُجَاجُ ، وليسَ ماء ، فلَمَّا وقَفَتْ عَلَى سليمانَ عَاتَبهَا على عِبَادَةِ الشَّمسِ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَدَعَاهَا إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، فأسْلَمَتْ وحَسُنَ إسِلامُها ، واتَّبعَتْ دينَ سُليمانَ ، وَقَالَتْ : رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعِبَادَةِ الشَّمسِ ، وبِاغْتِرَارِي بِمُلْكِي ، وأسْلَمْتُ مَعَ سُليمانَ للهِ ربِّ العالمينَ ، وخالقِ كلِّ شيءٍ .
(5) - يَمْدَحُ اللهُ تَعَالَى التَّوْرَاةَ ، فَيَقُولُ : إنَّهُ أَنْزَلَهَا وَفِيهَا هُدىً وَنُورٌ ، يَحْكُمُ بِهَا الأَنْبِيَاءَ الذِينَ أَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ لِرَبِّهِمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ( وَهُمْ مُوسَى وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) بَيْنَ اليَهُودِ لاَ يَخْرُجُونَ عَنْ حُكْمِهَا ، وَلاَ يُبَدِّلُونَها وَلاَ يُحَرِّفُونَها . وَيَحْكُمُ بِهَا العُلَمَاءُ العُبَّادُ ( الرَّبَّانِيُّونَ ) ، وَالعُلَمَاءُ ( الأَحْبَارُ ) بِمَا اسْتَوْدَعُوا ( اسْتُحْفِظُوا ) مِنْ كِتَابِ اللهِ الذِي أُمِرُوا بِأنْ يَحْفَظُوهُ مِنَ التَّبْدِيلِ ، وَبِأنْ يُظْهِرُوهُ ، وَيَعْمَلُوا بِأَحْكَامِهِ ، ثُمَّ خَاطَبَ اللهُ تَعَالَى رُؤَسَاءَ اليَهُودِ الذِينَ كَانُوا فِي زَمَنْ التَّنْزِيلِ فَقَالَ : كَيْفَ لاَ يَخَافُونَ اللهَ فِي الكِتْمَانِ وَالتَّبْدِيلِ ، بَعْدَ أنْ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ سِيرَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ وَيَرْعَوُونَ عَنْ غَيِّهِمْ . ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : وَإِذَا كَانَ الحَالُ كَذَلِكَ أيُّهَا الأَحْبَارُ ، وَلاَ شَكَّ فِي أنَّكُمْ لا تُنْكِرُونَهُ ، فَلا تَخْشَوا النَّاسَ فَتَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الكِتَابِ ، خَشْيَةَ النَّاسِ ، أَوْ طَمَعاً فِي مَنْفَعَةٍ عَاجِلَةٍ مِنْهُ ، وَأخْشَوْنِي أنَا وَاقْتَدُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ وَالأَحْبَارِ ، وَاحْفَظُوا التَّوْرَاةَ ، وَلا تَعْدِلُوا عَنْ ذَلِكَ ، فَإنَّ النَّفْعَ وَالضَّرَرَ بِيَدِ اللهِ ، وَلاَ تَتْرُكُوا بَيَانَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ لِلْنَّاسِ ، وَالعَمَلِ بِهَا ، لِقَاءَ مَنْفَعَةٍ دَنْيَوِيَّةٍ قَلِيلَةٍ تَأْخُذُونَها مِنَ النَّاسِ كَرَشْوَةٍ أوْ جَاهٍ .
وَكُلُّ مَنْ يَرْغَبُ عَنِ الحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ شَرْعٍ ، وَيُخْفِيهِ وَيَحْكُمُ بِغَيْرِهِ ( كَحُكْمِ اليَهُودِ فِي الزَّانِيَيْنِ المُحْصَنَيْنِ بِالتَّحْمِيمِ وَالجَلْدِ ، وَكِتْمَانِ الرَّجْمِ ، وَقَضَائِهِمْ فِي بَعْضِ قَتْلاَهِمْ بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ ، وَفِي بَعْضِهِمْ بِنِصْفِ دِيَةٍ ، مَعْ أنَّ اللهَ قَدْ سَوَّى بَيْنَ الجَمِيعِ فِي الحُكْمِ ) ، فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ الذِينَ سَتَرُوا الحَقَّ الذِي كَانَ عَلَيهِم كَشْفُهُ وَتَبْيِينُهُ لِلنَّاسِ .

سورة المائدة ،وَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ: {.. نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (1)(52) سورة آل عمران.
فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ ،وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ }(2)، قَالَ تَعَالَى : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}(3)
__________
(1) - فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ تَعَالَى عِيسَى رَسُولاً إلى قَوْمِهِ بَني إِسْرَائِيلَ ، دَعَاهُمْ إلى دِينِ اللهِ القَوِيمِ ، فَأَبَى أَكْثَرُهُمْ وَسَخِرُوا مِنْهُ ، فَلَمَّا اسْتَشْعَرَ عِيسَى مِنْهُمْ الكُفْرَ وَالاسْتِمْرارَ فِي العِنَادِ وَالضَّلاَلَةِ ، وَقَصْدِ الإِيذَاءِ ، سَأَلَ النَّاسَ قَائِلاً : مَنْ يَتْبَعُنِي إلى اللهِ ، وَيَنْصُرُ دَعْوتِي إليهِ؟ فَقَالَ الحَوَارِيُّونَ ( أيِ الأنْصَارُ ) نَحْنُ عَلَى استعدادٍ لِنُصْرَتِكَ فِي سَبيلِ دَعْوَتِكَ إلى اللهِ ، فَقَدْ آمَنَّا بِاللهِ ، وَاشْهَدْ عَلينا بأنَّنا أَسْلَمْنَا إليهِ وُجُوهَنَا ، وَنَحْنُ مُنْقَادُونَ لأوَامِرِهِ . ( وَفِي هذا دَليلٌ عَلَى أنَّ الإِسْلاَمَ هُوَ دِينُ اللهِ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيِّ ) .
(2) - لم أجده بهذا اللفظ وإنما وجدت نحوه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ أَبْنَاءُ عَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَلَيْسَ بَيْنَنَا نَبِىٌّ ». مسند أحمد (11272) وهو صحيح
العلات : أولاد العلات الإخوة لأب من أمهات شتى
(3) - هذه أكبر منة أنعم الله بها على عباده، أن شرع لهم من الدين خير الأديان وأفضلها، وأزكاها وأطهرها، دين الإسلام، الذي شرعه الله للمصطفين المختارين من عباده، بل شرعه الله لخيار الخيار، وصفوة الصفوة، وهم أولو العزم من المرسلين المذكورون في هذه الآية، أعلى الخلق درجة، وأكملهم من كل وجه، فالدين الذي شرعه الله لهم، لا بد أن يكون مناسبا لأحوالهم، موافقا لكمالهم، بل إنما كملهم الله واصطفاهم، بسبب قيامهم به، فلولا الدين الإسلامي، ما ارتفع أحد من الخلق، فهو روح السعادة، وقطب رحى الكمال، وهو ما تضمنه هذا الكتاب الكريم، ودعا إليه من التوحيد والأعمال والأخلاق والآداب.
ولهذا قال: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } أي: أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتعاونون على البر والتقوى ولا تعاونون على الإثم والعدوان. { وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } أي: ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه، واحرصوا على أن لا تفرقكم المسائل وتحزبكم أحزابا، وتكونون شيعا يعادي بعضكم بعضا مع اتفاقكم على أصل دينكم.
ومن أنواع الاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه، ما أمر به الشارع من الاجتماعات العامة، كاجتماع الحج والأعياد، والجمع والصلوات الخمس والجهاد، وغير ذلك من العبادات التي لا تتم ولا تكمل إلا بالاجتماع لها وعدم التفرق.
{ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي: شق عليهم غاية المشقة، حيث دعوتهم إلى الإخلاص للّه وحده، كما قال عنهم: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وقولهم: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }
[ ص 755 ] { اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ } أي يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للاجتباء لرسالته وولايته ومنه أن اجتبى هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم، واختار لها أفضل الأديان وخيرها.
{ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } هذا السبب الذي من العبد، يتوصل به إلى هداية الله تعالى، وهو إنابته لربه، وانجذاب دواعي قلبه إليه، وكونه قاصدا وجهه، فحسن مقصد العبد مع اجتهاده في طلب الهداية، من أسباب التيسير لها، كما قال تعالى: { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ }
وفي هذه الآية، أن الله { يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } مع قوله: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } مع العلم بأحوال الصحابة رضي الله عنهم، وشدة إنابتهم، دليل على أن قولهم حجة، خصوصا الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم أجمعين.تفسير السعدي - (ج 1 / ص 754)

(13) سورة الشورى، وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) }(1) [المؤمنون/51-53] .
الْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ
وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بأنبياء (2)،وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ السُّعَدَاءَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ " أَرْبَعَ مَرَاتِبَ " فَقَالَ تَعَالَى : {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (3)(69) سورة النساء. وَفِي الْحَدِيثِ : " { مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ } (4)
__________
(1) - يَأْمُرُ اللهُ عِبَادَهُ المُرْسَلِينَ بالأًَكْلِ مِنَ الحَلالِ الطَّيِّبِ ، والقِيَامِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ شُكْراً للهِ عَلَى نِعَمِهٍ عَلَيْهِمْ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الحَلاَلَ عَوْنٌ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ ، والرُّسلُ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِن كَسْبِ أَيْدِيِهِمْ ، وَقَالَ لَهُم اللهُ تَعَالَى : إِنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَعْمَلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ وَقَدْ قَامَ الرُّسُلُ عَلَيْهِم السَّلامُ بِأَمْرِ اللهِ أًَتَمَّ قِيَامٍ وَجَمَعُوا بَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ قَوْلاً وَعَمَلاً وَدَلاَلَةً وَنُصْحاً .
إِنَّ دِينَكُم ، يَا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ ، دِينٌ وَاحِدٌ ، وَمِلَّتَكُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَدِينَكُمْ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ . ثُمَّ قَالَ لَهُم اللهُ تَعَالَى إِنَّهُ رَبُّهُمْ فَعَلَيْهِم أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ ، وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً . وَيَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ .
أُمَّتُكُمْ - مِلَّتُكُمْ وَشَرِيعَتُكُم .
(2) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 18 / ص 370):
إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَخِيَارُ الْأَوْلِيَاءِ أَتْبَعُهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ كَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مَنْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ
وفي الرسالة القشيرية - (ج 1 / ص 159):
فإن قيل: كيف يجوز إظهار هذه الكرامات الزائدة في المعاني على معجزات الرسل؟ وهل يجوز تفضيل الأولياء على الأنبياء عليهم السلام؟ قيل: هذه الكرامات لاحقة بمعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنكل من له بصادق في الإسلام لا تظهر عليه الكرامة. وكل نبي ظهرت كرامته على واحد من أمته فهي معدودة من جملة معجزاته؛ إذ لو لم يكن ذلك الرسول صادقاً لم تظهر على يد من تابعه الكرامة. فأما رتبة الأولياء فلا تبلغ ربتةَ الأنبياء عليهم السلام: للإجماع المنعقد على ذلك.
وهذا أبو يزيد البسطامي سئل عن هذه المسألة فقال: مثل ما حصل للأنبياء عليهم السلام كمثل زِق فيه عسل ترشح منه قطرة، فتلك القطرةُ مثل ما لجميع الأولياء، وما في الظرف مثل لنبينا صلى الله عليه وسلم.
وفي بستان العارفين - (ج 1 / ص 22)
قال القشيري هل يجوز تفضيل الولي على النبي قلنا رتبة الأولياء لا تبلغ رتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام للاجماع المنعقد على ذلك.
(3) - وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَعَمِلَ بِمَا أَمَرا بِهِ ، وَانْتَهَى عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُسْكِنُهُ دَارَ كَرَامَتِهِ ، وَيَجْعَلُهُ مُرَافِقاً لِلأَنْبِيَاءَ ، ثُمَّ لِمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الرُّتْبَةِ ، وَهُمُ الصِّدِّيقُونَ ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ، ثُمَّ عُمُومُ المُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ الذِينَ صَلُحَتْ سَرَائِرُهُمْ وَعَلاَنِيَتُهُمْ وَمَا أَحْسَنَ رِفْقَةَ هَؤُلاءِ الذِينَ لاَ يَشْقَى جَلِيسُهُمْ .
( وَيُذْكَرُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ : أنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ جَاءَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَحْزُوناً ، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ عَنْ سَبَبِ حُزْنِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ شَيءٌ فَكَّرْتُ فِيهِ . فَقَالَ النَّبِيُّ : وَمَا هُوَ؟ قَالَ : نَحْنُ نَغْدُو وَنَرُوحُ ، وَنَنْظُرُ إلى وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ ، وَغَداً تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ فَلا نَصِلُ إِلَيْكَ . فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ بِشَيءٍ ، فَجَاءَهُ جِبْريلٌ عَلَيهِ السَّلاَمُ بِهَذِهِ الآيَةِ ) .
(4) - حلية 3/325 وفضائل الصحابة (135 و137 و662)حسن لغيره
وفي مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 444)
إِنَّ أَفْضَلَ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَخَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَخَيْرُ قُرُونِهَا الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَخَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ آخِرُ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ يَكُونُ فِي النَّاسِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخَيْرِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا أَفْضَلِهِمْ بَلْ خَيْرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ عُمَرُ : اللَّذَانِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْهُمَا .

،وَأَفْضَلُ الْأُمَمِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ تَعَالَى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)
__________
(1) - قوله - تعالى - { كُنْتُمْ } يصح أن تكون من كان التامة التى بمعنى وجد وهى لا تحتاج إلى خبر فيكون المعنى وجدتم خير أمة أخرجت للناس ، ويكون قوله { خَيْرَ أُمَّةٍ } بمعنى الحال . وبهذا الراى قال جمع من المفسرين .
ويصح أن تكون من كان الناقصة التى هى - كما يقول الزمخشرى - عبارة عن وجود الشىء فى زمان ماض على سبيل الإبهام وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارىء فيكون المعنى : قدرتم فى علم الله - تعالى - خير أمة أخرجت للناس .
ويجوز أن تكون بمعنى صار . أى تحولتم يا معشر المؤمنين الذين عاصرتم النبى صلى الله عليه وسلم من جاهليتكم إلى أن صرتم خير أمة .
وقيل : إن " كان " هنا زائدة ، والتقدير : أنتم خير أمة . ورد هذا القول بأن كان لا تزاد فى أول الكلام .
والظاهر أن الرأى الأول الذى يقول إن { كُنْتُمْ } هنا من كان التامة هو أقرب الأقوال إلى الصواب " ويليه الرأى الثاني الذى يرى أصحابه أن " كنتم " هنا من " كان " الناقصة إلا أنها هنا تدل على تحقق شىء بصفة فى الزمان الماضى من غير دلالة على عدم سابق أو لاحق .
والخطاب فى هذه الآية الكريمة بقوله - تعالى - { كُنْتُمْ } للمؤمنين الذين عاصروا النبى صلى الله عليه وسلم ولمن أتى بعدهم واتبع تعاليم الإسلام إلى يوم الدين .
ولذا قال ابن كثير : والصحيح أن هذه الآية عامة فى جميع الأمة . كل قرن بحسبه ، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ، كما قال - سبحانه - فى الآية الأخرى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } وقد وردت أحاديث متعددة فى فضل هذه الأمة الإسلامية ، منها : ما جاء فى مسند الإمام أحمد وفى سنن الترمذى وابن ماجه من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله - تعالى - " .
والمعنى : وجدتم يا معشر المسلمين العالمين بتعاليم الإسلام وآدابه وسنته وشريعته خير أمة أخرجت وأظهرت للناس ، من أجل إعلاء كلمة الحق وإزهاق كلمة الباطل ، ونشر الإصلاح والنفع فى الأرض .
وقوله { خَيْرَ أُمَّةٍ } خبر كنتم على أنها من كان الناقصة .
وجملة { أُخْرِجَتْ } صفة لأمة ، وقوله { لِلنَّاسِ } متعلق بأخرجت ، وحذف الفاعل من { أُخْرِجَتْ } للعلم به أى : خرجها الله - تعالى - لنفع الناس وهداءتهم إلى الصراط المستقيم .
فالجملة الكريمة تنوه بشأن الأمة الإسلامية وتعلى من قدرها ، فهل تعى الأمة الإسلامية هذا التنويه من شأنها وذلك لإعلاء من قدرها فتقوم بدورها الذى اختاره الله لها ، وهو نشر كلمة التوحيد فى الأرض واحقاق الحق وإبطال الباطل شكراً لله - تعالى - على جعله إياها خير أمة أخرجت للناس؟؟
إن واقع المسلمين الملىء بالضعف والهوان ، والفسوق والعصيان يدمى قلوب المؤمنين الصادقين ، ويحملهم على أن يبلغوا رسالات الله دون أن يخشوا أحدا سواه حتى تكون كلمته هى العليا وكلمة الذين كفروا هى السفلى .
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى جعلت الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس فقال : { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } .
والمعروف : هو كل قول أو عمل حسنه الشرع ، وأيدته العقول السليمة ، والمنكر بعكسه .
والمعنى : وجدتم خير أمة أخرجت للناس ، لانكم تأمرون بالمعروف أى بالقول أو الفعل الجميل المستحسن فى الشرائع والعقول . { وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } أى كل قول أو فعل قبيح تستنكره الشرائع ويأباه أهل الإيمان القويم ، والعقل السليم .
و { وَتُؤْمِنُونَ } بالله أى تصدقون وتذعنون بأنه لا معبود بحق سواه ، وتخلصون له العبادة والخضوع ، وتطيعونه فى كل ما أمركم به أو نهاكم عنه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
فأنت ترى أن الخيرية للأمة الإسلامية منوطة بتحقيق اصلين أساسيين :
أولهما : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنهما سياج الدين ، ولا يمكن أن يتحقق بنيان أمة على الخير والفضيلة إلا بالقيام بهما ، فهما من الأسباب التى استحق بنو إسرائيل اللعنة من أجل تركهما ، فقد أخرج أبو داود فى سننه عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول له : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل له ، ثم يلقاه من الغد على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشربيه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال صلى الله عليه وسلم ( لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) ثم قال : " كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق اطرا - ولتحملنه على اتباع الحق حملا - أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ، ثم ليلعنكم كما لعنهم " .
وثانيهما : الإيمان بالله - تعالى - وبجميع ما أمر الله - تعالى - بالإيمان به .
هذان هما الأمران الذان يجب أن يتحققا لتكون هذه الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس لأن الأمة التي تهمل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا تؤمن بالله لا يمكن أن تكون خير أمة بل لا توصف بالخيرية قط ، لأنه لا خير إلا فى الفضائل والحق والعدل ، ولا تقوم هذه الأمور إلا مع وجود الإيمان بالله وكثرة الدعاة إلى الخير والناهين عن الشر ، ويكون لدعوتهم آثارها القوية التى تحيا معها الفائل وتزول بها الرذائل .
وكأنه - سبحانه - قد أخر " الإيمان بالله " عن " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر " ليكون كالباعث عليهما لأنه لا يصبر على تكاليفهما ومتاعبهما إلا مؤمن يبتغى وجه الله ويركن فى كفاحه إليه . فهذا الإيمان بالله هو الباعث للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، على أن يبلغوا رسالات الله ، دون أن يخشوا أحدا سواه .
وقيل : إنما أخر الإيمان على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة كما هو الظاهر ، لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فهما أظهر فى الدلالة على الخيرية للأمة الإسلامية .
وجملة { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } يجوز أن تكون حالية من ضمير الخطاب فى { كُنْتُمْ } ويجوز أن تكون مستأنفة للتعليل ، وهذا ما ذهب إليه الفخر الرازى ، فقد قال :
" واعلم أن هذا الكلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية ، كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقم بما يصلحهم ، وتحقيق الكلام أنه ثبت فى أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فههنا حكم الله - بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة . ثم ذكر عقيب هذا الحكم هذه الطاعات أعنى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإيمان ، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبارات .
وقال الإمام ابن كثير - بعد أن ساق بضعة عشر حديثاً فى فضل هذه الأمة : فهذه الأحاديث فى معنى قوله - تعالى - { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم فى هذا المدح ، كما قال قتادة ، بلغنا أن عمر بن الخطاب رأى من الناس دعة فى حجة حجها فقرأ هذه الآية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، ثم قال : من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها " ، رواه ابن جرير ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } الآية .
وبعد أن مدح - سبحانه - هذه الأمة على هذه الصفات شرع فى ذم أهل الكتاب وتأنيبهم فقال - تعالى - { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب } أى بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أى لكان إيمانهم خيرا لهم فى دنياهم وآخرتهم ولنالوا الخيرية التى ظفرت بها الأمة الإسلامية ولكنهم لم يؤمنوا فامتنع الخير فيهم لامتناع الإيمان الصحيح منهم ، ولإيثارهم الضلالة على الهداية فهذه الجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } .. . . ومرتبطة بها .
ولم يذكر متعلق { آمَنَ } هنا لأن المراد لو اتصفوا بالإيمان الذى هو لقب وشعار للإيمان بدين الإسلام الذى أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الذى منه أطلقت صفة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة .
وقال - سبحانه - { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أى : لو آمنوا لكان إيمانهم خيرا لهم بدون تفصيل لهذه الخيرية لتذهب نفوسهم كل مذهب فى الرجاء والإشفاق .
ثم أخبر - سبحانه - بأن قلة من أهل الكتاب اختاروا الإيمان على الكفر فقال - تعالى - { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } .
أى : من أهل الكتاب أمة آمنت بالله وصدقت رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم واتبعت ما جاء به من الحق وأكثرهم معرضون عن الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وخارجون عن الطريق المستقيم الذى أمرت باتباعه الشرائع والعقول السليمة .
فالجملة الكريمة إنصاف للقلة المؤمنة التى آمنت من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره ممن دخل فى الإسلام . وذم لأكثر أهل الكتاب الذين جحدوا الحق . وخرجوا عن الطريق القويم .
وقوله { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } جملة مستأنفة استثنافا بيانيا ، فهى جواب للجملة الشرطية التى قبلها . فكأنه قيل : هل منهم من آمن أو كلهم على الكفر؟ فكان الجواب : منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون .
وعبر عن كفرهم بالفسق ، للإشعار بأنهم قد فسقوا فى دينهم أيضا فهم ليسوا عدولا فيه ، وبذلك يكونون قد خرجوا عن الإسلام وعما أوجبته عليهم كتبهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 699)

(110) سورة آل عمران، وَقَالَ تَعَالَى : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (1)
__________
(1) - " ثم " فى قوله - تعالى - : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } للتراخى الرتبى . و { أَوْرَثْنَا } أى أعطينا ومنحنا ، إذ الميراث عطاء يصل للإِنسان عن طريق غيره .
والمراد بالكتاب : القرآن الكريم ، وما اشتمل عليه من عقائد وأحكام وآداب وتوجيهات سديدة . . وهو المفعول الثانى لأورثنا ، وقد على المفعول الأول ، وهو الموصول للتشريف .
و { اصطفينا } بمعنى اخترنا واستخلصنا ، واشتقاقه من الصفو ، بمعنى الخلوص من الكدر والشوائب .
والمراد بقوله : { مِنْ عِبَادِنَا } الأمة الإِسلامية التى جعلها الله خير أمة أخرجت للناس .
والمعنى : ثم جعلنا هذا القرآن الذى اوحيناه إليك الرسول الكريم - ميراثاً منك لأمتك ، التى اصطفيناها على سائر الأمم ، وجعلناها أمة وسطا . وقد ورثناها هذا الكتاب لتنتفع بهداياته . . وتسترشد بتوجيهاته ، وتعمل بأوامره ونواهيه .
قال الآلوسى : قوله : { الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } هم - كما قال ابن عباس وغيره - أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الله - تعالى - اصطفاهم على سائر الأمم . .
وفى التعبير بالاصطفاء ، تنويه بفضل هؤلاء العباد ، وإشارة إلى فضلهم على غيرهم ، كما أن التعبير بالماضى يدل على تحقق هذا الاصطفاء .
ثم قسم - سبحانه - هؤلاء العباد إلى ثلاثة اقسام فقال : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله . . } .
وجمهور العلماء على أن هذه الأقسام الثلاثة ، تعد إلى أفراد هذه الأمة الإِسلامية .
وأن المراد بالظالم لنفسه ، من زادت سيئاته على حسناته .
وأن المراد بالمقصد : من تساوت حسناته مع سيئاته .
وأن المراد بالسابقين بالخيرات : من زادت حسناتهم على سيئاتهم .
وعلى هذا يكون الضمير فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا . . . } يعود إلى تلك الأقسام الثلاثة ، لأنهم جميعاً من أهل الجنة بفضل الله ورحمته .
ومن العلماء من يرى أن المراد بالظالم لنفسه : الكافر ، وعليه يكون الضمير فى قوله : { يَدْخُلُونَهَا } يعود إلى المقتصد والسابق بالخيرات ، وأن هذه الآية نظير قوله - تعالى - فى سورة الواقعة : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة والسابقون السابقون . . } .
ومن المفسرين الذين رجحوا القول الأول ابن كثير فقد قال ما ملخصه : يقول - تعالى - ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم . . . وهم هذه الأمة على ثلاث أقسام : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } وهو المفرط فى بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات . { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } وهو المؤدى للواجبات التارك للمرحمات وقد يترك بعض المستحبات ، ويفعل بعض المكروهات .
{ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله } وهو الفاعل للواجبات والمستحبات .
وقال ابن عباس : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله - تعالى - كل كتاب أنزله . فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب .
وفى رواية عنه : السبق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله - تعالى - ، والظالم لنفسه يدخل الجنة بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفى الحديث الشريف : " شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى " .
وقال آخرون : الظالم لنفسه : هو الكافر .
والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة ، وهذا اختيار ابن جرير كما و ظاهر الآية ، وكا جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضاً .
ثم أورد الإِمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث منها : ما أخرجه الإِمام أحمد عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى هذه الآية : " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة ، وكلهم فى الجنة " .
ومعنى قوله " بمنزلة واحدة " أى : فى أنهم من هذه الأمة ، وأنهم من أهل الجنة ، وإن كان بينهم فرق فى المنازل فى الجنة .
وقال الإِمام ابن جرير : فإن قال لنا قائل : إن قوله { يَدْخُلُونَهَا } إنما عنى به المقتصد والسابق بالخيرات؟
قيل له : وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل؟ فإن قلا : قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار ، ولم لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد ، وجب أن لا يكون لأهل الإِيمان وعيد .
قيل : إنه ليس فى الآية خبر أنهم لا يدخلون النار ، وإنما فيها إخبار من الله - تعالى - أنهم يدخلون جنات عدن : وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التى أصابها فى الدنيا . . ثم يدخلون الجنة بعد ذلك ، فيكون ممن عمه خبر الله - تعالى - بقوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } .
وقال الشوكانى : والظالم لنفسه : هو الذى عمل الصغائر . وقد روى هذا القول عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأبى الدرداء ، وعائشة . وهذا هو الراجح ، لأن عمل الصغائر لا ينافى الاصطفاء ، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور . . وجه كونه ظالماً لنفسه ، أنها نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له ، فإنه لو عمل تلك الصغائر طاعات ، لكان لنفسه فيها من الثواب عظيماً . .
قالوا : وتقديم الظالم لنفسه على المقتصد وعلى السابق بالخيرات . لا يقتضى تشريفاً ، كما فى قوله - تعالى - { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة . . } ولعل السر فى مجئ هذه الأقسام بهذا الترتيب ، أن الظالمين لأنفسهم الأقسام عددا ، ويليهم المقتصدون ، ويليهم السابقون بالخيرات ، كما قال - تعالى - { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } وقوله : { بِإِذُنِ الله } أى : بتوفيقه وإرادته وفضله .
واسم الإِشارة فى قوله : { ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } يعود إلى ما تقدم من توريث الكتاب ومن الاصطفاء .
أى : ذلك الذى أعطيناه - أيها الرسول الكريم - لأمتك من الاصطفاء ومن توريهم الكتاب ، هو الفضل الواسع الكبير ، الذى لا يقادر قدره ، ولا يعرف كنهه إلا الله - تعالى - .الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3514)

(32) سورة فاطر ،وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ : « أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى »(1).
وَأَفْضَلُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ (2). وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ : « خَيْرُكُمْ قَرْنِى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ » ،وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ (3)
__________
(1) - مسند أحمد (20550) صحيح
(2) - وفي الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 33 / ص 153)
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ قَرْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَال عِمْرَانُ - رَاوِي الْحَدِيثِ - : فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ ، وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يُوفُونَ ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ ، وَفِي رِوَايَةٍ : خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ . . . (2) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ : وَالْمُرَادُ بِقَرْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحَابَةُ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ : إِنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ كُل مُسْلِمٍ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ سَاعَةً فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَرِوَايَةُ خَيْرُ النَّاسِ عَلَى عُمُومِهَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ جُمْلَةُ الْقَرْنِ ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْهُ تَفْضِيل الصَّحَابِيِّ عَلَى الأَْنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ ، وَلاَ أَفْرَادُ النِّسَاءِ عَلَى مَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَغَيْرِهِمَا ، بَل الْمُرَادُ جُمْلَةُ الْقَرْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُل قَرْنٍ بِجُمْلَتِهِ .
قَال الْقَاضِي : وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْقَرْنِ هُنَا فَقَال الْمُغِيرَةُ : قَرْنُهُ أَصْحَابُهُ ، وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ أَبْنَاؤُهُمْ ، وَالثَّالِثُ أَبْنَاءُ أَبْنَائِهِمْ ، وَقَال شَهْرٌ : قَرْنُهُ مَا بَقِيَتْ عَيْنٌ رَأَتْهُ ، وَالثَّانِي مَا بَقِيَتْ عَيْنٌ رَأَتْ مَنْ رَآهُ ثُمَّ كَذَلِكَ ، وَقَال غَيْرُ وَاحِدٍ : الْقَرْنُ كُل أَهْل طَبَقَةٍ مُقْتَرِنِينَ فِي وَقْتٍ ، وَقِيل : هُوَ لأَِهْل مُدَّةٍ بُعِثَ فِيهَا نَبِيٌّ طَالَتْ مُدَّتُهُ أَمْ قَصُرَتْ .
وَذَكَرَ الْحَرْبِيُّ الْخِلاَفَ فِي قَدْرِهِ بِالسِّنِينَ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، ثُمَّ قَال : وَلَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ وَاضِحٌ ، وَرَأَى أَنَّ الْقَرْنَ كُل أُمَّةٍ هَلَكَتْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا أَحَدٌ .
وَقَال الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ : الْقَرْنُ عَشْرُ سِنِينَ ، وَقَتَادَةُ : سَبْعُونَ ، وَالنَّخَعِيُّ : أَرْبَعُونَ ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى : مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ : مِائَةٌ ، وَقَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ : هُوَ الْوَقْتُ .
قَال النَّوَوِيُّ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَرْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَةُ ، وَالثَّانِي التَّابِعُونَ ، وَالثَّالِثُ تَابِعُوهُمْ (4) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 16 / 318 نشر دار القلم .
(2) حديث : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم . . . " . أخرجه البخاري ( فتح الباري 7 / 3 ) ومسلم ( 4 / 1964 ) من حديث عمران بن حصين واللفظ للبخاري ، والرواية الأخرى أخرجها البخاري ( فتح الباري 7 / 3 ) ومسلم ( 4 / 1963 ) من حديث ابن مسعود .
(3) فتح الباري 7 / 5 - 6 .
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 16 / 318 - 319 نشر دار القلم .
(3) - قلت : هذا تخريجه بشكل مختصر
عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « خَيْرُكُمْ قَرْنِى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ » . صحيح البخارى(2651)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَجِىءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ » . صحيح البخارى(2652 )
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « خَيْرُ أُمَّتِى الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ». وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَذَكَرَ الثَّالِثَ أَمْ لاَ قَالَ « ثُمَّ يَخْلُفُ قَوْمٌ يُحِبُّونَ السَّمَانَةَ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا ».صحيح مسلم (6636 )
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ « الْقَرْنُ الَّذِى أَنَا فِيهِ ثُمَّ الثَّانِى ثُمَّ الثَّالِثُ ». صحيح مسلم (6641 )
و عَنْ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الآخِرُ أَرْدَى مصنف ابن أبي شيبة (32402)
و عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ. نفسه (32407)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَوْلَةَ ، قَالَ : كُنْت أَسِيرُ مَعَ أَبِي بُرْدَةَ الأَسْلَمِيِّ ، فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَكُونُ فِيهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ.نفسه(32408)
و عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ يُعْطُونَ الشَّهَادَةَ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلُوهَا.نفسه (32410)
و عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : لاَ تَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا دَامَ فِيكُمْ مَنْ رَآنِي وَصَاحَبَنِي , وَاللهِ لاَ تَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا دَامَ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي وَصَاحَبَ مَنْ صَاحَبَني " نفسه (32411)
و عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ مِنْهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" المعجم الصغير للطبراني (96)
و عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَيْرُ قَرْنٍ الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ ، ثُمَّ الثَّانِي ، ثُمَّ الثَّالِثُ ، ثُمَّ الرَّابِعُ ، لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِمْ شَيْئًا "المعجم الصغير للطبراني(352)
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ.مسند البزار(3856)
و عَن أَنَس ؛ أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خير الناس قرني , ثم الذين يلونهم , ثم الذين يلونهم.مسند البزار (7279) وغيرهم
وفي نظم المتناثر - (ج 1 / ص 199)
240 (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
أورده في الأزهار من حديث (1) ابن مسعود (2) وعمران بن حصين (3) وأبي هريرة (4) وعائشة (5) وبريدة (6) والنعمان بن بشير (7) وعمر (8) وسعد بن تميم (9) وجعدة بن هبيرة (10) وسمرة (11) وأبي برزة (12) وجميلة بنت أبي لهب (13) وعمرو بن شرحبيل مرسلا ثلاثة عشر نفسا.
(قلت) في فيض القدير قال المؤلف يعني السيوطي يشبه أن الحديث متواتر اه.
وفي أول الإصابة للحافظ ابن حجر ما نصه :وتواتر عنه صلى الله عليه وسلم قوله خير الناس قرني ثم الذين يلونهم اه
وفي رسالة الفرقان لابن تيمية ما نصه وقد استفاضت النصوص الصحيحة عنه أي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير القرون قرني الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم اه.

. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : « لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِى ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ » (1)
__________
(1) - صحيح البخارى(3673 ) و صحيح مسلم (6651 ) - النَّصيف : النصف
إن تعديل الصحابة رضي الله عنهم وتنزيههم عن الكذب والوضع، هو مما اتفق عليه أئمة الإسلام ونقاد الحديث من أهل السنة والجماعة، ولا يعرف من طعن فيهم وشكك في عدالتهم إلاَّ الشذاذ من أصحاب الأهواء والفرق الضالة المنحرفة ممن لا يلتفت إلى أقوالهم، ولا يعتد بها في خلاف ولا وفاق.
كيف لا وقد عدلهم الله في كتابه، وأثنى عليهم ومدحهم في غير ما آية فقال جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ... [الفتح:29]، وقال: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]، وقال: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التوبة:88]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تزكيهم، وتشيد بفضلهم ومآثرهم، وصدق إيمانهم وإخلاصهم، وأي تزكية بعد تزكية الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؟!
كما عدلهم رسوله صلى الله عليه وسلم وبيَّن منزلتهم، ودعا إلى حفظ حقهم وإكرامهم، وعدم إيذائهم بقول أو فعل، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم . وقال: لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصفيه . أخرجاه في الصحيحين.
وقال أيضاً: الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه . رواه الترمذي .
وأجمع المسلمون من أهل السنة والجماعة على عدالتهم وفضلهم وشرفهم، وإليك طرفًا من أقوال أئمة الإسلام وجهابذة النقاد فيهم. قال ابن عبد البر رحمه الله -كما في الاستيعاب-: قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول .
وقال ابن الصلاح في مقدمته: ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتنة منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحسانًا للظنِّ بهم، ونظرًا إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة. انتهى.
وقال الإمام الذهبي : فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي، وإن جرى ما جرى...، إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل، وبه ندين الله تعالى .
وقال ابن كثير : والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة . ثم قال: وقول المعتزلة: الصحابة كلهم عدول إلاَّ من قاتل عليًّا قول باطل مردود . ثم قال: وأما طوائف الروافض وجهلهم وقلة عقلهم، ودعاويهم أن الصحابة كفروا إلاَّ سبعة عشر صحابيًّا - وسموهم - فهذا من الهذيان بلا دليل .
على أنه -كما قال الخطيب في الكفاية- لو لم يرد الله ورسوله فيهم شيئا مما ذكر لأوجب الحال التي كانوا عليها -من الهجرة، وترك الأهل والمال والولد، والجهاد ونصرة الإسلام، وبذل المهج وقتل الآباء والأبناء في سبيل الله- القطع بتعديلهم واعتقاد نزاهتهم وأمانتهم، وأنهم كانوا أفضل من كل من جاء بعدهم.
والطعن في الصحابة رضي الله عنهم طعن في مقام النبوة والرسالة، فإن كل مسلم يجب أن يعتقد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة وبلغ الرسالة، وقام بما أمره الله به، ومن ذلك أنه بلغ أصحابه العلم وزكاهم ورباهم على عينه. قال عز وجل: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، والحكم بعدالتهم من الدين، ومن الشهادة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قام بما أمره الله به، والطعن فيهم يعني الطعن بإمامهم ومربيهم ومعلمهم صلى الله عليه وسلم، كما أن الطعن فيهم مدخل للطعن في القرآن الكريم، فأين التواتر في تبليغه؟ وكيف نقطع بذلك إذا كانت عدالة حملته ونقلته مشكوكاً فيها؟!
ونحن حينما نصف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هم له أهل، فإنما نريد صحابته المخلصين الذين أخلصوا دينهم، وثبتوا على إيمانهم، ولم يغمطوا بكذب أو نفاق، فالمنافقون الذين كشف الله سترهم، ووقف المسلمون على حقيقة أمرهم، والمرتدون الذين ارتدوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده، ولم يتوبوا أو يرجعوا إلى الإسلام، وماتوا على ردتهم؛ هؤلاء وأولئك لا يدخلون في هذا الوصف إطلاقًا، ولا تنطبق عليهم هذه الشروط أبدًا، وهم بمعزل عن شرف الصحبة، وبالتالي هم بمعزل عن أن يكونوا من المرادين بقول العلماء والأئمة: "إنهم عدول". وفي تعريف العلماء للصحابي ما يبين ذلك بجلاء، حيث عرفوه بأنه من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك.
فالخلاصة أن تعديل الصحابة رضي الله عنهم أمر متفق عليه بين المسلمين، ولا يطعن فيهم إلاَّ من غُمص في دينه وعقيدته، ورضي بأن يسلم عقله وفكره لأعدائه، معرضًا عن كلام الله وكلام رسوله وإجماع أئمة الإسلام. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 411)رقم الفتوى 47533 عدالة الصحابة محل إجماع -تاريخ الفتوى : 29 صفر 1425
ماحكم من سب أحد الصحابة عمداً؟
اعلم أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم خير هذه الأمة وأفضلها وأبرها ، وقد أثنى الله تعالى عليهم أحسن الثناء ، وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأجمع من يعتد بإجماعه من هذه الأمة على حبهم وتوقيرهم ، قال الله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ، ذلك الفوز العظيم ). [ التوبة: 100].
وقال تعالى: ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود …). [الفتح: 29].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" . أخرجه البخاري عن أبي سعيد ، ومسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما .
وقال أيضاً : " خير أمتي قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ". كما في الصحيحين عن عمران بن حصين .
إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة الصريحة المفصحة بمدحهم والثناء عليهم ، وتعداد فضائلهم جملة وتفصيلاً .
فمن سب قوماً هذه فضائلهم ، وهذا ثناء ربهم عليهم ، وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم ، فلا شك أنه مكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فيجب أن يعرف ذلك ، وأن تقام عليه الحجة ، فإن تاب ورجع إلى الحق ، فالله توابٌ رحيم ، وإن تمادى في سبهم ولم يتب ولم ينصع للحق ، فهو كافر ضال مضل ، نقل ذلك غيرُ واحدٍ من أهل العلم ، وهذا فيمن سبهم جملة ، وكذلك من سب واحداً منهم تواترت النصوص بفضله ، فيطعن فيه بما يقدح في دينه وعدالته ، وذلك لما فيه من تكذيب لتلك النصوص المتواترة والإنكار والمخالفة لحكم معلوم من الدين بالضرورة .
ونقل الخلال عن الإمام أحمد أنه سئل عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين فقال: ما أراه على الإسلام .
وأما من سب من تواترت النصوص بفضله بما لا يقدح في دينه وعدالته، كأن يصفه بالبخل أو الجبن ، أو سب بعض من لم تتواتر النصوص بفضله ، فلا يكفر بمجرد ذلك السب، لعدم إنكاره ما علم من الدين بالضرورة ، ولكنه يكون قد أتى ما يوجب تأديبه وتعزيره .فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 837) رقم الفتوى 2429 حكم من سب الصحابة -تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420
الطعن في الصحابة زندقة وانحلال
إن الواجب علينا أن نحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لثناء الله عليهم، لإيمانهم به، وتصديقهم لنبيه، ولنصرتهم له، ولما نفعنا الله به من جهادهم في سبيل نصرة دين الإسلام الذي من الله به علينا، وإيصاله إلينا نقياً صافياً. قال الحافظ ابن كثير : والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل، والجزاء الجميل . اهـ. وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه . ولقد عد العلماء قديماً الطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علامة على أهل البدع والزندقة الذين يريدون إبطال الشريعة بجرح رواتها. قال أبو زرعة : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة!! . وعن الإمام أحمد أنه قال : إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء ـ فاتهمه على
الإسلام . وقال الإمام البربهاري : واعلم أن من تناول أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه إنما أراد محمداً، وقد آذاه في قبره !! . وانظر الفتوى رقم: 36106 . وللرد على أولئك الزنادقة السابين نقول: أولاً: إن سبكم إياهم تكذيب لما ثبت في الكتاب والسنة في مواطن متعددة، من الثناء عليهم. ومن ذلك قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ {آل عمران: 110}. وقوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ {البقرة: 143}. وأصحاب رسول الله عليه وسلم أول من وُوجه بهذا الخطاب فهم معنيون به بالدرجة الأولى. قال الله عز وجل: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {التوبة: 88ـ89}. وقال عز وجل: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {التوبة:100}.وقال سبحانه: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ {التوبة:117}. وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه معهم قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ {الكهف: 28}. وقال سبحانه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا {الفتح: 18ـ19}. وقال عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً {الفتح:29}. وقال عز وجل في آيات الفيء: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {الحشر:8ـ9}. وكذلك ثبت في السنة في فضائل الصحابة جملة وتفصيلاً الشيء الكثير، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وقال أيضاً: النجوم أمنةٌ للسماء، فإذا
ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعدُ، وأنا أمنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون . رواه مسلم . وكذلك ثبت في السنة المطهرة النهي عن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه . رواه البخاري ومسلم . ثانياً: نقول للزنادقة السابين: إن الطعن في عدالة الصحابة قدح في الشرع كله، لأنهم حملته إلى الأمة، ولهذا لا يوجد أحد يطعن في عدالتهم إلا ويضعف إيمانه وتصديقه بالنصوص بقدر ما يطعن في الصحابة، وهذا أمر ظاهر لكل من تأمل حال من ابتلي بالطعن في الصحابة. ولقد فُضلت اليهود والنصارى على الزنادقة السابين للصحابة فإذا سئلت اليهود من خير ملتكم، قالوا: أصحاب موسى، و إذا سئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواريي عيسى.وإذا سئلت الزنادقة السابين: من شر أهل ملتكم؟ قالوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم!!!. هذا ونوصيك بأمرين: الأول: عدم مخالطة من يقع في صحابة رسول الله وترك مجالستهم مطلقاً، فإن مرضهم، معدٍ، ولقد نهى السلف أشد النهي عن مخالطة أهل البدع. ثانياً: نوصيك بمطالعة كتاب المناقب وكتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري وكتاب فضائل الصحابة من صحيح مسلم . وذلك ليزداد حبك لهم فتحشري معهم.فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 5546) =رقم الفتوى 56684 الطعن في الصحابة زندقة وانحلال تاريخ الفتوى : 26 شوال 1425
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 24 / ص 140)
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ سَبُّ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْل أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ . (1)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ فَاسِقٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَفِّرُهُ ، فَإِنْ وَقَعَ السَّبُّ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ مَذْهَبَانِ :
الأَْوَّل : وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا ، قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنْ شَتَمَهُمْ بِمَا يَشْتُمُ بِهِ النَّاسُ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِلًّا ، نَقَل عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِل فِيمَنْ شَتَمَ صَحَابِيًّا الْقَتْل ؟ فَقَال : أَجَبْنَ عَنْهُ ، وَيُضْرَبُ . مَا أَرَاهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ .
الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِلْحَنَفِيَّةِ ، نَقَلَهُ الْبَزَّازِيُّ عَنِ الْخُلاَصَةِ : إِنْ كَانَ السَّبُّ لِلشَّيْخَيْنِ يَكْفُرُ ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ : إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمُتُونِ ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنْ قَال فِيهِمْ : كَانُوا عَلَى ضَلاَلٍ وَكُفْرٍ ، وَقَصَرَ سَحْنُونٌ الْكُفْرَ عَلَى مَنْ سَبَّ الأَْرْبَعَةَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا ، وَهُوَ مُقَابِل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، ضَعَّفَهُ الْقَاضِي وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا ، وَقِيل : وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِل . (2)
__________
(1) حديث : " لا تسبوا أصحابي . . . " أخرجه البخاري ( الفتح 7 / 21 - ط السلفية ) ومسلم ( 4 / 1968 - ط الحلبي ) من حديث أبي سعيد الخدري ، واللفظ للبخاري .
(2) ابن عابدين 4 / 237 ، تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 286 ، معالم السنين 4 / 308 ، الجمل على المنهج 5 / 122 ، القليوبي 4 / 175 ، إعانة الطالبين 4 / 292 ، نهاية المحتاج 7 / 416 ، الإنصاف 10 / 324 ، شرح منتهى الإرادات 3 / 260 ، الفتاوى البزازية 6 / 319 .

.
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، قَالَ تَعَالَى : {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(1) (10) سورة الحديد، وَقَالَ تَعَالَى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2)(100) سورة التوبة ،وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا ،وَالْمُرَادُ بِالْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ ،فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) }(3)
__________
(1) - وَمَا لَكُم يَا أَيُّها النَّاسُ لاَ تُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوالِكم فِي سَبيلِ اللهِ؟ أَتَخْشَوْنَ الفَقْرَ إِنْ أَنْفَقْتُمْ؟ أَنْفِقُوا وَلاَ تَخْشَوْا شَيْئاً ، فَإِنَّ الذِي أَنْفَقْتُمْ أَمْوالَكُمْ فِي سَبِيلهِ هُوَ مَالكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ ، وَقَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِكُمْ ، وَبِالإِخْلاَفِ عَلَيكُم { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالى تَفَاوَتَ دَرَجَاتِ المُنْفِقِينَ ، بِحَسَبِ تَفَاوُتِ أَحْوَالِهم ، فَقالَ : إِنَّهُ لاَ يَسْتَوي مَنْ آمَنَ ، وَهَاجَرَ ، وَأَنْفَقَ مَالَهُ في سَبِيلِ اللهِ ، قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ ( أَوْ قَبْلَ صُلْحِ الحَدَيْبِيَةِ عَلَى قَوْلٍ ) ، مَعَ مَنْ آمنَ ، وَأَنْفَقَ بَعْدَ الفَتْحِ ، فَالأَوَّلُونَ أَعْظَمُ دَرجةً عِنْدَ الله ، لأنَّ المُؤْمِنينَ قَبْلَ الفَتْحِ كَانُوا قَليلي العَدَدِ ، وَواجِبَاتُهُمْ كَثِيرةٌ وَثَقِيلةٌ ، أَمَّا بَعْدَ الفَتْحِ فَقَدِ انْتَشَرَ الإِسْلامُ ، وَأَمِنَ النَّاسُ . وَاللهُ عَلِيمٌ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ العِبَادُ .
( وَجَاءَ عَنْ رَسُولِ الله قَوْلُهُ : " لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَباً مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ " ) .
( رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ) .
(2) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ ، ( وَهُمُ الذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ ) ، وَمِنَ الأَنْصَارِ ( وَهُمُ الذِينَ بَايَعُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْعَتَي العَقَبَةِ وَالرِّضْوَانِ ) ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ . وَيُخْبِرُ تَعَالَى بِرِضَاهُ عَنْهُمْ بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا ، مِنْ عِزٍّ وَنَصْرٍ وَمَغْنَمٍ وَهُدًى ، وَبِمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ، مِنْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَوَانِبِهَا ، وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا أَبَداً . وَالفَوْزُ الذِي فَازَ بِهِ هَؤُلاَءِ الكِرامُ البَرَرَةُ هُوَ أَعْظَمُ الفَوْزِ .
(3) - نَزَلَتْ هذِهِ السُّورَةُ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في طَريقِهِ مِنَ الحُدَيْبِيَةِ إِلى المَدِينَةِ ، بَعْدَ أَنْ أَبْرَمَ مَعَ قُرَيشٍ وَثِيقَةَ الصُّلْحِ المَعْرُوفِ بِصُلْحِ الحُدَيْبِيةِ . قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ : ( إنَّكُم تَعُدُّون الفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ ، وَنَحْنُ نَعُدُّ الفَتْحَ صُلْحَ الحُدَيْبِيَةِ ) .
وَفِي هذهِ السُّورَةِ يَقُولُ اللهُ تَعَالى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ، إِنَّهُ فَتَحَ لَهُ فَتْحاً ظَاهِراً مُبِيناً بِعَقْدِ الصُّلحِ في الحُدَيْبِيَةِ مَعَ قُرَيشٍ ، إِذْ أمِنَ النَّاسُ ، وَاجْتَمَعَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضِ ، وَتَكَلَّمَ المُؤْمِنُ مَعَ الكَافِرِ ، وَتَسَابَقَ العَرَبُ إلى الدُّخُولِ في دِينِ اللهِ أَفْواجاً ، حَتَّى إِذا كَانَ بَعْدَ عَامَينِ سَارَ رَسُولُ اللهِ لِفَتْحِ مَكَّةَ في عَشَرَةِ آلافِ مُقَاتِلٍ ، أكْثَرُهُمْ دَخَلَ الإِسْلاَمَ بَعْدَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ .
لِيَغْفِرَ اللهُ لَكَ جَمِيعَ مَا صَدَرَ عَنْكَ مِنَ الذُّنوبِ وَالهَفَوَاتِ ، قَبْلَ الرِّسَالةِ وَبَعْدَها ، وَيُتِمَّ رَبُّكَ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بِإِعْلاءِ شَأْنِكَ وَشَأْنِ الإِسْلامِ ، وانتِشَارِهِ في البُلْدَانِ ، وَرَفْعِ ذِكْرِكَ في الدُّنيا وَالآخِرَةِ ، وَيُرْشِدَكَ رَبُّكَ طَرِيقاً مِنَ الدِّينِ لا اعْوِجَاجَ فِيهِ ، بِما يَشْرَعُهُ لَكَ مِنَ الشَّرْعِ ، وَالدِّينِ القَوِيمِ .
وَيْنَصُرُكَ اللهُ عَلَى مَنْ عَادَاكَ نَصْراً ذَا عِزَّةٍ .

[الفتح/1-4]، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ قَالَ : نَعَمْ }(1)
__________
(1) - عن أبي وَائِلَ قَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَلَوْ نَرَى قِتَالاً لَقَاتَلْنَا ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ فَقَالَ « بَلَى » . فَقَالَ أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِى الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِى النَّارِ قَالَ « بَلَى » . قَالَ فَعَلَى مَا نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَقَالَ « ابْنَ الْخَطَّابِ ، إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِى اللَّهُ أَبَدًا » . فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا . فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا . فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوَفَتْحٌ هُوَ قَالَ « نَعَمْ » . صحيح البخارى (3182 ) ومسلم (4733 )
شرح ابن بطال - (ج 9 / ص 446)
قال المهلب: قوله: « اتهموا رأيكم » يعنى: فى هذا القتال، يعظ الفريقين؛ لأن كل فريق منهم يقاتل على رأى يراه، واجتهاد يجتهده، فقال لهم سهل: اتهموا رأيكم فإنما تقاتلون فى الإسلام إخوانكم براى رأيتموه، فلو كان الرأى يقضى به لقضيت يوم أبى جندل برد أمر النبى يوم الحديبية، حين قاضى أهل مكة أن يرد إليهم من فر إلى النبى من المسلمين، فحرج أبو جندل يستغيب يجر قيوده، وكان قد عذب على الإسلام. فقال سهيل، والد أبى جندل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه. فرد إليه أبا جندل، وهو ينادى: أتردوننى إلى المشركين وأنا مسلم، وترون ما لقيت من العذاب فى الله؟ !
وقام سهيل إلى ابنه بحجر فكسر فمه، ففارت نفوس المسلمين حينئذ، وقال عمر: لسنا على الحق؟ ولذلك قال سهل ولو أستطيع أن أرد أمر النبى لرددته.
وقوله: « فما وضعنا سيوفنا » يعنى: ما جردناها فى الله لأمر فظيع علينا عظيم إلا أسهلت بنا سيوفنا، أقضته بنا إلى أسهل من أمرنا، غير هذا الأمر، يعنى: أمر الفتن التى وقعت بين المسلمين فى صدر الإسلام؛ فإنها [.....] لم تتبين السيوف فيها الحقيقة بل حلت المصيبة بقتل المسلمين، فنزع السيف أول من سله فى الفتنة.
وغرض البخارى فى هذا الباب: أن يعرفك أن الصبر على المفاتن، والصلة للمقاطع أقطع للفتنة وأحمد عاقبة، فكأنه قال: باب الصبر على أذى المفاتنين وعاقبة الصابرين. ألا ترى أن النبى أحذ يوم الحدبيية فى قتال المشركين بالصبر لهم، والوقوع تحت الدنية التى ظنها عمر فى الدين؟ وكان ذلك الصبر واللين الذى فهمه رسول الله عن ربه فى بروك الناقة عن توجيهها إلى مكة أفضل عاقبة فى الدنيا والآخرة من القتال لهم، وفتح مكة على ذلك الحنق الذى قال المسلمين من تحكمهم على النبى، فكان عاقبة صبر النبى ولينه لهم أن أدخلهم الله الإسلام، وأوجب لهم أجرهم فى الآخرة.
ألا ترى قوله: « لأن يهدى الله بك رجلا واحدًا خير لك من حمر النعم » فكيف بأهل مكة أجمعين، وهم الذين كانوا أئمة العرب وسادة الناس، وبدخولهم دخلت العرب فى دين الله أفواجًا.
وفيه من الفقة: أن صلة المقاطع أنجع فى سياسة النفوس، وأحمد عاقبة، وعلى مثل هذا المعنى دل حديث أسماء فى صلة أمها وهى مشركة.
قال الطبرى: وفى حديث سهل بن حنيف الدلالة البينة أن رسول الله كان يدير كثيرًا من حروبه بحسب ما يحضره من الرأى مما الأغلب عنده أنه الصواب، وإن كان الله - تعالى - قد كان عهد إليه فى جواز الصلح فى مثل الحال التى صالحهم عليها عهدًا، فمن ذلك الرأى كان، لولا ذلك كان عمر وسهل بن حنيف ومن كان ينكر الصلح ويرى قتال القوم أصلح فى التدبير والرأى لينكروا ذلك، ويؤثروا آراءهم بالقتال على تركة لو كان عندهم آية من أمر الله - تعالى - نبيه، ولكنه كان عندهم أنه رأى من النبى وإبقاء على من معه من الصحابة؛ لقلة عددهم، وكثرة عدد المشركين، وكان عمر والذين يرون قتال القوم لحسن تصابرهم وجميل نياتهم فى الإسلام إذ كانوا أهل الحق، والمشركون أهل الباطل يرون أن الحق لن يعلوه باطل، لا سيما عدد: الله وليهم ورسوله، فأيدهم، فعظم بذلك عليهم الانحطاط فى الصلح، ورأوه وهنا فى الدين، وكان رسول الله أعلم بما يؤدى إليه عاقبة ذلك الصلح منهم مما هو أجدى على الإسلام وأهله نفعًا، وأن الله أوحى إليه الأمر بترك قتال القوم؛ لأن ذلك أسد فى الرأي.
وفيه الدلالة الواضحة على أن لأهل العلم الاجتهاد فى النوازل فى دينهم فيما لا نص فيه من كتاب الله ولا سنة. وذلك أن الذين أنكروا الصلح يوم أبى جندل أنكروه اجتهادًا منهم، ورسوله الله بحضرتهم يعلم ذلك من أمرهم، فلم ينههم عن القول بما أدى إليه اجتهادهم، وإن كان قد عرفهم خطأ رأيهم فى ذلك، وصواب رأيه، ولو كان الاجتهاد خطأ لكان حريا عليه - - صلى الله عليه وسلم - - أن يتقدم إليهم بالنهى عن القول بما أداهم إليه اجتهادهم أشد النهي.
وفيه أيضًا: أن المجتهد عند نفسه مما يدرك بالاستنباط لا تبعة عليه فيما بينه وبين الله خطأ، إن كان منه فى اجتهاده، إذا كان اجتهاده على أصل، وكان من أهله؛ لأن النبى - - صلى الله عليه وسلم - - لم يؤثم عمر ومن أنكر الصلح، والمعانى التى جرت بينهم فى كتاب الصلح مما كان خلافًا لرأى رسول الله، ولو كانوا فى ذلك مذنبين لأمرهم النبى بالتوبة، ولكنهم كانوا على اجتهادهم مأجورين، وإن كان الصواب فيما رأى رسول الله، وذلك نظير قوله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر » وستأتى زيادة فى هذا المعنى فى كتاب: الاعتصام - إن شاء الله.
وقال أبو الحسن بن القابسى: وقول عمر: أليس قتلادهم فى النار؟
فعلام نعطى الدنية فى ديننا؟ هذه المراجعة هى التى قال فيها عمر فى حديث مالك: نزرت رسول الله كل ذلك لا يجيبك.

.
وَأَفْضَلُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ " الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ "(1) وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْأُمَّةِ وَجَمَاهِيرِهَا وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ بَسَطْنَاهَا فِي " مِنْهَاجِ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ أَهْلِ الشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ " (2).
__________
(1) - وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 6867)
رقم الفتوى 26667 الخلفاء الراشدون أفضل الصحابة
تاريخ الفتوى : 17 شوال 1423
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فضيلة الشيخ
ماهي المواقف المشرفة والمنطقية التي جعلت الصحابة الكرام أبا بكر وعمر وعثمان أفضل الصحابة بعد رسول الله رغم إنه ليس لهم موقف قتالي معروف في معركة معينة ولم يكونو من حفظة القرآن والدليل أنهم طلبوا من حفظة القرآن تدوينه .. فما هو الدليل المنطقي على تفضيلهم ؟؟ أرجو أن لا تشيروا إلى الروايات التي كانت تقول بأفضليتهم لأن بعض المسلمين لا يثقون بهذه الروايات .. أريد كلاماً موضوعياً يدل على أفضليتهم .. والسلام؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالمقدمتان اللتان بنيت عليها النتيجة باطلتان فاسدتان، فكانت النتيجة باطلة، فمن الذي قال لك إن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا من حفظة القرآن، يقول ابن حجر: والذي يظهر من كثير من الأحاديث أن أبا بكر كان يحفظ القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح أنه بنى مسجداً بفناء داره فكان يقرأ فيه القرآن، وهو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك. قال: وهذا مما لا يرتاب فيه مع شدة حرص أبي بكر على تلقي القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، وفراغ باله له وهما بمكة، وكثرة ملازمة كل منهما للآخر حتى قالت عائشة إنه صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم بكرة وعشياً، وقد صح حديث: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله... وقد قدمه النبي صلى الله عليه وسلم إماماً للمهاجرين والأنصار فدل على أنه كان أقرأهم. انتهى
وذكر أبو عبيد في كتاب القراءات، القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعد من المهاجرين الخلفاء الأربعة، قال السيوطي: وسبقه إلى ذلك ابن كثير.
وأما حديث: خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وأبي بن كعب.
فلا ينفي وجود غيرهم في ذلك الوقت ممن شاركهم في حفظ القرآن، ففي الصحيح أنه قتل في بئر معونة سبعون من الحفاظ يقال لهم القراء، هذا وليس في أمر أبي بكر لجماعة من حفاظ الصحابة بتدوين القرآن، دليل على أنه لا يحفظه لما تقدم، ولأنه كان مشغولاً بأمور الخلافة.
أما المقدمة الثانية فهي أفسد من الأولى وأبطل، فإن أهل العلم بالتواريخ والسير، يذكرون أن أبا بكر شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، بدراً والمشاهد كلها ولم يغب عن مشهد، وثبت مع الرسول يوم أحد حين انهزم الناس، ودفع إليه النبي رايته العظمى يوم تبوك. "الطبقات الكبرى".
قال ابن كثير: ولم يختلف أهل السير في أن أبا بكر لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشهد من مشاهده كلها. انتهى "أسد الغابة"
وأما عمر بن الخطاب، فقد ذكر ابن الجوزي في مناقبه، أن العلماء اتفقوا على أنه شهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله ولم يغب عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا ثبت باليقين فساد المقدمتين الواردتين في السؤال، فإن النتيجة التي بنيت عليها أحق بالإبطال والفساد، وما ذكرته يدل على جهل بمقام أولئك الأعلام وأئمة الهدى وخير الناس بعد الأنبياء، ولساعة من أبي بكر خير من أعمارنا مجتمعة، وكيف لا يكون هؤلاء الأخيار أفضل الأمة، وقد اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وأخبر في كتابه أنه رضي الله عنهم فقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح:18].
قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
ومن لم يثق في الروايات الصحيحة الثابتة في فضائل هؤلاء العظماء، فما الحيلة معه، وكيف يطلب روايات تدل على بطولاتهم ثم هو يناقض نفسه، ويعتمد على رواية تقول إنهم أمروا غيرهم بجمع القرآن؟!
ومن لم يثق بهذه الروايات، فكيف يثق بالقرآن العظيم، وما جمع إلا عن طريقهم، وما نقل إلينا إلا بواسطتهم، والأمر كما قال الله: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
ولمعرفة تراجمهم انظر في كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي، وتاريخ الخلفاء للسيوطي وغيرهما.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
(2) - منهاج السنة النبوية - (ج 5 / ص 3)فما بعد

وَبِالْجُمْلَةِ اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا وَاحِدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ، وَلَا يَكُونُ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُهُمْ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعًا لَهُ ،كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُ الْأُمَّةِ فِي مَعْرِفَةِ دِينِهِ وَاتِّبَاعِهِ (1)،وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَكْمَلُ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ وَعَمَلًا بِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إذْ كَانَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْأُمَمِ وَأَفْضَلُهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ .
- - - - - - - - - - - - - - - - -
هلْ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ ؟(2)
__________
(1) - والصحابة أكمل الأمة في ذلك بدلالة الكتاب والستة والإجماع ، والاعتبار ولهذا لا تجد أحدا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه ، وعلى أمثاله ، وتجد من ينازع في ذلك كالرافضة من أجهل الناس ، ولهذا لا يوجد في أئمة الفقه الذين يرجع إليهم رافضي ، ولا في أئمة الحديث ولا في أئمة الزهد والعبادة ، ولا في أئمة الجيوش المؤيدة المنصورة رافضي، ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام وأقاموه وجاهدوا عدوه من هو رافضي، ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي .مختصر منهاج السنة النبوية - (ج 1 / ص 41) ومختصر منهاج السنة النبوية - (ج 1 / ص 103)
(2) - وفي منهاج السنة النبوية - (ج 5 / ص 236)
ولهذا كان مشايخ الصوفية العارفون أهل الإستقامة يوصون كثيرا بمتابعة العلم ومتابعة الشرع لأن كثيرا منهم سلكوا في العبادة لله مجرد محبة النفس وإراداتها وهواها من غير اعتصام بالعلم الذي جاء به الكتاب والسنة فضلوا بسبب ذلك ضلالا يشبه ضلال النصارى ولهذا قال بعض الشيوخ وهو أبو عمرو بن نجيد كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل وقال سهل كل عمل بلا اقتداء فهو عيش النفس وكل عمل باقتداء فهو عذاب على النفس وقال أبو عثمان النيسابوري من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول وإن تطيعوه تهتدوا (سورة النور). وقال بعضهم ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه وهو كما قالوا فإنه إذا لم يكن متبعا للأمر الذي جاء به الرسول كان يعمل بإرادة نفسه فيكون متبعا لهواه بغير هدى من الله وهذا عيش النفس وهو من الكبر فإنه شعبة من قول الذين قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله (سورة الأنعام). وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياضته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقهم وفيهم طوائف يظنون أنهم صاروا أفضل من الأنبياء وأن الولي الذي يظنون هم أنه الولي أفضل من الأنبياء وفيهم من يقول إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء ويدعي في نفسه أنه خاتم الأولياء ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون إن هذاالوجود المشهود واجب بنفسه ليس له صانع مباين له لكن هذا يقول هو الله وفرعون أظهر الإنكار بالكلية لكن كان فرعون في الباطن أعرف منهم فإن كان مثبتا للصانع وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق كما يقول ذلك ابن عربي وأمثاله من الإتحادية والمقصود ذكر من عدل عن العبادات التي شرعها الرسول إلى عبادات بإرادته وذوقه ووجده ومحبته وهواه وأنهم صاروا في أنواع من الضلال من جنس ضلال النصارى ففيهم من يدعي إسقاط وساطة الأنبياء والوصول إلى الله بغير طريقهم ويدعي ما هو أفضل من النبوة ومنهم من يدعي الإتحاد والحلول الخاص إما لنفسه وإما لشيخه وإما لطائفته الواصلين إلى حقيقة التوحيد بزعمه وهذا قول النصارى والنصارى موصوفون بالغلو وكذلك هؤلاء مبتدعة العباد الغلو فيهم وفي الرافضة ولهذا يوجد في هذين الصنفين كثير ممن يدعي إما لنفسه وإما لشيخه الإلهية كما يدعيه كثير من الإسماعيلية لائمتهم بني عبيد وكما يدعيه كثير من الغالية إما للاثنى عشر وإما لغيرهم من أهل البيت ومن غير أهل البيت كما تدعيه النصيرية وغيرهم وكذلك في جنس المبتدعة الخارجين عن الكتاب والسنة من أهل التعبد والتأله والتصوف منهم طوائف من الغلاة يدعون الإلهية ودعوى ما هو فرق النبوة وإن كان متفلسفا يجوز وجود نبي بعد محمد كالسهروردي المقتول في الزندقة وابن سبعين وغيرهما صاروايطلبون النبوة بخلاف ما أقر بما جاء به الشرع ورأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره فإنه يقول النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم ويدعي من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما يكون للأنبياء والمرسلين وأن الأنبياء يستفيدون منها ومن هؤلاء من يقول بالحلول والإتحاد وهم في الحلول والإتحاد نوعان نوع يقول بالحلول والإتحاد العام المطلق كابن عربي وأمثاله ويقولون في النبوة إن الولاية أعظم منها كما قال ابن عربيمقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولى وقال ابن عربي في القصوص وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأنبياء وما يراه أحد من الأنبياء إلا من مشكاة خاتم الأنبياء وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة خاتم الأولياء حتى أن الرسل إذا رأوه لا يرونه إذا رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فإن الرسالة والنبوة أعنى رسالة التشريع ونبوته تنقطعان وأما الولاية فلا تنقطع أبدا فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف بمن دونهم من الأولياء وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه فإنه من وجه يكون أنزل ومن وجه يكون أعلى قال ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم البوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا موضع لبنة فكان هو صلى الله عليه وسلم موضع اللبتة وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا فيرى ما مثله النبي صلى الله عليه وسلم ويرى نفسه في الحائط موضع لبنتين ويرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكمل الحائط والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أن الحائط لبنة من ذهبولبنة من فضة واللبنة الفضة هي ظاهرة وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول قال فإن فهمت ما أشرنا إليه فقد حصل لك العلم النافع قلت وقد بسطنا الرد على هؤلاء في مواضع وبينا كشف ما هم عليه من الضلال والخيال والنفاق والزندقة .
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1934)
رقم الفتوى 4445 الفرق بين الولي ومدعي الولاية
تاريخ الفتوى : 03 ربيع الثاني 1422
السؤال
كيف نفرق بين الولي والمدعي؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالمفهوم الشرعي لكلمة (ولي الله) يتجلى واضحاً في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتقون) [يونس: 62، 63] فكل من كان مؤمناً تقيًا فهو من أولياء الله تعالى. وليست الولاية محصورة في أشخاص معينين، ولا يشترط لحصولها وقوع الكرامة. قال القرطبي: قال علماؤنا رحمهم الله: ومن أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات، وخوارق للعادات فليس ذلك دالاً على ولايته، خلافاً لبعض الصوفية والرافضة، حيث قالوا:إن ذلك يدل على أنه ولي، إذ لو لم يكن ولياً ما أظهر الله على يديه ما أظهر، ودليلنا: أن العلم بأن الواحد منا ولي لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمناً، وإذا لم نعلم أنه يموت مؤمناً لم يمكنا أن نقطع على أنه ولي لله تعالى.
وروى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه.." الحديث.
فطريق الولاية في الكتاب والسنة هو المحافظة على الفرائض والحرص على النوافل، والتحقق بمقامات الإيمان، والتزين بلباس التقوى.
وبهذا يعلم أن المجانين والفسقة والعصاة لا يدخلون في ذلك، وغاية المجنون أن يرفع عنه القلم، لا أن يكون ولياً، فضلاً عن أن يكشف عنه الحجاب، فإن الحجاب لا يكشف لأحد في الدنيا، والوحي لا يتنزل إلا على الأنبياء، وإذا كان الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء لم يكن هذا دليلاً على ولايته، فإن الخوارق تقع على يد الكافر والملحد والفاسق كما تقع على يد المؤمن. ولهذا قال الجنيد رحمه الله: علمنا مضبوط بالكتاب والسنة،من لم يحفظ الكتاب ولم يكتب الحديث، فلم يتفقه، فلا يقتدى به.
وقال:"الطرق كلها مسدودة عن الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته، لأن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه، وعلى المقتفين أثره والمتابعين.
وليس للولي أن يدعي الولاية لنفسه أو يشهد لها بذلك، فإن هذا من التزكية المذمومة.
كما أن من المفاهيم الباطلة حول الولاية ما يلي:
1- اعتقاد أن الولي يتصرف في الكون، ويجوز دعاؤه والاستغاثة به في الشدائد، واعتقاد هذا خروج عن الإسلام جملة، وقدح في الربوبية والألوهية.
2- اعتقاد عصمة الولي وأن الله لا يخلق له الخذلان الذي هو قدرة العصيان، كما يقول القشيري عفا الله عنه.
3- اعتقاد أن الولي يعلم الغيب، وأنه يغني عن نفسه وعن الخلق.
4- أو أن الولي يتطور ويظهر في أشكال مختلفة، فتارة تراه أسداً، وتارة تراه شيخاً، وتارة تراه صبياً. وأنه يوجد في أماكن مختلفة في وقت واحد، على ما هو مدون في كثير من الكتب المعنية بذكر أولياء الصوفية.
5- اعتقاد أن الولي يباح له مخالفة الشريعة، وأنه يجب التسليم له وعدم الإنكار عليه ولو ترك الجمع والجماعات، لأنه صاحب حال كما يقول الشعراني وغيره
6- اعتقاد أن الولاية تكون بيد الولي الكبير يعطيها لمن يشاء من أتباعه، وهذا ضلال لا يحتاج إلى إقامة الدليل على بطلانه.
7- اعتقاد أن للولاية خاتماً كما أن للنبوة خاتماً، كما قال بذلك الحكيم الترمذي وقد نفي من ترمذ بسبب كتابه: ختم الولاية، وحكم عليه بالكفر بذلك، وقد جاء بعده من ادعى أنه خاتم الأولياء أو ادعي له ذلك كابن عربي وأحمد التجاني وغيرهما.
8- اعتقاد أن الولي يمكنه سلب العلم والهداية من مخالفيه،وهذا داخل تحت اعتقادهم أنه يتصرف في الكون.
فهذه الاعتقادات الباطلة مما يعلم يقيناً أنها مخالفة للكتاب والسنة ولما عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأنها سبيل أولياء الشيطان لا أولياء الرحمن،
والموفق من وفقه الله تعالى.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ غالطة أَنَّ " خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ " أَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ قِيَاسًا عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنَ الْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِخَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فَإِنَّهُ صَنَّفَ مُصَنَّفًا غَلِطَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ(1)
__________
(1) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 8)فما بعد
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ
فَصْلٌ تَكَلَّمَ طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ فِي " خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ " وَعَظَّمُوا أَمْرَهُ كَالْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ - وَهُوَ مِنْ غَلَطَاتِهِ ؛ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَلَامِهِ الصِّحَّةُ بِخِلَافِ ابْنِ عَرَبِيٍّ فَإِنَّهُ كَثِيرُ التَّخْلِيطِ لَا سِيَّمَا فِي الِاتِّحَادِ - وَابْنُ عَرَبِيٍّ وَغَيْرِهِمْ وَادَّعَى جَمَاعَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ هُوَ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَرُبَّمَا قَيَّدَهُ بِأَنَّهُ خَتْمُ الْوِلَايَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَوْ الْكَامِلَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ أَنْ لَا يُخْلَقَ بَعْدَهُ لِلَّهِ وَلِيٌّ وَرُبَّمَا غَلَوْا فِيهِ كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي فُصُوصِهِ فَجَعَلُوهُ مُمِدًّا فِي الْبَاطِنِ لِخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا لِغُلُوِّهِمْ الْبَاطِلِ حَيْثُ قَدْ يَجْعَلُونَ الْوِلَايَةَ فَوْقَ النُّبُوَّةِ مُوَافَقَةً لِغُلَاةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ قَدْ يَجْعَلُونَ الْفَيْلَسُوفَ الْكَامِلَ فَوْقَ النَّبِيِّ . وَكَذَلِكَ جُهَّالُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْأَحْمَدِيَّةِ واليونسية قَدْ يُفَضِّلُونَ شَيْخَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَرُبَّمَا ادَّعَوْا فِي شَيْخِهِمْ نَوْعًا مِنْ الْإِلَهِيَّةِ . وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّعْدِيَّةِ : يُفَضِّلُونَ الْوَلِيَّ عَلَى النَّبِيِّ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُقَلَّدُ الشَّافِعِيُّ وَلَا يُقَلَّدُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَكَذَلِكَ غَالِيَةُ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ قَدْ يَجْعَلُونَ الْإِمَامَ كَانَ مُمِدًّا لِلنَّبِيِّ فِي الْبَاطِنِ كَمَا قَدْ يَجْعَلُونَهُ إلَهًا . فَأَمَّا الْغُلُوُّ فِي وَلِيِّ غَيْرِ النَّبِيِّ حَتَّى يُفَضِّلَ عَلَى النَّبِيِّ سَوَاءٌ سُمِّيَ وَلِيًّا أَوْ إمَامًا أَوْ فَيْلَسُوفًا وَانْتِظَارُهُمْ لِلْمُنْتَظَرِ الَّذِي هُوَ : مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ . أَوْ إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ نَظِيرُ ارْتِبَاطِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى الْغَوْثِ وَعَلَى خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ فَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ بِمَا عُلِمَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةً : النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ فَغَايَةُ مَنْ بَعْدَ النَّبِيِّ أَنْ يَكُونَ صِدِّيقًا كَمَا كَانَ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا صِدِّيقًا ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ غَايَةُ مَرْيَمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } . وَبِهَذَا اسْتَدْلَلْت عَلَى مَا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ : كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَظُنُّ الباقلاني مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً لِيُقَرِّرُوا كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ بِمَا جَرَى عَلَى يَدَيْهَا فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ نَبِيَّةً فَاسْتَدْلَلْت بِهَذِهِ الْآيَةِ فَفَرِحَ مُخَاطِبِي بِهَذِهِ الْحُجَّةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَيَانِ غَايَةِ فَضْلِهَا " دَفْعًا لِغُلُوِّ النَّصَارَى فِيهَا ؛ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ ادَّعَى فِي رَجُلٍ أَنَّهُ مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ ؛ أَوْ غَنِيٌّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيُقَالُ : مَا هُوَ إلَّا رَئِيسُ قَرْيَةٍ أَوْ صَاحِبُ بُسْتَانٍ فَيَذْكُرُ غَايَةَ مَا لَهُ مِنْ الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ فَلَوْ كَانَ لِلْمَسِيحِ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ الرِّسَالَةِ أَوَّلُهَا مَرْتَبَةُ فَوْقَ الصديقية لَذُكِرَتْ . وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ الْغُلُوِّ فِي النَّصَارَى وَيُشَابِهُهُمْ فِي بَعْضِهِ غَالِيَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالشِّيعَةِ وَمَنْ انْضَمَّ إلَيْهِمْ مِنْ الصَّابِئَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ فَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ . { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ : هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين إلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ } فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِشَرْحِهَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ دُونَهُمْ . وَإِنَّمَا الْكَلَامُ هُنَا فِيمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ فَنَقُولُ : هَذِهِ تَسْمِيَةٌ بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا كَلَامٍ مَأْثُورٍ عَمَّنْ هُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا ؛ لَكِنْ يُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ أَنَّ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فِي الْعَالِمِ فَهُوَ آخِرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ . وَنَقُولُ ثَانِيًا : إنَّ آخِرَ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ خَاتَمَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ الْمُحَقِّقُ أَوْ فَرْضٌ مُقَدَّرٌ . لَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَهُمْ وَإِنَّمَا نَشَأَ هَذَا مِنْ مُجَرَّدِ الْقِيَاسِ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ . لَمَّا رَأَوْا خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ سَيِّدُهُمْ . تَوَهَّمُوا مِنْ ذَلِكَ قِيَاسًا بِمُجَرَّدِ الِاشْتِرَاكِ فِي لَفْظِ خَاتَمٍ . فَقَالُوا : خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُهُمْ . وَهَذَا خَطَأٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ ؛ فَإِنَّ فَضْلَ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ خَاتَمًا . بَلْ لِأَدِلَّةِ أُخْرَى دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ نَقُولُ : بَلْ أَوَّلُ الْأَوْلِيَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَسَابِقُهُمْ هُوَ أَفْضَلُهُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ الْأُمَّةِ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ . وَأَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ سَابِقُهُمْ إلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مُسْتَفِيدٌ مِنْ النَّبِيِّ وَتَابِعٌ لَهُ . فَكُلَّمَا قَرُبَ [ مِنْ النَّبِيِّ كَانَ أَفْضَلَ ] وَكُلَّمَا بَعُدَ عَنْهُ كَانَ بِالْعَكْسِ . بِخِلَافِ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ اسْتِفَادَتَهُ إنَّمَا هِيَ مِنْ اللَّهِ . فَلَيْسَ فِي تَأَخُّرِهِ زَمَانًا مَا يُوجِبُ تَأَخُّرَ مَرْتَبَتِهِ . بَلْ قَدْ يَجْمَعُ اللَّهُ لَهُ مَا فَرَّقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَهَذَا الْأَمْرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ السَّابِقِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ هُمْ خَيْرُهُمْ . هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَيَتَّصِلُ بِهَذَا ظَنُّ طَوَائِفَ أَنَّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ وَيُوجَدُ هَذَا فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَإِلَى الْعِبَادَةِ وَإِلَى الْجِهَادِ وَالْإِمَارَةِ . وَالْمُلْكِ . حَتَّى فِي الْمُتَفَقِّهَةِ مَنْ قَالَ : أَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهُ مِنْ عَلِيٍّ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُقَلَّدُ الشَّافِعِيُّ وَلَا يُقَلَّدُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَيَتَمَسَّكُونَ تَارَةً بِشُبَهِ عَقْلِيَّةٍ أَوْ ذَوْقِيَّةٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مُتَأَخِّرِي كُلِّ فَنٍّ يَحْكُمُونَهُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ . فَإِنَّهُمْ يَسْتَفِيدُونَ عُلُوَّ الْأَوَّلِينَ مَعَ الْعُلُومِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي أَهْلِ الْحِسَابِ والطبائعيين وَالْمُنَجِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْ جِهَةِ الذَّوْقِ وَهُوَ مَا وَجَدُوهُ لِأَوَاخِرِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْمُشَاهَدَاتِ العرفانية وَالْكَرَامَاتِ الْخَارِقَةِ مَا لَمْ يُنْقَلْ مِثْلُهُ عَنْ السَّلَفِ وَتَارَةً يَسْتَدِلُّونَ بِشُبَهِ نَقْلِيَّةٍ مِثْلِ قَوْلِهِ : { لِلْعَامِلِ مِنْهُمْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ } وَقَوْلُهُ ؛ { أُمَّتِي كَالْغَيْثِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ } ؟ وَهَذَا خِلَافُ السُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَ مِمَّا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ : { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } وَقَوْلُهُ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا : مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ . وَخِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَف : كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ : " إنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ : فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ " وَقَوْلِ حُذَيْفَةَ " يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا . وَخُذُوا سَبِيلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمُوهُمْ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا " وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ : " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ " وَقَوْلِ جُنْدُبٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ مَكْتُوبٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ خِلَافُ نُصُوصِ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ } الْآيَةَ . وَقَوْلِهِ : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } الْآيَةَ . وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } الْآيَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْغَرَضُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ : الْكَلَامُ عَلَى خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا ظَنُّ طَائِفَةٍ كَابْنِ هُودٍ وَابْنِ سَبْعِينَ والنفري والتلمساني : أَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَأَخِّرَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْعَالَمَ مُتَنَقِّلٌ مِنْ الِابْتِدَاءِ إلَى الِانْتِهَاءِ كَالصَّبِيِّ الَّذِي يَكْبُرُ بَعْدَ صِغَرِهِ وَالنَّبَاتِ الَّذِي يَنْمُو بَعْدَ ضَعْفِهِ وَيَبْنُونَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَسِيحَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى وَيُبْعِدُونَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَجْعَلُوا بَعْدَ مُحَمَّدٍ وَاحِدًا مِنْ الْبَشَرِ أَكْمَلَ مِنْهُ كَمَا تَقُولُهُ الإسماعيلية وَالْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ فَلَيْسَ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ أَصْلًا . أَنَّ كُلَّ مَنْ تَأَخَّرَ زَمَانُهُ مِنْ نَوْعٍ يَكُونُ أَفْضَلَ ذَلِكَ النَّوْعِ فَلَا هُوَ مُطَّرِدٌ وَلَا مُنْعَكِسٌ . بَلْ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ قَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } أَيْ بَعْدَ النَّبِيِّ . وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خيثم : " لَا أُفَضِّلُ عَلَى نَبِيِّنَا أَحَدًا وَلَا أُفَضِّلُ عَلَى إبْرَاهِيمَ بَعْدَ نَبِيِّنَا أَحَدًا وَبَعْدَهُ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَّبِعِينَ لِمِلَّتِهِ مِثْلِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا " وَكَذَلِكَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ كُلِّهِمْ بَعْدَ مُوسَى وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى : عَلَى أَنَّ مُوسَى أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ مِنْ الْمَسِيحِ . وَالْقُرْآنُ قَدْ شَهِدَ فِي آيَتَيْنِ لِأُولِي الْعَزْمِ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَقَالَ : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ أُولُوا الْعَزْمِ وَهُمْ الَّذِينَ قَدْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الصِّحَاحِ : أَنَّهُمْ يَتَرَادُّونَ الشَّفَاعَةَ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ بَعْدَ آدَمَ فَيَجِبُ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى بَنِيهِمْ وَفِيهِ تَفْضِيلٌ لِمُتَقَدِّمِ عَلَى مُتَأَخِّرٍ وَلِمُتَأَخِّرِ عَلَى مُتَقَدِّمٍ . وَأَصْلُ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْبَابِ : أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْأُمَرَاءِ بِالتَّقَدُّمِ فِي الزَّمَانِ أَوْ التَّأَخُّرِ أَصْلٌ بَاطِلٌ فَتَارَةً يَكُونُ الْفَضْلُ فِي مُتَقَدِّمِ النَّوْعِ وَتَارَةً فِي مُتَأَخِّرِ النَّوْعِ ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ النَّحْوِ وَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ مَا يُفَضَّلُ فِيهِ الْمُتَقَدِّمُ كَبَطْلَيْمُوسَ وَسِيبَوَيْهِ وبقراط وَتَارَةً بِالْعَكْسِ . وَأَمَّا تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ مُتَأَخِّرِي كُلِّ فَنٍّ أَحْذَقُ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَّلُوهُ فَهَذَا مُنْتَقَضٌ أَوَّلًا : لَيْسَ بِمُطَّرِدِ فَإِنَّ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يُصَنَّفْ بَعْدَهُ مِثْلُهُ بَلْ وَكِتَابُ بَطْلَيْمُوس بَلْ نُصُوصُ بقراط لَمْ يُصَنَّفْ بَعْدَهَا أَكْمَلُ مِنْهَا . ثُمَّ نَقُولُ هَذَا قَدْ يُسَلِّمُ فِي الْفُنُونِ الَّتِي تُنَالُ : بِالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ وَالْحِيلَةِ . أَمَّا الْفَضَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ إلَى الْأَنْبِيَاءِ أَقْرَبَ مَعَ كَمَالِ فِطْرَتِهِ : كَانَ تَلَقِّيهِ عَنْهُمْ أَعْظَمَ وَمَا يَحْسُنُ فِيهِ هُوَ مِنْ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ الْخَارِجِ عَنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُعْتَقِدِ أَنَّ لَهُ نَصِيبًا مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَحْوَالِ خَارِجًا عَنْ طَوْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ بِالنُّبُوَّةِ وَقَدْرِهَا أَعْظَمَ : كَانَ رُسُوخُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَدَّ . وَأَمَّا الْأَذْوَاقُ وَالْكَرَامَاتُ فَمِنْهَا مَا هُوَ بَاطِلٌ وَالْحَقُّ مِنْهُ كَانَ لِلسَّلَفِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ بِلَا شَكٍّ وَخَرْقُ الْعَادَةِ : تَارَةً يَكُونُ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَى ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُ لَا تُخْرَقُ لَهُ تِلْكَ الْعَادَةُ فَإِنَّ خَرْقَهَا لَهُ سَبَبٌ وَلَهُ غَايَةٌ فَالْكَامِلُ قَدْ يَرْتَقِي عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِهَا وَمَعَ هَذَا فَمَا لِلْمُتَأَخِّرِينَ كَرَامَةٌ إلَّا وَلِلسَّلَفِ مِنْ نَوْعِهَا مَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { لَهُمْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا وَلَا يَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا } فَهَذَا صَحِيحٌ إذَا عَمِلَ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلَ عَمَلٍ عَمِلَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ ؛ لَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِ بَعْضِ أَكَابِرِ السَّابِقِينَ ؛ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ يُبْعَثُ نَبِيٌّ مِثْلُ مُحَمَّدٍ يَعْمَلُ مَعَهُ مِثْلَمَا عَمِلُوا مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { أُمَّتِي كَالْغَيْثِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ } مَعَ أَنَّ فِيهِ لِينًا فَمَعْنَاهُ : فِي الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يُشْبِهُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَيُقَارِبُهُمْ حَتَّى يَبْقَى لِقُوَّةِ الْمُشَابَهَةِ وَالْمُقَارَنَةِ لَا يَدْرِي الَّذِي يَنْظُرُ إلَيْهِ أَهَذَا خَيْرٌ أَمْ هَذَا ؟ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ خَيْرًا . فَهَذَا فِيهِ بُشْرَى لِلْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُقَارِبُ السَّابِقِينَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { خَيْرُ أُمَّتِي أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا . وَبَيْنَ ذَلِكَ ثَبْجٌ أَوْ عِوَجٌ . وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت إخْوَانِي قَالُوا : أَوَلَسْنَا إخْوَانَك ؟ قَالَ : أَنْتُمْ أَصْحَابِي } هُوَ تَفْضِيلٌ لِلصَّحَابَةِ فَإِنَّ لَهُمْ خُصُوصِيَّةَ الصُّحْبَةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِخْوَةِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَيُّ النَّاسِ أَعْجَبُ إيمَانًا } إلَى قَوْلِهِ : { قَوْمٌ يَأْتُونَ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِالْوَرَقِ الْمُعَلَّقِ } هُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إيمَانَهُمْ عَجَبٌ أَعْجَبُ مِنْ إيمَانِ غَيْرِهِمْ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَفْضَلُ . فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْوَرَقِ الْمُعَلَّقِ . وَنَظِيرُهُ كَوْنُ الْفُقَرَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بَعْدَ الدُّخُولِ يَكُونُونَ أَرْفَعَ مَرْتَبَةً مِنْ جَمِيعِ الْأَغْنِيَاءِ وَإِنَّمَا سَبَقُوا لِسَلَامَتِهِمْ مِنْ الْحِسَابِ . وَهَذَا بَابُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَعْمَالِ وَالصِّفَاتِ أَوْ بَيْنَ أَشْخَاصِ النَّوْعِ بَابٌ عَظِيمٌ يَغْلَطُ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَاَللَّهُ يَهْدِينَا سَوَاءَ الصِّرَاطِ .
فَصْلٌ تَكَلَّمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ " خَتْمِ الْوِلَايَةِ " : بِكَلَامِ مَرْدُودٍ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ حَيْثُ غَلَا فِي ذِكْرِ الْوِلَايَةِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَعِصْمَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُقَدِّمَةٌ لِضَلَالِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْبَابِ بِالْبَاطِلِ وَالْعُدْوَانِ مِنْهَا قَوْلُهُ : فَيُقَالُ لِهَذَا الْمِسْكِينِ : صِفْ لَنَا مَنَازِلَ الْأَوْلِيَاءِ - إذَا اسْتَفْرَغُوا مَجْهُودَ الصِّدْقِ - كَمْ عَدَدُ مَنَازِلِهِمْ ؟ وَأَيْنَ مَنَازِلُ أَهْلِ الْفِرْيَةِ ؟ وَأَيْنَ الَّذِينَ جَازَوْا الْعَسَاكِرَ ؟ . بِأَيِّ شَيْءٍ جَازَوْا ؟ وَإِلَى أَيْنَ مُنْتَهَاهُمْ ؟ وَأَيْنَ مَقَامُ أَهْلِ الْمَجَالِسِ وَالْحَدِيثِ ؟ وَكَمْ عَدَدُهُمْ ؟ وَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَوْجَبُوا هَذَا عَلَى رَبِّهِمْ ؟ وَمَا حَدِيثُهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ؟ وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَفْتَتِحُونَ الْمُنَاجَاةَ ؟ وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُونَهَا ؟ وَمَاذَا يَخَافُونَ ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ صِفَةُ سَيْرِهِمْ ؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَحِقُّ خَاتَمَ الْوِلَايَةِ كَمَا اسْتَحَقَّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ ؟ وَبِأَيِّ صِفَةٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ ؟ وَمَا سَبَبُ ؟ وَكَمْ مَجَالِسُ هَذِهِ الْأَبْدَانِ حَتَّى تُرَدَّ إلَى مَالِكِ الْمُلْكِ ؟ إلَى مَسَائِلَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا مِنْ هَذَا النَّمَطِ . وَمِنْهَا فِيهِ قَالَ لَهُ قَائِلٌ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ يُوَازِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ؟ قَالَ : إنْ كُنْت تَعْنِي فِي الْعَمَلِ فَلَا وَإِنْ كُنْت تَعْنِي فِي الدَّرَجَاتِ فَغَيْرُ مَدْفُوعٍ وَذَلِكَ أَنَّ الدَّرَجَاتِ بِوَسَائِلِ الْقُلُوبِ وَتَسْمِيَةُ مَا فِي الدَّرَجَاتِ بِالْأَعْمَالِ فَمَنْ الَّذِي حَوَّلَ رَحْمَةَ اللَّهِ عَنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِمْ سَابِقٌ وَلَا مُقَرَّبٌ وَلَا مُجْتَبًى وَلَا مُصْطَفًى . أَوَلَيْسَ الْمَهْدِيُّ كَائِنًا فِي آخِرِ الزَّمَانِ ؟ فَهُوَ فِي الْفِتْنَةِ يَقُومُ بِالْعَدْلِ ؛ فَلَا يَعْجِزُ عَنْهَا . أَوَلَيْسَ كَائِنًا فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ لَهُ خَتْمُ الْوِلَايَةِ ؟ وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ يَوْمَ الْمَوْقِفِ ؟ فَكَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ فَأُعْطِيَ خَتْمَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ . فَكَذَلِكَ هَذَا الْوَلِيُّ آخِرُ الْأَوْلِيَاءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ . قَالَ لَهُ قَائِلٌ : فَأَيْنَ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَرَجْت مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ فَأُتِيت بِالْمِيزَانِ فَوُضِعْت فِي كِفَّةٍ وَأُمَّتِي فِي كِفَّةٍ فَرَجَحْت بِالْأُمَّةِ . ثُمَّ وُضِعَ أَبُو بَكْرٍ مَكَانِي فَرَجَحَ بِالْأُمَّةِ . ثُمَّ وُضِعَ عُمَرُ مَكَانَ أَبِي بَكْرٍ فَرَجَحَ بِالْأُمَّةِ } فَقَالَ هَذَا وَزْنُ الْأَعْمَالِ ؛ لَا وَزْنُ مَا فِي الْقُلُوبِ أَيْنَ يَذْهَبُ بِكُمْ يَا عَجَمُ ؟ مَا هَذَا إلَّا مِنْ غَبَاوَةِ أَفْهَامِكُمْ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ : خَرَجْت مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ وَالْجَنَّةُ لِلْأَعْمَالِ ؛ وَالدَّرَجَاتُ لِلْقُلُوبِ ؛ وَالْوَزْنُ لِلْأَعْمَالِ ؛ لَا لِمَا فِي الْقُلُوبِ ؛ إنَّ الْمِيزَانَ لَا يَتَّسِعُ لِمَا فِي الْقُلُوبِ . وَقَالَ فِيهِ : " ثُمَّ لَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَيَّرَ فِيهِمْ أَرْبَعِينَ صِدِّيقًا ؛ بِهِمْ تَقُومُ الْأَرْضُ فَهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَهُمْ آلُهُ ؛ فَكُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ خَلَفَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ . حَتَّى إذَا انْقَرَضَ عَدَدُهُمْ وَأَتَى وَقْتُ زَوَالِ الدُّنْيَا ؛ بَعَثَ اللَّهُ وَلِيًّا اصْطَفَاهُ وَاجْتَبَاهُ وَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ وَأَعْطَاهُ مَا أَعْطَى الْأَوْلِيَاءَ وَخَصَّهُ بِخَاتَمِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ حُجَّةَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ . فَيُوجَدُ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْخَتْمُ صِدْقُ الْوِلَايَةِ عَلَى سَبِيلِ مَا وُجِدَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدْقُ النُّبُوَّةِ ؛ لَمْ يَنَلْهُ الْقَدَرُ وَلَا وَجَدَتْ النَّفْسُ سَبِيلًا إلَى الْأَخْذِ بِحَظِّهَا مِنْ الْوِلَايَةِ فَإِذَا بَرَزَ الْأَوْلِيَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأُقْبِضُوا صِدْقَ الْوِلَايَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ ؛ وَجَدَ أُلُوفًا عِنْدَ هَذَا الَّذِي خَتَمَ الْوِلَايَةَ تَمَامًا ؛ فَكَانَ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَكَانَ شَفِيعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ فَهُوَ سَيِّدُهُمْ . سَادَ الْأَوْلِيَاءَ كَمَا سَادَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْبِيَاءَ فَيُنْصَبُ لَهُ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ وَيُثْنِي عَلَى اللَّهِ ثَنَاءً وَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ يُقِرُّ الْأَوْلِيَاءُ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ فَلَمْ يَزَلْ هَذَا الْوَلِيُّ مَذْكُورًا أَوَّلًا فِي الْبَدْءِ أَوَّلًا فِي الذِّكْرِ وَأَوَّلًا فِي الْعِلْمِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْمُوَازَنَةِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْمِيثَاقِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْحَشْرِ ؛ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْخِطَابِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْوِفَادَةِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الشَّفَاعَةِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْجَوَازِ وَفِي دُخُولِ الدَّارِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الزِّيَارَةِ فَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوَّلُ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْأُذُنِ وَالْأَوْلِيَاءُ عِنْدَ الْقَفَا . فَهَذَا عِنْدَ مَقَامِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي مُلْكِ اللَّهِ وَنَجْوَاهُ . مِثَالٌ فِي الْمَجْلِسِ الْأَعْظَمِ فَهُوَ فِي مِنَصَّتِهِ وَالْأَوْلِيَاءُ مِنْ خَلْفِهِ دَرَجَةً دَرَجَةً وَمَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ مِثَالٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ . وَلَسْت أَعْنِي مِنْ النَّسَبِ إنَّمَا أَهْلُ بَيْتِ الذِّكْرِ .
فَصْلٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ : [ مَسْأَلَةٌ ] وَمُثْبِتُو النُّبُوَّاتِ حَصَلَ لَهُمْ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِثُبُوتِ النُّبُوَّةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ فِي دَلَائِلِ الْعُقُولِ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ : لَا تَحْصُلُ حَتَّى تَنْظُرَ وَتَسْتَدِلَّ بِدَلَائِلِ الْعُقُولِ . وَقَالَ : نَحْنُ لَا نَمْنَعُ صِحَّةَ النَّظَرِ وَلَا نَمْنَعُ حُصُولَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَإِنَّمَا خِلَافُنَا هَلْ تَحْصُلُ بِغَيْرِهِ ؛ وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ النُّبُوَّةَ إذَا ثَبَتَتْ بِقِيَامِ الْمُعْجِزَةِ عَلِمْنَا أَنَّ هُنَاكَ مُرْسَلًا أَرْسَلَهُ ؛ إذْ لَا يَكُونُ هُنَاكَ نَبِيٌّ إلَّا وَهُنَاكَ مُرْسَلٌ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هُنَاكَ مُرْسَلٌ أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي دَلَائِلِ الْعُقُولِ عَلَى إثْبَاتِهِ . وَقَالَ البيهقي فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ مَا ذَكَرَهُ الخطابي أَيْضًا فِي " الغنية عَنْ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ وَقَدْ سَلَكَ بَعْضُ مَنْ بَحَثَ فِي إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ طَرِيقَ الِاسْتِدْلَال بِمُقَدِّمَاتِ النُّبُوَّةِ وَمُعْجِزَاتِ الرِّسَالَةِ ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْحِسِّ لِمَنْ شَاهَدَهَا . وَمِنْ طَرِيقِ اسْتِفَاضَةِ الْخَبَرِ لِمَنْ غَابَ عَنْهَا ؛ فَلَمَّا ثَبَتَتْ النُّبُوَّةُ صَارَتْ أَصْلًا فِي وُجُوبِ قَبُولِ مَا دَعَا إلَيْهِ النَّبِيُّ ؛ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ إيمَانُ أَكْثَرِ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلرَّسُولِ ؛ وَذَكَرَ : قِصَّةَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ مَعَ النَّجَاشِيِّ وَقِصَّةَ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ : مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ وَغَيْرَ ذَلِكَ ؟ قُلْت : كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ : لَا بُدَّ أَنْ تَتَقَدَّمَ الْمَعْرِفَةُ أَوَّلًا بِثُبُوتِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ الَّتِي يَعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ هُوَ وَيُظْهِرُ الْمُعْجِزَةَ وَإِلَّا تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فَضْلًا عَنْ وُجُودِ الرَّبِّ . وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ فَصَحِيحَةٌ إذَا حُرِّرَتْ وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهَا فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ كَانَ مُنْكِرًا لِلرَّبِّ . قَالَ تَعَالَى : { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائِيلَ } { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا } - إلَى قَوْلِهِ - { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } { قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ } { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } { قَالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ } { قَالَ فَأْتِ بِهِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } . فَهُنَا : قَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ مُوسَى الْحُجَّةَ الْبَيِّنَةَ الَّتِي جَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ فِي كَوْنِهِ رَسُولَ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَفِي أَنَّ لَهُ إلَهًا غَيْرَ فِرْعَوْنَ يَتَّخِذُهُ . وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ - الَّتِي هِيَ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ - تَدُلُّ بِنَفْسِهَا عَلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ كَسَائِرِ الْحَوَادِثِ بَلْ هِيَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ الْمُعْتَادَةَ لَيْسَتْ فِي الدَّلَالَةِ كَالْحَوَادِثِ الْغَرِيبَةِ ؛ وَلِهَذَا يُسَبَّحُ الرَّبُّ عِنْدَهَا وَيُمَجَّدُ وَيُعَظَّمُ مَا لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُعْتَادِ وَيَحْصُلُ فِي النُّفُوسِ ذِلَّةٌ [ مِنْ ذِكْرِ ] عَظَمَتِهِ مَا لَا يَحْصُلُ لِلْمُعْتَادِ إذْ هِيَ آيَاتٌ جَدِيدَةٌ فَتُعْطَى حَقَّهَا وَتَدُلُّ بِظُهُورِهَا عَلَى الرَّسُولِ وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا تَدْعُو إلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ . فَتَتَقَرَّرُ بِهَا الرُّبُوبِيَّةُ وَالرِّسَالَةُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ دَلَالَةُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ ضَرُورِيَّةٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ : كَالْجَاحِظِ وَطَوَائِفَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالسِّحْرِ وَالْكَرَامَةِ بِالضَّرُورَةِ . وَمَنْ يَقُولُ : إنَّ شَهَادَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُ : لِأَنَّ عَدَمَ دَلَالَتِهَا عَلَى الصِّدْقِ مُسْتَلْزِمٌ عَجْزَ الْبَارِئِ إذْ لَا طَرِيقَ سِوَاهَا . وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ : فَلِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ قَبِيحٌ لَا يَجُوزُ مِنْ الْبَارِّي فِعْلُهُ . وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ : لَيْسَ كَأُمُورِ كَثِيرَةٍ جِدًّا وَقَدْ بَيَّنْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْعِلْمَ مَوْجُودٌ ضَرُورِيٌّ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ .

، ثُمَّ صَارَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَزْعُمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ (1)
__________
(1) -

المفاضلة بين الأنبياء والأولياء
ولا نفضل أحد من الأولياء على أحد من الأنبياء -عليهم السلام- ونقول نبي واحد أفضل من جميع الأولياء .
نعم، لا نفضل أحدا من الأولياء على نبي واحد بل نقول: نبي واحد خير من الأولياء.
وهذه المسألة تسمى المفاضلة بين الأنبياء والأولياء، الأنبياء أفضل الناس والرسل أفضلهم، فالرسل أفضل الناس، وأفضل الرسل أولوا العزم الخمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وأفضلهم أولو العزم الخمسة الخليلان: إبراهيم ومحمد -عليهما السلام- وأفضل الخليلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم يليه جده إبراهيم ثم موسى الكليم، ثم بقية أولوا العزم، ثم الرسل، ثم الأنبياء، ثم سائر المؤمنين.. ثم الصديقون ثم الشهداء ثم سائر المؤمنين. هذا هو الذي تدل عليه النصوص.
وذهب بعض الصوفية إلى تفضيل الأولياء على الأنبياء ويقولون: الولي أفضل من النبي، والنبي أفضل من الرسول، هكذا عكسوا الدرجات عندهم أن الولي أفضل ثم النبي ثم الرسول آخر درجة عكسوا، وبعضهم يظن أنه يصل إلى درجة الولاية بترويض نفسه وتجويعه واعتزاله عن الناس وتغيره الطعام والشراب والنوم، وأنه يصل إلى درجة الولاية ويكون أفضل من الأنبياء.
فكثير من الصوفية يظن أنه يصل برياضته واجتهاده في العباده بتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم، ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء؛ لأنه صار وليا ودرجة الولاية فوق درجة النبوة، وهذا مذهب الاتحادية أهل وحدة الوجود، ورئيسهم ابن عربي الطائي يقولون: الأولياء أفضل من االأنبياء.
ويقولون: إن الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، ويدعي لنفسه أنه خاتم الأولياء فيقول: ابن عربي رئيس وحدة الوجود النبوة ختمت بمحمد لكن الولاية لم تختم فهو خاتم الأولياء، يقول ابن عربي: إنه خاتم الأولياء ومحمد خاتم الأنبياء، لكن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، يفضل نفسه على الرسول.
ابن عربي يقول: النبوة ختمت بمحمد ولكن الولاية لم تختم فهو خاتم الأولياء ويقول: الأولياء أفضل من الأنبياء؛ لأن الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء يعني هو ابن عربي سمى نفسه خاتم الأولياء، ويقول: الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاته، مشكاة خاتم الأولياء، فيدعون أنهم يطلعون على اللوح المحفوظ وأنهم يباشرون الأخذ عن الله.
ويكون ذلك العلم الذي يأخذه هو حقيقة قول فرعون، وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه، هذا العالم واجب بنفسه، ليس له صانع، وليس له خالق، ولكن ابن عربي يقول: هذا الوجود هو الله وفرعون أظهر إنكاره بالكلية تمويها على الناس لكن فرعون في الباطن أعرف بالله من طائفة وحدة الوجود، وبيان ذلك أن فرعون كان مثبتا للصانع في الباطن يعني مثبتا لله قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا وأما أهل وحدة الوجود فمذهبهم أن الوجود المخلوق هو الوجود الحق، وهذا مذهب ابن عربي وأمثاله كابن سبعين والطولوي والتلمساني.
وابن عربي لما رأى أن الشرع الظاهر، وهو ما جاءت به الرسل لا سبيل إلى تغييره قال: النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم، وادعى لنفسه من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما يكون للأنبياء والمرسلين، وأن الأنبياء مستفيدون من الولاية، فالولاية أعلى درجة من النبوة، والنبوة أعلى درجة من الرسالة عند ابن عربي كما قال: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي، إذن الولي أعلى ثم النبي ثم الرسول، عكس مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي.
وابن عربي هذا له مؤلفات وله كتب منها كتاب سماه "فصوص الحكم" ومنها كتاب سماه "الفتوحات الملكية" ومنها كتاب سماه كتاب "الهو الهو الهو" يقول هذا الذكر ما في إلا الهو هو ما في الله.
ولكن الذكر تأخذ الهاء هو هو. هو هو، وهو ذكر الملاحدة الصوفية، وهو كالكلاب يقول: ذكر العامة لا إله إلا الله هذا يسمونهم العامة والرسل عامة، ثم الخاصة تأخذ لفظ الجلالة الله الله الله الله خاصة الخاصة لا يحتاج أن تأخذ لفظ الجلالة تأخذ الهاء من لفظ الجلالة هو هو هو هو هو هو هذا ذكر الله، نسأل الله السلام والعافية.
ولهذا سمى ابن عربي ألف كتابا سماه كتاب "الهو" ويقول إن عندي دليلا من القرآن وهو قول الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ قال شيخ الإسلام ابن تيمية قلت: لهم لو كان كما تقولون أيها الملاحدة لكانت الهاء مفصولة عن الآية: وما يعلم تأويل هو، لكن الهاء متصلة في تأويله، وهم لا يؤمنون بالقرآن لكن يريد إثبات قوله.
يقول ابن عربي في كتاب "فصوص الحكم" لما مثَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- النبوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا موضع لبنة، فكان هو -صلى الله عليه وسلم- تلك اللبنة يعني يشير إلى الحديث الذي سبق مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فأنا اللبنة فكان الناس يطوفون به ويعجبون ويقولون: لولا تلك اللبنة فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين .
ابن عربي يعارض الحديث يقول: أيش في كتابه: "ولما مثل النبي -صلى الله عليه وسلم- النبوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا موضع لبنة فكان -صلى الله عليه وسلم- تلك اللبنة، وأما خاتم الأولياء -يعني نفسه- فلا بد له من هذه الرؤية فيرى ما مثله النبي -صلى الله عليه وسلم- ويرى الحائط في موضع لبنتين واحدة فضة وواحدة ذهب يعني؛ لأن الحائط مكون من لبنتين: لبنة ذهب ولبنة فضة، فلبنة الذهب هذه تعني خاتم الأولياء، ولبنة الفضة تعني خاتم الأنبياء.
فجعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- لبنة فضة؛ لأنه خاتم الأنبياء وجعل نفسه لبنة الذهب؛ لأنه خاتم الأولياء، فيرى ما مثله النبي -صلى الله عليه وسلم- ويرى الحائط موضع لبنتين واحدة من فضة وواحدة من ذهب، ويرى نفسه تنطبع في موضع اللبنتين فتكمل الحائط.
والسبب الموجب لكونه يراها لبنتين أن الحائط لبنة من فضة ولبنة من ذهب، واللبنة الفضة هي ظاهر البيت أو الحائط وما يتبعه ابن عربي فيه من الأحكام فهي تمثل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي جاء بالأحكام الظاهرة.
كما أن ابن عربي أخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع للرسول يعني يقول: إن ابن عربي يرى أن الحائط مكون من لبنتين لبنة ذهب ولبنة فضة، فلبنة الفضة هذه ظاهر الجدار ولبنة الذهب هذه باطن الجدار، والسبب يقول: لكونه يرى ذلك أن لبنة الفضة هذه تمثل محمدا وما جاء به من الأحكام الظاهرة، ولبنة الذهب تمثل ابن عربي وما جاء به من أحكام الباطنة، فيقول: ابن عربي خاتم الأولياء تابع لخاتم الأنبياء في الظاهر، وخاتم الأنبياء تابع لخاتم الأولياء في الباطن.
هكذا يقول فهي تمثل الرسول الذي جاء بالأحكام الظاهرة، كما أن ابن عربي أخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه للرسول، ابن عربي أخذ عن الله في السر لكن في الظاهر هو متبع للرسول، وفي السر أخذ عن الله مباشرة، ولا يحتاج إلى أحد؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا، وهو ابن عربي خاتم الأولياء موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به للرسول، فهو لا يحتاج إلى جبريل ولا غيره، فهو يأخذ من اللوح المحفوظ وعن الله مباشرة فلا يحتاج إلى جبريل.
أما خاتم الأنبياء هذا يحتاج واسطة، وهو الملك قال في كتابه: فإن فهمت ما أشرنا إليه فقد حصل لك العلم النافع.
مسألة: أصل ابن عربي: هو أن الوجود واحد، وأن الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن، فوجود كل شيء عين وجود الحق عنده، وجود كل شيء من هذه المخلوقات هو وجود الله عنده، أيهما أشد كفرا؟ الاتحادية والحلولية، الحلولية وهم الذين يزعمون أن الله بذاته في كل مكان، وهو قول كثير من الجهمية قولهم أقل كفرا من قول الاتحادية أخف.
وجه ذلك لأن من قال: إن الله يحل في المخلوقات فقد قال: بأن المحل غير الحال، وهذا تثنية عند الاتحادية وإثبات لوجودين: أحدهما وجود الحق الحال، والثاني وجود المخلوق المحل، والاتحادية لا يقرون بإثبات وجودين ألبتة؛ ولهذا من سماهم حلولية أو قال: هم قائلون بالحلول رآه محجوبا عن معرفة قولهم خارج عن الدخول إلى باطن أمرهم ومن الأقوال المتفرعة عن مذهب ابن عربي هذا الشعر يقول:
الرب عبد والعبد رب …يا ليت شعري من المكلف
إن قت عبد فذاك ميت … أو قلت رب أنى يكلف
وفي بعض الروايات فذاك نفي؛ لأن العبد ليس له عندهم وجود مخلوق وكلاهما باطل، فإن العبد موجود وثابت ليس بمعدوم ومنتف، ولكن الله هو الذي جعله موجودا ثابتا.
ومن كلام ابن عربي يقول: من أسماء الله الحسنى العلي، ثم يُعَرِّف العلي على ماذا؟ وما ثم إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو، العلي ما في إلا هو، من أسماء الله الحسنى العلي، العلي على من؟ ما في إلا غيره على من؟ وما ثم إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو
ومن كلماته يقول: رب مالك وعبد هالك وأنتم ذلك، والعبد فقط والكثرة الوهم ويقول سر حيث شئت فإن الله ثَمَّ، وقل ما شئت فيه فالواسع الله، هؤلاء الملاحدة الزنادقة يعني يقولون هذا الكلام ومن تلبيسهم أنهم يقولون: إنك لا تفهم هذا الكلام حتى تخرق الحجاب أنت بينك وبين فهم هذا الكلام حجاب، ما هو الحجاب؟
اخرق حجاب العقل، حجاب العقل، وحجاب الشرع يعني ألغ الشرع وألغ العقل حتى تكون مجنونا، ثم تفهم كلامهم يعني حجاب الشرع وحجاب العقل وحجاب الحس أيضا، كل هذا تلغيه حتى تفهم هذا الكلام، هذا الكلام موجود وله مؤلفات وفيه ناس يدافعون عنه، مؤلفات تطبع بأوراق صقيلة وتحقق وموجودة في كل مكان في مصر، وفي الدول العربية وموجودة في المكتبات توضع عندنا في مكان خاص لأصحاب الرسائل العلمية الذين يريدون الرد أن يرد عليهم موجودة.
وهناك من يدافع ولهم أتباع وأنصار وطوائف، لكل شيخ طريقة في كل بلد مائة طريقة، ولكل طريقة شيخ هذه موجودة مؤلفات ومن يعتنق هذه المذاهب كلها موجودة.
الرد على الاتحادية والصوفية:
أولا: أن اعتقادهم في الولاية أعظم من النبوة في هذا قلب للشريعة، اعتقادهم في الولاية أنها أعظم من النبوة في هذا قلب للشريعة؛ فإن الولاية ثابتة للمؤمنين المتقين كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ .
والنبوة أخص من الولاية عند أهل الحق والرسالة أخص من النبوة، فالرسالة أعلى شيء ثم النبوة ثم الولاية ويرد على الاتحادية أن الله بائن من خلقه مستو على عرشه، وأنه ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.
ويرد عليهم بادعائهم بأن لهم من الولاية ما هو أفضل من درجة الرسالة بأن هذه الدعوة خرق لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن لم يكن متبعا للأمر الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يعمل بإرادة نفسه، فيكون متبعا لهواه بغير هدى من الله، وهذا غش النفس، وهو من الكبر فإنه شبيه بقول الذين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ فقال الله ردا على مقالتهم وقطعا لأطماعهم في أن ينالوا مثل ما نال الرسل: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ووجه الشبه أن كلا من الطائفتين تعالت على الرسل وادعت أنها أحق منهم.
حكم ابن عربي وشيعته من أهل وحدة الوجود في الدنيا والآخرة ما حكمهم؟ حكم الاتحادية ابن عربي وأمثاله ما حكمهم في الدنيا؟ وما حكمهم في الآخرة؟ حكم ابن عربي كافر، ومن أكثر ممن ضرب لنفسه المثل بلبنة ذهب وللرسول المثل بلبنة فضة فيجعل نفسه أعلى وأفضل من الرسول.
وكيف يخفى كفر من هذا كفره كيف يخفى كفر من هذا كلامه، بل إن كفر ابن عربي وأمثاله فوق كفر الذين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ .
ويكفيك معرفة بكفرهم أن من أخف أقوالهم أن فرعون الذي ادعى الربوبية يقولون: إن فرعون مات مؤمنا بريا من الذنوب بل يجعلونه من كبار العارفين المحققين، وأنه كان مصيبا في دعواه الربوبية كما يجعلون عُبَّاد العجل مصيبين في عبادتهم للعجل بل إن السلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا: إنه في كل مكان.
وكان مما أنكروه عليهم أنه كيف يكون الله تعالى، كيف يكون في البطون والحشوش والأخبية؟ تعالى الله عن ذلك فكيف بمن يجعله نفس وجود البطون والحشوش والأخبية والنجاسات والأقذار، كما يقول ابن عربي نعوذ بالله.
وأين المشبِّهة والمجسِّمة من هؤلاء فإن هؤلاء غاية كفرهم أن يجعلوه مثل المخلوقات، وهؤلاء يجعلون الوجود خالقا ومخلوقا واحدا، بل كفر كل كافر جزء من كفر الاتحادية؛ ولهذا لما قيل لرئيسهم: أنت نُصَيْرِيّ؟ فقال: نُصَيْرٌ جزء مني وقد علم المسلمون واليهود والنصارى بالاضطرار من دين المرسلين أن من قال عن أحد من البشر: إنه جزء من الله، فإنه كافر في جميع الملل.
حكم الاتحادية في الدنيا والآخرة ولكن ابن عربي وأمثاله منافقون زنادقة والاتحادية في الدرك الأسفل من النار إذا ماتوا على ذلك، ما يفعل بالاتحادية في الدنيا مع الدليل؟ يعامل الاتحادية معاملة المنافقين والمنافقون يعاملون معاملة المسلمين لإظهارهم الإسلام في الدنيا كما كان يظهر المنافقون الإسلام في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يعاملهم معاملة المسلمين لما يظهر منهم؛ لأن الاتحادية يخفون كفرهم لهم مؤلفات يظهرون أنهم قد يصلون مع الناس؛ ولو أظهر أحد منهم ما يبطنه من الكفر لأجرى عليه حكم المرتد، وهو القتل وعدم تغسيله ودفنه مع المسلمين.
حكم قبول توبة الاتحادي والزنديق، الاتحادي زنديق فهل تقبل توبته؟ في قبول توبة الزنديق والاتحادي زنديق منافق خلاف، ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة، إذا أخذ قبض عليه لا بد أن يجرى عليه حكم المرتد ولا يقبل منه.
وأما إذا أخذ بعد التوبة ففيها خلاف، بعضهم قال: تقبل توبته وهي رواية المعلى عن أبي حنيفة، وهذا في أعمال الدنيا وحكمه حكم المرتد يقتل كفرا ولا يدفن في مقابر المسلمين.
من العلماء من قال تقبل، ومن العلماء من قال: لا تقبل توبة المنافق وتوبة من سب الله وسب الرسول أو استهزء بالله أو بالرسول أو بدينه والساحر، كل هؤلاء يقتلون ولا تقبل توبتهم في الدنيا، أما في الآخرة فأمرهم إلى الله من صدق مع الله صدقه الله، وأما في الآخرة فإن كان مخلصا قبلت توبته، وإن لم يعلم منه إخلاصه لم تقبل توبته.
أما في الدنيا فإنه يعامل معاملة المرتد إذا أخذ قبل التوبة، أما إذا ادعى التوبة ثم سلم نفسه ففيه الخلاف هذا على حسب اجتهاد الحاكم، إما أن يقبل توبته وإما ألا يقبلها.
مذهب أهل الاستقامة وأدلتهم: أهل الاستقامة يوصون بمتابعة العلم ومتابعة الشرع عن طريق الوحي لا الوهم ويعتقدون أن النبوة أخص من الولاية والرسالة أخص من النبوة فكل رسول نبي وكل نبي ولي، ولا عكس فليس كل نبي رسولا وليس كل ولي نبيا، أدلتهم على أن الله أوجب على الخلق متابعة الرسل أولا قول الله -تعالى -: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .
وجه الدلالة: أن الله أوجب طاعة الرسول وأمر بطلب الاستغفار منه وأخبر أن من لم يُحَكِّم الرسول في النزاع فليس بمؤمن.
ثانيا: قول الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وجه الاستدلال أن الله أخبر أن محبة الله لا تحصل إلا بمتابعة الرسول.
قف على كراماتهم وإلى هنا نكتفي وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح ونأخذ المهم من الأسئلة، وغدا إن شاء الله يكون الدرس بعد المغرب وبعد العشاء، وإن شاء الله نكمل العقيدة الطحاوية، وفق الله الجميع لطاعته.
س: أحسن الله إليكم هل يوصف الله بالتردد كما في الحديث القدسي وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن… الحديث؟
ج: نعم كما وصفه الرسول -عليه الصلاة والسلام- لكن هذا التردد ليس كتردد المخلوق الذي يدل على الضعف، ولكنه تعارض الإرادتين كما بين في الحديث، فالله تعالى يريد ما يريده عبده المؤمن، والمؤمن يكره الموت، فالله يريد ما يريده عبده المؤمن، ولكن الله قضى وقدر أنه يموت، فهذا تعارض إرادتين إرادة الموت؛ لأن الله قدره، وإرادة ما يريده العبد وهو كراهة الموت ولا ينافي هذا التردد ترجيح إحدى الإرادتين؛ لأن الموت لا بد منه نعم.
شرح العقيدة الطحاوية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11