كتاب : تفسير ابن عبد السلام
المؤلف : عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
{ بِخَلاقِهِمْ } بنصيبهم من خيرات الدنيا . { وَخُضْتُمْ } في شهوات الدنيا ، أو في قول الكفر . { كَالَّذِى خَاضُوَاْ } فارس والروم ، أو بنو إسرائيل .
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{ وَمَسَاكِنَ طَيِّبةً } قصور مبنية باللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، أو يطيب العيش بسكناها وهو محتمل . { عَدْنٍ } خلود وإقامة ، والمعدن لإقامة الجوهر فيه ، أو كروم وأعناب بالسريانية ، أو عدن اسم لبطنان الجنة ووسطها ، أو اسم قصر في الجنة ، أو جنة في السماء العليا لا يدخلها إلا نبي ، أو صدِّيق ، أو شهيد ، أو إمام عدل ، أو محكَّم في نفسه . وجنة المأوى في السماء الدنيا تأوي إليها أرواح المؤمنين .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
{ جَاهِدِ الْكُفَّارَ } بالسيف { وَالْمُنَافِقِينَ } بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فإن لم يستطع فليكفهر في وجوههم ، أو يجاهدهم باللسان ، أو بإقامة الحدود وكانوا أكثر من يصيب الحدود .
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
{ يَحْلِفُونَ } نزلت في ابن أُبَي لما قال : { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة } [ المنافقون : 8 ] ، أو قال الجلاس بن سويد إن كان ما جاء به محمد حقاً فنحن شر من الحمير ثم حلف بالله ما قال ، أو قال ذلك جماعة من اليهود . { كَلِمَةَ الْكُفْرِ } هو ما حلفوا أنهم ما قالوه فأكذبهم الله ، أو قولهم محمد ليس بنبي . { وَهَمُّواْ } بقتل الرسول في غزاة تبوك ، أو بأخراج الرسول بقولهم { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة } [ المنافقون : 8 ] أو هَمُّوا بقتل الذي أنكر عليهم .
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ } نزلت والتي بعدها في حاطب بن أبي بلتعة كان له مال بالشام فنذر أن يتصدق منه فلما قدم عليه بخل ، قاله الكلبي ، أو قتل مولى لعمر حميما لثعلبة فوعد إن أوصل الله إليه الدية أن يخرج حق الله تعالى منها فلما وصلت بخل بحق الله تعالى فنزلت ، فلما بلغته أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بصدقته فلم يقبلها منه ، وقال إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك فجعل يحثو التراب على رأسه ، فمات الرسول صلى الله عليه وسلم فأتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه ثم عمر رضي الله تعالى عنه بعده ، ثم عثمان رضي الله تعالى عنه فلم يقبلوها .
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ } لما حث الرسول صلى الله عليه وسلم على النفقة في غزوة تبوك ، جاء عبدالرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم ، وقال هذه شطر مالي ، وجاء عاصم بن عادي بمائة وسق من تمر ، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر وقال أجرت نفسي بصاعين فذهبت بأحدهما إلى عيالي وجئت بالآخر ، فقال الحاضرون من المنافقين أما عبد الرحمن وعاصم فما أعطيا إلا رياء ، وأما صاع أبي عقيل فإن الله تعالى غني عنه . فنزلت . الجُهد والجَهد واحد ، أو بالضم الطاقة وبالفتح المشقة .
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } آيسه من الغفران لهم . { سَبْعِينَ مَرَّةً } ليس بحد لوجود المغفرة بما بعدها ، والعرب تبالغ بالسبع والسبعين ، لأن التعديل في نصف العقد وهو خمسة فإذا زيد عليه واحد كان لأدنى المبالغة وإن زيد اثنان كان لأقصى المبالغة ، وقيل للأسد سبع لأن قوته تضاعفت سبع مرات ، قاله علي بن عيسى . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم سوف أستغفر لهم أكثر من سبعين فنزلت { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الآية [ المنافقون : 6 ] فكف .
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
{ الْمُخَلَّفُونَ } المتركون كانوا أربعة وثمانين نفساً . { خِلافَ } بعد ، أو مخالفة عند الأكثر . { لا تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ } قاله بعضهم لبعض ، أو قالوه للمؤمنين ليقعدوا معهم .
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{ فَلْيَضْحَكُواْ } تهديد { قَلِيلاً } ، لأن ضحك الدنيا فَانٍ ، أو لأنه قليل بالنسبة إلى ما فيها من الأحزان والغموم . { كَثِيراً } في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، أو في النار أبداً يبكون من ألم العذاب .
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
{ أَوَّلَ مَرَّةٍ } دعيتم ، أو قبل استئذانكم . { الْخَالِفِينَ } النساء والصبيان ، أو الرجال المعذورين بأمراض أو غيرها « ع » .
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
{ وَلا تُصَلِّ } نزلت في ابن أُبي لما صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو أراد الصلاة عليه فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه ، وقال : ولا تُصلِّ على أحد ولا تقم على قبره قيام زائر ، أو مستغفر .
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
{ أَنْ ءَامِنُواْ } دوموا على الإيمان ، أو افعلوا فعل المؤمن ، أو أمر المنافقين أن يؤمنوا باطناً كما آمنوا ظاهراً . { الطَّوْلِ } الغنى ، أو القدرة ، قيل نزلت في ابن أُبي والجد بن قيس .
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
{ الْخَوَالِفِ } النساء ، أو المنافقين ، أو الأدنياء الأخسَّاء ، فلان خَالِفة أهله إذا كان دونهم .
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
{ الْخَيْرَاتُ } جمع خيرة ، غنائم الدنيا ومنافع الجهاد ، أو ثواب الآخرة ، أو فواضل العطايا ، أو الحور { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرحمن : 70 ] .
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
{ الْمُعَذِّرُونَ } مخفف الذين اعتذروا بحق ، وبالتشديد الذين كذبوا في اعتذارهم فالعذر حق ، والتعذير كذب ، قيل هم بنو أسد وغطفان .
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
{ الضُّعَفَآءِ } الصغار لضعف أبدانهم ، أو المجانين لضعف عقولهم أو العميان ، أو المجانين لضعف تصرفهم { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } [ هود : 91 ] ضريراً . { نَصَحُواْ } برئوا من النفاق ، أو إذا قاموا بحفظ المخلفين والمنازل ، فيرجع إلى من لا يجد النفقة خاصة ، قيل نزلت في عائذ بن عمرو وعبد الله بن مغفل .
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
{ لآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } زاداً لأنهم طلبوه ، أو نعالاً لأنهم طلبوها ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة : « أكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكباً ما كان منتعلاً » ، نزلت في العِرْباض بن سارية ، أو عبد الله بن الأزرق ، أو في بني مقرن من مزينة ، أو في سبعة من قبائل شتى ، أو في أبي موسى وأصحابه .
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
{ السِّبِيلُ } الإنكار ، أو المأثم . { الْخَوَالِفِ } المتخلفون بالنفاق ، أو الذراري من النساء والأطفال .
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
{ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } كفرهم أكثر وأشد لجفاء طباعهم وغلظ قلوبهم ، أو الكفر فيهم أكثر لعدم وقوفهم على الكتاب والسنة . { وَأَجْدَرُ } أقرب مأخوذ من الجدار بين المتجاورين . { حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ } من فروض العبادات ، أو من الوعيد على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والتخلف عن الجهاد .
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
{ مَا يُنفِقُ } في الجهاد ، أو الصدقات . { مَغْرَمًا } المغرم : التزام ما لا يلزم { عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 65 ] لازماً . { الدَّوَآئِرَ } انقلاب النعمة إلى غيرها من الدور .
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
{ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } استغفاره لهم « ع » ، أو دعاؤه .
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
{ وَالسَّابِقُونَ } أهل بيعة الرضوان ، أو أهل بدر ، أو الذين صلوا إلى القبلتين ، أو الذين سبقوا بالموت والشهادة من المهاجرين والأنصار سبقوا إلى الثواب وحسن الجزاء { رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ } بالإيمان { وَرَضُواْ عَنْهُ } بالثواب ، أو رضي عنهم بالعبادة ورضوا عنه بالجزاء ، أو رضي عنهم بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ورضوا عنه بالقبول .
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
{ حَوْلَكُمُ } حول المدينة ، مزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع كان فيهم بعد إسلامهم منافقون كما في الأنصار ، وإنما نافقوا لدخول جميعهم تحت القدرة فميزوا بالنفاق وإن عمتهم الطاعة . { مَرَدُواْ } أقاموا وأصروا ، أو مَرنوا عليه وعتو فيه { شَيْطَانًا مَّرِيدًا } [ النساء : 117 ] عاتياً ، أو تجردوا فيه وتظاهروا به { لا تَعْلَمُهُمْ } حتى نعلمك بهم ، أو لا تعلم عاقبتهم فلا تحكم على أحد بجنة ولا نار . { مَّرَّتَيْنِ } إحداهما بالفضيحة في الدنيا والجزع من المسلمين ، والثانية بعذاب القبر « ع » ، أو إحداهما بالأسر والأخرى بالقتل ، أو إحداهما بالزكاة والآخرى أمرهم بالجهاد ، لأنهم يرونه عذاباً لنفاقهم ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه أو إحداهما عذاب الدنيا والأخرى عذاب الآخرة . { عَذَابٍ عَظِيمٍ } بأخذ الزكاة ، أو بإقامة الحدود في الدنيا ، أو بالنار في الآخرة .
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
{ وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ } نزلت في أبي لبابة في قضيته مع بني قريظة . أو في سبعة أنصار من العشرة المتخلفين في غزوة تبوك ، أبو لبابة بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن حرام ، فلما ندموا على تخلفهم وربطوا أنفسهم إلى سواري المسجد ليطلقهم الرسول صلى الله عليه وسلم إن عفا عنهم ، فلما مر بهم وكانوا على طريقه فسأل عنهم فأُخبر بحالهم فقال : « لا أعذرهم ولا أطلقهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يعذرهم ويطلقهم » فنزلت « ع » . { عَملاً صَالِحاً وَءَاخَرَ سَيِئاً } الصالح : الجهاد ، والسيىء التخلف عنه ، أو السيىء الذنب والصالح التوبة ، أو ذنباً وسوطاً لا ذاهباً فروطاً ولا ساقطاً سقوطاً . قاله الحسن رضي الله تعالى عنه .
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
{ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ } لما تاب الله تعالى على أبي لبابة وأصحابه قالوا : يا رسول الله خذ منا صدقة تطهرنا وتزكينا ، فقال : « لا أفعل حتى أُؤمر » فنزلت ، صدقة بذلوها تطوعاً ، أو الزكاة الواجبة { تُطَهِّرُهُمْ } من ذنوبهم ، وتزكي أعمالهم { وَصَلِّ } استغفر ، أو ادعُ قاله « ع » . { سَكَنٌ } قربة « ع » ، أو وقار ، أو أمن ، أو تثبيت ، والدعاء واجب على الآخذ أو مستحب ، أو يجب في التطوع ومستحب في الفرض ، أو يستحب للوالي ويجب على الفقير ، أو بالعكس ، أو إن سأل الدافع الدعاء وجب وإن لم يسأل استحب ، قال عبد الله بن أبي أوفى لما أتيت الرسول صلى الله عليه وسلم بصدقات قومي قلت يا رسول الله صَلِّ عليَّ فقال : « اللهم صلِ على آل أبي أوفى » .
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
{ وَءَاخَرُونَ } هم الثلاثه الباقون من العشرة المتخلفين في غزوة تبوك لم يربطوا أنفسهم وهم كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، { مُرْجَوْنَ } لما يرد من أمر الله فيهم . { يُعَذِّبُهُمْ } يميتهم على حالهم ، أو يأمر بعذابهم إن لم يعلم صحة توبتهم { عَلِيمٌ } بما يؤول إليه حالهم { حَكِيمٌ } في إرجائهم .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
{ وَالِّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً } هم بنو عمرو بن عوف ، اثنا عشر رجلاً من الأنصار بنوا مسجد الضرار . { وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } لئلا يجتمعوا في مسجد قباء . { وَإِرْصَادًا } انتظاراً لسوء يتوقع ، أو لحفظ مكروه يفعل . { لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } بمخالفتهما ، أو عداوتهما ، وهو أبو عامر الراهب والد حنظلة بن الراهب ، وكان قد حزَّب على الرسول صلى الله عليه وسلم فبنوه له ليصلي فيه إذا رجع من عند هرقل اعتقاداً منهم أنه إذا صلى فيه نُصروا ، ابتدءوا بنيانه والرسول صلى الله عليه وسلم خارج إلى تبوك فسألوه أن يصلي فيه فقال : « أنا على سفر ولو قدمنا إن شاء الله تعالى أتيانكم وصلينا لكم فيه » ، فلما رجع أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد وقالوا : قد فرغنا منه ، فأتاه خبره وأنزل الله تعالى فيه ما أنزل . { لا تَقُمْ فِيهِ } لا تُصَلِّ فيه فعند ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهدمه فحُرق ، أو انهار في يوم الأثنين ولم يُحرق .
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
{ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو مسجد قباء ، وهو أول مسجد بني في الإسلام « ع » ، أو كل مسجد بني في المدينة أسس على التقوى . { يَتَطَهَّرُواْ } بالتوبة من الذنوب . { واللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } بالتوبة ، أو أراد الاستنجاء بالماء ، أو المتطهرين من أدبار النساء .
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } مسجد قباء ، أو قوله : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } مسجد المدينة ، وقوله { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } مسجد قباء . { جُرُفٍ } حرف الوادي الذي لا يثبت عليه البناء لرخاوته . { هَارٍ } هائر ، وهو الساقط . { فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } سقطوا ببنيانهم في جهنم ، أو سقط المسجد بنفسه مع بقعته في جهنم ، قال جابر بن عبد الله : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حتى انهار ، وقيل حفرت فيه بقعة فرئي فيها الدخان .
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
{ رِيبَةً } حين بنوه شك ، او غطاء ، أو بعد هدمه حزازة ، أو ندامة . { تَقَطَّعَ } يموتوا « ع » ، أو يتوبوا ، أو تقطع في القبور .
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
{ اشْتَرَى } لما جُوزوا بالجنة على ذلك عُبِّر عنه بلفظ الشراء تَجوزاً .
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
{ التَّآئِبُونَ } من الذنوب . { الْعَابِدونَ } بالطاعة ، أو بالتوحيد ، أو بطول الصلاة . { الْحَامِدُونَ } على السراء والضراء ، أو على الإسلام . { السَّائِحُونَ } المجاهدون واستؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال : « سياحة أُمتي الجهاد » ، أو الصائمون ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « سياحة أُمتي الصوم » « ع » ، أو المهاجرون أو طلبة العلم . { بِالْمَعْرُوفِ } التوحيد ، أو الإسلام . { الْمُنكَرِ } الشرك ، أو الذين لم يَنْهوا عنه حتى انتهوا عنه . { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } القائمون بأمره ، أو بفرائض حلاله وحرامه ، أو لشرطه في الجهاد . { الْمُؤْمِنِينَ } المصدقين بما وعدوا في هذه الآيات ، أو بما ندبوا إليه فيها . لما نزل { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى } جاء رجل من المهاجرين فقال : يا رسول الله ، وإن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر فنزلت { التَّآئِبُونَ } .
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
{ مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ } لما زار الرسول صلى الله عليه وسلم قبر أمه ، وقال : « استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي واستأذنته في الدعاء لها فلم يأذن لي » فنزلت ، أو نزلت في أبي طالب لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك » ، أو سمع علي رضي الله تعالى عنه رجلاً يستغفر لأبويه فقال : أتستغفر لهما وهما مشركان فقال أو لم يستغفر إبراهيم لأبويه فذكره علي رضي الله تعالى عنه للرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت .
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
{ مَّوْعِدَةٍ } وعد إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام أبوه أنه إن استغفر له آمن ، أو وعد إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام أباه أن يستغفر له لرجائه إيمانه فلما مات على شركه تبرأ من أفعاله ومن الاستغفار له . { لأَوَّاهٌ } دَعَّاء ، أو رحيم ، أو موقن ، أو مؤمن بلغة الحبشة « ع » ، أو مُسبِّح ، أو مكثر من تلاوة القرآن ، أو متأوه ، أو فقيه ، أو متضرع خاشع مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو إذا ذكر ذنوبه استغفر منها . وأصل التأوه التوجع . { حَلِيمٌ } صبور على الأذى ، أو صفوح عن الذنب .
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ } أسلم قوم من الأعراب ورجعوا إلى بلادهم يعملون بما شاهدوه من الرسول صلى الله عليه وسلم من صوم أيام البيض والصلاة إلى بيت المقدس ، ثم قدموا إليه فوجدوه يصوم رمضان ويصلي إلى الكعبة ، فقالوا : يا رسول الله دِنَّا بعدك بالضلالة إنك على أمر وإنا على غيره فنزلت .
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
{ تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجرِينَ } توبة لعونه بإنقاذهم من شدة العسرة ، أو تخليصهم من نكاية العدو وغيره ، أي رجعهم إلى ما كانوا فيه من الحالة الأولى . { الْعُسْرَةِ } في غزوة تبوك كانوا في قلة من الظَّهر فيتناوب الرجلان والثلاثة على بعير واحد ، وتعسر الزاد فيشق الرجلان التمرة بينهما ، أو يمص النفر التمرة والواحدة ثم يشربون عليها الماء وذلك في شدة الحر ، واشتد عطشهم حتى نحروا الإبل وعصروا أكراشها فشربوا ماءها . { يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ } يتلف بالجهد والشدة ، أو يعدل عن المتابعة [ والنصرة ] { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } التوبة الأولى في الذهاب والثانية في الرجوع ، أو الأولى في السفر ، والثانية بعد الرجوع إلى المدينة .
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
{ وَعَلَى الثَّلاثَةِ } وتاب على الثلاثة . { خُلِّفُواْ } عن التوبة فأُخرت توبتهم حتى تاب الله تعالى على الذين ربطوا أنفسهم مع أبي لبابة ، أو خلفوا عن بعث الرسول صلى الله عليه وسلم . { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ } لامتناع المسلمين من كلامهم . { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } بما لقوه من جفوة الناس { وَظَنُّواْ } أيقنوا أنهم لا يلجؤون في قبول توبتهم والصفح عنهم إلا إلى ربهم ، ثم تاب عليهم بعد خمسين ليلة من مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم { لِيَتُوبُواْ } ليستقيموا ، لأن توبتهم قد تقدمت « ع » وامتحنوا بذلك إصلاحاً لهم ولغيرهم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
{ يَآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ } بموسى ، أو عيسى عليهما الصلاة والسلام { اتَّقُواْ اللَّهَ } تعالى في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم . { وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين في الجهاد ، أو يا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى في الكذب ، أو اتقوا الله في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمركم بالجهاد { الصَّادِقِينَ } أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما أو الثلاثة الذين خُلِّفوا وصدقوا الرسول في تخلفهم ، أو المهاجرين ، لأنهم لم يتخلفوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد ، أو من صدقت نيته وقوله وعمله وسره وعلانيته .
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ } ما كان عليهم أن ينفروا جميعاً لأن الجهاد صار فرض كفاية . نسخت قوله تعالى : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] « ع » ، أو ما كان لهم إذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم سرية أن يخرجوا جميعاً ويتركوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة واحده بل يقيم بعضهم . لما عُيِّروا بالتخلف عن غزوة تبوك خرجوا في سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم وتركوه وحده بالمدينة فنزلت . { فَلَوْلا نَفَرَ } مع الرسول صلى الله عليه وسلم طائفة لتتفقه في الجهاد معه ، أو هاجرت إليه في إقامته لتتفقه ، أو لتتفقه الطائفة المقيمة مع الرسول صلى الله عليه وسلم معناه فهلا إذا نفروا أن تقيم مع الرسول صلى الله عليه وسلم طائفة لأجل التفقه في الدين في أحكامه ، ومعالمه ويتحملوا ذلك لينذروا به قومهم إذا رجعوا إليهم ، أو ليتفقهوا فيما يشاهدونه من المعجزات والنصر المصدق للوعد السابق ليقوي إيمانهم ويُخبروا به قومهم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
{ الَّذِينَ يَلُونَكُم } العرب ، أو الروم ، أو الديلم ، أو عام في قتال الأقرب فالأقرب .
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
{ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ } قاله المنافقون بعضهم لبعض على وجه الإنكار ، أو قالوه لضعفاء المسلمين استهزاء . { فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } بها لأنهم لم يؤمنوا بها قبل نزولها أو زادتهم خشية .
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
{ رِجْساً } إثماً ، أو شكاً ، أو كفراً .
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
{ يُفْتَنُونَ } يُبتلون ، أو يضلون ، أو يُختبرون بالجوع والقحط ، أو بالجهاد والغزو في سبيل الله ، أو ما يلقونه من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما هتكه الله تعالى من أسرارهم .
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
{ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } لم يبقَ من العرب بطن إلا ولده ، أو من المؤمنين لم يصبه شرك ، أو من نكاح لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية ، أو ممن تعرفونه بينكم . { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } شديد عليه ما شق عليكم « ع » أو شديد عليه ما ضللتم ، أو عزيز عليه عنت مؤمنكم . { حَرِيصٌ عَلَيْكُم } أن تؤمنوا . { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } بما يأمرهم به من الهدى ويؤثره من صلاحهم ، نزلت هذه الآية والتي بعدها بمكة ، أو هما آخر ما نزل « ع » .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } عنك ، أو معن طاعة الله تعالى .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
{ الر } أنا الله أرى « ع » أو حروف من الرحمن ، وقيل « الر » و « حم » و « ن » اسم الرحمن مقطع ، أو اسم للقرآن ، أو فواتح افتتح الله تعالى بها القرآن . { تِلْكَ } هذه { ءَايَاتُ الْكِتَابِ } :
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفرٌ أولادها كالزبيب
أي هذه خيلي . { الْكِتَابِ } التوراة والإنجيل ، أو الزبور ، أو القرآن . { الْحَكيمِ } المحكم ، أو لانه كالناطق بالحكمة .
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
{ أَكَانَ لِلنَّاسِ } لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم قالت العرب : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً فنزلت . { قَدَمَ صِدْقٍ } ثواباً حسناً بما قدموه من العمل الصالح « ع » ، أو سابق صدق سبقت لهم السعادة في الذكر الأول ، أو شفيع صدق هو محمد صلى الله عليه وسلم أو سلف صدق تقدموهم بالإيمان ، أو لهم السابقة بإخلاص الطاعة .
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
{ يُدَبِّرُ الأَمْرَ } يقضيه وحده ، أو يأمر به ويمضيه . { مَا مِن شَفِيعٍ } يشفع إلا أن يأذن له ، أو لا يتكلم عنده إلا بإذن ، أو ثانٍ له من الشفع ، لأنه خلق السموات والأرض وهو فرد لا حي معه ، ثم خلق الملائكة والبشر . { مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } أمره كن فكان .
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
{ يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ } ينشئه ثم يفنيه أو يحييه ثم يميته ثم يبدؤه ثم يحييه .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
{ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } يخافون عقابنا ، أو يطمعون في ثوابنا .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
{ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } يجعل لهم نوراً يمشون به ، أو يهديهم بعملهم إلى الجنة ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « يتلقى المؤمن عمله في أحسن صورة فيؤنسه ويهديه ، ويتلقى الكافر عمله في أقبح صورة فيوحشه ويضله » أو يهديهم إلى طريق الجنة ، أو مدحهم بالهداية . { مَن تَحْتِهِمُ } تحت منازلهم ، أو بين أيديهم وهم يرونها من علٍ ، قال مسروق : أنهارها تجري في غير أخدود .
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{ دَعْوَاهُمْ } إذا عدوا شيئاً يشتهونه قالوا : { سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } فيأتيهم ذلك وإذا سألوا الله شيئاً قالوا : { سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } { وَتَحِيَّتُهُمْ } ملكهم سالم ، التحية : الملك . أو يُحيي بعضهم بعضاً بالسلام أي سلمت مما بُلي به أهل النار . { وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ } كما أن أول دعائهم { سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } كان آخره بالحمد له . أو إذا أجاب سؤالهم فيما ادعوه وأتاهم ما اشتهوه شكروا بالحمد له .
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ } للكافر عذاب كفره كما عجل له المال والولد لقضي أجله ليعجل له عذاب الآخرة . أو لو استجيب للرجل إذا غضب فدعا على نفسه أو ماله ، أو ولده فقال : لا بارك الله فيه ، أو أهلكه { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } لهلكوا . { الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } خاص بمشركي مكة ، أو عام . { طُغْيَانِهِمْ } شركهم « ع » أو ضلالتهم ، أو ظلمهم . { يَعْمَهُونَ } يترددون ، أو يتمادون ، أو يلعبون .
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{ مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ } لجنبه يتعلق بدعانا ، أو بمس .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } كفار مكة . { بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذّآ أَوْ بَدِّلْهُ } إذا أتى بغيره جاز أن يبقى معه وإذا بدله فلا يبقى المبدل معه ، طلبوا تحويل الوعد وعيداً والوعيد وعداً والحلال حراماً والحرام حلالاً ، أو طلبوا إسقاط عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم ، أو إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور . { مَا يُوحَى إِلَىَّ } من وعد ووعيد وأمر ، ونهي وتحليل وتحريم { إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى } بتبديله وتغييره .
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
{ أَدْرَاكُم } أعلمكم ، أو أنذركم . { عُمُراً } أراد ما تقدم من عمره ، أو أربعين سنة ، لأنه بُعث عن الأربعين ، وهو المطلق من عمر الإنسان .
{ أَتُنَبِِّئُونَ اللَّهَ } أتخبرونه بعبادة من لا يعلم ما في السموات ولا ما في الأرض ، أو ليس يعلم الله له شريكاً .
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
{ وَمَا كَانَ النَّاسُ } آدم عليه الصلاة والسلام ، أو أهل السفينة ، أو من كان على عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو بنو آدم . { أُمَّةً وَاحِدَةً } على الإسلام حتى اختلفوا « ع » ، أو على الكفر ، أو على دين واحد فاختلفوا في الدين فمؤمن وكافر ، أو اختلف بنو آدم لما قتل قابيل أخاه . { سَبَقَتْ } بتأجيل العذاب إلى الآخرة ، لعجل العذاب في الدنيا ، أو بأن لا يعاجل العصاة { لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } وباضطرارهم إلى معرفة المحق من المبطل .
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
{ رَحْمَةً } رخاء بعد شدة ، أو عافية بعض سقم ، أو خصابة بعد جدب ، أو إسلاماً بعد كفر ، وهو المنافق ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه { مَّكْرٌ } كفر وجحود ، أو استهزاء وتكذيب ، لما أجيب دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف عليه الصلاة والسلام أتاه [ أبو سفيان ] وسأله أن يدعو لهم بالخصب وقال : إن أجابك وأخصبنا صدقناك ، فدعا بذلك فأخصبوا فنقضوا ما قالوه وأقاموا على كفرهم فنزلت هذه الآية .
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
{ حَصِيداً } ذاهباً ، أو يابساً . { تَغْنَ } تعمر أو تعيش ، أو تقم غني بالمكان : أقام به ، أو تنعم .
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{ دَارِ السَّلامِ } السلامة ، أو اسم الله تعالى والجنة داره . { وَيَهْدِى } بالتوفيق والإعانة ، أو بإظهار الأدلة . { صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } القرآن ، أو الإسلام ، أو الحق ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحباه رضي الله تعالى عنهما من بعده .
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
{ أَحْسَنُواْ } عبادة ربهم { الْحُسْنَى } الجنة ، والزيادة : النظر إلى الله تعالى ، أو الحسنى واحدة الحسنات والزيادة مضاعفتها إلى عشرة « ع » ، أو الحسنى حسنة بحسنة ، والزيادة : مغفرة ورضوان ، أو الحسنى : جزاء الآخرة ، والزيادة : ما أعطوا في الدنيا ، أو الحسنى : الثواب والزيادة : الدوام . { يَرْهَقُ } يعلو ، أو يلحق ، غلام مراهق : لحق بالرجال . { قَتَرٌ } سواد الوجه « ع » ، أو الجزاء ، أو الدخان ، قتار اللحم والعود دخانهما ، أو الغبار في محشرهم إلى الله . { ذِلَّةٌ } هوان أو خيبة .
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{ تتلو } تقرأ كتاب الحسنات والسيئات ، أو تتبع ما قدمته في الدنيا ، أو تعاين جزاءه { تَبْلُواْ } تسلم لك نفس ، أو تختبر { مَوْلاهُمُ } مالكهم { الْحَقِّ } لأن الحق منه كالعدل لأنه العدل منه .
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{ إِلاَّ ظَنّاً } تقليداً للرؤساء .
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
{ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } من التوراة والإنجيل والزبور أو البعث والجزاء والنشور .
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
{ بِعِلْمِهِ } بعلم التكذيب لشكهم فيه ، أو بعلم ما فيه من الوعد والوعيد . { تَأْوِيلُهُ } ما فيه من البرهان ، أو ما يؤول إليه من عقابهم .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
{ لَّمْ يَلْبَثُواْ } في الدنيا ، أو القبور . { يَتَعَارَفَونَ } أنهم كانوا على الباطل ، أو يعرف بعضهم بعضاً إذا خرجوا من القبور ثم تنقطع المعرفة .
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
{ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ } يوم القيامة ليشهد عليهم قضي بينهم ، أو إذا جاء في الدنيا ودعا عليهم قضي بينهم في الدنيا بالانتقام منهم ، أو إذا جاء في الآخرة قضي بينهم وبينه لتكذيبهم في الدنيا .
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
{ أَحَقٌ هُوَ } البعث ، أو عذاب الآخرة . { بِمُعْجِزِينَ } بممتنعين ، أو بمسابقين .
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
{ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ } أظهروها ، أو أخفوها من رؤسائهم ، أو أخفاها الرؤساء منهم ، أو بدت بالندامة أسرة وجوههم ، وهي تكاسير الجبهة قاله المبرد . { وَقُضِىَ بَيْنَهُم } وبين الرؤساء ، أو قضي عليهم بالعذاب .
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
{ بِفَضْلِ اللَّهِ } الإسلام . ورحمته : القرآن ، أو عكسه « ع » { فَلْيَفْرَحُواْ } بهما ، أو فلتفرح قريش أن كان محمد صلى الله عليه وسلم منهم « ع » .
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ } أهل ولايته المستحقون لكرامته « ع » ، أو الذين آمنوا وكانوا يتقون ، أو الراضون بالقضاء والصابرون على البلاء والشاكرون على النعماء ، أو من توالت أفعالهم على متابعة الحق ، أو المتحابون في الله تعالى .
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
{ الْبُشْرَى } في الدنيا عند الموت بتعريف مكانه وفي الآخرة الجنة ، أو في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها ، أو تُرى له وفي الآخرة الجنة ، { لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } لا خلف لوعده ، أو لا نسخ لخبره .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
{ فَأَجْمِعُواْ } أعزموا ، أو أعدوا أمركم مع شركائكم على التناصر ، أو ادعوا شركاءكم لتنصركم . { غُمَّةً } مغطى مستوراً ، غُم الهلال استتر ، أو ضيق الأمر الموجب للغم { لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ } آلهتكم ، أو ما عزمتم عليه . { اقْضُواْ } ما أنتم قاضون ، أو انهضوا « ع » ، أو أفضوا إليَّ ما في أنفسكم .
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{ وَمَن مَّعَهُ } ثمانون رجلاً أحدهم جُرْهم وكان عربي اللسان ، وحمل من كل زوجين اثنين ، وأول ما حمل الذرة وآخره الحمار فدخل إبليس متعلقاً بذنبه « ع » . { خَلآئِفَ } لمن غرق . { وَأَغْرَقْنَا } قيل : عاشوا في الطوفان أربعين يوماً ، قال ابن إسحاق : بقي الماء بعد الغرق مائة وخمسين يوماً ، وكان بين إرسال الطوفان إلى غيض الماء ستة أشهر وعشرة أيام ، وقال : استوت على الجودي لسبع عشرة ليلة من الشهر السابع .
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
{ لِتَلْفِتَنَا } لتلوينا ، لفت عنقه لواها ، أو لتصدنا ، أو لتصرفنا ، لفته لفتاً : صرفه . { الْكِبْرِيَآءُ } الملك ، أو العظمة ، أو العلو ، أو الطاعة .
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
{ ذُرِّيَّةٌ } قليل « ع » ، أو الغلمان لأن فرعون كان يذبحهم فأسرعوا إلى الإيمان أو أولاد الزَّمْنَى ، أو قوم أمهاتهم من بني إسرائيل وآباءهم من القبط { يَفْتِنَهُمْ } يقتلهم ، أو يكرههم على استدامة ما هم عليه . { لَعَالٍ } متجبر ، أو طاغْ باغٍ .
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
{ فِتْنَةً } لا تسلطهم علينا فيفتنونا ، أو يفتتنوا بنا لظنهم بتسليطهم أنهم على حق .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
{ تَبَوَّءَا } تخيرا واتخذا { بِمِصْرَ } المعروفة ، أو الإسكندرية ، قاله مجاهد { بُيُوتاً } قصوراً ، أو مساجد . { بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } مساجد يصلون فيها ، لأنهم كانوا يخافون فرعون إذا صلوا في الكنائس ، أو اجعلوا مساجدكم [ قِبلَ ] الكعبة « ع » ، أو يقابل بعضها بعضاً ، أو اجعلوا بيوتكم التي بالشام قِبْلة لكم في الصلاة فهي قبلة اليهود إلى اليوم { وَبَشِّرِ الْمؤْمِنِينَ } بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة .
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
{ اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } اهلكها ، فصارت زروعهم وأموالهم حجارة منقوشة . { وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } بالعمى عن الرشد ، أو بالقسوة ، أو بالموت ، أو بالضلالة ليهلكوا كفاراً فيعذبوا في الآخرة . { الْعَذَابَ الأَلِيمَ } الغرق .
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
{ دَّعْوَتُكُمَا } أمن هارون على دعاء موسى عليهما الصلاة والسلام فسماه داعياً ، ومعنى آمين : اللهم استجب ، أو اسم من أسماء الله تعالى بإضمار حرف النداء تقديره يا آمين استجب ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « آمين خاتم رب العالمين على عبادة المؤمنين » أي يمنع من وصول الأذى والضرر إليهم كما يمنع الختم من الوصول إلى المختوم ، أو معناه بعد الدعاء اللهم استجب وبعد الفاتحة كذلك أمنة تكون « ع » ، وتأخر فرعون بعد الإجابة أربعين عاماً . { فَاسْتَقِيمَا } فامضيا لأمري فخرجا في قومهما ، أو فاستقيما في الدعاء على فرعون وقومه ، قيل ليس لنبي أن يدعو إلا بإذن لأن دعاءه يوجب النقمة وقد يكون فيهم من يتوب .
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
{ نُنَجِّيكَ } نُلقيك على نجوة وهي المكان المرتفع . { بِبَدَنِكَ } بجسدك لا روح فيه ، أو بدرعك وكانت من حديد يُعرف بها ، وكان من تخلف من قومه ينكر غرقه ، فرمي به على الساحل فرآه بنو إسرائيل ، وكان قصيراً أحمر كأنه ثور . { خَلْفَكَ } بعدك عبرة وموعظة .
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
{ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } لأنه كالصدق في الفضل ، أو تصدق به عليهم ، الشام وبيت المقدس ، أو الشام ومصر . { فَمَا اخْتَلَفُواْ } بنو إسرائيل في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ } القرآن ، أو محمد صلى الله عليه وسلم فيكون العلم بمعنى المعلوم لأنهم عرفوه من كتبهم .
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
{ فِى شَكٍّ } من إرسالك ، أو من أنك مكتوب في التوراة والإنجيل { الَّذِينَ يَقْرَءُونَ } أهل الصدق والتقوى منهم ، أو من آمن كعبد الله بن سلام ، خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ، أو على عادتهم في التنبيه على أسباب الطاعة كقول الوالد لولده : إن كنت ولدي فبرني ، والسيد لعبده : إن كنت عبدي فأطعني ، ولا يشك في ولده أو عبده ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « لا أشك ولا أسأل » .
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
{ فَلَوْلا كَانَتْ } أي لم تؤمن قرية بعد أن حقت عليهم كلمة ربك . { قَوْمَ يُونُسَ } أهل نينوى من بلاد الموصل وعدهم يونس عليه الصلاة والسلام بالعذاب بعد ثلاث ، فقالوا : انظروا فإن خرج يونس فوعيده حق فلما خرج فزعوا إلى شيخ منهم ، فقال : توبوا وقولوا يا حي حين لا حي ، ويا حي محيي الموتى ، ويا حي لا إله إلا أنت ، فلبسوا المُسُوح ، وفرقوا بين كل والدة وولدها وخرجوا عن القرية تائبين داعين فكشف عنهم ، وكان ذلك يوم عاشوراء . { كَشَفْنَا } حصوله بقبوله التوبة بعد رؤية العذاب فكشف عنهم بعد أن تدلى عليهم ولم يكن بينه وبينهم إلا ميل ، أو رأوا دلائل العذاب ولم يروه ، ولو رأوه لما قبلت توبتهم كفرعون . { حِينٍ } أجلهم ، أو مصيرهم إلى الجنة أو النار « ع » .
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
{ بِإِذْنِ اللَّهِ } بأمره ، أو معونته ، أو إعلامه إياها سبيل الهدى والضلال . { الرِّجْسَ } السخط « ع » ، أو الإثم ، أو العذاب ، أو ما لا خير فيه ، أو الشيطان .
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
{ أَقِمْ وَجْهَكَ } استقم بإقبال وجهك على ما أُمرت به ، أو أراد بالوجه النفس . { حَنِيفاً } حاجاً « ع » ، أو متبعاً أو مستقيماً ، أو مخلصاً ، أو مؤمناً بالرسل ، أو سابقاً إلى الطاعة ، من حنف الرِّجْلَيْن وهو أن تسبق إحداهما الأخرى .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } القرآن ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم .
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
{ كِتَابٌ } القرآن ، { أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ } بالأمر والنهي { ثُمَّ فُصِّلَتْ } بالثواب والعقاب ، أو أُحكمتم من الباطل ثم فُصِّلت بالحلال والحرام والطاعة والمعصية ، أو آيات هذه السورة كلها محكمة ، { فُصِّلَتْ } فُسِّرت ، أو أُحكمت آياته للمعتبرين وفُصِّلت للمتقين ، أو أُحكمت آياته في القلوب وفُصِّلت أحكامه على الأبدان . { حَكِيمٍ } في أفعاله { خَبِيرٍ } بمصالح عباده ، أو حكيم فيما أنزل خبير بمن يتقبل .
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
{ أَلاَّ تَعْبُدُواْ } يعني أن كتبت في الكتاب أن لا تعبدوا إلا الله ، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك . { نَذِيرٌ } من النار { وَبَشِيرٌ } بالجنة .
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
{ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } مما سلف ثم توبوا إليه في المستأنف متى وقعت منكم ذنوب ، أو قدّم الاستغفار ، لأنه المقصود وأخّر التوبة لأنها سبب إليه . { مَّتَاعاً حَسَناً } في الدنيا بطيب النفس وسعة الرزق ، أو بالرضا بالميسور والصبر على المقدور ، أو بترك الخلق والإقبال على الحق قاله سهل رضي الله تعالى عنه { أَجَلٍ مُّسَمًّى } الموت ، أو القيامة ، أو وقت لا يعلمه إلا الله تعالى « ع » { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍ فَضْلَهُ } يهديه إلى العمل الصالح « ع » ، أو يجزيه به في الآخرة . { كَبِيرٍ } يوم القيامة لكبر الأمور فيه .
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
{ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } على الكفر { لِيَسْتَخْفُواْ } من الله تعالى أو على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم ليخفوها عنه ، أو على ما أضمروه ليخفوه على الناس ، أو كان المنافقون إذا مروا بالرسول صلى الله عليه وسلم غطوا رؤوسهم وحنوا صدورهم لئلا يراهم أو قال رجل إذا أغلقت بابي وأرخيت ستري وتغشيت ثوبي وثنيت صدري فمن يعلم بي فأخبر الله تعالى بذلك . { يَسْتَغْشُونَ } يلبسون ويتغطون ، قال :
أرعى النجوم ما كلفت رِعْيَتَها ... وتارة أتغشى فضل أطماري
كنى باستغشاء الثياب عن الليل ، لأنه يسترهم بظلمته كما يستترون بالثياب وكانوا يخفون أسرارهم ليلاً ، أو كانوا يغطون وجوههم وآذانهم بثيابهم بغضاً للرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يروه ولا يسمعوا كلامه ، أو أراد المنافقين لأنهم لسترهم ما في قلوبهم كالمستغشي ثيابه ، أو كان قوم من المسلمين يتنكسون بستر أبدانهم فلا يكشفونها تحت السماء فبيّن الله تعالى أن النسك بالاعتقاد والعمل . { مَا يُسِرُّونَ } في قلوبهم { وَمَا يُعْلِنُونَ } بأفواههم ، أو ما يسرون الإيمان وما يعلنون العبادات ، أو ما يسرون عمل الليل ، وما يعلنون عمل النهار « ع » { بِذَاتِ الصُّدُورِ } بأسرارها ، نزلت في الأخنس بن شريق « ع » .
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
{ مُسْتَقَرَّهَا } حيث تأوي { وَمُسْتَوْدَعَهَا } حيث تموت أو مستقرها الرحم ومستودعها الصلب ، أو مستقرها في الدنيا ومستودعها في الآخرة .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{ أَحْسَنُ عَمَلاً } أتم عقلاً ، أو أزهد في الدنيا ، أو أكثر شكراً ، أو أحسن عقلاً وأروع عن محارم الله ، وأسرع في طاعته ، قاله الرسول صلى الله عليه وسلم .
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
{ أُمَّةٍ } فناء أمة ، أو الأجل عند الجمهور ، الأُمَّة : الأجل . { مَا يَحْبِسُهُ } أي العذاب ، قالوا ذلك تكذيباً له لتأخره ، أو استعجالاً واستهزاء .
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
{ بَيِّنَةٍ } القرآن ، أو دلائل التوحيد ووجوب الطاعة ، أو محمد صلى الله عليه وسلم { شَاهِدٌ مِّنْهُ } لسانه يشهد له بتلاوة القرآن ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد من الله تعالى أو جبريل عليه السلام « ع » أو قال علي رضي الله عنه ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية قيل : فما نزل فيك قال : « ويتلوه شاهد منه » { قَبْلِهِ } الضمير للقرآن ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم { إِمَاماً } للمؤمنين لاقتدائهم به { وَرَحْمَةً } لهم ، أو إماماً متقدماً علينا ورحمة لهم . { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي من كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه { الأَحْزَابِ } أهل الأديان كلها ، أو المتحزبون على الرسول صلى الله عليه وسلم وحربه؛ قريش ، أو اليهود والنصارى ، أو أهل الملل كلها . { مَوْعِدُهُ } مصيره . { فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ } من القرآن ، أو من أن النار موعد الكافرين به .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
{ كَذِباً } بأن ادعى إنزال ما لم ينزل عليه ، أو نفى ما أنزل عليه . { يُعْرَضُونَ } يشحرون إلى موقف الحساب . { الأَشْهَادُ } الأنبياء ، أو الملائكة ، أو الخلائق ، أو الأنبياء والملائكة والمؤمنون والأجساد ، الأشهاد : جمع شهيد كشريف وأشراف ، أو جمع شاهد كصاحب وأصحاب .
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ } قريش صدوا الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن الدين « ع » . { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } يرجون بمكة غير الإسلام ديناً ، أو يبغون محمداً هلاكاً ، أو يتأولون القرآن تأويلاً باطلاً .
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
{ لا جَرَمَ } لا بد ، أو « لا » صلة ، جرم : حقاً ، أو لا نفي لدفع العذاب عنهم ، ثم استأنف جرم بمعنى كسب أي كسبوا استحقاق النار ، قال :
نصبنا رأسه في رأس جذع ... بما جرمت يداه وما اعتدينا
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
{ وَأَخْبَتُواْ } خافوا « ع » ، أو اطمأنوا ، أو أنابوا ، أو خشعوا وتواضعوا ، أو أخلصوا .
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
{ أَرَاذِلُنَا } جمع أََرْذُل ، وأَرْذُل جمع رَذْل وهو الحقير يعنون الفقراء وأصحاب الصنائع الدنيئة . { بَادِىَ الرَّأْىِ } ظاهره ، أي إنك تعمل بأول الرأي من غير فكر ، أو إنما في نفسك من الرأي ظاهر تعجيزاً له ، أو اتبعوك بأول الرأي ولو فكروا لرجعوا عن اتباعك .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
{ بَيِّنَةٍ } ثقة ، أو حجة { رَحْمَةً } إيماناً ، أو نبوة « ع » . { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } البينة خفيت فعميتم عنها ، أراد بذلك بيان تفضيله عليهم لما قالوا { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلِ } . { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } البينة ، أو الرحمة . { كَارِهُونَ } أي لا يصح قبولكم لها مع الكراهية ، وقال قتادة : لو استطاع نبي الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ، ولكنه لم يملك ذلك .
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
{ تَجْهَلُونَ } أنهم أفضل منكم لإيمانهم وكفركم ، أو لاسترذالكم وطلب طردهم .
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
{ خَزَآئِنُ اللَّهِ } الأموال فأدفعها إليكم على إيمانكم ، أو الرحمة فأسوقها إليكم « ع » . { تَزْدَرِى } تحتقر ، أزريت عليه عِبْته ، وزريت عليه حقَّرته .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
{ افْتَرَاهُ } أي النبي صلى الله عليه وسلم اختلق ما أخبر به عن نوح وقومه . { إِجْرَامِى } عقاب إجرامي وهي الذنوب المكتسبة أو الجنايات المقصودة .
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ } لما أخبره بذلك قال : { لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض } الآية [ نوح : 26 ] { تَبْتَئِسْ } تحزن ، أو تأسف ، والابتئاس حزن في استكانة ، لا تحزن لهلاكهم ، أو كفرهم المفضي إلى هلاكهم .
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
{ بِأَعْيُنِنَا } بحيث نراك فعبّر عن الرؤية بالأعين لأنها بها تكون ، أو بحفظنا إياك حفظ من يراك ، أو أعين أوليائنا من الملائكة . { وَوَحْيِنَا } أمْرُنا بصنعتها ، أو بتعليمنا لك صنعتها .
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ } مكث مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها ، ومائة سنة يعملها ، وكان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت مطبقة ، أو طولها أربعمائة ذراع ، وعلوها ثلاثون ذراعاً وعرضها خمسون ذراعاً وكانت ثلاث أبيات ، أو طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها مائة وخمسون ذراعاً ، وعلوها ثلآثين ذراعاً في أعلاها الطير وفي أوسطها الناس وفي أسفلها السباع ، ودفعت من عين ودة يوم الجمعة لعشر مضين من رجب ، ورست بباقردى على الجودي يوم عاشوراء ، وكان بابها في عرضها . { سَخِرُواْ مِنْهُ } لما رأوه يصنعها في البر ، قالوا : صِرت بعد النبوة نجاراً ، أو لم يكونوا رأوا قبلها سفينة فقالوا ما تصنع قال : بيتاً يمشي على الماء فسخروا منه . { إِن تَسخَرُواْ } من قولنا فسنسخر من غفلتكم ، أو إن تسخروا منا اليوم عند بناء السفينة فإنا نسخر منكم غداً عند الغرق ، سمى جزاء السخرية باسمها ، أو عبّر بها عن الاستجهال .
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
{ التَّنُّورُ } وجه الأرض ، تسمي العرب وجه الأرض تنوراً ، أو التنور عين وردة التي بالجزيرة ، أو مسجد الكوفة قبل أبواب كندة ، أو التنور ما زاد على الأرض فأشرف منها ، أو تنور الخبز ، قال الحسن رضي الله تعالى عنه كان من حجارة وكان لحواء وصار لنوح عليه الصلاة والسلام ، أو التنور تنوير الصبح قالوا : نور الصبح تنويراً . { زَوْجَيْنِ } من الآدميين والبهائم ذكراً وأنثى . { مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } من الله بالهلاك ابنه كنعان وامرأته كانا كافرين { قَلِيلٌ } ثمانون رجلاً منهم جرهم ، أو سبعة نوح وأولاده سام وحام ويافث [ وثلاث كنات له ] ، أو السبعة وزوجته فصاروا ثمانية ، فأصاب حام امرأته في السفينة فدعا نوح عليه الصلاة والسلام أن يغير الله تعالى نطفته فجاءوا سودان ، ولما نزل يوم عاشوراء من السفينة قال : من كان صائماً فليتم صومه ومن لم يكن صائماً فليصم .
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
{ بْسمِ اللَّهِ مَجْراهَا } سَيْرُها { وَمُرْسَاهَا } ثبوتها ووقوفها ، كان إذا أراد السير قال : بسم الله مجراها فتسير ، وإذا أراد الوقوف قال : بسم الله مرساها فتقف .
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
{ سَئَاوِى إِلَى جَبَلٍ } قال ذلك لبقائه على كفره تكذيباً لأبيه ، قيل الجبل طور زيتاً . { عَاصِمَ } معصوم من الغرق . { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } الله تعالى فأنجاه من الغرق ، أو إلا من رحمه نوح عليه الصلاة والسلام فحمله في السفينة .
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
{ ابْلَعَى مَآءَكِ } بلعت ماءها وماء السماء ، أو ماءها وحده وصار ماء السماء بحاراً وأنهاراً ، لأنه قال : { ابْلَعِى مَآءَكِ } ، { أَقْلِعِى } عن المطر ، أقلع عن الشيء تركه . { وَغِيضَ الْمَآءُ } نقص فذهبت زيادته عن الأرض . { وَقُضِىَ الأَمْرُ } بإهلاكهم بالغرق . { الْجُودِىِّ } جبل بالموصل ، أو الجزيرة ، أو اسم لكل جبل .
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
{ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } ولد على فراشه لغير رشدة ، أو كان ابن امرأته ، أو كان ابنه وما بغت امرأة نبي قط « ع » فقوله : { لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي أهل دينك وولايتك عند الجمهور ، أو من أهلك الذين وعدتك بإنجائهم . { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } سؤالك أياي أن أنجيه ، أو إن ابنك عمل غير صالح لغير رشدة ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه ، أو إن ابنك عَمِل عملاً غيرَ صالح « ع » . { أَعِظُكَ } أحذرك أو أرفعك .
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
{ مِدْراراً } المطر في إبانه ، أو المتتابع « ع » { قُوَّةً } شدة إلى شدتكم أو خصباً إلى خصبكم ، أو عزاً إلى عزكم بكثرة عددكم وأموالكم أو ولد الولد .
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
{ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } الحق ، أو تدبير محكم .
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
{ مِّنَ الأَرْضِ } في الأرض ، أو خلقهم من آدم عليه الصلاة والسلام وآدم من ترابها . { وَاسْتَعْمَرَكُمْ } أبقاكم فيها مدة أعماركم من العمر ، أو أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من مسكن وغرس أشجار أو أطال أعماركم؛ كانت أعمارهم من ألف إلى ثلاثمائة سنة .
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
{ مَرْجُوّاً } يرجى خيرك ، أو حقيراً من الإرجاء والتأخير .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
{ بَيِّنَةٍ } دين . { رَحْمَةً } نبوة وحكمة . { فَمَا تَزِيدُونَنِى } في احتجاجكم باتباع آبائكم إلا خساراً تخسرونه أنتم ، أو ما تزيدونني على الرد والتكذيب إن أطعتكم إلا خساراً لاستبدال الثواب العقاب .
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
{ الصَّيْحَةُ } صيحة جبريل عليه السلام ، أو أحدثها الله تعالى في حيوان ، أو في غير حيوان . { دِيَارِهِمْ } منازلهم وبلادهم كديار بكر وربيعة ، أو في الدنيا لأنها دار الخلائق . { جَاثِمِينَ } ميتين ، أو هلكى بالجثوم ، وهو السقوط على الوجه ، أو القعود على الرُّكَب .
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
{ يَغْنَوْاْ } يعيشوا ، أو ينعموا . { كَفَرُواْ } وعيد ربهم ، أو بأمر ربهم . { بُعْداً } قضى بالاستئصال فهلكوا جميعاً إلا بأ رغال كان بالحرم فمنعه الحرم من العذاب .
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
{ رُسُلُنَآ } رسلنا جبريل وميكائيل وإسرافيل واثنا عشر ملكاً مع جبريل « ع » و { إِبْرَاهِيمَ } أعجمي عند الأكثرين ، أو عربي من البرهمة وهي إدامة النظر . { بِالْبُشْرَى } بإسحاق عليه الصلاة والسلام أو النبوة ، أو بإخراج محمد صلى الله عليه وسلم من صلبه وأنه خاتم الأنبياء ، أو بهلاك قوم لوط . { سَلاماً } حيوه فرد عليهم ، أو قالوا : سلمت أنت وأهلك من هلاك قوم لوط ، قوله : سلام : أي الحمد لله الذي سلمني ، والسِّلْم والسَّلام واحد أو السِّلْم من المسالمة والسَّلام من السلامة . { فَمَا لَبِثَ } مدحه بالإسراع بالضيافة لأنه ظنهم . ضيوفاً لمجيئهم على صور الناس . { حَنِيذٍ } حار ، أو مشوي نضيجاً بمعنى محنوذ كطبيخ ومطبوخ ، وهو الذي حُفر له في الأرض ثم غُم فيها ، أو الذي تجعل الحجارة المحماة بالنار في جوفه ليسرع نضاجه .
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
{ نَكِرَهُمْ } نَكِر وأنكر واحد ، أو نَكِر إذا لم يعرفهم وأنكرهم وجدهم على منكر . ونكرهم لأنهم [ لم ] يتحرموا بطعامه وشأن العرب إذا لم يتحرم بطعامهم أن يظنوا السواء ، أو نكرهم لأنه لم يكن لهم أيدي . { وَأَوْجَسَ } أضمر . { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ } أعلموه بذلك ليأمن منهم ، أو لأنه كان يأتي قوم لوط فيقول وَيْحكم أنهاكم عن الله تعالى أن تتعرضوا لعقوبته فلا يطيعونه .
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
{ قَآئِمَةٌ } تصلي ، أو في خدمتهم ، أو من وراء الستر تسمع كلامهم . { فَضَحِكَتْ } حاضت يقولون : ضحكت المرأة إذا حاضت . والضحك في كلامهم : الحيض وافق ذلك عادتها ، أو لذعرها وخوفها تغيرت عادتها ، أو ضحكت : تعجبت سمي به لأنه سبب له ، عجبت من أنها وزوجها يخدمانهم إكراماً وهم لا يأكلون ، أو من مجيء العذاب إلى قوم لوط وهم غافلون ، أو من مجيء الولد مع كبرها وكبر زوجها ، أو من إحياء العجل الحنيذ ، لأن جبريل عليه السلام مسحه بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه وكانت أمه في الدار أو هو الضحك المعروف قاله الجمهور ، ضحكت سروراً بالولد ، أو بالسلامة ، أو لِما رأت بزوجها من الروع ، أو ظناً أن الرسل يعملون عمل قوم لوط . { وَرَآءِ } بعد ، أو الوراء ولد الولد « ع » ، وخصوها بالبشرى لما اختصت بالضحك ، أو كافؤوها بذلك استعظاماً لخدمتها ، أو لأن المرأة أفرح بالولد من الرجل .
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
{ يَاوَيْلَتَى } لم تدع بالويل ولكنها كلمة تخف على ألسنة النساء عند تعجبهن ، استغربت مجيء ولد من عجوز لها تسع وتسعون سنة ، وشيخ له مائة سنة ، أو لها تسعون ، وله مائة وعشرون . { بَعْلِى شَيْخاً } قيل عرَّضت بذلك عن ترك غشيانه لها ، والبعل السيد والبعل المعبود ، وسمي الزوج بعلاً لتطاوله على المرأة كتطاول السيد على المسود . { عَجِيبٌ } منكر . { وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ } [ ص : 4 ] .
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
{ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } أنكروا ما قالته استغراباً لا تكذيباً وإنكاراً .
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
{ الرَّوْعُ } الفزع والرُّوع : النفس « ألقى في رُوعي » { يُجَادِلُنَا } بقوله : إن فيها لوطاً ، أو سأل هل يعذبونهم استئصالاً ، أو على سبيل التخويف ليؤمنوا ، أو قال : أتعذبونهم إن كان فيهم خمسون من المؤمنين قالوا : لا ، قال : أربعون قالوا : لا ، فما زال حتى نزلهم على عشرة فقالوا : لا ، فذلك جداله ، ولم يؤمن به إلا ابنتاه .
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
{ سِىءَ بِهِمْ } ساء ظنه بقومه وضاق ذرعاً بأضيافه ، { عَصِيبٌ } شديد لأنه يعصب الناس بالشر ، خاف على الرسل أن يفضحهم قومه .
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
{ يُهْرَعُونَ } الإهراع الإسراع بين الهرولة والجمز قال : الكسائي والفراء : ولا يكون إلا مع رعدة ، أسرعوا لما أعلمتهم امرأة لوط بجمال الأضياف . { وَمِن قَبْلُ } إسراعهم كانوا ينكحون الذكور ، أو كانت اللوطية فيهم في النساء قبل كونها في الرجال بأربعين سنة . { بَنَاتِى } نساء الأمة ، أو لصلبه لجوازه في شريعته وكان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه ، أو على شرط الإيمان كان يشترك العقد ، أو رغبهم بذلك في الحلال دفعاً لبادئتهم لا أنه بذل نكاحهن ولا عرض بخطبتهن . { وَلا تُخْزُونِ } تذلوني بعار الفضيحة ، أو تهلكوني بعواقب فسادكم ، أو أراد الحياء ، خزي الرجل : استحيا { رَّشِيدٌ } مؤمن « ع » ، أو آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر ، تعجب من اتفاقهم على المنكر ، وأراد بالرشيد من يدفع عن أضيافه .
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
{ مِنْ حَقٍّ } حاجة ، أو لَسْن لنا بأزواج ، { مَا نُرِيدُ } من الرجال ، أو بألا نتزوج إلا بواحد وليس منا إلا من له امرأة .
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
{ قُوَّةً } أنصاراً ، قال « ع » : أراد الولد . { رُكْنٍ شَدِيدٍ } عشيرة مانعة فوجدت عليه الرسل ، وقالوا : إن ركنك لشديد . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « رحم الله تعالى لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد » ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « فما بعث الله تعالى بعده نبياً إلا في ثروة من قومه »
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
{ رُسُلُ رَبِّكَ } وقف على الباب ليمنعهم من الأضياف فلما أعلموه أنهم رسل مكنهم من الدخول ، وطمس جبريل عليه السلام أعينهم وغل أيديهم فجفت . { فَأَسْرِ } السرى : سير الليل وسرى وأسرى واحد ، أو أسرى من أول الليل وسرى من آخره ، ولا يقال في النهار إلا سار . { بِقِطْعٍ } سواد ، أو نصف الليل من قطعه بنصفين ، أو السحر الأول أو قطعه « ع » . { وَلا يَلْتَفِتْ } لا يتخلف « ع » أو لا ينظر وراءه ، أو لا يشتغل بما خلفه من مال ومتاع . { امْرَأَتَكَ } بالنصب استثناء من « فأسر » ، أو من « لا يلتفت » عند من رفع بدل من « أحد » . { مُصِيبُهَا } خرجت مع لوط من القرية فسمعت الصوت فالتفتت فأرسل عليها حجر فأهلكها . { مَوْعِدَهُمُ } لما علم أنهم رسل قال : فالآن إذن ، فقال جبريل عليه السلام إن موعدهم الصبح .
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
{ جَآءَ أَمْرُنَا } للملائكة ، أو وقوع العذاب بهم ، أو القضاء بعذابهم . { عَالِيَهَا } صعد بها جبريل عليه السلام على جناحه حتى سمع اهل السماء نباح كلابهم وأصوات دجاجهم ثم قلّبها وجعل عاليها سافلها وأتبعها الحجارة حتى أهلكها وما حولها ، وكن خمس قوى أعظمهن سدوم ، أو ثلاث قرى يقال لها سدوم بين المدينة والشام ، وكان فيها أربعة آلاف ألف . { سِجِّيلٍ } حجارة صلبة ، أو مطبوخة ، حتى صارت كالأرحاء ، أو من جهنم واسمها سجين فقلبت النون لاماً ، أو من السماء واسمها سجيل ، أو من السجل وهو الكتاب كتب الله تعالى عليها أن يعذب بها ، أو سجيل مرسل من السجل وهو الإرسال أسجلته أرسلته ، والدلو سجيل لإرساله ، أو من السجل وهو العطاء سجلت له سجلاً من العطاء كأنهم أعطوا البلاء إذراراً ، او فارسي معرب من سنك وهو الحجر وكل وهو الطين . { مَّنضُودٍ } نضد بعضه على بعض ، أو مصفوف .
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
{ مُّسَوَّمَةً } معلمة ببياض في حمرة « ع » ، أو مختمة على كل حجر أسم صاحبه . { عِندَ رَبِّكَ } في علمه ، أو في خزائنه لا يتصرف فيها سواه { الظَّالِمِينَ } من قريش ، أو العرب ، أو ظالمي هذه الأمة ، أو كل ظالم . وأمطرت الحجارة على المدن حين رفعها ، أو على من كان خارجاً عنها من أهلها .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
{ مَدْيَنَ } بنو مدين بن إبراهيم كمضر لبني مضر ، أو مدين مدينتهم نسبوا إليها ثم اقتصر على اسمها تخفيفاً ، وهو أعجمي ، أو عربي من مَدَنَ بالمكان أقام فيه عند من زعم أنه اسم المدينة ، أو من دنت أي ملكت بزيادة الميم عند من جعله اسم رجل . { شُعَيْباً } تصغير شعب وهو الطريق في الجبل ، أو القبيلة العظيمة ، أو من شعب الإناء المكسور . { بخَيْرٍ } رخص السعر « ع » ، أو المال وزينة الدنيا . { يَوْمٍ مُّحِيطٍ } غلاء السعر « ع » أو عذاب النار في الآخرة ، أو الاستئصال في الدنيا .
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
{ بَقِيَّتُ } رزقه ، أو طاعته ، أو وصيته ، أو رحمته ، أو حظكم منه ، أو ما أبقاه لكم بعد إيفاء الكيل والوزن .
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
{ أَصَلاتُكَ } المعروفة ، أو قراءتك ، أو دينك الذي تتبعه ، أصل الصلاة الاتباع ومنه المصلي في الخيل . { تَأْمُرُكَ } تدعوك ، أو فيها أن تأمرنا أن نترك عبادة الأصنام . { مَا نَشَآءُ } من البخس والتطفيف ، أو الزكاة التي أمرهم بها ، أو قطع الدراهم والدنانير لأنه نهاهم عن ذلك . { الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } استهزاء ، أو نفي « ع » ، أو حقيقة ما نبتغي لك هذا مع حلمك ورشدك .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
{ رِزْقاً حَسَناً } مالاً حلالاً ، قال « ع » : وكان شعيب كثير المال ، أو نبوة فيه حذف تقديره أفأعدل عن عبادته . { أُنِيبُ } أرجع ، أو ادعوا
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
{ يَجْرِمَنَّكُمْ } يحملنكم ، أو يكسبنكم . { شِقَاقِى } عداوتي ، أو إصراري ، أو فراقي . { بِبَعيدٍ } بعد الدار لدنوهم منهم ، أو بعد الزمان لقرب العهد وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيباً قال « ذاك خطيب الأنبياء » .
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
{ مَا نَفْقَهُ } ما نفهم صحة ما تقول من البعث والجزاء ، أو قالوه إعراضاً عن سماعه ، أو احتقاراً لكلامه . { ضَعِيفاً } أعمى ، أو ضعيف البصر ، أو البدن ، أو وحيداً ، أو ذليلاً مهيناً ، أو قليل العقل ، أو قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها . { رَهْطُكَ } عشيرتك عند الجمهور ، أو شيعتك { لَرَجَمْنَاكَ } بالحجارة ، أو بالشتم . { بِعَزِيزٍ } بكريم ، أو بممتنع لولا رهطك .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
{ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم } أتراعون رهطي فِيَّ ولا تراعون الله فِيَّ . { ظِهْرِيّاً } أطرحتم أمره وراء ظهوركم لا تلتفتون إليه ولا تعملون به ، أو حملتم أوزار مخالفته على ظهوركم ، أو إن احتجتم إليه استعنتم به وإن اكتفيتم تركتموه كالذي يتخذ من الجمال ظهراً إن اُحتيج إليه حُمل عليه وإن استُغني عنه تُرك ، أو جَعْلهم الله وراء ظهورهم ظهرياً . { مُحِيطٌ } حفيظ ، أو خبير ، أو مجازي .
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
{ مَكَانَتِكُمْ } ناحيتكم « ع » ، أو تمكنكم أي اعلموا في هلاكي فإني عامل في هلاككم قال ذلك ثقة بربه . { عَذَابٌ } الفرق { يُخْزِيهِ } يذله ، أو يفضحه . { وَارْتَقِبُواْ } انتظروا العذاب { إِنِّى مَعَكُمْ } منتظر .
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
{ فِى هَذِهِ } الدنيا لعنة المؤمنين ويوم القيامة لعنة الملائكة أو لعنة الدينا الفرق ولعنة الآخرة النار . { الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } العون المعان ، أو الرفد الزيادة لأنهم زيدوا على الفرق بالنار ، أو ذم لشرابهم فيها لأن الرِفد بالكسر ما في القدح من الشراب ، والرَفد بالتفح القدح .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
{ نَقُصُّهُ } نخبرك ، أو نتبع بعضه بعضاً . { قَآئِمٌ } عامر { وَحَصِيدٌ } خاوي « ع » ، أو القائم الآثار والحصيد الدارس .
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
{ تَتْبِيبٍ } تخسير ، أو هلاك ، أو شر .
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
{ لا تَكَلَّمُ } لا تشفع ، أو لا تكلم بشيء من جائز الكلام ، أو يمنعون في بعض أوقات القيامة من الكلام إلا بإذنه . { شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ } محروم ومرزوق ، أو معذب ومنعم ، ابتدأ بالسعادة والشقاوة من غير جزاء أو جوزيا بها على أعمالها .
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
{ زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف « ع » ، أو الزفير في الحلق والشهيق في الصدر ، أو الزفير تردد النفس من شدة الحزن والشهيق النفس الطويل ، جبل شاهق طويل ، أو الزفير أول شهيق الحمار والشهيق آخره .
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ } سماء الدنيا وأرضها { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } من الزيادة عليها بعد فناء مدتها ، أو ما دامت سماوات الآخرة وأرضها إلا ما شاء من قدر وقوفهم في القيامة ، أو إلا من شاء ربك إخراجه منها من أهل التوحيد « ع » ، أو « إلا من شاء أن لا يدخله إليها من أهل التوحيد » مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو إلا من شاء أن يخرجه منها من موحد ومشرك إذا شاء « ع » ، أو الاستثناء من الزفير والشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي ليست بزفير ولا شهيق مما سماه أو لم يسمِّه ثم استأنف فقال : { مَا دَامَتِ } ، أو المعنى لو شاء أن لا يخلدهم لفعل ولكنه شاء ذلك وحكم به . وقدر خلودهم بسماوات الدنيا وأرضها على عادة العرب وعرفها . زهير :
ألا لا أرى على الحوادث باقياً ... ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
{ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّةِ } إلا ما شاء ربك من مدة مكثهم في النار ، أو { إِلاَّ } بمعنى الواو . { مَجْذُوذٍ } مقطوع ، أو ممنوع .
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
{ نَصِيبَهُمْ } من خير أو شر « ع » ، أو الرزق ، أو العذاب .
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
{ تَرْكَنُواْ } تميلوا ، أو تدنوا ، أو ترضوا أعمالهم ، أو تداهنوهم في القول فتوافقوهم سراً ولا تنكروا عليهم علانية .
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
{ طَرَفَىِ النَّهَارِ } الأول الصبح اتفاقاً والثاني الظهر والعصر ، أو العصر وحدها ، أو المغرب « ع » . { وَزُلَفاً } جمع زلفة والزلفة المنزلة أي ومنازل من الليل أي ساعات ، ومزدلفة لأنها منزل بعد عرفة ، أو لازدلاف آدم عليه الصلاة والسلام من عرفة إلى حواء وهي بها . وأراد عشاء الآخرة ، أو المغرب والعشاء { الْحَسَنَاتِ } الصلوات الخمس « ع » ، أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وهن الباقيات الصالحات ، أو الحسنات المقبولة تذهب السيئات المغفورة ، أو ثواب الطاعة يذهب عقاب المعصية . { ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } توبة للتائبين ، أو بيان للمتعظين .
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
{ أُتْرِفُواْ } انظروا « ع » { بَقِيَّةٍ } طاعة ، أو تمييز ، أو حظ من الله تعالى { الْفَسَادِ } الكفر أو الظلم .
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
{ أُمَّةً وَاحِدَةً } على الإسلام ، أو على دين واحد من ضلالة أو هدى ، { مُخْتَلِفِينَ } في الأديان .
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
{ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } من أهل الحق ، أو في الحق والباطل إلا من رحم بالطاعة ، أو في الرزق غني وفقير إلا من رحم بالقناعة ، أو في السعادة والشقاوة إلا من رحم بالتوفيق ، أو في المغفرة إلاَّ من رحم بالجنة ، أو يخلف بعضهم بعضاً يأتي قوم بعد قوم ، خلفوا واختلفوا كقتلوا واقتتلوا . { وَلِذَلِكَ } للاختلاف ، أو للرحمة ، أو للشقاوة والسعادة « ع » ، أو للجنة والنار .
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
{ فِى هَذِهِ } السورة « ع » ، أو في الدنيا ، أو الأنباء ، { الْحَقُّ } صدق الأنباء إذا كانت الإشارة للسورة ، أو النبوة إذا كانت الإشارة للدنيا .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
{ تِلْكَ ءَايَاتُ } هذه السورة ، أو السورة التي قبلها ، أو إشارة إلى ما افتتح به السورة من الحروف ، علامات { الْكِتَابِ } العربي { الْمُبِينِ } حلاله وحرامه ، أو هداه ورشده ، أو المبين للأحرف الساقطة من ألسنة الأعاجم وهي ستة قاله معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه .
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
{ أَنزَلْنَاهُ } خبر يوسف عليه الصلاة والسلام ، أو الكتاب عند الجمهور .
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
{ نَقُصُّ } نبين والقاص الذي يأتي بالقصة على حقيقتها .
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
{ رَأَيْتُ } رأى أبويه وإخوته ساجدين له فعبّر عنهم بالشمس والقمر والكواكب فالشمس أبوه والقمر أمه راحيل « ع » أو رأى الكواكب والشمس والقمر فتأولهم بإخوته والقمر بأُمه والشمس بأبيه عند الأكثرين ، أو الشمس أمه والقمر أبوه لتأنيثها وتذكير القمر ، { رَأَيْتُهُمْ } تأكيد { رَأَيْتُ } الأول لبعد ما بينهما ، أو رؤيته الأولى لهم والثانية لسجودهم ، { سَاجِدِينَ } كسجود الصلاة إعظاماً لا عبادة ، أو عبّر عن الخضوع بالسجود . وكانت رؤياه ليلة القدر في ليلة الجمعة ، فلما قصّها على يعقوب خاف عليه حسد إخوته ، فقال : هذه رؤيا ليل فلا تعمل عليها ، فلما خلا به قال : { لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ } [ يوسف : 5 ] ، وقيل كان عمره عند الرؤيا سبع عشرة سنة . ويوسف أعجمي عبراني ، أو عربي من الأسف لأنه حزن وأحزن .
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
{ يَجْتَبِيكَ } بالنبوة ، أو بحسن الخَلْق والخُلُق ، أو بترك الانتقام . { تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } عواقب الأمور ، أو عبارة الرؤيا ، أو العلم والحكمة . { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بالنبوة ، أو بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك { وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ } بأن يجعل فيهم البنوة { كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ } نعمته على إبراهيم بالنجاة من النار وعلى إسحاق بالنجاة من الذبح .
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
{ ءَايَاتٌ } عبر ، أو زواجر بما ظهر في يوسف من عواقب البغي عليه ، أو بصدق رؤياه وصحة تأويله ، أو بقهره شهوته حتى سلم من المعصية ، أو بحدوث الفرج بعد شدة الإياس ، قال ابن عطاء : ما سمع سورة يوسف محزون إلا استروح إليها .
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
{ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ } كانا أخوين للأبوين ثم ماتت أُمهما فكفلهما أبوهما وزاد لذلك في مراعاتهما فحسدوهما وكان عطفه على يوسف أكثر فلذلك كان حسده أكثر ثم اشتد بسبب رؤياه . { عُصْبَةٌ } العصبة ، الجماعة أو ستة أو سبعة ، أو من عشرة إلى خمسة عشر ، أو إلى أربعين . { ضَلالٍ مُّبِينٍ } محبة ظاهرة ، أو خطأ في رأيه ، أون جور في فعله لتفضيله الصغير على الكبير والقليل على الكثير ومن لا يراعي ماله على من يراعيه وكانوا حينئذ بالغين مؤمنين ليسوا بأنبياء لقولهم : { استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ } [ يوسف : 97 ] إلى { خَاطِئِينَ } [ يوسف : 97 ] أو لم يبلغوا لقولهم : { وَيَلْعَبْ } [ يوسف : 12 ] .
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
{ أَرْضاً } لتأكله السباع ، أو ليبعد عن أبيه ، { صَالِحِينَ } بالتوبة ، أو في دنياكم دون الدين .
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
{ قَآئِلٌ } شمعون ، أو يهوذا ، أو أكبرهم روبيل بن خالة يوسف { غَيَابَتِ الْجُبِّ } قعره ، أو ظلمته التي تغيب عن الأبصار . سمي غيابة لأنه يغيب فيه أثره ، أو خبره ، وكان رأسه ضيقاً وأسفله واسعاً . والجب بئر في بيت المقدس ، أو بئر غير معينة ، أو الجب ما عظم من الآبار سواء كان فيه ماء أو لم يكن ، أو ما لا طي له لأنها قطعت ولم يحدث فيها غير القطع قاله الزجاج . { يَلْتَقِطْهُ } يأخذه من اللقطة . { السَّيَّارَةِ } المسافرون لسيرهم ، أو مارة الطريق .
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
{ نَرتعْ } نلهو ونلعب ، أو نسعى وننشط ، أو نتحافظ ويلهو ، أو يرعى ويتصرف ، أو نطعم ونتنعم من الرتعة وهي سعة المطعم والمشرب . ولم ينكر أبوهم اللعب لأنهم أرادوا المباح منه .
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
{ وَأَخَافُ } خافهم عليه فكنى عنهم بالذئب « ع » ، أو خاف الذئب لغلبته في الصحارى .
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ } ألهمناه ، أو نَبَّأه في الجب { لَتُنَبِّئَنَّهُم } لتوبخنهم بفعلهم ، بشره بخلاصه من الجب ، أو أخبره بما صنعون به قبل إلقائهم أياه في الجب إنذاراً له . { لا يَشْعُرُونَ } بأنك أخوهم ، أو بأن الله تعالى أوحى إليه بالنبوة « ع » .
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
{ نَسْتَبِقُ } على الأقدام أو بالنضال ، أو في اقتناص الصيد ، أو في عملهم الذي تشاغلوا به من الرعي والاحتطاب . { صَادِقِينَ } وإن صَدَقْنا أو إن كنا أهل صدق لما صدقتنا .
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
{ بِدَمٍ } سخلة ، أو ظبية ، فلما رأى القميص غير مشقوق قال : يا بني والله ما عهدت الذئب حليماً أفأكل ابني وأبقى على قميصه { كَذِبٍ } وصفه بالمصدر ، وكان في القميص ثلاث آيات : حين جاءوا عليه بالدم ، وحين قُد ، وحين أُلقي على وجه أبيه . { سَوَّلَتْ } زينت ، أو أمرت « ع » ، قاله عن وحي ، أو عن علم تقدم له به ، أو عن حدس وفراسة { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } ومن الجميل أن أصبر ، أو أمر نفسه بصبر جميل لا جزع فيه ، أو لا شكوى فيه ، وسئل الرسول صلى الله عليه وسلم عنه فقال : « صبر لا شكوى فيه ، من بث فلم يصبر » { الْمُسْتَعَانُ } على الصبر الجميل ، أو على احتمال ما تصفون أو تكذبون ابتُلي يعقوب في كبره ويوسف في صغره .
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
{ فَأَدْلَىَ دَلْوَهُ } أرسلها ليملأها ، ودلاها أخرجها ملأى فلما أرسلها تعلق بها يوسف { بشراي } بشرهم بذلك ، أو نادى رجلاً اسمه { يَابُشْرَى } يعلمه بالغلام ، وألقي فيه وهو ابن سبع عشرة سنة ، أو ست سنين . وأخرجته السيارة بعد ثلاثة أيام { وَأَسَرُّوهُ } كان أخوته بقرب الجب فلما أخرج قالوا : هذا عبدنا أوثقناه فباعوه وأسروا بيعه بثمن جعلوه بضاعة لهم « ع » ، أو أسرَّ ابتياعه الذي وردوا الجب من أهل الرفقة لئلا يشركوهم وتواصوا أنها بضاعة استبضعناها من أهل الماء ، أو أسر مشتروه بيعه من الملك لئلا يعلم أصحابهم وذكروا أنه بضاعة .
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
{ وَشَرَوْهُ } باعه إخواته من السيارة « ع » ، أو السيارة من الملك . { بَخْسٍ } حرام لأنه ثمن حر « ع » ، أو ظلم ، أو قليل { مَعْدُودَةٍ } عشرين أقتسمها العشرة كل واحد درهمين « ع » ، أو اثنين وعشرين اقتسمها الأحد عشر لكل واحد درهمين ، أو أربعين درهماً : قال السدي : اشتروا بها خفافاً ونعالاً { مَعْدُودَةٍ } غير موزونة لزهدهم فيه ، أو كانوا لا يزنون أقل من أوقية وهي أربعون وكان ثمنه أقل منها . { وَكَانُواْ فِيهِ } إخوته زهدوا فيه لما صنعوا به ، أو السيارة لأنهم باعوه بما باعوا لعلمهم حريته ، أو ظنوه عبداً فخافوا أن يظهر عليهم مالكه فيأخذه ، قال عكرمة أُعتق يوسف لما بيع .
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
{ الَّذِى اشْتَرَاهُ } العزيز ملك مصر « أطيفر بن روجيب » . وامرأته « راعيل » ، أو اسمه « قطفير » وكان على خزائن مصر ، والملك حينئذ « الوليد بن الرياني » من العماليق « ع » ، وباعه مالك بن دعر بعشرين ديناراً وزاده الملك بَغْلَة ونعلين { أَكْرِمِى } أجملي منزله ، أو أحلي منزلته بطيب الطعام ولين المرقد واللباس . { يَنفَعَنَآ } بالربح في ثمنه ، أو نعتقه ونتبناه . قال ابن مسعود : أحسن الناس فراسة ثلاثة : العزيز وابنة شعيب وأبو بكر رضي الله تعالى عنه في استخلافه عمر رضي الله تعالى عنه { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأَرْضِ } بإخراجه من الجب ، أو باستخلاف الملك له { عَلَى أَمْرِهِ } أمر الله تعالى فيما أراده فيقول له كن فيكون ، أو أمر يوسف حتى يبلغ في مراده .
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
{ أَشُدَّهُ } أشد يوسف عشرون سنة ، أو ثلاثون سنة ، والأشد قوة الشباب وهو الحلم ، أو ثماني عشرة سنة « ع » ، أو خمس وعشرون أو ثلاثون ، أو ثلاث وثلاثون ، وآخر الأشد أربعون ، أو ستون { حُكْماً } على الناس ، أو عقلاً ، أو حكمة في أفعاله ، أو القرآن ، أو النبوة { وَعِلْماً } فقهاً ، أو نبوة { الْمُحْسِنِينَ } المطيعين ، أو المهتدين « ع » .
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
{ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا } « راعيل » امرأة العزيز « أطفير » أو زليخة وكان العزيز لا يأتي النساء . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : اقتسم يوسف وحواء الحسن نصفين . { وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ } بكثرة الأغلاق ، أو بشدة الاستيثاق { هَيْتَ لَكَ } هلم لك { هِئتُ لك } تهيأت لك ، و « هيت » قبطية « ع » ، أو سريانية ، أو عربية . { إِنَّهُ رَبَّى } الله { أَحْسَنَ مَثْوَاىَ } ، فلا أعصيه ، أو العزيز أو أطفير ربي سيدي أحسن مثواي فلا أخونه .
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
{ هَمَّتْ بِهِ } شهوة ، أو استلقت له وتهيأت لوقاعه { وَهَمَّ } بضربها ، أو التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها ، أو كان همه عظة ، أو كان همه حديث نفس من غير عزم ، أو همه ما في طباع الرجال من شهوة النساء وإن كان قاهراً له ، أو عزم على وقاعها فحل الهميان وهو السراويل وجلس منها مجلس الرجل من المرأة « ع » ، وجمهور المفسرين ، وابتلاء الأنبياء بالمعاصي ليكونوا على وجل ويجدُّوا في الطاعة ، أو ليعرفهم نعمته عليهم بالصفح والغفران ، أو ليقتدى بهم المذنبون في الخوف والرجاء عند التوبة . { بُرهَانَ رَبِّهِ } نودي أتزني فتكون كطائر وقع رشه فذهب يطير فلم يستطع ، أو رأى صورة أبيه يقول أتهم بفعل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء فخرجت شهوته من أنامله ، وولد لكل من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكراً إلا يوسف لم يولد له إلا غلامين ونقص بتلك الشهوة ولده ، أو رأى مكتوباً على الحائط { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] ، أو رأى أطفير سيده ، أو ما أتاه الله تعالى من العفاف والصيانة وترك الفساد والخيانة ، أو رأى ستراً فقال : ما وراء هذا فقالت : صنمي الذي أعبده سترته حياء منه فقال : إذا استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر فأنا أحق أن أستحي من إلهي وأتوقاه . { السُّوءَ } الشهوة { وَالْفَحْشَآءَ } المباشرة ، أو { السُّوءَ } الثناء القبيح { وَالْفَحْشَآءَ } الزنا . { الْمُخْلَصِينَ } للطاعة و { الْمُخْلَصِينَ } للرسالة .
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
{ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ } ليخرج منه هرباً وأسرعت إليه طلباً { وَقَدَّتْ } أدركته وقد فتح بعض الأغلاق فجذبته فشقت قميصه إلى ساقه فسقط عنه وتبعته . { وَالْفَيَا } وجدا { سَيِّدَهَا } زوجها بلسان القبط .
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
{ هِىَ رَاوَدَتْنِى } لما كذبت عليه دافع عن نفسه بالصدق ولو كفت عن كذبها لكف عن الصدق ، ولو خلص حبها من الشهوة لما كذبت عليه { شَاهِدٌ } صبي أنطقه الله تعالى في مهده ، أو خلق من خلق الله تعالى ليس بإنس ولا جن ، أو حكيم { مِّنْ أَهْلِهَآ } ابن عمها ، أو شهادة القميص المقدود لو كان مقدوداً من قُبُل لَدلَّ على الطلب لكنه قد من دُبُر فَدَلَّ على الهرب .
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
{ كَيْدِكُنَّ } كذبها ، أو إرادتها السوء ، قاله الزوج ، أو الشاهد .
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
{ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } الأمر تسلية له إذ لا إثم فيه ، أو عن هذا القول تصديقاً له في براءته قاله الزوج ، لأنه لم يكن غيوراً ، أو سلبه الله تعالى الغيره إبقاء على يوسف حفظاً له من بادرته ، وأمر زوجته بالإقلاع عن مثل ذلك بالاستغفار { الْخَاطِئِينَ } خَطِىء إذا قصد الذنب وأخطأ إذا لم يقصده وكذلك الصواب والصوب .
لعمرك أنما خطئي وصوبي ... عليَّ وإنما أهلكت مالي
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
{ نِسْوَةٌ } أربع ، امرأة الحاجب ، وامرأة الساقي ، وامرأة الخباز ، وامرأة القهرمان ، أو الخامسة امرأة السجان . { فِى الْمَدِينَة } مصر ، أو عين شمس { تُرَاوِدُ فَتَاهَا } بَرَّأْن يوسف وذممنها وطعنَّ فيها { شَغَفَهَا } ولج حبه شغاف قلبها وهو حجابه ، أو غلافه : جلدة رقيقة بيضاء تكون عليه وتسمى لباس القلب ، أو باطن القلب ، أو حبته ، أو داء يكون في الجوف ، أو الذعر والفزع الحادث عن شدة الحب ، والشغف : الحب القاتل والشعف دونه « ع » ، أو الشغف الجنون والشعف الحب { ضَلالٍ } عن الرشد ، أو محبة شديدة .
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
{ بِمَكْرِهِنَّ } إنكارهن ، أو أسرَّت إليهن حبها له فَأَذعْنه ، { وَأَعْتَدَتْ } من الإعتاد ، أو العدوان { مُتَّكَئاً } مجلساً ، أو النمارق والوسائد التي يتكأ عليها ، أو الطعام من قولهم : اتكأنا عند فلان أي طعمنا عنده لأنهم كانوا يعدون المتكأ للمدعو إلى الطعام فسمي به الطعام توسعاً والمراد به هنا البزماورد ، أو الأترج « ع » « والمتك » مجفف الأترج ، أو كل ما يحز بالسكين ، أو عام في كل الطعام . { أَكْبَرْنَهُ } أعظمنه « ع » ، أو وجدن شبابه في الحسن والجمال كبيراً ، أو حِضْنَ ، والمرأة إذا جزعت أو خارت حاضت والإكبار الحيض ، قال :
نأتي النساء على أطهارهن ولا ... نأتي النساء إذا أكبرن إكباراً
{ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ } حتى بانت ، أو جرحنها حتى دميت . { حَاشَ لِلَّهِ } معاذ الله أو سبحان الله . مأخوذ من المراقبة ، ما أحاشي في هذا الأمر أحداً أني ما أراقبه ، أو من قولهم : كنت في حشا فلان أي ناحيته ، فحاشى فلاناً أي أعزله في حشا وهو الناحية { بَشَراً } أهل للمباشرة ، أو من جملة البشر لما علمن من عفته إذ لو كان بشراً لأطاعها ، أو شبهنه بالملائكة حسناً وجمالاً { كَرِيمٌ } مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة .
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
{ أَصْبُ } أتابع ، أو أميل ، قال :
إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبى
{ الأَيَاتِ } قدِّ القميص وقطع الأيدي ، أو ما ظهر من عفته وجماله { حِينٍ } هنا ستة أشهر ، أو سبع سنين ، أو زمان غير محدود ، قالت لزوجها : قد فضحني هذا العبد العبراني ، وقال : إني راودته عن نفسي فإما أن تطلقني حتى أعتذر وإما أن تحبسه كما حبستني فحبسه .
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
{ الأَيَاتِ } قدِّ القميص وقطع الأيدي ، أو ما ظهر من عفته وجماله { حِينٍ } هنا ستة أشهر ، أو سبع سنين ، أو زمان غير محدود ، قالت لزوجها : قد فضحني هذا العبد العبراني ، وقال : إني راودته عن نفسي فإما أن تطلقني حتى أعتذر وإما أن تحبسه كما حبستني فحبسه .
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
{ فَتَيَانِ } عبدان والعبد يسمى فتى صغيراً كان أو كبيراً ، كان أحدهما على طعام الملك الأكبر « الوليد بن الريان » والآخر ساقية فاتُّهما بسمه ، فلما دخلا معه سألاه عن علمه فقال : عابر ، فسألاه عن رؤياهما صدقاً منهما ، أو كذباً ليجربا علمه فلما أجابهما قالا : كنا نلعب فقال : { قُضِيَ الأمر } الآية [ يوسف : 41 ] ، أو كان المصلوب كاذباً والآخر صادقاً . { خَمْراً } عنباً سماه بما يؤول إليه ، أو أهل عمان يسمون العنب خمراً . { الْمُحْسِنِينَ } قالوه لأنه كان يعود مريضهم ويعزي حزينهم ويوسع على من ضاق مكانه منهم ، أو كان يأمرهم بالصبر ويعدهم بالأجر ، أو كان لا يرد عذر معتذر ويقضي حق غيره ولا يقضي حق نفسه ، أو ممن أحسن العلم ، أو نراك من المحسنين إن نبأتنا بتأويل هذه الرؤيا .
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
{ تُرْزَقَانِهِ } لا يأتيكما في النوم إلا نبأتكما بتأويله في اليقظة قبل إتيانه ، أو لا يأتيكما في اليقظة إلا أخبرتكما به لأنه كان يخبر عن الغيب كعيسى ، أو كان الملك إذا أراد قتل إنسان أرسل إليه طعاماً معروفاً فكره يوسف تعبيرها لئلا يحزنه فوعده بتأويلها عند وصول الطعام إليه فلما ألح عليه عبّرها له ، قاله ابن جريج { ذَلِكُمَا } تأويل الرؤيا ، وعدل عن العبارة إلى قوله : { تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ } لما مكان في عبارتها من الكراهة ، ورغبهما في طاعة الله تعالى .
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
{ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا } بالنبوة { وَعَلَى النَّاسِ } بأن بعثنا إليهم « ع » .
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
{ الْقَيِّمُ } المستقيم ، أو الحساب البَيَّن ، أو القضاء الحق « ع » .
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
{ قَُضِىَ الأَمْرُ } السؤال والجواب . أو استقصى التأويل ، ويجوز أن يكون قوله ذلك عن وحي .
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
{ ظَنَّ } تيقن ، أو على بابه لأن عبارة الرؤيا ظن فلم يقطع بها ، أو لم يقطع بصدقها فكان ظنه لشكه في صدقهما { رَبٍّكَ } سيدك « الوليد بن الريان » رجاء للخلاص بذكره عنده { فَأَنسَاهُ } الضمير للساقي نسي ذكر يوسف عند ربه ، سيده ، أو ليوسف نسي ذكر الله تعالى بالاستغاثة به ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قال اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ما لبث » قال « ع » : عوقب بطول السجن بضع سنين بكلمته ولو ذكر ربه لخلصه . وكانت مدة لبثه في السجن سبع سنين ، أو ثنتي عشرة سنة ، أو أربع عشرة سنة ، والبضع منها مدة عقوبته على الكلمة لا مدة الحبس كله ، قبل لبث سبعاً عقوبة بعد الخمس . والبضع من ثلاث إلى سبع ، أو تسع ، أو عشر « ع » ، أو إلى الخمس حكاه الزجاج ، ولا يذكر البضع إلا مع العشر أو العشرين إلى التسعين ولا يذكر بعد المائة ، قاله الفراء ، ورأى الملك الأكبر الوليد رؤياه لطفاً بيوسف ليخرج من السجن ونذيراً بالجدب ليتأهبوا له .
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
{ أَضْغَاثُ } أخلاط ، أو ألوان ، أو أهاويل ، أو أكاذيب ، أو شبهة أحلام ، أبو عبيدة : الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا ، قال :
كضِغث حُلم غُرَّ منه حالِمه ... والضِغث حزمة الحشيش المجموع بعضه إلى بعض ، وقيل ما ملأ الكف . والأحلام في النوم مأخوذة من الحِلْم وهو الأناة والسكون ، لأن النوم حال أناةٍ وسكون ، ويجوز أن يكونوا صرفوا عن عبارتها لطفاً بيوسف ليكون سبباً في خلاصه .
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
{ أُمَّةٍ } حين « ع » ، أو نسيان . أو أمة من الناس ، قال الحسن رضي الله تعالى عنه ألقوه في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة ، وعاش بعد جمع شمله ثلاثاً وعشرين سنة . { فَأَرْسِلُونِ } لم يكن السجن في المدينة فانطلق إليه وذلك بعد أربع سنين من فراقه .
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
{ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ } بقر الخصب سمان وسنابله خضر ، وبقر الجدب عجاف وسنابلها يابسات فعبّر ذلك بالسنين . { النَّاسِ } الملك وقومه ، ويحتمل أنه عبّر بالناس عن الملك تعظيماً له .
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
{ دَأَباً } تباعاً ، أو العادة المألوفة في الزراعة . { تَزْرَعُونَ } خبر أو أمر لأنه نبي يأمر بالمصالح . { فَذَرُوهُ } أمر لأن ما في السنبل مدخر لا يؤكل .
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
{ شِدَادٌ } على أهلها لجدبها ، كان يوسف يضع طعام اثنين فيقربه إلى رجل فيأكل نصفه ويدع نصفاً ، فقربه إليه يوماً فأكله كله فقال يوسف هذا أول يوم من السبع الشداد ، { قَدَّمْتُمْ } ادخرتم لهن . { تُحْصِنُونَ } تدخرون ، أو تخزنون في الحصون .
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
{ يُغَاثُ النَّاسُ } بنزول الغيب « ع » ، أو بالخصب { يَعْصِرُونَ } العنب والزيتون من خصب الثمار ، أو يحلبون الماشية من خصب المرعى ، أو يعصرون السحاب بنزول الغيث وكثرة المطر { مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً } [ النبأ : 14 ] أو ينجون من العصرة وهي النجاة ، قاله أبو عبيدة والزجاج ، أو يحبسون ويفضلون . وليس هذا من تأويل الرؤيا وإنما هو خبر أطلعه الله تعالى عليه علماً لنبوته .
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
{ ارْجِعْ إِلَىَ رَبِّكَ } توقف عن الخروج لئلا يراه الملك خائناً ولا مذنباً . قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « رحم الله يوسف أن كان ذا أناة لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إليَّ لخرجت سريعاً » { مَا بَالُ النِّسْوَةِ } سأل عنهن دونها إرادة أن لا يبتذلها بالذكر ، أو لأنهن شاهدات عليه . { إِنَّ رَبِّى } الله تعالى أو سيده العزيز .
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
{ رَاوَدتُّنَّ } راودنه على طاعتها فيما طلبت منه ، أو راودته وحدها فجمعهن احتشاماً . { مَا عَلِمْنَا } شهدن على نفي علمهن لأنه نفى { حَصْحَصَ الْحَقُّ } وضح وبان « ع » ، وفيه زيادة تضعيف مثل كبو وكبكبوا قاله الزجاج ، مأخوذ من حص شعره إذا استأصل قطعه ، والحصة من الأرض قطعة منها ، فحصحص الحق انقطع عن الباطل بظهوره وبيانه . { أَنَاْ رَاوَدتُّهُ } برأة الله تعالى عند الملك بشهادة النسوة وبإقرار امرأة العزيز واعترافها بذلك توبة بما قرفته به .
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
{ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ } يوسف أني لم أكذب عليه الآن في غيبته .
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
{ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى } لأن راودته ، لأن النفس باعثة على السوء إذا غلبت الشهوة ، قالته امرأة العزيز ، أو قال يوسف بعد ظهور صدقه { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ } العزيز أني لم أخنه في زوجته ، فقالت امرأة العزيز : ولا حين حللت السراويل ، فقال : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى } ، أو غمزه جبريل عليه السلام فقال : ولا حين هممت ، فقال : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى } « ع » أو قال الملك الذي مع يوسف : اذكر ما هممت به ، فقال : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى } قاله الحسن رضي الله تعالى عنه ، أو قال العزيز { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ } يوسف { أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } وأغفل عن مجازاته على أمانته { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى } من سوء الظن به .
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
{ أَسْتَخْلِصْهُ } لما علم الملك الأكبر أمانته طلب استخدامه في خاص خدمته { مَكِينٌ } وجيه ، أو متمكن في الرفعة والمنزلة { أَمِينٌ } آمن لا يخاف العواقب ، أو ثقة مأمون ، أو حافظ { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } استدل بكلامه على عقله ، وبعفته على أمانته .
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
{ خَزَآئِنِ } الأموال ، أو الطعام ، أو الخزائن : الرجال ، لأن الأقوال والأفعال مخزونة فيهم ، وهذا تعمق مخالف للظاهر ، وهذا مجوز لطلب الولاية لمن هو أهل لها ، فإن كان المولى ظالماً جاز تقلد الولاية منهم إذا عمل الوالي بالحق لأن يوسف قبل من فرعون ، أو لا يجوز ذلك لما فيه من تولي الظالمين ومعونتهم بالتزكية وتنفيذ أعمالهم ، وإنما قبل يوسف من الملك ولاية ملكه الخاص به ، أو كان فرعون يوسف صالحاً وكان فرعون موسى طاغياً ، والأصح أن ما جاز لأهله توليه من غير اجتهاد في تنفيذه جازت ولايته من الظالم كالزكوات المنصوصة ، وما لا يجوز أن ينفردوا به كأموال الفيء لا يجوز توليه من الظالم ، وما يجوز أن يتولاه أهله وللاجتهاد فيه مدخل كالقضاء فإن كان حكماً بين متراضيين أو توسطا بين مجبورين جاز ، وإن كان إلزام إجبار لم يجز . { حَفِيظٌ } لما استودعتني . { عَلِيمٌ } بما وليتني ، أو { حَفِيظٌ } بالكتاب ، { عَلِيمٌ } بالحساب ، وهو أول من كتب في القراطيس ، أو { حَفِيظٌ } للحساب { عَلِيمٌ } بالألسن أو { حَفِيظٌ } بما وليتني ، { عَلِيمٌ } بسني المجاعة ، فيه دليل على جواز تزكية النفس عند حاجة تدعو إلى ذلك .
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } استخلفه الوليد على عمل أطيفر وعزله ، قال مجاهد : وأسلم على يده ، قال « ع » : ملك بعد سنة ونصف . ثم مات أطيفر فزوجه الملك بامرأته راعيل فوجدها يوسف عذراء ، وولدت له ولدين ، أفرائيم وميشا ، ومن زعم أنها زليخا قال لم يتزوجها يوسف ، ولما رأته في موكبه بكت ثم قالت الحمد لله الذي جعل الملوك بالمعصية عبيداً والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكاً فضمها إليه فكانت من عياله حتى ماتت ولم يتزوجها . { يَتَبَوَّأُ } يتخذ من أرض مصر منزلاً حيث شاء ، أو يصنع في الدنيا ما يشاء لتفويض الأمر إليه . { بِرَحْمَتِنَا } نعمة الدنيا ، { وَلا نُضِيعُ } ثواب { الْمُحْسِنِينَ } في الآخرة ، أو كلاهما في الدنيا ، أو كلاهما في الآخرة ، ونال يوسف ذلك ثواباً على بلواه ، أو تفضلاً من الله تعالى وثوابه باقٍ في الآخرة بحاله .
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
{ وَلأَجْرُ الأَخِرَةِ خَيْرٌ } من أجر الدنيا لأنه دائم وأجر الدنيا منقطع ، أو خير ليوسف من التشاغل بملك الدنيا لما فيه من التبعة .
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
{ فَعَرَفَهُمْ } من غير تعريف ، أو ما عرفهم حتى تعرفوا إليه ، أو عرفهم بلسانهم العبراني ، قال « ع » : لما عبر أبوهم بهم فلسطين فنزل وراء النهر سموا عبرانيين . وجاءوا ليمتاروا في سني القحط التي ذكرها يوسف في عبارته فدخلوا عليه لأنه كان يتولى بيع الطعام لعزته . { مُنكِرُونَ } لانهم فارقوه صغيراً فكبر ، وفقيراً فاستغنى ، وباعوه عبداً فصار ملكاً .
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
{ بِجَهَازِهِم } كال لكل واحد منهم بعيراً بعدتهم . { ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ } خلا بهم وقال قد ارتبت بكم وأخشى أن تكونوا عيوناً فأخبروني من أنتم؟ فذكروا حالهم وحال أبيهم وأخوتهم يوسف وبنيامين ، فقال : أئتوني بهذا الأخ يظهر أنه يستبرىء بذلك أحوالهم ، أو ذكروا له أنه أحب إلى أبيهم منهم فأظهر لهم محبة رؤيته { الْمُنزِلِينَ } المضيفين من النزل وهو الطعام ، أو خير من نزلتم عليه من المنزل وهو الدار ، وطلب منهم رهينة حتى يرجعوا فرهنوا شمعون ، واختاره لأنه كان يوم الجب أجملهم قولاً ورأياً .
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
{ سَنُرَاوِدُ } المراودة : الاجتهاد في الطلب مأخوذ من الإرادة { لَفَاعِلُونَ } العود بأخيهم ، أو المراودة وطلب أخاه وإن كان فيه إحزان أبيه لجواز أن يكون أمر بذلك ابتلاء ومحنة أو لتتضاعف له المسرة برجوع الابنين ، أو ليتنبه أبوه على حاله ، أو ليقدم سرور أخيه بلقائه قبل إخوته لميله إليه .
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
{ لفتيته } الذين كالوا الطعام ، أو غلمانه { بِضَاعَتَهُمْ } الورق التي اشتروا بها الطعام ، أو ثمانية جُرُب فيها سويق المقل .
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
{ رَجَعُواْ إِلَى أَبِيهِمْ } بالعربات من فلسطين ، أو بالأولاج من ناحية الشعب أسفل من [ حِسمى ] ، وكانوا بادية أهل إبل وشاء { مُنِعَ } سيمنع { نَكْتَلْ } أي إن أرسلته أمكننا أن نعود فنكتال .
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
{ هَلْ ءَامَنُكُمْ } لما ضمنوا حفظ يوسف وأضاعوه قال لهم ذلك في حق أخيه .
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
{ مَا نَبْغِى } استفهام أي ما نبغي بعد هذا الذي عاملنا به أو ما نبغي بالكذب فيما أخبرناك به عن الملك . { كَيْلَ بَعِيرٍ } الذي نحمل عليه أخانا ، أو كان يوسف قَسَّط الطعام فلا يعطي لأحد أكثر من بعير { يَسِيرٌ } لا يقنعنا ، أو يسير على من يكتله لنا .
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
{ مَوْثِقاً } إشهادهم الله على أنفسهم ، أو حلفهم بالله ، أو كفيل يكفل { يُحَاطََ بِكُمْ } يهلك جميعكم ، أو تغلبوا على أمركم .
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
{ لا تَدْخُلُواْ } مصر من باب من أبوابها عند الجمهور ، أو عبّر عن الطريق بالباب فأراد طريقاً من طرقها خشي عليهم العين لجمالهم ، « ع » ، أو خاف عليهم الملك أن يرى عددهم وقوتهم فيبطش بهم حسداً . { وَمَآ أُغْنِى عَنكُم } من شيء أحذره أشار بالرأي أولاً ، وفوض إلى الله أخيراً .
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
{ حَاجَةً } سكون نفسه بالوصية لحذره العين { لَذُو عِلْمٍ } متيقن وعدنا ، أو حافظ لوصيتنا ، أو عامل بما علم .
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
{ أَنَاْ أَخُوكَ } مكان أخيك الهالك ، أو أخوك يوسف { فَلا تَبْتَئِسْ } لا تحزن ، أو لا تأيس . { يَعْمَلُونَ } بك وبأخيك فيما مضى ، أو باستبدادهم دونك بمال أبيك .
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
{ بِجَهَازِهِمْ } الطعام وحمل البعير لأخيهم { السِّقَايَةَ } والصواع واحد « ع » ، وكل شيء يشرب فيه فهو صواع ، قال :
نشرب الخمر بالصواع جهارا ... وترى المتك بيننا مستعارا
وكان إناء الملك الذي يشرب فيه من فضة ، أو ذهب ، كال به طعامهم مبالغة في إكرامهم ، أو هو المكوك العادي الذي تلتقي طرفاه . { أَذَّنَ } نادى مناد { الْعِيرُ } الرفقة ، أو الإبل المرحولة المركوبة . { لَسَارِقُونَ } جَعْلُ السقاية في رحل أخيه عصيان ، فعله الكيّال ولم يأمر به يوسف ، أو فعله يوسف فلما فقد الكيال السقاية ظن أنهم سرقوها فقال : { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ، أو كانت خطيئة ليوسف جوزي عليه بقولهم : { إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ } [ يوسف : 77 ] أو كان النداء بأمر يوسف وعني بالسرقة سرقتهم ليوسف من أبيه وذلك صدق ، لأنهم كالسارق لخيانتهم لأبيهم .
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
{ صُوَاعَ } الصواع والصاع واحد ، وكانت مشربة للملك أو كالمكوك يكال به . { بَعِيرٍ } جمل عند الجمهور ، أو حمار في لغة . بذله المنادي عن نفسه لقوله : { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } ، أو بذله عن الملك من الطعام الملك ويجوز أن يكون الحمل معلوماً عندهم كالوسق فيكون جعلاً معلوماً ، ويمكن أن يكون مجهولاً .
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
{ لَقَدْ عَلِمْتُم } ذكروا ذلك لأنهم عرفوا أمانتهم بردهم البضاعة التي وجدوها في رحالهم { لِنُفْسِدَ } لنسرق .
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
{ جَزَآؤُهُ } جزاء من سرق أن يسترق كذلك يُجزى السارق بالاسترقاق ، كان هذا دين يعقوب .
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
{ اسْتَخْرَجَهَا } الضمير للسرقة ، أو للسقاية ، أو الصاع يذكر ويؤنث قاله الزجاج { كِدْنَا } صنعنا ، أو دبرنا ، أو أردنا .
كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
{ دِينِ الْمَلِكِ } سلطانه « ع » ، أو قضاؤه ، أو عادته ، كان الملك يضاعف غرم السارق ولا يسترقه . { إلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } أن يسترق السارق ، أو أن يجعل ليوسف عذراً فيما فعل . { دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } بالتقوى ، أو بإجابة الدعاء ، أو بمكابدة النفس وقهر الشهوة ، أو بالتوفيق والعصمة ، أو بالعمل { وَفَوْقَ كُلِّ } عالم من هو أعلم منه حتى ينتهي إلى الله تعالى فيوسف أعلم من إخوته وفوقه من هو أعلم منه ، أو أراد تعظيم العلم أن يحاط به ، أو أن يستصغر العالم نفسه ولا يعجب بعلمه وعرض أخاه لتهمة السرقة إذ لم يجد سبيلاً إلى أخذه إلا بها ، أو كان أخوه يعلم الحال فلم يقع منه موقعاً ، أو أشار بذلك إلى سرقة تقدمت منهم ، أو نبه بجعل بضاعتهم في رحالهم على المخرج من جعل الصواع في رحل أخيهم فتزول بذلك التهمة .
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
{ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ } كلمة أجراها الله على ألسنتهم عقوبة ليوسف ، أو أرادوا أنه جذبه عرق أخيه يوسف في السرقة لأنه كان من أبويه ، والاشتراك في النسب يوجب الاشتراك في الأخلاق ، وكان يوسف سرق صنماً لجده أبي أمه فكسره وألقاه في الطريق . أو كان مع إخوته على طعام فأخذ عرقاً فخبأه فعيّروه بذلك ، أو كان يسرق من طعام المائدة للمساكين ، أو كذبوا عليه في ذلك ، أو كانت منطقة إسحاق للكبير من ولده وكانت عند عمة يوسف لأنها الكبرى فلما أراد يعقوب أخذ يوسف من كفالتها جعلت المنطقة في ثوبه ثم أظهرت ضياعها واتهمته بها فصارت في حكمهم أحق به ، وفعلت ذلك لشدة ميلها إليه . { فَأَسَرَّهَا } قولهم : { إِن يَسْرِقْ } ، أو قوله : { أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } « ع » { شَرٌّ مَّكَاناً } بظلم أخيكم . وعقوق أبيكم ، أو شر منزلة عند الله ممن نسبتموه إلى هذه السرقة . { تَصِفُونَ } تقولون ، أو تكذبون .
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
{ شَيْخاً كَبِيراً } في السن ، أو القدر . { مَكَانَهُ } عبداً بدله { مِنَ الْمُحْسِنِينَ } في هذا إن فعلته ، أو بإكرامنا وتوفية كيلنا ورد بضاعتنا .
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
{ لَّظَالِمُونَ } إن أخذنا بريئاً بسقيم ، أو حكمنا عليكم بغير حكم أبيكم في إرقاق السارق .
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
{ اسْتَيْئَسُواْ } من رد أخيهم عليهم ، أو تيقنوا أنه لا يرد { خَلَصُواْ نَجِيّاً } انفردوا يتناجون ويتشاورون لا يختلط بهم غيرهم { كَبِيرُهُمْ } في العقل والعلم شمعون الذي ارتهنه يوسف لما رجعوا إلى إبيهم ، أو في السن روبين ابن خالة يوسف ، أو في الرأي والتمييز يهوذا . { مَّوْثِقاً } عند أنفاذ ابنه معكم { فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ } ضيعتموه { فَلَنْ أَبْرَحَ } أرض مصر حتى يأذن لي أبي بالرجوع ، أو يحكم الله لي بالخروج منها عند الجمهور ، أو بالسيف والمحاربة لأنهم هموا بذلك .
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
{ وَمَا شَهِدْنَآ } بأن السارق يسترق إلا بما علمنا ، أون ما شهدنا عندك بسرقته إلا بما علمنا من وجود السرقة في رحله { لِلْغَيْبِ } من سرقته ، أو استرقاقه .
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
{ الْقَرْيَةَ } مصر سل أهلها ، أو سلها نفسها لتنطق وإن كانت جماداً { وَالْعِيرَ } القافلة وتسمى بها الإبل تشبيهاً ، أو الحمير سل أهلها أو سلها فإن الله تعالى ينطقها معجزة لك .
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
{ سَوَّلَتْ } زينت ، أو سهلت . { أمْرًا } قولكم إنه سرق . { بِهِمْ جَمِيعاً } يوسف وبنيامين والأخ المتخلف بمصر .
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
{ يَآأَسَفَى } يا حزناً « ع » ، أو يا جزعاً شكا إلى الله ولم يشك منه ، أو أضمر الدعاء تقديره « يا رب أرحم أسفي » { وَابْيَضَّتْ } ضعف بصره لبياض حصل فيه من كثرة بكائه ، أو ذهب بصره { كَظِيمٌ } بالكمد ، أو مخفي حزنه ، كظم غيظه : أخفاه .
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
{ تَفْتَؤُاْ } لا تزال { حَرَضاً } هرماً أو دنفاً من المرض وهو ما دون الموت « ع » ، أو فاسد العقل ، وأصل الحرض فساد الجسم والعقل بمرض أو عشق ، قال :
إني امرؤ لج بي حب فأحرضني ... حتى بليت وحتى شفني السقم
{ الْهَالِكِينَ } الميتين اتفاقاً .
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
{ بَثِّى } همي « ع » ، أو حاجتي ، والبث تفريق لهم بإظهار ما في النفس { مَا لا تَعْلَمُونَ } صدق رؤيا يوسف وأني أسجد له ، أو أحست نفسه لما أخبروه بدعاء الملك وقال : لعله يوسف ، وقال : لا يكون في الأرض صديق إلا نبي . دخل على يعقوب رجل فقال ما بلغ بك ما أرى ، قال : طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب تشكوني فقال : خطيئة أخطأتها فاغفرها لي ، فكان بعد ذلك يقول إنما أشكو بثي وحزني إلى الله .
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
{ فَتَحَسَّسُواْ } استعلموا وتعرفوا ، أخذ من طلب الشيءَ بالحس { رَّوْحِ اللَّهِ } فرجه ، أو رحمته من الريح التي تأتي بالنفع . أمرهم بذلك ، لأنه تنبه على يوسف برد البضاعة واحتباس أخيه وإظهار الكرامة ، وسأل يعقوب ملك الموت هل قبضت روح يوسف قال : لا .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
{ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ } استعطفوه ليرد أخاهم ، أو ليوفي كيلهم ويحابيهم . { الْعَزِيزُ } الملك ، أو كان اسماً لكل من ملك مصر . { بِبِضَاعَةٍ } صوف وسمن أو حبة الخضراء والصنوبر ، أو خَلِق الحبل والغِرارة ، أو دراهم { مُّزْجَاةٍ } رديئة ، أو كاسدة ، أو قليلة ، وأصل الإزجاء السوق بالدفع ، { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ } الذي قد كان كاله لأخيهم ، أو مثل الكيل الأول ، لا ، بضاعتهم الثانية أقل . { وَتَصَدَّقْ } تفضل بما بين سعر الجياد والرديئة ، لأن الصدقة محرمة على الأنبياء ، أو تصدق بالزيادة على حقنا ولا تحرم الصدقة إلا على محمد وآله لا غير ، أو برد أخينا ، أو تجوز عنا . وكره مجاهد أن يقال في الدعاء : اللهم تصدق عليَّ ، لأن الصدقة لمن يبتغي الثواب .
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
{ هَلْ عَلِمْتُم } قد علمتم ك { هَلْ أتى } [ الإنسان : 1 ] لما قالوا مسنا وأهلنا الضر رق لهم فقال : { هَلْ عَلِمْتُم } { جَاهِلُونَ } جهل الصغر ، أو جهل المعاصي .
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
{ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } بالسلامة ثم بالكرامة { مَن يَتَّقِ } الزنا { وَيَصْبِرْ } على الغربة ، أو يتقي الله ويصبر على بلائه . { لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } في الدنيا أو الآخرة .
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
{ ءَاثَرَكَ } فضلك ، من الإيثار : وهو إرادة تفضيل أحد النفسين على الآخر ، وإنما قالوا : { لَخَاطِئِينَ } وإن كانوا إذ ذاك صغاراً لأنهم خطئوا بعد البلوغ بإخفاء صنعهم .
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
{ لا تَثْرِيبَ } لا تعيير ، أو لا تأنيب . أو [ لا ] إباء عليكم في قبولكم .
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
{ بَصِيراً } من العمى ولولا أن الله أعلمه بأنه يبصر بعد العمى لم يعلم يوسف أنه يرجع إليه بصره ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه أو مستبصراً بأمري لأنه إذا شم القميص عرفني قال أخوه يهوذا : أنا حملت إلى أبيك قميصك بدم كذب فأحزنته فأنا أحمل القميص الآن لأسره ويعود إليه بصره فحمله . { بِأَهْلِكُمْ } ليتخذوا مصر داراً .
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
{ فَصَلَتِ } خرجت من مصر إلى الشام . قال : أبوهم لأولاد بنيه لأن بنيه كانوا غُيَّبا { تُفَنِّدُونِ } تسفهون « ع ، أو تكذبون ، وجد ريح القميص من مسافة عشرة أيام ، أو ثمانية أيام » ع « ، أو ستة أيام .
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
{ ضَلالِكَ } خطئك ، أو جنونك قال الحسن رضي الله تعالى عنه : وهذا عقوق . أو في محبتك .
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
{ الْبَشِيرُ } يهوذا ، سمي بذلك لأنه جاءه ببشارة ، { بَصِيراً } من العمى ، أو بخبر يوسف { مَا لا تَعْلَمُونَ } من صحة رؤيا يوسف ، أو قول ملك الموت ما قبضت روحه ، أو من بلوى الأنبياء بالمحن ونزول الفرج ونيل الثواب .
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
{ اسْتَغْفِرْ } طلبوا أن يحللهم لما أدخلوا عليه من آلام الحزن ، أو لأنه نبي تجاب دعوته ، أقام يعقوب وبنوه عشرين سنة يطلبون التوبة لإخوة يوسف فيما فعلوه بيوسف لا يقبل ذلك منهم حتى لقي جبريل عليه السلام يعقوب عليه الصلاة والسلام فعلمه هذا الدعاء ، يا رجاء المؤمنين لا تخيب رجائي ، ويا غوث المؤمنين أغثني ، ويا عون المؤمنين أعني ، ويا حبيب التوابين تُب علي . فاستُجيب له .
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
{ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ } أخره إلى صلاة الليل ، أو السَّحَر أو ليلة الجمعة « ع » مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو دافعهم بالتأخير ، قال عطاء : طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ ألا ترى قول يوسف { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم } الآية [ يوسف : 92 ] وقول يعقوب { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ } .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ } خرج يوسف وأهله والملك الأكبر واستقبلوا يعقوب على يوم من مصر فقال لهم : ادخلوا مصر آمنين من فرعون ، أو من الجدب والقحط . أو لم يجتمعوا به إلا بعد دخولهم عليه بمصر فقوله : ادخلوا أي استوطنوا مصر إن شاء الله استيطانكم ، أو الاستثناء متعلق بقوله : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى } دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون ما بين رجل وامرأة ، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة وتسعون ألفاً [ أ ] و دخلوا وهم اثنان وسبعون ، وخرجوا منها مع موسى وهم ستمائة ألف .
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
{ أَبَوَيْهِ } أبوه وأمه ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه وابن إسحاق ، أو أبوه وخالته وكانت أمه قد ماتت في نفاسها بأخيه بنيامين { الْعَرْشِ } السرير . { سُجَّداً } سجدوا له بأمر الله تعالى تحقيقاً لرؤياه ، أو كان السجود تحية من قبلنا وأعطيت هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة { تَأْوِيلُ رُءْيَاىَ } كان بين رؤياه وتأويلها ثمانون سنة ، أو أربعون ، أو ستة وثلاثون ، أو اثنان وعشرون ، أو ثماني عشر ، ورؤيا الأنبياء لا تكون إلا صادقة ، وإنما أمره يعقوب بكتامنها لأنه رآها صغيراً فلم تكن كرؤيا الأنبياء ، أو خاف طول المدة مع مكابدة البلوى وخشي تعجيل الأذى بكيد الإخوة { مِنَ السِّجْنِ } شكر على الإخراج من السجن ولم يذكر الجب لئلا يكون معرضاً بتوبيخ إخوته بعد قوله : { لا تَثْرِيبَ } أو لأنه ما تخوفه في السجن من المعرة لم يكن في الجب فكانت النعمة فيه أتم ، أو لأنه انتقل من بلوى السجن إلى نعمة الملك بخلاف الجب فإنه انتقل منه إلى الرق . { مِّنَ الْبَدْوِ } كانوا بادية بأرض كنعان أهل مواشي أو جاءوا في البادية وكانوا أهل مدن بفلسطين ، أو ناحية حران من أهل الجزيرة قاله الحسن رضي الله تعالى عنه { نَّزَغَ } حرش وأفسد . { لَطِيفٌ } لطف بيوسف بإخراجه من السجن ومجيء أهله من البدو ، ونزع عن قلبه نزغ الشيطان
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
{ مِنَ الْمُلْكِ } لأنه كان على مصر من قِبَل فرعون . { تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } عبار الرؤيا ، أو الإخبار عن حوادث الزمان { مُسْلِماً } مخلصاً للطاعة ، أو على ملة الإسلام ، قال السدي : « كان أول نبي تمنى الموت » ولما لقي البشير يعقوب قال : على أي دين خلفت يوسف قال على الإسلام قال الآن تمت النعمة . { بِالصَّالِحِينَ } أهل الجنة .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
{ ذَلِكَ } قصة يوسف وإخوته من أخبار الغيب { لَدَيْهِمْ } مع إخوة يوسف { إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ } في إلقائه في الجب .
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
{ مُّشْرِكُونَ } يقولون : الله ربنا وآلهتنا ترزقنا ، أو المنافق يؤمن بظاهره ويكفر بباطنه « ح » ، أو قول الرجل لولا الله وفلان لهلك فلان .
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
{ سَبِيلِى } دعوتي ، أو سنتي { بَصِيرَةٍ } هدى ، أو حق .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
{ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى } الأمصار دون البوادي لأنهم أعلم وأحكم . ولم يبعث الله تعالى نبياً من البادية قط ولا من النساء ولا من الجن « ح » .
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
{ اسْتَيْئَسَ } من تصديق قومهم « ع » ، أو من تعذيبهم « م » . { وَظَنُّواْ } ظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم « ع » ، أو تيقن الرسل أن قومهم قد كَذَبوهم { جَآءَهُمْ نَصْرُنَا } جاء الرسل نصر الله ، أو جاء قومهم عذاب الله « ع » { فَنُجِّىَ } الأنبياء ومن آمن معهم .
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
{ قَصَصِهِمْ } قصص يوسف وإخوته اعتبار للعقلاء بنقل يوسف من الجب والسجن والذل والرق إلى العز والملك والنبوة فالذي فعل ذلك قادر على نصر محمد صلى الله عليه وسلم وإعزاز دينه وإهلاك عدوه . { مَا كَانَ } القرآن { حَدِيثاً } يُختلق { وَلكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } من التوراة والإنجيل وسائر الكتب ، أو ما كان القصص المذكور حديثاً يُختلق ولكن تصديق الذي بين يديه من الكتب .
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
{ ءَايَاتُ الْكِتَابِ } الزبور ، أو التوراة والإنجيل ، أو القرآن .
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
{ بِغَيْرِ عَمَدٍ } لها عمد لا ترى « ع » ، أو لا عمد لها .
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
{ رَوَاسِىَ } جبالاً ثوابت ، واحدها راسية لأن الأرض ترسو بها { وَأَنْهَاراً } ينتفع بها شرباً وإنباتاً ومغيضاً للأمطار ومسالك للفلك { زَوْجَيْنِ اثْنَيِنِ } أحدهما ذكر وانثى كفحال النخل وإناثها ، وكذلك كل النبات وإن خفي . والزوج الأخر حلو وحامض ، أو عذب وملح ، أو أبيض وأسود ، أو أحمر وأصفر فإن كل جنس من الثمار نوعان فكل ثمرة ذات نوعين زوجين فصارت أربعة أنواع { يُغشي } ظلمة الليل ضوء النهار ، ويغشي ضوء النهار ظلمة الليل .
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
{ مُّتَجَاوِرَاتٌ } في المدى مختلفات عَذِية تنبت وسبخة لا تنبت { صِنْوَانٌ } مجتمع وغيره مفترق ، أو صنوان نخلات أصلها واحد وغيرها أصولها شتى ، أو الصنوان الأشكال وغيره المختلف ، أو الصنوان الفسيل يقطع من أمهاته فهو معروف وغيره ما ينبت من النوى فهو مجهول حتى يعرف ، وأصل النخل الغريب من هذا . { وَنُفَضِّلُ } فمنه الحلو والحامض والأحمر والأصفر القليل والكثير { إِنَّ فِى } اختلافها { لأَيَاتٍ } على عظم قدرته . أو ضربه مثلاُ لبني آدم أصلهم واحد واختلفوا في الخير والشر والإيمان والكفر كالثمار المسقية بماء واحد « ح » .
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
{ وَإن تَعْجَبْ } من تكذيبهم لك فأعجب منه تكذيبهم بالبعث ، ذكر ذلك ليعجب رسوله صلى الله عليه وسلم والتعجب تغير النفس بما خفيت أسبابه ولا يجوز ذلك على الله عز وجل .
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
{ بِالسَّيِّئَةِ } بالعقوبة قبل العافية ، أو الشر قبل الخير ، أو الكفر قبل الإجابة { الْمَثُلاتُ } الأمثال المضروبة لمن تقدم ، أو العقوبات التي مثل الله بها من مضى من الأمم . وهي جمع مثلة { عَلَى ظُلْمِهِمْ } يغفر الظالم السالف للتوبة في المستأنف ، أو يعفو عن تعجيل العذاب مع ظلمهم بتعجيل العصيان ، أو يغفر لهم بالإنظار توقعاً للتوبة ، ولما نزلت قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش ، ولولا وعيده عقابه لاتكل كل أحد » .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
{ هَادٍ } الله « ع » ، أو نبي ، أو قادة ، أو دعاة ، أو عمل ، أو سابق يسبقهم إلى الهدى .
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
{ مَا تَحْمِلُ } من ذكر أو أنثى { وَمَا تَغِيَضُ } بالسقط الناقص . { وَمَا تَزْدَادُ } بالولد التام « ع » ، أو بالوضع لأقل من تسعة أشهر { وَمَا تَزْدَادُ } بالوضع لأكثر من التسعة ، قال الضحاك حملتني أمي سنتين ووضعتني وقد خرجت سني ، أو بانقطاع الحيض مدة الحمل غذاء للولد { وَمَا تَزْدَادُ } بدم النفاس بعد الوضع ، أو بظهور الحيض على الحمل ، لأنه ينقص الولد { وَمَا تَزْدَادُ } في مقابلة أيام الحيض من أيام الحمل ، لأنها كلما حاضت على حملها يوماً زادت في طهرها يوماً حتى يستكمل حملها تسعة أشهر طهراً قاله عكرمة وقتادة { وَكُلُّ شَىْءٍ } من الرزق والأجل { عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } .
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
{ سَوَآءٌ مِّنكُم } في علمه { مَّنْ أَسَرَّ } خيراً أو شراً ، أو جهر بهما { مُسْتَخْفِ } بعمله في ظلمة الليل ومن أظهره بضوء النهار ، أو يرى ما أخفاه الليل كما يرى ما أظهره النهار ، والسارب : المنصرف الذاهب ، من السارب في المرعى وهو بالعشي ، والروح بالغداة .
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
{ مُعَقِّبَاتٌ } ملاكة الليل والنهار يتعاقبون صعوداً ونزولاً ، اثنان بالنهار واثنان بالليل يجتمعون عند صلاة الفجر ، أو حراس الأمراء يتعاقبون الحرس « ع » أو ما يتعاقب من أوامر الله وقضائه في عبادة { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أمامه وورائه ، أو هداه وضلاله . { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } بأمر الله ، أو تقديره معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، أو معاقبته من الحرس يحفظونه عند نفسه من أمر الله ولا راد لأمره ولا دافع لقضائه « ع » ، أو يحفظونه حتى يأتي أمر الله فيكفوا « ع » ، أو أمر الله : الجن والهوام المؤذي تحفظه الملائكة منه ما لم يأتِ قدر ، أو يحفظونه من أمر الله وهو الموت ما لم يأتِ أجل وهي عامة في جميع الخلائق عند الجمهور ، أو خاصة في الرسول صلى الله عليه وسلم لما أزمع عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة على قتله فمنعه الله تعالى ونزلت { سُوءًا } عذاباً { وَالٍ } ملجأ ، أو ناصر .
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
{ خَوْفاً } من صواعقه { وَطَمَعاً } في نزول غيثه ، أو خوفاً للمسافر من أذيته وطمعاً للمقيم في بركته . { الثِّقَالَ } بالماء .
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
{ الرَّعْدُ } الصوت المسموع ، أو ملك والصوت المسموع تسبيحه { خِيفَتِهِ } الضمير لله تعالى ، أو للرعد ، { الصَّوَاعِقَ } نزلت في رجل أنكر القرآن وكذب الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذته صاعقة ، أو في أربد لما هم بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم مع عامر بن الطفيل فيبست يده على سيفه ثم انصرف فأحرقته صاعقة فقال أخوه لبيد :
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السِّماكِ والأسد
فجعني البرق والصواعق بالفا ... رس يوم الكريهة النَجُد
أو نزلت في يهودي قال للرسول صلى الله عليه وسلم أخبرني عن ربك من أي شيء هو من لؤلؤ أو ياقوت فجاءت صاعقة فأحرقته « ع » { يُجَادِلُونَ } قول اليهودي ، أو جدال أربد لما همَّ بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم { الْمِحَالِ } العداوة « ع » ، أو الحقد « ح » ، أو القوة « م » أو الغضب أو الحيلة أو الحول « ع » ، أو الهلاك بالمَحْل وهو القحط « ح » ، أو الأخذ أو الأنتقام .
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
{ دَعْوَةُ الْحَقِّ } لا إله إلا الله « ع » ، أو الله هو الحق فدعاؤه دعوة الحق ، أو الإخلاص في الدعاء { لا يَسْتَجِيبُونَ } لا يجيبون دعاءهم ولا يسمعون نداءهم والعرب يمثلون كل من سعى فيما لا يدركه بالقابض على الماء قال :
فأصبحت مما كان بيني وبينها ... من الود مثل القابض الماء باليد
{ كَبَاسِطِ } الظمآن يدعو الماء ليبلغ إلى فيه ، أو يرى خياله في الماء وقد بسط كفيه فيه { لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } لكذب ظنه وسوء توهمه « ع » ، أو كباسط كفيه ليقبض عليه فلا يحصل في كفه منه شيء .
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
{ طَوْعاً } المؤمن { وَكَرْهاً } الكافر ، أو طوعاً من أسلم راغباً وكرهاً من أسلم بالسيف راهباً { وَظِلالُهُم } يسجد ظل المؤمن معه طائعاً وظل الكافر كارهاً . { وَالأَصَالِ } جمع أُصُل وأُصُل جمع أصيل وهو العشي ما بين العصر والمغرب .
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
{ لا يَمْلِكُونَ } إذ لم يملكوا لأنفسهم جلب نفع ولا دفع ضر فأولى أن لا يملكوا ذلك لغيرهم . { الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } المؤمن والكافر { الظُّلُمَاتُ وَالْنُّورُ } الضلالة والهدى { فَتَشَابَهَ } لما لم تخلق آلهتهم خلقاً يشبته عليهم بخلق الله فلِمَ اشتبه عليهم حتى عبدوها كعبابدة الله؟
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
{ بِقَدَرِهَا } الكبير بقدره والصغير بقدره { رَّابِياً } مرتفعاً { حِلْيَةٍ } الذهب والفضة { أو مَتَاعٍ } الصفر والنحاس . { زَبَدٌ } خبث كزبد الماء الذي لا ينتفع به { جُفَآءً } منتشفاً ، أو جافياً على وجه الأرض ، أو ممحقاً ومن قرأ { جُفالاً } أخذه من قولهم : انجفلت القدر إذا قذفت بزبدها . شبه الله تعالى الحق بالماء وما خلص من المعادن فإنهما يبقيان للانتفاع بهما ، وشبه الباطل بزبد الماء وخبث الحديد الذاهبين غير منتفع بهما .
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
{ الْحُسْنَى } الحياة والرزق ، أو الجنة مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم { سُوءُ الْحِسَابِ } المؤاخذة بكل ذنب فلا يعفى عن شيء من ذنوبهم ، أو المناقشة بالأعمال ، أو التقريع والتوبيخ عند الحساب .
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
{ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } الرحم { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } في قطعها { وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } في المعاقبة عليها . أو الإيمان بالنبيين والكتب كلها { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } فيما أمرهم بوصله { وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } في تركه ، أو صلة محمد صلى الله عليه وسلم قاله « ح » .
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
{ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } يدفعون المنكر بالمعروف ، أو الشر بالخير ، أو سفاهة الجاهل بالحلم ، أو الذنب بالتوبة ، أو المعصية بالطاعة .
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
{ بِمَا صَبَرْتُمْ } على الفقر ، أو الجهاد في سبيل الله ، أو على ملازمة الطاعة وترك المعصية ، أو عن فضول الدنيا ، أو عما تحبونه حين فقدتموه { فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } الجنة عن الدنيا ، أو الجنة من النار .
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
{ مَتَاعٌ } قليل ذاهب ، أو كزاد الراكب .
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
{ بِذِكْرِ اللَّهِ } بأفواههم ، أو بنعمه عليهم ، أو بوعده لهم ، أو بالقرآن .
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
{ طُوبَى } اسم للجنة ، أو لشجرة فيها ، أو اسم الجنة بالحبشية ، أو حسنى لهم ، أو نعم ما لهم ، أو خير ، أو غبطة ، أو فرح وقرة عين « ع » ، أو العيش الطيب ، أو طوبى فُعلى من الطيب كالفُضلى من الأفضل .
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
{ بِالرَّحْمَنِ } لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم بالحديبية للكاتب : « اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم » ، قالوا ما ندري ما الرحمن ، ولكن اكتب باسمك اللهم ، أو قالوا بلغنا أن الذي يعلمك ما تقول رجل من أهل اليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لن نؤمن به أبداً فنزلت { لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } وإن اختلفت أسماؤه فهو واحد { مَتَابِ } توبتي .
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْءَاناً } لما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم إنْ سَرَّك أن نتبعك فسير جبالنا تتسع أرضنا فإنها ضيقة ، وقرب لنا الشام فإنا نتجر إليها ، وأخرج لنا الموتى من القبور نكلمهم ، أنزلها الله تعالى { سُيّرَتْ } أخرت { قُطِّعَتْ } قربت { كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } أحيوا ، جوابه : « لكان هذا القرآن » فحُذف للعلم به { يَاْيْئَسِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } من إيمان هؤلاء المشركين ، أو من حصول ما سألوه لأنهم لما طلبوا ذلك اشرأب المسلمون إليه « ع » ، أو ييأس : يعلم ، قال :
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائياً
أو ييأس قبل هي لغة جرهم . { لَهَدَى النَّاسَ } إلى الإيمان ، أو الجنة { قَارِعَةٌ } تقرعهم من العذاب والبلاء ، أو سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم { أَوْ تَحُلُّ } أنت يا محمد « ع » ، أو القارعة { وَعْدُ اللَّهِ } القيامة ، أو فتح مكة « ع » .
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
{ بِظَاهِرِ } بباطل ، أو ظن ، أو كذب ، أو بالقرآن قاله السدي .
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
{ مَّثَلُ الْجَنَّةِ } شبهها أو نعتها إذ لا مثل لها { أُكُلُهَا دَآئِمٌ } ثمرتها لا تنقطع ، أو لذتها في الأفواه باقية قاله إبراهيم التيمي .
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
{ وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } الصحابة ، أو مؤمنو أهل الكتاب ، أو اليهود والنصارى فرحوا بما في القرآن من تصديق كتبهم . { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } قريش ، أو اليهود والنصارى والمجوس { بَعْضَهُ } عرفوا صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنكروا تصديقه ، أو عرفوا نعته وأنكروا نبوته .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
{ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةْ } أي هم كسائر البشر فلِمَ أنكروا نبوتك وأنت كمن تقدم ، أو نهاه بذلك عن التبتل ، أو عاب اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة الأزواج فأخبرهم بأن ذلك سنة الرسل عليه الصلاة والسلام { أَن يَأَتِىَ بِآيَةٍ } لما سألت قريش تسيير الجبال وغير ذلك نزلت . { لِكُلِّ أَجَلِ } لكل قضاء قضاه الله تعالى { كِتَابٌ } كتبه فيه ، أو لكل أجل من آجال الخلق كتاب عن الله ، أو لكل كتاب نزل من السماء أجل على التقديم والتأخير .
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
{ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ } من أمور الخلق فيغيرها إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يغيران « ع » ، أو له كتابان أحدهما أم الكتاب لا يمحو منه شيئاً ، والثاني يمحو منه ما يشاء ويثبت كلما أراد أن ينسخ ما يشاء من أحكام كتابه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه ، أو يمحو ما جاء أجله ويثبت من لم يأت أجله ، أو يمحو ما يشاء من الذنوب بالمغفرة ويثبت ما يشاء فلا يغفره ، أو يختم للرجل بالشقاء فيمحو ما سلف من طاعته أو يمحو بخاتمته من السعادة ما تقدم من معصيته « ع » ( أم الكتاب ) حلاله وحرامه ، أو جملة الكتاب ، أو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق ، أو الذكر « ع » أو الكتاب الذي لا يبدل ، أو أصل الكتاب في اللوح المحفوظ .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
{ نَنقُصُهَا } بالفتوح على المسلمين من بلاد المشركين ، أو بخرابها بعد عمارتها ، أو بنقصان بركتها وبمحيق ثمرتها أو بموت فقهائها وخيارها « ع » .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{ شَهِيداً } بصدقي وكذبكم . { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } ابن سلام وسلمان وتميم الداري ، أو جبريل عليه السلام ، أو الله عز وجل عن الحسن رضي الله تعالى عنه وكان يقرأ { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } ويقول : « هذه السورة مكية وهؤلاء أسلموا بالمدينة » .
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
{ الظُّلُمَاتِ } الضلالة والكفر ، و { النُّورِ } الإيمان والهدى { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } بأمره . آمن بعيسى قوم وكفر به آخرون فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمن به من كفر بعيسى وكفر به الذين آمنوا بعيسى فنزلت « ع » .
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
{ يَسْتَحِبُّونَ } يختارون ، أو يستبدلون { سَبِيلِ اللَّهِ } دينه { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } العوج بالكسر في الأرض والدين وكل ما لم يكن قائماً وبالفتح كل ما كان قائماً كالرمح والحائظ . { وَيَبْغُونَهَا } يرجون بمكة ديناً غير الإسلام « ع » ، أو يقصدون بمحمد صلى الله عليه وسلم هلاكاً .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{ بَآَيَاتِنَآ } التسع ، أو بالحجج والبراهين { وَذَكِّرْهُم } عظهم بما سلف لهم في الأيام الماضية ، أو بالأيام التي انتقم فيها بالقرون الأول ، أو بنعم الله لأنها تُسمى بالأيام .
وأيام لنا غر طوال ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ صَبَّارٍ شَكُورٍ } كثير الصبر والشكر إذا ابتُلي صبر وإذا أعطي شكر ، وأخذ الشعبي من هذه الآية أن الصبر نصف الإيمان والشكر نصفه .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
{ بَلآءٌ } نعمة « ع » ، أو شدة بلية ، أو اختبار وامتحان .
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
{ تَأَذَّنَ } قال ، أو أعلم { شَكَرْتُمْ } نعمتي { لأَزِيدَنَّكُمْ } من أفضالي أو طاعتي « ح » .
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
{ بِالْبَيِّنَاتِ } الحجج . { فَرَدُّواْ } عضوا الأصابع غيظاً على الرسل ، أو كذبوهم بأفواهم ، أو عجبوا لما سمعوا كتاب الله تعالى ووضعوا أيديهم في أفواهم « ع » ، أو أشاروا بذلك إلى رسولهم لما أدعى الرسالة بأن يسكت تكذيباً له ورداً لقوله ، أو وضعوا أيديهم على أفواه الرسل رداً لقولهم « ح » ، أو الأيدي النعم ردوها بأفواههم جحوداً ، أو عبّر بذلك عن ترك قبولهم للحق يقال لمن أمسك عن الجواب : رد يده في فيه .
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
{ أَفِى اللَّهِ } أفي توحيده ، أو طاعته ، { مِّن ذُنُوبِكُمْ } من زائدة ، أو يجعل المغفرة بدلاً من ذنوبكم ، { وَيُؤَخِّرَكُمْ } إلى الموت فلا يعذبكم في الدنيا .
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
{ مَقَامِى } مقامه بين يدي . { وَعِيدِ } عذابي أو زواجر القرآن .
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
{ وَاسْتَفْتَحُواْ } الرسل بطلب النصر « ع » ، أو الكفار استفتحوا بالبلاء . { جَبَّارٍ } متكبر . { عَنِيدٍ } معاند للحق ، أو بعيد عنه .
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
{ مِّن وَرَآئِهِ } من بعد هلاكه جهنم ، أو أمامه جهنم .
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
{ مِن كُلِّ مَكَانٍ } من جسده لشدة آلامه ، أو يأتيه أسباب الموت عن يمين وشمال وفوق وتحت وقدام وخلف « ع » ، أو تأتيه شدائد الموت من كل مكان . { وَمِن وَرَآئِهِ } فيه الوجهان المذكوران . { عَذَابٌ غَلِيظٌ } الخلود في النار .
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
{ مَّثَلُ } أعمال { الَّذِينَ كَفَرُواْ } في حبوطها وبطلانها وأنه لا يحصل منها على شيء بالرماد المذكور { عَاصِفٍ } شديدة وصف اليوم بالعصوف لوقوعه فيه كما يقال يوم حار ويوم بارد أو أراد عاصف الريح فحذف لتقدم ذكر الريح ، أو العصوف من صفة الريح المذكورة فلما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه .
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
{ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ } ظهروا بين يديه في القيامة ، والضعفاء : الأتباع والذين استكبروا : قادتهم . { تَبَعاً } في الكفر { مُّغْنُونَ } دافعون ، أغنى عنه دفع عنه الأذى وأغناه أوصل إليه نفع { لَوْ هَدَانَا اللَّهُ } إلى الإيمان لهديناكم إليه ، أو إلى الجنة لهديناكم إليها ، أو لو نجّانا من العذاب لنجيناكم منه . { مَّحِيصٍ } ملجأ ومنجى يقول بعضهم لبعض : إن قوماً جزعوا وبكوا ففازوا فيجزعون ويبكون ، ثم يقولون : إن قوماً صبروا في الدنيا ففازوا فيصبرون فعند ذلك يقولون : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ } الآية .
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ } يقوم إبليس خطيباً يوم القيامة فيسمعه الخلائق جميعاً { قُضِىَ الأَمْرُ } بحصول أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار . { وَعْدَ الْحَقِّ } الجنة والنار والبعث والثواب والعقاب . { وَوَعَدتُكُمْ } بأن لا بعث ولا ثواب ولا عقاب { بِمُصْرِخِىَّ } بمنجي أو بمغيثي { إِنِّى كَفَرْتُ } قبلكم { بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ } من بعدي لأن كفره قبل كفرهم .
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
{ تَحِيَّتُهُمْ } ملكهم دائم السلام ، ومنه التحيات لله أي الملك ، أو التحية المعرفوة إذا تلاقوا سلموا بها .
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
{ كَلِمَةً طَيِّبَةً } الإيمان ، أو المؤمن { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ } النخلة قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو شجرة في الجنة « ع » { ثَابِتٌ } في الأرض { وَفَرْعُهَا } نحو السماء .
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
{ أُكُلَهَا } ثمرها { حِينِ } عبارة عن الوقت في اللغة . يراد بها ها هنا سنة لأنها تحمل في السنة مرة ، أو ثمانية أشهر لأنها مدة الحمل ظاهراً وباطناً ، أو ستة أشهر لأنها مدة الحمل ظاهراً ، أو اربعة أشهر لأنها مدة صلاحها وبروزها من طلعها إلى جذاذها ، أو شهرين لأنها مدة صلاحها إلى جفافها ، أو غدوة وعيشية لأنه وقت اجتنائها « ع » . شبه ثبوت الكلمة في الأرض بثبوت النخلة في الأرض فإذا ظهرت عرجت إلى المساء كما تعلو النخلة نحو السماء فكلما ذكرت نفعت كما أن النخلة إذا أثمرتب نفعت .
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
{ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } الكفر ، أو الكافر { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } الحنظل أو الأكشوث ، أو شجرة لم تخلق « ع » ، { اجْتُثَّتْ } اقتلعت من أصلها . { قَرَارٍ } ثبوت ، أو أصل . شبه الكلمة الخبيثه التي ليس لها أصل يبقى ولا ثمرة حلوة بأنه ليس لها عمل في الأرض يبقى ولا ذكر في السماء يرقى .
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } يديمهم على القول الثابت { بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ } الشهادتان ، أو العمل الصالح { فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } زمن الحياة { وَفِى الآخِرَةِ } عند المساءلة في القبر ، أو الحياة الدنيا : مساءلة القبر والآخرة : مسائلة القيامة .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)
{ الَّذِينَ بَدَّلُواْ } قريش بدلوا نعمة إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم منهم كفراً به وجحوداً ، أو نزلت في بني أمية وبني مخزوم ، فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ، وأما بنو مخزوم فأهلكوا يوم بدر ، أو هم قادة المشركين يوم بدر . أو جبلة بن الأيهم وتابعوه من العرب الذي لحقوا بالروم « ع » أو عامة في جميع المشركين . { دَارَ الْبَوَارِ } جهنم ، أو يوم بدر ، والبوار : الهلاك .
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
{ سِرّاً وَعَلانِيَةً } خفية وجهرة عند الأكثرين ، أو السر : التطوع والعلانية : الفرض . { لاَّ بَيْعٌ } لا فدية في العاصي ، ولا شفاعة للكفار ، أو لا تُباع الذنوب ولا تُشترى الجنة . { خِلالٌ } مصدر خاللت خلالاً كقاتلت قتالاً ، أو جمع خلة كقلة وقلال أي لا مودة بين الكفار لتقاطعهم .
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{ بَيْتِكَ } الذي لا يملكه غيرك . { الْمُحَرَّمِ } ، لأنه يحرم فيه ما يباح في غيره { أَفْئِدَةً } جمع فؤاد وهو القلب ، أو جمع وفود . { تَهْوِى } تحن ، أو تهواهم ، أو تنزل عليهم . طلب ذلك ليميلوا إلى سكناها فتصير بلداً محرماً « ع » ، أو ليحجوا قال « ع » : لولا أنه قال : من الناس لحجه اليهود والنصارى وفارس والروم { مِّنَ الثَّمَرَاتِ } أجابه بما في الطائف من الثمار وما يجلب إليهم من الأمصار .
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
{ مُهْطِعِينَ } مسرعين أهطع إهطاعاً أسرع ، أو الدائم النظر لا يطرق ، أو المطرق لا يرفع رأسه . { مُقْنِعِى } ناكسي بلغة قريش أو رافعي ، إقناعُ الرأسِ رَفعُه { طَرْفُهُمْ } الطرف : النظر وبه سيمت العين لأنه بها بكون { هَوَآءٌ } خالية من الخير « ع » ، أو تردد في أجوافهم ليس لها مكان تستقر به فكأنها تهوي ، أو زالت عن أماكنها فبلغت الحناجر فلا تنفصل ولا تعود .
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
{ زَوَالٍ } عن الدنيا إلى الآخرة ، أو زوال عن العذاب .
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
{ مَكْرَهُمْ } الشرك « ع » ، أو بالعتو والتجبر ، وهي فيمن تجبر في ملكه وصعد مع النسرين في الهواء ، قاله علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما { وَعِندَ الَّلهِ مَكْرُهُمْ } يحفظه ليجازيهم عليه ، أو يعلمه فلا يخفى عنه { لِتَزُولَ } وما كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال احتقاراً لمكرهم « ع » ، { لَتزولُ } وكاد أن يزيلها تعظيماً لمكرهم ، والجبال : جبال الأرض ، أو الإسلام والقرآن لأنه في ثبوته كالجبال .
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
{ تُبَدَّلُ الأَرْضُ } بأرض بيضاء كالفضة لم تعمل عليها خطيئة ، أو بأرض من فضة بيضاء ، أو هي هذه الأرض تبدل صورتها ويطهر دنسها { وَالسَّمَاواتُ } تبدل بغيرها كالأرض فتصير جناناً ، والبحار ناراً ، أو بجعل السماوات ذهباً والأرض فضة ، قاله علي رضي الله تعالى عنه ، أو بتناثر نجومها وتكوير شمسها ، أو طيها كطي السجل ، أو انشقاقها .
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
{ الأَصْفَادِ } الأغلال ، أو القيود والصفد العطاء ، لأنه يقيد المودة .
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
{ سَرَابِيلُهُم } جمع سربال وهو القميص { قَطِرَانٍ } الذي تهنأ به الإبل الإسراع النار إليها ، أو النحاس الحامي « ع » .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
{ الْكِتَابِ } القرآن ، أو التوراة والإنجيل .
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
{ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ } إذا رأوا المسلمين دخلوا الجنة أن يكونوا أسلموا ، ربما ها هنا للتكثير .
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ } رسولها وكتابها فتعذب قبلهما ، ولا يستأخر الرسول والكتاب عنهم .
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
{ إِلاَّ بِالْحَقِّ } القرآن ، أو الرسالة ، أو بالقضاء عند الموت بقبض أرواحهم ، أو العذاب إن لم يؤمنوا .
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
{ الذِّكْرَ } القرآن ، { وَإِنَّا لَهُ } لمحمد صلى الله عليه وسلم { لَحَافِظُونَ } ممن أراده بسوء ، أو للقرآن حتى يجزى به يوم القيامة أو بحفظه من زيادة الشيطان فيه باطلاً ، أو نقصه منه حقاً .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
{ شِيَعِ } أمم ، أو القرى ، أو جمع شيعة ، والشيعة : الفرقة المتآلفة المتفقة الكلمة ، مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار يوقد بها الكبار ، فهو عون للنار .
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
{ نَسْلُكُهُ } الاستهزاء ، أو التكذيب ، أو نسلك القرآن في قلوبهم وإن لم يؤمنوا به ، أو إذا كذبوا به سلكنا في قلوبهم أن لا يؤمنوا به .
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
{ سُنَّةٌ الأََوَّلِينَ } بالعذاب ، أو بألا يؤمنوا برسلهم إذا عاندوا والسنة : الطريقة .
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
{ يَعْرُجُونَ } المشركون ، أو الملائكة وهم يرونهم .
لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
{ سُكِّرَتْ } سُدت ، أو عُميت ، أو أّخذت ، أو غُشيت وغُطيت ، أو حُبست { مَّسْحُورُونَ } سُحرنا فلا نبصر ، أو مُعللون ، أو مُفسدون .
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
{ بُرُوجاً } قصوراً فيها الحرس ، أو منازل الشمس والقمر ، أو الكواكب العظام أي السبعة السيارة ، أو النجوم ، أو البروج الإثنا عشر ، وأصله الظهور برجت المرأة أظهرت محاسنها .
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
{ رَّجِيمٍ } ملعون ، أو مرجوم بقول أو فعل .
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
{ اسْتَرَقَ السَّمْعَ } بأخبار الأرض دون الوحي فإنه محفوظ منهم . ويسترقون السمع من الملائكة في السماء ، أو في الهواء عند نزولهم من السماء { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ } قبل سماعه ، أو بعد سماعه فيجرحهم ويحرقهم ويخبلهم ولا يقتل « ع » ، أو يقتلهم قبل إلقائه إلى الجن فلا يصل إلى أخبار السماء إلا الأنبياء « ع » ، ولذلك انقطعت الكهانة ، أو يقتلهم بعد إلقائه إلى الجن ولذلك [ ما ] يعودون لاستراقه ، ولو لم يصل لقطعوا الاستراق . والشهب نجوم يُرجمون بها ثم تعود إلى أماكنها ، أو نور يمتد بشدة ضيائه فيحرقهم ولا يعود كما إذا أحرقت النار لم تعد .
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
{ مَدَدْنَاهَا } بسطناها من مكة لأنها أم القرى { مَّوْزُونٍ } بقدر معلوم عبّر عنه بالوزن ، لأنه آلة لمعرفة المقادير ، أو أراد الأشياء التي توزن في أسواقها ، أو مقسوم ، أو معدود .
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
{ مَعَايِشَ } ملابس ، أو التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة ، أو المطاعم والمشارب التي يعيشون بها . { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } الدواب والأنعام ، أو الوحش .
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
{ وَإِن مِّن شَىْءٍ } من أرزاق الخلق { إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ } المطر المنزل من المساء إذ به نبات كل شيء { بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ما عام بأمطر من عام ولكن الله تعالى يقسمه حيث يشاء فيمطر قوماً ويحرم آخرين .
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
{ لَوَاقِحَ } السحاب حتى يمطر ، كل الرياح لواقح والجنوب ألقح ، أو لواقح للشجر حتى يثمر « ع » .
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
{ الْمُسْتَقْدِمِينَ } الذين خلقوا و { الْمُسْتَئْخِرِينَ } من لم يخلق ، أو من مات ومن لم يمت ، أو أول الخلق وآخره ، أو من تقدم أمة محمد صلى الله عليه وسلم والمستأخر من أمته ، أو المستقدمين في الخير والمستأخرين عنه ، أو في صفوف الحرب والمستأخرين فيها ، كانت امرأة من أحسن الناس تصلي خلف الرسول صلى الله عليه وسلم فيقدم بعضهم لئلا يراها ويتأخر بعضهم إلى الصف المؤخر فإذا ركع نظر إليها من تحت إبطه فنزلت .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
{ الإِنسَانَ } آدم عليه الصلاة والسلام { صَلْصَالٍ } طين يابس لم تصبه نار ، إذا نُقر صَلَ فسمعت له صلصلة ، وهي الصوت الشديد المسموع من غير الحيوان كالقعقعة في الثوب « ع » ، أو طين خلط برمل ، أو منتن ، صل اللحم وأصل أنتن ، { حَمَإٍ } جمع حمأة وهي الطين الأسود المتغير { مَّسْنُونٍ } منتن متغير ، أو أسن الماء تغير « ع » ، أو منصوب قائم من قولهم : وجه مسنون ، أو المصبوب ، سَنَ الماء على وجهه صبه عليه أو الذي يحك بعضه بعضاً ، سننت الحجر بالحجر حككت أحدهما بالآخر ومنه سن الحديد لحكه به ، أو الرطب ، أو المخلص سن سيفك أي : أجله .
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
{ وَالْجَآنَّ } إبليس ، أو الجن ، أو أبو الجن { مِن قَبْلُ } آدم { نَّارِ السَّمُومِ } لهب النار ، أو نار الشمس ، أو حر السموم ، والسموم الريح الحارة .
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
{ الْمَعْلُومِ } عند الله تعالى وحده ، أو النفخة الأولى بينها وبين النفخة الثانية أربعون سنة هي مدة موته ، وأراد بسؤاله الإنظار أن لا يموت فلم يجبه إلى ذلك ، وأنظره إلى النفخة الأولى تعظيماً لبلائه وتعريفاً أنه لا يضر بفعله غير نفسه . ولم يكرمه بتكليمه بل كلمه بذلك على لسان رسول ، أو كلمه تغليظاً ووعيداً لا إكراماً وتقريباً .
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
{ أَغْوَيْتَنِى } أضللتني « ع » ، أو خيبتني من رحمتك ، أو نسبتني إلى الإغواء .
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
{ الْمُخْلَصِينَ } لعباداتهم من الفساد والرياء ، سأل الحواريون عيسى عليه الصلاة والسلام عن المخلص ، فقال : الذي يعمل لله ولا يحب أن يحمده الناس .
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
{ هَذَا صِرَاطٌ } يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة « ع » ، أو صراط إليَّ « ح » ، أو تهديد ووعيد كقولك لمن تتوعده : « على طريقك » ، أو هذا صراط على استقامته بالبيان والبرهان .
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
{ بِسَلامٍ } بسلامة من النار ، أو بسلامة تصحبكم من كل آفة { ءَامِنِينَ } من الخروج منها ، أو الموت ، أو الخوف والمرض .
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
{ وَنَزَعْنَا } بالإسلام { مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } الجاهلية ، أو نزعنا في الآخرة ما فيها من غل الدنيا « ح » وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم { سُرُرٍ } جمع أسرة ، أو سرور { مُّتَقَابِلِينَ } بوجوههم لا يصرفون أبصارهم تواصلاً وتحابياً ، أو متقابلين بالمحبة والمودة لا يتفاضلون فيها ولا يختلفون ، أو متقابلين في المنزلة لا يفضل بعضهم بعضاً لاتفاقهم على الطاعة أو استوائهم في الجزاء ، أو متقابلين في الزيارة والتواصل ، أو أقبلوا على أزواجهم بالمودة وأقبلن عليهم ، قيل نزلت في العشرة ، قال علي رضي الله تعالى عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير منهم .
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
{ لا تَوْجَلْ } لا تخف { بِغُلامٍ عَليمٍ } في كبره وهو إسحاق لقوله تعالى { فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [ هود : 71 ] { عَلِيمٍ } حليم ، أو عالم عند الجمهور .
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
{ أَبَشَّرْتُمُونِى } تعجب { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } تعجباً من قولهم ، أو استفهم هل بشروه بأمر الله تعالى ليكون أسكن لقلبه .
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
{ الْقَانِطِينَ } الآيسين من الولد .
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
{ ءَالَ لُوطٍ } أتباعه وناصروه .
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
{ قَدَّرْنَآ } قضينا ، أو كتبنا { الْغَابِرِينَ } الباقين في العذاب ، أو الماضين فيه .
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
{ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ } ببعضه ، أو آخره ، أو ظلمته .
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
{ وَقَضَيْنَآ } أوحينا { دَابِرَ هَؤُلآءِ } آخرهم ، أو أصلهم .
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
{ لَعَمْرُكَ } وعيشك « ع » ، أو وحياتك « ع » ، وما أقسم الله تعالى بحياة غيره ، أو وعملك { سَكْرَتِهِمْ } ضلالهم ، أو غفلتهم { يَعْمَهُونَ } يترددون « ع » ، أو يتمادون ، أو يلعبون ، أو يمضون .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
{ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } للمتفرسين ، أو المعتبرين ، أو المتفكرين ، أو الناظرين أو المتبصرين ، أو الذي يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أهلاك الكفار .
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
{ لَبِسَبِيلٍ } لهلاك « ع » ، أو لبطريق مُعْلَم .
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
{ لَظَالِمِينَ } بتكذيبهم شعيباً ، أرسل إلى مدين فأهلكوا بالصيحة وإلى أصحاب الأيكة فاحترقوا بنار الظلة ، الأيكة : الغيضة ، أو الشجر الملتف كان أكثر شجرهم الدوم وهو المقل ، أو الأيكة اسم البلد وليكة اسم المدينة كبكة من مكة .
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
{ وَإِنَّهُمَا } أصحاب الأيكة وقوم لوط { لَبِإِمَامٍ } لبطريق واضح . سمي الطريق إماماً لأن سالكه يأتم به حتى يصل إلى مقصده ، أو لفي كتاب مستبين ، سمي إماماً لتقدمه على سائر الكتب ، وقال مُؤرج : هو الكتاب بلغة حمير .
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
{ الْحِجْرِ } الوادي ، أو مدينة ثمود ، أو أرض بين الشام والحجاز وأصحابه ثمود .
وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)
{ ءَامِنِينَ } أن تسقط عليهم بيوتهم ، أو من خرابها ، أو من العذاب ، أو الموت .
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
{ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } الإعراض من غير جزع ، أو العفو بغير توبيخ ولا تعنيف ، ثم نسخ صفحه عن حق الله تعالى بآية السيف ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : بعد ذلك : « لقد أتيتكم بالذبح وبُعثت بالحصاد ولم أُبعث بالزراعة » ، أو أمر بالصفح عنهم في حق نفسه فيما بينه وبينهم .
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
[ { سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِى } ] السبع المثاني : الفاتحة ، لأنها تثنى كلما قرأ القرآن وصلى ، أو السبع الطوال ، البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، « ع » سميت مثاني لما تردد فيها من الأمثال والخبر والعبر ، أو لأنها تجاوز المائة الأولى إلى المائة الثانية ، أو المثاني القرآن كله ، أو معانيه السبعة أمر ونهي وتبشير وإنذار وضرب أمثال وتعديد نعم وأنباء قرون .
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
{ أَزْوَاجاً } أشباهاً ، أو أصنافاً ، أو الأغنياء { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } بما أنعمت عليهم في الدنيا أو بما يصيرون إليه من كفرهم { وَاخْفِضْ } عبّر به عن الخضوع ، أو عن إلانه الجانب ، نزل بالرسول صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يكن عنده ما يصلحه فأرسل إلى يهودي يستسلف منه دقيقاً إلى هلال رجب ، فأبى إلا برهن ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني لأديت إليه » فنزلت { لا تَمُدَّنَّ } .
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
{ الْمُقْتَسِمِينَ } اليهود والنصارى اقتسموا القرآن أعضاء أي أجزاء فآمنوا ببعض منها وكفروا ببعض « ع » ، أو اقتسموه استهزاء به فقال بعضهم : هذه السورة لي ، وقال بعضهم : هذه لي ، أو اقتسموا كتبهم فآمن بعضهم ببعضها وكفر ببعضها وكفر آخرون بما آمن به أولئك وأمنوا بما كفروا به ، أو قوم صالح تقاسموا على قتله ، قاله ابن زيد ، أو قوم من قريش اقتسموا طُرق مكة لينفروا على الرسول صلى الله عليه وسلم من يرد من القبائل بأنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون حتى لا يؤمنوا به فنزل عليهم عذاب فأهلكهم ، أو قوم من قريش اقتسموا القرآن فجعلوا بعضه شعراً وبعضه سحراً وبعضه كهانة وبعضه أساطير الأولين ، أو قوم اقتسموا أيماناً تحالفوا عليها .
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
{ عِضِينَ } فرقاً بعضه شعراً وبعضه سحراً وبعضه أساطير الأولين ، جعلوه أعضاء كما تعضى الجزور ، وعضين جمع عضو من عضيت الشيء تعضية إذا فرقته « ع » .
وليس دين الله تعالى بالمعضى
أي المفرق أو العضين جمع عضة وهو البهت لأنهم بهتوا كتاب الله تعالى فيما رموه به ، عضهت الرجل أعضهه عضها بهته ، وقال :
إن العضيهة ليست فعل أحرار ... أو العضه : السحر بلسان قريش ومنه « لعن الرسول صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة » أراد الساحرة والمتسحرة ، أو لما ذكر في القرآن الذباب والبعوض والعنكبوت والنمل قال أحدهم : أنا صاحب البعوض ، وقال آخر : أنا صاحب الذباب وقال آخر أنا صاحب النمل استهزاء منهم بالقرآن .
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
{ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعبدون ، أو ما عملوا فيما علموا ، أو عما عبدوا وما أجابوا الرسل .
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
{ فَاصْدَعْ } فامض ، أو أظهر ، أو اجهر بالقرآن في الصلاة ، أو أعلن بالوحي حتى يبلغهم « ع » ، أو افرق به بين الحق والباطل ، أو فرق القول فيهم مجتمعين وفرادى ، { وَأَعْرِضْ } منسوخ بآية السيف « ع » أو أعرض عن الاهتمام باستهزائهم .
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
{ الْمُسْتَهْزءِينَ } خمسة : الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث والحارث بن غيطلة أهلكهم الله تعالى قبل بدر لاستهزائهم برسوله صلى الله عليه وسلم .
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)
{ صَدْرُكَ } قلبك لأنه محل القلب { بِمَا يَقُولُونَ } من الاستهزاء ، أو التكذيب بالحق .
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
{ السَّاجِدِينَ } المصلين .
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{ الْيَقِينُ } الحق الذي لا ريب فيه ، أو الموت الذي لا محيد عنه « ح » .
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
{ أَتَى } دنا ، أو سيأتي ، أو على حقيقة إتيانه في ثبوته واستقراره . { أَمْرُ اللَّهِ } القيامة ، أو وعيد المشركين ، أو فرائض الله تعالى وأحكامه .
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
{ بِالرُّوحِ } الوحي « ع » ، أو كلام الله تعالى ، أو الحق الواجب الاتباع ، أو أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا معه روح قاله مجاهد .
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
{ خَصِيمٌ } محتج في الخصومة . ذكر ذلك تعريفاً لقدرته ، أو لنعمته ، أو لقبح ما ضيعه من شكر النعمة بمخاصمته في الكفر « ح » قيل نزلت في أُبي بن خلف الجمحي أخذ عظاماً نخرة فذراها وقال أنُعاد إذا صرنا كذا؟
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
{ دِفْءٌ } لباس « ع » ، أو ما استدفأت به من أصوافها وأوبارها وأشعارها . { وَمَنَافِعُ } الركوب والعمل { تَأْكُلُونَ } اللحم واللبن .
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
{ مَا لا تَعْلَمُونَ } من الخلق عند الجمهور ، أو نهر تحت العرش « ع » .
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
{ مَوَاخِرَ } تشق الماء عن يمين وشمال ، والمخر : شق الماء وتحريكه ، أو ما تمخر الريح من السفن والمخر صوت هبوب الريح ، أو تجري بريح واحدة مقبلة ومدبرة ، أو تجري معترضة ، أو المواخر : المواقد .
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
{ وَعَلامَاتٍ } معالم الطرق بالنهار { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } بالليل « ع » ، أو النجوم منها ما يهتدى به ومنها ما هو علامة لا يهتدى بها ، أو الجبال .
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
{ لا تُحْصُوهَآ } لا تحفظوها ، أو لا تشكروها .
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
{ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم } هدمه من أساسه ، أو مثل ضربه الله تعالى لاستئصالهم { السَّقْفُ } أتاهم من السماء التي هي سقفهم « ع » ، أو سقطت أعالي بيوتهم وهم تحتها فلذلك قال : { مِن فَوْقِهِمْ } إذ لا يكون فوقهم إلا وهم تحته . وهم نمروذ بن كنعان وقومه « ع » ، أو بختنصر وأصحابه ، أو المقتسمين المذكورين في سورة الحجر .
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } قيل نزلت فيمن أسلم بمكة ولم يهاجر فأخرجتهم قريش إلى بدر فقُتلوا { تَتَوَفَّاهُمُ } تقبض أرواحهم { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } بالمقام بمكة وترك الهجرة { فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ } في خروجهم معهم { مِن سُوءِ } كفر { بَلَى } عملكم أعمال الكفار ، والسَّلَم : الصلح ، أو الاستسلام ، أو الخضوع .
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
{ طَيِّبِينَ } صالحين .
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{ ظُلِمُواْ } ظلمهم أهل مكة بإخراجهم إلى الحبشة بعد العذاب والإبعاد . { حَسَنَةً } نزول المدينة « ع » ، أو الرزق الحسن نزلت في أبي جَندل بن سهيل ، أو في بلال وعمار وخباب بن الأرتْ عُذبوا حتى قالوا ما أراده الكفار فلما خلوهم هاجروا .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
{ الذِّكْرِ } العلماء بأخبار القرون الخالية يعلمون أن الله تعالى ما بعث رسولاً إلا من رجال الأمة ولم يبعث ملكاً أو أهل الكتاب خاصة « ع » ، أو أهل القرآن .
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
{ إِلَيْكَ الذِّكْرَ } القرآن ، أو العلم .
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
{ تَقَلُّبِهِمْ } سفرهم .
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{ تَخَوُّفٍ } تنقص يهلك واحداً بعد واحد فيخافون الفناء « ع » ، أو على تقريع وتوبيخ بما قدموه من ذنوبهم « ع » ، أو يهلك قرية فتخاف القرية الأخرى .
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
{ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلالُهُ } يرجع ، والفيء : الرجوع وبه سمى الظل بعد الزوال لرجوعه ، أو يتميل « ع » ، أو يدور ، أو يتحول . { الْيَمِينِ وَالشَّمَآئِلِ } تارة جهة اليمين وتارة إلى جهة الشمال « ع » ، أو اليمين أول النهار والشمال آخره { سُجَّداً } ظل كل شيء سجوده ، أو سجود الظل بسجود شخصه ، أو سجود الظلال كسجود الأشخاص تسجد خاضعة لله { دَاخِرُونَ } صاغرون خاضعون .
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
{ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ } عذاب ربهم لأنه ينزل من فوقهم من السماء ، أو قدرته التي هي فوق قدرتهم .
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
{ الدِّينُ } الإخلاص ، أو الطاعة { وَاصِباً } واجباً « ع » ، أو خالصاً أو دائماً « ح » ، عذاب واصب : دائم .
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
{ الضُّرُّ } القحط ، أو الفقر { تَجْئَرُونَ } تضرعون بالدعاء ، أو تضجون وهو الصياح من جؤار الثور وهو صياحه .
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
{ مُسْوَدّاً } أسود اللون عند الجمهور ، أو متغير اللون بسواد أو غيره . { كَظِيمٌ } حزين « ع » ، أو كظم غيظه فلا يظهره ، أو مغموم انطبق فوه من الغم ، من الكظامة وهو شدُّ فَمِ القربة .
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
{ هُونٍ } الهوان بلغة قريش ، أو القليل بلغة تميم { يَدُسُّهُ } يريد المؤودة .
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
{ مَا يَكْرَهُونَ } البنات { الْحُسْنَى } البنين ، أو أجزاء الحسنى { لا جَرَمَ } حقاً أو قطعاً ، أو اقتضى فعلهم أن لهم النار [ أو ] بلى إن لهم النار « ع » { مُّفْرَطُونَ } منسيون ، أو مضيعون ، أو مبعدون في النار ، أو متروكون فيها أو مقدمون إليها ومنه « أنا فرطكم على الحوض » أي متقدمكم ، { مُفْرِطون } مسرفون في الذنوب من الإفراط فيها ، { مُفَرِّطون } في الواجب .
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
{ سَكَراً } السكر : الخمر ، والرزق الحسن : التمر والرطب الزبيب ، نزلت قبل تحريم الخمر ، أو السكر : ما حرم من شرابه ، والرزق الحسن : ما حل من ثمرته ، أو السكر : النبيذ ، والرزق الحسن : التمر والزبيب ، أو السكر : الخل بلغة الحبشة والرزق الحسن : الطعام ، أو السكر ما طعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب وهو الرزق الحسن .
وجعلتَ عيب الأكرمين سكراً ... أي جلعت ذمهم طُعماً .
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
{ وَأَوْحَى } ألهمها ، أو سخرها أو جعله في غرائزها بما يخفي مثله على غيرها { يَعْرِشُونَ } يبنون ، أو الكروم .
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
{ ذُلُلاً } مذللة ، أو مطيعة ، أو لا يتوعر عليها مكان تسلكه ، أو الذلل صفة للنحل بانقيادها إلى أصحابها وذهابها حيث ذهبوا . { مًّخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ } لاختلاف أغذيته { فِيهِ شِفَآءٌ } الضمير للقرآن ، أو للعسل .
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
{ أَرْذَلِ الْعُمُرِ } أوضعه وأنقصه عند الجمهور ، أو الهرم ، أو ثمانون سنة ، أو خمس وسبعون .
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
{ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } السادة على العبيد ، أو الأحرار بعضهم على بعض عند الجمهور { فِى الرِّزْقِ } بالغنى والفقر والضيق والسعة { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } لما لم يشركهم عبيدهم في أموالهم لم يجز أن يشاركوا الله تعالى في ملكه « ع » ، أو هم وعبيدهم سواء في أن الله تعالى رزق الجميع ، وأن أحداً لا يقدر على رزق عبده إلا أن يرزقه الله تعالى أياه كما لا يقدر على رزق نفسه .
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
{ مِّن أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } خلق حواء من آدم { وَحَفَدَةً } أصهار الرجل على بناته ، أو أولاد الأولاد « ع » ، أو بنو زوجة الرجل من غيره « ع » أو الأعوان ، أو الخدم ، والحفدة جمع حافد وهو المسرع في العمل ، « نسعى ونحفد » : نسرع إلى العمل بطاعتك .
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً } مثل للكافر والمؤمن ، فالكافر لا يقدر على شيء من الخير ، والزرق الحسن مما عند المؤمن من الخير « ع » ، أو مثل للأوثان التي لا تملك شيئاً تُعبد دون الله تعالى الذي يملك كل شيء .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
{ رَّجُلَيْنِ } مثل لله تعالى وللوثن الأبكم الذي لا يقدر على شيء ، والذي يأمر بالعدل هو الله عز وجل ، أو الأبكم : الكافر ، والذي يأمر بالعدل المؤمن « ع » ، أو الأبكم غلام لعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان يعرض عليه الإسلام فيأبى والذي يأمر بالعدل عثمان رضي الله تعالى عنه .
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
{ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ } سألت قريش الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة استهزاء فنزل { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } يريد قيام الساعة وسميت ساعة لانها جزء من يوم القيامة وأجزاء اليوم ساعاته .
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
{ مِّمَّا خَلَقَ ظِلالاً } الشجر { أَكْنَاناً } يستكن فيها جمع كِن { سَرَابِيلَ } ثياب الكتان والقطن والصوف ، والتي تقي الناس : دروع الحرب ، ذكر الجبال والحر ولم يذكر السهل والبرد لغلبة الجبال والحر على بلادهم دون البرد والسهل ، فَمَنَّ عليهم بما يختص بهم ، أو اكتفى بذكر الجبال والحر عن ذكر السهل والبرد فالمنة فيهما آكد .
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
{ نِعْمَتَ اللَّهِ } محمد صلى الله عليه وسلم يعرفون نبوته ثم يكذبونه ، أو نعمه المذكورة في هذه السورة ثم ينكرونها بقولهم : ورثناها عن آبائنا ، أو إنكارها قولهم : لولا فلان لما أصبت كذا وكذا ، أو معرفتهم : اعترافهم أن الله رزقهم وأنكارهم قولهم : رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا ، قال الكلبي تسمى هذه السورة سورة النعم لتعديد النعم فيها . { وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } أراد جميعهم ، أو فيهم من حكم بكفره تبعاً كالصبيان والمجانين فذكر المكلفين .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
{ بِالْعَدْلِ } شهادة التوحيد { وَالإِحْسَانِ } الصبر على طاعته في أمره ونهيه سراً وجهراً { وَإِيتَآىءِ ذِى الْقُرْبَى } صلة الرحم ، والفحشاء : الزنا . والمنكر : القبائح ، والبغي : الكبر والظلم ، أو العدل : القضاء بالحق ، والإحسان : التفضل بالإنعام ، وإيتاء ذي القربى : صلة الأرحام ، والفحشاء : ما يُسر من القبائح ، والمنكر : ما يُظهر منها فينكر ، والبغي ما يتطاول به من ظلم وغيره ، أو العدل استواء السريرة والعلانية في العمل لله ، والإحسان فضل السريرة على العلانية ، والمنكر والبغي فضل العلانية على السريرة .
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ } نزلت في بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام أو في الحلف الواقع في الجاهلية بين أهل الشرك والإسلام فجاء الإسلام بالوفاء به ، أو في كل يمين منعقدة يجب الوفاء بها ما لم تدعُ ضرورة إلى الحنث ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم « فليأتِ الذي هو خير » محمول على الضرورة دون المباح ، وأهل الحجاز يقولون : وكدت توكيداً ، وأهل نجد أكدت تأكيداً .
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
{ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا } امرأة حمقاء بمكة كانت تغزل الصوف ثم تنقضه بعد إبرامه . فشبه ناقض العهد بها في السفه والجهل تنفيراً من ذلك { غَزْلَهَا } عبّر عن الحبل بالغزل ، أو أراد الغزل حقيقة { قُوَّةٍ } إبرام ، أو القوة : ما غزل على طاقة ولم تثن { أَنكَاثاً } أنقاضاً واحدها نكث ، وكل شيء نقض بعد الفتل فهو أنكاث { دَخَلاً } غروراً ، أو دغلاً وخديعة ، أو غلاً وغشاً ، أو أن يكون داخل القلب من الغدر غير ما في الظاهر من الوفاء ، أو الغدر والخيانة . { أَرْبَى } أكثر عدداً وأزيد مدداً فتغدر بالأقل .
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
{ حَيَاةً طَيِّبَةً } بالرزق الحلال « ع » ، أو القناعة ، أو الإيمان بالله تعالى والعمل بطاعته ، أو السعادة « ع » ، أو الجنة .
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
{ قَرَأْتَ } أردت ، أو إذا كنت قارئاً فاستعذ ، أو تقديره فإذا استعذت بالله فاقرأ على التقديم والتأخير .
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
{ سُلْطَانٌ } قدره على حملهم على ذنب لا يغفر ، أو حجة على ما يدعوهم إليه من المعصية ، أو لا سلطان له عليهم لاستعاذتهم بالله تعالى لقوله تعالى : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ } [ الأعراف : 200 ] ، أو لا سلطان له عليهم بحال لقوله سبحانه وتعالى : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك } [ الحجر : 42 ] .
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
{ بِهِ مُشْرِكُونَ } بالله ، أو أشركوا الشيطان في أعمالهم ، أو لأجل الشيطان وطاعته أشركوا .
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{ بَدَّلْنَآ } نسخناها حكماً وتلاوة ، أو حكماً دون التلاوة { لا يَعْلَمُونَ } جواز النسخ والله تعالى أعلم بالمصلحة فيما ينزله ناسخاً ومنسوخاً .
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
{ بَشَرٌ } بلعام فتى بمكة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ليعلمه فاتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يتعلم منه ، أو يعيش عبد بني الحضرمي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلقنه القرآن ، أو غلامان صيقلان لبني الحضرمي من أهل عين التمر كانا يقرآن التوراة فربما جلس إليهما الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو سلمان الفارسي . { يُلْحِدُونَ } يميلون ، أو يعرضون به . والعرب يعبّرون عن الكلام باللسان .
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
{ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ } نزلت في عبد الله بن أبي سرح ومِقْيسَ بن صُبَابة وعبد الله بن خطل وقيس بن الوليد بن المغيرة كفروا بعد إيمانهم { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } نزلت في عمار وأبويه ياسر وسمية ، أو في بلال وصهيب وخباب أظهروا الكفر وقلوبهم مطمئنة بالإيمان .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
{ قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً } مكة ، وسمي الجوع والخوف لباساً ، لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس ، بلغ بهم القحط أن أكلوا القد والعلهز وهو الوبر يخلط بالدم « والقراد ثم » يؤكل « ع » ، أو المدينة آمنت بالرسول صلى الله عليه وسلم ثم كفرت بعده بقتل عثمان رضي الله تعالى عنه وما حدث فيها من الفتن قالته حفصة ، أو كل مدينة كانت على هذه الصفة من سائر القرى .
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
{ بِجَهَالَةٍ } أنه سوء ، أو بغلبة الشهوة مع العلم بأنه سوء .
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
{ أُمَّةً } إماماً يؤتم به ، أو معلماً للخير ، أو أمة يقتدى به سمي بذلك لقيام الأمة به { قَانِتاً } مطيعاً ، أو دائماً على العبادة { حَنِيفاً } مخلصاْ ، أو حاجاً ، أو مستقيماً على طريق الحق .
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
{ حَسَنَةً } نبوة ، أو لسان صدق ، أو كل أهل الأديان يتولونه ويرضونه ، أو ثناء الله تعالى عليه .
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } في الإسلام والبراءة من الأوثان ، أو في جميع ملته إلا ما أُمر بتركه .
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
{ اخْتَلَفُواْ فِيهِ } فقال بعضهم : السبت أعظم الأيام حرمة ، لان الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه ، أو قال بعضهم : الأحد أفضل ، لأن الله تعالى ابتدأ الخلق فيه ، أو عدلوا عما أمروا به من تعظيم الجمعة تغليباً لحرمة السبت أو الأحد .
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
{ سَبِيلِ رَبِّكَ } الإسلام { بِالْحِكْمَةِ } بالقرآن { وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } القرآن في لين من القول ، أو بما فيه من الأمر والنهي .
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } نزلت في قريش لما مثلوا بقتلى أُحُد ثم نسخت بقوله تعالى { واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } [ النحل : 127 ] أو هي محكمة ، أو نزلت في كل مظلوم أن يقتص بقدر ظلامته . { وَاصْبِرْ } عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا به قتلى أُحد من المثلة .
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
{ اتَّقَواْ } المحرمات ، وأحسنوا بالفرائض والطاعات .
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
{ سُبْحَانَ } : تنزيه الله تعالى من السوء ، أو براءة الله تعالى من السوء . وهو تعظيم لا يصلح لغير الله . أخذ من السبح في التعظيم وهو الجري فيه ، وقيل هو هنا تعجيب أي اعجبوا للذي أسرى ، لما كان مشاهدة العجب سبباً للتسبيح صار التسبيح تعجباً . ويطلق التسبيح على الصلاة ، وعلى الاستثناء { لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } [ القلم : 28 ] ، وعلى النور « سبحات وجهه » ، وعلى التنزيه ، سئل الرسول صلى الله عليه سلم عن التسبيح فقال : « إنزاه الله تعالى على السوء » { بِعَبْدِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم . والسرى سير الليل . { الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } الحرم كله ، أو المسجد نفسه ، سرت روحه وجسده فصلى في بيت المقدس بالأنبياء ثم عرج إلى السماء ثم رجع إلى المسجد الحرام فصلى به الصبح آخر ليلته ، أو لم يدخل القدس ولم ينزل عن البراق حتى عرج به ثم عاد إلى مكة ، أو أسرى بروحه دون جسده فكنت رؤيا من الله تعالى صادقة : { الأَقْصَا } لبعده من المسجد الحرام . { بَارَكْنَا } بالثمار ومجرى الأنهار ، أو بمن جُعل حوله من الأنبياء والصالحين { مِنْ ءَايَاتِنَا } عجائبنا ، أو من أريهم من الأنبياء حتى وصفهم واحداً واحداً { السَّمِيعُ } لتصديقهم بالإسراء وتكذيبهم { الْبَصِيرُ } بما فعل من الإسراء والمعراج .
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
{ وَكِيلاً } : ، شريكاً ، أو رباً يتوكلون عليه في أمورهم ، أو كفيلاً بأمورهم .
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
{ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا } : هم موسى وبنو إسرائيل : { شَكُوراً } نوح يحمد ربه على الطعام ، أو لا يستجد ثوباً إلا حمد الله على لبسه .
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
{ وَقَضَيْنَآ } أخبرنا { لَتُفْسِدُنَّ } بقتل الناس وأخذ أموالهم وتخريب ديارهم . { عُلُوّاً } : بالاستطالة والغلبة .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
{ بَعَثْنَا } خلينا بينكم وبينهم خذلاناً بظلمكم ، أو أمرناهم بقتالكم { عِبَاداً } جالوت إلى أن قتله داود « ع » أو بختنصر ، أو سنحاريب أو العمالقة وكانوا كفاراً ، أو قوم من أهل فارس يتحسسون أخبارهم . { فَجَاسُواْ } مشوا وترددوا بين الدور والمساكن « ع » ، أو قتلوهم بين الدور والمساكن قال :
ومنا الذي لا قى بسيف محمد ... فجاس به الأعداء عرض العساكر
أو طلبوا ، أو نزلوا .
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
{ الْكَرَّةَ } : الظفر بهم بقتل جالوت ، أو غزو ملك بابل فاستنقذوا ما بيده من الأسرى والأموال ، أو أطلق لهم ملك بابل الأسرى والأموال . { وَأَمْدَدْنَاكُم } جدد عليهم النعمة فبقوا بها مائة وعشرين سنة ، وبعث فيهم أنبياء .
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
{ لأِنفُسِكُمْ } : ثواب إحسانكم { وَإِنْ أَسَأْتُمْ } عاد العقاب عليكم ، رغّب في الإحسان وحذر من الإساءة . { وَعْدُ الأَخِرَةِ } : بعث عليهم بختنصر ، أو انطياخوس الرومي ملك نينوي { الْمَسْجِدَ } : بيت المقدس . يتبروا : يهلكوا ويدمروا ، أو يهدموا ويخربوا .
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{ يَرْحَمَكُمْ } : مما حل بكم من النقمة { وَإِنْ عُدتُّمْ } إلى الفساد عدنا إلى الانتقام ، فعادوا فبُعث عليهم المؤمنون يُذلونهم بالجزية والمحاربة إلى القيامة « ع » { حَصِيراً } فراشاً من الحصير المفترش أو حبسنا من الحصر ، والملك حصير لاحتجابه .
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
{ لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } شهادة التوحيد ، أو أوامره ونواهيه . وأقوم : أصوب .
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
{ وَيَدْعُ الإِنسَانُ } إذا ضجر وغضب على نفسه وولده بالهلاك ، ولو أجيب كما يجاب في دعاء الخير لهلك ، أو يطلب النفع عاجلاً بالضرر آجلاً . { عَجُولاً } بدعائه على نفسه وولده عند ضجره « ع » ، أو أراد آدم نفخت الروح فيه فبلغت سرته فأراد أن ينهض عجلاً .
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
{ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ } ظلمة الليل التي لا تبصر فيها المرئيات كما لا يبصر ما انمحى من الكتابة « ع » ، أو اللطخة السوداء في القمر ليكون ضوءه أقل من ضوء الشمس ليتميز الليل من النهار . { ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } الشمس مضيئة للإبصار ، أو أهله بصراء فيه .
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
{ طَآئِرَهُ } : عمله من الخير الشر { فِى عُنُقِهِ } لأنه كالطوق أو حظه ونصيبه طار سهم فلان بكذا خرج نصيبه وسهمه منه .
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
{ كِتَابَكَ } كتابه : طائره الذي في عنقه { حَسِيباً } شاهداً ، أو حاكماً عليها بعملها من خير أو شر . ولقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك بعملك .
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
{ وَلا تَزِرُ } : لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ، أو لا يجوز أن يعصي لمعصية غيره { مُعَذِّبِينَ } : في الدنيا والآخرة على شرائع الدين حتى نبعث رسولاً مبيناً ، أو على شيء من المعاصي حتى نبعث رسولاً داعياً .
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
{ أَرَدْنَآ } صلة تقديره إذا أهلكنا ، أو حكمنا لهلاك قرية . { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } بالطاعة { فَفَسَقُواْ } بالمخالفة « ع » { أَمَرْنَا } جعلناهم أمراء مسلطين . { آمرنا } كثرّنا عددهم ، أمر القوم كثروا وإذا كثروا احتاجوا إلى أمراء { مُتْرَفِيهَا } الجبارون ، أو الرؤساء .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
{ الْقُرُونِ } مدة القرن مائة وعشرون سنة ، أو مائة سنة ، أو أربعون سنة .
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
{ هَؤُلآءِ وَهَؤُلآءِ } نمد البَر والفاجر { مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ } في الدنيا { مَحْظُوراً } منقوصاً ، أو ممنوعاً .
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
{ وَقَضَى } أمر « ع » قال الضحاك : كانت في المصحف « ووصى » فألصق الكاتب الواو بالصاد فصارت وقضى قلت : هذا هوس { فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } إذا رأيت بهما الأذى أو أمطت عنهما الخلاء فلا تضجر كما لم يضجرا في صغرك لما أماطاه عنك ، { أُفٍّ } : كل ما غلظ وقبح من الكلام أو استقذار للنتن وتغير الرائحة ، أو كلمة دالة على التبرم والضجر . ويقولون : أُف وتف فالأُف وسخ الأظفار والتف ما رفعته بيدك من الأرض من شيء حقير . { كَرِيماً } ليناً ، أو حسناً . نزلت والتي بعدها في سعد بن أبي وقاص « ع » .
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
{ لِلأَوَّابِينَ } المسبحون « ع » ، أو المطيعون ، أو مصلو الضحى ، أو المصلون بين المغرب والعشاء ، أو التائبون من الذنوب ، أو التائب مرة بعد أخرى كلما أذنب بادر التوبة .
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
{ الْقُرْبَى } قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أمر الولاة بدفع حصتهم من الفيء والغنيمة ، أو قرابة المرء من قبل أبويه يدفع له نفقته الواجبة ، أو الوصية لهم عند الوفاة .
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
{ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ } عمن سألك من هؤلاء { ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ } طلباً لرزق الله { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } عِدْهم خيراً ورد عليهم جميلاً ، أو إن أعرضت حذراً أن ينفقوا ذلك في المعصية فمنعته { ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ } له { مَّيْسُوراً } ليناً سهلاً قاله ابن زيد .
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
{ وَلا تَقْتُلُواْ } يريد وأد البنات خوف الفقر { خِطْئاً } : العدول عن الصواب تعمداً والخطأ : العدول عنه سهواً ، أو الخطء : ما فيه إثم والخطأ : ما لا إثم فيه .
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
{ بِالْحَقِّ } بما يستحق به القتل . { سُلْطَاناً } بالقود ، أو بالتخيير بين القود والدية والعفو { فَلا يُسْرِف } يقتل غير القاتل ، أو يقتل الجماعة بالواحد { إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً } إن الولي ، أو القتيل كان منصوراً بقتل قاتله .
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
{ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } التجارة بماله ، أو حفظ أصله وتثمير فرعه { أَشُدَّهُ } ثمان عشرة سنة ، أو الاحتلام والعقل والرشد . { بِالْعَهْدِ } العقود بين المتعاقدين ، أو الوصية بمال اليتيم ، أو كل ما أمر الله به ونهي عنه { مَسْئُولاً } عنه الذي عهد به ، أو تُسأل العهد لما نقضت كما تُسأل المؤودة بأي ذنب قتلت .
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
{ بِالْقِسْطَاسِ } : القبان ، أو الميزان صغيراً أو كبيراً ، وهو العدل بالرومية .
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
{ وَلا تَقْفُ } : لا تقل ، أو لا ترم أحداً بما لا تعلم « ع » ، أو من القيافة وهو اتباع الأثر كأنه يتبع قفا المتقدم .
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
{ مَرَحاً } شدة الفرح ، أو الخيلاء في المشي ، أو التكبر فيه ، أو البطر والأشر ، أو تجاوز الإنسان قدره . { لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ } من تحت قدمك { وَلَن تَبْلُغَ الجِبَالَ } بتطاولك ، زجره عن التطاول الذي لا يدرك به غرضاَ ، أو يريد كما أنك لا تخرق الأرض ولا تبلغ الجبال طولاً فلذلك لا تبلغ ما تريده ، بكبرك وعجبك إياساً له من بلوغ إرادته .
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
{ وَإِن مِّن شَىْءٍ } حي إلا يسبح دون ما ليس بحي ، أو كل شيء حي أو غيره حتى صرير الباب . أو تسبيحها ما ظهر فيها من آثار الصنعة وبديع القدرة فكل من رآه سبح وقدس .
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
{ حِجَاجاً مَّسْتُوراً } شبههم في إعراضهم بمن بينهم وبينه حجاب ، أو نزلت في قوم كانوا يؤذونه إذا قرأ ليلاً فحال الله تعالى بينهم وبين أذاه .
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
{ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } : كان جماعة من قريش منهم الوليد بن المغيرة يتناجون بما ينفر الناس عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فنجواهم قولهم : إنه ساحر أو مجنون أو يأتي بأساطير الأولين { مَّسْحُوراً } سُحر فاختلط عليه أمره ، أو مخدوعاً ، أو له سَحَرُ يعنون يأكل ويشرب فهو مثلكم وليس بملك .
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
{ وَرُفَاتاً } تراباً ، أو ما أرفت من العظام مثل الفتات .
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)
{ حِجَارَةً } إن عجبتم من إنشائكم لحماً ودماً فكونوا حجارة أو حديداً إن قدرتم ، أو لو كنتم حجارة أو حديداً لم تفوتوا الله تعالى إذا أرادكم إلا أنه أخرجه مخرج الأمر أبلغ إلزاماً .
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
{ مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } السماوات والأرض والجبال ، أو الموت « ع » ، أو البعث لأنه أكبر شيء عندهم ، أو جميع ما تستعظمونه من خلق الله تعالى فإن الله يميتكم ثم يحييكم { فَسَيُنْغِضُونَ } يحركون رؤوسهم استهزاء .
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
{ يَدْعُوكُمْ } الله للخروج إلى أرض المحشر بكلام يسمعه جميع العباد ، أو يسمعون الصيحة فتكون داعية إلى اجتماعهم في أرض القيامة . { بِحَمْدِهِ } فتستجيبون حامدين بألسنتكم ، أو على ما يقتضي حمده من أفعالكم . { لَّبِثْتُمْ } في الدنيا لطول لبث الآخرة ، أو احتقروا أمر الدنيا لما عاينوا القيامة ، أو لما يرون من سرعة الرجوع يظنون قلة لبثهم في القبور ، أو عبّر بذلك عن تقريب الوقت لقول الحسن رضي الله تعالى عنه كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل .
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
{ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } : تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الشيطان ينزغ في تكذيبه ، أو امتثال الأوامر والنواهي « ح » أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو أن يرد خيراً على من شتمه ، قيل نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه شتمه بعض كفار قريش فَهَمَّ به .
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
{ يَرْحَمْكُمْ } بالهدى و { يُعَذِّبْكُمْ } بالضلال ، أو بالتوبة ويعذبكم بالإصرار ، أو بإنجائكم من عدوكم ويعذبكم بتسليطهم عليكم . { وَكِيلاً } يمنعهم من الكفر ، أو كفيلاً لهم يؤخذ بهم .
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
{ أُوْلئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ } نزلت فيمن عبد الجن فأسلم الجن ابتغاء الوسيلة وبقي الإنس على كفرهم ، أو الملائكة عبدها قبائل من العرب ، أو عُزير وعيسى وأمه « ع » وهم المعنيون بقوله : { ادعوا الذين زَعَمْتُم } [ الإسراء : 56 ] .
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
{ أَحَاطَ } علم ، أو عصمك منهم أن يقتلوك حتى تبلغ الرسالة أو أحاطت بهم قدرته فهم في قبضته . { فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } لما أخبرهم أنه أُسري به إلى بيت المقدس رؤيا عين ارتد جماعة من المسلمين افتتاناً بذلك ، أو رأى في النوم أنه يدخل مكة فلما رجع عام الحديبية افتُتن قوم برجوعه ، أو رأى قوماً ينزون على منابره نزوان القردة فساءه ذلك قاله سهل بن سعد { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ } شجرة الزقوم طعام الأثيم . افتتنوا بها فقال أبو جهل وشيعته : النار تأكل الشجر فكيف تنبته ، أو هي الكشوث الذي يلتوي على الشجر « ع » .
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
{ لأَحْتَنِكَنَّ } لأستولين عليهم ، أو لأضلنهم ، أو لأستأصلنهم بالإغواء ، أو لأستميلنهم ، أو لأقودنهم إلى العصيان كما تُقاد الدابة بحنكها إذا شد فيه حبل يجذبها ، أو لأقتطعنهم إلى المعاصي .
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
{ وَاسْتَفْزِزْ } استخف واستنزل { بِصَوْتِكَ } الغناء واللهو ، أو بدعائك إلى المعصية « ع » ، { وَأَجْلِبْ } الجلب السوق بجلبة من السائق { بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } : كل راكب وماشي في المعصية { وَشَارِكْهُمْ } في الأموال التي أخذوها بغير حلها ، أو أنفقوها في المعاصي ، أو ما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي « ع » ، أو ما ذبحوه لآلهتهم . { وَالأَوْلادِ } يريد أولاد الزنا ، أو قتل المؤودة « ع » ، أو صبغة أولادهم في الكفر حتى هودوهم ونصروهم أو تسميتهم بعبيد الآلهة كعبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى وعبد اللات .
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
{ يُزْجِى } يسوق ويسير .
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
{ حَاصِباً } حجارة من السماء ، أو الحاصب الريح لرميها بالحصباء والقاصف الريح التي تقصف الشجر .
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
{ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ } : بالإنعام عليهم ، أو بأن جعلنا منهم خير أمة أُخرجت للناس ، أو بأكلهم الطعام بأيديهم وغيرهم بتناوله بفمه .
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
{ بِإِمَامِهِمْ } : نبيهم ، أو كتابهم المنزل عليهم ، أو بكتب أعمالهم من خير أو شر « ع » ، أو بمن اقتدوا به في الدنيا .
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
{ وَإِن كَادُواْ } كان الرسول صلى لله عليه وسلم يطوف فمنعوه أن يستلم الحجر حتى يُلم بآلهتهم فحدث نفسه فقال : « ما عليَّ إذ ألم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر والله يعلم أني كاره » ، فأبى الله ذلك فنزلت ، أو قالت ثقيف : أجلنا سنة حتى نأخذ ما يُهدى لآلهتنا فاذا أخذناه كسرنا الآلهة وأسلمنا فهم الرسول صلى الله عليه وسلم بإجابتهم فنزلت .
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
{ ضِعْفَ الْحَيَاةِ } ضعف عذاب الحياة { وَضِعْفَ } عذاب الممات أو ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة . فلما نزلت قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين » .
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
{ لَيَسْتَفِزُّونَكَ } يقتلونك ، أو يزعجونك باستخفاف ، أراد اليهود إخراجه من المدينة فقالوا : أرض الأنبياء الشام وليست هذه أرض الأنبياء ، أو أرادت قريش إخراجه من مكة قبل هجرته ، أو أرادوا إخراجه من جزيرة العرب كلها لأنهم قد أخرجوه من مكة { خِلافَكَ } { وخِلافك } بعد { إِلآَّ قَلِيلاً } ما بين إخراجهم له إلى أن قُلتوا ببدر إن جعلناهم قريشاً ، أو ما بين ذلك وقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير إن جعلناهم اليهود .
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
{ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } غروبها يريد صلاة المغرب « ع » ، أو زوالها يريد صلاة الظهر « ع » والعين تُدلك بالراحة عند الغروب لترى الشمس وعند الزوال لشدة شعاعها . { غَسَقِ الَّيْلِ } ظهور ظلامه ، أو دنوه وإقباله « ع » يريد المغرب « ع » ، أو العصر . { وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ } سمى الصلاة قرآناً لتأكد القراءة في الصلاة . أو أقم القراءة في صلاة الفجر { مَشْهُوداً } تشهده ملائكة الليل والنهار .
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
فَتَهَجَّدْ الهجود النوم ، والتهجد السهر بعد النوم ، { نَافِلَةً لَكَ } فضيلة لك ولغيرك كفارة ، أو مكتوبة عليك مستحبة لغيرك « ع » أو حضضه بالترغيب فيها لحيازة فضلها لكرامته عليه { مَّحْمُوداً } الشفاعة للناس في القيامة ، أو إجلاسه على العرش يوم القيامة ، أو إعطاؤه لواء الحمد يومئذ .
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
{ مُدْخَلَ صِدْقٍ } دخول المدينة لما هاجر و { مُخْرَجَ صِدْقٍ } من مكة للهجرة ، أو أدخلني الجنة وأخرجني من مكة إلى المدينة ، أو مدخل فيما أرسلتني به من النبوة وأخرجني منه بتبليغ الرسالة مخرج صدق ، أو أدخلني مكة وأخرجني منها آمناً ، أو أدخلني في قبري وأخرجني منه « ع » أو أدخلني في طاعتك وأخرجني من معصيتك ، أو أدخلني في الإسلام وأخرجني من الدنيا . { سُلْطَاناً } ملكاً عزيزاً أقهر به العصاة ، أو حجة بينه .
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
{ الْحَقُّ } القرآن { الْبَاطِلُ } الشيطان ، أو الحق : الجهاد ، والباطل : الشرك { زَهُوقاً } ذاهباً ، ولما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة أمر بثوب فَبُل بالماء وجعل يضرب به تلك التصاوير ويمحوها ويقول : { جَآءَ الْحَقُّ وَزَهقَ الْبَاطِلُ } الآية .
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
{ الشَّرُّ } الفقر ، أو السقم .
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
{ شَاكِلَتِهِ } حِدَتِه ، أو طبيعته « ع » ، أو نيته ، أو دينه ، أو أخلاقه .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
{ الرُّوحِ } جبريل عليه السلام « ع » ، أو ملك له سبعون ألف وجه بكل وجه سبعون ألف لسان ، يسبح الله تعالى بجميع ذلك قاله علي رضي الله تعالى عنه ، أو القرآن « ح » { رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] ، أو روح الحيوان ، سأله عنها قوم من اليهود إذ كان في كتابهم أنه إن أجاب عن الروح فليس بنبي { قَلِيلاً } في معلومات الله ، أو قليلاً بحسب ما تدعو إليه الحاجة حالاً فحالاً .
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
{ تَفْجُر } تشقق ، الفجر لانشقاقه عن عمود الصبح ، والفجور شق الحق بالخروج إلى الفساد . { يَنبُوعاً } عينا تنبع منها الماء طلبوا الجنان والعيون ببلدهم إذ لم يكن ذلك ببلدهم .
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
{ كِسَفاً } قِطعاً « ع » ، كسفة الثوب قطعته ، والكسوف لانقطاع النور منه . { قَبِيلاً } كل قبيلة على حدتها ، أو مقابلة نعاينهم ونراهم ، أو كفيلاً ، القبيل : الكفيل تقبلت بكذا تكفلته .
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
{ زُخْرُفٍ } الزخرف النقوش ، أو الذهب « ع » ، من الزخرفة وهي تحسين الصورة . سأله ذلك عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان والأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأبو جهل وعبد الله بن [ أبي ] أمية والعاص بن وائل وأمية بن خلف ونبيه ومُنبه ابنا الحجاج .
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
{ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ } يحكم بهدايته { فَهُوَ الْمُهْتَدِ } ، بإخلاصه وطاعته . { وَمَن يُضْلِلْ } يحكم بضلاله فلا ولي له يهديه ، أو يقضي بعقوبته فلا ناصر يمنعه من عقابه { عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } حقيقة زيادة في عقابهم ثم أبصروا لقوله : { وَرَءَا المجرمون النار } [ الكهف : 53 ] وتكلموا فدعوا هنالك بالثبور ، و { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] ، أو لا يزول حواسهم فهم عمي عما يسرهم ، بكم عما ينفعهم ، صم عما يمتعهم . « عح » { خَبَتْ } سكن لهبها { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } التهاباً ولا يخف عذابهم إذا خبت .
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
{ لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ } عام عند الجمهور ، أو خاص بالمشركين { لأَمْسَكْتُمْ } خوف الفقر { قَتُوراً } مقتراً ، أو بخيلاً « ع » .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
{ تِسْعَ ءَايَاتِ } يده وعصاه ولسانه والبحر الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم « ع » ، أو نحو من ذلك إلا آيتين [ بدل ] منها الطمسة والحجر ، أو نحو من ذلك وزيادة السنين [ ونقص من ] الثمرات أو سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عنها قوم من اليهود فقال : « لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقلته ولا تقذفوا محصنة ، ولا تفروا من الزحف ، وأنتم يا يهود عليكم خاصة لا تعدوا في السبت فقبلوا يده ورجله » { مَسْحُوراً } سحرت لما تحمل عليه نفسك من هذا القول والفعل المستعظمين ، أو ساحراً لغرائب أفعالك ، أو مخدوعاً ، أو مغلوباً .
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
{ مَثْبُوراً } هالكاً ، أو مغلوباً .
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
{ يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ } يزعجهم بالنفي منها ، أو يهلكهم فيها بالقتل .
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
{ وَعْدُ الأَخِرَةِ } القيامة وهي الكرة الآخرة ، أو تحويلهم إلى الشام ، أو نزول عيسى عليه الصلاة والسلام { لَفِيفاً } مختلطين لا يتعارفون ، أو جميعاً « ع » .
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
{ فَرَقْنَاهُ } فرقنا فيه بين الحق والباطل و { فرَّقناه } أنزلناه مفرقاً آية آية { مُكْثٍ } تثبت وترتيل ، أو كان ينزل منه شيء ثم يمكثون بعده ما شاء الله ثم ينزل شيء أخر ، أو أن يمكث في قراءته عليهم مفرقاً شيئاً بعد شيء .
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
{ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو قوم من اليهود ، والمتلو عليهم كتابهم إيماناً بما فيه من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم [ أو ] القرآن ، كان ناس من أهل الكتاب قالوا : { سُبْحَانَ رَبِّنَآ } الآية [ الإسراء : 108 ] { لِلأَذْقَانِ } الذقن مجتمع اللحيين ، أو الوجوه ها هنا ، أو اللحى « ح » .
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
{ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ } كان ذكر الرحمن قليلاً في القرآن كثيراً في التوراة ، فلما أسلم ابن سلام وأصحابه آثروا أن يكون ذكر الرحمن كثيراً في القرآن فنزلت ، أو دعا الرسول صلى الله عليه وسلم في سجوده فقال : « يا رحمن يا رحيم » ، فقالوا : هذا يزعم أن له إلهاً واحداً وهو يدعو مثنى مثنى فنزلت « ع » { بِصَلاتِكَ } بدعائك أو بالصلاة المشروعة ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجهر في القراءة فيها بمكة فإذا سمعوه سبّوه فَنُهي عن شدة الجهر وعن المخافتة لئلا يسمع أصحابه ويبتغي بينهما سبيلاً « ع » ، أو نُهي أن يجهر في الجميع ويسر في الجميع وأمر بالجهر في صلاة الليل والإسرار في صلاة النهار ، أو عن الجهر بتشهد الصلاة ، أو عن الجهر بفعل الصلاة ، لأنه كان يجهر بها فتؤذيه قريش فخافت بها فأمر أن لا يجهر بها كما كان وأن لا يخافت بها كما صارت ويتخذ بينهما سبيلاً ، أو الجهر بها تحسينها رياء والمخافتة إساءتها في الخلوة ، أو لا يصليها رياء ولا يتركها حياء .
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
{ وَلَمْ يَكُن لُّهُ وَلِىٌّ } لم يحالف أحداً ، أو لا يطلب نصر أحد ، أو لا ولي له من اليهود والنصارى لأنهم أذل الناس { وَكَبِّرْهُ } عن كل ما لا يجوز عليه ، أو صفه بأنه أكبر من كل شيء ، أو عظمه تعظيماً .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
{ عَبْدِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم ، والكتاب : القرآن تمدح بإنزاله عليه خصوصاً وعلى الخلق عموماً . { عِوَجَا } ملتبساً ، أو مختلفاً ، أو عادلاً عن الحق والاستقامة والبلاغة إلى الباطل والفساد والعي ، والعِوَج بكسر العين في الدين والطريق وما ليس بقائم منتصب ، وبفتحها في القناة والخشبة وما كان قائماً منتصباً .
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
{ قَيِّماً } مستقيماً معتدلاً ، أو قيّم على كتب الله يصدقها وينفي الباطل عنها ، أو يعتمد عليه ويرجع إليه كقيّم الدار ، وفيه تقديم تقديره « أنزل الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً » قاله الجمهور ، أو التقدير لم يجعل له عوجاً لكن جعله قيّماً { بَأْساً } يحتمل الاستئصال بعذاب الدنيا ، أو جهنم .
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
{ بَاخِعٌ } قاتل ، أو متحسر أسف على آثار قريش { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } بالقرآن { أَسَفاً } غضباً ، أو جزعاً ، أو ندماً ، أو حزناً .
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
{ مَا عَلَى الأَرْضِ } أشجارها وأنهارها ، أو الأنبياء العلماء ، أو الرجال ، أو كل ما عليها ، أو زينة لها : شهوات لهم زينت في أعينهم وأنفسهم { أَحْسَنُ عَمَلاً } تركاً لها وإعراضاً عنها ، أو أصفى قلباً وأهدى سمتاً ، أو توكلاً علينا فيها ، ويحتمل اعتباراً بها وتركاً لحرامها .
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
{ صَعِيداً } أرضاً مستوية ، أو وجه الأرض لصعوده ، أو التراب { جُرُزاً } بلقعاً أو ملساً ، أو محصورة ، أو يابسة لا نبات بها ولا زرع . قد جرفتهن السنون الأجراز .
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
{ الْكَهْفِ } غار في الجبل الذي أووا إليه . { وَالرَّقِيمِ } اسم ذلك الجبل ، أو اسم قريتهم ، أو كلبهم ، أو لكل كلب ، أو الوادي ، وقيل هو وادٍ بالشام نحو أيلة ، أو الكتاب الذي فيه شأنهم من رقم الثوب ، وكان لوحاً من رصاص على باب الكهف ، أو في خزائن الملوك لعجيب أمرهم ، أو الدواة بالرومية ، أو قوم من أهل السراة كانت حالهم كحال أصحاب الكهف ، قاله سعيد { عَجَباً } ما حسبت أنهم كانوا عجباً لولا أخبرناك وأوحينا إليك ، أو أحسبت أنهم أعجب آياتنا وليسوا بأعجب خلقنا .
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
{ أَوَى الْفِتْيَةُ } قوم فروا بدينهم إلى الكهف ، أو أبناء أشراف خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد فقال : أسنهم أجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده « إن ربي رب السماوات والأرض » فقالوا جميعا : { رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض } [ الكهف : 14 ] ثم دخلوا الكهف فلبثوا فيه ثلاثمائة وتسعاً ، أو من أبناء الروم دخلوا الكهف قبل عيسى عليه الصلاة والسلام وضُرب على آذانهم فلما بُعث عيسى عليه الصلاة والسلام أُخبر بخبرهم ثم بُعثوا بعده في الفترة التي بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم .
{ شَطَطاً } كذباً ، أو غلواً ، أو جوراً .
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
{ فَضَرَبْنَا } الضرب على الآذان منعها من السماع ، يدل على أنهم كانوا نياماً وضرب على آذانهم لئلا يسمعوا من يوقظهم { عَدَداً } محصية ، أو كاملة ليس فيه شهور ولا أيام فيها .
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{ بَعَثنَاهُمْ } أيقظناهم { أَمَداً } عدداً ، أو أجلاً ، أو غاية { الْحِزْبَيْنِ } من قوم الفتية ، أو أحدهما الفتية والآخر من حضرهم من أهل زمانهم ، أو أحدهما مؤمنون والآخر كفار ، أو أحدهما الله والآخر الخلق تقديره أأنتم أعلم أم الله .
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
{ وَرَبَطْنَا } ثبتنا ، أو ألهمناها صبراً { شَطَطاً } غلواً ، أو تباعداً .
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
{ بِسُلْطَانِ } حجة ، أو عذر ، أو كتاب .
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
{ مِّرْفَقاً } سعة ، أو معاشاً ، بكسر الميم إذا وصل إليك من غيرك ، وبفتحها ، إذا وصلته إلى غيرك .
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
{ تَّزَاوَرُ } تعرض عنه فلا تصيبه ، أو تميل عنه ذات اليمين { تَّقْرِضُهُمْ } تحاذيهم ، القرض : المحاذاة ، أو تجوزهم منحرفة وتقطعهم قرضته بالمقراض قطعته ، أو تعطيهم القليل من شعاعها ثم تأخذه بانصرافها ، من قرض الدراهم التي ترد ، لأنهم كانوا في مكان موحش ، أو لم يكن عليهم سقف فلو طلعت عليهم لأحرقتهم ، كان كهفهم بإزاء بنات نعش فلم تصبهم عند شروقها وغروبها ، أو صرفها الله تعالى عنهم لتبقى أجسادهم عبرة لمن شاهدهم . { فَجْوَةٍ } فضاء ، أو داخل منه ، أو مكان موحش ، أو مكان متسع .
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً } ، لأن أعينهم مفتوحة يتنفسون ولا يتكلمون ، أو لأنهم يقلبون يميناً وشمالاً . { وَنُقَلِّبُهُمْ } تقليب النيام لئلا تأكلهم الأرض ، أو كل ستة أشهر على جنب « ع » ، أو لم يقلبوا إلا في التسع بعد الثلاثمائة { وَكَلْبُهُم } من جملة الكلاب اسمه « حمران » أو « قطمير » أو هو إنسان طباخ لهم ، أو راعي { بِالْوَصِيدِ } لعله العتبة ، أو الفناء « ع » ، أو الصعيد والتراب ، أو الباب أو الحظيرة . { رُعْباً } فزعاً لطول أظفارهم وأشعارهم ولما ألبسوا من الهيبة لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله ، ولما غزا ابن عباس رضي الله تعالى عنه مع معاوية بحر الروم فانتهوا إلى الكهف عزم معاوية أن يدخل عليهم فينظر إليهم ، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ليس هذا لك فقد منعه الله تعالى من هو خير منك ، فقال : { لَوِ أطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ } الآية فأرسل إليهم جماعة فلما دخلوا الكهف أرسل الله تعالى ريحاً فأخرجتهم . قيل كان رئيسهم نبياً اتبعوه وآمنوا به فكان ذلك معجزة له .
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
{ بَعَثْنَاهُمْ } أيقظناهم ، وكان الكلب قد نام معهم { لَبِثْنَا يَوْماً } لما أُنيموا أول النهار وبُعثوا آخر نهار أخر قالوا لبثنا يوماً لأنه أطول مدة النوم المعتاد فلما رأوا الشمس لم تغرب قالوا : أو بعض يوم . { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ } لما رأى كبيرهم اختلافهم قال : ذلك ، أو هو حكاية عن الله تعالى أنه أعلم بمدة لبثهم . { بِوَرِقِكُمْ } بكسر الراء وسكونها الدراهم ، وبفتحها الإبل والغنم { أزْكَى } أكثر ، أو أحل ، أو خير ، أو أطيب ، أو أرخص . { بِرِزْقٍ } يحتمل بما ترزقون أكله ، أو بما يحل أكله { وَلْيَتَلَطَّفْ } في إخفاء أمركم ، أو ليسترخص فيه دليل على جواز المناهدة وكان الجاهلية يستقبحونها فأباحها الشرع .
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
{ يَرْجُمُوكُمْ } بأيديهم استنكاراً لكم ، أو بألسنتهم غيبة وشتماً أو يقتلوكم لأن الرجم من أساب القتل .
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{ أَعْثَرْنَا } أظهرنا أهل بلدهم عليهم ، أو اطَّلعنا برحمتنا إليهم { لِيَعْلَمُواْ } يحتمل ليعلم أهل بلدهم أن وعد الله بالبعث حق لأنه لما خرق العادة في إنامتهم كان قادراً على إحياء الموتى ، أو ليرى أهل الكهف بعد علمهم أن وعد الله حق { إِذْ يَتَنَازَعُونَ } لما دخل أحدهم المدينة لشراء الطعام استنكر أهل المدينة شخصه وورقه لبعد العهد فحمل إلى الملك وكان صالحاً مؤمناً لما نظر إليه قال : لعله من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك ، وقد كنت أدعوا الله أن يرينيهم ، وسأل الفتى فأخبره ، فانطلق والناس معه إليهم فلما دنا من الكهف وسمع الفتية كلامهم خافوا وأوصى بعضهم بعضاً بدينهم فلما دخلوا عليهم ماتوا ميتة الحق ، فتنازعوا هل هم أحياء ، أو موتى؟ ، أو علموا موتهم وتنازعوا في هل يبنون عليهم بناء يعرفون به ، أو يتخذون عليهم مسجداً .
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
{ وَثَامِنُهُمْ } أدخل الواو على انقطاع القصة وأن الخبر قد تم ، والذين اختلفوا في عددهم أهل بلدهم قبل الظهور عليهم ، أو أهل الكتاب بعد طول العهد بهم { رَجْماً بِالْغَيْبِ } قذفاً بالظن { قَلِيلٌ } ابن عباس رضي الله تعالى عنهما « أنا من القليل الذي استثنى الله تعالى كانوا سبعة وثامنهم كلبهم » ، ابن جريج : « كانوا ثمانية » وقوله ثامنهم كلبهم أي صاحب كلبهم ولما غابوا عن قومهم كتبوا أسماءهم ، فلما بان أمرهم كُتبت أسماؤهم على باب الكهف . { مِرَآءً ظَاهِراً } ما أظهرنا لك من أمرهم ، أو حسبك ما قصصناه عليك فلا تسأل عن إظهار غيره ، أو بحجة واضحة وخبر صادق ، أو لا تجادل أحداً إلا أن تحدثهم به حديثاً « ع » ، أو هو أن تشهد الناس عليه { وَلا تَسْتَفْتِ } يا محمد فيهم أحداً من أهل الكتاب ، أو هو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ونهي لأمته .
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
{ إِلآ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } فيه إضمار إلا أن تقول : لأنه إذا علق بالمشيئة لم يكن كاذباً بأخلافه ، ولا كفارة عليه إن كان يمين مع ما فيه من الإذعان لقدرة الله تعالى { إِذَا نَسِيتَ } الشيء فاذكر الله تعالى ليذكرك إياه فإن فعل برئت ذمتك وإلا فسيدلك على أرشد مما نسيته ، أو اذكره إذا غضبت ليزول غضبك ، أو إذا نسيت الاستثناء فاذكر ربك بقولك { عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى } الآية ، أو اذكره بالاستثناء ، ويصح الاستثناء إلى سنة فتسقط الكفارة ولا يصح بعدها « ع » ، أو في مجلس اليمين ولا يصح بعد فراقه ، أو يصح ما لم يأخذ في كلام غير اليمين ، أو مع قرب الزمان دون بعده ، أو مع الاتصال باليمين دون الانفصال .
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
{ وَلَبِثُواْ } من قول نصارى نجران ، أو اليهود فرده الله تعالى بقوله : { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } ، أو أخبر الله تعالى بذلك عن مدة لبثهم فيه من حين دخلوه إلى أن ماتوا فيه { تِسْعاً } هو ما بين السنين الشمسية « والقمرية » .
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
{ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } بعد موتهم إلى نزول القرآن فيهم ، أو بالمدة التي ذكرها عن اليهود { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } الله أبصر بما قال وأسمع لما قالوا ، أو أبصرهم وأسمعهم ما قال الله تعالى فيهم { وَلِىٍّ } ناصر ، أو مانع { حكمه } علم الغيب ، أو الحكم .
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
{ مُلْتَحَداً } ملجأ ، أو مهرباً أو معدلاً ، أو ولياً .
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
{ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } تعظيمه ، أو طاعته نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال : « الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر معهم » { يَدْعُونَ } رغبة ورهبة ، أو يحافظون على صلاة الجماعة ، أو الصلوات المكتوبة « ع » . وخص عمل النهار ، لأن عمل النهار إذا كان لله تعالى فعمل الليل أولى ، { وَلا تَعْدُ } لا تتجاوزهم بالنظر إلى أهل الدنيا طلباً لزينتها { وَلا تُطِعْ } قال عيينة بن حصن للرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم لقد آذاني ريح سلمان الفارسي ، فاجعل لنا مجلساً منك لا يجامعونا فيه ولهم مجلساً لا نجامعهم فيه فنزلت { أَغْفَلْنَا } جعلناه غافلاً ، أو وجدناه غافلاً { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } في طلبه التمييز على غيره ، أو في شهواته وأفعاله { فُرُطاً } ضياعاً أو متروكاً ، أو ندماً ، أو سرفاً وإفراطاً ، أو سريعاً ، أفرط أسرف وفرَّط قصَّر .
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
{ فَمَن شَآءَ } الله فليؤمن { وَمَن شَآءَ } الله فليكفر ، أو تهديد ووعيد أو المعنى لا تنفعون الله بإيمانكم ولا تضرونه بكفركم ، أو من شاء أن يعرض نفسه للجنة بالإيمان ومن شاء أن يعرضها للنار بالكفر { سُرَادِقُهَا } حائطها الذي يحيط بها ، أو دخانها ولهبها قبل وصوله إليها { ظِلٍّ ذِى ثَلاَثِ شُعَبٍ } [ المرسلات : 30 ] أو البحر المحيط بالدنيا مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم سرادق : فارسي معرب أصله سرادر { بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ } القيح والدم ، أو كدُري الزيت ، أو كل شيء أذيب حتى انماع ، أو الذي انتهى حره وسماه إغاثة لاقترانه بالاستغاثة { مُرْتَفَقاً } مجتمعاً من المرافقة ، أو منزلاً من الارتفاق أو المتكأ مضاف إلى المرفق ، أو من الرفق .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } قال أعرابي للرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : أخبرني عن هذه الآية { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } ، فقال : ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك هم هؤلاء الأربعة الذين هم وقوف أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم أجمعين فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم .
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{ سُندُسٍ } ما لطف من الديباج ، أو رق منه واحده سندسة ، { وَإِسْتَبْرَقٍ } الديباج المنسوج بالذهب ، أو ما غلظ منه ، فارسي معرب أصله استبرة وهو الشديد { الأَرَآئِكِ } الحجال ، أو الفرش في الحجال ، أو السرير في الحجال .
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
{ أُكُلَهَا } ثمرها وزرعها { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } فجره بينهما ليكون أقل مؤنة من سوقه إليهما وأكثر ريعاً ، وهما رجلان ورثا عن أبيهما ثمانية آلاف دينار فأخذ المؤمن حقه منها فتقرب به إلى الله عز وجل وأخذ الكافر حقه فاشترى به ضياعاً منها هاتان الجنتان ولم يتقرب إلى الله تعالى بشيء منها فأفضى أمره إلى ما ذكره الله تعالى أو مثل ضُرب لهذه الأمة ليزهدوا في الدنيا ويرغبوا في الآخرة وليس خبر عن حال تقدمت .
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
{ ثَمَرٌ } بالفتح والضم واحد هو الذهب والفضة لإثمارهما ، أو المال الكثير من صنوف الأموال « ع » ، لأن تثميره أكثر ، أو الأصل الذي له نماء ، لأن النماء تثمير ، أو بالفتح جمع ثمرة وبالضم جمع ثمار ، أو بالفتح ما كان نماؤه من أصله وبالضم ما كان نماؤه من غيره ، أو بالفتح ثمار النخل خاصة وبالضم جميع الأموال ، أو بالضم الأصل وبالفتح الفرع ، وهذا ثمر الجنتين المذكورتين عند الجمهور ، أو ثمر تملكه من غيره دون أصوله « ع » .
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
{ يُحَاوِرُهُ } يناظره في الإيمان والكفر ، أو في طلب الدنيا وطلب الآخرة .
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
{ يُؤْتِيَنِ } في الدنيا خيراً من جنتك ، أو في الآخرة { حُسْبَاناً } عذاباً ، أو ناراً ، أو برداً ، أو عذاب حساب لأنه جزاء كفره وجزاء الله بحساب ، أو مرامي كثيرة من الحسبان وهي السهام التي ترمى بمجرى في طلق واحد فكان من رمي الأكاسرة { زَلَقاً } أرضاً بيضاء لا تنبت ولا يثبت عليها قدم .
أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
{ غَوْراً } ذا غور و « أو » بمعنى الواو .
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } أحيط بهلاكه { خَاوِيَةٌ } متقلبة على أعاليها .
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
{ فِئَةٌ } جند ، أو عشيرة { مُنتَصِراً } ممتنعاً ، أو مسترداً ما ذهب منه . وهذان مذكوران في الصافات { إِنِّى كَانَ لِي قَرِينٌ } [ الصافات : 51 ] وضُربا مثلاً لسلمان وخباب وصهيب مع أشراف مشركي قريش .
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
{ هُنَالِكَ } في القيامة { الْوَلايَةُ } لا يبقى مؤمن ولا كافر إلا يتولون الله تعالى أو يتولى الله جزاءهم ، أو يعترفون بأن الله تعالى هو الولي فالولاية مصدر الولي ، أو النصير . والولاية بالفتح للخالق وبالكسر للمخلوقين ، أو بالفتح في الدين وبالكسر في السلطان .
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{ هَشِيماً } ما تفتت بعد اليبس من أرواق الشجر والزرع مثل لزوال الدنيا بعد بهجتها ، أو لأحوال أهلها في أن مع كل فرحة ترحة .
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
{ الْمَالُ } بجماله ونفعه { وَالْبَنُونَ } بقوتهم ودفعهم زينة الحياة { وَالْبَاقِيَاتُ } الصلوت الخمس ، أو الأعمال الصالحة ، أو الكلام الطيب ، أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم وزاد بعضهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . { الصَّالِحَاتُ } المصلحات ، أو النافعات عبّر عن المنفعة بالصلاح . { عِندَ رَبِّكَ } في الآخرة { وَخَيْرٌ أَمَلاً } عند نفسك ، لأن وعد الله تعالى واقع لا محالة فلا تكذب أملك فيه .
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
{ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } بنقلها عن أماكنها ، أو بتقليلها حتى لا يبقى منها إلا اليسير ، أو بجعلها هباء منثوراً { بَارِزَةً } برز ما فيها من الموتى ، أو صارت فضاء لا يسترها جبل ولا نبات { نُغَادِرْ } نترك ، أو نخلف ، الغدير : ما تخلفه السيول .
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
{ صَفّاً } بعد صف كصفوف الصلاة .
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
{ الْكِتَابُ } كتاب أعمالهم يوضع في أيديهم ، أو عبّر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على ما كُتب { صَغِيرَةً } الضحك « ع » ، أو الصغائر التي تغفر باجتناب الكبائر { كَبِيرَةً } المنصوص تحريمه ، أو ما قرنه الوعيد ، أو الحد { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ } بنقصان ثواب ولا زيادة عقاب .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
{ مِنَ الْجِنِّ } حقيقة ، لأن له ذرية ولا ذرية للملائكة ، ولأن الملائكة رسل لا يجوز عليهم الكفر وقد كفر إبليس وهو أصل الجن كما آدم عليه الصلاة والسلام أصل الإنس ، أو كان من ملائكة يقال لهم : الجنة ، أو من ملائكة يدبرون أمر السماء الدنيا وهم خزان الجنة كما يقال : مكي وبصري ، أو كان من سبط من ملائكة خُلقوا من نار يقال : لهم الجن وخُلق سائر الملائكة من نور ، أو لم يكن من الجن ولا من الإنس ولكن من الجان { فَفَسَقَ } خرج ، فسقت الرطبة خرجت من قشرها ، والفأرة فويسقة لخروجها من جحرها ، أو اتسع في محارم الله تعالى والفسق والاتساع { بَدَلاً } من الجنة بالنار ، أو من طاعة الله تعالى بطاعة إبليس .
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ } إبليس وذريته ، أو جميع الخلق ما استعنت بهم في خلقها ، أو ما وقفتهم عليها حتى يعلموا من قدرتي ما لا يكفرون معه { خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } ما استعنت ببعضهم على خلق بعض ، أو ما أشهدت بعضهم خلق بعض { عَضُداً } أعواناً في خلق السماوات والأرض ، أو أعواناً لعبدة الأوثان { الْمُضِلِّينَ } عام ، أو إبليس وذريته .
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
{ مَّوْبِقاً } محبساً ، أو مهلكاً أو موعداً ، أو عداوة ، أو واد في جهنم ، أو واد يفصل بين الجنة والنار ، أو بينهم تواصلهم في الدنيا مهلكاً لهم في الآخرة .
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
{ فَظَنُّواْ } علموا أو كانوا على رجاء العفو قبل دخولهم إليها { مَصْرِفاً } ملجأ ، أو معدلاً ينصرفون إليه ، لم يجد المشركون عنها انصرافاً ، أو لم تجد الأصنام صرفاً لها عن المشركين .
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } أنفسهم ، أو الشياطين أن يؤمنوا { سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } عادتهم في عذاب الاستئصال { قُبُلاً } تجاهاً ، أو جمع قبيل يريد أنواعاً من العذاب { قِبَلا } مقابلة ، أو معاينة .
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
{ لِيُدْحِضُواْ } ليزيلوا ويذهبوا ، أو ليبطلوا القرآن ، أو ليهلكوا الحق ، من الدحض وهو المكان الذي لا يثبت عليه خف ولا حافر ولا قدم .
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
{ ذُو الرَّحْمَةِ } العفو ، أو الثواب ، أو النعمة ، أو الهدى . { مَّوْعِدٌ } أجل ، أو جزاء يحاسبون عليه { مَوْئِلاً } ملجأ ، أو محرزاً ، أو ولياً أو منجى ، لا وألت نفسه : لا نجت .
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{ أَهْلَكْنَاهُمْ } وكلناهم إلى سوء تدبيرهم لما ظلموا بترك الشكر ، أو أهلكناهم بالعذاب لما ظلموا بالكفر { مَّوْعِداً } أجلاً يؤخرون إليه ، أو وقتاً يهلكون فيه .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
{ لِفَتَاهُ } يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى عليه الصلاة والسلام وسمي فتاه لملازمته له في العلم ، أو الخدمة ، وهو خليفة موسى على قومه من بعده ، وهو موسى بن عمران عند الجمهور ، وقال محمد بن إسحاق هو موسى بن ميشا بن يوسف كان نبياً لبني إسرائيل قبل موسى بن عمران { الْبَحْرَيْنِ } الخضر وإلياس بحران في العلم قاله السدي ، أو بحر الروم وبحر فارس أحدهما في الغرب ، والآخر في الشرق ، أو بحر أرمينية مما يلي الأبواب ، وعد أنه يلقى الخضر عند مجمعهما { لا أَبْرَحُ } لا أزال ، أو لا أفارقك { حُقُباً } زماناً ، أو دهراً ، أو سنة بلغة قيس ، أو ثمانون سنة ، أو سبعون .
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
{ مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } إفريقية { نَسِيَا حُوتَهُمَا } عبّر بالنسيان عن ضلاله عنهما لما اتخذ سبيله في البحر ، أو غفلا عنه فنسي يوشع ونسي موسى أن يأمر فيه بشيء ، أو نسيه يوشع وحده فأضيف إليهما كما يقال نسي القوم أزوادهم إذا نسيها أحدهم { فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ } أحيا الله تعالى الحوت فطفر إلى البحر فاتخذ طريقه فيه { سَرَباً } مسلكاً ، أو يبساً ، أو عجباً .
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
{ جَاوَزَا } مكان الحوت { نَصَباً } تعباً ، أو وهناً .
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
{ الصَّخْرَةِ } بشروان أرض على ساحل بحر أيلة عندها عين تسمى عين الحياة ، أو الصخرة التي دون نهر الزيت على الطريق { نَسِيتُ الْحُوتَ } أن أحمله ، أو أخبرك بأمره { أَنسَانِيهُ إِلآَّ الشَّيْطَانُ } بوسوسته لي وشغله لقلبي { عجباً } كان لا يسلك طريقاً في البحر إلا صار ماؤه صخراً فعجب موسى لذلك ، أو رأى دائرة الحوت وأثره في البحر كالكوة فعجب من حياة الحوت ، وقيل لموسى إنك تلقى الخضر حيث تنسى بعض متاعك فعلم أن مكان الحوت مضوع الخضر ف { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } { قَصَصاً } يقصان أثر الحوت .
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
{ رَحْمَةً } نبوة ، أو نعمة ، أو طاعة ، أو طول الحياة ، وكان مَلَكاً ، أمر الله تعالى موسى أن يأخذ عنه علم الباطن ، أو نبياً ، قيل هو اليسع سمي به لأنه وسع علمه ست سموات وست أرضين ، أو عبداً صالحاً عالماً ببواطن الأمور سمي خضراً لأنه كان إذا صلى في مكان اخضرّ ما حوله .
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
{ رُشْداً } علماً ، أو كان في علمه غي يجتنب ورشد يؤتى فلطب منه تعليم الرشد الذي لا يعرفه ولم يطلب تعلم الغي لأنه كان يعرفه أو يعني لإرشاد الله تعالى لك بما علمك .
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
{ خُبْراً } لم تجد له سبيلاً إذ لم تعرف له علماً ، علماً منه أن موسى لا يصبر إذا رأى ما ينكر ظاهره فعلق موسى عليه الصلاة والسلام صبره بالمشيئة حذراً مما وقع منه .
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
{ وَلآ أعْصِى } بالبداية بالإنكار حتى تبتدىء بالإخبار ، أو لا أفشي سرك ولا أدل عليك بشراً .
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
{ خَرَقَهَا } أخذ فأساً ومنقاراً فخرقها حتى دخلها الماء أو قلع لوحين منها فضج ركبانها من الغرق { لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } خصهم بالذكر دون نفسه لأنه شفقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام { إِمْراً } منكراً ، أو عجباً ، أو داهية عظمية من الأمر وهو الفاسد الذي يحتاج إلى الصلاح ، رجل إِمر إذا كان ضعيف الرأي يحتاج أن يؤمر فيقوى رأيه .
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
{ نَسِيتُ } غفلت عنه ، أو تركه من غير غفلة ، أو كأني نسيته وإن لم ينسه ، جعله من معاريض الكلام « ع » { عُسْراً } لا تعنفني على ترك وصيتك ، أو لا يغشاني منك العسر ، غلام مراهق قارب أن يغشاه البلوغ ، ارهقوا القبلة اغشوها واقربوا منها ، أو لا تكلفني الاحتراز عن السهو والنسيان فإن غير مقدور ، أو لا تطردني عنك .
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
{ غُلاماً } شاباً بالغاً قبض على لحيته ، لأن غير البالغ لا يجوز قتله « ع » ، أو غير بالغ عند الأكثرين كان يلعب مع الصبيان فأخذه من بينهم فأضجعه وذبحه بالسكين ، او قتله بحجر ، لأنه طبع كافراً ، أو ليصلح بذلك حال أبويه ونسلهما { أَقَتَلْتَ } استخبار ، لأنه علم أنه لا يتعدى حدود الله ، أو إنكار لقوله : { جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } . { زاكية } و { زَكِيَّةَ } واحد عند الأكثرين ، نامية ، أو طاهرة ، أو مسلمة « ع » ، أو لم يحل دمها ، أو لم تعمل خطيئة ، أو الزكية أشد مبالغة من الزاكية ، أو الزاكية في البدن والزكية في الدين ، أو الزاكية من لم تذنب والزكية من أذنبت { نُّكْراً } منكراً أو فظيعاً قبيحاً ، أو يجب أن ينكر فلا يفعل ، أو هو أشد من الإمر .
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
{ فَلا تُصَاحِبْنِى } لا تتابعني ، أو لا تتركني أصحبك ، أو لا تصحبني علماً ، أو لا تساعدني على ما أريد .
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
{ قَرْيَةٍ } أنطاكية ، أو الأيلة ، أو باجروان بأرمينية { يُرِيدُ } يكاد { يَنقَضَّ } يسقط بسرعة ، وينقاض ينشق طولاً { فَأَقَامَهُ } بيده فاستقام ، وأصل الجدار الظهور ، والجدري لظهوره .
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
{ هَذَا } الذي قتله { فِرَاقُ } ، أو هذا الوقت فراق ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « رحم الله موسى لو صبر لاقتبس عنه ألف باب » .
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
{ لِمَسَاكِينَ } فقراء ، أو كانت بهم زمانة وعلل ، أو عجزوا عن الدفع عن أنفسهم لقلة حيلتهم ، أو سموا به لشدة ما يقاسونه في البحر كما يقال لقي هذا المسكين جهداً { وَرَآءَهُم } خلفهم وكان رجوعهم عليه ولم يعلموا ، أو أمامهم ، فوراء من الأضداد ، أو يستعمل وراء موضع أمام في المواقيت والأزمان ، لأن الإنسان يجوزها فتكون وراء دون غيرها ، أو يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ولا يجوز في غيرها ، وعابها الخضر ، لان الملك كان لا يغصب إلا السفن الجيدة .
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
{ الْغُلامُ } اسمه « حيسوراً » أو « شمعون » وكان سداسياً؛ له ست عشرة سنة ، أو طوله ستة أشبار ، وكان لصاً يقطع الطريق بين قرية أبيه وقرية أمه فيبصره أهل القريتين ويمنعون منه { فَخَشِينَآ } فكرهنا ، أو علمنا ، أو خفنا { يُرْهِقَهُمَا } يكلفهما ، أو يحملهما على الرهق وهو الجهد .
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
{ زَكَاةً } إسلاماً ، أو علماً ، أو ولداً وكانت أمه حبلى فولدت غلاماً مسلماً صالحاً ، أوجارية تزوجها نبي فولدت نبياً هديت به أمة من الأمم { رُحْماً } أكثر براً بوالديه من المقتول ، أو أعجل تعطفاً ونفعاً ، أو أقرب أن يرحما به ، والرُحْم الرحمة .
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
{ الْجِدَارُ } حقيقة ما أحاط بالدار فمنع منها وحفظ بنيانها ويستعمل في غيره من حيطانها مجازاً { كَنزٌ } ذخيرة من ذهب وفضة ، أو لوح ذهب مكتوب فيه حِكَم ، أو لوح ذهب مكتوب فيه « بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يوقن بالدنيا بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله » قاله الرسول صلى الله عليه وسلم { صَالِحاً } حُفِظا لصلاح أبيهما السابع . والخضر باق لشربه من الحياة ، أو غير باقٍ إذ لا نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
{ ذِى الْقَرْنَيْنِ } نبي مبعوث فتح الله تعالى على يده الأرض ، أون عبد صالح ناصح لله ، فضربوه على قرنه فمكث ما شاء الله ثم دعاهم إلى الهدى فضربوه على قرنه الآخر ، لم يكن له قرنان كقرني الثور ، وسمي ذا القرنين للضربتين ، أو لضفيرتين كانتا له ، أو لاستيلائه على قرني الأرض المشرق والمغرب ، أو رأى في نومه أنه أخذ بقرني الشمس في شرقها وغربها فقصها على قومه فمسي ذا القرنين . وهو عبد الله بن الضحاك بن معد « ع » ، أو من أهل مصر اسمه مرزبان يوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح ، أو رومي أسمه الاسكندروني أو هو الإسكندر الذي بنى الإسكندرية .
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
{ مِن كُلِّ شَىْءٍ سَبَباً } علماً يتسبب به إلى إرادته ، أو ما يستعين به على لقاء الملوك وقتل الأعداء وفتح البلاد .
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
{ فَأَتْبَعَ سَبَباً } منازل الأرض ومعالمها ، أو طرقاً بين المشرق والمغرب ، أو قفا الأثر ، أو طريقاً إلى ما أريد منه .
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
{ حَمِئَةٍ } ذات حمأة ، أو طينة سوداء { حامية } حارة فكانت حارة ذات حمأة ، وجدها تغرب في نفس العين ، أو وراءها كأنها تغرب فيها { إمَّآ أَن تُعَذِّبَ } خُيِّر بين عقابهم والعفو عنهم ، أو تعذبهم بالقتل لشركهم ، أو تتخذ فيهم حسناً بإمساكهم بعد الأسر لتعلمهم الهدى وتنقذهم من العمى ، قيل لم يُسلم منهم إلا رجل واحد .
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
{ أتَّبِعُ } و { اتَّبع } واحد ، أو بالقطع إذا لحق وبالوصل إذا كان على الأثر وإن لم يلحق .
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
{ مَطْلِعَ } ومَطْلَع واحد ، أو بالفتح الطلوع وبالكسر موضع الطلوع يريد بالمطلع والمغرب ابتداء العمارة وانتهائها { سِتْراً } من بناء ، أو شجر ، أو لباس ، يأوون إذا طلعت إلى أسراب لهم فإذا زالت خرجوا لصيد ما يقتاتونه من وحش وسمك قيل : وهم الزنج ، أو تاريش ، وتاويل ومنسك .
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
{ السَّدَّيْنِ } و { السُّدين } واحد ، أو بالضم من فعل الله تعالى وبالفتح فعل الآدمي ، « أو بالضم إذا كان مستوراً عن بصرك وبالفتح إذا شاهدته ببصرك » ، أو بالضم الاسم وبالفتح المصدر . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهما جبلان ، قيل جعل الردم بينهما ، وهما بأرمينية وأذربيجان ، أو في منقطع أثر الترك مما يلي المشرق .
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
{ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } من تأجج النار واختلفوا في تكليفهم ، وهما من ولد يافث بن نوح ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « لا يموت الرجل [ منهم ] حتى يولد لصلبه ألف رجل » { خَرْجاً } إجرة و { خراجاً } الغلة ، أو الخراج ما خرج من الأرض ، والخرج مصدر ما يخرج من المال ، أو الخراج ما يؤخذ عن الأرض والخرج ما يؤخذ عن الرقاب ، أو الخرج ما أخذ دفعة والخراج ما كان ثابتاً يؤخذ كل سنة .
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
{ بِقُوَّةٍ } بآلة ، أو برجال { رَدْماً } حجاباً شديداً ، أو سداً متراكباً بعضه على بعض .
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
{ زُبَرَ الْحَدِيدِ } قطعه ، أو فلقه ، أو الحديد المجتمع ومنه الزبور لاجتماع حروفه { الصَّدَفَيْنِ } جبلان « ع » ، أو رأسا جبلين ، أو ما بين الجبلين إذا كانا متحاذيين من المصادفة في اللقاء ، أو إذا انحرف كل واحد منهما عن الآخر كأنه صدف عنه فساوى بينهما بما جعله بينهما حتى وارى رؤوسهما وسوى بينهما { انفُخُواْ } في نار الحديد حتى إذا جعل الحديد ناراً أي كالنار في الحمى واللهب { قِطْراً } نحاساً ، أو رصاصاً أو حديداً مذاباً ، فكانت حجارته الحديد وطينه النحاس .
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
{ يَظْهَرُوهُ } يعلوه { نَقْباً } من أسفله ، وهو وراء بحر الروم بين جبلين هناك مؤخرهما البحر المحيط ، ارتفاعه مائتا ذراع ، عرضه نحو خمسين ذراعاً ، وهو حديد شبه المصمت ، وذكر رجل للرسول صلى الله عليه وسلم أنه رآه فقال : انعته لي ، فقال : هو كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء ، قال : قد رأيته .
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
{ وَعْدُ رَبِّى } القيامة ، أو وقت خروجهم بعد قتل الدجال { دَكَّآءَ } أرضاً ، أو قطعاً ، أو انهدم حتى اندك بالأرض فاستوى معها .