كتاب:جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم
تأليف : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي
الشهير بابن رجبِ
وكان المغيرة بنُ حكيم الصنعاني إذا هدأت العيون ، نزل إلى البحر ، وقام في الماء يذكر الله مع دوابِّ البحر (1) .
نام بعضُهم عند إبراهيم بن أدهم قال : فكنتُ كلَّما استيقظتُ من الليل ، وجدتُه يذكر الله ، فأغتمّ ، ثم أُعزِّي نفسي بهذه الآية : { ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } (2) .
المحبُّ اسم محبوبه لا يغيبُ عن قلبه ، فلو كُلّف أنْ ينسى تذكُّره لما قدر ، ولو كلف أنْ يكفّ عن ذكره بلسانه لما صبر .
كَيْفَ يَنسى المُحبُّ ذِكرَ حَبيبٍ
اسمُه في فُؤاده مَكتوبُ
كان بلالٌ كلَّما عذَّبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول : أحدٌ أحدٌ ، فإذا قالوا له قل : اللات والعُزَّى ، قال : لا أحسنه (3) .
يُراد مِنَ القَلبِ نِسيانُكُم
وتَأْبَى الطِّباعُ على النَّاقِلِ
كلَّما قويت المعرفةُ ، صار الذكرُ يجري على لسان الذاكر من غير كُلفة ، حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه : الله الله ، ولهذا يُلهم أهلُ الجنة التَّسبيح ، كما يُلهمون النفسَ ، وتصيرُ ( لا إله إلا الله ) لهم ، كالماء البارد لأهل الدنيا ، كان الثوري ينشد :
لا لأَنِّي أَنساكَ أُكثرُ ذِكرا
ك ولكنْ بِذاكَ يَجري لِساني
__________
(1) لم أهتديه عن المغيرة بن حكيم ، ووجدته عن الحكم بن أبان . أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 10/141 .
وذكره : ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 2/177 .
(2) المائدة : 54 .
(3) أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 3/175 .
إذا سمِعَ المحبُّ ذكر اسم حبيبه من غيره زاد طربه ، وتضاعف قَلَقُه ، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعودٍ : ( اقرأ عليَّ القرآن ) ، قال : أقرأ عليكَ وعَلَيكَ أُنزل ؟ قال :
( إنِّي أُحبُّ أنْ أسمعه من غيري ) (1) ، فقرأ عليه ، ففاضت عيناه .
سمع الشبلي قائلاً يقولُ : يا الله يا جَوادُ ، فاضطرب (2) :
وداعٍ دعا إذ نَحْنُ بالخَيفِ مِن منى
فهَيَّجَ أشجانَ الفُؤادِ وما يَدري
دَعا بِاسم لَيلَى غَيرَها فكأَنَّما
أطارَ بِليلى طائراً كان في صدري(3)
النبض ينْزعج عند ذكر المحبوب :
إذا ذُكِر المحبوب عندَ حبيبه
تَرنَّحَ نَشوانٌ وحَنَّ طرُوبُ
ذكر المحبين على خلاف ذكر (4) الغافلين : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (5) .
وإنِّي لَتَعْروِني لِذكْرَاكِ هِزَّةٌ
كَما انتفضَ العُصفورُ بَلَّلهُ القطْرُ
أحد السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله : ( رجلٌ ذكرَ الله خالياً ، ففاضت عيناه ) (6) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 1/374 و380 و432 ، والبخاري 6/57 ( 4582 ) ، ومسلم 2/196
( 800 ) ( 248 ) ، والترمذي ( 3025 ) وفي " الشمائل " ، له ( 323 ) بتحقيقي ، والنسائي في " الكبرى " ( 8075 ) و( 8078 ) و( 8079 ) و( 11105 ) وفي " التفسير " ، له ( 125 ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 10/373 بنحوه .
(3) الشعر لمجنون بن عامر . انظر : أخبار مكة للفاكهي 4/272 ، وتاريخ بغداد 12/335 ، وسير أعلام النبلاء 4/7 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) الأنفال : 2 .
(6) أخرجه : البخاري 1/168 ( 660 ) ، ومسلم 3/93 ( 1031 ) ( 91 ) عن أبي هريرة .
قال أبو الجلد : أوحى الله - عز وجل - إلى موسى - عليه السلام - : إذا ذكرتني ، فاذكرني ، وأنت تنتفض أعضاؤُك ، وكُن عندَ ذكري خاشعاً مطمئناً ، وإذا ذكرتني ، فاجعل لِسانك من وراء قلبك (1) .
وصف عليٌّ يوماً الصحابة ، فقال : كانوا إذا ذكروا الله مادُوا كما يميد الشجرُ في اليوم الشديد الريح ، وجرت دموعهم على ثيابهم (2) .
قال زهير البابي : إنَّ لله عباداً ذكروه ، فخرجت نفوسُهم إعظاماً واشتياقاً ، وقوم ذكروه ، فوجِلَتْ قلوبهم فرقاً وهيبة ، فلو حُرِّقوا بالنَّار ، لم يجدوا مَسَّ النار ، وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده ، فارفضّوا عرقاً من خوفه ، وقومٌ ذكروه ، فحالت ألوانهم غبراً ، وقومٌ ذكروه ، فجَفَّتْ أعينُهم سهراً .
صلَّى أبو يزيد الظهر ، فلما أراد أنْ يُكبِّر ، لم يقدر إجلالاً لاسم الله ، وارتعدت فرائصه حتى سمعت قعقعةُ عظامه (3) .
__________
(1) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 348 ) ، وابن أبي عاصم في " الزهد " : 67 و68 ( طبعة دار الريان للتراث ) .
(2) هذا باطل موضوع مكذوب على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعلى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، والخبر فيه عدة علل وعلته الرئيسة عمرو بن شمر الجعفي الكوفي الشيعي قال عنه الجوزجاني : ( زائغ كذاب ) ، وقال ابن حبان : ( رافضي يشتم الصحابة ويروي الموضوعات ) ، وقال البخاري : ( منكر الحديث ) ، وقال النسائي والدارقطني وغيرهما
: ( متروك الحديث ) ، وقال السليماني : ( كان عمرو يضع على الروافض ) .=
= ... أخرجه : ابن أبي الدنيا في "التهجد" ( ق 170/أ ) ، والدينوري في " المجالسة " ( 1466 ) ، وابن عدي في " الكامل " 1/447 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/76 ، والخطيب في " الموضح " 2/330 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 42/491-492 ، وابن الجوزي في " التبصرة " 1/500 ، ولم يصنع صواباً المصنف حينما ذكره .
(3) انظر : صفة الصفوة لابن الجوزي 4/74 .
كان أبو حفص النَّيْسابوري إذا ذكر الله تغيَّرت عليه حالُه حتى يرى ذلك جميع من عنده ، وكان يقولُ : ما أظن محقاً يذكر الله عن غير غفلة ، ثم يبقى حياً إلا الأنبياء ، فإنَّهم أيدوا بقوَّة النبوَّة وخواصِّ الأولياء بقوَّة ولايتهم (1) .
إذا سمِعَتْ باسمِ الحَبيبِ تَقعقعت
مَفاصِلُها مِنْ هَولِ ما تَتذَكَّرُ
وقف أبو يزيد ليلةً إلى الصباحِ يجتهد أنْ يقول : لا إله إلا الله ، فما قدر إجلالاً وهيبةً ، فلما كان عند الصباح ، نزل ، فبال الدَّم (2) .
وما ذكرتُكُمُ إلاّ نَسيتُكُم
نسيانَ إجلال لا نِسيانَ إهمالِ
إذا تَذكَّرتُ مَنْ أنتُم وكيف أنَا
أَجْلَلتُ مِثلَكُم يَخطُرْ على بالي
الذكر لذَّة قلوب العارفين . قال - عز وجل - : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } (3) . قال مالك بنُ دينار : ما تلذَّذ المتلذذون بمثل ذكر الله - عز وجل - (4) .
وفي بعض الكتب السالفة : يقول الله - عز وجل - : معشر الصدِّيقين بي فافرحوا ، وبذكري فتنعَّموا (5) . وفي أثرٍ آخر سَبَق ذكره : ويُنيبون إلى الذِّكر كما تُنيب النسورُ إلى وُكورها .
وعن ابن عمر قال : أخبرني أهلُ الكتاب أنَّ هذه الأمة تُحبُّ الذِّكْرَ كما تُحبُّ الحمامةُ وكرَها ، ولهُم أسرعُ إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظِمئِها (6) .
__________
(1) انظر : صفة الصفوة لابن الجوزي 4/80 – 81 .
(2) انظر : صفة الصفوة لابن الجوزي 4/75 .
(3) الرعد : 28 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/294 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " 1/456 .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/217 .
(6) ذكره الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " 1/154 .
قلوبُ المحبين لا تطمئنُّ إلاّ بذكره ، وأرواحُ المشتاقين لا تَسكُنُ إلاّ برؤيته ، قال ذو النون : ما طابتِ الدنيا إلا بذكره ، ولا طابت الآخرةُ إلا بعفوه ، ولا طابت الجنَّة إلاّ برؤيته (1) .
أبداً نُفوس الطَّالبيـ
ـن إلى طلُولكم تَحِنُّ
وكَذَا القُلُوبُ بِذكركُم
بَعْدَ المَخافةِ تَطمئنُّ
جُنَّتْ بحُبِّكُمُ ومَنْ
يَهوى الحَبيبَ ولا يُجَنُّ ؟
بِحياتِكُم يا سادتي
جُودُوا بِوصْلِكُم ومُنُّوا
قد سبق حديث : ( اذكروا الله حتى يقولوا : مجنون ) ولبعضهم :
لقد أكثرتُ من ذِكرا
...
كَ حتَّى قِيلَ وَسْوَاسُ
كان أبو مسلم الخولاني كثيرَ الذِّكر ، فرآه بعضُ الناس ، فأنكر حالَه ، فقال لأصحابه : أمجنون صاحبُكم ؟ فسمعه أبو مسلم ، فقال : لا يا أخي ، ولكن هذا دواءُ الجنون (2) .
وحُرمَة الودِّ مالي مِنكُم عِوَضٌ
ولَيسَ لي في سِواكُم سَادتِي غَرَضُ
وقَدْ شَرَطْتُ على قومٍ صَحِبتُهُم
بأنَّ قلبي لَكُمْ مِن دونِهم فرضُوا
ومِنْ حديثي بكُم قالوا : به مَرَضٌ
فقُلْتُ : لا زالَ عنِّي ذلك المَرَضُ
المحبون يستوحشون من كلِّ شاغلٍ يَشغَلُ عن الذكر ، فلا شيءَ أحبَّ إليهم من الخلوة بحبيبهم .
قال عيسى - عليه السلام - : يا معشر الحواريين كلِّموا الله كثيراً ، وكلموا الناس قليلاً ، قالوا : كيف نكلِّم الله كثيراً ؟ قال : اخلوا بمناجاته ، اخلوا بدُعائه (3) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/372 . وانظر : صفة الصفوة 4/225 .
(2) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 696 ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/94 و195 .
وكان بعضُ السَّلف يُصلِّي كلَّ يوم ألف ركعة حتى أُقعِدَ من رجليه ، فكان يُصلي جالساً ألف ركعة ، فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة ، ويقول : عجبتُ للخليقة كيف أَنِسَتْ بسواك ، بل عَجِبْتُ للخليقة كيف استنارت قلوبُها بذكر سِواك (1) .
وكان بعضُهم يَصومُ الدَّهرَ ، فإذا كان وقتُ الفطور ، قال : أحسُّ نفسي تخرُج لاشتغالي عن الذكر بالأكل .
قيل لمحمد بن النضر : أما تستوحِشُ وحدَك ؟ قال : كيف أستوحِشُ وهو يقول : أنا جليسُ من ذكرني (2) .
كَتمتُ اسم الحبيب من العبادِ
ورَدَّدتُ الصَّبابةَ في فُؤادي
فَوَاشَوقاً إلى بَلدٍ خَلِيٍّ
لعلِّي باسم مَنْ أَهوى أُنادي
فإذا قَوِي حالُ المحبِّ ومعرفته ، لم يشغَلْهُ عن الذكر بالقلب واللسان
شاغل ، فهو بَينَ الخلق بجسمه ، وقلبه معلق بالمحلِّ الأعلى ، كما قال عليٌّ - رضي الله عنه - في وصفهم : صَحِبوا الدُّنيا بأجسادٍ أرواحُها معلقة بالمحلِّ الأعلى (3) ، وفي هذا المعنى قيل :
جِسمي معي غير أنَّ الروحَ عندكم
فالجِسمُ في غُربةٍ والرُّوحُ في وطن
وقال غيره :
ولقَد جَعلتُكَ في الفُؤاد مُحدِّثي
وأَبحْتُ جِسمي من أراد جُلوسي
فالجِسمُ منِّي للجَليس مُؤَانسٌ
وحَبيبُ قلبي في الفؤاد أنيسي (4)
وهذه كانت حالة الرسل والصدِّيقين ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً } (5) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/195 . وانظر : فيض القدير للمناوي 4/325 .
(2) انظر : صفة الصفوة لابن الجوزي 3/79 ، وسير أعلام النبلاء 8/175 ، والمقاصد الحسنة للسخاوي : 96 .
(3) انظر : تذكرة الحفاظ 1/12 .
(4) نسبه ابن الجوزي لرابعة العدوية في " صفة الصفوة " 4/301 .
(5) الأنفال : 45 .
وفي " الترمذي " (1) مرفوعاً : ( يقول الله - عز وجل - : إنَّ عبدي كُلَّ عبدي الذي
يذكرني وهو مُلاقٍ قِرنَهُ (2) ) .
وقال تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } (3) يعني : الصلاة في حال الخوف ، ولهذا قال : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } (4) ، وقال تعالى في ذكر صلاة الجمعة : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (5) ، فأمر بالجمع بين الابتغاء من فضله ، وكثرة ذكره .
ولهذا ورد فضلُ الذكر في الأسواق ومواطن الغفلة كما في " المسند "
و" الترمذى " و" سنن ابن ماجه " عن عمرَ مرفوعاً (6) : ( مَنْ دخلَ سوقاً يُصاحُ فيه ويُباع ، فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له المُلك وله الحمدُ يُحيي ويُميت وهو حيّ لا يموتُ بيده الخير وهُو على كلِّ شيءٍ قدير ، كتب الله له ألفَ ألفَ حسنة ، ومحا عنه ألفَ ألفَ سيئة ، ورفع له ألف ألفِ درجة ) .
__________
(1) في " الجامع الكبير " ( 3580 ) ، وإسناده ضعيف لضعف عفير بن معدان ، وقال الترمذي : ( غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه ، وليس إسناده بالقوي ) .
(2) بكسر القاف وسكون الراء عدوه القارن المكافيء له في الشجاعة والحرب فلا يغفل عن ربه حتى في حال معاينة الهلاك . انظر : تحفة الأحوذي 10/40 .
(3) النساء : 103 .
(4) النساء : 103 .
(5) الجمعة : 10 .
(6) أحمد 1/47 ، وابن ماجه ( 2235 ) ، والترمذي ( 3429 ) ، وهو حديث ضعيف جداً ضعفه الأئمة وفي إسناده عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير منكر الحدحيث ، وانظر : علل الحديث لابن أبي حاتم ( 2006 ) و( 2038 ) ، وعلل الدارقطني 2/48 .
وفي حديث آخر : ( ذاكِرُ الله في الغافلين كمثلِ المقاتل عن الفارين ،
وذاكرُ الله في الغافلين كمثل شجرة خضراء في وسط شجر يابس ) (1) .
قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : ما دام قلبُ الرجل يذكر الله ، فهو في صلاة ، وإنْ كان في السوق وإن حرّك به شفتيه فهو أفضل (2) .
وكان بعضُ السَّلف يقصِدُ السُّوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة .
والتقى رجلان منهم في السوق ، فقال أحدهما لصاحبه : تعالَ حتّى نذكر الله في غفلة الناس ، فخلَوا في موضع ، فذكرا الله ، ثم تفرَّقا ، ثم ماتَ أحدهما ، فلقيه الآخر في منامه ، فقال له : أشعرت أنَّ الله غفر لنا عشية التقينا في السُّوق ؟ (3)
فصل
في وظائف الذكر الموظفة في اليوم والليلة
معلومٌ أنَّ الله - عز وجل - فرض على المسلمين أنْ يذكروهُ كلَّ يوم وليلة خمس مرَّات ، بإقامة الصلوات الخمس(4) في مواقيتها الموقتة ، وشَرَعَ لهم مع هذه الفرائض الخمس أنْ يذكروه ذكراً يكونُ لهم نافلةً ، والنافلةُ : الزِّيادة ، فيكونُ ذلك زيادةً على الصلوات الخمس ، وهو نوعان :
أحدهما : ما هو من جِنس الصلاة ، فشرع لهم أنْ يُصلُّوا مع الصَّلوات الخمس قبلها ، أو بعدها أو قبلها وبعدها سنناً ، فتكون زيادةً على الفريضة ، فإنْ كان في الفريضة نقصٌ ، جَبَر نقصها بهذه النوافل ، وإلاَّ كانت النَّوافلُ زيادةً على الفرائض .
__________
(1) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 6/67 ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/181 ، وهو ضعيف جداً في سنده عمران القصير قال فيه البخاري : ( منكر الحديث ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 4/204 .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35692 ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
وأطولُ ما يتخلل بين مواقيت الصلاة مما ليس فيه صلاة مفروضة ما بَينَ صلاة العشاء وصلاة الفجر ، وما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر ، فشرع كلِّ واحدة من هاتين الصَّلاتين صلاة تكون نافلةً ؛ لئلاَّ يطولَ وقتُ الغفلة عن الذِّكر ، فشرع ما بَين صلاةِ العشاء ، وصلاة الفجر صلاةَ الوتر وقيامَ الليل ، وشرع ما بين صلاة الفجرِ ، وصلاة الظهر صلاة الضحى .
وبعضُ هذه الصلوات آكدُ من بعض ، فآكدُها الوتر ، ولذلك اختلفَ العلماءُ في وجوبه ، ثمَّ قيامُ الليل ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُداومُ عليه حضراً وسفراً ، ثمّ صلاة الضحى ، وقد اختلف الناسُ فيها ، وفي استحباب المدوامة عليها ، وفي الترغيب فيها أحاديث صحيحة (1) ، وورد التَّرغيبُ أيضاً في الصَّلاة عقيبَ زوالِ الشَّمس .
وأما الذكرُ باللسان ، فمشروعٌ في جميع الأوقات ، ويتأكَّدُ في بعضها .
فممَّا يتأكَّد فيه الذكرُ عقيبَ الصَّلوات المفروضات ، وأنْ يُذكر الله عقيبَ كلِّ صلاة منها مئة مرة ما بين تسبيحٍ وتحميدٍ وتكبيرٍ وتهليلٍ .
__________
(1) حديث عائشة عند مسلم 2/157 ( 719 ) ( 78 ) و( 79 ) ، وحديث أم هانيء عند البخاري 2/57 ( 1103 ) و73 ( 1176 ) و5/189 ( 4292 ) ، وعند مسلم 2/157
( 336 ) ( 80 ) و( 81 ) ، وعند الترمذي ( 474 ) .
ويُستحبُّ - أيضاً - الذِّكرُ بعدَ الصّلاتين اللتين لا تَطوُّعَ بعدهما ، وهما : الفَجرُ والعصرُ ، فيُشرع الذكرُ بعد صلاة الفجر إلى أنْ تطلُع الشَّمسُ ، وبعدَ العصر حتى تغرَب الشمس ، وهذان الوقتان - أعني : وقت الفجر ووقت العصر - هما أفضلُ أوقات النَّهار للذِّكر ، ولهذا أمر الله تعالى بذكره فيهما في مواضع من القرآن كقوله : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } (1) ، وقوله : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } (2) ، وقوله : { وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ } (3) ، وقوله : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } (4) ، وقوله : { فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } (5) ، وقوله : { وَاسْتَغْفرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ
وَالإبْكَارِ } (6) ، وقوله : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ } (7) ، وقوله : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } (8) ، وقوله : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } (9) .
وأفضل ما فعل في هذين الوقتين من الذكر : صلاةُ الفجر وصلاةُ العصر ، وهما أفضلُ الصلوات . وقد قيل في كلٍّ منهما : إنَّها الصلاةُ الوسطى (10)
__________
(1) الأحزاب : 42 .
(2) الإنسان : 25 .
(3) آل عمران : 41 .
(4) مريم : 11 .
(5) الروم : 17 .
(6) غافر : 55 .
(7) الأعراف : 205 .
(8) طه : 130 .
(9) ق : 39 .
(10) من قال : إنها صلاة العصر دليله حديث علي بن أبي طالب عند مسلم 2/111 ( 627 )
( 202 ) - ( 205 ) .
... وحديث عبد الله بن مسعود عنده أيضاً 2/112 ( 628 ) ( 206 ) .
ومن قال : إنها صلاة الفجر دليله حديث ابن عباس الذي أخرجه الطبري في " تفسيره "
( 4264 ) و( 4265 ) و( 4268 ) . وأخرج أيضاً حديث جابر (4270 ) .
،
وهما البَردَانِ اللذان من حَافَظَ عليهما ، دخلَ الجنة (1) ، ويليهما من أوقات
الذكر : الليلُ . ولهذا يُذكر بعد ذكر هذين الوقتين في القرآن تسبيحُ اللَّيلِ
وصلاته .
والذكرُ المطلقُ يدخل فيه الصَّلاةُ ، وتلاوة القرآن ، وتعلُّمه ، وتعليمُه ، والعلمُ النافع ، كما يدخلُ فيه التَّسبيحُ والتَّكبير والتَّهليل ، ومِن أصحابنا من رجَّح التلاوة على التَّسبيح ونحوه بعد الفجر والعصر . وسُئلَ الأوزاعيُّ عن ذلك ، فقال : كان هديهُم ذكرَ الله ، فإنْ قرأ ، فحسن . وظاهر هذا أنَّ الذكر في هذا الوقت أفضلُ من التلاوة ، وكذا قال إسحاق في التَّسبيح عقيبَ المكتوبات مئة مرة : إنَّه أفضلُ من التلاوة حينئذٍ . والأذكارُ والأدعيةُ المأثورةُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الصَّباح والمساء كثيرة جداً .
ويستحبُّ أيضاً إحياءُ ما بين العشاءين بالصلاة والذِّكر ، وقد تقدَّم حديثُ أنس (2) أنَّه نزل في ذلك قولُه تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } (3) .
ويستحبُّ تأخيرُ صلاة العشاء إلى ثُلث الليلِ ، كما دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة (4)
__________
(1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من صلى البردين دخل الجنة ) .
أخرجه : البخاري 1/150 ( 574 ) ، ومسلم 2/114 ( 635 ) ( 215 ) عن أبي موسى الأشعري .
(2) انظر : الحديث التاسع والعشرين وهو عند الطبري في " تفسيره " ( 21505 ) .
(3) السجدة : 16 .
(4) حديث ابن عباس عند البخاري 1/149 ( 571 ) ، ومسلم 2/117 ( 642 ) ( 225 ) .
... وحديث ابن عمر عند البخاري 1/149 ( 569 ) ، ومسلم 2/116 ( 639 ) ( 220 ) .
وحديث عائشة عند مسلم 2/115 ( 638 ) ( 219 ) .
- وهو مذهبُ الإمام أحمد وغيره - حتى يفعل هذه الصَّلاة في أفضل وقتها ، وهو آخرُه ، ويشتغل منتظرُ هذه الصلاة في الجماعة في هذا الثلث الأول مِنَ اللَّيل بالصَّلاة ، أو بالذِّكر وانتظار الصَّلاة في المسجد ، ثمَّ إذا صلّى العشاءَ ، وصلَّى بعدَها ما يتبعُها من سننها الراتبة ، أو أوتَرَ بعدَ ذلك إنْ كان يُريد أنْ يُوتِرَ قبلَ النوم .
فإذا أوى إلى فراشه بعدَ ذلك للنوم ، فإنَّه يُستحبُّ له أنْ لا ينامَ إلا على طهارةٍ وذكرٍ ، فيُسبِّح ويحمد ويكبِّر تمام مئة ، كما علَّم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فاطمةَ وعلياً أنْ يفعلاه عندَ منامهما (1) ويأتي بما قدر عليه من الأذكار الواردة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ
النوم ، وهي أنواع متعدِّدةٌ من تلاوة القرآن وذكر الله ، ثم ينام على ذلك .
فإذا استيقظ من الليل ، وتقلَّب على فِراشه ، فليذكر الله كلَّما تقلَّب ، وفي
" صحيح البخاري " (2) عن عُبادة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ تعارَّ مِنَ الليلِ (3) ، فقال : لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَريك له ، له الملكُ ولهُ الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ ، سبحانَ الله ، والحمدُ لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ، ثم قال : ربِّ اغفر لي - أو قال : ( ثم دعا - استجيب له ، فإن عزم ، فتوضأ ثم صلى قُبِلت صلاته ) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 4/102 ( 3113 ) ، ومسلم 8/84 ( 2727 ) ( 80 ) عن علي .
(2) 2/68 ( 1154 ) .
(3) تعارَّ من الليل : أي هبَّ من نومه واستيقظ ، النهاية 1/190 .
وفي " الترمذي " (1) عن أبي أُمامة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من أوى إلى فراشه طاهراً يذكرُ الله حتى يُدرِكَه النُّعاس ، لم يتقلَّبْ ساعةً من الليل يسألُ الله شيئاً من خيرِ الدُّنيا والآخرة ، إلا أعطاه إيَّاه ) .
وخرَّجه أبو داود (2) بمعناه من حديث معاذ ، وخرَّجه النَّسائي (3) من حديث عمرو بن عبسة .
وللإمام أحمد (4) من حديث عمرو بن عبسة في هذا الحديث : ( وكان أوَّل ما يقول إذا استيقظ : سبحانك لا إله إلاّ أنت اغفر لي ، إلا انسلخَ من خطاياه كما تنسلخُ الحية من جلدها ) .
وثبت أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استيقظ من منامه يقول : ( الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النُّشور ) (5) .
ثم إذا قام إلى الوضوء والتهجد ، أتى بذلك كلِّه على ما ورد عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (6) ،
ويَختِمُ تهجُّده بالاستغفار في السحر ، كما مدح الله المستغفرين بالأسحار ، وإذا طلع الفجر ، صلَّى ركعتي الفجر ، ثمّ صلَّى الفجر ، ويشتغل بعد صلاة الفجر بالذِّكر المأثور إلى أنْ تطلع الشَّمسُ على ما تقدَّم ذكره ، فمن كان حالُه على ما ذكرنا ، لم يزل لسانُه رطباً بذكر الله ، فيستصحبُ الذكر في يقظته حتى ينامَ عليه ، ثم يبدأُ به عندَ استيقاظه ، وذلك من دلائل صدقِ المحبة ، كما قال بعضهم :
__________
(1) "الجامع الكبير" ( 3526 ) ، وقال: ( حسن غريب ) على أن في إسناده شهر بن حوشب ، وهو ضعيف عند التفرد ، وقد تفرد .
(2) في " سننه " ( 5042 ) .
(3) في " عمل اليوم والليلة " ( 807 ) و( 808 ) و( 809 ) .
(4) في " مسنده " 4/113 بدون هذه الزيادة .
(5) أخرجه : البخاري 8/85 ( 6312 ) و88 ( 6324 ) عن حذيفة بن اليمان .
وأخرجه : مسلم 8/78 ( 2711 ) ( 59 ) عن البراء بن عازب .
(6) من حديث ابن عباس عند البخاري 2/60 ( 1120 ) ، ومسلم 2/184 ( 769 )
( 199 ) .
وآخِرُ شيءٍ أنت في كلِّ هَجعةٍ
وأوَّل شيءٍ أنتَ وقتَ هُبُوبي
وذكرك في قلبي بنومٍ ويقظةٍ
تجافى من اللّين اللبيب جنوب(1)
وأول ما يفعله الإنسان في آناء الليل والنهار من مصالح دينه ودنياه ، فعامَّةُ ذلك يشرع ذكرُ اسم الله عليه ، فيُشرَعُ له ذكرُ اسم الله (2) وحمده على أكلِه وشُربه (3) ولباسه وجماعه لأهله ودخوله منْزله ، وخروجه منه ، ودخوله الخلاء ، وخروجه منه ، وركوبه دابته ، ويُسمِّي على ما يذبحه من نُسكٍ وغيره (4) .
ويُشرع له حمدُ الله تعالى على عُطاسه (5) ، وعند رؤية أهل البلاء في الدِّين أو الدُّنيا (6) ، وعندَ التقاء الإخوان ، وسؤال بعضهم بعضاً عن حاله ، وعندَ تجدُّد ما يحبه الإنسانُ من النِّعَمِ ، واندفاع ما يكرهه من النِّقَمِ ، وأكملُ مِنْ ذلك أنْ يحمد الله على السَّراء والضَّرَّاء والشدَّة والرَّخاء ، ويحمدُه على كلِّ حال .
__________
(1) هذا البيت سقط من ( ج ) .
(2) دليله حديث عمر بن أبي سلمة عند البخاري 7/88 ( 5376 ) ، ومسلم 6/109 ( 2022 ) ( 108 ) .
وحديث أنس الذي ذكره البخاري 7/88 عقيب ( 5376 ) معلقاً .
(3) دليله حديث أنس عند مسلم 8/87 ( 2734 ) ( 89 ) .
(4) دليله حديث ابن مسعود عند البخاري 7/118 ( 5499 ) .
(5) دليله حديث أبي هريرة عند البخاري 8/61 ( 6224 ) ، وأبي داود ( 5033 ) .
وجاء كذلك عن علي ، وابن مسعود ، وأبي أيوب الأنصاري .
(6) دليله حديث ابن عمر عند ابن ماجه ( 3892 ) .
ويُشرع له دعاءُ الله تعالى عندَ دخولِ السوق ، وعندَ سماعِ أصواتِ الدِّيَكةِ باللَّيل (1) ، وعندَ سماعِ الرَّعد ، وعند نزولِ المطر (2) ، وعند اشتداد هبوب الرياح (3) ، وعند رؤية الأهلّة (4) ، وعند رؤية باكورة الثِّمار (5) .
ويشرع أيضاً ذكرُ الله ودعاؤه عند نزول الكَرْبِ (6) ، وحدوثِ المصائب الدنيوية ، وعندَ الخروج للسَّفر (7) ، وعند نزول المنازل في السفر (8) ، وعند الرجوع من السفر (9) .
ويُشرع التعوُّذ بالله عند الغضب ، وعندَ رؤية ما يكره في منامه ، وعند سماع أصواتِ الكلاب والحمير بالليل (10) .
وتُشرع استخارة الله عند العزم على مالا يظهر الخيرة فيه (11) .
__________
(1) دليله حديث أبي هريرة عند البخاري 6/155 ( 3303 ) ، ومسلم 8/85 ( 2729 )
( 82 ) .
(2) دليله حديث المطلب بن حنطب عند البيهقي 3/356 وفي " الدعوات الكبير " ، له ( 483 ) .
(3) دليله حديث عمر بن الخطاب في " الأدب المفرد " ( 720 ) و( 906 ) ، و" سنن أبي داود "
( 5097 ) .
(4) دليله حديث قتادة عند أبي داود ( 5092 ) ، والبيهقي في " الدعوات الكبير " ( 466 ) .
(5) دليله حديث أبي هريرة عند البخاري في " الأدب المفرد " ( 362 ) ، ومسلم 4/116
( 1373 ) ( 473 ) و4/117 ( 1373 ) ( 474 ) .
(6) دليله حديث ابن عباس عند البخاري 8/93 ( 9345 ) و( 9346 ) و9/153 ( 7426 ) ، ومسلم 8/85 ( 2730 ) ( 83 ) .
(7) دليله حديث عبد الله بن سرجس عند مسلم 4/104 ( 1343 ) ( 426 ) .
(8) دليله حديث خولة بنت حكيم عند مسلم 8/76 ( 2708 ) ( 55 ) .
(9) دليله حديث ابن عباس عند ابن حبان ( 2716 ) ، والبيهقي في " الدعوات الكبير " ( 428 ) .
(10) دليله حديث جابر عند أبي داود ( 5103 ) .
(11) دليله حديث جابر عند البخاري 2/70 ( 1162 ) و8/101 ( 6382 ) و9/144
( 7390 ) .
وتجب التَّوبة إلى الله والاستغفارُ من الذنوب كلِّها صغيرها وكبيرِها ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } (1) ، فمن حافظ على ذلك ، لم يزل لسانه رطباً بذكر الله في كلِّ أحواله .
فصل
قد ذكرنا في أوَّل الكتاب أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ بجوامع الكلم ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يُعجِبُه جوامع الذكر ، ويختاره على غيره من الذكر ، كما في " صحيح مسلم " (2) عن ابن عباس ، عن جُويرية بنت الحارث أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بُكرةً حين صلَّى الصبحَ وهي في مسجدها ، ثمَّ رجع بعد أنْ أضحى وهي جالسةٌ ، فقال : ( مازلتِ على الحال التي فارقتك عليها ؟ ) قالت : نعم ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لقد قلتُ بعدَك أربعَ كلماتٍ ثلاثَ مرات ، لو وُزِنَت بما قلتِ منذ اليوم لوزَنتهُنَّ : سبحان الله وبحمده عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزِنَةَ عرشه ، ومداد كلماته ) .
وخرَّجه النَّسائي (3) ، ولفظه : ( سبحانَ الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومِداد كلماته ) .
__________
(1) آل عمران : 135 .
(2) 8/83 ( 2726 ) ( 79 ) .
(3) في " المجتبى " 3/77 وفي " الكبرى " ، له ( 1275 ) و( 9992 ) و( 9993 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 164 ) و( 165 ) .
وخرّج أبو داود ، والترمذي ، والنسائي (1) من حديث سعد بن أبي وقّاص أنَّه دخل مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على امرأةٍ وبَين يديها نوى ، أو قال : حَصى تسبِّح به ، فقال : ( ألا أُخبِرُك بما هو أيسرُ من هذا وأفضل ؟ سبحانَ الله عددَ ما خلق في السماء ، وسبحانَ الله عدد ما خلَق في الأرض ، وسُبحان الله عدد ما بينَ ذلك ، وسبحانَ الله عددَ ما هو خالق ، والله أكبر مثلُ ذلك ، والحمد لله مثلُ ذلك ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله مثل ذلك ) .
وخرَّج الترمذي (2) من حديث صَفيَّة ، قالت : دخل عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وبَينَ يدي أربعة آلاف نواة أسبح الله بها فقُلتُ : لقد سبَّحت بهذه ، فقال : ( ألا أعلمك بأكثر ممَّا سبَّحت به ؟ ) فقلت : علمني ، فقالَ : ( قولي : سبحان الله عددَ خلقه ) .
__________
(1) أبو داود ( 1500 ) ، والترمذي ( 3568 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " كما في
" تحفة الأشراف " ( 3954 ) ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) مع أن في سنده مجهولاً .
(2) في " جامعه " ( 3554 ) ، وهو ضعيف ، وقال الترمذي : ( غريب لا نعرفه من حديث صفية إلاَّ من هذا الوجه من حديث هاشم بن سعيد الكوفي ، وليس إسناده بمعروف ) .
وخرَّج النسائي ، وابنُ حبان في " صحيحه " (1) من حديث أبي أُمامة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ به وهو يحرِّك شفتيه ، فقال : ( ماذا تقولُ يا أبا أمامة ؟ ) قال : أذكر ربي ، قال : ( ألا أخبرك بأكثرَ وأفضلَ من ذكرك اللَّيل مع النَّهار والنهار مع الليل ؟ أنْ تقولَ : سبحان الله عدد ما خلقَ ، وسبحان الله ملءَ ما خلق ، وسُبحان الله عددَ ما في الأرض والسَّماء ، وسُبحان الله ملء ما في الأرض والسماء ، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابُه ، وسبحان الله ملءَ ما أحصى كتابه ، وسبحان الله عدد كلّ شيءٍ ، وسبحان الله ملء كلِّ شيء ، وتقولَ : الحمد لله مثل ذلك ) .
وخرَّج البزار (2) نحوه من حديث أبي الدرداء .
وخرَّج ابن أبي الدنيا بإسناد له أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ : ( يا معاذ ، كم تذكرُ ربَّك كلَّ يوم ؟ تذكره كلَّ يوم عشرة آلاف مرة ؟ ) قال : كلُّ ذلك أفعل ، قال : ( أفلا أدلُّك على كلمات هُنَّ أهونُ عليك من عشرة آلاف وعشرة آلاف أن تقول : لا إله إلا الله عدد ما أحصاه ، لا إله إلا الله عدد كلماتِه ، لا إله إلا الله عدد خلقه ، لا إله إلا الله زِنة عرشه ، لا إله إلا الله مِلء سماواته ، لا إله إلا الله ملء أرضه ، لا
إله إلا الله مثل ذلك معه ، والله أكبر مثل ذلك معه ، والحمد لله مثل ذلك معه ) .
وبإسناده أنَّ ابن مسعود ذكر له امرأة تسبح بخيوط معقَّدة ، فقال : ألا أدلُّك على ما هو خير لك منه ؟ سبحان الله ملء البرِّ والبحر ، سبحان الله ملء السماوات
والأرض ، سبحان الله عدد خلقه ، ورضا نفسه ، فإذا أنت قد ملأت البرّ والبحر والسماء والأرض .
__________
(1) النسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 166 ) ، وابن حبان ( 830 ) ، وفي إسناده يحيى بن أيوب الغافقي ضعيف .
(2) كما في " كشف الأستار " ( 3080 ) .
وبإسناده عن المعتمر بن سليمان التيمي قال : كان أبي يحدث خمسة أحاديث ثم يقول : امهِلوا ، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ، والله أكبرُ ، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله عدد ما خلق وعدد ما هو خالق ، وزنة ما خلق وزنة ما هو خالق ، وملء ما خلق ، وملء ما هو خالق ، وملء سماواته ، وملءَ أرضه ، ومثل ذلك وأضعاف ذلك ، وعدد خلقه ، وزنة عرشه ، ومنتهى رحمته ، ومداد كلماته ، ومبلغ رضاه وحتى يرضى وإذا رضي ، وعدد ما ذكره به خلقه في جميع ما مضى ، وعدد ما هم ذاكروه فيما بقي ، في كلِّ سنة وشهر وجمعة ويومٍ وليلة وساعة من الساعات ، وتنسم وتنفس من أبدٍ إلى الأبد أبد الدُّنيا والآخرة أمد من ذلك لا ينقطع أولاه ، ولا ينفد أخراه (1) .
وبإسناده عن المعتمر بن سليمان قال : رأيت عبد الملك بن خالد بعد موته ، فقلت : ما صنعتَ ؟ قال : خيراً ، فقلت : ترجو للخاطئ شيئاً ؟ قال : يلتمس علم تسبيحات أبي المعتمر نعم الشيء .
قال ابن أبي الدنيا : وحدثني محمد بن الحسين ، حدثني بعض البصريين أنَّ يونسَ بن عبيد رأى رجلاً فيما يرى النَّائم كان قد أصيب ببلادِ الرُّوم ، فقال : ما أفضل ما رأيت ثمَّ من الأعمال ؟ قالَ : رأيتُ تسبيحات أبي المعتمر من الله بمكان (2) .
وكذلك كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه من الدعاء جوامعه ، ففي " سنن أبي داود " (3) عن عائشة ، قالت : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه الجوامع من الدعاء ، ويدع ما بين ذلك .
__________
(1) أخرجه : الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " ( 1001 ) بسنده عن ابن أبي الدنيا ، به .
(2) أخرجه : الخطيب في " جامعه " ( 1002 ) .
(3) رقم ( 1482 ) ، وهو صحيح .
وخرّج الفريابي وغيره من حديث عائشة أيضاً أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ( يا عائشة ، عليك بجوامع الدُّعاء : اللهمَّ إنِّي أسألك من الخير كلِّه عاجلهِ وآجله ، ما علمتُ منه وما لم أعلم ، وأعوذُ بك من الشرِّ كلِّه عاجِلِه وآجله ، ما علمت منه وما لم أعلم . اللهمَّ إنِّي أسألك مِنْ خير ما سألك منه محمد عبدك ونبيك ، وأعوذُ بك من شرِّ ما عاذ منه عبدك ونبيك ، اللهمَّ إني أسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل ، وأعوذ بك من النار ، وما قرَّب إليها من قول وعمل ، وأسألُك ما قضيتَ لي من قضاءٍ ، أنْ تجعل عاقبته رشداً ) وخرَّجه الإمام أحمد (1) ، وابنُ
ماجه (2) ، وابن حبان في " صحيحه " (3) والحاكم (4) ، وليس عندهم ذكر جوامع الدعاء ، وعند الحاكم ( عليك بالكوامل ) وذكره . وخرَّجه أبو بكر الأثرم وعنده أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ( ما منعك أنْ تأخذي بجوامع الكلم وفواتحه ؟ ) وذكر هذا الدعاء .
وخرّج الترمذي (5) من حديث أبي أمامة قال : دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعاءٍ كثير لم نحفظ منه شيئاً ، فقلنا : يا رسول الله ، دعوتَ بدعاءٍ كثيرٍ لم نحفظ منه شيئاً ، فقال : ( ألا أدلُّكم على ما يجمعُ ذلك كلَّه ؟ تقولون : اللهمَّ إنّا نسألكَ من خير ما سألك منه نبيُّك محمد ، ونعوذُ بك من شرِّ ما استعاذ منه نبيُّك محمد ، وأنت المستعانُ ، وعليك البلاغ ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ) .
__________
(1) في " مسنده " 6/134 و146 و147 ، وهو صحيح .
(2) في " سننه " ( 3846 ) .
(3) 869 ) .
(4) في " المستدرك " 1/521 – 522 .
(5) في " جامعه " ( 3521 ) .
وخرَّجه الطبراني (1) وغيره (2) من حديث أم سلمة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعاء له طويل : ( اللهم إنِّي أسألك فواتحَ الخير ، وخواتِمه ، وجوامعَه ، وأوَّله وآخره ، وظاهره ، وباطنه ) .
وفي " المسند " (3) أنَّ سعد بن أبي وقاص سمع ابناً له يدعو ، ويقول : اللهمَّ إنِّي أسألك الجنَّة ونعيمها وإستَبرقَها ونحواً من هذا ، وأعوذ بك من النار وسلاسِلها وأغلالها ، فقال : لقد سألتَ الله خيراً كثيراً ، وتعوَّذت بالله من شرٍّ كثير ، وإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّه سيكونُ قومٌ يعتدون في الدُّعاء ، وقرأ هذه الآية : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } (4) وإنَّ بِحسبكَ أنْ تقول : اللهمَّ إنِّي أسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ وعملٍ ، وأعوذُ بك من النَّار وما قرَّب إليها من قولٍ وعملٍ ) .
__________
(1) في " الكبير " 23/( 717 ) ، وفي إسناده عاصم بن أبي عبيد ذكره ابن حبان في " الثقات " 5/238 وكأنه مجهول .
(2) أخرجه : الحاكم 1/520 .
(3) مسند الإمام أحمد 1/172 ، وفي إسناده مقال لجهالة مولى سعد .
(4) الأعراف : 55 .
وفي " الصحيحين " (1) عن ابن مسعود ، قال : كنا نقول في الصَّلاة خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : السلام على الله ، السلام على جبريل وميكائيل ، السلام على فلان وفلان ، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم : ( إنَّ الله هو السلامُ ، فإذا قعدَ أحدُكم في الصَّلاة ، فليقل : التحيَّات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النَّبي ورحمة الله وبركاته ، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين ، فإذا قالها أصابت كلَّ عبد لله صالح في السماء والأرض ، أشهد أنْ لا إله إلا الله ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله ، ثم يَتخيَّرُ من المسألة ما شاء ) .
وفي " المسند " (2) عن ابن مسعود قال : إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُلِّمَ فواتحَ الخيروجوامعه ، أو جوامعَ الخير وفواتحه وخواتمه ، وإنّا كنَّا لا ندري ما نقولُ في صلاتنا حتّى علَّمنا ، فقال : ( قولوا : التحيات لله ) فذكره إلى آخره ، والله أعلم .
آخر الكتاب والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
__________
(1) صحيح البخاري 1/211 ( 831 ) و212 ( 835 ) و8/63 - 64 ( 6230 ) ، وصحيح مسلم 2/14 ( 402 ) ( 55 ) .
(2) مسند الإمام أحمد 1/408 و437 ، وهو حديث صحيح .