كتاب:جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم
تأليف : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي
الشهير بابن رجبِ
، وأقلُّ ما يمكن أنْ يتخلق ويتصوَّر في أحد وثمانين يوماً .
وقال أحمد في العلقة : هي دم لا يستبين فيها الخلقُ ، فإن كانت المضغةُ غيرَ مخلقة ، فهل تنقضي بها العدِّة ، وتصيرُ أمُّ الولد بها مستولدةً ؟ على قولين ، هما روايتان عن أحمد(1) ، وإنْ لم يظهر فيها التخطيط ، ولكن كان خفياً لا يعرفه إلا أهل الخبرة مِنَ النِّساء ، فشهِدْن بذلك ، قُبِلَت شهادتُهنَّ ، ولا فرق بين أنْ يكونَ بعد تمام أربعة أشهر أو قبلها عند أكثر العلماء ، ونصَّ على ذلك الإمام أحمد في رواية خلق من أصحابه ، ونقل عنه ابنه صالح في الطفل في الأربعة يتبين خلقه (2).
__________
(1) تنقضي به العدة وتصير به أم ولد على ما نقله حنبل ، ولا تنقضي به العدة ولا تصير به أم ولد ولا يتعلق به شيء من الأحكام على ما نقل أبو طالب والأثرم . وقال الأثرم لأبي عبد الله : أم الولد إذا أسقطت لا تعتق ؟ فقال : إذا تبين فيه يد أو رجل أو شيء من خلقه فقد عتقت ، وهذا قول الحسن والشافعي ، وروى يوسف بن موسى : أن أبا عبد الله قيل له : ما تقول في الأمة إذا ألقت مضغة أو علقة ؟ قال : تعتق .
انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/213 مسألة ( 157 ) ، والمغني لابن قدامة 12/504 .
(2) في ( ص ) : ( يتبين خلقه في أربعة أشهر ) .
قال الشعبي : إذا نُكِسَ في الخلق الرابع كان مخلقاً ، انقضت به العدة ،
وعتقَتْ به الأمةُ إذا كان لأربعة أشهر(1) ، وكذا نقل عنه حنبل : إذا اسقطت أمُّ الولدِ ، فإنْ كان خِلقة تامة ، عتقَت ، وانقضت به العدةُ إذا دخل في الخلق الرابع في أربعة أشهر ينفخ فيه الروح ، وهذا يخالف رواية الجماعة عنه ، وقد قال أحمد في رواية عنه : إذا تبين خلقُه ، ليس فيه اختلاف أنَّها تعتق بذلك إذا كانت
أمةً ، ونقل عنه جماعة أيضاً في العلقة إذا تبيَّن أنَّها ولدٌ أنَّ الأمةَ تُعتق بها ، وهو قولُ النَّخعي ، وحكي قولاً للشافعي ، ومِنْ أصحابِنا من طرَّدَ هذه الرواية عن أحمد في انقضاء العدَّة به أيضاً . وهذا كلُّه مبنيٌّ على أنَّه يمكن التَّخليق في العلقة كما قد يستدلُّ على ذلك بحديث حذيفة بن أسيد المتقدِّم إلاَّ أنْ يقال : حديث حذيفة إنَّما يدلُّ على أنَّه يتخلَّق إذا صار لحماً وعظماً ، وإنَّ ذلك قد يقع في الأربعين الثانية ، لا في حالِ كونِهِ علقةً ، وفي ذلك نظر (2) ، والله أعلم .
وما ذكره الأطباء يدلُّ على أنَّ العلقة تتخلق وتتخطَّط ، وكذلك القوابِل مِنَ النِّسوة يشهدن بذلك ، وحديث مالك بن الحويرث يشهد بالتصوير في حال(3) كون الجنين نطفة أيضاً ، والله تعالى أعلم .
وبقي في حديث ابنِ مسعود أنَّ بعدَ مصيره مضغةً أنَّه يُبعث إليه الملَكُ ، فيكتب الكلمات الأربعَ ، ويَنفُخُ فيه الروحَ ، وذلك كلُّه بعد مئة وعشرين يوماً .
__________
(1) انظر : المغني لابن قدامة 12/405 .
(2) عبارة : ( وفي ذلك نظر ) سقطت من ( ص ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
واختلفت ألفاظُ روايات هذا الحديثِ في ترتيب الكتابة والنفخ ، ففي رواية البخاري في " صحيحه " (1) : ( ويبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلماتٍ ، ثم ينفخ فيه الروح ) ففي هذه الرواية تصريحٌ بتأخُّر نفخ الرُّوح عن الكتابة ، وفي رواية خرّجها البيهقي في كتاب " القدر " (2) : ( ثم يُبعث الملكُ ، فينفخ فيه الروحَ ، ثُمَّ يُؤْمرُ بأربع كلمات ) ، وهذه الرواية تصرِّحُ بتقدم النفخ على الكتابة ، فإما أنْ يكون هذا مِنْ تصرُّف الرُّواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه ، وإمَّا أنْ يكون المرادُ ترتيب الإخبار فقط ، لا ترتيبَ ما أخبر به .
وبكل حالٍ ، فحديثُ ابن مسعود يدلُّ على تأخُّرِ نفخِ الرُّوح في الجنين وكتابة الملك لأمره إلى بعد أربعة أشهر حتّى تتمَّ الأربعون الثالثة . فأمَّا نفخُ الرُّوح ، فقد روي صريحاً عن الصَّحابة أنَّه إنَّما ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهرٍ ، كما دلَّ عليه ظاهرُ حديث ابن مسعود . فروى زيدُ بنُ عليٍّ ، عن أبيه ، عن عليٍّ ، قال : إذا تمَّتِ النُّطفة أربعة أشهر بُعِثَ إليها مَلَكٌ ، فنَفَخَ فيها الروح في الظلمات ، فذلك قولُه تعالى : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } (3) ، خرَّجه ابن أبي حاتم(4) ، وهو إسناد منقطع(5) .
__________
(1) الصحيح 4/135 ( 3208 ) و4/161 ( 3332 ) و9/165 ( 7454 ) .
(2) وفي " السنن الكبرى " 7/441 و10/266 .
(3) المؤمنون : 14 .
(4) كما في " تفسير ابن كثير " 1292 ، و" الدر المنثور " 5/12 ، والمطبوع من " تفسير ابن أبي حاتم " فيه سقط في هذا الموضع .
(5) انظر : فتح الباري 11/591 ، وعلي بن الحسين لم يسمع من جده على بن أبي طالب - رضي الله عنه - .
وخرَّج اللالكائي بإسنادِه عن ابنِ عباس ، قال : إذا وقعت النطفةُ في الرَّحم ، مكثت أربعة أشهر وعشراً ، ثم نفخ فيها الروح ، ثم مكثَت أربعينَ ليلةً ، ثم بُعِثَ إليها ملكٌ ، فنقفها في نُقرة القفا ، وكتب شقياً أو سعيداً(1) ، وفي إسناده نظر(2) ، وفيه أنَّ نفخ الروح يتأخر عن الأربعة أشهر بعشرة أيام .
وبنى الإمام أحمد مذهبه المشهور عنه على ظاهر حديث ابن مسعود ، وأنَّ الطفل يُنفخ فيه الرُّوح بعد الأربعة أشهر ، وأنَّه إذا سقط بعد تمام أربعة أشهر ، صُلِّيَ عليه(3) ؛ حيث كان قد نفخ فيه الروح ثم مات . وحكي ذلك أيضاً عن سعيد ابن المسيب(4) وهو أحد أقوال الشافعي وإسحاق(5) ، ونقل غيرُ واحدٍ عن أحمد أنَّه قال : إذا بلغ أربعة أشهر وعشراً(6) ، ففي تلك العشر يُنفخ فيه الروح ، ويُصلَّى عليه . وقال في رواية أبي الحارث عنه : تكون النَّسمةُ نطفةً أربعين ليلةً ، وعلقةً أربعين ليلةً ، ومُضغةً أربعين ليلةً ، ثم تكونُ عظماً ولحماً ، فإذا تمَّ أربعة أشهر وعشراً(7) ، نفخ فيه الروح .
__________
(1) في " أصول الاعتقاد " ( 1060 ) .
(2) فيه محمد بن حميد الرازي ضعيف .
انظر : التاريخ الكبير 1/71 ( 167 ) ، والضعفاء الكبير 4/61 ( 1612 ) ، والمجروحين 2/296 ، وتهذيب الكمال 6/285 ( 5756 ) ، وميزان الاعتدال 3/530 ( 7453 ) ، والتقريب ( 5834 ) .
(3) انظر : المغني لابن قدامة 2/392 .
(4) انظر : فتح الباري 11/591 .
(5) انظر : المغني لابن قدامة 2/392 ، ورؤوس المسائل الخلافية 2/247 مسألة ( 379 ) .
(6) انظر : فتح الباري 11/591 .
(7) سقطت من ( ص ) .
فظاهر هذه الرواية أنَّه لا ينفخ فيه الرُّوح إلاَّ بعد تمام أربعةِ أشهر وعشر ،
كما رُوي عن ابنِ عباس ، والروايات التي قبل هذه عن أحمد إنَّما تدلُّ على أنَّه يُنفخ
فيه الرُّوح في مدَّة العشر بعد تمام الأربعة ، وهذا هو المعروف عنه ، وكذا قال ابن المسيب لمَّا سُئِلَ عن عِدَّةِ الوفاة حيث جعلت أربعة أشهر وعشراً : ما بال العشر ؟ قالَ : ينفخ فيها الروح .
وأما أهل الطب ، فذكروا أنَّ الجنين إنْ تصوَّر في خمسة وثلاثين يوماً ، تحرَّك في سبعين يوماً، وولد في مئتين وعشرة أيام، وذلك سبعةُ أشهر ، وربَّما تقدَّم أياماً ، وتأخر في التصوير والولادة ، وإذا كان التصوير في خمسة وأربعين يوماً(1) ، تحرَّك في تسعين يوماً ، ووُلد في مئتين وسبعين يوماً ، وذلك تسعةُ أشهرٍ ، والله أعلم .
__________
(1) من قوله : ( تحرك في سبعين يوماً ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
وأما كتابة الملك ، فحديث ابن مسعود يدلُّ على أنَّها تكونُ(1) بعد الأربعة أشهر أيضاً على ما سبق ، وفي " الصحيحين "(2) عن أنس ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( وكَّلَ الله بالرَّحِم مَلَكاً يقول : أي ربِّ نطفة ، أي ربِّ علقة ، أي ربِّ مضغة ، فإذا أراد الله أنْ يقضي خلقاً ، قالَ : يا ربِّ أذكرٌ أم أنثى ؟ أشقيٌّ أم سعيد ؟ فما الرزقُ ؟ فما الأجل ؟ فيكتب كذلك في بطن أمه ) وظاهر هذا يُوافق حديث ابن مسعود ؛ لكن ليس فيه تقدير مدة ، وحديث حذيفة بن أسيد الذي تقدم يدلُّ على أنَّ الكتابة تكون في أوَّل الأربعين الثانية ، وخرجه مسلم(3) أيضاً بلفظٍ آخر من حديث حُذيفة بن أسيد يَبلُغُ به النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يدخلُ المَلَكُ على النطفة بعد ما تستقرُّ في الرَّحمِ بأربعين أو خمسة وأربعين ليلةً(4)، فيقول : يا ربِّ أشقيٌّ أو سعيد ؟ فيكتبان ، فيقول : أي ربِّ أذكر أو أنثى ؟ فيكتبانِ ، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ، ثُمَّ تُطوى الصحفُ ، فلا يزادُ فيها ولا ينقصُ ) .
وفي رواية أخرى لمسلم(5) أيضاً : ( إنَّ النطفة تَقَعُ في الرَّحِم أربعينَ ليلةً ثُمَّ يتسوَّر عليها الملكُ فيقول : يا ربِّ أذكر أم أنثى ؟ ) وذكر الحديثَ . وفي رواية أخرى لمسلم(6) أيضاً : ( لبضع وأربعينَ ليلةً ) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) صحيح البخاري 1/87 ( 318 ) و4/162 ( 3333 ) و8/152 ( 6595 ) ، وصحيح مسلم 8/46 ( 2646 ) ( 5 ) .
(3) في " صحيحه " 8/45 ( 2644 ) ( 2 ) .
(4) في ( ص ) : ( يوماً ) .
(5) في " صحيحه " 8/46 ( 2645 ) ( 4 ) .
(6) نفس المصدر السابق .
وفي " مسند الإمام أحمد "(1) من حديث جابر ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا استقرَّتِ النطفةُ في الرَّحم أربعين يوماً ، أو أربعين ليلةً بُعِثَ إليها ملكٌ ، فيقول :
يا ربِّ ، شقيٌّ أو سعيد ؟ فيعلم ) .
وقد سبق ما رواه الشَّعبيُّ ، عن علقمة ، عن ابن مسعودٍ من قوله ، وظاهره يدلُّ على أنَّ المَلَكَ يُبعثُ إليه وهو نطفة ، وقد رُوي عن ابن مسعود من وجهين آخرين أنَّه قالَ : ( إنَّ الله - عز وجل - تُعرَضُ عليهِ كلَّ يومٍ(2) أعمالُ بني آدم ، فينظر فيها ثلاثَ ساعاتٍ ، ثمَّ يُؤتى بالأرحام ، فينظر فيها ثلاثَ ساعاتٍ ، وهو قوله
: { يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } (3)، وقوله : { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً } (4)، ويُؤْتى بالأرزاق ، فينظر فيها ثلاثَ ساعاتٍ ، وتسبحه الملائكةُ ثلاث ساعاتٍ ، قالَ : فهذا مِنْ شأنِكم وشأنِ ربِّكم(5) ) ولكن ليس(6) في هذا توقيتُ ما يُنظر فيه مِنَ الأرحام بمدَّة .
__________
(1) " المسند " 3/397 ، وإسناده ضعيف لضعف خصيف بن عبد الرحمان الجزري .
(2) عبارة : ( كل يوم ) سقطت من ( ص ) .
(3) آل عمران : 6 .
(4) الشورى : 49 .
(5) أخرجه الطبراني في " الكبير " ( 8886 ) ، وأبو الشيخ في " العظمة " 2/478 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/137 ، وإسناده ضعيف .
(6) في ( ص ) : ( وليس ) بإسقاط ( لكن ) .
وقد رُوي عن جماعة من الصحابة أنَّ الكتابة تكون في الأربعين الثانية ، فخرج اللالكائي(1) بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قالَ : إذا مكثتِ النطفة في رحِم المرأة أربعين ليلةً ، جاءها مَلَكٌ ، فاختلَجَها ، ثُمَّ عرجَ بها إلى الرَّحمان - عز وجل - ، فيقول : اخلُق يا أحسنَ الخالقين ، فيقضي الله فيها ما يشاءُ مِنْ أمره ، ثُمَّ تدفع إلى الملك عندَ ذَلِكَ ، فيقول : يا ربّ أسَقْطٌ أم تام ؟ فيبين له ، ثم يقول : يا ربِّ(2) أناقصُ الأجل أم تام الأجل ؟ فيبين له ، ويقول : يا ربِّ أواحد أم توأم ؟ فيبين له ، فيقول : يا ربّ أذكر أم أنثى(3) ؟ فيبين له ، ثم يقول : يا ربِّ ، أشقيٌّ أم سعيد ؟ فيبين له ، ثم يقول : يا ربِّ اقطع له رزقه ، فيقطع له رزقه مع أجله ، فيهبط بهما جميعاً . فوالذي نفسي بيده لا ينال من الدنيا إلا ما قسم له .
وخرَّج ابن أبي حاتم(4) بإسناده(5) عن أبي ذر ، قال : إنَّ المني يمكثُ في الرَّحم أربعينَ ليلةً ، فيأتيه مَلَكُ النُّفوس ، فيعرج به إلى الجبَّار - عز وجل - ، فيقول : يا ربّ أذكرٌ أم أنثى ؟ فيقضي الله - عز وجل - ما هو قاضٍ ، ثم يقول : يا ربّ ، أشقيٌّ أم سعيد ؟ فيكتب ما هو لاقٍ بين يديه ، ثم تلا أبو ذر من فاتحة سورة التغابن إلى قوله :
{ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } (6) .
__________
(1) في " أصول الاعتقاد " ( 1236 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(2) يا رب ) لم ترد في ( ص ) .
(3) من قوله : ( فيبين له ، ويقول : يارب أواحد ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) في " تفسيره " ( 18902 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 26489 ) ، وطبعة التركي 23/6 ، والفريابي في "القدر" ( 123 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(5) لم ترد في ( ص ) .
(6) التغابن : 3 .
وهذا كله يوافق ما في حديث حذيفة بن أسيدٍ . وقد تقدم عن ابن عباس أنَّ كتابة الملَكِ تكونُ بعدَ نفخِ الروح بأربعين ليلة وأنَّ إسناده فيه نظر .
وقد جمع بعضُهم بين هذه الأحاديث والآثار ، وبينَ حديث ابن مسعود ، فأثبت الكتابة مرَّتين ، وقد يقال مع ذلك : إنَّ إحداهما في السماء والأخرى في بطن الأم، والأظهر - والله أعلم - أنَّها مرَّة واحدة ، ولعلَّ ذلك يختلف باختلاف الأجنَّة، فبعضهم يُكتب له ذلك بعد الأربعين الأولى ، وبعضهم بعد الأربعين الثالثة(1) .(2)
وقد يقال : إنَّ لفظة ( ثُمَّ ) في حديث ابن مسعود إنَّما أريد به ترتيب الإخبار ، لا ترتيب المخبر عنه في نفسه(3) ، والله أعلم .
__________
(1) في ( ص ) : ( الثانية ) .
(2) انظر : فتح الباري 11/592 .
(3) انظر : فتح الباري 11/591 .
ومن المتأخرين من رجَّح أنَّ الكتابة تكونُ في أوَّل الأربعين الثانية ، كما دلَّ عليه حديث حذيفة بن أسيد ، وقال : إنَّما أخر ذكرها في حديث ابن مسعود إلى ما بعد ذكر المضغة ، وإنْ ذكرت بلفظ ( ثم ) لئلا ينقطع ذكرُ الأطوار الثلاثة التي يتقلب فيها الجنين وهي كونه : نطفة وعلقة ومضغة ، فإنَّ ذكر هذه الثلاثة على نسق واحد أعجبُ وأحسنُ ، ولذلك أخَّر المعطوف عليها ، وإنْ كان المعطوف(1) متقدماً على بعضها في الترتيب(2) ، واستشهد لذلك بقوله تعالى : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ } (3) ، والمراد بالإنسان : آدم - عليه السلام -(4)، ومعلومٌ أنَّ تسويته ، ونفخ الرُّوح فيه، كان قبل(5) جعلِ نسلِهِ من سُلالة من ماء مهين ، لكن لما كان المقصود ذكر قدرة الله - عز وجل - في مبدأ خلق آدم وخلق نسله ، عطف أحدهما على الآخر ، وأخَّر ذكرَ تسوية آدم ونفخ الرُّوح فيه ، وإنْ(6) كان ذلك متوسطاً بين خلق آدم من طين وبين خلق نسله ، والله أعلم .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في الترتيب ) سقطت من ( ص ) .
(3) السجدة : 7-9 .
(4) انظر : تفسير الطبري ( 21492 ) و( 21493 ) ، وتفسير البغوي 3/595 .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) من قوله : ( لما كان المقصود ذكر ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
وقد ورد أنَّ هذه الكتابة تكتب بين عيني الجنين ، ففي " مسند البزار "(1) عن
ابن عمر رضي الله عنهما ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا خلَقَ الله النسمةَ ، قال مَلَكُ
الأرحام : أي ربِّ أذكرٌ أم أنثى ؟ قالَ : فيقْضِي الله إليه أمره ، ثُمَّ يقول : أي ربِّ
أشقيٌّ أم سعيدٌ ؟ فيقضي الله إليه أمره ، ثُمَّ يكتب بَيْنَ عينيه ما هوَ لاقٍ حتَّى النَّكبة يُنكَبُها ) .
وقد رُوي موقوفاً على ابن عمر(2) غير مرفوع ، وحديثُ حذيفةَ بن أسيد المتقدم صريحٌ في أنَّ الملك يكتبُ ذلك في صحيفةٍ ، ولعلَّه يكتب في صحيفة ، ويكتب بين عيني الولد .
وقد روي أنَّه يقترِنُ بهذه الكتابة أنَّه يُخلق مع الجنين ما تضمنته من صفاته القائمة به ، فرُوي عن عائشة، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله إذا أراد أنْ يَخلُق الخلق ، بعث مَلَكاً ، فدخلَ الرَّحِمَ ، فيقول : أي ربِّ ، ماذا ؟ فيقول : غلامٌ أو جاريةٌ أو ما شاء الله أنْ يخلُق في الرحم ، فيقول : أي ربِّ ، أشقيٌّ أم سعيدٌ ؟ فيقول : ما شاء الله ، فيقول : يا رب ما أجلُه ؟ فيقول : كذا وكذا ، فيقول : ما خلقه ؟ ما خلائِقُه ؟ فيقول : كذا وكذا ، فما مِنْ شيءٍ إلا وهو يُخْلَقُ معه في الرحم ) . خرَّجه أبو داود في كتاب " القدر " والبزار في " مسنده " (3) .
__________
(1) في " كشف الأستار " ( 2149 ) ، وسنده قويٌّ ، وأخرجه أبو يعلى ( 5775 ) ، وابن حبان ( 6178 ) .
(2) في ( ص ) : ( وقد روي عن ابن عمر ) .
(3) كشف الأستار ( 2151 ) ، وفي إسناده مقال .
وبكل حال ، فهذه الكتابةُ التي تُكتب للجنين في بطن أمِّه غيرُ كتابة المقادير السابقة لخلق الخلائقِ المذكورة في قوله تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ
وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } (1) ، كما في " صحيح
مسلم "(2) عن عبد الله بن عمرو ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله قدَّر مقاديرَ الخلائقِ قبل أن يَخْلُقَ السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة ) . وفي حديث عُبادة ابنِ الصَّامت ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أوَّل ما خَلَق الله القلم فقال له : اكتب ، فجرى بما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ )(3) .
وقد سبق ذكرُ ما رُوي عن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - : أنَّ المَلَكَ إذا سأل عن حالِ النُّطفة ، أُمِر أنْ يذهبَ إلى الكتاب السابق ، ويقال له : إنَّكَ تجِدُ فيه قصَّةَ هذه النُّطفة ، وقد تكاثرت النُّصوص بذكرِ الكتابِ السابقِ ، بالسَّعادة والشقاوة ،
ففي " الصحيحين "(4)
__________
(1) الحديد : 22 .
(2) " الصحيح " 8/51 ( 2653 ) ( 16 ) .
(3) أخرجه : أحمد 5/317 ، وأبو داود ( 4700 ) ، والترمذي ( 2155 ) و( 3319 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 102 ) و( 103 ) و( 104 ) و(105 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 58 ) و( 59 ) و( 1949 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/248 ، والبيهقي 10/204 ، وهو حديث قويٌّ .
(4) صحيح البخاري 6/211 ( 4945 ) و( 4946 ) و( 4947 ) و6/212 ( 4948 )
و( 4949 ) و8/59 ( 6217 ) و8/154 ( 6607 ) و9/195 ( 7552 ) ، وصحيح مسلم 8/46 ( 2647 ) ( 6 ) و8/47 ( 2647 ) ( 7 ) .
وأخرجه : أحمد 1/82 و129 و132 و140 و157 ، وعبد بن حميد ( 84 ) ، وأبو داود
( 2694 ) ، وابن ماجه ( 78 ) ، والترمذي ( 2136 ) و( 3344 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 11687 ) و( 11679 ) وفي " تفسيره " ( 698 ) ( 699 ) ، والطبري في
" تفسيره " ( 29019 ) ، وابن حبان ( 334 ) و( 335 ) والبغوي ( 72 ) . من طرق عن علي بن أبي طالب ، به .
عن عليِّ بن أبي طالب ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( ما مِنْ نفسٍ منفوسةٍ إلاَّ وقد كتب الله(1) مكانَها من الجنَّة أو النار ، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة ) ، فقال رجل : يا رسولَ الله ، أفلا نمكُثُ على كتابنا ، وندعُ العمل ؟ فقالَ : ( اعملوا ، فكلٌّ ميسَّر لما خُلِقَ لهُ ، أمَّا أهلُ السَّعادة ، فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهلُ الشقاوة ، فييسرون لعمل أهل الشَّقاوة ) ، ثم قرأ
: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } (2) .
ففي هذا الحديث أنَّ السعادة والشقاوة قد سبقَ الكتابُ بهما ، وأنَّ ذلك مُقدَّرٌ بحسب الأعمال ، وأنَّ كلاًّ ميسر لما خُلق له من الأعمال التي هي سببٌ للسعادة أو الشقاوة .
وفي " الصحيحين " (3) عن عمرانَ بن حُصينٍ ، قال : قال رجل :
يا رسول الله ، أيُعرَفُ أهلُ الجَنَّةِ مِنْ أهلِ النَّارِ ؟ قالَ : ( نَعَمْ ) ، قالَ : فَلِمَ يعملُ العاملونَ ؟ قال : ( كلٌّ يعملُ لما خُلِقَ له ، أو لما ييسر له ) .
وقد روي هذا المعنى عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ كثيرةٍ ، وحديث ابن مسعود فيه أنَّ السعادة والشقاوة بحسب خواتيم الأعمال .
__________
(1) زاد بعد لفظ الجلالة في ( ص ) : ( لها ) .
(2) الليل : 5 .
(3) صحيح البخاري 8/152 ( 6596 ) ، وصحيح مسلم 8/48 ( 2649 ) ( 9 ) .
وأخرجه : أحمد 4/431 ، وأبو داود ( 4709 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 412 ) ، وابن حبان ( 333 ) من حديث عمران بن حصين ، به .
وقد قيل : إنَّ قوله في آخر الحديث ( فوالله(1) الَّذي لا إله غيره ، إنَّ أحدَكم ليَعمَلُ بعملِ أهل الجنَّة ) إلى آخر الحديث مُدرَجٌ من كلام ابن مسعود ، كذلك رواه سلمة بنُ كهيلٍ ، عن زيد بنِ وهب ، عن ابن مسعودٍ من قوله(2) ، وقد رُوي هذا المعنى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددة أيضاً .
وفي " صحيح البخاري "(3) عن سهلِ بنِ سعدٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّما الأعمالُ بالخواتيم ) .
وفي " صحيح ابن حبان " (4) عن عائشة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّما الأعمالُ بالخواتيم ) .
وفيه أيضاً عن معاوية قال : سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّما الأعمال
بخواتيمها ، كالوعاء ، إذا طابَ أعلاه ، طاب أسفَلُه وإذا خَبُثَ أعلاه ، خَبُثَ
أسفلُه )(5) .
وفي " صحيح مسلم " (6)
__________
(1) لفظ الجلالة لم يرد في ( ص ) .
(2) أخرجه : أحمد 1/414 ، وانظر : فتح الباري 11/592 .
(3) الصحيح 8/128 ( 6493 ) و8/155 ( 6607 ) .
(4) الإحسان ( 340 ) ، وإسناده ضعيف لضعف نعيم بن حماد .
(5) الإحسان ( 339 ) و( 392 ) .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 596 ) ، وأحمد 4/94 ، وابن ماجه ( 4199 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 866 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 608 ) ، وأبو نعيم في
" الحلية " 5/162 ، من حديث معاوية ، به ، وسنده جيد .
(6) الصحيح 8/49 ( 2651 ) ( 11 ) .
وأخرجه : أحمد 2/484 ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 218 ) ، وابن حبان ( 6176 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 2469 ) من حديث أبي هريرة ، به .
عن أبي هريرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الرَّجُل ليعمل الزمانَ الطويلَ بعملِ أهلِ الجنَّةِ ، ثم يُختم له عملُه بعمل أهل النار ، وإنَّ الرجلَ ليعملُ الزمانَ الطويلَ بعمل أهل النارِ ، ثم يُختم له عمله بعملِ أهل
الجنةِ ) .
وخرَّج الإمام أحمد(1) من حديث أنسٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا عَلَيكُم أنْ لا تَعْجَبوا بأحدٍ حتّى تنظروا بم يُختم له ، فإنَّ العاملَ يعملُ زماناً من عمره ، أو بُرهة من دهره بعملٍ صالحٍ ، لو مات عليه دخل الجنةَ ، ثم يتحوَّلُ ، فيعملُ عملاً سيِّئاً ، وإنَّ العبدَ ليعمل البُرهة من دهره بعملٍ سيِّءٍ ، لو مات عليه دخلَ النارَ، ثم يتحوَّل فيعملُ عملاً صالحاً (2) ) .
وخرَّج أيضاً من حديث عائشة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ الجنَّة ، وهو مكتوبٌ في الكتابِ من أهل النار ، فإذا كانَ قبل موتِهِ تحوَّل ، فعملَ بعمل أهل النارِ ، فماتَ ، فدخل النارَ ، وإنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ النارِ ، وإنَّه لمكتوبٌ في الكتاب من أهلِ الجنَّة ، فإذا كان قَبْلَ موته تحوَّل ، فعمل بعمل أهلِ الجنَّة ، فماتَ فدخلها )(3) .
__________
(1) في " مسنده " 3/120 .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 4393 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 393 ) و( 394 )
و( 395 ) و( 396 ) ، وأبو يعلى ( 3840 ) ، والضياء المقدسي في " المختارة " ( 1979 )
و( 1980 ) و( 1981 ) وهو حديث صحيح .
(2) زاد بعدها في ( ص ) .
(3) في " مسنده " 6/107 و108 .
... وأخرجه : عبد بن حميد ( 1500 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 252 ) ، وأبو
يعلى ( 4668 ) ، وابن حبان ( 346 ) ، والخطيب في "تاريخه " 11/356 ، وهو حديث صحيح .
وخرَّج أحمد ، والنسائيُّ ، والترمذيُّ(1) من حديثِ عبد الله بنِ عمرٍو قال : خرج علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده كتابانِ، فقال : ( أتدرون ما هذان الكتابان ؟ ) ، فقلنا : لا يا رسول الله ، إلاّ أنْ تُخْبِرنا ، فقالَ للذي في يده اليمنى : ( هذا كتابٌ مِنْ ربِّ العالمين ، فيهِ أسماءُ أهلِ الجنَّةِ ، وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثُمَّ أُجْمِل على آخرهم ، فلا يُزاد فيهم ، ولا يُنقصُ منهم أبداً ) ، ثُمَّ قالَ للذي في شماله : ( هذا كتابٌ من ربِّ العالمين فيهِ أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثُمَّ أُجْمل على آخرهم ، فلا يُزاد فيهم ولا يُنقصُ منهم أبداً ) ، فقالَ أصحابُه : ففيم العملُ
يا رسولَ الله إنْ كانَ أمراً قد فُرِغَ منه ؟ فقال : ( سَدِّدُوا وقاربوا ، فإنَّ
صاحب الجنة يُختم له بعمل أهل الجنة ، وإنَّ عمل أيّ عملٍ ، وإنَّ صاحب النّار يُختم له بعمل أهل النار ، وإنْ عمل أيَّ عملٍ(2) ) ، ثُمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه فنبذهما ، ثم قال : ( فَرَغَ ربُّكم مِنَ العباد : فريقٌ في الجنة ، وفريقٌ في
السَّعير )(3) .
__________
(1) في ( ص ) : ( وخرج الإمام أحمد والترمذي ) .
(2) في ( ص ) : ( ولو عمل كل عمل ) .
(3) أخرجه :أحمد 2/167 ، والترمذي ( 2141 ) و( 2141 ) م ، والنسائي في " الكبرى "
( 11473 ) وفي " التفسير " ، له ( 493 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 23645 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 348 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/168 ، وهذا الحديث صححه الترمذي على أن فيه مقالاً من أجل أبي قبيل حيي بن هانىء قال الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة 1/853 : ( إنَّه كان يكثر النقل عن الكتب القديمة ) ، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال 2/684 عن هذا الحديث : ( هو حديث منكر جداً ) .
وقد روي هذا الحديثُ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددة ، وخرَّجه الطبراني(1) من حديث علي بن أبي طالب ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وزاد فيه : ( صاحبُ الجنَّةِ مختومٌ له بعمل أهل الجنة ، وصاحبُ النارِ مختومٌ له بعملِ أهلِ النارِ وإنْ عمل أيَّ عمل ، وقد يُسلك بأهلِ السعادةِ طريق أهلِ الشقاء حتّى يقالَ: ما أشبههم بهم، بل هم(2) منهم ، وتُدركهم السعادةُ فتستنقذُهم ، وقد يسلكُ بأهلِ الشقاءِ طريق أهلِ السعادةِ حتّى يقالَ : ما أشبههم بهم بل هم منهم ويُدركهم الشقاء ، مَنْ كتبه الله سعيداً في أمِّ الكتابِ لم يُخرجه منَ الدنيا حتى يستعمِلَه بعملٍ يُسعِدُه قبلَ موتِهِ ولو بفَواقِ
ناقة(3) ) ، ثُمَّ قالَ : ( الأعمالُ بخواتيمها ، الأعمالُ بخواتيمها ) . وخرَّجه البزار في "مسنده " (4) بهذا المعنى أيضاً من حديث ابن عمر عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) في " الأوسط " ( 5219 ) ، وإسناده ضعيف لضعف حماد بن واقد الصفار ، انظر : مجمع الزوائد 7/216 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) هو ما بين الحلبتين من الراحة . " النهاية " 3/479 .
(4) " المسند " ( 2156 ) .
وأخرجه : اللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1088 ) ، وإسناده ضعيف جداً ؛ لشدة ضعف عبد الله بن ميمون القداح ، انظر : مجمع الزوائد 7/212 .
وفي " الصحيحين " (1) عن سهل بن سعد : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون وفي أصحابه رجلٌ لا يدع شاذَّةً ولا فاذَّةً إلا اتبعها يَضرِبُها بسيفه ، فقالوا : ما أجزأ منا اليوم أحدٌ كما أجزأ فلانٌ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هو من أهل النار ) ، فقال رجلٌ من القوم : أنا صاحبُه ، فأتَّبعه ، فجُرِحَ الرجل جرحاً شديداً ، فاستعجلَ الموتَ ، فوضعَ نصلَ سيفه على الأرض وذُبَابَه بينَ ثدييه ، ثُمَّ تحامل على سيفه فقتل نفسه ، فخرج الرجلُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أشهد أنَّك رسولُ الله ،
وقصَّ عليه القصةَ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الرجلَ ليعملُ عملَ أهلِ الجنَّةِ
فيما يبدو للنَّاس وهو منْ أهلِ النار ، وإنَّ الرجلَ ليعملُ عملَ أهلِ النارِ فيما يبدو للناس ، وهو منْ أهلِ الجنةِ ) زاد البخاري(2) في رواية له : ( إنَّما الأعمالُ
بالخواتيم ) .
وقوله : ( فيما يبدو للناس ) إشارةٌ إلى أنَّ باطنَ الأمر يكونُ بخلافِ ذلك ، وإنَّ خاتمة السُّوءِ تكونُ بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس ، إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك ، فتلك الخصلة الخفية توجب سُوءَ الخاتمة عند الموت ، وكذلك قد يعمل الرجلُ عملَ أهل النَّارِ وفي باطنه خصلةٌ خفيةٌ من خصال الخير ، فتغلب عليه تلكَ الخصلةُ في آخر عمره ، فتوجب له حسنَ الخاتمة .
قال عبد العزيز بن أبي روَّاد : حضرت رجلاً عند الموت يُلَقَّنُ لا إله
إلا الله ، فقال في آخر ما قال : هو كافرٌ بما تقول ، ومات على ذلك ، قال : فسألتُ عنه ، فإذا هو مدمنُ خمرٍ . فكان عبد العزيز يقول : اتقوا الذنوب ، فإنَّها هي التي أوقعته .
__________
(1) صحيح البخاري 4/44 ( 2898 ) و5/168 ( 4203 ) و5/170 ( 4207 ) ، وصحيح مسلم 1/74 ( 112 ) ( 179 ) و8/49 ( 112 ) ( 12 ) .
(2) في " صحيحه " 8/128 ( 6493 ) و8/155 ( 6607 ) .
وفي الجملة : فالخواتيم ميراثُ السوابق ، وكلُّ ذلك سبق في الكتاب السابق ، ومن هنا كان يشتدُّ خوف السَّلف من سُوءِ الخواتيم ، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق .
وقد قيل : إنَّ قلوب الأبرار معلقةٌ بالخواتيم ، يقولون : بماذا يختم لنا ؟ وقلوب المقرَّبين معلقة بالسوابق ، يقولون : ماذا سبق لنا .
وبكى بعضُ الصحابة عند موته ، فسئل عن ذلك ، فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ الله تعالى قبضَ خلقَهُ قبضتين ، فقال : هؤلاء في الجنَّةِ ، وهؤلاء في النار ) ، ولا أدري في أيِّ القبضتين كنت .(1)
قال بعض السَّلف : ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق .
وقال سفيانُ لبعض الصالحين : هل أبكاك قطُّ علمُ الله فيك ؟ فقال له ذلك الرجل : تركتني لا أفرحُ أبداً . وكان سفيان يشتدُّ قلقُهُ من السوابق والخواتم ، فكان يبكي ويقول : أخاف أنْ أكون في أمِّ الكتاب شقياً(2) ، ويبكي ويقول : أخافُ أنْ أسلبَ الإيمانَ عند الموت .
وكان مالك بنُ دينار يقومُ طُولَ ليلهِ قابضاً على لحيته ، ويقول : يا ربِّ ، قد علمتَ ساكنَ الجنة من ساكن النار ، ففي أيِّ الدارين منْزلُ مالك ؟(3)
__________
(1) حديث صحيح أخرجه: أحمد 4/176 و5/68 من طريق سعيد الجريري، عن أبي نضرة، به.
وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 2142 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، به .
وأخرجه : أبو يعلى ( 3422 ) بنحوه من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/51 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/383 .
قال حاتمٌ الأصمُّ : مَنْ خلا قلبُه من ذكر أربعة أخطار(1) ، فهو مغترٌّ ، فلا يأمن الشقاء : الأوَّل : خطرُ يوم(2) الميثاق حين قال : هؤلاء في الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ولا أبالي ، فلا يعلم في أيِّ الفريقين كان ، والثاني : حين خلق في ظلمات ثلاث ، فنودي الملك بالسعادة والشَّقاوة ، ولا يدري : أمن الأشقياء هو أم منَ السعداء ؟ والثالث : ذكر هول المطلع ، فلا يدري أيبشر برضا الله أو بسخطه ؟ والرابع : يوم يَصدُرُ الناس أشتاتاً ، ولا يدري ، أيّ الطريقين يُسلك به .
وقال سهل التُّستريُّ : المريدُ يخافُ أنْ يُبتلى بالمعاصي ، والعارف يخافُ أنْ يُبتلى بالكُفر .
ومن هنا كان الصحابة ومَنْ بعدهم منَ السَّلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق ويشتد قلقهم وجزَعُهم منه ، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاقَ الأصغرَ ، ويخاف أنْ يغلب ذلك عليه عندَ الخاتمة ، فيخرجه إلى النفاق الأكبر ، كما تقدم أنَّ دسائس السوء الخفية تُوجِبُ سُوءَ الخاتمة ، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكثرُ أنْ يقول في دعائه : ( يا مقلِّب القلوب ثبتْ قلبي على دينكَ ) فقيل له : يا نبيَّ الله آمنا بك وبما جئتَ به ، فهل تخافُ علينا ؟ فقال : ( نعم ، إنَّ القُلوبَ بينَ أصبعين منْ أصابع الله - عز وجل - يُقلِّبها كيف يشاء ) خرّجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أنس(3)
__________
(1) في ( ص ) : ( من ذكر الله تعالى فهو متعرض لأربعة أخطار ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : أحمد 3/112 و257 ، والترمذي ( 2140 ) .
وأخرجه : البخاري في " الادب المفرد " ( 683 ) ، وابن ماجه ( 3834 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 225 ) ، وأبو يعلى ( 3687 ) و( 3688 ) ، والطبري في " تفسيره " (5229 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 759 ) ، والآجري في " الشريعة " : 317 ، والحاكم 1/526 ، وأبو نعيم في "الحلية " 8/122 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 757 ) ، والبغوي ( 88 ) ، والضياء المقدسي في " المختارة " ( 2222 ) و( 2223 ) و( 2224 )
و( 2225 ) . من حديث أنس بن مالك ، به . والروايات مطولة ومختصرة ، وقال الترمذي : ( حسن ) .
.
وخرج الإمام أحمد(1) والترمذي (2) من حديث أمِّ سلمة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُكثِرُ في دعائه أنْ يقول : ( اللهُمَّ يا (3) مقلِّبَ القلوب ، ثبت قلبي على دينك ) ، فقلت : يا رسول الله ، أو(4) إنَّ القلوب لتتقلَّبُ ؟ قال : ( نعم ، ما من خلق الله تعالى من بني آدم من بشر إلاّ أنَّ قلبه بين أصبعين مِنْ(5) أصابع الله ، فإنْ شاءَ الله - عز وجل - أقامه ، وإنْ شاء أزاغه ، فنسألُ الله ربَّنا أنْ لا يزيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسألهُ أنْ يهب لنا من لدُنه رحمةً إنَّه هو الوهَّاب ) ، قالت : قلت : يا رسول الله ، ألا تُعَلِّمني دعوةً أدعو بها لنفسي ؟ قال : ( بلى ، قولي : اللهمّ ربَّ النبيِّ محمد ، اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجِرْني من مضلاَّتِ الفتن ما أحييتني ) ، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة .
وخرَّج مسلم(6)
__________
(1) في " مسنده " 6/294 و302 و315 .
وأخرجه : الطيالسي ( 1608 ) ، وعبد بن حميد ( 1534 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة "
( 223 ) و( 232 ) ، وأبو يعلى ( 6919 ) ( 6920 ) و( 6986 ) ، والطبري في
" تفسيره " ( 5227 ) و( 5233 ) ، والطبراني في " الكبير " 23/( 772 ) و( 785 )
و( 865 ) وفي " الدعاء " ، له ( 1257 ) و( 1258 ) ، والآجري في " الشريعة " : 316 . من حديث أم سلمة ، به .
(2) والترمذي ) لم يرد في ( ج ) ، والحديث في جامعه برقم ( 3522 ) ، وقال : ( حديث حسن ) على أن في سند الحديث شهر بن حوشب ضعيف .
(3) سقطت من ( ج ) .
(4) في ( ص ) : ( أرى ) .
(5) عبارة ( أصبعين من ) سقطت من ( ص ) .
(6) في " صحيحه " 8/51 ( 2654 ) ( 17 ) .
وأخرجه : أحمد 2/168 و173 ، وعبد بن حميد ( 348 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة "
( 222 ) و( 231 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7739 ) ، والطبري في " تفسيره "
( 5232 ) ، وابن حبان ( 902 ) ، الآجري في " الشريعة " : 316 من حديث عبد الله بن عمرو ، به .
من حديث عبد الله بن عمرو : سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
( إنَّ قلوبَ بني آدمَ كلَّها بين أصبعين من أصابع الرحمان - عز وجل - كقلبٍ واحدٍ يصَرِّفُه حيث يشاء ) ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهُمَّ يا (1) مُصرِّفَ القلوبِ ، صرِّف قلوبنا على طاعتك ) .
__________
(1) سقطت من ( ج ) .
الحديث الخامس
عَنْ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالتْ : قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا هَذا ما لَيس مِنهُ فَهو رَدٌّ ) رَواهُ البُخارِيُّ ومُسلِمٌ (1)، وفي رِوايةٍ لِمُسلِمٍ: ( مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنا فَهو رَدٌّ ) .
هذا الحديث خرّجاه في " الصحيحين "(2) من حديث (3) القاسم بن محمد ، عن عمته عائشة - رضي الله عنها - ، وألفاظ الحديث مختلفة ، ومعناها متقارب ، وفي بعض ألفاظه : ( مَنْ أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو ردّ ) .
وهذا الحديث أصلٌ عظيم من أُصول الإسلام ، وهو كالميزان للأعمال(4) في ظاهرها كما أنّ حديث : ( الأعمال بالنيَّات ) ميزان للأعمال في باطِنها ، فكما أنَّ(5) كل عمل لا يُراد به وجه الله تعالى ، فليس لعامله فيه ثواب ، فكذلك كلُّ عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله ، فهو مردودٌ على عامله(6) ، وكلُّ مَنْ أحدثَ في الدِّين ما لم يأذن به الله ورسوله ، فليس مِنَ الدين في شيء .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) صحيح البخاري 3/241 ( 2697 ) ، وصحيح مسلم 5/132 ( 1718 ) ( 17 )
و( 18 ) .
وأخرجه : أحمد 6/73 و146 و240 و256 و270 ، وأبو داود ( 4606 ) ، وابن ماجه
( 14 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 52 ) و( 53 ) ، وأبو يعلى ( 4594 ) ، وابن حبان ( 26 ) و( 27 ) ، والدارقطني 4/224 و225 و227 ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/173 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 359 ) و( 360 ) و( 361 ) ، والبيهقي 1/119، والبغوي في " شرح السنة " ( 103 ) من طريق القاسم بن محمد ، عن عائشة ، به .
(3) في ( ص ) : ( رواية ) .
(4) في ( ص ) : ( للإسلام وللأعمال ) .
(5) من قوله : ( كما أن حديث ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(6) عبارة : ( على عامله ) سقطت من ( ص ) .
وسيأتي حديثُ العِرباض بن ساريةَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( مَنْ يعش منكم بعدي(1) ، فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسُنَّتِي وسنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشدين المهديِّين من بعدي(2) ، عَضُّوا عليها بالنواجِذ ، وإيَّاكُم ومُحدثاتِ الأمورِ، فإنَّ كُلَّ محدثةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ (3) ضلالةٌ )(4) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته : ( أصدقُ الحديثِ كتابُ اللهِ ، وخيرُ الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها )(5) وسنؤخر الكلام على المحدثات إلى ذكر حديث العرباض المشار إليه، ونتكلم هاهنا على الأعمال التي ليس عليها أمر الشارع وردها.
فهذا الحديث يدلُّ بمنطوقه على أنَّ كلَّ عملٍ ليس عليه أمر الشارع ، فهو مردود ، ويدلُّ بمفهومه على أنَّ كلَّ عمل عليه أمره ، فهو غير مردود ، والمراد بأمره هاهنا : دينُه وشرعُه ، كالمراد بقوله في الرواية الأخرى : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ (6) ) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) من بعدي ) سقطت من ( ص ) .
(3) عبارة : ( بدعة وكل بدعة ) سقطت من ( ص ) .
(4) سيأتي عند الحديث الثامن .
(5) أخرجه : أحمد 3/310 و319 و371 و، والدارمي ( 212 ) ، ومسلم 3/11 ( 867 )
( 43 ) و( 44 ) و( 45 ) ، وأبو داود ( 2954 ) ، وابن ماجه ( 45 ) ، والنسائي 3/58 و188 وفي " الكبرى " ، له ( 1786 ) و( 5892 ) ، وأبو يعلى ( 2111 ) ، وابن الجارود
( 297 ) و( 298 ) ، وابن خزيمة ( 1785 ) ، وأبو عوانة كما في " إتحاف المهرة " 3/328
( 3131 ) و3/329 ( 3132 ) ، وابن حبان ( 10 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/189 ، والبيهقي 3/206-207 و3/213 و214 من طريق جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، به .
(6) فهو رد ) سقطت من ( ج ) .
فالمعنى إذاً (1) : أنَّ مَنْ كان عملُه خارجاً عن الشرع ليس(2) متقيداً بالشرع ، فهو مردود .
وقوله : ( ليس عليه أمرنا ) إشارةٌ إلى أنَّ أعمال العاملين كلهم ينبغي أنْ تكون تحتَ أحكام الشريعة، وتكون أحكام(3) الشريعة حاكمةً عليها بأمرها ونهيها ، فمن كان عملُه جارياً تحت أحكام الشرع ، موافقاً لها ، فهو مقبولٌ ، ومن كان خارجاً عن ذلك ، فهو مردودٌ .
والأعمال قسمان : عبادات ، ومعاملات .
فأما العبادات ، فما كان منها خارجاً عن حكم(4) الله ورسوله بالكلية ، فهو مردود على عامله ، وعامله يدخل تحت قوله : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الله } (5) ، فمن تقرَّب إلى الله بعمل ، لم يجعله الله ورسولُه قربة إلى الله ، فعمله باطلٌ مردودٌ عليه ، وهو شبيهٌ بحالِ الذين كانت صلاتُهم عندَ البيت مُكاء وتصدية ، وهذا كمن تقرَّب إلى الله تعالى بسماع الملاهي ، أو بالرَّقص ، أو بكشف الرَّأس في غير الإحرام ، وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسولُه التقرُّب بها بالكلية .
وليس ما كان قربة في عبادة يكونُ قربةً في غيرها مطلقاً ، فقد رأى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً قائماً في الشمس ، فسأل عنه ، فقيل : إنَّه نذر أنْ يقوم ولا يقعدَ ولا يستظلَّ وأنْ يصومَ ، فأمره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَقعُدَ ويستظلَّ ، وأنْ يُتمَّ صومه(6) فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربةً يُوفى بنذرهما .
__________
(1) في ( ص ) : ( فالمراد ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) وتكون أحكام ) سقطت من ( ص ) .
(4) في ( ص ) : ( أمر ) .
(5) الشورى : 21 .
(6) أخرجه : البخاري 8/178 ( 6704 ) ، وأبو داود ( 3300 ) ، وابن ماجه ( 2136 ) ، وابن الجارود ( 938 ) ، وابن حبان ( 4385 ) ، والدارقطني 4/161 ، والبيهقي 10/75 ، والبغوي ( 2443 ) من حديث ابن عباس .
وقد روي أنَّ ذلك كان في يوم جمعة عندَ سماع خطبة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر، فنذر أنْ يقومَ ولا يقعدَ ولا يستظلَّ ما دامَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ(1) ، إعظاماً لسماع خطبة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (2)، ولم يجعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك قربةً تُوفى بنذره ، مع أنَّ القيام عبادةٌ في مواضعَ أُخَر ، كالصلاةِ والأذان والدعاء(3) بعرفة ، والبروز للشمس قربةٌ للمحرِم ، فدلَّ على أنَّه ليس كلُّ ما كان قربة في موطنٍ يكون قربةً في كُلِّ المواطن(4) ، وإنَّما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعةُ في مواضعها .
وكذلك من تقرَّب بعبادة نُهِيَ عنها بخصوصها ، كمن صامَ يومَ العيد ، أو صلَّى في وقت النهي .
__________
(1) أخرجه : الطحاوي في "شرح المشكل" ( 3971 ) ( تحفة الأخيار ) ، والطبراني في " الكبير " ( 11871 ) ، والخطيب في " الأسماء المبهمة " : 274 من حديث ابن عباس ، وسنده قويٌّ .
(2) في ( ص ) : ( إعظاماً لخطبته - صلى الله عليه وسلم - ) .
(3) في ( ص ) : ( والقيام ) .
(4) في ( ص ) : ( في غيره من المواطن ) .
وأمَّا من عمل عملاً أصلُه مشروعٌ وقربةٌ ، ثم أدخلَ فيه ما ليس بمشروع ، أو أخلَّ فيه بمشروع ، فهذا مخالفٌ أيضاً للشريعة بقدر إخلاله بما أخلَّ به ، أو إدخاله ما أدخلَ فيه ، وهل يكونُ عملُه من أصله مردوداً عليه أم لا ؟ فهذا لا يُطلق القولُ فيه بردٍّ ولا قَبولٍ ، بل يُنظر فيه : فإنَّ كان ما أخلَّ به من أجزاء العمل أو شروطه موجباً لبطلانه في الشريعة ، كمن أخلَّ بالطهارة للصلاة مع القُدرة عليها(1) ، أو كمن أخلَّ بالرُّكوع ، أو بالسجود ، أو بالطُّمأنينة فيهما ، فهذا عملُه مردودٌ عليه ، وعليه إعادتُه إنْ كان فرضاً(2) ، وإنْ كان ما أخلَّ به لا يُوجِبُ بُطلانَ العمل ، كمن أخلَّ بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يُوجِبُها ولا يجعلُها شرطاً ، فهذا لا يُقالُ : إنَّ عمله مردودٌ من أصله ، بل هو ناقصٌ .
__________
(1) انظر : المحلى 2/45 .
(2) انظر : المحلى 4/16 .
وإنْ كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع ، فزيادته مردودةٌ عليه ، بمعنى أنَّها لا تكونُ قربةً ولا يُثابُ عليها ، ولكن تارة يبطُلُ بها العمل من أصله ، فيكون مردوداً ، كمن زاد في صلاته ركعةً عمداً مثلاً(1) ، وتارةً لا يُبطله ، ولا يردُّه من أصله ، كمن توضأ أربعاً أربعاً ، أو صام الليل مع النهار ، وواصل في صيامه ، وقد يبدَّلُ بعض ما يُؤمر به في العبادة بما هو منهيٌّ عنه ، كمن ستر عورتَه في الصَّلاة بثوب مُحرَّم ، أو تؤضَّأ للصلاة بماءٍ مغصُوبٍ ، أو صلَّى في بُقعةٍ غَصْبٍ ، فهذا قد اختلفَ العُلماءُ فيه : هل عملُه مردودٌ من أصله ، أو أنَّه غير مردود ، وتبرأ به الذِّمَّةُ من عُهدة الواجب ؟ وأكثرُ الفُقهاء على أنَّه ليس بمردود من أصله ، وقد حكى
عبدُ الرحمان بنُ مهدي ، عن قومٍ من أصحاب الكلامِ يقال لهم : الشِّمريَّة أصحاب أبي شمر أنَّهم يقولون : إنَّ من صلَّى في ثوبٍ كان في ثمنه درهمٌ حرامٌ أنَّ عليه إعادة صلاته ، وقال : ما سمعتُ قولاً أخبثَ مِن قولهم ، نسأل الله العافية(2) ،
وعبد الرحمان بنُ مهدي من أكابر فُقهاء أهل الحديث المطَّلعين على مقالات
السَّلف ، وقد استنكر هذا القول وجعله بدعةً ، فدلَّ على أنَّه لم يُعلم عن أحدٍ من السَّلف القولُ بإعادة الصَّلاة في مثل هذا .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/9 .
ويشبه هذا الحجُّ بمالٍ حرامٍ ، وقد ورد في حديثٍ أنَّه مردودٌ على صاحبه(1) ، ولكنَّه حديث لا يثبت ، وقد اختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا ؟
وقريب من ذلك الذَّبحُ بآلة محرَّمة ، أو ذبحُ مَنْ لا يجوزُ له الذبحُ، كالسارق ، فأكثرُ العلماء قالوا : إنَّه تُباح الذبيحة بذلك ، ومنهم من قال : هي محرَّمةٌ ، وكذا الخلاف في ذبح المُحْرِم لِلصَّيدِ ، لكن القول بالتَّحريم فيه أشهرُ وأظهرُ ؛ لأنَّه منهيٌّ عنه بعينه .
ولهذا فرَّق مَنْ فرَّق مِنَ العُلماء بين أنْ يكون النَّهيُ لمعنى يختصّ بالعبادة فيبطلها ، وبين أنْ لا يكون مختصاً بها فلا يبطلها ، فالصلاة بالنجاسة ، أو بغير طهارة ، أو بغير ستارة ، أو إلى غير القبلة يُبطلها ، لاختصاص النهي بالصلاة بخلاف الصلاة في الغصب ، ويشهدُ لهذا أنَّ الصيام لا يبطله إلاَّ ارتكابُ ما نهي عنه فيه بخصوصه ، وهو جنسُ الأكل والشرب والجماع ، بخلاف ما نهي عنه الصائم ، لا بخصوص الصيام ، كالكذب والغيبة عند الجمهور .
__________
(1) أخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 1079 )، والطبراني في " الأوسط " ( 5228 ) من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( من أمَّ هذا البيت من الكسب الحرام شَخَصَ في غير طاعة الله ، فإذا أهل ووضع رجله في الغرز وانبعثت به راحلته وقال : لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء : لا لبيك ولا سعديك كسبك حرام ، وزادك حرام ، وراحلتك حرام ، فارجع مأزوراً غير مأجور ، وأبشر بما يسوؤك ، ….. ) . بلفظ البزار . وهذا الحديث في إسناده سليمان بن داود اليماني ، قال البزار عقيب الحديث : ( الضعف بينِّ على أحاديث سليمان ، ولا يتابعه عليها أحد وهو ليس بالقوي ) . وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 3/209-210 وقال : ( فيه سليمان بن داود اليماني وهو ضعيف ) .
وكذلك الحجُّ لا يبطله إلا ما نهي عنه في الإحرام ، وهو الجماعُ ، ولا يبطله ما لا يختصُّ بالإحرام من المحرَّمات(1) ، كالقتل والسرقة وشرب الخمر .
وكذلك الاعتكافُ : إنَّما يبطل بما نهي عنه فيه بخصوصه ، وهو
الجماعُ ، وإنَّما يبطل بالسُّكر عندنا وعند الأكثرين ، لنهي السَّكران عن قربان المسجد ودخوله على أحدِ التأويلين في قوله تعالى : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } (2) أنَّ المرادَ مواضع الصلاة ، فصار كالحائض ، ولا يبطلُ الاعتكافُ بغيره من ارتكابه الكبائر عندنا وعندَ كثيرٍ من العلماء ، وقد(3) خالف في ذلك
طائفةٌ من السَّلف ، منهم : عطاء والزُّهري والثوري ومالك ، وحُكي عن غيرهم أيضاً .
__________
(1) عبارة : ( من المحرمات ) سقطت من ( ص ) .
(2) النساء : 43 .
(3) في ( ج ) : ( وإن ) .
وأمَّا المعاملات كالعقود والفسوخ ونحوهما ، فما كان منها تغييراً للأوضاع الشرعية ، كجعل حدِّ الزِّنى عقوبةً مالية ، وما أشبه ذلك ، فإنَّه مردودٌ من أصله ، لا ينتقل به الملكُ ؛ لأنَّ هذا غيرُ معهود في أحكام(1) الإسلام ، ويدلُّ على ذلك أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال للذي سأله : إنَّ ابني كان عسيفاً على فلان ، فزنى بامرأته ، فافتديتُ
منه بمئة شاةٍ وخادم ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( المئة شاة والخادم ردٌّ عليكَ ، وعلى ابنك
جَلدُ مئة ، وتغريبُ عام )(2) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2379 ) برواية يحيى الليثي ، والشافعي في " مسنده "
( 1574 ) بتحقيقي ، والبخاري 8/161 ( 6633 ) و( 6634 ) و8/214 ( 6842 )
و( 6843 ) ، وأبو داود ( 4445 ) ، والترمذي ( 1433 ) ، والنسائي 8/240-241 وفي " الكبرى " ، له ( 5971 ) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 3/135 ، والطبراني في
" الكبير " ( 5190 ) و( 5191 ) و( 5195 ) ، والبيهقي 8/212 و213 ، وابن عبد البر في "التمهيد" 9/72073 ، والبغوي ( 2579 ) من طرق عن أبي هريرة وزيد بن خالد ، به .
وما كان منها عقداً منهياً عنه في الشرع ، إما لكون المعقود عليه ليس محلاً للعقد ، أو لفوات شرطٍ فيه ، أو لظلم يحصُلُ به للمعقود معه أو عليه ، أو لكون العقد يشغل عن ذكر الله الواجب عند تضايُق وقته ، أو غير ذلك ، فهذا العقدُ : هل هو مردودٌ بالكلية ، لا ينتقل به الملك ، أم لا ؟ هذا الموضع قد اضطربَ الناس فيه اضطراباً كثيراً ، وذلك أنَّه ورد في بعض الصور(1) أنَّه مردودٌ لا يفيد الملك ، وفي بعضها أنَّه يُفيده ، فحصل الاضطرابُ فيه بسبب ذلك ، والأقرب – إنْ شاء الله تعالى – أنَّه إنْ كان النهيُ عنه لحقٍّ لله - عز وجل - ، فإنَّه لا يفيدُ الملكَ بالكلية ، ونعني بكون الحق لله : أنَّه لا يسقطُ برضا المتعاقدين عليه ، وإنْ كان النهيُ عنه لحقِّ آدميٍّ معيّن ، بحيث يسقط برضاه به ، فإنَّه يقفُ على رضاه به ، فإنْ رضي لزم العقدُ ، واستمر الملكُ ، وإنْ لم يرض به فله الفسخُ ، فإنْ كان الذي يلحقه الضررُ لا يعتبر رضاه بالكلية ، كالزوجة والعبد في الطلاق والعَتاق ، فلا عِبرة برضاه ولا بسخطه ، وإنْ كان النهيُ رفقاً بالمنهيّ خاصةً لما يلحقه من المشقة ، فخالف وارتكب المشقة ، لم يبطل بذلك عملُه .
فأما الأوَّل ، فله صورٌ كثيرةٌ :
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
منها نكاحُ من يحرُمُ نكاحُه ، إمَّا لعينه(1) ، كالمحرَّمات على التَّأبيد بسببٍ أو نسبٍ ، أو للجمع ، أو لفواتِ شرط لا يَسقُطُ بالتراضِي بإسقاطه : كنكاح المعتدةِ والمحرمة ، والنكاح بغير وليٍّ ونحو ذلك ، وقد روي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فرَّق بَيْنَ رجلٍ وامرأةٍ تزوَّجها وهي حُبْلى ، فردَّ النِّكاح لوقوعه في العدّة(2) .
ومنها عقودُ الربا ، فلا تُفيد الملك ، ويؤمر بردِّها ، وقد أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من باع صاعَ تمرٍ بصاعين أنْ يردَّه(3) .
ومنها بيعُ الخمرِ والميتةِ والخنزير والأصنام والكلب ، وسائر ما نهي عن بيعه ممَّا لا يجوز التراضي(4) ببيعه .
وأما الثاني ، فله صُورٌ عديدة :
__________
(1) في ( ص ) : ( أجنبية ) .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 10704 ) و( 10705 ) ، وأبو داود ( 2131 ) ، والدارقطني 3/250 ، والبيهقي 7/157 من طريق سعيد بن المسيب ، عن رجل من الأنصار يقال له : بصرة ، قال : تزوجت امرأة بكراً ، فدخلت عليها فإذا هي حبلى ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لها الصداق بما استحل من فرجها ، والولد عبد لك ، فإذا ولدت فاجلدها ) ، وهو حديث ضعيف معلول ، بيانه في كتابنا " الجامع في العلل " يسر الله اتمامه .
(3) أخرجه : مسلم 5/48 ( 1594 ) ( 97 ) و( 99 ) و5/49 ( 1594 )
( 100 ) ، والنسائي 7/272 و273 ، وأبو يعلى ( 1226 ) ، والطحاوي في "شرح
المعاني" 4/68 ، والبيهقي 5/291 من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : أُتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر ، فقال : ( ما هذا التمر من تمرنا ) فقال الرجل : يا رسول الله بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( هذا الربا ، فردوه ، ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا ) بلفظ مسلم .
(4) سقطت من ( ص ) .
منها : إنكاحُ الوليِّ من لا يجوزُ له إنكاحُها إلاّ بإذنها بغير إذنها ، وقد ردَّ النَّبيُّ
- صلى الله عليه وسلم - نكاحَ امرأة ثيِّبٍ زوَّجها أبوها وهي كارهةٌ(1) ، وروي عنه أنَّه خيَّرَ امرأة زُوِّجَت بغير إذنها(2) ، وفي بطلان هذا النكاح ووقوفه على الإجازة روايتان عن أحمد(3)
__________
(1) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 1530 ) برواية الليثي ، والشافعي في " مسنده " ( 1150 ) بتحقيقي ، وعبد الرزاق ( 10307 ) و( 10309 ) ، وسعيد بن منصور في "سننه" ( 567 ) و( 576 ) ، وابن أبي شيبة ( 15948 ) ، وأحمد 6/328 و329 ، والدارمي ( 2197 )
و( 2198 ) ، والبخاري 7/23 ( 5138 ) و( 5139 ) و9/26 ( 6945 ) و9/32
( 6969 ) ، وأبو داود ( 2101 ) ، وابن ماجه ( 1873 ) ، والنسائي 6/86 وفي
" الكبرى " ، له ( 5380 ) و( 5382 ) و( 5383 ) ، وابن الجارود ( 710 ) ، والبيهقي 7/119 وفي " المعرفة " ، له ( 4087 ) ، والخطيب في " تاريخه " 2/269 ، والبغوي
( 2256 ) من حديث خنساء بنت حذام : أنَّ أباها زوجها ، وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فرد نكاحها . بلفظ الشافعي .
(2) أخرجه : أحمد 1/273 ، وأبو داود ( 2096 ) ، وابن ماجه ( 1875 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 5387 ) و( 5389 ) ، وأبو يعلى ( 2526 ) ، والطحاوي في "شرح المعاني" 4/365، والدارقطني 3/234-235و235، والبيهقي 7/117 من حديث ابن عباس : أنَّ جارية بكراً أتت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فذكرت أنَّ أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، بلفظ
أحمد .
وأخرجه : أبو داود ( 2097 ) ، والبيهقي 7/117 من طريق أيوب السختياني ، عن عكرمة ، مرسلاً .
(3) نقل الأثرم والميموني عنه أنَّه يملك تزويجها ، وهو اختيار الخرقي . ونقل عبد الله : إذا بلغت تسع سنين فلا يزوجها أبوها ولا غيره إلا بإذنها .
وجه الأولى : وهي الصحيحه : أنَّ من لم يفتقر نكاحها إلى نطقها مع قدرتها على النطق لم يفتقر إلى رضاها قياساً على البكر الصغيرة .
... ووجه الثانية : أنَّها تملك التصرف في مالها بنفسها فلم يملك الأب إجبارها . انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/81 .
.
وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنَّ من تصرَّف لغيره في ماله بغير إذنه ، لم يكن تصرُّفه باطلاً من أصله ، بل يقفُ على إجازته ، فإنْ أجازه جازَ ، وإنْ ردَّه بَطل ، واستدلُّوا بحديث عُروة بن الجعد في شرائه للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - شاتين ، وإنَّما كان أمرَه بشراء شاةٍ واحدةٍ ، ثم باع إحداهما ، وقبل ذلك النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -(1) . وخصَّ ذلك الإمام أحمد في المشهور عنه بمن كان يتصرَّفُ لغيره في ماله بإذنٍ إذا خالف الإذن .
__________
(1) أخرجه : الشافعي في "مسنده" ( 1459 ) و( 1460 ) بتحقيقي وفي " السنن المأثورة " ، له ( 590 ) ، وعبد الرزاق ( 14831 ) ، والحميدي ( 843 ) ، وابن أبي شيبة ( 36282 ) ، وأحمد 4/375 و376 ، والبخاري 4/252 ( 3642 ) ، وأبو داود ( 3384 )
و( 3385 ) ، وابن ماجه ( 2402 ) ، والترمذي ( 1258 ) ، وعبد الله بن أحمد في
" زياداته " 4/376 ، والطبراني في " الكبير " 17/( 412 ) و( 413 ) و( 421 ) ، والدارقطني 3/10 ، والبيهقي 6/112 وفي " المعرفة " ( 3704 ) وفي " الدلائل " ، له 6/220 ، والبغوي ( 2158 ) من حديث عروة بن الجعد : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعطاه ديناراً ليشتري له به شاة أو أضحية ، فاشترى له شاتين ، فباع إحداهما بدينار وأتاه بشاة ودينار ، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيعه بالبركة ، فكان لو اشترى تراباً لربح فيه . بلفظ الشافعي .
ومنها تصرُّف المريضِ في ماله كلِّه : هل يقعُ باطلاً من أصله أم يقف تصرفه في الثلثين على إجازة الورثة ؟ فيهِ اختلاف مشهورٌ للفقهاء ، والخلاف في مذهب أحمد وغيره(1) ، وقد صحَّ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رُفع إليه(2) : أنَّ رجلاً أعتق ستةَ مملوكين لهُ عندَ موته ، لا مال لهُ غيرهم ، فدعا بهم ، فجزَّأهم ثلاثةَ أجزاءٍ ، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعةً ، وقال لهُ قولاً شديداً(3) ، ولعلَّ الورثة لم يُجيزوا عتق الجميع ، والله أعلم .
ومنها بيعُ المدلس ونحوه كالمُصَرَّاةِ، وبَيعِ النَّجْشِ ، وتلقي الركبان ونحو ذلك ، وفي صحَّته كُلِّه اختلافٌ مشهورٌ في مذهب الإمام أحمد ، وذهب طائفة من أهل الحديث إلى بطلانه وردِّه(4) .
__________
(1) انظر : الهداية للكلوذاني 2/25-26 بتحقيقي .
(2) عبارة : ( رفع إليه ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : الشافعي في " مسنده " ( 1073 ) بتحقيقي، والطيالسي ( 845 ) ، وعبد الرزاق
( 16763 ) ، وسعيد بن منصور ( 408 )، وابن أبي شيبة ( 23371 ) ، وأحمد 4/426=
= ... و428 و430 و439 و440 و445 و446، ومسلم 5/97 ( 1668 ) ( 56 ) و( 57 ) ، وأبو داود ( 3958 ) و( 3959 ) و( 3961 ) ، وابن ماجه ( 2345 ) ، والترمذي
( 1364 ) ، والبزار ( 3528 ) و( 3529 ) و( 3530 ) ، والنسائي 4/64 وفي
" الكبرى " ، له ( 2085 ) ( 4973 ) و( 4974 ) و( 4975 ) و( 4977 ) ، وابن الجارود ( 948 ) ، وابو عوانة كما في " الإتحاف " 12/64 ( 15094 ) ، وابن حبان
( 4320 ) ، والدارقطني 4/234، والبيهقي 10/285 و286 من حديث عمران بن حصين، به .
(4) انظر : المغني 4/300-301، والمسائل الفقهية من كتاب الرواتين والوجهين 1/355-356.
والصحيح أنَّه يصحُّ ويقفُ على إجازة من حصل (1) له ظلمٌ بذلك ، فقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه جعل مشتري المصرَّاة بالخيار(2) ، وأنَّه جعل للركبان الخيار إذا هبطوا السوق(3) ، وهذا كله يدل على أنَّه غير مردود من أصله ، وقد أورد على بعض من قال بالبطلان حديث المصرَّاة ، فلم يذكر عنه جواباً(4) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : همام بن منبه في " صحيفته " ( 98 ) ، والطيالسي ( 2492 ) ، وعبد الرزاق
( 14859 ) و( 14862 ) ، والحميدي ( 1028 ) و( 1029 ) ، وأحمد 2/242 و248 و259 و273 و317 و386 و406 و417 و430 ، والدارمي ( 2556 ) ، والبخاري 3/92 ( 2148 ) و( 2150 ) و3/93 ( 2151 ) ، ومسلم 5/6 ( 1524 ) ( 23 )
و( 24 ) و( 25 ) و( 26 ) و( 27 ) و5/7 ( 1524 ) ( 28 ) ، وأبو داود ( 3444 ) و( 3445 ) ، وابن ماجه ( 2239 ) ، والترمذي ( 1251 ) و( 1252 ) ، والنسائي 7/253 و254 وفي " الكبرى " ، له ( 6080 ) ، وأبو يعلى ( 6049 ) و( 6267 ) ، وأبو عوانة 4/276 و277 و278 ، والدارقطني 3/74 و75 من حديث أبي هريرة قال : قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( من اشترى شاة مصراة فلينقلب بها ، فليحلبها ، فإنْ رضي حلابها أمسكها ، وإلا ردها ومعها صاع من تمر ) بلفظ مسلم .
(3) أخرجه : أحمد 2/284 و403 و487 ، والدارمي ( 2569 ) ، ومسلم 5/5 ( 1519 )
( 16 ) و( 17 ) ، وأبو داود ( 3437 ) ، وابن ماجه ( 2178 ) ، والترمذي (1221 ) ، والنسائي 7/257 ، وفي " الكبرى " ، له ( 6092 ) ، وأبو يعلى ( 6073 ) و( 6078 ) ، وابن الجارود ( 571 ) ، وأبو عوانة 4/263 و264 ، والبيهقي 5/348 من حديث أبي هريرة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتلقى الجلب ، فإنْ تلقاه إنسان فابتاعه ، فصاحب السلعة فيها بالخيار ، إذا ورد السوق . بلفظ الترمذي .
(4) انظر : فتح الباري 4/460-462 .
وأما بيعُ الحاضر للبادي ، فمن صحَّحه ، جعله من هذا القبيل ، ومن أبطله ، جعل الحقَّ فيه لأهل البلد كلِّهم، وهم غيرُ منحصرين، فلا يتصوَّرُ إسقاطُ حقوقهم ، فصار كحقِّ الله - عز وجل - .
ومنها : لو باع رقيقاً يَحْرُمُ التَّفريقُ بينهم ، وفرَّق بينهم كالأُمِّ وولدها ، فهل يقع باطلاً مردوداً ، أم يقفُ على رضاهم بذلك ؟
وقد روي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بردِّ هذا البيع(1) ونصَّ أحمدُ على أنَّه لا يجوزُ
التفريقُ بينهم ، ولو رضوا بذلك(2)، وذهب طائفةٌ إلى جواز التفريق بينهم برضاهم ، منهم : النخعيُّ ، وعُبيد الله بنُ الحسن العنبري ، فعلى هذا يتوجه أنْ يصحَّ ، ويقف على الرضا(3).
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 185 ) ، وأحمد 1/102 ، وابن ماجه ( 2249 ) ، والترمذي
( 1284 ) ، والدارقطني 3/66 وفي " علله " 3/575 ، والحاكم 2/155 و125 ، والبيهقي 9/127 من حديث علي بن أبي طالب ، قال : وهب لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلامين أخوين ، فبعت أحدهما ، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا علي ما فعل غلامك ) فأخبرته، فقال : ( رده ، رده ) بلفظ الترمذي ، وقال : ( حسن غريب ) على أنَّ في إسناده مقالاً ، وروي كذلك بنحو هذا الحديث عن أبي أيوب الأنصاري وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود .
(2) انظر : المغني 10/459 ، والمسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/367 .
(3) انظر : المغني 10/460 .
ومنها لو خصَّ بعضَ أولاده بالعطيَّة دونَ بعض ، فقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أمرَ بشيرَ بنَ سعدٍ لما خصَّ ولدهُ النُّعمان بالعطيَّةِ أنْ يردَّه(1) ، ولم يدلَّ ذلك على أنَّه لم ينتقل الملكُ بذلك إلى الولد ، فإنَّ هذه العطية تصحُّ وتقع مراعاةً ، فإنْ سوَّى بينَ الأولادِ في العطية ، أو استردَّ ما أعطي الولدَ ، جاز ، وإنْ ماتَ ولم يفعل شيئاً من ذلك ، فقال مجاهد : هي ميراث(2) ، وحكي عن أحمد نحوه(3) ، وأنَّ العطية تبطلُ ، والجمهور على أنَّها لا تبطلُ ، وهل للورثة الرجوعُ فيها أم لا ؟ فيهِ قولان مشهوران هما روايتان عن أحمد(4)
__________
(1) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2188 ) ، والشافعي في " مسنده " ( 1057 ) بتحقيقي ، وأحمد 4/268 و269 و270 و273 و276 ، والبخاري 3/206 ( 2587 ) و3/224
( 2650 ) ، ومسلم 5/65 ( 1623 ) ( 9 ) و( 10 ) و( 11 ) و( 12 ) و( 13 ) و5/66 ( 1623 ) ( 14 ) و( 15 ) و( 16 ) و( 17 ) و5/67 ( 1623 ) ( 18 ) ،وأبو داود ( 3542 ) و( 3543 )، وابن ماجه ( 2375 ) و( 2376 ) ، والترمذي ( 1376 ) ، والنسائي 6/258 و259 و260 و261 و262 وفي " الكبرى " ، له ( 6508 )
و( 6509 ) ، وابن الجارود ( 991 ) و( 992 ) ، وابن حبان ( 5097 ) - ( 5107 ) ، والدارقطني 3/42 من طرق عن النعمان بن بشير ، به .
(2) انظر : المغني 6/298 ، والشرح الكبير 6/294 .
(3) انظر : الشرح الكبير 6/296 .
(4) نقل أبو طالب عنه : يرد في حياته وبعد موته وهو اختيار ابن بطة وأبي حفص .
ووجهها : أنَّ الرجوع فيها إنَّما كان لأجل أنْ لا يحصل بينهم التباغض والعداوة ، وهذا المعنى موجود بعد الموت فيجب الرجوع فيها لوجود المعنى في ذلك . =
= ... ونقل الميموني وبكر بن محمد : أنَّه لا يرجع فيه موته وهو اختيار أبي بكر الخلال وأبي بكر
عبد العزيز والخرقي .
ووجهها : أنَّ هذا رجوع يتعلق بالهبة فسقط بالموت ، دليله : رجوع الأب على ابنه في الهبة ، أنَّه بموت الأب يسقط حق الرجوع لبقية الورثة كذلك هاهنا .
انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/439 .
.
ومنها الطلاقُ المنهي عنه ، كالطلاق في زمن الحيض ، فإنَّه قد قِيل : إنَّه قد نُهِيَ عنه لحقِّ الزوج ، حيث كانَ يخشى عليهِ أن يَعْقُبه فيهِ النَّدمُ ، ومن نُهِيَ عن شيء رفقاً به ، فلم ينته عنه ، بل فعله وتجشَّم مشقَّته ، فإنَّه لا يحكم ببطلان ما أتى به ، كمن صام في المرض أو السفر ، أو واصل في الصيام ، أو أخرج ماله كله وجلس يتكفَّفُ النَّاسَ ، أو صلَّى قائماً مع تضرُّره بالقيام للمرض ، أو اغتسل وهو يخشى على نفسه الضَّرر ، أو التَّلفَ ولم يتيمَّم ، أو صامَ الدَّهرَ ، ولم يفطر ، أو قام اللَّيل ولم ينم ، وكذلك إذا جمعَ الطَّلاق الثلاثَ على القول بتحريمه .
وقيل : إنَّما نهي عن طلاق الحائض ، لحقِّ المرأة لما فيه من الإضرار بها بتطويل
العدَّة ، ولو رضيت بذلك بأنْ سألته الطَّلاق بِعِوَضٍ في الحيض ، فهل يزولُ بذلك تحريمُهُ ؟ فيهِ قولان مشهوران للعلماء ، والمشهورُ من مذهبنا ومذهب الشَّافعيِّ أنَّه يزولُ التَّحريمُ بذلك ، فإنْ قيل : إنَّ التحريم فيهِ لحقِّ الزوج خاصة ، فإذا أقدم عليهِ ، فقد أسقط حقَّه فسقط ، وإنْ علل بأنَّه لحقِّ المرأة ، لم يمنع نفوذُه ووقوعُه أيضاً ، فإنَّ رضا المرأة بالطلاق غيرُ معتبر لوقوعه عندَ جميع المسلمين ، لم يُخالف فيهِ سوى شرذِمَةٍ يسيرةٍ من الروافض ونحوهم ، كما أنَّ رضا الرقيق بالعتق غير معتبرٍ ، ولو تضرَّر به ، ولكن إذا تضرَّرت المرأةُ بذلك ، وكان قد بقي شيءٌ من طلاقها ، أمر الزوج بارتجاعها ، كما أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عمر بارتجاع زوجته تلافياً منه لضررها ، وتلافياً منه لما وقع منه من الطلاق المحرَّم حتَّى لا تصير بينونتها منه ناشئة عن طلاق محرَّمٍ ، وليتمكَّن من طلاقها على وجه مباح ، فتحصل إبانتُها على هذا الوجه . وقد روي عن أبي الزبير ، عن ابن عمر : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ردَّها عليهِ ولم يرها شيئاً(1) ، وهذا ممَّا تفرَّد به أبو الزبير عن أصحاب ابن عمر كلِّهم مثل : ابنه سالم ، ومولاه نافع ، وأنس ، وابن سيرين ، وطاووس ، ويونس بن جبير ، وعبد الله بن دينار ، وسعيد بن جبير ، وميمون بن مِهران وغيرهم .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 10960 ) ، وأبو داود ( 2185 ) ، وابن عبد البر في " التمهيد " 15/65 . وانظر تخريجه موسعاً بدون هذه اللفظة في " مسند الشافعي " ( 1238 ) -
( 1244 ) بتحقيقي وانظر : فتح الباري 9/436-441 ، والكلام على هذه اللفظة في كتابي " الجامع في العلل " يسر الله اتمامه .
وقد أنكر أئمة العلماء هذه اللفظة على أبي الزبير من المحدثين والفقهاء ، وقالوا : إنَّه تفرَّد بما خالف الثِّقات ، فلا يُقبل تفرّده ، فإنَّ في رواية الجماعة عن ابن عمر ما يدلُّ على أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حسب عليه الطلقة من وجوه كثيرة ، وكان ابنُ عمر يقول لمن سأله عن الطلاق في الحيض : إنْ كنتَ طلَّقتَ واحدةً أو اثنتين(1) ، فإنَّ
رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني بذلك ، يعني(2) : بارتجاع المرأة ، وإنْ كنت طلقت ثلاثاً ، فقد عصيت ربَّك ، وبانت منك امرأتك .
وفي رواية أبي الزبير زيادة أخرى لم يُتابع عليها وهي قوله : ثم تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } (3) ولم يذكر ذلك أحدٌ من الرواة عن ابن عمر ، وإنَّما روى عبدُ اللهِ بنُ دينار ، عن ابن عمر أنَّه كان يتلو هذه الآية عند روايته للحديث ، وهذا هو الصحيح .
__________
(1) قال مسلم في " صحيحه " ( 1471 ) ( 1 ) : ( جود الليث في قوله : تطليقة واحدة ) .
(2) عبارة : ( بذلك يعني ) سقطت من ( ص ) .
(3) الطلاق : 1 .
وقد كان طوائفُ من الناس يعتقدونَ أنَّ طلاقَ ابنِ عمر كان ثلاثاً ، وأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما ردَّها عليه ؛ لأنَّه لم يوقع الطَّلاق في الحيض ، وقد رُوي ذلك عن أبي الزبير أيضاً من رواية معاوية بن عمار الدُّهني عنه(1) ، فلعلَّ أبا الزبير اعتقد هذا حقاً ، فروى تلك اللفظةَ بالمعنى الذي فهمه ، وروى ابنُ لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير ، فقال : عن جابر : أنَّ ابن عمر طلق امرأته وهي حائض ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (2)
: ( لِيُراجِعها فإنَّها امرأتُه )(3) وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد ، وتفرَّد بقوله : ( فإنَّها امرأته ) وهي لا تدل على عدم وقوع الطلاق إلاّ على تقدير أنْ يكون ثلاثاً، فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير وأصحابُ ابن عمر الثقاتُ الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يختلف عليهم فيه ، وروى أيوب ، عن ابن سيرين قال : مكثتُ عشرين سنة يُحدِّثني من لا أتَّهِمُ أنَّ ابنَ عمر طلَّق امرأته ثلاثاً وهي حائض ، فأمره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُراجِعَها ، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتّى لقيتُ أبا غلاَّب(4) يونس بن جُبير وكان ذا ثَبَتٍ ، فحدَّثني أنَّه سأل ابنَ عمر فحدَّثه أنَّه طلقها واحدة . خرَّجه مسلم(5) .
وفي رواية : قال ابنُ سيرين : فجعلتُ لا أعرِفُ للحديث وجهاً ولا
أفهمه .
__________
(1) أخرجه : الدارقطني 4/7 ، ومن طريقه ابن الجوزي في " العلل المتناهية " 2/638 ، بهذا الإسناد .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( مره ) .
(3) أخرجه : أحمد 3/386 ، وعبد الله بن لهيعة ضعيف .
(4) تحرف في ( ص ) إلى : ( عتاب ) .
(5) في " صحيحه " 4/181 ( 1471 ) ( 7 ) .
وهذا يدلُّ على أنَّه كان قد(1) شاع بين الثِّقاتِ من غير أهلِ الفقه والعلم أنَّ طلاقَ ابنِ عمر كان ثلاثاً ، ولعلَّ أبا الزبير من هذا القبيل ، ولذلك كان نافع يُسأل كثيراً عن طلاق ابن عمر ، هل كان ثلاثاً أو واحدة ؟ ولما قدم نافع مكة ، أرسلوا إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك لهذه الشبهة ، واستنكارُ ابنِ سيرين لِرواية الثلاث يَدُل على أنَّه لم يعرف قائلاً معتبراً يقول : إنَّ الطلاق المحرَّم(2) غير واقع ، وإنَّ هذا القول لا وَجْهَ له .
قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث ، وسئل عمن قال : لا يقعُ الطلاقُ
المحرم ؛ لأنَّه يُخالِفُ ما أمر به ، فقال : هذا قولُ سوءٍ رديء ، ثم ذكر قصة ابنِ عمر وأنَّه احتسب بطلاقه في الحيض .
وقال أبو عبيد : الوقوعُ هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار : حجازهم وتهامهم ، ويمنهم وشامهم ، وعراقهم ومصرهم ، وحكى ابنُ المنذر ذلك عن كلِّ من يُحْفَظُ قولُه من أهل العلم إلاَّ ناساً من أهل البدع لا يُعتَدُّ بهم .
وأمَّا ما حكاه ابنُ حزم(3) عن ابن عمر أنَّه لا يقع الطلاقُ في الحيضِ مستنداً إلى ما رواه(4) من طريق محمد بن عبد السلام الخشني الأندلسي : حدَّثنا محمَّد بن بشار ، حدثنا عبد الوهَّاب الثقفي ، عن عُبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابنِ عمر في الرجل يطلق امرأته وهي حائض ، قال : لا يُعتَدُّ بها ، وبإسناده عن خِلاس نحوه(5)
__________
(1) كان قد ) سقطت من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) في " المحلى " 11/216 .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( محمد ) .
(5) في " المحلى " 11/216 .
وأخرجه : ابن أبي شيبة 4/58 و59 .
، فإنَّ هذا الأثرَ قد سقط من آخره لفظة وهي قال : لا يعتد بتلك الحيضة ، كذلك رواه أبو بكر بنُ أبي شيبة في كتابه(1) عن عبد الوهَّاب الثقفي ، وكذا رواه يحيى بنُ معين ، عن عبد الوهَّاب أيضاً ، وقال : هو غريب لم يحدث به إلا
عبدُ الوهَّاب ، ومرادُ ابنِ عمر أنَّ الحيضة التي طلق فيها المرأة لا تعتدُّ بها المرأة قرءاً ، وهذا هو مرادُ خِلاس وغيره .
وقد روي ذلك أيضاً عن جماعةٍ منَ السَّلف ، منهم : زيدُ بنُ ثابت(2) ، وسعيد بنُ المسيب(3) ، فوهم جماعة من المفسرين وغيرهم كما وهم ابنُ حزم فحَكَوا عن بعضِ من سمينا أنَّ الطلاق في الحيض لا يقع ، وهذا سببُ وهمهم ، والله أعلم .
وهذا الحديث إنَّما رواه القاسم بن محمد لما سُئِلَ عن رجُلٍ له ثلاثة(4)
مساكن ، فأوصى بِثُلثِ ثلاث مساكن هل تجمع له في مسكن واحد ؟ فقالَ : يجمع ذَلِكَ كلهُ في مسكن واحد ، حدثتني عائشة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( مَنْ عمل عملاً ليسَ عليهِ أمرُنا فَهُو ردٌّ ) خرّجه مسلم(5) . ومرادُه أنَّ تغيير وصية الموصي إلى ما هوَ أحبُّ إلى الله وأنفعُ جائزٌ ، وقد حكي هذا عن عطاء وابن جريج ، وربما يستدلُّ بعضُ من ذهب إلى هذا بقولِهِ تعالى : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْه } (6) ولعله أخذ هذا من جمع العتق ، فإنَّه صح ( أنَّ رجلاً(7) أعتق ستة مملوكين عندَ موته ، فدعاهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم ثلاثة أجزاء ، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة ) خرّجه مسلم(8)
__________
(1) المصنف 4/57 .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 10966 ) ، وابن أبي شيبة 4/57 .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة 4/59 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في " صحيحه " 5/132 ( 1718 ) ( 18 ) .
(6) البقرة : 182 .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) في " صحيحه " 5/97 ( 1668 ) ( 56 ) و( 57 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 830 ) ، وأحمد 4/426 و428 و439 و440 و446 ، وأبو داود
( 3958 ) و( 3959 ) و( 3961 ) ، وابن ماجه ( 2345 ) ، والترمذي ( 1364 ) ، والنسائي 4/64 وفي " الكبرى " ، له ( 4974 ) ، والبيهقي 10/286 من طرق عن عمران ابن حصين ، به .
. وذهب فقهاءُ الحديث إلى هذا الحديث ؛ لأنَّ تكميلَ عتق العبد مهما أمكن أولى من تشقيصه ، ولهذا شُرِعَتِ السِّرايةُ والسِّعايةُ إذا أعتق أحدُ الشريكين نصيبَه من عبد . وقال - صلى الله عليه وسلم - فيمن أعتق بعض عبدٍ له : ( هو عتيقٌ كلُّه ليس لله شريك )(1) .
وأكثرُ العلماء على خلاف قول القاسم هذا ، وإنَّ وصية الموصي لا تجمع ، ويُتبع لفظه إلاَّ في العتق خاصة ؛ لأنَّ المعنى الذي جمع له في العتق غيرُ موجود في بقية الأموال ، فيعمل فيها بمقتضى وصية الموصي .
وذهب طائفة من الفقهاء في العتق إلى أنَّه يعتق مِنْ كل عبدٍ ثلثه ، ويستسعون في الباقي(2) ، واتباع قضاء النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أحقُّ وأولى ، والقاسم نظر إلى أنَّ في مشاركة الموصى له للورثة في المساكن كُلِّها ضرراً عليهم ، فيدفع عنهم هذا الضرر ويجمع الوصية في مسكنٍ واحدٍ ، فإنَّ الله قد شرط في الوصية(3) عَدَمَ المضارة بقوله تعالى : { غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ الله } (4) فمن ضارَّ في وصيته ، كان عملهُ مردوداً عليه
لمخالفته ما شرط الله في الوصية(5) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/74 و75 ، وأبو داود ( 3933 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 4970 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 3/107 وفي شرح " المشكل " ، له ( 5381 ) و( 5382 ) ، والبيهقي 10/273، وقد أعله النسائي بالإرسال كما في "تحفة الأشراف" 1/188 ( 134 ).
(2) انظر : معالم السنن 4/71 .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) النساء : 12 .
(5) انظر : تفسير الطبري ( 6980 ) و( 6981 ) وطبعة التركي 6/486 – 487 ، وتفسير ابن أبي حاتم ( 4939 ) .
وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنَّه لو وصَّى لهُ بثلث مساكنه كُلِّها(1) ، ثم تلف ثلثا المساكن ، وبقي منها ثلث أنَّه يُعطى كله للموصى له ، وهذا قولُ طائفةٍ من أصحاب أبي حنيفة ، وحكي عن أبي يوسف ومحمد ، ووافقهم القاضي أبو يعلى من أصحابنا في خلافه ، وبَنَوا ذلك على أنَّ المساكن المشتركة تقسم بين المشتركين فيها قسمة إجبار ، كما هو قولُ مالك ، وظاهرُ كلام ابن أبي موسى من أصحابنا ، والمشهورُ عند أصحابنا أنَّ المساكن المتعدِّدة لا تُقسم قسمة إجبار(2) ، وهو قولُ أبي حنيفة والشَّافعي ، وقد تأوَّلَ بعضُ المالكية فتيا القاسم المذكورة في هذا الحديث على أنَّ أحد الفريقين من الورثة أو الموصى لهم طلب قسمة المساكن وكانت متقاربة بحيث يضمُّ بعضها إلى بعض في القسمة ، فإنَّه يُجاب إلى قسمتها على قولهم ، وهذا التأويل بعيد مخالف لِلظاهر ، والله أعلم .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( إجباراً ) بإسقاط كلمة : ( قسمة ) .
الحديث السادس
عَنِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ - رَضي الله عنهُما - قال : سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : ( إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وإنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ ، وبَينَهُما أُمُورٌ مُشتَبهاتٌ ، لا يَعْلَمُهنّ كثيرٌ مِن النَّاسِ ، فَمَن اتَّقى الشُّبهاتِ استبرأ لِدينِهِ وعِرضِه ، ومَنْ وَقَعَ في الشُّبُهاتِ وَقَعَ في الحَرَامِ ، كالرَّاعي يَرعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرتَعَ فيهِ ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ محارِمُهُ ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إذا صلَحَتْ صلَحَ الجَسَدُ كلُّه ، وإذَا فَسَدَت فسَدَ الجَسَدُ كلُّه ، ألا وهِيَ القَلبُ ) رواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ(1) .هذا الحديث صحيح(2) متفق على صحته من رواية الشعبي ، عن النعمان بن بشير ، وفي ألفاظه بعضُ الزيادة والنقص ، والمعنى واحد أو متقارب .
__________
(1) أخرجه : البخاري 1/20 ( 52 ) و3/69 ( 2051 ) ، ومسلم 5/50 ( 1599 )
( 107 ) و5/51 ( 1599 ) ( 107 ) و( 108 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 918 ) ، وأحمد 4/269 و270 و271 ، والدارمي ( 2534 ) ، وأبو داود ( 3329 ) و(3330 )، وابن ماجه ( 3984 ) ، والترمذي ( 1205 ) ، والنسائي 7/241 و8/327 وفي " الكبرى " ، له ( 5219 ) و( 6040 ) ، وابن الجارود
( 555 ) والطحاوي في " شرح المشكل " ( 749 ) و( 750 ) و( 751 ) ، وابن حبان
( 751 ) ، والبيهقي 5/264 و334 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 5740 ) و( 5741 )
و( 5742 ) ، والبغوي ( 2031 ) من طريق الشعبي ، عن النعمان بن بشير ، به .
(2) عبارة : ( هذا الحديث صحيح ) لم ترد في ( ص ) .
وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر(1) ، وعمار بن ياسر(2)،
وجابر(3)، وابن مسعود ، وابن عباس(4) ، وحديث النعمان أصح أحاديث الباب .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس ) معناه : أنَّ الحلال المحض بَيِّنٌ لا اشتباه فيه ، وكذلك الحرامُ المحضُ ، ولكن بين الأمرين أمورٌ تشتبه على كثيرٍ من الناس ، هل هي من الحلال أم من
الحرام ؟ وأما الرَّاسخون في العلم ، فلا يشتبه عليهم ذلك ، ويعلمون من أيِّ القسمين هي .
فأما الحلالُ المحضُ : فمثل أكلِ الطيبات من الزروع ، والثمار ، وبهيمة
الأنعام ، وشرب الأشربة الطيبة ، ولباسِ ما يحتاج إليه من القطن والكتَّان ، أو الصوف أو الشعر ، وكالنكاح ، والتسرِّي وغير ذلك إذا كان اكتسابُه بعقدٍ صحيح كالبيع ، أو بميراث ، أو هبة ، أو غنيمة .
والحرام المحض : مثلُ أكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وشرب الخمر ، ونكاح المحارم ، ولباس الحرير للرجال ، ومثل الأكساب المحرَّمة كالرِّبا ، والميسر ، وثمن مالا يحل بيعه ، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس(5) أو نحو ذلك .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 2889 ) .
(2) أخرجه: إسحاق بن راهويه كما في " المطالب العالية " ( 1522 ) ، وأبو يعلى ( 1653 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 1756 ) .
(3) أخرجه : الخطيب في " تاريخه " 9/70 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 15/114 .
(4) اخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 10824 ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
وأما المشتبه : فمثلُ أكل بعضِ ما اختلفَ في حلِّه أو تحريمهِ ، إمَّا(1) من الأعيان كالخيلِ والبغالِ والحميرِ ، والضبِّ ، وشربِ(2) ما اختلف من الأنبذة التي يُسكِرُ كثيرُها ، ولبسِ ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها ، وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العِينة(3) والتورّق(4) ونحو ذلك ، وبنحو هذا المعنى فسَّرَ المشتبهات أحمدُ وإسحاق وغيرهما من الأئمة(5) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) في ( ص ) : ( كالعينة ) .
(4) العينة تقع من رجل مضطر إلى نقد ؛ لأن الموسر يضن عليه بالقرض فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم يبيعها ؛ فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة ، وإنْ باعها من غيره فهي التورق . انظر : حاشية ابن القيم 9/250 .
(5) انظر : المغني لابن قدامة 4/334-335 .
وحاصلُ الأمر أنَّ الله تعالى أنزل على نبيه(1) الكتاب ، وبين فيه للأمة ما يحتاجُ إليه من حلال وحرام ، كما قال تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ
شَيْءٍ } (2) قال مجاهد وغيرُه : لكلِّ شيءٍ أُمِرُوا به أو نُهوا عنه(3) ، وقال تعالى في آخر سورة النساء التي بَيَّنَ الله فيها كثيراً من أحكام الأموال(4) والأبضاع : { يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (5) وقال تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه } (6) ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا
يَتَّقُون } (7) ووكل بيان ما أشكل من التنْزيل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى
: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (8) وما قُبض - صلى الله عليه وسلم - حتّى أكمل له ولأُمته الدينَ ، ولهذا أنزل عليه بعرفة قَبْلَ موته بمدة يسيرة : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً } (9) .
__________
(1) في ( ص ) : ( عبده ) .
(2) النحل : 89 .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 16495 ) .
(4) في ( ص ) : ( بين فيها أحكام الأموال ) .
(5) النساء : 176 .
(6) الأنعام : 119 .
(7) التوبة : 115 .
(8) النحل : 44 .
(9) المائدة : 3 .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( تَركتُكُم على بَيضاءَ نقية لَيلُها كنهارِها لا يَزِيغُ عنها إلاَّ
هالِكٌ )(1) .
وقال أبو ذرٍّ : توفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائِرٌ يُحرِّكُ جناحَيهِ في السَّماءِ إلاَّ وقد ذَكَرَ لنا منه عِلماً(2) .
ولمَّا شكَّ النَّاسُ في موته - صلى الله عليه وسلم - ، قال عمُّه العباس - رضي الله عنه - : والله ما ماتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى تركَ السبيلَ(3) نهجاً واضحاً ، وأحلَّ الحلالَ وحرَّم الحرامَ ، ونكَحَ وطلَّق ، وحارب وسالم ، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يَخْبِطُ عليها العِضاةَ بمِخْبَطهِ ، ويَمْدُرُ حوضَها بيده بأنصَب ولا أدأب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ فيكُم(4) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 4/126 ، وابن ماجه ( 43 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 48 )
و( 49 ) ، والطبراني في" الكبير " 18/( 619 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 2017 ) ، والحاكم 1/96 من حديث العرباض بن سارية ، وهو حديث قويٌّ .
(2) أخرجه : وكيع في " الزهد " ( 522 ) ، والطيالسي ( 479 ) ، وأحمد 5/153 و162 ، والبزار في " مسنده " ( 3897 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 10299 ) ، والطبراني في
" الكبير " ( 1647 ) ، والصيداوي في " معجمه " : 142 ، والأثر قويٌّ بطرقه .
(3) في ( ص ) : ( الطريق ) .
(4) أخرجه : ابن سعد في " طبقاته " 2/204-205 ، والدارمي ( 83 ) ، من حديث عكرمة مرسلاً .
وفي الجملة فما ترك الله ورسولُه حلالاً إلا مُبيَّناً ولا حراماً إلاَّ مبيَّناً ، لكن بعضَه كان أظهر بياناً(1) من بعض ، فما ظهر بيانُه ، واشتهرَ وعُلِمَ من
الدِّين بالضَّرورة من ذلك(2) لم يبق فيه شكٌّ ، ولا يُعذر أحدٌ بجهله في بلدٍ يظهر
فيه الإسلام ، وما كان بيانُه دونَ ذلك ، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة
خاصة ، فأجمع العلماء على حله أو حرمته ، وقد يخفى على بعض من ليس
منهم ، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضاً ، فاختلفوا في تحليله وتحريمه وذلك لأسباب :
منها : أنَّه قد يكون النصُّ عليه خفياً لم ينقله إلا قليلٌ من الناس ، فلم يبلغ جميع(3) حملة العلم .
ومنها : أنَّه قد ينقل فيه نصان ، أحدهما بالتحليل ، والآخر بالتحريم ، فيبلغ طائفةً أحدُ النصين دون الآخرين ، فيتمسكون بما بلغهم ، أو يبلغ النصان معاً من لم يبلغه التاريخ ، فيقف لعدم معرفته بالناسخ .
ومنها: ما ليس فيه نصٌّ صريحٌ، وإنَّما يُؤخذ من عموم أو مفهوم(4) أو قياس ، فتختلف أفهامُ العلماء في هذا كثيراً .
ومنها : ما يكون فيه أمر ، أو نهي ، فيختلفُ العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب ، وفي حمل النهي على التحريم أو التنْزيه ، وأسبابُ الاختلاف أكثرُ مما ذكرنا .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) من ذلك ) سقطت من ( ص ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( أو منسوخ ) .
ومع هذا فلابد في الأمة من عالم(1) يُوافق قولُه الحقَّ ، فيكون هو العالِم بهذا الحكم ، وغيرُه يكون الأمر مشتبهاً عليه ولا يكون عالماً بهذا ، فإنَّ هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ، ولا يظهرُ أهلُ باطلها على أهلِ حقِّها ، فلا يكونُ الحقُّ مهجوراً غير معمولٍ به في جميع الأمصار والأعصار ، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المشتبهات : ( لا يَعْلَمُهُنَّ كثيرٌ من النَّاس ) فدل على أنَّ من الناس من يعلمها ، وإنَّما هي مشتبهة على من لم يعلمها ، وليست مشتبهة في نفس الأمر ، فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء .
وقد يقع(2) الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر ، وهو أنَّ مِن الأشياء ما يعلم سببُ حِلِّه وهو الملك المتيقن . ومنها ما يُعلم سببُ تحريمه وهو ثبوتُ ملك الغير عليه ، فالأوَّل لا تزولُ إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه ، اللهمَّ إلا في الأبضاع عندَ من يُوقعُ الطلاقَ بالشك فيه كمالكٍ ، أو إذا غلب على الظن وقوعُه كإسحاق بن راهويه . والثاني : لا يزول تحريمُه إلا بيقينِ العلم بانتقال الملك فيه .
وأمَّا ما لا يعلم له أصلُ ملكٍ كما يجده الإنسان في بيته ولا يدري : هل هو له أو لغيره فهذا مشتبه ، ولا يحرم عليه تناوُله ؛ لأنَّ الظاهر أنَّ ما في بيته ملكُه لثبوت يده عليه ، والورعُ اجتنابه ، فقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنِّي لأنقلب إلى أهلي فأجدُ التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ، ثم أخشى أنْ تكون صدقةً
فألقيها ) خرَّجاه في " الصحيحين " (3)
__________
(1) في ( ص ) : ( فلا بد من أن يكون في الأمة من عالم ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( كثير ) .
(3) صحيح البخاري 3/164 ( 2432 ) ، وصحيح مسلم 3/117 ( 1070 ) ( 162 )
و( 163 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 6944 ) ، وأحمد 2/317 ، وأبو عوانة كما في " إتحاف المهرة " 15/674 ( 20131 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 2/10 ، وابن حبان ( 3292 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/187 ، والبيهقي 7/29-30 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 5743 ) من حديث أبي هريرة ، به .
. فإنْ كان هناك من جنس المحظور ، وشكَّ
هل هو منه أم لا ؟ قويت الشبهةُ . وفي حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أصابه أرقٌ من الليل ، فقال له بعضُ نسائه : يا رسول الله أرقت الليلة . فقال : ( إني كنتُ أصبتُ تمرةً تحت جنبي ، فأكلتُها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة ، فخشيتُ أنْ تكون منه ) (1) .
ومن هذا أيضاً ما أصلهُ الإباحة كطهارة الماء ، والثوب ، والأرض إذا لم يتيقن زوال أصله ، فيجوز استعمالُه ، وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان ، فلا يحلُّ إلا بيقين حله من التذكية والعقد ، فإنْ تردَّد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه ، فيبني فيما أصله الحرمة على التحريم ولهذا نهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الصيدِ الذي يجدُ فيه الصائد أثر سهمٍ غير سهمه ، أو كلبٍ غير كلبهِ ، أو يجده قد وقع في ماء(2) . وعلل بأنَّه لا يُدرى : هل مات من السبب المبيح له أو من غيره ، فيرجع فيما أصله الحلُّ إلى الحِلِّ ، فلا ينجسُ الماءُ والأرض والثوبُ بمجرّد ظنِّ النجاسة ، وكذلك البدنُ إذا تحقق طهارته ، وشكَّ : هل انتقضت بالحدث عند جمهور العلماء خلافاً لمالك(3) - رحمه الله - إذا لم يكن قد دخل في الصلاة . وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أنَّه شُكي إليه الرجلُ يخيل إليه أنَّه يجد الشيءَ في الصلاة ، فقال : ( لا
__________
(1) أخرجه : ابن سعد في " طبقاته " 1/298 ، وأحمد 2/183 و193 .
(2) أخرجه : البخاري 3/70 ( 2054 ) و7/110 ( 5475 ) و7/111 ( 5476 )
و( 5477 ) و7/113 ( 5483 ) و( 5484 ) و( 5486 ) و7/114 ( 5487 ) و9/146 ( 7397 )، ومسلم 6/56 ( 1929 ) ( 1 ) و( 2 ) و( 3 ) و6/57 ( 1929 ) ( 4 ) و6/58 ( 1929 ) ( 5 ) و( 6 ) و( 7 ) ، وأبو داود ( 2847 ) و( 2849 )
و( 2850 ) و( 2854 ) .
(3) في ( ص ) : ( كمالك ) بإسقاط كلمة : ( خلافاً ) .
ينصرف حتّى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً(1) ) وفي بعض الروايات : ( في المسجد ) بدل : ( الصلاة ) .
وهذا يعمُّ حالَ الصلاةِ وغيرها ، فإنْ وُجِدَ سبب قويٌّ يغلب معه على الظنِّ نجاسة ما أصلُه الطهارة مثل أنْ يكونَ الثوبُ(2) يلبسه كافر لا يتحرَّزُ من
النجاسات ، فهذا محلّ اشتباه ، فمن العلماء من رخص فيه أخذاً بالأصل ، ومنهم من كرهه تنزيهاً ، ومنهم من حرمه إذا قوي ظن النجاسة مثل أنْ يكون الكافر ممن لا تباح ذبيحتُه أو يكون ملاقياً لعورته كالسراويل والقميص ، وترجع هذه المسائل وشبهها إلى قاعدةِ تعارض الأصل والظاهر ، فإنَّ الأصل الطهارة والظاهر النجاسة . وقد تعارضت الأدلَّةُ في ذلك .
__________
(1) أخرجه : الشافعي في " مسنده " ( 65 ) بتحقيقي ، والحميدي ( 413 ) ، وأحمد 4/39 و40 ، والبخاري 1/46 ( 137 ) و1/55 ( 177 ) و3/71 ( 2056 ) ، ومسلم 1/189
( 361 ) ( 98 ) ، وأبو داود ( 176 ) ، وابن ماجه ( 513 ) ، والنسائي 1/98-99
وفي " الكبرى " ، له ( 152 ) ، وابن خزيمة ( 25 ) و( 1018 ) ، وأبو عوانة
1/224 ، والبيهقي 1/114 وفي " المعرفة " ، له ( 147 ) من حديث عبد الله بن زيد ،
به .
(2) سقطت من ( ص ) .
فالقائلون بالطهارة يستدلون بأنَّ الله أحلَّ طعام أهل الكتاب ، وطعامهم إنَّما يصنعونه بأيديهم في أوانيهم ، وقد أجاب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دعوة يهودي(1) ، وكان هو
وأصحابه يلبسون ويستعملون ما يجلب إليهم مما نَسَجَه الكفارُ بأيديهم(2) من الثياب والأواني ، وكانوا في المغازي يقتسمون ما وقع لهم من الأوعية والثياب ، ويستعملونها ، وصحَّ عنهم أنَّهم استعملوا الماء مِنْ مزادة مشركة(3) .
والقائلون بالنجاسة يستدلون بأنَّه صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سئل عن آنية أهلِ الكتابِ الذين يأكلون الخنزيرَ ، ويشربون الخمر ، فقال : إن لم تجدوا غيرها ، فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها(4) .
وقد فسَّر الإمام أحمد الشبهة بأنَّها منْزلةٌ بينَ الحلال والحرام(5) ، يعني : الحلالَ المحض والحرام المحض ، وقال : من اتَّقاها ، فقد استبرأ لدينه ، وفسَّرها تارةً باختلاط الحلال والحرام .
__________
(1) أخرجه : ابن سعد في " طبقاته " 1/312 ، وأحمد 3/210 و270 ، والضياء المقدسي في
" المختارة " 7/86 ( 2493 ) من حديث أنس بن مالك : أن يهودياً دعا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه ، وهو حديث صحيح .
(2) بأيديهم ) سقطت من ( ج ) .
(3) أخرجه : البخاري 1/93 ( 344 ) و4/232 ( 3571 ) ، ومسلم 2/140 ( 882 )
( 312 ) و2/141 ( 682 ) ( 312 ) ، وابن خزيمة ( 113 ) و( 271 ) ، وابن حبان
( 1301 ) و( 1302 ) من حديث عمران بن حصين ، به .
(4) أخرجه : أحمد 4/193 و195 ، والبخاري 7/111 ( 5478 ) و7/114 ( 5488 ) و7/117 ( 5496 ) ، ومسلم 6/58 ( 1930 ) ( 8 ) و6/59 ( 1930 ) ( 8 ) ، وابن ماجه ( 2831 ) و( 3207 ) ، والترمذي ( 1464 ) و( 1560 م ) و( 1797 ) ، وابن الجارود ( 916 ) ، وابن حبان ( 5879 ) من حديث أبي ثعلبة الخشني ، به .
(5) انظر : كتاب الورع لأحمد بن حنبل : 68 .
ويتفرَّعُ على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط ، فإنْ كان أكثرُ ماله الحرامَ ، فقال أحمد : ينبغي أنْ يجتنبه إلا أنْ يكونَ شيئاً يسيراً ، أو شيئاً لا يعرف ، واختلف أصحابنا : هل هو مكروه أو محرَّم ؟ على وجهين .
وإنْ كان أكثرُ ماله الحلال ، جازت معاملته والأكلُ من ماله . وقد روى الحارث عن عليِّ أنَّه قال في جوائز السلطان : لا بأس بها ، ما يُعطيكم من الحلال أكثر مما يُعطيكم من الحرام(1) . وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يُعاملون المشركين وأهلَ الكتاب مع علمهم بأنَّهم لا يجتنبون الحرامَ كلَّه(2) .
وإنْ اشتبه الأمر فهو شبهة ، والورع تركُه . قال سفيان : لا يعجبني ذلك ، وتركه أعجب إليَّ(3) .
وقال الزُّهريُّ ومكحول : لا بأس أنْ يؤكل منه ما لم يعرف أنَّه حرامٌ بعينه ، فإنْ لم يُعلم في ماله حرام بعينه ، ولكنه علم أنَّ فيه شبهةً ، فلا بأس بالأكل منه ، نصَّ عليه أحمد في رواية حنبل .
وذهب إسحاق بنُ راهويه إلى ما رُوي عن ابن مسعود وسلمانَ وغيرِهما منَ الرُّخصة ، وإلى ما رُوي عَنِ الحسنِ وابنِ سيرين في إباحةِ الأخذ مما يقضي من الرِّبا
والقمار ، نقله عنه ابنُ منصور .
__________
(1) انظر : المغني 4/334 .
(2) من ذلك ما أخرجه : البخاري 3/73 ( 2068 ) و3/80 ( 2096 ) و3/101 ( 2200 ) و3/113 ( 2251 ) و( 2252 ) و3/151 ( 2386 ) و3/186 ( 2509 ) و3/187
( 2513 ) ، ومسلم 5/55 ( 1603 ) ( 124 ) و( 125 ) و( 126 ) من حديث عائشة - رضي الله عنها - : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد .
(3) قال أحمد بن حنبل : سمعت سفيان بن عيينة يقول : لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال وحتى يدع الإثم وما تشابه منه . الورع لأحمد بن حنبل : 71 و151 .
وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه : إنْ كان المالُ كثيراً ، أخرج منه قدرَ الحرام ، وتصرَّف في الباقي ، وإنْ كان المالُ قليلاً ، اجتنبه كلَّه(1) ، وهذا لأنَّ القليل إذا تناول منه شيئاً ، فإنَّه تَبْعُدُ معه السلامةُ من الحرام بخلاف الكثير ، ومن أصحابنا مَنْ حَمَل ذلك على الورع دُون التَّحريم ، وأباح التصرُّف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه ، وهو قولُ الحنفيَّة وغيرهم ، وأخذ به قومٌ مِنْ أهل الورع منهم بشرٌ الحافي .
ورخَّص قومٌ من السَّلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنّه من الحرام بعينه، كما تقدَّم عن مكحولٍ والزُّهريِّ . وروي مثلُه عن الفُضيل بن عياض .
وروي في ذلك آثارٌ عن السَّلف ، فصحَّ عن ابن مسعود أنَّه سُئِلَ عمَّن له جارٌ يأكلُ الرِّبا علانيةً ولا يتحرَّجُ من مالٍ خبيثٍ يأخُذُه يدعوه إلى طعامه ، قال : أجيبوهُ ، فإنَّما المَهْنأُ لكم والوِزْرُ عليه(2) . وفي رواية أنَّه قال : لا أعلمُ له شيئاً إلاّ خبيثاً أو حراماً ، فقال : أجيبوه . وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود ، ولكنَّه عارضه بما رُوي عنه أنَّه قال : الإثم حَوَازُّ القلوب(3) .
__________
(1) انظر : المغني 4/334 .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 14675 ) و( 14676 ) .
(3) قول ابن مسعود هذا ، أخرجه : هناد في " الزهد " ( 934 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 8748 ) و( 8749 ) .
حواز القلوب : رواه شمر بتشديد الواو ، من حاز يحوز ، أي : يجمع القلوب ويغلب عليها ، والمشهور بتشديد الزاي .
والمشهور عند المحدّثين : جمع حازة ، وهي الأمور التي تَحُزُّ في القلوب وتَحُكُّ وتؤثر . انظر : النهاية 1/459 ، تاج العروس 15/125 ( حرز ) .
وروي عن سلمان مثلُ قولِ ابنِ مسعود الأول(1) ، وعن سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، ومُورِّق العِجلي ، وإبراهيم النَّخعي ، وابنِ سيرين وغيرهم ، والآثار بذلك موجودة في كتاب " الأدب " لحُمَيد بن زَنجويه ، وبعضها في كتاب " الجامع " للخلال ، وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم(2) .
ومتى علم أنَّ عينَ الشيء حرامٌ ، أُخِذَ بوجه محرم ، فإنَّه يحرم تناولُه ، وقد حَكى الإجماعَ على ذلك ابنُ عبد البرِّ وغيرُه ، وقد رُوي عن ابن سيرين في الرجل يُقضى من الربا ، قال : لا بأس به ، وعن الرجل يُقضى من القمار قال : لا بأس به(3) ، خرَّجه الخلال بإسناد صحيح ، ورُوي عن الحسن خلاف هذا ، وأنَّه قال : إنَّ هذه المكاسب قد فسدت ، فخذوا منها شبه المضطَر .
وعارض المروي عن ابن مسعود وسلمان ، ما روي عن أبي بكر الصدِّيق أنَّه أكل طعاماً ثم أخبر أنَّه من حرام ، فاستقاءه(4) .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 14677 ) .
(2) انظر : مصنف عبد الرزاق الأحاديث ( 14678 )-( 14682 ) .
(3) من قوله : ( وعن الرجل يقضي ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) أخرجه : البخاري 5/53 ( 3842 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 5770 ) من حديث عائشة - رضي الله عنها - ، قالت : كان لأبي بكر غلامٌ يخرج له الخرج ، وكان أبو بكر يأكل من خراجه فجاء يوماً بشيءٍ فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام : تدري ما هذا ؟ فقال أبو بكر : وما هو ؟ قال : كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية ، وما أحسنُ الكهانة إلا أني خدعتهُ فلقيني فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه فأدخل أبو بكر يده ، فقاء كل شيء في بطنه .
وقد يقع الاشتباه في الحكم ، لكون الفرع متردِّداً بين أصول تجتذبهُ ، كتحريم الرجل زوجته ، فإنَّ هذا متردِّدٌ بين تحريم الظِّهار الذي ترفعه الكفَّارةُ الكبرى ، وبين تحريم الطَّلقة الواحدة بانقضاء عدتها الذي تُباحُ معه الزوجة بعقدٍ جديدٍ ، وبين تحريم الطَّلاق الثلاث الذي لا تُباح معه الزوجةُ(1) بدون زوج وإصابة وبين تحريم الرجل عليه ما أحلَّه الله له مِنَ الطَّعام والشراب الذي لا يحرمه ، وإنَّما يُوجب الكفَّارة الصُّغرى ، أو لا يُوجب شيئاً على الاختلاف في ذلك ، فمن هاهنا كَثُرَ الاختلافُ في هذه المسألة في زمن الصحابة فمن بعدهم .
وبكل حال فالأمور المشتبهة التي لا تتبين أنَّها حلال ولا حرام لكثير من الناس، كما أخبر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، قد يتبيَّنُ لبعضِ النَّاس أنَّها حلال أو حرام ، لما عِنده مِنْ ذلك من مزيدِ علمٍ(2)، وكلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يدلُّ على أنَّ هذه المشتبهات مِنَ النَّاسِ من يعلمُها، وكثيرٌ منهم لا يعلمها ، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان :
أحدهما : من يتوقَّف فيها ؛ لاشتباهها عليه .
والثاني : من يعتقدُها على غيرِ ما هي عليه ، ودل كلامُه على أنَّ غير هؤلاء
يعلمها ، ومرادُه أنَّه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم ، وهذا من أظهر الأدلة على أنَّ المصيبَ عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلفِ(3) فيها واحدٌ عند الله - عز وجل - ، وغيره ليس بعالم بها ، بمعنى أنَّه غيرُ مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر ، وإنْ كان يعتقدُ فيها اعتقاداً يستندُ فيه إلى شبهة يظنُّها دليلاً ، ويكون مأجوراً على اجتهاده ، ومغفوراً له خطؤه لعدم اعتماده .
__________
(1) من قوله : ( بعقد جديد ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فمن اتَّقى الشُّبهاتِ ، فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ ، وقع في الحرام ) قسَّم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين ، وهذا إنَّما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه ، وهو ممن لا يعلمها ، فأمَّا مَنْ كان عالماً بها ، واتَّبع ما دلَّه علمهُ عليها ، فذلك قسمٌ ثالثٌ ، لم يذكره لظهور حكمه ، فإنَّ هذا القسم أفضلُ الأقسام الثلاثةِ ؛ لأنَّه عَلِمَ حكمَ الله في هذه الأمور المشتبهة على النَّاس(1) ، واتَّبع علمَه في ذلك . وأما من لم يعلم حكم الله فيها ، فهم قسمان : أحدهما من يتقي هذه الشبهات ؛ لاشتباهها عليه ، فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه .
ومعنى استبرأ : طلب البراءة لدينه وعرضه(2) مِنَ النَّقْص والشَّين ، والعرض : هو موضعُ المدح والذمِّ من الإنسان ، وما يحصل له بذكره بالجميل مدحٌ ، وبذكره بالقبيح قدحٌ، وقد يكون ذلك تارةً في نفس الإنسان ، وتارةً في سلفه ، أو في أهله ، فمن اتَّقى الأمور المشتبهة واجتنبها ، فقد حَصَّنَ عِرْضَهُ مِنَ القَدح والشَّين الداخل على من لا يجتنبها ، وفي هذا دليل على أنَّ من ارتكب الشُّبهات ، فقد عرَّض نفسه للقدح فيه والطَّعن ، كما قال بعض السَّلف : من عرَّض نفسه للتُّهم ، فلا يلومنَّ من أساء به الظنَّ(3) .
__________
(1) عبارة : ( على الناس ) سقطت من ( ص ) .
(2) عبارة : ( ومعنى استبرأ : طلب البراءة لدينه وعرضه ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 8/479 من طريق سعيد بن المسيب من قول عمر بن الخطاب .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 8345 ) من طريق سعيد بن المسيب من قول بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . بلفظ : ( من عرض نفسه للتهم فلا يلومن الا نفسه ) .
وفي روايةٍ للترمذي(1) في هذا الحديث : ( فمن تركها استبراءً لدينه وعرضه ، فقد سَلِمَ ) والمعنى : أنَّه يتركُها بهذا القصد - وهو براءةُ دينه وعرضه من النقص - لا لغرضٍ آخر فاسدٍ من رياءٍ ونحوه .
وفيه دليلٌ على أنَّ طلب البراءة للعرض ممدوحٌ كطلب البراءة للدين ، ولهذا ورد : ( أنَّ ما وقى به المرءُ عِرضَه ، فهو صدقةٌ(2) ) .
وفي رواية في " الصحيحين " (3) في هذا الحديث : ( فمن ترك ما يشتبه
عليه مِنَ الإثمِ ، كان لما استبانَ أتركَ ) يعني : أنَّ من ترك الإثمَ مع اشتباهه عليه ، وعدم تحققه ، فهو أولى بتركه إذا استبان له أنَّه إثمٌ ، وهذا إذا كان تركه تحرُّزاً من الإثم ، فأمَّا من يَقصِدُ التصنعَ للناسِ ، فإنَّه لا يتركُ إلا ما يَظُنُّ أنَّه ممدوحٌ عندهم تركُهُ(4) .
__________
(1) في " الجامع الكبير " ( 1205 ) .
(2) أخرجه : الدارقطني 3/28 ، والحاكم 2/50 ، وهو حديث ضعيف ضعفه الذهبي في التلخيص ، وأقره ابن الملقن في " مختصر استدراك الذهبي " 1/556 .
(3) " صحيح البخاري " 3/69 ( 2051 ) ، ولم نقف عليها في " صحيح مسلم " .
وأخرجه : الحميدي ( 918 ) ، وأبو عوانة 3/398-399 ، والبيهقي 7/264 و334 من حديث النعمان بن بشير ، بهذا اللفظ .
(4) سقطت من ( ص ) .
القسم الثاني : من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهةً عنده ، فأمَّا مَنْ أتى شيئاً مما يظنُّه الناس شبهةً ، لعلمه بأنَّه حلال في نفس الأمر ، فلا حَرَج عليه من الله في ذلك ، لكن إذا خشيَ من طعن الناس عليه بذلك ، كان تركُها حينئذ استبراءً لعرضه ، فيكون حسناً ، وهذا كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمن رآه واقفاً مع صفية : ( إنَّها صفيَّةُ بنتُ حُيي(1) ) . وخرج أنس إلى الجمعة ، فرأى الناسَ قد صلَّوا ورجعوا ، فاستحيى ، ودخل موضعاً لا يراهُ النَّاس فيه ، وقال : ( من لا يستحيي من الناس ،
لا يستحيي من الله ) . وخرّجه الطبراني مرفوعاً ، ولا يصحُّ(2) .
وإنْ أتى ذلك لاعتقاده أنَّه حلال ، إمَّا باجتهادٍ سائغٍ ، أو تقليدٍ سائغٍ ، وكان مخطئاً في اعتقاده ، فحكمهُ حكمُ الذي قبلَه ، فإنْ كان الاجتهادُ ضعيفاً ، أو التقليدُ غيرَ سائغٍ ، وإنَّما حمل عليه مجرّد اتباع الهوى ، فحكمُهُ حكمُ من أتاه مع اشتباهه عليه ، والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه ، فقد أخبر عنه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه وقع في الحرام ، وهذا يفسر بمعنيين :
أحدهما : أنَّه يكونُ ارتكابُهُ للشبهة مع اعتقاده أنَّها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنَّه حرام بالتدريج والتسامح .
__________
(1) أخرجه : البخاري 3/64 ( 2035 ) و3/65 ( 2039 ) و4/99 ( 3101 ) و4/150
( 3281 ) و8/60 ( 6219 )، ومسلم 7/8 ( 2175 ) ( 24 ) ، وأبو داود ( 4994 ) ، وابن ماجه ( 1779 ) ، وابن حبان ( 3671 ) .
(2) في " الأوسط " ( 7159 ) ، وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 8/27 ، قال : ( وفيه جماعة لم أعرفهم ) . وانظر : فيض القدير 6/312 ( 9095 ) .
وفي رواية في " الصحيحين " (1) لهذا الحديث : ( ومن اجترأَ على ما يشكُّ فيه مِنَ الإثمِ ، أوْشَكَ أنْ يُواقِعَ ما استبانَ ) . وفي رواية : ( ومَنْ يُخالطِ الرِّيبةَ ، يوشِكُ أن يَجْسُرَ(2) ) ، أي : يَقرُب أنْ يقدم على الحرام المحضِ ، والجسورُ : المقدام الذي لا يهابُ شيئاً، ولا يُراقب أحداً ، ورواه بعضهم : ( يجشُر ) بالشِّين المعجمة ، أي : يرتع(3) ، والجَشْر : الرعي ، وجشرتُ الدابة : إذا رعيتها . وفي مراسيل أبي المتوكل الناجي ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ يرعى بجنباتِ الحرامِ ، يوشكُ أنْ يخالطهُ ، ومن تهاون بالمحقِّرات ، يُوشِكُ أنْ يُخالِطَ الكبائر ) (4).
والمعنى الثاني : أنَّ من أقدم على ما هو مشتبهٌ عنده ، لا يدري : أهو حلالٌ أو حرام ، فإنَّه لا يأمن أنْ يكون حراماً في نفس الأمر ، فيُصادِفُ الحرام وهو لا يدري أنَّه حرامٌ . وقد رُوي من حديث ابن عمر عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّن وبينهما(5) مُشتبهاتٌ ، فمن اتَّقاها ، كان أنزَه لدينِهِ وعِرضه ، ومن وقعَ في الشُّبهَاتِ أوشَكَ أنْ يقع في الحَرامِ ، كالمرتع حَولَ الحِمى ، يُوشِكُ أنْ يُواقعَ الحِمى وهو لا يشعر ) خرَّجه الطبراني(6) وغيره .
__________
(1) صحيح البخاري 3/70 ( 2051 ) ، ولم أقف عليه في " صحيح مسلم " .
(2) أخرجه : أبو داود ( 3329 ) ، والبزار ( 3268 ) ، والنسائي 8/327 ، وابن حبان
( 721 ) ، من حديث النعمان بن بشير ، به .
(3) عبارة : ( أي : يرتع ) سقطت من ( ص ) .
(4) وهو ضعيف لإرساله .
(5) زاد بعدها في ( ص ) : ( أمور ) .
(6) في " الأوسط " ( 2889 ) .
واختلف العلماء : هل يُطيع والديه في الدُّخول في شيءٍ من الشُّبهة أم لا يُطيعهما ؟ فرُوي عن بشر بن الحارث ، قال : لا طاعة لهما في الشُّبهةِ ، وعن محمد ابن مقاتل العبَّادانيِّ قال : يُطيعهما، وتوقف أحمد في هذه المسألة ، وقال : يُداريهما، وأبى أنْ يُجيبَ فيها .
وقال أحمد : لا يشبعُ الرَّجل مِنَ الشُّبهة ، ولا يشتري الثوبَ للتَّجمُّل من الشُّبهة ، وتوقف في حدِّ ما يُؤكل وما يُلبس منها ، وقال في التَّمرة يلقيها الطيرُ : لا يأكلها ، ولا يأخذها ، ولا يتعرَّضُ لها .
وقال الثوري في الرجل يجد في بيته الأفلُسَ أو الدَّراهِم : أحبُّ إليَّ أنْ يتنزَّه
عنها ، يعني : إذا لم يدرِ من أين هي . وكان بعضُ السَّلف لا يأكلُ إلا شيئاً يعلمُ من أينَ هو ، ويسأل عنه حتّى يقفَ على أصله . وقد رُويَ في ذلك(1) حديثٌ مرفوعٌ ، إلا أنَّ فيه ضعفاً(2)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) لعله الحديث الذي أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الورع " ( 115 ) ، والطبراني في " الكبير " 25/( 428 ) ، والحاكم 4/125-126 ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/105 من حديث أم =
= ... عبد الله أخت شداد بن أوس ، أنَّها بعثت إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بقدح لبن عند فطره وهو صائم ، وذلك في طول النهار وشدة الحر ، فرد إليها الرَّسول : ( أنى لك هذا اللبن ؟ ) قالت : من شاةٍ لي ؛ فرد إليها رسولها : ( أنى لك هذا الشاة ؟ ) قالت : أشتريتها من مالي ؛ فشرب، فلما كان من غد ، أتت أم عبد الله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : يا رسول الله : بعثت إليك بذلك اللبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحرِّ، فرددت فيه إليَّ الرسول ! فقال النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( بذلك أُمِرت الرسل قبلي، أنْ لا تأكل إلاّ طيباً ، ولا تعمل إلاّ صالحاً ) بلفظ ابن أبي الدنيا .
ذكره الهيثمي في " المجمع " 10/291 قال : ( وفيه أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف ) ، وقال الذهبي في " تلخيص المستدرك " 4/126 : ( ابن أبي مريم واهٍ ) .
.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كالرَّاعي يرعى حولَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يرتَعَ فيه ، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حِمى، وإنَّ حِمى اللهِ محارمه ) : هذا مَثَلٌ ضربه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمن وقع في الشُّبهات، وأنَّه يقرُب وقوعه في الحرام المحض ، وفي بعض الروايات أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( وسأضرب لذلك مثلاً ) ، ثم ذكر هذا الكلامَ ، فجعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ المحرمات كالحِمى الذي تحميه الملوكُ ، ويمنعون غيرهم من قُربانه ، وقد جعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حول مدينته(1) اثني عشر ميلاً حمى محرَّماً لا يُقطعُ شجرُه ولا يُصادُ صيدُه(2) ، وحمى عمرُ وعثمان أماكنَ ينبت فيها الكلأ لأجل إبل الصدقة(3)
__________
(1) عبارة : ( حول مدينته ) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : أحمد 2/279 ، ومسلم 4/116 ( 1372 ) ( 472 ) من حديث أبي هريرة .
(3) أخرجه : البخاري 3/ 148 ( 2370 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، أنَّ الصعب ابن جثامة ، قال : إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا حمى إلا لله ورسوله ) . وقال بلغنا أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حمى النقيع ، وأنَّ عمر حمى السرف والربذة .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 23193 ) من حديث ابن عمر: أنَّ عمر حمى الربذة لنعم الصدقة .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 37690 ) ، والبيهقي 6/147 من حديث أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري ، قال: سمع عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنَّ وفد أهل مصر قد أقبلوا فاستقبلهم فلما سمعوا =
= ... به أقبلوا نحوه ، قال : وكره أنْ يقدموا عليه بالمدينة فأتوه فقالوا له : ادع المصحف وافتح السابعة وكانوا يسمون سورة يونس السابعة فقرأها حتّى أتى على هذه الآية { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ } ، وقالوا له: قف . أرأيت ما حميت من الحمى، آلله أذن لك أم على الله تفترون ؟ فقال : امضه ، نزلت في كذا وكذا ، فأما الحمى ، فإنَّ عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة ، فلما وليت زادت إبل الصدقة ، فزدت في الحمى لما زاد في الصدقة . بلفظ البيهقي .
.
والله - عز وجل - حمى هذه المحرَّمات ، ومنع عباده من قربانها وسمَّاها حدودَه ، فقال :
{ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } (1) ، وهذا فيه بيان أنَّه حدَّ لهم ما أحلَّ لهم وما حرَّم عليهم ، فلا يقربوا الحرامَ ، ولا يتعدَّوا الحلال ، ولذلك قال في آية أخرى : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (2) ، وجعل من يرعى حول الحمى ، أو قريباً منه جديراً بأنْ يدخُلَ الحِمى ويرتع فيه ، فكذلك من تعدَّى الحلال ، ووقع في الشبهات ، فإنَّه قد قارب الحرام غايةَ المقاربة ، فما أخلقَهُ بأنْ يُخالِطَ الحرامَ المحضَ ، ويقع فيه ، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّه(3) ينبغي التباعد عن المحرَّماتِ ، وأنْ يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزاً .
وقد خرّج الترمذي(4) وابن ماجه(5) مِنْ حديثِ عبد الله بن يزيد ، عن النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يبلغُ العبدُ أنْ يكونَ من المتَّقين حَتّى يَدَعَ ما لا بأسَ به حذراً مما به بأسٌ (6) ) .
__________
(1) البقرة : 187 .
(2) البقرة : 229 .
(3) إلى أنّه ) سقطت من ( ص ) .
(4) في " الجامع الكبير " ( 2451 ) ، وقال : ( حسن غريب ) على أنَّ في إسناده عبد الله بن يزيد الدمشقي وهو ضعيف .
(5) في " سننه " ( 4215 ) .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 484 ) ، والطبراني في " الكبير " 17/( 446 ) ، والحاكم 4/319 من حديث عطية السعدي .
(6) عبارة : ( حذراً مما به بأس ) سقطت من ( ص ) .
وقال أبو الدرداء : تمامُ التقوى أنْ يتقي الله العبدُ ، حتّى يتقيَه مِنْ مثقال ذرَّة ، وحتّى يتركَ بعضَ ما يرى أنَّه حلال ، خشيةَ أنْ يكون حراماً ، حجاباً بينه وبينَ
الحرام(1) .
وقال الحسنُ : مازالتِ التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام .
وقال الثوري : إنما سُموا المتقين ؛ لأنَّهم اتَّقَوْا مالا يُتَّقى(2) . وروي عن ابن عمر قال : إنِّي لأحبُّ أنْ أدعَ بيني وبين الحرام سترةً من الحلال لا أخرقها .
وقال ميمون بن مهران : لا يسلم للرجل الحلالُ حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال(3) .
وقال سفيان بن عيينة : لا يصيب عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبينَ الحرام حاجزاً من الحلال(4) ، وحتى يدعَ الإثم وما تشابه منه(5) .
ويستدلُّ بهذا الحديثِ مَنْ يذهب إلى سدِّ الذرائع إلى المحرَّمات وتحريم
الوسائل إليها ، ويَدُلُّ على ذلك أيضاً من قواعدِ الشَّريعة تحريمُ قليلِ ما يُسكر كثيرُه(6)
__________
(1) أخرجه : نعيم بن حماد في " زياداته " على كتاب " الزهد " لابن المبارك ( 79 ) ، وابن أبي الدنيا في " التقوى " كما في " فتح الباري " 1/68 .
(2) لم أقف على قول الثوري ؛ ولكن وجدته من كلام ابن عيينة . انظر: حلية الأولياء 7/284 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/84 .
(4) من قوله : ( وقال سفيان بن عيينة ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/288 .
(6) لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أسكر كثيرة فقليله حرام ) .
أخرجه : أحمد 3/343 ، واللفظ له ، وأبو داود ( 3681 ) ، وابن ماجه ( 3393 ) ، والترمذي ( 1865 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 4/217 ، وابن حبان ( 5382 ) ، والبيهقي 8/296 من حديث جابر بن عبد الله ، به ، قال الترمذي : ( حسن غريب ) .
وله شواهد عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ،عن جده عند أحمد 2/167 و171 ، وابن ماجه ( 3394 ) .
وعن ابن عمر عند أحمد 2/91 ، وابن ماجه ( 3392 ) ، والبيهقي 8/296 .
، وتحريمُ الخلوة بالأجنبية ، وتحريمُ الصَّلاة بعد الصُّبح وبعدَ العصرِ سدَّاً لذريعة الصَّلاة عند طُلوع الشَّمس وعندَ غروبها(1) ، ومنعُ الصَّائم من المباشرة إذا كانت تحرِّكُ شهوتَه ، ومنع كثيرٍ من العلماءِ مباشرةَ الحائضِ فيما بين سرّتها ورُكبتها إلا مِنْ وراء حائلٍ ، كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمر امرأتَه إذا كانت حائضاً أنْ تَتَّزر ، فيباشِرُها مِنْ فوق الإزار(2) .
ومن أمثلة ذلك وهو شبيه(3) بالمثل الذي ضربه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : من سيَّب دابَّته ترعى بقُرْب زرع غيرِه ، فإنَّه ضامن لما أفسدته من الزرع ، ولو كان ذلك
نهاراً(4)
__________
(1) ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنَّ الصلاة لا تجوز في هذه الأوقات بإطلاق لا فريضة مقضية ولا سنة ولا نافلة إلا عصر يومه ، قالوا : فإنَّه جوّز أنْ يقضيه عند غروب الشمس إذا نسيه ، انظر : بداية المجتهد 1/191 ، والمفصّل 1/338 .
(2) عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر إحدانا إذا حاضت تأتزر ، ثم يباشرها .
أخرجه : الطيالسي ( 1375 ) ، وأحمد 6/134 ، واللفظ له ، والبخاري 1/82 ( 300 ) ، ومسلم 1/166 ( 293 ) ( 1 ) ، وأبو داود ( 268 ) ، وابن ماجه ( 635 ) و( 636 ) ، وابن الجارود ( 106 ) ، وابن حبان ( 1364 ) و( 1367 ) ، والبيهقي 1/310 ، والبغوي
( 317 ) .
(3) عبارة : ( وهو شبيه ) سقطت من ( ص ) .
(4) عن حرام بن سعد ، قال : إنَّ ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً لقوم فأفسدت فيه فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وما أفسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها .
... أخرجه : الشافعي في " مسنده " ( 1691 ) بتحقيقي ، واللفظ له ، وأحمد 5/435-436 ، وابن ماجه ( 2332 ) ، والبيهقي 8/341 ، والبغوي ( 2169 ) .
جاء في كتاب ابن سحنون أنَّ الحديث إنَّما جاء في أمثال المدينة التي لها حيطان محدقة ، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة وبساتين كذلك فيضمن أرباب الغنم ما أفسدت من ليل أو نهار . انظر : المحرر الوجيز لابن عطية : 1289 .
، هذا هو الصحيح ؛ لأنَّه مُفَرِّطٌ بإرسالها في هذه الحال .
وكذا الخلاف لو أرسل كلبَ الصَّيدِ قريباً من الحرم ، فدخل الحرمَ فصاد فيه ، ففي ضمانه روايتان عن أحمد(1) ، وقيل : يضمنه بكلِّ حال(2) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا وإنَّ في الجسد مضغةً ، إذا صَلَحَتْ ، صَلَحَ الجسدُ كلُّه ، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه ، ألا وهي القلب ) ، فيه إشارةٌ إلى أنَّ صلاحَ حركاتِ العبدِ بجوارحه ، واجتنابه للمحرَّمات واتَّقاءه للشُّبهات بحسب صلاحِ حركةِ قلبِه .
فإنْ كان قلبُه سليماً ، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يُحبه الله ، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه ، صلحت حركاتُ الجوارح كلّها ، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرَّمات كلها ، وتوقي للشبهات حذراً مِنَ الوقوعِ في المحرَّمات .
وإنْ كان القلبُ فاسداً ، قدِ استولى عليه اتِّباعُ هواه ، وطلب ما يحبُّه ، ولو كرهه الله ، فسدت حركاتُ الجوارح كلها ، وانبعثت إلى كلِّ المعاصي والمشتبهات بحسب اتِّباع هوى القلب .
ولهذا يقال : القلبُ مَلِكُ الأعضاء ، وبقيَّةُ الأعضاءِ جنودُه ، وهم مع هذا(3) جنودٌ طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره ، لا يخالفونه في شيءٍ من ذلك، فإنْ كان الملكُ صالحاً كانت هذه الجنود صالحةً ، وإنْ كان فاسداً كانت جنودُه بهذه المثابَةِ فاسدةً ، ولا ينفع عند الله إلاّ القلبُ السليم(4)
__________
(1) انظر : الهداية للكلوذاني 1/229 بتحقيقي ، والمغني لابن قدامة 3/354-355 .
(2) وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي ، وانظر : المغني لابن قدامة 3/354-355 .
(3) عبارة : ( جنوده وهم مع هذا ) سقطت من ( ص ) .
(4) ورد في هذا حديث عن أبي هريرة موقوف .
أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20375 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 109 ) .
وانظر : نوادر الأصول للحكيم الترمذي 2/192-193 و3/150 ، وفيض القدير للمناوي
( 6191 ) .
، كما قال تعالى : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } (1) ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : ( اللهم إني(2) أسألُكَ قلباً سليماً )(3) ، فالقلب السليم : هو السالم من الآفات والمكروهات كلِّها ، وهو القلبُ الذي ليس فيه سوى محبة الله وما يحبُّه الله ، وخشية الله ، وخشية ما يُباعد منه .
وفي " مسند الإمام أحمد " (4) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه ) .
والمراد باستقامة إيمانه : استقامةُ أعمال جوارحه ، فإنَّ أعمالَ الجوارحِ لا تستقيمُ إلا باستقامة القلب ، ومعنى استقامة القلب : أنْ يكونَ ممتلئاً مِنْ محبَّةِ الله(5) ، ومحبَّة طاعته ، وكراهة معصيته .
__________
(1) الشعراء : 88-89 .
(2) عبارة : ( اللهم إني ) لم ترد في ( ج ) .
(3) أخرجه : أحمد 4/123 و125 ، والترمذي ( 3407 ) ، والنسائي 3/54 وفي " الكبرى " ، له ( 10648 ) ، وابن حبان ( 1974 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 7135 ) و( 7175 ) ، والحاكم 1/508 من حديث شداد بن أوس ، به . وإسناده ضعيف .
(4) 3/198 ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن مسعدة .
وأخرجه القضاعي في " مسند الشهاب " ( 887 ) عن أنس . وله شاهد عن الحسن ، عن بعض أصحاب النبي عند البيهقي في " شعب الإيمان " ( 8 ) .
(5) في ( ص ) : ( ممتلئاً من خشية الله ) .
وقال الحسن(1) لرجل : داوِ قلبكَ؛ فإنَّ حاجة الله إلى العباد صلاحُ قلوبهم(2) ، يعني : أنَّ مراده منهم ومطلوبه صلاحُ قلوبهم ، فلا صلاحَ للقلوب حتَّى تستقرَّ فيها معرفةُ اللهِ وعظمتُه(3) ومحبَّتُه وخشيتُهُ ومهابتُه ورجاؤهُ والتوكلُ عليهِ ، وتمتلئَ مِنْ ذَلِكَ ، وهذا هوَ حقيقةُ التوحيد ، وهو معنى ( لا إله إلا الله ) ، فلا صلاحَ للقلوب حتَّى يكونَ إلهُها الذي تألَهُه وتعرفه وتحبُّه وتخشاه هوَ الله وحده لا شريكَ لهُ ، ولو كانَ في السماوات والأرض إله يُؤَلَّه سوى الله ، لفسدت بذلك(4) السماوات والأرض ، كما قالَ تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا } (5) .
فعلم بذلك أنَّه لا صلاحَ للعالَم العلويِ والسُّفليّ(6) معاً حتى تكونَ حركاتُ أهلها كلُّها لله (7) ، وحركاتُ الجسدِ تابعةً لحركةِ القلب وإرادته ، فإنْ كانت حركتُه وإرادتُه لله وحدَه ، فقد صَلَحَ وصَلَحَتْ حركاتُ الجسدِ كلِّه(8) ، وإنْ كانت حركةُ القلب وإراداته لغيرِ الله تعالى فسدَ ، وفسدت حركاتُ الجسد بحسب فسادِ(9) حركة القلب .
وروى الليثُ ، عن مجاهدٍ في قوله تعالى : { لا تُشْرِكوا به شيئاً } (10) قال : لا تحبُّوا غيري .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/154 .
(2) في ( ص ) : ( فإن مراد الله في العباد القلوب ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) الأنبياء : 22 .
(6) في ( ص ) : ( والعالم السفلي ) .
(7) في ( ص ) : ( لله وحده لا شريك له ) .
(8) من قوله : ( وإن كانت حركته ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(9) سقطت من ( ص ) .
(10) النساء : 36 ، والأنعام : 151 .
وفي " صحيح الحاكم " عن عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الشِّركُ أخفى من دبيب الذرِّ(1) على الصفا في اللَّيلة الظَّلماء ، وأدناهُ أنْ تُحِبَّ على شيءٍ من الجور ، وأنْ تُبغض على شيءٍ من العدل ، وهل الدِّينُ إلا الحبُّ والبغض ؟ قال الله - عز وجل -
: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله } (2) ) (3) فهذا يدلُّ على أنَّ محبةَ ما يكرهه الله ، وبغضَ ما يُحبه متابعةٌ للهوى ، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفيِّ ، ويدل على ذلك قوله : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله } فجعل الله علامة الصدق في محبته اتباعَ رسولِهِ ، فدلَّ على أنَّ المحبة لا تتمُّ بدون الطاعة والموافقة .
قال الحسن : قال أصحابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ، إنّا نُحِبُّ ربنا حباً شديداً . فأحبَّ الله أنْ يجعل لحبه عَلَماً(4) ، فأنزل الله هذه الآية : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله } . ومن هنا قال الحسن : اعلم أنَّك لن تُحِبَّ الله حتى تُحِبَّ طاعته .
__________
(1) في ( ص ) : ( النمل ) .
(2) آل عمران : 31 .
(3) أخرجه : الحاكم 2/291 ، وابن الجوزي في " العلل المتناهية " 2/823 ( 1378 ) وهو حديث ضعيف ضعفه الدارقطني وابن الجوزي والذهبي .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 5385 ) ، وطبعة التركي 5/325 ، وانظر : تفسير ابن أبي حاتم ( 3402 ) .
وسئل ذو النون : متى أُحِبُّ ربي ؟ قالَ : إذا كانَ ما يُبغضه عندك أمرَّ من الصبر(1) . وقال بشر بن السَّرِي : ليس من أعلام الحبِّ أنْ تُحبَّ ما يُبغِضُه حبِيبك(2) . وقال أبو يعقوب النهرجوري : كلُّ من ادَّعى محبة الله - عز وجل - ، ولم يُوافق الله في أمره ونهيه (3)، فدعواه باطل . وقال رُويم : المحبة الموافقة في كلِّ الأحوال ، وقال يحيى بنُ معاذ : ليس بصادقٍ من ادَّعى محبة الله ولم يحفظ حدوده ، وعن بعض السَّلف قال : قرأتُ في بعض الكتب السالفة : من أحبَّ الله لم يكن عنده شيء آثرَ من رضاه ، ومن أحبَّ الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه .
وفي " السنن " عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ أعطى للهِ ، ومنع لله ، وأحب لله ، وأبغض لله ، فقد استكمل الإيمان ) (4) ومعنى هذا أنَّ حركات القلب والجوارح إذا كانت كلُّها لله فقد كَمُلَ إيمانُ العبد بذلك ظاهراً وباطناً ، ويلزمُ من صلاح حركات القلب صلاحُ حركات الجوارح ، فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعثِ الجوارحُ إلا فيما يُريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكَفَّتْ عما يكرهه ، وعما يخشى أنْ يكونَ مما يكرهه(5) وإنْ لم يتيقن ذلك .
قال الحسن : ما نظرتُ ببصري ، ولا نطقتُ بلساني ، ولا بطشتُ بيدي ، ولا نهضتُ على قدمي حتّى أنظر على طاعةٍ أو على معصية ، فإنْ كانت طاعةٌ تقدمت ، وإنْ كانت معصية تأخَّرت .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/363 و392 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/300 .
(3) سقطت من ( ج ) .
(4) تقدم تخريجه .
(5) عبارة : ( وعما يخشى أن يكون مما يكرهه ) سقطت من ( ص ) .
وقال محمد بن الفضل البَلخي : ما خطوتُ منذ أربعين سنة خطوةً لغير الله - عز وجل - . وقيل لداود الطائي : لو تنحيتَ من الظلِّ إلى الشمس ، فقال : هذه خُطا لا أدري كيف تكتب(1) .
فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبُهم ، فلم يبق فيها إرادةٌ لغير الله - عز وجل - ، صلحت جوارحُهم ، فلم تتحرّك إلا لله - عز وجل - ، وبما فيه رضاه ، والله تعالى أعلم .
__________
(1) انظر : صفوة الصفوة لابن الجوزي 3/69 .
الحديث السابع
عَنْ تَميمٍ الدَّاريِّ - رضي الله عنه - : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الدِّينُ النَّصيحَةُ ثلاثاً ) ، قُلْنا : لِمَنْ يا رَسُولَ اللهِ ؟ قالَ : ( للهِ ولِكتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأئمَّةِ المُسلِمِينَ وعامَّتِهم ) رَواهُ مُسلمٌ .هذا الحديث خرَّجه مسلم(1) من رواية سُهيل بن أبي صالح ، عن عطاء بنِ يزيد الليثي ، عن تميم(2) الدَّاري ، وقد روي عن سهيل وغيره ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(3) ، وخرَّجه الترمذي (4) من هذا الوجه ، فمن العلماء مَنْ صححه من الطريقين جميعاً ، ومنهم من قال : إنَّ الصحيح حديثُ تميم ، والإسناد الآخر وهم(5) .
__________
(1) في " صحيحه " 1/53 ( 55 ) ( 95 ) و( 96 ) و1/54 ( 55 ) ( 96 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 837 ) ، وأحمد 4/102 ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 6/248
( 2990 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 1089 ) و( 1090 ) و( 1091 ) ، وعبد الله ابن أحمد في " زياداته " 4/102 ، والنسائي 7/156 وفي " الكبرى " ، له ( 7820 )
و( 7821 ) و( 8753 ) ، وابن حبان ( 4574 ) و( 4575 ) ، والبيهقي 8/163 وفي
" شعب الإيمان "، له ( 7400 ) و( 7401 ) ، والبغوي ( 3514 ) من حديث تميم الداري، به .
(2) عن تميم ) لم ترد في ( ص ) .
(3) أخرجه : أحمد 2/297 ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 1092 ) و( 1093 )
و( 1094 ) ، والنسائي 7/157 وفي "الكبرى" ، له ( 7822 ) و( 7823 ) و( 8754 ) ، وابن حجر في " تغليق التعليق " 2/58 من حديث أبي هريرة ، به .
(4) في " جامعه " ( 1926 ) .
(5) قال البخاري في " التاريخ الأوسط " 2/35 : ( مدار الحديث كله على تميم ولم يصح عن أحد غير تميم ) . وانظر : فتح الباري 1/182 .
وقد رُوي هذا الحديثُ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابنِ عمر ، وثوبان ، وابنِ عباسٍ ، وغيرهم(1) .
وقد ذكرنا في أوَّل الكتاب عن أبي داود : أنَّ هذا الحديث أحدُ الأحاديث التي يدور عليها الفقه(2) .
وقال الحافظ أبو نُعيم : هذا حديثٌ له شأن ، ذكر محمدُ بنُ أسلم الطوسي أنَّه أحدُ أرباع الدين(3) .
وخرَّج الطبرانيُّ(4) من حديث حُذيفة بن اليمان ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ لا يَهْتَمُّ بأمرِ المُسلمين فليس منهم ، ومَنْ لَمْ يُمْسِ ويُصْبِحْ ناصِحاً للهِ ولرسوله ولكتابه ولإمامِه ولعامَّة المسلمين فليس منهم ) .
وخرَّج الإمامُ أحمد(5)
__________
(1) أخرجه : الدارمي ( 2757 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 62 ) ، وابن حجر في
" تغليق التعليق " 2/60 من حديث ابن عمر ، به .
وأخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " 2/11 ( 1522 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة "
( 1095 ) ، والروياني في "مسند الصحابة" ( 657 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 1206 ) من حديث ثوبان ، به .
وأخرجه : أحمد 1/351 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 61 ) ، والطبراني في
" الأوسط " ( 11198 ) ، وابن حجر في "تغليق التعليق" 2/59 من حديث ابن عباس، به .
(2) في ( ص ) : ( الدين ) .
(3) انظر : صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح 1/221 .
(4) في " الأوسط " ( 7473 ) وفي " الصغير " ، له ( 890 ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " أخبار أصبهان " 2/252 من حديث حذيفة بن اليمان ، به ، وإسناده ضعيف ، انظر : مجمع الزوائد 1/87 .
(5) في " مسنده " 5/254 . =
= ... وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 204 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 7833 )
و( 7880 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/175 ، والبغوي في " شرح السنة " ( 3515 ) من حديث أبي أمامة ، به ، وإسناده ضعيف جداً لضعف عبيد الله بن زَحْر ، ولشدة ضعف علي ابن يزيد الألهاني .
من حديث أبي أمامة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( قال الله - عز وجل - : أحبُّ ما تعبَّدَني به عبدي النصحُ لي ) .
وقد ورد في أحاديث كثيرة النصح للمسلمين عموماً ، وفي بعضها : النصح لولاة أمورهم ، وفي بعضها : نصح ولاة الأمور لرعاياهم .
فأما الأوَّل : وهو النصحُ للمسلمين عموماً(1) ، ففي " الصحيحين " (2) عن جرير بن عبد الله قال : بايعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على إقامِ الصَّلاةِ ، وإيتاءِ الزكاة ، والنصح لكلِّ مسلم .
وفي " صحيح مسلم " (3) عن أبي هريرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( حقُّ المؤمن على المؤمن ستّ ) فذكر منها : ( وإذا استنصحك فانصَحْ له ) . ورُوي هذا الحديث من وجوه أخر عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(4) .
وفي " المسند " (5)
__________
(1) من قوله : ( وفي بعضها : النصح لولاة ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) صحيح البخاري 1/22 ( 57 ) و1/139 ( 524 ) و2/131 ( 1401 ) و3/94
( 2157 ) و3/247 ( 2715 )، وصحيح مسلم1/54 ( 56 ) ( 97 ) و( 98 ) و( 99 ).
وأخرجه : الحميدي ( 795 ) ( 798 ) ، وأحمد 4/360 و361 و364 و365 ، والدارمي
( 2543 ) ، والترمذي ( 1925 ) ، والنسائي 7/152 وفي " الكبرى " ، له ( 321 )
و( 7781 ) ، وابن خزيمة ( 2259 ) من حديث جرير بن عبد الله ، به .
(3) 7/3 ( 2162 ) ( 5 ) .
وأخرجه : أحمد 2/321 و372 و412 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 925 )
و( 991 ) ، والترمذي ( 2737 ) ، والنسائي 4/53 وفي " الكبرى " ، له ( 2065 ) ، وأبو يعلى ( 6504 ) ، وابن حبان ( 242 ) ، والبيهقي 5/347 و10/108 وفي "شعب الإيمان" ( 9167 ) ، والبغوي ( 1405 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(4) أخرجه : أحمد 1/89 ، والدارمي ( 2633 ) ، والبزار ( 850 ) من حديث علي ، به .
وأخرجه : أحمد 2/68 من حديث ابن عمر ، به .
(5) مسند الإمام أحمد 3/418 .
وأخرجه : الطيالسي ( 1312 ) ، وعبد بن حميد ( 438 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 4/11 ، والطبراني في " الكبير " 22/( 888 ) - ( 892 ) عن حكيم بن أبي يزيد، عن أبيه ، به ، وإسناد الحديث فيه اضطراب من قبل عطاء بن السائب ؛ لكن المتن له ما يعضده .
عن حكيم بن أبي يزيد ، عن أبيه ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( إذا استَنْصَحَ أحَدُكُم أخاه ، فليَنْصَح له ) .
وأما الثاني : وهو النصحُ لولاة الأمور ، ونصحهم لرعاياهم ، ففي " صحيح
مسلم " عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله يرضى لكم ثلاثاً : يَرْضَى
لكم (1) أنْ تعبُدُوه ولا تُشْرِكوا به شيئاً ، وأنْ تعتصِمُوا بحبلِ اللهِ جميعاً ولا تفرَّقوا ، وأنْ تُناصِحُوا مَنْ وَلاّه الله أمركم(2) ) .
وفي " المسند " (3) وغيره عن جُبير بنِ مطعم : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بالخَيْفِ مِنْ مِنى : ( ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهنَّ قلبُ امرئ مسلم : إخلاصُ العمل لله ، ومناصحةُ ولاةِ الأمر ، ولزومُ جماعة المسلمين ) . وقد روى هذه الخطبة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةٌ منهم أبو سعيد الخدري(4) .
وقد رُوي حديثُ أبي سعيد بلفظ آخر خرَّجه الدَّارقطني في " الأفراد "(5) بإسناد جيد ، ولفظه : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهن قلبُ امرئٍ مسلم : النصيحةُ لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين ) .
وفي " الصحيحين " (6)
__________
(1) عبارة : ( يرضى لكم ) سقطت من ( ص ) .
(2) صحيح مسلم 5/130 ( 1715 ) ( 10 ) .
أخرجه : أحمد 2/327 و360 و367 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 442 ) ، وابن حبان ( 3388 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(3) مسند الإمام أحمد 4/80 .
وأخرجه : ابن حبان في " المجروحين " 1/4-5 ، والطبراني في " الكبير " ( 1541 ) ، والحاكم 1/87 من حديث جبير بن مطعم ، به . وهو حديث قويٌّ .
(4) أخرجه البزار كما في " كشف الأستار " ( 141 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، به .
(5) لم أجده في أطراف الغرائب والأفراد .
(6) صحيح البخاري 9/80 ( 7150 ) ، وصحيح مسلم 1/87 ( 142 ) ( 229 ) و6/8
( 142 ) ( 22 ) .
وأخرجه : أحمد 5/27 ، وأبو عوانة 4/386 ، وابن قانع في " معجم الصحابة " 3/79 من حديث معقل بن يسار ، به .
عن معقل بن يسار ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً ثُمَّ لم يُحِطْها بنصيحةٍ إلا لم يَدْخُلِ الجنة ) .
وقد ذكر الله في كتابه عن الأنبياء عليهم السَّلامُ أنَّهم نصحوا لأممهم كما أخبر بذلك(1) عن نوحٍ ، وعن صالح ، وقال تعالى (2) : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ } (3) يعني : أنَّ من تخلف عن الجهادِ لعذر ، فلا حرج عليه بشرط أنْ يكونَ ناصحاً لله ورسوله في تخلُّفِهِ ، فإنَّ المنافقين كانوا يُظهرون الأعذارَ كاذبين ، ويتخلَّفون عن الجهاد من غير نصح لله ورسوله .
وقد أخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الدينَ(4) النصيحةُ ، فهذا يدلُّ على أنَّ النصيحة تَشْمَلُ خصالَ الإسلام والإيمانِ والإحسانِ التي ذكرت في حديث جبريل ، وسمَّى ذلك كُلَّه(5) ديناً ، فإنَّ النُّصح لله يقتضي القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهِها ، وهو مَقام الإحسّان ، فلا يكملُ النُّصحُ لله بدون ذلك ، ولا يتأتى ذلك بدون كمال المحبة الواجبة والمستحبة ، ويستلزم ذلك الاجتهاد في التقرَّب إليه بنوافل الطاعات على هذا الوجه وترك المحرَّمات والمكروهات على هذا الوجه أيضاً .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) تعالى ) لم ترد في ( ج ) .
(3) التوبة : 91 .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( عند الله ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
وفي مراسيل الحسن ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أرأيتُم لو كان لأحدكم عبدانِ ، فكان أحدهما يُطِيعُه إذا أمره ، ويُؤدي إليه إذا ائتمنه ، وينصح له إذا غابَ عنه ، وكان الآخر يَعصيه إذا أمره ، ويخونُه إذا ائتمنه ، ويغِشُّه إذا غاب عنه كانا
سواء ؟ ) قالوا : لا ، قال : ( فكذاكم أنتم عند الله - عز وجل - )(1) خرَّجه ابنُ أبي
الدنيا .
وخرَّج الإمام أحمد(2) معناه من حديث أبي الأحوص ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - .
وقال الفضيل بنُ عياض : الحبُّ أفضلُ من الخوف ، ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يُحبك ، والآخر يخافك ، فالذي يُحبّك منهما ينصحُك(3) شاهداً كنت أو غائباً لِحبه إيَّاك ، والذي يخافك عسى أنْ ينصحَك إذا شَهِدْتَ لما يخاف ، ويغشك إذا غبتَ ولا ينصحُك(4) .
قال عبدُ العزيز بن رفيع : قال الحواريون لعيسى - عليه السلام - : ما الخالصُ من
العمل ؟ قال : ما لا تُحِبُّ أنْ يَحْمَدَك الناسُ عليه ، قالوا : فما النصحُ لله ؟ قال : أنْ تبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس ، وإنْ عَرَض لكَ أمران : أحدهما لله ، والآخرُ للدنيا ، بدأت بحقِّ الله تعالى(5) .
قال الخطابيُّ : النصيحةُ كلمةٌ يُعبر بها عن جملة هي إرادةُ الخيرِ للمنصوح له ، قال : وأصلُ النصح في اللغة الخُلوص ، يقال : نصحتُ العسل : إذا خلصتَه من الشمع .
__________
(1) أخرجه : البيهقي في كتاب " الزهد الكبير " 2/285 ، وإسناده ضعيف لإرساله .
(2) في " مسنده " 4/137 .
وأخرجه : الحميدي ( 883 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 622 ) عن أبي الأحوص ، عن أبيه ، به ، وهو حديث صحيح .
(3) عبارة : ( منهما ينصحك ) سقطت من ( ص ) .
(4) انظر : التخويف من النار للمصنف : 17 .
(5) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 308 ) ، وابن أبي حاتم في " التفسير " ( 10207 ) عن أبي ثمامة الصائدي ، به .
وانظر : نوادر الأصول للحكيم الترمذي 2/27 .
فمعنى النصيحة لله سبحانه : صحةُ الاعتقادِ في وحدانيته ، وإخلاصُ النية في
عبادته ، والنصيحة لكتابه : الإيمانُ به ، والعمل بما فيه ، والنصيحة لرسوله : التصديق بنبوّته ، وبذل الطاعة له فيما أمَرَ به ، ونهى عنه ، والنصيحةُ لعامة المسلمين : إرشادُهم إلى مصالحهم . انتهى(1) .
وقد حكى الإمامُ أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتاب " تعظيم قدر
الصَّلاة " (2) عن بعض أهلِ العلم أنَّه فسَّر هذا الحديث بما لا مزيدَ على حسنه ، ونحن نحكيه هاهنا بلفظه . قال محمد بن نصر : قال بعض أهل العلم : جماعُ تفسير النصيحة هو عنايةُ القلب للمنصوح له مَنْ كان ، وهي على وجهين : أحدهما
فرض ، والآخر نافلة ، فالنصيحةُ المفترضة لله : هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترض ، ومجانبة ما حرَّم .
وأما النصيحة التي هي نافلة ، فهي إيثار مَحبته على محبة نفسه ، وذلك أنْ يَعْرِض أمران ، أحدهما لنفسه ، والآخرُ لربه ، فيبدأ بما كان لربه ، ويؤخر ما كان لنفسه ، فهذه جملة تفسير النصيحة لله ، الفرض منه والنافلة ، ولذلك تفسير ، وسنذكر بعضَه لِيفهم (3) بالتفسير من لا يفهم الجملة .
__________
(1) انظر : حاشية السندي 1/158 .
(2) " تعظيم قدر الصلاة " 2/691-694 .
(3) في ( ص ) : ( وكذلك فصل تفسيره بعضهم ليفهم ) .
فالفرضُ منها مجانبةُ نهيه ، وإقامةُ فرضه بجميع جوارحه ما كان مطيقاً له ،
فإنْ عَجَزَ عن الإقامة بفرضه لآفة حَلَّتْ به من مرض ، أو حبس ، أو غير ذلك ،
عزم على أداء ما افترض عليه متى زالت عنه العلةُ المانعةُ له ، قال الله - عز وجل - : { لَيْسَ
عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } (1) ، فسماهم محسنين لِنصيحتهم لله بقلوبهم لمَّا مُنِعُوا من الجهاد بأنفسهم .
وقد ترفع الأعمالُ كُلُّها عن العبد في بعض الحالات ، ولا يُرفع عنه النصحُ
لله ، فلو كان من المرض بحالٍ لا يُمكنه عملٌ بشيء من جوارحه بلسانٍ ولا غيره ،
غير أنَّ عقلَه ثابتٌ ، لم يسقط عنه النصحُ لله بقلبه(2) وهو أنْ يندمَ على ذنوبه ، وينويَ إنْ صحَّ أنْ يقومَ بما افترض الله عليه ، ويجتنبَ ما نهاه عنه ، وإلا كان غير ناصح لله بقلبه .
وكذلك النصحُ لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أوجبه على الناس عن أمرِ ربه ، ومن النصح الواجب لله أنْ لا يرضى بمعصية العاصي ، ويُحِبَّ طاعةَ من أطاعَ الله ورسولَه .
وأما النصيحةُ التي هي نافلةٌ لا فرض (3) : فبذل المجهود بإيثار الله تعالى على كُلِّ محبوب بالقلب وسائرِ الجوارح حتى لا يكونَ في الناصح فضل عن غيره ، لأنَّ الناصحَ إذا اجتهد لم يؤثر نفسه عليه، وقام بكُلِّ ما كان في القيام به سرورُه ومحبتُه ، فكذلك الناصحُ لربه ، ومن تنفَّل لله بدون الاجتهاد ، فهو ناصح على قدر عمله ، غير مستحق للنصح بكماله .
__________
(1) التوبة : 91 .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( وكذا النصح لرسوله فيما أوجبه على الناس ) .
(3) عبارة : ( لا فرض ) سقطت من ( ص ) .
وأما النصيحة لكتاب الله ، فشدةُ حبه وتعظيمُ قدره ، إذ هو كلامُ الخالق ،
وشدةُ الرغبة في فهمه ، وشدةُ العناية(1) لتدبره والوقوف عند تلاوتهِ ؛ لِطلب معاني ما أحبَّ مولاه أنْ يفهمه عنه ، ويقوم به له بعدَ ما يفهمه ، وكذلك الناصحُ من العباد يفهم وَصِيَّةَ من ينصحه ، وإنْ ورد عليه كتابٌ منه ، عُني بفهمه ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه ، فكذلك الناصحُ لِكتاب ربه ، يعنى بفهمه ؛ ليقوم لله بما أمر به كما يحب ويرضى ، ثم يَنْشُرُ ما فهم في العباد ويُديم دراسته بالمحبة له ، والتخلق بأخلاقه ، والتأدُّب بآدابه .
وأما النصيحة للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - في حياته: فبذل المجهود في طاعته ونصرته ومعاونته، وبذل المال إذا أراده والمسارعة إلى محبته . وأما بعد وفاته : فالعناية بطلب سنته ، والبحث عن أخلاقه وآدابه ، وتعظيم أمره ، ولزوم القيام به ، وشدَّة الغضب ، والإعراض عمَّن تديَّن بخلاف سنته ، والغضب على من ضيعها لأثرة دنيا ، وإنْ كان متديناً بها ، وحبّ مَنْ كان منه بسبيلٍ من قرابة ، أو صِهرٍ ، أو هِجرةٍ أو نُصرةٍ ، أو صحبة ساعة من ليلٍ أو نهارٍ على الإسلام والتشبه به في زيِّه ولباسه .
وأما النصيحةُ (2) لأئمة المسلمين : فحبُّ صلاحِهم ورشدهِم وعدلهم ، وحبُّ اجتماع الأمة عليهم ، وكراهةُ افتراقِ الأمة عليهم ، والتدينُ بطاعتهم في طاعة الله - عز وجل - ، والبغضُ لمن رأى الخروجَ عليهم ، وحبُّ(3) إعزازهم في طاعة الله - عز وجل - .
__________
(1) عبارة : ( فهمه وشدة العناية ) سقطت من ( ص ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( لكتابه ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
وأما النصيحةُ للمسلمين : فأنْ يُحِبَّ لهم ما يُحِبُّ لنفسه ، ويكره لهم
ما يكره لنفسه ، ويُشْفِقَ عليهم ، ويرحمَ صغيرهم ، ويُوَقِّرَ كبيرَهم ، ويَحْزَنَ
لحزنهم ، ويفرحَ لفرحهم ، وإنْ ضرَّه ذلك في دنياه كرخص أسعارهم ، وإنْ
كان في ذلك فواتُ ربح ما يبيعُ من تجارته ، وكذلك جميعُ ما يضرُّهم عامة ، ويحب صلاحَهم وألفتَهم ودوامَ النعم عليهم ، ونصرَهم على عدوهم ، ودفعَ كل أذى ومكروه عنهم .
وقال أبو عمرو بن الصلاح (1) : النصيحة كلمةٌ جامعة تتضمَّنُ قيامَ الناصح للمنصوح له بوجوهِ الخير إرادةً وفعلاً.
فالنصيحةُ لله تعالى : توحيدُه ووصفُه بصفاتِ الكمال والجلال ، وتنزيهُه عما يُضادُّها ويخالِفُها ، وتجنبُ معاصيه ، والقيامُ بطاعته ومحابه بوصفِ الإخلاصِ ، والحبُّ فيه والبغض فيه ، وجهادُ مَنْ كفر به تعالى وما ضاهى ذلك ، والدعاءُ إلى ذلك ، والحثُّ عليه .
والنصيحةُ لكتابه : الإيمانُ به وتعظيمُه وتنزيهُه ، وتلاوتُه (2) حَقَّ تلاوته ، والوقوفُ مع أوامره ونواهيه ، وتفهُّم علومه وأمثاله ، وتدبرُ آياته ، والدعاءُ إليه ،
وذبُّ تحريف الغالين(3) وطعنِ الملحدين عنه .
__________
(1) " صيانة صحيح مسلم " : 223-224 .
(2) عبارة : ( حق تلاوته ) سقطت من ( ص ) .
(3) الذب : يذب ذباً : دفع ومنع . تاج العروس 2/419 ( ذيب ) .
والتحريف : هو تغيير الكلمة عن معناها . العين : 183 ( حرف ) .
والغالين : من غلا : غلا الرجل في الأمر غُلواً : جاوز الحد . مجمل اللغة 3/683 ( غلو ) .
ومراد المصنف راجعه في كتاب " شرح التبصرة والتذكرة " 1/332-334 مع تعليقي عليه .
والنصيحةُ لِرسوله قريب من ذلك(1) : الإيمان به وبما جاء به وتوقيرُه وتبجيلهُ ، والتمسك بطاعته، وإحياءُ سنته واستنشارة علومه ونشرُها ومعاداةُ من عاداه وعاداها، وموالاةُ من والاه ووالاها ، والتخلقُ بأخلاقه ، والتأدبُ بآدابه ومحبة آله وصحابته ونحو ذلك .
والنصيحة لأئمة المسلمين : معاونتُهم على الحق ، وطاعتُهم فيه ، وتذكيرهم به ، وتنبيههم في رفق ولطف ، ومجانبة الوثوب عليهم ، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك .
والنصيحةُ لعامة المسلمين : إرشادُهم إلى مصالحهم ، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم ، وستر عوراتهم ، وسدِّ خلاتهم ، ونصرتهم على أعدائهم ، والذبّ عنهم ، ومجانبة الغش والحسد لهم ، وأنْ يحبَّ لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه ، وما شابه ذلك ، انتهى ما ذكره (2).
ومن أنواع نصحهم بدفع الأذى والمكروه عنهم : إيثارُ فقيرِهم وتعليمُ جاهلهم، وردُّ من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل بالتلطف في ردِّهم إلى الحق ، والرفقُ بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محبة لإزالة فسادهم ولو بحصول ضررٍ له في دنياه ، كما قال بعضُ السَّلف : وددتُ أنَّ هذا الخلق أطاعوا الله وأنَّ لحمي قُرِضَ بالمقاريضِ(3) ، وكان عمرُ بن عبد العزيز يقول : يا ليتنِي عملتُ فيكم
بكتابِ الله وعملتُم به ، فكلما عملتُ فيكم بسنة ، وقع منى عضوٌ حتى يكونَ آخر شيءٍ منها خروج نفسي .
__________
(1) عبارة : ( قريب من ذلك ) سقطت من ( ص ) .
(2) أي : ابن الصلاح .
(3) هذا قول زهير بن نعيم البابي . انظر : صفوة الصفوة لابن الجوزي 4/7 ، وتهذيب الكمال للمزي 3/40 ، وتهذيب التهذيب لابن حجر 3/312 .
ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله - وهو مما يختص به العلماء -
ردُّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة ، وبيانُ دلالتهما على ما يُخالف الأهواء
كلها ، وكذلك ردُّ الأقوال الضعيفة من زلات العلماء ، وبيانُ دلالة الكتاب والسنة على ردِّها ، ومن ذلك بيان ما صحَّ من حديث النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ومالم يصح منه بتبين حالِ رواته ومَنْ تُقْبَلُ رواياته منهم ومن لا تُقبل ، وبيان غلط مَنْ غلط من ثقاتهم الذين تقبل روايتهم .
ومن أعظمِ أنواع النصح أنْ يَنْصَحَ لمن استشاره في أمره ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - :
( إذا استَنْصَحَ أحدُكُم أخاه ، فليَنْصَحْ له ) (1) ، وفي بعض الأحاديث : ( إنَّ من حقِّ المسلم على المسلم أنْ ينصحَ له إذا غابَ ) (2) ومعنى ذلك : أنَّه إذا ذكر في غيبه بالسوء أنْ ينصره ، ويرد عنه ، وإذا رأى من يريد أذاه في غيبه ، كفه عن ذلك ، فإنَّ النصح في الغيب يدلُّ على صدق النصح، فإنَّه قد يظهر النصحَ في حضوره تملقاً، ويغشه في غيبه .
وقال الحسن : إنَّك لن تَبْلُغ حقَّ نصيحتك لأخيك حتى تأمره بما تَعْجَزُ عنه .
قال الحسن : وقال بعضُ أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده إنْ شئتم لأقسمنَّ لكم بالله إنَّ أحبَّ عبادِ الله إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده ويُحببون عباد الله إلى الله ، ويسعون في الأرض بالنصيحة(3) .
__________
(1) سبق تخريجه وهو في " مسند الإمام أحمد " 3/418 .
(2) أخرجه : أحمد 2/321 ، والترمذي ( 2737 ) ، والنسائي 4/53 وفي " الكبرى " ، له
( 2065 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8753 ) من حديث أبي هريرة ، به ، وقال الترمذي : ( حديث صحيح ) .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الأولياء " 1/20 عن رجل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، به .
وقال فرقد السَّبَخِيُّ : قرأتُ في بعض الكتب : المحبُّ لله - عز وجل - أميرٌ مُؤَمَّرٌ على الأمراء ، زمرتُه أوَّلُ الزمر يومَ القيامة ، ومجلسُه أقربُ المجالس فيما هناك والمحبةُ
منتهى القربة والاجتهاد ، ولن يسأَمَ المحبون من طول اجتهادهم لله - عز وجل - ، يحبُّونه ويُحِبُّونَ ذكره ، ويُحبِّبونه إلى خلقه ، يمشون بَيْنَ عباده بالنصائح ، ويخافون عليهم من أعمالهم يومَ تبدو الفضائح ، أولئك أولياءُ الله وأحبَّاؤه وأهلُ(1) صفوته ، أولئك الذين لا راحةَ لهم دونَ لقائه .
وقال ابنُ عُلَيَّةَ في قول أبي بكر المزني : ما فاق أبو بكر - رضي الله عنه - أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصومٍ ولا صلاةٍ ، ولكن بشيء كان في قلبه ، قال : الذي كان في قلبه الحبُّ لله - عز وجل - ، والنصيحة في خلقه .
وقال الفضيلُ بن عياض : ما أدركَ عندنا مَنْ أدرك بكثرة الصلاة والصيام ، وإنما أدرك عندنا بسخاءِ الأنفس ، وسلامةِ الصدور ، والنصح للأمة(2) .
وسئل ابنُ المباركَ : أيُّ الأعمال أفضلُ ؟ قال : النصحُ لله .
وقال معمر : كان يقال : أنصحُ الناسِ لك مَنْ خاف الله فيك .
وكان السَّلفُ إذا أرادوا نصيحةَ أحدٍ ، وعظوه سراً حتّى قال بعضهم : مَنْ وعظ أخاه فيما بينه وبينَه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنَّما وبخه(3).
وقال الفضيل : المؤمن يَسْتُرُ ويَنْصَحُ ، والفاجرُ يهتك ويُعيِّرُ .
وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كان مَنْ كان قبلكم إذا رأى الرجلُ من أخيه شيئاً يأمره في رفق ، فيؤجر في أمره ونهيه ، وإنَّ أحد هؤلاء يخرق بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك ستره .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/103 ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 10891 ) .
(3) قال الشافعي : من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه .
أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/140 .
وسئل ابنُ عباس - رضي الله عنهما - عن أمر السلطان بالمعروف ، ونهيه عن المنكر ، فقال : إنْ كنت فاعلاً ولابدَّ ، ففيما بينك وبينه(1) .
وقال الإمام أحمد رحمه الله : ليس على المسلم نصحُ الذمي ، وعليه نصحُ المسلم . وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( والنصح لكل مسلم ، وأنْ ينصح لجماعةِ المسلمين وعامتهم )(2) .
__________
(1) أخرجه: سعيد بن منصور في " سننه " ( 846 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 7592 ).
(2) سبق تخريجه .
الحديث الثامن
عَنِ ابن عُمَرَ - رضيَ الله تعالَى عَنْهُما - : أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : ( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلاَّ الله، وأَنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاةَ ، ويُؤْتُوا الزَّكاةَ ، فإذا فَعَلوا ذلكَ ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهُم وأَموالَهُم، إلاَّ بِحَقِّ الإسلامِ ، وحِسَابُهُم على اللهِ تَعالَى ) رَوَاهُ البُخاريُّ ومُسلِمٌ .هذا الحديث خرّجاه في " الصحيحين " (1) من رواية واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمر .
وقوله : ( إلا بحقِّ الإسلام ) هذه اللفظة تفرَّد بها البخاري(2) دون مسلم .
وقد روي معنى هذا الحديث عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددةٍ ففي " صحيح
البخاري " (3)
__________
(1) صحيح البخاري 1/12 ( 25 ) ، وصحيح مسلم 1/39 ( 22 ) ( 36 ) .
وأخرجه : ابن حبان ( 175 ) و( 219 ) ، والدارقطني 1/232 ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 4 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 25 ) ، والبيهقي 3/92 و367 و8/177 ، والبغوي في " شرح السنة " ( 33 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
(2) في " صحيحه " 1/12 ( 25 ) .
(3) صحيح البخاري 1/108 ( 392 ) .
وأخرجه : أحمد 3/199 و224 و225 ، وأبو داود ( 2641 ) و( 2642 ) ، والترمذي
( 2608 ) ، والنسائي 7/75 و76 و8/109 وفي " الكبرى " ، له ( 3414 ) و( 3415 ) ، وابن حبان ( 5895 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
عن أنسٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أُمِرتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتّى يَشهَدُوا أنْ لا إله إلاَّ الله ، وأنَّ مُحمَّداً عبدُه ورسولُهُ ، فإذا شَهِدُوا أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسولُ الله ، وصَلَّوا صَلاتَنا ، واستَقْبَلُوا قِبلَتَنا ، وأكلُوا ذَبِيحَتنا ، فقَدْ حَرُمَتْ علينا دِماؤُهم وأموالُهم إلاَّ بحقِّها ) .
وخرَّجَ الإمامُ أحمد(1) من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( إنَّما أُمِرْتُ أنْ أقاتلَ الناسَ حتى يُقيموا الصلاة ، ويُؤْتُوا الزكاة ، ويَشهَدوا أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريكَ(2) له ، وأنَّ محمداً عبده ورسوله ، فإذا فَعَلوا ذلك ، فقد اعتصَمُوا(3) وعَصَمُوا دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقِّها ، وحِسابُهُم على اللهِ - عز وجل - ) .
وخرَّجه ابن ماجه مختصراً(4) .
وخرَّج نحوه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضاً(5) ، ولكن المشهور من رواية أبي هريرة ليس فيه ذكرُ : إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة ، ففي " الصحيحين " (6)
__________
(1) في " مسنده " 5/246 .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 113 ) ، وابن ماجه ( 72 ) ، والبزار ( 2669 )
و( 2670 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 7 ) ، وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب .
(2) عبارة : ( وحده لا شريك له ) لم ترد في ( ص ) .
(3) فقد اعتصموا ) لم ترد في ( ص ) .
(4) في " سننه " ( 72 ) .
(5) في " سننه " ( 71 ) ، وسنده منقطع .
(6) صحيح البخاري 2/131 ( 1399 ) و4/58 ( 2946 ) و9/19 ( 6924 ) و9/115
( 7284 ) و( 7285 ) ، وصحيح مسلم 1/38 ( 20 ) ( 32 ) و1/38-39 ( 21 ) ( 33 ) و( 34 ) و( 35 ) . =
= ... وأخرجه : الطيالسي ( 2441 ) ، وأحمد 1/11 و2/314 و345 و377 و423 و439 و475 و482 و502 و528 ، وأبو داود ( 2640 )، وابن ماجه ( 3927 )، والترمذي ( 2606 ) ، والنسائي 5/14 و6/4 و6 و7 و7/77 و78 و79 وفي "الكبرى" ، له ( 3418 ) و( 3419 ) و( 3420 ) و( 3421 ) و( 3422 ) و( 3423 ) و( 3424 ) و( 3425 ) و( 3426 ) ، وابن الجارود ( 1032 ) ، وابن خزيمة ( 2248 )، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/115 ، وابن حبان ( 174 ) و( 216 ) و( 217 ) و( 218 ) و( 220 ) من حديث أبي هريرة ، به .
عن أبي هُريرة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أُمِرتُ أنْ أقاتِلَ الناس حتَّى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله عَصَمَ منِّي مالَه ونَفسَهُ إلا بحقِّه ، وحِسَابُه على الله - عز وجل - ) وفي رواية لمسلم (1): ( حتّى يَشهَدوا أنْ لا إله إلا الله ، ويُؤمِنوا بي وبما جئتُ به ) .
وخرَّجه مسلم(2) أيضاً من حديث جابر - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بلفظ حديث أبي هريرة الأوَّل وزاد في آخره : ثم قرأ : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ } (3) .
وخرّج أيضاً (4) من حديث أبي مالك الأشجعي ، عن أبيه قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : ( مَنْ قالَ : لا إله إلاَّ الله وكَفَرَ بما يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ حُرِّمَ مالُه ودَمُه
وحسابه على الله - عز وجل - ) .
وقد رُوي عن سفيان بن عُيينة أنَّه قال : كان هذا في أوَّل(5) الإسلام قَبْلَ فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة ، وهذا ضعيف جداً ، وفي صحته عن سفيان نَظَر ، فإنَّ رواة هذه الأحاديث إنما صحبوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ، وبعضُهُم تأخَّر إسلامُه .
__________
(1) في " صحيحه " 1/39 ( 21 ) ( 34 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(2) في " صحيحه " 1/39 ( 21 ) ( 35 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 10021 ) و( 19251 ) ، وأحمد 3/300 ، وابن ماجه ( 3928 ) ، والترمذي ( 3341 ) ، والنسائي 7/79 وفي " الكبرى " ، له ( 3425 )
و( 11606 ) ، وأبو يعلى ( 2282 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به .
(3) الغاشية : 21-22 .
(4) صحيح مسلم 1/39 ( 23 ) ( 37 ) و1/40 ( 23 ) ( 38 ) .
(5) في ( ص ) : ( بدو ) .
ثم قوله : ( عَصَمُوا منِّي دماءهُم وأموالَهُم ) يدلُّ على أنَّه كان عند هذا القول مأموراً بالقتال ، وبقتل من أبى الإسلام ، وهذا كُلُّه بعد هجرته إلى المدينة ، ومن المعلوم بالضرورة أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل مِنْ كل منْ جاءه يريدُ الدخولَ في الإسلامِ الشهادتين فقط ، ويَعْصِمُ دَمَه بذلك ، ويجعله مسلماً ، فقد أنكر على أسامة بن زيد قتلَه لمن قال : لا إله إلا الله ، لما رفع عليه السيفَ ، واشتدَّ نكيرُه عليه(1) .
ولم يكن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يشترطُ على مَنْ جاءه يريدُ الإسلامَ أنَّ يلتزمَ الصلاة والزكاة ، بل قد روي أنَّه قبل من قومٍ الإسلام ، واشترطوا أنْ لا يزكوا ، ففي " مسند الإمام
أحمد "(2) عن جابر قال : اشترطت ثقيفٌ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا صدقةَ عليها ولا جهادَ ، وأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( سَيَصَّدَّقُون ويُجاهدون ) .
وفيه أيضاً عن نصر بن عاصم الليثي ، عن رجل منهم : أنَّه أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأسلم على أنْ لا يُصلي إلا صلاتين ، فقبل منه(3) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/200 و207 ، والبخاري 5/183 ( 4269 ) ، 9/4 ( 6872 ) ، ومسلم 1/67 ( 96) ( 158 ) و1/68 ( 96 ) ( 159 ) ، وأبو داود ( 2643 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 8540 ) و( 8541 ) من حديث أسامة بن زيد ، به .
(2) المسند 3/341 .
وأخرجه : أبو داود ( 3025 ) ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 5/306 ، وهو حديث صحيح .
(3) أخرجه : أحمد 5/25 ، وإسناده كلهم ثقات غير هذا المبهم الذي حدّث نصر بن عاصم . وانظر : المغني 10/625 .
وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث ، وقال : يصحُّ الإسلامُ على الشرط الفاسد ، ثم يُلزم بشرائع الإسلام كُلها ، واستدلَّ أيضاً بأنَّ حكيم بنَ حِزام قال : بايعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على أن لا أَخِرَّ إلاّ قائماً(1) . قال أحمد : معناه أنْ يسجد من غير ركوع(2) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 3/402 ، والنسائي 2/205 وفي " الكبرى " ، له ( 675 ) ، والطبراني في
" الكبير " ( 3106 ) ، وإسناده ضعيف لإنقطاعه .
قوله : بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا أخر إلا قائماً :
من الخرور : وهو السقوط ، يقال : خَرَّ يَخِرُّ بالكسر ، وَخَرَّ يخُر بالضم : إذا سقط من عُلو .
انظر : النهاية في غريب الحديث 1/370 .
(2) انظر : المغنى 10/625 .
وخرَّج محمد بنُ نصر المروزيُّ(1) بإسنادٍ ضعيف جداً عن أنس قال : لم يكن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقبل مَنْ أجابه إلى الإسلام إلاّ بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وكانتا فريضتين على مَنْ أقرَّ بمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وبالإسلام ، وذلك قولُ الله - عز وجل - : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } (2) وهذا لا يثبت ، وعلى تقدير ثبوته ، فالمرادُ منه أنَّه لم يكن يُقِرُّ أحداً دخل في الإسلام على ترك الصَّلاةِ والزكاة وهذا حقٌّ ، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذاً لما بعثه إلى اليمن أنْ يدعُوَهُم أوَّلاً إلى الشهادتين ، وقال : ( إنْ هُم أطاعوا لذلك ، فأعلمهم بالصلاة ، ثم بالزكاة )(3) ومرادُه أنَّ من صار مسلماً بدخوله في الإسلام أمر(4) بعد ذلك بإقام الصلاة ، ثم بإيتاء الزكاة ، وكان من سأله عن الإسلام يذكر له مع الشهادتين بقية أركان(5) الإسلام ، كما قال لجبريل - عليه السلام - لما سأله عن الإسلام(6) ، وكما قال للأعرابيِّ الذي جاءه ثائر الرأس يسأل عن الإسلام(7) .
__________
(1) في " تعظيم قدر الصلاة " ( 12 ) .
(2) المجادلة : 13 .
(3) أخرجه : الشافعي في " مسنده " ( 673 ) بتحقيقي ، والدارمي ( 1614 ) و( 1622 )
و( 1631 ) ، والبخاري 2/130 ( 1395 ) و2/147 ( 1458 ) و2/158 ( 1496 ) و5/205 ( 4347 ) و9/140 ( 7371 ) ( 7372 ) ، ومسلم 1/38 ( 19 ) ( 30 ) من حديث ابن عباس ، به .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) تقدم تخريجه .
(7) أخرجه: البخاري 1/18 ( 46 ) و3/30 ( 1891 ) و3/235 ( 2678 ) و9/29 ( 6956 )، ومسلم 1/31 ( 11 ) ( 8 ) و1/32 ( 11 ) ( 9 ) من حديث طلحة بن عبيد الله .
وبهذا الذي قرَّرناه يظهر الجمع بين ألفاظ(1) أحاديث هذا الباب ، ويتبين أنَّ كُلَّها
حقٌّ ، فإنَّ كلمتي الشهادتين بمجردهما تَعْصِمُ من أتى بهما ، ويصير بذلك مسلماً ، فإذا دخل في الإسلام ، فإنْ أقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وقام بشرائع الإسلام ، فله ما
للمسلمين ، وعليه ما عليهم ، وإنْ أخلَّ بشيء من هذه الأركان ، فإنْ كانوا جماعةً لهم مَنَعَةٌ قُوتِلوا .
وقد ظنَّ بعضُهم أنَّ معنى الحديثِ : أنَّ الكافرَ يُقاتل حتى يأتي بالشهادتين ، ويقيمَ
الصلاة ، ويؤتيَ الزكاة ، وجعلوا ذلك حجةً على خطاب الكفار بالفروع ، وفي هذا
نظر ، وسيرة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قتال الكفار تَدُلُّ على خلاف هذا ، وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا علياً يومَ خيبر ، فأعطاه الراية وقال : ( امشِ ولا تَلتَفِتْ حتّى يفتَحَ الله عليكَ ) فسار عليٌّ شيئاً ، ثم وقف ، فصرخ : يا رسولَ الله على ماذا أُقاتِلُ الناس ؟ فقال : ( قاتلهم على أنْ يشهدوا أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً
رسول اللهِ ، فإذا فَعلُوا ذلك ، فقدْ عَصَموا منكَ دِماءهُم وأموالَهم إلاّ بحقِّها ، وحِسابُهُم على الله - عز وجل - ) فجعل مجرَّد الإجابة إلى الشهادتين عاصمة للنفوس والأموال إلا بحقها ، ومِنْ حقها الامتناعُ من الصلاة والزكاة بعدَ الدخول في الإسلام كما فهمه الصحابة - رضي الله عنهم -(3) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) الصحيح 7/121 ( 2405 ) ( 33 ) و( 2406 ) ( 34 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 2441 ) ، وأحمد 2/384 ، والنسائي في " الكبرى " ( 8546 )
و( 8547 ) و( 8549 ) .
(3) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/59 ، وفتح الباري 1/104 .
ومما يدلُّ على قتال الجماعة الممتنعين من إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة من القرآن قولُه تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } (1) وقولُه تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } (2) وقولُه تعالى :
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ } (3) مع قوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ } (4) .
وثبت أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا قوماً لم يُغِرْ عليهم حتى(5) يُصبحَ فإنْ سمع أذاناً وإلا أغارَ عليهم ، مع احتمال أنْ يكونوا قد دخلُوا في الإسلام(6) . وكان يُوصي سراياه : ( إنْ سمعتُم مؤذناً أو رأيتم مسجداً ، فلا تقتلوا أحداً )(7) .
__________
(1) التوبة : 5 .
(2) التوبة : 11 .
(3) البقرة : 193 .
(4) البينة : 5 .
(5) في ( ص ) : ( إذا غزا لم يغر حتى ) .
(6) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 1345 ) برواية يحيى الليثي ، والطيالسي ( 2127 ) ، وأحمد 3/159 و206 و236 و237 و263 ، والبخاري 1/158 ( 610 ) و4/58 ( 2943 )
و( 2944 ) و( 2945 ) ، وأبو داود ( 2596 ) و( 2638 ) ، والترمذي ( 1550 ) ، والنسائي في "الكبرى" ( 8544 ) ، وأبو يعلى ( 2908 ) و( 3804 ) ، وابن حبان ( 4745 ) و( 4746 ) ، والبيهقي 9/79 و80 و108 ، والبغوي ( 2702 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(7) أخرجه : الحميدي ( 820 ) ، وسعيد بن منصور ( 2385 ) ، وأحمد 3/448 ، وأبو داود
( 2635 ) ، والترمذي ( 1549 ) ، والبزار ( 1731 ) ، والطبراني في "الكبير" 17/( 467 ) ، والبيهقي 9/108 ، والبغوي ( 2703 ) من حديث عصام المزني ، وإسناده ضعيف لجهالة ابن عصام .
وقد بعث عُيينة بنَ حِصنٍ إلى قوم من بني العنبر ، فأغار عليهم ولم يسمع أذاناً ، ثم ادَّعوا أنَّهم قد أسلموا قبل ذلك .
وبعث - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل عُمان كتاباً فيه : ( مِنْ محمد النَّبيِّ إلى أهل عُمان ، سلامٌ أما بعدُ : فأقِرُّوا بشهادةِ أنْ لا إله إلا الله ، وأنِّي رسولُ الله ، وأدُّوا الزكاة ، وخُطوا المساجد ، وإلا غَزَوْتُكم ) خرَّجه البزار والطبراني وغيرهما(1) .
فهذا كله يدلُّ على أنَّه كان يعتبر حالَ الداخلين في الإسلام ، فإنْ أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة وإلا لم يمتنع عن قِتالهم ، وفي هذا وقع تناظرُ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما(2) كما في " الصحيحين "(3) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : لمَّا توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر الصديق بعده(4) ، وكَفَرَ مَنْ كَفَر مِنَ العربِ ، قال عمر لأبي بكر : كيف تُقاتلُ الناسَ وقد قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أُمِرتُ أنْ أقاتِلَ الناسَ حتّى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله ، فقد عَصَم منِّي ماله ونفسَه إلا بحقه وحسابُه على الله - عز وجل - ) فقال أبو بكر : والله لأقاتلَنَّ من فرَّق بين الصَّلاة والزكاة فإنَّ الزكاة حقُّ المال ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتُهم على منعه ، فقال عمر : فوالله ما هو إلا أنْ رأيتُ أنَّ الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفتُ أنَّه الحق .
__________
(1) أخرجه : البزار ( 880 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 6849 ) من حديث أبي شداد ، به ، وإسناده ضعيف ، انظر : مجمع الزوائد 3/64 .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/53 .
(3) أخرجه : البخاري 2/131 ( 1399 ) و4/58 ( 2946 ) و9/19 ( 6924 ) و9/115
( 7284 ) و( 7285 ) ، ومسلم 1/38 ( 20 ) ( 32 ) و1/38-39 ( 21 ) ( 33 )
و( 34 ) و( 35 ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
فأبو بكر - رضي الله عنه - أخذ قتالهم من قوله : ( إلا بحقه ) فدلَّ على أنَّ قتال من أتى بالشهادتين بحقه جائز ، ومن حقه أداء حقِّ المالِ الواجب ، وعمر - رضي الله عنه - ظنَّ أنَّ مجرَّد الإتيان بالشهادتين يَعصِمُ الدمَ في الدنيا تمسكاً بعموم أوَّل الحديث كما ظنَّ طائفة من الناس أنَّ من أتى بالشهادتين امتنع من دخول النار في الآخرة تمسكاً(1) بعموم ألفاظ وردت ، وليس الأمر على ذلك ، ثم إنَّ عمر رجع إلى موافقة أبي بكر - رضي الله عنه -(2) .
__________
(1) قوله : ( أول الحديث كما ظن ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/53 .
وقد خرَّج النسائي قصةَ تناظر أبي بكر وعمر بزيادة : وهي أنَّ أبا بكر قال لعمر : إنَّما قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أُمرت أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حتّى يَشهدُوا أنْ لا إله إلا الله ، وأنِّي رسولُ الله ، ويُقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة )(1) وخرجه ابنُ خزيمة في
" صحيحه " (2) ، ولكن هذه الرواية أخطأ فيها عمران القطان إسناداً ومتناً ، قاله أئمة الحفاظ ، منهم : علي بن المديني وأبو زرعة وأبو حاتم والترمذي والنسائي ، ولم يكن هذا الحديث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ عند أبي بكر ولا عمر ، وإنَّما قال أبو بكر : والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة ، فإنَّ الزكاة حقُّ المال ، وهذا أخذه - والله أعلمُ - من قوله في الحديث(3) ( إلاّ بحقها ) . وفي رواية : ( إلاّ بحقِّ الإسلام ) فجعل من حقِّ الإسلام إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، كما أنَّ من حقه أنْ لا يرتكب الحدود ، وجعل كل ذلك مما استثنى بقوله : ( إلا بحقها )(4) .
وقوله : لأقاتلنَّ مَنْ فرّق بين الصلاة والزكاة ، فإنَّ الزكاة حقُّ المال ، يدلّ على أنَّ من ترك الصلاة ، فإنَّه يقاتل ؛ لأنَّها حقُّ البدن ، فكذلك من ترك الزكاة التي هي حقُّ المال .
وفي هذا إشارة إلى أنَّ قتال تارك الصلاة أمر مجمع عليه ؛ لأنَّه جعله أصلاً مقيساً عليه ، وليس هو مذكوراً في الحديث الذي احتج به عمر(5) وإنَّما أخذ من قوله : ( إلا بحقها ) فكذلك الزكاة ؛ لأنَّها من حقها ، وكلّ ذلك من حقوق الإسلام(6) .
__________
(1) أخرجه : النسائي في " المجتبى " 5/14-15 عن أبي هريرة ، به .
(2) مختصر المختصر ( 2247 ) من حديث أنس بن مالك ، به ، وانظر تعليقي هناك .
(3) عبارة : ( في الحديث ) لم ترد في ( ص ) .
(4) انظر : السنن للبيهقي 8/177 ، وشرح النووي لصحيح مسلم 2/53 ، وفتح الباري 1/104 .
(5) لم ترد في ( ص ) .
(6) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/53 .
ويُستدلُّ أيضاً على القتال على ترك الصلاة بما في " صحيح مسلم " (1) عن أمِّ سلمةَ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يُستَعْمَل عليكُم أُمراءُ ، فتَعرِفون وتُنكِرون ، فمن أنكرَ فقد بَرِئ ، ومن كَرِهَ فقد سَلِم ، ولكن من رَضِي وتَابَع ) فقالوا : يا رسول الله ألا نُقاتِلُهم ؟ قال : ( لا ما صلَّوا ) .
وحكمُ من ترك شيئاً من(2) أركانِ الإسلام أنْ يُقاتلوا عليها كما يقاتلون على تركِ الصلاة والزكاة .
وروى ابنُ شهاب ، عن حنظلة بن علي بن الأسقع : أنَّ أبا بكر الصِّدِّيق بعث خالدَ بن الوليد ، وأمره أنْ يقاتل الناسَ على خمسٍ ، فمن ترك واحدةً من الخمس ، فقاتله عليها كما تُقاتل على الخمس : شهادةِ أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسول الله ، وإقام الصلاةِ ، وإيتاءِ الزكاةِ ، وصوم رمضان(3) .
وقال سعيد بن جبير : قال عمرُ بن الخطاب : لو أنَّ الناس تركوا الحجَّ لقاتلناهم عليه ، كما نُقاتِلُهم على الصلاة والزكاة . فهذا الكلامُ في قتال الطائفة الممتنعة عن شيء من هذه الواجبات .
__________
(1) الصحيح 6/23 ( 1854 ) ( 64 ) وعقب 6/24 ( 1858 ) ( 64 ) .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 37296 ) ، وأحمد 6/295 و302 و305 و321 ، وأبو داود
( 4760 ) و( 4761 ) ، والترمذي ( 2265 ) ، وأبو يعلى ( 6980 ) ، وأبو عوانة 4/471 و473 ، والطبراني في " الكبير " 23/( 760 ) و( 761 ) و( 762 ) ، والبيهقي 3/367 و8/158 ، وابن عبد البر في " التمهيد " 4/234 ، والبغوي ( 2459 ) .
(2) في ( ج ) : ( سائر ) .
(3) انظر : تعظيم قدر الصلاة ( 975 ) .
وأما قتلُ الواحد الممتنع عنها ، فأكثرُ العلماء على أنَّه يُقتَلُ الممتنع من الصلاة ، وهو قولُ مالك والشافعي وأحمد وأبي عُبيد ، وغيرهم(1) ، ويَدلُّ على ذلك ما في
" الصحيحين "(2) عن أبي سعيد الخدريّ : أنَّ خالدَ بنَ الوليد استأذن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في قتل رجل ، فقال : ( لا ، لعله أنْ يكونَ يُصلي ) ، فقال خالد : وكم مِنْ مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنِّي لم أُومَر أنْ أُنَقِّبَ عن قلوبِ الناسِ ولا أشُقَّ بُطونَهُم(3) ) .
وفي " مسند الإمام أحمد "(4)
__________
(1) قال الإمام ابن رشد القرطبي : ( وأما الواجب على من تركها عمداً وأُمر بها فأبى أنْ يصليها لا جحوداً لفرضها ، فإنَّ قوماً ما قالوا : يقتل ، وقوماً قالوا : يُعزر ويحبس ، والذين قالوا يقتل منهم من أوجب قتله كفراً ، وهو مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك وأبو إسحاق بن شاقلا والحسن البصري والنخعي وأيوب السختياني والشعبي والأوزاعي ومحمد بن الحسن وابن حزم وحماد بن زيد وابن حامد ، ومنهم من أوجبه حَدَّاً وهو مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه . وأهل الظاهر ممن رأى حبسه وتعزيره حتى يُصلي . والسبب في هذا الاختلاف اختلاف الآثار ) .
انظر : بداية المجتهد 1/117 ، والأم 2/563 ، والحاوي الكبير 2/525 ، والإشراف على نكت مسائل الخلاف 1/352 ، والمحلى 2/155-156 ، والانتصار في المسائل الكبار 2/603-604 ، والمغني 2/297-298 ، والذخيرة في فروع المالكية 2/305 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 1/447 ، ومنتهى الإرادات 1/52، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 1/111-112، والفقه الإسلامي وأدلته 1/658 ، وفقه العبادات للعلامة محمد بن صالح العثيمين : 58 و109-110 .
(2) أخرجه : البخاري 5/207 ( 4351 ) ، ومسلم 3/110 ( 1064 ) ( 144 ) .
(3) في ( ص ) : ( قلوبهم ) .
(4) المسند 5/432 و433 .
وأخرجه : أبو داود ( 4928 ) ، والبيهقي 3/367 و8/196 ، وابن عبد البر في " التمهيد " 10/150 و162 و163 و164 و165 و166 و167 ، وهو حديث صحيح .
عن عُبيد الله بن عدي بن الخيار : أنَّ رجلاً منَ الأنصار حدَّثه أنَّه أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في قتل رجلٍ من المنافقين ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
: ( أليس يَشهَدُ أنْ لا إله إلا الله ؟ ) قال : بلى ، ولا شهادة له ، قال : ( أليس
يُصلي ؟ ) قال : بلى ، ولا صلاةَ له ، قال : ( أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ) .
وأما قتلُ الممتنع عن أداءِ الزكاة ، ففيه قولان لمن قال : يقتل الممتنع من فعل الصلاة :
أحدهما: يقتل أيضاً، وهو المشهورُ عن أحمد ، ويستدلُّ له بحديث ابن عمر هذا(1).
والثاني : لا يقتل ، وهو قولُ مالك ، والشافعي ، وأحمد في رواية(2) .
وأما الصوم فقال مالك وأحمد في رواية عنه : يُقتل بتركه(3) ، وقال الشافعي وأحمد في رواية : لا يقتلُ بذلك ، ويستدلُّ له بحديث ابن عمر وغيره مما في معناه ، فإنَّه ليس في شيء منها ذكرُ الصوم ، ولهذا قال أحمد في رواية أبي طالب : الصوم لم يجئ فيه شيء(4) .
قلتُ : قد روي عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً : أنَّ من ترك الشهادتين أو الصلاة أو الصيام ، فهو كافر حلال الدم(5) بخلاف الزكاة والحجِّ(6) . وقد سبق ذكرُه في
شرح (7) حديث : ( بني الإسلام على خمس )(8) .
__________
(1) انظر : الحاوي الكبير 2/526 ، والانتصار في المسائل الكبار 2/613 ، والمغني 2/298 .
(2) انظر : الانتصار في المسائل الكبار 2/613-614 .
(3) انظر : الانتصار في المسائل الكبار 2/613 .
(4) انظر : الانتصار في المسائل الكبار 2/613 .
(5) في ( ص ) : ( المال والدم ) .
(6) أخرجه : اللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1576 ) ، وأبو يعلى ( 2349 ) .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) انظر : الحديث الثالث .
وأما الحج ، فعن أحمد في القتل بتركه روايتان ، وحمل بعضُ أصحابنا روايةَ قتله على من أخَّره عازماً على تركه بالكلية ، أو أخَّره وغلب على ظنه الموت في عامه ، فأما إنْ أخَّره معتقداً أنَّه على التراخي كما يقولُهُ كثيرٌ من العلماء ، فلا قَتلَ بذلك(1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إلا بحقِّها ) وفي رواية : ( إلاّ بحقِّ الإسلام ) قد سبق أنَّ أبا بكر أدخل في هذا الحقِّ فعلَ الصلاة والزكاة ، وأنَّ من العلماء من أدخل فيه فعلَ الصيامِ والحج أيضاً .
ومن حقها ارتكابُ ما يُبيح دمَ المسلم من المحرمات، وقد ورد تفسيرُ حقها بذلك، خرَّجه الطبراني وابنُ جرير الطبري من حديث أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ الناسَ حتّى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها ، عَصَمُوا منِّي دماءهُم وأموالَهم إلا بحقِّها ، وحِسَابُهم على الله - عز وجل - ) قيل : وما حَقُّها ؟ قال : ( زِنىً بعد إحصانٍ ، وكفرٌ بعد إيمانٍ ، وقتلُ نفسٍ ، فيُقتل بها(2) ) ولعلَّ آخِرَه من قولِ أنس ، وقد قيل : إنَّ الصوابَ وقفُ الحديث كله عليه .
ويشهدُ لهذا ما في " الصحيحين "(3)
__________
(1) انظر : الانتصار في المسائل الكبار 2/613-614 ، والمغني 2/298 .
(2) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 3221 ) ، وقال : ( لم يرو هذا اللفظ الذي في آخر الحديث عن حُميد إلاّ أبو خالد الأحمر ، تفرد به عمرو بن هاشم ) .
قلت : عمرو بن هاشم صدوق يخطئ كما في " التقريب " ( 5127 ) .
(3) صحيح البخاري 9/6 ( 6878 ) ، وصحيح مسلم 5/106 ( 1676 ) ( 25 ) و( 26 ) .
وأخرجه : الطيالسي (289 ) ، وعبد الرزاق ( 18704 ) ، والحميدي ( 119 ) ، وأحمد 1/382 و428 و444 و465 ، والدارمي ( 2303 ) و( 2451 ) ، وأبو داود ( 4352 ) ، وابن ماجه ( 2534 ) ، والترمذي ( 1402 ) ، والنسائي 7/90 و8/13 ، وابن الجارود
( 832 ) ، وأبو يعلى ( 5202 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 1804 ) ، والشاشي
( 375 ) و( 376 ) و( 377 ) و( 379 ) ، وابن حبان ( 4407 ) و( 4408 ) و( 5976 ) و( 5977 ) ، والدارقطني 3/68 ( 3071 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والبيهقي 8/19 و194 و202 و213 وفي "شعب الإيمان" ، له ( 5331 ) من حديث عبد الله بن مسعود ، به .
عن ابن مسعود ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مُسلم يَشْهَدُ أنْ لا إله إلا الله ، وأني رسولُ الله إلاّ بإحدى ثلاثٍ : الثَّيِّبِ الزَّاني ، والنفسِ بالنفسِ ، والتَّاركِ لدينه المفارق للجماعة ) ، وسيأتي الكلامُ على هذا الحديث مستوفى عندَ ذكره في موضعه من هذا الكتاب إنْ شاء الله تعالى(1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وحسابُهُم على الله - عز وجل - ) يعني : أنَّ الشهادتين مع إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة تَعصِمُ دمَ صاحبها وماله في الدنيا إلا أنْ يأتيَ ما يُبِيحُ دَمَهُ، وأما في الآخرة، فحسابُه على اللهِ - عز وجل - ، فإنْ كان صادقاً ، أدخله الله بذلك الجنة ، وإنْ كان كاذباً فإنَّه من جملة المنافقين في الدَّرْك الأسفل من النار .
وقد تقدَّم أنَّ في بعض الروايات في " صحيح مسلم " (2) ثم تلا : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } (3) والمعنى : إنَّما عليك تذكيرُهم بالله ، ودعوتهم إليه، ولستَ مسلطاً على إدخالِ الإيمانِ في قلوبهم قهراً ولا مكلفاً بذلك، ثم أخبر أنَّ مرجعَ العبادِ كلهم إليه وحسابُهم عليه(4) .
__________
(1) سيأتي عند الحديث الرابع عشر .
(2) انظر : .
(3) الغاشية : 21-26 .
(4) انظر : تفسير الطبري 15/207-208 ، وتفسير البغوي 5/246 ، والمحرر الوجيز 15/427 ، وتفسير ابن الجوزي 9/100-101 ، وتفسير القرطبي 20/37-38 ، والبحر المحيط 8/459 ، والدر المنثور 6/576 .
وفي " مسند البزار "(1) عن عياض الأنصاري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ لا إله
إلا الله كلمةٌ على اللهِ كريمةٌ ، لها عندَ اللهِ مكانٌ ، وهي كلمةٌ من قالها صادقاً ، أدخله الله بها الجنةَ ، ومن قالها كاذباً حقنت مالَه ودمَه ، ولَقِيَ الله غداً فحاسبه(2) ) .
وقد استدلَّ بهذا من يرى قبولَ توبةِ الزنديقِ ، وهو المنافق إذا أظهر العودَ إلى الإسلام ، ولم يرَ قتله بمجرَّدِ ظهورِ نفاقه ، كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعامِلُ المنافقين ، ويُجريهم على أحكام المسلمين في الظاهر مع علمه بنفاق بعضهم في الباطن ، وهذا قولُ الشافعي وأحمد في رواية عنه ، وحكاه الخطابيُّ عن أكثر العلماء ، والله أعلم(3) .
__________
(1) كشف الأستار ( 4 ) .
(2) في ( ص ) : ( وفي غداً فحاسبه ) .
(3) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/56 .
الحديث التاسع
عَنْ أَبي هُرُيرة - رضي الله عنه - قال : سَمِعتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : ( ما نَهَيتُكُمْ عَنْهُ ، فاجْتَنِبوهُ ، وما أمرتُكُم به ، فأتُوا منهُ ما استطعتُم ، فإنَّما أهلَكَ الَّذين من قبلِكُم كَثْرَةُ مسائِلِهم واختلافُهم على أنبيائِهم ) . رواهُ البخاريُّ ومُسلمٌ(1) .هذا الحديثُ بهذا اللفظ(2) خرَّجه مسلم وَحْدَهُ من رواية الزهري ، عن سعيد ابن المسيب وأبي سلمة ، كلاهما عن أبي هُريرة(3) ، وخرَّجاه من رواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( دَعُوني ما تركتُكم ، إنَّما أهلَكَ مَنْ كَانَ قَبلَكُم سؤالُهم واختلافُهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتَنبُوه ، وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأتُوا منه ما استطعتم ) (4) وخرَّجه مسلم مِن طريقين آخرين(5) عن أبي هريرة بمعناه(6) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 9/116 ( 7288 ) ، ومسلم 4/102 ( 1337 ) ( 412 ) و7/91
( 1337 ) ( 130 ) و( 131 ) .
وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 20372 ) ، والحميدي ( 1125 ) ، وأحمد 2/247 و258 و428 و447 و448 و457 و467 و482 و495 و508 و517 ، وابن ماجه
( 1 ) و( 2 ) ، والترمذي ( 2679 ) ، والنسائي 5/110-111 ، وابن خزيمة ( 2508 ) ، وابن حبان ( 18 ) و( 19 ) و( 21 ) ، والبيهقي 4/326 و7/103 ، والبغوي ( 99 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(2) عبارة : ( بهذا اللفظ ) سقطت من ( ص ) .
(3) في " صحيحه " 7/91 ( 1337 ) ( 130 ) .
(4) صحيح البخاري 9/116 ( 7288 ) ، وصحيح مسلم 7/91 ( 1337 ) ( 131 ) .
(5) زاد بعدها في ( ص ) : ( عن الزهري ) .
(6) في " صحيحه " 4/102 ( 1337 ) ( 412 ) و7/91 ( 1337 ) ( 131 ) .
وفي رواية له ذكرُ سبب هذا الحديث من رواية محمد بن زياد ، عن أبي هريرة قال : خطبنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( يا أيَّها النَّاس قد فرضَ الله عليكم الحجَّ
فحجُّوا ) فقال رجل : أكُلَّ عامٍ يا رسول الله ؟ فسكت حتَّى قالها ثلاثاً ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو قلتُ : نعم ، لوجبت ، ولما استطعتُم ) ثمَّ قال : ( ذَرُوني ما تَرَكْتُكُم ، فإنَّما أُهْلِكَ مَنْ كانَ قبلَكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتُكُم بشيءٍ ، فأتوا منه ما استطعتُم ، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فدعوه(1) )(2) .
وخرَّجه الدَّارقطني من وجه آخر مختصراً(3) ، وقال فيه : فنَزل قولُه تعالى
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم } (4) .
وقد رُوِي مِن غير وجهٍ أنَّ هذه الآية نزلت لمَّا سألوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الحجِّ ، وقالوا : أفي كلِّ عام ؟ (5)
__________
(1) في ( ص ) : ( فاجتنبوه ) .
(2) أخرجه : مسلم 4/102 ( 1337 ) ( 412 ) .
وأخرجه : أحمد 2/508 ، والنسائي 5/110-111 ، والطبري في " تفسيره " ( 9980 ) ، وابن حبان ( 3704 ) ، والدارقطني 2/247 ( 2679 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) من حديث أبي هريرة ، به .
(3) " السنن " 2/247 ( 2680 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) من حديث أبي هريرة ، به .
(4) المائدة : 101 .
(5) انظر : تفسير ابن أبي حاتم 4/1217 ( 6875 ) ، وتفسير القرطبي 6/331 ، وأسباب النزول للواحدي : 334 بتحقيقي ، وتفسير البغوي 2/92 ، وبحر العلوم 3/158 ، وتفسير ابن الجوزي 2/434 ، والبحر المحيط 4/35 ، والدر المنثور 2/592 .
وفي " الصحيحين " (1) عن أنس قال : خطبنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رجل :
من أبي ؟ فقال : ( فلان ) ، فنَزلت هذه الآية { لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ } (2) .
وفيهما أيضاً عن قتادة ، عن أنسٍ قال : سألوا(3) رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى أحْفَوهُ في المسألة، فغضب ، فصَعدَ المنبر ، فقال : ( لا تسألوني اليومَ عن شيءٍ إلا بيَّنتُه ) ، فقام رجل كان إذا لاحى الرجالَ دُعِيَ إلى غير أبيه ، فقال : يا رسول الله من أبي ؟ قالَ : ( أبوك حُذافة ) ، ثم أنشأ(4) عمرُ ، فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمَّد رسولاً ، نعوذ بالله من الفتن . وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية(5) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ } (6) .
وفي " صحيح البخاري "(7) عن ابن عباس قال : كان قومٌ يسألون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاءً ، فيقولُ الرجلُ : من أبي ؟ ويقول الرجلُ تَضِلُّ ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله هذه الآية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ } .
__________
(1) أخرجه : البخاري 1/34 ( 93 ) و1/143 ( 540 ) و6/68 ( 4621 ) و9/118
( 7294 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 1184 ) ، ومسلم 7/93 ( 2359 ) ( 136 ) و7/94 ( 2359 ) ( 136 ) .
(2) المائدة : 101 .
(3) في ( ص ) : ( يا ) .
(4) في ( ص ) : ( جثا ) .
(5) أخرجه : البخاري 8/96 ( 6362 ) و9/66 ( 7089 ) و118 ( 7294 ) ، ومسلم 7/94 ( 2359 ) ( 137 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 9972 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 4/1218
( 6878 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(6) المائدة : 101 .
(7) الصحيح 6/68 ( 4622 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 9971 ) ، والبغوي في " تفسيره " 2/92 ، وابن الجوزي في " تفسيره " 2/434 ، من حديث عبد الله بن عباس ، به .
وخَرَّج ابن جرير الطبري في " تفسيره " (1) من حديث أبي هريرة ، قال :
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبانُ مُحمارّاً وجهه ، حتّى جلس على المنبرِ ، فقام إليه رجلٌ ، فقال : أين أنا ؟ فقالَ : ( في النار ) ، فقام إليه آخر(2) فقالَ : من أبي ؟ قال : ( أبوك حُذافة ) ، فقام عمر فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ، وبالقرآن إماماً ، إنا يا رسول الله حديثو عهدٍ بجاهلية وشركٍ ، والله أعلم مَن آباؤنا ، قال : فسكن غضبُه ، ونزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم } (3) .
وروى أيضاً(4)
__________
(1) التفسير ( 9977 ) ، وطبعة التركي 9/17 .
وأخرجه : الطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 1475 ) ، وقال ابن كثير في " تفسيره " : 660 : ( إسناده جيد ) ، وانظر : الدر المنثور 2/592 .
(2) في ( ص ) : ( رجل ) .
(3) المائدة : 101 .
(4) أي الطبري ، وهو في " تفسيره " ( 9982 ) ، وفي طبعة التركي 9/20-21 .
وأخرجه : ابن أبي حاتم ( 6881 ) و( 6884 ) ، وإسناده ضعيف جداً .
من طريق العَوْفي عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم } قال : إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذَّن في الناس ، فقال : ( يا قوم كُتِبَ عليكُم الحجُّ ) ، فقام رجل ، فقال : يا رسول الله ، أفي كلِّ عامٍ ؟ فأُغْضِبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غضباً شديداً ، فقال : ( والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم ، لوجَبَت ، ولو وجبت ما استطعتم ، وإذن لكفرتُم ، فاتركُونِي ما تركتُكم ، فإذا أمرتكم بشيءٍ ، فافعلوا منه ما استطعتم (1)، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فانتهوا عنه ) ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُم } ، نهاهم أنْ يسألوا مثلَ الذي سألتِ النَّصارى في المائدة ، فأصبحوا بها كافرين ، فنهى الله تعالى عن ذلك ، وقال : لا تسألوا عن أشياء إنْ نزل القرآن فيها بتغليظٍ ساءكم(2) ، ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآنُ ، فإنَّكم لا تسألون عن شيء
إلا وجدتُم تبيانه .
فدلَّت هذه الأحاديثُ على النهي عن السُّؤال عمَّا لا يُحتاج إليه مما يسوءُ السائلَ جوابُه مثل سؤال السائل ، هل هوَ في النار أو في الجنة ، وهل أبوه من ينتسب إليه أو غيره ، وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث
والاستهزاء (3) ، كما كان يفعلُه كثيرٌ من المنافقين وغيرهم .
وقريبٌ من ذلك سؤالُ الآيات واقتراحُها على وجه التعنتِ ، كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب ، وقد قال عكرمة وغيرُه : إنَّ الآية نزلت في ذلك(4) .
__________
(1) منه ما استطعتم ) سقطت من ( ج ) .
(2) من قوله : ( وقال لا تسألوا ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) في ( ص ) : ( على التعنت والاستهزاء ) .
(4) ذكره : ابن الجوزي في " تفسيره " 2/435 ، وأبو حيان في " تفسيره " 4/35 ، والسيوطي في " الدر المنثور " 2/594 .
ويقرب من ذلك السؤالُ عما أخفاه الله عن عباده ، ولم يُطلعهم عليه ، كالسؤال عن وقتِ الساعة ، وعن الروح .
ودلَّت أيضاً على نهي المسلمين عن السؤال عن كثيرٍ من الحلالِ والحرام مما يُخشى أنْ يكون السؤال سبباً لنزول التشديد فيه ، كالسُّؤال عَنِ الحجِّ : هل يجب كلَّ عامٍ أم لا(1) ؟ وفي " الصحيح " (2) عن سعدٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( إنَّ أعظمَ المسلمين في المسلمين جرماً مَنْ سأل عن شيءٍ لم يحرَّم ، فحُرِّمَ من أجل مسألته ) .
ولما سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن اللِّعان كره المسائل وعابها حتى ابتُلي السائلُ عنه قبلَ
وقوعه بذلك في أهله(3) ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعةِ المال(4) .
__________
(1) أم لا ) سقطت من ( ص ) .
(2) صحيح البخاري 9/117 ( 7289 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 67 ) ، وأحمد 1/176 و179 ، ومسلم 7/92 ( 2358 ) ( 132 ) و( 133 ) ، وأبو داود ( 4610 ) ، وابن حبان ( 110 ) من حديث سعد ، به .
(3) أخرجه : أحمد 2/12 و19 و42 ، والدارمي ( 2237 ) ، ومسلم 4/206 ( 1493 )
( 4 ) ، والترمذي ( 1202 ) ، والنسائي 6/175 وفي "التفسير" ، له ( 377 ) و( 378 ) ، وابن الجارود ( 752 ) ، وأبو يعلى ( 5656 ) و( 5772 ) ، والطبري في " تفسيره "
( 19542 ) ، وابن حبان ( 4286 ) و( 4287 ) ، والبيهقي 7/404-405 من حديث
عبد الله بن عمر ، به .
(4) أخرجه : البخاري 2/153 ( 1477 ) .
ونصه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنّ الله كره لكم ثلاثاً : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وَكثرة السؤال ) من حديث المغيرة بن شُعبة ، به .
ولم يكن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُرخِّصُ في المسائل إلاَّ للأعرابِ ونحوهم من الوُفود القادمين
عليه ، يتألَّفهم بذلك ، فأمَّا المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينة الذين رَسَخَ الإيمانُ في قلوبهم ، فنُهُوا عَنِ المسألة ، كما في " صحيح مسلم "(1) عن النَّوَّاس بن سمعان ، قال : أقمتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة سنة ما يمنعني منَ الهجرة إلاَّ المسألةُ ، كان أحدُنا إذا هاجر لم يسأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - .
وفيه أيضا عن أنسٍ ، قال : نُهينا أنْ نسألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ ، فكان يُعجِبُنا أنْ يجيءَ الرجلُ من أهل البادية العاقل ، فيسأله ونحنُ نَسْمَعُ(2) .
وفي " المسند "(3)
__________
(1) الصحيح 8/7 ( 2553 ) ( 15 ) .
(2) صحيح مسلم 1/32 ( 12 ) ( 10 ) .
... وأخرجه : أحمد 3/143 و168 و193 ، وعبد بن حميد ( 1285 ) ، والدارمي ( 656 ) ، والبخاري 1/24 ( 63 ) ، وأبو داود ( 486 ) ، وابن ماجه ( 1402 ) ، والترمذي
( 619 ) ، والنسائي 4/121-122 ، وابن خزيمة ( 2358 ) ، وأبو عوانة 1/2-3 ، وابن حبان ( 154 ) و( 155 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 129 ) و( 130 ) ، والحاكم في
" معرفة علوم الحديث " ( 5 ) ، والبيهقي 4/325 ، والبغوي ( 3 ) و( 4 ) و( 5 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(3) مسند أحمد 5/266 .
وأخرجه : الدارمي ( 240 ) ، وابن ماجه ( 228 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 7867 )
و( 7875 ) و( 7906 ) ، والخطيب في " تاريخ بغداد " 2/212 ، وابن عبد البر في " جامع بيان العِلم وفضله " 1/28 ، وإسناده ضعيف لضعف يزيد بن علي الألهاني .
عن أبي أُمامة قال : كان الله قد أنزل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم } (1) قال : فكنَّا قد كرهنا كثيراً مِنْ مسألته ، واتَّقينا ذلك حين أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فأتينا أعرابياً ، فرشوناه بُرداً ، ثمَّ قلنا له : سلِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وذكر حديثاً .
وفي "مسند أبي يعلى"(2) عن البراء بنِ عازب، قال(3): إنْ كان لتأتي عليَّ السنةُ أريد أنْ أسألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ ، فأتهيب منه ، وإنْ كنَّا لنتمنَّى الأعرابَ .
وفي " مسند البزار " (4) عن ابن عباس قال : ما رأيت قوماً خيراً من أصحابِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألةً ، كلُّها في القرآن : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } (5) ، { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } (6) ، { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ
الْيَتَامَى } (7) ، وذكر الحديث .
__________
(1) المائدة : 101 .
(2) في " مسنده الكبير " كما في " المطالب العالية " ( 3961 ) ، وأخرجه الروياني في " مسنده " ( 308 ) ، وإسناده جيد .
(3) في ( ص ) : ( وفي مسند البزار عن ابن عباس ، قال ) .
(4) بعد تتبع مسند البزار لم نجده قد خرّج هذا الحديث ، كما أن الهيثمي لم يخرجه في " مجمع الزوائد " ولا في " كشف الأستار " . وأخرجه : الدارمي ( 125 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 12288 ) ، وعندهما ثلاثة عشرة مسألة .
... ونسبه الهيثمي في " المجمع " 1/158-159 للطبراني عن ابن عباس ، به .
(5) البقرة : 217 .
(6) البقرة : 220 .
(7) البقرة : 220 .
وقد كان أصحابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يسألونه عن حكم حوادثَ قبلَ وقوعها ، لكن للعمل بها عند وقوعها، كما قالوا له : إنَّا لاقوا العدوِّ غداً ، وليس معنا مُدىً ، أفنذبح بالقصَبِ ؟(1) وسألوه عَنِ الأُمراءِ الَّذينَ أخبر عنهم بعدَه ، وعن طاعتهم وقتالهم ، وسأله حذيفةُ عن الفتنِ ، وما يصنع فيها(2) .
فهذا الحديث ، وهو قولهُ - صلى الله عليه وسلم - : ( ذَرُوني ما تركتُكم ، فإنَّما هلك مَنْ كان قبلَكُم بكثرةِ سُؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، يدلُّ على كراهة المسائل وذمِّها ، ولكن بعضَ الناس يزعمُ أنَّ ذلك كان مختصاً بزمن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما يخشى حينئذ من تحريم ما لم يُحرم ، أو إيجاب ما يشقُّ القيام به ، وهذا قد أمن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - .
ولكن ليس هذا وحده هو سببَ كراهة المسائل ، بل له سببٌ آخر ، وهو
الذي أشارَ إليه ابنُ عباس في كلامه الذي ذكرنا بقوله : ولكن(3) انتظرُوا ، فإذا نزل
القرآن ، فإنَّكم لا تَسألونَ عن شيءٍ إلا وجدتم تبيانه .
__________
(1) أخرجه : البخاري 3/181 ( 2488 ) و3/185 ( 2507 ) و4/91 ( 3075 ) و7/117
( 5498 ) و7/119 ( 5503 ) و( 5506 ) و7/127 ( 5543 ) و( 5544 ) ، ومسلم 6/78 ( 1968 ) ( 20 ) و( 21 ) و( 22 ) و( 23 ) ، وأبو داود ( 2821 ) ، وابن ماجه ( 3137 ) و(3178 ) و( 3183 ) ، والترمذي ( 1491 ) و( 1492 ) و( 1600 ) ، والنسائي 7/191 و221 و226 و228 ، والطبراني في " الكبير " ( 4385 ) من حديث رافع بن خديج ، به .
(2) أخرجه : البخاري 4/242 ( 3606 ) و9/65 ( 7084 ) ، ومسلم 6/20 ( 1827 )
( 51 ) ، وابن ماجه ( 3979 ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
ومعنى هذا : أنَّ جميعَ ما يَحتاجُ إليه المسلمون في دينهم لابدَّ أنْ يُبينه الله في كتابه العزيز ، ويبلِّغ ذلك رسوله عنه ، فلا حاجةَ بعدَ هذا لأحدٍ في السؤال ، فإنَّ الله تعالى أعلمُ بمصالح عباده منهم ، فما كان فيه هدايتُهم ونفعُهُم ، فإن الله لابدَّ أنْ يبيِّنه لهمُ ابتداءً من غيرِ سؤال ، كما قال : { يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } (1) ، وحينئذ فلا حاجة إلى السُّؤال عن شيءٍ ، ولا سيما قبلَ وقوعه والحاجة إليه ، وإنَّما الحاجةُ المهمةُ إلى فهم ما أخبرَ الله به ورسولُه ، ثمَّ اتباعُ ذلك والعملُ به ، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُسأَل عنِ المسائل ، فيُحيل على القرآن ، كما سأله عمرُ عنِ الكَلالَةِ ، فقالَ
: ( يَكفيك آيةُ الصيف )(2) .
__________
(1) النساء : 176 .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 11 ) ، وأحمد 1/15 و26 و27 و48 ، ومسلم 2/81-82
( 567 ) ( 78 ) و5/61 ( 1617 ) ، وابن ماجه ( 2726 ) ، وأبو يعلى ( 184 ) ، وابن خزيمة ( 1666 ) ، وابن حبان ( 2091 ) ، والبيهقي 3/78 و6/224 من حديث عمر بن الخطاب ، به .
والمصقود بآية الصيف : الآية التي نزلت في الصيف ، وهي قوله تعالى : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ } النساء : 176 . شرح النووي لصحيح مسلم 3/46 .
وأشار - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إلى أنَّ في الاشتغال بامتثالِ أمرِه ، واجتنابِ نهيه شغلاً عن المسائل ، فقال : ( إذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فاجتنبوه ، وإذا أمرتُكم بأمرٍ ، فأتوا منه ما استطعتم ) فالذي يتعيَّنُ على المسلم الاعتناءُ به والاهتمامُ أنْ يبحثَ عمَّا جاءَ عن الله ورسوله(1) - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يجتهدُ في فهم ذلك ، والوقوف على معانيه ، ثم يشتغل بالتصديقِ بذلك إنْ كان من الأمور العلمية ، وإنْ كان من الأمور العملية ، بذل وسْعَهُ في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر ، واجتناب ما يُنهى عنه ، وتكون همَّتُهُ مصروفةً بالكلية إلى ذلك ؛ لا إلى غيره . وهكذا كان حالُ(2) أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسّانٍ في طلب العلم النافع مِنَ الكتاب والسنة .
فأما إنْ كانت همةُ السامع مصروفةً عند سماعِ الأمر والنهي إلى فرض أمورٍ قد
تقع ، وقد لا تقع ، فإنَّ هذا مما يدخل في النَّهي ، ويثبِّطُ عنِ الجد في متابعة الأمر . وقد سألَ رجلٌ ابنَ عمر عن استلام الحجر ، فقال له : رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبِّلُه ، فقال له الرجل : أرأيتَ إنْ غُلِبْتُ عليه ؟ أرأيت إنْ زُوحِمْتُ ؟ فقالَ لهُ ابن عمر : اجعل ( أرأيت ) باليمن، رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستلِمُه ويقبِّلُه . خرَّجه الترمذي(3).
__________
(1) في ( ص ) : ( عما جاء به الرسول ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) في " جامعه " ( 861 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 1864 ) ، وأحمد 2/152 ، والبخاري 2/186 ( 1611 ) ، والنسائي 5/231 ، والبيهقي 5/74 من حديث عبد الله بن عمر ، به .
ومرادُ ابن عمر أنَّه لا يكن لك همٌّ إلا في الاقتداء بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولا حاجةَ إلى فرضِ العجزِ عنْ ذلك أو تعسُّره قبلَ وقوعه ؛ فإنَّه قد يفتُرُ العزمُ على التَّصميم على المتابعة ، فإنَّ التَّفقُّهَ في الدِّين ، والسُّؤالَ عن العِلم إنَّما يُحمَدُ إذا كان للعمل ، لا لِلمراءِ والجدال .
وقد روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه ذكر فتناً تكونُ في آخر الزَّمان ، فقال له عمر : متَى ذلك يا عليُّ ؟ قال : إذا تُفُقِّه لغير الدين ، وتُعُلِّم لغير العمل ، والتمست الدنيا بعمل (1) الآخرة (2) .
وعن ابن مسعود أنَّه قال : كيف بكم إذا لَبِستكم فتنةٌ يربو فيها الصغيرُ ، ويَهْرَمُ فيها الكبيرُ، وتُتَّخَذُ سُنةً، فإنْ غيرت يوماً قيل: هذا منكر ؟ قالوا: ومتى ذَلِكَ؟ قال : إذا قلَّت أمناؤكم ، وكثرت أمراؤُكم ، وقلَّت فقهاؤُكم ، وكثر قُرَّاؤُكم ،
وتُفُقِّهَ لغير الدين، والتُمِسَتِ الدنيا بعمل الآخرة. خرَّجهما عبد الرزاق في "كتابه"(3).
ولهذا المعنى كان كثيرٌ من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادث قبلَ وقوعها ، ولا يُجيبون عن ذلك ، قال عمرو بن مُرة : خرج عمرُ على الناس ، فقال : أُحرِّجُ عليكم أنْ تسألونا عن ما لم يكن ، فإنَّ لنا فيما كان شغلاً(4) .
__________
(1) في ( ج ) : ( بغير ) .
(2) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20743 ) من رواية عبد الرزاق عنه .
(3) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20742 ) من رواية عبد الرزاق ، والدارمي 1/64 ( طبعة دار الفكر ) ، والحاكم 4/514 ، وأبو نعيم في " الحلية " .
(4) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/141 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 ، وابن القيم في " إعلام الموقعين " 1/76 .
وعن ابن عمر ، قال : لا تسألوا عما لم يكن ، فإني سمعتُ عمر لعنَ السَّائل عمَّا لم يكن(1) .
وكان زيدُ بنُ ثابتٍ إذا سُئِلَ عن الشَّيءِ يقول : كان هذا ؟ فإنْ قالوا : لا ، قال : دعوه حتّى يكون(2) .
وقال مسروقٌ : سألت أبيَّ بن كعبٍ عن شيءٍ ، فقال : أكان بعدُ ؟ فقلت : لا ، فقال : أجِمَّنا – يعني : أرحنا حتَّى يكونَ - ، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا(3) .
وقال الشَّعبيُّ : سئل عمارٌ عن مسألة فقال : هل كان هذا بعدُ ؟ قالوا : لا ، قال : فدعونا حتَّى يكون ، فإذا كان تَجَشَّمْنَاهُ لكم(4) .
وعن الصَّلْتِ بنِ راشدٍ ، قال : سألت طاووساً عن شيء ، فانتهرني وقال : أكان هذا ؟ قلت : نعم ، قال : آلله ؟ قلت : آلله ، قال : إنَّ أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل أنَّه قال : أيُّها النَّاسُ ، لا تعجلوا بالبلاء قَبْلَ نزوله(5) ، فيذهب بكم هاهنا وهاهنا ، فإنَّكم إنْ لم تعجَلوا بالبلاء قَبْلَ نزوله ، لم ينفكَّ المسلمون أنْ يكونَ فيهم مَنْ إذا سُئِلَ سُدِّدَ ، أو قال وُفِّقَ(6) .
وقد خرَّجه أبو داود في كتاب " المراسيل "(7)
__________
(1) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/139 و143 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 ، وابن القيم في " إعلام الموقعين " 1/75 .
(2) ذكره : الآجري في " أخلاق العلماء " : 183 ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/142-143 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 .
(3) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/142 .
(4) ذكره : إسحاق بن راهويه كما في " المطالب العالية " ( 3328 ) ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 .
(5) من قوله : ( فيذهب بكم ها هنا ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(6) ذكره : الآجري في " أخلاق العلماء " : 183-184 .
(7) المراسيل : 224 .
وأخرجه : إسحاق بن راهويه كما في " المطالب العالية " ( 3329 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 353 ) .
وذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/142 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 ، وهو ضعيف لانقطاعه ؛ فإنَّ طاووساً لم يسمع من معاذ ، ومعنى الإرسال هنا هو المعنى العام الذي يراد به كل انقطاع .
مرفوعاً من طريق ابن عجلان ، عن طاووس ، عن معاذ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تعجَلوا بالبلية قبل نزولها ، فإنَّكم إنْ لم تفعلوا لم ينفك المسلمون أنْ يكون منهم من إذا قال سُدِّدَ أو وفق ، وأنَّكم إنْ عجِلْتُم ، تشتِّتُ بكمُ السُّبُلَ هاهنا وهاهنا . ومعنى إرساله(1) أنَّ طاووساً لم يسمع من معاذ .
وخرَّجه أيضاً من رواية يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، بمعناه (2) مرسلاً(3) .
وروى الحجاج بن منهال : حدَّثنا جرير بن حازم ، سمعتُ الزبير بنَ سعيدٍ : أنَّ رجلاً من بني هشامٍ قالَ : سمعتُ أشياخنا يحدِّثونَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( لا يزالُ في أمتي من إذا سئلَ سدّد وأرشدَ حتَّى يسألوا عنْ ما لا ينْزل تبينهُ ، فإذا فعلوا ذَلِكَ ذُهبَ بهم هاهنا وهاهنا(4) ) .
وقد روى الصنابحيُّ، عنْ معاوية، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أنَّهُ نهى عنِ الأغلوطات ) خرَّجهُ الإمامُ أحمد رحمه الله (5) .
وفسرهُ الأوزاعيُّ وقالَ : هي شدادُ المسائلِ(6) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) ذكره : ابن حجر في " فتح الباري " 13/327 .
(4) ذكره : ابن حجر في " فتح الباري " 13/327 ، وهو ضعيف لضعف الزبير بن سعد ، ولجهالة من فوقه .
(5) في " مسنده " 5/435 .
وأخرجه : أبو داود ( 3656 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 892 ) و( 913 ) وفي
" مسند الشاميين " ، له ( 2108 ) ، والآجري في " أخلاق العلماء " : 185 ، وإسناده ضعيف لجهالة عبد الله بن سعد .
(6) أخرجه : سعيد بن منصور في " سننه " ( 1179 ) ، وأحمد 5/435 ، والطبراني في "الكبير" 19/( 892 ) ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/139 .
وذكره ابن القيم في " إعلام الموقعين " 1/76 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/323 .
وقال عيسى بنُ يونسَ : هي ما لا يحتاجُ إليهِ منْ كيف وكيف(1) .
ويروى من حديثِ ثوبانَ ، عنِ النَّبيِّ- صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : ( سيكونُ أقوامٌ منْ أمتي يُغَلِّطونَ فقهاءهم بعضلِ المسائلِ ، أولئكَ شرارُ أمتي ) .(2)
وقالَ الحسنُ : شرارُ عبادِ اللهِ الذينَ يتبعونَ شرارَ المسائلَ يَغُمُّون بها عبادَ اللهِ(3).
وقالَ الأوزاعيُّ : إنَّ اللهَ إذا أرادَ أنْ يَحرُمَ عبدَهُ بركةَ العلمِ ألقى على لسانهِ
المغاليط ، فلقدْ رأيتهم أقلَّ النَّاسِ علماً(4) .
وقالَ ابنُ وهبٍ ، عنْ مالكٍ : أدركتُ هذه البلدة وإنَّهم ليكرهون الإكثارَ الذي فيهِ النَّاس اليومَ : يريدُ المسائلَ(5) .
وقالَ أيضاً : سمعتُ مالكاً وهو يعيبُ كثرةَ الكلامِ وكثرةَ الفتيا ، ثُمَّ قالَ : يتكلمُ كأنَّهُ جملٌ مغتلمٌ ، يقولُ : هوَ كذا هوَ كذا يهدرُ في كلامهِ .
وقال: سمعتُ مالكاً يكره(6) الجوابَ في كثرة المسائل(7)، وقال : قال الله - عز وجل -: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } (8) فلم يأته في ذلك جواب .
__________
(1) ذكره : الآجري في " أخلاق العلماء " : 185 ، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " 2/11 .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 1431 ) ، والآجري في " أخلاق العلماء " : 185 ، وإسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ يزيد بن ربيعة متروك ، وانظر : مجمع الزوائد 1/155 .
(3) ذكره : الآجري في " أخلاق العلماء " : 185 ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/145 .
(4) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/145 ، وابن حجر في فتح الباري 13/323 .
(5) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/143 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/323 نحوه .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) انظر : جامع بيان العلم وفضله 2/141 و145 ، وإعلام الموقعين 1/83 .
(8) الإسراء : 85 .
وكان مالكٌ يكره المجادلة عن السُّنن أيضاً(1) . قال الهيثم بن جميل : قلت لمالك : يا أبا عبدِ الله ، الرجلُ يكونُ عالماً بالسُّنن يُجادل عنها ؟ قال : لا ، ولكن يخبر بالسُّنَّةِ ، فإنْ قُبِلَ منه ، وإلاّ سكت .
قال إسحاق بن عيسى : كان مالك يقول : المِراء والجِدال في العلم يَذهبُ بنور العلم من قلب الرجل .
وقال ابن وهب : سمعت مالكاً يقول(2) : المراء في العلم يُقسِّي القلوب ، ويورِّث الضغن .
وكان أبو شريح الإسكندراني يوماً في مجلسه ، فكثُرَتِ المسائلُ ، فقال : قد دَرِنَتْ قلوبُكم منذُ اليوم ، فقوموا إلى أبي حُميدٍ خالد بن حميد اصقُلوا قلوبكم ، وتعلَّمُوا هذه الرغائب ، فإنَّها تُجدِّدُ العبادة ، وتُورث الزهادة ، وتجرُّ الصداقة ، وأقِلُّوا المسائلَ إلا ما نزل ، فإنَّها تقسي القلوب ، وتورث العداوة .
وقال الميمونيُّ : سمعتُ أبا عبد الله - يعني : أحمد - يُسأل عن مسأَلة ، فقال : وقعَت هذه المسألة ؟ بُليتم بها بعدُ ؟
وقد انقسم الناسُ في هذا الباب أقساماً :
فمن أتباع أهلِ الحديث منْ سدَّ بابَ المسائل حتَّى قلَّ فقهه وعلمُه بحدود ما أنزل الله على رسوله ، وصار حامِلَ فقه غير فقيه(3) .
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء 8/108 .
(2) في ( ص ) : ( وقال مالك ) بدل : ( وقال ابن وهب : سمعت مالكاً يقول ) .
(3) انظر : المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة : 18 .
ومن فقهاء أهل الرأي من توسَّع في توليدِ المسائل قبلَ وقوعها ، ما يقع في العادة منها وما لا يقع ، واشتغلُوا بتكلُّفِ الجواب عنْ ذلك(1) ، وكثرة الخصومات فيه ، والجدال عليه حتَّى يتولدَ مِنْ ذلك افتراقُ القلوب ، ويستقرَّ فيها بسببه الأهواءُ والشحناءُ والعداوةُ والبغضاءُ، ويقترن ذلك كثيراً بنية المغالبة، وطلب العلوِّ والمباهاة ، وصرف وجوه الناس وهذا ممَّا ذمه العلماءُ الربانيون ، ودلَّتِ السُّنَّةُ على قبحه
وتحريمه .
وأما فقهاء أهل الحديث العامِلُون به ، فإنَّ معظمَ همِّهمُ البحثُ عن معاني كتاب الله - عز وجل - ، وما يُفسِّرُهُ من السنن الصحيحة ، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسّان ، وعن سُنَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومعرفة صحيحها وسقيمِها ، ثم التفقه فيها وتفهمها ، والوقوف على معانيها ، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسّان في أنواع العلوم من التفسير والحديث ، ومسائل الحلال والحرام ، وأصول السُّنة والزهد والرقائق وغيرِ ذلك ، وهذا هو طريقة الإمام أحمد ومَنْ وافقه من علماء الحديث الرَّبّانيين ، وفي معرفة هذا شغلٌ شاغلٌ عن التَّشاغُل بما أحدثَ من الرأي ممَّا لا يُنتفع به ، ولا يقع ، وإنَّما يُورثُ التجادلُ فيه الخصوماتِ والجدالَ وكثرة القيل والقال . وكان الإمام أحمد كثيراً إذا سُئِلَ عن شيء من المسائل المولدات التي لا تقع يقول : دعونا منْ هذه المسائل المحدثة(2) .
__________
(1) انظر : المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة : 18 ، ومناهج الاجتهاد في الإسلام في الأحكام الفقهيه والعقائدية : 121 .
(2) انظر : المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة : 18-19 .
وما أحسن ما قاله يونسُ بنُ سليمان السَّقَطِيُّ : نظرتُ في الأمرِ ، فإذا هو الحديث والرأي ، فوجدتُ في الحديث ذكرَ الرب - عز وجل - وربوبيتَه وإجلاله وعظمته ، وذكرَ العرش وصفة الجنة والنار ، وذكرَ النبيين والمرسلين ، والحلال والحرام ، والحثَّ على صلة الأرحام(1) ، وجماع الخير فيه ، ونظرت في الرأي ، فإذا فيه المكرُ ، والغدرُ ، والحيلُ ، وقطيعة الأرحام ، وجماع الشَّرِّ فيه .
وقال أحمد بن شبويه : من أراد علمَ القبرِ فعليه بالآثار ، ومن أراد علم الخُبْزِ ، فعليه بالرأي(2) .
ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه ، تمكَّن من فهم جواب
الحوادث الواقعة غالباً ؛ لأنَّ أصولها تُوجد في تلك الأصول المشار إليها ، ولابدَّ أنْ
يكون سلوكُ هذا الطريق خلف أئمة أهل الدين المجمَعِ على هدايتهم ودرايتهم
كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبيد ومن سلك مسلكَهم ، فإنَّ مَنِ ادعى سلوكَ
هذا الطريق على غير طريقهم وقع في مفاوزَ ومهالك ، وأخذ بما لا يجوز الأخذُ به ، وترك ما يجب العملُ به(3) .
__________
(1) في ( ص ) : ( على فعل الخير ) .
(2) ذكره : الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 11/7-8 ، وفي " تذكرة الحفاظ " 2/464 .
(3) انظر : إعلام الموقعين 1/75-76 .
ومِلاكُ الأمرِ كلِّه أنْ يقصِدَ بذلك وجه الله ، والتقرُّبَ إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله ، وسلوكِ طَريقه ، والعمل بذلك ، ودعاء الخلق إليه ، ومَنْ كان كذلك ، وفَّقه الله وسدَّده ، وألهمه رشده ، وعلَّمه ما لم يكن يعلم ، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } (1) ، ومن الراسخين في العلم، وقد خرَّج ابنُ أبي حاتم في "تفسيره" من حديث أبي الدرداء : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن الرَّاسخين في العلم ، فقال : ( من برَّت يمينُه ، وصدق لسانُه ، واستقامَ قلبُه ، ومن عفَّ بطنُه وفرجُه ، فذلك مِنَ الرَّاسخين في العلم )(2) .
وقال نافع بن يزيد : يقال : الرَّاسخونَ في العلم : المتواضعون لله ، والمتذلِّلون لله في مرضاته لا يتعاطون من فوقهم ، ولا يحقرون من دونهم(3) .
__________
(1) فاطر : 28 .
(2) التفسير 2/599 ( 3205 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 5212 ) ، وطبعة التركي 5/223 والطبراني ( 7658 ) ، وهذا حديث باطل وعلته عبد الله بن يزيد بن آدم ، قال الإمام أحمد : ( أحاديثه موضوعة ) . لسان الميزان 5/40 .
(3) ذكره : ابن كثير في " تفسيره " : 352 ( طبعة دار ابن حزم ) .
ويشهد لهذا قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أتاكم(1) أهلُ اليمن ، هُمْ أبرُّ قلوباً ، وأرقُّ أفئدةً . الإيمان يمانٍ ، والفِقه يمانٍ ، والحكمة يمانيةٌ )(2) . وهذا إشارة منه إلى أبي موسى الأشعري ، ومن كان على طريقهِ من عُلَماء أهلِ اليمن ، ثمَّ إلى مثل أبي مسلم الخولاني ، وأويس القَرَنيِّ ، وطاووس ، ووهب بن منبه ، وغيرهم من عُلماء أهل اليمن ، وكلُّ هؤلاء مِنَ العلماء الربانيين الخائفين لله ، فكلهم علماءُ بالله يخشونه ويخافونه ، وبعضُهم أوسعُ علماً بأحكام الله وشرائع دينه من بعض ، ولم يكن تميُّزهم عن الناس بكثرة قيلٍ وقالٍ ، ولا بحثٍ ولا جدالٍ .
وكذلك معاذُ بنُ جبل - رضي الله عنه - أعلم الناس بالحلال والحرام(3) ، وهو الذي يحشر يومَ القيامة أمام العلماء برتوة(4)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : الحميدي ( 1049 ) ، وأحمد 2/235 و474 و480 و502 ، والبخاري 5/219 ( 4388 ) ، ومسلم 1/51 ( 52 ) ( 82 ) و( 83 ) و( 84 ) و1/53 ( 52 ) ( 90 )
و( 91 ) ، والترمذي ( 3935 ) ، والبغوي ( 4001 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(3) انظر : حلية الأولياء 1/228 ، وسير أعلام النبلاء 1/446 ، وتذكرة الحفاظ 1/19 .
(4) أخرجه : أحمد 1/18 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/228 .
وذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 1/446 ، وفي " تذكرة الحفاظ " 1/19 .
والرتوة : الدرجة والمنزلة .
انظر : النهاية 2/195 ، ولسان العرب 5/134 ، وتاج العروس 4/524 ، ومختار الصحاح : 233 ، وجاءت هذه اللفظة في بعض كتب الحديث : ( قذفه ) وفي بعضها : ( نبذه ) .
، ولم يكن علمه بتوسعة المسائل وتكثيرها ، بل قد سبق عنه كراهةُ الكلام فيما لا يقع ، وإنما كان عالماً بالله وعالماً بأصول دينه . وقد قيل للإمام أحمد : مَنْ نسألُ بعدَك ؟ قال : عبد الوهَّاب الورَّاق ، قيل له : إنَّه ليس
له اتَّساعٌ في العلم ، قال : إنَّه رجل صالح مثلُه يُوفَّقُ لإصابة الحق .
وسئل عن معروف الكرخي ، فقال : كان معه أصلُ العلم : خشية الله . وهذا يرجعُ إلى قولِ بعض السَّلف : كفى بخشية الله علماً ، وكفى بالاغترار بالله جهلاً . وهذا بابٌ واسع يطول استقصاؤه .
ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فنقول : مَنْ لم يشتغل بكثرة المسائل التي لا يوجدُ مثلُها في كتاب ، ولا سنة ، بل اشتغل بفهم كلام الله ورسوله ، وقصدُه بذلك امتثالُ الأوامر ، واجتنابُ النواهي ، فهو ممَّنِ امتثلَ أمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ، وعَمِلَ بمقتضاه ، ومن لم يكن اهتمامُه بفهم ما أنزل الله على رسوله ، واشتغل بكثرةِ توليدِ المسائل قد تقع وقد لا تقع ، وتكلَّفَ أجوبتها بمجرَّد الرأي ، خُشِيَ عليه أنْ يكونَ مخالفاً لهذا الحديث ، مرتكباً لنهيه ، تاركاً لأمره .
واعلم أنَّ كثرةَ وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة إنَّما هو مِنْ ترك الاشتغال بامتثالِ أوامر الله ورسوله ، واجتنابِ نواهي الله ورسوله ، فلو أنَّ من أرادَ أنْ يعمل عملاً سأل عمَّا شرع الله في ذلك العمل فامتثله ، وعما نهى عنه فاجتنبه ، وقعت الحوادثُ مقيدةً بالكتاب والسنة .
وإنَّما يعمل العاملُ بمقتضى رأيه وهواه ، فتقع الحوادثُ عامَّتُها مخالفةً لما شرعه الله وربما عسر ردُّها إلى الأحكام المذكورةِ في الكتاب والسنة ؛ لبعدها عنها .
وفي الجملة : فمن امتثل ما أمر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ، وانتهى عما نهى
عنه ، وكان مشتغلاً بذلك عن غيره ، حَصَلَ له النجاةُ في الدنيا والآخرة ، ومَنْ خالف ذلك ، واشتغلَ بخواطرهِ وما يستحسنه ، وقع فيما حذَّرَ منه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ، وعدمِ انقيادهم وطاعتهم لرسلهم .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فاجتنبوه وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ) قال بعضُ العلماء : هذا يؤخذ منه أنَّ النَّهيَّ أشدُّ من الأمر ؛ لأنَّ النَّهيَّ لم يُرَخَّصْ في ارتكاب شيء منه ، والأمر قُيِّدَ بحسب الاستطاعة(1) ، ورُوي هذا عن الإمام أحمد .
ويشبه هذا قولُ بعضهم : أعمال البِرِّ يعملُها البرُّ والفاجرُ ، وأمَّا المعاصي ، فلا يتركها إلاَّ صِدِّيق(2) .
ورُوي عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( اتَّق المحارم ، تَكُن أعبدَ
الناس )(3) .
وقالت عائشة رضي الله عنها : من سرَّه أنْ يسبق الدائبَ المجتهدَ ، فليكفَّ عن الذنوب ، وروي عنها مرفوعاً(4) .
وقال الحسن : ما عُبِّدَ العابدون بشيءٍ أفضلَ من ترك ما نهاهم الله عنه .
__________
(1) انظر : التمهيد في أصول الفقه 1/364 .
(2) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 10/211 من قول سهل التستري .
(3) أخرجه : أحمد 2/310 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 252 )، وابن ماجه ( 4217 ) ، والترمذي ( 2305 ) ، وأبو يعلى ( 5865 ) و( 6240 ) ، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" : 42 ، وأبو نعيم في " الحلية " 10/365 ، والبيهقي في " الزهد " ( 818 ) ، وقال الترمذي : ( غريب ) أي ضعيف ، وبعضهم قواه بالشواهد ، وتصدير المصنف له بصيغة التمريض يريد تضعيفه ، والله أعلم .
(4) أخرجه : أبو يعلى ( 4950 ) مرفوعاً ، وإسناده ضعيف لضعف يوسف بن ميمون .
والظاهر أنَّ ما ورد مِن تفضيل ترك المحرَّمات على فعل الطاعات ، إنَّما أُريد به على نوافل الطّاعات ، وإلاّ فجنسُ الأعمال الواجبات أفضلُ مِنْ جنسِ ترك المحرَّمات ؛ لأنَّ الأعمال مقصودة لذاتها ، والمحارم المطلوبُ عدمها ، ولذلك لا تحتاج إلى نية بخلاف الأعمالِ ، وكذلك كان جنسُ ترك الأعمال قد يكون كفراً كتركِ التوحيد ، وكتركِ أركان الإسلام أو بعضها على ما سبق ، بخلاف ارتكاب(1) المنهيات فإنَّه لا يقتضي الكفر بنفسه ، ويشهد لذلك قولُ ابنِ عمر : لردُّ دانقٍ من حرام أفضلُ مِنْ مئة ألف تُنْفَقُ في سبيل الله .
وعن بعض السَّلفِ قال : تركُ دانق مما يكره الله أحبُّ إليَّ من خمس مئة
حجة .
وقال ميمون بن مِهران : ذكرُ اللهِ باللسان حسن ، وأفضلُ منه أنْ يذكر الله العبدُ عندَ المعصية فيمسِكَ عنها(2) .
وقال ابنُ المبارك : لأنْ أردَّ درهماً من شبهة أحبُّ إلىَّ من أنْ أتصدَّقَ بمئة ألفٍ ومئة ألف ، حتّى بلغ ست مئة ألف .
وقال عمر بنُ عبد العزيز : ليست التقوى قيامَ الليل ، وصِيام النهار ، والتخليطَ فيما بَيْنَ ذلك ، ولكن التقوى أداءُ ما افترض الله ، وترك ما حرَّم الله ، فإنْ كان مع ذلك عملٌ ، فهو خير إلى خير ، أو كما قال(3) .
وقال أيضاً : وددتُ أني لا أصلي غيرَ الصَّلوات الخمس سوى الوتر ، وأنْ أؤدِّي الزكاة ، ولا أتصدَّق بعدها بدرهم ، وأنْ أصومَ رمضان ولا أصوم بعده يوماً أبداً ، وأنْ أحجَّ حجة الإسلام ثم لا أحجَّ بعدها أبداً ، ثم أعمد إلى فضل قوتي ، فأجعله فيما حرَّم الله عليَّ ، فأمسك عنه .
وحاصل كلامهم يدلُّ على أنَّ اجتناب المحرمات - وإنْ قلَّتْ - فهي أفضلُ من الإكثار من نوافل الطاعات فإنَّ ذلك فرضٌ ، وهذا نفلٌ .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 4/87 .
(3) ذكره : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 48/153 .
وقالت طائفة من المتأخرين : إنَّما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ؛ لأنَّ امتثالَ الأمر لا يحصلُ إلاّ بعمل ، والعملُ يتوقَّفُ وجودُه على شروط وأسباب ، وبعضها قد لا يُستطاع ، فلذلك قيَّده بالاستطاعة ، كما قيد الله الأمر بالتقوى بالاستطاعة ، قال تعالى : { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (1) . وقال في الحجّ : { وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (2) .
وأما النهيُّ : فالمطلوب عدمُه ، وذلك هو الأصل ، فالمقصود استمرار
العدم (3) الأصلي ، وذلك ممكن ، وليس فيه ما لا يُستطاع ، وهذا أيضاً فيه نظر ، فإنَّ الداعي إلى فعل المعاصي قد يكون قوياً ، لا صبر معه للعبد على الامتناع مع فعل المعصية مع القدرة عليها ، فيحتاج الكفُّ عنها حينئذٍ إلى مجاهدةٍ شديدةٍ ، ربما كانت أشقَّ على النفوس من مجرَّدِ مجاهدة النفس على فعل الطاعة ، ولهذا يُوجَدُ كثيراً من يجتهد فيفعل الطاعات ، ولا يقوى على ترك المحرمات(4) .
وقد سئل عمرُ عن قومٍ يشتهون المعصية ولا يعملون بها ، فقال : أولئِكَ قومٌ امتحنَ الله قلوبهم للتقوى ، لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيم .
وقال يزيد بن ميسرة : يقولُ الله في بعض الكتب : أيُّها الشابُّ التارك
شهوتَه ، المتبذل شبابه من أجلي ، أنت عندي كبعض ملائكتي(5) .
وقال : ما أشد الشهوة في الجسد ، إنَّها مثلُ حريق النار ، وكيف ينجو منها الحصوريون ؟(6) .
__________
(1) التغابن : 16 .
(2) آل عمران : 97 .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) انظر : قواطع الأدلة 1/138-139 ، والمستصفى 2/25-26 ، والمحصول 2/303-304 ، والإبهاج في شرح المنهاج 2/71 ، والبحر المحيط 2/153 .
(5) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 5/237 .
(6) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 5/241 .
والتحقيق في هذا أنَّ الله لا يكلِّفُ العبادَ مِنَ الأعمال ما لا طاقةَ لهم به ، وقد أسقط عنهم كثيراً من الأعمال بمجرَّدِ المشقة رخصةً عليهم ، ورحمةً لهم ،
وأمَّا المناهي ، فلم يَعْذِرْ أحداً بارتكابها بقوَّةِ الدَّاعي والشَّهوات ، بل كلَّفهم
تركها على كلِّ حال، وأنَّ ما أباح أنْ يُتناول مِنَ المطاعم المحرَّمة عند الضرورة ما تبقى معه الحياة ، لا لأجل التلذذ والشهوة ، ومن هنا يعلم صحة ما قاله الإمام أحمد: إنَّ النهي أشدُّ من الأمر. وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث ثوبان وغيره أنَّه قال : ( استقيموا ولن تُحْصُوا ) (1) يعني : لن تقدروا على الاستقامة كلها .
وروى الحكم بن حزن الكُلَفي ، قال : وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فشهدتُ معه الجمعة ، فقام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - متوكئاً على عصاً أو قوسٍ ، فحمِدَ الله ، وأثنى عليه بكلماتٍ خفيفاتٍ طيباتٍ مباركاتٍ ، ثُمَّ قال : ( أيُّها النَّاسُ إنَّكم لن تُطيقُوا ، أو لن تَفْعَلوا كُلَّ ما أَمَرْتُكم به ، ولكن سَدِّدُوا وأبشِرُوا ) خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود(2) .
__________
(1) وأخرجه : الطيالسي ( 996 ) ، وأحمد 5/278 و282 ، والدارمي ( 661 ) ، وابن ماجه ( 277 )، وابن حبان ( 1037 )، والطبراني في " الصغير " 1/8 ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 170 )، والبيهقي 1/457، والخطيب في "تاريخه" 1/293 ، وهو حديث صحيح.
(2) مسند أحمد 4/212 ، وسنن أبي داود ( 1096 ) .
... وأخرجه : ابن سعد في "الطبقات" 5/516، وأبو يعلى ( 6826 )، وابن خزيمة ( 1452 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3165 ) ، والبيهقي في " السنن " 3/206 ، وفي " دلائل النبوة " ، له 5/354 ، وابن الأثير في " أُسد الغابة " 2/34 ، وهو حديث حسن .
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ) دليلٌ على أنَّ من عَجَزَ عن فعل المأمور به كلِّه ، وقدرَ على بعضه ، فإنَّه يأتي بما أمكنه منه ، وهذا مطرد في مسائل :
منها : الطهارة ، فإذا قدر على بعضها ، وعجز عن الباقي : إما لعدم الماء ، أو لمرض في بعض أعضائه دون بعض، فإنَّه يأتي مِنْ ذلك بما قدر عليه ، ويتيمم للباقي، وسواء في ذلك الوضوء والغسل على المشهور(1) .
ومنها : الصلاة ، فمن عَجَزَ عن فعل الفريضة قائماً صلَّى قاعداً ، فإن عجز صلَّى مضطجعاً(2) ، وفي "صحيح البخاري" (3) عن عِمْرَانَ بن حصين: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( صَلِّ قائماً، فإنْ لم تستطع فقاعداً ، فإنْ لم تستطع فعلى جنبٍ ) ، ولو عجز عن ذلك كلِّه ، أومأ بطرفه ، وصلى بنيته ، ولم تسقُط عنه الصلاةُ على المشهور(4) .
ومنها : زكاة الفطر ، فإذا قَدَرَ على إخراج بعضِ صاع ، لزمه ذلك على الصحيح(5)
__________
(1) انظر : الأُم 2/96-97 ، والإشراف على نكت مسائل الخلاف 1/162-163 ، واللباب 1/30-31، والمحلى 2/75 ، والهداية للكلوذاني 1/71 بتحقيقنا ، وبداية المجتهد 1/86-87، والمغني 1/267 ، ومنتهى الإرادات 1/33 .
(2) انظر : المغني 1/813-815 .
(3) الصحيح 2/60 ( 1117 ) .
وأخرجه : أحمد 4/426 ، وأبو داود ( 952 ) ، وابن ماجه ( 1223 ) ، والترمذي
( 372 )، وابن خزيمة ( 979 ) و( 1250 ) ، والدارقطني 1/369 ( 1410 ) و( 1411 ) و( 1412 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والبيهقي 2/304 ، والبغوي ( 983 ) .
(4) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 1/192 ، والهداية للكلوذاني 1/124 بتحقيقنا ، والمغني 1/817 ، ومنتهى الإرادات 1/120 .
(5) انظر : رؤوس المسائل في الخِلاف 1/307 ، والمغني 2/652 ، قال الإمام الكلوذاني - رحمه الله -: زكاة الفطر واجبة على كل مسلم فضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته صاع ،=
= ... وإن فضل بعض صاع فهل يلزمه إخراجه ؟ على روايتين . انظر : الهداية للكلوذاني 1/175 بتحقيقنا . جاء في الشرح الكبير علىالمغني : إحداهما : لا يلزمه ، وهو اختيار ابن عقيل ؛ لأنها طُهرة فَلا تجب على من يعجز عن بعضها كالكفارة . والثانية : يلزمه ؛ لأنها طهرة فوجب منها ما قَدر عليه . انظر : الشرح الكبير على المغني 2/649 .
، فأمَّا من قدر على صيامِ بعض النهار دُونَ تكملته ، فلا يلزمه ذلك بغير
خلاف ؛ لأنَّ صيامَ بعض اليوم ليس بقُربَةٍ في نفسه(1) ، وكذا لو قدر على عتق بعض رقبة في الكفارة لم يلزمه ؛ لأنَّ تبعيض العتق غير محبوب للشارع بل يُؤْمَرُ بتكميله بكلِّ طريق(2) .
وأما من فاته الوقوفُ بعرفةَ في الحج، فهل يأتي بما بقيَ منه من المبيت بمزدلفة ، ورمي الجمار أم لا ؟ بل يقتصر على الطواف والسعي ، ويتحلل بعمرة على روايتين عن أحمد ، أشهرهما : أنَّه يقتصر على الطواف والسعي ؛ لأنَّ المبيتَ والرميَّ من لواحق الوقوف بعرفة وتوابعه ، وإنَّما أمر الله تعالى بذكره عند المشعر الحرام ، وبذكره في الأيام المعدودات لمن أفاض من عرفات ، فلا يؤمر به من لا يقف بعرفة كما لا يؤمر به المعتمر(3) .
__________
(1) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 1/346 ، والهداية للكلوذاني 1/204-205 بتحقيقنا ، ومنتهى الإرادات 1/227 .
(2) انظر : الهداية للكلوذاني 1/192-193 بتحقيقنا .
(3) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/295-296 ، والهداية للكلوذاني 1/247 بتحقيقنا ، والمغني 3/56 ، ومنتهى الإرادات 1/288 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 2/543-544 .
الحديث العاشر
عَنْ أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُإلاَّ طيِّباً ، وإنَّ الله تعالى أمرَ المُؤْمِنينَ بما أمرَ به المُرسَلين ، فقال : { يَا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحا } (1) ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم } (2) ، ثمَّ ذكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفرَ : أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يمُدُّ يدَيهِ إلى السَّماءِ : يا رَب يا رب ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ ، ومَشْرَبُهُ
حَرامٌ(3) ، وَمَلْبَسُهُ حرامٌ ، وَغُذِّيَ بالحَرَامِ ، فأنَّى يُستَجَابُ لِذلكَ ؟ ) . رواهُ مُسلمٌ .
هذا الحديث خرَّجه مسلم(4) من رواية فضيل بن مرزوق، عن عديِّ بن ثابت، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، وخرّجه الترمذي(5) ، وقال : حسن غريب . وفضيل بن مرزوق(6) ثقة وسط خرَّج له مسلم دون البخاري .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله تعالى طيب ) هذا قد جاء أيضاً من حديث سعد بن أبي وقاص ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إن الله طيِّبٌ يحبُّ الطَّيِّبَ ، نظيفٌ يحبُّ النظافة ، جواد يحبُّ الجود ) . خرَّجه الترمذي(7)
__________
(1) المؤمنون : 51 .
(2) البقرة: 172 .
(3) عبارة : ( ومشربه حرام ) سقطت من ( ص ) .
(4) في " صحيحه " 3/85 ( 1015 ) ( 65 ) .
(5) في " الجامع الكبير " ( 2989 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 8839 ) ، وعلي بن الجعد ( 2094 ) ، وأحمد 2/328 ، والدارمي
( 2720 ) ، والبخاري في " رفع اليدين " ( 91 ) ، وابن عدي في " الكامل " 1/264 ، والبيهقي 3/346 ، والبغوي ( 2028 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
(6) من قوله : ( عن عدي بن ثابت ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(7) في " الجامع الكبير " ( 2799 ) .
وأخرجه : الفسوي في " المعرفة والتاريخ " 3/408 ، والبزار ( 1114 ) ، وأبو يعلى
( 791 ) ، وابن حبان في " المجروحين " 1/279 ، وابن عدي في " الكامل " 3/414 من طرق عن سعد بن أبي وقاص ، به .
، وفي إسناده مقال(1) ، والطيب هنا : معناه
الطاهر(2) .
والمعنى : أنَّه تعالى مقدَّسٌ منَزَّه عن النقائص والعيوب كلها ، وهذا كما في قوله : { وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُون } (3) ، والمراد : المنزهون من أدناس الفواحش وأوضَارها(4) .
وقوله : ( لا يقبل إلا طيباً ) قد ورد معناه في حديث الصدقة ، ولفظُه : ( لا يتصدَّق أحدٌ بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً … )(5) ، والمراد أنَّه تعالى لا يقبل مِن الصدقات إلا ما كان طيباً حلالاً .
وقد قيل : إنَّ المراد في هذا الحديث الذي نتكلم فيه الآن بقوله : ( لا يقبلُ الله إلا طيباً ) أعمُّ مِنْ ذلك ، وهو أنَّه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً طاهراً من المفسدات كلِّها ، كالرياء والعُجب ، ولا من الأموال إلا ما كان طيباً حلالاً ، فإنَّ الطيب تُوصَفُ به الأعمالُ والأقوالُ والاعتقاداتُ ، فكلُّ هذه تنقسم إلى طيِّبٍ وخبيثٍ .
__________
(1) في سنده : ( خالد بن إلياس ) ، قال النسائي في " الضعفاء والمتروكون " ( 172 )
: ( مدني متروك الحديث ) ، وقال ابن حبان في " المجروحين " 1/279 : ( يروي الموضوعات عن الثقات حتى يسبق إلى القلب أنَّه الواضع لها ) .
(2) انظر : لسان العرب 8/235 .
(3) النور : 26 .
(4) في ( ص ) : ( ظاهرها وباطنها ) . والأوضار : جمع وضر وهو وسخ الدسم واللبن . انظر : لسان العرب 15/325 .
(5) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 648 ) ، وأحمد 2/418 ، والبخاري 2/134
( 1410 ) ، ومسلم 3/85 ( 1014 ) ( 63 ) و( 64 ) ، وابن ماجه ( 1842 ) ، والترمذي ( 661 ) ، والبغوي ( 1632 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
وقد قيل : إنَّه يدخل في قوله تعالى : { قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } (1) هذا كلُّه(2) .
وقد قسَّم الله تعالى الكلام إلى طيب وخبيث ، فقال : { ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَة } (3) ، { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } (4) ، وقال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } (5) ، ووصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه يحلُّ الطيبات ويحرِّمُ الخبائث .
وقد قيل : إنَّه يدخل في ذلك الأعمالُ والأقوالُ والاعتقاداتُ أيضاً ، ووصف الله تعالى المؤمنين بالطيب بقوله تعالى : { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ } (6) وإنَّ الملائكة تقولُ عند الموت: اخرُجي أيتها النفس الطَّيِّبة التي كانت في الجسد الطيِّب، وإنَّ الملائكة تسلِّمُ عليهم عندَ دُخول الجنة، ويقولون لهم: طبتم فادخلوها خالدين(7)، وقد ورد في الحديث أنَّ المؤمن إذا زار أخاً له في الله تقول له الملائكة : ( طِبْتَ ، وطابَ ممشاك ، وتبوَّأْتَ من الجنة منْزلاً )(8) .
__________
(1) المائدة : 100 .
(2) عبارة : ( هذا كله ) سقطت من ( ص ) .
(3) إبراهيم : 24 .
(4) إبراهيم : 26 .
(5) فاطر : 10 .
(6) النحل : 32 .
(7) عبارة : ( فادخلوها خالدين ) لم ترد في ( ج ) .
(8) أخرجه : ابن المبارك في " مسنده " ( 3 ) ، وفي " الزهد " ، له ( 708 ) ، وأحمد 2/326 و344 و354 ، وعبد بن حميد ( 1451 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 345 ) ، وابن ماجه ( 1443 ) ، والترمذي ( 2008 ) ، وابن حبان ( 2961 ) ، والبيهقي في " شعب
الإيمان " ( 9026 ) وفي " الآداب " ، له ( 219 ) ، والبغوي ( 3472 ) و( 3473 ) من طريق أبي سنان عيسى بن سنان ، عن عثمان بن أبي سودة ، عن أبي هريرة ، به ، وإسناده ضعيف لضعف أبي سنان عيسى بن سنان .
فالمؤمن كله طيِّبٌ قلبُه ولسانُه وجسدُه بما سكن في قلبه من الإيمان ، وظهر على لسانه من الذكر ، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان ، وداخلة في اسمه ، فهذه الطيباتِ(1) كلُّها يقبلها الله - عز وجل - .
ومن أعظم ما يحصل به طيبةُ الأعمَال للمؤمن طيبُ مطعمه ، وأنْ يكون من
حلال ، فبذلك يزكو عملُه .
وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى أنَّه لا يقبل العملُ ولا يزكو إلاَّ بأكل الحلال ، وإنَّ أكل الحرام يفسد العمل ، ويمنع قبولَه ، فإنَّه قال بعد تقريره : ( إنَّ الله لا يقبلُ إلاَّ طيباً ) إنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً } (2) ، وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } (3) .
والمراد بهذا أنَّ الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال ، وبالعمل الصالح ، فما دام الأكل حلالاً ، فالعملُ صالح مقبولٌ ، فإذا كان الأكلُ غير حلالٍ ، فكيف يكون العمل مقبولاً ؟
وما ذكره بعد ذَلِكَ من الدعاء ، وأنَّه كيف يتقبل مع الحرام ، فهوَ مثالٌ لاستبعاد قَبُولِ الأعمال مع التغذية بالحرام . وقد خرَّج الطبراني بإسناد فيهِ نظر عن ابن عباس(4)
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( التي هي الإيمان والعمل الصالح ) .
(2) المؤمنون : 51 .
(3) البقرة : 172 .
(4) في " المعجم الأوسط " ( 6495 ) .
وعزاه الهيثمي في " المجمع " 10/294 إلى " المعجم الصغير " والصواب " المعجم الأوسط " ، وقال : ( وفيه من لم أعرفهم ) .
، قالَ : تُليَتْ هذه الآية عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً } (1) ، فقام سعدُ بنُ أبي وقاص ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أنْ يجعلني مستجابَ الدعوة ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( يا سعد(2) ، أطِبْ مطعَمَك تكن مستجاب الدَّعوة ، والذي نفس محمد بيده إنَّ العبد ليقذف اللُّقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عمل أربعين يوماً، وأيُّما عبدٍ نبت لحمُه من سُحْتٍ فالنارُ أولى به ).
وفي " مسند الإمام أحمد " (3) بإسناد فيه نظر أيضاً عن ابن عمر قال : ( من اشترى ثوباً بعشرة دراهم في ثمنه درهمٌ حرام، لم يقبلِ الله له صلاة ما كان عليه ) ، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه فقال : صُمَّتا إنْ لم أكن سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ويُروى من حديث عليٍّ - رضي الله عنه - مرفوعاً معناه أيضاً، خرَّجه البزار وغيره بإسنادٍ ضعيف
جداً(4).
__________
(1) البقرة : 168 .
(2) يا سعد ) لم ترد في ( ص ) .
(3) في المسند 2/98 .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 849 ) ، وابن حبان في " المجروحين " 2/40 ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 6114 ) ، والخطيب في " تاريخه " 14/21 وإسناده ضعيف جداً ، فهو مسلسل بالعلل ، وقال الحافظ العراقي : ( سنده ضعيف جداً ) فيض القدير 6/84 .
(4) في " مسنده " ( 819 ) ، وإسناده ضعيف جداً ، فيه النضر بن منصور ، قال البخاري
: ( منكر الحديث ) . وعقبة بن علقمة أبو الجنوب ، قال أبو حاتم : ( ضعيف الحديث ) . انظر : الجرح والتعديل 6/402 ( 1743 ) ، ومجمع الزوائد 10/292 .
وخرَّج الطبراني بإسنادٍ فيه ضعفٌ من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا خرج الرجلُ حاجاً بنفقةٍ طيبةٍ ، ووضع رجله في الغَرْزِ(1) ، فنادى : لبَّيْكَ اللهمَّ لبَّيكَ ، ناداه منادٍ من السَّماء : لبَّيْكَ وسَعْدَيك زادُك حلالٌ ، وراحلتك حلالٌ(2) ، وحجك مبرورٌ غير مأزورٍ ، وإذا خرج الرجلُ بالنفقة الخبيثة ، فوضع رجله في الغَرْزِ ، فنادى : لبَّيكَ اللهمَّ لبَّيك ، ناداه منادٍ من السَّماء : لا لبَّيْكَ ولا سَعْدَيك ، زادُك حرام ، ونفقتُك حرام ، وحجُّكَ غيرُ مبرورٍ ) (3). ويُروى من حديث عمر نحوه بإسناد ضعيف أيضاً(4) .
وروى أبو يحيى القتات(5) ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : لا يقبل الله صلاة امريءٍ في جوفه حرام .
__________
(1) في ( ص ) : ( في المزدلفة ) .
(2) عبارة : ( وراحلتك حلال ) سقطت من ( ص ) .
(3) في " المعجم الأوسط " ( 5228 ) ، وإسناده ضعيف جداً ، سليمان بن داود اليمامي ، قال أبو حاتم : ( هو ضعيف الحديث ، منكر الحديث ، ما أعلم له حديثاً صحيحاً ) . انظر : الجرح والتعديل 4/108 ( 487 ) .
(4) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 3/585 ، وفي إسناده أبو الغصن الدجين بن ثابت ، قال النسائي في " الضعفاء والمتروكون " ( 179 ) : ( ليس بثقة ) .
(5) وهو ضعيف .
وقد اختلفَ العلماءُ في حجِّ من حجَّ بمالٍ حرام ، ومن صلَّى في ثوب حرام ، هل يسقط عنه فرضُ الصلاة والحج بذلك ، وفيه عن الإمام أحمد روايتان ، وهذه الأحاديث المذكورة تدلُّ على أنَّه لا يتقبل العملُ مع مباشرة الحرام ، لكن القبول قد يُراد به الرضا بالعمل ، ومدحُ فاعله ، والثناءُ عليه بين الملائكة والمباهاةُ به ، وقد يُراد به حصولُ الثواب والأجر عليه ، وقد يراد به سقوط الفرض به من الذمة ، فإنْ كان المراد هاهنا القبولَ بالمعنى الأوَّل أو الثاني لم يمنع ذلك من سقوط الفرض به من الذمة(1) ، كما ورد أنَّه لا تقبل صلاة الآبق ، ولا المرأة التي زوجها عليها ساخطٌ ، ولا من أتى كاهناً ، ولا من شرب الخمر أربعين يوماً ، والمراد - والله أعلم - نفي القبول بالمعنى الأوَّل أو الثاني ، وهو المراد - والله أعلم - من قوله - عز وجل - : { إنَّما يَتقبَّلُ الله من المتَّقين } (2) . ولهذا كانت هذه الآية يشتدُّ منها خوفُ السَّلف على نفوسهم ، فخافوا أنْ لا يكونوا من المتَّقين الذين يُتقبل منهم .
وسُئل أحمد عن معنى ( المتقين ) فيها ، فقال : يتقي الأشياء ، فلا يقع فيما لا يَحِلُّ له .
__________
(1) من قوله : ( فإن كان المراد هاهنا ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) المائدة : 27 .
وقال أبو عبد الله الناجي(1) الزاهد رحمه الله : خمسُ خصال بها تمامُ العمل : الإيمان بمعرفة الله - عز وجل - (2)، ومعرفةُ الحقِّ ، وإخلاصُ العمل للهِ ، والعمل على السُّنَّةِ ، وأكلُ الحلالِ، فإن فُقدَتْ واحدةٌ، لم يرتفع العملُ ، وذلك أنَّك إذا عرَفت الله - عز وجل - ، ولم تَعرف الحقَّ ، لم تنتفع ، وإذا عرفتَ الحقَّ ، ولم تَعْرِفِ الله ، لم تنتفع ، وإنْ عرفتَ الله ، وعرفت الحقَّ ، ولم تُخْلِصِ العمل ، لم تنتفع ، وإنْ عرفت الله ، وعرفت الحقَّ (3)، وأخلصت العمل ، ولم يكن على السُّنة ، لم تنتفع ، وإنْ تمَّتِ الأربع ، ولم يكن الأكلُ من حلال لم تنتفع(4) .
وقال وُهيب بن الورد(5) : لو قمتَ مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أو حرام(6) .
وأما الصدقة بالمال الحرام ، فغيرُ مقبولةٍ كما في " صحيح مسلم " (7) عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقبلُ الله صلاةً بغير طهورٍ ، ولا صدقةً من غلولٍ ) .
__________
(1) وهو : سعيد بن بريد الزاهد . انظر : الجرح والتعديل 4/8 ( 26 ) .
(2) في ( ص ) : ( الإيمان بالله - عز وجل - ) .
(3) من قوله : ( لم تنتفع ، وإذا عرفت ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/310 .
(5) وهو ابن أبي الورد القرشي ، أبو عثمان ، ويقال : أبو أمية المكي ، مولى بني مخزوم ، أخو
عبد الجبار بن الورد ، واسمه عبد الوهاب ، ووهيب لقب غلب عليه . انظر : تهذيب الكمال 7/505 ( 7366 ) .
(6) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/154 .
(7) الصحيح 1/140 ( 224 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 1874 )، وأحمد 2/19 و20 و39 و51 و57 و73، وابن ماجه
( 272 )، والترمذي ( 1 )، وابن الجارود ( 65 )، وابن خزيمة ( 8 )، والطحاوي في "شرح المشكل" ( 3299 ) ، وابن حبان ( 3366 ) ، والبيهقي 4/191 من طرق عن ابن عمر، به.
وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال(1) : ( ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطَّيِّبَ- إلا أخذها الرحمان بيمينه )(2)، وذكر الحديث .
وفي " مسند الإمام أحمد " (3) عن ابن مسعود ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يكتسب عبدٌ مالاً من حرام ، فيُنفِقَ منه ، فَيُباركَ له فيه ، ولا يتصدَّقُ به ، فيتقبلَ منه، ولا يتركه خلفَ ظهره إلا كان زادَه إلى النار، إنَّ الله لا يمحو السيِّىء بالسيِّئ ، ولكن يمحو السَّيىءَ بالحسن ، إنَّ الخبيثَ لا يمحو الخبيثَ ) .
__________
(1) من قوله : ( لا يقبل الله صلاة ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) أخرجه : الحميدي ( 1154 ) ، وأحمد 2/538 ، والدارمي ( 1682 ) ، والبخاري 9/154 ( 7430 ) ، ومسلم 3/85 ( 1014 ) ( 64 ) والنسائي 5/57 وفي " الكبرى " ، له ( 2304 ) و( 7734 ) و( 7735 ) و( 7759 ) وفي " التفسير " ، له ( 419 ) ، وابن خزيمة ( 2425 ) و( 2426 ) و( 2427 ) ، وابن حبان ( 3316 ) و( 3319 ) ، والبغوي ( 1631 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
(3) في " مسنده " 1/387 .
وأخرجه : البزار ( 2026 ) ، والشاشي ( 877 ) ، والحاكم 2/447 ، وأبو نعيم في "الحلية" 4/165 و166 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 607 ) و( 5524 )، والبغوي ( 2030 ) من طرق عن عبد الله بن مسعود ، به ، وإسناده ضعيف ورفعه منكر ، الصواب فيه الوقف وعلته الصباح بن محمد ضعيف وقد خولف .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 1134 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 8990 ) وأبو نعيم في " الحلية " 4/165 عن عبد الله بن مسعود ، موقوفاً .
ويُروى من حديث دراج، عن ابن حُجيرة، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من كسب مالاً حراماً ، فتصدق به ، لم يكن له فيه أجرٌ ، وكان إصرُه عليه ) . خرَّجه ابنُ حبان في " صحيحه " (1) ، ورواه بعضهم موقوفاً على أبي هريرة .
ومن مراسيل القاسم بن مُخَيْمِرَة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أصاب مالاً مِنْ مأثم ، فوَصَلَ به رحمه ، أو تصدّق به ، أو أنفقه في سبيل الله ، جمع الله ذلك جميعاً ، ثم قذف به في نار جهنم ) (2) .
ورُوي عن أبي الدرداء ، ويزيد بن مَيْسَرَة أنَّهما جعلا مثلَ من أصاب مالاً من غير حلِّه ، فتصدَّق به مثلَ من أخذ مال يتيم ، وكسَا بهِ أرملةً(3) .
وسُئِلَ ابنُ عباس عمَّن كان على عمل ، فكان يَظلِمُ ويأخُذُ الحرام ، ثم تابَ ، فهو يحجُّ ويعتِق ويتصدَّق منه ، فقال : إنَّ الخبيث لا يُكَفِّرُ الخبيثَ ، وكذا قال ابن مسعود : إنَّ الخبيثَ لا يُكفِّر الخبيث ، ولكن الطَّيِّبَ يُكفِّرُ الخبيث(4) ، وقال الحسنُ : أيها المتصدِّق على المسكين يرحمُه ، ارحم من قد ظَلَمْتَ .
واعلم أنَّ الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين :
__________
(1) الصحيح ( 3216 ) و( 3367 ) .
وأخرجه أيضاً : ابن الجارود ( 336 ) ، والحاكم 1/548 ، والبيهقي 4/84 من طرق عن أبي هريرة ، به .
(2) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 625 ) ، وأبو داود في " المراسيل " ( 131 ) .
(3) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 737 ) .
(4) أخرجه : البزار ( 1977 ) ، والطبراني في " المعجم الأوسط " ( 7728 ) من طرق عن
عبد الله بن مسعود مرفوعاً ، وهو ضعيف .
أحدهما : أنْ يتصدَّقَ به الخائنُ أو الغاصبُ ونحوهما عن نفسه ، فهذا هو المراد من هذه الأحاديث أنه لا يُتُقبَّلُ منه ، بمعنى : أنَّه لا يُؤجَرُ عليه ، بل يأثمُ بتصرفه في مال غيره بغير إذنه ، ولا يحصلُ للمالك بذلك أجرٌ ؛ لعدم قصده ونيته ، كذا قاله جماعةٌ من العلماء ، منهم : ابنُ عقيلٍ من أصحابنا ، وفي كتاب عبد الرزاق من رواية زيد بن الأخنس الخزاعي : أنَّه سأل سعيد بنَ المسيب قال : وجدت لقطةً ، أفأتصدق بها ؟ قالَ : لا تُؤجر أنت ولا صاحبُها(1) .
ولعلَّ مرادَه إذا تَصدَّقَ بها قبلَ تعريفها الواجب . ولو أخذ السلطانُ ، أو بعضُ نوابه من بيت المال ما لا يستحقه ، فتصدق منه أو أعتق ، أو بنى به مسجداً أو غيره مما ينتفع به الناسُ، فالمنقولُ عن ابنِ عمر أنَّه كالغاصبِ إذا تصدق بما غصبه، كذلك قالَ لعبد الله بن عامر أميرِ البصرة ، وكان الناس قد اجتمعُوا عنده في حال موته وهم يُثنون عليهِ ببرِّه وإحسانه، وابن عمر ساكتٌ، فطلب منه أنْ يتكلَّم، فروى له حديث : ( لا يقبلُ الله صدقة من غُلولٍ )(2)، ثم قال له(3): وكنت على البصرة.
وقال أسدُ بنُ موسى في " كتاب الورع " : حدثنا الفضيلُ بن عياض ، عن
منصور ، عن تميم بن سلمة قال : قال ابنُ عامر(4) لعبد الله بن عمر : أرأيتَ هذا العقاب التي نُسَهِّلُها ، والعيون التي نُفَجِّرُها ، ألنا فيها أجرٌ ؟ فقال ابن عمر : أما علمتَ أنَّ خبيثاً لا يُكَفِّرُ خبيثاً قط ؟(5)
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 18622 ) .
(2) تقدم تخريجه .
(3) قال له ) سقطت من ( ص ) .
(4) تحرف في ( ص ) إلى : ( ابن عباس ) .
(5) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 1063 ) .
حدثنا عبدُ الرحمان بنُ زياد ، عن أبي مليح ، عن ميمون بن مِهران قال : قال ابنُ عمر لابنِ عامر وقد سأله عن العتق : مَثَلُكَ مثلُ رجلٍ سرق إبلَ حاجٍّ ، ثم جاهد بها(1) في سبيل الله ، فانظر هل يقبل منه ؟
وقد كان طائفة من أهل التشديد في الورع(2) ، كطاووسٍ ووهيب بن الورد(3) يَتَوقَّوْنَ الانتفاع بما أحدثه مثلُ هؤلاء الملوك ، وأما الإمام أحمد – رحمه الله – فإنَّه رخَّصَ فيما فعلوه من المنافع العامة ، كالمساجد والقناطر والمصانع ، فإنَّ هذه ينفق عليها من مال الفيء ، اللهم إلاَّ أنْ يتيقَّن أنَّهم فعلوا شيئاً من ذلك بمالٍ حرام كالمُكوس والغصوب ونحوها ، فحينئذ يتوقَّى الانتفاع بما عمل بالمال الحرام ، ولعلَّ ابنَ عمر إنَّما أنكر عليهم أخذَهُم لأموال بيت المال لأنفسهم ، ودعواهم أنَّ ما فعلوه منها بعد ذلك ، فهو صدقة منهم ، فإنَّ هذا شبيهٌ بالغصوب ، وعلى مثل هذا يُحمل إنكار من أنكر من العلماء على الملوك بنيان المساجد .
__________
(1) في ( ص ) : ( فتصدق بها ) .
(2) عبارة : ( في الورع ) لم ترد في ( ص ) .
(3) في ( ص ) : ( ووهب بن المنبه ) .
قال أبو الفرج بنُ الجوزي : رأيت بعضَ المتقدمين سُئلَ عمن كسب حلالاً وحراماً من السلاطين والأمراء ، ثم بنى الأربطة والمساجد : هل له ثواب ؟ فأفتى بما يُوجِبُ طيب قلب المنفق ، وأنَّ لهُ في إيقاف ما لا يملكه نوع سمسرة ؛ لأنَّه لا يعرف أعيان المغصوبين ، فيرد عليهم . قالَ : فقلتُ واعجباً من متصدِّرين للفتوى لا يعرفونَ أصولَ الشريعة ، ينبغي أنْ ينظر في حال هذا المنفق أوَّلاً ، فإنْ كانَ سلطاناً ، فما يخرج من بيت المال ، قد عرفت وجوهُ مصارفِه ، فكيف يمنع مستحقيه ، ويشغله بما لا يفيد من بناء مدرسة أو رباط؟ وإنْ كان مِن الأُمراء ونوَّابِ السلاطين، فيجب أنْ يردَّ ما يجب ردُّه إلى بيت المال ، وإنْ كان حراماً أو غصباً ، فكلُّ تصرف فيه حرام ، والواجب ردُّه على من أخذ منه أو ورثته ، فإن لم يعرف ردَّ إلى بيت المال(1) يصرف في المصالح أو في الصدقة ، ولم يحظ آخذه بغير الإثم . انتهى .
وإنَّما كلامُه في السلاطين الذين عهدهم في وقته الذين يمنعون المستحقين من الفيء حقوقهم ، ويتصرَّفونَ فيه لأنفسهم تصرف المُلاَّكِ ببناء ما ينسبونه إليهم من مدارسَ وأربطةٍ ونحوها مما قد لا يحتاج إليه ، ويخص به قوماً دون قوم ، فأما لو فرض إمامٌ عادلٌ يعطي الناس حقوقهم من الفيء ، ثم يبني لهم منه ما يحتاجون إليه من مسجدٍ ، أو مدرسة ، أو مارستان ، ونحوِ ذلك كان ذلك جائزاً ، ولو كان بعضُ من يأخذ المال لنفسه من بيت المال بنى بما أخذه بناء محتاجاً إليه في حال ، يجوز البناء فيه من بيتِ المال ، لكنَّه نسبه إلى نفسه ، فقد يتخرَّجُ على الخلاف في الغاصب إذا ردَّ المالَ إلى المغصوب منه على وجه الصدقة والهبة هل يبرأ بذلك أم
لا ؟ وهذا كلُّه إذا بني على قدر الحاجة من غير سرفٍ ولا زخرفةٍ .
__________
(1) من قوله : ( وإن كان حراماً أو غصباً ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
وقد أمر عمرُ بنُ عبد العزيز بترميم مسجد البصرة من مال بيت المال ، ونهاهم أنْ يتجاوزوا ما تصدَّع منه ، وقال : إني لم أجد للبنيان في مال الله حقاً ، ورُوي عنه أنَّه قال : لا حاجة للمسلمين فيما أضرَّ ببيت مالهم .
واعلم أنَّ من العلماء من جعل تصرُّفَ الغاصب ونحوه في مال غيره موقوفاً على إجازة مالكه ، فإنْ أجاز تصرُّفه فيه جاز ، وقد حكى بعضُ أصحابنا روايةً عن أحمد أنَّ من أخرج زكاته من مالٍ مغصوبٍ ، ثم أجازه لهُ المالك ، جاز وسقطت عنه الزكاة ، وكذلك خرَّج ابن أبي موسى روايةً عن أحمد : أنَّه إذا أعتق عبدَ غيره عن نفسه ملتزماً ضمانه في ماله ، ثم أجازه المالك جاز ، ونفذ عتقه ، وهو خلافُ نصِّ أحمد ، وحكي عن الحنفية أنَّه لو غصب شاة ، فذبحها لمتعته وقرانه ، ثم أجازه المالك أجزأت عنه .
الوجه الثاني من تصرفات الغاصب في المال المغصوب : أنْ يتصدَّق به عن صاحبه إذا عجز عن ردِّه إليه أو إلى ورثته ، فهذا جائزٌ(1) عند أكثر العلماء ، منهم : مالكٌ ، وأبو حنيفة ، وأحمد وغيرهم . قال ابنُ عبد البر : ذهب الزُّهري ومالك والثوري ، والأوزاعي ، والليث إلى أنَّ الغالَّ إذا تفرَّق أهلُ العسكر ولم يَصِلْ إليهم أنَّه يدفع إلى الإمام خمسه ، ويتصدق بالباقي ، روي ذلك عن عُبادة بن الصامت ومعاوية ، والحسن البصري ، وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس ؛ لأنَّهما كانا يريان أنْ يتصدَّق بالمال الذي لا يعرف صاحبه ، قال : وقد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها ، وجعلوه إذا جاء مخيراً بين الأجر والضمان ، وكذلك الغصوب . انتهى(2) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) التمهيد 1/295 . ( طبعة دار إحياء التراث العربي ) .
وروي عن مالك بن دينار ، قال : سألتُ عطاء بن أبي رباح عمن عنده مالٌ
حرام ، ولا يعرف أربابه ، ويريدُ الخروج منه ؟ قال : يتصدق به ولا أقول : إنَّ ذلك يُجزئ عنه . قال مالك : كان هذا القول من عطاء أحبَّ إليَّ من وزنه ذهباً .
وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئاً مغصوباً : يردُّه إليهم ، فإنْ لم يقدر
عليهم ، تصدَّق به كلَّه ، ولا يأخذ رأس ماله ، وكذا قال فيمن باع شيئاً ممن تكره معاملته لشبهة ماله ، قال : يتصدَّقُ بالثمن ، وخالفه ابنُ المبارك ، وقال : يتصدق بالرِّبح خاصَّةً ، وقال أحمد : يتصدَّق بالربح .
وكذا قال فيمن ورث مالاً من أبيه ، وكان أبوه يبيعُ ممَّن تكره معاملته : أنَّه يتصدَّق منه بمقدار الرِّبح ، ويأخذ الباقي (1). وقد رُوي عن طائفةٍ من الصَّحابة نحوُ ذلك : منهم : عمرُ بنُ الخطاب ، وعبدُ الله بنُ يزيد الأنصاري .
والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام : أنَّها تُحفظ ، ولا يُتصَدَّقُ بها حتى يظهر مستحقُّها .
وكان الفضيلُ بنُ عياض يرى : أنَّ من عنده مالٌ حرامٌ لا يعرف أربابه ، أنَّه يُتلفه ، ويُلقيه في البحر ، ولا يتصدَّق به ، وقال : لا يتقرَّب إلى الله إلاَّ بالطيب .
والصحيح الصدقةُ به ؛ لأنَّ إتلاف المال وإضاعته منهيٌّ عنه ، وإرصاده أبداً تعريض له للإتلاف ، واستيلاء الظلمة عليه ، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقرُّباً منه بالخبيث ، وإنَّما هي صدقةٌ عن مالكه ، ليكون نفعُه له في الآخرة حيث يتعذَّرُ عليه الانتفاعُ به في الدنيا .
وقوله : ( ثم ذكر الرجل يُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبرَ ، يمدُّ يديه إلى السَّماء : يا رب ، يا رب ، ومطعمُه حرام ، ومشربه حرامٌ ، وملبسه حرام ، وغُذِّي بالحرام ، فأنَّى يُستجاب لذلك ؟! )(2) .
__________
(1) من قوله : ( وقال أحمد : يتصدق بالربح ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) تقدم تخريجه .
هذا الكلام أشار فيه - صلى الله عليه وسلم - إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابَته ، وإلى ما يمنع من إجابته ، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة :
أحدهما : إطالةُ السفر ، والسفر بمجرَّده يقتضي إجابةَ الدعاء ، كما في حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاثُ دعواتٍ مستجابات لا شك فيهن : دعوةُ المظلومِ ، ودعوةُ المسافر ، ودعوةُ الوالد لولده ) (1) ، خرَّجه أبو داود وابن ماجه والترمذي ، وعنده : ( دعوة الوالد على ولده ) .
وروي مثله عن ابن مسعود من قوله .
ومتى طال السفر ، كان أقربَ إلى إجابةِ الدُّعاء ؛ لأنَّه مَظنِّةُ حصول انكسار النفس بطول الغُربة عن الأوطان ، وتحمُّل المشاق ، والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء .
والثاني : حصولُ التبذُّل في اللِّباس والهيئة بالشعث والإغبرار ، وهو - أيضاً - من المقتضيات لإجابة الدُّعاء ، كما في الحديث المشهور عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ربَّ أشعث أغبرَ ذي طِمرين ، مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبرَّه )(2)
__________
(1) أخرجه : أبو داود ( 1531 ) ، وابن ماجه ( 3862 ) ، والترمذي ( 1905 ) و(3448) .
وأخرجه : الطيالسي ( 2517 ) ، وأحمد 2/258 و348 و434 و478 و517 و523 ، وعبد بن حميد ( 1421 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 32 ) ( 481 ) ، والعقيلي في "الضعفاء" 1/72 ، وابن حبان ( 2699 ) ، والطبراني في " المعجم الأوسط " ( 24 ) ، والبغوي ( 1394 ) ، قال الترمذي : ( هذا حديث حسن ) ، على أنَّ في إسناده مقالاً ، ولعله قال ذلك لما للحديث من شواهد .
وأخرجه : أحمد 4/154 من طريق عقبة بن عامر الجهني ، به .
(2) أخرجه : عبد بن حميد ( 1236 ) ، والطبراني في " المعجم الأوسط " ( 8650 ) بهذا اللفظ من حديث أنس بن مالك ، به .
وأخرجه : مسلم 8/36 ( 2622 ) ( 138 ) و8/154 ( 2854 ) ( 48 ) من حديث أبي هريرة ، به ، ولم يذكر : ( ذي طمرين ) .
. ولما خرج النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للاستسقاء ، خرج متبذِّلاً متواضعاً متضرِّعاً (1) . وكان مُطَرِّفُ بنُ عبد الله قد حُبِسَ له ابنُ أخٍ ، فلبس خُلْقان ثيابه ، وأخذ عكازاً بيده ، فقيل له : ما هذا ؟ قالَ : أستكين لربي ، لعلَّه أنْ يشفِّعني في ابن أخي(2) .
الثالث : مدُّ يديه إلى السَّماء، وهو من آداب الدُّعاء التي يُرجى بسببها إجابته، وفي حديث سلمانَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله تعالى حييٌّ كريمٌ ، يستحيي إذا رفع الرجلُ إليه يديه أنْ يردَّهما صِفراً خائبتين ) ، خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه . وروي نحوه من حديث أنس وجابر وغيرهما(3)
__________
(1) أخرجه : أحمد 1/230 و269 و355 ، وأبو داود ( 1165 ) وابن ماجه ( 1266 ) ، والترمذي ( 558 ) و( 559 ) ، والنسائي 3/156 و163 وفي " الكبرى " ، له ( 1807 )
و( 1808 ) و( 1811 ) و( 1826 ) ، وابن خزيمة ( 1405 ) و( 1408 ) و( 1419 ) ، وابن حبان ( 2862 ) ، والطبراني في " المعجم الكبير " ( 10818 ) و( 10819 ) ، والحاكم 1/326 ، والبيهقي 3/347 ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/198 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 61/238 .
(3) أخرجه : أحمد 5/438 ، وأبو داود ( 1488 ) ، والترمذي ( 3556 ) ، وابن ماجه
( 3865 ) .
وأخرجه : ابن حبان ( 876 ) و( 880 ) ، والطبراني في " المعجم الكبير " ( 6148 ) وفي
" الدعاء " ، له ( 202 ) ، وابن عدي 2/562 ، والحاكم 1/497 ، والقضاعي في
" مسند الشهاب " ( 1110 ) ، والبيهقي 2/211 ، والخطيب في " تاريخه " 8/317 ، والبغوي ( 1385 ) من طرق عن سلمان الفارسي ، به ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
وأخرجه : أحمد في " الزهد " ( 821 ) ، وهناد في " الزهد " ( 1361 ) من طرق عن سلمان الفارسي ، موقوفاً .
وأخرجه : معمر في "جامعه " ( 19648 ) ، وعبد الرزاق ( 3250 ) ، والحاكم 1/497-498 ، والبغوي ( 1386 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
وأخرجه : أبو يعلى ( 1867 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به .
وأخرجه : ابن عدي 2/431 من حديث ابن عمر ، به .
.
وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في الاستسقاء حتى يُرى بياضُ إبطيه(1) ، ورَفَعَ يديه يومَ بدرٍ يستنصرُ على المشركين حتى(2) سقط رداؤه عن منكبيه(3)
__________
(1) عن أنس بن مالك : أنَّه قال : لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في شيءٍ من الدعاء إلا في الاستقاء ، فإنه كان يرفعُ يديه حتى يرى بياض إبطيه .
أخرجه : أحمد 3/181 و282 ، والدارمي ( 1543 ) ، والبخاري 2/39 ( 1031 ) و4/231 ( 3565 ) ، وفي " رفع اليدين " ، له ( 84 ) ، ومسلم 3/24 ( 895 ) ( 5 )
و( 7 ) وأبو داود ( 1170 ) ، وابن ماجه ( 1180 ) ، والنسائي 3/158 وفي " الكبرى " ، له ( 1817 ) و( 1819 ) ، وابن خزيمة ( 1411 ) و( 1791 ) ، والبيهقي 3/357 ، والبغوي ( 1163 ) و( 1164 ) من طرق عن أنس بن مالك ، به .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) عن عمر بن الخطاب ، قال : نظر نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاث مئة وبضعة عشر رجلاً ، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة ، ثمَّ مدَّ يديه وجعل يهتف بربه : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) فما زال يهتف بربه ، ماداً يديه ، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه من منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ، فقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك ، إنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } الأنفال : 9 .
أخرجه : أحمد 1/30 و32 ، وعبد بن حميد ( 31 ) ومسلم 5/156 ( 1763 ) ( 58 ) ، وأبو داود ( 2690 ) ، والترمذي ( 3081 ) واللفظ له ، والبزار ( 196 ) وابن حبان
( 4793 ) ، وأبو نعيم في " الدلائل " ( 408 ) ، والبيهقي 6/321 ، وفي " الدلائل " ، له 3/51-52 من طرق عن عمر بن الخطاب ، به .
.
وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صفة رفع يديه في الدُّعاء(1) أنواعٌ متعددة ، فمنها
أنَّه كان يُشير بأصبعه السَّبَّابةِ فقط(2) ، وروي عنه أنَّه كان يفعل ذلك على المنبر(3)
__________
(1) في ( ص ) : ( إلى السماء ) .
(2) عن سعد ، قال : مرَّ عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أدعو بأصابعي فقال : ( أحد أحد ) وأشار بالسَّبابة .
أخرجه : أبو داود ( 1499 ) ، والنسائي 3/38 وفي " الكبرى " ، له ( 1196 ) ، والحاكم 1/536 من طرق عن سعد بن أبي وقاص ، به . وعن أبي هريرة أنه ، قال : إنَّ رجلاً كان يدعو بأصبعيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أحد أحد ) .
أخرجه : أحمد 2/420 و520 ، والترمذي ( 3557 ) والنسائي 3/38 وفي " الكبرى " ، له
( 1195 ) ، وابن حبان ( 884 ) ، والحاكم 1/536 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (1134) ، وفي " الدعوات الكبير " ، له ( 265 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
(3) عن عمارة بن رويبة ، قال : لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ما يزيد على هذه - يعني : السبابة التي تلي الإبهام .
أخرجه : أحمد 4/135 و136 و261 ، والدارمي ( 1568 ) و( 1569 ) ، ومسلم 3/13
( 874 ) ( 53 ) ، وأبو داود ( 1104 ) ، والترمذي ( 515 ) ، وابن أبي عاصم في
"الآحاد والمثاني" ( 1581 ) ، وابن خزيمة ( 1793 ) و( 1794 ) ، وابن حبان ( 882 ) ، والبيهقي 3/210 ، والبغوي ( 1079 ) من طرق عن عمارة بن رويبة ، به .
وعن سهل بن سعد ، قال : ما رأيت رسول الله شاهراً يديه قط يدعو على منبره ولا على
غيره . ولكن رأيته ، يقول هكذا : وأشار بإصبعه السبابة يحركها .
أخرجه : أحمد 5/337 ، وأبو داود ( 1105 ) ، وابن خزيمة ( 1450 ) ، وابن حبان
( 883 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 6023 ) ، والحاكم 1/535-536 ، والبيهقي 3/210 من طرق عن سهل بن سعد ، به .
، وفعله لما ركب راحلته(1) .
وذهب جماعة من العلماء إلى أنَّ دعاء القنوت في الصلاة يُشير فيه بإصبعه ، منهم : الأوزاعي ، وسعيدُ بن عبد العزيز ، وإسحاق بن راهويه . وقال ابن عباس وغيره : هذا هو الإخلاص في الدعاء(2) ، وعن ابن سيرين : إذا أثنيت على الله ، فأَشِرْ بإصبعٍ واحدة .
ومنها : أنَّه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه وجعل ظُهورَهما إلى جهةِ القبلة وهو مستقبلها ، وجعل بطونَهما ممَّا يلي وجهَه(3) . وقد رُويت هذه الصَّفةُ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستسقاء(4) ، واستحبّ بعضُهمُ الرفع في الاستسقاء على هذه الصفة ، منهم : الجوزجاني .
وقال بعض السَّلف : الرفع على هذا الوجه تضرُّعٌ .
__________
(1) هو جزء من حديث طويل لجابر بن عبد الله في حجة الوداع .
أخرجه : أحمد 3/320 ، وعبد بن حميد ( 1135 ) ، والدارمي ( 1857 ) ، ومسلم 4/38-43 ( 1218 ) ( 147 ) و( 148 ) ، وأبو داود ( 1905 ) ، وابن ماجه
( 3074 ) ، وابن الجارود ( 465 ) و( 469 ) ، وابن خزيمة ( 2534 ) و( 2620 ) =
= ... و( 2687 ) و( 2754 ) و( 2755 ) و( 2757 ) و( 2802 ) و( 2812 ) و( 2826 و( 2855 ) و( 2944 ) ، وابن حبان ( 3944 ) ، والبيهقي /6-9 وفي " الدلائل " ، له 5/433-438 .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 3244 ) ، والبيهقي 2/133 من طرق عن ابن عباس ، به .
(3) أخرجه : ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " ( 2590 ) ، والطبراني في "الكبير" ( 6625 ) من طرق عن السائب بن خلاد ، به .
وأخرجه : أحمد 4/56 من حديث خلاد بن السائب ، به .
(4) عن عمير مولى آبي اللحم : أنَّه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستسقي عند أحجار الزَّيت قريباً من الزوراء قائماً ، يدعو يستسقي رافعاً كفيه ، لا يجاوز بهما رأسه مقبل بباطن كفيه إلى وجهه .
أخرجه : أحمد 5/223 ، وأبو داود ( 1168 ) ، والترمذي ( 557 ) وابن حبان ( 878 ) ، والحاكم 1/535 .
ومنها عكسُ ذلك ، وقد رُوي عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء أيضاً ، ورُوي عن جماعة من السَّلف أنَّهم كانوا يدعون كذلك ، وقال بعضهم : الرفع على هذا الوجه استجارةٌ بالله - عز وجل - واستعاذة به ، منهم : ابنُ عمر ، وابنُ عباس ، وأبو هريرة ، ورُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان إذا استسقى رفعَ يديه ، وإذا (1) استعاذَ رفع يديه على هذا الوجه(2) .
ومنها : رفع يديه ، جعل كفَّيه إلى السَّماء وظهورهما إلى الأرض . وقد ورد الأمرُ بذلك في سُؤال الله - عز وجل - في غير حديث(3) ، وعن ابن عمر ، وأبي هريرة ، وابن سيرين أنَّ هذا هو الدُّعاء والسُّؤال لله - عز وجل - .
__________
(1) عبارة : ( استسقى رفع يديه وإذا ) لم ترد في ( ج ) .
(2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا جعل باطن كفيه إلى وجهه .
أخرجه : أحمد 4/56 من حديث خلاد بن السائب ، به .
(3) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إذا سألتم الله عز وجل فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها ) .
أخرجه : أبو داود ( 1486 ) من حديث مالك بن يسار ، به .
ومنها : عكسُ ذلك ، وهو قلب كفيه وجعل ظهورهما إلى السماء وبطونهما مما يلي الأرض . وفي " صحيح مسلم " (1) عن أنس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفَّيه إلى السَّماء . وخرَّجه الإمام أحمد(2) - رحمه الله - ولفظه : ( فبسط يديه ، وجعل ظاهرهما مما يلي السماء ) . وخرَّجه أبو داود(3) ، ولفظه : استسقى هكذا ، يعني : مدّ يديه ، وجعل بطونَهما مما يلي الأرض .
وخرّج الإمام أحمد(4) من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - واقفاً بعرفة يدعو هكذا ورفع يديه حيال ثُنْدوتِه(5) ، وجعل بُطون كفَّيه مما يلي الأرض . وهكذا وصف حمادُ بن سلمة رفع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يديه بعرفة . ورُوي عن ابن سيرينَ : أنَّ هذا هو الاستجارة . وقال الحميدي : هذا هو الابتهالُ .
والرابع : الإلحاح على الله بتكرير ذكر (6) ربوبيته ، وهو مِنْ أعظم ما يُطلب به إجابةُ الدعاء ، وخرَّج البزارُ(7) من حديث عائشة مرفوعاً : ( إذا قال العبدُ : يا ربِّ أربعاً ، قال الله : لَبَّيْكَ عَبدي ، سل تُعْطَه ) .
وخرَّج الطبراني(8)
__________
(1) الصحيح 3/24 ( 869 ) ( 6 ) ، وأخرجه أيضاً : عبد بن حميد ( 1338 ) ، والبيهقي 3/357 من طرق عن أنس بن مالك ، به .
(2) في " مسنده " 3/153 و241 ، وأخرجه : البيهقي 3/357 من طرق عن أنس بن مالك ، به .
(3) في " سننه " ( 1171 ) ، وأخرجه : عبد بن حميد ( 1293 ) ، وابن خزيمة ( 1412 ) ، والبيهقي 3/357 من طرق عن أنس بن مالك ، به .
(4) في " مسنده " 3/13 و14 و85 و96 .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 29407 ) ، وإسناده ضعيف لضعف بشر بن حرب .
(5) ثندوته : الثندوتان للرجل كالثديين للمرأة . انظر : النهاية 1/223 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) في " زوائده " كما في " كشف الأستار " ( 3145 ) ، وإسناده ضعيف لضعف الحكم بن سعيد الأموي .
(8) في " المعجم الأوسط " ( 5981 ) .
وأخرجه البخاري في "تاريخه الكبير" 6/457 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 665 ) ، وهو حديث ضعيف لضعف عامر بن خارجة ، وقال البخاري : ( في إسناده نظر ) ، وقال أبو حاتم كما في " الجرح والتعديل " 3/188 : ( إسناده منكر ) .
وغيره من حديث سعد بن خارجة : أنَّ قوماً شكوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قُحُوط المطر ، فقال : ( اجثُوا على الرُّكَب ، وقولوا : يا ربِّ يا ربّ(1) ) ورفع السَّبَّابة إلى السَّماء ، فسُقُوا حتى أحبُّوا أنْ يُكشَفَ عنهم .
وفي " المسند " وغيره عن الفضل بن عباس(2) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الصلاةُ مثنى مثنى ، وتَشَهُّدٌ في كلِّ ركعتين ، وتضرُّعٌ ، وتخشعٌ ، وتمسكنٌ ، وتُقنعُ يَديك - يقول : ترفعهما إلى ربِّك مستقبلاً بهما وجهَك - وتقول : يا ربِّ يا ربِّ ، فمن لم يفعل ذلك فهي خِداجٌ )(3) .
وقال يزيد الرَّقاشي عن أنس : ما مِنْ عبدٍ يقول : يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ ، إلا قال له ربُّه : ( لبيك لبيك ) .
وروي عن أبي الدرداء وابن عباس أنَّهما كانا يقولان : اسم الله الأكبر ربِّ
ربِّ(4) .
__________
(1) في ( ص ) : ( يا رب ) فقط .
(2) تحرف في ( ص ) إلى : ( الفضيل بن عياض ) .
(3) أخرجه : أحمد 1/211 و4/167 ، والترمذي ( 385 ) ، والنسائي في "الكبرى" ( 615 ) و( 1440 ) ، وأبو يعلى ( 6738 ) ، وابن خزيمة ( 1213 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 1094 ) و( 1095 ) و( 1096 ) ، والطبراني في " الكبير " 18/( 757 ) ، وفي " الأوسط " ، له ( 4827 ) ، والبيهقي 2/487 ، والبغوي ( 740 ) ، وهو حديث ضعيف مداره على عبد الله بن نافع وهو مجهول .
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29365 ) ، والحاكم 1/505 عن أبي الدرداء ، وابن عباس ، به .
وعن عطاءٍ قال : ما قال عبدٌ يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ (1) ثلاث مرات ، إلاّ نظر الله إليه ، فذكر ذلك للحسن ، فقال : أما تقرءون القرآن ؟ ثم تلا قوله تعالى
: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ } (2) (3) .
ومن تأمَّل الأدعية المذكورة في القرآن وجدها غالباً تفتتح باسم الرَّبِّ ، كقوله تعالى : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (4) ،
{ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } (5) ، وقوله : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } (6) . ومثل هذا في القرآن كثير .
__________
(1) يا رب ) لم ترد في ( ج ) .
(2) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 4668 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/313 عن الحسن البصري .
(3) آل عمران : 191-195 .
(4) البقرة : 201 .
(5) البقرة : 286 .
(6) البقرة : 8 .
وسئل مالك وسفيان عمَّن يقول في الدعاء: يا سيدي ، فقالا : يقول يا ربّ . زاد مالك : كما قالت الأنبياء في دعائهم .
وأما ما يمنع إجابة الدعاء ، فقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أنّه التوسُّع في الحرام أكلاً وشرباً ولبساً وتغذيةً ، وقد سبق حديثُ ابن عباس في هذا المعنى أيضاً ، وأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لسعد : ( أطِبْ مطعمَكَ ، تَكُنْ مُستجاب الدعوة )(1) فأكل الحلال وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجبٌ لإجابة الدعاء .
ورَوى عكرمةُ بن عمار : حدَّثنا الأصفر ، قال : قيل لسعد بن أبي وقاص : تُستجابُ دعوتُك من بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : ما رفعتُ إلى فمي لقمةً إلا وأنا عالمٌ من أين مجيئُها ، ومن أين خرجت .
وعن وهب بن مُنبِّه قال : من سرَّه أنْ يستجيب الله دعوته ، فليُطِب طُعمته ، وعن سهل بن عبد الله قال : من أكل الحلال أربعين يوماً (2) أُجيبَت دعوتُه ، وعن يوسف بن أسباط قال : بلغنا أنَّ دعاءَ العبد يحبس عن السماوات بسوءِ المطعم .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) في ( ج ) : ( صباحاً ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فأنَّى يستجاب لذلك ) ، معناه : كيف يُستجاب له ؟ فهوَ استفهامٌ وقع على وجه التَّعجُّب والاستبعاد ، وليس صريحاً في استحالة الاستجابة ، ومنعها بالكلية ، فَيُؤْخَذُ من هذا أنَّ التوسُّع في الحرام والتغذي به من جملة موانع الإجابة ، وقد يُوجد ما يمنعُ هذا المانع من منعه ، وقد يكونُ ارتكابُ المحرمات الفعلية مانعاً من الإجابة أيضاً ، وكذلك ترك الواجبات كما في الحديث : أنَّ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنع استجابة دعاء (1) الأخيار(2) ، وفعل الطاعات يكون موجباً لاستجابة الدعاء . ولهذا لمَّا توسَّل الذين دخلوا الغارَ ، وانطبقت عليهمُ الصخرةُ بأعمالهم الصالحةِ التي أخلصوا فيها لله تعالى ودَعُوا الله بها، أجيبت دعوتهم .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( يا أيها الناس ، إنَّ الله - عز وجل - ، يقول : مروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر من قبل أن تدعوني فلا أجيبكم ، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني، فلا أنصركم ).
أخرجه : إسحاق بن راهويه ( 864 ) ، وأحمد 6/159 ، وابن ماجه ( 4004 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 3304 ) و( 3305 ) و( 3306 ) ، وابن حبان ( 290 ) ، والطبراني في " المعجم الأوسط " ( 6665 ) من طرق عن عائشة ، به ، وإسناده ضعيف .
وأخرجه : أحمد 5/388 و391 ، والترمذي ( 2169 ) ، والبيهقي 10/93 ، وفي " شعب الإيمان " ، له ( 7558 ) ، والبغوي ( 4154 ) من طرق عن حذيفة بن اليمان ، بنحوه ، وقال الترمذي : ( حديث حسن ) .
وأخرجه : أحمد 5/390 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/279 من طرق عن حذيفة ، موقوفاً .
وقال وهب بن مُنبِّه : مَثَلُ الذي يدعو بغير عمل ، كمثل الذي يرمي بغير وَتَر(1) . وعنه قال : العملُ الصالحُ يبلغ الدعاء ، ثم تلا قوله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه } (2) .
وعن عمر قال : بالورع عما حرَّم الله يقبلُ الله(3) الدعاء والتسبيحَ .
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : يكفي مع البرِّ من الدعاء مثلُ ما يكفي الطعامُ من الملح(4) .
وقال محمد بن واسع : يكفي من الدعاء (5) مع الورع اليسيرُ(6) ، وقيل لسفيان : لو دعوتَ الله ؟ قالَ : إنَّ تركَ الذنوب هوَ الدعاء .
وقال الليث(7) : رأى موسى - عليه السلام - رجلاً رافعاً يديه وهو يسأل الله مجتهداً ، فقالَ موسى : أي ربِّ عبدُك دعاكَ(8) حتَّى رحمتَه ، وأنت أرحمُ الراحمين ، فما صنعتَ في حاجته ؟ فقال : يا موسى لو رفع يديه حتّى يَنقَطِعَ ما نظرتُ في حاجته حتى ينظر في حقِّي .
وخرَّج الطبراني(9) بإسنادٍ ضعيفٍ عن ابن عباس مرفوعاً معناه .
__________
(1) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 322 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/53 .
(2) فاطر : 10 .
(3) لفظ الجلالة لم يرد في ( ص ) .
(4) في ( ص ) : ( من الدعاء ما يكفي من الملح ) .
والأثر أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 319 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 789 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/164 .
(5) عبارة : ( من الدعاء ) لم ترد في ( ص ) .
(6) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 59/89 .
(7) عبارة : ( وقال الليث ) لم ترد في ( ص ) .
(8) لم ترد في ( ص ) .
(9) في " المعجم الأوسط " ( 540 ) ، وفي إسناده : ( سلام الطويل ) ، قال النسائي في
" الضعفاء والمتروكون " ( 237 ) : ( متروك الحديث ) ، وقال الدارقطني في " الضعفاء والمتروكون " ( 265 ) : ( متروك ) .
وقال مالك بنُ دينار : أصاب بني إسرائيل بلاءٌ ، فخرجوا مخرجاً ، فأوحى الله تعالى إلى نبيِّه أنْ أَخبرهم أنَّكم تخرُجون إلى الصَّعيد بأبدانٍ نجسة ، وترفعون إليَّ أكُفَّاً قد سفكتُم بها الدماء وملأتم بها بيوتَكم من الحرام ، الآن اشتدَّ غضبي عليكم ، ولن تزدادوا مني إلا بعداً .
وقال بعض السَّلف : لا تستبطئ الإجابة ، وقد سددتَ طرقها بالمعاصي ، وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال :
نحن نَدْعُو الإله في كُلِّ كَربٍ
كَيْفَ نَرجُو إجابةً لدُعاءٍ
ثُمَّ نَنساهُ عِندَ كَشفِ الكُروبِ
قَدْ سَدَدْنا طرِيقَها بالذُّنوب
الحديث الحادي عشر
عَنِ الحَسَنِ بن علي سِبْطِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ورَيحَانَتِهِ - رضي الله عنه - قال : حَفِظْتُ مِنْرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( دَعْ ما يريبُكَ إلى ما لاَ يرِيبُكَ ) . رواه النسائي(1) والترمِذيُّ(2)، وقال : حَسَنٌ صحيحٌ .
هذا الحديث خرّجه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابنُ حبان في
" صحيحه " والحاكم(3) من حديث بُريد بن أبي مريم ، عن أبي الحوراء ، عن الحسن ابن عليٍّ ، وصححه الترمذي ، وأبو الحوراء(4) السَّعدي ، قال الأكثرون : اسمه ربيعةُ بنُ شيبان ، ووثقه النسائي وابن حبان ، وتوقف أحمد في أنَّ أبا الحوراء (5)اسمه ربيعةُ بن شيبان ، ومال إلى التفرقة بينهما ، وقال الجوزجاني : أبو الحوراء مجهول لا يعرف(6) .
وهذا الحديثُ قطعة من حديثٍ طويلٍ فيه ذكر قنوت الوتر(7) ، وعند الترمذي وغيره زيادة في هذا الحديث وهي : ( فإنَّ الصِّدق طُمأنينة ، وإنَّ الكذبَ ريبةٌ ) ، ولفظ ابنِ حبان : ( فإنَّ الخيرَ طمأنينةٌ ، وإنَّ الشرَّ ريبةٌ ) .
وقد خرّجه الإمامُ أحمد(8)
__________
(1) المجتبى 8/327 .
(2) الجامع الكبير ( 2518 ) .
(3) أخرجه : أحمد 1/200، والترمذي ( 2518 ) ، والنسائي 8/327 ، وابن حبان ( 722 )، والحاكم 2/13 .
(4) من قوله : ( عن الحسن بن علي ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) عبارة : ( أبا الحوراء ) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : تهذيب الكمال 2/468 .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) في "مسنده" 3/153. وفي إسناده : أبو عبد الله الأسدي مجهول .
وأخرجه : أحمد 3/111 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 22920 ) من طرق عن أنس ابن مالك ، موقوفاً .
بإسنادٍ فيه جهالة عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال
: ( دَعْ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك ) وخرَّجه من وجهٍ آخر أجود منه موقوفاً على أنس (1).
وخرّجه الطبراني(2) من رواية مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعاً ، قال الدارقطني : وإنَّما يُروى هذا من قول ابنِ عمر ، وعن عمر(3) ، ويُروى عن مالك من قوله (4) . انتهى .
ويروى بإسنادٍ ضعيف ، عن عثمان بنِ عطاء الخراساني - وهو ضعيف - عن
أبيه ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه قال لرجل : ( دَعْ ما يريبُكَ إلى ما لا يريبُكَ ) ، قال : وكيف لي بالعلم بذلك ؟ قال : ( إذا أردتَ أمراً ، فضع يَدَكَ على صدرِكَ ، فإنَّ القلبَ يضطرب للحرام ، ويسكن للحلال ، وإنَّ المسلم الورعَ يدع الصغيرةَ مخافةَ الكبيرة ) . وقد رُوي عن عطاء الخراساني مرسلاً (5).
وخرّج الطبراني(6) نحوه بإسناد ضعيف عن واثلة بن الأسقع ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وزاد فيه : قيل له : فمن الورعُ ؟ قال : ( الذي يقف عند الشبهة ) .
__________
(1) من قوله : ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(2) في " الصغير " ( 276 ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/352 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 645 ) ، والخطيب في "تاريخه" 2/220 و6/386 من طرق عن ابن عمر ، به ، وإسناده ضعيف جداً ؛ لشدة ضعف عبد الله بن أبي رومان .
(3) عن عمر ) لم ترد في ( ص ) .
(4) وكذا قال الخطيب في " تاريخه " 3/673 طبعة دار الغرب .
(5) وهذه الرواية لم أقف عليها ، وفيها ثلاث علل : ضعف عثمان ، وعدم سماع الحسن من أبي هريرة ، وإعلاله بالإرسال .
(6) في " الكبير " 22/( 193 ) .
وأخرجه : أبو يعلى ( 7491 ) ، وإسناده ضعيف جداً .
وقد روي هذا الكلام موقوفاً على جماعة من الصحابة : منهم عُمَرُ ، وابنُ عمرَ ، وأبو الدرداء ، وعن ابن مسعود ، قال : ما تريدُ إلى ما يريبُكَ وحولَك أربعةُ آلاف لا تريبُكَ ؟!(1)
وقال عمر(2) : دَعُوا الرِّبا والرِّيبة ، يعني : ما ارتبتم فيه ، وإنْ لم تتحققوا أنَّه رِباً .
ومعنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها ، فإنَّ الحلالَ المحض لا يَحْصُلُ لمؤمن في قلبه منه ريب - والريب : بمعنى القلق والاضطراب - بل تسكن إليه النفسُ ، ويطمئن به القلبُ ، وأما المشتبهات فيَحْصُل بها للقلوب القلقُ(3) والاضطرابُ الموجب للشك .
وقال أبو عبد الرحمان العمري الزاهد : إذا كان العبدُ ورعاً ، ترك ما يريبه إلى ما لا يريبُه .
وقال الفضيلُ : يزعم الناسُ أنَّ الورعَ شديدٌ ، وما ورد عليَّ أمران إلا أخذتُ بأشدِّهما ، فدع ما يريبُك إلى ما لا يريبُك(4) .
وقال حسّانُ بن أبي سنان : ما شيء أهون من الورع ، إذا رابك شيء فدعه . وهذا إنَّما يسهل على مثل حسّان - رحمه الله - .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 8791 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 1067 ) ، والبزار ( 8791 ) من طرق عن ابن عمر ، موقوفاً .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 16154 ) من حديث أبي الدرداء ، موقوفاً .
(2) لم ترد في ( ص ) .
(3) من قوله : ( بل تسكن إليه النفس ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 51/297 .
قال ابن المبارك : كتب غلامٌ لحسّانَ بن أبي سنان إليه من الأهواز : إنَّ قَصَبَ السكر أصابته آفةٌ ، فاشتر السكر فيما قِبَلَكَ ، فاشتراه من رجل ، فلم يأتِ عليه إلا قليلٌ فإذا فيما اشتراه ربحَ ثلاثين ألفاً ، قال : فأتى صاحبَ السُّكرِ ، فقال : يا هذا إنَّ غلامي كان قد كتب إليَّ ، فلم أُعْلِمكَ ، فأَقِلْني فيما اشتريتُ منك ، فقال له الآخر : قد أعلمتني الآن ، وقد طَيَّبْتُه لك ، قال : فرجع فلم يحتمل قَلْبُهُ ، فأتاه ، فقال : يا هذا إني لم آتِ هذا الأمر من قبل وجهه ، فأُحبُّ أنْ تستردَّ هذا البَيع ، قال : فما زال به حتى ردَّ عليه .
وكان يونُس بنُ عبيد إذا طُلِبَ المتاعُ ونَفَقَ ، وأرسل يشتريه يقول لمن يشتري له : أَعْلِمْ من تشتري منه أنَّ المتاعَ قد طُلِبَ .
وقال هشامُ بنُ حسّان : ترك محمدُ بن سيرين أربعين ألفاً فيما لا ترون به اليومَ بأساً(1) .
وكان الحجاج بنُ دينار قد بعث طعاماً إلى البصرة مع رجلٍ وأمره أنْ يبيعه يَوْمَ يدخل بسعر يومه ، فأتاه كتابه : أني قدمت البصرة ، فوجدتُ الطعام مبغَّضاً فحبستُه ، فزاد الطعامُ ، فازددتُ(2) فيه كذا وكذا ، فكتب إليه الحجاج : إنَّك قد خُنتنا ، وعملتَ بخلافِ ما أمرناك به ، فإذا أتاك كتابي ، فتصدَّق بجميع ثمن ذَلِكَ الطعام على فقراء البصرة ، فليتني أسلم إذا فعلتَ ذلك .
وتنَزَّه يزيدُ بنُ زُريع عن خمس مئة ألف من ميراث أبيه ، فلم يأخذه ، وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين ، وكان يزيدُ يعملُ الخُوص ، ويتقوَّتُ منه إلى أنْ مات - رحمه الله -.
__________
(1) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 56/165 .
(2) سقطت من ( ص ) .
وكان المِسْوَرُ بنُ مَخرَمَةَ قد احتكر طعاماً كثيراً ، فرأى سحاباً في الخريف
فكرهه ، فقال : ألا أُراني قد كرهت ما يَنفعُ المسلمين ؟ فآلى أنْ لا يربحَ فيه شيئاً ، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب ، فقال له عمر : جزاك الله خيراً(1) .
وفي هذا أنَّ المحتكر ينبغي له التنَزُّه عن ربح ما احتكره احتكاراً منهياً عنه . وقد نصَّ الإمامُ أحمد رحمه الله على التنزُّه عن ربح ما لم يدخل في ضمانه لِدخوله في ربح ما لم يضمن ، وقد نهى عنه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -(2) ، فقال أحمد في رواية عنه فيمن أجَّر ما استأجره بربحٍ : إنَّه يتصدَّق بالربح ، وقال في رواية عنه في ربح مال المضاربة إذا خالف فيه المضارب : إنَّه يتصدق به ، وقال في رواية عنه فيما إذا اشترى ثمرة
قبل بدو(3) صلاحها بشرط القطع ، ثم تركها حتّى بدا صلاحها : إنَّه يتصدَّق بالزيادة ، وحمله طائفة من أصحابنا على الاستحباب ؛ لأنَّ الصدقة بالشبهات مستحب .
وروي عن عائشة – رضي الله عنها - : أنَّها سُئِلَتْ عن أكل الصيدِ للمحرم، فقالت : إنَّما هي أيامٌ قلائل فما رابك فدعه(4) ، يعني : ما اشتبه عليك ، هل هو حلال أو حرام ، فاتركه ، فإنَّ الناسَ اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يَصِدْه هُوَ .
__________
(1) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 61/123 .
(2) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يحلّ سلفٌ وبيعٌ ، ولا شرطان في بيعٍ ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك ) .
أخرجه : أحمد 2/174 و178 و205 ، والدارمي ( 2563 ) ، وأبو داود ( 3504 ) ، وابن ماجه ( 2188 ) ، والترمذي ( 1234 ) ، والنسائي 7/288 و295 وفي " الكبرى " ، له ( 6204 ) و( 6226 ) و( 6227 ) ، والبيهقي 5/340 من طرق عن عبد الله بن عمرو ابن العاص ، به ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(3) سقطت من ( ج ) .
(4) أخرجه : عبد الرزاق ( 8326 ) .
وقد يستدلُّ بهذا على أنَّ الخروج من اختلاف العلماء أفضلُ(1) ؛ لأنَّه أبعدُ عن الشبهة ، ولكن المحققون من العلماء من أصحابنا وغيرهم على أنَّ هذا ليس هو على إطلاقه، فإنَّ من مسائل الاختلاف ما ثبت فيه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رخصة ليس لها معارض، فاتباعُ تلك الرخصة أولى من اجتنابها ، وإنْ لم تكن تلك الرخصة بلغت بعضَ العلماء ، فامتنع منها لذلك ، وهذا كمن تَيَقَّن الطهارة ، وشكَّ في الحدث ، فإنَّه صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ( لا يَنْصَرِف حتّى يَسمع صوتاً أو يَجِدَ(2) ريحاً )(3) ولا سيما إنْ كان شكُّه في الصلاة ، فإنَّه لا يجوز له قطعُها لِصحة النهي عنه ، وإنْ كان بعض العلماء يوجب ذلك .
__________
(1) وهذا إذا لم يترجح أحد الدليلين ، وأما إذا ترجح أحد الدليلين فيؤخذ بالراجح ويترك المرجوح .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : الحميدي ( 413 )، وأحمد 4/40 ، والبخاري 1/46 ( 137 ) و1/55 ( 177 ) و3/71 ( 2056 ) ، ومسلم 1/189 ( 361 ) ( 98 ) ، وأبو داود ( 176 ) ، وابن ماجه ( 513 ) ، والنسائي 1/98-99 وفي "الكبرى" ، له ( 152 ) ، وابن الجارود في " المنتقى " ( 3 ) ، وابن خزيمة ( 25 ) و( 1018 ) ، والبيهقي 1/114 و161 ، و2/254 ، و7/364 من طرق عن عبد الله بن زيد ، به .
وأخرجه : أحمد 2/410 و414 و435 و471 ، والدارمي ( 727 ) ، ومسلم 1/190
( 362 ) ( 99 )، وأبو داود ( 177 ) ، وابن ماجه ( 515 ) والترمذي ( 74 ) و( 75 ) ، وابن خزيمة ( 24 ) و( 28 ) ، والبيهقي 1/117 و161 و2/254 من طرق عن أبي هريرة ، به .
وإنْ كان للرخصة معارض ، إما من سنة أخرى ، أو من عمل الأُمَّةِ بخلافها ، فالأولى تركُ العمل بها ، وكذا لو كان قد عمل بها شذوذٌ من الناس ، واشتهر في الأمة العملُ بخلافها في أمصار المسلمين من عهد الصحابة ، فإنَّ الأخذ(1) بما عليه عملُ المسلمين هو المتعيَّنُ ، فإنَّ هذه الأمة قد أجارها الله أنْ يظهر أهلُ باطلها على أهل حَقِّها ، فما ظهر العملُ به في القرون الثلاثة المفضلة ، فهو الحقُّ ، وما عداه فهو باطل .
وهاهنا أمر ينبغي التفطنُ له وهو أنَّ التدقيقَ في التوقف عن(2) الشبهات إنَّما يَصْلُحُ لمن استقامت أحواله كلها ، وتشابهت أعمالُه في التقوى والورع ، فأما مَنْ يقع في انتهاك المحرَّمات الظاهرة ، ثم يريد أنْ يتورَّعَ عن شيء من دقائق الشُّبَهِ ، فإنَّه لا يحتمل له ذلك ، بل يُنكر عليه ، كما قال ابنُ عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق : يسألونني عن دم البعوض وقد قتلُوا الحسين ، وسمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( هُمَا رَيحَانَتاي من الدُّنيا )(3) .
وسأل رجلٌ بشرَ بنَ الحارث عن رجلٍ له زوجةٌ وأُمَّه تأمره بطلاقها ، فقال : إنْ كان بَرَّ أمه في كُلِّ شيءٍ ، ولم يبق من برِّها إلا طلاقُ زوجته فليفعلْ ، وإنْ كان يَبَرُّها بطلاق زوجته ، ثم يقوم بعد ذلك إلى أُمِّه ، فيضربها ، فلا يفعل .
__________
(1) في ( ص ) : ( كان العمل ) .
(2) عبارة : ( التوقف عن ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : الطيالسي ( 1927 ) ، وأحمد 2/85 و93 و114 و153 ، والبخاري 5/33
( 3753 ) و8/8 ( 5994 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 85 ) ، والترمذي ( 3770 ) ، والنسائي في " الخصائص " ( 145 ) ، وأبو يعلى ( 5739 ) ، وابن حبان ( 6969 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 2884 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/70-71 و7/165 ، والبغوي
( 3935 ) من طرق عن ابن عمر ، به .
وسئل الإمامُ أحمد رحمه الله عن رجلٍ يشتري بقلاً ، ويشترط الخُوصة ، يعني : التي تربط بها جُرْزَةُ(1) البقل ، فقال أحمد : أيش هذه المسائل ؟! قيل لهُ : إنَّه إبراهيمَ بن أبي نعيم، فقال أحمد : إنْ كان إبراهيمُ بنُ أبي نعيم ، فنعم هذا يُشبه ذاك.
وإنَّما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله ، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا ، وقد كان الإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع ، فإنَّه أمر من يشتري له سمناً ، فجاء به على ورقة ، فأمر بردِّ الورقة إلى البائع .
وكان الإمام أحمد لا يستمدُّ من محابر أصحابه ، وإنَّما يُخرج معه محبرَةً يستمدُّ منها ، واستأذنه رجل أنْ يكتب من محبرته ، فقال له : اكتب فهذا ورع مظلم، واستأذن رجل آخر في ذلك فتبسَّم ، وقال : لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا ، وهذا قاله على وجه التواضع وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع ، وكان يُنكِرُه على من لم يَصِلْ(2) إلى هذا المقام ، بل يتسامحُ في المكروهات الظاهرة ، ويقدم على الشبهات من غير توقف .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فإنَّ الخيرَ طُمأنينة وإنَّ الشرَّ ريبة ) (3) يعني : أنَّ الخيرَ تطمئنُّ به
القلوبُ ، والشرَّ ترتابُ به ، ولا تطمئنُّ إليه ، وفي هذا إشارة إلى الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه ، وسيأتي مزيدٌ لهذا الكلام على حديث النَّواس بن سمعان إنْ شاء الله تعالى(4) .
__________
(1) في ( ص ) : ( عوزة ) .
(2) في ( ص ) : ( على من يقبل ) .
(3) سبق تخريجه .
(4) سيأتي تخريجه عند الحديث السابع والعشرين .
وخرَّج ابنُ جرير بإسناده عن قتادة ، عن بشير بن كعب : أنَّه قرأ هذه الآية :
{ فامشُوا في منَاكبِها } (1) ثم قال لجاريته : إنْ دَرَيْتِ ما مناكِبُها ، فأنت حُرَّةٌ لوجه الله ، قالت: مناكبُها : جبالُها ، فكأنَّما سُفِعَ في وجهه ، ورغب في جاريته ، فسألهم، فمنهم من أمره ، ومنهم من نهاه ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : الخيرُ طمأنينة والشر ريبة ، فذَرْ ما يريبك إلى ما لا يريبك(2) .
وقوله في الرواية الأخرى : ( إنَّ الصدقَ طمأنينةٌ ، وإنَّ الكذبَ ريبةٌ ) يشير إلى أنَّه لا ينبغي الاعتمادُ على قول كلِّ قائلٍ كما قال في حديث وابصة : ( وإنْ أفتاك الناسُ وأفتوكَ ) (3) وإنَّما يُعْتَمَدُ على قولِ مَنْ يقول الصدقَ ، وعلامةُ الصدق أنَّه تطمئن به القلوبُ، وعلامة الكذب أنَّه تحصل به الريبةُ ، فلا تسكن القلوبُ إليه ، بل تَنفِرُ منه .
ومن هنا كان العقلاء في عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعوا كلامَه وما يدعو إليه ، عرفوا أنَّه صادق ، وأنَّه جاء بالحق ، وإذا سمعوا كلامَ مسيلمة ، عرفوا أنَّه كاذب ، وأنَّه جاء بالباطل ، وقد رُوي أنَّ عمرو بن العاص سمعه قبلَ إسلامه يَدَّعي أنَّه أُنْزِلَ عليه : يا وَبْرُ يا وَبْرُ ، لَكِ أذنان وصَدْر ، وإنَّك لتعلم يا عمرو ، فقال : والله إني لأعلم أنَّك تَكْذِبُ .
__________
(1) الملك : 15 .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 26739 ) و( 26742 ) ، وطبعة التركي 23/128 و129 .
(3) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 22/( 403 ) .
وقال بعضُ المتقدمين : صوِّرْ ما شئتَ في قلبك ، وتفكر فيه ، ثم قِسه إلى ضدِّه ، فإنَّك إذا ميَّزْتَ بينهما ، عرفتَ الحقَّ من الباطل ، والصدقَ من الكذب ، قال : كأنَّك تَصَوَّرُ محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، ثم تتفكر فيما أتى(1) به من القرآن فتقرأ { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ } (2) ، ثم تَتَصوَّرُ ضِدَّ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فتجده مسيلمة ، فتتفكر فيما جاء به فتقرأ :
ألا يَا رَبَّة المَخْدَع
قَدْ هُيئ لَكِ المَضْجَعْ
يعني قوله لِسجاح حين تزوَّج بها ، قال : فترى هذا - يعني : القرآن - رصيناً
عجيباً ، يلوطُ بالقلب ، ويَحْسُنُ في السمع ، وترى ذا - يعني : قول مسيلمة - بارداً غثَّاً فاحشاً ، فتعلم أنَّ محمداً حقا أُتِي بوحي ، وأنَّ مسيلمة كذَّاب أُتِيَ
بباطل .
__________
(1) في ( ص ) : ( جاء ) .
(2) البقرة : 164 .
الحديث الثاني عشر
عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيهِ ) حديثٌ حَسَنٌ ، رَوَاهُ التِّرمذيُّ وغَيرُهُ .هذا الحديث خرَّجه الترمذي(1) ، وابن ماجه(2) من رواية الأوزاعي ، عن قُرَّةَ ابنِ عبد الرحمان ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنهم - ، وقال الترمذي : غريب(3) ، وقد حسّنه الشيخ المصنف رحمه الله ؛ لأنَّ رجال إسناده ثقات ، وقرة ابن عبد الرحمان بن حيويل(4) وثقة قوم وضعفه آخرون(5)
__________
(1) في " الجامع الكبير " ( 2317 ) .
(2) في " سننه " ( 3976 ) .
وأخرجه : ابن حبان ( 229 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 361 ) ، وابن عدي في "الكامل" 5/454-455 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 192 ) ، والبغوي ( 4132 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(3) ذكره في " الجامع الكبير " عقب حديث ( 2317 ) ، وانظر : تحفة الأشراف 10/432
( 1534 ) .
(4) قال ابن حجر في " التقريب " ( 5541 ) : ( بمهملة مفتوحة ثم تحتانية ، وزن جبريل ) .
(5) من الذين وثقوه : الأوزاعي ، قال عنه : ( ما أحد أعلم بالزهري من قرة بن عبد الرحمان بن حيويل ) . انظر : الجرح والتعديل 7/177 ( 2295 ) .
ومن الذين ضعفوه : الإمام أحمد بن حنبل ، قال عنه : ( منكر الحديث جداً ) ، وقال يحيى بن معين : ( ضعيف الحديث ) ، وقال أبو زرعة : ( الأحاديث التي يرويها مناكير ) ، وقال أبو حاتم : ( ليس بقوي ) . انظر : الجرح والتعديل 7/177 ( 2295 ) .
، وقال ابنُ عبد البرِّ(1) : هذا الحديثُ محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من رواية الثقات ، وهذا موافق لتحسين الشيخ له ، وأما أكثر الأئمة ، فقالوا : ليس هو محفوظاً بهذا الإسناد وإنَّما هو محفوظٌ عن الزهري ، عن عليّ بن حسين ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً(2) ، كذلك رواه الثقات عن الزهري ، منهم : مالك في " الموطأ " (3) ، ويونس ، ومعمر ، وإبراهيم ابن سعد إلا أنَّه قال : ( من إيمان المرء تركه ما لا يعنيه )(4) وممن قال : إنَّه لا يصح إلا عن عليّ بن حسين مرسلاً الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، والبخاري ، والدارقطني(5) ، وقد خلط الضعفاءُ في إسناده عن الزهري تخليطاً فاحشاً ، والصحيح فيه المرسل ، ورواه عبد الله(6) بن عمر(7) العمري ، عن الزهري ، عن عليِّ بن حسين ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فوصله وجعله من مسند الحسين بن عليٍّ ، وخرَّجه الإمامُ أحمد في "
__________
(1) كلام ابن عبد البر هذا لم أجده في " التمهيد " .
(2) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2628 ) برواية الليثي ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 4/188 ، والترمذي ( 2318 ) ، والرامهرمزي في " المحدّث الفاصل " ( 90 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/249 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 193 ) ، والبغوي ( 4133 ) من طرق عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، مرسلاً .
(3) الموطأ ( 2628 ) برواية الليثي .
(4) عن يونس ، أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20617 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 193 ) ، وأما إبراهيم بن سعد فلم أقف له على رواية ، والله أعلم .
(5) لم أجد كلام الإمام أحمد ، ويحيى بن معين . وكلام البخاري في " التاريخ الكبير " 4/188 ، وكلام الدارقطني في " العلل " 3/108 ( 310 ) .
(6) في ( ص ) : ( ورواه عبد الرحمان وعبد الله ) .
(7) تحرف في ( ج ) إلى : ( عمرو ) والصواب ما أثبته . انظر : الجرح والتعديل 5/131
( 499 ) .
مسنده " من هذا الوجه(1) ، والعمري ليس بالحافظ(2) ، وخرَّجه أيضاً من وجه آخر عن الحسين ، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (3)، وضعفه البخاري في
" تاريخه " من هذا الوجه أيضاً ، وقال : لا يصحُّ إلا عن عليِّ بن حسين مرسلاً(4) ، وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أخر وكُلُّها ضعيفة .
وهذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الأدب ، وقد حكى الإمامُ أبو عمرو بن الصلاح ، عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانه أنَّه قال : جماعُ آداب(5) الخير وأزمته تتفرَّعُ من أربعة أحاديث : قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ كَانَ يُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر فليَقُلْ خيراً أو ليَصْمُتْ ) (6) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مِنْ حُسْنِ إسلامِ المَرءِ تَركُهُ ما لا يَعْنِيهِ ) (7) ، وقوله للذي اختصر له في الوصية : ( لا تَغْضَبْ(8) ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -
: ( المُؤْمِنُ يُحبُّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه )(9) .
__________
(1) في " مسنده " 1/201 ، وسبق تخريجه موسعاً .
(2) قال أحمد بن حنبل : ( صالح لا بأس به ، قد روي عنه ، ولكن ليس مثل عبيد الله ) ، وقال يحيى بن معين : ( صويلح ) . انظر : الجرح والتعديل 5/131 ( 499 ) ، وقال الذهبي
: ( صدوق في حفظه شيء ) ، وقال ابن المديني : ( عبد الله ضعيف ) ، وقال ابن حبان =
= ... : ( كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة ، حتى غفل عن حفظ الأخبار، وجودة الحفظ للآثار، فلما فحش خطؤه : استحق الترك ) . انظر : ميزان الاعتدال 2/465 ( 4472 ) .
(3) من قوله : ( وجعله من مسند الحسين … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) انظر : التاريخ الكبير 4/188 .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) سيأتي تخريجه عند الحديث الخامس عشر .
(7) سبق تخريجه .
(8) سيأتي تخريجه عند الحديث السادس عشر .
(9) سيأتي تخريجه عند الحديث الثالث عشر .
ومعنى هذا الحديث : أنَّ مِنْ حسن إسلامه تَركَ ما لا يعنيه من قولٍ وفعلٍ ، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال ، ومعنى يعنيه : أنْ تتعلق عنايتُه به ، ويكونُ من مقصده ومطلوبه ، والعنايةُ : شدَّةُ الاهتمام بالشيء ، يقال : عناه يعنيه : إذا اهتمَّ به وطلبه ، وليس المُراد أنَّه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس ، بل بحكم الشرع والإسلام ، ولهذا جعله من حسن الإسلام ، فإذا حَسُنَ إسلامُ المرء ، ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال ، فإنَّ الإسلامَ يقتضي فعل الواجبات كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل - عليه السلام - .
وإنَّ الإسلام الكاملَ الممدوحَ يدخل فيه تركُ المحرمات ، كما قال - صلى الله عليه وسلم -
: ( المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده ) (1)
__________
(1) أخرجه : أحمد 2/379 ، والترمذي ( 2627 ) ، والنسائي 8/104-105 ، وابن حبان
( 180 ) ، والحاكم 1/10 من طرق عن أبي هريرة ، به .
وأخرجه: البخاري 1/9 ( 10 ) ، ومسلم 1/47 ( 40 ) ( 64 ) ، وأبو داود ( 2481 ) ، وابن حبان ( 196 ) من طرق عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، به .
وأخرجه : الطيالسي ( 1777 ) ، وأحمد 3/372 ، ومسلم 1/48 ( 41 ) ( 65 ) ، وابن حبان ( 197 ) من طرق عن جابر بن عبد الله ، به .
، وإذا حسن الإسلامُ ، اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات ، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها ، فإنَّ هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامهُ ، وبلغ إلى درجة الإحسان ، وهو أنْ يَعْبُدَ الله تعالى كأنَّه يراه ، فإنْ لم يكن يراه ، فإنَّ الله يراه ، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه ، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه ، فقد حسن إسلامه ، ولزم من ذلك أنْ يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام ، ويشتغل بما يعنيه فيه ، فإنَّه يتولَّدُ من هذين المقامين الاستحياءُ من الله وترك كلِّ ما يُستحيى منه ، كما وصَّى - صلى الله عليه وسلم - رجلاً أنْ يستحيي من الله كما يستحيي من رجل من صالحي عشيرته لا يُفارقه .
وفي " المسند " والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً : ( الاستحياء من الله تعالى أنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وما حَوَى ، وتَحفَظَ البَطنَ وما وَعَى ، ولْتَذْكُرِ الموتَ والبِلى(1) ، فمن فَعَل ذلك ، فقد استحيَى من الله حقَّ الحياء )(2) .
قال بعضهم : استحي من الله على قدر قربه منك ، وخَفِ الله على قدر قدرته عليك .
وقال بعضُ العارفين : إذا تكلمتَ فاذْكُر سَمعَ اللهِ لك ، وإذا سكتَّ فاذكر نظره إليك(3) .
__________
(1) ج ) : ( ولتذكر الموت والبلى ) .
(2) أخرجه : أحمد 1/387 ، والترمذي ( 2458 ) . =
= ... وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 34320 ) ، وأبو يعلى ( 5047 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 10290 ) ، والحاكم 4/323 ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/209 ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " ( 7730 ) و( 10561 ) ، وإسناده ضعيف لضعف الصباح بن محمد ، وقد تفرد به مرفوعاً ، والحديث معلول بالوقف .
(3) روي هذا القول عن أحمد بن منيع ، وروي عن الربيع بن خثيم ، وروي عن حاتم الأصم . انظر : سير أعلام النبلاء 11/485 ، وصفة الصفوة 3/68 و4/162 .
وقد وقعتِ الإشارةُ في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع كثيرة (1): كقوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (2) ، وقوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } (3) ، وقال تعالى : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } (4) .
وأكثر ما يُراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ذلك في الآيات الأولى التي هي في سورة ( ق ) .
وفي " المسند " من حديث الحسين ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ من حُسْنِ إسلام المَرءِ قِلَّةَ الكَلامِ فيما لا يَعنيه )(5) .
وخرَّج الخرائطي(6) من حديث ابن مسعود قال : أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال :
يا رسول الله إني مطاعٌ في قومي فما آمرهم ؟ قال له : ( مُرْهُم بإفشاء السَّلام ، وقِلَّةِ الكلام إلا فيما يعنيهم ) .
__________
(1) كثيرة ) سقطت من ( ج ) .
(2) ق : 16-18 .
(3) يونس : 61 .
(4) الزخرف : 80 .
(5) سبق تخريجه .
(6) في " مكارم الأخلاق " ( 196 ) ، وإسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ السري بن إسماعيل الكوفي متروك .
وفي " صحيح ابن حبان "(1) عن أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كان في صحف إبراهيم عليه الصَّلاةُ والسلام : وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أنْ تكونَ له ساعات : ساعةٌ يُناجي فيها ربَّه ، وساعةٌ يُحاسِبُ فيها نَفسه ، وساعةٌ يتفكَّرُ فيها في صُنع الله ، وساعةٌ يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب ، وعلى العاقل أنْ لا يكون ظاعناً إلا لثلاث : تزوُّدٍ لمعاد ، أو مَرَمَّةٍ لمعاشٍ ، أو لذَّةٍ في غير محرَّم ، وعلى العاقل أنْ يكونَ بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شأنه ، حافظاً للسانه ، ومَنْ حَسَب كلامَه من عمله قلَّ كلامُه إلا فيما يعنيه ) .
وقال عمر بنُ عبد العزيز - رَحِمه الله - : من عدَّ كلامه من عمله ، قلَّ كلامُه إلا فيما يعنيه(2) . وهو كما قال ؛ فإنَّ كثيراً من الناس لا يعدُّ كلامَه من عمله ، فيُجازف فيه ، ولا يتحرَّى ، وقد خَفِيَ هذا على معاذ بن جبل حتى سأل عنه النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنؤاخذ بما نتكلَّمُ به ؟ قال : ( ثَكِلَتكَ أُمُّك يا معاذ ، وهل يكبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم )(3) .
وقد نفى الله الخير عن كثيرٍ مما يتناجى به الناسُ بينهم ، فقال : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاس } (4) .
وخرَّج الترمذي(5) ، وابن ماجه(6)
__________
(1) في " الإحسان " ( 361 ) ، وإسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ في سنده إبراهيم بن هشام متروك .
(2) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 48/117 .
(3) سيأتي تخريجه عند الحديث التاسع والعشرين .
(4) النساء : 114 .
(5) في " الجامع الكبير " ( 2412 ) .
(6) في " سننه " ( 3974 ) .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 1554 ) ، والبخاري في" التاريخ الكبير " 1/258-259
( 837 ) ، وأبو يعلى ( 7132 ) و( 7134 ) ، والطبراني في " الكبير " 23/( 484 ) ، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " ( 5 ) ، والحاكم 2/512-513 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 305 ) ، وإسناده ضعيف لجهالة أم صالح .
من حديث أمِّ حبيبة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كلُّ(1) كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمرَ بالمعروفِ ، والنهيَ عن المنكر ، وذكر الله - عز وجل - ) .
وقد تعجب قومٌ من هذا الحديث عندَ سفيان الثوري ، فقال سفيان : وما تعجُّبُكم من هذا، أليسَ قد قال الله تعالى: { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاس } ؟(2) أليس قد قال تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَاباً } ؟(3)
وخرَّج الترمذي من حديث أنسٍ قالَ : تُوفِّيَ رجُلٌ من أصحابه – يعني : النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - - فقالَ رجل : أبشرْ بالجَنَّةِ ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أو لا تدري ، فلعلَّه تَكلَّم بِما لا يَعنيه أو بَخِلَ بما لا يُغنِيه )(4) . وقد روي معنى هذا الحديث من وجوهٍ متعددةٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وفي بعضها : أنَّه قتل شهيداً(5) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) النساء : 114 .
(3) النبأ : 38 .
(4) في " الجامع الكبير " ( 2316 ) .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 109 ) ، وأبو يعلى ( 4017 ) ، وأبو نعيم في
" الحلية " 5/55-56 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 10835 ) و( 10836 ) ، والذهبي في " سير أعلام النبلاء " 6/240 من طرق عن الأعمش ، عن أنس بن مالك ، به ، وقال الترمذي : ( غريب ) أي : ضعيف ، وذلك لانقطاعه فإنَّ الأعمش لم يسمع من أنس .
(5) أخرجه : ابن عدي في " الكامل " 7/86 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 5010 ) من طرق عن أبي هريرة ، مرفوعاً ، وإسناده ضعيف لضعف عصام بن طليق .
وخرَّج أبو القاسم البغوي في " معجمه " من حديث شهاب بن مالك ، وكان وَفَدَ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه سَمعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقالت له امرأة : يا رسولَ الله ألا تُسلمُ علينا ؟ فقالَ : ( إنَّكِ من قَبيلٍ يُقَلِّلن الكثيرَ ، وتمنع ما لا يُغنيها ، وسؤالها عما لا يعنيها )(1) .
وخرَّج العقيلي من حديث أبي هريرة مرفوعاً : ( أكثرُ الناسِ ذنوباً أكثَرُهُم كلاماً فيما لا يعنيه )(2) .
قال عمرو بنُ قيس الملائي : مرَّ رجلٌ بلقمان والناسُ عندَه ، فقال له : ألستَ
عبدَ بني فلان(3) ؟ قال : بلى ، قال : الذي كنت ترعى عندَ جبلِ كذا وكذا ؟ قال : بلى ، قال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قالَ : صِدْقُ الحديثِ وطولُ السُّكوت عما لا يعنيني(4) .
وقال وهبُ بنُ مُنبِّهٍ : كانَ في بني إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أنْ مشيا على الماء ، فبينما هما يمشيان في البحر إذ هما برجل يمشي على الهواء ، فقالا لهُ : يا عبدَ الله بأيِّ شيء أدركت هذه المنزلة ؟ قال : بيسيرٍ من الدُّنيا : فَطَمْتُ نفسي عن الشهوات ، وكففتُ لساني عما لا يعنيني ، ورغبتُ فيما دعاني إليه ، ولزمت الصمتَ ، فإنْ أقسمتُ على الله ، أبرَّ قسمي ، وإنْ سألته أعطاني .
دخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلَّلُ ، فسألوه عن سبب(5) تهلل
وجهه ، فقال: ما مِنْ عمل أوثقَ عندي من خَصلتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليماً للمسلمين .
__________
(1) أخرجه : ابن قانع في " معجم الصحابة " 1/350 ، وإسناده ضعيف .
(2) في " الضعفاء الكبير " 3/424 .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 34659 ) ، وابن الجوزي في " العلل المتناهية " 2/705 من طرق عن أبي هريرة ، به . وإسناده ضعيف لضعف عصام بن طليق .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) انظر : تفسير ابن كثير 3/444 ، وشعب الإيمان 4/230 ، والتمهيد 9/200 .
(5) سقطت من ( ص ) .