كتاب:جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم
تأليف : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي
الشهير بابن رجبِ
وقد كان السَّلفُ الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة ؛ حذراً من لوم النفس عندَ انقطاع الأعمال على التقصير . وفي " الترمذي "(1) عن أبي هريرة مرفوعاً
: ( ما مِنْ مَيِّتٍ يموتُ إلاَّ ندم ، إنْ كان محسناً ندم على أنْ لا يكونَ ازداد ، وإنْ كان مسيئاً ندم أنْ لا يكون استعتب ) .
وقيل لمسروق : لو قصرتَ عن بعض ما تصنع من الاجتهاد ، فقال : والله لو أتاني آتٍ ، فأخبرني أنْ لا يعذبني ، لاجتهدت في العبادة ، قيل : كيف ذاك ؟ قال : حتى تَعْذِرني نفسي إنْ دخلت النار أنْ لا ألومها ، أما بلغك في قول الله تعالى : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } (2) إنَّما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنَّمَ ، فاعتنقتهم الزَّبانيةُ ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، وانقطعت عنهم الأماني ، ورفعت عنهم الرحمة ، وأقبل كلُّ امرئٍ منهم يلومُ نفسَه(3) .
وكان عامر بن عبد قيس يقول : والله لأجتهدنَّ ، ثم والله لأجتهدنَّ ، فإنْ نجوت فبرحمة الله ، وإلاَّ لم ألم نفسي(4) .
وكان زياد مولى ابن عياش يقول لابن المنكدر ولصفوانَ بن سُليم : الجدَّ الجدَّ والحذَرَ الحذَرَ ، فإنْ يكن الأمرُ على ما نرجو ، كان ما عمِلتُما فضلاً ، وإلاَّ لم تلوما أنفسكما .
__________
(1) في " الجامع الكبير " ( 2403 ) . وقال : ( هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه ، ويحيى بن عبيد الله قد تكلم فيه شعبة ، وهو يحيى بن عبيد الله بن موهب المدني ) .
(2) القيامة : 2 .
(3) أخرجه : ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/13 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/88 .
وكان مُطرِّف بن عبد الله يقول : اجتهدوا في العمل ، فإنْ يكن الأمرُ كما نرجو من رحمة الله وعفوه ، كانت لنا درجات في الجنَّة ، وإنْ يكن الأمرُ شديداً كما نخاف ونُحاذِرُ ، لم نقل : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } (1) ، نقول : قد عملنا فلم ينفعنا ذلك(2) .
__________
(1) فاطر : 37 .
(2) أخرجه : ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/119 .
الحديث الخامس والعشرون
عَنْ أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - : أنَّ ناساً مِنْ أصْحَابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالُوا لِلنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - :يا رَسُولَ اللهِ ذَهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ بالأجورِ ، يُصلُّونَ كَما نُصَلِّي ، ويَصومُونَ كَمَا نَصُومُ ، ويتَصدَّقُونَ بفُضُولِ أموالِهمْ ، قال : ( أوليسَ قد جعلَ اللهُ لَكُمْ ما تَصَّدَّقُونَ ؟ إنَّ بكُلِّ تَسبيحةٍ صَدقةً ، وكُلِّ تَكبيرةٍ صَدقَةً ، وكُلِّ تَحْمِيدةٍ صَدقةً ، وكُلِّ تَهْليلَةٍ صدقةً ، وأمْرٌ بِالمَعْروفِ صَدقَةٌ ، ونَهْيٌ عَنْ مُنكَرٍ صَدقَةٌ ، وفي بُضْعِ أحَدِكُم صَدقَةٌ ) . قالوا : يا رسولَ الله ، أيأتِي أحدُنا شَهْوَتَهُ ويكونُ لهُ فيها أجْرٌ ؟ قال : ( أرأيتُمْ لَوْ وَضَعَها في حَرَامٍ ، أكانَ عليهِ وِزْرٌ . فكذلك إذا وضَعَها في الحلالِ كانَ لهُ أَجْرٌ ) . رَواهُ مُسلمٌ(1) .
هذا الحديث خرَّجه مسلم من رواية يحيى بن يعمر ، عن أبي الأسود الديلي ، عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - ، وقد روي معناه عن أبي ذرٍّ من وجوهٍ كثيرةٍ بزيادةٍ ونقصانٍ ، وسنذكر بعضها فيما بعد إنْ شاء الله تعالى .
__________
(1) أخرجه : مسلم 2/158 ( 720 ) ( 84 ) و3/82 ( 1006 ) ( 53 ) .
وأخرجه : أحمد 5/167 و168 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 227 ) ، وأبو داود
( 5243 ) و( 5244 ) ، والبزار ( 3917 ) ، وابن حبان ( 838 ) ، والبغوي في
( 1644 ) من طرق عن يحيى بن يعمر ، عن أبي الأسود ، عن أبي ذر - رضي الله عنه - ، به .
وفي هذا الحديث دليلٌ على أنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - لِشدَّةِ حرصهم على الأعمال
الصالحة ، وقوة رغبتهم في الخير كانوا يحزنون على ما يتعذر عليهم فعلُه من الخير ممَّا يقدر عليه غيرهم ، فكان الفقراء يَحزَنُونَ على فواتِ الصَّدقة بالأموال التي يَقدِرُ عليها الأغنياء، ويحزنون على التخلُّف عن الخروجِ في الجهاد ؛ لعدم القدرة على آلته، وقد أخبر الله عنهم بذلك في كتابه ، فقال : { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } (1).
وفي هذا الحديث : أنَّ الفقراء غَبَطوا أهل الدُّثور - والدُّثور : هي الأموال(2) - بما يحصُلُ لهم مِنْ أجرِ الصدقة بأموالهم ، فدلَّهمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على صدقاتٍ يقدِرُون عليها .
__________
(1) التوبة : 92 .
(2) انظر : النهاية 2/100 .
وفي " الصحيحين " (1) عن أبي صالحٍ ، عن أبي هريرة : أنَّ فقراءَ المهاجرين أتَوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : ذَهَبَ أهلُ الدُّثورِ بالدرجات العُلى والنعيمِ المقيمِ ، فقال : ( وما ذاك ؟ ) قالوا : يُصلُّون كما نُصلِّي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدَّقون ولا نتصدَّق ، ويَعتِقون ولا نَعتِق ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أفلا أُعَلِّمُكم شيئاً
تُدرِكُونَ به مَنْ قد سَبَقَكُم ، وتسبِقونَ به من بَعدكم ، ولا يكون أحدٌ
أفضلَ منكم إلا مَنْ صنع مثل ما صنعتم ؟ قالوا : بلى يا رسولَ الله ، قال
: ( تُسبِّحونَ وتُكبِّرونَ وتحمَدُونَ دُبُرَ كلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين مرَّة ) ، قال أبو
صالح : فرجع فقراءُ المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : سمع إخواننا أهلُ الأموالِ بما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : { ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ } (2).
وقد روي نحو هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة منهم : علي(3) ،
وأبو ذر(4) ، وأبو الدرداء(5) ، وابن عمر(6) ، وابن عباس(7) ، وغيرهم .
__________
(1) صحيح البخاري 1/213 ( 843 ) و8/89 ( 6329 ) ، وصحيح مسلم 2/97 ( 595 ) ( 142 ) و( 143 ) من طريق أبي صالح ، عن أبي هريرة ، به .
(2) المائدة : 54 .
(3) أخرجه : البخاري 4/102 ( 3113 ) ، ومسلم 8/84 ( 2727 ) ( 80 ) .
(4) أخرجه : أحمد 5/154 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 891 ) ، والترمذي ( 1956 ) ، والبزار ( 4070 ) .
(5) أخرجه : عبد الرزاق ( 3187 ) ، وابن أبي شيبة ( 29267 ) ، وأحمد 6/446 ، والبزار ( 3095 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 9976 ) و( 9977 ) .
(6) ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/101 ، وقال : ( رواه البزار ، وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف ) .
(7) لم أقف على رواية ابن عباس .
ومعنى هذا أنَّ الفقراء ظنُّوا أنْ لا صدقةَ إلاَّ بالمال ، وهم عاجزون عن ذلك ، فأخبرهُم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ جميعَ أنواع فعلِ المعروف والإحسّان صدقة . وفي " صحيح مسلم "(1) عن حذيفة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كلُّ معروفٍ صدقةٌ ) . وخرَّجه البخاري(2) من حديث جابرٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - . فالصدقة تُطلق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسّان ، حتَّى إنَّ فضل الله الواصل منه إلى عباده صدقة منه عليهم . وقد كان بعضُ السَّلف يُنكر ذلك ، ويقول : إنَّما الصَّدقةُ ممَّن يطلُبُ جزاءها وأجرَها ، والصَّحيحُ خلافُ ذلك ، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قصر الصَّلاة في السفر : ( صدقةٌ تصدَّقَ اللهُ بها عليكم ، فاقبلوا صدقتَه ) خرَّجه مسلم(3) ، وقال : من كانت له صلاةٌ بليلٍ ، فغلب عليه نومٌ فنام عنها ، كتب الله له أجرَ صلاتِه ، وكان نومُه صدقةً مِنَ الله تصدَّق بها عليه ) . خرَّجه النَّسائي وغيرُه من حديث عائشة(4) ،
وخرَّجه ابن ماجه من حديث أبي الدرداء (5).
__________
(1) الصحيح 3/82 ( 1005 ) ( 52 ) .
(2) صحيح البخاري 8/13 ( 6021 ) .
(3) في " صحيحه " 2/143 ( 686 ) ( 4 ) .
(4) أخرجه : النسائي 3/257 و258 وفي " الكبرى " ، له ( 1457 ) و( 1458 ) .
وأخرجه : مالك في " الموطأ " ( 307 ) برواية يحيى الليثي ، وأبو داود ( 1314 ) ، والبيهقي 3/15 ، وابن عبد البر في " التمهيد " 12/261 من حديث عائشة ، به .
(5) في سننه ( 1344 ) .
وفي " مسندي "(1) بقي بن مخلد والبزار من حديث أبي ذرٍّ مرفوعاً : ( ما من يومٍ ولا ليلةٍ ولا ساعةٍ إلاَّ لله فيها صدقة يَمُنُّ بها على مَنْ يشاءُ مِنْ عباده ، وما منَّ الله على عبدٍ مثلَ أنْ يُلهِمَهُ ذكره ) .
وقال خالدُ بن معدان : إنَّ الله يتصدَّقُ كلَّ يوم بصدقة ، وما تصدَّق الله على أحدٍ من خلقِه بشيءٍ خيرٍ من أنْ يتصدَّق عليه بذكره(2) .
والصدقة بغير المال نوعان :
أحدهما : ما فيه تعدية الإحسّان إلى الخلق ، فيكون صدقةً عليهم ، وربما
كان أفضلَ من الصدقة بالمال ، وهذا كالأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ،
فإنَّه دُعاءٌ إلى طاعة الله ، وكفٌّ عن معاصيه ، وذلك خيرٌ من النَّفع بالمال ،
وكذلك تعليمُ العلم النافع ، وإقراءُ القرآن ، وإزالةُ الأذى عن الطريق ، والسعيُ
في جلب النفع للناس ، ودفعُ الأذى عنهم ، وكذلك الدُّعاءُ للمسلمين والاستغفارُ لهم .
وخرَّج ابنُ مردويه بإسنادٍ فيه ضعفٌ عن ابن عمر مرفوعاً : ( مَنْ كانَ له مالٌ ، فليتصدَّق من ماله ، ومن كان له قوَّةٌ ، فليتصدَّق من قوَّته ، ومن كان له عِلمٌ ، فليتصدَّق من عِلْمِه ) ولعله موقوف(3) .
وخرَّج الطبراني(4)
__________
(1) أخرجه : البزار في " مسنده " ( 3890 ) ، وهو في " كشف الأستار " ( 694 ) ، والحديث ضعفه أبو حاتم الرازي كما في " العلل " لابنه ( 370 ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/18 .
(3) أخرجه : هناد في " الزهد " ( 1083 ) عن زيد بن أسلم ، به ، مرفوعاً ، وهو ضعيف لإرساله ، وفي بعض رجال إسناده مقال .
(4) في " الكبير " ( 6962 ) ، وضعفه بسبب أبي بكر الهذلي . انظر : تهذيب الكمال 8/265
( 7863 ) .
... وأخرجه : الطبراني في " مكارم الأخلاق " (131 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب "
( 1279 ) .
بإسنادٍ فيه ضعفٌ عن سَمُرَة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أفضلُ
الصدقة اللسانُ ) قيل : يا رسول الله ، وما صدقةُ اللسان ؟ قال : ( الشفاعةُ تَفُكُّ بها الأسيرَ ، وتحقِنُ بها الدَّم ، وتَجُرُّ بها المعروف والإحسّان إلى أخيك ، وتدفع عنه الكريهة ) .
وقال عمرو بنُ دينار : بلغنا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما مِنْ صدقةٍ أحبَّ إلى الله من قولٍ ، ألم تسمع إلى قوله تعالى : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً } (1) خرَّجه ابن أبي حاتم(2) .
وفي مراسيل الحسن(3) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ مِنَ الصَّدقة أنْ تسلِّم على النَّاس وأنت طليق الوجه ) . خرَّجه ابن أبي الدُّنيا .
وقال معاذ : تعليمُ العلم لمن لا يعلمه صدقةٌ ، وروي مرفوعاً(4) .
__________
(1) البقرة : 263 .
(2) في " تفسيره " ( 2734 ) عن معقل بن عبيد الله ، عن عمرو بن دينار ، به .
(3) والمرسل هو أحد أقسام الضعيف .
(4) هو في " مسند الربيع بن حبيب " ( 22 ) عن جابر بن زيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( تعلموا العلم فإنَّ تعلمه قربة إلى الله عز وجل ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وإنَّ العلم لينزل بصاحبه في موضع الشرف والرفعة ، والعلم زين لأهله في الدنيا والآخرة …) على أنَّ هذا الكتاب غير ثابت عن مؤلفه فهو ملصق عليه ، بل جزم بعض الأفاضل من عصرنا أنَّ هذه الشخصية غير موجودة ، ولم تلد الأرحام هذا الرجل .
ومن أنواع الصدقة : كفُّ الأذى عن النَّاسِ ، ففي " الصحيحين "(1) عن أبي ذرٍّ قال : قلت : يا رسول الله أيُّ الأعمال أفضل ؟ قال : ( الإيمانُ والجهادُ في سبيله ) ، قلت : فأيُّ الرِّقاب أفضلُ ؟ قال : ( أنفسُها عندَ أهلها وأكثرها ثمناً ) قلت: فإنْ لم أفعل ؟ قال: ( تُعين صانعاً ، وتصنع لأخرقَ ) . قلتُ : يا رسولَ الله ، أرأيتَ إنْ ضَعُفْتُ عن بعض العمل ؟ قالَ : ( تكفُّ شرَّك عَن النَّاس ، فإنَّها صدقةٌ ) .
وقد رُوِيَ في حديث أبي ذرٍّ زياداتٌ أخرى ، فخرَّج الترمذي(2) من حديث أبي ذرٍّ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقةٌ، وأمرُك بالمعروف، ونهيُك عن المنكر صدقةٌ ، وإرشادُك الرَّجُلَ في أرض الضَّلال لك صدقةٌ ، وإماطتُك الحجرَ والشَّوكَ والعظمَ عن الطَّريق لك صدقةٌ ، وإفراغُكَ من دلوِكَ في دلوِ أخيكَ لك صدقة ) .
وخرَّج ابن حبَّان في " صحيحه "(3) من حديث أبي ذرٍّ : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لَيْسَ من نفسِ ابنِ آدم إلاَّ عليها صدقةٌ في كلِّ يوم طلعت فيه الشَّمسُ ) . قيل : يا رسول الله ، ومن أين لنا صدقة نتصدَّقُ بها ؟ قالَ : ( إنَّ أبواب الخير لكثيرةٌ : التسبيحُ ، والتكبير ، والتحميد ، والتهليل ، والأمر بالمعروف ، والنَّهيُ عن المنكرِ ، وتميطُ الأذى عن الطَّريقِ ، وتُسمعُ الأصمَّ ، وتهدي الأعمى ، وتدُلُّ المستَدِلَّ على حاجته ، وتسعى بشدَّةِ ساقيكَ مع اللَّهفان المستغيثِ ، وتحمِلُ بشدّةِ ذراعيكَ مع الضَّعيف ، فهذا كُلُّه صدقةٌ منكَ على نفسك ) .
__________
(1) صحيح البخاري 3/188 ( 2518 ) ، وصحيح مسلم 1/62 ( 84 ) ( 136 ) .
(2) في " الجامع الكبير " ( 1956 ) .
(3) الإحسان ( 3377 ) ، وهو حديث صحيح .
وخرَّج الإمام أحمد(1) من حديث أبي ذرٍّ قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، ذهبَ الأغنياءُ بالأجر ، يتصدَّقون ولا نتصدَّق ، قال : ( وأنت فيك صدقةٌ : رفعُك العظمَ عِنِ الطَّريقِ صَدقةٌ، وهدايتُكَ الطَّريقَ صدقةٌ ، وعونُكَ الضَّعيفَ بفضلِ قوَّتك صدقةٌ، وبيانُك عن الأغتَم صدقةٌ ، ومباضعتُك امرأتَك صدقةٌ ) ، قلت : يا رسول الله ، نأتي شهوتنا ونؤجر ؟! قالَ : ( أرأيت لو جعله في حرامٍ ، أكان يأثَمُ ؟ ) قالَ : قلتُ : نعم ، قالَ : ( أفتحتسبون بالشرِّ ولا تحتسبون بالخير ؟ ) وفي روايةٍ أخرى ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ فيك صدقةً كثيرةً ، فذكر فضلَ سمعك وفضل بصرك ) وفي روايةٍ أخرى للإمام أحمد(2) : قال : ( إنَّ من أبواب الصدقةِ التَّكبير ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، وأستغفر الله ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتَعْزِلُ الشوكةَ عَنْ طريق الناس والعظم والحجر ، وتهدي الأعمى ، وتُسمع الأصمَّ والأبكم حتّى يفقَه ، وتدلُّ المستدلَّ على حاجةٍ له قد علمتَ مكانَها ، وتسعى بشدَّةِ ساقيك إلى اللَّهفان المستغيثِ ، وترفَعُ بشدَّة ذراعَيْكَ مَعَ الضَّعيف ، كلُّ ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك ، ولك في جماعِكَ زوجتك أجرٌ ) ، قلتُ : كيف يكونُ لي أجرٌ في شهوتي ؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أرأيت لو كان لك ولدٌ ، فأدرك ورجوتَ خيرَه ، فمات ، أكنت تحتسب به ؟ قلت : نعم ، قال : فأنت خلقته ؟ قلت : بل الله خلقَه ، قال : فأنت هديته ؟ قلت : بل الله هداه ، قال : فأنت كنت ترزُقُه ؟ قلت : بل الله كان يرزُقُه ، قال : كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه ، فإنْ شاء الله أحياه ، وإنْ شاءَ أماته ، ولك أجر ) .
__________
(1) في " مسنده " 5/154 ، وإسناده منقطع إلا أنَّ متن الحديث صحيح .
(2) سبق تخريجه .
وظاهرُ هذا السياق يقتضي أنَّه يُؤْجَرُ على جِماعِه لأهله بنيَّةِ طلب الولد الذي يترتَّبُ الأجر على تربيته وتأديبه في حياته ، ويحتسبه عند موته ، وأمَّا إذا لم يَنْوِ شيئاً
بقضاءِ شهوته ، فهذا قد تنازع النَّاسُ في دخوله في هذا الحديث(1) .
وقد صحَّ الحديث بأنَّ نفقة الرجل على أهله صدقة ، ففي " الصحيحين "(2)
عن أبي مسعود الأنصاري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( نفقةُ الرجل على أهله صدقةٌ ) . وفي روايةٍ لمسلم : ( وهو يحتسبها ) ، وفي لفظٍ للبخاري : ( إذا أنفقَ الرجلُ على أهله وهو يحتسبها ، فهو له صدقة ) ، فدل على أنّه إنَّما يؤجرُ فيها إذا احتسبها عند الله كما في حديث سعد بن أبي وقاص ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّك لن تُنفِقَ
نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلاَّ أُجِرْتَ عليها ، حتَّى اللُّقمة ترفعُها إلى في امرأتك ) خرَّجاه(3).
__________
(1) قال النووي - رحمه الله - : ( وفي هذا دليل على أنَّ المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات ، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به ، أو طلب ولد صالح ، أو إعفاف نفسه ، أو إعفاف الزوجة ، ومنعهما جميعاً من النظر إلى حرام ، أو الفكر فيه ، أو الهم به ، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة ) . شرح صحيح مسلم 4/100 .
(2) صحيح البخاري 1/21 ( 55 ) و5/105 ( 4006 ) و7/80 ( 5351 ) ، وصحيح مسلم 3/81 ( 1002 ) ( 48 ) .
(3) أخرجه : البخاري 4/3 ( 2742 ) و5/87 ( 3936 ) و5/225 ( 4409 ) و7/81 ( 5354 ) ، ومسلم 5/71 ( 1628 ) ( 5 ) .
وفي " صحيح مسلم "(1) عن ثوبان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أفضلُ الدنانير دينارٌ ينفقُه الرَّجُل على عيالِه ، ودينارٌ ينفقه على فرسٍ في سبيل الله ، ودينارٌ ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله ) قال أبو قِلابة عند رواية هذا الحديث : بدأ بالعيال ، وأيُّ رجلٍ أعظمُ أجراً من رجلٍ ينفقُ على عيالٍ له صغار يُعِفُّهم الله به ، ويُغنيهم الله به .
وفيه أيضاً (2) عن سعد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ نفقتك على عيالِكَ
صدقة ، وإنَّ ما تأكلُ امرأتُك من مالك صدقة ) . وهذا قد ورد مقيداً في الرواية الأخرى بابتغاء وجه الله . وفي " صحيح مسلم "(3) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( دينار أنفقتَه في سبيل الله ، ودينار أنفقته في رقبة ، ودينار تصدَّقت به
على مسكينٍ ، ودينارٌ أنفقته على أهلك ، أفضلُها الدِّينارُ الذي أنفقته على
أهلك ) .
وخرَّج الإمام أحمد(4) ، وابن حبان في " صحيحه "(5) من حديث أبي هُريرة قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تصدَّقُوا ) ، فقال رجلٌ : عندي دينار ، فقال : ( تصدَّق به على نفسك ) قال : عندي دينارٌ آخر ، قال : ( تصدَّق به على زوجتك ) ، قال : عندي دينارٌ آخر ، قال : ( تصدَّق به على وَلَدِكَ ) ، قال : عندي دينارٌ آخرُ ، قال : ( تصدَّقْ به على خادمك ) ، قال : عندي دينارٌ آخر ، قال : ( أنت أبصرُ ) .
__________
(1) الصحيح 3/78 ( 994 ) ( 38 ) .
(2) صحيح مسلم 5/72 ( 1628 ) ( 8 ) .
(3) الصحيح 3/78 ( 995 ) ( 39 ) .
(4) في " مسنده " 2/251 و471 و524 ، وهو حديث قويٌّ .
(5) الإحسان ( 3337 ) و( 4233 ) و( 4235 ) .
وخرَّج الإمام أحمد(1) من حديث المقدام بن معدي كرب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما أَطْعَمْتَ نفسَك ، فهو لك صدقة ، وما أطعمت ولدكَ ، فهو لك صدقة ، وما أطعمت زوجتك ، فهو لك صدقة ، وما أطعمت خادمَك ، فهو لك صدقة ) وفي هذا المعنى أحاديثُ كثيرة يطول ذكرها .
وفي " الصحيحين "(2) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما مِنْ مسلمٍ يَغرسُ غَرْساً، أو يزرعُ زرعاً ، فيأكلُ منه إنسانٌ ، أو طيرٌ ، أو دابَّةٌ، إلا كان له صدقةٌ ) .
وفي " صحيح مسلم "(3) عن جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما من مسلمٍ يغرسُ غَرْساً إلا كان ما أكلَ منه له صدقة ، وما سُرِقَ منه له صدقة ، وما أَكَلَ السَّبعُ منه فهو له صدقة ، وما أكلتِ الطَّير فهو له صدقةٌ ، ولا يرزؤُه أحدٌ إلا كان له صدقة ) . وفي روايةٍ له أيضاً : ( فيأكل منه إنسانٌ ، ولا دابةٌ ، ولا طائرٌ إلاَّ كان له صدقة إلى يوم القيامة ) .
وفي " المسند " (4) بإسنادٍ ضعيف عن معاذ بن أنس الجُهني ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من بَنى بنياناً في غير ظلمٍ ولا اعتداءٍ ، أو غرس غِراساً في غيرِ ظلمٍ ولا اعتداءٍ ، كان له أجراً جارياً ما انتفع به أحدٌ من خلق الرحمان ) .
__________
(1) في " مسنده " 4/131 و132 ، وهو حديث قويٌّ .
(2) صحيح البخاري 3/135 ( 2320 ) و8/12 ( 6012 ) ، وصحيح مسلم 5/28
( 1553 ) ( 12 ) .
(3) الصحيح 5/27 – 28 ( 1552 ) ( 7 ) ( 8 ) ( 9 ) ( 10 ) ( 11 ) .
(4) مسند الإمام أحمد 3/438 ، وسبب ضعفه ضعف ابن لهيعة وزبان بن فائد .
وذكر البخاري في " تاريخه "(1) من حديث جَابر مرفوعاً : ( مَنْ حَفَر ماءً لم تشرب منه كبد حرَّى من جنٍّ ولا إنسٍ ولا سَبُعٍ ولا طائرٍ إلا آجره الله يومَ القيامة ) .
وظاهر هذه الأحاديث كلّها يدلُّ على أنَّ هذه الأشياء تكونُ صدقة يُثاب عليها الزارعُ والغارسُ ونحوهما من غير قصدٍ ولا نيةٍ ، وكذلك قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
: ( أرأيت لو وضعها في الحرام ، أكان عليه وِزْرٌ ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ ) يدلُّ بظاهره على أنَّه يُؤْجَرُ في إتيان أهله من غير نيَّةٍ ، فإنَّ المُباضِع لأهله كالزَّارع في الأرض الذي يحرث الأرض ويبذر فيها ، وقد ذهب إلى هذا طائفةٌ من العلماء ، ومال إليه أبو محمد بن قتيبة في الأكل والشُّرب والجماع ، واستدل بقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ( إنَّ المؤمنَ ليؤجَرُ في كلِّ شيءٍ حتَّى في اللُّقمة يرفعها إلى فيه )(2). وهذا اللَّفظ الذي استدلَّ به غيرُ معروف ، إنَّما المعروف قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسعد
: ( إنَّكَ لن تُنفِقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ اللهِ إلا أُجِرتَ عليها ، حتَّى اللُّقمة ترفعها إلى في امرأتك )(3) ، وهو مقيَّدٌ بإخلاص النية لله ، فتحمل الأحاديثُ المطلقة عليه ، والله أعلم .
__________
(1) التاريخ الكبير 1/314 ، وقد ساقه البخاري مبيناً الاختلاف فيه على عطاء بن رباح فساقه مرفوعاً ثم موقوفاً ثم ساقه من طريقه عن عائشة مرفوعاً بلفظ : ( من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة ) .
(2) أخرجه : أحمد 1/177 ، والنسائي في " الكبرى " ( 10906 ) ، والطبراني في " الأوسط "
( 6123 ) من طريق العيزار بن حريث العبدي ، عن عمر بن سعد ، عن أبيه ، به ، وعمر بن سعد صدوق حسن الحديث فإسناد الحديث حسن إلا أنَّ ظاهر كلام ابن رجب إعلال المتن لتفرده بهذا اللفظ .
(3) سبق تخريجه .
ويدلُّ عليهِ أيضاً قولُ الله - عز وجل - : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } (1)، فجعل ذَلِكَ خيراً ، ولم يرتِّب عليهِ الأجرَ إلا مع نية
الإخلاصِ . وأمَّا إذا فعله رياءً ، فإنَّه يُعاقب عليهِ ، وإنَّما مَحَلُّ التردُّد إذا فعله بغيرِ نيَّةٍ صالحةٍ ولا فاسدة . وقد قالَ أبو سليمان الداراني : من عَمِلَ عَمَلَ خيرٍ من غير نية كفاه نيَّة اختيارِه للإسلام على غيرِه منَ الأديان(2) ، وظاهر هذا أنَّه يُثاب عليهِ من غيرِ نيَّةٍ بالكلية ؛ لأنَّه بدخوله في الإسلام مختارٌ لأعمالِ الخيرِ في الجُملة ، فيثابُ على كُلِّ عَملٍ يعملُه منها بتلك النية ، والله أعلم .
وقوله : ( أرأيت لو وضعها في الحرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا
وضعها في الحلال ، كان له أجر ) . هذا يُسمَّى عندَ الأصوليين قياسَ العكس ،
ومنه قولُ ابن مسعودٍ ، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كلمةً وقلتُ أنا أخرى ، قال : ( من مات يُشرِكُ بالله شيئاً دخل النار ) ، وقلت : من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل
الجنة(3) .
__________
(1) النساء : 114 .
(2) أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 9/271 .
(3) أخرجه : أحمد 1/382 و425 ، والبخاري 2/90 ( 1238 ) ، وأبو يعلى ( 5198 ) ، وابن خزيمة : 359 – 360، وأبو عوانة ( 30 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 66 ) و( 67 ) و( 68 ) و( 69 ) و( 70 ) .
والنَّوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية : ما نفعُه قاصرٌ على فاعله ، كأنواع الذِّكر : مِنَ التَّكبير ، والتَّسبيح ، والتَّحميد ، والتَّهليل ، والاستغفار ، وكذلك المشيُ إلى المساجدِ صدقة ، ولم يذكر في شيء من الأحاديث الصَّلاة والصيام والحج والجهاد أنَّه صدقة ، وأكثرُ هذه الأعمال أفضلُ من الصَّدقات الماليَّة ؛ لأنَّه إنَّما ذكر ذلك جواباً لسؤالِ الفُقراء الَّذين سألوه عمَّا يُقاوم تطوَّع الأغنياء بأموالهم ، وأما الفرائض ، فقد كانوا كلهم مشتركين فيها .
وقد تكاثرتِ النُّصوصُ بتفضيل الذكر على الصدقة بالمال وغيرها من الأعمال ، كما في حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ألا أنبِّئُكُم بخيرِ أعمالكم ، وأزكاها عند مليكِكُم ، وأرفعِها في درجاتكم ، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والفضة ، وخيرٍ لكم منْ أنْ تَلْقَوا عدوَّكم ، فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قالَ : ( ذكرُ اللهِ - عز وجل - ) . خرَّجه الإمام
أحمد(1) والترمذي(2) ، وذكره مالك في " الموطأ "(3) موقوفاً على أبي الدرداء .
__________
(1) في " مسنده " 5/195 و6/447 .
(2) في " الجامع الكبير " ( 3377 ) .
(3) الموطأ ( 564 ) برواية الليثي ، والاختلاف في هذا الحديث لم يكن قاصراً على الاختلاف في الرفع والوقف ، بل روي موصولاً ومرسلاً بيان ذلك كله في كتابي " الجامع في العلل " يسر الله إتمامه وطبعه بمنه وكرمه .
وفي " الصحيحين " (1) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ قال : لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ، له الملكُ ، وله الحمدُ ، يُحيي ويُميت ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ في يوم مئة مرَّة، كانت له عَدْلَ عشر رقاب ، وكُتبت له مئة حسنةٍ ، ومُحيت عنه مئة سيئةٍ ، وكانت له حِرْزاً من الشَّيطان يومَه ذلك حتَّى يُمسي ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ ممَّا جاءَ به إلاَّ أحدٌ عَمِلَ أكثرَ من ذلك ) .
وفيهما(2) أيضاً عن أبي أيوبَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أنَّه قال : ( من قالها عشرَ مرَّاتٍ ، كان كمن أعتقَ أربعةَ أنفُسٍ مِنْ ولدِ إسماعيل ) .
وخرَّج الإمام أحمد ، والترمذي من حديث أبي سعيدٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ : أيُّ العباد أفضلُ درجة عندَ الله يومَ القيامة ؟ قال : ( الذاكرون الله كثيراً ) قلتُ : يا رسولَ الله ، ومِنَ الغازي في سبيل الله ؟ قال : ( لو ضرب بسيفه في الكُفَّار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً ، لكان الذاكرون لله أفضلَ منه درجةً )(3)
__________
(1) صحيح البخاري 4/153 ( 3293 ) و8/106 ( 6403 ) ، وصحيح مسلم 8/69
( 2691 ) ( 28 ) .
(2) أخرجه : البخاري 8/106 ( 6404 ) ، ومسلم 8/69 ( 2693 ) ( 30 ) .
(3) أخرجه : أحمد 3/75 ، والترمذي ( 3376 ) .
وأخرجه : أبو يعلى ( 1401 ) ، وابن عدي في " الكامل " 4/15 ، والبغوي ( 1246 )
و( 1247 ) من طريق دراج عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، به ، وهي رواية ضعيفة لذا قال الترمذي : ( هذا حديث غريب ، إنَّما نعرفه من حديث دراج ) .
. ويُروى نحوه من حديث معاذ وجابر مرفوعاً ، والصوابُ وقفُه على معاذ من قوله(1) .
وخرَّج الطبراني(2) من حديث أبي الوازع ، عن أبي بُردة ، عن أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لو أنَّ رجلاً في حجره دراهمُ يقسِمُها ، وآخرَ يذكر الله ، كان الذاكر لله أفضلَ ) .
قلت : الصحيحُ عن أبي الوازع ، عن أبي برزة الأسلمي من قوله . خرَّجه جعفر الفريابي(3) .
وخرَّج أيضاً من حديث أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من كبَّرَ مئة ، وسبَّح مئة(4) ، وهلَّل مئة ، كانت خيراً له من عشر رقابٍ يَعْتِقُها ، ومن سبع بَدَناتٍ ينحَرها )(5) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29452 ) و( 35046 ) ، وأحمد 5/239 ، والطبراني في " الكبير " 20/( 352 ) وفي " الدعاء " ، له ( 1658 ) ، وابن عبد البر في " التمهيد " 6/57 من طريق معاذ ، مرفوعاً .
وأخرجه عن معاذ موقوفاً : مالك في "الموطأ" ( 564 ) برواية يحيى الليثي ، والحاكم 1/496، والبيهقي في " الدعوات " ( 20 ) .
وأخرجه عن جابر : الطبراني في " الأوسط " ( 2317 ) وفي " الصغير " ، له ( 201 ) .
(2) في "الأوسط" ( 5969 ) ، وقال : ( لا يروى هذا الحديث عن أبي موسى إلا بهذا الإسناد ، تفرد به : عمر بن موسى ) قلت : عمر بن موسى ضعيف ، قال عنه ابن عدي في " الكامل " 6/109 : ( ضعيف يسرق الحديث ويخالف في الأسانيد ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/33 .
(4) عبارة : ( وسبح مئة ) لم ترد في ( ص ) .
(5) أخرجه : البخاري في" الأدب المفرد " ( 636 ) من طريق سلمة بن وردان ، عن أنس ، به ، وسلمة بن وردان ضعيف .
وخرَّج ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن أبي الدرداء أنَّه قيل له : إنَّ رجلاً أعتق مئة
نسمة ، فقال : إنَّ مئة نسمة من مالِ رجلٍ كثيرٌ ، وأفضلُ من ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنَّهار ، وأنْ لا يزال لسانُ أحدكم رطباً من ذكر الله - عز وجل -(1).
وعن أبي الدَّرداء أيضاً ، قال : لأن أقولَ : الله أكبرُ مئة مرة ، أحبُّ إلىَّ من أنْ أتصدَّق بمئة دينار(2) . وكذلك قال سلمان الفارسي وغيرُه من الصَّحابة والتابعين : إنَّ الذِّكرَ أفضلُ من الصَّدقة بعددِه من المال .
__________
(1) أخرجه : أبو عبد الرحمان الضبي في " الدعاء " 1/268 (91 ) من طريق ضرار بن مرة ، عن رجل من بني عبس ، عن أبي الدرداء ، به ، وإسناده ضعيف لجهالة الرجل من بني عبس .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/180 عن أبي رجاء ، عن أبي الدرداء ، موقوفاً .
وخرَّج الإمامُ أحمد(1) والنَّسائي(2) من حديث أمِّ هانئ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ( سَبِّحي الله مئة تسبيحة ، فإنَّها تَعدِلُ مئة رقبة من ولد إسماعيل ، واحمدي الله مئة تحميدة ، فإنَّها تَعدِلُ لكِ مئة فرس مُلجَمة مُسرَجة(3) تحملين عليهنَّ في سبيل الله ، وكبِّري الله مئة تكبيرة ، فإنَّها تعدِلُ لك مئة بَدَنة مقلَّدة مُتُقبَّلة ، وهلِّلي الله مئة تهليلة - لا أحسبه إلا قال : - تملأ ما بَيْنَ السماء والأرض ، ولا يُرفَع يومئذٍ لأحدٍ مثلُ عملك إلاَّ أنْ يأتيَ بمثل ما أتيت ) ، وخرَّجه أحمد(4) أيضاً وابنُ ماجه(5) ، وعندهما : ( وقولي : لا إله إلا الله مئة مرة ، لا تذر ذنباً ، ولا يسبقها العمل ) . وخرَّجه الترمذي(6) من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، بنحوه .
وخرَّج الطبراني(7) من حديث ابن عباس مرفوعاً : قال : ( ما صَدقةٌ أفضلَ من ذكرِ الله - عز وجل - ) .
__________
(1) في " مسنده " 6/344 ، وإسناده ضعيف لضعف أبي صالح ، وهو باذام ، ويقال : باذان مولى أم هانئ ، لذا قال البخاري في " التاريخ الكبير " 2/254-255 : ( لا يصح ) .
(2) في " الكبرى " ( 10680 ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) في " مسنده " 6/425 ، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر نجيح بن عبد الرحمان السندي .
(5) في " سننه " ( 3797 ) ، وسنده ضعيف لضعف زكريا بن منظور ولجهالة حال شيخه محمد ابن عقبة .
(6) في " الجامع الكبير " ( 3471 ) ، وقال : ( حسن غريب ) على أنَّ في سنده الضحاك بن حُمرْة ضعيف .
(7) في " الأوسط " ( 7414 ) ، وفي إسناده محمد بن الليث أبو الصباح الهدادي راجع فيه
" الثقات " 9/135 ، وقارن بـ " لسان الميزان " 7/468 .
وخرَّج الفريابي بإسنادٍ فيه نظرٌ عن أبي أمامة مرفوعاً : ( من فاته الليلُ أنْ يُكابِدَه ، وبَخِل بماله أن ينفِقه ، وجَبُنَ مِنَ العدوِّ أنْ يُقاتِله ، فليكثر مِن سُبحان الله وبحمده ، فإنَّها أحبُّ إلى الله - عز وجل - مِنْ جبلِ ذهبٍ ، أو جبل فضَّةٍ يُنفقه في سبيل الله - عز وجل -(1) ) . وخرَّجه البزار(2) بإسنادٍ مُقارب من حديث ابن عباس مرفوعاً وقال
في حديثه : ( فليكثر ذكر الله ) ولم يزِدْ على ذلك ، وفي المعنى أحاديثُ أُخَرُ
متعدِّدةٌ .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7877 ) من طريق الفريابي ، وهو حديث ضعيف بسبب علي بن يزيد الألهاني ، والراوي عنه عثمان بن أبي العاتكة . انظر : تهذيب الكمال 5/311
( 4743 ) .
(2) كما في " كشف الأستار " ( 3058 ) ، وإسناده ضعيف لضعف أبي يحيى القتات .
الحديث السادس والعشرون
عَنْ أَبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - ، قال : قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( كُلُّ سُلامَى(1) مِنَ النَّاسِ عليهِ صَدَقةٌ ، كُلَّ يَوْمٍ تَطلُعُ فيه الشَّمْسِ : تَعدِلُ بَينَ الاثنينِ صدَقَةٌ ، وتُعينُ الرَّجُلَ في دابَّتِهِ، فتحمِلُهُ عليها ، أو تَرْفَعُ لهُ عليها متاعَهُ صَدَقةٌ ، والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقةٌ ، وبِكُلِّ خُطوةٍ تَمشيها إلى الصَّلاةِ صَدَقةٌ ، وتُميطُ الأذى عَنِ الطَّريقِ صَدَقَةٌ ) . رواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ .هذا الحديث خرَّجاه من رواية همَّام بن مُنَبِّه ، عن أبي هريرة(2)
__________
(1) السلامى : جمع سلامية ، وهي الأنملة من أنامل الأصابع ، وقيل : واحده وجمعه سواء ، ويجمع على سلاميات : وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان ، وقيل : السلامى كل عظم مجوف من صغار العظام ، ومعنى الحديث : على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة . انظر : النهاية 52/396 .
(2) أخرجه : البخاري 3/245 ( 2707 ) و4/42 ( 2891 ) و4/68 ( 2989 ) ، ومسلم 3/83 ( 1009 ) ( 56 ) .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 403 ) ، وأحمد 2/312 و316 و374 ، وابن أبي عاصم في " الزهد " ( 37 ) ، وابن خزيمة ( 1493 ) و( 1494 ) ، وابن حبان ( 472 ) ، والطبراني في " مكارم الأخلاق " ( 117 ) ، والبيهقي 3/229 و4/ 187 – 188 ، والبغوي ( 1645 ) . والروايات مطولة ومختصرة .
، وخرَّجه البزار(1) من رواية أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الإنسان ثلاث مئة وستون عظماً ، أو ستة وثلاثون سلامى ، عليه في كلِّ يوم صدقةٌ ) قالوا : فمن لم يجد ؟ قالَ : ( يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ) قالوا : فمن لم يستطع ؟ قال : ( يرفع عَظْماً عن الطَّريقِ ) قالوا : فمن لم يستطع ؟ قال : ( فليُعن ضعيفاً ) قالوا : فمن لم يستطع ذلك ؟ قال : ( فليدع النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ ) .
وخرَّج مسلم(2) من حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( خُلِقَ ابنُ آدم على ستين وثلاث مئة مَفْصِلٍ ، فمن ذكر الله ، وحَمِدَ الله ، وهلَّل الله ، وسبَّح الله ، وعزل حجراً عن طريق المسلمين ، أو عزل شوكةً ، أو عزل عظماً ، أو أمر بمعروفٍ ، أو نهى عن منكرٍ عددَ تلك الستين والثلاث مئة السُّلامى أمسى من يومه وقد زَحْزَحَ نفسه عن النَّارِ ) .
وخرَّج مسلم(3) أيضاً من رواية أبي الأسود الدَّيلي، عن أبي ذرٍّ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يُصبح على كلِّ سُلامى مِن أحدكم صدقةٌ ، فكلُّ تسبيحةٍ صدقةٌ ، وكلُّ تحميدةٍ صدقةٌ ، وكلُّ تهليلةٍ صدقةٌ ، وكلُّ تكبيرةٍ صدقةٌ ، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ ، ونهيٌ عَنِ المُنكرِ صدقةٌ ، ويُجزئ من ذلك ركعتان يركعهما منَ الضُّحى ) .
__________
(1) كما في " كشف الأستار " ( 928 ) ، وقال البزار : ( لا نعلم رواه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة إلا أبو عوانة ) .
(2) في " صحيحه " 3/81 - 82 ( 1007 ) ( 54 ) .
(3) في " صحيحه 2/158 ( 720 ) ( 84 ) .
وخرَّج الإمام أحمد(1) ، وأبو داود(2) من حديث بُريدة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( في الإنسان ثلاث مئة وستونَ مَفْصِلاً ، فعليه أنْ يتصدَّقَ عن كلِّ مَفصِلٍ منه بصدقة ) قالوا : ومَن يُطيق ذلك يا نبيَّ الله ؟ قال : ( النُّخَاعَةُ في المسجد تَدفنها ، والشَّيء تُنَحِّيه عن الطريق ، فإنْ لم تجد ، فركعتا الضحى تجزئُك ) .
وفي " الصحيحين "(3) عن أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( على كلِّ مسلمٍ
صدقةٌ ) قالوا : فإنْ لم يجد ؟ قالَ : ( فيعملُ بيده ، فينفع نفسَه ويتصدَّقُ ) قالوا : فإنْ لم يستطع ، أو لم يفعل ؟ قال : ( يُعينُ ذا الحاجة الملهوف ) ، قالوا : فإنْ لم يفعل ؟ قال : ( فليأمر بالخير أو قال : بالمعروف ) قالوا : فإنْ لم يفعل ؟ قال : ( فليُمسِكْ عَنِ الشَّرِّ ، فإنَّه له صدقة ) .
وخرَّج ابن حبان في " صحيحه "(4) من حديث ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( على كُل مَنْسِمٍ(5) من ابن آدم صدقة كُلَّ يوم ) فقال رجلٌ من القوم : ومن يُطِيق هذا ؟ قال : ( أمر بالمعروف صدقة ، ونهيٌّ عن المنكر صدقة ، والحملُ على الضَّعيف صدقة ، وكلُّ خطوةٍ يخطوها أحدُكم إلى الصَّلاة صدقةٌ ) . وخرَّجه البزار(6) وغيره .
__________
(1) في " مسنده " 5/354 و359 ، وهو حديث صحيح لغيره .
(2) في سننه ( 5242 ) .
(3) صحيح البخاري 3/143 ( 1445 ) و8/13 ( 6022 ) ، وصحيح مسلم 3/83
( 1008 ) ( 55 ) .
(4) الإحسان ( 299 ) ، وفي إسناده مقال ؛ لأنَّه من رواية سماك ، عن عكرمة وهي مضطربة ، إلا إنَّ للحديث ما يقويه .
(5) أي : كل مفصل .
(6) في " مسنده " ( 926 ) .
وفي رواية : ( على كل مِيسَم(1) من الإنسان صدقةٌ كل يوم ، أو صلاة ) ، فقال رجل : هذا من أشدِّ ما أتيتنا به ، فقال : ( إنَّ أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر صلاةٌ أو صدقةٌ ، وحملك عن الضعيف صلاة ، وإنحاؤكَ القذرَ عَنِ الطَّريقِ صلاةٌ ، وكلُّ خطوةٍ تَخطوها إلى الصَّلاة صلاةٌ ) (2) . وفي رواية البزار : ( وإماطةُ الأذى عَنِ الطَّريق صدقةٌ ) أو قال : ( صلاةٌ ) .
وقال بعضهم : يريد بالمِيسم : كلَّ عضو على حِدة ، مأخوذ من الوسم : وهو العلامة ، إذ ما مِنْ عظم ولا عرق ولا عَصَبٍ إلا وعليه أثَرُ صنع الله ، فيجبُ على العبدِ الشكرُ على ذلك للهِ والحمد له على خلقه سوياً صحيحاً ، وهذا هو المراد بقوله : ( عليه صلاةٌ كلَّ يومٍ ) ؛ لأنَّ الصَّلاة تحتوي على الحمد والشكر والثناء .
وخرَّج الطبراني(3) من وجه آخر عن ابن عباس رفع الحديث إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : ( على كلِّ سُلامَى ، أو على كلِّ عضوٍ من بني آدم في كلِّ يوم صدقة ، ويُجزئ من ذلك ركعتا الضحى ) .
ويُروى من حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( على كلِّ نفسٍ في كلِّ يومٍ صدقة ) قيل : فإنْ كان لا يجد شيئاً ؟ قال : ( أليس بصيراً شهماً فصيحاً صحيحاً ؟ ) قال : بلى ، قال : ( يُعطي من قليله وكثيره ، وإنَّ بصرَك للمنقوصِ بصرُه صدقةٌ ، وإنَّ سمعكَ للمنقوص سمعُهُ صدقة )(4) .
__________
(1) قال ابن الأثير : ( المراد به أن على كل عضو موسوم بصنع الله صدقة ) . انظر : النهاية 5/186 .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 11791 ) ، وهو كذلك من رواية سماك ، عن عكرمة .
(3) في " الأوسط " ( 4449 ) وفي " الصغير " ، له ( 630 ) ، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/240 : ( رواه الطبراني في " الصغير " و" الأوسط " ، وفيه من لم أجد له ترجمة ) .
(4) لم أقف عليه بما تيسر لي من مصادر .
وقد ذكرنا في شرح الحديث الماضي - حديث أبي ذرٍّ - الذي خرَّجه ابن حبان في " صحيحه "(1) : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لَيسَ مِنْ نفسِ ابن آدم إلا عليها صدقةٌ في كلِّ يومٍ طلعت فيه الشمس ) ، قيل : يا رسولَ الله ، ومن أين لنا صدقة نتصدَّقُ بها ؟ قال : ( إنَّ أبوابَ الخيرِ لكثيرةٌ : التَّسبيحُ ، والتَّحميدُ ، والتَّكبيرُ ، والتَّهليلُ ، والأمرُ بالمعروف ، والنَّهيُ عن المُنكر ، وتُميط الأذى عن الطَّريقِ ، وتُسمِعُ الأصمَّ ، وتهدي الأعمى ، وتَدُلُّ المستدلَّ على حاجته ، وتسعى بشدَّة ساقيك مع اللَّهفان المستغيث ، وتحمل بشِدَّة ذراعيك معَ الضَّعيف ، فهذا كلُّه صدقةٌ منكَ على نفسِكَ ) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( على كلِّ سُلامى مِن النَّاس عليه صدقة ) . قال أبو عُبيد : السُّلامى في الأصل(2) عَظْمٌ يكون في فِرْسِنِ البعير ، قال : فكأنَّ معنى الحديث : على كُلِّ عظم من عظام ابن آدم صدقةٌ(3) ، يُشير أبو عُبيد إلى أنَّ السُّلامى اسمٌ لبعض العظام الصغار التي في الإبل ، ثم عبَّرَ بها عن العظام في الجملة بالنسبة إلى الآدمي وغيره .
فمعنى الحديث عنده : على كُلِّ عظمٍ من عظام ابن آدم صدقة .
وقال غيرُه : السُّلامى : عظمٌ في طرف اليد والرِّجلِ ، وكني بذلك عن جميع عظام الجسد ، والسُّلامى جمعٌ ، وقيل : هو مفرد .
__________
(1) الإحسان ( 3377 ) .
(2) عبارة : ( في الأصل ) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : غريب الحديث 3/10 – 11 .
وقد ذكر علماء الطبِّ أنَّ جميعَ عظام البدن مئتان وثمانية وأربعون عظماً سوى السمسمانيات ، وبعضهم يقول : هي ثلاث مئة وستون عظماً ، يظهر منها للحسِّ مئتان وخمسة وستون عظماً ، والباقية صغارٌ لا تظهر تُسمى السمسمانية ، وهذه الأحاديث تُصدق هذا القول ، ولعلَّ السُّلامى عبر بها عن هذه العظام الصغار ، كما أنَّها في الأصل اسم لأصغر ما في البعير من العظام ، ورواية البزار لحديث أبي هريرة يشهد لهذا ، حيث قال فيها : ( أو ستةٌ وثلاثون سُلامى ) وقد خرَّجه غيرُ البزار ، وقال فيه : ( إنَّ في ابنِ آدمَ ست مئة وستين عظماً ) وهذه الرواية غلطٌ . وفي حديث عائشة وبُريدة ذكر ثلاث مئة وستين مفصلاً .
ومعنى الحديث : أنَّ تركيب هذه العظام وسلامتها مِن أعظم نِعَمِ الله على عبده ، فيحتاج كلُّ عظم منها إلى صدقة يتصدق ابنُ آدم عنه ، ليكونَ ذلك شكراً لهذه النعمة . قال الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } (1)، وقال - عز وجل - : { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ } (2)، وقال
: { وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (3)، وقال : { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ } (4) ، قال مجاهد : هذه نِعَمٌ من الله متظاهرةٌ يقرِّرُكَ بها كيما تَشكُر(5)
__________
(1) الانفطار : 6 – 8 .
(2) الملك : 23 .
(3) النحل : 78 .
(4) البلد : 8 – 9 .
(5) لم أقف على قول مجاهد وما وجدته عن قتادة .
أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 28891 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 19319 ) .
، وقرأ الفُضيلُ ليلةً هذه الآية ، فبكى ، فسئل عن بكائِهِ ، فقال : هل بتَّ ليلة شاكراً لله أنْ جعل لك عينين تُبصر بهما ؟ هل بتَّ ليلةً شاكراً لله أنْ جعل لك لساناً تنطق به ؟ وجعل يعدِّد من هذا الضرب.
وروى ابنُ أبي الدُّنيا(1) بإسناده عن سلمانَ الفارسي ، قال : إنَّ رجُلاً بُسِطَ له مِنَ الدُّنيا ، فانتزع ما في يديه ، فجعل يحمَدُ الله - عز وجل - ، ويُثني عليه ، حتَّى لم يكن له فراش إلا بوري(2) ، فجعل يَحمد الله ، ويُثني عليه ، وبسط للآخر من الدنيا ، فقال لصاحب البُوري : أرأيتك أنتَ على ما تحمد الله - عز وجل - ؟ قال : أحْمَدُ اللهَ على ما لو أُعْطِيتُ به ما أُعْطِيَ الخَلقُ ، لم أُعْطِهِمْ إيَّاه ، قال : وما ذاك ؟ قال : أرأيتَ بصرَك ؟ أرأيت لسانَك ؟ أرأيت يديك ؟ أرأيت رجليك ؟
وبإسناده عن أبي الدرداء أنَّه كان يقول : الصِّحَّةُ غِنى الجسد(3) .
وعن يونس بن عبيد : أنَّ رجلاً شكا إليه ضِيقَ حاله ، فقال له يونس : أيسُرُّك أنَّ لك ببصرك هذا الذي تُبصِرُ به مئة ألف درهم ؟ قال الرجل : لا ، قال : فبيدك مئة ألف درهم ؟ قال : لا ، قال : فبرجليك ؟ قال : لا ، قال : فذكَّره نِعَمَ الله عليه ، فقال يونس : أرى عندك مئين ألوفٍ وأنت تشكو الحاجة(4) .
وعن وهب بن مُنَبِّهٍ ، قال : مكتوبٌ في حكمة آل داود : العافية المُلك الخفيُّ(5) .
__________
(1) في " الشكر " ( 100 ) ، ومن طريقه البيهقي في " شعب الإيمان " ( 4462 ) .
(2) فارسي معرب وهو الحصير المعمول من القصب . لسان العرب 1/536 ( بور ) .
(3) الشكر ( 102 ) .
وأخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 25/125 .
(4) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/177 ، والذهبي في " سير أعلام النبلاء " 6/292.
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 122 ) .
وعن بكر المزني قال : يا ابن آدم ، إنْ أردتَ أنْ تعلمَ قدرَ ما أنعمَ اللهُ عليك ، فغمِّضْ عينيك(1) . وفي بعض الآثار : كم مِنْ نِعمَةٍ لله في عرقٍ ساكن(2) .
وفي " صحيح البخاري "(3) عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( نِعْمَتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس : الصِّحَّةُ والفراغ ) .
فهذه النِّعم مما يُسألُ الإنسانُ عن شكرها يومَ القيامة ، ويُطالب بها كما قال تعالى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } (4) . وخرَّج الترمذيُّ(5) وابنُ حبَّانَ(6) من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ أوَّلَ ما يُسأل العبد عنه يوم القيامة مِن النعيم ، فيقول له : ألم نصحَّ لك جسمَك ، ونُرْويكَ من الماء البارد ؟ ) .
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : النعيمُ : الأمنُ والصحة(7). وروي عنه مرفوعاً(8) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 182 ) ، ومن طريقه البيهقي في " شعب الإيمان " ( 4465 ) و( 4466 ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/210 عن أبي الدرداء .
وأخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/211 عن سفيان الثوري ، وقال : فيه بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(3) الصحيح 8/109 ( 6412 ).
(4) التكاثر : 8 .
(5) في " جامعه " ( 3358 ) ، وقال : ( غريب ) على أنَّ إسناده لا ينْزل عن رتبة الحسن ؛ لذا أورده العلامة الألباني في صحيحته ( 539 ) .
(6) في " الإحسان "( 7364 ) .
(7) أخرجه : هناد بن السري في " الزهد " ( 694 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 29318 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4615 ) .
(8) ذكره ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 19461 ) .
وقال عليُّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } (1)، قال : النعيم : صحَّةُ الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأَلُ الله العبادَ : فيما استعملوها ؟ وهو أعلمُ بذلك منهم(2) ، وهو قوله تعالى : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } (3) .
وخرَّج الطبراني(4) من رواية أيوب بن عُتبة - وفيه ضعف(5) - ، عن عطاء ، عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( من قال : لا إله إلا الله ، كان لهُ بها عهدٌ عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له بها مئة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة ) ، فقال رجل : كيف نَهلكُ بعدَ هذا يا رسول الله ؟ قال : ( إنَّ الرجلَ ليأتي يومَ القيامة بالعملِ ، لو وُضِعَ على جبل لأثقله ، فتقوم النِّعمَةُ مِن نعمِ اللهِ ، فتكاد أنْ تستنفد ذلك كلَّه ، إلاَّ أنْ يتطاول الله برحمته ) .
وروى ابن أبي الدنيا(6)
__________
(1) التكاثر : 8 .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 29322 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4613 ) .
(3) الإسراء : 36 .
(4) في " الكبير " ( 13595 ) وفي " الأوسط " ، له ( 1604 ) . انظر : مجمع الزوائد 10/420 .
(5) قال عنه أحمد بن حنبل : مضطرب الحديث عن يحيى بن أبي كثير وفي غير يحيى على ذاك ، وقال عنه أبو حاتم : ( فيه لين ، قدم بغداد ولم يكن معه كتب فكان يحدّث من حفظه
على التوهم فيغلط ) ، وقال عنه أبو زرعة : ( ضعيف ) ، وقال عنه مسلم بن الحجاج
: ( ضعيف ) ، وقال عنه يحيى بن معين : ( ليس بالقوي ) ، وقال عنه ابن حجر
: ( ضعيف ) . انظر : الجرح والتعديل 2/182 ( 907 ) ، وتهذيب الكمال 1/320
( 610 ) ، والتقريب ( 619 ) .
(6) في " الشكر " ( 24 ) .
وذكره الديلمي في " مسند الفردوس " ( 8763 ) .
وفيه صالح بن موسى قال عنه يحيى بن معين : ( ليس بشيء ) ، وقال عبد الرحمان بن أبي حاتم : ( سألت أبي عنه ) ، فقال : ( ضعيف الحديث ، منكر الحديث جداً كثير المناكير عن
الثقات ) ، قلت : ( يكتب حديثه ) ؟ قال : ( ليس يعجبني حديثه ) ، وقال عنه النَّسائي
: ( لا يكتب حديثه ، ضعيف ) . انظر : الجرح والتعديل 4/380 – 381 ( 1825 ) ، وتهذيب الكمال 3/437 - 438 ( 2827 ) .
وفيه أيضاً ليث بن أبي سليم سُئل عنه يحيى بن معين فقال : ( ليس حديثه بذاك ضعيف ) ، وقال عنه أبو حاتم وأبو زرعة : ( ليث لا يشتغل به ، هو مضطرب الحديث ) ، وقال عنه ابن حجر : ( صدوق اختلط جداً ولم يتميز حديثه فترك ) .
انظر : الجرح والتعديل 7/242 ( 1014 ) ، والتقريب ( 5685 ) .
بإسنادٍ فيه ضعف أيضاً عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يُؤتى بالنِّعم يومَ القيامة ، وبالحسنات والسيئات ، فيقول الله لنعمةٍ مِنْ نِعَمِهِ : خذي حقك من حسناته فما تترك له حسنةً إلا ذهبت بها ) .
وبإسناده عن وهب بن مُنَبِّه قال : عَبَدَ الله عابدٌ خمسين عاماً ، فأوحى الله - عز وجل - إليه : إني قد غفرتُ لك ، قال : يا ربِّ ، وما تغفر لي ولم أذنبْ ؟ فأذِنَ الله - عز وجل - لِعِرْقٍ في عنقه ، فضرب عليه ، فلم ينم ، ولم يُصلِّ(1) ، ثم سكن وقام ، فأتاه مَلَكٌ ، فشكا إليه ما لقي من ضربان العرق ، فقال الملك : إنَّ ربَّك - عز وجل - يقول : عبادتُك خمسين سنة تعدل سكون ذا العرق(2) .
وخرَّج الحاكم(3)
__________
(1) عبارة : ( فلم ينم ولم يصل ) لم ترد في ( ص ) .
(2) في " الشكر " ( 148 ) ، ومن طريقه أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/68 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4622 ) .
(3) في " المستدرك " 4/250 .
وأخرجه: العقيلي في "الضعفاء" 2/144 – 145 ، والبيهقي في " شعب الإيمان "( 4620 ) .
هذا المعنى مرفوعاً من رواية سليمان بن هرم القرشي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّ جبريل أخبره أنَّ عابداً عبد الله على رأس جبلٍ في البحر خمس مئة سنة ، ثم سأل ربَّه أنْ يَقبِضَهُ وهو ساجدٌ ، قال : فنحن نمُرُّ عليه إذا هبطنا وإذا عرَجنا ، ونجد في العلم أنَّه يُبعث يَوْمَ القيامةِ ، فيوقف بَيْنَ يدي الله - عز وجل - ، فيقول الربُّ - عز وجل - : أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ، فيقولُ العبدُ : يا ربِّ ، بعملي ، ثلاثَ مرَّات ، ثم يقول الله للملائكة : قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله ، فيجدون نعمة البصر قد أحاطت بعبادةِ خمس مئة سنة ، وبقيت نِعَمُ الجسد له ، فيقول : أدخلوا عَبْديَ النار ، فيجرُّ إلى النار ، فينادي ربه : برحمتك أدخلني الجنَّة ، برحمتك ، فيدخله الجنَّة ، قال جبريل : إنَّما الأشياءُ برحمة الله يا محمد . وسُليمان بن هرم ، قال العقيلي : هو مجهول وحديثُه غيرُ محفوظ(1) .
وروى الخرائطي(2) بإسنادٍ فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً : ( يُؤتى بالعبد يومَ القيامة ، فيُوقَفُ بين يدي الله - عز وجل - فيقول للملائكة : انظرُوا في عمل عبدي ونعمتي عليه ، فينظرون فيقولون : ولا بقدْرِ نعمةٍ واحدةٍ من نِعَمِكَ عليه ، فيقول : انظروا في عمله سيِّئه وصالحه ، فينظرون فيجدونه كَفافاً ، فيقول : عبدي ، قد قبلتُ حسناتِك ، وغفرت لك سيِّئاتِك ، وقد وهبتُ لك نعمتي فيما بين
ذلك ) .
__________
(1) انظر : الضعفاء 2/144 ( 638 ) ، وهذه القصة مع ضعف سندها ونكارة متنها تخالف نص القرآن : { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 32 ] ، وانظر : ميزان الاعتدال للذهبي 2/228 .
(2) في " فضيلة الشكر " ( 57 ) .
والمقصودُ : أنَّ الله تعالى أنعمَ على عباده بما لا يُحصونَه كما قال : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوهَا } (1)، وطلب منهمُ الشُّكرَ ، ورضي به منهم . قال سليمان التيمي : إنَّ الله أنعم على العباد على قدره ، وكلَّفهم الشكر على قدرهم حتى رَضِيَ منهم مِنَ الشُّكرِ بالاعتراف بقلوبهم بنعمه(2) ، وبالحمد بألسنتهم عليها ، كما خرَّجه أبو داود(3) والنَّسائي(4)
__________
(1) إبراهيم : 34 ، والنحل : 18 .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 8 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4578 ) .
(3) في " سننه " ( 5073 ) .
(4) في " الكبرى " ( 9835 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 7 ) .
وأخرجه : ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " ( 2163 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 4368 ) ، والبغوي ( 1328 ) ، وهذا الحديث حسنه ابن حجر في " نتائج الأفكار " 2/380 .
من حديث عبد الله بن غَنَّام ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( من قال حينَ يُصبِحُ : اللهمَّ ما أَصبَحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقك ، فمنك وحْدَكَ لا شريكَ لك ، فلكَ الحمدُ ولك الشُّكْرُ ، فقد أدَّى شُكْرَ ذلك اليومِ ، ومن قالها حين يُمسي أدَّى شكر ليلته ) . وفي روايةٍ للنَّسائي عن
عبد الله بن عباس(1) .
وخرَّج الحاكم(2)
__________
(1) هذه الرواية ذكرها المزي في " تحفة الأشراف " 6/161 ( 8976 ) ، وقال : ( وهو خطأ ) وهذه الرواية أخرجها : ابن حبان ( 861 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 306 ) ، وقال الدكتور بشار في تعليقه على " التحفة " : ( وكذلك جزم ابن عساكر في " الأطراف " بأنه خطأ ثم قال : ( وقد وافق ابن وهب في رواية له الأكثر ) ، وقال أبو نعيم في " المعرفة "
: ( من قال فيه عن ابن عباس فقد صحَّف ) ، بل إنَّ الحافظ ابن حجر قال في " الإصابة " 2/349 في ترجمة عبد الله بن غنام : ( وله حديث في سنن أبي داود والنسائي في القول عند الصباح ، وقد صحَّفه بعضهم ، فقال : ابن عباس ، وأخرج النسائي الاختلاف فيه ) ، لكن في " النكت الظراف " يشير إلى أنَّ القول بخطأ من قال : ( ابن عباس ) فيه نظر ، وقوله في
" الإصابة " أجود ، وهو الموافق لما ذهب إليه المزي ) .
(2) في " المستدرك " 1/514 و4/253 .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 47 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4379 ) .
والحديث ضعفه الذهبي في " تلخيص المستدرك " 1/514 و4/253 على أنَّ الحاكم لم يصححه في الموضع الأول وصححه في الموضع الثاني ، والصواب ما ذهب إليه الذهبي من ضعف الحديث .
من حديث عائشة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما أنعم الله على عبدٍ نعمةً ، فعلم أنَّها مِنْ عند الله إلا كتب الله له شُكرها قبل أنْ يَشكُرَها ، وما أذنَبَ عبدٌ ذنباً ، فندم عليه إلا كتب الله له مغفرته قبل أنْ يستغفره ) .
قال أبو عمرو الشيباني : قال موسى - عليه السلام - يوم الطُّورِ : يا ربِّ ، إنْ أنا صلَّيتُ فمِنْ قِبَلِكَ ، وإنْ أنا تصدقت فمن قبلك ، وإنْ أنا بلَّغتُ رسالتَك فمن قبلك ، فكيف أشكرُكَ ؟ قال : الآن شكرتني(1) .
وعن الحسن قال : قال موسى - عليه السلام - : يا ربِّ ، كيف يستطيع آدم أنْ يؤدِّي شكرَ ما صنعت إليه ؟ خلقتَه بيدِكَ ، ونفخت فيه من رُوحِكَ ، وأسكنته جنَّتَكَ ، وأمرتَ الملائكة فسجدوا له ، فقال : يا موسى ، عَلِمَ أَنَّ ذلك مني ، فحمدني عليه ، فكان ذلك شكراً لما صنعته(2) .
وعن أبي الجلد(3) قال : قرأتُ في مسألة داود أنَّه قال : أي ربِّ كيف لي أنْ أشكُرَكَ وأنا لا أصلُ إلى شكرك إلاَّ بنعمتك ؟ قال : فأتاه الوحي : أنْ يا داود ، أليس تعلمُ أنَّ الذي بك من النِّعم مني ؟ قال : بلى يا ربِّ(4) ، قال : فإنِّي أرضى
بذلك منك شكراً(5) .
__________
(1) أخرجه : الخرائطي في " فضيلة الشكر " ( 39 ) .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 12 ) ، ومن طريقه أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 4427 ) .
(3) اسمه حيلان بن فروة . انظر : حلية الأولياء 6/54 .
(4) يا رب ) لم ترد في ( ص ) .
(5) أخرجه : ابن أبي شيبة في " الشكر " ( 5 ) ، وأحمد بن حَنْبل في " الزهد " ( 375 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/56 .
قال : وقرأتُ في مسألةِ موسى : يا ربِّ ، كيف لي أنْ أشكركَ وأصغرُ نعمةٍ وضعتَها عندي مِنْ نِعَمِكَ لا يُجازي بها عملي كله ؟ قال : فأتاه الوحيُ : أنْ يا موسى ، الآن شكرتني(1) .
وقال أبو بكر بن عبد الله : ما قال عبد قطُّ : الحمدُ لله مرَّةً ، إلاَّ وجبت عليه نعمةٌ بقوله : الحمد لله ، فما جزاء تلك النَّعمة ؟ جزاؤها أنْ يقولَ : الحمد لله ، فجاءت نعمةٌ أخرى ، فلا تنفد نعماءُ الله(2) .
وقد روى ابنُ ماجه(3) من حديث أنسٍ مرفوعاً: ( ما أنعمَ الله على عبدٍ نعمةً، فقال : الحمدُ لله ، إلاَّ كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ ) .
وروينا نحوه من حديث شهر بن حوشب(4) ، عن أسماء بنت يزيد مرفوعاً أيضاً .
وروي هذا عن الحسن البصري من قوله(5) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 6 ) ، وأحمد بن حنبل في " الزهد " ( 349 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/56 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4415 ) .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 7 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4408 ) .
(3) في " سننه " ( 3805 ) ، وإسناده ضعيف لضعف شبيب بن بشر .
(4) لم أقف على هذه الرواية ، وشهر بن حوشب ضعيف .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 111 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4406 ).
وكتب بعضُ عمال عمر بن عبد العزيز إليه : إني بأرضٍ قد كثُرَت فيها النِّعم، حتى لقد أشفقتُ على أهلها مِنْ ضعفِ الشُّكر ، فكتب إليه عُمَرُ : إنِّي قد كنتُ أراك أعلم بالله ممَّا أنتَ ، إنَّ الله لم يُنعم على عبدٍ نعمةً ، فحمِدَ الله عليها ، إلاَّ كان
حمدُه أفضلَ من نِعَمِه ، لو كنتَ لا تعرف ذلك إلاَّ في كتاب الله المنزل ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } (1) ، وقال تعالى : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا } إلى قوله : { وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ } (2) وأيّ نعمة أفضلُ من دخول الجنَّة(3) ؟
وقد ذكر ابنُ أبي الدنيا في " كتاب الشكر "(4) عن بعض العُلماء أنَّه صوَّب هذا القولَ : أعني قولَ من قال : إنَّ الحمدَ أفضلُ من النِّعم ، وعن ابن عُيينة أنَّه خطَّأ قائلَه ، قال : ولا يكون فعلُ العبدِ أفضلَ من فعلِ الربِّ - عز وجل -(5).
__________
(1) النمل : 15 .
(2) الزمر : 73 – 74 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/293 .
(4) الشكر ( 11 ) عن الحسن .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 4586 ) .
(5) ذكره : المناوي في " فيض القدير " 5/547 .
ولكن الصواب قول من صوَّبه ، فإنَّ المرادَ بالنعم : النعم الدنيوية ، كالعافية والرِّزق والصِّحَّة ، ودفع المكروه ، ونحو ذلك ، والحمد هو مِنَ النِّعم الدينية ، وكلاهما نعمةٌ مِنَ اللهِ ، لكن نعمة الله على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد عليها أفضل من نعمه الدنيوية على عبده ، فإنَّ النعم الدنيوية إنْ لم يقترن بها الشُّكرُ ، كانت بليةً كما قال أبو حازم : كلُّ نعمةٍ لا تقرِّبُ مِنَ الله فهي بليَّةٌ(1) ، فإذا وفَّقَ الله عبدَه للشكر على نعمه الدنيوية بالحمدِ أو غيره من أنواع الشكر ، كانت هذه النعمةُ خيراً من تلك النعم وأحبَّ إلى الله - عز وجل - منها ، فإنَّ الله يُحِبُّ المحامدَ ، ويرضى عن عبدِه أنْ يأكلَ الأكلة ، فيحمده عليها ، ويشرب الشربة ، فيحمَده عليها ، والثناء بالنِّعم والحمدُ عليها وشكرُها عندَ أهل الجود والكرم أحبُّ إليهم من أموالهم ، فهم يبذلُونَها طلباً للثناء ، والله - عز وجل - أكرمُ الأكرمين ، وأجودُ الأجودين ، فهو يَبذُلُ نِعَمَهُ(2) لعباده ، ويطلب منهم الثناءَ بها ، وذكرها ، والحمد عليها ، ويرضى منهم بذلك شكراً عليها ، وإنْ كان ذلك كلُّه من فضله عليهم ، وهو غيرُ محتاجٍ إلى شكرهم ، لكنَّه يُحِبُّ ذلك من عباده ، حيث كان صلاحُ العبدِ وفلاحُه وكماله فيه . ومِن فضله أنَّه نسب الحمدَ والشُّكر إليهم ، وإنْ كان من أعظم نِعَمِه عليهم ، وهذا كما أنَّه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال ، ثم استقرض منهم بعضَهُ ، ومدحهم بإعطائه ، والكلُّ ملكُه ، ومِنْ فضله ، ولكن كرمه اقتضى ذلك ، ومِنْ هُنا يُعلم معنى الأثرِ الذي جاء مرفوعاً(3)
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 20 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/320 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4537 ) ، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 2/92 .
(2) نعمه ) لم ترد في ( ص ) .
(3) ذكره المنذري بصيغة التمريض في " الترغيب والترهيب " ( 2334 ) عن ابن عمر ، به مرفوعاً ، وقال : ( رواه البخاري في الضعفاء ) .
وموقوفاً(1) : ( الحمد لله حمداً يُوافي نعمَه ، ويكافئُ مزيده ) .
ولنرجع الآن إلى تفسير حديث : ( كلُّ سُلامى مِنَ النَّاس عليه صدقة كُلَّ يوم تطلع فيه الشَّمسُ ) .
يعني : أنَّ الصَّدقةَ على ابنِ آدمَ عن هذه الأعضاء في كُلِّ يومٍ من أيَّامِ الدُّنيا ، فإنَّ اليوم قد يُعَبَّرُ به عن مدَّةٍ أزيدَ مِنْ ذلك ، كما يقال : يوم صِفِّين ، وكان مدَّةَ أيَّام، وعن مطلق الوقت كما في قوله : { أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } (2). وقد يكون ذلك ليلاً ونهاراً ، فإذا قيل : كلَّ يوم تطلعُ فيه الشمس ، علم أنَّ هذه الصدقة على ابن آدم في كلِّ يوم يعيشُ فيه من أيام الدُّنيا ، وظاهرُ الحديث يدلُّ على أنَّ هذا الشُّكر بهذه الصَّدقة واجبٌ على المسلم كلَّ يوم ، ولكن الشُّكر على درجتين :
__________
(1) أخرجه : أبو الشيخ الأصبهاني في " العظمة " ( 1053 ) من طريق أبي صالح ، به .
(2) هود : 8 .
إحداهما : واجب ، وهو أنْ يأتي بالواجبات ، ويجتنب المحارم، فهذا لابدَّ منه، ويكفي في شكر هذه النِّعم ، ويدلُّ على ذلك ما خرَّجه أبو داود من حديث أبي الأسود الدِّيلي ، قال : كنا عند أبي ذرٍّ ، فقال : يُصبح على كُلِّ سُلامى مِنْ أحدكم في كُلِّ يومٍ صدقة ، فله بكلِّ صلاة صدقةٌ ، وصيام صدقة ، وحجٍّ صدقة ، وتسبيح صدقة ، وتكبير صدقة ، وتحميد صدقة ، فعدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ هذه الأعمال الصالحات قال : ( يجزئ أحدكم مِنْ ذلك ركعتا الضحى )(1) وقد تقدَّم في حديث أبي موسى(2) المخرَّج في " الصحيحين " : ( فإنْ لم يفعل ، فليمسك عَنِ الشَّرِّ ، فإنَّه له صدقة ) . وهذا يدلُّ على أنَّه يكفيه أنْ لا يفعل شيئاً من الشرِّ ، وإنَّما يكون مجتنباً للشرِّ إذا قام بالفرائض ، واجتنبَ المحارمَ ، فإنَّ أعظمَ الشرِّ تركُ الفرائض ، ومن هنا قال بعضُ السَّلف : الشُّكرُ ترك المعاصي(3) . وقال بعضهم : الشُّكرُ أنْ لا يُستعانَ بشيءٍ مِنَ النِّعَمِ على معصية(4).
وذكر أبو حازمٍ الزاهد شُكْرَ الجوارح كُلِّها ، وأنْ تُكفَّ عن المعاصي وتُستعمل في الطاعات ، ثم قال : وأمَّا من شكر بلسانه ، ولم يشكر بجميع أعضائه ، فمثله كمثل رجل له كِساءٌ ، فأخذ بطرفه ، فلم يلبسه ، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر(5) .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه .
(3) أخرجه : أبن أبي الدنيا في " الشكر " ( 19 ) عن مخلد بن الحسين .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 4547 ) عن محمد بن لوط .
(4) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 6045 ) عن الجنيد بلفظ : ( الشكر أن لا يعصى الله فيما أنعم به ) .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 129 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/246 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4564 ) .
وقال عبد الرحمان بن زيد بن أسلم : لينظر العبدُ في نعم الله عليه في بدنه وسمعه وبصرِه ويديه ورجليه وغير ذلك ، ليس من هذا شيءٌ إلاَّ وفيه نعمةٌ من الله - عز وجل - ، حقٌّ على العبد أنْ يعملَ بالنِّعم التي في بدنه لله - عز وجل - في طاعته ، ونعمة أخرى في الرزق ، حق عليه أنْ يعمل لله - عز وجل - فيما أنعم عليه مِنَ الرِّزق في طاعته ، فمن عمل بهذا ، كان قد أخذ بحزم الشُّكر وأصله وفرعه(1) . ورأى الحسن رجلاً يتبختر في مشيته ، فقال : للهِ في كُلِّ عُضوٍ منه نعمة ، اللهمَّ لا تجعلنا ممن يتقوَّى بنعمك على معصيتك .
الدرجة الثانية من الشكر : الشكر المستحبُّ ، وهو أنْ يعملَ العبدُ بعد أداءِ الفرائض ، واجتنابِ المحارم بنوافل الطَّاعات ، وهذه درجةُ السَّابقين المقرَّبين ، وهي التي أرشد إليها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحاديث التي سبق ذكرُها ، وكذلك كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في الصَّلاة ، ويقوم حتَّى تتفطَّر قدماه ، فإذا قيل له : أتفعلُ هذا وقد غَفَرَ الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : ( أفلا أكونُ عبداً شكوراً ؟ )(2) .
وقال بعضُ السَّلف : لما قال الله - عز وجل - : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً } (3) ، لم يأتِ عليهم ساعةٌ من ليلٍ أو نهارٍ إلاَّ وفيهم مصلٍّ يُصلي(4) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 188 ) .
(2) أخرجه : البخاري 2/63 ( 1130 ) و6/169 ( 4836 ) ، ومسلم 8/140 ( 2819 ) ( 79 ) و(80 ) .
(3) سبأ : 13 .
(4) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الشكر " ( 74 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4524 ) عن مسعر بن كدام .
وهذا مع أنَّ بعضَ هذه الأعمال التي ذكرها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - واجبٌ : إمَّا على الأعيان، كالمشي إلى الصلاة عندَ من يرى وجوبَ الصَّلاة في الجماعات في المساجد، وإما على الكفاية ، كالأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ، وإغاثة الملهوف ، والعدلِ بينَ الناسِ ، إمَّا في الحكم بينهم ، أو في الإصلاح . وقد روي من حديث عبد الله بن عمرو ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أفضلُ الصَّدقةِ إصلاحُ ذات البين )(1) .
وهذه الأنواع التي أشار إليها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الصدقة ، منها ما نفعُهُ متعدٍّ
كالإصلاح ، وإعانةِ الرَّجُلِ على دابته يحمله عليها أو يرفع متاعه عليها ، والكلمة الطيبة ، ويدخل فيها السلام ، وتشميتُ العاطس ، وإزالة الأذى عن الطَّريق ، والأمر بالمعروف ، والنَّهيُ عن المنكرِ ، ودفنُ النُّخامة في المسجد ، وإعانة ذي الحاجة الملهوف ، وإسماع الأصمّ ، والبصر للمنقوص بصره ، وهداية الأعمى أو غيره الطريق . وجاء في بعض روايات حديثِ أبي ذرٍّ : ( وبيانك عن الأَرتم صدقة ) يعني : من لا يُطيق الكلام(2) ، إمَّا لآفةٍ في لسانه ، أو لِعُجْمة في لغته ، فيُبَيِّنُ عنه ما يحتاج إلى بيانه .
__________
(1) أخرجه : عبد بن حميد ( 335 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 2059 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 1280 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 11092 ) ، وهو حديث ضعيف لضعف عبد الرحمان بن زياد الإفريقي ، وهو يروي هنا عن شيخ مجهول .
(2) انظر : لسان العرب 5/133 ( رتم ) .
ومنه ما هو قاصرُ النَّفع : كالتَّسبيحِ ، والتَّكبير ، والتَّحميد ، والتَّهليل ، والمشي إلى الصَّلاةِ ، وصلاة ركعتي الضُّحى ، وإنَّما كانتا مجزئتين عن ذلك كلِّه ؛ لأنَّ في الصَّلاة استعمالاً للأعضاء كلِّها في الطَّاعة والعبادة ، فتكون كافيةً في شكر نعمه سلامة(1) هذه الأعضاء . وبقية هذه الخصال المذكورة أكثرُها استعمالٌ لبعض أعضاء البدن خاصَّةً ، فلا تكمُلُ الصدقة بها حتَّى يأتيَ منها بعدد سُلامى البدن ، وهي ثلاث مئة وستون كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - .
وفي " المسند "(2) عن ابنِ مسعود ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أتدرون أيُّ الصَّدقة أفضلُ وخير ؟ ) قالوا : الله ورسولُه أعلمُ . قال : ( المِنحة : أنْ تمنح أخاك الدَّراهم ، أو ظهرَ الدابَّةِ ، أو لبنَ الشَّاةِ أو لبنَ البقرة ) . والمراد بمنحة الدراهم : قرضُها ، وبمنحة ظهر الدَّابةِ إفقارها ، وهو إعارتها لمن يركبُها ، وبمنحة لبن الشاة أو البقرة أنْ يمنحه بقرةً أو شاةً ليشربَ لبنها ثمَّ يعيدها إليه ، وإذا أطلقت المنيحةُ ، لم تنصرِفْ إلاَّ إلى هذا .
وخرَّج الإمام أحمد(3) والترمذي(4) من حديث البراء بن عازبٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال : ( من منح منيحة لبن ، أو وَرِقٍ ، أو هدى زُقاقاً ، كان له مثلُ عِتْقِ رقبةٍ ) وقال الترمذي : معنى قوله : ( من منح منيحة وَرِق ) إنَّما يعني به قرض الدراهم ، وقوله : ( أو هدى زقاقاً ) إنَّما يعني به هداية الطريق ، وهو إرشادُ السبيل .
__________
(1) عبارة : ( نعمه سلامة ) لم ترد في ( ص ) .
(2) 1/463 ، وإسناده ضعيف لضعف إبراهيم الهجري .
(3) في " المسند " 4/285 و286 و296 و300 و304 .
(4) في " جامعه " ( 1957 ) ، وقال : ( حسن صحيح ) .
وخرَّج البخاري(1) من حديث حسّان بن عطية ، عن أبي كبشةَ السَّلولي ، قال : سمعتُ عبد الله بنَ عمرٍو يقول : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أربعون خَصلةً ، أعلاها منيحة(2) العنْز(3) ، ما مِنْ عاملٍ يعملُ بخصلةٍ منها رجاءَ ثوابها ، وتصديقَ
موعودها ، إلاَّ أدخله الله بها الجنة ) . قال حسان : فعددنا ما دونَ منيحة العنْزِ من ردِّ السَّلام ، وتشميت العاطس ، وإماطة الأذى عن الطَّريق ونحوه ، فما استَطعنا أنْ نبلُغَ خمس عشرة خصلة .
وفي " صحيح مسلم "(4) عن جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( حقُّ الإبل حلبُها على الماء ، وإعارةُ دلوها ، وإعارةُ فحلها ، ومنيحتها ، وحملٌ عليها في سبيل الله ) .
وخرَّج الإمامُ أحمد(5) من حديث جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كلُّ معروفٍ صدقةٌ ، ومِنَ المعروف أنْ تلقَى أخاكَ بوجهٍ طلقٍ ، وأنْ تُفرِغَ من دلوك في إنائه ) . وخرَّجه الحاكم(6)
__________
(1) في " صحيحه " 3/217 ( 2631 ) .
(2) قال ابن حجر : ( والمنيحة بالنون المهملة وزن عطية هي في الأصل العطية ، قال أبو عبيد : المنيحة عند العرب على وجهين أحدهما : أنْ يعطي الرجل صاحبه صلة فتكون له ، والآخر : أنْ يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بحليبها ووبرها زماناً ثم يردها ) . انظر : فتح الباري 5/299 .
(3) قال ابن حجر : ( بفتح المهملة وسكون النون بعدها زاي معروفة وهي واحدة المعز ) . انظر : فتح الباري 5/301 .
(4) الصحيح 3/74 ( 988 ) ( 28 ) .
(5) في " مسنده " 3/344 و360 ، وإسناده ضعيف لضعف المنكدر بن محمد بن المنكدر لكن للحديث شواهد يتقوى بها ، والله أعلم .
(6) في " المستدرك " 2/50 .
وأخرجه : أبو يعلى ( 2040 ) ، والدارقطني في " سننه " ( 2872 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 94 ) ، والبيهقي 10/242 ، ورواية الحاكم في سندها عبد الحميد بن الحسن الهلالي ضعيف ، وتوبع في بعض المصادر بمن هو مثله من الضعفاء .
وغيره بزيادة ، وهي : ( وما أنفق المرءُ على نفسه وأهلِه ، كُتِبَ له به صدقةٌ ، وما وقى به عرضَه كُتِبَ له به صدقة ، وكُلُّ نفقةٍ أنفقها مؤمن ، فعلى الله خَلَفُها ضامن إلاَّ نفقةً في معصيةٍ أو بنيانٍ ) .
وفي " المسند "(1) عن أبي جُري الهُجيمي، قال : سألتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المعروف، فقال : ( لا تَحقِرنَّ من المعروف شيئاً ، ولو أنْ تُعْطيَ صِلةَ الحبلِ ، ولو أنْ تُعطي شِسْعَ النَّعلِ ، ولو أنْ تُفرِغَ من دلوكَ في إناء المستسقي ، ولو أنْ تُنَحِّي الشَّيءَ مِنْ طريق النَّاسِ يؤذيهم ، ولو أنْ تلقى أخاكَ ووجهُك إليه منطلق ، ولو أنْ تلقى أخاك فتسلِّمَ عليه ، ولو أنْ تُؤْنِسَ الوحشان في الأرض ) .
ومِنْ أنواع الصَّدقة : كفُّ الأذى عن النَّاس باليد واللسان ، كما في
" الصحيحين " عن أبي ذرٍّ(2) ، قلتُ : يا رسولَ الله ، أيُّ الأعمال أفضل ؟ قالَ
: ( الإيمانُ بالله ، والجهاد في سبيله ) قلتُ : فإنْ لم أفعل ؟ قال : ( تُعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق(3) ) ، قلت : أرأيت إنْ ضعُفت عن بعضِ العمل ؟ قال : ( تكفُّ شرَّكَ عن النَّاسِ ، فإنها صدقة ) .
وفي " صحيح ابن حبان "(4)
__________
(1) المسند 3/482 و4/65 ، وهو حديث صحيح .
(2) أخرجه : البخاري 3/188 – 189 ( 2518 ) ، ومسلم 1/61 (84 ) ( 136 ) .
(3) الأخرق الذي لا صنعة له . انظر : شرح السنة عقيب حديث ( 2418 ) .
(4) الإحسان ( 373 ) .
وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 941 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 1650 ) ، والحاكم 1/63 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 3327 ) ، وجميع أسانيده ضعيفة .
عن أبي ذرٍّ قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، دُلَّني على عملٍ ، إذا عملَ به العبدُ دخلَ به الجنَّةَ ، قال : ( يُؤمِنُ بالله ) قلت :
يا رسولَ الله ، إنَّ مع الإيمان عملاً ؟ قالَ : ( يرضخُ(1) ممَّا رزقه الله ) ، قلت : وإنْ كانَ معدماً لا شيء لهُ ؟ قالَ : ( يقول معروفاً بلسانه ) ، قلتُ : فإنْ كانَ عيياً لا يُبلغُ عنه لسانُه ؟ قال : ( فيُعين مغلوباً ) ، قلت : فإنْ كان ضعيفاً لا قُدرةَ له ؟ قال : ( فليصنع لأخرق ) ، قلت : فإنْ كان أخرقَ ؟ فالتفت إليَّ ، فقال : ( ما تريدُ أنْ تدعَ في صاحبك شيئاً مِنَ الخيرِ ؟ فليدع النَّاس من أذاه ) ، قلتُ : يا رسول الله ، إنَّ هذا كلَّه ليسيرٌ ، قال : ( والذي نفسي بيده ، ما مِنْ عبدٍ يعملُ بخصلةٍ منها يُريد بها ما عندَ الله ، إلا أَخذت بيده يومَ القيامة حتى يدخل الجنَّة ) .
فاشترط في هذا الحديث لهذه الأعمال كلِّها إخلاص النية كما في حديث
عبد الله بن عمرو الذي فيه ذكر الأربعين خصلةً(2) ، وهذا كما في قوله - عز وجل - : { لا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } (3). وقد رُوي عن الحسن ، وابن سيرين أنَّ فعلَ المعروف يُؤجَرُ عليه ، وإنْ لم يكن له فيه نيّة . سئل الحسنُ عن الرَّجلِ يسألُه آخَرُ حاجةً وهو يُبغِضُهُ ، فيُعطيه حياءً : هل له فيه أجر ؟ فقال : إنَّ ذلك لمن المعروف ، وإنَّ في المعروف لأجراً . خرَّجه حميدُ بنُ زنجويه .
__________
(1) الرَّضخُ : العطية القليلة . انظر : النهاية 2/228 .
(2) سبق تخريجه .
(3) النساء : 114 .
وسُئِلَ ابنُ سيربن عن الرجل يتبع الجنازة ، لا يتبعها حسبةً ، يتبعها حياءً من أهلها : أله في ذلك أجرٌ ؟ فقالَ : أجرٌ واحد ؟ بل لهُ أجران : أجرٌ لِصلاته على أخيه ، وأجرٌ لصلته الحيّ . خرَّجه أبو نعيم في " الحلية "(1) .
ومن أنواع الصدقة : أداءُ حقوق المسلم على المسلم ، وبعضُها مذكورٌ في الأحاديث الماضية ، ففي " الصحيحين "(2) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( حقُّ المسلم على المسلمِ خمسٌ ، ردُّ السَّلامِ ، وعيادةُ المريض ، واتِّباعُ الجنائز ، وإجابةُ الدَّعوة ، وتشميتُ العاطس ) وفي روايةٍ لمسلم(3) : ( للمسلم على المسلم سِتٌّ ) ، قيل : ما هُنَّ يا رسول الله ؟ قال : ( إذا لقيته تُسلِّمُ عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك ، فانصح له ، وإذا عطس فَحَمِدَ الله ، فشمِّته ، وإذا مَرِضَ فعُدْهُ ، وإذا مات فاتَّبعه ) .
وفي " الصحيحين "(4) عن البراء قال : أمرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع : بعيادةِ
المريض واتِّباع الجنازة ، وتَشميتِ العاطس ، وإبرارِ القسم ، ونصر المظلوم ،
وإجابة الداعي ، وإفشاء السلام . وفي روايةٍ لمسلم(5) : وإرشاد الضال ، بدل إبرار القسم .
ومن أنواع الصَّدقة : المشي بحقوق الآدميين الواجبة إليهم ، قال ابن عباس : من مشى بحقِّ أخيه إليه ليقضيه ، فله بكلِّ خطوة صدقة(6) .
__________
(1) الحلية 2/264 .
(2) أخرجه : البخاري 2/90 ( 1240 ) ، ومسلم 7/3 ( 2162 ) ( 4 ) .
(3) في " صحيحه " 7/2 ( 2162 ) ( 5 ) .
(4) صحيح البخاري 2/90 ( 1239 ) و3/168 ( 2445 ) ، وصحيح مسلم 6/134
( 2066 ) ( 3 ) .
(5) في " صحيحه " 6/134 ( 2066 ) ( 3 ) .
(6) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 823 ) .
ومنها : إنظارُ المعسر ، وفي " المسند "(1) و" سنن ابن ماجه "(2) عن بُريدة مرفوعاً : ( من أنظرَ معسراً ، فله بكلِّ يوم صدقة قبل أنْ يَحُلَّ الدَّيْنُ ، فإذا حلَّ الدين ، فأنظره بعد ذلك ، فله بكلِّ يوم مثله صدقة ) .
ومنها : الإحسّان إلى البهائم ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما سُئِلَ عن سقيها ، فقال : ( في كلِّ كبدٍ رطبةٍ أجر )(3) ، وأخبر أنَّ بغيّاً سقت كلباً يلهثُ مِن العطش ، فغفر لها(4).
وأمَّا الصَّدقة القاصرةُ على نفس العامل بها ، فمثل أنواع الذكر مِن التَّسبيح ،
والتكبير ، والتحميد ، والتهليل ، والاستغفار ، والصلاة على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك
تلاوةُ القرآن ، والمشي إلى المساجد ، والجلوسُ فيها لانتظار الصلاة ، أو لاستماع الذكر .
ومن ذلك : التَّواضعُ في اللِّباس ، والمشي ، والهدي ، والتبذل في المهنة ، واكتساب الحلال ، والتحرِّي فيه .
__________
(1) المسند 5/351 و360 والحديث صحيح .
(2) السنن ( 2418 ) .
(3) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2688 ) برواية يحيى الليثي ، وأحمد 2/375 و517 ، والبخاري 3/146 - 147 ( 2363 ) و3/173 - 174 ( 2466 )، و8/11 ( 6009 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 378 ) ، ومسلم 7/43 ( 2244 ) ( 153 ) ، وأبو داود
( 2550 ) ، وأبو عوانة 3/365 و366 ، وابن حبان ( 544 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 113 ) ، والبيهقي 4/185 – 186 و8/14 ، والبغوي ( 384 ) .
(4) أخرجه : أحمد 2/507 و510 ، والبخاري 4/158 ( 3321 )، ومسلم 7/43 ( 2245 ) ( 154 ) و( 155 ) ، وأبو يعلى ( 6035 ) و( 6044 ) ، وابن حبان ( 386 ) ، والبيهقي 8/14 ، والبغوي ( 1666 ) من حديث أبي هريرة ، به .
ومنها أيضاً : محاسبةُ النفس على ما سلف من أعمالها ، والندم والتوبة من الذنوب السالفة ، والحزن عليها ، واحتقار النفس ، والازدراء عليها ، ومقتها في الله - عز وجل - ، والبكاء من خشية الله تعالى ، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض ، وفي أمور الآخرة ، وما فيها مِنَ الوعد والوعيد ونحوِ ذلك مما يزيد الإيمانَ في القلب ، وينشأ عنه كثيرٌ من أعمال القلوب ، كالخشية ، والمحبَّةِ ، والرَّجاء ، والتوكُّل ، وغير ذَلِكَ . وقد قيل : إنَّ هذا التفكُّر أفضلُ من نوافل الأعمال البدنية ، روي ذَلِكَ عن غير واحد من التَّابعين ، منهم : سعيدُ بن المسيب(1) ، والحسن(2) ، وعمر بن
عبد العزيز ، وفي كلام الإمام أحمد ما يدلُّ عليهِ . وقال كعب : لأنْ أبكي من خشية الله أحبُّ إليَّ من أنْ أتصدَّق بوزني ذهباً(3) .
__________
(1) انظر : الطبقات لابن سعد 5/102 ، وحلية الأولياء لأبي نعيم 2/161 – 162 ، والزهد الكبير للبيهقي ( 830 ) .
(2) انظر : الزهد لهناد ( 945 ) ، وحلية الأولياء لأبي نعيم 2/134 .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35544 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/366 ، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 4/138 ، والمزي في " تهذيب الكمال " 6/170 ( 5569 ) .
الحديث السابع والعشرون
عَنِ النَّواسِ بنِ سَمعانِ - رضي الله عنه - ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ ، والإثْمُ : ما حَاكَ في نَفْسِكَ ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليهِ النَّاسُ ) . رواهُ مسلمٌ(1) .وعَنْ وابِصَةَ بن مَعْبَدٍ قال : أتيتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالَ : ( جِئْتَ تَسأَلُ عن البرِّ والإثمِ ؟ ) قُلْتُ : نعَمْ ، قال : ( استَفْتِ قَلْبَكَ ، البرُّ ما اطمأنَّتْ إليهِ النَّفْسُ ، واطمأنَّ إليهِ القلبُ ، والإثمُ ما حَاكَ في النَّفسِ ، وتَردَّدَ في الصَّدْرِ ، وإنْ أفتاكَ النَّاسُ وأَفْتوكَ )(2) .
__________
(1) في " صحيحه " 8/6-7 ( 2553 ) ( 14 ) و( 15 ) .
وأخرجه : أحمد 4/182 ، والدارمي ( 2792 ) و( 2793 ) ، والبخاري في "الأدب المفرد" ( 295 ) و( 302 ) ، والترمذي ( 2389 ) ، والطحاوي في "شرح المشكل" ( 2138 ) ، وابن حبان ( 397 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 980 ) و( 2023 ) ، والحاكم 2/14 ، والبيهقي 10/192 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 7273 ) و( 7994 ) ، والبغوي
( 3494 ) من حديث النواس بن سمعان ، به .
(2) أخرجه : أحمد 4/228 ، والدارمي ( 2533 ) ، وأبو يعلى ( 1586 ) و( 1857 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 2139 ) ، والطبراني في " الكبير " 22/( 403 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/24 و6/255 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/292 – 293 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 65/259 من حديث وابصة بن معبد ، به .
قال الشيخ - رحمه الله - : حديثٌ حسنٌ رويناه في " مسنَدَي " الإمامين أحمد والدَّارميِّ(1) بإسنادٍ حسنٍ .
أما حديث النوَّاس بن سمعان ، فخرَّجه مسلم من رواية معاوية بن صالح ، عن
عبد الرحمان بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن النوَّاس ، ومعاوية وعبد الرحمان وأبوه تفرَّد بتخريج حديثهم مسلم دونَ البخاري(2) .
__________
(1) كتاب الدارمي طبع طبعات عديدة ، وأغلب تلك الطبعات باسم " سنن الدارمي " وطبع طبعة أخرى باسم " المسند الجامع " ، وذكر المحقق أنَّه هكذا وجد اسم الكتاب على النسخ الخطية التي اعتمد عليها وذكر أنَّ التسمية التي أطلقها الدارمي على كتابه هي المسند من باب أنَّ أحاديثه مروية بالإسناد كما يقال "مسند أبي عوانة"، وهو مرتب على أبواب الفقه ، وكذا "مسند السراج" ، والبخاري ومسلم وابن خزيمة وضعوا المسند من ضمن عناوين كتبهم للمعنى الآنف الذكر ، والله أعلم .
(2) تقدم تخريجه .
وأما حديث وابصة فخرَّجه الإمام أحمد من طريق حماد بنِ سلمة ، عن الزبير ابن عبد السلام ، عن أيوب بن عبد الله بن مِكرز ، عن وابصة بن معبد ، قال : أتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أريدُ أنْ لا أدع شيئاً من البرِّ والإثم إلاَّ سألتُ عنه ،
فقال لي : ( ادنُ يا وابصةُ ) ، فدنوتُ منه ، حتّى مست ركبتي ركبتَه ، فقال
: ( يا وابصة أُخبرك ما جئتَ تسأل عنه أو تسألني ؟ ) قلت : يا رسول الله
أخبرني ، قالَ : ( جئتَ تسألني عن البرِّ والإثم ) ، قلت : نعم ، فجمع
أصابعَه الثلاث ، فجعل يَنكُتُ بها في صدري ، ويقول : ( يا وابصة ،
استفتِ نفسَك ، البرُّ ما اطمأنَّ إليه القلب ، واطمأنَّت إليه النفسُ ، والإثمُ :
ما حاك في القلبِ ، وتردَّد في الصَّدر وإنْ أفتاك الناسُ وأفتوك )(1) . وفي
روايةٍ أخرى للإمام أحمد(2) أنَّ الزبيرَ لم يسمعه من أيوب ، قال : وحدَّثني
جلساؤه ، وقد رأيتُه ، ففي إسناد هذا الحديث أمران يُوجب كلٌّ منهما
ضعفه :
أحدهما : انقطاعه بين الزبير وأيوب ؛ فإنَّه رواه عن قوم لم يسمعهم .
والثاني : ضعف الزبير هذا ، قال الدارقطني : روى أحاديث مناكير ، وضعفه ابن حبان أيضاً ، لكنه سماه أيوب بن عبد السلام ، فأخطأ في اسمه ، وله طريق آخر عن وابصة خرَّجه الإمام أحمد(3) أيضاً من رواية معاوية بن صالح ، عن أبي عبد الله السلمي ، قال : سمعتُ وابصةَ ، فذكر الحديث مختصراً ، ولفظه : قال : ( البرُّ ما انشرحَ له صدُرك ، والإثمُ ما حاك في صدرك ، وإنْ أفتاك عنه الناس ) .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) في " مسنده " 4/228 .
(3) في " مسنده " 4/227 من طريق أبي عبد الله السُّلَمي ، عن وابصة بن معبد ، به .
... وقد وقع في " مسند الإمام أحمد " - رحمه الله - : ( أبو عبد الرحمان السلمي ) بدل ( أبو عبد الله السلمي ) ، وانظر : تعجيل المنفعة ( 331 ) ، وأطراف المسند 5/438.
والسُّلمي هذا : قال عليُّ بن المديني : هو مجهول .
وخرَّجه البزار(1) والطبراني(2) وعندهما أبو عبد الله الأسدي ، وقال البزار(3) : لا نعلم أحداً سماه ، كذا قال ، وقد سمي في بعض الروايات محمداً . قال عبد الغني ابن سعيد الحافظ : لو قال قائلٌ : إنَّه محمد بن سعيد المصلوب ، لما دفعتُ ذلك ، والمصلوب هذا صلبه المنصورُ في الزَّندقة ، وهو مشهورٌ بالكذب والوضع ، ولكنه لم يدرك وابصةَ (4) ، والله أعلم .
وقد رُوي هذا الحديثُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعدِّدة وبعضُ طرقه جيدة ، فخرَّجه الإمامُ أحمدُ(5) ، وابن حبان في " صحيحه "(6) من طريق يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جدِّه ممطور ، عن أبي أُمامة ، قال : قال رجلٌ :
يا رسولَ الله ، ما الإثم ؟ قالَ : ( إذا حاك في صدرك شيءٌ فدعه ) وهذا إسنادٌ جيِّدٌ على شرط مسلم ، فإنَّه خرَّج حديث يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، وأثبت أحمد سماعَه منه ، وإنْ أنكره ابنُ معين .
__________
(1) كما في " كشف الأستار " ( 183 ) من طريق أبي عبد الله الأسدي ، عن وابصة بن معبد ، به .
(2) في " الكبير " 22/ ( 402 ) .
(3) كما في " كشف الأستار " عقيب ( 183 ) .
(4) انظر : تهذيب الكمال 6/322 ( 5832 ) .
(5) في " مسنده " 5/251 و252 و255 – 256 .
(6) الإحسان ( 176 ) .
وخرَّج الإمام أحمد(1) من رواية عبد الله بن العلاء بن زَبْر : سمعتُ مسلم بن مِشْكَم قال : سمعتُ أبا ثعلبة الخشني يقول : قلتُ : يا رسول الله ، أخبرني ما يحلُّ لي و ما يحرُمُ عليَّ ، فقال : ( البرُّ ما سَكَنَتْ إليه النَّفسُ ، واطمأنَّ إليه القلبُ ، والإثم ما لم تسكن إليه النَّفسُ ، ولم يطمئنَّ إليه القلب ، وإنْ أفتاك المفتون ) ، وهذا أيضاً إسنادٌ جيد ، وعبد الله بن العلاء بن زبر ثقة مشهور(2) ، وخرَّجه البخاري(3) ، ومسلم بن مِشْكَم ثقةٌ مشهورٌ أيضاً(4) .
وخرَّج الطبراني(5) وغيرُه بإسنادٍ ضعيفٍ من حديث واثلة بن الأسقع قال : قلتُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أفتني عن أمرٍ لا أسألُ عنه أحداً بعدَك ، قال : ( استفت نفسَك ) ، قلت : كيف لي بذاك ؟ قالَ : ( تدعُ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك ، وإنْ أفتاك المفتون ) ، قلتُ : وكيف لي بذاك ؟ قال : ( تضعُ يدكَ على قلبك ، فإنَّ الفؤاد يسكن للحلالِ ، ولا يسكن للحرام ) . ويُروى نحوه من حديث أبي هريرة بإسنادٍ ضعيفٍ أيضاً .
__________
(1) في " مسنده " 4/194 .
(2) انظر : تهذيب الكمال 4/233 – 234 ( 3458 ) .
(3) أي : خرج له البخاري في " صحيحه " ، وانظر : التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الصحيح 2/844 ( 848 ) للباجي .
(4) انظر : تهذيب الكمال 7/105 – 106 ( 6538 ) .
(5) في " الكبير " 22/( 193 ) .
وأخرجه : أبو يعلى ( 7492 ) من حديث واثلة بن الأسقع ، به .
انظر : مجمع الزوائد 10/294 .
وروى ابنُ لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب(1) : أنَّ سويدَ بن قيسٍ أخبره عن
عبد الرحمان بن معاوية : أنَّ رجلاً سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ما يَحِلُّ
لي مما يحرمُ عليَّ ؟ وردَّدَ عليهِ ثلاث مِرارٍ ، كلَّ ذَلِكَ يسكتُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ قالَ
: ( أين السائل ؟ ) فقالَ : أنا ذا يا رسول الله ، فقالَ بأصابِعه : ( ما أنكر
قلبُك فدعه ) . خرَّجه أبو القاسم البغوي في " معجمه "(2) ، وقال : لا
أدري عبد الرحمان بن معاوية سمع من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ ولا أعلم له غير هذا
الحديث .
قلتُ : هو عبد الرحمان بن معاوية بن حديج جاء منسوباً في كتاب " الزهد " لابن المبارك ، وعبد الرحمان هذا تابعيٌّ مشهور ، فحديثه مرسل .
وقد صحَّ عن ابن مسعود أنَّه قال : الإثم حوازُّ القلوب(3) ، واحتجَّ به
الإمام أحمد ، ورواه عن جرير ، عن منصور ، عن محمد بن عبد الرحمان ، عن
أبيه ، قال : قال عبد الله : إياكم وحزَّاز القلوب ، وما حزَّ في قلبك من شيءٍ فدعه(4) .
وقال أبو الدرداء : الخير في طمأنينة ، والشرُّ في ريبة(5) .
وروي عن ابن مسعود من وجهٍ منقطعٍ أنَّه قيل له : أرأيتَ شيئاً يَحيكُ في
صدورنا ، لا ندري حلال هو أم حرامٌ ؟ فقال : إيَّاكم والحَكَّاكَاتِ ، فإنَّهنَّ الإثم(6) ، والحَزُّ والحكُّ متقاربان في المعنى ، والمراد : ما أثَّر في القلب ضِيقاً وحَرجاً ، ونُفوراً وكراهة(7) .
__________
(1) انظر : تهذيب الكمال 8/118 .
(2) نسبة السيوطي في " الجامع الكبير " 2/561 إلى البغوي في " معجمه " وذكر قوله .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 824 ) عن عبد الرحمان بن معاوية ، مرسلاً .
(3) سبق تخريجه .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/134 – 135 .
(5) سبق تخريجه .
(6) ذكره ابن الأثير في " النهاية " 1/418 .
(7) انظر : النهاية 1/377 و418 .
فهذه الأحاديثُ اشتملت على تفسير البرِّ والإثم ، وبعضُها في تفسير الحلال
والحرام ، فحديثُ النَّوَّاس بن سمعان فسَّرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيه البرَّ بحُسن الخلق(1) ، وفسَّره في حديث وابصة وغيره بما اطمأنَّ إليه القلب والنفس(2) ،كما فسَّر الحلالَ بذلك في حديث أبي ثعلبة . وإنَّما اختلف تفسيرُه للبر ؛ لأنَّ البرَّ يُطلق باعتبارين معينين :
أحدُهما : باعتبار معاملة الخلق بالإحسان إليهم ، وربما خصَّ بالإحسانِ إلى الوالدين ، فيقال : برُّ الوالدين ، ويطلق كثيراً على الإحسان إلى الخلق عموماً ، وقد صنّف ابنُ المبارك كتاباً سماه كتاب " البر والصلة "، وكذلك في "صحيح البخاري" و" جامع الترمذي " : كتاب " البر والصلة " ، ويتضمن هذا الكتاب الإحسان إلى الخلق عموماً ، ويقدَّم فيه برُّ الوالدين على غيرهما . وفي حديث بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده : أنَّه قال : يا رسول الله مَنْ أبرُّ ؟ قالَ : ( أمك ) ، قالَ : ثُمَّ من ؟ قال : ( ثم أباك ) ، قال : ثم من ؟ قالَ : ( ثُمَّ الأقرب فالأقرب )(3) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
(3) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20121 ) ، وأحمد 5/3 و5 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 3 ) ، وأبو داود ( 5139 ) ، والترمذي ( 1897 ) من طرق عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، به ، ورواية بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده من شرط الحسن ، لذا قال الترمذي : ( حديث حسن ) .
ومن هذا المعنى : قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الحجُّ المبرور ليس لهُ جزاءٌ إلاَّ الجنَّة )(1) . وفي " المسند "(2) : أنَّه - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن برِّ الحجِّ ، فقال : ( إطعامُ الطَّعام ، وإفشاءُ السلام ) ، وفي روايةٍ أخرى : ( وطيبُ الكلام )(3) .
وكان ابنُ عمر - رضي الله عنهما - يقول : البرُّ شيءٌ هيِّنٌ : وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنٌ(4) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 3/2 ( 1773 ) ، ومسلم 4/107 ( 1349 ) ( 437 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(2) المسند 3/325 و334 ، وإسناده ضعيف لضعف محمد بن ثابت .
(3) أخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 5325 ) ، والحاكم 1/483 ، من حديث جابر بن
عبد الله ، به ، ورواية الطبراني فيها عبد الله بن محمد العبادي وهو ضعيف ورواية الحاكم فيها أيوب بن سويد الرملي ، وقد تفرد بهذا الحديث كما نص عليه البيهقي في " السنن الكبرى " 5/262 ، وهو ضعيف وقد ساقه ابن عدي من ضمن مناكيره 2/31 .
(4) أخرجه : الخرائطي في " مكارم الأخلاق " : 23 – 24 .
وإذا قرن البرُّ بالتَّقوى ، كما في قوله - عز وجل - : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } (1) ، فقد يكون المرادُ بالبرِّ معاملةَ الخلق بالإحسّان ، وبالتَّقوى : معاملة الحقِّ بفعل طاعته ، واجتناب محرَّماته ، وقد يكونُ أُريد بالبرِّ : فعل الواجبات ، وبالتقوى : اجتناب المحرَّمات(2) ، وقوله تعالى : { وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ
وَالْعُدْوَانِ } (3)قد يُراد بالإثم : المعاصي ، وبالعدوان : ظُلم الخلق ، وقد يُراد بالإثم : ما هو محرَّم في نفسه كالزِّنى ، والسرقة ، وشُرب الخمر ، وبالعُدوان : تجاوز ما أذن فيه إلى ما نُهي عنه ممَّا جنسُه مأذونٌ فيه ، كقتل مَن أُبيح قتلُه لِقِصاصٍ ، ومن لا يُباح ، وأخذُ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة ونحوها ، ومجاوزة الجلد في الذي أمر به في الحدود ونحو ذلك(4) .
__________
(1) المائدة : 2 .
(2) انظر : تفسير البغوي 2/9 ، وتفسير ابن الجوزي 2/277 ، وتفسير ابن كثير : 572 ( ط . دار ابن حزم ) .
(3) المائدة : 2 .
(4) انظر : تفسير البغوي 2/9 ، وتفسير ابن الجوزي 2/277 ، وتفسير ابن كثير : 572 ( ط . دار ابن حزم ) .
والمعنى الثاني من معنى البرِّ : أنْ يُراد به فعلُ جميع الطاعات الظاهرة والباطنة(1) ، كقوله تعالى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (2)، وقد رُوي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الإيمان ، فتلا هذه الآية(3) .
فالبرُّ بهذا المعنى يدخل فيه جميعُ الطاعات الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والطاعات الظاهرة كإنفاق الأموال فيما يحبُّه الله ، وإقام الصَّلاة ، وإيتاء
الزّكاة ، والوفاء بالعهد ، والصَّبرِ على الأقدار ، كالمرض والفقر ، وعلى الطَّاعات ، كالصَّبر عِند لقاءِ العدوِّ .
__________
(1) تفسير ابن كثير : 572 ( ط . دار ابن حزم ) .
(2) البقرة : 177 .
(3) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " 1/287 ( 1539 ) .
وقد يكون جوابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث النوَّاس(1) شاملاً لهذه الخصال
كلِّها ؛ لأنَّ حُسنَ الخُلق قد يُراد به التخلُّقُ بأخلاق الشريعة ، والتأدُّبُ بآداب الله التي أدَّبَ بها عبادَه في كتابه ، كما قال تعالى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (2)، وقالت عائشة : كان خُلُقُه - صلى الله عليه وسلم - القرآن(3) ، يعني : أنَّه يتأدَّب بآدابه ، فيفعل أوامرَه ويجتنب نواهيه ، فصار العملُ بالقرآن له خُلقا كالجبلَّة والطَّبيعة لا يُفارِقُه ، وهذا أحسنُ الأخلاق وأشرفُها وأجملُها(4) .
وقد قيل : إنَّ الدِّين كلَّه خُلُقٌ . وأما في حديث وابصة ، فقال : ( البرُّ ما اطمأنَّ إليه القلبُ ، واطمأنت إليه النفس )(5) ، وفي رواية : ( ما انشرح إليه
الصَّدرُ )(6) ، وفسر الحلالَ بنحوِ ذلك كما في حديث أبي ثعلبة وغيره ، وهذا يدلُّ على أنَّ الله فطرَ عبادَه على معرفة الحق ، والسكون إليه وقبوله ، وركَّز في الطباع محبةَ ذلك ، والنفور عن ضدِّه .
وقد يدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حِمار : ( إني خلقتُ عبادي حنفاءَ مسلمين ، فأتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم ، فحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم ، وأمَرَتهُم أنْ يُشرِكوا بي ما لم أنزِّل به سلطاناً )(7).
وقوله : ( كلُّ مولودٍ يُولدُ على الفطرةِ ، فأبواه يهوِّدانه ، وينصِّرانه ، ويمجِّسانه ، كما تُنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاء ، هل تُحِسُّونَ فيها من جدعاء ؟ ) قال أبو هريرة : اقرؤوا إنْ شئتم : { فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ } (8)
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) القلم : 4 .
(3) سبق تخريجه .
(4) انظر : حاشية السندي على سنن النسائي 3/200 .
(5) سبق تخريجه .
(6) سبق تخريجه .
(7) أخرجه : مسلم 8/158 ( 2865 ) ( 63 ) عن عياض بن حِمَار المجاشعي ، به .
(8) الروم : 30 . =
= ... والحديث أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20087 ) ، وأحمد 2/233 و275 و315 ، والبخاري 1/118 ( 1358 ) و( 1359 ) و8/153 ( 6599 ) ، ومسلم 8/52
( 2658 ) ( 22 ) و8/53 ( 2658 ) ( 24 )، وابن حبان ( 130 ) ، والبيهقي 6/203 ، والخطيب في " تأريخه " 3/308 ، والبغوي ( 84 ) من حديث أبي هريرة ، به .
.
ولهذا سمَّى الله ما أمرَ به معروفاً ، وما نهى عنه منكراً ، فقال : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } (1)، وقال في صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } (2)، وأخبر أنَّ قلوب المؤمنين تطمئنُّ بذكره ، فالقلبُ الذي دخله نورُ الإيمان ، وانشرح به وانفسح ، يسكن للحقِّ ، ويطمئن به ويقبله ، وينفر عن الباطل ويكرهه ولا يقبله(3) .
قال معاذ بن جبل : أحذركم زيغةَ الحكيم ، فإنَّ الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، فقيل لمعاذ : ما يُدريني أنَّ الحكيمَ قد يقول كلمة الضلالة ، وأنَّ المنافق يقول كلمةَ الحقِّ ؟ قال : اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يُقال : ما هذه ؟ ولا يثنينك ذلك عنه ، فإنَّه لعلَّه أنْ يُراجع ، وتَلَقَّ الحقَّ إذا سمعته ، فإنَّه على الحقِّ نوراً ، خرَّجه أبو داود(4) . وفي روايةٍ له قال : بل ما تشابه عليك من قول الحكيمِ حتَّى تقول : ما أراد بهذه الكلمة ؟(5)
__________
(1) النحل : 90 .
(2) الأعراف : 157 .
(3) انظر : تفسير البغوي 3/20 ، وتفسير ابن كثير : 1012 ( ط . دار ابن حزم ) .
(4) في " السنن " ( 4611 ) . وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/232 – 233 عن معاذ بن جبل ، به .
(5) أخرجه : أبو داود ( 4611 ) عن معاذ بن جبل ، به .
فهذا يدل على أنَّ الحقَّ والباطل لا يلتبِسُ أمرُهما على المؤمن البصير ،
بل يعرف الحقَّ بالنُّور الذي عليه ، فيقبله قلبُه ، ويَنفِرُ عن الباطل ، فينكره ولا
يعرفه ، ومِنْ هذا المعنى قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( سيكون في آخر الزَّمان قوم يحدِّثونَكم
بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإيَّاكم وإياهم )(1) ، يعني : أنَّهم يأتون بما
تستنكره قلوبُ المؤمنين ، ولا تعرفه ، وفي قوله : ( أنتم ولا آباؤكم ) إشارةٌ
إلى أنَّ ما استقرَّت معرفتُه عند المؤمنين مع تقادُمِ العهد وتطاول الزَّمان ، فهو الحقُّ ، وأنَّ ما أحدث بعد ذلك مما يستنكر ، فلا خيرَ فيه .
فدلَّ حديثُ وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه ، فما إليه سكن القلبُ ، وانشرح إليه الصَّدرُ ، فهو البرُّ والحلالُ ، وما كان خلافَ ذلك ، فهو الإثم والحرام .
وقوله في حديث النوَّاس : ( الإثم ما حاك في الصدر ، وكرِهتَ أنْ يطَّلع عليه الناس )(2) إشارةٌ إلى أنَّ الإثم ما أثَّر في الصدر حرجاً ، وضيقاً ، وقلقاً ، واضطراباً ، فلم ينشرح له الصَّدرُ(3) ، ومع هذا ، فهو عندَ النَّاسِ مستنكرٌ ، بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه ، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عندَ الاشتباه ، وهو ما استنكره النَّاس على فاعلِه وغير فاعله .
__________
(1) أخرجه : مسلم 1/9 ( 6 ) ( 6 ) ، وابن حبان ( 6766 ) ، والحاكم 1/103 ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/550 ، والبغوي ( 107 ) من حديث أبي هريرة ، به .
وأخرجه : مسلم 1/9 ( 7 ) ( 7 ) بنحوه عن أبي هريرة ، به .
(2) سبق تخريجه .
(3) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 8/289 .
ومن هذا المعنى قولُ ابن مسعود : ما رآه المؤمنون حسناً ، فهو عند الله
حسن ، وما رآه المومنون قبيحاً ، فهو عند الله قبيح(1) .
وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة : ( وإنْ أفتاك المفتون ) يعني : أنَّ ما
حاك في صدر الإنسان ، فهو إثمٌ ، وإنْ أفتاه غيرُه بأنَّه ليس بإثمٍ ، فهذه مرتبةٌ
ثانيةٌ ، وهو أنْ يكونَ الشيءُ مستنكراً عندَ فاعله دونَ غيره ، وقد جعله أيضاً إثماً ، وهذا إنَّما يكون إذا كان صاحبُه ممَّن شرح صدره بالإيمان ، وكان المفتي يُفتي
له بمجرَّد ظن أو ميلٍ إلى هوى من غير دليلٍ شرعيٍّ ، فأمَّا ما كان مع المفتي به
دليلٌ شرعيٌّ ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه ، وإنْ لم ينشرح له
صدرُه ، وهذا كالرخص الشرعية ، مثل الفطر في السفر ، والمرض ، وقصر
الصَّلاة في السَّفر ، ونحو ذلك ممَّا لا ينشرحُ به صدور كثيرٍ مِنَ الجُهَّال ، فهذا لا عبرةَ به .
وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يأمرُ أصحابَه بما لا تنشرحُ به صدورُ بعضهم ، فيمتنعون من فعله ، فيغضب منْ ذلك ، كما أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العمرة(2) ، فكرهه من كرهه منهم ، وكما أمرهم بنحرِ هديِهم ، والتَّحلُّل من عُمرة الحُديبية ، فكرهوه ، وكرهوا مقاضاتَه لقريش على أنْ يَرجِعَ من عامِه ، وعلى أنَّ من أتاه منهم يردُّه إليهم(3) .
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 246 ) ، وأحمد 1/379 ، والبزار ( 1816 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 8583 ) و( 8593 ) ، والحاكم 3/78 – 79 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/375 – 376 ، والبغوي ( 105 ) من قول عبد الله بن مسعود ، به .
انظر : مجمع الزوائد 1/177 – 178 .
(2) انظر : زاد المعاد 2/178 ، وفتح الباري 5/425 – 426 .
(3) أخرجه: البخاري 3/252 ( 2731 ) و( 2732 ) من طريق المسور بن مخرمة ومروان، به .
وفي الجملة ، فما ورد النصُّ به ، فليس للمؤمن إلا طاعةُ الله ورسوله ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (1).
وينبغي أنْ يتلقى ذلك بانشراح الصَّدر والرِّضا ، فإنَّ ما شرعه الله ورسولُه يجبُ الإيمانُ والرضا به ، والتَّسليمُ له ، كما قال تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (2) .
وأما ما ليس فيه نصٌّ من الله ورسوله ولا عمَّن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة ، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئنِّ قلبه بالإيمان ، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيءٌ ، وحكَّ في صدره لشبهة موجودة ، ولم يجد مَنْ يُفتي فيه بالرُّخصة إلاَّ من يخبر عن رأيه ، وهو ممن لا يُوثَقُ بعلمه وبدينه ، بل هو معروفٌ باتباع الهوى ، فهنا يرجعُ المؤمن إلى ما حكَّ في صدره ، وإنْ أفتاه هؤلاء
المفتون(3).
وقد نصَّ الإمامُ أحمد على مثل هذا ، قال المروزي في كتاب "الورع" (4) : قلتُ لأبي عبد الله : إنَّ القطيعة أرفقُ بي من سائر الأسواق ، وقد وقع في قلبي من أمرها شيءٌ ، فقال : أمرُها أمرٌ قذر متلوِّث ، قلت : فتكره العملَ فيها ؟ قال : دع ذا عنك إنْ كان لا يقعُ في قلبك شيء ، قلت : قد وقع في قلبي منها ، قال : قال ابن مسعود : الإثم حوازُّ القلوب(5) . قلت : إنَّما هذا على المشاورة ؟ قال : أيُّ شيءٍ يقع في قلبك ؟ قلت : قد اضطربَ عليَّ قلبي ، قال : الإثم حَوازُّ القلوب .
__________
(1) الأحزاب : 36 .
(2) النساء : 65 .
(3) انظر : البرهان في أصول الفقه 2/883 ، وتحفة المسؤول في مختصر منتهى السول 4/257 - 259 ، وإرشاد الفحول : 844 .
(4) الورع ( 156 ) .
(5) سبق تخريجه .
وقد سبق في شرح(1) حديث النُّعمان بن بشير : ( الحلالُ بَيِّنٌ والحَرامُ
بيِّنٌ )(2) ، وفي شرح حديث الحسين بن علي : ( دع ما يريبُك إلى ما لا
يريبُك )(3) ، وشرح حديث : ( إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت )(4) شيءٌ يتعلَّقُ بتفسير هذه الأحاديث المذكورة هاهنا .
وقد ذكر طوائفُ مِن فقهاءِ الشافعيَّة والحنفية المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام : هل هو حجَّةٌ أم لا ؟ وذكروا فيه اختلافاً بينهم ، وذكر طائفةٌ من أصحابنا أنَّ الكشفَ ليس بطريق للأحكام ، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذمِّ المتكلِّمين في الوساوس والخطرات ، وخالفهم طائفةٌ من أصحابنا في ذلك ، وقد ذكرنا نصَّ أحمد هاهنا بالرُّجوع إلى حوازِّ القلوب ، وإنَّما ذمَّ أحمدُ وغيرُه المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامُهم في ذلك لا يستندُ إلى دليلٍ شرعيٍّ ، بل إلى مجرَّد رأي وذوقٍ ، كما كان ينكرُ الكلامَ في مسائلِ الحلال والحرام بمجرَّدِ الرَّأي من غير دليلٍ شرعيٍّ .
فأمَّا الرُّجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حوازِّ القلوب ، فقد دلَّت عليه النُّصوص النبوية ، وفتاوى الصحابة ، فكيف يُنكره الإمام أحمد بعدَ ذلك ؟ لا سيَّما وقد نصَّ على الرُّجوع إليه موافقةً لهم . وقد سبق حديث : ( إنَّ الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة )(5)، فالصدق يتميَّزُ من الكذب بسكونِ القلب إليه ، ومعرفته ، وبنفوره عن الكذب وإنكاره، كما قال الربيعُ بن خثيم : إنَّ للحديث ضوءاً كضوء النَّهار تعرفه، وظلمةً كظُلمة الليل تُنكره(6) .
__________
(1) شرح ) سقطت من ( ص ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) سبق تخريجه .
(4) سبق تخريجه .
(5) سبق تخريجه .
(6) أخرجه : وكيع في " الزهد " ( 528 ) ، والفسوي في " المعرفة والتاريخ " 2/564 ، والرامهرمزي في " المحدّث الفاصل " : 316 ، والخطيب في " الكفاية " : 431 ، وابن الجوزي في " الموضوعات " 1/103 .
وخرَّج الإمام أحمد(1) من حديث ربيعة ، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد ، عن أبي حميد وأبي أُسيد : أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا سمعتُمُ الحديثَ عنِّي تعرفُهُ قلوبُكم ، وتلينُ له أشعارُكم وأبشارُكم ، وترَوْنَ أنَّه منكم قريبٌ ، فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتُم الحديث عنِّي تُنكره قلوبُكم ، وتَنفرُ منه أشعارُكم وأبشارُكم ، وترون أنَّه منكم بعيدٌ ، فأنا أبعدكم منه ) . وإسناده قد قيل : إنَّه على شرط مسلم ؛ لأنَّه خرَّج بهذا الإسناد بعينه حديثاً(2) ، لكن هذا الحديث معلول(3) ، فإنَّه رواه بُكير بن الأشج ، عن عبد الملك بن سعيد ، عن عباس بن سهل ، عن أبيِّ بن كعب من قوله(4) ، قال البخاري : وهو أصحُّ .
__________
(1) في " مسنده " 3/497 و5/425 .
وأخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 1/295 ، والخطيب في " الكفاية " : 429 - 430 عن أبي حُميد أو أبي أُسيد ، به .
وأخرجه : البخاري في " التأريخ الكبير " 3/391 ( 1585 ) من طريق ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، به ، مرسلاً .
(2) صحيح مسلم 2/155 ( 713 ) ( 68 ) عن أبي حُميد أو أبي أُسيد ، به .
(3) انظر : العلل لابن أبي حاتم 1/446 – 447 ( 509 ) .
(4) انظر : التاريخ الكبير 5/259 ( 1349 ) .
وروى يحيى بنُ آدم ، عن ابن أبي ذئبٍ ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إذا حُدِّثتُم عني حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه ، فصدِّقُوا به ، فإنِّي أقولُ ما يُعرف ولا يُنكر ، وإذا حُدِّثتُم عنِّي حديثاً تنكرونه ولا تعرفونه ، فلا تصدقوا به ، فإنِّي لا أقول ما يُنكر ولا يعرف )(1) ، وهذا الحديث معلولٌ أيضاً ، وقد اختلف في إسناده على ابن أبي ذئب ، ورواه الحفَّاظ عنه ، عن سعيد مرسلاً ، والمرسل أصحُّ عند أئمة الحفَّاظ ، منهم : ابنُ معين والبخاري(2) وأبو حاتم الرازي(3) وابن خزيمة ، وقال : ما رأيتُ أحداً من عُلماء الحديث يُثبت وصلَه .
وإنَّما تُحمل مثل هذه الأحاديث - على تقدير صحَّتها - على معرفة أئمة الحديث الجهابذة النُّقَّاد ، الذين كَثُرت ممارستهم لكلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وكلام غيره ، ولحال رُواةِ الأحاديث ، ونَقَلَةِ الأخبار ، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وحفظهم وضبطهم ، فإنَّ هؤلاء لهم نقدٌ خاصٌّ في الحديث يختصون بمعرفته ، كما يختصُّ الصيرفي الحاذق بمعرفة النُّقود ، جيِّدِها ورديئها ، وخالصها ومشوبِها ، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر ، وكلٌّ من هؤلاء لا يمكنُ أنْ يُعبِّرَ عن سبب معرفته ، ولا يُقيم عليه دليلاً لغيره ، وآيةُ ذلك أنَّه يُعرَضُ الحديثُ الواحدُ على جماعة ممن يعلم هذا العلم ، فيتَّفقونَ على الجواب فيه مِنْ غير مواطأة .
__________
(1) أخرجه : البخاري في " التاريخ الكبير " 3/391 ( 1585 ) .
(2) في " التاريخ الكبير " 3/391 ( 1585 ) من طريق إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، مرسلاً .
(3) في " العلل " 1/446 – 447 ( 509 ) .
وقد امتحن هذا منهم غيرَ مرَّةٍ في زمن أبي زُرعة وأبي حاتم ، فوُجِدَ الأمرُ على ذلك ، فقال السائل : أشهدُ أنَّ هذا العلم إلهامٌ . قال الأعمش : كان إبراهيم النَّخعي صيرفياً في الحديث ، كنت أسمعُ مِنَ الرِّجالِ ، فأعرض عليه ما سمعته(1) . وقال عمرو بن قيس : ينبغي لصاحب الحديث أنْ يكونَ مثل الصيرفيّ الذي ينتقد الدراهم ، فإنَّ الدراهم فيها الزائفَ والبَهْرَجَ وكذلك الحديث(2) .
وقال الأوزاعي : كنا نسمع الحديث فنَعرِضُهُ على أصحابنا كما نَعرِضُ الدرهم الزَّائف على الصيارفة ، فما عرفوا أخذنا ، وما أنكروا تركنا(3) .
وقيل لعبد الرحمان بن مهدي : إنَّك تقولُ للشيء : هذا صحيح وهذا لم
يثبت ، فعن من تقولُ ذلك ؟ فقال : أرأيتَ لو أتيتَ الناقد فأريتَه دراهمك ، فقال : هذا جيد ، وهذا بهرَجٌ أكنت تسأله عن من ذلك ، أو كنت تسلم الأمر إليه ؟ قال : لا ، بل كنت أسلمُ الأمر إليه ، قال : فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة والخُبْرة به(4) .
وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضاً ، وأنَّه قيل له : يا أبا عبد الله تقولُ : هذا الحديث منكر ، فكيف علمتَ ولم تكتب الحديث كلَّه ؟ قال : مثلنا كمثل ناقدِ العين لم تقع بيده العَيْنُ كلُّها ، وإذا وقع بيده الدينارُ يعلم أنَّه جيدٌ ، وأنَّه رديء .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/310 ، والحاكم في " معرفة علوم الحديث " : 16 ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/220 ، والمزي في " تهذيب الكمال " 1/145 ( 260 ) .
(2) أخرجه : ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/311 .
(3) أخرجه : ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/312 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 37/129 .
وذكره : ابن الجوزي في " الموضوعات " 1/103 .
(4) انظر : تهذيب الأسماء 1/284 .
وقال ابنُ مهدي : معرفة الحديث إلهام(1). وقال : إنكارُنا الحديث عند الجهال كهانةٌ (2).
وقال أبو حاتم الرازي(3) : مَثَلُ معرفة الحديث كمثل فصٍّ ثمنه مئة دينار ، وآخر مثله على لونه ، ثمنُه عشرة دراهم ، قال : وكما لا يتهيأ للناقدِ أنْ يُخبر بسبب نقده ، فكذلك نحن رُزقنا علماً لا يتهيأُ لنا أنْ نُخبِر كيف علمنا بأنَّ هذا حديثٌ كذِبٌ ، وأنَّ هذا حديثٌ مُنكرٌ إلا بما نعرفه ، قال : وتُعرَفُ جودةُ الدينارِ بالقياسِ إلى غيره ، فإنْ تخلف عنه في الحمرة والصَّفاء علم أنَّه مغشوش ، ويُعلم جنسُ الجوهر بالقياس إلى غيره ، فإنْ خالفه في المائيَّة والصَّلابة ، علم أنَّه
زجاج ، ويُعلَمُ صحةُ الحديث بعدالة ناقليه وأنْ يكون كلاماً يصلح مثلُه أنْ يكون كلامَ النبوّة ، ويُعرف سُقمه وإنكاره بتفرُّد من لم تصحَّ عدالته بروايته ، والله
أعلم .
وبكلِّ حالٍ فالجهابذةُ النقادُ العارفون بعلل الحديث أفرادٌ قليلٌ من أهل الحديث جداً ، وأوَّل من اشتهر بالكلام(4) في نقد الحديث ابنُ سيرين ، ثم خلفه أيوبُ السَّختياني ، وأخذ ذلك عنه شعبةُ، وأخذ عن شعبة يحيى القطّان وابنُ مهدي ، وأخذ عنهما أحمد ، وعليُّ بن المديني ، وابن معين ، وأخذ عنهم مثلُ البخاري وأبي داود وأبي زُرعة وأبي حاتم(5) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي حاتم في " العلل " 1/195 .
(2) أخرجه : ابن أبي حاتم في " العلل " 1/196 .
(3) في " الجرح والتعديل " 1/84 ، و" العلل " 1/196 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) انظر : الجرح والتعديل 1/314 .
وكان أبو زرعة في زمانه يقول : قلَّ من يفهم هذا ، وما أعزَّه إذا دفعت هذا عن واحد أو اثنين ، فما أقلَّ من تجد من يُحسن هذا(1) ! ولما مات أبو زرعة ، قال أبو حاتم : ذهب الذي كان يُحسن هذا - يعني : أبا زرعة - ما بقي بمصر ولا بالعراق واحد يحسن هذا(2) . وقيل له بعدَ موت أبي زُرعة : تعرف اليوم أحداً يعرف هذا ؟ قالَ : لا(3) .
وجاء بعد هؤلاء جماعة ، منهم : النَّسائي والعقيلي وابنُ عدي والدارقطني ، وقلَّ من جاء بعدهم ممَّن هوَ بارع في معرفة ذَلِكَ حتَّى قالَ أبو الفرج بن الجوزي في أوَّل كتابه " الموضوعات "(4) : قد قلَّ من يفهم هذا بل عُدِمَ ، والله أعلم .
__________
(1) ذكره : ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/287 .
(2) ذكره : ابن أبي حاتم في" الجرح والتعديل " 1/287 – 288 .
(3) ذكره : ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/314 .
(4) الموضوعات 1/31 .
الحديث الثامن والعشرون
عَن العِرْبَاض بنِ ساريةَ - رضي الله عنه - قالَ : وَعَظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَوعِظَةً ، وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ ، وذَرَفَتْ منها العُيونُ ، فَقُلْنا : يَا رَسول الله ، كأنَّها مَوعِظَةُ مُودِّعٍ، فأوْصِنا ، قال : ( أوصيكُمْ بتَقوى الله ، والسَّمْعِ والطَّاعةِ ، وإنْ تَأَمَّرَ عَليكُم عَبْدٌ ، وإنَّه من يَعِشْ مِنْكُم بعدي فَسَيرى اختلافاً كَثيراً ، فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ
الخُلفاء الرَّاشدينَ المهديِّينَ ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ ، وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمور ، فإنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالةٌ ) رواه أبو داود والتِّرمذيُّ (1) ، وقال : حديثٌ حَسَنٌ
صَحيحٌ .
هذا الحديث خرَّجه الإمام أحمد (2) ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه (3) من رواية ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، زاد أحمد في روايةٍ له ، وأبو داود : وحُجْر بن حجر الكلاعي ، كلاهما عن العِرباض ابن سارية ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحافظ أبو نعيم : هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين (4) ، قال : ولم يتركه البخاري ومسلمٌ من جهة إنكارٍ منهما له ، وزعم الحاكمُ (5) أنَّ سببَ تركهما له أنَّهما توهّما أنَّه ليس له راوٍ عن خالد بن معدان غيرَ ثور بن يزيد ، وقد رواه عنه أيضاً بحير بن سعد ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهما .
__________
(1) السنن ( 4607 ) ، والجامع الكبير ( 2676 ) .
(2) في " مسنده " 4/146 .
(3) في " سننه " ( 43 ) و( 44 ) .
(4) قال الحافظ ابن كثير في " تحفة الطالب " : 134 – 135 ( 46 ) : ( وصححه أيضاً الحافظ أبو نعيم الأصبهاني . وقال شيخ الإسلام الأنصاري : هو أجود في أهل الشام ، وأحسنه ) .
(5) في " المستدرك " 1/96 .
قلتُ : ليس الأمرُ كما ظنَّه ، وليس الحديثُ على شرطهما ، فإنَّهما لم يخرِّجا
لعبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، ولا لحُجْرٍ الكلاعي شيئاً ، وليسا ممَّن اشتهر بالعلم والرواية .
وأيضاً ، فقد اختُلِفَ فيه على خالد بن معدان ، فروي عنه كما تقدَّم ، وروي عنه عن ابن أبي بلال ، عن العِرباض ، وخرَّجه الإمام أحمد (1) مِنْ هذا الوجه أيضاً ، وروي أيضاً عن ضمرة بن حبيب ، عن عبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، عن العِرباض ، خرَّجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه (2) ، وزاد في حديثه : ( فقد تركتُكم على البيضاءِ ، ليلُها كنهارها ، لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالكٌ ) ، وزاد في آخر الحديث : ( فإنَّما المؤمن كالجمل الأنِفِ ، حيثما قيدَ انقاد ) .
وقد أنكر طائفةٌ مِنَ الحُفَّاظ هذه الزيادة في آخر الحديث ، وقالوا : هي مدرجةٌ فيه ، وليست منه ، قاله أحمد بن صالح المصري وغيره ، وقد خرَّجه
الحاكم (3) ، وقال في حديثه : وكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث : ( فإنَّ المؤمن كالجملِ الأنِفِ ، حيثما قيد انقاد ) .
__________
(1) في " مسنده " 4/127 .
(2) المسند 4/126 ، والسنن ( 43 ) .
(3) في " المستدرك " 1/96 .
وخرَّجه ابن ماجه (1) أيضاً من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر ، حدثني يحيى ابن أبي المطاع ، سمعتُ العرباض فذكره ، وهذا في الظاهر إسناد جيد متَّصلٌ ، ورواته ثقات مشهورون ، وقد صرَّح فيه بالسَّماع ، وقد ذكر البخاري في
" تاريخه " (2) : أنَّ يحيى بن أبي المطاع سمع من العِرباض اعتماداً على هذه الرواية ، إلاَّ أنَّ حفَّاظ أهلِ الشَّام أنكروا ذلك ، وقالوا : يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض ، ولم يلقه ، وهذه الرواية غلطٌ ، وممَّن ذكر ذلك أبو زرعة الدِّمشقي ، وحكاه عن دُحيم (3) ، وهؤلاء أعرفُ بشيوخهم من غيرهم(4) ، والبخاري - رحمه الله - يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام ، وقد رُوي عن العِرباض من وجوه أخر ، ورُوي من حديث بُريدة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، إلاَّ أنَّ إسنادَ حديثِ بُريدة لا يثبت، والله أعلم .
فقولُ العِرباض : وعظنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ، وفي رواية أحمد وأبي داود والترمذي : ( بليغة ) ، وفي روايتهم أنَّ ذلك كانَ بعد صلاةِ الصُّبح ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يَعِظُ أصحابَه في غير الخُطَبِ الرَّاتبة ، كخطب الجمع والأعياد ، وقد أمره الله تعالى بذلك ، فقال : { وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } (5) ، وقال : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (6) ، ولكنَّه كان لا يُديم وعظهم ، بل يتخوّلُهُم به أحياناً ، كما في " الصحيحين " (7)
__________
(1) في " سننه " ( 42 ) .
(2) التاريخ الكبير 8/188 ( 12449 ) .
(3) قول دحيم ذكره ابن حجر في " التقريب " ( 7649 ) .
(4) من غيرهم ) سقطت من ( ص ) .
(5) النساء : 63 .
(6) النحل : 125 .
(7) صحيح البخاري 1/27 ( 68 ) و8/109 ( 6411 )، وصحيح مسلم 8/142 ( 2821 ) ( 82 ) و( 83 ) .
وأخرجه أيضاً : الطيالسي ( 255 ) ، والحميدي ( 107 ) ، وابن أبي شيبة ( 26515 ) ، وأحمد 1/377 و378 و427 و465 ، والترمذي ( 2855 ) ، والنسائي في " الكبرى "
( 5889 ) ، وابن حبان ( 4524 ) من طرق ، عن أبي وائل ، بهذا الإسناد .
عن أبي وائل ، قال : كان عبدُ الله بنُ مسعودٍ يذكِّرنا كلَّ يوم خميسٍ ، فقال له رجل : يا أبا
عبد الرحمان ، إنَّا نحبُّ حديثَك ونشتهيه ، ولَودِدْنا أنَّك حدَّثتنا كلَّ يومٍ ، فقال : ما يمنعني أنْ أحدِّثكم إلا كراهةَ أنْ أُمِلَّكم ، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخوَّلنا بالموعظة كراهة السآمة علينا .
والبلاغةُ في الموعظة مستحسنةٌ ؛ لأنَّها أقربُ إلى قَبولِ القلوب واستجلابها ، والبلاغةُ : هي التَّوصُّل إلى إفهام المعاني المقصودة ، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسنِ صُورةٍ مِنَ الألفاظ الدَّالَّة عليها ، وأفصحها وأحلاها للأسماع ، وأوقعها في القلوب . وكان - صلى الله عليه وسلم - يقصر خطبتها ، ولا يُطيلُها ، بل كان يُبلِغُ ويُوجِزُ .
وفي " صحيح مسلم "(1) عن جابر بنِ سمُرة قال : كنتُ أُصلِّي معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فكانت صلاتُه قصداً ، وخطبته قصداً .
وخرَّجه أبو داود (2) ولفظه : كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُطيلُ الموعظةَ يومَ الجمعة ، إنَّما هو كلمات يسيرات .
وخرَّج مسلم (3) من حديث أبي وائل قال : خطبنا عمارٌ فأَوْجَزَ وأَبْلغَ ، فلما
نزل ، قلنا : يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت ، فلو كنت تنفَّستَ ، فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجُلِ ، وقِصَر خُطبتِهِ ، مَئِنَّةٌ (4) من فقهه ، فأطيلوا الصَّلاة ، وأقصروا الخطبة ، فإنَّ من البيان سحراً ) .
__________
(1) الصحيح 3/11 ( 866 ) ( 41 ) و( 42 ) .
(2) في " سننه " ( 1107 ) ، وإسناده حسن من أجل سماك بن حرب .
(3) في " صحيحه " 3/12 ( 869 ) ( 47 ) .
(4) قال البغوي في " شرح السنة " عقيب الحديث ( 1077 ) : ( أي علامة ، فهي على وزن مَفْعِلة ، والميم زائدة ، كقولهم : مخلفة ، ومعناه : أنَّ هذا مما يستدل به على فقه الرجل ) .
وخرَّج الإمام أحمد (1) وأبو داود (2) من حديث الحكم بن حزن ، قال :
شهدتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة فقام متوكئاً على عصا أو قوسٍ ، فحمِدَ الله ، وأثنى عليه كلماتٍ خفيفاتٍ طيِّباتٍ مباركاتٍ .
وخرَّج أبو داود (3) عن عمرو بنِ العاص : أنَّ رجلاً قام يوماً ، فأكثر القولَ ، فقال عمرٌو : لو قَصَد في قوله ، لكان خيراً له ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لقد رأيتُ - أو أمرتُ - أنْ أتجوَّزَ في القول ، فإنَّ الجواز هو خير ) .
وقوله : ( ذرفت منها العيونُ ووَجِلت منها القلوب ) هذان الوصفان بهما مدح الله المؤمنين عندَ سماع الذكر كما قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (4) ، وقال : { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (5) ، وقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } (6) ، وقال : { اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ
اللهِ } (7) ، وقال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } (8) .
__________
(1) في " مسنده " 4/212 ، وإسناده حسن شهاب بن خراش وشعيب بن رزيق صدوقان حسنا الحديث .
(2) في " سننه " ( 1096 ) .
(3) في " سننه " ( 5008 ) ، وإسناده لا بأس به .
(4) الأنفال : 2 .
(5) الحج : 34 – 35 .
(6) الحديد : 16 .
(7) الزمر : 23 .
(8) المائدة : 83 .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يتغيَّرُ حالُه عند الموعظة ، كما قال جابر : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا
خطبَ ، وذكر الساعةَ ، اشتدَّ غضبه ، وعلا صوتُه ، واحمرَّت عيناه ، كأنَّه منذرُ جيش يقول : صبَّحَكم ومسَّاكم . خرَّجه مسلم بمعناه (1) .
وفي " الصحيحين "(2) عن أنس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج حين زاغت الشمسُ ، فصلى الظُّهرَ ، فلمَّا سلم ، قام على المنبر ، فذكر السَّاعة ، وذكر أنَّ بَيْنَ يديها أموراً عظاماً ، ثم قال : ( من أحبَّ أنْ يسألَ عن شيءٍ فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيءٍ إلاَّ أخبرتُكم به في مقامي هذا ) ، قال أنس : فأكثر النَّاسُ البكاءَ ، وأكثر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يقول : ( سلوني ) ، فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي
يا رسول الله ، قال : ( النار ) ، وذكر الحديث .
وفي " مسند الإمام أحمد "(3) عن النُّعمان بن بشير : أنَّه خطب ، فقال : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يقول : ( أنذرتكم النَّار ، أنذرتكم النَّار ) حتّى لو أنَّ رجلاً كان بالسُّوق لسمعه من مقامي هذا ، قال : حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه .
__________
(1) في " صحيحه " 3/11 ( 867 ) ( 43 ) و( 44 ) .
(2) صحيح البخاري 1/143 ( 540 ) و8/96 ( 6362 ) 9/118 ( 7294 ) ، وصحيح مسلم 7/92 ( 2359 ) ( 134 ) و7/93 ( 2359 ) و( 136 ) و7/94 ( 2359 )
( 137 ) .
(3) المسند 4/268 و272، وإسناده حسن من أجل سماك بن حرب فهو صدوق حسن الحديث .
وفي " الصحيحين "(1) عن عدي بن حاتمٍ ، قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - :
( اتقوا النَّار ) ، قال : وأشاح ، ثم قال : ( اتقوا النَّار ) ، ثم أعرض وأشاح ثلاثاً حتى ظننا أنَّه ينظر إليها ، ثم قال : ( اتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ ، فمن لم يجد فبكلمة طيِّبةٍ ) .
وخرَّج الإمام أحمد (2) من حديث عبد الله بن سلمة ، عن عليٍّ ، أو عنِ الزُّبير
ابن العوّام ، قال : كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبنا ، فيذكِّرُنا بأيَّامِ الله ، حتّى يُعرَف ذلك في وجهه ، وكأنه نذيرُ قوم يُصبِّحهم الأمرُ غُدوةً ، وكان إذا كان حديثَ عهدٍ بجبريلَ لم يتبسَّمْ ضاحكاً حتَّى يرتفع عنه .
وخرَّجه الطبراني والبزارُ (3) من حديث جابر ، قال : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه الوحيُّ ، أو وعظَ ، قلت : نذير قوم أتاهُم العذابُ ، فإذا ذهبَ عنه ذلك ، رأيت أطلقَ الناس وجهاً ، وأكثَرهم ضَحِكاً ، وأحسنهم بِشراً - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) صحيح البخاري 8/14( 6023 ) و8/140 ( 6540 ) و8/144 ( 6563 ) ، وصحيح مسلم 3/86 ( 1016 ) ( 68 ) .
(2) في " مسنده " 1/167 ، وفي سنده عبد الله بن سلمة وحديثه من قبيل الحسن ، والله أعلم .
(3) كما في " كشف الأستار " ( 2477 ) ، وذكره الهيثمي في " المجمع " 9/17 ، وقال
: ( رواه البزار وإسناده حسن ) .
وقولهم : ( يا رسول الله كأنَّها موعظةُ مودِّع ، فأوصنا ) يدلُّ على أنَّه كان - صلى الله عليه وسلم - قد أبلغَ في تلك الموعظة ما لم يبلغ في غيرها ، فلذلك فَهِموا أنَّها موعظةُ مودِّعٍ ، فإنَّ المودِّع يستقصي ما لا يستقصي غيرُه في القول والفعل ، ولذلك أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُصلي صلاة مودِّعٍ (1)
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/412 ، وابن ماجه ( 4171 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3987 )
و( 3988 ) من حديث أبي أيوب الأنصاري قال : جاء رجل إلى النَّبيِّ فقال : عِظني وأوجز ، فقال : ( ثم إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع ، ولا تكلم بكلام تعتذر منه غداً واجمع الإياس مما في يدي الناس ) بلفظ أحمد .
وورد أيضاً عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأنس بن مالك .
؛ لأنَّه مَنِ استشعر أنَّه مودِّع بصلاته ، أتقنها على أكمل وجوهها . ولرُبما كان قد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - تعريضٌ في تلك الخطبة بالتَّوديع ، كما عرَّض بذلك في خطبته في حجة الوداع ، وقال : ( لا أدري ، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) (1) ، وطفق يودِّعُ الناس ، فقالوا : هذه حجة الوداع ، ولمّا رجع من حجِّه إلى المدينة ، جمع الناس بماءٍ بين مكة والمدينة يُسمى خُمَّاً(2) ، وخطبهم ، فقال : ( يا أيُّها النّاس ، إنّما أنَا بَشرٌ يوشِكُ أنْ يأتيني رسولُ ربِّي فأجيب ) ثم حضَّ على التمسُّك بكتابِ الله ، ووصَّى بأهل بيته ، خرَّجه مسلم (3) .
وفي " الصحيحين " (4) ولفظه لمسلم عن عقبةَ بنِ عامرٍ ، قال : صلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحدٍ ، ثم صَعِدَ المنبر كالمودِّع للأحياء والأموات ، فقال
: ( إنِّي فَرَطُكُم على الحوض ، فإنَّ عَرْضَهُ ، كما بين أيلةَ إلى الجُحفةِ ، وإنِّي لست أخشى عليكم أنْ تُشركوا بعدي ، ولكن أخشى عليكُم الدُّنيا أنْ تنافسوا فيها ، وتقتتلوا ، فتهلكوا كما هلك مَنْ كان قبلكم ) . قال عقبة : فكانت آخرَ ما رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر .
وخرَّجه الإمام أحمد (5)
__________
(1) أخرجه : أحمد 3/318 ، ومسلم 4/79 ( 1297 ) ( 310 ) ، وأبو داود ( 1970 ) ، والترمذي ( 886 ) ، والنسائي 5/270 ، وابن خزيمة ( 2877 ) ، وأبو نعيم في " المسند المستخرج " ( 2995 ) و( 2997 ) ، والبيهقي 5/125 و130 من حديث جابر بن
عبد الله ، به . والروايات متباينة اللفظ متفقة المعنى .
(2) في ( ص ) : ( جمع الناس بين مكة والمدينة في وادٍ يقال له : غدير خم ) .
(3) في " صحيحه " 7/122 ( 2408 ) ( 36 ) .
(4) صحيح البخاري 2/114 ( 1344 ) و4/240 ( 3596 ) و5/132 ( 4085 ) و8/112
( 6426 ) و8/151 ( 6590 ) ، وصحيح مسلم 7/67 ( 2296 ) ( 30 ) و( 31 ) .
(5) في " مسنده " 4/154 .
وأخرجه : البخاري 5/120 ( 4042 ) بهذا اللفظ من حديث عقبة بن عامر .
ولفظه : صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أُحُدٍ بعد ثمانِ سنين كالمودِّع للأحياء والأموات ، ثم طلَعَ المنبرَ ، فقال : ( إنِّي فرطُكم ، وأنا عليكم شهيد ، وإنَّ موعدَكم الحوضُ ، وإنِّي لأنظرُ إليه ، ولستُ أخشى عليكم الكُفر ، ولكن الدُّنيا أنْ تنافسوها ) .
وخرَّج الإمام أحمد (1) أيضاً عن عبد الله بن عمرو قال : خرج علينا
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً كالمودِّع ، فقال : ( أنا محمد النَّبيُّ الأُميُّ - قال ذلك ثلاث مرَّات - ولا نبيَّ بعدي ، أُوتيتُ فواتِحَ الكَلِم وخواتمَه وجوامعه ، وعلمت كم خزنةُ النَّار ، وحملةُ العرش ، وتَجَوَّزَ لي ربِّي وعُوفيتُ وعُفِيَتْ أُمَّتي ، فاسمعوا وأطيعوا ما دمتُ فيكم ، فإذا ذُهِبَ بي ، فعليكم بكتاب الله ، أحلوا حلاله ، وحرِّموا
حرامه ) .
فلعلَّ الخطبة التي أشار إليها العرباضُ بنُ سارية في حديثه كانت بعضَ هذه
الخطب ، أو شبيهاً بها ممَّا يُشعر بالتوديع .
وقولهم : ( فأوصنا ) ، يعنون وصيةً جامعةً كافية، فإنَّهم لمَّا فهموا (2) أنَّه
مودِّعٌ ، استوصوهُ وصيَّةً ينفعهم التمسُّك بها بعدَه ، ويكون فيها كفايةٌ لمن تمسَّك
بها ، وسعادةٌ له في الدنيا والآخرة .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أوصيكم بتقوى الله ، والسَّمع والطَّاعة ) ، فهاتان الكلمتان تجمعان سعادةَ الدُّنيا والآخرة .
__________
(1) في " مسنده " 2/172 و212 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة ، ولجهالة عبد الرحمان بن مُريح .
(2) في ( ص ) : ( علموا ) .
أمَّا التَّقوى ، فهي كافلةٌ بسعادة الآخرة لمن تمسَّك بها ، وهي وصيةُ الله للأوَّلين والآخرين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ } (1) ، وقد سبق شرح التقوى بما فيه كفاية في شرح حديث وصية النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ (2) .
وأمّا السَّمع والطاعة لوُلاة أُمور المسلمين ، ففيها سعادةُ الدُّنيا(3) ، وبها تنتظِمُ مصالحُ العباد في معايشهم ، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعةِ ربِّهم ، كما قال عليٌّ - رضي الله عنه - : إنَّ الناسَ لا يُصلحهم إلاَّ إمامٌ بَرٌّ أو فاجر ، إنْ كان فاجراً عبدَ
المؤمنُ فيه ربَّه ، وحمل الفاجر فيها إلى أجله (4) .
وقال الحسن في الأمراء : هم يلونَ من أمورنا خمساً : الجمعةَ والجماعة والعيد والثُّغور والحدود ، والله ما يستقيم الدِّين إلاَّ بهم ، وإنْ جاروا وظلموا ، والله لَمَا يُصْلحُ الله بهم أكثرُ ممَّا يُفسدون ، مع أنَّ - والله - إنَّ طاعتهم لغيظٌ ، وإنَّ فرقتهم لكفرٌ .
__________
(1) النساء : 131 .
(2) عند الحديث الثامن عشر .
(3) قبل هذا في ( ص ) : ( المسلمين في ) .
(4) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 7508 ) .
وخرّج الخلال في كتاب " الإمارة " من حديث أبي أمامة قال : أمرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه حينَ صلَّوا العشاء : ( أنِ احشُدوا ، فإنَّ لي إليكم حاجةً ) فلمّا فرغ مِنْ صلاةِ الصُّبح ، قال : ( هل حشدتم كما أمرتكم ؟ ) قالوا : نعم ، قال : ( اعبدوا الله، ولا تُشركوا به شيئاً، هل عقلتم هذه؟ ) ثلاثاً، قلنا: نعم، قال: ( أقيموا الصَّلاةَ، وآتوا الزَّكاة ، هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثاً . قلنا : نعم ، قال : ( اسمعوا وأطيعوا ) ثلاثاً ، ( هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثاً ، قلنا : نعم ، قال : فكنَّا نرى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيتكلَّم كلاماً طويلاً ، ثم نظرنا في كلامه ، فإذا هو قد جمع لنا الأمر كلَّه (1) .
وبهذين الأصلين وصَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع أيضاً ، كما خرَّج الإمامُ أحمد والترمذي من رواية أمِّ الحصين الأحمسية ، قالت : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ في حَجّةِ الوداع ، فسمعتُه يقول : ( يا أيُّها النَّاسُ ، اتَّقوا الله ، وإنْ أُمِّرَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ مجدَّعٌ ، فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله ) (2) .
وخرَّج مسلم منه ذكرَ السمعِ والطاعة (3) .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7678 ) وإسناده ضعيف من أجل عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن زبريق وأبيه .
(2) أخرجه : أحمد 6/402 ، والترمذي ( 1706 ) ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(3) في " صحيحه " 4/79 ( 1298 ) ( 311 ) من حديث أم الحصين ، به .
وخرَّج الإمام أحمد والترمذي أيضاً من حديث أبي أُمامة ، قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ في حَجَّةِ الوداع ، يقول : ( اتَّقوا الله ، وصلُّوا خمسَكُم ، وصوموا شهركم ، وأدُّوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخُلُوا جنَّةَ
ربِّكم ) (1) ، وفي روايةٍ أخرى أنَّه قال : ( يا أيُّها النَّاس ، إنَّه لا نبيَّ بعدي ، ولا أمَّةَ بعدكم ) وذكر الحديث بمعناه (2) .
وفي " المسند " (3) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من لقِيَ الله لا يشركُ به شيئاً ، وأدّى زكاةَ مالهِ طيِّبةً بها نفسُه محتسباً ، وسمع وأطاع ، فله الجنَّة ، أو دخل الجنَّة ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإنْ تأمَّرَ عليكم عبدٌ ) ، وفي روايةٍ : ( حبشي ) هذا مما تكاثرت به الرِّوايات عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مما اطلع عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أمرِ أُمته بعده ، وولاية العبيد عليهم ، وفي " صحيح البخاري " (4) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( اسمعوا وأطيعوا ، وإنِ استُعمِلَ عَلَيكُمْ عبدٌ حبشيٌّ ، كأنَّ رأسه زبيبةٌ ) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/251 و262 ، والترمذي ( 616 ) ، وقال الترمذي : ( حسن
صحيح ) .
(2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7535 ) و( 7617 ) و( 7622 ) وفي " مسند
الشاميين " ، له ( 543 ) و( 834 ) من حديث أبي أمامة ، به ، وهو صحيح .
(3) مسند الإمام أحمد 2/361 – 362 ، وإسناده ضعيف لجهالة المتوكل أو أبي المتوكل الراوي عن أبي هريرة ، وفي السند بقية بن الوليد مدلس ويدلس تدليس التسوية وقد عنعن .
(4) الصحيح 9/78 ( 7142 ) .
وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال : إنَّ خليلي - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أنْ أسمع وأطيع ، ولو كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف . والأحاديث في المعنى كثيرة جداً .
ولا يُنافي هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يزالُ هذا الأمرُ في قريش ما بقي في النَّاس
اثنان ) (2) ، وقوله : ( النّاس تبعٌ لقريش ) (3) ، وقوله : ( الأئمة من قريش ) (4) ؛ لأنَّ ولاية العبيد قد تكون من جهة إمام قرشي ، ويشهد لذلك ما خَرَّجَه الحاكمُ (5) من حديث عليٍّ - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الأئمة من قريش أبرارُها أمراءُ
أبرارها ، وفجارُها أمراءُ فجارها ، ولكلٍّ حقٌّ ، فآتوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، وإنْ أمرت عليكم قريش عبداً حبشياً مجدعاً ، فاسمعوا له وأطيعوا ) وإسناده جيد ، ولكنَّه روي عن عليٍّ موقوفاً (6) ، وقال الدارقطني (7) : هو أشبه .
__________
(1) الصحيح 2/120 ( 648 ) ( 240 ) .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 1956 ) ، وأحمد 2/29 ، والبخاري 9/78 ( 7140 ) ، ومسلم 6/2 ( 1820 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 1122 ) ، وابن حبان ( 6266 ) من حديث ابن عمر ، به .
(3) أخرجه : الطيالسي ( 2380 ) ، وأحمد 2/242 ، والبخاري 4/217 ( 3495 ) ، ومسلم 6/2 ( 1818 ) ( 1 ) و( 2 ) ، والبيهقي 8/141 من حديث أبي هريرة ، به .
(4) أخرجه : الطيالسي ( 2133 ) ، وابن أبي شيبة ( 32388 ) ، وأحمد 3/129 و183 ، والنسائي في " الكبرى " ( 5942 ) ، وأبو يعلى ( 3644 ) و( 4032 ) ، والبيهقي 8/144 من حديث أنس بن مالك ، به ، وهو حديث صحيح .
(5) في " المستدرك " 4/75 – 76 .
(6) أخرجه : ابن أبي عاصم في " السنة " ( 1517 ) و( 1518 ) .
(7) في " العلل " 3/199 .
وقد قيل : إنَّ العبدَ الحبشيَّ إنَّما ذكر على وجه ضرب المثل وإنْ لم يصحَّ وقوعُه ، كما قال : ( مَن بنى مسجداً و لو كَمَفْحَصِ قطاة ) (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فمن يعِشْ منكم بعدي ، فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي ، عَضُّوا عليها بالنواجذ ) . هذا إخبارٌ
منه - صلى الله عليه وسلم - بما وقع في أُمَّته بعدَه من كثرة الاختلاف في أصول الدِّين وفروعه ، وفي الأقوال والأعمال والاعتقادات ، وهذا موافقٌ لما روي عنه من افتراقِ أُمَّته على بضعٍ وسبعين فرقة ، وأنَّها كلَّها في النَّار إلاَّ فرقة واحدة، وهي من كان على ما هو عليه وأصحابُه ، وكذلك في هذا الحديث أمر عندَ الافتراق والاختلاف بالتمسُّك بسنَّته وسنَّةِ الخلفاء الرَّاشدين من بعده ، والسُّنة : هي الطريقة المسلوكةُ ، فيشمل ذلك التمسُّك بما كان عليه هو وخلفاؤه الرَّاشدونَ مِنَ الاعتقادات والأعمال والأقوال ، وهذه هي السُّنةُ الكاملةُ ، ولهذا كان السلف قديماً لا يُطلقون اسم السُّنَّةِ إلا على ما يشمل ذلك كلَّه ، ورُوي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفُضيل بن عياض .
__________
(1) أخرجه : البزار ( 4017 ) ، وابن حبان ( 1610 ) و( 1611 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/217 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 479 ) من حديث أبي ذر ، به ، وهو حديث اختلف في رفعه ووقفه وتفصيل طرقه ورواياته في كتابي " الجامع في العلل " يسر الله إتمامه وطبعه بمنه وكرمه . =
= ... ومفحص القطاة : هو موضعها الذي تجثم فيه وتبيض ، كأنَّها تفحص عنه التراب ، أي : تكشفه . النهاية 3/415 .
وكثيرٌ من العُلماء المتأخرين يخصُّ اسم السُّنة بما يتعلق بالاعتقادات ؛ لأنَّها أصلُ الدِّين ، والمخالفُ فيها على خطرٍ عظيم ، وفي ذكر هذا الكلام بعد الأمر بالسَّمع والطَّاعة لأُولي الأمر إشارةٌ إلى أنَّه لا طاعةَ لأولي الأمر إلاّ في طاعة اللهِ ، كما صحَّ عنه أنَّه قال : ( إنَّما الطَّاعةُ في المعروف ) (1) .
وفي " المسند " (2) عن أنس : أنَّ معاذَ بن جبل قال : يا رسول الله ، أرأيتَ
إنْ كان علينا أمراءُ لا يستنُّون بسنَّتك ، ولا يأخذون بأمركَ ، فما تأمرُ في أمرهم ؟
فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا طاعة لمن لم يُطع الله - عز وجل - ) .
وخرَّج ابن ماجه (3) من حديث ابن مسعود : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( سيلي أمورَكم بعدي رجالٌ يطفئون من السنة ويعملون بالبدعة ، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها ) فقلت : يا رسول الله إنْ أدركتُهم ، كيف أفعلُ ؟ قال : ( لا طاعة لمن عصى الله ) .
وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - باتِّباع سنَّته ، وسنَّة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لوُلاةِ الأُمور عموماً دليلٌ على أنَّ سنةَ الخلفاء الراشدين متَّبعة ، كاتِّباع سنته ، بخلاف غيرهم من وُلاة الأمور .
__________
(1) أخرجه : أحمد 1/82 و94 ، والبخاري 5/203 ( 4340 ) و9/78 ( 7145 ) و9/109 ( 7257 ) ، ومسلم 6/15 ( 1840 ) ( 39 ) و6/116 ( 1840 ) ( 40 ) ، وأبو داود ( 2625 ) ، والنسائي 7/159 – 160 وفي " الكبرى " ، له ( 8722 ) من حديث علي بن أبي طالب ، به .
(2) مسند الإمام أحمد 3/213 ، وإسناده لا بأس به إن شاء الله .
(3) في " سننه " ( 2865 ) ، وإسناده حسن .
وفي " مسند الإمام أحمد " (1) و" جامع الترمذي " (2) عن حُذيفة قال : كنَّا عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُلوساً ، فقال : ( إني لا أدري ما قَدْرُ بقائي فيكم ، فاقتدوا باللَّذيْنِ من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - وتمسَّكوا بعهدِ عمَّار ، وما حدَّثكم ابنُ مسعودٍ ، فصدقوه ) ، وفي روايةٍ : ( تمسَّكوا بعهد ابنِ أم عبدٍ ، واهتدوا بهدي عمار ) . فنصَّ - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره على من يُقتدى به مِنْ بعده ، والخُلفاء الراشدون الذين أمر بالاقتداء بهم هم : أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ ، فإنَّ في حديث سفينة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الخلافةُ بعدي ثلاثونَ سنة، ثم تكونُ ملكاً ) (3) ، وقد صححه الإمام أحمد ،
واحتجَّ به على خلافة الأئمة الأربعة (4) .
__________
(1) المسند 5/385 و399 و400 .
(2) الجامع الكبير ( 3663 ) و( 3799 م ) ، وقال في الموضع الثاني : ( هذا حديث حسن ) على أنَّه أشار إلى الاختلاف في إسناده .
(3) أخرجه : أحمد 5/220 و221 ، وأبو داود ( 4646 ) و( 4647 ) ، وابن أبي عاصم في
" الآحاد والمثاني " ( 113 ) و( 139 ) و( 140 ) وفي " السنة " ، له ( 1181 )
و( 1185 ) ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ( 1402 ) و( 1403 ) و( 1404 )
و( 1405 ) و( 1407 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 8155 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 3349 ) ، وابن حبان ( 6657 ) و( 6943 ) .
(4) قال عبد الله بن أحمد في " السنة " ( 1400 ) : ( سمعت أبي يقول : … أما الخلافة فنذهب إلى حديث سفينة فنقول : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلفاء ) .
ونصَّ كثيرٌ من الأئمَّة على أنَّ عمر بنَ عبد العزيز خليفةٌ راشد أيضاً ، ويدلُّ عليه ما خرَّجه الإمام أحمد (1) من حديث حُذيفة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تكونُ فيكم النبوَّةُ ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوَّة ، فتكونُ ما شاءَ الله أنْ تكونَ ، ثم يرفعُها الله إذا شاء أنْ يرفعها ، ثمَّ تكونُ مُلكاً عاضَّاً ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكونُ مُلكاً جبرية ، فتكون ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوَّة ) ثُمَّ سكت . فلما ولي عمر بن عبد العزيز ، دخل عليه رجلٌ ، فحدَّثه بهذا الحديث ، فسُرَّ به ، وأعجبه .
وكان محمد بن سيرين أحياناً يسأل عن شيءٍ مِنَ الأشربةِ ، فيقول : نهى عنه إمامُ هدى : عمرُ بن عبد العزيز (2) .
وقد اختلف العلماء في إجماع الخُلفاء الأربعة : هل هو إجماعٌ ، أو حُجَّةٌ ، مع مخالفة غيرهم مِنَ الصَّحابة أم لا ؟ وفيه روايتان عن الإمام أحمد (3) ، وحكم أبو خازم الحنفي في زمن المعتضد بتوريث ذوي الأرحام ، ولم يعتدَّ بمن خالف الخُلفاء ، ونفذ حكمه بذلك في الآفاق .
__________
(1) في " مسنده " 4/273 ، وإسناده حسن .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/257 .
(3) انظر : البحر المحيط للزركشي 3/527 – 528 .
ولو قال بعضُ الخلفاء الأربعة قولاً ، ولم يُخالفه منهم أحدٌ ، بل خالفه غيرُه من الصَّحابة ، فهل يقدم قولُه على قول غيره ؟ فيه قولان أيضاً للعلماء ، والمنصوصُ عن أحمد أنَّه يُقدمُ قوله على قولِ غيره من الصَّحابة ، وكذا ذكره الخطابيُّ (1) وغيره ، وكلامُ أكثرِ السَّلفِ يدلُّ على ذلك ، خصوصاً عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فإنَّه روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أنَّه قال : ( إنَّ الله جعل الحقَّ على لسان عمرَ وقلبِه ) (2) . وكان عمرُ بن عبد العزيز يتَّبع أحكامَه ، ويستدلُّ بقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله جعلَ الحقَّ على لسان عمرَ وقلبه ) .
__________
(1) في " معالم السنن " 4/278 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 31986 ) ، وأحمد 2/401 ، وابن أبي عاصم في " السنة "
( 1250 ) ، وابن حبان ( 6889 ) من حديث أبي هريرة ، به .
وأخرجه أيضاً : ابن سعد في "طبقاته" 2/335 ، وأحمد 2/53 و95 وفي "فضائل الصحابة" ، له ( 313 ) ، والترمذي ( 3682 ) ، وابن حبان ( 6895 ) من حديث ابن عمر ، به ، وهو حديث قويٌّ بمجموع طرقه .
وقال مالكٌ : قال عمرُ بنُ عبد العزيز : سنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وولاةُ الأمر من بعده سُنناً ، الأخذُ بها اعتصامٌ بكتابِ الله ، وقوَّةٌ على دين الله ، ليس لأحدٍ تبديلُها ، ولا تغييرُها ، ولا النظرُ في أمرٍ خالفَها ، مَنِ اهتدى بها ، فهو مهتدٍ ، ومن استنصر بها ، فهو منصور ، ومن تركها واتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين ، ولاَّه اللهُ ما تولَّى ، وأصلاه جهنَّم ، وساءت مصيراً (1) . وحكى عبدُ الله بن عبد الحكم عن مالك : أنَّه قال : أعجبني عَزْمُ(2) عمرَ على ذلك ، يعني : هذا الكلام . وروى عبدُ الرحمان بنُ مهدي هذا الكلام عن مالكٍ ، ولم يحكِه عن عمرَ .
وقال خلَفُ بنُ خليفة : شهدتُ عمر بن عبد العزيز يخطبُ النَّاس وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا إنَّ ما سنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه ، فهو وظيفةُ دينٍ ، نأخذ
به ، وننتهي إليه (3) . وروى أبو نعيم (4) من حديث عَرْزب الكندي : أنَّ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّه سيحدث بعدي أشياء ، فأحبها إلي أنْ تلزموا ما أحدث عمر ) .
وكان عليٌّ يتبع أحكامه وقضاياه ، ويقول : إنَّ عمرَ كان رشيدَ الأمر (5) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " 4/1067 ( 5969 ) ، والآجري في " الشريعة " : 48 .
(2) عزم ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/298 .
(4) في " معرفة الصحابة " ( 5567 ) و( 5568 ) من حديث عبد الملك بن عياض الجذامي أبي عفيف ، عن عرزب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال أبو حاتم الرازي : ( عبد الملك أبو عفيف مجهول ، وشيخه لا يعرف ) . انظر : الإصابة 3/442 ، وجامع المسانيد 9/102 .
(5) أخرجه : أبو عبيد في " الأموال " ( 273 ) ، وابن أبي شيبة ( 32004 ) ، وأحمد في
" فضائل الصحابة " ( 537 ) ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ( 1307 ) ، والبيهقي 10/120 .
وروى أشعثُ ، عن الشَّعبيِّ ، قال : إذا اختلف الناسُ(1) في شيءٍ ، فانظروا كيف قضى فيه عمرُ ، فإنَّه لم يكن يقضي في أمر لم يُقْضَ فيه قبلَه حتى
يُشاوِرَ (2) .
وقال مجاهد : إذا اختلف الناسُ في شيءٍ ، فانظروا ما صنع عمر ، فخُذُوا
به (3) . وقال أيوب ، عن الشعبيِّ : انظروا ما اجتمعت عليه أمَّةُ محمد ، فإنَّ الله لم يكن ليجمعها على ضلالةٍ ، فإذا اختلفت ، فانظروا ما صنعَ عُمَر بنُ الخطاب ، فخذوا به .
وسئل عكرمة عن أم الولد ، فقال : تعْتقُ بموت سيدها ، فقيل له : بأيِّ شيء تقولُ ؟ قال : بالقرآن ، قال : بأيِّ القرآن ؟ قال : { أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } (4) ، وعمرُ من أولي الأمر (5) .
وقال وكيع : إذا اجتمع عمرُ وعليٌّ على شيءٍ ، فهو الأمرُ .
وروي عن ابن مسعود أنَّه كان يحلف بالله : إنَّ الصِّراط المستقيم هو الذي ثبت عليه عمر حتى دخل الجنَّة(6) .
__________
(1) الناس ) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 4/320 .
(3) أخرجه : أحمد في " فضائل الصحابة " ( 349 ) .
(4) النساء : 59 .
(5) أخرجه: سعيد بن منصور في "سننه" ( 657 ) ( ط . دار الصميعي ) ، والبيهقي 10/346 .
(6) عبارة : ( حتى دخل الجنة ) لم ترد في ( ص ) .
وبكلِّ حالٍ ، فما جمع عمرُ عليه الصَّحابةَ ، فاجتمعوا عليه في عصره ، فلا شكَّ أنَّه الحقُّ ، ولو خالف فيه بعدَ ذلك مَنْ خالف ، كقضائه في مسائلَ مِنَ الفرائض كالعول ، وفي زوج وأبوين وزوجة وأبوين أنَّ للأمِّ ثلث الباقي ، وكقضائه فيمن جامعَ في إحرامه أنَّه يمضي في نسكه وعليه القضاءُ والهديُ ، ومثل ما قضى به في امرأةِ المفقودِ ، ووافقه غيره مِنَ الخُلفاء أيضاً ، ومثلُ ما جمع عليه النَّاسَ في الطَّلاق الثَّلاث ، وفي تحريم متعة النِّساء ، ومثل ما فعله من وضع الدِّيوان ، ووضع الخراج على أرض العنوة ، وعقد الذِّمة لأهل الذِّمة بالشُّروط التي شرطها عليهم ونحو ذلك .
ويشهد لصحة ما جمع عليه عمرُ الصحابة ، فاجتمعوا عليه ، ولم يُخالف في وقته قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( رأيتني في المنام أنزِعُ على قليبٍ ، فجاء أبو بكرٍ ، فنزع ذَنُوباُ أو ذنوبين ، وفي نزعه ضعفٌ ، والله يغفر له ، ثم جاء ابنُ الخطَّاب ، فاستحالت غَرْباً ، فلم أرَ أحداً يفري فَرْيَهُ حتَّى رَوِيَ النَّاس ، وضربوا بعَطَنٍ ) ، وفي روايةٍ : ( فلم أرَ عبقرياً من النَّاسِ يَنْزِعُ نزعَ ابنِ الخطاب ) وفي روايةٍ : ( حتى تولَّى والحوض يتفجَّرُ ) (1) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 2/368 و450 ، والبخاري 5/7 ( 3664 ) و9/49 ( 7021 )
و( 7022 ) و9/170 ( 7475 ) ، ومسلم 7/112 ( 2392 ) ( 17 ) و7/113
( 2392 ) ( 17 ) و( 18 ) ، والنسائي في " فضائل الصحابة " ( 15 ) من حديث أبي هريرة ، به .
وهذا إشارةٌ إلى أنَّ عمرَ لم يمت حتَّى وضع الأمورَ مواضعها ، واستقامت الأمورُ ، وذلك لِطول مدَّته ، وتفرُّغه للحوادث ، واهتمامه بها ، بخلاف مدَّةِ أبي بكر فإنَّها كانت قصيرةً ، وكان مشغولاً فيها بالفُتوح ، وبعث البُعوث للقتال ، فلم يتفرَّغ لكثيرٍ من الحوادث ، وربما كان يقع في زمنه ما لا يبلُغه ، ولا يُرفَعُ إليه ، حتَّى رفعت تلك الحوادثُ إلى عمرَ ، فردَّ النَّاس فيها إلى الحقِّ وحملهم على
الصَّواب .
وأمَّا ما لم يجمع عمرُ النَّاسَ عليه ، بل كان له فيه رأيٌ ، وهو يسوِّغ لغيره أنْ يرى رأياً يُخالف رأيه ، كمسائل الجَدِّ مع الإخوة ، ومسألة طلاق البتة ، فلا يكونُ قولُ عمر فيه حجَّةً على غيره مِنَ الصَّحابة ، والله أعلم .
وإنَّما وصف الخلفاء بالراشدين ؛ لأنَّهم عرفوا الحقَّ وقَضَوا به ، فالراشدُ ضدُّ الغاوي ، والغاوي مَنْ عَرَفَ الحقَّ ، وعمل بخلافه .
وفي رواية ( المهديين ) ، يعني : أنَّ الله يهديهم للحقِّ ، ولا يُضِلُّهم عنه ، فالأقسام ثلاثة : راشدٌ وغاوٍ وضالٌّ ، فالراشد عرف الحقَّ واتَّبعه ، والغاوي : عرفه ولم يتَّبعه ، والضالُّ : لم يعرفه بالكليَّة ، فكلُّ راشدٍ ، فهو مهتد ، وكل مهتدٍ هدايةً تامَّةً ، فهو راشد ؛ لأنَّ الهدايةَ إنَّما تتمُّ بمعرفة الحقِّ والعمل به أيضاً .
وقوله : ( عَضُّوا عليها بالنواجذ ) كناية عن شدَّةِ التَّمسُّك بها ، والنواجذ : الأضراس .
قوله : ( وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور ، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة ) تحذيرٌ للأمة مِنَ اتِّباعِ الأمورِ المحدَثَةِ المبتدعَةِ ، وأكَّد ذلك بقوله : ( كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ ) ، والمراد بالبدعة : ما أُحْدِثَ ممَّا لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه ، فأمَّا ما كان له أصلٌ مِنَ الشَّرع يدلُّ عليه ، فليس ببدعةٍ شرعاً ، وإنْ كان بدعةً لغةً ، وفي " صحيح
مسلم " (1) عن جابر : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته : ( إنَّ خيرَ الحديثِ
كتابُ الله ، وخير الهدي هديُ محمد ، وشرُّ الأمور محدثاتها ، وكلُّ بدعة ضلالة ) .
وخرَّج الترمذي (2) وابن ماجه (3) من حديث كثير بن عبد الله المزني - وفيه ضعف (4) - عن أبيه ، عن جده ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسولُه ، كان عليه مثلُ آثام مَنْ عمل بها ، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ أوزارهم شيئاً ) .
__________
(1) الصحيح 3/11 ( 867 ) ( 43 ) و( 44 ) و( 45 ) .
(2) في " الجامع الكبير " ( 2677 ) .
(3) في " سننه " ( 209 ) و( 210 ) .
(4) قال ابن حبان في " المجروحين " 2/221 : ( كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني … يروي عن أبيه ، عن جده بنسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب ، وكان الشافعي رحمه الله يقول : كثير بن عبد الله المزني ركن من أركان الكذب ) .
وخرَّج الإمام أحمد (1) من رواية غضيف بن الحارث الثُّمالي قال : بعث إليَّ عبدُ الملك بنُ مروان ، فقال : إنا قد جمعنا الناس على أمرين : رفع الأيدي على المنابر يومَ الجمعة ، والقصص بعد الصُّبح والعصر ، فقال : أما إنَّهما أمثلُ بدعتكم عندي ، ولست بمجيبكم إلى شيءٍ منها ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما أحْدَثَ قومٌ بدعةً إلا رُفعَ مثلُها منَ السُّنَّة ) فتمسُّكٌ بسنَّةٍ خيرٌ من إحداث بدعةٍ . وقد رُوي عن ابن عمر من قوله نحو هذا .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كلُّ بدعة ضلالة ) من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيءٌ ، وهو أصلٌ عظيمٌ من أصول الدِّين ، وهو شبيهٌ بقوله : ( مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا ما لَيسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ ) (2) ، فكلُّ من أحدث شيئاً ، ونسبه إلى الدِّين ، ولم يكن له أصلٌ من الدِّين يرجع إليه ، فهو ضلالةٌ ، والدِّينُ بريءٌ منه ، وسواءٌ في ذلك مسائلُ الاعتقادات ، أو الأعمال ، أو الأقوال الظاهرة والباطنة .
__________
(1) في " مسنده " 4/105 ، وإسناده ضعيف لضعف أبي بكر بن أبي بن عبد الله .
(2) تقدم عند الحديث الخامس .
وأما ما وقع في كلام السَّلف مِنِ استحسان بعض البدع ، فإنَّما ذلك في البدع اللُّغوية ، لا الشرعية ، فمِنْ ذلك قولُ عمر - رضي الله عنه - لمَّا جمعَ الناسَ في قيامِ رمضان على إمامٍ واحدٍ في المسجد ، وخرج ورآهم يصلُّون كذلك فقال : نعمت البدعةُ هذه . وروي عنه أنَّه قال : إنْ كانت هذه بدعة ، فنعمت البدعة (1) . وروي أنَّ أبيَّ بن كعب ، قال له : إنَّ هذا لم يكن ، فقال عمرُ : قد علمتُ ، ولكنَّه حسنٌ . ومرادُه أنَّ هذا الفعلَ لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت ، ولكن له أصولٌ منَ الشَّريعةِ يُرجع إليها، فمنها : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يحُثُّ على قيام رمضان ، ويُرَغِّبُ فيه، وكان النَّاس في زمنه يقومون في المسجد جماعاتٍ متفرِّقةً ووحداناً ، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بأصحابه في رمضانَ غيرَ ليلةٍ ، ثم امتنع مِنْ ذلك معلِّلاً بأنَّه خشي أنْ يُكتب عليهم ، فيعجزوا عن القيام به ، وهذا قد أُمِنَ بعده - صلى الله عليه وسلم - (2) . ورُويَ عنه أنَّه كان يقومُ بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر (3) .
ومنها : أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتِّباع سنة خلفائه الراشدين ، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين ، فإنَّ النَّاس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمانَ وعليٍّ .
__________
(1) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 301 ) برواية يحيى الليثي ، والبخاري 3/58 ( 2010 ) ، والبيهقي 2/493 .
(2) أخرجه : البخاري 2/13 ( 924 ) و2/62 ( 1129 ) ، ومسلم 2/177 ( 761 )
و( 177 ) و( 178 ) من حديث عائشة ، به .
(3) أخرجه : أحمد 5/159 و163 ، والدارمي ( 1784 ) ، وأبو داود ( 1375 ) ، وابن ماجه ( 1327 ) ، والترمذي ( 806 ) ، والنسائي 3/83 من حديث أبي ذر ، وقال الترمذي
: ( حسن صحيح ) .
ومن ذلك : أذانُ الجمعة الأوَّل ، زاده عثمانُ (1) لحاجةِ النَّاسِ إليه ، وأقرَّه عليٌّ ، واستمرَّ عملُ المسلمينَ عليه ، وروي عَن ابن عمر أنَّه قال : هو بدعة (2) ، ولعلَّه أرادَ ما أراد أبوه في قيام رمضان .
ومِنْ ذلك جمع المصحف في كتابٍ واحدٍ ، توقَّف فيه زيدُ بنُ ثابتٍ ، وقال لأبي بكر وعمر : كيف تفعلان ما لم يفعلْهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ ثم علم أنَّه مصلحةٌ ، فوافق على جمعه (3) ، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ بكتابة الوحي ، ولا فرق بَيْنَ أنْ يُكتب مفرقاً أو مجموعاً ، بل جمعُه صار أصلح .
وكذلك جمعُ عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشيةَ تفرُّق الأمة ، وقد استحسنه عليٌّ وأكثرُ الصحابة ، وكان ذلك عينَ المصلحة .
وكذلك قتال من منع الزكاة : توقف فيه عمر وغيرُه حتى بيَّن له أبو بكر أصلَه الذي يرجعُ إليه مِنَ الشَّريعة (4) ، فوافقه الناسُ على ذلك .
__________
(1) أخرجه : الشافعي في " مسنده " ( 424 ) بتحقيقي ، وأحمد 3/449 و450 ، والبخاري 2/10 ( 912 ) و( 913 ) ، وأبو داود ( 1087 ) من حديث السائب بن يزيد ، قال : إنَّ الأذان كان أوله للجمعة حين يجلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر
وعمر ، فلما كان خلافة عثمان كثر الناس أمر عثمان - رضي الله عنه - بأذان ثان فأذن فثبت الأمر على
ذلك … ) .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 5441 ) .
(3) أخرجه : الطيالسي ( 3 ) ، وأحمد 1/10 و13 ، والبخاري 6/89 ( 4679 ) ، والترمذي ( 3103 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7995 ) من حديث زيد بن ثابت ، به .
(4) أخرجه : البخاري 2/131 ( 1400 ) ، ومسلم 1/38 ( 20 ) ( 32 ) من حديث أبي هريرة ، به .
ومِنْ ذلك القصص ، وقد سبق قولُ غضيف بن الحارث : إنَّه بدعةٌ ، وقال الحسن : القصص بدعةٌ ، ونعِمَت البدعةُ ، كم من دعوة مستجابة ، وحاجة مقضية ، وأخٍ مستفاد (1) . وإنَّما عني هؤلاء بأنَّه بدعة الهيئة الاجتماعية عليه في وقت معين ، فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له وقت معيَّن يقصُّ على أصحابه فيهِ غير خطبه الراتبة في الجُمَعِ والأعياد ، وإنَّما كان يذكرهم أحياناً ، أو عندَ حدوث أمرٍ يحتاجُ إلى التَّذكير عنده ، ثم إنَّ الصحابة اجتمعوا على تعيين وقتٍ له كما سبق عن ابنِ مسعودٍ : أنَّه كان يُذَكِّرُ أصحابه كلَّ يوم خميس .
وفي " صحيح البخاري " (2) عن ابن عبَّاسٍ قال : حدِّث الناس كلَّ جمعة مرَّةً ، فإنْ أبيتَ فمرَّتين ، فإنْ أكثرت ، فثلاثاً ، ولا تُمِلَّ الناس .
وفي " المسند " (3) عن عائشة أنَّها وصَّت قاصَّ أهلِ المدينة بمثل ذلك . وروي عنها أنَّها قالت لعُبيد بن عُميرٍ : حدِّثِ النَّاسَ يوماً ، ودعِ النَّاس يوماً ، لا تُملَّهم (4) . وروي عن عمر بن عبد العزيز أنَّه أمر القاصَّ أنْ يقصَّ كلَّ ثلاثة أيام مرَّة . ورُوي عنه أنَّه قال له : روِّح الناسَ ولا تُثقِلْ عليهم ، ودَعِ القَصَصَ يوم السبت ويوم الثلاثاء .
وقد روى الحافظ أبو نعيم (5) بإسناده عن إبراهيم بن الجنيد ، حدثنا حرملة ابن يحيى قال : سمعتُ الشافعي - رحمة الله عليه - يقول : البدعة بدعتان : بدعةٌ محمودةٌ ، وبدعة مذمومةٌ ، فما وافق السنة فهو محمودٌ ، وما خالف السنة فهو مذمومٌ . واحتجَّ بقول عمر : نعمت البدعة هي .
__________
(1) انظر : كشف الظنون 2/1909 ، وأبجد العلوم 2/536 .
(2) الصحيح 8/91 ( 6337 ) .
(3) مسند الإمام أحمد 6/217 .
(4) أخرجه : ابن سعد في " طبقاته " 6/16 .
(5) في " الحلية " 9/113 .
ومراد الشافعي - رحمه الله - ما ذكرناه مِنْ قبلُ : أنَّ البدعة المذمومة ما ليس لها أصل منَ الشريعة يُرجع إليه ، وهي البدعةُ في إطلاق الشرع ، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة ، يعني : ما كان لها أصلٌ مِنَ السنة يُرجع إليه ، وإنَّما هي بدعةٌ لغةً لا شرعاً ؛ لموافقتها السنة .
وقد روي عَنِ الشَّافعي كلام آخر يفسِّرُ هذا ، وأنَّه قال : والمحدثات ضربان : ما أُحدِثَ مما يُخالف كتاباً ، أو سنةً ، أو أثراً ، أو إجماعاً ، فهذه البدعة الضلال ، وما أُحدِث مِنَ الخير ، لا خِلافَ فيه لواحدٍ مِنْ هذا ، وهذه محدثة غيرُ مذمومة (1) .
وكثير من الأمور التي حدثت ، ولم يكن قد اختلفَ العلماءُ في أنَّها هل هي بدعةٌ حسنةٌ حتّى ترجع إلى السُّنة أم لا ؟ فمنها : كتابةُ الحديث ، نهى عنه عمرُ وطائفةٌ مِنَ الصَّحابة ، ورخَّص فيها الأكثرون ، واستدلوا له بأحاديث من السُّنَّة .
ومنها : كتابة تفسير الحديث والقرآن ، كرهه قومٌ من العُلماء ، ورخَّصَ فيه كثيرٌ منهم .
وكذلك اختلافُهم في كتابة الرَّأي في الحلال والحرام ونحوه ، وفي توسِعَةِ الكلام في المعاملات وأعمالِ القلوب التي لم تُنقل عَنِ الصحابة والتابعين . وكان الإمام أحمد يكره أكثر ذلك (2) .
وفي هذه الأزمان التي بَعُدَ العهد فيها بعُلوم السلف يتعيَّن ضبطُ ما نُقِلَ عنهم مِنْ ذلك كلِّه ، ليتميَّزَ به ما كان من العلم موجوداً في زمانهم ، وما حدث من ذلك بعدَهم ، فيُعْلَم بذلك السنةُ من البدعة .
وقد صحَّ عن ابن مسعود أنَّه قال : إنَّكم قد أصبحتُم اليومَ على الفطرة ، وإنَّكم ستُحدِثونَ ويُحدَثُ لكم ، فإذا رأيتم محدثةً ، فعليكم بالهَدْيِ الأوّل (3) . وابنُ مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين .
__________
(1) أخرجه : البيهقي في " مناقب الشافعي " 1/468 – 469 .
(2) انظر : فتح الباري 13/311 .
(3) أخرجه : المروزي في " السنة " ( 80 ) .
وروى ابن مهدي ، عن مالك قال : لم يكن شيءٌ من هذه الأهواء في عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان(1) . وكأنَّ مالكاً يُشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرُّق في أُصول الديانات من أمر الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممَّن تكلَّم في تكفير المسلمين ، واستباحة دمائهم وأموالهم ، أو في تخليدهم في النار ، أو في تفسيق خواصِّ هذه الأمة ، أو عكس ذلك ، فزعم أنَّ المعاصي لا تضرُّ أهلَها ، أو أنَّه لا يدخلُ النَّار مِنْ أهل التوحيدِ أحدٌ .
وأصعبُ من ذلك ما أُحدِث من الكلام في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره ، فكذب بذلك من كذب ، وزعم أنَّه نزَّه الله بذلك عن الظلم .
وأصعبُ من ذلك ما أُحدِثَ مِنَ الكلام في ذات الله وصفاته ، ممَّا سكت عنهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتَّابعونَ لهم بإحسّانٍ ، فقومٌ نَفَوا كثيراً ممَّا ورَدَ في الكتاب والسُّنة من ذلك ، وزعموا أنَّهم فعلوه تنْزيهاً لله عمَّا تقتضي العقولُ تنْزيهه عنه ، وزعموا أنَّ لازِمَ ذلك مستحيلٌ على الله - عز وجل - ، وقومٌ لم يكتفوا بإثباته ، حتى أثبتوا بإثباتهِ ما يُظَنُّ أنَّه لازمٌ له بالنسبة إلى المخلوقين ، وهذه اللَّوازم نفياً وإثباتاً دَرَجَ صدْرُ الأمَّة على السُّكوت عنها .
ومما أُحدِث في الأمة بعْدَ عصر الصحابة والتابعين الكلامُ في الحلال والحرام بمجرَّدِ الرَّأي ، وردُّ كثيرٍ ممَّا وردت به السُّنة في ذلك لمخالفته للرَّأي والأقيسة
العقلية .
__________
(1) ذكره الحافظ ابن حجر في " الفتح " 13/311 .
ومما حدث بعد ذلك الكلامُ في الحقيقة بالذَّوق والكشف ، وزعم أنَّ الحقيقة تُنافي الشريعة ، وأنَّ المعرفة وحدَها تكفي مع المحبَّة ، وأنَّه لا حاجةَ إلى الأعمالِ ، وأنَّها حجابٌ ، أو أنَّ الشَّريعة إنَّما يحتاجُ إليها العوامُّ ، وربما انضمَّ إلى ذلك الكلامُ في الذَّات والصَّفات بما يعلم قطعاً مخالفتُه للكتاب والسُّنة ، وإجماع سلف الأمة ، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم .
الحديث التاسع والعشرون
عَنْ مُعاذٍ - رضي الله عنه - قال : قُلتُ : يا رَسولَ الله أَخبِرني بِعَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ ويُباعِدُني مِنَ النَّارِ ، قال : ( لقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظيمٍ وإنَّهُ لَيَسيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله عليه : تَعْبُدُ الله لا تُشْرِكُ بهِ شيئاً ، وتُقيمُ الصَّلاةَ ، وتُؤتِي الزَّكاةَ ، وتَصُومُ رَمضَانَ ، وتَحُجُّ البَيتَ ) . ثمَّ قالَ : ( ألا أَدُلُّكَ على أبوابِ الخير ؟ الصَّومُ جُنَّةٌ ، والصَّدقَةُ تُطْفِئُ الخَطيئَةَ كَما يُطفئُ الماءُ النارَ ، وصَلاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوفِ اللَّيلِ ، ثمَّ تلا : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } حتَّى بَلَغَ : { يَعْمَلُوْنَ } (1) ، ثُمَّ قالَ : ( أَلا أُخْبِرُكُ برَأْسِ الأمْرِ وعَمودِه وذِرْوَة سنامِهِ ؟ ) قُلتُ : بَلَى يا رَسولَ الله ، قال : ( رَأسُ الأمْرِ الإسلامُ ، وعَمُودُه الصَّلاةُ ، وذِرْوَةُ سَنامِهِ الجهادُ ) ، ثم قال : ( ألا أُخبِرُكَ بمَلاكِ ذلك كُلِّهِ ؟ ) ، قلتُ : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه ، قال : ( كُفَّ عَلَيكَ هذا ) ، قلتُ : يا نَبيَّ الله ، وإنَّا لمُؤَاخَذُونَ بِما نَتَكَلَّمُ بهِ ؟ فقالَ :
( ثَكِلتْكَ أُمُّكَ ، وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجوهِهِمْ ، أو على مَنَاخِرِهم إلاَّ حَصائِدُ أَلسِنَتِهِم ) . رواهُ الترمذيُّ ، وقال : حَديثٌ حَسنٌ صَحيحٌ .
هذا الحديث خرَّجه الإمام أحمد (2) ، والترمذي (3) ، والنَّسائي (4) ، وابن ماجه (5)
__________
(1) السجدة : 16 – 17 .
(2) في " مسنده " 5/231 .
(3) في " جامعه " ( 2616 ) .
(4) في " الكبرى " ( 11394 ) وفي " التفسير " ، له ( 414 ) .
(5) في " سننه " ( 3973 ) .
وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 20303 ) ، وعبد بن حميد ( 112 ) ، والمروزي في
" تعظيم قدر الصلاة " ( 196 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 266 ) ، والقضاعي في
" مسند الشهاب " ( 104 ) ، والبيهقي في " الشعب " ( 3350 ) ، والبغوي ( 11 ) .
من رواية معمر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن معاذ بن
جبل ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
وفيما قاله - رحمه الله - نظر من وجهين :
أحدهما : أنَّه لم يثبت سماعُ أبي وائل من معاذ ، وإنْ كان قد أدركه بالسِّنِّ ، وكان معاذٌ بالشَّام ، وأبو وائل بالكوفة ، وما زال الأئمةُ - كأحمد وغيره - يستدلُّون على انتفاء السَّماع بمثل هذا ، وقد قال أبو حاتم الرازي في سماع أبي وائل من أبي الدرداء : قد أدركه ، وكان بالكُوفة ، وأبو الدَّرداء بالشام ، يعني : أنَّه لم يصحَّ له سماع منه (1) . وقد حكى أبو زرعة الدِّمشقي عن قوم أنَّهم توقَّفُوا في سماعِ أبي وائل من عمر ، أو نفوه ، فسماعه من معاذ أبعد .
والثاني : أنَّه قد رواه حمَّادُ بنُ سلمة ، عن عاصم بن أبي النَّجود ، عن شهر بن حوشبٍ ، عن معاذ ، خرَّجه الإمام أحمد مختصراً (2) ، قال الدارقطني (3) : وهو أشبهُ بالصَّواب ؛ لأنَّ الحديثَ معروفٌ من رواية شهرٍ على اختلافٍ عليه فيه .
قلت : ورواية شهر عن معاذ مرسلةٌ يقيناً (4) ، وشهرٌ مختلفٌ في توثيقه وتضعيفه (5) ، وقد خرَّجه الإمامُ أحمد من رواية شهر ، عن عبدِ الرحمان بن غَنْمٍ ، عن معاذ (6)
__________
(1) انظر : المراسيل لابن أبي حاتم ( 319 ) .
(2) في " مسنده " 5/248 .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 21515 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 200 ) .
(3) في " العلل " 6/79 س ( 988 ) .
(4) انظر : الكنى للبخاري ( 201 ) .
(5) انظر : الجرح والتعديل 4/347 ( 1668 ) ، وتهذيب الكمال 3/411 ( 2767 ) .
(6) في " مسنده " 5/235 و236 و245 .
وأخرجه : ابن المبارك في " الجهاد " ( 31 ) ، والبزار ( 2669 ) و( 2670 ) ، والطبراني في
" الكبير " 5/( 115 ) و( 116 ) و( 140 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 222 ) .
، وخرَّجه الإمام أحمد أيضاً من رواية عُروة بن النزَّال ، أو النزال ابن عروة ، وميمون بن أبي شبيب (1) ، كلاهما عن معاذ ، ولم يسمع عروةُ ولا ميمونُ من معاذ ، وله طرقٌ أخرى عن معاذ كلُّها ضعيفة (2) .
وقوله : ( أخبرني بعملٍ يُدخلني الجنَّةَ ، ويُباعدني من النَّار ) قد تقدَّم في شرح الحديث الثاني والعشرين من وجوه ثابتة من حديث أبي هريرة وأبي أيوب وغيرهما : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن مثل هذه المسألة ، وأجاب بنحو ما أجاب به في حديث معاذ .
__________
(1) في " مسنده " 5/237 .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 30314 ) ، وابن أبي عاصم في " الجهاد " ( 16 ) وفي " الزهد " ، له ( 7 ) ، والنسائي 4/166 ، والطبري في " تفسيره " ( 21515 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 304 ) و( 305 ) ، والحاكم 2/76 و412 .
(2) أخرجه : أحمد 5/234 ، والبزار ( 2651 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 1492 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/154 عن عطية بن قيس بلفظ : ( الجهاد عمود الإسلام ، وذروة سنامه ) .
وفيه بكير بن عبد الله بن أبي مريم ( أبو بكر ) ، سئل عنه أحمد بن حنبل فقال : ( ضعيف كان عيسى لا يرضاه ) ، وسئل عنه يحيى بن معين فضعفه ، وقال أبو زرعة الرازي : ( ضعيف ، منكر الحديث ) . انظر : الجرح والتعديل 2/327 – 328 ، وتهذيب الكمال 2/252
( 7836 ) .
وفي رواية الإمام أحمد في حديث معاذ أنَّه قال : يا رسول الله ، إنِّي أريدُ أنْ أسألَكَ عن كلمةٍ(1) قد أمرضَتنِي وأسقمتني وأحزنتني ، قال : ( سل عمَّا شئتَ ) ، قال : أخبرني بعملٍ يدخلُنِي الجنَّة لا أسألكَ غيرَه ، وهذا يدلُّ على شدَّةِ اهتمامِ معاذٍ - رضي الله عنه - بالأعمال الصَّالحة ، وفيه دليلٌ على أنَّ الأعمالَ سببٌ لدخول الجنَّة ، كما قال تعالى : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (2) .
وأما قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( لَنْ يدخُلَ أحدٌ منكُمُ الجنَّة بِعمَلِه ) (3) فالمراد - والله أعلم - أنَّ العملَ بنفسه لا يستحقُّ به أحدٌ الجنَّة لولا أنَّ الله جعله - بفضله ورحمته - سبباً لذلك ، والعملُ نفسُه من رحمة الله وفضله على عبده ، فالجنَّةُ وأسبابُها كلٌّ من فضل الله ورحمته .
__________
(1) في ( ص ) : ( مسألة ) .
(2) الزخرف : 72 .
(3) أخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 1445 ) ، والطيالسي ( 2322 ) ، وابن الجعد ( 2772 ) ، وأحمد 2/235 و326 و390 و451 و473 و509 و514 و524 ، والبخاري 8/128 ( 6463 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 461 ) ، ومسلم 8/138
( 2816 ) ( 71 ) ، وابن ماجه ( 4201 ) ، وأبو يعلى ( 1243 ) ، وابن حبان ( 348 ) و( 660 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 8004 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب "
( 626 ) ، والبيهقي 3/18 وفي " الشعب " ، له ( 766 ) و( 10149 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
وقوله : ( لقد سألتَ عن عظيم ) قد سبق في شرح الحديث المشار إليه أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لِرجل سأله عن مثل هذا : ( لئن كُنتَ أوجزت المسألة ، لقد أعظمتَ
وأطولتَ ) (1) ، وذلك لأنَّ دخولَ الجنَّة والنَّجاةَ من النار أمرٌ عظيم جداً ، ولأجله أنزل الله الكتب ، وأرسلَ الرُّسلَ ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لرجلٍ : ( كيف تقولُ إذا
صلَّيتَ ؟ ) قال : أسألُ الله الجنَّة ، وأعوذُ به من النار ، ولا أُحسِنُ دندنَتَك (2) ولا دندَنَة مُعاذ ، يشير إلى كثرة دعائهما واجتهادهما في المسألة ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - :
( حَوْلَها نُدَندِن ) . وفي روايةٍ : ( هل تصير دندنتي ودندنةُ مُعاذٍ إلا أنْ نسأل الله
الجنَّةَ ، ونعوذ به من النار ) (3) .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7284 ) ، وقد تقدم .
(2) الدندنة الكلام الذي لا يفهم . انظر : مختصر المختصر لابن خزيمة عقيب حديث ( 725 ) .
(3) أخرجه : أحمد 5/74 ، وابن ماجه ( 910 ) و( 3847 ) ، وابن خزيمة ( 725 ) ، وابن حبان ( 868 )، والبيهقي في "الصغرى" ( 467 ) عن أبي هريرة ، به ، وهو حديث صحيح .
وقد أبهم اسم الصحابي في " مسند الإمام أحمد " فقال : ( عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .
وقوله : ( وإنَّه ليسيرٌ على من يسَّره الله عليه ) إشارةٌ إلى أنَّ التَّوفيقَ كُلَّه بيد الله - عز وجل - ، فمن يسَّرَ الله عليه الهدى اهتدى ، ومن لم يُيسره عليه، لم يتيسَّر له ذلك ، قالَ الله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -
: ( اعملوا فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ لهُ ، أمَّا أهل السَّعادة ، فيُيسَّرون لعمل أهل السَّعادة ، وأمَّا أهل الشَّقاوة ، فيُيَسَّرون لعمل أهل الشقاوة ) ، ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية (2) . وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في دعائه: ( واهدني ويسِّر الهُدى لي ) (3) ، وأخبر الله عن نبيه موسى - عليه السلام - أنَّه قال في دعائه: { رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي } (4)، وكان ابنُ عمر يدعو : اللهمَّ يسرني لليُسرى
__________
(1) الليل : 5 – 10 .
(2) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20074 ) ، والطيالسي ( 151 ) ، وأحمد 1/129 ، وعبد ابن حميد ( 84 ) ، والبخاري 2/120 ( 1362 ) و6/212 ( 4947 ) و( 4948 )
و( 4949 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 903 ) ، ومسلم 8/45 ( 2647 ) ( 6 ) ، وأبو داود ( 4694 ) ، وأبو يعلى ( 582 ) ، والبغوي ( 72 ) عن علي بن أبي طالب ، به .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29390 ) ، وأحمد 1/227 ، وعبد بن حميد ( 717 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 665 ) ، وأبو داود ( 1510 ) و( 1511 ) ، والترمذي
( 3551 ) ، وابن ماجه ( 3830 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 607 ) ، وابن حبان ( 947 ) و( 948 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 1411 ) و( 1412 ) ، والحاكم 1/519 - 520 ، والبغوي ( 1375 ) ، وقال الترمذي : ( حسنٌ صحيح ) .
(4) طه : 25 - 26 .
، وجنِبني العُسرى (1) .
وقد سبق في شرح الحديث المشار إليه توجيهُ ترتيب دخول الجنَّة على الإتيان بأركان الإسلام الخمسة ، وهي : التَّوحيدُ ، والصَّلاةُ ، والزَّكاةُ ، والصِّيام ، والحجُّ .
وقوله : ( ألا أدلُّكَ على أبوابِ الخيرِ ) لمَّا رتَّبَ دخولَ الجنَّة على واجبات الإسلام ، دلَّه بعد ذلك على أبواب الخيرِ مِنَ النَّوافِل ، فإنَّ أفضلَ أولياءِ الله هُمُ المقرَّبون ، الذين يتقرَّبون إليه بالنَّوافل بعدَ أداءِ الفرائض .
وقوله : ( الصومُ جنَّة ) هذا الكلام ثابتٌ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجُوهٍ كثيرةٍ ، وخرَّجاه في " الصحيحين " (2) من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وخرَّجه الإمام أحمد (3) بزيادة ، وهي : ( الصِّيام جنَّةٌ وحِصْنٌ حصينٌ مِنَ النَّار ) .
وخرّج من حديث عثمان بن أبي العاص ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الصوم جنَّةٌ مِنَ النَّارِ(4) ، كجُنَّة أحدكم من القِتال ) (5) .
ومن حديث جابر ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( قال ربُّنا - عز وجل - : الصِّيام جنَّةٌ يستجِنُّ بها العبدُ من النَّار ) (6) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 29861 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/308 .
(2) صحيح البخاري 3/31 ( 1894 ) ، وصحيح مسلم 3/156 ( 1151 ) ( 162 ) .
وأخرجه : مالك في " الموطأ " ( 860 ) برواية الليثي ، وأحمد 2/465 ، وأبو داود
( 2363 ) ، والنسائي ( 3252 ) و( 3253 ) ، وابن حبان ( 3427 ) .
(3) في " مسنده " 2/402 .
وأخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 3571 ) .
(4) عبارة : ( من النار ) سقطت من ( ص ) .
(5) في " مسنده " 4/21 و22 و217 ، وإسناده حسن من أجل محمد بن إسحاق ، والحديث في " مختصر المختصر " ( 1891 ) وراجع تخريجه هناك .
(6) أخرجه : أحمد 3/341 و396 ، وإسناده ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة .
وخرَّج أحمد (1) والنَّسائي (2) من حديث أبي عُبيدة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( الصِّيام جنَّة ما لم يَخْرِقْها ) ، وقوله : ( ما لم يخرقها ) ، يعني : بالكلام السيء ونحوه ، ولهذا في حديث أبي هريرة المخرج في " الصحيحين " (3) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
: ( الصيام جنَّة ، فإذا كان يومُ صومِ أحدكم ، فلا يرفث ، ولا يجهل ، فإن امرؤٌ سابَّه فليقل : إني امرؤ صائم ) .
وقال بعضُ السَّلف : الغيبةُ تخرقُ الصِّيامَ ، والاستغفارُ يرقَعُهُ ، فمن استطاع منكم أنْ لا يأتي بصوم مخرَّقٍ فليفعل (4) .
وقال ابنُ المنكدر : الصائمُ إذا اغتاب خرق ، وإذا استغفر رقع .
وخرَّج الطبراني (5) بإسنادٍ فيه نظرٌ عن أبي هريرة مرفوعاً : ( الصِّيامُ جُنَّةٌ ما لم يخرقها ) ، قيل : بم يخرقه ؟ قال : ( بكذبٍ أو غيبةٍ (6) ) .
__________
(1) في " مسنده " 1/195 و196 ، وإسناده لا بأس به .
(2) في " المجتبى " 4/167 و168 .
(3) سبق تخريجه .
(4) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 3644 ) عن أبي هريرة .
(5) في " الأوسط " ( 4536 ) و( 7814 ) .
وأخرجه : ابن عدي في " الكامل " 4/32 .
وفيه الربيع بن بدر ، قال عنه يحيى بن معين : ( بصريٌّ ضعيف ليس بشيء ) ، وقال البخاري : ( يقال له : عليلة بن بدر السعدي التميمي بصري ) ، وقال أبو داود : ( ضعيف ) ، وقال أبو حاتم : ( لا يشتغل به ولا بروايته ، فإنَّه ضعيف الحديث ذاهب الحديث ) .
انظر : الكامل 4/29 ، وتهذيب الكمال 2/457 ( 1839 ) .
وهو كذلك من رواية الحسن عن أبي هريرة ، وقد قال أبو حاتم الرازي ، والذهبي بعدم سماع الحسن من أبي هريرة . انظر على سبيل المثال : المراسيل لابن أبي حاتم ( 102 ) و( 103 )
و( 104 )… إلخ ، وسير أعلام النبلاء 4/566 .
(6) من قوله : ( قيل بم يخرقه … ) إلى سقط من ( ص ) .
فالجُنَّة : هي ما يستجنُّ بها العبد ، كالمجنِّ الذي يقيه عندَ القتالِ من الضَّرب ، فكذلك الصيام يقي صاحبه منَ المعاصي في الدُّنيا ، كما قال - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1) ،
فإذا كان له جُنَّةٌ من المعاصي ، كان له في الآخرة جُنَّةٌ من النار ، وإنْ لم يكن له جُنَّةٌ في الدنيا من المعاصي ، لم يكن له جُنَّةٌ في الآخرة من النار .
وخرَّج ابنُ مردويه من حديث عليٍّ مرفوعاً ، قال : ( بعث الله يحيى بن زكريا إلى بني إسرائيل بخمس كلماتٍ ) ، فذكر الحديثَ بطوله ، وفيه : ( وإنَّ الله يأمُركُم أنْ تصُوموا ، ومَثَلُ ذلك كمثل رجلٍ مشى إلى عدوِّه ، وقد أخذَ للقتال جُنَّةً ، فلا يخافُ من حيث ما أُتي ) (2) . وخرَّجه من وجهٍ آخر عن عليٍّ موقوفاً ، وفيه قال : ( والصيامُ مَثَلُه كمثل رجلٍ انتصره النَّاسُ ، فاستحدَّ في السِّلاح ، حتَّى ظنَّ أنَّه لن يصل إليه سلاحُ العدوِّ ، فكذلك الصيامُ جنَّة ) (3) .
وقوله : ( والصدقةُ تُطفئُ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النارَ ) هذا الكلامُ رُويَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن وجوهٍ أُخر ، فخرَّجه الإمامُ أحمد والترمذي من حديث كعب بن عُجرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الصَّومُ جُنَّةٌ حصينةٌ ، والصَّدقةُ تُطفئ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماء النار ) (4) .
وخرَّجه الطبراني وغيره من حديث أنس مرفوعاً ، بمعناه (5) .
__________
(1) البقرة : 183 .
(2) أخرجه : البزار ( 695 ) بدون لفظة : ( وإن الله يأمركم أن تصوموا … ) وقال عقبه
: ( ولم أرى الخامسة في كتابي ) ، وإسناد الحديث ضعيف .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 5141 ) .
(4) تقدم تخريجه .
(5) تقدم تخريجه .
وخرّجه الترمذي (1) وابنُ حبان في " صحيحه " (2) من حديث أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ صدقة السِّرِّ لتطفئُ غضبَ الربِّ ، وتدفع مِيتةَ السُّوء ) .
ورُوي عن عليِّ بنِ الحسين : أنَّه كان يحملُ الخبزَ على ظهرهِ باللَّيل يتَّبِعُ
به المساكين في ظُلمة الليل ، ويقول : إنَّ الصَّدقة في ظلامِ(3) اللَّيلِ تُطفئُ
غضبَ الرَّبِّ - عز وجل - (4) . وقد قال الله - عز وجل - : { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ
وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئَاتِكُمْ } (5) ، فدلَّ على أنَّ الصدقة يُكفَّر بها من السيئات : إما مطلقاً ، أو صدقة السر .
وقوله : ( وصلاةُ الرَّجُلِ في جوف الليل ) ، يعني : أنَّها تُطفئ الخطيئة أيضاً كالصَّدقة ، ويدلُّ على ذلك ما خرَّجه الإمام أحمد من رواية عُروة بن النَّزَّال ، عن معاذ قال : أقبلنا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك، فذكر الحديثَ ، وفيه : ( الصَّومُ جنَّةٌ، والصَّدقةُ وقيامُ العبد في جوف الليل يُكفر الخطيئة ) (6) .
وفي " صحيح مسلم " (7) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أفضلُ الصَّلاةِ بعدَ المكتوبة قيامُ الليل ) .
وقد رُوي عن جماعةٍ من الصحابة : أنَّ الناس يحترقون بالنهار بالذنوب ، وكلَّما قاموا إلى صلاةٍ من الصَّلوات المكتوبات أطفؤوا ذنوبهم ، ورُوي ذلك مرفوعاً من وجوهٍ فيها نظرٌ .
__________
(1) في " جامعه " ( 664 ) ، وقال : ( حسن غريب ) على أنَّ في إسناده عبد الله بن عيسى الخزاز ضعيف .
(2) الإحسان ( 3309 ) .
(3) في ( ج ) : ( سواد ) .
(4) أخرجه : ابن أبي عاصم في " الزهد " : 16 ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/135 - 136 .
(5) البقرة : 271 .
(6) سبق تخريجه .
(7) الصحيح 3/169 ( 1163 ) ( 202 ) و( 203 ) .
فكذلك قيامُ الليل يُكفر الخطايا ؛ لأنَّه أفضلُ نوافل الصلاة ، وفي
" الترمذي " (1) من حديث بلال ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( عليكم بِقيام الليل ،
فإنَّه دأبُ الصالحين قَبلَكُم ، وإنَّ قيامَ الليل قربةٌ إلى الله - عز وجل - ، ومنهاةٌ عن
الإثم ، وتكفيرٌ للسيئات ، ومطردة للدَّاءِ عن الجسد ) . وخرَّجه أيضاً من حديث
أبي أُمامة (2) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بنحوه ، وقال : هو أصحُّ من حديث بلال .
وخرَّجه ابن خزيمة (3) والحاكم (4) في " صحيحيهما " من حديث أبي أمامة
أيضاً .
__________
(1) الجامع الكبير ( 3549 ) .
وأخرجه : المروزي في " قيام الليل " ( 18 ) ، والروياني في " مسند الصحابة " ( 745 ) ، والشاشي ( 978 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 3087 ) ، وهذا حديث ضعيف ،
قال الترمذي : ( غريب لا نعرفه من حديث بلال إلا من هذا الوجه ، ولا يصحّ
من قبل إسناده ؛ وسمعت محمد بن إسماعيل ، يقول : محمد القرشي هو : محمد بن
سعيد الشامي ، وهو : ابن قيس ، وهو : محمد بن حسّان ، وقد ترك
حديثه ) .
(2) الجامع الكبير ( 3549 م2 ) .
(3) مختصر المختصر ( 1135 ) ، وقلت في تعليقي هناك : ( هذا الحديث منكر من منكرات معاوية بن صالح ، وقد ساقه ابن عدي في كتابه " الكامل " ضمن منكراته ، وقد سبق إلى هذا الإعلال أبو حاتم الرازي فقد قال : ( وهو حديث منكر لم يروه غير معاوية بن صالح ، وأظنه من حديث محمد بن سعيد الشامي الأزدي ؛ فإنَّه يروي هذا الحديث بإسنادٍ آخر ) علل الحديث ( 346 ) ) .
(4) المستدرك 1/308 .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7466 ) وفي " الأوسط " ، له ( 3265 ) ، والبيهقي 2/502 ، والبغوي ( 922 ) .
وقال ابن مسعود : فضلُ صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية . وخرَّجه أبو نعيم عنه مرفوعاً (1) ، والموقوف (2) أصح .
وقد تقدَّم أنَّ صدقة السِّرِّ تُطفئُ الخطيئة ، وتُطفئ غضبَ الرَّبِّ ، فكذلك صلاةُ الليل .
وقوله : ( ثم تلا : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (3) ، يعني : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلا هاتين الآيتين عندَ ذكره فضلَ صلاة الليل ، ليبيِّنَ بذلك فضل صلاة الليل ، وقد رُويَ عن أنس أنَّ هذه الآية نزلت في انتظار صلاةِ العشاء ، خرَّجه الترمذي وصححه (4) . ورُوي عنه أنَّه قال في هذه الآية : كانوا يتنفلون بينَ المغرب والعشاء ، خرَّجه أبو داود (5) . وروي نحوه عن بلال ، خرّجه البزار بإسنادٍ ضعيف (6) .
__________
(1) في " حلية الأولياء " 4/167 و5/36 .
(2) في " حلية الأولياء " 4/167 و5/36 و7/238 .
وأخرجه: ابن أبي شيبة ( 6610 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 8998 ) و( 8999 ) موقوفاً .
(3) السجدة : 16 – 17 .
(4) في " جامعه " ( 3196 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 21505 ) .
(5) في " سننه " ( 1322 ) .
وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 21505 ) .
(6) في " مسنده " ( 1364 ) . وفيه عبد الله بن شبيب ، قال عنه الهيثمي : ( ضعيف ) . انظر : مجمع الزوائد 7/90 ، وكذا في السند علل أُخر .
وكلُّ هذا يدخل في عموم لفظ الآية ، فإنَّ الله مدح الذين تتجافى جنوبُهم عن المضاجع لدعائه ، فيشملُ ذلك كلَّ مَنْ ترك النَّومَ بالليل لذكر الله ودُعائه ، فيدخلُ فيه مَنْ صلَّى بين العشاءين ، ومن انتظرَ صلاة العشاءِ فلم ينم حتَّى يُصليها
لاسيما مع حاجته إلى النوم ، ومجاهدة نفسه على تركه لأداء الفريضة ، وقد
قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمنِ انتظرَ صلاةَ العشاء : ( إنَّكم لن تَزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم
الصَّلاة ) (1) .
ويدخلُ فيه مَنْ نامَ ثمَّ قام مِنْ نومه باللَّيل للتهجُّدِ ، وهو أفضلُ أنواع التطوُّع بالصَّلاة مطلقاً .
وربما دخل فيه من ترك النَّوم عندَ طُلوع الفجر ، وقام إلى أداء صلاةِ الصُّبح ، لاسيما مع غَلَبَةِ النَّوم عليه ، ولهذا يُشرع للمؤذِّن في أذان الفجر أنْ يقولَ في أذانه : الصَّلاة خَيرٌ مِن النوم .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 4074 ) ، وأحمد 3/182 و189 و200 و267 ، وعبد بن
حميد ( 1292 ) ، والبخاري 1/150 ( 572 ) و1/168 ( 661 ) و1/214 ( 847 ) و7/201 ( 5869 ) ، ومسلم 2/116 ( 640 ) ( 222 ) ، وأبو يعلى ( 3313 ) ، وأبو عوانة 1/303 ، وابن حبان ( 1537 ) ، وأبو نعيم في " المسند المستخرج " ( 1423 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6370 ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وصلاةُ الرَّجُلِ من جوف الليل ) ذكر أفضلَ أوقات التهجُّد بالليل ، وهو جوفُ الليل ، وخرَّج الترمذي (1) والنَّسائي (2) من حديث أبي أمامة ، قال : قيل : يا رسول الله ، أيُّ الدُّعاء أسمع ؟ قالَ : ( جوفُ الليل الآخرِ ، ودُبُرُ الصَّلوات المكتوبات ) .
وخرَّجه ابن أبي الدنيا (3) ، ولفظه : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أيُّ
الصلاة أفضل ؟ قال : ( جوفُ الليل الأوسط ) ، قال : أيُّ الدُّعاء أسمع ؟ قال
: ( دُبر المكتوبات ) .
وخرَّج النَّسائي (4) من حديث أبي ذرٍّ قال : سألتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أي الليل خير ؟ قالَ : ( خير الليل جوفه ) . وخرَّج الإمام أحمد (5) من حديث أبي مسلم قال : قلت لأبي ذرٍّ : أيُّ قيام الليل أفضل ؟ قال : سألت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني ، فقال :
( جوفُ اللَّيل الغابر (6) ، أو نصف الليل ، وقليلٌ فاعله ) .
__________
(1) في " جامعه " ( 3499 ) ، وقال الترمذي : ( هذا حديث حسن ) على أنَّ إسناده قد أعل بالانقطاع فقد أعل سند الحديث ابن القطان فقال : ( اعلم أنَّ ما يرويه ابن سابط ، عن أبي أمامة ، هو منقطع لم يسمع منه ) بيان الوهم والإيهام 2/385 ( 387 ) .
(2) في " الكبرى " ( 9936 ) وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 108 ) .
(3) في " التهجد " ( 240 ) .
(4) في " الكبرى " ( 4216 ) .
وأخرجه : البخاري في " التاريخ الكبير " 2/36 ( 1635 ) ثم ساقه مرسلاً ، وظاهر صنيعه أنَّه أعله بالإرسال .
(5) في " مسنده " 5/179 .
وأخرجه : النسائي في " الكبرى " ( 1308 ) ، وابن حبان ( 2564 ) ، والبيهقي 3/4 ، وإسناده ضعيف المهاجر أبو خالد قال عنه أبو حاتم : ( لين الحديث ليس بذاك ، وليس
بالمتقن ، يكتب حديثه ) ؛ لكن للحديث شواهد تقويه .
(6) أي : الباقي .
وخرَّج البزار (1) ، والطبراني (2) من حديث ابنِ عمر ، قال : سُئلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أيُّ الليل أجوبُ دعوةً ؟ قالَ: ( جوف الليل ) ، زاد البزار في روايته : ( الآخر ) .
وخرَّج الترمذي (3) من حديثِ عمرو بن عبسة ، سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول
: ( أقربُ ما يكونُ الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر ، فإن استطعت أن تكونَ ممَّن يذكر الله في تلك الساعة فكن ) ، وصححه ، وخرَّجه الإمام أحمد (4) ، ولفظه قالَ : قلتُ : يا رسول الله ، أيُّ الساعات أفضلُ ؟ قال : ( جوفُ الليل الآخر ) وفي روايةٍ (5) له أيضاً : قال : ( جوف الليل الآخر أجوبُه دعوةً ) ، وفي روايةٍ (6)
__________
(1) كما في " كشف الأستار " ( 3151 ) .
(2) في " الأوسط " ( 3428 ) ، وفي " الصغير " ، له ( 347 ) .
(3) في " جامعه " ( 3579 ) . =
= ... وأخرجه : النسائي 1/279 وفي " الكبرى " ، له ( 1544 ) ، وابن خزيمة ( 1147 ) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1/37 و352 ، والحاكم 1/309 .
(4) في " مسنده " 4/112 و385 .
وأخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 4/164 – 165 ، وعبد بن حميد ( 300 ) .
(5) في " مسنده " 4/387 ، وإسناد هذه الرواية ضعيف ، وقد اضطرب راويها ففي بعضها
: ( أوجبه ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/154 .
(6) في " مسنده " 4/114 .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 297 )، والنسائي 1/279 و283 وفي "الكبرى" ، له ( 1544 ) و( 1560 ) ، وابن خزيمة ( 1147 ) ، وهو حديث صحيح .
له : قلتُ : يا رسول الله ، هل مِنْ ساعةٍ أقربُ إلى الله من أخرى ؟ قال : ( جوف الليل الآخر (1) ) . وخرَّجه ابن ماجه (2) ، وعنده : ( جوفُ اللَّيل الأوسط ) وفي روايةٍ للإمام أحمد (3) عن عمرو بن عبسة ، قال : قلتُ : يا رسول الله ، هل من ساعةٍ أفضلُ من ساعةٍ ؟ قال : ( إنَّ الله ليتدلَّى في جوف الليل ، فيغفر إلاَّ ما كان من الشرك ) .
وقد قيل : إنَّ جوف الليل إذا أطلق ، فالمرادُ به وسطُه ، وإنْ قيل : جوف الليل الآخر ، فالمرادُ وسط النِّصف الثاني ، وهو السدسُ الخامسُ من أسداس الليل ، وهو الوقتُ الذي ورد فيه النزول الإلهي .
__________
(1) من قوله : ( أجوبه دعوة … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) في " سننه " ( 1251 ) ، وإسناده ضعيف لضعف يزيد بن طلق وعبد الرحمان بن البيلماني .
(3) في " مسنده " 4/385 ، وإسناده ضعيف لانقطاعه بين سليم بن عامر وعمر بن عَبسة .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا أُخبرك برأسِ الأمر وعموده وذِروة سنامه ؟ ) قلتُ : بلى
يا رسول الله ، قال : ( رأسُ الأمر الإسلام ، وعمودُه الصلاةُ ، وذِروةُ سنامه
الجهادُ ) ، وفي روايةٍ للإمام أحمد من رواية شهر بن حوشب ، عن ابن غَنْمٍ ، عن معاذ قال : قال لي نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنْ شئتَ حدَّثتُك برأسِ هذا الأمرِ وقِوام هذا الأمرِ وذِروة السَّنام ) ، قلتُ : بلى ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ رأسَ هذا الأمر أنْ تشهدَ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ، وأنَّ محمَّداً عبده ورسولُه ، وإنَّ قِوام هذا الأمر إقام الصَّلاة ، وإيتاءُ الزكاة ، وإنَّ ذِروة السَّنام منه الجهادُ في سبيل الله ، إنَّما أُمِرْتُ أنْ أقاتِلَ النَّاسَ حتّى يُقيموا الصّلاة ، ويؤتوا الزَّكاة ، ويشهدوا أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقِّها ، وحسابُهم على الله - عز وجل - ) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( والذي نفسُ محمدٍ بيده ، ما شحب وجهٌ ، ولا اغبرَّت قدمٌ في عملٍ يُبتغى فيه درجات الجنَّة بعدَ الصلاة المفروضة كجهادٍ في سبيل الله ، ولا ثَقَّلَ ميزانَ عبدٍ كدابَّةٍ تنفق له في سبيل الله ، أو يُحمل عليها في سبيل الله - عز وجل - ) (1) .
فأخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاثة أشياء : رأس الأمر ، وعموده ، وذروة سنامه .
فأمَّا رأس الأمر ، ويعني بالأمر : الدين الذي بعث به وهو الإسلام ، وقد جاء تفسيرُه في الرواية الأخرى بالشهادتين ، فمن لم يقرَّ بهما ظاهراً وباطناً ، فليسَ من الإسلام في شيء .
__________
(1) سبق تخريجه .
وأمَّا قِوام الدين الذي يقومُ به الدِّين كما يقومُ الفسطاطُ على عموده ، فهو
الصلاة ، وفي الرواية الأخرى : ( وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) وقد سبق القولُ في أركان الإسلام وارتباط بعضها ببعض .
وأمَّا ذِروة سنامه - وهو أعلى ما فيه وأرفعه - فهو الجهاد ، وهذا يدلُّ على أنَّه أفضلُ الأعمال بعدَ الفرائض ، كما هو قولُ الإمام أحمد وغيره من العلماء .
وقوله في رواية الإمام أحمد : ( والذي نفس محمدٍ بيده ما شحب وجهٌ ولا اغبرَّت قدمٌ في عمل يُبتغى به درجات الجنَّة بعدَ الصَّلاة المفروضة كجهادٍ في سبيلِ الله - عز وجل - ) يدلُّ على ذلك صريحاً .
وفي " الصحيحين " (1) عن أبي ذرٍّ ، قال : قلتُ : يا رسولَ اللهِ ، أيُّ العمل أفضلُ ؟ قال : ( إيمانٌ بالله وجهادٌ في سبيله ) .
وفيهما (2) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أفضلُ الأعمال إيمانٌ بالله ، ثمَّ جهاد في سبيل الله ) .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ جداً .
وقوله : ( ألا أُخبرك بملاك ذلك كُلِّه ) قلتُ : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه فقال : ( كُفَّ عليك هذا ) إلى آخر الحديث . هذا يدلُّ على أنَّ كفَّ اللسان وضبطه وحبسه هو أصلُ الخير كُلِّه ، وأنَّ من ملك لسانه ، فقد ملك أمره وأحكمه(3) وضبطه ، وقد سبق الكلامُ على هذا المعنى في شرح حديث : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيراً ، أو ليصمت ) (4) . وفي شرح حديث : ( قل : آمنتُ باللهِ ، ثم استقم ) (5) . وخرَّج البزار في " مسنده " (6)
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) أخرجه : البخاري 2/164 ( 1519 ) ، ومسلم 1/61 ( 83 ) ( 135 ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) الحديث الخامس عشر .
(5) الحديث الحادي والعشرون .
(6) البحر الزخار ( 2302 ) .
وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/300 .
من حديث أبي اليَسَر(1) أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله ، دلَّني على عملٍ يُدخلني الجنَّة ، قال
: ( أمسك هذا ) ، وأشار إلى لسانه ، فأعادها عليه ، فقال : ( ثكلتك أمُّك ،
هل يَكُبُّ النَّاسَ على مناخرهم في النَّار إلاَّ حصائدُ ألسنتهم ) وقال : إسناده
حسن .
والمرادُ بحصائد الألسنة : جزاءُ الكلام المحرَّم وعقوباته ؛ فإنَّ الإنسانَ يزرع بقوله وعمله(2) الحسنات والسَّيِّئات ، ثم يَحصُدُ يومَ القيامة ما زرع ، فمن زرع خيراً من قولٍ أو عملٍ حَصَد الكرامةَ ، ومن زرع شرَّاً مِنْ قولٍ أو عملٍ حصد غداً النَّدامة .
وظاهرُ حديثِ معاذ يدلُّ على أنَّ أكثر ما يدخل النَّاسُ به النار النُّطقُ بألسنتهم، فإنَّ معصية النُّطق يدخل فيها الشِّركُ وهو أعظمُ الذنوب عندَ الله - عز وجل - (3)، ويدخل فيها القولُ على الله بغير علم ، وهو قرينُ الشِّركِ ، ويدخلُ فيه شهادةُ الزُّور التي عدَلت الإشراك بالله - عز وجل - ، ويدخلُ فيها السِّحر والقذفُ وغيرُ ذلك مِنَ الكبائر والصَّغائر كالكذب والغيبةِ والنَّميمة ، وسائرُ المعاصي الفعلية لا يخلو غالباً من قول يقترن بها يكون معيناً عليها .
وفي حديث أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أكثرُ ما يُدخِلُ النَّاسَ النارَ الأجوفان : الفمُ والفرجُ ) خرَّجه الإمام أحمد (4) والترمذي (5) .
وفي " الصحيحين " (6)
__________
(1) أبو اليَسَر ، بفتح التحتانية والمهملة : كعب بن عمرو بن عباد السَّلمي ، بالفتح ، صحابي بدريٌّ جليل . التقريب ( 5646 ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) عبارة : ( عند الله - عز وجل - ) لم ترد في ( ص ) .
(4) في " مسنده " 2/291 و392 و442 .
(5) في " جامعه " ( 2004 ) ، وقال الترمذي : ( صحيح غريب ) .
(6) أخرجه : البخاري 8/125 ( 6477 ) ، ومسلم 8/222 – 223 ( 2988 ) ( 50 ) .
وأخرجه : ابن حبان ( 5707 ) و( 5708 ) ، والبيهقي 8/164 وفي " شعب الإيمان "، له
( 4956 ) .
عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الرجلَ ليتكلَّمُ بالكلمة ما يتبيَّنُ ما فيها ، يَزِلُّ بها في النَّار أبعدَ ما بينَ المشرق والمغرب ) وخرَّجه الترمذي (1) ، ولفظه : ( إنَّ الرجلَ ليتكلَّم بالكلمة لا يرى بها بأساً ، يهوي بها سبعين خريفاً في النار ) .
وروى مالك (2) ، عن زيد بنِ أسلم ، عن أبيه : أنَّ عمرَ دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه ، فقال عمر(3) : مه ، غفر الله لك ! فقال أبو بكرٍ : هذا أوردني الموارد .
وقال ابنُ بريدة : رأيتُ ابنَ عبَّاسٍ آخذاً بلسانه وهو يقول : ويحك ، قُلْ خيراً تغنم، أو اسكت عن سُوءٍ تسلم، وإلا فاعلم أنَّك ستندم، قال: فقيل له: يا ابن عبَّاس، لم تقولُ هذا ؟ قال: إنّه بلغني أنَّ الإنسان -أراه قال- ليس على شيءٍ من جسده أشدُّ حنقاً أو غيظاً يَوْمَ القيامةِ منه على لسانه إلا من قال به خيراً، أو أملى به خيراً (4) .
وكان ابن مسعود يحلِفُ بالله الذي لا إله إلا هو : ما على الأرض شيءٌ
أحوج إلى طولِ سجنٍ من لسان (5) .
وقال الحسن : اللسان أميرُ البدن ، فإذا جنى على الأعضاء شيئاً جنت ، وإذا عفَّ عفت (6) .
__________
(1) في " جامعه " ( 2314 ) ، وقال : ( حسن غريب ) على أنَّ الحديث صحيح .
وأخرجه : أحمد 2/236 و297 و355 ، وابن ماجه ( 3970 ) ، وابن أبي عاصم : 15 و394 ، وأبو يعلى ( 6235 ) ، والحاكم 4/597 .
(2) في " الموطأ " ( 2825 ) برواية الليثي .
(3) لم ترد في ( ص ) .
(4) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 1047 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/327 – 328 .
(5) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 26499 ) ، وهناد بن السري في " الزهد " ( 1095 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/134 .
(6) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 59 ) .
وقال يونس بنُ عبيد : ما رأيتُ أحداً لسانه منه على بالٍ إلا رأيتُ ذلك صلاحاً في سائر عمله (1) .
وقال يحيى بن أبي كثير : ما صلح منطقُ رجل إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله ، ولا فسد منطقُ رجل قطُّ إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله (2) .
وقال المبارك بن فضالة ، عن يونس بن عبيد : لا تجدُ شيئاً مِنَ البرِّ واحداً يتَّبعه البِرُّ كلّه غيرَ اللسان ، فإنَّك تَجِدُ الرجل يصومُ النهار ، ويُفطر على حرام ، ويقومُ الليل ويشهد بالزور بالنهار - وذكرَ أشياءَ نحو هذا - ولكن لا تجده لا يتكلَّم إلا بحقٍّ فَيُخالف ذلك عمله أبداً (3) .
__________
(1) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 112 ) ( ط دار الكتب العلمية ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/68 .
(3) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 113 ) ( ط دار الكتب العلمية ) .
الحديث الثلاثون
عَنْ أَبي ثَعلَبَةَ الخُشَنيِّ - رضي الله عنه - ، عَن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : ( إنَّ الله فَرَضَ فرائِضَ ، فَلا تُضَيِّعُوها ، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدوها ، وحَرَّمَ أَشْياءَ ، فلا تَنتهكوها ، وسَكَتَ عنْ أشياءَ رَحْمةً لكُم غَيْرَ نِسيانٍ ، فلا تَبحَثوا عَنْها ) . حديثٌ حسنٌ ، رواه الدَّارقطنيُّ (1) وغيرُهُ .
هذا الحديثُ من رواية مكحول ، عن أبي ثعلبة الخشني ، وله علتان :
إحداهما : أنَّ مكحولاً لم يصحّ له السماع من أبي ثعلبة ، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نُعيم الحافظ وغيرهما .
والثانية : أنَّه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة ، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله ، لكن قال الدارقطني (2) : الأشبه بالصَّواب المرفوعُ ، قال : وهو أشهرُ .
وقد حسَّن الشيخُ رحمه الله هذا الحديث ، وكذلك حسّنه قبلَه الحافظ أبو بكر ابن السمعاني في " أماليه " .
__________
(1) في " سننه " 4/184 ( 4350 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " 22/( 589 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 3492 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 9/17 ، والبيهقي 10/12 – 13 ، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " 2/9 من حديث أبي ثعلبة الخشني ، به .
وأخرجه : البيهقي 10/12 عن أبي ثعلبة موقوفاً .
(2) في " العلل " 6/324 ( 1170 ) .
وقد رُويَ معنى هذا الحديث مرفوعاً من وجوه أُخر ، خرَّجه البزار في
" مسنده " (1) والحاكم (2) من حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما أحلَّ الله في كتابه فهو حلالٌ ، وما حرَّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا منَ الله عافيتَهُ ، فإنَّ الله لم يكن لينسى شيئاً ) ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } (3) ، وقال الحاكم (4) : صحيح الإسناد ، وقال البزار (5) : إسناده
صالح .
وخرَّجه الطبراني (6) والدارقطني (7) من وجه آخر ، عن أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث(8) أبي ثعلبة ، وقال في آخره : ( رحمة من الله ، فاقبلوها ) ، ولكن إسناده ضعيف .
وخرَّج الترمذي (9) ، وابن ماجه (10) من رواية سيف بن هارون ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ السَّمن والجُبن والفراء ، فقال : ( الحلالُ ما أحلَّ الله في كتابه ، والحرامُ ما حرَّمَ الله في كتابه ، وما سكت عنه ، فهو مما عفا عنه ) .
__________
(1) كما في " كشف الأستار " ( 123 ) من حديث أبي الدرداء ، به .
(2) في " المستدرك " 2/375 ، وأخرجه : البيهقي 10/12 .
(3) مريم : 64 .
(4) في " المستدرك " 2/375 .
(5) كما في " كشف الأستار " عقيب الحديث ( 123 ) .
(6) في "الأوسط" ( 7461 ) وفي "الصغير"، له ( 1083 ) وإسناده ضعيف جداً ؛ لشدة ضعف أصرم بن حوشب ، وهذا الحديث عدّه ابن عدي في "الكامل" 2/297 من أباطيل أصرم هذا .
(7) في " سننه " 4/297 – 298 ( 4768 ) ، وإسناده ضعيف جداً لشدة ضعف نهشل الخراساني .
(8) سقطت من ( ص ) .
(9) في " جامعه " ( 1726 ) ، والحديث معلول بالوقف .
(10) في " سننه " ( 3367 ) من حديث سلمان الفارسي ، به .
وقال الترمذي (1) : رواه سفيان - يعني : ابن عيينة - عن سليمان ، عن أبي
عثمان ، عن سلمان من قوله ، قال : وكأنَّه أصحُّ . وذكر في كتاب " العلل " (2) عن البخاري : أنَّه قال في الحديث المرفوع : ما أراه محفوظاً ، وقال أحمد : هو
منكر ، وأنكره ابنُ معين أيضاً ، وقال أبو حاتم الرازي (3) : هو خطأ ، رواه الثقات عن التيمي ، عن أبي عثمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ، ليس فيه سلمان .
قلت : وقد روي عن سلمان من قوله من وجوه أخر .
وخرَّجه ابن عدي (4) من حديث ابن عمر مرفوعاً وضعَّف إسناده .
ورواه أبو صالح المري ، عن الجُريري ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عائشة
مرفوعاً ، وأخطأ في إسناده .
وروي عن الحسن مرسلاً (5) .
وخرَّج أبو داود (6) من حديث ابن عباس قال : كان أهلُ الجاهلية يأكلون أشياء ، ويتركون أشياء تقذراً ، فبعث الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وأنزل كتابه ، وأحلَّ
حلاله ، وحرَّم حرامه ، فما أحلَّ فهو حلال ، وما حرَّم فهو حرام ، وما سكت
عنه فهو عفو ، وتلا : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } (7) ، وهذا
موقوف .
وقال عُبيد بن عمير : إنَّ الله - عز وجل - أحلَّ حلالاً وحرَّم حراماً ، وما أحلَّ فهو
حلال ، وما حرَّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفوٌ (8) .
__________
(1) في " جامعه " عقيب الحديث ( 1726 ) .
(2) عقيب الحديث ( 303 ) .
(3) في " العلل " 2/228 عقيب الحديث ( 1503 ) .
(4) في " الكامل " 8/250 .
(5) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء " 2/174 .
(6) في " سننه " ( 3800 ) .
وأخرجه : ابن أبي حاتم في " تفسيره " 5/1404 – 1405 ( 8000 ) ، والحاكم 4/115 عن عبد الله بن عباس موقوفاً .
(7) الأنعام : 145 .
(8) انظر : التمهيد لابن عبد البر 21/291 .
فحديث أبي ثعلبة قسَّم فيه أحكام الله أربعةَ أقسام : فرائض ، ومحارم ، وحدود ، ومسكوت عنه ، وذلك يجمع أحكامَ الدين كلَّها .
قال أبو بكر بن السَّمعاني : هذا الحديثُ أصلٌ كبيرٌ من أصولِ الدِّين ، قال : وحُكي عن بعضهم أنّه قال : ليس في أحاديث رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ واحدٌ أجمع بانفراده لأصولِ العلم وفروعه من حديث أبي ثعلبة، قال: وحُكي عن أبي واثلة المزني أنَّه قال : جَمَعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الدِّين في أربعِ كلماتٍ ، ثم ذكر حديثَ أبي ثعلبة .
قال ابنُ السَّمعاني : فمن عمِلَ بهذا الحديث ، فقد حاز الثَّواب ، وأمِنَ
العقابَ ؛ لأنَّ من أدَّى الفرائضَ ، واجتنب المحارم ، ووقف عندَ الحدودِ ، وترك البحث عمَّا غاب عنه ، فقد استوفى أقسامَ الفضل ، وأوفى حقوق الدِّين ؛ لأنَّ الشرائع لا تخرُج عَنْ هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث . انتهى .
فأما الفرائض ، فما فرضه الله على عباده وألزمهم القيام به ، كالصلاة والزكاة والصيام والحجِّ .
وقد اختلفَ العلماء : هل الواجبُ والفرضُ بمعنى واحد أم لا ؟ فمنهم من
قال : هما سواء ، وكلُّ واجب بدليلٍ شرعي من كتابٍ ، أو سنةٍ ، أو إجماعٍ ، أو غير ذلك من أدلة الشرع ، فهو فرضٌ ، وهو المشهور عن أصحاب الشَّافعي
وغيرهم (1) ، وحُكي رواية عن أحمد ؛ لأنَّه قال : كلُّ ما في الصلاة فهو فرضٌ .
__________
(1) انظر : اللمع : 65 ، والمستصفى 1/66 ، وروضة الناظر 1/103 ، والإحكام -للآمدي 1/99 ، وتحفة المسؤول 2/23 ، وشرح الكوكب المنير 1/351 – 352 .
ومنهم من قال : بل الفرضُ ما ثبتَ بدليلٍ مقطوعٍ به (1) ، والواجبُ ما ثبت بغير مقطوع به ، وهو قولُ الحنفيَّةِ وغيرهم (2) .
وأكثرُ النُّصوص عن أحمد تُفرِّق بين الفرض والواجب (3) ، فنقل جماعةٌ
مِنْ أصحابه عنه أنَّه قال : لا يُسمَّى فرضاً إلا ما كان في كتاب الله تعالى ، وقال
في صدقة الفطر : ما أجترئ أنْ أقول : إنَّها فرضٌ (4) ، مع أنَّه يقول بوجوبها ،
فمِنْ أصحابنا مَنْ قال : مراده أنَّ الفرض : ما ثبت بالكتاب ، والواجب : ما
ثبت بالسنَّة ، ومنهم من قال : أراد أنَّ الفرض : ما ثبت بالاستفاضة والنَّقل
المتواتر ، والواجب : ما ثبت مِنْ جهة الاجتهاد ، وساغ الخلافُ في
وجوبه (5) .
ويُشْكِلُ على هذا أنَّ أحمد قال في رواية الميموني في برِّ الوالدين : ليس بفرضٍ ، ولكن أقولُ : واجبٌ ما لم يكن معصية ، وبرُّ الوالدين مجمَعٌ على وجوبه ، وقد كثُرتِ الأوامرُ به في الكتاب والسُّنَّة ، فظاهرُ هذا أنَّه لا يقول : فرضاً إلاَّ ما ورد في الكتاب والسُّنة تسميته فرضاً .
__________
(1) انظر : اللمع : 65 ، والمستصفى 1/66 ، وميزان الأصول : 28 ، والمحصول 1/97 ، والإحكام – للآمدي 1/99 ، وتحفة المسؤول 2/24 ، والبحر المحيط 1/144 ، وإرشاد الفحول : 60 .
(2) انظر : اللمع : 65 ، والمستصفى 1/66 ، وميزان الأصول : 28 ، والإحكام – للآمدي 1/99 ، وتحفة المسؤول 2/23 - 24 ، والبحر المحيط 1/145 – 146 ، وإرشاد الفحول : 60 .
(3) انظر : شرح الكوكب المنير 1/352 .
(4) انظر : المغني 2/647 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 2/85 .
(5) انظر : اللمع : 65 .
وقد اختلفَ السَّلفُ في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر : هل يُسمَّى فريضةً أم لا (1) ؟ فقالَ جويبر ، عن الضحاك : هما مِنْ فرائض الله - عز وجل - ، وكذا رُوي عَنْ مالك .
وروى عبدُ الواحد بن زيد ، عن الحسن ، قال : ليس بفريضةٍ ، كان فريضةً على بني إسرائيل ، فرحم الله هذه الأمة لِضعفهم ، فجعله عليهم نافلة .
وكتب عبدُ الله بن شبرمة إلى عمرو بن عُبيد أبياتاً مشهورةً أولها :
الأَمْرُ بالمعروفِ يا عمرو نافِلَةٌ
والقَائِمونَ بهِ لله أنْصارُ
واختلف كلامُ أحمد فيه : هل يُسمَّى واجباً أم لا ؟ فروى عنه جماعةٌ ما يدلُّ على وجوبه ، وروى عنه أبو داود في الرجل يرى الطُّنبورَ ونحوَه : أواجبٌ عليه تغييره ؟ قال : ما أدري ما واجب إن غيَّر ، فهو فضل (2) .
وقال إسحاق بن راهويه : هو واجبٌ على كلِّ مسلمٍ ، إلاَّ أنْ يخشى على نفسه ، ولعلَّ أحمد يتوقَّفُ في إطلاقه الواجب على ما ليس بواجبٍ على الأعيان ، بل على الكفاية .
__________
(1) انظر : أحكام القرآن للجصاص 2/37 – 38 ، وأحكام القرآن لابن العربي 1/350 ، ومجموعة الفتاوى لابن تيمية 28/73 .
(2) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 3/140 .
وقد اختلف العلماءُ في الجهاد : هل هو واجبٌ أم لا ؟ فأنكر جماعةٌ منهم وجوبَه (1) ، منهم : عطاء (2) ، وعمرو بنُ دينار (3) ، وابنُ شبرمة (4) ، ولعلَّهم أرادوا هذا المعنى ، وقالت طائفة : هوَ واجبٌ ، منهم : سعيدُ بن المسيّب (5) ، ومكحولٌ ، ولعلَّهما أرادا وجوبَه على الكفاية .
وقال أحمد في رواية حَنْبل : الغزوُ واجبٌ على النَّاس كلِّهم كوجوبِ الحجِّ ، فإذا غزا بعضهم أجزأ عنهم ، ولابدَّ للناس من الغزو .
وسأله المروذي عن الجهاد : أفرضٌ هو ؟ قالَ : قد اختلفوا فيهِ ، وليس هوَ مثلَ الحجِّ ، ومرادُه : أنَّ الحجَّ لا يسقطُ عمَّن لم يحجَّ مع الاستطاعة بحجِّ غيره ، بخلاف الجهاد .
وسُئِلَ عن النَّفير : متى يجب ؟ فقال : أما إيجابٌ فلا أدري ، ولكن إذا خافوا على أنفسهم ، فعليهم أنْ يخرُجوا .
وظاهر هذا التوقُّف في إطلاق لفظ الواجب(6) على ما لم يأت فيه لفظُ الإيجاب تورُّعاً ، ولذلك توقَّف في إطلاق لفظ الحرام على ما اختُلِفَ فيه ، وتعارضت أدلتُه من نصوص الكتاب أو السنة ، فقال في متعة النساء : لا أقولُ : هي حرامٌ ، ولكن يُنهى عنه ، ولم يتوقَّف في معنى التحريم ، ولكن في إطلاق لفظه ؛ لاختلاف النصوص والصحابةِ فيها ، هذا هو الصحيح في تفسير كلام أحمد (7) .
__________
(1) انظر : الهداية للكلوذاني 1/256 بتحقيقي ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/483 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 2/559 .
(2) انظر : تفسير الطبري ( 3241 ) ، وأحكام القرآن لابن العربي 1/180 ، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/894 .
(3) انظر : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/893 – 894 .
(4) انظر : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/894 .
(5) انظر : تفسير الطبري ( 3244 ) ، والشرح الكبير على المغني 10/360 ، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/858 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/770 .
وقال في الجمع بين الأختين بملك اليمين : لا أقولُ : حرام ، ولكن يُنهى
عنه (1) ، والصَّحيح في تفسيره أنه توقَّف في إطلاق لفظة الحرام دون معناها ، وهذا كله على سبيل الورع في الكلام ؛ حذراً من الدُّخول تحت قوله تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ
الْكَذِبَ } (2) .
قال الربيعُ بن خثيم : ليتق أحدُكم أنْ يقولَ : أحلَّ الله كذا ، وحرَّم كذا ،
فيقولُ الله : كذبتَ ، لم أُحِلَّ كذا ولم أحرِّم كذا (3) .
وقال ابنُ وهب : سمعتُ مالك بنَ أنس يقول : أدركت علماءنا يقول أحدهم إذا سئل : أكره هذا ، ولا أحبُّه ، ولا يقول : حلال ولا حرام .
وأما ما حُكي عن أحمد أنَّه قال : كلُّ ما في الصلاة فهو فرض ، فليس كلامه كذلك وإنَّما نقل عنه ابنُه عبد الله أنَّه قال : كلُّ شيءٍ في الصلاة مما وكَّده الله ، فهو
فرض ، وهذا يعود إلى معنى قوله : إنَّه لا فرض إلاّ ما في القرآن والذي وكّده الله من أمر الصلاة القيامُ والقراءة والركوع والسجود ، وإنَّما قال أحمد هذا ؛ لأنَّ بعضَ النَّاس كان يقول : الصَّلاةُ فرضٌ ، و الرُّكوع والسجود(4) لا أقول : إنَّه فرضٌ ، ولكنه سنَّةٌ . وقد سُئِلَ مالك بنُ أنس عمن يقول ذلك ، فكفَّره ، فقيل له : إنَّه يتأوَّل ، فلعنه ، وقال : لقد قال قولاً عظيماً . وقد نقله أبو بكر النَّيسابوري في كتاب " مناقب مالك " من وجوه عنه(5) .
__________
(1) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 2/749 .
(2) النحل : 116 .
(3) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 8995 ) عن عبد الله بن مسعود ، نحوه .
(4) من قوله : ( وإنما قال أحمد … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) عبارة : ( من وجوه عنه ) سقطت من ( ص ) .
وروى أيضاً بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن ميمون بن الرماح ، قال : دخلتُ على مالكِ بن أنسٍ ، فقلت : يا أبا عبد الله ، ما في الصَّلاة من فريضةٍ وما فيها من سنةٍ ، أو قال : نافلة ؟ فقال مالك : كلامُ الزنادقة ، أخرِجوه (1) .
ونقل إسحاق بن منصور ، عن إسحاق بن راهويه : أنَّه أنكر تقسيمَ أجزاءِ الصَّلاة إلى سنَّةٍ وواجب ، فقال : كلُّ ما في الصَّلاة ، فهو واجبٌ ، وأشار إلى أنَّ منه ما تُعادُ الصَّلاةُ بتركه ، ومنه لا تعاد .
وسببُ هذا - والله أعلم - أنَّ التعبير بلفظ السُّنَّة قد يُفضي إلى التَّهاونِ بفعل
ذلك ، وإلى الزُّهد فيه وتركه ، وهذا خلافُ مقصودِ الشارع مِنَ الحثِّ عليه ، والتَّرغيب فيه بالطُّرق المؤدِّيةِ إلى فعله وتحصيله ، فإطلاقُ لفظ الواجب أَدْعى إلى الإتيان به ، والرغبة فيه .
وقد ورد إطلاقُ الواجب في كلام الشَّارع على ما لا يأثمُ بتركه ، ولا يُعاقب عليه عندَ الأكثرين (2) ، كغُسلِ الجمعة ، وكذلك ليلة الضَّيفِ عندَ كثيرٍ من العلماء أو أكثرهم ، وإنَّما المرادُ به المبالغةُ في الحثِّ على فعله وتأكيده .
وأمَّا المحارم : فهي التي حماها الله تعالى ، ومنع من قُربانها وارتكابها
وانتهاكها (3) .
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء 8/114 .
(2) انظر : المحصول في أصول الفقه 1/95 – 96 ، والبحر المحيط في أصول الفقه 1/140 – 141 .
(3) انظر : لسان العرب 3/138 ( حرم ) .
والمحرَّمات المقطوعُ بها مذكورة في الكتاب والسنة ، كقوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ } (1) إلى آخر الآيات الثلاثة ، وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } (2) .
وقد ذكر في بعض الآيات المحرَّمات المختصة بنوع من الأنواع كما ذكر المحرّمات من المطاعم في مواضع ، منها قولُه تعالى : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ } (3) ، وقوله : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } (4) وفي الآية الأخرى : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ
بِه } (5) ، وقوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ } (6) .
وذكر المحرَّمات في النكاح في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } (7).
__________
(1) الأنعام : 151 .
(2) الأعراف : 33 .
(3) الأنعام : 145 .
(4) البقرة : 173 .
(5) النحل : 115 .
(6) المائدة : 3 .
(7) النساء : 23 .
وذكر المحرَّمات من المكاسب في قوله : { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا } (1) .
وأما السُّنة ، ففيها ذكر كثيرٍ من المحرَّمات ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله حرَّم بَيْعَ الخمر والميتة والخنْزير والأصنام ) (2). وقوله: ( إنَّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه ) (3). وقوله : ( كلُّ مسكرٍ حرام ) (4) . وقوله : ( إنَّ دماءكم وأموالَكم وأعراضكم عليكم حرام ) (5) .
فما ورد التَّصريحُ بتحريمه في الكتاب والسنة ، فهو محرّم .
__________
(1) البقرة : 275 .
(2) أخرجه : أحمد 3/324 و326 ، والبخاري 3/110 ( 2236 ) و5/190 ( 4296 ) ، ومسلم 5/41 ( 1581 ) ( 71 ) ، وأبو داود ( 3486 ) و( 3487 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(3) أخرجه : أحمد 1/247 و293 و322 ، وأبو داود ( 3488 ) ، وابن حبان ( 4938 ) ، والطبراني في "الكبير" (12887) ، والبيهقي 6/13 – 14 من حديث عبد الله بن عباس، به ، وهو صحيح .
(4) أخرجه : الطيالسي ( 1916 ) ، وأحمد 2/16 و29 و31 و104 – 105 ، ومسلم 6/100 ( 2003 ) ( 73 ) و( 74 ) ، وأبو داود ( 3679 ) ، والترمذي ( 1864 ) ، والنسائي 8/297 و324 وفي " الكبرى " ، له ( 5097 ) و( 5210 ) من حديث عبد الله ابن عمر ، به .
والروايات مطولة ومختصرة .
(5) أخرجه : البخاري 2/215 ( 1739 ) من حديث عبد الله بن عباس ، به .
وقد يستفادُ التحريمُ من النَّهي مع الوعيد والتَّشديدِ ، كما في قوله - عز وجل - :
{ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } (1) .
وأما النهي المجرد ، فقد اختلفَ الناسُ : هل يُستفاد منه التَّحريمُ أم لا (2) ؟ وقد روي عن ابن عمر إنكارُ استفادة التحريم منه . قالَ ابنُ المبارك : أخبرنا سلاَّمُ بن أبي مطيع ، عن ابن أبي دخيلةَ ، عن أبيه ، قالَ : كنتُ عندَ ابن عمر ، فقالَ : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الزَّبيب والتَّمر ، يعني : أنْ يُخلطا ، فقال لي رجل من خلفي : ما قال ؟ فقلتُ: حرَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الزبيب والتمر ، فقال عبد الله بنُ عمر : كذبتَ ، فقلتُ : ألم تقل : نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ، فهو حرامٌ ؟ فقال : أنت تشهد بذاك ؟ قال سلاَّم : كأنه يقول : من نهي النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما هو أدب .
وقد ذكرنا فيما تقدم عن العلماء الورعين كأحمد ومالك توقِّي إطلاق لفظ الحرام على ما لم يتيقن تحريمُه ممَّا فيه نوعُ شبهةٍ أو اختلاف .
وقال النَّخعي : كانوا يكرهون أشياء لا يُحرمونها ، وقال ابنُ عون : قال لي مكحول : ما تقولون في الفاكهة تُلقى بين القَوم فينتهبونها ؟ قلتُ : إنَّ ذَلِكَ عندنا
لمكروهٌ ، قال : حرام هي ؟ قلت : إنَّ ذلك عندنا لمكروه ، قال : حرام هي(3) ؟ قال ابن عون : فاستجفينا ذلك مِنْ قول مكحول .
__________
(1) المائدة : 90 – 91 .
(2) انظر : التمهيد في أصول الفقه 1/362 – 363 .
(3) من قوله : ( قلت : إنَّ ذلك … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
وقال جعفر بن محمد : سمعت رجلاً يسأل القاسم بن محمد : الغناءُ أحرامٌ هو ؟ فسكت عنه القاسمُ ، ثم عاد ، فسكت عنه ، ثم عاد ، فقال له : إنَّ الحرام ما حُرِّم في القرآن ؟ أرأيت إذا أتي بالحقِّ والباطل إلى الله ، في أيهما يكونُ الغناء ؟ فقال الرجل : في الباطل ، فقال : فأنت ، فأفتِ نفسكَ .
قال عبد الله بن الإمام أحمد : سمعتُ أبي يقول : أما ما نهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فمنها أشياء حرامٌ ، مثل قوله : ( نهى أنْ تُنكحَ المرأةُ على عمَّتها ، أو على خالتها ) (1) ، فهذا حرام ، ونهى عن جلودِ السِّباع (2) ، فهذا حرامٌ ، وذكر أشياء من نحو هذا .
ومنها أشياء نهى عنها ، فهي أدبٌ .
وأما حدودُ الله التي نهى عن اعتدائها ، فالمرادُ بها جملة ما أَذِنَ في فعله ، سواء كان على طريقِ الوجوبِ ، أو الندب ، أو الإباحة ، واعتداؤها : هو تجاوزُ ذلك إلى ارتكاب ما نهى عنه ، كما قال تعالى : { وتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } (3) والمراد : من طلَّقَ على غير ما أمرَ الله به وأذن فيه ، وقال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (4)، والمراد : من أمسك بعد أنْ طلَّق بغير معروف ، أو سرَّح بغير إحسانٍ ، أو أخذ ممَّا أعطى المرأة شيئاً على غير وجه الفدية التي أذِنَ الله فيها .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 10753 ) ، وأحمد 2/423 و474 و489 و508 و516 ، ومسلم 4/135 ( 1408 ) ( 33 )، وأبو داود ( 2065 ) و( 2066 ) من حديث أبي هريرة ، به .
وللحديث طرق أخرى .
(2) أخرجه : أحمد 5/74 و75 ، والدارمي ( 1983 ) ، وأبو داود ( 4132 ) ، والترمذي
( 1770م ) و( 1771 ) ، والنسائي 7/176 من حديث أسامة بن عُمير الهذلي ، به .
(3) الطلاق : 1 .
(4) البقرة : 229 .
وقال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ } (1) إلى قوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } (2) ، والمراد : من تجاوز ما فرضه الله للورثة ، ففضَّلَ وارثاً ، وزاد على حقه ، أو نقصه منه ، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجَّة الوداع : ( إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه فلا وصية لوارث ) (3) .
وروى النَّوَّاس بنُ سمعان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (4) قال : ( ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جَنَبَتيِّ الصِّراط سوران فيهما أبواب مفتَّحةٌ ، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاة ، وعلى باب الصِّراط داعٍ يقول : يا أيُّها النَّاسُ ، ادخُلوا الصِّراط جميعاً ، ولا تُعرِّجوا، وداعٍ يدعو من جوفِ الصِّراط ، فإذا أراد أنْ يفتحَ شيئاً من تلك الأبواب ، قال : وَيْحَكَ لا تَفتحه ، فإنَّك إنْ تَفتحه تَلِجْه ، والصِّراطُ : الإسلامُ ، والسُّوران : حدودُ الله ، والأبواب المفتَّحةُ : محارمُ الله ، وذلك الداعي على رأس الصِّراط كتاب الله ، والداعي من فوقُ : واعظ الله في قلب كلِّ مسلم ) خرَّجه الإمام أحمد (5) ، وهذا لفظه ، والنَّسائي في " تفسيره " (6) ، والترمذي (7) وحسنه .
__________
(1) النساء : 13 .
(2) النساء : 14 .
(3) أخرجه : أبو داود ( 2870 ) و( 3565 ) ، وابن ماجه ( 2713 ) ، والترمذي ( 2120 ) ، والبيهقي 6/264 من حديث أبي أمامة ، به مرفوعاً ، قال الترمذي : ( هو حديث حسن ) .
(4) من قوله : ( في خطبته … ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(5) في " مسنده " 4/182 – 183 .
(6) التفسير ( 253 ) .
(7) في " جامعه " ( 2859 ) .
فضرب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ الإسلام في هذا الحديث بصراطٍ مستقيمٍ ، وهو الطريقُ السَّهلُ الواسعُ ، الموصلُ سالكَه إلى مطلوبه ، وهو - مع هذا - مستقيمٌ ، لا عوَجَ فيه ، فيقتضي ذلك قربَه وسهولته ، وعلى جنبتي الصِّراط يمنة ويَسرة سوران ، وهما حدودُ الله ، وكما أنَّ السُّورَ يمنع من كان داخله مِن تعدِّيه ومجاوزته ، فكذلك الإسلامُ يمنع من دخله من الخُروج عن حدوده ومجاوزتها ، وليس وراءَ ما حدَّ الله من المأذونِ فيه إلاَّ ما نهى عنه ، ولهذا مدح سبحانه الحافظينَ لحدوده ، وذمَّ من لا يعرف حدَّ الحلال من الحرام ، كما قال تعالى : { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ } (1) . وقد تقدَّم حديث القرآن وأنَّه يقول لمن عمل به : حَفِظَ حدودي ، ولمن لم يعمل به : تعدَّى حدودي .
والمراد : أنَّ من لم يُجاوز ما أُذِنَ له فيه إلى ما نُهِي عنه ، فقد حفظ حدودَ الله ، ومن تعدَّى ذلك ، فقد تعدَّى حدود الله (2) (3).
__________
(1) التوبة : 97 .
(2) سبق تخريجه .
(3) من قوله : ( والمراد : أن كمن لم يتجاوز … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
وقد تُطلق الحدودُ ، ويراد بها نفسُ المحارم (1) ، وحينئذٍ فيقال : لا تقربوا
حدودَ الله ، كما قال تعالى : { تِلْكَ حُدُوْدُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها } (2) ، والمراد : النَّهي عن ارتكاب ما نهى عنه في الآية من محظورات الصِّيام والاعتكاف في المساجد ، ومن هذا المعنى - وهو تسميةُ المحارم حدوداً - قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَثَلُ القائمِ على حدودِ الله والمُدْهِنِ فيها ، كمثل قوم اقتسموا سفينة ) (3) الحديث المشهور ، وأراد بالقائم على حدود الله : المنكر للمحرَّمات والناهي عنها (4) .
وفي حديث ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إني آخذ بحُجَزِكُم أقول : اتَّقوا النَّارَ ، اتَّقوا الحدودَ ) قالها ثلاثاً ، خرَّجه الطبراني (5) والبزار (6) ، وأراد بالحدود محارم الله ومعاصيه ، ومنه قولُ الرجل الذي قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : إني أصبتُ حداً فأقمه عليَّ (7) .
__________
(1) انظر : لسان العرب 3/79 ( حدد ) .
(2) البقرة : 187 .
(3) أخرجه : الحميدي ( 919 ) ، وأحمد 4/268 و269 و270 و273 ، والبخاري 3/182
( 2493 ) و3/237 ( 2686 ) ، والترمذي ( 2173 ) ، وابن حبان ( 297 ) و( 298 )
و( 301 )، والبيهقي 10/91 و288، والبغوي ( 4151 ) من حديث النعمان بن بشير ، به.
(4) انظر : فتح الباري لابن حجر 5/362 .
(5) في " الكبير " ( 10953 ) .
(6) كما في " كشف الأستار " ( 1536 ) .
(7) سبق تخريجه .
وقد تُسمى العقوباتُ المقدرة الرادعةُ عن المحارم المغلظة حدوداً ، كما يقال : حدُّ الزنى ، وحدُّ السرقة ، وحدُّ شرب الخمر ، ومنه قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأسامة :
( أتشفع في حدٍّ من حدود الله ؟ ) (1) ، يعني : في القطع في السَّرقة . وهذا هو المعروف من اسم الحدود في اصطلاح الفقهاء .
وأمَّا قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يُجْلَدُ فَوقَ عشرِ جلدات إلا في حدٍّ مِنْ حُدودِ
اللهِ ) (2) فهذا قد اختلف الناسُ في معناه ، فمنهم من فسر الحدود هاهنا بهذه الحدود المقدرة ، وقال : إنَّ التَّعزير لا يُزاد على عشرِ جلدات ، ولا يُزادُ عليها إلاَّ في هذه الحدود المقدَّرة ، ومنهم من فسَّر الحدودَ هاهنا بجنس محارمِ الله ، وقال : المرادُ أنَّ مجاوزة العشر جلداتٍ لا يجوزُ إلا في ارتكاب محرَّم مِنْ محارم الله ، فأمَّا ضربُ التَّأديبِ على غير محرَّمٍ ، فلا يتجاوز به عشر جلدات (3) .
__________
(1) أخرجه : عبد الرزاق ( 18830 ) ، وأحمد 6/162 ، والدارمي ( 2307 ) ، والبخاري 4/213 ( 3475 ) و8/199 ( 6788 ) ، ومسلم 5/114 ( 1688 ) ( 8 ) و( 9 ) و5/115 ( 1688 ) ( 10 ) من حديث عائشة ، به . وهو جزء من حديث طويل .
(2) أخرجه : البخاري 8/215 ( 6848 ) ، ومسلم 5/126 ( 1708 ) ( 40 ) ، وأبو داود
( 4491 ) من حديث أبي بردة ، به .
(3) انظر : معالم السنن 3/294 ، وعون المعبود 12/201 – 202 .
وقد حمل بعضُهم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وحدَّ حُدُوداً فلا تعتدوها ) على هذه العقوبات الزَّاجرة عَنِ المحرَّمات ، وقال : المراد النَّهيُ عن تجاوُزِ هذه الحدود وتعديها عند إقامتها على أهل الجرائم . ورجَّح ذلك بأنَّه لو كان المراد بالحدود الوقوف عند الأوامر والنَّواهي لكان تكريراً لقوله : ( فرض فرائضَ فلا تُضيِّعُوها ، وحرَّم أشياء ، فلا تنتهكوها ) وليس الأمر على ما قاله ، فإنَّ الوقوفَ عندَ الحُدودِ يقتضي أنَّه لا يخرج عمَّا أذِنَ فيه إلى ما نهى عنه، وذلك أعمُّ من كونِ المأذون فيه فرضاً ، أو ندباً ، أو مباحاً كما تقدَّم ، وحينئذٍ فلا تكريرَ في هذا الحديث ، والله أعلم .
وأمَّا المسكوتُ عنه ، فهو ما لم يُذكَرْ حكمُه بتحليلٍ ، ولا إيجابٍ ، ولا تحريمٍ ، فيكون معفوَّاً عنه ، لا حرجَ على فاعلِهِ ، وعلى هذا دلَّت هذه الأحاديثُ المذكورة هاهنا ، كحديث أبي ثعلبة وغيره .
وقد اختلفت ألفاظُ حديث أبي ثعلبة ، فروي باللفظ المتقدِّم ، ورُوي بلفظ آخر، وهو : ( إنَّ الله فَرضَ فرائضَ فلا تُضيِّعُوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وعفا عن أشياء من غير نسيانٍ فلا تبحثوا عنها ) خرَّجه إسحاق بنُ راهويه . ورُوي بلفظ آخر وهو : ( إنَّ الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وسنَّ لكم سنناً فلا تنتهكوها ، وحرَّم عليكم أشياء فلا تعتدوها ، وترك بين ذلك أشياء من غير نسيان رحمة منه فاقبلوها ولا تبحثوا عنها ) خرَّجه الطبراني (1) . وهذه الرواية تبيِّنُ أنَّ المعفوَّ عنه ما تُرِكَ ذكرُه ، فلم يحرَّم ولم يُحلَّل .
__________
(1) في " الكبير " 22/( 589 ) من حديث أبي ثعلبة الخشني ، به .
والحديث سبق تخريجه .
ولكن مما ينبغي أنْ يعلم : أنَّ ذكرَ الشيءِ بالتَّحريم والتَّحليل مما قد يخفى فهمُه مِنْ نُصوص الكتاب والسُّنة ، فإنَّ دلالة هذه النُّصوص قد تكونُ بطريق النَّصِّ والتَّصريح ، وقد تكونُ بطريق العُموم والشُّمول ، وقد تكون دِلالتُه بطريق الفحوى والتنبيه ، كما في قوله تعالى : { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } (1) ، فإنَّ دخُولَ ما هو أعظمُ من التَّأفيف مِنْ أنواع الأذى يكونُ بطريق الأولى ، ويُسمَّى ذلك مفهومَ الموافقةِ (2) .
وقد تكونُ دلالته بطريقِ مفهومِ المخالفة ، كقوله : ( في الغنم السَّائمة
الزكاة ) (3) فإنَّه يدلُّ بمفهومه على أنَّه لا زَكاةَ في غير السَّائمة ، وقد أخذ الأكثرون بذلك ، واعتبروا مفهوم المخالفة ، وجعلوه حجَّةً (4) .
وقد تكونُ دلالته مِنْ باب القياس ، فإذا نصَّ الشَّارع على حُكم في شيءٍ لمعنى من المعاني ، وكان ذلك المعنى موجوداً في غيره ، فإنَّه يتعدَّى الحكمُ إلى كلِّ ما وجد في ذلك المعنى عندَ جمهور العلماء ، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزله الله، وأمر بالاعتبار به ، فهذا كلُّه ممَّا يعرَفُ به دلالة النُّصوص على التَّحليل والتَّحريم .
فأمَّا ما انتفى فيه ذلك كلُّه ، فهُنا يُستدلُّ بعدم ذكره بإيجابٍ أو تحريمٍ على أنَّه معفوٌّ عنه ، وهاهنا مسلكان :
__________
(1) الإسراء : 23 .
(2) انظر : البرهان في أصول الفقه 1/300 .
(3) أخرجه : البخاري 2/146 ( 1454 ) ، وأبو داود ( 1567 ) ، وابن حبان ( 3266 ) عن أنس بن مالك ، بنحوه .
(4) انظر : البرهان في أصول الفقه 1/298 – 299 .
أحدهما: أنْ يُقال : لا إيجابَ ولا تحريمَ إلاَّ بالشَّرع ، ولم يوجب الشَّرعُ كذا ، أو لم يحرِّمه ، فيكونُ غيرَ واجبٍ ، أو غير حرامٍ ، كما يقال مثلُ هذا في الاستدلال على نفي وجوب الوتر والأُضحية ، أو نفي تحريم الضَّبِّ ونحوه ، أو نفي تحريم بعض العُقود المختلف فيها ، كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك ، ويرجعُ هذا إلى استصحاب براءةِ الذِّمَّةِ حيث لم يُوجَدْ ما يدلُّ على اشتغالها ، ولا يصْلُحُ هذا الاستدلالُ إلاَّ لمن عرف أنواعَ أدلَّة الشَّرع وسبرَهَا ، فإنْ قطع - مع ذلك - بانتفاء ما يدلُّ على إيجابٍ أو تحريمٍ ، قطع بنفي الوجوب أو التحريم ، كما يقطع بانتفاء فرضية صلاةٍ سادسةٍ ، أو صيام شهر غير شهر رمضان ، أو وجوب الزَّكاة في غير الأموال الزَّكويَّة ، أو حَجَّةٍ غير حجَّةِ الإسلام ، وإنْ كان هذا كلُّه يستدلُّ عليه بنصوصٍ مصرِّحةٍ بذلك ، وإنْ ظنَّ انتفاء ما يدلُّ على إيجابٍ أو تحريمٍ ، ظنَّ انتفاء الوجوب والتحريم من غير قطع .
والمسلك الثاني : أنْ يذكر مِنْ أدلَّة الشَّرع العامة ما يدلُّ على أنَّ ما لم يوجبه الشَّرع ، ولم يحرِّمه ، فإنَّه معفوٌّ عنه ، كحديث أبي ثعلبة هذا وما في معناه من الأحاديث المذكورة معه ، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سُئلَ عنِ الحجِّ أفي كلِّ عام ؟ فقال :
( ذروني ما تركتُكم ، فإنَّما هلك مَنْ كان قَبلَكم بكثرةِ سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فاجتنبوه ، وإذا أمرتُكم بأمرٍ ، فأتوا منه ما استطعتم ) (1) .
ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعد بن أبي وقَّاص : ( إنَّ أعظم المسلمين في
المسلمين جرماً من سأل عن شيءٍ لم يحرَّم ، فحرِّم من أجل مسألته ) (2) .
__________
(1) سبق تخريجه . انظر : الحديث التاسع .
(2) سبق تخريجه .
وقد دلَّ القرآنُ على مثلِ هذا أيضاً في مواضعَ ، كقوله - عز وجل - : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً } (1) ، فإنّ هذا يدلُّ على أنّ ما لم يجِد تحريمه ، فليس بمحرَّمٍ ، وكذلك قوله : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } (2) ، فعنفهم على تركِ الأكل ممّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه ، معلِّلاً بأنَّه قد بيَّن لهمُ الحرامَ ، وهذا ليس منه ، فدلَّ على أنَّ الأشياء على الإباحة ، وإلاَّ لمَا أَلحَقَ اللَّومَ بمن امتنع من الأكل ممَّا لم ينصَّ له على حِلِّه بمجرَّد كونه لم ينصَّ على تحريمه .
واعلم أنَّ هذه المسألة غيرُ مسألةِ حُكم الأعيان قبل وُرود الشَّرع : هل هو الحظرُ أو الإباحة ، أو لا حُكم فيها ؟ فإنَّ تلك المسألة مفروضةٌ فيما قبل وُرودِ الشَّرع(3) ، فأمَّا بعد وُروده فقد دلت هذه النُّصوصُ وأشباهُها على أنَّ حكم ذلك الأصل زال واستقرَّ أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة بأدلَّة الشَّرع . وقد حكى بعضُهم الإجماع على ذلك ، وغلَّطوا من سوَّى بين المسألتين ، وجعل حكمهما واحداً .
__________
(1) الأنعام : 145 .
(2) الأنعام : 119 .
(3) من قوله : ( هل هو الحظر … ) إلىهنا سقط ( ص ) .
وكلام الإمام أحمد يدلُّ على أنَّ ما لا يدخل في نصوص التَّحريم ، فإنَّه معفوٌّ عنه (1) . قال أبو الحارث : قلت لأبي عبد الله - يعني : أحمد - : إنَّ أصحاب الطَّير يذبَحُون مِنَ الطير شيئاً لا نعرفه ، فما ترى في أكله ؟ فقال : كل ما لم يكن ذا مِخلَبٍ أو يأكلُ الجِيفَ ، فلا بأس به ، فحصر تحريمَ الطير في ذي المخلب المنصوص عليه ، وما يأكل الجِيفَ ؛ لأنَّه في معنى الغراب المنصوص عليه(2) وحكم بإباحة ما عداهما . وحديث ابن عباس (3) الذي سبق ذكره يدلُّ على مثل هذا ، وحديث سلمان الفارسي (4) فيه النهي عن السؤال عن الجبن والسمن والفراء ، فإنَّ الجبن كان يُصنعُ بأرضِ المجوس ونحوهم من الكُفَّارِ ، وكذلك السَّمن ، وكذلك الفراء تُجلب من عندِهم ، وذبائحهم ميتةٌ ، وهذا مما يستدلُّ به على إباحة لبن الميتة وأنفحتها ، وعلى إباحة أطعمة المجوس ، وفي ذلك كُلِّه خلافٌ مشهورٌ ، ويُحملُ على أنَّه إذا اشتبه الأمرُ ، لم يجبِ السُّؤالُ والبحثُ عنه ، كما قال ابن عمر لمَّا سُئل عن الجُبن الذي يصنعه المجوسُ ، فقال : ما وجدته في سوق المسلمين اشتريتُه ولم أسأل عنه (5) ، وذكر عندَ عمر الجبن وقيل له : إنَّه يُصنع بأنافح الميتة ، فقال : سموا الله وكلوا(6). قال الإمام أحمد: أصحُّ حديث فيه هذا الحديث ، يعني : جبن المجوس (7) .
__________
(1) انظر : التبصرة في أصول الفقه : 80 - 81 ، وميزان الأصول : 193 - 194 ، وشرح الكوكب المنير 1/500 - 504 .
(2) من قوله : ( وما يأكل الجيف … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(3) سبق تخريجه .
(4) سبق تخريجه .
(5) أخرجه : عبد الرزاق ( 8785 ) .
(6) أخرجه : عبد الرزاق ( 8782 ) .
(7) انظر : المغني 9/342 .
وقد رُوي من حديث ابن عباس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتي بجبنة في غزوة الطَّائِفِ ،
فقال : ( أين تُصنَعُ هذه ؟ ) قالوا : بفارس ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ضعوا فيها السِّكِّينَ واقطعوا ، واذكروا اسمَ الله وكلوا ) خرَّجه الإمام أحمد (1) ، وسئل عنه ، فقال :
هو حديث منكرٌ ، وكذا قال أبو حاتم الرازي (2) .
وخرَّج أبو داود (3) معناه من حديث ابن عمر ، إلاَّ أنَّه قال : في غزوة تبوك ، وقال أبو حاتم (4) : هو منكر أيضاً .
وخرَّجه عبد الرزاق في " كتابه " (5) مرسلاً ، وهو أشبه ، وعنده زيادة ، وهي : أنَّه قيل له : يا رسول الله ، نخشى أنْ تكونَ ميتة ؟ قال : ( سمُّوا عليه
وكُلوه ) .
وخرَّج الطبراني (6) معناه من حديث ميمونة ، وإسناده جيِّد ، لكنه غريب جداً .
وفي " صحيح البخاري " (7) عن عائشة : أنَّ قوماً قالوا للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : إنَّ قوماً يأتوننا باللَّحم ، لا ندري أَذُكِرَ اسمُ الله عليه أم لا ؟ فقال : ( سمُّوا عليه أنتم
وكلوا ) قالت : وكانوا حديثي عهدٍ بالكُفر .
__________
(1) في " مسنده " 1/234 .
... وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 2878 ) و( 2879 ) ، والطبراني في "الكبير" ( 11807 ) ، والبيهقي 10/6 من حديث عبد الله بن عباس ، به .
(2) في " العلل " 2/221 عقيب ( 1488 ) .
(3) في " السنن " ( 3819 ) . وأخرجه : البيهقي 10/6 من حديث عبد الله بن عمر ، به .
(4) في " العلل " 2/221 عقيب ( 1488 ) .
(5) المصنف ( 8795 ) عن الشعبي والضحاك بن مزاحم ، مرسلاً .
(6) في " الأوسط " ( 1597 ) . وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/291 من حديث ميمونة ، به .
(7) الصحيح 3/71 ( 2057 ) من حديث عائشة ، به .
وفي " مسند الإمام أحمد " (1) عن الحسن : أنَّ عمر أراد أنْ ينهى عن حُلَلِ الحِبَرَةِ ؛ لأنَّها تُصبَغُ بالبَوْلِ ، فقال له أُبيٌّ : ليس ذلك لك ، قد لبسهنَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولبسناهنَّ في عهده ، وخرَّجه الخلاَّل من وجه آخر وعنده : إنَّ أُبَيّاً قال له : يا أمير المؤمنين ، قد لبسها نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورأى اللهُ مكانها ، ولو علم اللهُ أنَّها حرامٌ ، لنهى عنها ، فقال : صدقت .
وسئل الإمام أحمد عن لبس ما يَصبغُه أهلُ الكتاب من غير غسلٍ ، فقال : لم تسأل عمَّا لا تعلم ، لم يزلِ النَّاسُ منذ أدركناهم لا يُنكرون ذلك . وسئِلَ عن يهود يَصبغُون بالبول ، فقال : المسلم والكافرُ في هذا سواء ، ولا تسأل عن هذا ، ولا تبحث عنه ، وقال : إذا علمت أنَّه لا محالةَ يصبغ بشيءٍ مِنَ البولِ ، وصحَّ عندكَ ، فلا تصلِّ فيه حتّى تغسله .
وخرَّج من حديث المغيرة بن شعبة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُهدي إليه خُفَّان ، فلبسهما ولا يعلم أذكيٌّ هما أم لا (2) .
وقد ورد ما يستدلُّ به على البحث والسؤال ، فخرَّج الإمام أحمد (3) من حديث رجلٍ عن أمِّ مسلمٍ الأشجعية : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتاها وهي في قبَّةٍ فقال : ( ما أحسنها إنْ لم يكن فيها ميتةٌ ) ، قالت : فجعلت أتتبعها . والرجل مجهول (4) .
__________
(1) المسند 5/143 ، وإسناده ضعيف لانقطاعه ؛ فإنَّ الحسن لم يسمع من عمر ولا من أُبي .
(2) أخرجه : الترمذي ( 1769 ) وفي " الشمائل " ، له ( 74 ) ، وقال : ( حسن غريب ) ، وانظر تعليقي على " الشمائل " : 69 ( 74 ) .
(3) في " مسنده " 6/437 .
وأخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 8/237 ، والطبراني في "الكبير" 25/( 375 ) و( 376 ) من حديث أُمِّ مسلم الأشجعيَّة ، به .
(4) فالحديث ضعيف لجهالة هذا الرجل .
وخرَّج الأثرمُ بإسنادِه عن زيد بن وهب ، قال : أتانا كتابُ عمر بأَذربيجان : إنَّكم بأرضٍ فيها الميتة ، فلا تلبِسُوا مِنَ الفراء حتّى تعلموا حِلَّه من حرامه .
وروى الخلال بإسناده عن مجاهد : أنَّ ابن عمر رأى على رجل فرواً ، فمسَّه وقال : لو أعلم أنَّه ذُكِّيَ ، لسرَّني أنْ يكون لي منه ثوب (1) .
وعن محمد بن كعب أنَّه قال لعائشة : ما يمنعك أنْ تتخذي لحافاً (2) من
الفراء ؟ قالت : أكره أنْ ألبس الميتة .
وروى عبد الرزاق (3) بإسناده عن ابن مسعود : أنَّه قال لمن نزلَ من المسلمين بفارس : إذا اشتريتُم لحماً فسلوا ، إنْ كان ذبيحةَ يهودي أو نصراني فكُلوا ، وهذا لأنَّ الغالب على أهل فارس المجوس وذبائحُهم محرَّمةٌ .
والخلاف في هذا يُشبه الخلاف في إباحة طعام من لا تُباح ذبيحته من الكفَّار ، وفي استعمال أواني المشركين وثيابهم ، والخلاف فيها يرجعُ إلى قاعدةِ تعارُض الأصل
والظاهر ، وقد سبق ذكرُ ذلك في الكلام على حديث : ( الحلال بيِّن والحرام بيِّن ، وبينهما أمورٌ مشتبهات ) (4) .
وقوله في الأشياء التي سكت عنها : ( رحمة من غير نسيان ) (5) يعني : أنَّه إنَّما سكت عن ذكرها رحمةً بعباده ورفقاً ؛ حيث لم يحرِّمْها عليهم حتّى يُعاقبَهم على فعلها ، ولم يُوجِبها عليهم حتّى يعاقبَهم على تركها ، بل جعلها عفواً ، فإنْ فعلوها ، فلا حرجَ عليهم ، وإنْ تركوها فكذلك ، وفي حديث أبي الدرداء (6) : ثم تلا : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } (7) ومثلُه قوله - عز وجل - : { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا
يَنْسَى } (8) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 24765 ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) في " المصنف " ( 8578 ) .
(4) سبق تخريجه . انظر : الحديث السَّادس .
(5) سبق تخريجه .
(6) سبق تخريجه .
(7) مريم : 64 .
(8) طه : 52 .
وقوله : ( فلا تبحثوا عنها ) يحتمِلُ اختصاص هذا النهي بزمن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنَّ كثرةَ البحث والسؤال عمَّا لم يذكر قد يكونُ سبباً لنزول التَّشديد فيه بإيجابٍ أو تحريمٍ ، وحديث سعد بن أبي وقَّاص (1) يدلُّ على هذا ، فيحتمل أنْ يكون النَّهيُ عامَّاً ، والمروى عن سلمان من قوله يدلُّ على ذلك ، فإنَّ كثرة البحث والسُّؤال عن حكمٍ ما لم يُذكر في الواجبات ولا في المحرمات ، قد يُوجِب اعتقاد تحريمه ، أو إيجابه ؛ لمشابهته لبعضِ الواجبات أو المحرَّمات ، فقَبولُ العافية فيه ، وتركُ البحث والسُّؤالِ عنه خيرٌ ، وقد يدخلُ ذلك في قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( هلك المتنطعون ) ، قالها ثلاثاً . خرَّجه مسلم (2) من حديث ابن مسعود مرفوعاً ، والمتنطع : هو المتعمِّقُ البحَّاث عمَّا لا يعنيه (3) ، وهذا قد يتمسَّك به من يتعلَّق بظاهرِ اللَّفظ ، وينفي المعاني والقياس كالظاهرية .
والتَّحقيق في هذا المقام - والله أعلم - أنَّ البحث عمَّا لم يُوجَدْ فيه نصٌّ خاصٌّ أو عامٌّ على قسمين :
أحدهما : أنْ يبحث عن دخوله في دلالات النُّصوص الصَّحيحة من الفحوى والمفهوم والقياس الظاهر الصَّحيح ، فهذا حقٌّ ، وهو ممَّا يتعيَّنُ فعلُه على المجتهدين في معرفة الأحكام الشرعية .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) في " صحيحه " 8/58 ( 2670 ) ( 70 ) .
(3) انظر : شرح السنة 12/367 عقيب ( 3396 ) ، وشرح النووي لصحيح مسلم 8/388 .
والثاني : أنْ يدقِّق النَّاظِر نظرَه وفكرَه في وُجوهِ الفُروق المستبعدةِ ، فيفرِّق بين متماثلين بمجرَّد فرقٍ لا يظهر له أثرٌ في الشَّرع ، مع وجود الأوصاف المقتضية للجمعِ ، أو يجمع بين متفرِّقين بمجرَّد الأوصاف الطرديَّة التي هي غيرُ مناسبة ، ولا يدلُّ دليلٌ على تأثيرها في الشَّرع ، فهذا النَّظر والبحثُ غيرُ مرضيٍّ ولا محمودٍ ، مع أنَّه قد وقع فيه طوائفٌ مِنَ الفُقَهاءِ ، وإنَّما المحمودُ النَّظرُ الموافقُ لنظرِ الصحابة ومَنْ بعدهُم مِنَ القُرونِ المفضَّلةِ كابنِ عبَّاسٍ ونحوه ، ولعلَّ هذا مرادُ ابن مسعود بقوله : إيَّاكم والتنطُّع ، إياكم والتعمُّق ، وعليكم بالعتيق ، يعني : بما كان عليه الصَّحابة - رضي الله عنهم - .
ومن كلام بعض أئمة الشافعية : لا يليقُ بنا أنْ نكتفيَ بالخيالات في الفروق ، كدأبِ أصحاب الرأي ، والسر في تلك أنَّ متعلَّق الأحكام في الحال الظُّنونُ وغلباتُها، فإذا كان اجتماعُ مسألتين أظهرَ في الظنِّ مِنَ افتراقهما ، وجب القضاءُ باجتماعهما ، وإنِ انقدحَ فرقٌ على بعد ، فافهموا ذلك فإنَّه من قواعد الدين . انتهى .
ومما يدخل في النَّهي عن التعمُّق والبحث عنه : أمورُ(1) الغيب الخبريّة التي أمر بالإيمان بها، ولم يُبين كيفيتها ، وبعضُها قد لا يكونُ له شاهدٌ في هذا العالم المحسوس ، فالبحث عن كيفيَّة ذلك هو ممَّا لا يعني ، وهو مما يُنهى عنه ، وقد يوجِبُ الحيرة والشَّكَّ ، ويرتقي إلى التَّكذيب .
__________
(1) من قوله : ( على بعد فافهموا … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يزال النَّاس يَسألون حتّى يقال : هذا الله خلَقَ الخَلْق ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد مِنْ ذَلِكَ شيئاً ، فليقل : آمنت بالله ) ، وفي روايةٍ (2) لهُ : ( لا يزالُ النَّاسُ يسألونَكم عَنِ العِلم ، حتّى يقولوا : هذا الله خلقنا ، فمن خلق الله ؟ ) وفي روايةٍ له أيضاً (3) :
( لَيسألَنَّكُم النَّاسُ عَنْ كلِّ شيءٍ ، حتى يقولوا : الله خلق كلَّ شيءٍ ، فمن خلقه ؟ ). وخرَّجه البخاري (4) ، ولفظه : ( يأتي الشيطان أحدَكُم فيقول : من خلق كذا ؟
من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربَّك ؟ فإذا بلغه فليستعذْ بالله ولينتَهِ ) .
وفي " صحيح مسلم " (5) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( قال الله - عز وجل - : إنَّ أمَّتك لا يزالون يقولون : ما كذا ما كذا ، حتّى يقولوا : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ ) . وخرَّجه البخاري (6) ، ولفظه : ( لن يبرحَ الناس يتساءلون : هذا الله خالِقُ كلِّ شيءٍ ، فمن خلق الله ؟ ) .
__________
(1) الصحيح 1/83 ( 134 ) ( 212 ) .
(2) الصحيح 1/84 ( 135 ) ( 215 ) .
(3) الصحيح 1/85 ( 135 ) ( 216 ) .
(4) في " صحيحه " 4/149 ( 3276 ) .
(5) الصحيح 1/85 ( 136 ) ( 217 ) .
(6) في " صحيحه " 9/119 ( 7296 ) .
قال إسحاق بن راهويه : لا يجوزُ التفكُّر في الخالق ، ويجوز للعباد أن يتفكَّروا في المخلوقين بما سمعوا فيهم ، ولا يزيدون على ذلك ؛ لأنَّهم إنْ فعلوا تاهوا ، قال : وقد قال الله : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } (1) ، فلا يجوز أنْ يقال : كيف تُسبِّحُ القِصَاعُ ، والأَخْوِنَةُ ، والخبزُ المخبوزُ ، والثِّيابُ المنسوجة ؟ وكلُّ هذا قد صحَّ العلم فيهم أنَّهم يسبحون ، فذلك إلى الله أنْ يجعل تسبيحَهم كيف شاء وكما شاء ، وليس للنَّاس أنْ يخوضُوا في ذلك إلاَّ بما علموا ، ولا يتكلَّموا في هذا وشِبْهِهِ إلاَّ بما أخبر الله ، ولا يزيدُوا على ذلك ، فاتَّقوا الله ، ولا تخوضوا في هذه الأشياء المتشابهة ، فإنَّه يُرْديكم الخوض فيه عن سنن الحقِّ . نقل ذلك كلَّه حربٌ ، عن إسحاق - رحمه الله - .
__________
(1) الإسراء : 44 .
الحديث الحادي والثلاثون
عَنْ سهلِ بنِ سعْدٍ السَّاعِديِّ قال : جاءَ رجُلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ :
يا رَسولَ الله دُلَّني عَلى عَمَلٍ إذا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي الله ، وأحَبَّنِي النَّاسُ ، فقال
: ( ازهَدْ فِي الدُّنيا يُحِبَّكَ الله ، وازهَدْ فيمَا في أيدي النَّاسِ يُحبَّكَ النَّاسُ ) . حديثٌ حسنٌ رَواهُ ابنُ ماجه (1) وغيرُهُ بأسانِيدَ حَسَنةٍ .
__________
(1) في " سننه " ( 4102 ) .
وأخرجه : العقيلي في " الضعفاء " 2/11 ، والطبراني في " الكبير " ( 5972 ) ، وابن عدي في " الكامل " 3/458 ، والحاكم 4/313 ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/252 - 253 و7/36 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 643 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 10523 ) من حديث سهل بن سعد الساعدي ، به .
هذا الحديث خرَّجه ابن ماجه من رواية خالد بن عمرو القرشي ، عن سفيان الثوري ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، وقد ذكر الشيخ - رحمه الله - أنَّ إسناده حسن ، وفي ذلك نظر ، فإنَّ خالد بن عمرو القرشي الأموي قال فيه الإمامُ أحمد : منكرُ الحديث ، وقال مرة : ليس بثقة ، يروي أحاديث بواطيل ، وقال ابن معين : ليس حديثه بشيءٍ ، وقال مرة : كان كذاباً يكذب ، حدَّث عن شعبة أحاديثَ موضوعة ، وقال البخاري وأبو زرعة : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم : متروكُ الحديث ضعيف (1)(2) ، ونسبه صالح بنُ محمد ، وابنُ عدي إلى وضع الحديث(3) ، وتناقض ابنُ حبان في أمره ، فذكره في كتاب "الثقات" (4)، وذكره في كتاب " الضعفاء " (5) ، وقال : كان ينفردُ عَنِ الثِّقاتِ بالموضوعات ، لا يحلُّ الاحتجاج بخبره ، وخرَّج العقيلي (6) حديثه هذا وقال : ليس له أصل من حديث سفيان الثوري ، قال : وقد تابع خالداً عليه محمَّد بن كثيرٍ الصَّنعانيُّ ، ولعله أخذه عنه ودلسه ؛ لأنَّ المشهور به خالد هذا .
قال أبو بكر الخطيب : وتابعه أيضا أبو قتادة الحرَّاني ومِهرانُ بن أبي عمر الرازي ، فرووه عن الثَّوريِّ قال : وأشهرُها حديثُ ابن كثير . كذا قال ، وهذا يخالفُ قولَ العقيلي : إنَّ أشهرَها حديثُ خالد بن عمرو ، وهذا أصحُّ ، ومحمد بن كثير الصنعاني هو المصيصي ، ضعفه أحمد (7) . وأبو قتادة ومهران تُكُلِّمَ فيهما أيضاً ، لكن محمد بن كثير خيرٌ منهما ، فإنَّه ثقةٌ عندَ كثير مِنَ الحفَّاظ .
وقد تعجب ابنُ عدي من حديثه هذا ، وقال : ما أدري ما أقول فيه (8) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/343 .
(3) انظر : تهذيب الكمال 2/360 – 361 ( 1622 ) .
(4) الثقات 8/223 .
(5) انظر : المجروحين 1/283 .
(6) في " الضعفاء " 2/11 .
(7) انظر : الضعفاء 4/128 .
(8) انظر : الكامل في الضعفاء 3/459 .
وذكر ابنُ أبي حاتم (1) أنَّه سأل أباه عن حديث محمد بن كثير ، عن سفيان الثوري ، فذكر هذا الحديث ، فقال : هذا حديثٌ باطلٌ ، يعني : بهذا الإسناد ، يُشير إلى أنَّه لا أصلَ له عن محمد بن كثير ، عن سفيان .
وقال ابن مشيش : سألتُ أحمد عن حديث سهل بن سعد ، فذكر هذا الحديث ، فقال أحمد : لا إله إلا الله - تعجباً منه - من يروي هذا ؟ قلت : خالد ابن عمرو ، فقال : وقعنا في خالد بن عمرو ، ثم سكت ، ومراده الإنكار على من ذكر له شيئاً من حديث خالد هذا ، فإنَّه لا يُشتغل به .
وخرَّجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " المواعظ " (2) له عن خالد بن عمرو ، ثم قال : كنت منكراً لهذا الحديث ، فحدثني هذا الشيخُ عن وكيع : أنَّه سأله عنه ، ولولا مقالته هذه لتركته . وخرَّج ابن عدي (3) هذا الحديث(4) في ترجمة خالد بن عمرو ، وذكر رواية محمد بن كثير له أيضاً ، وقال : هذا الحديث عن الثوري منكر ، قال : ورواه زافر - يعني : ابن سلمان - عن محمد بن عيينة أخي سفيان ، عن أبي حازم ، عن ابن عمر . انتهى ، وزافر ومحمد بن عيينة ، كلاهما ضعيف .
__________
(1) في " العلل " 2/372 عقيب ( 1815 ) .
(2) المواعظ ( 131 ) .
(3) في " الكامل " 3/458 – 459 .
(4) عبارة : ( هذا الحديث ) سقطت من ( ص ) .
وقد روي هذا الحديث من وجه آخر مرسلٍ(1) : خرجه أبو سليمان بن
زبر الدِّمشقي في " مسند إبراهيم بن أدهم " (2) من جمعه من رواية معاوية بن
حفص ، عن إبراهيم بن أدهم ، عن منصور ، عن ربعي بن حِراش ، قال :
جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسولَ الله ، دلَّني على عمل يحبَّني الله
عليه ، ويحبني الناس عليه ، فقال : ( أما العملُ الذي يحبُّك الله عليه ،
فالزُّهدُ في الدُّنيا ، وأمَّا العملُ الذي يحبُّك الناس عليه ، فانظر هذا الحطام ، فانبذه إليهم ) .
وخرَّجه ابن أبي الدُّنيا في كتاب " ذم الدُّنيا " من رواية عليِّ بن بكار ، عن
إبراهيم بن أدهم ، قال : جاء رجل إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره ، ولم يذكر في إسناده منصوراً ولا ربعياً ، وقال في حديثه : ( فانبذ إليهم ما في يديك من الحُطام ) .
وقدِ اشتمل هذا الحديثُ على وصيتين عظيمتين :
إحداهما : الزُّهدُ في الدُّنيا ، وأنَّه مقتضٍ لمحبة الله - عز وجل - لعبده .
والثانية : الزُّهد فيما في أيدي الناس ، وأنَّه مقتضٍ لِمحبَّة النَّاس .
__________
(1) والمرسل أحد أنواع الضعيف .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/41 من طريق إبراهيم بن أدهم ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أنس ، به ؛ لكنَّ وصله خطأ ، قال أبو نعيم عقب الحديث : ( ذكر أنس في هذا الحديث وهم من عمر أو أبي أحمد ، فقد رواه الأثبات عن الحسن بن الربيع فلم يجاوزوا فيه مجاهداً ) ، ثم ساقه مرسلاً من طريق مجاهد .
فأمَّا الزُّهد في الدُّنيا ، فقد كثُر في القُرآن الإشارة إلى مدحه ، وإلى ذمّ الرغبة في الدُّنيا ، قال تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (1) ، وقال تعالى : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنيا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ } (2) ، وقال تعالى في قصة قارون : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ } إلى قوله : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ } (3) ، وقال تعالى : { وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنيا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } (4) ، وقال : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنيا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } (5) .
وقال حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنَّه قال لقومه : { يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنيا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } (6).
وقد ذمَّ الله مَنْ كان يُريد الدُّنيا بعمله وسعيه ونيَّته ، وقد سبق ذكرُ ذلك في الكلام على حديث : ( الأعمال بالنيات ) (7) .
__________
(1) الأعلى : 16 – 17 .
(2) الأنفال : 67 .
(3) القصص : 79 – 83 .
(4) الرعد : 26 .
(5) النساء : 77 .
(6) غافر : 38 – 39 .
(7) سبق تخريجه . انظر : الحديث الأول .
والأحاديث في ذمِّ الدُّنيا وحقارتها عند الله كثيرةٌ جداً ، ففي " صحيح
مسلم " (1) عن جابر : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بالسُّوقِ والنَّاسُ كَنَفَيْهِ (2) ، فمرَّ بجديٍّ
أسكَّ (3) ميِّتٍ ، فتناوله ، فأخذ بأذنه ، فقال : ( أيُّكم يُحبُّ أنَّ هذا له بدرهم ؟ ) فقالوا : ما نحبُّ أنَّه لنا بشيء ، وما نصنع به ؟ قال : ( أتحبُّون أنَّه لكم ؟ ) قالوا : والله لو كان حياً كان عيباً فيه ؛ لأنَّه أسكُّ ، فكيف وهو ميت ؟ فقال : ( والله للدُّنيا أهونُ على الله من هذا عليكم ) .
وفيه أيضاً (4) عن المستورد الفهري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما الدُّنيا في
الآخرة إلاَّ كما يَجْعَلُ أحدُكم أصبَعَهُ في اليمِّ ، فلينظر بماذا ترجع ) .
وخرَّج الترمذي (5) من حديث سهل بن سعد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لو كانتِ الدُّنيا تعدِلُ عندَ الله جناح بعوضةٍ ، ما سقى كافراً منها شربةً ) وصححه (6) .
__________
(1) الصحيح 8/210 – 211 ( 2957 ) ( 2 ) .
وأخرجه : أحمد 3/365 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 962 ) ، وأبو داود ( 186 ) ، والبيهقي 1/139 عن جابر بن عبد الله ، به .
(2) الكَنفَ بالتحريك الجانِب والناحِية .
انظر : النهاية 4/205 ، وشرح النووي لصحيح مسلم 9/261 .
(3) أسكَّ : أي : صغير الأُذنين . انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 9/261 .
(4) مسلم في " صحيحه " 8/156 ( 2858 ) ( 55 ) .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 496 ) ، وأحمد 4/228 – 229 و229 ، وابن ماجه
( 4108 ) ، والترمذي ( 2323 ) ، وابن حبان ( 4330 ) من حديث المستورد بن شَدَّاد الفهري ، به .
(5) في " جامعه " ( 2320 ) من حديث سهل بن سعد ، به .
(6) انظر : جامع الترمذي عقيب ( 2320 ) ، على أنَّ في إسناده عبد الحميد بن سليمان ضعيف ، وقد تابعه من هو مثله فلعل الترمذي صححه لشواهده ، والله أعلم .
ومعنى الزهد في الشيء : الإعراضُ عنه لاستقلاله ، واحتقاره ، وارتفاع الهمَّةِ
عنه ، يقال : شيء زهيد ، أي : قليل حقير (1) .
وقد تكلَّم السَّلفُ ومَنْ بعدَهم في تفسير الزُّهد في الدُّنيا ، وتنوَّعت عباراتهم عنه ، وورد في ذلك حديثٌ مرفوع خرَّجه الترمذي (2) وابن ماجه (3) من رواية عمرو بن واقدٍ ، عن يونس بن حلبس ، عن أبي إدريس الخولانيِّ ، عن أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الزَّهادةُ في الدُّنيا ليست بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدُّنيا أنْ لا تكونَ بما في يديك أوثقَ ممَّا في يد الله ، وأنْ تكون في ثواب المصيبة إذا أنتَ أُصبتَ بها أَرغبَ فيها لو أنَّها بقيت لك ) . وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه ، وعمرو بن واقد منكر الحديث (4) .
قلت : الصحيح وقفه ، كما رواه الإمام أحمد في كتاب " الزهد " (5) ، حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا خالدُ بنُ صبيح ، حدثنا يونس بن حلبس قال : قال أبو مسلم الخولاني : ليس الزهادةُ في الدُّنيا بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، إنَّما الزهادة في الدُّنيا أنْ تكونَ بما في يد الله أوثق مما في يديك ، وإذا أُصِبْتَ بمصيبةٍ ، كنت أشدَّ رجاءً لأجرها وذُخرها مِن إيَّاها لو بقيت لك .
وخرَّجه ابن أبي الدُّنيا من راوية محمد بن مهاجر ، عن يونس بن ميسرة ، قال : ليس الزَّهادة في الدُّنيا بتحريم الحلال ، ولا بإضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدُّنيا أنْ تكونَ بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، وأنْ يكونَ حالك في المصيبة وحالُك إذا لم تُصب بها سواءً ، وأنْ يكون مادحُك وذامُّك في الحقِّ سواء .
__________
(1) انظر : لسان العرب 6/97 ( زهد ) .
(2) في " جامعه " ( 2340 ) من حديث أبي ذر ، به .
(3) السنن ( 4100 ) من حديث أبي ذر ، به .
(4) في " جامعه " عقيب ( 2340 ) .
(5) الزهد ( 96 ) .
ففسر الزهد في الدُّنيا بثلاثة أشياء كُلُّها من أعمال القلوب ، لا من أعمال
الجوارح ، ولهذا كان أبو سليمان يقول : لا تَشْهَدْ لأحدٍ بالزُّهد ، فإنَّ الزُّهد في القلب .
أحدها : أنْ يكونَ العبدُ بما في يد الله أوثقَ منه بما في يد نفسه ، وهذا ينشأ مِنْ صحَّة اليقين وقوَّته ، فإنَّ الله ضَمِن أرزاقَ عباده ، وتكفَّل بها ، كما قال :
{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا } (1) ، وقال : { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } (2) ، وقال : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ } (3) .
قال الحسن : إنَّ مِنْ ضعف يقينك أنْ تكونَ بما في يدك أوثقَ منك بما في يد الله - عز وجل - .
وروي عن ابن مسعود قال : إنَّ أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا : ليس في البيت دقيق . وقال مسروقٌ : إنَّ أحسن ما أكون ظناً حين يقول الخادم : ليس في البيت قفيزٌ من قمحٍ ولا درهمٌ (4) . وقال الإمامُ أحمد : أسرُّ أيامي إليَّ يوم أُصْبِحُ وليس عندي شيء (5) .
وقيل لأبي حازم الزاهد : ما مالُك ؟ قال : لي مالان لا أخشى معهما الفقر : الثِّقةُ بالله ، واليأسُ ممَّا في أيدي الناس (6) .
وقيل له : أما تخافُ الفقر ؟ فقال : أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ؟!
ودُفع إلى عليِّ بنِ الموفق ورقة ، فقرأها فإذا فيها : يا عليّ بن الموفق أتخاف الفقرَ وأنا ربك ؟
__________
(1) هود : 6 .
(2) الذاريات : 22 .
(3) العنكبوت : 17
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34871 ) ، والدينوري في " المجالسة " ( 2744 ) ، وأبو نعيم في
" الحلية " 2/97 .
(5) انظر : صفة الصفوة 2/345 .
(6) أخرجه : الدينوري في " المجالسة " ( 963 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/231 – 232 .
وقال الفضيلُ بن عياض (1) : أصلُ الزُّهد الرِّضا عَنِ الله - عز وجل - . وقال : القنوع هو الزهد ، وهو الغنى .
فمن حقق اليقين ، وثق بالله في أموره كلها ، ورضي بتدبيره له ، وانقطع عن التعلُّق بالمخلوقين رجاءً وخوفاً ، ومنعه ذلك مِنْ طلب الدُّنيا بالأسباب المكروهة ، ومن كان كذلك ، كان زاهداً في الدُّنيا حقيقة ، وكان من أغنى الناس ، وإنْ لم يكن له شيء من الدُّنيا كما قال عمَّار : كفى بالموت واعظاً ، وكفى باليقين غنى ، وكفى بالعبادة شغلاً (2) .
وقال ابن مسعود : اليقينُ : أنْ لا ترضي النَّاسَ بسخطِ اللهِ ، ولا تحمد أحداً على رزق الله ، ولا تلم أحداً على ما لم يؤتِكَ الله ، فإنَّ الرِّزقَ لا يسوقُه حرصُ حريصٍ ، ولا يردُّه كراهة كارهٍ ، فإنَّ الله تبارك وتعالى - بقسطه وعلمه وحكمه - جعل الرَّوحَ والفرحَ في اليقين والرضا ، وجعل الهمَّ والحزن في الشكِّ والسخطِ (3) .
وفي حديث مرسل أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهذا الدُّعاء : ( اللهمَّ إنِّي أسألك إيماناً يُباشر قلبي ، ويقيناً(4) صادقاً(5) حتى أعلم أنَّه لا يمنعني رزقاً قسمته لي ، ورضِّني من المعيشة بما قسمت لي ) (6) .
__________
(1) أخرجه : الدينوري في " المجالسة " ( 960 ) و( 3045 ) ، وأبو عبد الرحمان السّلمي في
" طبقات الصوفية " : 10 .
(2) أخرجه : البيهقي في " شُعب الإيمان " ( 10556 ) عن عمار بن ياسر ، مرفوعاً .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " اليقين " : 118 ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 209 ) .
(4) في ( ص ) : ( ولساناً ) .
(5) صادقاً ) سقطت من ( ص ) .
(6) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " اليقين " : 112 .
وكان عطاء الخراساني لا يقومُ من مجلسه حتى يقولَ : اللهمَّ هب لنا يقيناً منك حتى تُهوِّن علينا مصائبَ الدُّنيا ، وحتى نعلمَ أنَّه لا يُصيبنا إلا ما كتبتَ علينا ، ولا يُصيبنا مِنْ هذا الرِّزقِ إلاَّ ما قسمتَ لنا (1) .
روينا من حديث ابن عباس مرفوعاً ، قال : ( من سرَّه أنْ يكون أغنى الناسِ ، فليكن بما في يدِ الله أوثق منه بما في يده ) (2) .
والثاني : أنْ يكونَ العبدُ إذا أُصيبَ بمصيبةٍ في دُنياه مِنْ ذهابِ مالٍ ، أو ولدٍ ، أو غير ذلك ، أرغبَ في ثواب ذلك ممَّا ذهبَ منه مِنَ الدُّنيا أنْ يبقي له ، وهذا أيضاً ينشأُ مِنْ كمالِ اليقين .
وقد روي عن ابن عمر : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه : ( اللهُمَّ اقسم لنا مِنْ خشيتك ما تحولُ به بيننا وبين معاصِيكَ ، ومِنْ طاعتك ما تبلِّغُنا به جنَّتك ، ومِنَ اليقين ما تهوِّنُ به علينا مصائبَ الدُّنيا ) (3) وهو من علامات الزُّهد في الدُّنيا ، وقلَّةِ
الرَّغبة فيها ، كما قال عليٌّ - رضي الله عنه - : من زهد في الدُّنيا ، هانت عليه المصيباتُ .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " اليقين " : 108 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/218 – 219 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 367 ) و( 368 ) من حديث عبد الله بن عباس ، به . وهو جزء من حديث طويل .
(3) أخرجه : الترمذي ( 3502 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 402 ) ، والحاكم 1/528 ، والبغوي ( 1374 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
والثالث : أنْ يستوي عندَ العبد حامدُه وذامُّه في الحقِّ ، وهذا من علامات الزُّهد في الدُّنيا ، واحتقارها ، وقلَّةِ الرَّغبة فيها ، فإنَّ من عظُمتِ الدُّنيا عنده أحبَّ المدحَ وكرِهَ الذَّمَّ ، فربما حمله ذلك على تركِ كثيرٍ مِنَ الحق خشيةَ الذَّمِّ ، وعلى فعلِ كثيرٍ مِنَ الباطلِ رجاءَ المدح ، فمن استوى عنده حامدُه وذامُّه في الحقِّ ، دلَّ على سُقوط منزلة المخلوقين من قلبه ، وامتلائه مِنْ محبَّة الحقِّ ، وما فيه رضا مولاه ، كما قال ابن مسعود : اليقين أنْ لا تُرضي النَّاسَ بسخط الله (1) . وقد مدح الله الذين يُجاهدون في سبيل الله ، ولا يخافون لومة لائم .
وقد روي عن السَّلف عبارات أخرُ في تفسير الزُّهد في الدُّنيا ، وكلها تَرجِعُ إلى ما تقدَّم ، كقول الحسن : الزاهد الذي إذا رأى أحداً قال : هو أفضل مني ، وهذا يرجع إلى أنَّ الزاهد حقيقةً هو الزَّاهدُ في مدح نفسه وتعظيمها ، ولهذا يقال : الزهد في الرِّياسة أشدُّ منه في الذهب والفضة (2) ، فمن أخرج مِنْ قلبه حبَّ الرياسة في الدُّنيا ، والتَّرفُّع فيها على الناس ، فهو الزاهد حقاً ، وهذا هو الذي يستوي عنده حامدُه وذامُّه في الحقِّ ، وكقول وهيب بن الورد : الزهد في الدُّنيا أنْ لا تأسى على ما فات منها ، ولا تفرح بما آتاك منها (3) ، قال ابن السماك : هذا هو الزاهد المبرز في زهده .
وهذا يرجع إلى أنَّه يستوي عند العبد إدبارها وإقبالها وزيادتها ونقصُها ، وهو مثلُ استواءِ المصيبة وعدمها كما سبق .
وسئل بعضُهم - أظنُّه الإمام أحمد - عمَّن معه مالٌ : هل يكون زاهداً ؟ قال : إنْ كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه ، أو كما قال .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/238 من قول يوسف بن أسباط .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/140 .
وسئل الزهري عن الزاهد فقال : من لم يغلب الحرامُ صبرَه ، ولم يشغل الحلالُ شكره (1) ، وهذا قريبٌ ممَّا قبله ، فإنَّ معناه أنَّ الزاهد في الدُّنيا إذا قدر منها على حرام ، صبر عنه ، فلم يأخذه ، وإذا حصل له منها حلالٌ ، لم يشغَلْهُ عَنِ الشُّكر ، بل قام بشكرِ الله عليه .
قال أحمد بن أبي الحواري : قلتُ لسفيان بن عيينة : مَنِ الزَّاهد في الدُّنيا ؟ قال : من إذا أنعم عليه شكر(2)، وإذا ابتُلي صبر . فقلت : يا أبا محمد قد أنعم عليه فشكر ، وابتلي فصبر ، وحبس النِّعمةَ (3) ، كيف يكون زاهداً ؟! فقال : اسكت ، من لم تمنعه النَّعماءُ مِنَ الشُّكر ، ولا البلوى من الصَّبر ، فذلك الزاهد (4) .
وقال ربيعة : رأس الزهادة جمعُ الأشياء بحقها ، ووضعُها في حقِّها (5) .
وقال سفيان الثوري : الزهد في الدُّنيا قِصَرُ الأمل ، ليس بأكل الغليظ ، ولا بلبس العباء (6) ، وقال : كان من دعائهم : اللهم زهِّدنا في الدُّنيا ، ووسِّع علينا منها ، ولا تزوِها عنا ، فترغِّبنا فيها . وكذا قال الإمام أحمد : الزُّهد في الدُّنيا : قِصَرُ الأمل ، وقال مرة : قِصَرُ الأملِ واليأسُ مما في أيدي الناس .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 7/287 .
(2) من قوله : ( لم يشغله عن الشكر … ) سقطت من ( ص ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 7/273 .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/259 .
(6) أخرجه : وكيع في " الزهد " 1/222 ( 6 ) ، والدينوري في " المجالسة " ( 2848 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/386 .
ووجه هذا أنَّ قِصَرَ الأملِ يُوجِبُ محبَّةَ لقاء الله بالخروج من الدُّنيا ، وطول الأمل يقتضي محبَّةَ البقاءِ فيها ، فمن قصُرَ أملُه ، فقد كره البقاء في الدُّنيا ، وهذا نهاية الزُّهد فيها ، والإعراض عنها ، واستدل ابنُ عيينة لهذا القول بقوله تعالى
: { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إلى قوله: { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } (1).
وروى ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن الضَّحَّاك بن مزاحم قال : أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
رجلٌ ، فقال : يا رسول الله ، مَنْ أزهدُ النَّاسِ ؟ فقال : ( من لم ينسَ القبرَ والبِلى ، وترك أفضلَ(2) زينة الدُّنيا ، وآثرَ ما يبقى على ما يفنى ، ولم يعدَّ غداً مِنْ أيَّامه وعدَّ نفسه من الموتى ) (3) وهذا مرسل .
وقد قسَّم كثيرٌ مِنَ السَّلفِ الزُّهدَ أقساماً : فمنهم من قال : أفضل الزُّهدِ : الزُّهدُ في الشِّركِ ، وفي عبادةِ ما عُبِدَ من دُونِ الله ، ثمَّ الزُّهدُ في الحرام كلِّه من المعاصي ، ثمَّ الزُّهدُ في الحلال ، وهو أقلُّ أقسام الزهد ، فالقسمان الأولان من هذا الزهد ، كلاهما واجبٌ ، والثَّالث : ليس بواجبٍ ، فإنَّ أعظمَ الواجبات : الزُّهد في الشِّركِ ، ثم في المعاصي كلِّها (4) . وكان بكرٌ المزنيُّ يدعو لإخوانه : زهَّدنا الله وإياكم زُهْدَ مَنْ أمكنه الحرام والذنوب في الخلوات ، فعلم أنَّ الله يراه فتركه .
وقال ابنُ المبارك : قال سلام بن أبي مطيع : الزُّهد على ثلاثة وجوه :
__________
(1) البقرة : 94 – 96 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34318 ) من طريق الضَّحاك بن مزاحم ، مرسلاً فهو ضعيف لإرساله .
(4) انظر : الفوائد لابن القَيَّم : 146 .
واحد : أنْ يُخْلِصَ العمل لله - عز وجل - والقول ، ولا يُراد بشيء منه الدُّنيا .
والثاني : تركُ ما لا يصلُحُ ، والعمل بما يصلح .
والثالث : الحلال أنْ يزهدَ فيه وهو تطوُّعٌ ، وهو أدناها (1) .
وهذا قريب مما قبله ، إلاَّ أنَّه جعل الدَّرجةَ الأُولى مِنَ الزُّهدِ الزُّهدَ في
الرياء المنافي للإخلاص في القول والعمل ، وهو الشِّركُ الأصغر ، والحاملُ عليه
محبَّةُ المدح في الدُّنيا ، والتقدُّم عند أهلها ، وهو مِنْ نوعِ محبَّةِ العلوِّ فيها
والرياسة .
وقال إبراهيم بن أدهم : الزهد ثلاثة أصناف : فزهدٌ فرضٌ ، وزهدٌ فضلٌ ، وزهدٌ سلامةٌ ، فالزهد الفرض : الزهد في الحرام ، والزهد الفضل : الزهد في الحلال ، والزهدُ السلامةُ : الزُّهد في الشبهات (2) .
وقدِ اختلفَ الناسُ : هل يستحقُّ اسمَ الزاهد مَنْ زَهِدَ في الحرام خاصَّةً ، ولم يزهد في فضول المباحات أم لا ؟ على قولين :
أحدهما : أنَّه يستحقُّ اسمَ الزهد بذلك ، وقد سبق ذلك عَنِ الزُّهري وابن عيينة وغيرهما .
والثاني : لا يستحقُّ اسم الزهد بدون الزهد في فضول المباح ، وهو قولُ طائفة من العارفين وغيرهم ، حتى قال بعضهم : لا زُهْدَ اليوم لفقد المباح المحض ، وهو قول يوسف بن أسباط (3) وغيره ، وفي ذلك نظر . وكان يونس بن عبيد يقول : وما قدر الدُّنيا حتى يُمدَح من زهد فيها ؟
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/188 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/26 و10/137 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/238 بنحوه .
وقال أبو سليمان الداراني : اختلفوا علينا في الزُّهد بالعراق ، فمنهم من قال : الزُّهد في ترك لقاءِ النَّاسِ ، ومنهم من قال : في ترك الشَّهواتِ ، ومنهم من قال : في ترك الشِّبَعِ ، وكلامهم قريبٌ بعضُه مِن بعضٍ ، قال : وأنا أذهبُ إلى أنَّ الزُّهدَ في ترك ما يشغلُك عن الله - عز وجل - (1) ، وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن ، وهو يجمعُ جميعَ معاني الزُّهد وأقسامه وأنواعه .
واعلم أنَّ الذمَّ الوارد في الكتاب والسُّنَّة للدُّنيا ليس هو راجعاً إلى زمانها الذي هو اللَّيل والنَّهار ، المتعاقبان إلى يوم القيامة ، فإنَّ الله جعلهما خِلفَةً لمن أراد أنْ يذَّكَّرَ أو أراد شكوراً . ويُروى عن عيسى - عليه السلام - أنَّه قال : إنَّ هذا الليل والنهار خزانتان ، فانظُروا ما تضعُون فيهما ، وكان يقول : اعملوا اللَّيل لما خلق له ، والنَّهار لما خلق له .
وقال مجاهد : ما مِنْ يوم إلاَّ يقول : ابنَ آدم قد دخلتُ عليك اليوم ، ولن أرجعَ إليك بعدَ اليوم ، فانظُر ماذا تعمل فيَّ ، فإذا انقضى ، طوي ، ثم يُخْتَمُ عليه ، فلا يُفَكُّ حتّى يكون الله هو الذي يفضّه يومَ القيامة ، ولا ليلة إلا تقول كذلك (2) ، وقد أنشد بعضُ السَّلف :
إنَّما الدُّنيا إلى الجنَّـ
ـةِ والنَّار طريق
واللَّيالي متجر الإنـ
ـسان والأيَّام سُوق
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/258 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/292 بنحوه .
وليس الذمُّ راجعاً إلى مكان الدُّنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مِهاداً وسكناً ، ولا إلى ما أودعه الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن ، ولا إلى ما أنبته فيها من الشَّجر والزرع ، ولا إلى ما بثَّ فيها من الحيوانات وغير ذلك ، فإنَّ ذلك كُلَّه مِنْ نعمة الله على عباده بما لهم فيه من المنافع ، ولهم به من الاعتبار والاستدلال على وحدانيَّة صانعه وقُدرته وعَظَمَتهِ ، وإنَّما الذَّمُّ راجعٌ إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدُّنيا ؛ لأنَّ غالبها واقعٌ على غير الوجه الذي تُحمَدُ عاقبتُه ، بل يقعُ على ما تضرُّ عاقبتُه ، أو لا تنفع ، كما قال - عز وجل - : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ } (1) .
وانقسم بنو آدم في الدُّنيا إلى قسمين :
أحدهما : من أنكر أنْ يكون للعباد بعد الدُّنيا دارٌ للثَّواب والعقاب ، وهؤلاء هم الَّذين قال الله فيهم : { إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنيا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ } (2) ، وهؤلاء همُّهمُ التمتُّع بالدُّنيا ، واغتنامُ لَذَّاتها قبل الموت ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً
لَهُمْ } (3) . ومن هؤلاء من كان يأمرُ بالزُّهد في الدُّنيا ؛ لأنَّه يرى أنَّ الاستكثار منها يُوجِبُ الهمَّ والغمَّ ، ويقول : كلَّما كثُرَ التعلُّقُ بها ، تألَّمت النَّفسُ بمفارقتها عند الموت ، فكان هذا غايةَ زُهدهم في الدُّنيا .
__________
(1) الحديد : 20 .
(2) يونس : 7 – 8 .
(3) محمد : 12 .
والقسم الثاني : من يُقرُّ بدارٍ بعد الموت للثَّواب والعقاب ، وهم المنتسبون إلى شرائع المرسلين ، وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام : ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق بالخيرات بإذن الله .
فالظالم لنفسه: هم الأكثرون منهم ، وأكثرهم وقف مع زهرةِ الدُّنيا وزينتِها ، فأخذها مِن غير وجهها ، واستعملها في غيرِ وجهها ، وصارت الدُّنيا أكبرَ همِّه ، لها يغضب(1) ، وبها يرضى، ولها يُوالي ، وعليها يُعادي ، وهؤلاء هم أهلُ اللَّهو واللَّعب والزِّينة والتَّفاخر والتَّكاثر ، وكلُّهم لم يعرفِ المقصودَ من الدُّنيا(2) ، ولا أنَّها منزلُ سفرٍ يتزوَّدُ منها لِمَا بعدَها مِنْ دارِ الإقامة ، وإنْ كان أحدُهم يُؤمِنُ بذلك إيماناً مجمَلاً ، فهو لا يعرفه مفصَّلاً ، ولا ذاقَ ما ذاقَهُ أهلُ المعرفة بالله في الدُّنيا ممَّا هو أنموذَجُ ما ادُّخر لهم في الآخرة .
والمقتصد منهم أخذَ الدُّنيا مِنْ وجوهها المباحَةِ ، وأدَّى واجباتها ، وأمسك لنفسه الزَّائِدَ على الواجب ، يتوسَّعُ به في التمتُّع بشهواتِ الدُّنيا(3) ، وهؤلاءِ قدِ اختُلف في دخولهم في اسم الزَّهادَةِ في الدُّنيا كما سبق ذكره ، ولا عقاب عليهم في ذلك ، إلاَّ أنَّه ينقصُ من درجاتهم من الآخرة بقدر توسُّعهم في الدُّنيا . قال ابن عمر : لا يصيبُ عبدٌ مِنَ الدُّنيا شيئاً إلاَّ نقص من درجاته عند الله، وإنْ كان عليه كريماً ، خرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا (4) بإسنادٍ جيد . وروي مرفوعاً من حديث عائشة بإسناد فيه نظر .
__________
(1) عبارة : ( لها يغضب ) سقطت من (ص ) .
(2) عبارة : ( من الدنيا ) سقطت من ( ص ) .
(3) من قوله : ( على الواجب … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(4) كما في " الترغيب والترهيب " ( 4709 ) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا .
وأخرجه : هناد في " الزهد " ( 557 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/306 .
وروى الإمام أحمدُ في كتاب " الزهد " بإسناده : أنَّ رجلاً دخل على معاوية ، فكساه ، فخرج فمرَّ على أبي مسعود الأنصاري ورجلٍ آخر من الصَّحابة ، فقال أحدهما له : خذها مِنْ حسناتِك ، وقال الآخر : من طيِّباتك .
وبإسناده عن عمر قال : لولا أنْ تنقص حسناتي لخالطتكم في لين عَيشِكُم ، ولكنَّي سمعت الله عيَّرَ قوماً، فقال : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنيا } (1) (2).
وقال الفضيل بن عياض : إنْ شئت استَقِلَّ مِنَ الدُّنيا ، وإنْ شئت استكثر منها فإنَّما تأخُذُ مِن كيسك .
ويشهد لهذا أنَّ الله - عز وجل - حرَّم على عباده أشياءَ مِنْ فضول شهواتِ الدُّنيا وزينتها وبهجتها ، حيث لم يكونوا محتاجين إليه ، وادَّخره لهم عنده في الآخرة ، وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله - عز وجل - : { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرحمان لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ } إلى قوله : { وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنيا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } (3) .
__________
(1) الأحقاف : 20 .
(2) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 24196 ) بنحوه .
(3) الزخرف : 33 - 35 .
وصحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( مَنْ لبس الحَريرَ في الدُّنيا ، لم يلبسه في
الآخرة ) (1) ، و ( من شرب الخمر في الدُّنيا لم يشربها في الآخرة ) (2) . وقال :
( لا تلبَسوا الحريرَ ولا الدِّيباجَ ، ولا تشربوا في آنية الذَّهبِ والفِضَّةِ ، ولا تأكُلُوا في صحافها ، فإنَّها لهم في الدُّنيا ، ولكم في الآخرة ) (3) .
قال وهب : إنَّ الله - عز وجل - قال لموسى - عليه السلام - : إنِّي لأذودُ أوليائي عن نعيم الدُّنيا ورخائها كما يذودُ الرَّاعي الشفيقُ إبِلَه عن مبارك العُرَّةِ ، وما ذلك لهوانهم عليَّ ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً لم تَكْلَمْه الدُّنيا (4) .
__________
(1) أخرجه : البخاري 7/193 ( 5832 ) ، ومسلم 6/142 – 143 ( 2073 ) ( 21 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) أخرجه : البخاري 7/135 ( 5575 ) ، ومسلم 6/100 ( 2003 ) ( 73 ) ، وأبو داود
( 3679 ) ، وابن حبان ( 5366 ) ، والبيهقي 8/293 ، والبغوي ( 3013 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
(3) أخرجه : الحميدي ( 440 ) ، والبخاري 7/99 ( 5426 ) ، ومسلم 6/136 – 137
( 2067 ) ( 4 ) و( 5 ) ، وابن ماجه ( 3414 ) و( 3590 ) ، والترمذي ( 1878 ) ، والنسائي 8/198 – 199 ، وابن حبان ( 5339 ) من حديث حذيفة ، به .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/11 – 12 من طرق عن ابن عباس ، بنحوه .
ويشهد لهذا ما خرَّجه الترمذي عن قتادة بن النُّعمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً حماه عَنِ الدُّنيا ، كما يَظَلُّ أحدُكُمْ يحمي سقيمَه الماءَ ) (1) ، وخرَّجه الحاكم (2) ، ولفظه : ( إنَّ الله ليحمي عبدَه الدُّنيا وهو يحبُّه ، كما تحمُونَ مريضَكم الطَّعام والشراب ، تخافون عليه ) .
وفي " صحيح مسلم " (3) عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( الدُّنيا سجنُ المؤمن ، وجنَّة الكافر ) .
وأمَّا السَّابقُ بالخيرات بإذن الله ، فهمُ الَّذينَ فهِمُوا المرادَ مِنَ الدُّنيا ، وعَمِلُوا بمقتضى ذلك ، فعلموا أنَّ الله إنَّما أسكنَ عبادَه في هذه الدَّارِ ، ليبلوهم أيُّهم أحسنُ
عملاً ، كما قال : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } (4) ، وقال : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } (5) .
__________
(1) أخرجه : الترمذي ( 2036 ) ، وابن حبان ( 669 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 17 ) من حديث قتادة ، به ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
(2) في " المستدرك " 4/207 و309 من حديث قتادة بن النعمان ، به .
(3) الصحيح 8/210 ( 2956 ) ( 1 ) .
وأخرجه : أحمد 2/323 و485 ، وابن ماجه ( 4113 ) ، وابن حبان ( 687 ) و( 688 ) من حديث أبي هريرة ، به .
وهنا قد وهم ابن رجب فنسب الحديث في " صحيح مسلم " إلى : ( عبد الله بن عمرو ) ، بينما هو من رواية أبي هريرة .
أما رواية عبد الله بن عمرو فقد أخرجها : أحمد 2/197 ، والحاكم 4/315 ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/177 و185 .
(4) هود : 7 .
(5) الملك : 2 .
قال بعض السَّلف : أيهم أزهد في الدُّنيا ، وأرغبُ في الآخرة ، وجعل ما في الدُّنيا مِنَ البهجة والنُّضرة مِحنَةً ، لينظر من يقف منهم معه ، ويَركَن إليه ، ومن ليس كذلك ، كما قال تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } (1) ثم بين انقطاعه ونفاده ، فقال : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } (2) ، فلمَّا فهِموا أنَّ هذا هو المقصود مِنَ الدُّنيا ، جعلوا همَّهم التزوُّدَ منها للآخرة التي هي دارُ القرار ، واكتفوا مِنَ الدُّنيا بما يكتفي به المسافرُ في سفره ، كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ما لي وللدُّنيا ، إنَّما مثلي ومثل الدُّنيا كراكبٍ قالَ في ظلِّ شجرةٍ ، ثم راح وتركها ) (3) .
__________
(1) الكهف : 7 .
(2) الكهف : 8 .
(3) أخرجه : أحمد 1/391 و441 ، وابن ماجه ( 4109 ) ، والترمذي ( 2377 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 9307 ) ، والحاكم 4/310 ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/102 و4/234 من حديث عبد الله بن مسعود ، به ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
وللحديث طرق أخرى .
ووصَّى - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من الصحابة أنْ يكون بلاغُ أحدِهم مِنَ الدُّنيا كزادِ الراكب ، منهم : سلمان (1) ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وأبو ذرٍّ ، وعائشة (2) ، ووصَّى ابنَ عمرَ أنْ يكونَ في الدُّنيا كأنَّه(3) غريبٌ أو عابرُ سبيل ، وأنْ يَعُدَّ نفسه من أهل القبور (4) .
وأهل هذه الدرجة على قسمين : منهم من يقتصرُ من الدُّنيا على قدر ما يسدُّ الرَّمق فقط ، وهو حالُ كثيرٍ من الزُّهَّادِ . ومنهم من يفسح لنفسه أحياناً في تناول بعض شهواتِها المباحةِ ؛ لتقوى النَّفسُ بذلك ، وتنشَط للعملِ ، كما روي عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه قال : ( حُبِّبَ إليَّ من دنياكمُ النِّساءُ والطِّيبُ ، وجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في
الصَّلاة ) خرَّجه الإمام أحمد (5) والنَّسائي (6) من حديث أنس .
__________
(1) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20632 ) ، ووكيع في " الزهد " ( 67 ) ، وأحمد 5/438 ، وابن حبان ( 706 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 6069 ) و( 6160 ) و( 6182 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/195 و196 و197 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 728 ) من حديث سلمان ، وهو حديث صحيح .
(2) أخرجه : الترمذي ( 1780 ) من حديث عائشة ، وإسناده ضعيف جداً .
(3) عبارة : ( في الدنيا كأنَّه ) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : أحمد 2/24 و41 ، والبخاري 8/110 ( 6416 ) ، وابن ماجه ( 4114 ) ، والترمذي ( 2333 )، وابن حبان ( 698 )، والبيهقي 3/369 من حديث عبد الله بن عمر ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(5) في " مسنده " 3/128 و199 و285 من حديث أنس بن مالك ، به .
(6) في " المجتبى " 7/61 و62 ، وهو حديث صحيح .
وخرَّج الإمام أحمد (1) من حديث عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ
من الدُّنيا النِّساء والطِّيب والطعام ، فأصاب من النِّساءِ والطِّيبِ ، ولم يُصب من الطَّعامِ .
وقال وهب : مكتوبٌ في حكمة آل داود - عليه السلام - : ينبغي للعاقل أنْ لا يَغْفُل عن أربع ساعاتٍ : ساعةٍ يُحاسِبُ فيها نفسه ، وساعةٍ يُناجي فيها ربَّه ، وساعةٍ يلقى فيها إخوانه الذين يُخبرونه بعيُوبه ، ويُصدقونه عن نفسه ، وساعةٍ يُخلي بين نفسه وبين لذَّاتها فيما يحلُّ ويجمل ، فإنَّ في هذه السَّاعة عوناً على تلك الساعات ، وفضلَ بُلغة واستجماماً للقلوب ، يعني : ترويحاً لها (2) .
ومتى نوى المؤمن بتناول شهواته المباحة التقوِّي على الطاعة كانت شهواتُه له طاعة يُثابُ عليها ، كما قال معاذ بن جبل : إنِّي لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي (3) ، يعني : أنَّه ينوي بنومه التَّقوِّي على القيام في آخر الليل ، فيحتسِبُ ثوابَ نومهِ كما يحتسب ثواب قيامه . وكان بعضهم إذا تناول شيئاً من شهواته المباحة واسى منها إخوانَه ، كما روي عن ابن المبارك أنَّه كان إذا اشتهى شيئاً لم يأكلْه حتّى يشتهيه بعضُ أصحابه ، فيأكله معهم ، وكان إذا اشتهى شيئاً ، دعا ضيفاً له ليأكل معه .
وكان يذكر عن الأوزاعي أنَّه قال : ثلاثة لا حسابَ عليهم في مطعمهم :
المتسحِّر ، والصائم حين يفطر ، وطعام الضيف (4) .
__________
(1) في " مسنده " 6/72 من طريق أبي إسحاق ، عن رجل حدَّثه ، عن عائشة ، به ، وإسناده ضعيف لإبهام الراوي عن عائشة .
(2) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 313 ) ، وهناد في " الزهد " ( 1226 ) ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 4677 ) و( 4678 ) .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 5959 ) ، وأحمد 4/409 عن معاذ بن جبل ، به .
وهو جزء من حديث طويل .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/72 من طريق يونس بن يزيد ، عن الأوزاعي ، عن حَسَّان .
وقال الحسن : ليس مِن حبك للدُّنيا طلبك ما يصلحك فيها ، ومن زهدك فيها ترك الحاجة يسدها عنك تركها ، ومن أحبَّ الدُّنيا وسرَّته ، ذهب خوفُ الآخرة من قلبه .
وقال سعيد بن جبير : متاعُ الغرور ما يُلهيك عن طلب الآخرة ، وما لم يُلهك فليس بمتاع الغرور ، ولكنَّه متاعُ بلاغٍ إلى ما هو خيرٌ منه (1) .
وقال يحيى بنُ معاذ الرازي : كيف لا أُحِبُّ دنيا قُدِّر لي فيها قوتٌ ، أكتسب بها حياةً ، أُدركُ بها طاعةً ، أنالُ بها الآخرة .
وسئل أبو صفوان الرّعيني - وكان من العارفين - : ما هي الدُّنيا التي ذمَّها الله في القرآن التي ينبغي للعاقل أنْ يجتنبها ؟ فقال : كلُّ ما أصبت في الدُّنيا تريدُ به الدُّنيا ، فهو مذمومٌ ، وكلُّ ما أَصبتَ فيها تريدُ به الآخرة ، فليس منها (2) .
وقال الحسن : نعمت الدار كانت الدُّنيا للمؤمن ، وذلك أنَّه عمل قليلاً ، وأخذ زاده منها إلى الجنَّة ، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق ، وذلك أنَّه ضيَّع لياليه ، وكان زادُه منها إلى النار (3) .
__________
(1) أخرجه : نعيم بن حماد في " زوائده على الزهد " لابن المبارك ( 140 ) .
(2) أخرجه : أبو سعيد في " الزهد وصفة الزاهدين " ( 35 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 10/5 ، والبيهقي في " الزهد الكبير " ( 448 ) .
(3) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 1637 ) ، وابن أبي عاصم في " الزهد " : 284 . ( ط . دار الرَّيان للتُراث ) .
وقال أيفع بنُ عبدٍ الكَلاعيُّ : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا دخل أهل الجنَّةِ الجنَّة وأهل النار النارَ ، قال الله : يا أهل الجنة ، كَمْ لَبِثْتُم في الأرضِ عَدَدَ سِنين ؟ قالوا : لَبِثْنَا يَوماً أَوْ بَعْضَ يَومٍ ، قال : نعم ما اتجرتم في يومٍ أو بعض يوم ، رحمتي ورضواني وجنتي ، امكثوا فيها خالدين مخلدين ، ثم يقول لأهل النار : كم لبثتم في الأرض عددَ سنين ؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم ، فيقول : بئس ما اتَّجرتم في يومٍ أو بعض يومٍ ، سخطي ومعصيتي وناري ، امكثوا فيها خالدين مخلدينَ ) (1) .
وخرَّج الحاكم (2) من حديث عبد الجبَّار بن وهب ، أنبأنا سعدُ بن طارق ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( نعمتِ الدَّارُ الدُّنيا لمن تزوَّد منها لآخرته حتّى يُرضِيَ ربَّهُ ، وبئستِ الدَّارُ لمن صدَّته عن آخرته ، وقصَّرت به عن رضا ربِّه ، وإذا قال العبد : قبَّحَ الله الدُّنيا ، قالت الدُّنيا : قبَّح الله أعصانا لربِّه ) وقال (3) : صحيح الإسناد ، وخرَّجه العقيلي (4) ، وقال : عبد الجبار بن وهب مجهول وحديثُه غير محفوظ ، قال : وهذا الكلام يُروى عن عليٍّ من قوله .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي حاتم في "تفسيره" ( 14060 ) وكما في "تفسير ابن كثير" : 1308 ( ط . دار ابن حزم ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/132 من طريق أيفع بن عبد الكلاعي ، مرسلاً .
(2) في " المستدرك " 4/312 – 313 .
وأخرجه : الرامهرمزي في " الأمثال " : 58 و147 ، وابن عدي في " الكامل " 4/226 عن سعد بن طارق ، عن أبيه ، به .
(3) في " المستدرك " 4/313 .
(4) في " الضعفاء " 3/89 .
وقول عليٍّ خرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا (1) عنه بإسنادٍ فيه نظر : أنَّ علياً سمع رجلاً يسبُّ الدُّنيا ، فقال : إنَّها لدارُ صدق لمن صدقها ، ودارُ عافيةٍ لمن فهم عنها ، ودارُ غنى لمن تزوَّد منها ، مسجد أحبَّاءِ الله ، ومهبِطُ وحيِهِ ، ومُصَلّى ملائكتِهِ ، ومتجَرُ أوليائه ، اكتسبوا فيها الرَّحمَةَ وربحُوا فيها الجَنَّة ، فمن ذا يذمُّ الدُّنيا وقد آذنت بفراقها ، ونادت بعيبها ، ونعت نفسها وأهلَها ، فمثَّلت ببلائها البلاءَ ، وشوَّقت بسرُورها إلى السُّرور، فذمَّها قومٌ عندَ النَّدامة ، وحمِدها آخرون ، حدَّثتهم فصدقوا ، وذكَّرتهم فذكروا ؟ فيا أيُّها المغترُّ بالدُّنيا، المغترُّ بغرورها، متى استلامت إليك الدُّنيا ؟ بل متى غرَّتك ؟ أبمضاجعِ آبائك مِنَ الثرى ؟ أم بمصارع أُمَّهاتك منَ البلى ؟ كم قد قلَّبت بكفيك ، ومرَّضت بيديك تطلب له الشِّفاءَ ، وتسأل له الأطباء ، فلم تظفر بحاجتك ، ولم تُسعَفْ بطلبَتِكَ ، قد مثَّلت لك الدُّنيا بمصرعه مصرَعَك غداً ، ولا يُغني عنك بكاؤك ، ولا ينفعُك أحبَّاؤك .
فبين أميرُ المؤمنين - رضي الله عنه - أنَّ الدُّنيا لا تُذَمُّ مطلقاً ، وأنَّها تُحمدُ بالنِّسبة إلى من تزوَّد منها الأعمال الصالحة ، وأنَّ فيها مساجدَ الأنبياءِ ، ومهبطَ الوحي ، وهي دار التِّجارة للمؤمنين ، اكتسبوا فيها الرَّحمة ، وربحوا بها الجَنَّة ، فهي نِعمَ الدَّارُ لمن كانت هذه صفَته . وأمَّا ما ذكر من أنَّها تَغُرُّ وتخدَعُ ، فإنَّها تُنادي بمواعظها ، وتنصحُ بعبرها ، وتُبدي عيوبَها بما تُري أهلها من مصارع الهلكى ، وتقلُّبِ الأحوال مِنَ الصِّحَّة إلى السَّقم ، ومِنَ الشَّبيبة إلى الهرم ، ومن الغنى إلى الفقر ، ومن العِزِّ إلى الذُّلِّ ، لكنَّ مُحِبَّها قد أصمَّه وأعماه حبُّها ، فهو لا يسمع نداءها ، كما قيل :
قدْ نادَتِ الدُّنيا على نَفسِها
__________
(1) في " ذم الدنيا " ( 147 ) .
لَوْ كانَ في العَالَمِ مَنْ يَسمَعُ
كَمْ وَاثِقٍ بالعُمْرِ أَفْنَيتُهُ
وجَامِعٍ بَدَّدَتُ ما يَجْمَعُ
قال يحيى بنُ معاذ : لو يسمع الخلائقُ صوتَ النِّياحةِ على الدُّنيا في الغيبِ من ألسنةِ الفناءِ ، لتساقطت القلوبُ منهم حُزناً (1) . وقال بعضُ الحكماء : الدُّنيا أمثالٌ تضرِبُها الأيَّامُ للأنام ، وعلمُ الزَّمان لا يحتاجُ إلى تَرجُمان ، وبحبِّ الدُّنيا صُمَّتْ أسماعُ القلوب عنِ المواعظ ، وما أحثَّ السائقَ لو شعرَ الخلائقُ .
وأهل الزُّهد في فضول الدُّنيا أقسام : فمنهم من يحصلُ له ، فيمسكه ويتقرَّبُ به إلى الله ، كما كان كثيرٌ مِنَ الصَّحابة وغيرهم ، قال أبو سليمان : كان عثمان
وعبد الرحمان بن عوف خازنين من خزان الله في أرضه ، يُنفقان في طاعته ، وكانت معاملتُهما لله بقلوبِهما (2) .
ومنهم من يُخرجه مِنْ يده ، ولا يُمسكه ، وهؤلاء نوعان : منهم من يُخرجه اختياراً وطواعية ، ومنهم من يُخرجهُ ونفسه تأبى إخراجه ، ولكن يُجاهدُها على ذلك . وقد اختُلف في أيِّهما أفضل ، فقال ابنُ السَّماك والجنيد : الأوَّل أفضلُ ، لتحقُّق نفسه بمقامِ السَّخاءِ والزُّهد ، وقال ابن عطاء : الثَّاني أفضل ؛ لأنَّ له عملاً ومجاهدة . وفي كلام الإمام أحمد ما يدلُّ عليه أيضاً .
ومنهم من لم يحصُل له شيءٌ مِنَ الفُضولِ ، وهو زاهدٌ في تحصيله ، إمَّا مع قدرته ، أو بدونها ، والأوَّل أفضلُ مِنْ هذا ، ولهذا قال كثيرٌ مِنَ السَّلفِ : إنَّ عمرَ ابن عبد العزيز كان أزهدَ مِنْ أويس ونحوه ، كذا قال أبو سليمان (3) وغيرُه .
وكان مالكُ بنُ دينار يقولُ : الناسُ يقولون : مالكٌ زاهدٌ ، إنَّما الزَّاهدُ عمر ابن عبد العزيز (4) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 10/56 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/262 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/272 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/257 .
وقد اختلف العلماء : أيُّما أفضلُ : من طلبَ الدُّنيا منَ الحلال ، ليصل رحمَه ، ويقدِّم منها لنفسه ، أم من تركها فلم يطلبها بالكُليَّة ؟ فرجَّحت طائفةٌ من تركها
وجانبها ، منهم : الحسن وغيره ، ورجَّحت طائفةٌ من طلبها على ذلك الوجه ، منهم : النخعي وغيره ، وروي عن الحسن عنه نحوه .
والزَّاهدون في الدُّنيا بقلوبهم لهم ملاحظُ ومشاهدُ يشهدونها ، فمنهم من يشهدُ كثرةَ التَّعب بالسَّعي في تحصيلها ، فهو يزهدُ فيها قصداً لراحةِ نفسه . قال الحسن : الزُّهد في الدُّنيا يُريح القلب والبدن .
ومنهم من يخافُ أنْ ينقصَ حظُّه من الآخرة بأخذ فضولِ الدُّنيا . ومنهم من يخافُ من طُولِ الحساب عليها ، قال بعضهم (1) : من سأل الله الدُّنيا ، فإنَّما يسأل طولَ الوُقوفِ(2) للحساب .
ومنهم من يشهدُ كثرةَ عُيوبِ الدُّنيا ، وسرعة تقلُّبها وفنائها ، ومزاحمةَ الأراذِلِ في طلبها ، كما قيل لبعضهم : ما الذي زهَّدكَ في الدُّنيا ؟ قالَ : قلَّةُ وفائها ، وكثرةُ جفائها ، وخسة شُركائها .
ومنهم من كان ينظر إلى حقارةِ الدُّنيا عند الله ، فيقذرها ، كما قال الفضيلُ : لو أنَّ الدُّنيا بحذافيرها عرضت عليَّ حلالاً لا أحاسب بها في الآخرة ، لكنت أتقذرها كما يتقذر الرَّجلُ الجيفةَ إذا مرَّ بها أنْ تصيبَ ثوبه (3) .
ومنهم من كان يخافُ أنْ تشغلَه عن الاستعدادِ للآخرة والتزوُّدِ لها . قال الحسن : إنْ كان أحدهم ليعيش عمره مجهوداً شديدَ الجهد ، والمالُ الحلال إلى جنبه ، يقال له : ألا تأتي هذا فتُصيب منه ؟ فيقول : لا والله لا أفعل ، إنِّي أخافُ أنْ آتيه ، فأصيبَ منه ، فيكون فسادَ قلبي وعملي (4) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/337 من قول بِشر بن الحارث .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/89 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/269 .
وبُعِثَ إلى عمر بن المنكدر بمالٍ ، فبكى ، واشتدَّ بكاؤه ، وقال : خشيت أنْ تغلب الدُّنيا على قلبي ، فلا يكون للآخرة فيه نصيب ، فذلك الذي أبكاني ، ثم أمر به ، فتُصُدِّقَ به على فقراء أهل المدينة .
وخواص هؤلاء يخشى أنْ يشتغلَ بها عن اللهِ ، كما قالت رابعة : ما أحبُّ أنَّ لي الدُّنيا كلَّها مِنْ أوَّلها إلى آخرها حلالاً ، وأنا أنفقُها في سبيل الله ، وأنَّها شغلتني
عنِ الله طرفةَ عينٍ .
وقال أبو سليمان : الزهد ترك ما يشغل عن الله (1) . وقال : كلُّ ما شغلك عن اللهِ مِنْ أهلٍ ومالٍ وولدٍ ، فهو مشؤوم (2) .
وقال : أهلُ الزُّهد في الدُّنيا على طبقتين(3) : منهم من يزهدُ في الدُّنيا ، فلا يُفْتَحُ له فيها روح الآخرة ، ومنهم من إذا زَهِدَ فيها ، فُتحَ له فيها روحُ الآخرة (4) ، فليس شيءٌ أحبَّ إليه من البقاء ليطيع الله (5) .
وقال : ليس الزاهد من ألقى همومَ الدُّنيا ، واستراح منها ، إنَّما الزَّاهد من زَهِدَ في الدُّنيا ، وتعب فيها للآخرة (6) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/258 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/264 .
(3) في ( ص ) : ( الزهد على طبقتين ) .
(4) من قوله : ( ومنهم من إذا … ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/274 .
(6) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 9/273 .
فالزُّهد في الدُّنيا يُرادُ به تفريغُ القلب منَ الاشتغال بها ؛ ليتفرَّغ لِطلب الله ، ومعرفته ، والقرب منه ، والأُنس به ، والشَّوقِ إلى لقائه ، وهذه الأمورُ ليست مِنَ الدُّنيا كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( حُبِّبَ إلي من دُنياكم النِّساءُ والطِّيبُ ، وجُعلت قرَّةُ عيني في الصَّلاة ) (1) ، ولم يجعل الصَّلاةَ ممَّا حُبِّبَ إليه مِنَ الدُّنيا ، كذا في
" المسند " (2) و" النسائي " (3) ، وأظنُّه وقع في غيرهما : ( حبِّبَ إليَّ من دنياكم
ثلاث ) (4) ، فأدخل الصلاة في الدُّنيا ، ويشهدُ لذلك حديث : ( الدُّنيا ملعونةٌ ، ملعونٌ ما فيها ، إلاَّ ذكر الله وما والاه ، أو عالماً أو متعلماً ) خرَّجه ابن ماجه (5) والترمذي (6)
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) المسند 3/128 و199 و285 من حديث أنس بن مالك ، به .
(3) في " المجتبى " 7/61 و72 من حديث أنس بن مالك ، به .
(4) قال العلامة محمد عبد الرؤوف المناوي: ( من زاد كالزمخشري والقاضي لفظ ثلاث فقد وهم، قال الحافظ العراقي في "أماليه" لفظ ثلاث ليست في شيء من كتب الحديث وهي تفسد المعنى، وقال الزركشي : لم يرد فيه لفظ ثلاثة وزيادتها مخلة للمعنى فإن الصلاة ليست من الدنيا ، وقال ابن حجر في " تخريج الكشاف " : لم يقع في شيء من طرقه ، وهي تُفسد المعنى إذ لم يذكر بعدها إلا الطيب والنساء ثم إنَّه لم يضفها لنفسه فما قال : أحب ، تحقيراً لأمرها ؛ لأنَّه أبغض الناس فيها لا لأنها ليست من دنياه بل من آخرته كما ظن إذ كل مباح دنيوي ينقلب طاعة بالنية فلم يبق لتخصيصه حينئذٍ وجه ) . فيض القدير 3/489 – 490 ( 3669 ) ، وانظر : الكافي الشاف ( 183 ) ، والمقاصد الحسنة : 180 .
(5) السنن ( 4112 ) .
(6) في " جامعه " ( 2322 ) من حديث أبي هريرة ، به ، وقال : ( حسن غريب ) .
وأخرجه : أبو نعيم " الحلية " 3/157 و7/90 من حديث جابر ، به .
، وحسَّنه من حديث أبي هريرة مرفوعاً . وروي نحوه من غير وجه مرسلاً ومتصلاً .
وخرَّج الطبراني (1) من حديث أبي الدرداء مرفوعاً قال : ( الدُّنيا ملعونةٌ ، ملعونٌ ما فيها إلا ما ابتُغِيَ به وجه الله ) . وخرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا (2) موقوفاً ، وخرَّجه أيضاً من رواية شهر بن حوشب (3) ، عن عبادة ، أراه رفعه ، قال
: ( يُؤتى بالدُّنيا يومَ القيامة ، فيقال : مِيزوا منها ما كان لله - عز وجل - ، وألقوا سائرها في النار ) .
فالدُّنيا وكلُّ ما فيها ملعونة ، أي : مُبعدَةٌ عن الله ؛ لأنَّها تَشغلُ عنه ، إلاَّ العلمَ النَّافع الدَّالَّ على الله ، وعلى معرفته ، وطلب قُرْبِه ورضاه ، وذكر الله وما والاه ممَّا يُقَرِّبُ مِنَ الله ، فهذا هو المقصودُ مِنَ الدُّنيا ، فإنَّ الله إنَّما أمرَ عبادَه بأنْ يتَّقوه ويُطيعوه ، ولازِمُ ذلك دوامُ ذكره ، كما قال ابن مسعود : تقوى الله حقّ تقواه أنْ يُذكَرَ فلا يُنسى (4) . وإنَّما شرعَ الله أقام الصَّلاةِ لذكره ، وكذلك الحج والطَّواف . وأفضلُ أهل العبادات أكثرُهم ذكراً لله فيها ، فهذا كلُّه ليس مِنَ الدُّنيا المذمومة ، وهو المقصودُ من إيجاد الدُّنيا وأهلها ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } (5) .
__________
(1) كما في " مجمع الزوائد " 10/222 ، وقال الهيثمي : ( رواه الطبراني وفيه خداش بن المهاجر ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات ) .
(2) في " ذم الدنيا " ( 6 ) .
(3) وهو ضعيف .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 5957 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 8501 ) و( 8502 )، والحاكم 2/294 ، والبغوي في " تفسيره " 1/479 ، وابن الجوزي في " تفسيره " 1/431 .
(5) الذاريات : 56 .
وقد ظنَّ طوائفُ مِنَ الفقهاء والصُّوفيَّة أنَّ ما يُوجدُ في الدُّنيا مِنْ هذه العبادات أفضلُ ممَّا يُوجد في الجنَّة مِنَ النَّعيم ، قالوا : لأنَّ نعيمَ الجنَّةِ حقُّ (1) العبد ، والعباداتُ في الدُّنيا حقُّ الربِّ ، وحقُّ الربِّ أفضلُ من حظِّ العبد ، وهذا غلطٌ ، ويقوِّي غلطَهم قولُ كثيرٍ من المفسِّرين في قوله : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } (2) قالوا : الحسنةُ : لا إله إلا الله ، وليس شيءٌ خيراً منها . ولكنَّ الكلامَ على التَّقديم والتَّأخير ، والمراد : فله منها خيرٌ ، أي : له خيرٌ بسببها ولأجلها .
والصَّوابُ إطلاقُ ما جاءت به نصوصُ الكتاب والسُّنة أنَّ الآخرة خيرٌ مِنَ الأُولى مطلقاً . وفي " صحيح الحاكم " (3) عن المستورد بن شدَّادٍ ، قال : كنَّا عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فتذاكروا الدُّنيا والآخرة ، فقال بعضهم : إنَّما الدُّنيا بلاغٌ
للآخرة ، وفيها العمل ، وفيها الصلاةُ ، وفيها الزَّكاةُ . وقالت طائفة منهم : الآخرةُ فيها الجنَّةُ ، وقالوا ما شاء الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما الدُّنيا في الآخرة
إلاَّ كما يَمشي أحدكم إلى اليمِّ ، فأدخل إصبعه فيه ، فما خرج منه ، فهو
الدُّنيا ) ، فهذا نصٌّ بتفضيل الآخرة على الدُّنيا ، وما فيها من
الأعمال .
ووجه ذلك : أنَّ كمالَ الدُّنيا إنَّما هو في العلم والعمل ، والعلمُ مقصودُ الأعمالِ ، يتضاعف في الآخرة بما لا نسبةَ لِمَا في الدُّنيا إليه ، فإنَّ العلم أصلُه العلمُ بالله وأسمائه وصفاته ، وفي الآخرة ينكشفُ الغِطاءُ ، ويصيرُ الخبر عياناً ، ويصيرُ
علمُ اليقين عينَ اليقين ، وتصيرُ المعرفةُ بالله رؤيةً له ومشاهدةً ، فأين هذا مما في
الدُّنيا ؟
وأما الأعمال البدنية ، فإنَّ لها في الدُّنيا مقصدين :
__________
(1) في ( ج ) : ( حظ ) .
(2) النمل : 89 .
(3) المستدرك 4/319 .
أحدهما : اشتغالُ الجوارح بالطَّاعة ، وكدُّها بالعبادة .
والثاني : اتِّصالُ القلوب بالله وتنويرُها بذكره .
فالأوَّلُ قد رُفعَ عن أهل الجنَّة ، ولهذا رُوي أنَّهم إذا همُّوا بالسُّجودِ لله عند تجلِّيه لهم يقال لهم : ارفعوا رؤوسكم فإنَّكم لستم في دار مجاهدة .
وأما المقصود الثاني ، فحاصلٌ لأهل الجنَّة على أكمل الوُجُوهِ وأتمِّها ، ولا نسبةَ لما حصل لقلوبهم في الدُّنيا من لطائف القُرْبِ والأنس والاتِّصال إلى ما يُشاهدونه في الآخرة عياناً ، فتتنعَّمُ قلوبُهم وأبصارُهم وأسماعُهم بقرْبِ الله ورؤيته ، وسماع كلامه ، ولاسيما في أوقات الصَّلوات في الدُّنيا ، كالجُمَع والأعياد ، والمقرَّبون منهم يحصلُ ذلك لهم كلَّ يومٍ مرَّتين بكرةً وعشياً في وقت صلاة الصُّبح وصلاة العصر ، ولهذا لمَّا ذكرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أهل الجنَّةِ يرونَ ربَّهم (1) حضَّ عقيب ذلك على المحافظة على صلاةِ العصر وصلاة الفجر ؛ لأنَّ وقت هاتين الصَّلاتين وقتٌ لرؤية خواصِّ أهلِ الجنَّةِ ربَّهم وزيارتهم لهُ ، وكذلك نعيمُ الذِّكر وتلاوةُ القرآن لا ينقطعُ عنهم أبداً ، فيُلهمون التَّسبيحَ كما يُلهمونَ النَّفسَ . قالَ ابنُ عيينة : لا إله إلا الله لأهلِ الجنَّة ، كالماء البارد لأهل الدُّنيا ، فأينَّ لذَّة الذِّكرِ للعارفين في الدُّنيا مِنْ لذَّتهم به في الجنَّة .
__________
(1) أخرجه : الحميدي ( 1178 ) ، وأحمد 2/389 ، والبخاري 9/156 ( 7437 ) ، ومسلم 1/112 ( 182 ) ( 299 ) و1/114 ( 182 ) ( 300 ) ، وأبو داود ( 4730 ) ، وابن ماجه ( 178 ) ، والترمذي ( 2554 ) من حديث أبي هريرة ، ونص الحديث : ( قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تُضامون في رؤية القمر ليلة البدر ، وتُضامون في رؤية الشمس ؟ ) قالوا : لا ، قال : ( فإنَّكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تُضامون في رؤيته ) .
والروايات مطولة ومختصرة .
فتبيَّن بهذا أن قوله : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } (1) على ظاهره ، فإنَّ ثواب كلمة التَّوحيد في الدُّنيا أنْ يصِلَ صاحبها إلى قولها في الجَنَّةِ على الوجه الذي يختصُّ به أهل الجنّةِ .
وبكلِّ حال ، فالذي يحصُلُ لأهلِ الجنَّةِ مِنْ تفاصيل العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ، ومن قُربه ومشاهدته ولذَّةِ ذكره ، هو أمرٌ لا يمكنُ التَّعبيرُ عن كُنهه في الدُّنيا ؛ لأنَّ أهلها لم يُدرِكوه على وجهه ، بل هو ممَّا لا عينٌ رأت ، ولا أُذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشرٍ ، والله تعالى المسؤول أنْ لا يَحْرِمنا خيرَ ما عنده بشرِّ ما عندنا بمنِّه وكرمه ورحمته آمين .
ولنرجع إلى شرح حديث : ( ازهد في الدُّنيا يحبَّك الله ) (2) ، فهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ الله يحبُّ الزاهدين في الدُّنيا ، قال بعض السَّلف : قال الحواريون لعيسى - عليه السلام - : يا روحَ الله ، علِّمنا عملاً واحداً يُحبُّنا الله - عز وجل - عليهِ ، قالَ : أبغِضُوا الدُّنيا يحبكُم الله - عز وجل - .
وقد ذمَّ الله تعالى من يحبُّ الدُّنيا ويؤثِرُها على الآخرة ، كما قال : { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ } (3) ، وقال : { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً } (4) ، وقال : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } (5) ، والمراد حبُّ المال ، فإذا ذمَّ من أحبَّ الدُّنيا دلَّ على مدحِ مَنْ لا يحبُّها ، بل يرفُضها ويترُكُها .
__________
(1) النمل : 89 .
(2) سبق تخريجه .
(3) القيامة : 20 – 21 .
(4) الفجر : 20 .
(5) العاديات : 8 .