كتاب:جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم
تأليف : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي
الشهير بابن رجبِ
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
( وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، وأمينه على وحيه ، وخيرته من خلقه ، وسفيره بينه وبين عباده ، المبعوث بالدين القويم ، والمنهج المستقيم ، أرسله الله رحمة للعالمين ، وإماماً للمتقين ، وحجةً على الخلائق أجمعين )(1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
[ آل عمران : 102] . { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء : 1] . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [ الأحزاب : 70-71 ] .
أما بعد : فإني أحمد الله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً على إنهاء العمل بهذا الكتاب العظيم "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم " ، ذلك الكتاب المهم الذي يشرح أهم الأحاديث التي يحتاجها المسلم ؛ فهي أحاديث كلية في أصول الدين .
__________
(1) من مقدمة زاد المعاد للعلامة ابن القيم 1/34 .
والكتاب قد طبع طبعاتٍ عديدة (1) واعتنى به عدد من الأفاضل من المختصين
بهذا الشأن فأردت أنْ أُشرك نفسي معهم في طبعةٍ متميزةٍ راجياً من الله أنْ ينفعني بها يوم الدين يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم .
وقد حققت الكتاب على نسخة خطية للكتاب تعود إلى عصر متأخر وقد تملكها الشيخ محمد أمين الشنقيطي . وقد اجتهدت في ضبط النص على النسخة الخطية مع الاستفادة من النسخ المطبوعة مع الرجوع إلى موارد المصنف من كتب السنة المشرفة. أما التخريج فقد أوليت عناية بالحكم على الأحاديث . وفيما يتعلق بالصحيحين فقد أحلت إلى صحيح البخاري بالجزء والصفحة على الطبعة الأميرية ثم أردفته برقم الحديث من فتح الباري ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، وأحلت إلى صحيح مسلم بالجزء والصفحة للطبعة الإستانبولية ثم أردفته برقم الحديث من طبعة محمد فؤاد عبد الباقي ؛ وذلك لانتشار هذه الطبعات وتداولها . وأما التعليق على الأحاديث فقد شرحت بعض الغريب الذي لم يذكره المصنف وعلّقت على بعض الأشياء مما يحتاجه المسلم في حياته وعبادته وكان جُلُّ ذلك بالاعتماد على كتب أهل العلم ، وحكمت على الأحاديث بما يليق بها من صحة أو ضعف ، وقدمت للكتاب بمقدمة يسيرة كمدخل للكتاب سميتها : ( الحافظ ابن رجب وشيءٌ من سيرته العطرة ) .
__________
(1) مما وقفت عليه من طبعات هذا الكتاب : طبعة مؤسسة الرسالة بتحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس ، وهي أفضل الطبعات السابقة . وقد قابلت الكتاب عليها ورمزت لها بالرقم
( ج ) وقد اعتمدت على الطبعة السابعة 1422 ه ومما وقفت عليه طبعة دار ابن رجب =
= ... في مصر عام 1423 ه بإشراف مصطفى بن العدوي وطبعة المكتبة العصرية عام 1418 ه بتحقيق الدكتور يوسف البقاعي ، وطبعة دار الحديث في القاهرة بتحقيق عصام الدين الصبابطي ، وطبعة دار الفرقان عام 1411 ه بتحقيق الدكتور محمد عبد الرزاق الرعود .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .
الحافظ ابن رجب وشيءٌ من سيرته العطرة
توسع المحققون في دراسة حياة العالم الجليل ابن رجب الحنبلي رحمه الله ، فتناولته الأيادي بالبحث والاستقصاء ، حتى أثْرَوا مقدمات كتبه بتعريفات جمة عن هذا العالم المبجل ، لذلك آثرت أن لا أطيل الكلام في ذلك ، واكتفي بهذا المختصر عن حياته وآثاره .
اسمه ونسبه وكنيته
هو الإمام الحافظ العلامة زين الدين عبد الرحمان بن أحمد بن عبد الرحمان بن الحسن بن محمد بن أبي البركات مسعود السلامي البغدادي ، ثم الدمشقي الحنبلي أبو الفرج ، المعروف بابن رجب(1) وهو لقب جده عبد الرحمان ، وقد طغت هذه النسبة على اسمه حتى لا يكاد يعرف إلا بها .
مولده
اتفقت المصادر التي اطلعت عليها ، على أنَّ ولادة ابن رجب ، كانت في بغداد مدينة السلام في ربيع الأول سنة ست وثلاثين وسبعمئة ، وقدم دمشق مع والده فسمع من كبار العلماء هناك ، وقد أرخ الحافظ ابن حجر رحمه الله ولادته في سنة ست وسبعمئة (2) ، ولعله سبق قلم من الناسخ ، والله أعلم .
أسرته ونشأته وطلبه للعلم
لم توفر المصادر التي بين أيدينا ، التفصيل الكامل عن أسرة هذا الإمام ، وبذلك أغفلت الكثير من الجوانب المهمة عن حياته ، بل قصارى ما عرفناه في هذه
المصادر ، هي أسطر قليلة قد ألقت الضوء على حياة جده أبي أحمد المعروف
برجب ، وحياة والده أبي العباس شهاب الدين أحمد ، ويبدو أنه ينحدر من أسرة علمية عريقة في العلم .
__________
(1) انظر ترجمته في : ذيل تذكرة الحفاظ لأبي المحاسن الدمشقي : 180 ، والدرر الكامنة لابن حجر 2/321 ، ووجيز الكلام للسخاوي 1/308 ، وطبقات الحفاظ للسيوطي ( 1170 )، وشذرات الذهب لابن العماد 6/339 ، وكشف الظنون لحاجي خليفة 1/59 ، والأعلام للزركلي 3/294 .
(2) الدرر الكامنة 2/321 .
أما جده عبد الرحمان فكل ما ذكره عنه حفيده ابن رجب هو قوله : ( قرئ على جدي أبي أحمد - رجب بن الحسن – غير مرة ببغداد وأنا حاضر في الثالثة والرابعة والخامسة : أخبركم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إبراهيم البزار ، سنة ست وثمانين وستمئة ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن عمر القطيعي … عن سلمة بن الأكوع ، قال : سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار )(1). وهذا الخبر يدل على أن جده كان مهتماً بعلم الحديث ، ويقرأ عليه الناس .
وأما أبوه فهو الشيخ شهاب الدين أحمد ولد في بغداد وسمع من مشايخها ، ثم رحل مع أولاده إلى دمشق سنة أربع وأربعين وسبعمئة(2) .
__________
(1) الذيل على طبقات الحنابلة 2/213 –214 ، والحديث صحيح متواتر انظر تفصيل كثير من طرقه في تعليقي على شرح التبصرة والتذكرة 1/148 – 149 .
(2) شذرات الذهب 6/339 .
ولما كان ابن رجب رحمه الله ينحدر من هذه الأسرة التي اهتمت بالعلوم والمعارف ، فقد نشأ نشأة علمية أهلته أن يكون في مصاف العلماء الكبار الذين صنعوا للإسلام أزهى أمجاده ، فذاع صيته وكثر مريدوه من كل البلاد ، وتنوعت فنونه . فكانت بداية طلبه للعلم في سن الصغر إذ رحل به والده إلى بلاد أخرى وحصل على إجازات من بعض المشايخ ، فأجازه ابن النقيب وغيره ، وسمع أيضاً من علماء مكة ومصر وغيرها ، وقيل : ( إنه اشتغل بسماع الحديث باعتناء والده(1) ) فقد كان إماماً في صناعة الأسانيد وفن العلل ، بالإضافة إلى أنَّه كان عالماً
بالفقه ، حتى صار من أعلام المذهب الحنبلي ، ويشهد لذلك ما خلفه من تراث ضخم في هذه العلوم ، وهكذا يكون أحد الجهابذة الذين جمعوا بين الحديث
والفقه ، مما أدى إلى انفتاح قرائح العلماء في الثناء عليه كما سيأتي ، إلا أنَّ هذه المنزلة الكبيرة التي بلغها هذا العالم لم تزده إلا صفاءً وخلقاً وتواضعاً فمالت إليه القلوب بالمحبة ، واجتمعت عليه الفرق ، وفي ذلك يقول ابن العماد : ( وكانت مجالس تذكيره للقلوب صارعة وللناس عامة مباركة نافعة ، اجتمعت الفرق عليه ومالت القلوب بالمحبة إليه (2) ) ، كيف لا وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها .
وفاته
__________
(1) شذرات الذهب 6/339 .
(2) شذرات الذهب 6/339 .
بعد رحلة طويلة وشاقة من الجهاد في خدمة هذا الدين العظيم ، استعد ابن رجب للقاء ربه الكريم ، بعد أن أفنى عمره في التأليف والتدريس ، والدفاع عن سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من خلال بيان صحيح الحديث وسقيمه ، واتباع منهج السلف الكرام رحمهم الله تعالى ، فوافاه الأجل سنة ( 795 ه ) في شهر رمضان(1) بدمشق بأرض الحميرية ببستان كان استأجره، وصلي عليه من الغد كما قال ابن العماد (2) وخالف ابن حجر (3) والسيوطي (4) رحمهما الله فقالا : إن وفاته كانت في شهر رجب وشك أبو المحاسن الدمشقي فقال : ( في رجب أو رمضان (5) ) من ذلك نجد أنه لا خلاف بين العلماء في تقييد وفاته بعام ( 795 ه ) ، إلا أنهم اختلفوا في شهر وفاته
ودُفن رحمه الله بالباب الصغير جوار قبر الشيخ الفقيه أبي الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي ثم المقدسي الدمشقي المتوفى في ذي الحجة سنة ( 486 ه (6) ) .
قال ابن ناصر الدين الدمشقي : ( ولقد حدثني من حفر لحد ابن رجب أنَّ الشيخ زين الدين بن رجب جاءه قبل أن يموت بأيام فقال لي: احفر لي ها هنا لحداً ، وأشار إلى البقعة التي دفن فيها قال فحفرت له ، فلما فرغ نزل في القبر واضطجع فيه فأعجبه قال : هذا جيد ثم خرج ، وقال : فو الله ما شعرت بعد أيام إلا وقد أتي به ميتاً محمولاً في نعشه فوضعته في ذلك اللحد(7) فرحمك الله يا أبا الفرج ورزقك الفردوس الأعلى .
شيوخه
__________
(1) انظر : وجيز الكلام للسخاوي 1/308 ، وشذرات الذهب لابن العماد 6/340 .
(2) شذرات الذهب 6/340 .
(3) الدرر الكامنة 2/322 .
(4) طبقات الحافظ ( 1170 ) .
(5) ذيل تذكرة الحفاظ : 181 .
(6) انظر : شذرات الذهب 6/340 .
(7) ذيل تذكرة الحافظ : 182 ، والدرر الكامنة 2/322 ، وشذرات الذهب 6/340.
حرص ابن رجب رحمه الله على تلقي العلم من أفواه الرجال ، فطاف البلاد ورحل في الآفاق ، فسمع من البعض وأجازه البعض الآخر ، وكانت بداية رحلته في سن الصغر ، عندما رحل به والده من موطن ولادته بغداد قبة الإسلام وحاضرة الدنيا إلى دمشق ، ومن هناك بدأت رحلته في طلب العلم والتلقي عن الشيوخ فرحل إلى مصر ونابلس والحجاز والقدس ومكة والمدينة ، فأصبح له عدد غفير من
الشيوخ ، ونذكر هنا أبرز الشيوخ الذين أخذ عنهم وهم مرتبون حسب حروف المعجم ، وهم كما يلي :
1- داود بن إبراهيم بن داود بن يوسف بن سليمان بن سالم بن مسلم بن سلامة جمال الدين ابن العطار ( ت 752 ه (1) ) .
2- زين الدين أبو الفرج عبد الرحمان بن أبي بكر بن أيوب بن سعد ، أخو شمس الدين بن قيم الجوزية الحنبلي ، ذكره ابن رجب في مشيخته ، وقال : سمعت عليه كتاب "التوكل" لابن أبي الدنيا بسماعه على الشهاب العابر وتفرد بالرواية عنه (2) .
3- عماد الدين أبو العباس أحمد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي ( ت 754 ه ) (3) .
4- فتح الدين أبو الحرم محمد بن محمد بن محمد بن أبي الحرم بن أبي طالب القلانسي الحنبلي ( ت 765 ه (4) ) .
5- محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي
( 748ه (5) ) .
6- الميدومي محمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم بن عنان ، صدر الدين أبو الفتح ( ت 754 ه (6) ) .
7- ابن الخباز محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن سالم بن بركات أبو عبد الله الأنصاري الخزرجي العبادي الدمشقي من ولد سعد بن عبادة
( ت 756 ه (7) ) .
__________
(1) الدرر الكامنة 2/216، و شذرات الذهب 6/339 .
(2) شذرات الذهب 6/216 .
(3) ذيل طبقات الحنابلة 2/439.
(4) الدرر الكامنة 4/235 .
(5) الذيل على طبقات الحنابلة 2/441 .
(6) الدرر الكامنة 4/ 157 ، وطرح التثريب للعراقي 1/108 .
(7) الدرر الكامنة 3/384 ، وطرح التشريب 1/99 .
8- ابن شيخ السلامية حمزة بن موسى بن أحمد الحنبلي عز الدين أبو يعلى
( ت 769 ه (1) ) .
9- ابن قاضي الجبل أحمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي عمر المقدسي الحنبلي شرف الدين ( ت 771 ه (2) ) .
10- ابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي شمس الدين الحنبلي ( ت 751 ه (3) ) .
11- ابن قيم الضيائية عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن نصر بن فهد الدمشقي ثم الصالحي الحنبلي المروزي العطار أبو محمد تقي الدين ( ت 761 ه (4) ) .
12- أبو الربيع علي بن عبد الصمد بن أحمد بن عبد القادر بن أبي الحسن بن
عبد الله البغدادي الحنبلي ( ت 742 ه (5) ) .
13- أبو سعيد العلائي خليل بن كيكلدي بن عبد الله الشافعي صلاح الدين
( ت 761 ه (6) ) .
14- أبو العباس أحمد بن محمد بن سليمان الحنبلي البغدادي(7) .
15- زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد المقدسية المعروفة ببنت الكمال ( ت 740 ه (8) ).
تلامذته
__________
(1) الدرر الكامنة 2/77 ، و المقصد الأرشد لابن مفلح 1/362 .
(2) الدرر الكامنة 1/120
(3) الدرر الكامنة 3/400 .
(4) الدرر الكامنة 2/283 .
(5) الدرر الكامنة 3/62 .
(6) الدرر الكامنة 2/90 ، وشذرات الذهب 6/190 .
(7) الذيل على طبقات الحنابلة 1/301 .
(8) الدرر الكامنة 2/117 .
لما كان لهذا العالم منْزلة كبيرة بين علماء عصره ، وتفوقه عليهم وتنوع فنونه التي شملت معظم العلوم ، أدى إلى تدفق طلاب العلم عليه من كل حدب وصوب ، لينهلوا من عذبه الصافي ، ومن خلقه الرفيع ، ومن علمه الوافر ، فتفقه على يده الكثير من علماء المذهب الحنبلي ، الذين أصبحوا فيما بعد من العلماء العاملين الذين يشار إليهم بالبنان ، قال ابن حجي - فيما نقله عنه ابن العماد -
: ( وتخرج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق(1) ) ، ونذكر هنا طائفة منهم مرتبين حسب حروف المعجم ، وهم كما يلي :
1- داود بن سليمان بن عبد الله الزين الموصلي ثم الدمشقي الحنبلي سمع على ابن رجب شرحه للأربعين النووية ( ت 844 ه (2) ) .
2- الزركشي عبد الرحمان بن محمد بن عبد الله بن محمد الزين أبو ذر بن الشمس ابن الجمال بن الشمس المصري الحنبلي ، يعرف بالزركشي صنعة أبيه
( ت 846 ه (3) ) .
3- شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبادة السعدي الأنصاري الحنبلي ، قاضي قضاة دمشق ( ت 820 ه (4) ) .
4- شمس الدين محمد بن أحمد بن سعيد المقدسي الأصل النابلسي ثم الدمشقي الحلبي المكي قاضيها الحنبلي ( ت 855 ه (5) ) .
5- علاء الدين علي بن محمد بن علي الطرسوسي المزي ( ت بعد 850 ه (6) ) .
6- عمر بن محمد بن علي بن أبي بكر بن محمد السراج الحلبي الأصل الدمشقي الشافعي ( ت 841 ه (7) ) .
7- محب الدين أبو الفضل أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر البغدادي ثم المصري الحنبلي ، شيخ الإسلام وعلم الأعلام ، المعروف بابن نصر الله شيخ المذهب ومفتي الديار المصرية ( ت 844 ه (8) ) .
__________
(1) شذرات الذهب 6/339 – 340 .
(2) الضوء اللامع للسخاوي 3/212 .
(3) الضوء اللامع 4/136 .
(4) شذرات الذهب 7/148 .
(5) الضوء اللامع 6/309 .
(6) الضوء اللامع 5/328 .
(7) الضوء اللامع 6/120 .
(8) الضوء اللامع 2/233 ، وشذرات الذهب 7/250 .
8- ابن الرسام أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن علي بن إسماعيل ، الشهاب أبو العباس ابن سيف الدين الحموي الأصل الحلبي الحنبلي ( ت 844 ه (1) ) .
9- ابن زهرة شمس الدين محمد بن خالد بن موسى الحمصي القاضي الحنبلي (2) .
10- ابن الشحام أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن محمود بن عبادة ، الشهاب الأنصاري الحلبي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي ( ت 864 ه (3) ) .
11- ابن اللحام علي بن محمد بن علي بن عباس بن فتيان علاء الدين البعلي ثم الدمشقي الحنبلي ، يعرف بابن اللحام وهي حرفة أبيه ( ت 803 ه (4) ) .
12- ابن المنصفي شمس الدين أبو عبيد الله محمد بن خليل بن محمد بن طوغان الدمشقي الحريري الحنبلي ( ت 803 ه (5) ) .
13- ابن المُزَلِّق أبو حفص عمر بن محمد بن علي بن أبي بكر بن محمد السراج الحلبي الأصل الدمشقي الشافعي ( ت 841 ه (6) ) .
14- ابن المغلي علاء الدين علي بن محمود بن أبي بكر السلمي ثمَّ الحموي الحنبلي
( ت 828 ه (7) ) .
15- أبو شعر زين الدين عبد الرحمان بن سليمان بن أبي الكرم بن سليمان ، أبو الفرج الدمشقي الصالحي الحنبلي ( ت 844 ه (8) ) .
ثناء العلماء عليه
حظي ابن رجب رحمه الله بثناء منقطع النظير ، يدل على مدى توسعه وتبحره في العلوم ، وعلى مكانته العالية في قلوب الناس ، فلم نجد من العلماء من ذكره بسوء أو قدح بشخصيته ، فالكل كان يحبه ويحترمه ، وما هذا إلا دليل على علو منزلته وعظم شأنه في ذلك الوقت ، ويتضح هذا جلياً من أقوالهم التي نورد طائفة منها ، وهي كما يلي :
__________
(1) الضوء اللامع 1/249 .
(2) شذرات الذهب 7/195 .
(3) الضوء اللامع 2/41 ، وشذرات الذهب 7/303 .
(4) الضوء اللامع 5/320 ، وشذرات الذهب 7/31 .
(5) ذيل تذكرة الحفاظ : 185 ، وشذرات الذهب 7/35 .
(6) الضوء اللامع 6/120 .
(7) الضوء اللامع 6/34 .
(8) الضوء اللامع 4/82 ، وشذرات الذهب 7/253 .
1- قال أبو المحاسن الدمشقي : ( الإمام الحافظ الحجة والفقيه العمدة أحد العلماء الزهاد والأئمة العباد مفيد المحدثين واعظ المسلمين (1) ) .
2- قال الحافظ ابن حجر : ( الشيخ المحدث الحافظ ... أكثر من المسموع وأكثر الاشتغال حتى مهر (2) ) .
3- قال السيوطي : ( هو الإمام الحافظ المحدث الفقيه الواعظ (3) ) .
4- قال ابن العماد الحنبلي : ( الإمام العالم العلامة الزاهد القدوة البركة الحافظ العمدة الثقة الحجة الحنبلي (4) ) .
وقال أيضاً : ( وكانت مجالس تذكيره للقلوب صارعة وللناس عامة مباركة نافعة ، اجتمعت الفرق عليه ، ومالت القلوب بالمحبة إليه (5) ) .
وقال أيضاً : ( وكان لا يعرف شيئاً من أمور الناس ، ولا يتردد إلى أحد من ذوي الولايات ، وكان يسكن بالمدرسة السكرية بالقصاعين (6) ) .
وقال ابن حجي - فيما نقله عنه ابن العماد - : ( أتقن الفن – أي : فن الحديث – وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق ، وتخرج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق (7) ) .
وغير ذلك من الأقوال التي حوتها كتب التراجم والأعلام .
آثاره العلمية
__________
(1) ذيل تذكرة الحفاظ : 180 .
(2) الدرر الكامنة 2/321-322 .
(3) طبقات الحفاظ ( 1170 ) .
(4) شذرات الذهب 6/339 .
(5) شذرات الذهب 6/339 .
(6) المصدر نفسه .
(7) شذرات الذهب 6/339-340 .
سخَّرَ ابن رجب رحمه الله حياته وعمره لخدمة هذا الدين العظيم ، يتضح ذلك من خلال مؤلفاته وتراثه الضخم الذي خلفه لنا ، قال السخاوي : ( جمع نفسه على التصنيف والإقراء (1) ) ، إضافة إلى تنوع فنونه فألَّف في التفسير والحديث والفقه والتاريخ والوعظ وغيره فأجاد وأبدع ، قال أبو المحاسن الدمشقي : ( له المؤلفات السديدة والمصنفات المفيدة (2) ) ، وقال ابن العماد : ( له مصنفات مفيدة ومؤلفات عديدة (3) ) ، ونذكر هنا البعض من هذه المصنفات على سبيل المذاكرة لا على سبيل الاستيعاب ، مرتبة حسب الموضوعات :
التفسير :
1- تفسير سورة الإخلاص ، وهو مطبوع .
2- تفسير سورة النصر ، وهو مطبوع .
الحديث :
3- اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى ، وهو مطبوع .
4- البشارة العظمى في أنَّ حظ المؤمن من النار الحمى ، وهو مخطوط .
5- تحفة الأكياس بشرح وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس ، وهو مطبوع .
6- تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال ، وهو مخطوط .
7- جامع العلوم والحكم وهو الذي بين يديك .
8- الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة ) ، وهو مطبوع .
9- شرح جامع الترمذي الكبير ، وتوجد منه قطعة مخطوطة في المكتبة الظاهرية.
10- شرح علل الترمذي ، وهو مطبوع (4) .
__________
(1) وجيز الكلام 1/308 .
(2) ذيل تذكرة الحفاظ : 181 .
(3) شذرات الذهب 3/339 .
(4) قال أخي الدكتور علي الصياح - نفع الله به - : ( طبع عدة طبعات : طبعة بتحقيق نور الدين عتر ، الطبعة الأولى ، 1398 ، دار الملاح للطباعة ، طبعة بتحقيق همام سعيد ، الطبعة
الأولى ، 1407 ، مكتبة المنار ، الأردن ، وكلا التحقيقين جيد وطبعة بتحقيق صبحي السامرائي ، عالم الكتب ، وهي سيئة للغاية . وطبعة بتحقيق كمال علي الجمل ، دار الكلمة ، 1418 ) . جهود المحدّثين : 171 .
11- فتح الباري في شرح البخاري ، وصل به إلى كتاب الجنائز ، ينقل فيه كثيراً من كلام المتقدمين (1) ، وهو مطبوع .
الفقه :
12- الاستخراج في أحكام الخراج ، وهو مطبوع .
13- تعليق الطلاق بالولادة ، وهو مخطوط .
14- القواعد الفقهية ، وهو مطبوع .
15- مشكل الأحاديث الواردة في أنَّ الطلاق الثلاث واحدة ، وهو مفقود .
التاريخ :
16- الذيل على طبقات الحنابلة ، وهو مطبوع .
17- مختصر سيرة عمر بن عبد العزيز ، وهو مطبوع .
18- مشيخة ابن رجب (2) .
الوعظ والفضائل والرقائق :
19- أهوال القبور ، وهو مطبوع .
20- التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار ، وهو مطبوع .
21- الفرق بين النصيحة والتعيير ، وهو مطبوع .
22- فضل علم السَّلف على علم الخلف ، وهو مطبوع .
23- لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ، وهو مطبوع .
وغير ذلك مما حوته كتب التراجم والأعلام .
وصف النسخة الخطية ( الأصل )
اعتمدت على نسخة مكتبة الأوقاف العامة في الموصل ، وتقع تحت الرقم
( 628 ) ، رمزت لها بالحرف ( ص ) وهي نسخة جيدة قليلة السقط ، نوع خطها نسخي عادي ، تحتوي على ( 288 ) صفحة ، في كل صفحة ( 29 ) سطراً ، وفي كل سطر ( 21 ) كلمة تقريباً ، على حواشيها بعض التعليقات والاستدراكات ، ويبدو أنها قرءَت على بعض العلماء ، ويوجد على طرة الكتاب بعض التملكات ، نذكرها كما كتبت وهي : ( بسم الله دخل هذا الكتاب ملكاً بالشراء الشرعي بملك أحقر العباد إلى ربه ، وأنا الفقير إلى الله عبد العزيز بن حمد بن سيف العتيقي(3) بغرة صفر سنة سبعة وأربعين ومئتين وألف من هجرته - صلى الله عليه وسلم - ) .
__________
(1) انظر : شذرات الذهب 6/339 .
(2) ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة 2/322 .
(3) لم أقف على ترجمة لا له ولا لابنه ، وقد وجدت في كتاب الأعلام 2/272 ترجمة لأحد العلماء وهو ( ابن عتيق ) يشترك معهما في هذه النسبة، ولعله من عائلتهما رحمهم الله جميعاً .
( وقفه مالكه حمد(1) بن الحاج عبد العزيز العتيقي عفى الله عنه وغفر له ولأبويه وجميع المسلمين ) .
( في حوزة الفقير إلى الله محمد بن أمين الشنقيطي(2) سنة ( 1333 ) ) .
__________
(1) وهو ولد عبد العزيز الآنف الذكر ، فيظهر أنَّه تملك الكتاب بعد وفاة والده ، ثم وقفه
رحم الله الجميع .
(2) هو العالم الكبير محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي رحمه الله تعالى، مفسر مدرس من علماء شنقيط ( موريتانيا ) ، ولد وتعلم بها ، ثم استقر مدرساً في المدينة المنورة ثم الرياض ، وأخيراً في الجامعة الإسلامية بالمدينة ، له كتب منها : أضواء البيان في تفسير القرآن ، ومنع جواز المجاز ، ودفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب ، وغيرها ، توفي بمكة سنة
( 1973 م ) . الأعلام 6/45 .
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين (1)
الحمدُ للهِ الَّذي أكملَ لنا الدِّين ، وأتمَّ علينا النِّعمةَ ، وجعل أُمَّتنا -ولله الحمد- خيرَ أمَّة، وبعث فينا رسولاً منَّا يتلو علينا آياتِه ، ويزكِّينا ويعلِّمنا الكتابَ والحكمة .
أحمَدُه على نِعَمِهِ الجمَّة ، وأشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له ، شهادةً تكونُ لمنِ اعتصمَ بها خيرَ عِصْمَة ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُهُ ، أرسله للعالمين رحمة ، وفوّض إليه بيانَ ما أُنزِلَ إلينا ، فأوضحَ لنا كلَّ الأمورِ المهمَّة ، وخصَّه بجوامعِ الكلِمِ، فربَّما جمعَ أشتاتَ(2) الحِكَمِ والعُلومِ(3) في كلمةٍ ، أوْ في شطرِ كلمة ، صلَّى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه صلاةً تكونُ لنا نوراً مِنْ كلِّ ظُلْمةٍ ، وسلَّم تَسليماً كثيراً (4).
أمَّا بعدُ :
فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - بعثَ محمَّداً - صلى الله عليه وسلم - بجوامِعِ الكَلِمِ ، وخصَّهُ ببدائع الحِكَمِ . كما في
" الصحيحين " عن أبي هريرةَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بُعِثْتُ بجوامِعِ الكَلِمِ ) (5)
__________
(1) وبه نستعين ) من ( ص ) فقط .
(2) في ( ص ) : ( أسباب ) .
(3) في ( ص ) : ( العلوم والحكم ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) أخرجه : البخاري 4/65 ( 2977 ) و9/43 ( 6998 ) و9/47 ( 7013 ) و9/113
( 7273 ) ، ومسلم 2/64 ( 523 ) ( 5 ) و( 6 ) و( 7 ) و( 8 ) .
وأخرجه : أحمد 2/411 ، وابن ماجه ( 567 ) ، والترمذي ( 1553 ) م ، والنسائي
6/3-4 ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 1025 ) ، وابن حبان ( 2313 ) و( 6401 ) و( 6403 ) ، والبيهقي 2/433 و9/5 وفي " الدلائل " ، له 5/472 ، والبغوي ( 3617 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
. قال الزُّهري -رحمه الله-: جوامِعُ الكَلِمِ(1)-فيما بَلَغَنَا- أنَّ اللهَ تعالى يجمع له الأُمورَ الكثيرةَ التي كانت تُكْتَبُ في الكُتب قبلَه في الأمرِ الواحدِ والأمرينِ ، ونحو ذلك (2) .
وخرّج الإمام أحمدُ من حديثِ عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما - ، قال : خرجَ علينا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يوماً كالمودِّع ، فقال : ( أنا محمَّدٌ النَّبيُّ الأُمِّيُّ ) . قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ . ( ولا نَبيَّ بعدي ، أوتيتُ فواتحَ الكَلِمِ وخَواتِمَهُ وجوَامِعَهُ ) … ، وذكر الحديثَ (3) .
وخرَّج أبو يعلى المَوصلي من حديثِ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنِّي أُوتيتُ جوامعَ الكَلِمِ وخواتمَهُ ، واختُصِرَ لي الكلام (4)اختصاراً ) (5)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : البخاري 9/47 عقب الحديث ( 7013 ) تعليقاً .
(3) في " مسنده " 2/172 و211 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(4) سقطت من ( ج ) .
(5) في " مسنده الكبير " كما في " المطالب العالية " 9/208 ( 4261 ) .
وأخرجه : العقيلي في " الضعفاء " 2/21 ، وضعفه ، ونقل عن الإمام البخاري تضعيفه للحديث ، وانظر : التاريخ الكبير 2/191 .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 10163 ) ، ومن طريقه البيهقي في " شعب الإيمان " ( 5202 ) عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بلفظ : ( إنما بعثت فاتحاً ، وخاتماً ، وأعطيت جوامع الكلم ، وفواتحه ، واختصر لي الحديث اختصاراً ، فلا يهلكنكم المتهوكون ) . وفيه قصة .
وأخرجه: البيهقي في "شعب الإيمان" (1436) من طريق الأحنف بن قيس، والمقدسي في "المختارة" 1/215 (115) من طريق خالد بن عرفطة ؛ كلاهما عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - بنحوه .
وبنفس اللفظ الذي ذكره المصنف أورده العجلوني في " كشف الخفاء " 1/15 وقال : ( رواه العسكري في " الأمثال " عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، مرسلاً بهذا اللفظ ؛ لكن في سنده من لم يعرف ) .
.
وخرَّج الدَّارقطنيُّ – رحمه الله - من حديثِ ابنِ عبَّاس -رضي الله عنهما- ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أُعطيتُ جوامعَ الكَلِمِ ، واختُصِرَ لي الحَديثُ
اختصاراً )(1) .
وروينا مِنْ حديث عبد الرَّحمان بن إسحاقَ القُرَشيّ ، عن أبي بُردَةَ ، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أُعطيتُ فواتحَ الكَلِمِ وخواتِمَهُ
وجَوامِعَهُ ) ، فقلنا : يا رسول الله ، علِّمنا ممَّا علَّمك الله - عز وجل -، قال(2) : فعلَّمَنَا
التَّشَهُّدَ (3) .
وفي " صحيح مسلم " (4) عن سعيد بن أبي بُردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، عن جدِّهِ : أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ البِتْعِ (5) والمِزْرِ (6)
__________
(1) في " سننه " 4/143 ، وإسناده ضعيف جداً فيه زكريا بن عطية منكر الحديث .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه: ابن أبي شيبة ( 32268 ) طبعة الرشد - وهو في "المطالب العالية" 9/102
( 4202 ) - ، وأبو يعلى ( 7238 ) ، وإسناده ضعيف لضعف عبد الرحمان بن إسحاق الواسطي . انظر : مجمع الزوائد 8/263 ، وتهذيب الكمال 4/369 ( 3742 ) .
(4) 6/100 ( 1733 ) ( 71 ) ، وانظر : تخريجه موسعاً عند الحديث السادس والأربعين .
(5) البِتْعُ : البِتْعُ والبِتَعُ : مثل القِمْعِ والقِمَع : نبيذ يتخذ من عسل كأنه الخمر صلابة ، وقال
أبو حنيفة : البِتْع الخمر المتخذ من العسل فأوقع الخمر على العسل ، والبِتْعُ أيضاً : الخمر ،
يمانية ، وبَتَعَها : خَمَّرها . انظر : لسان العرب 1/310 ، وتاج العروس 20/300
( بتع ) .
(6) المِزْر :- تَمزّر المِزْر وهو السُّكْرُكَةُ :- نبيذ الذُّرة تذوقه شيئاً بعد شيء .
انظر : أساس البلاغة 2/210 ، ومختار الصحاح : 623 ( مزر ) .
، قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قد أُعطِي جوامع الكَلِمِ بخواتمه ، فقال : ( أنهى عَنْ كُلِّ مُسكرٍ أسكرَ عَنِ
الصَّلاةِ ) .
وروى هشامُ بنُ عمَّارٍ (1) في كتاب " المبعث " (2) بإسناده عن أبي سلاّم
الحبشيِّ ، قال : حُدِّثْتُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : ( فُضِّلْتُ على مَنْ كانَ (3) قَبلِي بستٍّ ولا فخر ) ، فذكر منها : قال : ( وأُعطيتُ جَوامعَ الكَلِمِ ، وكانَ أهلُ الكِتابِ يجعلونها جزءاً باللَّيل إلى الصّباح ، فجمعها الله لي (4) في آيةٍ واحدةٍ
{ سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ) (5) .
فجوامعُ الكلم التي خُصَّ بها النَّبيُّ (6) - صلى الله عليه وسلم - نوعان :
أحدهما : ما هو في القُرآن ، كقوله - عز وجل - : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي } (7) قال الحسنُ : لم تترك هذه الآيةُ خيراً إلاَّ أَمرت به ، ولا شرّاً إلاَّ نَهَتْ عنه (8) .
__________
(1) تحرف في ( ص ) إلى : ( عمارة ) .
(2) أي : ( مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، وهو غير مطبوع ، وهذا الحديث ضعيف الإسناد لجهالة من حدّث أبا سلام الحبشي .
(3) سقطت من ( ج ) .
(4) في ( ج ) : ( لي ربي ) .
(5) الحديد : 1 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) النحل : 90 .
(8) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 140 ) .
والثَّاني : ما هو في كلامه - صلى الله عليه وسلم - ، وهو موجودٌ منتشرٌ (1) في السُّنن المأثورةِ عنه - صلى الله عليه وسلم - . وقد جمع العُلماء جموعاً من كلماتِه - صلى الله عليه وسلم - الجامِعَةِ ، فصنَّف الحافظُ (2) أبو
بكر بن السُّنِّيِّ (3) كتاباً سماه : " الإيجاز وجوامع الكلم مِنَ السُّنَن المأثورة " ، وجمع القاضي أبو عبدِ الله (4) القُضاعي مِنْ جوامع الكلم الوجيزة كتاباً سمَّاه : " الشهاب في الحِكَم والآداب " (5) ، وصنَّفَ على مِنوالِه (6) قومٌ آخرون ، فزادُوا على ما ذكره زيادةً كثيرةً ، وأَشار الخطَّابيُّ في أوَّل كتابه " غريب الحديث " (7) إلى يسير من الأحاديث الجامعة .
وأملى الإمامُ الحافظُ أبو عمرو بنُ الصَّلاحِ – رحمه الله - مجلساً سمَّاه
" الأحاديث الكلّيَّة " جمع فيه الأحاديثَ الجوامعَ التي يُقال : إنَّ مدارَ الدِّين عليها ، وما كان في معناها مِنَ الكلمات الجامعةِ الوجيزةِ ، فاشتمل مجلسهُ هذا على ستَّةٍ وعشرين حديثاً .
ثمَّ إنَّ الفقيهَ الإمامَ الزَّاهِدَ القُدوةَ أبا زكريا يحيى النَّوويَّ -رحمةُ اللهِ عليهِ- أخذَ هذه الأحاديثَ التي أملاها ابنُ الصَّلاحِ ، وزادَ عليها تمامَ اثنينِ وأربعينَ حديثاً ، وسمى كتابه بـ " الأربعين "، واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها ، وكَثُرَ حفظُها ، ونفع الله بها ببركة نيَّة جامِعِها ، وحُسْنِ قصدِه - رحمه الله - .
__________
(1) في ( ج ) : ( منتشر موجود ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( من السنن ) .
(4) عبارة : ( القاضي أبو عبد الله ) لم ترد في ( ص ) .
(5) في ( ص ) : ( الشهاب والآداب في الحكم ) ، وهو المعروف بـ " مسند الشهاب " المطبوع في مؤسسة الرسالة تحقيق : حمدي عبد المجيد السلفي .
(6) في ( ص ) : ( أقواله ) .
(7) 1/64-67 .
وقد تكرَّر سؤالُ جماعةٍ مِنْ طلبةِ العلمِ والدِّينِ لتعليق شرح لهذه الأحاديث المُشار إليها ، فاستخرتُ الله - سبحانه وتعالى - في جمع كتابٍ يتضمَّنُ شرح ما يُيسِّرُه الله تعالى مِنْ معانيها ، وتقييد ما يفتحُ الله (1) به سبحانه من تبيين قواعدِها ومبانيها ، وإيَّاه أسألُ العونَ على ما قَصَدْتُ ، والتَّوفيقَ في صلاح (2) النِّيَّةِ والقصد فيما أردتُ ، وأُعَوِّلُ في أمري كلّه عليه ، وأبرأ مِنَ الحَوْلِ والقُوَّةِ إلاَّ إليه .
وقد كان بعضُ مَنْ شرحَ هذه الأربعينَ قد تعقَّب على جامعها -رحمه الله- تركَه لحديثِ : ( أَلحِقُوا الفَرائِضَ بأهلها ، فما أبقتِ الفرائِضُ ، فلأَوْلَى رجُلٍ
ذكرٍ ) (3) ، قال : لأنَّه جامعٌ لقواعدِ الفرائض التي هي نصفُ العلمِ ، فكان ينبغي ذكرهُ في هذه الأحاديث الجامعة ، كما ذكرَ حديثَ : ( البيِّنَةُ على المُدَّعي ، واليمينُ على من أنكر ) (4) لجمعه لأحكامِ القضاء .
فرأيتُ أنا أن أضُمَّ هذا الحديثَ إلى أحاديثِ الأربعين التي جمعها الشيخُ -رحمه الله- ، وأن أضُمَّ إلى ذلك كُلِّه أحاديثَ أُخُرَ مِنْ جَوامعِ الكَلِمِ الجامِعَةِ لأنواعِ العُلومِ والحِكَمِ ، حتَّى تكمُلَ عدَّةُ الأحاديث كلّها خمسينَ حديثاً ، وهذه تسميةُ الأحاديثِ المزيدة على ما ذكره الشيخُ -رحمه الله- في كتابه :
__________
(1) لفظ الجلالة لم يرد في ( ج ) .
(2) في ( ج ) : ( لصالح ) .
(3) سيأتي عند الحديث الثالث والأربعين .
(4) سيأتي عند الحديث الثالث والثلاثين .
حديث : ( ألحِقوا الفَرائِضَ بأهلها ) (1) ، وحديث : ( يحرُمُ مِنَ الرَّضَاع
ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ ) (2) ، وحديث : ( إنَّ اللهَ إذا حرَّمَ شيئاً ، حرَّمَ ثَمَنَهُ ) (3) ، وحديث : ( كلُّ مُسكِرٍ حرامٌ ) (4) ، وحديث : ( ما ملأَ آدميٌّ وعاءً شرّاً من
بطن ) (5) ، وحديث : ( أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فيه كانَ مُنافِقاً ) (6) ،
وحديث : ( لو أنَّكم توكَّلون على الله حَقَّ توكُّلِهِ لرَزَقَكُم كما يرزُقُ
الطَّير ) (7) ، وحديث : ( لا يزالُ لسانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكرِ اللهِ - عز وجل - ) (8) .
وسمَّيته :
" جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم " .
واعلم أنه ليس غرضي إلاَّ شرحُ الألفاظ النَّبويَّةِ التي تضمَّنَتْها هذه الأحاديثُ
الكلِّية ، فلذلك لا أتقيَّد بألفاظِ الشَّيخِ -رحمه الله- في تراجمِ رُواةِ هذه الأحاديث مِنَ الصَّحابةِ - رضي الله عنهم - ، ولا بألفاظه في (9) العَزْوِ إلى الكُتب التي يعزُو إليها ، وإنَّما آتي بالمعنى الذي يدلُّ على ذلك ؛ لأني قد أعلمتُك أنَّه ليس لي غرضٌ إلاّ في شرح (10) معاني كلمات النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الجوامع ، وما تضمَّنَته مِنَ الآداب والحِكَمِ والمعارف والأحكام والشرائع .
__________
(1) سبق الإشارة إلى تخريجه .
(2) سيأتي عند الحديث الرابع والأربعين .
(3) سيأتي تخريجه عند الحديث الخامس والأربعين .
(4) سيأتي عند الحديث السادس والأربعين .
(5) سيأتي عند الحديث السابع والأربعين .
(6) سيأتي عند الحديث الثامن والأربعين .
(7) سيأتي عند الحديث التاسع والأربعين .
(8) سيأتي عند الحديث الخمسين .
(9) في ( ص ) : ( إلى ) .
(10) في ( ص ) : ( في غير شرح ) .
وأشيرُ إشارةً لطيفةً قبلَ الكلامِ في شرح الحديث إلى إسناده ؛ ليُعْلَمَ بذلك صحَّتُهُ وقوَّتُه وضعفُه ، وأذكرُ بعضَ (1) ما رُوي في معناه مِنَ الأحاديث إنْ كان في ذلك الباب شيءٌ غير الحديث الذي ذكره الشيخ ، وإنْ لم يكن في الباب غيرُه ، أو لم يكن (2) يصحُّ فيه غيره ، نبَّهت على ذلك كلِّه ، والله المستعان ، وعليه التُّكلانُ ، ولا حَولَ ولا قوَّة إلاَّ باللهِ (3).
__________
(1) في ( ص ) : ( في بعض ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) عبارة : ( ولا حول ولا قوة إلا بالله ) لم ترد في ( ص ) .
الحديث الأول
عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - ، قال : سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -يقولُ : ( إنَّمَا الأعمَال بالنِّيَّاتِ وإِنَّما لِكُلِّ امريءٍ ما نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُولِهِ فهِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُوْلِهِ ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُها أو امرأةٍ يَنْكِحُهَا(1) فهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إليهِ ) . رواهُ البُخاريُّ ومُسلِمٌ (2) .__________
(1) في ( ص ) : ( يتزوجها ) .
(2) أخرجه: البخاري 1/2 ( 1 ) و1/21 ( 54 ) و3/190 ( 2529 ) و5/72 ( 3898 ) و7/4 ( 5070 ) و8/175 ( 6689 ) و9/29 ( 6953 )، ومسلم 6/48 ( 1907 ) ( 155 ).
وأخرجه أيضاً : ابن المبارك في " الزهد " ( 188 ) ، والطيالسي ( 37 ) ، والحميدي
( 28 ) ، وأحمد 1/25 و43 ، وأبو داود ( 2201 ) ، وابن ماجه ( 4227 ) ، والترمذي
( 1647 ) ، والبزار ( 257 ) ، والنسائي 1/58 و6/158 و7/13 وفي " الكبرى " ، له
( 78 ) و( 4736 ) و( 5630 ) ، وابن الجارود ( 64 ) ، وابن خزيمة ( 142 )
و( 143 ) و( 455 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 3/96 وفي " شرح المشكل " ، له
( 5107 ) – ( 5114 ) ، وابن حبان ( 388 ) و( 389 ) ، والدارقطني 1/49-50 وفي
" العلل " ، له 2/194 ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/42 ، والقضاعي في " مسند الشهاب "
( 1 ) و( 2 ) و( 1171 ) و( 1172 ) ، والبيهقي 1/41 و298 و2/14 و4/112 و235 و5/39 و6/331 و7/341 ، والخطيب في " تاريخه " 2/244 و6/153 ، والبغوي ( 1 ) و( 206 ) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 5/265 و44/119-120 و46/83 و57/290 من طرق عن يحيى بن سعيد ، به .
هذا الحديثُ تفرَّد بروايته يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريُّ ، عن محمَّدِ
ابن إبراهيمَ التَّيميِّ ، عن علقمة بن وقَّاصٍ الَّليثيِّ ، عن عُمَر بن الخطَّابِ - رضي الله عنه - ،
وليس له طريق يصحُّ غير هذا (1) الطريق ، كذا قال عليُّ بنُ المدينيِّ
وغيرُه(2). وقال الخطابيُّ : لا أعلمُ خلافاً بين أهلِ الحديثِ في ذلك، مع أنَّهُ قد
رُوِي من حديث أبي سعيدٍ وغيره(3)
__________
(1) في ( ج ) : ( تصح غير هذه ) .
(2) منهم الترمذي والبزار وحمزة بن محمد الكناني . انظر : الجامع الكبير عقيب حديث
( 1647 ) ، ومسند البزار عقب الحديث ( 257 )، وطرح التثريب 2/3، وفتح الباري 1/15.
(3) حديث أبي سعيد أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/342 ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 65/179-180 من طريق نوح بن حبيب ، عن ابن أبي رواد ، عن مالك بن أنس ، عن زيد ابن أسلم ، عن عطاء ، عن أبي سعيد ، به .
قال الحافظ العراقي في " التقييد والإيضاح " : 101 : ( … وعن الثاني أنه لم يصح من حديث أبي سعيد الخدري ولا غيره سوى عمر ، … ثم إن حديث أبي سعيد الذي ذكره هذا المعترض صرحوا بتغليط ابن أبي رواد الذي رواه عن مالك ) ، وقال في : 102 و103 ( ثم أني تتبعت الأحاديث التي ذكرها ابن منده ، فلم أجد فيها بلفظ حديث عمر أو قريباً من لفظه بمعناه ، إلا حديثاً لأبي سعيد الخدري وحديثاً لأبي هريرة وحديثاً لأنس بن مالك وحديثاً لعلي ابن أبي طالب ، وكلها ضعيفة ) .
وقال الحافظ العراقي أيضاً في " طرح التثريب " 2/4 ( حديث أبي سعيد الخدري رواه الخطابي في " معالم السنن " ، والدارقطني في " غرائب مالك " ، وابن عساكر في " غرائب مالك " من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد ، وهو غلط من ابن أبي رواد ) .
وقال ابن أبي حاتم في " العلل " 1/131 : ( سئل أبي عن حديث رواه نوح بن حبيب ، عن
عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد … فذكره وقال : قال أبي : هذا حديث باطل ، ليس له أصل ، إنما هو : مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن وقاص ، عن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .
وقال الدارقطني في " العلل " 2/193 : ( رواه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، ولم يتابع عليه ) .
، وقد قيل : إنَّهُ قد(1) رُوِي من طُرقٍ كثيرةٍ ، لكن لم(2) يصح من ذلك شيءٌ عندَ الحُفَّاظ .
ثمَّ رواهُ عنِ الأنصاريِّ الخلقُ الكثيرُ والجمُّ الغفيرُ ، فقيل : رواهُ عنهُ أكثرُ مِن مئتي راوٍ ، وقيل : رواه عنه سبعُ مئة راوٍ ، ومِنْ أعيانهم : مالكٌ ، والثوريُّ ، والأوزاعيُّ ، وابنُ المبارك ، واللَّيثُ بنُ سعدٍ ، وحمَّادُ بنُ زيدٍ ، وشعبةُ ، وابنُ عُيينةَ ، وغيرهم (3) .
__________
(1) سقطت من ( ج ) .
(2) في ( ج ) : ( لا ) .
(3) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " 1/15 : ( قد تواتر عن يحيى بن سعيد ، فحكى محمد بن علي بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيى مئتان وخمسون نفساً ، وسرد أسماءهم
أبو القاسم بن منده فجاوز الثلاثمئة ، وروى أبو موسى المديني عن بعض مشايخه مذاكرة
عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي ، قال : كتبته من حديث سبعمئة من أصحاب
يحيى . قلت : وأنا أستبعد صحة هذا ، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة
والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا فما قدرت على تكميل المئة ) . وقال في
" التلخيص " 1/218 بعد أن ذكر كلام أبي إسماعيل الهروي : ( قلت : تبعته من الكتب والأجزاء ، حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء ، فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقاً ) .
واتَّفقَ العُلماءُ على صحَّته وَتَلَقِّيهِ بالقَبولِ ، وبه صدَّر البخاريُّ كتابَه
" الصَّحيح " ، وأقامه مقامَ الخُطبةِ له ، إشارةً منه إلى أنَّ كلَّ عملٍ لا يُرادُ به
وجهُ الله فهو باطلٌ ، لا ثمرةَ له في الدُّنيا ولا في الآخرةِ ، ولهذا قال عبدُ الرَّحمانِ بنُ مهدي : لو صنَّفتُ الأبوابَ ، لجعلتُ حديثَ عمرَ في الأعمالِ بالنِّيَّةِ في كلّ بابٍ ، وعنه أنَّه قال : مَنْ أَرادَ أنْ يصنِّفَ كتاباً ، فليبدأ بحديثِ (1) ( الأعمال
بالنيات )(2).
وهذا الحديثُ أحدُ الأحاديثِ التي يدُورُ الدِّين عليها (3) ، فرُويَ عنِ الشَّافعيِّ
أنَّهُ قال : هذا الحديثُ ثلثُ العلمِ ، ويدخُلُ في سبعينَ باباً مِنَ الفقه (4) .
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( عمر : إنما ) .
(2) قول عبد الرحمان بن مهدي هذا ذكره الترمذي في " الجامع الكبير " عقيب حديث
( 1647 ) ، والنووي في " شرح صحيح مسلم " 7/48 وفي " الأذكار " ، له : 6 ، وابن حجر في " الفتح " 1/14 .
(3) في ( ص ) : ( عليها الدين ) .
(4) أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " 2/14 . وذكره النووي في " المجموع " 1/169 وفي
" شرح صحيح مسلم " 7/48 ، والعراقي في " طرح التثريب " 2/5 ، وابن حجر في
" الفتح " 1/14 .
وعَنِ الإمام أحمدَ قال : أصولُ الإسلام على ثلاثة أحاديث (1) : حديث عمرَ
: ( الأعمالُ بالنيات ) ، وحديثُ عائشة : ( مَنْ أحدثَ في أمرِنا هذا (2) ما ليس منهُ ، فهو ردٌّ )(3) ، وحديثُ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ : ( الحلالُ بيِّنٌ ، والحَرامُ بَيِّنٌ ) (4) . وقال الحاكمُ : حدَّثُونا عَنْ عبدِ الله بنِ أحمدَ ، عن أبيه : أنّه ذكرَ قوله عليه الصَّلاةُ والسَّلام : ( الأعمال بالنيات ) ، وقوله : ( إنّ خَلْقَ أحَدِكُم يُجْمَعُ في بطنِ
أُمِّهِ أربَعينَ يوماً ) (5) ، وقوله : ( مَنْ أَحْدَث في أمرنا (6) هذا (7) ما ليس منه
فهو رَدٌّ ) فقال : ينبغي أنْ يُبدأ بهذه الأحاديثِ في كُلِّ تصنيفٍ ، فإنّها أصولُ الحديث .
وعن إسحاقَ بن راهَوَيْهِ : قال أربعةُ أحاديث هي مِنْ أُصولِ الدِّين : حديث عُمَر : ( إنّما الأعمالُ بالنِّيَّات ) ، وحديث : ( الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ ) ، وحديث ( إنَّ خَلْقَ أَحدِكُم يُجْمَعُ في بطنِ أمّه (8) ) ، وحديث : ( مَنْ صَنَعَ في أمرِنا شيئاً (9) ليس منه ، فهو ردٌّ ) .
وروى عثمان بنُ سعيدٍ ، عن أبي عُبيدٍ ، قال : جَمَعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جميعَ أمر الآخرةِ في كلمةٍ : ( مَنْ أحدثَ في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ ) ، وجمع أمرَ الدُّنيا كلَّه (10) في كلمةٍ : ( إنّما الأعمالُ بالنِّيات ) يدخلان في كل باب .
__________
(1) انظر : طرح التثريب 2/5 ، والفتح 1/15 .
(2) سقطت من ( ج ) .
(3) سيأتي عند الحديث الخامس .
(4) سيأتي عند الحديث السادس .
(5) سيأتي عند الحديث الرابع .
(6) في ( ج ) : ( ديننا ) ، ولعله سبق قلم من الناسخ ، إذ كتب فوقها : ( أمرنا ) .
(7) سقطت من ( ج ) .
(8) زاد بعدها في ( ص ) : ( أربعين يوماً ) .
(9) في ( ج ) : ( هذا ما ) بدل ( شيئاً ) .
(10) سقطت من ( ص ) .
وعن أبي داودَ ، قال : نظرتُ في الحديثِ المُسنَدِ ، فإذا هو أربعةُ آلافِ حديثٍ ، ثمّ نظرتُ فإذا مدارُ الأربعة آلافِ حديث على أربعةِ أحاديث : حديث النُّعمان بنِ بشيرٍ : ( الحلالُ بيِّن والحرامُ بيِّنٌ ) ، وحديث عُمَر (1) : ( إنّما الأعمالُ بالنِّيَّات ) ، وحديث أبي هريرة : ( إنّ الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلاّ طيِّباً ، وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المُرسلين ) الحديث (2) ، وحديث : ( مِنْ حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يعنيه ) (3) . قال : فكلُّ حديثٍ (4) مِنْ هذه ربعُ العلمِ (5) .
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( ابن الخطاب ) .
(2) سيأتي عند الحديث العاشر .
(3) سيأتي عند الحديث الثاني عشر .
(4) في ( ص ) : ( واحد ) .
(5) ينظر قول أبي داود في " طرح التثريب " 2/5-6 ، وفي " شرح السيوطي لسنن النسائي " 7/241-242 .
وعن أبي داودَ أيضاً ، قال : كتبتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس مئة ألف حديثٍ، انتخبتُ منها ما ضَمَّنْتُهُ هذا الكتاب - يعني كتابَ " السنن " - جمعت فيه أربعةَ آلاف(1) وثمانمئة حديثٍ (2) ، ويكفي الإنسانَ لدينه(3) مِنْ ذلك أربعةُ أحاديث : أحدُها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما (4) الأعمالُ بالنِّيَّات ) ، والثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مِنْ حُسن إسلامِ المرءِ تركُهُ ما لا يعنيه ) ، والثالث : قولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يكونُ المُؤمِنُ مؤمناً حتّى لاَ يرضى لأخيه(5) إلاّ ما يرضى لنفسه ) (6) ، والرَّابع : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الحلال بيِّنٌ ، والحرامُ بيِّنٌ ) (7) .
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( حديث ) .
(2) الموجود من الأحاديث في كتاب " السنن " لأبي داود ( 5274 ) . انظر : سنن أبي داود ط. دار الكتب العلمية ، تحقيق : محمد عبد العزيز الخالدي .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) سقطت من ( ج ) .
(5) زاد بعدها في ( ص ) .
(6) ورد هذا الحديث بهذا اللفظ عند السيوطي في " شرحه لسنن النسائي " ، وورد الحديث بلفظ : ( لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ، أو لجاره ما يُحب لنفسه ) .
وأخرجه بهذا اللفظ : ابن المبارك في " الزهد " ( 677 ) ، والطيالسي ( 2004 ) ، وأحمد 3/176 و206 و251 و272 و278 و289 ، وعبد بن حميد ( 1175 ) ، والدارمي
( 2743 ) ، والبخاري 1/10 ( 13 ) ، ومسلم 1/49 ( 44 ) ( 70 ) و1/49 ( 45 )
( 72 ) ، وابن ماجه ( 66 ) ، والترمذي ( 2515 ) ، والنسائي 8/115 و125 وفي
" الكبرى " ، له ( 11747 ) و( 11770 ) ، وابن حبان ( 234 ) و( 235 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 294 ) و( 295 ) و( 296 ) و( 297 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 889 ) ، والبغوي ( 3474 ) من طرق عن أنس بن مالك ، به .
(7) سيأتي عند الحديث السادس .
وفي رواية أخرى عنه أنه قال : الفقه يدورُ على خمسةِ أحاديث : ( الحلال بَيِّنٌ ، والحرامُ بيِّنٌ ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضَررَ ولا ضِرارَ ) (1) ، وقوله :
( إنّما (2) الأعمالُ بالنِّياتِ ) ، وقوله (3) : ( الدِّينُ النصيحةُ ) (4) ، وقوله : ( وما نهيتُكم عنه فاجتنبُوه ، وما أمرتُكم به فائتُوا مِنهُ ما استطعتم ) (5) .
وفي رواية عنه ، قال : أصولُ السُّنن في كلِّ فنٍّ أربعةُ أحاديث : حديث عمر
( إنّما (6) الأعمالُ بالنّياتِ ) ، وحديث : ( الحلالُ بيِّن والحرامُ بيِّن ) ، وحديث :
( مِنْ حُسْنِ إسلامِ المرء تَركُهُ ما لا يعنيه ) ، وحديث : ( ازْهَدْ في الدُّنيا يحبكَ الله، وازهد فيما في أيدي النَّاس يُحِبك الناسُ ) (7) .
وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوِّز المعافري الأندلسي (8) :
عُمْدَةُ الدِّينِ عندَنا كلماتٌ
اتَّق الشُّبهَاتِ وازهَدْ ودَعْ ما
أربعٌ مِنْ كلامِ خيرِ البريَّه
لَيسَ يَعْنِيكَ واعمَلَنَّ بِنيَّه (9)
__________
(1) سيأتي عند الحديث الثاني والثلاثين .
(2) سقطت من ( ج ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( - صلى الله عليه وسلم - ) .
(4) سيأتي عند الحديث السابع .
(5) سيأتي عند الحديث التاسع .
(6) سقطت من ( ج ) .
(7) سيأتي عند الحديث الحادي والثلاثين .
(8) الأندلسي ) لم ترد في ( ص ) ، وهو الإمام الحافظ الناقد المجوّد ، أبو الحسن طاهر بن مُفوز ابن أحمد بن مُفوز المعافري الشاطبي ، تلميذ أبي عمر بن عبد البر ، وخصيصه ، وأكثر عنه وَجوَّد ، وكان فهماً ذكياً إماماً من أوعية العِلم وَفُرسان الحديث وأهل الإتقان والتحرير مع الفضل والورع والتقوى والوقار والسمت ، مولده في سنة تسع وعشرين وأربع مئة .
انظر : سير أعلام النبلاء 19/88 ، والعبر 3/305 ، وتذكرة الحفاظ 4/1222-1223 .
(9) انظر : الفتوحات الربانية لابن علان 1/64 ، وشرح السيوطي لسنن النسائي 7/242 .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنّما الأعمالُ بالنِّيَّات ) ، وفي رواية : ( الأعمالُ بالنِّيَّة (1) ) .
وكلاهما يقتضي الحصرَ على الصَّحيح ، وليس غرضنا هاهنا توجيه ذلك (2)، ولا بسط القول فيه .
وقد اختلف في تقدير قوله : ( الأعمالُ بالنياتِ ) ، فكثيرٌ مِنَ المتأخِّرين يزعُمُ أنّ تقديرَه : الأعمالُ صحيحةٌ ، أو معتَبَرةٌ ، أو مقبولة بالنِّيَّاتِ ، وعلى هذا فالأعمالُ إنّما أُرِيدَ بها الأعمالُ الشَّرعيَّةُ المفتَقِرةُ إلى النِّيَّة ، فأمّا مالا يفتقِرُ إلى النيّة كالعادات مِنَ الأكل والشرب ، واللبسِ وغيرِها ، أو مثل ردِّ الأماناتِ والمضمونات، كالودائعِ والغُصوبِ ، فلا يَحتَاجُ شيءٌ من ذلك إلى نيةٍ ، فيُخَصُّ هذا كلُّه من عمومِ الأعمال المذكورة هاهُنا .
وقال آخرون : بل الأعمال هنا على عُمومها ، لا يُخَصُّ منها شيءٌ (3) .
وحكاه بعضُهم عن الجمهور ، وكأنَّه يريدُ به جمهورَ المتقدِّمين ، وقد وقع ذلك في كلام ابن جريرٍ الطَّبَريِّ ، وأبي طالبٍ المكِّيِّ وغيرِهما من المتقدِّمين ، وهو ظاهرُ كلامِ الإمام أحمدَ .
قال في رواية حنبلٍ : أُحِبُّ لكلِّ مَنْ عَمِلَ عملاً مِنْ صلاةٍ ، أو صيامٍ ، أو صَدَقَةٍ ، أو نوعٍ مِنْ أنواعِ البِرِّ أنْ تكونَ النِّيَّةُ متقدِّمَةً في ذلك قبلَ الفعلِ ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الأعمالُ بالنِّيَّاتِ ) ، فهذا يأتي على كلِّ أمرٍ من الأمور .
وقال الفضلُ بنُ زيادٍ: سألتُ أبا عبد الله - يعني : أحمدَ - عَنِ النِّيَّةِ في العملِ، قلت : كيف النيةُ ؟ قالَ : يُعالجُ نفسَه ، إذا أراد عملاً لا يريدُ به النّاس .
__________
(1) في ( ج ) : ( بالنيات ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) قال ابن دقيق العيد : ( الذين اشترطوا النية قدّروا صحة الأعمال بالنيات أو ما يقاربه ، والذين لم يشترطوها قدّروا كمال الأعمال بالنيات أو ما يقاربه ) .
انظر : طرح التثريب 2/7.
وقال أحمدُ بنُ داودَ الحربي : حدَّث يزيدُ بن هارونَ بحديثِ عمر : ( إنّما (1)
الأعمال بالنيات ) وأحمدُ جالسٌ ، فقال أحمد ليزيدَ : يا أبا خالدٍ ، هذا الخناقُ .
وعلى هذا القول، فقيل : تقديرُ الكلام : الأعمال واقعة ، أو حاصلةٌ بالنِّيَّاتِ، فيكونُ إخباراً عن الأعمالِ الاختيارية أنّها لا تقعُ إلاّ عَنْ قصدٍ مِنَ العاملِ وهو سببُ عملها ووجودِها ، ويكونُ قولُه بعدَ ذلك : ( وإنَّما لكل امرىءٍ(2) ما نوى ) إخباراً عن حكمِ الشَّرع ، وهو أنَّ حظَّ العاملِ مِنْ عمله نيَّتُه ، فإنْ كانت صالحةً فعملُهُ صالحٌ ، فله أجرُه ، وإن كانت فاسدةً فعمله فاسدٌ ، فعليه وِزْرُهُ .
ويحتمل أن يكون التَّقدير في قوله : ( الأعمال بالنيات ) : الأعمالُ صالحةٌ ، أو فاسدةٌ ، أو مقبولةٌ ، أو مردودةٌ، أو مثابٌ عليها ، أو غير مثاب عليها ، بالنيات ، فيكونُ خبراً عن حكمٍ شرعي ، وهو أنَّ صلاحَ الأعمال وفسادَها بحسب صلاحِ النِّياتِ وفسادِها ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - (3) : ( إنّما الأعمالُ بالخواتيم ) (4) ، أي : إنَّ صلاحَها وفسادَها وقَبُولَها وعدمَه بحسب الخاتمة .
__________
(1) سقطت من ( ج ) .
(2) في ( ج ) : ( لامرىءٍ ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( إنما لكل امرىء ما نوى . إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلاّ ما نواه به ، فإن نوى خيراً حصل له خير ، وإن نوى شراً حصل له شر ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - ) ، وهي زيادة مكررة .
(4) أخرجه : أحمد 5/335 ، والبخاري 7/128 ( 6493 ) و8/155 ( 6607 ) ، ومسلم 1/74 ( 112 ) ( 179 ) ، وأبو عوانة 1/55 ، والقضاعي في " مسند الشهاب "
( 1167 ) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 58/304 من حديث سهل بن سعد ، به .
وقوله بعد ذلك : ( وإنّما لامرىءٍ (1) ما نوى ) إخبارٌ أنَّه لا يحصلُ له مِنْ عمله إلاّ ما نواه به ، فإنْ نَوى خيراً حصل له خير ، وإنْ نَوى به (2) شرّاً حصل
له(3) شرٌّ ، وليس هذا تكريراً محضاً للجُملة الأولى ، فإنَّ الجُملةَ الأولى دلَّت على أنّ صلاحَ العمل وفسادَه بحسب النِّيَّة المقتضيةِ لإيجاده ، والجملة الثّانية دلَّت على أنّ ثوابَ العاملِ على عمله بحسب نيَّتِه الصالحة ، وأنَّ عقابَه عليه بحسب نيَّته الفاسدة ، وقد تكون نيَّتُه مباحة ، فيكون العملُ مباحاً ، فلا يحصل له به ثوابٌ ولا عقابٌ ، فالعملُ في نفسه صلاحُه وفسادُه وإباحَتُه بحسب النيّة الحاملةِ عليه، المقتضية لوجودِهِ، وثوابُ العامل وعقابُه وسلامتُه بحسب نيته التي بها صار العملُ(4) صالحاً ، أو فاسداً ، أو مباحاً .
واعلم أنّ النيَّةَ في اللُّغة نوعٌ من القَصدِ والإرادة (5) ، وإن كان قد فُرق بينَ هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره .
والنيةُ في كلام العُلماء تقعُ بمعنيين :
أحدهما : بمعنى تمييز العباداتِ بعضها عن بعضٍ ، كتمييزِ صلاة الظُّهر مِنْ صلاةِ العصر مثلاً (6)، وتمييزِ صيام رمضان من صيام غيرِه ، أو تمييز العباداتِ مِنَ العادات (7)، كتمييز الغُسلِ من الجَنَابةِ مِنْ غسل التَّبرُّد والتَّنظُّف ، ونحو ذلك ، وهذه النيةُ هي التي تُوجَدُ كثيراً في كلامِ الفُقهاء في كتبهم .
__________
(1) في ( ص ) : ( لكل امرىءٍ ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( به ) .
(4) في ( ص ) : ( صار العمل بها ) .
(5) انظر : كتاب العين : 996 ، والصحاح 6/2516 ، ولسان العرب 14/343 .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) في ( ص ) : ( العادات من العبادات ) .
والمعنى الثاني : بمعنى تمييزِ المقصودِ بالعمل ، وهل هو لله وحده لا شريكَ له ، أم غيره ، أم الله وغيرُه(1) ، وهذه النيّة هي التي يتكلَّمُ فيها العارفُونَ في كتبهم في
كلامهم على الإخلاص وتوابعه ، وهي التي تُوجَدُ كثيراً في كلام السَّلَفِ المتقدّمين .
وقد صنَّفَ أبو بكر بنُ أبي الدُّنيا مصنَّفاً سمَّاه : كتاب ( الإخلاص والنية ) ، وإنّما أراد هذه النية، وهي النيةُ التي يتكرَّر ذكرُها في كلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تارةً بلفظ النيةِ، وتارةً بلفظ الإرادة ، وتارةً بلفظٍ مُقاربٍ لذلك ، وقد جاء ذكرُها كثيراً في كتابِ الله - عز وجل - بغيرِ لفظِ النِّيَّةِ أيضا مِنَ الألفاظ المُقاربةِ لها .
وإنَّما فرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بين النيةِ وبينَ الإرادة والقصدِ ونحوهما ؛ لظنِّهم اختصاصَ النية بالمعنى الأوَّلِ الذي يذكُرُهُ الفقهاءُ ، فمنهم من قال : النيةُ تختصُّ بفعلِ النَّاوي ، والإرادةُ لا تختصُّ بذلك ، كما يريدُ الإنسانُ مِنَ اللهِ أن يغفرَ له ، ولا ينوي ذلك .
__________
(1) في ( ص ) : ( أم هو لغير الله ) بدل : ( أم غيره أم الله وغيره ) .
وقد ذكرنا أنَّ النية في كلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وسلفِ الأمَّةِ إنَّما يُرادُ بها هذا المعنى الثاني غالباً ، فهي حينئذٍ بمعنى الإرادة ، ولذلك يُعبَّرُ عنها بلفظِ الإرادة في القرآن كثيراً ، كما في قوله تعالى : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ } (1)، وقوله : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَة } (2) ، وقوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } (3) ، وقوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً } (4) ، وقوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ } (5) ، وقوله : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } (6) ، وقوله : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (7) ، وقوله
: { ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ
__________
(1) آل عمران : 152 .
(2) الأنفال : 67 .
(3) الشورى :20 .
(4) الإسراء : 18-19 .
(5) هود :15-16 .
(6) الأنعام : 52 .
(7) الكهف : 28 .
وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } (1) .
وقد يُعَبَّرُ عنها في القرآن بلفظ ( الابتغاء ) ، كما في قوله تعالى : { إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى } (2)، وقوله : { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ
الله } (3)، وقوله : { وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله } (4) ، وقوله : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } (5) .
فنفى الخيرَ عَنْ كثيرٍ ممّا يتناجى الناسُ به إلاَّ في الأمرِ بالمعروف ، وخصَّ من أفراده الصَّدقةَ ، والإصلاحَ بينَ النَّاس ؛ لعموم نفعهما ، فدلَّ ذلك على أنّ التَّناجي بذلك خيرٌ ، وأمّا الثوابُ عليهِ مِنَ اللهِ فخصّه بِمَنْ فعله ابتغاءَ مرضات الله .
__________
(1) الروم : 38-39 .
(2) الليل :20 .
(3) البقرة : 265 .
(4) البقرة : 272 .
(5) النساء : 114 .
وإنَّما جَعَل الأمرَ بالمعروفِ مِنَ الصَّدقة ، والإصلاح بينَ النَّاس وغيرهما خيراً ، وإنْ لم يُبْتَغَ به وجهُ اللهِ ، لما يترتَّبُ على ذلك مِنَ النَّفْعِ المُتعدِّي ، فَيَحْصُلُ به للنَّاسِ إحسانٌ وخيرٌ ، وأمّا بالنِّسبة إلى الأمر ، فإنْ قَصَدَ به وجهَ اللهِ وابتغاءَ مَرضاته كان خيراً له ، وأُثيبَ عليه ، وإنْ لم يقصدْ ذلك لم يكن خيراً له ، ولا ثوابَ له عليه ، وهذا بخلاف من صام وصلى وذكر الله ، يقصِدُ بذلك عَرَضَ الدُّنيا ، فإنّه لا خيرَ له فيه بالكُلِّيّة ؛ لأنَّه لا نفع في ذلك لصاحبه ، لما يترتّب عليه من الإثم فيه ، ولا لغيره ؛ لأنَّه لا يتعدَّى نفعُه إلى أحدٍ ، اللَّهُمَّ إلاّ أنْ يحصُلَ لأحدٍ به اقتداءٌ في ذلك .
وأمّا ما ورد في السُّنَّةِ وكلام السَّلفِ مِنْ تسمية هذا المعنى بالنِّيَّةِ ، فكثيرٌ جداً ، ونحن نذكر بعضَه ، كما خرَّج الإمام أحمدُ والنَّسائيّ مِنْ حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( مَنْ غَزَا في سَبيلِ الله ولم يَنْوِ إلاَّ عِقالاً ، فله ما نوى ) (1) .
وخرَّج الإمام أحمد (2) من حديثِ ابنِ مسعودٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ أكثرَ شُهداءِ أُمَّتي لأصْحَابُ الفُرُشِ ، ورُبَّ قتيلٍ بَيْنَ الصفَّين الله أعلم بنيَّته ) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/315 و320 ، والنسائي 6/24 وفي " الكبرى " ، له ( 4346 )
و( 4347 ) .
وأخرجه أيضاً : الدارمي ( 2421 ) ، وعبد الله بن أحمد في " زياداته " 5/329 ، وابن حبان
( 4638 ) ، والحاكم 2/109 ، والبيهقي 6/331 ، وإسناده ضعيف ؛ فإنَّ يحيى بن الوليد بن عبادة مجهول لم يرو عنه غير جبلة بن عطية .
(2) في " مسنده " 1/397 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
وخَرَّج ابنُ ماجه (1) من حديث جابر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يُحْشَرُ النَّاسُ على نيَّاتِهم ) ، ومن حديث أبي هريرة ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّما يُبْعَثُ النَّاسُ على نِيَّاتِهم ) (2) .
وخَرَّج ابنُ أبي الدُّنيا من حديثِ عمر ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّما يُبعَثُ
المقتتلون على النِّيَّاتِ ) (3) .
وفي " صحيح مسلم " (4) عن أمِّ سلمةَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يعوذُ عائذٌ بالبيتِ ، فيُبعَثُ إليه بعثٌ ، فإذا كانوا ببيداءَ مِنَ الأرضِ خُسِفَ بهم ) ، فقلت :
يا رسولَ اللهِ ، فكيف بمَنْ كان كارهاً ؟ قال : ( يُخْسَفُ به معهم ، ولكنَّه يُبعَثُ يومَ القيامة على نيَّته ) .
__________
(1) في " سننه " ( 4230 ) ، وإسناده ضعيف لضعف شريك بن عبد الله النخعي .
(2) أخرجه ابن ماجه ( 4229 ) .
وأخرجه أيضاً : أحمد 2/392 ، وأبو يعلى ( 6247 ) ، وتمام في " فوائده " ( 1744 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم وشريك النخعي .
(3) أخرجه : أبو يعلى في " المسند الكبير " كما في " المطالب العالية " ( 1877 ) ، وابن عدي في " الكامل " 6/227 ، وتمام في " فوائده " ( 1743 ) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 19/274 و20/220 ، وهو حديث منكر لتفرد عمرو بن شمر الكذاب به ، وقد ساقه ابن عدي في منكراته .
تنبيه : جاء في بعض الروايات لفظ ( المسلمون ) بدل ( المقتتلون ) .
(4) الصحيح 8/166 ( 2882 ) ( 4 ) و8/167 ( 2882 ) ( 5 ) .
وأخرجه أيضاً: أحمد 6/289 و290 و316 و317 و318 و323 ، وأبو داود ( 4289 ) ، وابن ماجه ( 4056 ) ، والترمذي ( 2171 ) ، وأبو يعلى ( 6926 ) ، وابن حبان
( 6756 ) ، والطبراني في " الكبير " 23/( 734 ) و( 735 ) و( 736 ) و( 984 )
و( 985 ) من طرق عن أم سلمة .
وفيه أيضاً عَنْ عائشة ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معنى هذا الحديث ، وقال
فيه : ( يهلِكون مَهْلِكاً واحداً ، ويَصدُرُونَ مصادرَ شتَّى ، يبعثُهم الله على
نيَّاتهم ) (1) .
وخرّج الإمام أحمد وابنُ ماجه مِنْ حديث زيدِ بن ثابتٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ كانتِ الدُّنيا همَّه فرّق الله عليه أمره ، وجَعَلَ فقرَه بين عينيه ، ولم يأتِهِ من الدُّنيا إلا ما كُتِبَ له، ومَنْ كَانَتِ الآخرةُ نيَّته جمَعَ الله له أمرَه ، وجعل غِناه في قلبِه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ ) . لفظُ ابنِ ماجه ، ولفظُ أحمد : ( مَنْ كان همُّه الآخرة ، ومن كانت نيَّته الدُّنيا ) (2) ، وخرَّجه ابن أبي الدنيا (3) ، وعنده : ( من كانت نيته الدنيا ، ومن كانت نيته الآخرة ) .
وفي " الصَّحيحين " عن سعد بن أبي وقَّاصٍ ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّكَ لن تُنفِقَ نفقةً تبتغي بِها وجهَ اللهِ إلاَّ أُثِبْتَ عليها ، حتَّى اللُّقمَة تجعلُها في فيِّ
امرأتك ) (4)
__________
(1) أخرجه : مسلم 8/168 ( 2884 ) ( 8 ) .
... وأخرجه أيضاً : أحمد 6/105 و259 ، والبخاري 3/86 ( 2118 ) ، وابن حبان
( 6755 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/11 من طرق عن عائشة ، به .
(2) أخرجه : أحمد 5/183 ، وابن ماجه ( 4105 ) .
وأخرجه أيضاً : الدارمي ( 235 ) ، وأبو داود ( 3660 ) ، والترمذي ( 2656 ) ، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 94 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " (1600) ، وابن حبان (67) و(680) ، والطبراني في " الكبير " ( 4890 ) و( 4891 ) من طرق عن زيد بن ثابت ، به ، وهو حديث صحيح .
(3) في كتاب الإخلاص : 58 .
(4) أخرجه : البخاري 1/22 ( 56 ) و2/103 ( 1295 ) و4/3 ( 2742 ) و5/87
( 3936 ) و5/225 ( 4409 ) و7/155 ( 5668 ) و8/99 ( 6373 ) و8/187
( 6733 ) ، ومسلم 5/71 ( 168 ) ( 5 ) .
... وأخرجه أيضاً : مالك في " الموطأ " ( 2219 ) برواية يحيى الليثي ، والطيالسي ( 195 )
و( 196 ) و( 197 ) ، وعبد الرزاق ( 16357 ) و( 16358 ) ، والحميدي ( 66 ) ، وأحمد 1/172 و173 و176 و179 ، وعبد بن حميد ( 133 ) ، والدارمي ( 3198 )
و( 3199 ) ، وأبو داود ( 2864 ) ، والترمذي ( 2116 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 1090 ) ، وأبو يعلى ( 727 ) و( 747 ) و( 834 )، وابن الجارود ( 947 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 2627 ) و( 2628 ) و( 5221 ) و( 5222 ) ، وابن حبان ( 4249 ) و(6026)، وأبو نعيم في " معرفة الصحابة " ( 533 )، والبيهقي 6/268 ، والبغوي ( 1458 ) من طرق عن سعد بن أبي وقاص ، به .
.
وروى ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادٍ منقطعٍ عن عُمَر ، قال : لا عَمَلَ لِمَنْ لا نيَّةَ له ، ولا أجْرَ لمَنْ لا حِسْبَةَ لهُ ، يعني : لا أجر لمن لم يحتسبْ ثوابَ عمله عندَ الله - عز وجل - .
وبإسنادٍ ضعيفٍ عن ابنِ مسعودٍ ، قال : لا ينفعُ قولٌ إلاَّ بعملٍ ، ولا ينفعُ قولٌ وعملٌ إلاَّ بنيَّة ، ولا ينفعُ قولٌ وعملٌ ونيَّةٌ إلاَّ بما وافق السُّنَّةَ .
وعن يحيى بن أبي كثير ، قال : تعلَّموا النِّيَّة ، فإنَّها أبلغُ من العَمَلِ (1) .
وعن زُبَيدٍ اليامي ، قال : إنِّي لأحبُّ أن تكونَ لي نيَّةٌ في كلِّ شيءٍ ، حتى في الطَّعام والشَّراب ، وعنه أنَّه قال : انْوِ في كلِّ شيءٍ تريدُه الخيرَ ، حتى خروجك إلى الكُناسَةِ (2) .
وعن داود الطَّائيِّ (3) ، قال : رأيتُ الخيرَ كلَّه إنَّما يجمعُه حُسْنُ النِّيَّة ، وكفاك به خيراً وإنْ لم تَنْصَبْ . قال داود : والبِرُّ هِمَّةُ التَّقيِّ ، ولو تعلَّقت جميع جوارحه بحبِّ الدُّنيا لردَّته يوماً نيَّتُهُ إلى أصلِهِ .
وعن سفيانَ الثَّوريِّ ، قال : ما عالجتُ شيئاً أشدَّ عليَّ من نيَّتي ؛ لأنَّها تتقلَّبُ
عليَّ (4) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/70 .
(2) أخرج القول الثاني : الدينوري في " المجالسة " ( 3533 ) ، وابن عربي في " محاضرة الأبرار " 2/293 .
(3) هو أبو سليمان ، داود بن نصير الطائي ، اشتغل بالعلم مدة ودرس الفقه وغيره من العلوم ثم اختار بعد ذلك العزلة ، وآثر الانفراد والخلوة ولزم العبادة واجتهد فيها إلى آخر عمره ، مات بالكوفة سنة ستين ومئة ، وقيل سنة خمس وستين ومئة .
انظر : سير أعلام النبلاء 7/422 ، والأنساب 3/247-248 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 7/5 و62 ، وفيه كلمة ( نفسي ) بدل كلمة ( نيتي ) .
وعن يوسُفَ بن أسباط ، قال : تخليصُ النِّيةِ مِنْ فسادِها أشدُّ على العاملينَ مِنْ طُولِ الاجتهاد (1) .
وقيل لنافع بن جُبير : ألا تشهدُ الجنازةَ ؟ قال : كما أنتَ حتَّى أنوي ، قال : ففكَّر هُنَيَّة ، ثم قال : امضِ (2) .
وعن مطرِّف بن عبدِ الله قال : صلاحُ القلب بصلاحِ العملِ ، وصلاحُ العملِ بصلاحِ النيَّةِ (3) .
وعن بعض السَّلَف قال : مَنْ سرَّه أن يَكْمُلَ له عملُه ، فليُحسِن نيَّته ، فإنَّ الله
- عز وجل - يأجُرُ العَبْدَ إذا حَسُنَت نيَّته حتى باللُّقمة .
وعن ابن المبارك ، قال : رُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمهُ النيَّةُ ، وربَّ عمل كبيرٍ تُصَغِّره النيَّةُ .
وقال ابن عجلان : لا يصلحُ العملُ إلاَّ بثلاثٍ : التَّقوى لله ، والنِّيَّةِ الحسنَةِ ، والإصابة .
وقال الفضيلُ بنُ عياضٍ : إنَّما يريدُ الله - عز وجل - منكَ نيَّتَك وإرادتكَ .
وعن يوسف بن أسباط ، قال : إيثارُ الله - عز وجل - أفضلُ من القَتل في سبيله .
خرَّج ذلك كلَّه ابنُ أبي الدُّنيا في كتاب " الإخلاص والنيَّة " .
وروى فيه بإسنادٍ منقطعٍ عن عُمَر - رضي الله عنه - ، قال : أفضلُ الأعمال أداءُ ما افترضَ الله - عز وجل - ، والورعُ عمّا حرَّم الله - عز وجل - ، وصِدْقُ النِيَّة فيما عندَ اللهِ - عز وجل - .
__________
(1) أخرجه: الدينوري في " المجالسة " ( 1946 ) و( 3424 )، وابن عربي في " محاضرة الأبرار " 2/323 .
(2) أخرجه : الدينوري في " المجالسة " ( 3532 ) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 4/306 .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/199 .
وبهذا يعلم معنى ما رُوي عن الإمامِ أحمدَ : أنَّ أُصولَ الإسلام ثلاثةُ أحاديث : حديثُ : ( الأعمال بالنِّيَّات ) ، وحديثُ : ( مَنْ أحدثَ في أمرِنا ما ليس منه فهو رَدٌّ ) ، وحديثُ : ( الحلالُ بَيِّن والحرامُ بيِّن ) . فإنّ الدِّين كلَّه يَرجعُ إلى فعل المأموراتِ ، وترك المحظورات ، والتَّوقُّف عن الشُّبُهاتِ ، وهذا كلُّه تضمَّنه حديثُ النُّعمان بن بشيرٍ .
وإنَّما يتمُّ ذلك بأمرين :
أحدهما : أنْ يكونَ العملُ في ظاهره على موافقَةِ السُّنَّةِ ، وهذا هو الذي تضمَّنه حديثُ عائشة : ( مَنْ أحدَثَ في أمرنا ما ليس منه فهو رَدٌّ ) (1) .
والثاني : أنْ يكونَ العملُ في باطنه يُقْصَدُ به وجهُ الله - عز وجل - ، كما تضمَّنه حديث عمر : ( الأعمالُ بالنِّيَّاتِ ) .
وقال الفضيلُ في قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } (2) ، قال : أخلصُه وأصوبُه . وقال : إنَّ العملَ إذا كان خالصاً ، ولم يكن صواباً ، لم يقبل ، وإذا كان صواباً ، ولم يكن خالصاً ، لم يقبل حتّى يكونَ خالصاً صواباً ، قال : والخالصُ إذا كان لله - عز وجل - ، والصَّوابُ إذا كان على السُّنَّة (3) .
وقد دلَّ على هذا الذي قاله الفضيلُ قولُ الله - عز وجل - : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } (4) .
وقال بعضُ العارفينَ: إنَّما تفاضَلُوا بالإرادات ،ولم يتفاضَلُوا بالصَّوم والصَّلاة .
وقولُه - صلى الله عليه وسلم - : ( فَمَنْ كانت هجرتُهُ إلى اللهِ ورسولِه ،فهجرتُهُ إلى الله ورسولِهِ ، وَمَنْ كانت هجرتُه إلى دنيا يُصيبُها، أو امرأةٍ ينكِحُها ، فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه ) .
__________
(1) سيأتي عند الحديث الخامس .
(2) الملك : 2 .
(3) ذكره البغوي في " تفسيره " 5/124-125 .
(4) الكهف : 110 .
لما ذكر - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الأعمالَ بحسبِ النِّيَّاتِ ، وأنَّ حظَّ العاملِ من عمله نيَّتُه مِنْ خيرٍ أو شرٍّ ، وهاتانِ كلمتانِ جامِعتانِ ، وقاعِدَتانِ كلِّيَّتانِ ، لا يخرُجُ عنهما شيءٌ ، ذكر بعدَ ذلك مثالاً من أمثال الأعمال التي صُورتُها واحدةٌ ، ويختلِفُ صلاحُها وفسادُها باختلافِ النِّيَّاتِ ، وكأنَّه يقول : سائرُ الأعمالِ على حَذوِ هذا المثال .
وأصلُ الهجرةِ : هِجرانُ بلدِ الشِّرك ، والانتقالُ منه إلى دارِ الإسلام ، كما كانَ المهاجرونَ قَبلَ فتحِ مكَّة يُهاجرون منها إلى مدينة (1) النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وقد هاجرَ مَنْ هاجَرَ منهم قبلَ ذلك إلى أرض الحبشة إلى النَّجاشيِّ .
فأخبرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هذه الهجرةَ تختلفُ باختلافِ النيات والمقاصدِ بها (2) ، فمن هاجَرَ إلى دار الإسلام حُبّاً لله ورسولِهِ ، ورغبةً في تعلُّم دينِ الإسلام ، وإظهارِ دينِه حيث كان يعجزُ عنه في دارِ الشِّركِ ، فهذا هو المهاجرُ إلى الله ورسوله حقاً ، وكفاه شرفاً وفخراً أنَّه حصل له ما نواه من هجرتِهِ إلى الله ورسوله .
ولهذا المعنى اقتصرَ في جوابِ هذا الشرط على إعادتِهِ بلفظه ؛ لأنَّ حُصولَ ما نواه بهجرته نهايةُ المطلوب في الدُّنيا والآخرة .
ومن كانت هجرتُهُ من دارِ الشِّرك إلى دارِ الإسلام لطَلَبِ دُنيا يُصيبها ، أو امرأةٍ ينكِحُها في دارِ الإسلام ، فهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليه مِنْ ذلكَ ، فالأوَّل تاجرٌ ، والثَّاني خاطب ، وليسَ واحدٌ منهما بمهاجرٍ .
وفي قوله : ( إلى ما هاجرَ إليه ) تحقيرٌ لِمَا طلبه من أمر الدُّنيا ،واستهانةٌ به ، حيث لم يذكره بلفظه . وأيضاً فالهجرةُ إلى اللهِ ورسولِهِ واحدةٌ فلا تعدُّد فيها ، فلذلك أعادَ الجوابَ فيها بلفظ الشَّرط .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
والهجرةُ لأمور الدُّنيا لا تنحصِرُ ، فقد يُهاجِرُ الإنسانُ لطلبِ دُنيا مُباحةٍ تارةً ، ومحرَّمةٍ أخرى ، وأفرادُ (1) ما يُقصَدُ بالهجرةِ من أُمورِ الدُّنيا لا تنحصِرُ ، فلذلك قال : ( فهجرتُهُ (2) إلى ما هاجرَ إليه ) ، يعني : كائناً ما كان .
وقد رُويَ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى : { إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } الآية (3) . قال : كانت المرأةُ إذا أتت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حلَّفها بالله : ما خرجت من بُغضِ زوجٍ ، وبالله : ما خرجت رغبةً بأرضٍ عنْ
أرضٍ(4)، وبالله : ما خرجت التماسَ دُنيا ، وبالله : ما خرجت إلاَّ حباً لله ورسوله . خرجهُ ابنُ أبي حاتم (5) ، وابنُ جريرٍ (6) ، والبزَّارُ في " مسنده " (7) ، وخرَّجه الترمذي في بعض نسخ كتابه مختصراً .
وقد روى وكيعٌ في كتابه عن الأعمش ، عن شقيقٍ - هو أبو وائلٍ - قال : خطبَ أعرابيٌّ مِنَ الحيِّ امرأةً يقال لها : أم قيسٍ . فأبت أن تزوَّجَهُ حتى يُهاجِرَ ، فهاجَرَ ، فتزوَّجته ، فكُنَّا نُسمِّيه مهاجرَ أُم قيسٍ . قال : فقال عبدُ الله - يعني : ابن مسعود - : مَنْ هاجَر يبتغي شيئاً ، فهو له .
__________
(1) كلمة : ( أفراد ) سقطت من ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) الممتحنة : 10 .
(4) في ( ص ) : ( من رغبة من أرض إلى أرض ) .
(5) في " تفسيره " 10/3350 ( 18867 ) .
(6) في " تفسيره " ( 26310 ) ، وطبعة التركي 22/575 .
(7) 2272 ) كشف الأستار ، وهو حديث ضعيف . انظر : مجمع الزوائد 7/123 .
وهذا السِّياقُ يقتضي أنَّ هذا لم يكن في عهدِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، إنَّما كان في
عهدِ ابنِ مسعودٍ ، ولكن رُوي مِنْ طريقِ سفيانَ الثَّوريِّ ، عَن الأَعمشِ ،
عن أبي وائلٍ ، عن ابن مسعود ، قال : كان فينا رجلٌ خطبَ امرأةً يقال
لها : أم قيسٍ ، فأبت أنْ تزوَّجَه حتَّى يهاجِرَ ، فهاجَرَ ، فتزوَّجها ،
فكنَّا نسمِّيه مهاجرَ أمِّ قيسٍ . قال ابنُ مسعودٍ : مَنْ هاجرَ لشيءٍ (1)
فهو له (2) .
وقد اشتهرَ أنَّ قصَّةَ مُهاجرِ أمِّ قيسٍ هي(3) كانت سببَ قولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ كانت هجرتُه إلى دُنيا يُصيبُها أو امرأةٍ ينكِحُها ) ، وذكر ذلك كثيرٌ من المتأخِّرين
في كُتُبهم ، ولم نر لذلك أصلاً بإسنادٍ يصحُّ ، والله أعلم (4) .
وسائر الأعمال كالهجرةِ في هذا المعنى ، فصلاحُها وفسادُها بحسب النِّيَّة الباعثَةِ عليها ، كالجهادِ والحجِّ وغيرهما ، وقد سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن اختلاف نيَّاتِ النَّاس في الجهاد وما يُقصَدُ به من الرِّياء ، وإظهار(5) الشَّجاعة والعصبيَّة ، وغير ذلك : أيُّ ذلك في سبيل الله ؟ فقال : ( مَنْ قاتَل لِتَكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا ، فهو في سبيل
الله ) فخرج بهذا كلُّ(6) ما سألوا عنه من المقاصد الدُّنيوية .
__________
(1) في ( ص ) : ( يبتغي شيئاً ) .
(2) أخرجه : الطبراني في " المعجم الكبير " ( 8540 ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " 1/14 تعقيباً على هذه القصة : ( لكن ليس فيه أنَّ حديث الأعمال سيق بسبب ذلك ، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) سقطت من ( ص ) .
ففي " الصحيحين " عن أبي موسى الأشعريِّ : أنَّ أعرابياً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله : الرَّجُلُ يُقاتِلُ للمَغْنمِ ، والرَّجلُ يُقاتِل للذِّكر ، والرَّجُلُ يقاتِل ليُرى مكانُهُ ، فمن في سبيل الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ قَاتَل لتكُونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا ، فهو في سبيل الله ) (1) .
وفي رواية لمسلم : سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنِ الرَّجُلِ يُقَاتلُ شجاعةً ، ويقاتِلُ
حميَّةً (2) ، ويقاتل رياءً ، فأيُّ ذلك في سبيل الله ؟ فذكرَ الحديث .
وفي رواية له أيضاً : الرَّجُلُ يقاتِلُ غضباً ، ويُقاتلُ حَمِيَّةً .
__________
(1) صحيح البخاري 1/42 ( 123 ) و4/24 ( 2810 ) و4/105 ( 3126 ) و9/166
( 7458 ) ، وصحيح مسلم 6/46 ( 1904 ) ( 149 ) و( 150 ) .
وأخرجه أيضاً : الطيالسي ( 487 ) و( 488 ) ، وعبد الرزاق ( 9567 ) ، وسعيد بن منصور في " سننه " ( 2543 ) ، وأحمد 4/392 و401 و405 و417 ، وعبد بن حميد
( 553 ) ، وأبو داود ( 2517 ) و( 2518 ) ، وابن ماجه ( 2783 ) ، والترمذي
( 1646 ) ، والنسائي 6/23 وفي " الكبرى " ، له ( 4344 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 5106 ) ، وابن حبان ( 4636 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 7/128 ، والبيهقي 9/167 و168 ، والبغوي ( 2626 ) من طرق عن أبي موسى الأشعري ، به .
(2) الحمية : هي الأنفة والغيرة والمحاماة عن عشيرته . انظر : شرح صحيح مسلم 7/45 .
وخَرَّج النَّسائيُّ من حديث أبي أُمامة ، قال : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أرأيت رجلاً غزا يلتمِسُ الأجرَ والذِّكْرَ ، ما لَهُ ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) : ( لا شيءَ له ) ، ثمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ (2) الله لا يقبلُ من العملِ إلاَّ ما كانَ
خالصاً ، وابتُغي به وجهُهُ ) (3) .
وخرَّج أبو داود (4) من حديث أبي هريرة : أنَّ رجلاً قال : يا رسول اللهِ ، رجلٌ يريدُ الجِهادَ وهو يبتغي عَرَضاً مِنْ عَرَضِ(5) الدُّنيا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا أجر له ) فأعاد عليه ثلاثاً ، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لا أجر له ) .
وخرَّج الإمام أحمدُ وأبو داود منْ حديثِ مُعاذِ بنِ جبلٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،
قال : ( الغزوُ غَزوانِ ، فأمَّا من ابتغى وجهَ الله ، وأطاعَ الإمام ، وأنفق الكريمةَ (6) ، وياسرَ الشَّريكَ ، واجتنبَ الفسادَ ، فإنَّ نومَهُ ونَبهَهُ أجرٌ كلُّه ، وأمَّا مَنْ غَزا
فخراً ورياءً وسُمعةً ، وعصى الإمام ، وأفسدَ في الأرض ، فإنَّه لم يرجع
بالكفاف ) (7)
__________
(1) عبارة : ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) لم ترد في ( ص ) .
(2) إن ) سقطت من ( ص ) .
(3) في " المجتبى " 6/25 وفي " الكبرى " ، له ( 4348 ) .
وأخرجه أيضاً : الطبراني في " الكبير " ( 7628 ) من حديث أبي أمامة ، به، وهو حديث قويٌّ .
(4) في " سننه " ( 2516 ) ، وقد أخرجه من طريق ابن المبارك ، وهو عنده في " الجهاد "
( 227 ) ، وقد أخرج الحديث أحمد 2/293 ، وابن حبان ( 4637 ) ، والحاكم 2/85 ، والبيهقي 9/169 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن مكرز فقد جهله علي بن المديني وغيره .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) أي : العزيزة على صاحبها . النهاية 3/167 .
(7) أخرجه : أحمد 5/234 ، وأبو داود ( 2515 ) .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 109 ) ، والدارمي ( 2422 ) ، وابن أبي عاصم في " الجهاد "
( 133 ) و( 134 ) ، والنسائي 6/49-50 و7/155 وفي " الكبرى " ، له ( 4379 )
و( 7818 ) و( 8730 ) ، والشاشي في " مسنده " ( 1394 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 176 ) وفي مسند " الشاميين " ، له ( 1159 ) ، والحاكم 2/85 ، وأبو نعيم في
" الحلية " 5/220 ، والبيهقي 9/168 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 4265 ) من طريق
معاذ بن جبل ، به ، وهو ضعيف بقية بن الوليد ليس بالقوي ، وهو يدلس تدليس التسوية ، ولا يقبل منه إلاّ أن يصرح بالسماع في جميع طبقات السند ، ولم يصرح ، وحديثه هذا معلول بالوقف .
أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 1340 ) برواية يحيى الليثي ، عن معاذ بن جبل ، به موقوفاً .
.
وخرَّج أبو داود(1) من حديث عبدِ الله بنِ عمرٍو قال : قلتُ : يا رسول الله ، أخبرني عن الجهاد والغزو ، فقال(2) : ( إنْ قاتلت صابراً محتسباً ، بعثك الله صابراً محتسباً ، وإنْ قاتلتَ مُرائياً مُكاثراً ، بعثَك الله مُرائياً مُكاثراً ، على أيِّ حالٍ قَاتَلْتَ أو قُتِلْتَ بعثكَ الله على تِيك الحالِ ) .
وخرَّج مسلمٌ (3)
__________
(1) في " سننه " ( 2519 ) .
وأخرجه أيضاً : الحاكم 2/85 و112 ، والبيهقي 9/168 من حديث عبد الله بن عمرو ،
به ، وإسناده ضعيف ؛ فإنَّ العلاء بن عبد الله مقبول حيث يتابع ولم يتابع ، وشيخه
حنان بن خارجة مجهول تفرد بالرواية عنه العلاء ، وقد جهله أبو الحسن بن القطان
والذهبي .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .
(3) في صحيحه 6/47 ( 1905 ) ( 152 ) .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 469 ) ، وأحمد 2/321 ، والبخاري في " خلق أفعال العباد "( 42 ) ، والترمذي ( 2382 ) ، والنسائي 6/23 وفي " الكبرى " ، له ( 4345 ) و( 8083 ) و( 11559 ) وفي " تفسيره " ( 579 ) وفي " فضائل القرآن " ، له ( 108 ) ، وابن خزيمة ( 2482 ) ، وابن حبان ( 408 ) ، والحاكم 1/418-419 ، وأبو نعيم في
" الحلية " 5/169 ، والبيهقي 9/168 ، والبغوي ( 4143 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - : سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ
أَوَّلَ النَّاسِ يُقضى يومَ القيامةِ عليه(1) رجلٌ استُشهِدَ ، فأُتِي به ، فعرَّفه نِعَمَهُ عليه (2)، فعرفها ، قال : فما عَمِلتَ فيها ؟ قالَ : قاتلتُ فيكَ حتّى استُشْهِدتُ ، قالَ : كذبتَ ، ولكنَّكَ قاتلتَ ؛ لأنْ يُقَالَ : جَريءٌ ، فقد قيل ، ثمَّ أُمِرَ به ، فسُحِبَ على وجهه ، حتى أُلقي في النَّارِ ، ورجلٌ تعلَّم العلمَ وعلَّمه ، وقرأَ القُرآن ، فأُتِي به ، فعرَّفه نِعَمَهُ عليه (3) فعرَفها ، قال : فما عملتَ فيها ؟ قال : تعلَّمتُ العِلمَ وعلَّمتُه ، وقرأتُ فيكَ(4) القرآنَ . قال : كذبتَ ، ولكنَّك تعلَّمتَ العلمَ ، ليُقال : عالمٌ ، وقرأتَ القرآنَ ليقال : قارىءٌ ، فقد قيلَ ، ثمَّ أُمِر به ، فسُحِب على وجهه حتّى أُلقي في النّار ، ورجلٌ وسَّع الله عليه ، وأعطاه من أصنافِ المال كلِّه ، فأُتي به ، فعرَّفه نِعَمَهُ عليه (5) ، فعرفها ، قال : فما عَمِلتَ فيها ؟ قال : ما تركتُ من سبيلٍ تُحبُّ أن يُنفقَ فيها إلاَّ أنفقتُ فيها لكَ ، قال : كذبتَ ، ولكنَّك فعلتَ ، ليُقالَ : هو جوادٌ ، فقد قيلَ ، ثمَّ أُمِر به ، فسُحب على وجهه ، حتى أُلقي في النار ) .
__________
(1) في ( ص ) : ( يقضى عليه يوم القيامة ) .
(2) عليه ) من ( ص ) فقط .
(3) عليه ) من ( ص ) فقط .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) عليه ) من ( ص ) فقط .
وفي الحديث : إنَّ معاويةَ لمَّا بلغه هذا الحديثُ(1) ، بكى حتَّى غُشِي عليه ، فلمَّا أفاق ، قال : صدَقَ الله ورسولُه ، قال الله - عز وجل - : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّار } (2) .
وقد وردَ الوعيدُ على تعلُّم العِلم لغيرِ وجه الله ، كما خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داود وابنُ ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ تعلَّم عِلماً مِمَّا يُبتَغى به وجهُ الله ، لا يتعلَّمُه إلاَّ ليُصيبَ بهِ عَرَضاً من الدُّنيا ، لم يَجِدْ عَرْفَ الجنَّة يومَ القيامَةِ ) يعني : ريحها (3) .
وخرَّج الترمذيُّ (4)
__________
(1) في ( ص ) : ( سمعه ) مكان : ( بلغه هذا الحديث ) .
(2) هود : 15-16 .
(3) أخرجه : أحمد 2/338 ، وأبو داود ( 3664 ) ، وابن ماجه ( 252 ) .
وأخرجه أيضاً : أبو الحسن القطان في " زياداته على سنن ابن ماجه " بإثر الحديث ( 252 ) ، وأبو يعلى ( 6373 ) ، وابن حبان ( 78 ) ، والحاكم 1/85 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 1770 ) ، والخطيب في " تاريخه " 5/347 و8/78 ، وإسناده ضعيف لضعف فليح بن سليمان ، وقد خولف في هذا الحديث فرواه من هو أقوى منه مرسلاً ، قال الإمام الدارقطني : ( المرسل أشبه بالصواب ) . العلل الواردة في الأحاديث النبوية 11/10 س ( 2087 ) .
(4) في " الجامع الكبير " ( 2654 ) .
وأخرجه أيضاً : العقيلي في " الضعفاء " 1/104 ، وابن حبان في " المجروحين " 1/133-134 ، والطبراني في " الكبير " 19/( 199 ) ، وابن عدي في " الكامل " 1/541 ، وابن الجوزي في " العلل المتناهية " ( 86 ) ، وقال الترمذي : ( غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه ، وإسحاق بن يحيى بن طلحة ليس بذاك القوي عندهم ، تكلم فيه من قبل حفظه ) .
من حديثِ كعبِ بن مالك ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ طَلَب العلمَ ليُمارِي به السُّفهَاء ، أو يُجاري به العُلَماء ، أو يَصرِفَ به وجُوهَ النَّاسِ إليه ، أدخله الله النَّار ) .
وخرَّجه ابن ماجه (1) – بمعناه - مِنْ حديث(2) ابن عمر ، وحذيفةَ ، وجابرٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (3)، ولفظُ حديث جابرٍ : ( لا تَعَلَّموا العِلمَ ، لتُباهُوا به العُلماءَ ، ولا لِتُماروا به السُّفَهاءَ ، ولا تَخَيَّروا به المجالس ، فَمَنْ فعل ذلك ، فالنَّارَ النَّارَ ) .
وقال ابنُ مسعودٍ : لا تعلَّموا العِلمَ لثلاثٍ : لِتُماروا به السُّفَهاء ، أو لِتُجادِلوا به الفُقهاء ، أو لتصرفوا بهِ وُجُوه النَّاس إليكم ، وابتغُوا بقولِكُم وفعلِكم ما
عندَ اللهِ (4)، فإنَّه يبقَى ويذهبُ ما سواهُ (5) .
وقد ورد الوعيدُ على العمل لغيرِ اللهِ عموماً ، كما خرَّج الإمامُ أحمدُ (6)
__________
(1) في " سننه " ( 253 ) من حديث ابن عمر ، و( 254 ) من حديث جابر بن عبد الله ،
و( 259 ) من حديث حذيفة .
وأخرجه : ابن حبان ( 77 ) ، والحاكم 1/86 من حديث جابر بن عبد الله ، به ، وكلها ضعيفةٌ ، وبعضهم قوى الحديث بالمجموع ، والله أعلم .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) بعد هذا في ( ص ) : ( جاء ) .
(4) في ( ص ) : ( وجه الله ) .
(5) ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/176 .
(6) في مسنده 5/134 .
وأخرجه : عبد الله بن أحمد في " زياداته " 5/134 ، وابن حبان ( 405 ) ، والحاكم 4/311 و318 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6833 ) و( 6834 ) و( 10335 ) وفي " دلائل النبوة " ، له 6/317-318 ، والبغوي ( 4144 ) و( 4145 ) .وهو حديث قويٌّ .
من حديثِ أبيّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( بَشِّرْ هذه الأمَّةَ بالسَّناء والرِّفْعَة والدِّين والتمكينِ (1) في الأرض ، فمن عَمِلَ منهُم عملَ الآخرةِ للدُّنيا ، لم يكنْ له في
الآخرةِ (2) نصيبٌ ) .
واعلم أنَّ العمل لغيرِ الله أقسامٌ : فتارةً يكونُ رياءً محضاً ، بحيثُ لا يُرادُ به سوى مراآت المخلوقين لغرضٍ دُنيويٍّ ، كحالِ المنافِقين في صلاتهم ، كما قال الله - عز وجل - : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إلاَّ قَلِيلاً } (3) .
وقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ } الآية (4) .
وكذلك وصف الله تعالى الكفار بالرِّياء في قوله : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله } (5) .
وهذا الرِّياءُ المحضُ لا يكاد يصدُرُ من مُؤمنٍ في فرض الصَّلاةِ والصِّيامِ ، وقد يصدُرُ في الصَّدقةِ الواجبةِ أو الحجِّ ، وغيرهما من الأعمال الظاهرةِ ، أو التي يتعدَّى نفعُها ، فإنَّ الإخلاص فيها عزيزٌ ، وهذا العملُ لا يشكُّ مسلمٌ أنَّه حابِطٌ ، وأنَّ صاحبه يستحقُّ المقتَ مِنَ اللهِ والعُقوبة (6) .
__________
(1) في ( ص ) : ( والتمكين والدين ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( من ) .
(3) النساء : 142 .
(4) الماعون : 4-6 .
(5) الأنفال : 47 .
(6) روي أنَّ لقمان قال لابنه : الرياء أنْ تطلب ثواب عملك في دار الدنيا ، وإنَّما عمل القوم للآخرة ، قيل له : فما دواء الرياء ؟ قال : كتمان العمل ، قيل له : فكيف يكتم العمل ؟ قال : ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بالإخلاص ، وما لم تكلف إظهاره أحب ألا تطلع عليه إلا الله . انظر : تفسير القرطبي 5/182 .
وتارةً يكونُ العملُ للهِ ، ويُشارِكُه الرِّياءُ ، فإنْ شارَكَهُ مِنْ أصله ، فالنُّصوص الصَّحيحة تدلُّ على بُطلانِهِ وحبوطه أيضاً (1).
وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يقولُ الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشُّركاءِ (3) عن الشِّرك ، مَنْ عَمِل عملاً أشركَ فيه معي غيري ، تركته وشريكَه ) ، وخرَّجه ابنُ ماجه (4) ، ولفظه : ( فأنا منه بريءٌ ، وهوَ للَّذي أشركَ ) .
وخرَّج الإمام أحمد (5) عن شدّاد بن أوسٍ ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ صَلَّى يُرائِي ، فقد أشرَكَ ، ومنْ صَامَ يُرائِي فقد أشرَكَ ، ومن تَصدَّقَ يُرائِي فقد أشرك ، وإنَّ الله - عز وجل - يقولُ : أنا خيرُ قسيمٍ لِمَنْ أشرَكَ بي شيئاً ، فإنَّ جُدَّةَ عَمَلِهِ قليله وكثيره لشريكِهِ الذي أشركَ به ، أنا عنه غنيٌّ ) .
وخرَّج الإمام أحمدُ (6) والترمذيُّ (7) وابنُ ماجه (8)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) 8/223 ( 2985 ) ( 46 ) .
(3) في ( ج ) و( ص ) : ( الأغنياء ) ، والمثبت من " صحيح مسلم " .
(4) في " سننه " ( 4202 ) .
... وأخرجه : الطيالسي ( 2559 ) ، وأحمد 2/301 و435 ، وأبو يعلى ( 6552 ) ، وابن خزيمة ( 938 ) ، وابن حبان ( 395 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6815 ) ، والبغوي ( 4136 ) و( 4137 ) وهو صحيح .
(5) في " مسنده " 4/126 .
وأخرجه : الطيالسي ( 1120 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 7139 ) ، والحاكم 4/329 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/268-269 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6844 ) وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب .
(6) في "مسنده" 3/466 و4/215، وهو حديث قويٌّ ، وقال علي بن المديني : ( سنده صالح ).
(7) في " الجامع الكبير " ( 3154 ) .
(8) في " سننه " ( 4203 ) .
وأخرجه أيضاً : الدولابي في " الكنى والأسماء " 1/35 ، وابن حبان ( 404 ) و( 7345 ) ، والطبراني في " الكبير " 22/( 778 ) .
مِنْ حديث أبي سعيد بن
أبي فضالةَ - وكان مِنَ الصَّحابة - قال : قالَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا جمع الله الأوَّلين والآخِرين ليومٍ لا ريبَ فيه ، نادَى مُنادٍ : مَنْ كانَ أشركَ في عملٍ عمِلَهُ لله - عز وجل - فليَطلُبْ ثوابَهُ من عند غير الله - عز وجل - ، فإنّ الله أغنى الشُّركاءِ عن الشِّرك ) .
وخرَّج البزّار في " مسنده " (1) من حديثِ الضَّحَّاكِ بن قيسٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله - عز وجل - يقول : أنا خيرُ شريكٍ ، فمن أشركَ معي شريكاً ، فهو لشريكي . يا أيُّها النَّاسُ أخلِصوا أعمالَكُم لله - عز وجل - ؛ فإنَّ الله لا يقبلُ مِنَ الأعمالِ إلاَّ ما أُخْلِصَ لَهُ ، ولا تقولوا : هذا للهِ وللرَّحِمِ ، فإنّها للرَّحِم ، وليس لله منها شيءٌ ، ولا تقولوا : هذا لله ولوجُوهِكُم ، فإنَّها لوجوهكم ، وليس لله فيها شيءٌ (2) ) .
وخرَّج النَّسائيُّ (3) بإسنادٍ جيِّدٍ عن أبي أُمامةَ الباهليِّ : أنَّ رجُلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال : يا رسولَ اللهِ ، أرأيتَ رجلاً غزا يلتَمِسُ الأجْرَ والذِّكر(4) ؟ فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا شيءَ لهُ ) فأعادها ثلاث مرات ، يقول له رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - (5) : ( لا شيء له ) ، ثمَّ قال : ( إنَّ الله لا يقبلُ منَ العَمَل إلاَّ ما كانَ له خالصاً ، وابتُغِي به وجهُه ) .
__________
(1) 3567 ) ، وفي إسناده ضعف من أجل إبراهيم بن مجشر .
(2) من قوله : ( ولا تقولوا : هذا لله ولوجوهكم ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(3) في " المجتبى " 6/25 وفي " الكبرى " ، له ( 4348 ) ، وقد حسنه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 6/2410-2411 ( 3839 ) .
(4) في ( ص ) : ( الأجر من الله والذكر من الناس ) .
(5) في ( ص ) : ( فأعادها ثلاثاً ورسول الله يقول ) .
وَخَرَّج الحاكمُ (1) مِنْ حديث ابن عباس قال (2) : قال رجل : يا رسول الله ، إني أقف الموقف أُريد به وجْه الله ، وأريدُ أنْ يُرى موطِني ، فلم يردَّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا حتّى نزلت : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } (3) .
وممَّن رُوي عنه هذا المعنى ، وأنَّ العملَ إذا خالطه شيءٌ مِنَ الرِّياءِ كان
باطلاً (4) : طائفةٌ مِنَ السَّلفِ، منهم : عبادةُ بنُ الصَّامتِ ، وأبو الدَّرداءِ ، والحسنُ ، وسعيدُ بنُ المسيَّبِ ، وغيرهم .
وفي مراسيلِ القاسم بنِ مُخَيمرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يَقبَلُ الله عملاً فيه مثقالُ حبَّةِ خردلٍ مِنْ رياءٍ ) (5) .
ولا نعرفُ عنِ السَّلفِ في هذا خلافاً ، وإنْ كانَ فيه خلافٌ عن بعضِ المتأخِّرينَ .
__________
(1) في " المستدرك " 2/111 من حديث نعيم بن حماد ، عن ابن المبارك ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري، عن طاووس ، عن ابن عباس مرفوعاً ، وهو معلول بالإرسال ، ونعيم ضعيف .
وأخرجه : ابن المبارك في " الجهاد " ( 12 ) ، وعبد الرزاق في " تفسيره " ( 1728 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 17654 ) وطبعة التركي 15/440 ، والحاكم 4/329 من طريق طاووس ، مرسلاً ، وهو الصواب فكذا رواه ابن المبارك في كتابه " الجهاد " وقد تابعه على ذلك عبد الرزاق .
(2) قال ) من ( ص ) .
(3) الكهف : 110 .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( قاله ) .
(5) ذكره المنذري في " الترغيب والترهيب " ( 51 ) عن القاسم بن مخيمرة ، وهو ضعيف لإرساله .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/240 من كلام يوسف بن أسباط .
فإنْ خالطَ نيَّةَ الجهادِ مثلاً نيّة غير الرِّياءِ ، مثلُ أخذِ أجرة للخِدمَةِ ، أو أخذ شيءٍ مِنَ الغنيمةِ ، أو التِّجارة ، نقصَ بذلك أجرُ جهادهم ، ولم يَبطُل بالكُلِّيَّة ، وفي " صحيح مسلم " (1) عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الغُزَاةَ إذا غَنِموا غنيمةً ، تعجَّلوا ثُلُثي أجرِهِم ، فإنْ لم يغنَمُوا شيئاً ، تمَّ لهُم أجرُهم ) .
وقد ذكرنا فيما مضى أحاديثَ تدلُّ على أنَّ مَنْ أراد بجهاده عَرَضاً مِنَ الدُّنيا أنَّه لا أجرَ له ، وهي محمولةٌ على أنَّه لم يكن له غرَضٌ في الجهاد إلاَّ الدُّنيا .
وقال الإمامُ أحمدُ : التَّاجِرُ والمستأجر والمُكاري أجرهم على قدر ما يخلُصُ من نيَّتهم في غزاتِهم ، ولا يكونُ مثل مَنْ جاهَدَ بنفسه ومالِه لا يَخلِطُ به غيرَهُ .
وقال أيضاً فيمن يأخذُ جُعْلاً على الجهاد : إذا لم يخرج لأجلِ الدَّراهم فلا بأس أنْ يأخذَ ، كأنّه خرجَ لدينِهِ ، فإنْ أُعطي شيئاً أخذه .
وكذا رُوي عن عبد الله بن عمرٍو ، قال : إذا أجمعَ أحدُكم على الغزوِ ، فعوَّضَه الله رزقاً ، فلا بأسَ بذلك ، وأمَّا إنْ أحَدُكُم إنْ أُعطي درهماً غزا ، وإنْ مُنع درهماً مكث ، فلا خيرَ في ذلك .
وكذا قال الأوزاعي : إذا كانت نيَّةُ الغازي على الغزو ، فلا أرى بأساً .
__________
(1) 6/47 ( 1906 ) ( 153 ) و( 154 ) .
وأخرجه أيضاً : أحمد 2/169 ، وأبو داود ( 2497 ) ، وابن ماجه ( 2785 ) ، والنسائي 6/17-18 وفي " الكبرى " ، له ( 4333 ) ، والحاكم 2/78 ، والبيهقي 9/169 وفي
" شعب الإيمان " ، له ( 4245 ) .
وهكذا يُقالُ فيمن أخذَ شيئاً في الحَجِّ ليحُجَّ به : إمَّا(1) عَنْ نفسه ، أو عَنْ غيرِه ، وقد رُوي عَنْ مُجاهد أنّه قال في حجِّ الجمَّال وحجِّ الأجيرِ وحجِّ التَّاجِر : هو تمامٌ لا يَنقُصُ من أُجُورهم شيءٌ ، وهذا محمولٌ على أنَّ قصدهم الأصليَّ كان هو الحجَّ دُونَ التَّكسُّب .
وأمَّا إنْ كان أصلُ العمل للهِ ، ثم طرأت عليه نيَّةُ الرِّياءِ ، فإنْ كان خاطراً ودفَعهُ ، فلا يضرُّه بغيرِ خلافٍ ، وإن استرسلَ معه ، فهل يُحبَطُ(2) عملُه أم لا يضرُّه ذلك ويجازى على أصل نيَّته ؟ في ذلك اختلافٌ بين العُلماءِ مِنَ السَّلَف قد حكاه الإمامُ أحمدُ وابنُ جريرٍ الطَّبريُّ ، ورجَّحا أنَّ عمله لا يبطلُ بذلك ، وأنّه يُجازى بنيَّتِه الأُولى ، وهو مرويٌّ عنِ الحسنِ البصريِّ وغيره .
ويُستدلُّ لهذا القولِ بما خَرَّجه أبو داود في " مراسيله " (3) عن عطاءٍ الخُراسانيِّ : أنَّ رجلاً قال : يا رسولَ الله، إنّ بنِي سلمِةَ كُلهم يقاتلُ ، فمنهم من يُقاتِلُ للدُّنيا، ومنهم من يُقاتِلُ نَجدةً ، ومنهم مَنْ يُقاتِلُ ابتغاءَ وجهِ الله ، فأيُّهُم الشهيد ؟ قال
: ( كلُّهم إذا كان أصلُ أمره أنْ تكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا ) .
وذكر ابنُ جريرٍ أنَّ هذا الاختلافَ إنَّما هو في عملٍ يرتَبطُ آخرُه
بأوَّلِه ، كالصَّلاةِ والصِّيام والحجِّ ، فأمَّا ما لا ارتباطَ فيه كالقراءة والذِّكر وإنفاقِ المالِ ونشرِ العلم، فإنَّه ينقطعُ بنيَّةِ الرِّياءِ الطَّارئة عليه، ويحتاجُ إلى تجديدِ نيةٍ .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( به ) .
(3) برقم ( 321 ) ، وهو مع إرساله ضعيف من جهة إسناده ، ففيه هشام بن سعد ، وهو صاحب أوهام ، وعطاء يهم كثيراً ويرسل ويدلس . التقريب ( 4600 ) .
وكذلك رُوي عن سُليمانَ بنِ داود الهاشميّ(1) أنَّه قال : ربَّما أُحدِّثُ بحديثٍ
ولي(2) نيةٌ ، فإذا أتيتُ على بعضِه ، تغيَّرت نيَّتي ، فإذا الحديثُ الواحدُ يحتاجُ إلى
نيَّاتٍ (3) .
ولا يَرِدُ على هذا الجهادُ ، كما في مُرسل عطاءٍ الخراساني (4) ، فإنَّ الجهادَ يلزَم بحُضورِ الصَّفِّ ، ولا يجوزُ تركُه حينئذٍ ، فيصيرُ كالحجِّ .
فأمَّا إذا عَمِلَ العملَ لله(5) خالصاً ، ثم ألقى الله لهُ الثَّناء الحسنَ في
قُلوبِ المؤمنين بذلك ، ففرح بفضل الله ورحمته ، واستبشرَ بذلك ، لم يضرَّه
ذلك .
وفي هذا المعنى جاء حديثُ أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أنَّه سُئِلَ عن الرَّجُل يعملُ العَمَل لله مِنَ الخير ويحمَدُه النَّاسُ عليه ، فقال : ( تلك عاجلُ بُشرى المؤمن ) خرَّجه مسلم(6)
__________
(1) هو أبو سليمان بن داود بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي ، سكن بغداد ، قال محمد بن سعد : كتب عنه البغداديون ورووا عنه ، وتوفي ببغداد سنة تسع وعشرين ومئتين ، وقال أبو حسان الزيادي : مات سنة عشرين ومئتين .
انظر : تاريخ بغداد 9/30-31 ، وتهذيب الكمال 3/275 .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( فيه ) .
(3) أخرجه : الخطيب في " تاريخه " 9/31 ، وذكره المزي في " تهذيب الكمال " 3/275 ، والذهبي في " السير " 10/625 .
(4) الذي سبق قبل قليل .
(5) لفظ الجلالة لم يرد في ( ص ) .
(6) في " صحيحه " 8/44 ( 2642 ) ( 166 ) .
وأخرجه أيضاً : الطيالسي ( 455 ) ، وأحمد 5/156 و157 و168 ، والبزار في
" مسنده " ( 3955 ) و( 3956 ) ، وأبو عوانة كما في " إتحاف المهرة " 14/155
( 17552 ) ، وابن حبان ( 366 ) و( 367 ) و( 5768 ) ، والبغوي ( 4139 )
و( 4140 ) .
، وخرَّجه ابن ماجه(1)، وعنده : الرَّجُلُ يعمَلُ العملَ للهِ فيحبُّه النَّاسُ
عليه . وبهذا المعنى فسَّره الإمامُ أحمدُ ، وإسحاقُ بن راهويه ، وابنُ جريرٍ
الطَّبريّ (2)، وغيرهم(3) .
وكذلك الحديثُ الذي خرَّجه الترمذيُّ وابنُ ماجه مِنْ حديثِ أبي هريرةَ : أنَّ رجُلاً قال : يا رسول الله ، الرَّجُلُ يعملُ العملَ فيُسِرُّهُ ، فإذا اطُّلع عليه أعجَبهُ ، فقال : ( له أجران : أجرُ السِّرِّ ، وأجرُ العلانيةِ ) (4) .
ولنقتَصِر على هذا المقدار مِنَ الكلامِ على الإخلاصِ والرِّياء ، فإنَّ فيه كفايةً .
وبالجملةِ ، فما أحسن قولَ سهلِ بن عبد الله التُّستري : ليس على النَّفس شيءٌ أشقُّ مِنَ الإخلاصِ ؛ لأنَّه ليس لها فيه نصيبٌ .
وقال يوسفُ بنُ الحسينِ الرازيُّ : أعزّ شيءٍ في الدُّنيا الإخلاصُ ، وكم اجتهد في إسقاطِ الرِّياءِ عَنْ قلبي ، وكأنَّه ينبُتُ فيه على لون آخر .
__________
(1) في " سننه " ( 4225 ) .
(2) قال النووي في " شرح صحيح مسلم " 8/359 : ( قال العلماء : معناه هذه البشرى المعجلة له بالخير ، وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ، ومحبته له ، فيحببه إلى الخلق كما سبق في الحديث، ثم يوضع له القبول في الأرض . هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم، وإلا فالتعرض مذموم ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : ابن ماجه ( 4226 ) ، والترمذي ( 2384 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 2430 ) ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 2/210 ، وابن حبان
( 375 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/250 ، والبغوي ( 4141 ) ، وهو معلول بالإرسال كذا أعله الترمذي والدارقطني وأبو نعيم ، وانظر : علل الدارقطني 8/183 س ( 1499 ) .
وقال ابنُ عيينةَ : كان من دُعاء مطرِّف بن عبد الله : اللهمَّ إنِّي أستغفرُكَ ممَّا تُبتُ إليكَ منه ، ثمّ عُدتُ فيه ، وأستغفرُكَ ممَّا جعلتُهُ لكَ على نفسي ، ثمَّ لم أفِ لك به ، وأستغفركَ ممَّا زعمتُ أنِّي أردتُ به وجهَك ، فخالطَ قلبي منه ما قد(1) علمتَ(2) .
فصل
وأمَّا النِّيَّةُ بالمعنى الذي يذكره الفُقهاءُ ، وهو أنَّ تمييزَ العباداتِ من العاداتِ ، وتمييز العباداتِ بعضها مِنْ بعضٍ ، فإنَّ الإمساكَ عنِ الأكلِ والشُّربِ يقعُ تارةً حميةً ، وتارةً لعدمِ القُدرةِ على الأكل(3) ، وتارةً تركاً للشَّهواتِ للهِ - عز وجل - ، فيحتاجُ في الصِّيامِ إلى نيَّةٍ ليتميَّزَ بذلك عَنْ تركِ الطَّعامِ على غير هذا الوجه .
وكذلك العباداتُ ، كالصَّلاةِ والصِّيامِ ، منها فرضٌ ، ومنها نفلٌ .
والفرضُ يتنوَّعُ أنواعاً ، فإنَّ الصَّلواتِ المفروضاتِ خمسُ صلواتِ كلَّ يومٍ وليلةٍ ، والصَّومُ الواجبُ تارةً يكونُ صيامَ رمضان ، وتارةً (4) صيامَ كفارةٍ ، أو عن نذرٍ ، ولا يتميَّزُ هذا كلُّه إلاَّ بالنِّيَّةِ ، وكذلك الصدقةُ ، تكونُ نفلاً ، وتكونُ فرضاً ، والفرضُ منه زكاةٌ ، ومنه كفَّارةٌ ، ولا يتميَّزُ ذلكَ إلاَّ بالنِّيَّةِ ، فيدخلُ ذلك في عمومِ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإنَّما لكل امرىءٍ (5) ما نَوى ) .
__________
(1) في ( ص ) : ( مما ) بإسقاط : ( قد ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/207 .
(3) عبارة : ( وتارة لعدم القدرة على الأكل ) لم ترد في ( ص ) .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( يكون ) .
(5) في ( ج ) : ( لامريءٍ ) .
وفي بعضِ ذلك اختلافٌ مشهورٌ بينَ العُلماءِ ، فإنَّ منهم مَنْ لا يُوجِبُ تعيينَ
النِّيَّةِ للصَّلاةِ المفروضةِ ، بل يكفي عندَه أنْ ينويَ فرضَ الوقتِ ، وإنْ لم يستحضِرْ
تسميتَه في الحال ، وهي روايةٌ عن الإمامِ(1) أحمدَ (2) .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) قال ابن قدامة الحنبلي في " المغني " 1/544-545 : ( لا نعلم خلافاً بين الأئمة في وجوب النية للصلاة ، فإن كانت الصلاة مكتوبة لزمته نية الصلاة بعينها ظهراً أو عصراً أو غيرهما فيحتاج إلى نية شيئين : الفعل والتعيين . =
= ... واختلف أصحابنا في نية الفريضة ، فقال بعضهم : لا يحتاج إليها ؛ لأنَّ التعيين يغني عنها لكون الظهر مثلاً لا يكون إلا فرضاً من المكلف ، وقال ابن حامد : لا بُدَّ من نية الفريضة ؛ لأنَّ المعينة قد تكون نفلاً كظهر الصبي والمعادة فيفتقر إلى ثلاثة أشياء الفعل والتعيين والفريضة ويحتمل هذا كلام الخرقي لقوله : ينوي بها المكتوبة . وقال القاضي : ظاهر كلام الخرقي أنَّه لا يفتقر إلى التعيين ؛ لأنَّه إذا نوى المفروضة انصرفت النية إلى الحاضرة ، والصحيح أنَّه لا بد من التعيين ، بدليل : أنَّه لم يغن عن نية المكتوبة وقد يكره عليه صلوات فلا تعيين إحداهن بدون التعيين ) .
انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 1/211-212 ، والمبدع 1/358 .
ويُبنى على هذا القولِ : أنَّ منْ فاتَته صلاةٌ مِنْ يومٍ وليلةٍ ، ونسيَ عينَها ، أنّ عليه أنْ يقضي ثلاثَ صلواتٍ : الفجرَ والمغربَ ورُباعيَّةً واحدة (1) .
__________
(1) قال ابن قدامة الحنبلي : ( أما الفائتة فإنْ عينها بقلبه أنَّها ظهر اليوم لم يحتج إلى نية القضاء ولا الأداء بل لو نواها أداء فبان أنَّ وقتها قد خرج وقعت قضاء من غير نية ، ولو ظن أنَّ الوقت قد خرج فنواها قضاءً فبان أنَّها في وقتها أداء من غير نية كالأسير إذا تحرى وصام شهراً يريد به شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه ، وإنْ ظن أنَّ عليه ظهراً فائتة فقضاها في وقت ظهر اليوم ثم تبين أنَّه لا قضاء عليه فهل يجزئه عن ظهر اليوم ؟ يحتمل وجهين :
أحدهما : يجزئه ؛ لأنَّ الصلاة معينة ، وإنَّما أخطأ في نية الوقت فلم يؤثر كما إذا اعتقد أنَّ الوقت قد خرج فبان أنَّه لم يخرج ، أو كما لو نوى ظهر أمس وعليه ظهر يوم قبله .
والثاني : لا يجزئه ؛ لأنَّه لو لم ينو عين الصلاة فأشبه ما لو نوى قضاء عصر لم يجزه عن الظهر ولو نوى ظهر اليوم في وقتها وعليه فائتة لم يجزه عنها ويتخرج فيها كالتي قبلها . فأما إنْ كانت عليه فوائت فنوى صلاة غير معينة لم يجزه عن واحدة منها لعدم التعيين ولو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها لزمه خمس صلوات ليعلم أنه أدى الفائتة ، ولو نسي صلاة لا يدري أظهر هي أم عصر لزمه صلاتان ، فإن صلى واحدة ينوي أنها الفائتة لم يجزه لعدم التعيين ) .
انظر : المغني 1/545 .
وكذلك ذهبَ طائفةٌ مِنَ العُلماءِ إلى أنَّ صيامَ رمضانَ لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ تعينية
أيضاً، بل تُجزىءُ بنيَّة الصيامِ مُطلقاً؛ لأنَّ وقتَه غيرُ قابلٍ لصيامٍ آخر، وهو أيضاً روايةٌ عنِ الإمام(1) أحمدَ (2) . وربَّما حُكِي عن بعضِهم أنَّ صيامَ رمضانَ لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ بالكُلِّيَّةِ (3) ؛ لتعيينه بنفسه ، فهو كردِّ الودائعِ ، وحُكِي عن الأوزاعيِّ أنَّ الزَّكاةَ كذلك(4). وتأوَّلَ بعضُهم قولَه على أنَّه أرادَ أنَّها تُجزىءُ بنيَّةِ الصَّدقةِ المُطلَقَةِ كالحجِّ. وكذلك قال أبو حنيفة : لو تصدَّق بالنِّصاب كلِّه مِنْ غيرِ نيَّةٍ أجزأه عن زكاته(5).
وقد رُوي عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه سَمع رجُلاً يُلبِّي بالحّجِّ عَنْ رجُلٍ، فقال له :
( أحَجَجْت عن نَفسك ؟ ) قالَ: لا، قالَ: ( هذه عَنْ نفسِك، ثمَّ حُجَّ عن الرَّجُلِ ).
وقد تُكُلِّم في صحَّةِ هذا الحديث ، ولكنَّه صحيحٌ عن ابنِ عباسٍ وغيره(6)
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/253 ، والمغني 3/23 .
(3) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/254 ، والمغني 3/27 ، والشرح الكبير 3/29-30 .
(4) انظر : فقه الإمام الأوزاعي 1/355 ، والمغني 2/502 ، وفقه الزكاة 2/280 .
(5) انظر : فقه الزكاة 2/284 .
(6) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 13368 ) ، وأبو داود ( 1811 ) ، وابن ماجه ( 2903 ) ، وأبو يعلى ( 2440 ) ، وابن الجارود ( 499 ) ، وابن خزيمة ( 3039 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 2547 ) و( 2549 ) ، وابن حبان ( 3988 ) ، والطبراني في " الكبير "
( 12419 ) وفي " الصغير " ، له ( 630 ) ، والدارقطني 2/267-270 ، والبيهقي 4/336-337 من طرق عن ابن عباس ، به مرفوعاً .
وأخرجه: الشافعي في " مسنده " ( 925 ) و( 926 ) بتحقيقي، وابن أبي شيبة ( 13370 )، والدارقطني 2/271 ، والبيهقي 4/337 و5/179-180 ، والبغوي ( 1856 ) من طرق عن ابن عباس ، به موقوفاً .
وللحافظ ابن حجر كلام موسع في صحة هذا الحديث أورده في "التلخيص الحبير" 2/488-489.
.
وأخذ بذلك الشَّافعيُّ(1) وأحمدُ(2) في المشهور عنه وغيرُهما ، في أنَّ حَجَّة الإسلامِ تسقُطُ بنيَّةِ الحجِّ مطلقاً، سواءً نوى التَّطوُّعَ أو غيرَه ، ولا يُشتَرطُ للحجِّ تعيينُ النِّيَّةِ ، فمنْ حجَّ عن غيرِه ، ولم يحجَّ عن نفسِهِ ، وقع عنْ نفسه ، وكذا لو حجَّ عنْ نذرهِ ، أو نفلاً ، ولم يكن حجَّ حجَّةَ الإسلام ، فإنه ينقلِبُ عنها ، وقد ثبتَ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أمرَ أصحابَهُ في حجَّةِ الوداعِ بعدَ ما دخلُوا معه ، وطافوا ، وسعَوا أنْ يَفسَخُوا حجَّهم ، ويجعلوها عمرةً ، وكانَ منهم القارنُ والمفرِدُ(3)
__________
(1) انظر : الأم 3/306 ، والمجموع 7/67 .
(2) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/273 ، والمغني 3/185 .
(3) روي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - ، قال : أهَلَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه بالحج ، وليس مع أحد منهم هديٌ غير النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وطلحة ، وقدم عليٌ من اليمن ومعه هديٌ ، فقال : أهللت بما أهل به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أنْ يجعلوها عمرة ويطوفوا ، ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي ، فقالوا : ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أنَّ معي الهدي لأحللت … ) .
أخرجه : الحميدي ( 1293 ) ، وأحمد 3/302 و305 و317 و362 و366 ، والبخاري 2/176 ( 1568 ) و2/195 ( 1651 ) و3/4 ( 1785 ) و3/185 ( 2505 )
و( 2506 ) و9/103 ( 7230 ) و9/137 ( 7367 ) ، ومسلم 4/36 ( 1216 )
( 141 ) و4/37 ( 1216 ) ( 142 ) و( 143 ) و4/38 ( 1216 ) ( 144 ) ، وأبو داود ( 1787 ) و( 1788 ) و( 1789 ) ، والنسائي 5/178 و202 و248 وفي
" الكبرى "، له ( 3787 ) و( 3855 ) و( 3985 ) و( 4171 ) ، وابن خزيمة ( 957 ) و( 2785 ) و( 2786 ) من طرق عن جابر ، به .
وروي أيضاً عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال : كانوا يرون أنَّ العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفراً ، ويقولون : إذا برا الدبر وعفا الأثر ، وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر ، قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله أي الحِل ؟ قال : ( حلٌ كله ) . =
= ... أخرجه : أحمد 1/252 و370 ، والبخاري 2/54 ( 1085 ) و2/175 ( 1564 ) و3/185 ( 2505 ) و( 2506 ) و5/51 ( 3832 )، ومسلم 4/56 ( 1240 ) ( 198 ) و( 199 ) و4/57 ( 1240 ) ( 201 ) ، والنسائي 5/180 و201 وفي " الكبرى " ، له
( 3795 ) و( 3853 ) و( 3854 ) من طرق عن ابن عباس ، به .
، وإنَّما كانَ طوافُهم عندَ قُدومهم طوافَ القُدومِ وليسَ بفرضٍ ، وقد أمرهم أنْ يجعلُوه طوافَ عمرةٍ(1) وهو فرضٌ ، وقد أخذَ بذلكَ الإمامُ أحمدُ في فسخِ الحجِّ (2) ، وعملَ به ، وهو مشكلٌ على أصلهِ ، فإنَّه يُوجِبُ تعيينَ الطَّوافِ الواجب للحجِّ والعمرة بالنيَّةِ ، وخالفَهُ في ذلك أكثرُ الفُقهاءِ ، كمالكٍ والشَّافعيِّ وأبي حنيفةَ(3) .
وقد يفرِّقُ الإمامُ أحمدُ بينَ أنْ يكونَ طوافُهُ في إحرامٍ انقلبَ ، كالإحرامِ
الذي يفسخُه ، ويجعلهُ عمرةً ، فينقلبُ الطَّوافُ فيه تبعاً لانقلابِ الإحرامِ ، كما
ينقلبُ الطَّوافُ في الإحرامِ الذي نوى به التَّطوُّعَ إذا كان عليه حَجَّةُ الإسلام ، تبعاً لانقلابِ إحرامِهِ مِنْ أصلهِ ، ووقوعِه عن فَرضِه ، بخلاف ما إذا طافَ للزيارةِ بنيَّةِ
الوَداعِ ، أو التَّطوُّعِ (4)، فإنّ هذا لا يُجزئه لأنّه (5) لم ينوِ به الفَرضَ ، ولم ينقلبْ فرضاً تبعاً لانقلابِ إحرامهِ ، والله أعلمُ(6) .
وممَّا يدخُلُ في هذا الباب : أنَّ رجلاً في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ قد وضعَ صدقتَه عندَ رجُلٍ ، فجاءَ ابنُ صاحبِ الصدقةِ ، فأخذها ممَّن هي عنده ، فعلم بذلكَ أبوهُ ، فخاصمه إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ما إيَّاكَ أردتُ ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للمتصدِّقِ : ( لكَ ما نويتَ ) ، وقال للآخِذِ : ( لَك ما أخذْتَ ) خرَّجه(7) البخاري(8)
__________
(1) من قوله : ( وكان منهم القارن والمفرد ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(2) عبارة : ( في فسخ الحج ) لم يرد في ( ص ) .
(3) انظر : المدونة الكبرى 2/467، والمغني 3/202، والمجموع 7/92-93 ، والمبسوط 4/25 ، وإرشاد الساري : 284 .
(4) أو التطوع ) لم ترد في ( ص ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : المغنى 3/202-203 .
(7) في ( ص ) : ( رواه ) .
(8) في صحيحه 2/138 ( 1422 ) .
وأخرجه : أحمد 3/470 و4/259 ، وحميد بن زنجويه في " الأموال " ( 2296 ) ، والدارمي
( 1645 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 4533 ) ، والطبراني في " الكبير "
19/( 1070 ) ، والبيهقي 7/34 من حديث معن بن يزيد السلمي ، به .
.
وقد أخذَ الإمامُ (1) أحمدُ بهذا الحديثِ ، وعملَ به في المنصوصِ عنه ، وإنْ كان أكثرُ أصحابِهِ على خلافِه ، فإنَّ الرَّجُلَ إنَّما يُمنعُ من دفعِ الصَّدقةِ إلى ولده خشيةَ أن يكونَ محاباةً ، فإذا وصلتْ إلى ولده من حيثُ لا يشعر ، فالمحاباةُ منتفيَةٌ ، وهو مِنْ(2) أهلِ استحقاقِ الصَّدقةِ في نفسِ الأمرِ(3) ، ولهذا لو دفعَ صدقَته إلى مَنْ يظنُّه فقيراً ، وكان غنيّاً في نفسِ الأمرِ ، أجزأتهُ على الصَّحيحِ ؛ لأنَّه إنَّما دفَعَ إلى مَنْ يعتقدُ استحقاقَه ، والفقرُ أمرٌ خفيٌّ ، لا يكادُ يُطَّلعُ على حقيقته (4) .
وأمَّا الطَّهارةُ ، فالخلافُ في اشتراط النِّيَّة لها مشهورٌ ، وهو يرجعُ إلى أنَّ
الطَّهارةَ للصَّلاةِ هل هي عبادةٌ مستقلةٌ ، أم هي شرطٌ من شروطِ الصَّلاةِ ، كإزالةِ
النَّجاسةِ ، وسَترِ العورةِ ؟ فمن لم يشترط لها النِّيَّةَ ، جعلها كسائرِ شُروطِ الصَّلاةِ ،
ومَنِ اشترطَ لها النِّيَّةَ ، جعلها عبادةً مُستقلَّةً ، فإذا كانت عبادةً في نفسها ، لم تصحَّ
بدونِ نيّةٍ ، وهذا قولُ جمهور العلماءِ(5)
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : مسائل الإمام أحمد بن حنبل برواية ابنه عبد الله ( 551 ) ، والمسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/246 ، ونيل المأرب 2/408 .
(4) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف على مذهب أحمد بن حنبل 1/312 .
(5) الفقهاء في هذه المسألة على مذهبين :
المذهب الأول : النية سنة في الوضوء ، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه .
المذهب الثاني : النية فرض ، وبذلك قال جمهور العلماء ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والظاهرية والزيدية والإمامية ، وهو الصواب .
انظر : الحاوي الكبير 1/87 ، واللباب في شرح الكتاب 1/10 ، والمغني 1/122-123 ، والمجموع 1/170 ، وإعلام الموقعين 2/216 ، ومنتهى الإرادات 1/18 ، والسيل الجرار 1/75 و80 ، ومفتاح الكرامة 1/203 ، ومسائل من الفقه المقارن 1/66 .
، ويدلُّ على صحَّةِ ذلك تكاثرُ النُّصوصِ الصَّحيحةِ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : بأنَّ الوُضوءَ يكفِّر الذُّنوبَ والخطايا ، وأنَّ(1) مَنْ توضَّأ كما أُمِرَ ، كان كفَّارةً لذُنوبه(2) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) من ذلك ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن عثمان بن عفان دعا بإناءٍ فأفرغ على كفيه ثلاث مِرارٍ ، فغسلهما ، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه ثلاثاً ويديه إلى المرفقين ثلاث مرارٍ ثم مسح برأسه ، ثم غسل رجليه ثلاث مرارٍ إلى الكعبين ، ثم قال : قال رسول الله : ( من توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين لا يُحدّثُ فيهما نفسه غُفِرَ له ما تقدم من
ذنبه ) .
أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 65 ) برواية يحيى الليثي ، وعبد الرزاق ( 141 ) ، والحميدي ( 35 ) ، وأحمد 1/57 و59 و60 و61 و64 و67 و68 و71 ، والدارمي ( 699 ) ، والبخاري 1/51 ( 159 ) و1/52 ( 164 ) و3/40 ( 1934 ) ، و8/114 ( 6433 ) ، ومسلم 1/141 ( 226 ) ( 3 ) و1/142 ( 228 ) ( 7 ) و1/143 ( 231 ) ( 10 ) و1/149 ( 245 ) ( 33 ) ، وأبو داود ( 106 ) ( 107 ) و( 109 ) ، وابن ماجه
( 285 ) و( 459 ) ، وعبد الله بن أحمد في " زياداته " 1/74 ، والنسائي 1/64 و65 و80 و91 و111 وفي " الكبرى " ، له ( 91 ) و(103) و( 171 ) و( 172 ) و( 840 ) ، وابن خزيمة ( 2 ) و( 3 ) و( 158 ) ، وابن حبان (1041) ، والبيهقي 1/225 ، والبغوي
( 152 ) و( 153 ) من حديث عثمان بن عفان ، به .
وهذا يدلُّ على أنَّ الوُضوءَ المأمورَ به في القرآنِ عبادةٌ مستقلَّةٌ(1) بنفسها ، حيث رتَّب عليه تكفيرَ الذنوبِ ، والوضوءُ الخالي عن النِّيَّةِ لا يُكفِّرُ شيئاً من الذُّنوبِ
بالاتِّفاقِ(2) ، فلا يكونُ مأموراً به ، ولا تصحُّ به الصَّلاةُ ، ولهذا لم يَرِد في شيءٍ من
بقيَّةِ شرائطِ الصلاةِ ، كإزالةِ النَّجاسةِ ، وسترِ العورةِ ما ورد في الوُضوءِ مِنَ الثَّوابِ(3) ، ولو شَرَكَ بينَ نيَّةِ الوُضوءِ ، وبينَ قصدِ التَّبرُّد ، أو إزالةِ النَّجاسةِ ، أو الوسخِ ، أجزأه في المنصوصِ عن الشَّافعيِّ(4) ، وهذا(5) قولُ أكثرِ أصحابِ أحمدَ(6) ؛ لأنَّ هذا القصدَ(7) ليسَ بمحرَّمٍ ، ولا مَكروهٍ ، ولهذا لو قصدَ مع رفعِ الحدثِ تعليمَ الوضوءِ ، لم يضرَّهُ ذلك . وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقصِدُ أحياناً(8) بالصلاةِ تعليمَها للنَّاس، وكذلك الحجُّ ، كما قال : ( خذوا عنِّي مناسِكَكُم(9) ) .
وممَّا تدخُلُ النيةُ فيه مِنْ أبوابِ العلمِ : مسائلُ الأيمان .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : الأم 2/62-63 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 1/39 .
(3) انظر : الواضح في شرح مختصر الخرقي 1/39 ، ونيل المآرب 1/50 .
(4) انظر : الحاوي الكبير 1/96 ، والوسيط 1/78 ، والمجموع 1/177 .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) انظر : المغني 1/123 .
(7) في ( ص ) : ( الفعل ) .
(8) سقطت من ( ص ) .
(9) أخرجه : أحمد 3/301 و318 و332 و337 و367 و378 ، والدارمي ( 1899 ) ، ومسلم 4/79 ( 1297 ) ( 310 ) ، وأبو داود ( 1970 ) ، والنسائي 5/270 وفي
" الكبرى " ، له ( 4068 ) ، وابن خزيمة ( 2877 ) ، والبيهقي 5/116 و130 ، والبغوي ( 1946 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به .
فلغوُ اليمينِ لا كفَّارةَ فيه، وهو ماجرى على اللِّسان من غيرِ قصدٍ بالقلبِ إليه، كقوله : لا والله ، وبلى والله في أثناءِ الكلامِ(1) ، قال تعالى : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } (2) .
وكذلك يُرجَعُ في الأيمان إلى نيَّةِ الحالِف وما قصدَ بيمينه، فإنْ حَلَفَ بطلاقٍ ، أو عَتاقٍ ، ثم ادَّعى أنَّه نوى ما يُخالِفُ ظاهرَ لفظه ، فإنَّه يُدَيَّنُ فيما بينه وبينَ الله - عز وجل - (3) .
__________
(1) انظر : الأم 8/54-55 ، واللباب في شرح الكتاب 4/4 ، وبداية المجتهد 1/500-501 .
وقد وردت أحاديث في اللغو في اليمين ، روي عن إبراهيم الصائغ قال : سألت عطاء عن اللغو في اليمين ، فقال : قالت عائشة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( هو كلام الرجل في بيته ، كلا والله وبلى والله ) .
أخرجه : عبد الرزاق ( 15951 ) ، وأبو داود ( 3254 ) ، والطبري في " تفسيره "
( 3501 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 2155 ) ، وابن حبان ( 4333 ) ، والبيهقي 10/49 .
وروى موقوفاً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لغو اليمين قول الإنسانِ : لا والله وبلى والله .
أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 1366 ) برواية الليثي ، والشافعي في " مسنده " ( 1723 ) و( 1724 ) بتحقيقي ، وعبد الرزاق ( 15952 ) وفي " التفسير " ، له ( 268 ) ، والبخاري 8/168 ( 6663 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 11149 ) ، وابن الجارود
( 925 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 3500 ) و( 3507 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره "
( 2152 ) و( 6701 ) و( 6702 ) ، والبيهقي 10/48 و49 .
(2) البقرة : 225 .
(3) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/143-147 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 5/150 ، والهداية 2/130 بتحقيقي .
وهل يُقبل منه في ظاهرِ الحُكم ؟ فيهِ قولانِ للعُلماءِ (1) مشهوران ، وهما روايتانِ عَنْ أحمَدَ(2)، وقد رُوي عَنْ عمرَ أنّه رُفعَ إليه رجلٌ قالتْ لهُ امرأته : شبِّهني ، قالَ : كأنَّكِ ظبيةٌ ، كأنَّك حمامةٌ ، فقالت (3): لا أرضى حتّى تقولَ : أنت خلِيَّةٌ (4) طالِقٌ ، فقالَ ذَلِكَ ، فقالَ عمر : خذ بيدها فهي امرأتُك . خرَّجه أبو عبيد(5)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) قال القاضي أبو يعلى : ( إذا أتى بصريح الطلاق ونوى به شيئاً يخالف الظاهر هل يصدق في الحكم أم لا ؟ على روايتين :
إحداهما : يصدق لأنه لا خلاف أنَّه لو قال لمدخول بها : أنت طالق طالق ، وقال أردت بالثانية إفهامها إنْ قد وقع بها طلقة قبل منه ذلك ، كذلك هاهنا ؛ ولأنَّها يمين يصدق فيها في الباطن فصدق فيها في الظاهر .
والرواية الثانية : لا يصدق في الحكم لأنَّ ما قاله خِلاف الظاهر فلم يصدق في حقها كما لو أقر بألف درهم ، ثم رجع وقال : كذبت في إقراري وليس له قبلي شيء فإنَّه يحتمل ما قال ، ولكن لا يصدق في الحكم لأنه خِلاف الظاهر ، كذلك هاهنا ، وقد نص على هذه الرواية في مواضع ) . انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 2/147-148 .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( له ) .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( أنت ) .
(5) في غريب الحديث 3/379-380 .
وأخرجه : سعيد بن منصور في " سننه " ( 1192 ) و( 1193 ) .
، وقال : أراد النَّاقَةَ تكون معقولةً ، ثُمَّ تُطْلَقُ من عِقالها ويُخلَّى عنها ، فهي خَليَّةٌ مِنَ العِقالِ ، وهي طالقٌ ؛ لأنَّها قد طَلَقَت منه ، فأراد الرَّجُلُ ذلك ، فأسقطَ عنه عمرُ الطَّلاق لنيَّته. قال: وهذا أصلٌ لكلِّ(1) مَنْ تكلَّم بشيءٍ يُشبه لفظَ الطَّلاق(2) والعَتاق،
وهو ينوي غيرَه أنَّ القولَ فيه قولُه فيما بينَه وبينَ الله ، في الحُكمِ على تأويلِ مذهب(3) عمر - رضي الله عنه - .
ويُروى عن سُمَيطٍ السَّدوسيِّ ، قال : خطبتُ امرأةً ، فقالوا : لا نزوِّجُكَ حتى تُطلِّق امرأتَك ، فقلت : إنِّي قد طلَّقتُها ثلاثاً ، فزوَّجوني ، ثم نظروا ، فإذا امرأتي عندي ، فقالوا : أليسَ قد طلَّقتها ثلاثاً ؟ فقلتُ : كانَ عندي فلانةٌ فطلَّقتُها ، وفلانةٌ فطلَّقتُها ، وفلانة فطلقتها (4) ، فأما هذه ، فلم أطلِّقْها ، فأتيتُ شقيقَ بن ثورٍ وهو يريدُ الخروجَ إلى عثمانَ وافداً ، فقلتُ لهُ : سل أميرَ المؤمنين عَنْ هذه ، فخرج فسأله ، فقالَ : نيَّتُه . خرَّجه أبو عبيد في " كتاب الطلاق " ، وحكى إجماعَ العُلماءِ على مِثلِ(5) ذلكَ .
وقال إسحاقُ بنُ منصورٍ : قلتُ لأحمدَ : حديثُ السُّمَيطِ تَعرفُهُ (6)؟ قال : نعم، السَّدوسيّ، إنّما جعلَ نيَّته بذلك ، فذكر ذلك شقيق لعثمان ، فجعلها نيته(7).
فإن كانَ الحالِفُ ظالماً ، ونوى خِلافَ ما حلَّفه عليه غريمُه ، لم تنفَعْه
نيَّتُه ، وفي " صحيح مسلم "(8)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( من تكلم بشبهة الطلاق ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) عبارة : ( وفلانة فطلقها ) سقطت من ( ج ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) عبارة : (فذكر ذلك شقيق لعثمان ، فجعلها نيته ) سقطت من ( ص ) .
(8) 5/87 ( 1653 ) ( 20 ) .
وأخرجه : أحمد 2/228 و331 ، والدارمي ( 2354 ) ، وأبو داود ( 3255 ) ، وابن ماجه
( 2121 ) ، والترمذي ( 1354 ) ، والعقيلي في " الضعفاء " 2/251 ، والدارقطني 4/157 و158 ، والحاكم 4/303، وأبو نعيم في " الحلية " 9/225 و10/127، والبيهقي 10/65، والبغوي ( 2514 ) .
عن أبي هُريرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يمينُكَ على ما يُصدِّقُك عليه صاحبُك ) . وفي رواية له(1) : ( اليمينُ على نيةِ
المُستحْلِفِ(2) ) ، وهذا محمولٌ على الظَّالم ، فأمَّا المظلومُ ، فينفعهُ ذلك . وقد خرَّج الإمام أحمدُ ، وابنُ ماجه مِنْ حديثِ سُويدِ بنِ حنظلةَ، قال: خرجنا نُريدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومعنا وائلُ بنُ حُجْرٍ ، فأخذه عدوٌّ له ، فتحرَّجَ الناسُ أنْ يحلِفوا ،
فحلفتُ أنا إنّه أخي ، فخلى سبيلَه ، فأتينا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبرتُهُ أنَّ القومَ
تحرَّجُوا أنْ يحلفوا ، وحلفتُ أنا (3) إنَّه أخي ، فقال : ( صدقتَ ، المسلمُ أخو
المسلم(4) ) .
وكذلك تدخلُ النيَّةُ في الطَّلاق والعتاقِ ، فإذا أتى بلفظٍ مِنْ ألفاظ الكناياتِ المحتملَةِ للطَّلاقِ أو العتاقِ ، فلا بُدَّ له من النيَّةِ(5) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) 5/87 ( 1653 ) ( 21 ) .
وأخرجه : ابن ماجه ( 2120 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 259 ) والبيهقي 10/65 ، والبغوي ( 2515 ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : أحمد 4/79 ، وأبو داود ( 3256 ) ، وابن ماجه ( 2119 ) ، والطحاوي في
" شرح المشكل " ( 1874 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 6464 ) و( 6465 ) ، والحاكم 4/299 ، والبيهقي 10/65 وإسناده ضعيف لجهالة جد إبراهيم بن عبد الأعلى .
(5) قال ابن قدامة في " المغني " 8/285 : ( فأما غير الصريح فلا يقع الطلاق به إلا بنية أو دلالة
حال ) .
ونقل الأثرم إذا قال : ( الحقي بأهلك وقال : لم أنو به طلاقاً ليس بشيء ظاهر هذا اعتبار
النية ) المسائل الفقهية 2/143 .
وانظر : رؤوس المسائل في الخلاف على مذهب أحمد بن حنبل 2/804، والمجموع 18/172، ومنتهى الإرادات 2/260 ، ونيل المآرب 4/439 .
وهل يقومُ مقامَ النِّيَّةِ دَلالةُ الحالِ مِنْ غضبٍ أو سُؤالِ الطَّلاقِ ونحوِه أم لا ؟
فيه خلافٌ مشهورٌ بينَ العلماءِ(1)
__________
(1) قال أبو جعفر الهاشمي الحنبلي في " رؤوس المسائل في الخلاف " 2/804 : ( إذا انضم إلى الكنايات دلالة حال لم يحتج إلى نية ، وقال الشافعي : يحتاج إلى نية وإلا لم يقع ، وعن أحمد نحوه دليلنا : أنَّ دلالة الحال تؤثر في الكلام والأفعال ، أما الكلام فإنَّ اللفظة الواحدة تستعمل في المدح والذم ، وليس ذلك إلا لدلالة الحال ) .
وقال أيضاً في 2/805 : ( ولا فرق بين أنْ يكون دلالة الحال سؤالاً أو غضباً ، وقال أبو حنيفة كمذهبنا في السؤال وفي الغضب يحتاج إلى نية إلا في ثلاث ألفاظ : اختاري ، واعتدي ، وأمرك بيدك ، دليلنا : أنَّ هذه كناية فوقع بها الطلاق في حال الغضب بغير نية كالألفاظ الثلاث ) .
انظر : المسائل الفقهية 2/143-144 ، والمغني 8/269-270 ، ومنتهى الإرادات 2/260 ، ونيل المآرب 4/439 .
، وهل يقعُ بذلك الطَّلاق في الباطن كما لو نواهُ ، أم يلزمُ به في ظاهر الحُكم فقط ؟ فيه خلافٌ مشهورٌ أيضاً(1) ، ولو أوقعَ الطَّلاقَ بكنايةٍ ظاهرةٍ، كالبَتَّةِ ونحوها ، فهل يقعُ به الثلاثُ أو واحدةٌ ؟ فيه قولان مشهوران، وظاهرُ مذهبِ أحمدَ أنَّه يقعُ به الثَّلاثُ مع إطلاقِ النِّيَّةِ، فإن نوى به ما دُونَ الثَّلاثِ، وقعَ به ما نواه ، وحُكِي عنه رواية أنَّه يلزمه الثَّلاثُ أيضاً(2) .
__________
(1) قال أبو جعفر الهاشمي الحنبلي في " رؤوس المسائل في الخلاف " 2/806 : ( إذا نوى بالكنايات الخفية عدداً من الطلاق ثبت قل أو كثر ، وبه قال أكثرهم ، وقال أبو حنيفة : لاثبت بها إلاّ واحدة بائن ، أو ثلاث ، فأما طلقتان فَلا ، دليلنا : إنّ من ملك إيقاع طلقة بكناية ملك إيقاع طلقتين بكناية كالعبد ) .
(2) قال أبو جعفر الهاشمي الحنبلي في " رؤوس المسائل في الخلاف " 2/804 -805
: ( الكنايات الظاهرة لا يقع بها الطلاق إذا لم ينضم إليها دلالة حال أو نية، وبه قال أكثرهم، وقال مالك : يقع الطلاق ، ومن أصحابه من يسمي ذلك صريحاً . دليلنا : أنه لفظ لم يرد به القُرآن للفرقة بين الزوجين ، فلم يكن صريحاً كالكنايات الخفية . =
= ... والكنايات الظاهرة إذا نوى بها الطلاق كانت ثلاثاً ، فأمّا الخفية فيرجع في العدد إلى ما نواه ، وقال أبو حنيفة : جميع الكنايات يقع بها واحدة بائن إلا قوله : اعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة فإنها رجعية ، وقال مالك : الكنايات الظاهرة يقع بها ثلاثاً في حق المدخول بها ، وواحدة في حق غير المدخول بها ، وقال الشافعي : جميع ذلك يقع به واحدة رجعية إلاّ أن ينوي الثلاث فيكون ثلاثاً ) .
وانظر : المغني 8/272-273 ، ونيل المآرب 4/439 .
ولو رأى امرأةً ، فظنَّها امرأتهُ ، فطلَّقها ، ثم بانت(1) أجنبيَّة ، طلقت امرأتُهُ ؛ لأنَّه إنّما قصدَ طلاقَ امرأتِهِ . نصَّ على ذلك أحمدُ(2) ، وحُكِي عنه رواية أخرى : أنَّها لا تطلق(3) ، وهو قول الشَّافعيّ(4) ، ولو كان العكس ، بأنْ رأى امرأةً ظنَّها أجنبيّةً ، فطلَّقها ، فبانت امرأتُه ، فهل تطلُق ؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد(5) ، والمشهور مِنْ مذهب الشَّافعيِّ وغيره أنَّها تطلق(6) .
ولو كان له امرأتان ، فنهى إحداهما عَنِ الخُروج ، ثم رأى امرأةً قد
خرجَتْ ، فظنَّها المنهيَّةَ(7) ، فقال لها : فلانةُ خرجْتِ (8)، أنت طالقٌ ، فقد اختلفَ العُلماء فيها ، فقالَ الحسن : تطلُقُ المنهيَّةُ ؛ لأنَّها هي التي نواها(9) .
وقال إبراهيمُ : تطلقان(10) ، وقال عطاءٌ : لا تطلُق واحدةٌ منهما ، ومذهبُ أحمد : أنَّه تطلُقُ المنهيَّةُ روايةً(11) واحدةً ؛ لأنَّه نوى طلاقَها . وهل تطلق المواجهة على روايتين عنه ، واختلف الأصحاب على القولِ بأنّها(12) تطلُق : هل تطلق في الحُكم فقط ، أم في الباطن أيضاً ؟ على طريقتين لهم .
__________
(1) في ( ص ) : ( فبانت ) .
(2) انظر : المغني 8/284 .
(3) انظر : المغني 8/284-285 .
(4) انظر : الحاوي الكبير 10/295 .
(5) انظر المغني 8/284-285 .
(6) ينظر في هذه المسألة : الحاوي الكبير 10/295 .
(7) عبارة : ( فظنها المنهية ) سقطت من ( ص ) .
(8) عبارة : ( فلانة خرجت ) سقطت من ( ص ) .
(9) أخرجه : عبد الرزاق ( 11303 ) ، وسعيد بن منصور في " سننه " ( 1176 ) .
(10) أخرجه : عبد الرزاق ( 11303 ) ، وسعيد بن منصور في " سننه " ( 1177 ) .
(11) سقطت من ( ص )
(12) زاد بعدها في ( ص ) : ( لا ) .
وقد استدلَّ بقولِهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( الأعمال بالنيَّاتِ ، وإنَّما لامرىءٍ ما نوى ) على
أنَّ العُقودَ التي يُقصَدُ بها في الباطنِ التَّوصُّلُ إلى ما هو محرَّمٌ غيرُ صحيحةٍ ،
كعقودِ البُيوعِ التي يُقصدُ بها معنى الرِّبا ونحوها ، كما هو مذهبُ مالكٍ وأحمدَ وغيرهما ، فإنَّ هذا العقدَ إنَّما نوي به الرِّبا ، لا البيعَ(1) ، ( وإنَّما لامرىءٍ ما
نوى ) .
ومسائلُ النِّيَّةِ المتعلِّقَةُ بالفقه كثيرةٌ جداً ، وفيما ذكرناه كفايةٌ .
وقد تقدَّم عنِ الشَّافعيِّ أنَّه قال في هذا الحديث : إنَّه يدخلُ في سبعينَ باباً من
الفقهِ ، والله أعلمُ(2) .
والنِّيَّةُ : هي قصدُ القلبِ(3) ، ولا يجبُ التَّلفُّظ بما في القَلب في شيءٍ مِنَ العِباداتِ ، وخرَّج بعضُ أصحابِ الشَّافعيِّ له قولاً باشتراطِ التَّلفُّظ بالنِّيَّة للصَّلاة ، وغلَّطه المحقِّقونَ منهم ، واختلفَ المتأخِّرون من الفُقهاء في التَّلفُّظ بالنِّيَّة في الصَّلاة
وغيرها ، فمنهم مَنِ استحبَّه ، ومنهم مَنْ كرهه(4)
__________
(1) انظر : الإشراف على نكت مسائل الخِلاف 2/527 .
(2) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 6/534 ، والمجموع 1/169 ، وفتح الباري 1/14 .
(3) انظر : كتاب العين : 996 ، والصحاح 6/2516 ، ولسان العرب 14/343 .
(4) قال أبو الحسن الماوردي الشافعي : ( محل النية وهو القلب ، ولذلك سميت به لانَّها تفعل بأنأى عضو في الجسد ، وهو القلب ، وإذا كان ذلك كذلك فله ثلاثة أحوال :
أحدها : أنْ ينوي بقلبه ، ويلفظ بلسانه فهذا يجزئه ، وهو أكمل أحواله .
والحال الثانية : أنْ يلفظ بلسانه ولا ينوي بقلبه فهذا لا يجزئه .
والحال الثالثة : أنْ ينوي بقلبه ولا يتلفظ بلسانه فمذهب الشافعي يجزئه ، وقال أبو عبد الله الزبيدي - من أصحابنا - لا يجزئه حتى يتلفظ بلسانه تعلقاً بأنَّ الشافعيَّ قال في كتاب
" المناسك " ولا يلزمه إذا أحرم بقلبه أنْ يذكره بلسانه وليس كالصلاة التي لا تصح إلاّ بالنطق فتأول ذلك على وجوب النطق في النية ، وهذا فاسد ، وإنَّما إراد وجوب النطق بالتكبير ثم مما يوضح فساد هذا القول حجاجاً : أنَّ النية من أعمال القلب فلم تفتقر إلى غيره من الجوارح كما أنَّ القراءة لما كانت من أعمال اللسان لم تفتقر إلى غيره من الجوارح ) .
الحاوي الكبير 2/91 - 92 .
.
ولا يُعلمُ في هذه المسائل نقلٌ خاصٌّ عنِ السَّلفِ ، ولا عن الأئمَّةِ إلاَّ في
الحَجِّ وحدَهُ ، فإنَّ مُجاهداً قال : إذا أراد الحجَّ ، يُسمِّي ما يُهلُّ به ، ورُوي عنه أنَّه
قال : يسمِّيه في التَّلبيةِ ، وهذا ليس مِمَّا نحنُ فيه ، فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يذكرُ
نُسُكَه في تلبيته ، فيقول : ( لَبَّيكَ عُمْرةً وحَجّاً )(1) ، وإنَّما كلامُنا أنّه يقولُ عندَ إرادةِ عقدِ الإحرامِ : اللَّهُمَّ إنِّي أُريدُ الحجَّ أو العمرةَ ، كما استَحَبَّ ذلك كثيرٌ من الفُقهاءِ(2)
__________
(1) أخرجه : الحميدي ( 1215 ) ، وأحمد 3/111 و182 و282 ، والدارمي ( 193 ) ، ومسلم 4/52 ( 1232 ) ( 185 ) و( 186 ) و4/59 ( 1251 ) ( 214 ) و( 215 ) ، وأبو داود ( 1795 ) ، وابن ماجه ( 2969 ) ، والنسائي 5/150 وفي " الكبرى " ، له
( 3709 ) و( 3711 ) ، وأبو يعلى ( 4154 ) و( 4155 ) ، وابن الجارود ( 430 ) ، وابن خزيمة ( 2618 ) و( 2619 ) ، والطحاوي في " شرح المعاني " 2/152 و153 وفي
" شرح المشكل " ، له ( 2441 ) و( 2442 ) ، والدارقطني 2/288 ، والحاكم 1/472 ، والبيهقي 5/9 و40 ، والبغوي ( 1881 ) و( 1882 ) من حديث أنس بن مالك .
(2) انظر : الأم 3/312 ، واللُّباب في شرح الكتاب 1/181 ، وبداية المجتهد 1/412 ، وإرشاد الساري : 113 ، والمغني 3/246 ، ومنتهى الإرادات 1/243 ، والهداية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل 1/217 بتحقيقنا .
واختلف الفقهاء : هل تجزيء النية فيه من غير التلبية ؟ فقال مالك والشافعي : تجزيء النية من غير التلبية ، وقال أبو حنيفة : التلبية في الحج كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة .
انظر : بداية المجتهد 1/412 - 413 .
، وكلامُ مجاهدٍ ليس صريحاً في ذلك . وقال أكثر السَّلفِ ، منهم عطاءٌ وطاووسٌ والقاسمُ بنُ محمدٍ والنَّخعيُّ : تجزئه النِّيَّةُ عندَ الإهلالِ ، وصحَّ عَنِ ابنِ عمرَ أنَّه سمعَ رجُلاً عندَ إحرامِهِ يقولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أريدُ الحجَّ أو العمرةَ ، فقال له : أتعلمُ النَّاس ؟ أو ليسَ الله يعلمُ ما في نَفسكَ ؟(1)
ونصَّ مالكٌ على مِثلِ هذا، وأنَّه لا يستحبُّ لهُ أنْ يُسمِّيَ ما أحرمَ به . حكاه
صاحب كتاب " تهذيب المدونة " مِنْ أصحابه(2) ، وقال أبو داود : قلتُ لأحمدَ : أتقولُ قبلَ التَّكبير –يعني : في الصَّلاة- شيئاً ؟ قال : لا ، وهذا قد يدخُلُ فيه أنّه لا يتلَّفظُ بالنِّيَّةِ ، والله أعلم(3) .
__________
(1) أخرجه : البيهقي 5/40 .
(2) التهذيب في اختصار المدونة 1/493 لأبي سعيد البراذعي خلف بن أبي القاسم القيرواني ، وقال القَرافي المالِكي في " الذخيرة " 3/148 : ( قال ابن القاسم : قال لي مالك : النية تكفي في الإحرام ولا يُسمي . قال سند : الإحرام ينعقد بتجرد النية ، وكره مالك التسمية ، واستحبها ابن حنبل ) .
انظر : المدونة الكبرى 2/467 ، والإشراف على نكت مسائل الخلاف 1/471 .
(3) في " مسائل الإمام أحمد لأبي داود " : 30 .
وانظر : المغني 1/544 - 445 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي 1/211 - 213 ، ورؤوس المسائل في الخِلاف 1/121 ، ونيل المآرب 1/140 .
الحديث الثاني
عَنْ عُمَرَ بن الخَطَّابِ - رضي الله عنه -، قال : بَينَمَا نَحْنُ جلوس(1) عندَ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ ، إذْ طَلَعَ علينَا رَجُلٌ شَدِيدُ بياضِ الثِّيابِ ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ ، لا يُرى عليهِ أثَرُ السَّفَر ، ولا يَعرِفُهُ مِنّا أحدٌ ، حتَّى جَلَسَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأسنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ ، ووضع كَفَّيه على فَخِذيه ، وقالَ : يا مُحَمَّدُ ، أخبِرني عَنِ الإسلامِ .فقال رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الإسلامُ : أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله ، وأنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ ، وتُقيمَ الصَّلاةَ ، وتُؤتِي الزَّكاةَ ، وتصومَ رمضَانَ ، وتَحُجَّ البَيتَ إن استَطَعتَ إليه سبيلاً ) . قال : صَدَقتَ (2)، قال : فَعَجِبنا لَهُ يسأَلُهُ ويصدِّقُهُ .
قال: فأخْبِرني عَنِ الإيمان . قال : ( أنْ تُؤْمِنَ باللهِ وملائِكَته وكُتُبِه، ورُسُله، واليَومِ الآخِرِ ، وتُؤْمِنَ بالقَدرِ خَيرِهِ وشَرِّهِ ) . قالَ : صَدَقتَ .
قالَ : فأخْبِرنِي عنِ الإحْسَانِ ، قال : ( أنْ تَعبُدَ اللهَ كأنَّكَ تَراهُ ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّهُ يراكَ ) .
قال : فأخبِرني عَنِ السَّاعةِ ؟
قال : ( مَا المَسؤُولُ عَنْهَا بأعلَمَ مِنَ السَّائِل ) .
قال : فأخبِرني عنْ أَمارَتِها ؟
قال : ( أنْ تَلِد الأمَةُ رَبَّتَها(3)
__________
(1) سقطت من ( ج ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( يا رسول الله ) .
(3) اختلف العلماء في معنى ذلك على أربعة أقوال : =
= ... القول الأول : قال الخطابي : معناه : اتساع الإسلام واستيلاء أهله على بلاد الشرك وسبي ذراريهم ، فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها كان الولد منها بمنزلة ربها ، لأنّه ولد سيدها ، قال النووي وغيره : إنه قول الأكثرين ، واعترض الحافظ ابن حجر على ذلك فقال : لكن في كونه المراد نظر ؛ لأن استيلاء الإماء كان موجوداً حين المقالة ، والاستيلاء على بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذهم سراري وقع أكثره في صدر الإسلام ، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع مالم يقع مما سيقع قرب قيام الساعة .
القول الثاني : إن تبيع السادة أمهات أولادهم ويكثر ذلك فيتداول الملاك المستولدة حتى يشتريها ولدها ، ولا يشعر بذلك .
القول الثالث : قال النووي : لا يختص شراء الولد أمه بأمهات الأولاد ، بل يتصور في غيرهن بأن تلد الأمة حراً من غير سيدها بوطء شبهةٍ ، أو رقيقاً بنكاح ، أو زنا ، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعاً صحيحاً ، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ابنها أو ابنتها .
القول الرابع : أن يكثر العقوق في الأولاد فيُعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة
بالسب والضرب والاستخدام ، فأطلق عليه ربها مجازاً لذلك ، أو المراد بالرب المربي فيكون حقيقة .
والراجح - والله أعلم - القول الرابع ، وهو الذي رجحه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " 1/162-163 عقب الحديث ( 50 ) ، وقال بعد أن ذكر الترجيح : ( ولأن المقام يدل على المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغربة ، ومحصلة الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور . بحيث يصير المربى مربياً ، والسافل عالياً ، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى : ( أن تصير الحفاة ملوك الأرض ) ) .
، وأنْ تَرى الحُفاة العُراة العَالةَ رعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلونَ في البُنيانِ ) .
ثُمَّ انْطَلَقَ ، فلبثْتُ مَليّاً ، ثمَّ قال لي : ( يا عُمَرُ ، أتَدرِي مَنِ السَّائل ؟ )
قلتُ : الله ورسولُهُ أعلَمُ .
قال : ( فإنَّهُ جِبريلُ أتاكُم يُعَلِّمُكُم(1) دِينَكُم ) . رواه مسلم(2)
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( أمر ) .
(2) في " صحيحه " 1/28 ( 8 ) ( 1 ) و1/29 ( 8 ) ( 2 ) و( 3 ) و1/30 ( 8 ) ( 4 ).=
= ... وأخرجه أيضاً : الطيالسي ( 2 ) ، وأحمد 1/27 و28 و51 و52 ، والبخاري في " خلق أفعال العباد " ( 26 ) ، وأبو داود ( 4695 ) و( 4696 ) و( 4697 ) ، وابن ماجه
( 63 ) ، والترمذي ( 2610 ) ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ( 901 ) و( 908 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 363 ) و( 367 ) ، والنسائي 8/97 وفي " الكبرى " ، له ( 11721 ) ، وابن خزيمة ( 1 ) و( 2504 ) و( 3065 ) ، وابن حبان ( 168 )
و( 173 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 1 ) و( 2 ) و( 3 ) و( 4 ) و( 5 ) و( 6 ) و( 8 ) و( 9 ) و( 10 ) و( 11 ) و( 12 ) و( 13 ) و( 185 ) و( 186 ) ، والبيهقي في " دلائل النبوة " 7/69 - 70 وفي "شعب الإيمان" ، له ( 3973 ) ، والبغوي ( 2 ) من حديث
عمر بن الخطاب ، به .
الروايات مطولة ومختصرة .
هذا الحديثُ تفرَّد مسلم عن البُخاريِّ بإخراجِه ، فخرَّجه مِنْ طريقِ كهمسٍ ، عَنْ عبد الله بنِ بُريدةَ ، عن يَحيى بن يَعْمَرَ ، قال : كانَ(1) أوَّلَ مَنْ قالَ في القَدرِ بالبصرةِ معبدٌ الجهنيُّ ، فانطلقتُ أنا وحميدُ بنُ عبد الرَّحمانِ الحِميريُّ حاجين أو مُعتَمِرين ، فقلنا : لو لَقِينا أحداً مِنْ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسألناه عمَّا يقولُ هؤلاءِ في القدرِ ، فوُفِّقَ لنا عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بنِ الخطَّابِ داخلاً المسجدَ ، فاكتَنَفتُهُ أنا وصاحبي ، أحدُنا عن يمينه ، والآخرُ عن شِمالِه ، فظننتُ أنَّ صاحبي سيَكِلُ الكلامَ إليَّ ، فقلتُ : أبا عبدِ الرَّحمانِ ، إنّه (2) قد ظهر قِبلَنا ناسٌ يقرءون القُرآن ، ويتقفَّرُون(3) العلمَ ، وذكر مِنْ شأنهم ، وأنَّهم يزعُمون أنْ لا قدرَ ، وأنّ الأمرَ أُنُفٌ(4) ، فقال : إذا لقيتَ أولئك ، فأخبرهم أنّي بريءٌ منهم ، وأنّهم بُرآءُ مِنّي، والّذي يحلفُ به عبدُ الله بنُ عمرَ، لو أنّ لأحدهم مثلَ أُحُدٍ ذهباً، فأنفقه ، ما قَبِلَ الله منه حتى يُؤمِنَ بالقدرِ ، ثم قال : حدَّثني أبي عمرُ بنُ الخطّابِ ، قال : بينما نحنُ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر الحديث بطولِهِ .
__________
(1) سقطت في ( ص ) .
(2) سقطت في ( ص ) .
(3) يتقفرون العِلم : يطلبونه ويتتبعونه ، هذا هو المشهور ، وقيل معناه : يجمعونه .
انظر : النهاية 4/90 ، ولسان العرب 11/254 ( قفر ) .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( أي : مستأنف ) . وأُنُف : بضم الهمزة والنون : أي : مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى ، وإنما يعلمه بعد وقوعه .
انظر : النهاية 1/75 ، وشرح النووي لصحيح مسلم 1/145 .
ثم خرَّجه من طُرقٍ أُخرى ، بعضُها يرجِعُ إلى عبد الله بن بريدةَ(1) ، وبعضُها يرجع إلى يحيى بن يعمر(2) ، وذكر أنّ في بعض ألفاظها زيادةً ونقصاً .
وقد خرّجه ابنُ حبَّان في " صحيحه " (3) من طريق سليمانَ التَّيميِّ ، عن يحيى ابن يعمر ، وقد خرَّجه مسلمٌ مِن هذه الطَّريق ، إلاَّ أنَّه لم يذكر لفظَه ، وفيه زياداتٌ منها : في الإسلام، قال : ( وتحجَّ وتعتمر، وتغتسلَ مِنَ الجَنابةِ ، وأنْ تُتمَّ الوُضوء، وتصوم رمضان ) قال : فإذا أنا فعلتُ ذلك ، فأنا مسلمٌ ؟ قال : ( نعم ) .
وقال في الإيمان : ( وتُؤمِن بالجَنَّةِ والنَّارِ والمِيزانِ ) ، وقال فيه : فإذا فعلتُ ذلك ، فأنا مؤمنٌ ؟ قال : ( نعم ) .
وقال في آخره : ( هذا جبريلُ أتاكُم ليعلِّمكُم أمرَ دينكم ، خذوا عنه ، والذي نفسي بيده ما شُبِّه عليَّ منذُ أتاني قبل مرَّتي هذه ، وما عرفتُه حتى ولّى ) .
وخرّجاه في " الصحيحين " (4)
__________
(1) تصحف في ( ص ) إلى : ( يزيد ) .
(2) في ( ص ) : ( وبعضها إلى رواية ابن يعمر ) .
(3) ابن حبان ( 173 ) ، وقال عقب الحديث : ( تفرد سليمان التيمي بقوله : ( خذوا عنه ) وبقوله : ( تعتمر وتغتسل وتتم الوضوء ) ) .
(4) صحيح البخاري 1/19 ( 50 ) و6/144 ( 4777 ) ، وصحيح مسلم 1/30 ( 9 ) ( 5 ) و( 6 ) .
وأخرجه : أحمد 2/426 ، وأبو داود ( 4698 ) ، وابن ماجه ( 64 ) و( 4044 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 379 ) ، وابن خزيمة ( 2244 ) ، وابن حبان
( 159 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 15 ) و( 16 ) و( 158 ) و( 159 ) ، والبيهقي في
" شُعب الإيمان " ( 385 ) .
وأخرجه : النسائي 8/101 ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 378 ) ، وابن منده في
" الإيمان " ( 160 ) من حديث أبي هريرة وأبي ذر ، به .
من حديث أبي هُريرة ، قال : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوماً بارزاً للناسِ ، فأتاهُ رجلٌ ، فقال : ما الإيمان(1) ؟ قال : ( الإيمانُ : أنْ تُؤمِنَ بالله وملائكتِه وكتابه ، وبلقائه ، ورُسله ، وتؤمن بالبعثِ الآخرِ ) .
قال : يا رسولَ اللهِ ، ما الإسلام ؟ قالَ : ( الإسلامُ (2): أن تعبدَ الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيمَ الصلاةَ المكتوبةَ ، وتُؤَدِّي الزّكاةَ المفروضةَ ، وتصومَ رمضان (3) ) .
قال : يا رسولَ اللهِ ، ما الإحسّانُ ؟ قال : ( أنْ تعبدَ الله كأنَّكَ تراهُ ، فإنَّكَ إنْ لا تراه(4) ، فإنّه يراك ) .
قال : يا رسول اللهِ ، متى الساعةُ ؟ قال : ( ما المسؤولُ عنها بأعلمَ مِنَ السَّائِلِ ، ولكن سأحدِّثكَ عَنْ أَشراطِها : إذا وَلَدتِ الأَمَةُ ربَّتها ، فذاك من
أشراطها ، وإذا رأيتَ العُراة الحُفاة رُؤوسَ الناس ، فذاك من أشراطِها ، وإذا تطاوَل رعاءُ البَهْم في البُنيان ، فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمُهُنَّ إلاّ الله ) ، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (5) .
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( بالله ) .
(2) سقطت في ( ص ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ) .
(4) في ( ص ) : ( فإن لم تكن تراه ) .
(5) لقمان : 34 .
قال : ثمّ أدبَرَ الرجُلُ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( عليَّ بالرَّجُلِ(1) ) ، فأخذوا ليردُّوه ، فلم يَروا شيئاً ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هذا جبريلُ جاءكم ليعلِّمَكم أمر دينكم (2) ).
وخرَّجه مسلم بسياقٍ أتمَّ مِنْ هذا ، وفيه في خصال الإيمان : ( وتؤمِن بالقدر
كلّه ) ، وقال في الإحسان : ( أنْ تخشى الله كأنَّكَ تراهُ )(3) .
وخَرَّجهُ الإمامُ أحمد في " مسنده " (4) من حديث شهر بن حوشب ، عن ابنِ عباس . ومن حديث شهر بن حوشب أيضاً ، عن ابن عامرٍ ، أو أبي عامرٍ ، أو أبي مالكٍ (5) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وفي حديثه قال : ونسمع رَجْعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نرى الذي يكلِّمُهُ ، ولا نسمعُ كلامه(6) ، وهذا يردُّه حديثُ عمرَ الذي خرَّجه مسلمٌ ،
وهو أصحُّ(7) .
__________
(1) في ( ص ) : ( أتروون عليّ الرجل ) .
(2) في ( ج ) : ( جاء ليعلم الناس دينهم ) .
(3) في " صحيحه " 1/30 ( 10 ) ( 7 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(4) 1/319 ، وليس فيه: ( ونسمع رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نرى الذي يكلمه ولا نسمع كلامه ) .
وأخرجه أيضاً : البزار كما في " كشف الأستار " ( 24 ) من حديث ابن عباس ، به ، من غير طريق شهر وليس فيه اللفظ الذي ذكره المصنف .
(5) في ( ص ) : ( عن ابن عامر أيضاً ، أو ابن عامر وأبي مالك ) .
(6) أخرجه : أحمد 4/129 و164 ، وهذه اللفظة منكرة ، وشهر بن حوشب ضعيف ، وكما أنَّه أخطأ في المتن فكذا أخطأ في السند ، وتفصيل بيان أخطائه في كتابنا " الجامع في العلل " يسر الله اتمامه .
(7) سبق تخريجه .
وقد رُوي الحديث(1) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ(2) ، وجرير بن عبد الله البجليِّ ، وغيرهما(3) .
وهو حديثٌ عظيمٌ جداً ، يشتملُ على شرحِ الدِّين كُلِّه(4) ، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في آخره : ( هذا جبريل أتاكُم يعلِّمكم(5) دينَكُم ) بعد أنْ شرحَ درجةَ الإسلامِ ، ودرجةَ الإيمانِ ، ودرجة الإحسّانِ ، فجعل ذلك كُلَّه ديناً .
واختلفتِ الرِّواية في تقديمِ الإسلامِ على الإيمان وعكسه ، ففي حديث عمرَ الذي خرَّجه مسلمٌ أنّه(6) بدأ بالسُّؤال عن الإسلام ، وفي الترمذي وغيره : أنَّه بدأ بالسؤال عن الإيمان ، كما في حديث أبي هريرة ، وجاء في بعض روايات حديثِ(7) عمرَ أنَّه سألَ عن الإحسّان بين الإسلام والإيمان .
__________
(1) في ( ص ) : ( حديث عمر ) .
(2) أخرجه : البخاري في " خلق أفعال العباد " ( 191 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار "
( 22 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 381 ) و( 382 ) .
(3) أخرجه : الآجري في " الشريعة ": 189 – 190 .
(4) قال القاضي عياض : اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداءً وحالاً ومن أعمال الجوارح ، ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال ، حتى إنَّ علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه .
وقال القرطبي : هذا الحديث يصلح أن يقال له أُم السنة ؛ لما تضمنه من جُمل علم السنة .
انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/146 - 147 ، وفتح الباري 1/166 .
(5) زاد بعدها في ( ص ) : ( أمر ) .
(6) سقطت في ( ص ) .
(7) لم ترد في ( ص ) .
فأمَّا الإسلامُ، فقد فسَّره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأعمالِ الجوارح الظَّاهرة مِنَ القولِ والعملِ، وأوّلُ ذلك : شهادةُ أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسولُ الله ، وهو عملُ اللسانِ ، ثمّ إقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وصومُ رمضانَ، وحجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً .
وهي منقسمةٌ إلى عمل بدني : كالصَّلاة والصومِ ، وإلى عمل ماليٍّ : وهو إيتاءُ الزَّكاةِ ، وإلى ما هو مركَّبٌ منهما : كالحجِّ بالنسبة إلى البعيد عن مَكَّة .
وفي رواية ابنِ حبَّان أضاف إلى ذلك الاعتمارَ ، والغُسْلَ مِنَ الجَنابةِ ،
وإتمامَ الوُضوءِ ، وفي هذا تنبيهٌ على أنَّ جميعَ الواجباتِ الظاهرةِ داخلةٌ في مسمّى الإسلامِ .
وإنَّما ذكرنا هاهنا أصولَ أعمالِ الإسلامِ التي ينبني عليها كما سيأتي شرح ذلك في حديث ابنِ عمرَ : ( بُنِيَ الإسلامُ على خَمسٍ ) في مَوضِعه إنْ شاءَ الله تعالى .
وقوله في بعض الرِّوايات : فإذا فعلتُ ذلك ، فأنا مسلمٌ ؟ قالَ : ( نعم )
يدلُّ على أنَّ مَنْ كَمَّلَ الإتيانَ بمباني الإسلام الخمسِ ، صار مسلماً حقَّاً ، مع أنَّ
مَنْ أقرَّ بالشهادتين ، صار مسلماً حُكماً ، فإذا دخل في الإسلام (1) بذلك ،
أُلزم بالقِيام ببقيَّة خصالِ الإسلام ، ومَنْ تركَ الشَّهادتين ، خرج مِنَ الإسلام ،
وفي خُروجِه مِنَ الإسلام بتركِ الصَّلاةِ خلافٌ مشهورٌ بينَ العُلماء ، وكذلك في
ترك بقيَّة مباني الإسلام الخمس، كما سنذكُره في موضعه إن شاء الله تعالى(2) .
__________
(1) عبارة : ( فإذا دخل في الإسلام ) لم ترد في ( ص ) .
(2) سيأتي عند الحديث الثالث .
وممَّا يدل على أنَّ جميعَ الأعمالِ الظَّاهرةِ تدخُلُ في مسمَّى الإسلام قولُ النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - : ( المُسلم مَنْ سَلِمَ المُسلمُون من لِسانِه ويده )(1) .
وفي " الصحيحين "(2)
__________
(1) أخرجه : الحميدي ( 595 ) ، وأحمد 2/192 و205 و212 ، والبخاري 1/9 ( 10 ) و8/127 ( 6484 ) وفي " الأدب المفرد "، له ( 1144 ) ، ومسلم 1/47 ( 40 ) ( 64 )، وأبو داود ( 2481 ) ، والنسائي 8/105 ، وابن حبان ( 196 ) و( 230 ) و( 399 )
و( 400 )، وابن منده في " الإيمان " ( 309 ) و( 310 ) و( 311 ) و( 312 ) و( 313 )، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 181 ) ، والبيهقي 10/187 ، والبغوي ( 12 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، به .
وأخرجه : أحمد 2/379 ، والترمذي ( 2627 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة "
( 637 ) ، والنسائي 8/104 وفي " الكبرى " ، له ( 11726 ) ، وابن حبان ( 180 ) ، والحاكم 1/10 من حديث أبي هريرة ، به .
وأخرجه : أحمد 3/372 ، ومسلم 1/48 ( 41 ) ( 65 ) ، وابن حبان ( 197 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 314 ) ، والحاكم 1/10 ، والبيهقي 10/187 من حديث جابر بن
عبد الله ، به .
وأخرجه : أحمد 6/21-22، وابن حبان ( 4862 ) ، والطبراني في " الكبير " 18/( 796 )، وابن منده في " الإيمان " ( 315 ) ، والحاكم 1/10-11 ، والبغوي ( 14 ) من حديث فضالة بن عبيد ، به .
وأخرجه : البخاري 1/10 ( 11 ) ، ومسلم 1/48 ( 42 ) ( 66 ) ، والبغوي ( 13 ) من حديث أبي موسى ، به .
وأخرجه : الحاكم 1/11 من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) صحيح البخاري 1/10 ( 12 ) و1/14 ( 28 ) و8/65 ( 6236 ) ، وصحيح مسلم 1/47 ( 39 ) ( 63 ) . =
= ... وأخرجه : أحمد 2/169 ، والبخاري في " الأدب " ( 1013 ) و( 1050 ) ، وأبو داود
( 5194 ) ، وابن ماجه ( 3253 ) ، والنسائي 8/107 وفي " الكبرى " ، له ( 11731 ) ، وابن حبان ( 505 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 317 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
( 8751 ) ، والبغوي ( 3302 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، به .
عن عبدِ الله بنِ عمرٍو : أنَّ رجلاً سألَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - : أيُّ الإسلامِ خيرٌ ؟ قال : ( أنْ تُطْعِمَ الطّعامَ ، وتقرأ السَّلام على مَنْ عرفت ومَنْ لم تعرف ) .
وفي " صحيح الحاكم " (1) عن أبي هريرةَ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (2) قال : ( إنَّ للإسلام صُوىً(3) ومناراً كمنار الطَّريق ، من ذلك : أنْ تعبدَ الله(4) ولا تشركَ به شيئاً ، وتقيمَ الصَّلاةَ ، وتُؤْتِي الزَّكاةَ ، وتصومَ رمضانَ ، والأمرُ بالمعروفِ ، والنَّهيُ عن المُنكرِ ، وتسليمُك على بَني آدم إذا لَقِيتَهم وتسليمُك على أهلِ بيتِكَ إذا دخلتَ عليهم ، فمن انتقصَ منهنَّ شيئاً ، فهو سَهمٌ من الإسلامِ تركه ، ومن يتركهُنَّ فقد نبذَ الإسلامَ وراءَ ظهره ) .
__________
(1) أي : " المستدرك " 1/21 . وفيه لفظ ( صنوأ ) بدل ( صوى ) . أما إطلاق المصنف تسمية صحيح الحاكم على " المستدرك " فهذا تساهل كبير منه - رحمه الله - .
وأخرجه أيضاً : أبو عبيد في " الإيمان " ( 3 )، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 405 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 429 ) ، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " ( 161 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/217 - 218 من طرق عن أبي هريرة ، به ، وهو حديث صحيح .
(2) عبارة : ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) لم ترد في ( ص ) .
(3) الصُّوى : الأعلام المنصوبة من الحجارة في المفازة المجهولة يستدل بها على الطريق ، واحدتها صُوةٌ كقوة : أراد أنَّ للإسلام طرائق وأعلاماً يهتدى بها . النهاية 3/62 .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) .
وخَرَّج ابنُ مردويه مِنْ حديث(1) أبي الدَّرداءِ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( للإسلام ضياءٌ وعلاماتٌ كمنارِ الطَّريقِ ، فرأسُها وجِماعُها شهادةُ أنْ لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وإقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وتَمَامُ الوُضوءِ،
والحُكمُ بكتاب الله وسُنّةِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ، وطاعةُ وُلاة الأمر، وتسليمُكم على أنفُسِكُم، وتسليمُكم على أهليكم(2) إذا دخلتُم بيوتَكم ، وتسليمكم على بني آدم إذا لقيتُموهُم(3) ) وفي إسناده ضعفٌ ، ولعله موقوف (4).
وصحَّ من حديث أبي إسحاق ، عنْ صِلةَ بنِ زُفَرَ ، عن حذيفةَ ، قال : الإسلامُ ثمانيةُ أسهُمٍ : الإسلامُ سهمٌ ، والصَّلاةُ سهمٌ، والزَّكاةُ سهمٌ، والجهادُ سهمٌ ، وحجُّ البيتِ سهمٌ(5) ، وصومُ رمضانَ سهمٌ ، والأمرُ بالمعروفِ سهمٌ ، والنهيُ عنِ المنكرِ سهمٌ ، وخابَ مَنْ لا سَهمَ له. وخرَّجه البزّارُ مرفوعاً(6)، والموقوفُ أصحُّ(7) .
ورواهُ بعضهم عن أبي إسحاقَ، عنِ الحارثِ، عن عليٍّ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، خرَّجه أبو يعلى الموصلي(8)
__________
(1) في ( ص ) : ( طريق ) .
(2) عبارة : ( على أهليكم ) لم ترد في ( ص ) .
(3) أخرجه: الطبراني في "مسند الشاميين" ( 1954 ) من حديث بكر بن سهل ، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن أبي الدرداء، به. وعبد الله بن صالح فيه مقال.
(4) حديث أبي الدرداء قواه العلامة الألباني في " السلسة الصحيحة " ( 333 ) .
(5) عبارة : ( وحج البيت سهم ) لم ترد في ( ص ) .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) كما في " كشف الأستار " ( 336 ) مرفوعاً .
وأخرجه موقوفاً : الطيالسي ( 413 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 337 ) .
قال البزار عقب الحديث ( 337 ) : ( ولم يسنده ولا نعلم أسنده إلا يزيد بن عطاء ) .
(8) في " مسنده " ( 523 ) .
وأخرجه ابن عدي في " الكامل " 3/330 من حديث علي بن أبي طالب ، به .
وغيره (1)، والموقوف على حذيفة أصحُّ . قاله الدَّارقطنيُّ (2) وغيره .
وقوله : ( الإسلام سهمٌ ) يعني : الشَّهادتين ؛ لأنّهما عَلمُ الإسلام ، وبهما يصيرُ الإنسانُ مسلماً .
وكذلك تركُ المحرَّمات داخلٌ في مُسمَّى الإسلام أيضاً ، كما رُوي عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( مِنْ حُسْنِ إسلامِ المَرءِ تركُهُ ما لا يعنيه ) ، وسيأتي في موضعه إنْ شاء الله تعالى(3) .
ويدلُّ على هذا أيضاً ما خرَّجه الإمامُ أحمدُ ، والتِّرمذيُّ ، والنَّسائيُّ مِنْ حديثِ العِرباضِ بنِ ساريةَ(4) ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ضربَ الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جَنَبتَي الصِّراط سُورانِ ، فيهما أبوابٌ مفتَّحَةٌ ، وعلى الأبوابِ ستورٌ مُرخاةٌ ، وعلى بابِ الصِّراط داعٍ يقول : يا أيُّها النّاس ، ادخُلوا الصِّراط جميعاً ، ولا تعوجُّوا ، وداعٍ يدعو من جَوفِ الصِّراطِ ، فإذا أرادَ أنْ يفتحَ شيئاً من تلكَ الأبوابِ ، قال : ويحكَ لا تَفتَحْهُ ، فإنَّك إنْ تفتحه تَلِجْهُ . والصِّراطُ : الإسلامُ . والسُّورانِ : حدودُ اللهِ . والأبوابُ المُفتَّحةُ : محارمُ اللهِ ، وذلك الدّاعي على رأس الصِّراط : كتابُ الله . والدّاعي من فوق : واعظُ اللهِ في قلب كلِّ مسلمٍ ) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في " علله " 3/171 .
(3) عند الحديث الثاني عشر .
(4) هذا من حديث النواس بن سمعان ، وليس العرباض بن سارية ، وهو وهم من المصنف - رحمه الله - .
أخرجه : أحمد 4/182 و183، والترمذي ( 2859 )، والنسائي في " الكبرى " ( 11233 ) وفي " تفسيره " ( 253 ) ، والطبري في " تفسيره " 1/75 ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 2041 ) و( 2143 ) ، والطبراني في " مسند الشاميين " ( 1147 ) و( 2024 ) ، والآجري في " الشريعة " : 12 - 13 ، والحاكم 1/73 من طرق عن النواس بن سمعان ، به ، وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
زاد التِّرمذيُّ : { وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } (1) .
ففي هذا المثلِ الذي ضربه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ الإسلامَ هو الصِّراطُ المستقيم الذي أمرَ الله تعالى (2) بالاستقامةِ عليه ، ونهى عن تجاوُزِ حدوده ، وأنَّ مَنِ ارتكبَ شيئاً مِنَ المحرّماتِ ، فقد تعدّى حدودَه .
وأما الإيمانُ ، فقد فسَّره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بالاعتقادات الباطِنَة ، فقال : ( أنْ تُؤْمِن باللهِ ، وملائكتِه ، وكُتبِه ، ورُسلِهِ ، والبعثِ بعدَ الموتِ ، وتُؤْمِنَ بالقدرِ خيرِهِ وشرِّه ) .
وقد ذكرَ الله في كتابه الإيمانَ بهذه الأصولِ الخمسةِ في مواضع ، كقوله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } (3) . وقال تعالى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } (4) ، وقال تعالى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } (5) .
__________
(1) يونس : 25 .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( رسوله ) .
(3) البقرة : 285 .
(4) البقرة : 277 .
(5) البقرة : 3 - 4 .
والإيمان بالرُّسُل يلزمُ منهُ الإيمانُ بجميع ما أخبرُوا به من المَلائكةِ ، والأنبياء ، والكتابِ(1) ، والبعثِ ، والقدرِ ، وغير ذلك من تفاصيل ما أخبروا به مِنْ صفات الله
تعالى وصفات اليوم الآخر ، كالميزانِ والصراطِ ، والجنَّةِ ، والنَّار .
وقد أُدخِلَ في هذه الآيات الإيمانُ بالقدرِ خيرِه وشرِّه ، ولأجلِ هذه الكلمةِ روى ابنُ عمر هذا الحديث محتجّاً به على مَنْ أنكَرَ القدرَ ، وزعمَ أنَّ الأمرَ
أنفٌ : يعني أنّه(2) مستأَنَفٌ لم يسبق به سابقُ قدرٍ مِنَ اللهِ عز وجل ، وقد غلَّظ
ابنُ عمرَ عليهم ، وتبرّأ منهم ، وأخبرَ أنّه لا تُقبلُ منهم أعمالُهم بدونِ الإيمانِ بالقدر(3) .
والإيمانُ بالقدرِ على درجتين(4) :
إحداهما : الإيمان بأنَّ الله تعالى سبقَ(5) في علمه ما يَعمَلُهُ العبادُ من خَيرٍ
وشرٍّ وطاعةٍ ومعصيةٍ قبلَ خلقهِم وإيجادهم، ومَنْ هُو منهم مِنْ أهلِ الجنَّةِ، ومِنْ أهلِ النَّارِ، وأعدَّ لهُم الثَّوابَ والعقابَ جزاءً لأعمالهم قبل خلقِهم وتكوينهم ، وأنَّه
كتبَ ذلك عندَه وأحصاهُ(6) ، وأنَّ أعمالَ العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه(7) .
__________
(1) في ( ص ) : ( ما أخبروا به غير ذلك من الملائكة والكتب والأنبياء ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : مجموعة الفتاوى لابن تيمية 13/23 .
(4) انظر : شرح العقيدة الواسطية : 442 .
(5) في ( ص ) : ( الإيمان بالله أنه سبق ) .
(6) زاد بعدها في (ص ) : ( وأعد لهم ) .
(7) انظر : شرح العقيدة الواسطية : 442 - 443 .
والدرجةُ الثانية : أنَّ الله تعالى خلقَ أفعالَ عبادِهِ كلَّها(1) مِنَ الكُفر والإيمانِ والطاعةِ والعصيانِ وشاءها منهم ، فهذه الدَّرجةُ(2) يُثبِتُها أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ ، ويُنكرها القدريةُ ، والدرجةُ الأولى أثبتها كثيرٌ مِنَ القدريَّةِ ، ونفاها غُلاتُهم ، كمعبدٍ الجُهنيِّ ، الذي سُئِل ابنُ عمرَ عنْ مقالتِهِ ، وكعمرو بن عُبيدٍ وغيره(3) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( الثانية ) .
(3) انقسم الناس في باب القدر إلى ثلاثة أقسام :
قسم آمنوا بقدر الله - عز وجل - وغلوا في إثباته ، حتى سلبوا الإنسان قدرته واختياره ، وقالوا : إنَّ الله فاعل كل شيء ، وليس للعبد اختيار وَلا قدرة ، وإنما يفعل الفعل مجبراً عليه ، بل إنَّ بعضهم ادعى أنَّ فعل العبد هو فِعل الله ، ولهذا دخل من بابهم أهل الاتحاد والحلول ، وهؤلاء هم الجبرية .
والقسم الثاني قالوا : إنّ العبد مستقل بفعله، وليس لله فيه مشيئة ولا تقدير، حتى غلا بعضهم ، فقال : إنَّ الله لا يعلم فعل العبد إلاّ إذا فعله ، أما قبل فلا يعلم عنه شيئاً ، وهؤلاء هم القدرية ، مجوس هذه الأمُة .
فالأولون غلوا في إثبات أفعال الله وقدره وقالوا : إنَّ الله - عز وجل - يجبر الإنسان على فِعله ، وليس للإنسان اختيار .
والآخرون غلوا في إثبات قدرة العبد ، وقالوا : إنَّ القدرة الإلهية والمشيئة الإلهية لا عِلاقة لها في فِعل العَبد ، فهو الفاعِل المطلق الاختيار .
القسم الثالث : أهل السنة والجماعة ، قالوا : نحن نأخذ بالحق الذي مع الجانبين ، فنقول : إنّ فعل العبد واقع بمشيئة الله وخلق الله ، ولا يمكن أنْ يكون في ملك الله مالا يشاؤه أبداً ، والإنسان له اختيار وإرادة ، ويفرق بين الفِعل الذي يضطر إليه ، والفعل الذي يختاره ، فأفعال العباد باختيارهم وإرادتهم ، ومع ذلك فهي واقعة بمشيئة الله وخلقه . شرح العقيدة الواسطية : 364 .
وقد قال كثيرٌ من أئمة السّلفِ : ناظرُوا القدريَّةَ بالعلمِ ، فإنْ أقرُّوا به
خُصِمُوا ، وإنْ جحدوه ، فقد كفروا ، يريدونَ أنَّ مَنْ(1) أنكَرَ العلمَ القديمَ السَّابِقَ بأفعالِ العبادِ ، وأنَّ الله قَسمهم قبلَ خلقِهم إلى شقيٍّ وسعيدٍ ، وكتبَ ذلك عندَه في كتابٍ حفيظٍ ، فقد كذَّب بالقُرآن ، فيكفُرُ بذلك ، وإنْ أقرُّوا بذلك ، وأنكروا أنَّ الله خلق أفعالَ عباده ، وشاءها ، وأرادها منهم إرادةً كونيةً قدريةً ، فقد خصمُوا ؛ لأنَّ ما أقرُّوا به حُجَّةٌ عليهم فيما أنكروه . وفي تكفير هؤلاءِ نزاعٌ مشهورٌ بينَ العُلماءِ(2) .
وأمّا من أنكرَ العلمَ القديمَ ، فنصَّ الشّافعيُّ وأحمدُ على تكفيرِهِ ، وكذلك غيرُهما مِنْ أئمةِ الإسلام(3) .
فإنْ قيل : فقدْ فرَّق النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بينَ الإسلام والإيمانِ ، وجعلَ الأعمالَ كلَّها من الإسلامِ ، لا مِنَ الإيمانِ ، والمشهورُ عنِ السَّلفِ وأهلِ الحديثِ أنَّ الإيمانَ : قولٌ وعملٌ ونيةٌ ، وأنَّ الأعمالَ كلَّها داخلةٌ في مُسمَّى الإيمانِ(4) . وحكى الشافعيُّ على ذلك إجماعَ الصَّحابةِ والتَّابعين ومن بعدَهم ممَّن أدركهم(5) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) انظر : شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز : 271 – 272 .
(3) انظر : مجموعة الفتاوي لابن تيمية 7/241 .
(4) انظر : الإيمان لابن تيمية : 231 ، ومختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 177 .
(5) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 177 .
وأنكرَ السَّلفُ على مَنْ أخرجَ الأعمالَ عنِ الإيمانِ إنكاراً شديداً ، وممَّن أنكرَ ذلك على قائله، وجعلَه قولاً مُحدَثاً : سعيدُ بنُ جبيرٍ ، وميمونُ بنُ مِهرانَ ، وقتادةُ، وأيُّوبُ السَّختيانيُّ ، وإبراهيمُ النَّخعي(1) ، والزُّهريُّ ، ويحيى بنُ أبي كثيرٍ ، وغيرُهم . وقال الثَّوريُّ : هو رأيٌ محدَثٌ ، أدركنا الناس على غيره . وقال الأوزاعيُّ : كان مَنْ مضى ممَّن سلف لا يُفَرِّقون بين الإيمان(2) والعمل(3) .
وكتب عمرُ بنُ عبد العزيز إلى أهل الأمصارِ : أمَّا بعدُ ، فإنَّ للإيمانِ فرائضَ وشرائعَ وحدوداً وسنناً(4) ، فمن استكملَها ، استكملَ الإيمانَ ، ومن لم يَستكْمِلها ، لم يستكملِ الإيمانَ ، ذكره البخاري في " صحيحه "(5) .
قيل : الأمر على ما ذكره ، وقد دلّ على دُخول الأعمالِ في الإيمان قولُه تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } (6) .
__________
(1) في ( ص ) : ( والنخعي ) فقط .
(2) في ( ص ) : ( لا يعرفون الإيمان ) .
(3) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد :
177-178 .
(4) عبارة : ( وحدوداً وسنناً ) لم ترد في ( ص ) .
(5) 1/8 قبيل ( 8 ) تعليقاً ، وقد وصله ابن أبي شيبة في المصنف ( 30962 ) طبعة الرشد .
(6) الأنفال : 2-4 .
وفي " الصحيحين "(1) عنِ ابنِ عبّاسٍ : أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لوفدِ عبدِ القيسِ :
( آمركُم بأربعٍ : الإيمانِ بالله وحده (2)، وهل تدرونَ ما الإيمانُ بالله ؟ شهادةُ أنْ لا إله إلاّ الله ، وإقامِ الصّلاةِ ، وإيتاءِ الزكاةِ ، وصومِ رمضانَ ، وأنْ تُعطُوا من المَغنَمِ الخُمْسَ ) .
وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الإيمانُ
بِضعٌ وسَبعونَ ، أو بضعٌ وستُّون شُعبة ، فأفضلُها : قولُ لا إله إلا الله ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق ، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان ) ولفظه لمسلم .
__________
(1) صحيح البخاري 1/20 ( 53 ) و1/32 ( 87 ) و1/139 ( 523 ) و2/131 ( 1398 ) و4/98 ( 3095 ) و4/220 ( 3510 ) و5/213 ( 4368 ) و( 4369 ) و8/50
( 6176 ) و9/111 ( 7266 ) و9/197 ( 7556 ) ، وصحيح مسلم 1/35 ( 17 )
( 23 ) و( 24 ) و1/36 ( 17 ) ( 25 ) .
(2) وحده ) لم ترد في ( ص ) .
(3) صحيح البخاري 1/9 ( 9 ) ، وصحيح مسلم 1/46 ( 35 ) ( 57 ) و( 58 ) .
وأخرجه : معمر في"جامعه" ( 20105 ) ، والطيالسي ( 2402 ) ، وأبو عبيد في " الإيمان " ( 4 ) ، وأحمد 2/379 و414 و442 و445 ، والبخاري في "الأدب المفرد" ( 598 ) ، =
= ... وأبو داود ( 4676 ) ، وابن ماجه ( 57 ) ، والترمذي ( 2614 ) ، والنسائي 8/110 وفي " الكبرى " ، له ( 11735 ) و( 11736 ) و( 11737 ) من حديث أبي هريرة ، به .
وفي " الصحيحين " (1) عن أبي هُريرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يزني الزّاني حينَ يزني وهو مُؤمنٌ ، ولا يَسرقُ السّارق حين يسرق وهو مؤمنٌ ، ولا يشرب الخمر حينَ يشربها وهو مؤمنٌ ) فلولا أنَّ تركَ هذه الكَبَائِرَ مِنْ مُسمَّى الإيمان لما انتفى اسمُ الإيمانِ عن مرتكبِ شيءٍ منها ؛ لأنَّ الاسمَ لا ينتفى إلاَّ بانتفاءِ بعض أركانِ المسمّى ، أو واجباتِه(2) .
وأما وجهُ الجمعِ بينَ هذه النُّصوص وبينَ حديثِ سُؤال(3) جبريلَ - عليه السلام - عَنِ الإسلامِ والإيمانِ ، وتفريق النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وإدخاله الأعمالَ في مُسمَّى الإسلامِ دونَ مُسمَّى الإيمانِ ، فإنَّه يتضح بتقريرِ أصلٍ ، وهو أنّ مِنَ الأسماءِ ما يكونُ شاملاً لمسمّياتٍ مُتعدِّدةٍ عندَ إفرادِه وإطلاقه ، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالاًّ على بعضِ تلك المسمَّياتِ ، والاسمُ المقرونُ به دالٌّ على باقيها ، وهذا كاسم الفقيرِ والمسكينِ ، فإذا أُفردَ أحدُهما دخل فيه كلُّ مَنْ هو محتاجٌ ، فإذا قُرن أحدُهما بالآخر دلَّ أحدُ الاسمين على بعضِ أنواعِ ذوي الحاجاتِ(4) ، والآخر على باقيها ، فهكذا اسمُ الإسلامِ والإيمانِ : إذا أُفرد أحدُهما ، دخل فيه الآخر ، ودلّ بانفرادِه على ما يدلُّ عليه الآخرُ(5) بانفراده ، فإذا قُرِنَ بينَهُما دلّ أحدُهما على بعض ما يدلُّ عليه بانفرادهِ ، ودلَّ الآخر على الباقي(6) .
__________
(1) صحيح البخاري 3/178 ( 2475 ) و7/135 ( 5578 ) و8/195 ( 6772 ) و8/204
( 6810 ) ، وصحيح مسلم 1/54 ( 57 ) ( 100 ) و( 101 ) و1/55 ( 57 ) ( 102 ) و( 103 ) و( 104 ) و( 105 ) .
(2) انظر : الإيمان لابن تيمية : 240 و249 .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) في ( ص ) : ( بعض ذي الحاجة ) .
(5) في ( ص ) : ( الاسم ) .
(6) انظر : الإيمان لابن تيمية : 261 .
وقد صرَّح بهذا المعنى جماعةٌ مِنَ الأئمّةِ . قال أبو بكر الإسماعيليُّ في رسالته إلى أهل الجبل : قال كثيرٌ مِنْ أهلِ السُّنَّةِ والجماعة : إنّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ(1) ، والإسلام فعل ما فُرِضَ على الإنسانِ أنْ يفعَله إذا ذكر كلُّ اسمٍ على حِدَتِه مضموماً إلى
الآخر ، فقيل : المؤمنونَ والمسلمونَ جميعاً مفردين ، أُريدَ بأحدهما معنى لم يُرَدْ بالآخر ، وإذا ذُكِرَ أحدُ الاسمين ، شَمِلَ(2) الكُلَّ وعمَّهم(3) .
وقد ذكر هذا المعنى أيضاً الخطابيُّ في كتابه " معالم السنن "(4) ، وتَبِعَهُ عليه جماعةٌ من العُلَماء من بعده .
ويدلُّ على صحَّةِ ذلك أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَّرَ الإيمانَ عند ذكرِه مفرداً في حديث وفد عبدِ القيسِ بما فسّر به الإسلامَ المقرونَ بالإيمانِ في حديثِ جبريلَ(5) ، وفسَّر في حديثٍ آخرَ الإسلامَ بما فسّر به الإيمانَ ، كما في " مسند الإمام أحمد " (6)
__________
(1) انظر : الإيمان لابن تيمية : 259 ، ومختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 173 .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( الآخر ) .
(3) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 176-177 .
(4) 4/292 . وانظر : مجموعة الفتاوى 7/225 .
(5) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 177 .
(6) 4/114 .
وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 20107 ) ، وعبد بن حميد ( 301 ) من حديث عمرو بن عبسة ، به ، وهو حديث صحيح .
عن عمرو بن عَبسة ، قال : جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، ما الإسلامُ ؟ قال(1) : ( أنْ تُسْلِمَ قلبَكَ للهِ ، وأنْ يسلمَ المسلمونَ مِنْ لِسَانِكَ ويَدكَ ) ، قال : فأي الإسلام أفضلُ ؟ قال: ( الإيمان ) . قال: وما الإيمان ؟ قال : ( أنْ تُؤْمِنَ باللهِ ، وملائكته ، وكُتبهِ ، ورُسلِه ، والبعثِ بعدَ الموتِ ) . قال : فأيُّ الإيمانِ أفضلُ ؟ قال : ( الهِجْرَةُ ) . قال : فما الهجرةُ ؟ قال : ( أن تَهجُر السُّوءَ ) ، قال : فأيُّ الهِجْرةِ أفضلُ ؟ قال : ( الجهاد ) . فجعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإيمانَ أفضلَ الإسلامِ ، وأدخلَ فيه الأعمالَ .
وبهذا التَّفصيل يظهرُ تحقيقُ القولِ في مسألةِ الإسلامِ والإيمانِ : هل هما واحدٌ ، أو هما مختلفان ؟
فإنَّ أهلَ السُّنَّةِ والحديثِ مختلفون في ذلك، وصنَّفُوا في ذلك تصانيف متعددةً ، فمنهم من يدَّعِي أنَّ جُمهورَ أهلِ السُّنَّةِ على أنَّهما شيءٌ واحدٌ(2) : منهم محمدُ بن نصرٍ المروزيُّ(3) ، وابنُ عبد البرِّ ، وقد رُويَ هذا القولُ عنْ سفيانَ الثَّوريِّ مِنْ رواية أيُّوبَ بن سُويدٍ الرَّمليِّ عنه ، وأيُّوب فيه ضعف .
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .
(2) انظر : الإيمان لابن تيمية 261 - 262 .
(3) انظر : كلام المروزي في هذه المسألة في كتابه " تعظيم قدر الصلاة " عقب الحديث (568) . وانظر : الإيمان لابن تيمية : 282 و286 ، ومجموعة الفتاوى 7/225 .
ومنهم من يحكي عن أهل السُّنَّةِ التَّفريقَ بينهما(1) ، كأبي بكر بن السَّمعانيِّ وغيره ، وقد نُقِلَ التفريقُ بينهما عَنْ كثيرٍ من السَّلَفِ ، منهم : قتادةُ ، وداودُ بنُ أبي هند ، وأبو جعفر الباقر ، والزُّهريُّ ، وحمادُ بن زيد ، وابن مهديٍّ ، وشريكٌ ، وابنُ أبي ذئب ، وأحمد بن حَنْبل ، وأبو خيثمة ، ويحيى بنُ معينٍ ، وغيرهم ،
على اختلافٍ بينَهم في صفة التَّفريق بينَهُما ، وكان الحسنُ وابنُ سيرين يقولان
: ( مسلمٌ ) ويهابان ( مُؤمنٌ )(2) .
وبهذا التَّفصيل الذي ذكرناهُ يزولُ الاختلافُ ، فيُقالُ : إذا أُفردَ كلٌّ مِنَ الإسلامِ والإيمانِ بالذِّكرِ فلا فرقَ بينهما حينئذٍ ، وإنْ قُرِنَ بين الاسمينِ ، كان بينَهما فَرقٌ(3) .
__________
(1) انظر : الإيمان لابن تيمية : 282 ، ومجموعة الفتاوى 7/225 و233 ، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة 1/108 .
(2) أخرجه : عبد الله بن أحمد في " السنة " ( 658 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة "
( 567 ) .
(3) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 176 .
والتَّحقيق في الفرق بينهما: أنَّ الإيمانَ هو تصديقُ القلبِ ، وإقرارُهُ ، ومعرفته ، والإسلامُ : هو استسلامُ العبدِ للهِ ، وخُضُوعُه ، وانقيادهُ له ، وذلك يكونُ بالعملِ ، وهو الدِّينُ ، كما سمَّى الله تعالى في كتابِه الإسلامَ ديناً(1) ، وفي حديث جبريل سمَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإسلامَ والإيمانَ والإحسان ديناً ، وهذا أيضاً ممّا يدلُّ على أنَّ أحدَ الاسمين إذا أُفردَ دَخلَ فيه الآخرُ ، وإنّما يفرَّقُ بينهما حيثُ قُرِنَ أحدُ الاسمين بالآخر ، فيكونُ حينئذٍ المرادُ بالإيمانِ : جنسَ تصديقِ القلبِ ، وبالإسلامِ جنسَ العمل(2) .
وفي " مسند الإمام أحمد " (3)
__________
(1) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 177 .
(2) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 176 .
(3) 3/134 .
وأخرجه : أبو عبيد في " الإيمان " : 6 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 20 ) ، وأبو يعلى ( 2923 ) ، والعقيلي في " الضعفاء " 3/250 ، وابن حبان في " المجروحين " 2/108 ، وابن عدي في " الكامل " 6/353، والخطيب في " الموضح " 2/249 من حديث أنس بن مالك ، به ، وإسناده ضعيف تفرد به عليُّ بن مَسْعَدة ، وهو ضعيف عند التفرد .
عَنْ أنسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الإسلامُ علانِيَةٌ ، والإيمانُ في القلبِ ) . وهذا لأنّ الأعمالَ تظهرُ علانيةً ، والتَّصديقُ في القلب لا يظهرُ . وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في دعائه إذا صلّى على الميِّت : ( اللّهُمَّ مَنْ أحييتَهُ منّا فأحيهِ على الإسلامِ ، ومَن تَوفَّيتَهُ منّا فتوفَّه على الإيمان(1) ) ؛ لأنَّ الأعمال بالجوارحِ إنَّما يُتَمكَّنُ منه (2) في الحياةِ ، فأمّا عندَ الموتِ فلا يبقى غيرُ التَّصديق بالقلبِ(3) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 2/368 ، وأبو داود ( 3201 ) ، وابن ماجه ( 1498 ) ، والترمذي
( 1024 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 1080 ) و( 1081 ) ، وأبو يعلى
( 6009 ) و( 6010 ) ، وابن حبان ( 3070 ) ، والحاكم 1/358 ، والبيهقي 4/41 من حديث أبي هريرة ، به ، وهذا الحديث معلول بالإرسال ، وقد رجح الرواية المرسلة أبو حاتم وأبو زرعة كما في " العلل " لابن أبي حاتم ( 1047 ) و(1058 ) على أن الترمذي قال عن الحديث : ( حسن صحيح ) .
وللحديث طرق أخرى .
(2) في ( ص ) : ( وقته ) .
(3) انظر : الإيمان لابن تيمية : 207 .
ومن هُنا قال المحقِّقون مِنَ العُلماءِ : كلُّ مُؤمِنٍ مُسلمٌ ، فإنَّ من حقَّق
الإيمان ، ورسخ في قلبه، قام بأعمال الإسلام(1) ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا وإنَّ في
الجَسَدِ مُضغةً ، إذا صَلحَتْ صَلَحَ الجسدُ كلُّه ، وإذا فَسَدتْ فسدَ الجَسَدُ كلُّه ، ألا وهي القَلبُ (2) ) ، فلا يتحقَّقُ القلبُ بالإيمان إلاَّ وتنبعِثُ الجوارحُ في
أعمالِ الإسلامِ ، وليس كلُّ مسلمٍ مؤمناً ، فإنَّه قد يكونُ الإيمانُ ضعيفاً ، فلا يتحقَّقُ القلبُ به تحقُّقاً تامّاً مع عمل جوارِحِه بأعمال الإسلام ، فيكون مسلماً ، وليس بمؤمنٍ الإيمانَ التَّامَّ ، كما قال تعالى : { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } (3) ، ولم يكونوا مُنافقينَ
بالكُلِّيةِ على أصحِّ التَّفسيرينِ، وهو قولُ ابنِ عبّاسٍ وغيره(4)، بل كان إيمانُهم ضعيفاً ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ
شَيْئاً } (5) ، يعني : لا ينقصُكم من أجورِها ، فدلَّ على أنَّ معهم من الإيمانِ ما تُقبَلُ به أعمالُهم(6) .
__________
(1) انظر : مجموعة الفتاوى 7/229 .
(2) سيأتي عند الحديث السادس .
(3) الحجرات : 14 .
(4) قول ابن عباس أخرجه الطبري في " تفسيره " ( 24611 ) . وانظر : زاد المسير 7/476 - 477 ، وتفسير ابن كثير : 1753 ، ط دار ابن حزم .
(5) الحجرات : 14 .
(6) انظر : تفسير الطبري ( 24615 ) ، وتفسير البغوي 4/269 ، وزاد المسير 7/477 .
وكذلك قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص لما قال له : لم(1) تعطِ فلاناً وهو
مؤمن ؟ فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أو مسلمٌ(2)
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( لا ) .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 198 ) ، والحميدي ( 68 ) و( 69 ) ، وأحمد 1/176 و182 ،
وعبد بن حميد ( 140 ) ، والدورقي في " مسند سعد بن أبي وقاص " ( 11 ) ، والبخاري 1/13 ( 27 ) و2/153 ( 1478 ) ، ومسلم 1/91 (150 ) ( 236 ) و( 237 ) =
= و3/104 (150) ( 236 ) و( 237 ) و3/104 ( 150 ) ( 131 )، وأبو داود ( 4683 ) و( 4685 ) ، والبزار ( 1087 ) و( 1088 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة "
( 560 ) و( 561 ) و( 562 )، والنسائي 8/103 و104 وفي " الكبرى "، له ( 11517 ) و( 11723 ) و( 11724 ) وفي " تفسيره " ( 537 ) ،وأبو يعلى ( 733 ) و( 778 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 24608 ) ، والشاشي في " مسنده " ( 89 ) و( 91 ) ، وابن حبان ( 163 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 161 ) و( 162 ) ، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1494 ) و( 1495 )، وأبو نعيم في " الحلية " 6/191 ، والخطيب في " تاريخه " 3/119 من حديث سعد بن أبي وقاص ، قال : أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً ، فقال سعد : يا نبي الله ، أعطيت فلاناً وفلاناً ، ولم تعط فلاناً شيئاً ، وهو مؤمن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أو مسلم ) حتى أعادها سعدٌ ثلاثاً ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( أو مسلم ) ، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إني لأعطي رجالاً ، وأدع من هو أحب إلي منهم ، فلا أعطيه شيئاً ، مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم ) . اللفظ لأحمد 1/176 .
) يُشيرُ إلى أنَّه لم يُحقِّق مقامَ الإيمانِ ، وإنَّما هو في مقامِ الإسلامِ الظاهرِ ، ولا ريبَ أنَّه متى ضَعُفَ الإيمانُ الباطنُ ، لزمَ منه ضعفُ أعمالِ الجوارحِ الظاهرةِ أيضاً ، لكن اسم الإيمان يُنفى عمّن تركَ شيئاً مِنْ واجباتِه ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - (1) : ( لا يزني الزاني حينَ يزني وهو مؤمنٌ(2) ) .
وقد اختلف أهلُ السُّنَّة : هل يُسمَّى مؤمناً ناقصَ الإيمانِ ، أو يقال : ليس بمؤمنٍ ، لكنَّهُ مسلمٌ ، على قولين ، وهما روايتانِ عنْ أحمدَ(3) .
وأمَّا اسمُ الإسلامِ، فلا ينتفي بانتفاءِ بعض واجباتِهِ ، أو انتهاكِ بعضِ محرَّماته ، وإنَّما يُنفى بالإتيانِ بما يُنافيه بالكُلِّيَّةِ ، ولا يُعرَفُ في شيءٍ من السُّنَّةِ الصَّحيحةِ نفيُ الإسلامِ عمَّن تركَ شيئاً من واجباتِهِ ، كما يُنفى الإيمانُ عمَّن تركَ شيئاً من واجباتِهِ ، وإنْ كان قد وردَ إطلاقُ الكُفرِ على(4) فعلِ بعض المحرَّماتِ ، وإطلاقُ النِّفاقِ أيضاً .
__________
(1) - صلى الله عليه وسلم - ) لم ترد في ( ج ) .
(2) تقدم تخريجه .
(3) في رواية حنبل بن إسحاق قال : قلت لأبي عبد الله : إذا أصاب الرجل ذنباً من زنا أو سرقة يزايله إيمانه ؟ قال : هو ناقص الإيمان فخلع منه كما يخلع الرجل من قميصه ، فإذا تاب وراجع عاد إليه إيمانه .
وفي رواية له أيضاً قال : سمعت أبا عبد الله وسئل عن قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) قال: هكذا يروى الحديث ويروى عن أبي جعفر ( أي: محمد بن علي بن =
= ... الحسين ) قال : ( لا يزني الزاني … ) قال يخرج : من الإيمان إلى الإسلام ، فالإيمان مقصور في الإسلام فإذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام . انظر : المسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل 1/110 .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( من ) .
واختلفَ العلماءُ : هل يُسمى مرتكبُ الكبائر كافراً كفراً أصغر أو منافقاً النِّفاق الأصغرَ ، ولا أعلمُ أنَّ أحداً منهم أجاز إطلاق نفي اسمِ الإسلام عنه ، إلاَّ أنَّه رُوي عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قال : ما تاركُ الزَّكاةِ بمسلمٍ(1) ، ويُحتملُ أنَّه كان يراه كافراً بذلك ، خارجاً من الإسلام .
وكذلك رُوي عن عمر فيمن تمكَّن مِنَ الحجِّ ولم يحجَّ أنَّهم ليسوا بمسلمين ، والظَّاهرُ أنّه كان يعتقد كفرَهم ، ولهذا أراد أنْ يضربَ عليهمُ الجزيةَ يقول : لم
يدخُلوا في الإسلامِ بعدُ ، فهم مستمرُّون على كتابيتهم(2) .
وإذا تبيَّن أنَّ اسمَ الإسلامِ لا ينتفي إلاّ بوجودِ ما ينافيه ، ويُخرجُ عن المِلَّةِ بالكلِّيَّةِ ، فاسمُ الإسلامِ إذا أُطلِقَ أو اقترنَ به المدحُ ، دخل فيه الإيمانُ كلُّه مِنَ التَّصديقِ وغيره ، كما سبق في حديثِ عمرو بن عبسَة(3) .
وخرَّج النَّسائيُّ(4)
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 9828 ) .
(2) قال الحافظ ابن كثير في " تفسيره " : 385 ط دار ابن حزم ، روى سعيد بن منصور في
" سننه " عن الحسن البصري ، قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لقد هممت أنْ أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا إلى كل من له جدة ولم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين . وعزاه السيوطي في " الدر المنثور " 2/100 لسعيد بن منصور .
وروى أبو بكر الإسماعيلي كما في " تفسير ابن كثير " : 385 ، ط دار ابن حزم ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة كما في " الدر المنثور " 2/101 عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، قال : من أطاق الحج ولم يحج ، فسواءٌ عليه مات يهودياً ، أو نصرانياً .
(3) تقدم تخريجه .
(4) في " الكبرى " ( 8593 ) .
وأخرجه أيضاً : أحمد 4/110 و5/288 ، وأبو يعلى ( 6829 ) ، وابن حبان ( 5972 ) ، والطبراني في " الكبير " 17/( 980 ) و( 981 ) ، والحاكم 1/19 ، والبيهقي 9/116 من حديث عقبة بن مالك ، به . وهو حديث صحيح .
مِنْ حديثِ عقبة بن مالك : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ سريّةً ، فغارت على قومٍ (1)، فقال رجلٌ منهم : إني مُسلمٌ ، فقتلهُ رجلٌ منَ السَّريَّةِ ، فنُمي(2) الحديثُ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال فيه قولاً شديداً ، فقال الرجلُ : إنَّما قالها تعوُّذاً مِنَ القتل ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله أبى عليَّ أنْ أقتل مؤمناً ) ثلاث مرات .
فلولا أنَّ الإسلام المطلق يدخُلُ فيه الإيمانُ والتَّصديقُ بالأصولِ الخمسةِ ، لم يَصِرْ مَنْ قالَ : أنا مسلمٌ مؤمناً بمجرَّدِ هذا القول ، وقد أخبرَ الله عن مَلِكَةِ سبأ أنَّها دخلت في الإسلام بهذه الكلمة : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (3) ، وأخبر عن يوسف - عليه السلام - أنَّه دعا بالموت على الإسلام . وهذا كلُّه يدل على أنَّ الإسلام المطلقَ يدخُلُ فيه ما يدخُلُ في الإيمان مِنَ التَّصديق .
وفي " سنن ابن ماجه " (4) عن عديِّ بن حاتمٍ ، قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا عديُّ، أسلم تسلم ) ، قلت : وما الإسلام ؟ قال : ( تشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وتشهدُ أنِّي رسولُ الله ، وتؤمن بالأقدارِ كلِّها ، خيرها وشرِّها ، حلوِها ومرِّها ) فهذا نصٌّ في أنَّ الإيمان بالقدر مِنَ الإسلامِ .
__________
(1) عبارة : ( على قوم ) لم ترد في ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( فانتهى ) .
(3) النمل : 44 .
(4) 87 ) . وأخرجه أيضاً : الطبراني في " الكبير " 17/( 138) مطولاً ، والحديث إسناده ضعيف جداً من أجل عبد الأعلى بن أبي المساور فهو متروك .
ثم إنَّ الشهادتين مِنْ خصالِ الإسلامِ بغير نزاعٍ ، وليسَ المرادُ الإتيان بلفظهما دونَ التَّصديق بهما ، فعُلِمَ أنَّ التّصديقَ بهما داخلٌ في الإسلامِ ، قد فسّرَ الإسلامَ المذكورَ في قوله تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ } (1) بالتَّوحيد والتَّصديق طائفةٌ مِنَ السَّلف ، منهم محمدُ بنُ جعفر بنِ الزُّبير(2) .
__________
(1) آل عمران : 19 .
(2) أخرج : الطبري في " تفسيره " ( 5319 ) عن محمد بن جعفر بن الزبير : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ } ، أي : ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للرب والتصديق للرسل .
وأما إذا نُفي الإيمانُ عَنْ أحدٍ ، وأُثبتَ له الإسلامُ ، كالأعراب الذينَ أخبرَ الله عنهم ، فإنّه ينتفي رسُوخُ الإيمانِ في القلبِ ، وتثبُت لهم المشاركةُ في أعمالِ الإسلامِ الظَّاهرةِ مع نوعِ إيمانٍ يُصحِّحُ لهمُ العملَ ، إذ لولا هذا القدر مِنَ الإيمانِ(1) لم يكونُوا مسلمين ، وإنَّما نفي عنهُم الإيمانِ ؛ لانتفاء ذوقِ حقائقِه ، ونقصِ بعضِ واجباته ، وهذا مبنيٌّ على أنَّ التّصديقَ القائم بالقلوبِ متفاضلٌ ، وهذا هو الصَّحيحُ ، وهو أصحُّ الرِّوايتين عَنْ أحمد(2) ، فإنَّ إيمانَ الصِّدِّيقين الذين يتجلَّى الغيبُ لقلوبهم حتى يصيرَ كأنَّه شهادةٌ ، بحيث لا يقبلُ التَّشكيكَ ولا الارتيابَ ، ليس كإيمانِ غيرِهم ممَّن لم يبلغ هذه الدرجة بحيث لو شُكِّكَ لدخلهُ الشكُّ ، ولهذا جعلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مرتبةَ الإحسّانِ أنْ يعبُد العبدُ ربَّه كأنَّه يراهُ ، وهذا لا يحصلُ لِعمومِ المؤمنينَ ، ومن هنا قال بعضهم : ما سبقكم أبو بكرٍ بكثرة صومٍ ولا صلاةٍ ، ولكن بشيءٍ وقرَ في
صدره(3) .
__________
(1) عبارة : ( من الإيمان ) لم ترد في ( ص ) .
(2) انظر : مجموعة الفتاوى 7/258 ، والإيمان لابن تيمية : 190 ، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل 1/111 .
(3) قال العراقي : ( لا أصل لهذا مرفوعاً ، وإنما يعرف من قول بكر بن عبد الله المزني ، رواه الحكيم الترمذي في " نوادره " ) .
وورد أيضاً بلفظ : ( ما فضلكم أبو بكر بفضل صومٍ ولا صلاةٍ ، ولكن بشيءٍ وقرَ في قلبه ) . انظر : تخريج أحاديث الإحياء ( 85 ) و( 141 ) ، والأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة
( 801 ) و( 1307 ) .
وسُئِل ابنُ عمرَ : هل كانتِ الصحابةُ يضحكون ؟ فقال : نعم والإيمانُ في قلوبهم أمثالُ الجبالِ(1) . فأينَ هذا ممّن الإيمان في قلبه يَزنُ ذرَّةً أو شعيرةً ؟! كالّذينَ يخرجونَ من أهلِ التّوحيد مِنَ النارِ ، فهؤلاء يصِحُّ أنْ يُقالَ : لم يدخُلِ الإيمانُ في قُلوبهم لضعفِه عندهم .
وهذه المسائلُ - أعني : مسائل الإسلامِ والإيمانِ والكُفرِ والنِّفاقِ - مسائلُ عظيمةٌ جداً، فإنَّ الله علَّق بهذه الأسماءِ السَّعادةَ، والشقاوةَ ، واستحقاقَ الجَنَّةِ والنَّار ، والاختلافُ في مسمّياتِها أوّلُ(2) اختلافٍ وقعَ في هذه الأُمَّةِ ، وهو خلافُ الخوارجِ
للصَّحابة ، حيثُ أخرجُوا عُصاةَ المُوحِّدينَ مِنَ الإسلام بالكُلِّيَّةِ ، وأدخلوهُم في دائرةِ الكُفر ، وعاملوهم معاملةَ الكُفَّارِ ، واستحلُّوا بذلكَ دماءَ المسلمين وأموالهم ، ثمَّ حدَث بعدَهم خلافُ المعتزلة وقولُهم بالمنْزلة بينَ المنْزلتين، ثمَّ حدثَ خلافُ المرجئةِ ، وقولُهم : إنَّ الفاسقَ مؤمنٌ كاملُ الإيمانِ(3) .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/311 .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) انظر : الإيمان لابن تيمية : 191 و202 ، ومجموعة الفتاوى 7/206 - 207 .
وقد صنَّفَ العلماءُ قديماً وحديثاً في هذه المسائل تصانيفَ متعدِّدةً ، وممّن صنَّف في الإيمانِ مِنْ أئمَّةِ السَّلفِ : الإمامُ أحمدُ ، وأبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلامٍ(1) ، وأبو بكر بنُ أبي شيبةَ(2) ، ومحمدُ بنُ أسلمَ الطُّوسيُّ . وكثُرت فيه التصانيفُ بعدهم مِنْ جميعِ الطوائفِ(3) ، وقد ذكرنا هاهنا نكتاً جامعةً لأصولٍ كثيرةٍ مِنْ هذه المسائلِ والاختلاف فيها ، وفيه - إن شاء الله - كفايةٌ .
فصل
قد تقدَّم أنّ الأعمالَ تدخُلُ في مُسمَّى الإسلامِ ومسمَّى الإيمانِ أيضاً ، وذكرنا ما يدخلُ في ذلك مِنْ أعمالِ الجوارحِ الظَّاهِرَةِ ، ويدخُلُ في مسمَّاها أيضاً أعمالُ الجوارحِ الباطنةِ .
فيدخل في أعمالِ الإسلامِ إخلاصُ الدِّين للهِ ، والنُّصحُ له ولعبادهِ ، وسلامةُ القلبِ لهم مِنَ الغِشِّ والحسدِ والحِقْدِ ، وتوابعُ ذلك مِنْ أنواع الأذى .
__________
(1) وهو مطبوع بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني نشر المكتب الإسلامي 1983 م ، وهو مطبوع أيضاً ضمن كنوز السنة بتحقيق الشيخ الألباني دار الأرقم الكويت .
(2) وهو مطبوع بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني سنة 1385 ه الطبعة العمومية دمشق .
(3) من هذه التصانيف : الإيمان للعدني ، والإيمان لابن منده ، والإيمان لابن تيمية ، والإيمان لأبي يعلى بن الفراء ، مخطوط له نسخة مصورة في مكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عن الظاهرية مجموع ( 987 ) .
ويدخُلُ في مسمَّى الإيمانِ وجَلُ القُلوبِ مِنْ ذكرِ اللهِ ، وخشوعُها عندَ سماع ذكرِه وكتابه ، وزيادةُ الإيمانِ بذلك ، وتحقيقُ التوكُّل على اللهِ ، وخوفُ اللهِ سرَّاً وعلانيةً ، والرِّضا بالله ربّاً ، وبالإسلامِ ديناً ، وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسولاً ، واختيارُ تَلَفِ النُّفوسِ بأعظمِ أنواعِ الآلامِ على الكُفرِ ، واستشعارُ قُربِ الله مِنَ العَبدِ ، ودوامُ استحضارِهِ ، وإيثارُ محبَّةِ اللهِ ورسوله على محبّةِ (1) ما سواهما ، والمحبةُ(2) في الله والبُغضُ في الله ، والعطاءُ له ، والمنعُ له ، وأنْ يكونَ جميعُ الحركاتِ والسَّكناتِ له ، وسماحةُ النُّفوسِ بالطَّاعةِ الماليَّةِ والبدنيَّةِ ، والاستبشارُ بعملِ الحسّنات ، والفرحُ بها ، والمَساءةُ بعملِ السَّيئاتِ والحزنُ عليها ، وإيثارُ المؤمنينَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنفسهم وأموالهم ، وكثرةُ الحياءِ ، وحسنُ الخلقِ ، ومحبَّةُ ما يحبُّه لنفسه لإخوانه المؤمنين ، ومواساةُ المؤمنينَ ، خصوصاً الجيران ، ومعاضدةُ المؤمنين ، ومناصرتهم ، والحزنُ بما يُحزنُهم .
ولنذكُرْ بعض النُّصوص الواردة بذلك(3) :
فأمَّا ما ورد في دُخوله في اسم الإسلام ، ففي " مسند الإمام أحمد " (4) ،
و" النسائي "(5)
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( والحب ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) 5/3 و4 و5 .
(5) في " المجتبى " 5/4-5 و82 - 83 وفي " الكبرى " ، له ( 2216 ) و( 2347 )
و( 2349 ) .
وأخرجه أيضاً : معمر في " جامعه " ( 20115 ) ، وابن المبارك في " الزهد " ( 987 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 403 ) ( 404 ) ، وابن حبان ( 160 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 969 ) و( 970 ) و( 971 ) و( 972 ) و( 1033 ) و( 1036 )
و( 1037 ) من حديث معاوية بن حيدة ، به ، وهو حديث قويٌّ .
عن معاويةَ بنِ حَيْدَةَ ، قال : قلت : يا رسول الله ، أسألك(1) بالذي بعثكَ بالحقِّ ، ما الذي بعثك به ؟ قال : ( الإسلام ) ، قلت : وما الإسلام ؟ قال : ( أنْ تُسلِمَ قلبَكَ لله ، وأنْ توجه وجهَك إلى الله ، وتُصلِّي الصلاةَ المكتوبة ، وتُؤدِّيَ الزكاة المفروضة ) ، وفي رواية له : قلت : وما آيةُ الإسلام ؟ قال : ( أنْ تقولَ : أسلمتُ وجهيَ للهِ ، وتخليتُ ، وتقيمَ الصلاةَ ، وتُؤتِي الزكاةَ ، وكلُّ مسلمٍ على مسلمٍ حرام ) .
وفي السُّنن(2) عن جُبير بن مُطعم ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال في خُطبته
بالخَيْفِ(3) مِنْ مِنى : ( ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم : إخلاصُ العمل لله ، ومُناصحةُ وُلاةِ الأمورِ، ولزومُ جماعةِ المسلمينَ، فإنّ دعوتَهُم تُحيطُ مِنْ ورائهم )، فأخبرَ أنَّ هذه الثلاثَ الخصالَ تنفي الغِلَّ عَنْ قلبِ المسلم .
وفي " الصَّحيحين " (4)
__________
(1) سقطت من ( ج ) .
(2) أخرجه : أحمد 4/80 و82 ، والدارمي ( 233 ) و( 234 ) ، وابن ماجه ( 3056 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 1541 ) و( 1542 ) و( 1543 ) و( 1544 ) ، والحاكم 1/86-88 ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 1/41 من حديث جبير بن
مطعم ، به ، وهو حديث قويٌّ بطرقه .
وأخرجه : الدّارمي ( 236 ) من حديث أبي الدرداء ، به .
وأخرجه : الحميدي ( 88 ) ، والترمذي ( 2658 ) من حديث عبد الله بن مسعود ، به .
وأخرجه : ابن ماجه ( 230 ) من حديث زيد بن ثابت ، به . والحديث قويٌّ بطرقه .
(3) الخيف : بفتح أوله وسكون ثانيه وآخره فاءٌ ، والخيف ما انحدر من غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء ومنه سمي مسجد الخيف من مِنى .
انظر : معجم البلدان 3/265 ، ومراصد الاطلاع 1/495 .
(4) صحيح البخاري 1/10 ( 11 ) ، وصحيح مسلم 1/48 ( 42 ) ( 66 ) .
وأخرجه : الترمذي ( 2504 ) و( 2628 ) ، والنسائي 8/106-107 وفي " الكبرى " ، له ( 11730 ) من حديث أبي موسى ، به .
عن أبي موسى ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سُئِلَ : أيُّ المسلمين أفضلُ ؟ فقال : ( مَنْ سلمَ المسلمونَ مِنْ لسانِهِ ويده ) .
وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( المسلم أخو المسلم ، فلا يظلمُهُ ، ولا يخذُلُهُ ، ولا يحقرُه (2). بحسب امرىءٍ مِنَ الشَّرِّ
أنْ يحْقِرَ أخاهُ المُسلمَ ، كلُّ المسلمِ على المُسلمِ حرامٌ : دمُه ، ومالهُ ،
وعِرضهُ ) .
وأمّا ما وردَ في دُخوله في اسم الإيمانِ ، فمثل قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
حَقّاً } (3) ، وقوله : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } (4) . وقوله : { وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (5) ، وقوله : { وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (6) ، وقوله : { وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (7) .
__________
(1) صحيح مسلم 8/10-11 ( 2564 ) ( 32 ) و( 33 ) .
وأخرجه : أحمد 2/277 و311 و360، وعبد بن حميد ( 1442 )، وأبو داود ( 4882 ) ، وابن ماجه ( 3933 ) و( 4213 ) ، والترمذي ( 1927 ) من حديث أبي هريرة به .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( ولا يحسده ) .
(3) الأنفال : 2-4 .
(4) الحديد : 16 .
(5) إبراهيم : 11 ، والمجادلة : 10 ، والتغابن : 13 .
(6) المائدة : 23 .
(7) آل عمران : 175 .
وفي " صحيح مسلم " (1) عن العباس بن عبد المطَّلب ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( ذاقَ طعم الإيمان مَنْ رضيَ بالله ربَّاً ، وبالإسلامِ ديناً ، وبمحمدٍ رسولاً ) .
والرِّضا بربوبيَّة اللهِ يتضمَّنُ الرِّضا بعبادته وحدَه لا شريكَ له ، وبالرِّضا بتدبيره للعبد واختياره له .
والرِّضا بالإسلام ديناً يقتضي اختياره على سائر الأديان .
والرِّضا بمحمدٍ رسولاً يقتضي الرِّضا بجميع ما جاء به من عند الله ، وقبولِ ذلك بالتَّسليم والانشراحِ ، كما قال تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (2) .
وفي " الصحيحين " (3)
__________
(1) صحيح مسلم 1/46 ( 34 ) ( 56 ) .
وأخرجه : أحمد 1/208 ، والترمذي (2623) ، وأبو يعلى ( 6692 ) ، وابن حبان
( 1694 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 114 ) و(115 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 9/156، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 198 ) و( 199 ) ، والبغوي ( 24 ) عن العباس بن
عبد المطلب به .
(2) النساء : 65 .
(3) صحيح البخاري 1/10 ( 16 ) و1/12 ( 21 ) و8/17 ( 6041 ) و9/25 ( 6941 ) ، وصحيح مسلم 1/48 ( 43 ) ( 67 ) .
وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 20320 ) ، وابن المبارك في " الزهد " ( 827 ) ، وأحمد 3/103 و174 و230 و248 و288 ، وابن ماجه ( 4033 ) ، والنسائي 8/96 ، وابن حبان ( 237 ) و( 238 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 1171 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 281 ) و( 282 ) و( 283 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/27 و2/288 ، والبيهقي في
" شُعب الإيمان " ( 405 ) و ( 1376 ) والبغوي في " شرح السنة " ( 21 ) من حديث أنس بن مالك به .
عن أنسٍ(1) ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وَجَدَ بهنَّ حلاوةَ الإيمان : مَنْ كَانَ الله ورسولُهُ أحبَّ إليه ممَّا سِواهما ، وأنْ يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا للهِ ، وأنْ يكره أنْ يرجعَ (2) إلى الكُفرِ بعدَ إذْ أنقذهُ الله منه كما يكرهُ أنْ يُلقى(3) في النار ) . وفي رواية : ( وجد بهنّ طعمَ الإيمانِ(4) ) ، وفي بعض الرِّوايات : ( طعمَ الإيمانِ وحلاوتَه(5) ) .
وفي " الصحيحين "(6) عن أنسٍ ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يؤمن أحدُكم
حتّى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِهِ ، ووالدهِ ، والنَّاس أجمعينَ ) ، وفي رواية : ( مِنْ
أهلهِ ، ومالهِ ، والنَّاس أجمعينَ(7) ) .
__________
(1) عبارة : ( عن أنس ) لم ترد في ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( يعود في ) .
(3) في ( ص ) : ( يقذف ) .
(4) أخرجه : أحمد 3/172 و275 ، ومسلم 1/48 ( 43 ) ( 68) ، وابن ماجه ( 4033 ) ، والترمذي ( 2624 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 724 ) وفي " الصغير " ، له ( 715 ) ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 9512 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(5) أخرجه : النسائي 8/94-95 من حديث أنس بن مالك ، به .
وورد أيضاً بلفظ : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حَلاوة الإسلام ) أخرجه : النسائي 8/97 .
(6) صحيح البخاري 1/10 ( 15 ) ، وصحيح مسلم 1/49 ( 44 ) ( 70 ) . =
= ... وأخرجه : أحمد 3/177 و207 و275 و278 ، وابن ماجه ( 67 ) ، والنسائي 8/114-115 وفي " الكبرى " ، له ( 11744 ) ، وأبو عوانة 1/41 ، وابن حبان ( 179 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 284 ) و( 285 ) و( 286 ) ، والبيهقي في " شُعب الإيمان "
( 1374 ) ، والبغوي ( 22 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(7) أخرجه : مسلم 1/49 ( 44 ) ( 69 ) ، والنسائي 8/115 ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 1375 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
وفي " مسند الإمام أحمد "(1) عن أبي رزين العُقيليّ قال : قلتُ : يا رسول الله، ما الإيمانُ ؟ قال : ( أنْ تشهدَ أنْ لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له ، وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه ، وأنْ يكونَ الله ورسولُهُ أحبَّ إليكَ ممّا سواهُما ، وأنْ تحترِقَ في النار أحبُّ إليكَ مِنْ أنْ تُشركَ باللهِ شيئاً (2)، وأنْ تحبَّ غيرَ ذي نسبٍ لا تُحبُّهُ إلا لله ، فإذا كُنتَ كذلك ، فقد دخَلَ حبُّ الإيمانِ في قلبكَ كما دخلَ حبُّ الماءِ للظمآنِ(3)
في اليومِ القائظِ ) . قلت : يا رسول الله ، كيف لي بأنْ أعلمَ
أنِّي مؤمنٌ ؟ قال : ما مِنْ أمَّتي – أو هذه الأُمَّة – عبدٌ يعملُ حسنةً ، فيعلم أنَّها
حسنةٌ ، وأنَّ الله - عز وجل - جازيه بها خيراً (4)، ولا يعملُ سيِّئةً ، فيعلم أنَّها
سيِّئةٌ ، ويستغفرُ الله منها ، ويعلمُ أنَّه لا يغفر الذنوب إلا الله (5)، إلا وهو
مؤمنٌ ) .
وفي " المسند " (6)
__________
(1) المسند 4/11-12 .
(2) شيئاً ) لم ترد في ( ج ) .
(3) في ( ص ) : ( في جوف الظمآن ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في ( ج ) : ( لا يغفر إلاّ هو ) .
(6) في ( ص ) : ( الصحيح ) ، وهو خطأ إذ الحديث غير موجود في أحد الصحيحين . وهو في مسند الإمام أحمد 1/18 و26 .
وأخرجه : الحميدي ( 32 ) ، والترمذي ( 2165 ) وفي " العلل " ، له ( 353 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 9224 ) و( 9225 ) و( 9226 ) ، وابن حبان ( 4576 ) و( 5586 ) و( 6728 ) و( 7254 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 1086 ) و( 1087 ) ،
والحاكم 1/114 ، والبيهقي 7/91 من حديث عمر بن الخطاب ، به ، وهو جزء من حديث طويل ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح غريب ) على أن أبا حاتم وأبا زرعة والبخاري والدارقطني قد خطئوا الرواية الموصولة ، ورجحنا أن الحديث منقطع .
انظر : التاريخ الكبير للبخاري 1/102 ، وعلل ابن أبي حاتم ( 1933 ) و(2629 ) ، وعلل الدارقطني 2/65 س ( 111 ) .
وغيره عن عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (1)، قال : ( مَنْ سرَّته حسنتُه ، وساءتْهُ سيِّئَتُه فهو مؤمنٌ ) .
وفي " مُسندِ بقي بنِ مخلدٍ "(2) عنْ رجلٍ سمعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( صريحُ الإيمان إذا أسأتَ ، أو ظَلَمْتَ أحداً : عبدَكَ ، أو أَمَتَكَ ، أو أحداً مِنَ النّاسِ ، صُمتَ أو تَصَدَّقتَ ، وإذا أحسنتَ استبشرتَ ) .
وفي " مُسند الإمام أحمد " (3) عن أبي سعيدٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( المؤمنونَ في الدُّنيا على ثلاثةِ أجزاء : الذين آمنوا باللهِ ورسولهِ ، ثم لم يَرتابُوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله (4)، والذي يأمنُهُ الناسُ على أموالهم وأنفسهم ، ثمّ الذي إذا أشرف على طمعٍ تركه لله - عز وجل - ) .
وفيه أيضاً (5) عن عمرو بن عبَسَة ، قال : قلت : يا رسول الله ، ما الإسلام ؟ قالَ : ( طيبُ الكلامِ ، وإطعامُ الطعام ) . قلت : ما الإيمانُ ؟ قال : ( الصبرُ والسَّماحةُ ) . قلت : أيُّ الإسلامِ أفضلُ ؟ قال : ( مَنْ سلمَ المُسلمونَ مِنْ لسانهِ ويدهِ ) . قلت : أيُّ الإيمانِ أفضلُ ؟ قال : ( خُلُقٌ حسنٌ ) .
__________
(1) عبارة : ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) لم ترد في ( ص ) .
(2) إنّ هذا المسند على منزلته الكبرى بين كتب العلم قد فقد مع ما فُقد من تراثنا
الإسلامي العظيم الذي تركه لنا علماؤنا رحمهم الله . وهذا الحديث لم أجده في كتب الحديث التي بين أيدينا اليوم .
(3) المسند 3/8 .
(4) زاد في ( ص ) : ( أولئك هم الصادقون ) ، والمثبت موافق لما في مسند الإمام أحمد .
(5) مسند الإمام أحمد 4/385 وإسناده ضعيف لضعف محمد بن ذكوان ولضعف شهر بن حوشب ، ثم إن الحديث منقطع فإن شهر بن حوشب لم يسمع من عمرو بن عبسة .
وقد فسر الحسن البصريُّ الصبر والسماحةَ (1) ، فقال : هو الصَّبرُ عن محارمِ اللهِ - عز وجل -، والسَّماحةُ بأداءِ فرائضِ الله - عز وجل - (2) .
وفي " الترمذي "(3) وغيره (4)عن عائشةَ – رضي الله عنها - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنُهُم خُلُقاً ) ، وخرَّجه أبو داود(5) وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
وخرّج البزار في " مسنده "(6) من حديث عبد اللهِ بنِ معاويةَ الغاضِري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ثلاثٌ مَنْ فعلهُنّ ، فقد طَعِمَ طعْمَ الإيمانِ : مَنْ عَبَدَ اللهَ وحدَهُ بأنّه لا إله إلا الله ، وأعطى زكاةَ ماله طيِّبَةً بها نفسُه في كلِّ عام ) وذكر الحديثَ ، وفي آخره : فقال رجلٌ : وما تزكيةُ المرءِ نفسَه يا رسولَ الله ؟ قال : أنْ يعلمَ أنَّ الله معه حيث كان ) . وخرَّج أبو داود(7)
__________
(1) في ( ص ) : ( السماحة والصبر بالصبر ... ) .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/156 .
(3) في " جامعه " ( 2612 ) .
وأخرجه : أحمد 6/47 و99 ، والنسائي في " الكبرى " ( 9154 ) ، والحاكم 1/53 من حديث عائشة ، به ، وإسناده منقطع ، وقال الترمذي : ( حسن ) ولعله لشواهده .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في " سننه " ( 4682 ) .
وأخرجه : ابن أبي شيبة 8/515 و11/27، وأحمد 2/250 و472 ، والترمذي ( 1162 ) ، وأبو يعلى ( 5926 ) ، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" ( 4431 ) ، وابن حبان
( 479 ) و( 4176 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 1291 ) ، والحاكم 1/3 ، =
= ... وأبو نعيم في " الحلية " 9/248 ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 27 ) و( 7981 ) ، والبغوي ( 2341 ) و( 3495 ) من حديث أبي هريرة ، به ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) في " سننه "( 1582 ) .
وأخرجه: ابن سعد في "الطبقات" 7/294، والبخاري في "التاريخ الكبير" 4/345 ، والطبراني في "الصغير" ( 546 ) من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري ، به ، وهو حديث صحيح .
أوَّل الحديث دون آخره .
وخرّج الطَّبرانيُّ(1) من حديث عُبَادة بنِ الصَّامِتِ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( إنَّ (2) أفضلَ الإيمانِ أنْ تعلمَ أنَّ الله معكَ حيثُ كنتَ ) .
وفي " الصحيحين " (3) عن عبد الله بنِ عمر ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الحياءُ مِنَ الإيمانِ ) .
وخرَّج الإمامُ أحمدُ(4) ، وابن ماجه(5)
__________
(1) في " الأوسط " ( 8796 ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 6/124 من حديث عبادة بن الصامت ، به ، وإسناده ضعيف لضعف نعيم بن حماد ، وعثمان بن كثير قال عنه الهيثمي في المجمع 1/63 : ( لم أر من ذكره بثقة ولا جرح ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) صحيح البخاري 1/12 ( 24 ) و8/35 ( 6118 ) ، وصحيح مسلم 1/46 ( 36 )
( 59 ) . =
= ... وأخرجه : معمر في "جامعه" ( 20146 )، ومالك في "الموطأ" ( 2635 ) برواية يحيى الليثي ، والحميدي ( 625 )، وابن أبي شيبة في "الإيمان" ( 68 )، وأحمد 2/9 و56 و147، وعبد بن حميد ( 725 ) ، والبخاري في "الأدب المفرد" ( 602 ) ، وأبو داود ( 4795 ) ، وابن ماجه ( 58 ) ، والترمذي ( 2615 ) ، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" ( 73 ) ، والنسائي 8/121 ، وأبو يعلى ( 5424 ) و( 5487 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل" ( 1526 ) و( 1527 ) و( 1528 ) و( 1529 ) ، وابن حبان ( 610 ) ، والطبراني في " الأوسط "
( 4932 ) وفي " الصغير " ، له ( 731 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 174 ) و( 175 )
و( 176 ) ، والقضاعي في "مسند الشهاب" ( 155 ) ، والبيهقي في " الآداب " ( 175 ) ، والبغوي في " شرح السنة " ( 3594 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
(4) في " مسنده " 4/126 .
(5) في " سننه " ( 43 ) .
وأخرجه : ابن أبي عاصم في " السنة " ( 33 ) ، والطبراني في " الكبير " 18/( 619 ) وفي
" مسند الشاميين " ، له ( 2017 ) ، والحاكم 1/96 من حديث العرباض بن سارية ، به ، وهو جزء من حديث طويل .
مِنْ حديثِ العِرباضِ بنِ ساريةَ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّما المُؤمِن كالجملِ الأَنِفِ ، حيثما قِيدَ انقادَ ) .
وقال الله - عز وجل - : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } (1) .
وفي " الصحيحين " (2) عَنِ النُّعمانِ بن بشيرٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم(3) وتعاطفهم وتراحمهم مَثَل الجسدِ ، إذا اشتكى منهُ عضوٌ ، تداعى له سائرُ الجسدِ بالحُمَّى والسَّهر ) . وفي روايةٍ لمسلم(4)
: ( المؤمنونَ كرجُلٍ واحدٍ ) . وفي روايةٍ له(5) أيضاً(6) : ( المسلمونَ كرجلٍ واحد(7) إذا اشتكى عينُه ، اشتكى كلُّهُ ، وإنْ اشتَكى رأسُه ، اشتكى كلُّه ) .
وفي " الصحيحين " (8)
__________
(1) الحجرات : 10 .
(2) صحيح البخاري 8/11 ( 6011 ) ، وصحيح مسلم 8/20 ( 2586 ) ( 66 ) .
وأخرجه : أحمد 4/270 ، وابن حبان ( 233 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 322 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 1366 ) و( 1367 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ، والبغوي ( 3459 ) من حديث النعمان بن بشير ، به ، وهو حديث قويٌّ .
(3) سقطت من ( ج ) .
(4) في " صحيحه " 8/20 ( 2586 ) ( 67 ) .
... وأخرجه : أحمد 4/271 و276 ، وابن منده في " الإيمان " ( 318 ) و( 319 ) و( 320 ) و( 321 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/126 ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 7607 ) وفي " الآداب " ، له ( 102 ) ، والبغوي ( 3460 ) من حديث النعمان بن بشير ، به .
(5) في " صحيحه " 8/20 ( 2586 ) ( 67 ) .
(6) سقطت من ( ص ) .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) صحيح البخاري 1/129 ( 481 ) و8/14 ( 6026 )، وصحيح مسلم 8/20 ( 2585 ) ( 65 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 772 ) ، وأحمد 4/404 ، والنسائي 5/79 ، وأبو عوانة كما في
" إتحاف المهرة " 10/100 ، وابن حبان ( 232 ) ، والبغوي ( 3461 ) من حديث أبي موسى الأشعري ، به .
عن أبي موسى ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنيانِ يَشُدُّ بعضُه بعضاً ) ، وشبَّك بين أَصابعِه .
وفي " مسند الإمام أحمد " (1) عن سهلِ بن سعدٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( المؤمن من أهلِ الإيمانِ بمنْزلةِ الرَّأسِ مِنَ الجَسَدِ ، يأْلَمُ المؤمنُ لأهلِ الإيمانِ كما يأْلَمُ الجَسَد لِما في الرَّأْسِ ) .
وفي " سنن أبي داود " (2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( المؤمنُ مرآةُ المؤمنِ ، المؤمنُ أخو المؤمن ، يكُفُّ عنه ضَيعَته ، ويحوطُه من ورائه ) .
وفي " الصحيحين "(3)
__________
(1) المسند 5/340 .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 693 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 5743 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 136 ) من حديث سهل بن سعد الساعدي ، به . وهو حديث قويٌّ .
(2) برقم ( 4918 ) .
... وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 239 )، والقضاعي في "مسند الشهاب" ( 125 ) من حديث أبي هريرة ، به . قال العراقي في " تخريج الإحياء " 3/1130 ( 1652 ) : ( رواه أبو داود من حديث أبي هريرة بإسناد حسن ) .
(3) صحيح البخاري 1/10 ( 13 ) ، وصحيح مسلم 1/49 ( 45 ) ( 71 ) و( 72 ) .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 677 ) ، والطيالسي ( 2004 ) ، وأحمد 3/176 ، و206 و251 و272 و278 و289 ، وعبد بن حميد ( 1175 ) ، والدارمي ( 2743 ) ، وابن ماجه ( 66 ) ، والترمذي ( 2515 ) ، والنسائي 8/115 و125 وفي " الكبرى " ، له ( 11747 ) و( 11770 ) ، وأبو عوانة 1/41 ، وابن حبان ( 234 ) ، والطبراني في
" الأوسط " ( 8292 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 2592 ) ، وابن منده في " الإيمان "
( 296 ) و( 297 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 889 ) ، والبغوي ( 3474 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
عن أنسٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه ) .
وفي " صحيح البخاري " (1) عن أبي شريحٍ الكعبيِّ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( والله لا يؤمنُ(2)، والله لا يُؤمنُ ، والله لا يُؤمِنُ ) قالوا : مَنْ ذاك يا رسولَ اللهِ ؟! قال : ( مَنْ لا يأمَنُ جارُهُ بوائِقَهُ ) .
وخرّج الحاكم (3) من حديث ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ليسَ بمؤمنٍ مَنْ(4) يَشبَعُ وجارُه جائعٌ ) .
وخرَّج الإمام أحمد(5) والترمذيُّ(6)
__________
(1) الصحيح 8/12 ( 6016 ) .
وأخرجه : أحمد 4/31 و6/385 ، والطبراني في " الكبير " 22/487 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 3495 ) وفي " الآداب " ، له ( 77 ) من حديث أبي شُريح الكعبي ، به .
(2) زاد في ( ص ) : ( أحدكم ) ، والمثبت موافق لما في الصحيح .
(3) في " المستدرك " 4/167 .
(4) في ( ج ) : ( المؤمن الذي ) .
(5) في " مسنده " 3/438 و440 .
(6) سقطت من ( ص ) ، والحديث في " جامعه " برقم ( 2521 ) .
وأخرجه : أبو يعلى ( 1485 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 412 ) ، والحاكم 2/164 ، والبيهقي في "شُعب الإيمان" ( 15 ) من حديث معاذ الجهني ، به . والحديث له شواهد تقويه .
من حديثِ سهلِ بنِ مُعاذٍ الجُهنيِّ ، عن
أبيه(1) ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ أعطى للهِ ، ومنع للهِ ، وأحبَّ لله ، وأبغضَ
لله ) زاد الإمام أحمد : ( وأنكحَ للهِ ، فقد استكمل إيمانَه ) . وفي روايةٍ للإمام أحمد(2) : أنَّه سألَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن أفضلِ الإيمانِ ، فقال: ( أنْ تُحبَّ لله ، وتُبغضَ لله ، وتُعمِلَ لِسانَكَ في ذكر الله ) ، فقال : وماذا يا رسول الله ؟ قال : ( أن تُحبَّ للنَّاس ما تحبُّ لنفسكَ ، وتكره لهمْ (3) ما تكرهُ لنفسك ) ، وفي رواية له : ( وأنْ تقولَ خيراً أو تصمت ) .
وفي هذا الحديث أنَّ كثرةَ ذكرِ اللهِ من (4) أفضلِ الإيمانِ .
وخرَّج أيضاً(5) من حديث عمرو بن الجَموحِ - رضي الله عنه - : أنّه سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : ( لا يستحقُّ العبدُ(6) صريحَ الإيمانِ حتّى يحبَّ لله ، ويُبغضَ لله، فإذا أحبَّ للهِ،
وأبغضَ لله ، فقد استحقَّ الولايةَ مِنَ الله تعالى ) .
وخرَّج أيضاً(7) من حديث البراءِ بن عازبٍ - رضي الله عنه -، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ(8) أوثقَ عُرى الإيمانِ أنْ تُحبَّ في اللهِ ، وتبغضَ في اللهِ ) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في " مسنده " 5/247 .
(3) في ( ص ) : ( وتكره للناس ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في " مسنده " 3/430 .
(6) في ( ص ) : ( لا يحق لعبد ) .
(7) في " مسنده " 4/286 ، وإسناده ضعيف ، وقواه بعضهم بما له من شواهد .
(8) سقطت من ( ص ) .
وقال ابن عبَّاس : أحِب في الله، وأبغِض في اللهِ ، ووالِ في اللهِ ، وعادِ في اللهِ ، فإنّما تُنالُ ولايةُ اللهِ بذلك ، ولن يَجِدَ (1) عبدٌ طعمَ الإيمانِ - وإن كثُرَتْ صلاتُه وصومُه - حتّى يكونَ كذلك ، وقد صارَت عامَّةُ مُؤاخاة الناسِ على أمرِ الدُّنيا ، وذلك لا يُجدي على أهله شيئاً . خرَّجه محمد (2) بنُ جريرٍ الطَّبريُّ(3) ، ومحمّدُ بنُ نصرٍ المروزي(4) .
فصل
وأمَّا الإحسّانُ ، فقد جاءَ ذكرُه(5) في القُرآنِ في مواضعَ : تارةً مقروناً
بالإيمانِ ، وتارةً مقروناً بالإسلامِ ، وتارةً مقروناً بالتَّقوى ، أو بالعمل (6).
فالمقرونُ بالإيمانِ : كقولِه تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (7) ، وكقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } (8) .
__________
(1) في ( ص ) : ( يذق ) .
(2) لم ترد في ( ج ) .
(3) في " تفسيره " ( 23951 ) .
(4) في " تعظيم قدر الصلاة " ( 396 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 11537 ) ، والبغوي ( 3468 ) من حديث عبد الله بن عباس ، مرفوعاً .
وأخرجه : أحمد 5/146 ، وأبو داود ( 4599 ) من حديث أبي ذر ، مرفوعاً .
(5) زاد بعدها في ( ص ) : ( مقروناً ) .
(6) في ( ص ) : ( وتارة بالإسلام وتارة بالتقوى ) .
(7) المائدة : 93 .
(8) الكهف : 30 .
والمقرونُ بالإسلام : كقوله تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } (1) ، وكقوله تعالى : { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } (2) .
والمقرون بالتقوى : كقوله تعالى : { إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } (3) ، وقد يذكر مفرداً كقوله تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى
وَزِيَادَةٌ } (4) ، وقد ثبت في " صحيح مسلم " (5) عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تفسيرُ الزِّيادةِ بالنّظرِ إلى وجهِ الله - عز وجل - في الجنة ، وهذا مناسبٌ لجعلِه جزاءً (6) لأهلِ الإحسّانِ ؛ لأنَّ الإحسانَ هو أنْ يَعبُدَ المؤمنُ ربّه في الدُّنيا(7) على وجهِ الحُضورِ والمُراقبةِ ، كأنّه يراهُ بقلبِهِ وينظرُ إليه في حال عبادتِهِ(8) ، فكانَ جزاءُ ذلك النَّظرَ إلى(9) الله عياناً في الآخرة(10) .
وعكس هذا ما أخبرَ الله تعالى به عَنْ جَزاءِ الكُفَّار في الآخرةِ : { إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } (11) ، وجعلَ ذلك جزاءً لحالهم في الدُّنيا ، وهو تراكُم الرَّانِ على قُلوبِهم ، حتّى حُجِبَتْ عن معرفتِهِ ومُراقبته في الدُّنيا ، فكان جزاؤُهم على ذلك أنْ حُجِبوا عن رُؤيته في الآخرة(12) .
__________
(1) البقرة : 112 ، والآية لم ترد في ( ص ) .
(2) لقمان : 22 .
(3) النحل : 128 .
(4) يونس : 26 .
(5) الصحيح 1/112 ( 181 ) ( 297 ) و( 298 ) .
(6) في ( ص ) : ( جعله الله - عز وجل - ) .
(7) في الدنيا ) سقطت من ( ص ) .
(8) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/146 .
(9) زاد بعدها في ( ص ) : ( وجه ) .
(10) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/15 .
(11) المطففين : 15 .
(12) انظر : تفسير البغوي 5/225 ، وزاد المسير 9/57 .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير الإحسّان : ( أنْ تعبدَ الله كأنّكَ تراهُ … ) إلخ يشير إلى أنَّ العبدَ يعبُدُ الله تعالى على هذه الصِّفة ، وهو استحضارُ قُربِهِ ، وأنَّه بينَ يديه كأنَّه يراهُ ، وذلك يُوجبُ الخشيةَ والخوفَ والهيبةَ والتَّعظيمَ(1) ، كما جاء في رواية أبي هريرة : ( أنْ تخشى الله كأنَّكَ تراهُ ) .
ويُوجِبُ أيضاً النُّصحَ في العبادة ، وبذل الجُهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها .
وقد وصَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من أصحابِهِ بهذه الوصيَّةِ ، كما روى إبراهيمُ الهجريُّ ، عن أبي الأحوصِ ، عن أبي ذرٍّ ، قال : أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - أنْ أخشى الله كأنِّي أراهُ ، فإنْ لم أكن أراه ، فإنَّهُ يراني .
ورُوي عن ابنِ عمرَ ، قال : أخذَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي ، فقال :
( اعبُدِ الله كأنَّكَ تراهُ ) ، خرَّجه النَّسائيُّ(2) ، ويُروى من حديث زيد بن أرقم مرفوعاً وموقوفاً : ( كُنْ كأنَّكَ ترى الله ، فإنْ لم تكن تراه ، فإنَّهُ يراكَ )(3) .
وخرَّج الطبراني(4)
__________
(1) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/146 .
(2) في " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 5/278 .
وأخرجه : أحمد 2/132 ، والآجري في " الغرباء " ( 21 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/115 من حديث عبد الله بن عمر ، به . وهو حديث صحيح .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/202 موقوفاً ومرفوعاً ، والمرفوع ضعيف لضعف محمد بن حنيفة أبي حنيفة الواسطي . انظر : لسان الميزان 7/109 .
(4) في " الأوسط " ( 4427 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
وهنا قد وهم الحافظ ابن رجب رحمه الله فنسب الحديث إلى أنس ، وبعد تتبع طرق الحديث وجدناه من طريق عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وفي إسناد الحديث ضعف لجهالة بعض رواته ، قال الهيثمي في " المجمع " 10/232 : ( وفيه من لم أعرفهم ) .
من حديث أنس : أنّ رجلاً قال : يا رسول الله ، حدثني بحديثٍ(1)، واجعله موجزاً ، فقال : ( صلِّ صلاةَ مودِّعٍ ؛ فإنَّكَ إنْ كنتَ لا تراهُ ، فإنَّه يراكَ ) .
وفي حديث حارثة المشهور - وقد رُويَ من وجوهٍ مرسلةٍ(2)، ورُوي متصلاً ، والمرسل أصحُّ - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( كيف أصبحت يا حارثة ؟ ) قال : أصبحتُ مؤمناً حقاً ، قال : ( انظر ما تقولُ ، فإنَّ لكلِّ قولٍ حقيقةً ) ، قال :
يا رسول الله ، عزفَتْ نفسي عن الدُّنيا ، فأسهرتُ ليلي ، وأظمأتُ نهاري ، وكأنِّي أنظرُ إلى عرشِ ربِّي بارزاً (3) ، وكأنِّي أنظرُ إلى أهلِ الجنَّةِ في الجَنَّةِ كيف يتزاورونَ(4) فيها ، وكأنِّي أنظرُ إلى أهلِ النَّارِ كيفَ (5) يتعاوَوْنَ فيها . قال : ( أبصرتَ فالزمْ ، عبدٌ نوَّرَ الله الإيمانَ في قلبه )(6) .
ويُروى من حديث أبي أمامة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصَّى رجلاً ، فقال له : ( استحي مِنَ اللهِ استحياءك مِنْ رجلين من صالحي عشيرتِك لا يفارقانك ) (7). ويُروى من وجهٍ آخرَ مرسلاً(8) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 314 ) مرسلاً .
(3) في ( ص ) : ( وكأني بعرش الرحمان بارزاً ) .
(4) في ( ص ) : ( وكأني بأهل الجنة يتزاورون ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 3367 ) ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 10591 ) ، من حديث الحارث بن مالك ، به مرفوعاً ، وهو ضعيف .
وأخرجه : البزار ( 32 ) ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 10590 ) من حديث أنس بن مالك ، به مرفوعاً . وهو ضعيف .
(7) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7897 ) من حديث أبي أمامة به ، وهو جزء من حديث طويل ، وإسناده ضعيف ؛ لضعف علي بن زيد بن جدعان .
(8) أخرجه : أحمد في " الزهد " (248 ) من طريق سعيد بن يزيد ، مُرسلاً .
ويُروى عن معاذٍ أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصَّاه لمَّا بعثه إلى اليمن ، فقال : ( استحي مِنَ اللهِ كما تستحي رجلاً ذا هيبةٍ من أهلك )(1) .
وسئلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن كشف العورة خالياً ، فقال : ( الله أحقُّ أن يُستحيا
منه )(2).
ووصَّى أبو الدَّرداء رجلاً ، فقال له : اعبُدِ الله كأنَّكَ تَراه(3) .
وخطب عروة بنُ الزُّبير إلى ابنِ عمرَ ابنته وهما في الطَّواف ، فلم يُجبه ، ثم لقيَهُ بعد ذلك ، فاعتذر إليه ، وقال : كنَّا في الطَّوافِ نتخايلُ الله بين أعيننا . أخرجه أبو نعيم(4) وغيره .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فإنْ لم تكن تراه فإنَّه يراك ) .
__________
(1) أخرجه : البزار ( 2642 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 825 ) من حديث معاذ ابن جبل ، به ، وإسناده ضعيف ؛ لضعف ابن لهيعة ، ولعنعنة أبي الزبير . =
= ... وأخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2626 ) برواية يحيى الليثي بلفظ : أنَّ معاذ بن جبل قال آخر ما أوصاني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وضعت رجلي في الغرز أنْ قال : ( أحسن خلقك للناس مُعاذ بن جَبل ) ، وهو منقطع .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 1106 ) ، وأحمد 5/3 و4 ، وأبو داود ( 4017 ) ، وابن ماجه
( 1920 ) ، والترمذي ( 2769 ) و( 2794 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 8972 ) ، والحاكم 4/179-180 ، وأبو نعيم في " الحلية " 7/121-122 ، والبيهقي 1/199 و2/225 و7/94 وفي " شُعب الإيمان " ، له ( 7753 ) وفي " الآداب " ، له ( 716 ) ، والخطيب في " تاريخه " 3/261-262 من حديث معاوية بن حيدة ، به ، وهو جزء من حديث طويل ، وهو حديث حسن .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/211-212 .
(4) في " الحلية " 1/309 .
قيل (1): إنّه تعليلٌ للأوَّل ، فإنَّ العبدَ إذا أُمر بمراقبة الله في العبادة ، واستحضارِ قُربِهِ مِنْ عبده ، حتى(2) كأنَّ العبدَ يراه ، فإنَّه قد يشقُّ ذلك عليه ، فيستعين على ذلك بإيمانه بأنّ الله يراه ، ويطَّلعُ على سرِّه وعلانيته وباطنه وظاهره ، ولا يخفى عليه شيءٌ من أمره ، فإذا حقَّق هذا المقامَ ، سهُل عليه الانتقالُ إلى المقام الثاني ، وهو دوامُ التَّحديق بالبصيرة إلى قُربِ الله من عبدِه ومعيَّته (3) ، حَتّى كأنَّه يراه .
وقيل : بل هو إشارةٌ (4) إلى أنّ مَنْ شقَّ عليه أنْ يعبُد الله كأنَّه يراه(5) ، فليعْبُدِ الله على أنَّ الله يراه ويطّلع عليه ، فليستحي مِنْ نظره إليه ، كما قال بعضُ العارفين: اتَّقِ الله أنْ يكونَ أهونَ النَّاظرين إليك .
وقال بعضُهم : خَفِ الله على قدر قُدرته عليك ، واستحي من الله على قدر قُربه منك .
قالت بعضُ العارفات من السَّلف : مَنْ عملَ للهِ على المُشاهدة ، فهو عارفٌ ، ومن عمل على مشاهدة الله إيَّاهُ ، فهو مخلص . فأشارت إلى المقامين اللَّذين تقدَّم ذكرُهما :
أحدهما : مقام الإخلاص ، وهو أنْ يعملَ العبدُ على استحضارِ(6) مُشاهدةِ الله إياه ، واطِّلاعه عليه ، وقُربه منه ، فإذا استحضرَ العبدُ هذا في عمله ، وعَمِلَ عليه ، فهو مخلصٌ لله ؛ لأنَّ استحضارَهُ ذلك في عمله يمنعُهُ من الالتفاتِ إلى غيرِ الله وإرادته بالعمل .
والثاني : مقام المشاهدة ، وهو أنْ يعملَ العبدُ على مقتضى مشاهدته لله تعالى
بقلبه ، وهو أنْ يتنوَّرَ القلبُ بالإيمانِ ، وتنفُذ البصيرةُ في العِرفان ، حتّى يصيرَ الغيبُ كالعيانِ .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( يعني ) .
(3) في ( ص ) : ( وهيبته ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) عبارة : ( أن يعبد الله كأنه يراه ) لم ترد في ( ص ) .
(6) زاد في ( ص ) : ( الله لأن الاستحضار ذلك ) .
وهذا هو حقيقةُ مقامِ الإحسّان المشار إليه في حديث جبريلَ - عليه السلام - ، ويتفاوت أهلُ هذا المقام فيه بحسب قوَّة نفوذ البصائرِ .
وقد فسَّر طائفةٌ من العُلماءِ المثل الأعلى المذكورَ في قوله - عز وجل - : { وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض } (1) بهذا المعنى ، ومثلُهُ قولُه تعالى :
{ اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } (2) ، والمراد : مثل نورِه في قلبِ المؤمن ، كذا قال أبيُّ بنُ كعبٍ(3) وغيرُه مِنَ السَّلَف .
وقد سبق حديث : ( أفضلُ الإيمانِ أنْ تعلمَ أنَّ الله معك حيثُ كنت ) ، وحديث : ما تزكيةُ المرءِ نفسه ؟ ، قال : ( أنْ يعلمَ أنَّ الله معه حيثُ
كانَ ) .
وخرَّج الطبراني(4) من حديث أبي أُمامةَ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ثلاثةٌ في ظلِّ الله يومَ القيامةِ يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه : رجلٌ حيثُ توجه عَلِمَ أنَّ الله معه … ) ، وذكر الحديث .
__________
(1) الروم : 27 .
(2) النور : 35 .
(3) اخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 19757 ) ، وطبعة التركي 17/298 ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 2593 ) و( 2594 ) ، وممن قال بهذا المعنى سعيد بن جبير والضحاك .
(4) في " الكبير " ( 7935 ) ، وإسناده ضعيف جداً ، فيه بشير بن نمير متروك . انظر : مجمع الزوائد 10/279 .
وقد دلّ القرآنُ على هذا المعنى في مواضِعَ متعدِّدةٍ ، كقوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (1) ، وقوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } (2) ، وقوله : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } (3) ، وقوله : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا
تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيه } (4) ، وقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } (5) ، وقوله : { وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ
مَعَهُمْ } (6) .
__________
(1) البقرة : 186 .
(2) الحديد : 4 .
(3) المجادلة : 7 .
(4) يونس : 61 .
(5) ق : 16 .
(6) النساء : 108 .
وقد وردت الأحاديثُ الصَّحيحةُ بالنَّدب إلى استحضار هذا القُربِ في
حال العباداتِ ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ أحدَكم إذا قامَ يُصلِّي ، فإنَّما يُناجِي
ربَّه ، أو ربَّه بينه وبينَ القبلةِ ) (1) ، وقوله : ( إنّ الله قِبَلَ وجهه إذا
صلّى ) (2)، وقوله : ( إنّ الله ينصب وجهه لوجهِ عبدِه في صلاتِهِ ما لم
يلتفِت ) (3).
__________
(1) أخرجه : الحميدي ( 1219 ) ، وأحمد 3/176 و273 و278 و291 ، والبخاري 1/112 ( 413 ) و1/140 ( 531 ) و2/82 ( 1214 ) ، ومسلم 2/76 ( 551 ) ( 54 ) ، وأبو عوانة 1/338 ، وابن حبان ( 2267 ) ، والبيهقي 1/255 و2/292 ، والبغوي ( 491 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 522 ) برواية يحيى الليثي ، وأحمد 2/66 ، والبخاري 1/112 ( 406 )، ومسلم 2/75 ( 547 ) ( 50 )، وأبو داود ( 479 ) والنسائي 2/51 ، وأبو عوانة 1/336 و337 ، والبيهقي 2/293 ، والبغوي ( 494 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به .
(3) أخرجه : معمر في " جامعه " (20709 ) ، وأحمد 4/130 و202 و344 ، والترمذي
( 2863 ) و( 2864 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 8866 ) و( 11349 ) ، وأبو يعلى
( 1571 ) ، وابن خزيمة ( 483 ) و( 930 ) و(1895 ) وفي التوحيد ، له : 15 ، وابن حبان ( 6233 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3427 ) و( 3428 ) و( 3430 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 2870 ) ، والآجري في "الشريعة" : 8 ، وابن منده في "الإيمان" ( 212 ) ، والحاكم 1/117-118 و236 و421-422 من حديث الحارث الأشعري ، به . والروايات مطولة ومختصرة ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح غريب ) .
وقوله للذين رفعوا أصواتهم بالذِّكرِ : ( إنَّكم لا تَدعُونَ أصمَّ(1) ولا غائباً ، إنَّكُم تدعُون سميعاً(2) قريباً )(3) ، وفي رواية (4) : ( وهو أقربُ إلى أحدكم من عُنُقِ راحلتِهِ ) (5) ، وفي رواية : ( هو أقربُ إلى أحدكم من حبل الوريد ) .
وقوله : ( يقولُ الله - عز وجل - : أنا مع عبدي إذا ذكرني ، وتحرَّكت بي
شفتاه ) (6) .
__________
(1) زاد بعدها في ( ص ) : ( ولا أبكم ) .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( بصيراً ) .
(3) أخرجه : البخاري 4/69 ( 2992 ) و5/169 ( 4202 ) و8/101 ( 6384 ) ، ومسلم 8/73 ( 2704 ) ( 44 ) من حديث أبي موسى الأشعري ، به .
(4) في ( ص ) : ( حديث ) .
(5) أخرجه : مسلم 8/74 ( 2704 ) ( 46 ) ، وأبو داود ( 1526 ) و( 1527 )
و( 1528 ) ، والترمذي ( 3374 ) و( 3461 ) من حديث أبي موسى الأشعري ، به .
(6) أخرجه : أحمد 2/540 ، والبخاري في " خلق أفعال العباد " ( 57 ) ، وابن ماجه
( 3792 ) ، وابن حبان ( 815 ) ، والبيهقي ( 509 ) و( 510 ) ، والبغوي في ( 1242 ) من حديث أبي هريرة ، به .
وأخرجه : الحاكم 1/496 من حديث أبي الدرداء ، به .
وقوله : ( يقولُ الله - عز وجل - : أنا مع ظنِّ عبدي بي ، وأنا معه حيث ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ، ذكرتُهُ في نفسي ، وإنْ ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ خيرٍ منه ، وإنْ تقرّبَ منِّي شبراً ، تقرَّبتُ منه ذراعاً ، وإن تقرَّبَ منِّي ذراعاً ، تقرَّبتُ منه
باعاً ، وإن أتاني يمشي ، أتيته هرولةً )(1) .
ومن فهم من شيءٍ من هذه النصوص تشبيهاً أو حُلولاً أو اتِّحاداً ، فإنّما أُتِيَ من جهله(2)، وسُوء فهمه عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والله ورسولُه بريئانِ من ذلك كلِّه ، فسبحانَ مَنْ ليسَ كمثله شيءٌ ، وهو السَّميعُ البصيرُ .
قال بكرٌ المزنيُّ : مَن مثلُك يا ابنَ آدم : خُلِّي بينَك وبينَ المحراب والماء ، كلّما شئتَ دخلتَ على اللهِ - عز وجل - (3)، ليس بينَكَ وبينَه ترجُمان(4) .
ومن وصل إلى استحضارِ هذا في حال ذكره الله وعبادته استأنسَ بالله ، واستوحش مِنْ خلقه ضرورةً .
قال ثور بن يزيد : قرأتُ في بعضِ الكُتب : أنَّ عيسى - عليه السلام - قال : يا معشر الحواريِّين ، كلِّموا الله كثيراً ، وكلِّموا الناسَ قليلاً ، قالوا : كيف نكلِّمُ الله كثيراً ؟ قال : اخلُوا بمناجاته ، اخلوا بدُعائه . خرَّجه أبو نعيم(5) .
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 2387 ) ، وأحمد 2/251 و316 و354 و405 و413 و435 ، والبخاري 9/147 ( 7405 ) و9/192 ( 7537 ) وفي "خلق أفعال العباد" ، له ( 55 ) ، ومسلم 8/62-63 ( 2675 ) ( 2 ) و( 3 ) و8/66-67 ( 2675 ) ( 19 ) و( 20 ) و( 21 ) و8/91 ( 2675 ) ( 1 ) ، وابن ماجه ( 3822 ) ، والترمذي ( 3603 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7730 ) من حديث أبي هريرة ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(2) في ( ص ) : ( فإنه من جهله ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( فإنه ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/229 .
(5) في " الحلية " 6/195 .
وخرَّج أيضاً(1) بإسناده عن رياح ، قال : كان عندنا رجلٌ يصلِّي كلَّ يومٍ وليلةٍ ألفَ ركعة ، حتى أُقعِدَ من رجليه ، فكان يصلِّي جالساً ألف ركعة ، فإذا صلى العصر ، احتبى ، فاستقبل القبلةَ ، ويقول : عجبتُ للخليقةِ كيف أَنِسَتْ بسواك ، بل عجبتُ للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواكَ .
وقال أبو أسامة : دخلت على محمد بن النَّضر الحارثيِّ ، فرأيتُه كأنَّه منقبضٌ ، فقلت : كأنَّك تكره أنْ تُؤتى ؟ قال : أجل (2) ، فقلت : أوَما تستوحشُ ؟ فقال : كيف أستوحشُ وهو يقولُ : أنا جليسُ مَنْ ذكرني(3) .
وقيل لمالك بنِ مِغْول وهو جالسٌ في بيته وحده : ألا تستوحشُ ؟ فقال : ويستوحشُ مع الله أحدٌ ؟
وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ، ويقولُ : من لم تَقَرَّ عينُه بكَ ، فلا قرَّت
عينُه ، ومن لم يأنس بكَ ، فلا أنِسَ (4) .
وقال غزوان : إنِّي أصبتُ راحةَ قلبي في مُجالسةِ مَنْ لديه حاجتي .
وقال مسلم بنُ يسار : ما تلذَّذ المتلذِّذونَ بمثلِ الخَلْوةِ بمناجاةِ اللهِ - عز وجل - (5) .
وقال مسلم العابد : لولا الجماعة ، ما خرجتُ من بابي أبداً حتّى أموت ، وقال : ما يجدُ المطيعونَ لله لذَّةً في الدُّنيا أحلى من الخلوة بمناجاة سيِّدهم(6) ، ولا أحسب لهم في الآخرة مِنْ عظيم الثَّواب أكبرَ في صدورهم وألذَّ في قلوبهم مِن النَّظر إليه ، ثم غُشي عليه .
__________
(1) أبو نعيم في " الحلية " 6/195 .
(2) في ( ص ) : ( نعم ) .
(3) أخرجه : البيهقي في " شُعب الإيمان " ( 709 ) .
(4) زاد بعدها في ( ص ) : ( الله به ) .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/294 .
(6) في ( ص ) : ( الله - عز وجل - ) .
وعن إبراهيم بن أدهم ، قال : أعلى الدَّرجات أنْ تنقطعَ إلى ربِّك ، وتستأنِسَ إليه بقلبِك ، وعقلك (1)، وجميع جوارحك حتى لا ترجُو إلاَّ ربَّك ، ولا تخاف إلاَّ ذنبكَ ، وترسخ محبته في قلبك حتى لا تُؤْثِرَ عليها شيئاً ، فإذا كنت كذلك لم تُبالِ في بَرٍّ كنت ، أو في بحرٍ ، أو في سَهْلٍ ، أو في جبلٍ ، وكان شوقُك إلى لقاء الحبيب شوقَ الظمآن إلى الماء البارد ، وشوقَ الجائعِ إلى الطَّعام الطيب ، ويكونُ ذكر الله عندكَ(2) أحلى مِنَ العسل ، وأحلى من المَاء (3) العذبِ الصَّافي عند العطشان في اليوم الصَّائف .
وقال الفضيل : طُوبى لمن استوحش مِنَ النَّاسِ ، وكان الله جليسَه(4) .
وقال أبو سليمان : لا آنسني الله إلاَّ به أبداً .
وقال معروف لرجلٍ : توكَّل على الله حتّى يكونَ جليسَك وأنيسَك وموضعَ شكواكَ(5) .
وقال ذو النون : مِنْ علامات المحبِّين لله أنْ لا يأنَسُوا بسواه ، ولا يستوحشُوا معه ، ثم قال : إذا سكنَ القلبَ حبُّ اللهِ تعالى ، أنِسَ بالله ؛ لأنَّ الله أجلُّ في صُدورِ العارفين أنْ يُحبُّوا سواه .
وكلامُ القوم في هذا الباب يطولُ ذكرُه جداً، وفيما ذكرنا كفايةٌ إنْ شاء الله تعالى .
__________
(1) في ( ص ) : ( وعينك ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/108 .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/360 .
فمن تأمَّل ما أشرنا إليه ممَّا دلَّ عليه هذا الحديثُ العظيم ، علم أنَّ جميعَ العُلوم والمعارف ترجعُ إلى هذا الحديث وتدخل تحته ، وأنَّ جميع العلماء من فِرَقِ هذه الأمَّة لا تخرجُ علومهم التي يتكلَّمون فيها عن هذا الحديث، وما دلَّ عليه مجمَلاً ومفصَّلاً ، فإنَّ الفُقهاءَ إنَّما يتكلَّمون في العبادات التي هي من جملة خصال الإسلام ، ويضيفون إلى ذلك الكلامَ في أحكامِ الأموالِ والأبضاعِ والدِّماءِ ، وكلُّ ذلك من علمِ الإسلامِ كما سبق التنبيه عليه ، ويبقى كثيرٌ من علم الإسلامِ مِنَ الآدابِ والأخلاقِ وغير ذلك لا يَتَكلَّمُ عليه إلاَّ القليلُ منهم ، ولا يتكلَّمون على معنى الشهادتين ، وهما أصلُ الإسلام كلِّه .
والذين يتكلمون في أصول الدِّيانات ، يتكلَّمون على الشَّهادتين ، وعلى الإيمان باللهِ ، وملائكته ، وكتبه ، ورسُله ، واليومِ الآخرِ ، والإيمان بالقدر(1) .
والذين يتكلَّمون على علم المعارف والمعاملات يتكلَّمون على مقام الإحسان ، وعلى الأعمال الباطنة التي تدخلُ في الإيمان أيضاً(2) ، كالخشية ، والمحبَّة ، والتوكُّلِ ، والرِّضا ، والصَّبر ، ونحو ذلك ، فانحصرتِ العلومُ الشَّرعية التي يتكلَّمُ عليها فِرَقُ المسلمين في هذا الحديث ، ورجعت كلُّها إليه ، ففي هذا الحديث وحدَه كفايةٌ ، وللهِ الحمدُ والمنَّةُ (3).
وبقي الكلام على ذكر السَّاعةِ مِنَ الحَديث .
__________
(1) انظر : الإيمان لابن تيمية : 244-245 .
(2) انظر : مختصر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد : 180 .
(3) في ( ص ) : ( الحمد ) فقط .
فقول جبريل عليه السَّلام أخبرني عن السَّاعة ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( ما المسئول عنها بأعلمَ من السَّائل )(1) يعني : أنَّ علم الخلق كلِّهم في وقتِ السَّاعة سواءٌ ، وهذه إشارةٌ إلى أنَّ الله تعالى استأثر بعلمها(2) ، ولهذا في حديث أبي هريرة(3) : قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خمسٍ لا يعلمهُنَّ إلاَّ الله تعالى (4)، ثم تلا : { إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (5) ، وقال الله - عز وجل - : { يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } (6) .
وفي " صحيح البخاري " (7) عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مفاتيحُ الغيبِ خمسٌ لا يعلمها إلاَّ الله ) ثم قرأ هذه الآية : { إنَّ الله عِندَهُ عِلمُ السَّاعةِ } الآية .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) انظر : مختصر معارج بشرح سلم الوصول إلى علم الوصول في علم التوحيد : 197 .
(3) أخرجه : البخاري 1/19 ( 50 ) ، ومسلم 1/30-31 ( 9 ) ( 5 ) و( 6 ) و( 7 ) من حديث أبي هريرة ، به . وهو جزء من حديث طويل .
(4) من قوله : ( استأثر بعلمها ولهذا ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(5) لقمان : 34 .
(6) الأعراف : 187 .
(7) الصحيح2/41 ( 1039 ) و6/71 ( 4627 ) و6/99 ( 4697 ) و6/144 ( 4778 ) و9/142 ( 7379 ) .
وخرَّجه الإمام أحمد(1) ، ولفظه : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أوتيتُ مفاتيحَ كلِّ شيءٍ إلاَّ الخمسِ : { إنَّ الله عِنده عِلمُ السَّاعةِ } الآية .
وخرَّج أيضاً(2) بإسناده عن ابن مسعود ، قال : أوتي نبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - مفاتيح كلِّ شيءٍ غير خمسٍ : { إنَّ الله عِندهُ عِلمُ السَّاعةِ } الآية .
قوله : فأخبرني عن أماراتها . يعني : عن علاماتها(3) التي تدلُّ على اقترابها ، وفي حديث أبي هريرة : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( سأحدِّثُك عن أشراطها ) (4) ، وهي علاماتها(5) أيضاً .
وقد ذكر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للسَّاعة علامتين :
الأولى : ( أنْ تلد الأمة ربَّتها(6) ) ، والمراد بربَّتها سيِّدتُها ومالكتها ،
وفي حديث أبي هريرة ( ربها ) ، وهذه إشارةٌ إلى فتح البلاد ، وكثرة جلبِ
الرَّقيق حتى تكثر السَّراري ، ويكثر أولادهن ، فتكون الأُم رقيقةً لسيِّدها ،
وأولاده منه بمنْزلته ، فإنَّ ولدَ السيد بمنْزلة السيد ، فيصير ولد الأمة بمنْزلة ربها وسيدها(7) .
__________
(1) في " مسنده " 2/85 .
(2) " في مسنده " 2/85-86 .
وأخرجه البخاري 6/144 ( 4778 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 13344 ) و( 13346 ) من حديث ابن عمر مرفوعاً .
(3) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/147 .
(4) تقدم تخريجه .
(5) زاد بعدها في ( ص ) : ( التي تدل على اقترابها ) .
(6) زاد بعدها في ( ص ) : ( فكأن ولدها هو الذي أعتقها ) .
(7) انظر : شرح السنة للبغوي 1/11 ، وشرح النووي لصحيح مسلم 1/147 ، وقد تقدم التعليق على ذلك أول الحديث .
وذكر الخطابي(1) أنَّه استدلَّ بذلك من يقول : إنَّ أمَّ الولدِ إنَّما تعتق على ولدها من نصيبه من ميراث والده ، وإنَّها تنتقل إلى أولادها بالميراث ، فتعتق عليهم ، وإنَّها قبل موت سيدها تُباع ، قال : وفي هذا الاستدلال نظر .
قلت : قد استدل به بعضُهم على عكس ذلك ، وعلى أنَّ أمَّ الولد لا تُباع ، وأنَّها تعتق بموتِ سيِّدها بكل حال ؛ لأنَّه جعل ولد الأمَة ربها ، فكأن ولدها هو الذي أعتقها فصار عتقها منسوباً إليه ؛ لأنَّه سببُ عتقها(2) ، فصار كأنَّه
مولاها(3) . وهذا كما روي عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال في أمِّ ولده ماريَّةَ لمَّا ولدت إبراهيمَ - عليه السلام - : ( أعتقها ولدُها )(4) .
وقد استدلّ بهذا الإمام أحمد ، فإنَّه قال في رواية محمد بن الحكم عنه : تلد الأمةُ ربتها : تكثُر أمَّهاتُ الأولاد ، يقول : إذا ولدت ، فقد عتقت لولدها ، وقال : فيه حجة أنَّ أمهات الأولاد لا يُبَعْنَ(5) .
وقد فسر قوله : ( تلدُ الأمةُ ربَّتها ) بأنَّه يكثرُ جلبُ الرَّقيق ، حتّى تجلب البنت ، فتعتق ، ثم تجلب الأم فتشتريها البنت وتستخدمها جاهلة بأنَّها أمها ، وقد وقع هذا في الإسلام(6) .
__________
(1) في " معالم السنن " 4/68 .
(2) من قوله : ( ربها فكأن ولدها ... ) ، إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(3) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/147 ، والواضح في شرح مختصر الخرقي5/397-398 .
(4) أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 1/108، وابن ماجه ( 2516 ) ، والدارقطني 4/131 ، والحاكم 2/19 ، والبيهقي 10/346 من حديث عبد الله بن عباس ، به . وإسناده ضعيف لضعف الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس .
(5) انظر : المغني 12/492 .
(6) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/147 .
وقيل : معناه أنَّ الإماء يَلِدنَ الملوكَ ، وقال وكيع(1): معناه تلدُ العجمُ العربَ، والعرب ملوك العجم وأربابٌ لهم(2) .
والعلامة الثانية : ( أنْ ترى الحُفاة العُراة العالة )(3) .
والمراد بالعالة : الفُقراء(4) ، كقوله تعالى : { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } (5) .
وقوله : ( رعاء الشاء يتطاولون في البُنيان ) . هكذا في حديث عمر(6) ، والمراد أنَّ أسافلَ الناس يصيرون رؤساءهم ، وتكثر أموالهم حتّى يتباهون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه(7) .
وفي حديث أبي هريرة ذكر ثلاثَ علامات : منها : أنْ تكون الحُفاة العراة رؤوسَ الناس ، ومنها : أنْ يتطاول رِعاءُ البَهم في البنيان(8) .
وروى هذا الحديث عبدُ الله بن عطاء ، عن عبد الله بن بُريدة ، فقال فيه :
( وأنْ تَرى الصمَّ البُكمَ العُمي(9) الحفاةَ رعاءَ الشاء يتطاولون في البنيان ملوك
الناس ) ، قال : فقام الرَّجُلُ ، فانطلق ، فقلنا : يا رسولَ الله ، مَنْ هؤلاء الذين
نعتَّ ؟ قال : ( هم العُريب )(10) . وكذا روى هذه اللفظة الأخيرة عليُّ بنُ زيد ، عن يحيى بن يعمر ، عن ابن عمر(11) .
وأمَّا الألفاظ الأُوَلُ ، فهي في الصحيح من حديث أبي هريرة بمعناها(12) .
وقوله : ( الصمّ البكم العمي ) إشارة إلى جهلهم وعدم علمهم وفهمهم .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) أخرجه : ابن ماجه عقب ( 63 ) .
(3) تقدم تخريجه .
(4) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/148 .
(5) الضحى : 8 .
(6) تقدم تخريجه .
(7) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 1/148 .
(8) تقدم تخريجه .
(9) سقطت من ( ص ) .
(10) أخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 367 ) وعنده كلمة ( العَرب ) بدل
( العُريب ) .
(11) رواية علي بن زيد بن جدعان عند الإمام أحمد في " المسند " 2/107 ، وعند المروزي في
" تعظيم قدر الصلاة " ( 371 ) ، وليس فيها هذه اللفظة .
(12) تقدم تخريجه .
وفي هذا المعنى أحاديث متعددة ، فخرَّج الإمام أحمد(1) والترمذي(2) من حديث حذيفة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تقومُ السَّاعة حَتّى يكونَ أسعدُ النَّاسِ بالدُّنيا لكع بن لكع ) .
وفي " صحيح ابن حبان " (3) عن أنس ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تنقضي الدنيا حتّى تكونَ عندَ لكع بنِ لكعٍ ) .
وخرّج الطبراني(4) من حديث أبي ذرٍّ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تقومُ الساعةُ حتى يغلبَ على الدُّنيا لكعُ بنُ لكع ) .
وخرّج الإمام أحمد(5) والطبراني(6) من حديث أنس ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال
: ( بينَ يدي الساعةِ سنُونَ خدَّاعةٌ ، يُتَّهمُ فيها الأمينُ ، ويُؤْتَمنُ فيها المتَّهمُ ، وينطق فيها الرُّويبضةُ ) . قالوا : وما الرويبضَةُ ؟ قال : ( السَّفيه ينطق في أمرِ العامَّة ) . وفي رواية : ( الفاسقُ يتكلَّمُ في أمر العامة )(7) . وفي رواية الإمام أحمد(8) : ( إنَّ بين يدي الدجال سنينَ خداعةٌ ، يُصدّقُ فيها الكاذبُ ، ويكذّبُ فيها الصادقُ ، ويخوَّن فيها الأمينُ ويؤتمنُ فيها الخائنُ ) ، وذكر باقيه .
__________
(1) في " مسنده " 5/389 .
وأخرجه : البيهقي في " دلائل النبوة " 6/392 ، والبغوي ( 4154 ) من حديث حذيفة بن اليمان ، به .
(2) في " الجامع الكبير " ( 2209 ) ، وقال الترمذي : ( هذا حديث حسن ) .
(3) برقم ( 6721 ) ، وهو حديث صحيح .
(4) في "الأوسط" ( 3098 ) ، والطبعة العلمية ( 3076 ) ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(5) في " مسنده " 3/220 .
وأخرجه : أبو يعلى ( 3715 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 465 ) و( 466 ) من حديث أنس بن مالك به ، وهو حديث حسن من أجل محمد بن إسحاق .
(6) في " الأوسط " ( 3270 ) .
(7) أخرجه : أحمد 3/220 .
(8) في مسنده 3/220 .
ومضمونُ ما ذكر من أشراطِ الساعة في هذا الحديث يَرجِعُ إلى أنَّ الأمور تُوَسَّدُ إلى غير أهلها ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن الساعة : ( إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة (1) )(2) ، فإنَّه إذا صار الحفاةُ العراةُ رعاءُ الشاءِ - وهم أهلُ الجهل والجفاء - رؤوسَ الناس ، وأصحابَ الثروة والأموال ، حتّى يتطاولوا في البنيان ، فإنَّه يفسد بذلك نظامُ الدين والدنيا ، فإنَّه إذا رَأَسَ الناسَ مَنْ كانَ فقيراً عائلاً ، فصار ملكاً على الناس ، سواء كان مُلكُه عاماً أو خاصاً في بعض الأشياء ، فإنَّه لا يكادُ يعطي الناسَ حقوقَهم ، بل يستأثر عليهم بما استولى عليهم من المال ، فقد قال بعض السَّلف : لأنْ تمدَّ يدكَ إلى فم التِّنين ، فيقْضمها ، خيرٌ لك من أنْ تمدَّها إلى يد غنيٍّ قد عالج الفقرَ(3) . وإذا كان مع هذا جاهلاً جافياً، فسد بذلك الدين ؛ لأنَّه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم، بل هِمته في جباية المال واكتنازه ، ولا يُبالي بما فسد من دينِ(4) الناسِ ، ولا بمن ضاعَ من أهل
حاجاتهم .
وفي حديثٍ آخر: ( لا تقوم الساعةُ حتى يسودَ كُلَّ(5) قبيلة منافقوها )(6).
__________
(1) في ( ص ) : ( فانتظروها ) .
(2) أخرجه : أحمد 2/361 ، والبخاري 1/23 ( 59 ) و8/129 ( 6496 ) ، وابن حبان
( 104 ) ، والبيهقي 10/118 ، والبغوي ( 4232 ) من حديث أبي هريرة ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 7/22-23 من قول سفيان الثوري .
(4) في ( ص ) : ( بذلك الدين ) .
(5) سقطت من ( ص ) .
(6) أخرجه : البزار ( 3416 ) ( كشف الأستار ) ، والطبراني في " الكبير " ( 9771 )
و( 10556 ) ، وابن عدي في " الكامل " 3/221 من حديث عبد الله بن مسعود ، به . الروايات مطولة ومختصرة ، وهو حديث ضعيف .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 7715 ) من حديث أبي بكرة ، به .
وإذا صار ملوكُ الناس ورؤوسُهم على هذه الحال ، انعكست سائرُ الأحوال ، فصُدِّقَ الكاذبُ ، وكُذِّبَ الصادقُ ، وائتُمِنَ الخائنُ، وخوِّنَ الأمينُ، وتكلَّمَ الجاهلُ ، وسكتَ العالم ، أو عُدِمَ بالكلية ، كما صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إنّ من أشراط الساعة أن يُرفَعَ العلمُ ، ويظهر الجهلُ )(1) وأخبر : ( أنَّه يقبضُ العلمُ بقبض
العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً ، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا )(2) . وقال الشَّعبي : لا تقومُ السَّاعة حتى يصيرَ العلمُ جهلاً ، والجهلُ علماً .
وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر(3) الزمان وانعكاس الأمور .
وفي " صحيح الحاكم "(4) عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً : ( إن من أشراط الساعة أن يُوضع الأخيارُ ، ويُرفع الأشرارُ ) .
__________
(1) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20801 ) ، والطيالسي ( 1984 ) ، وأحمد 3/98 و151 و176 و202 و213 و273 و289 ، وعبد بن حميد ( 1192 )، والبخاري 1/30 ( 80 ) و( 81 ) و8/203 ( 6808 ) وفي " خلق أفعال العباد " ، له ( 43 ) ، ومسلم 8/58
( 2671 ) ( 8 ) و( 9 ) ، وابن ماجه ( 4045 ) والترمذي ( 2205 ) ، والنسائي في
" الكبرى " ( 5905 ) و( 5906 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
(2) أخرجه : أحمد 2/162 و190 و203 ، والدارمي ( 245 ) ، والبخاري 1/36 ( 100 ) و9/123 ( 7307 ) وفي " خلق أفعال العباد " ، له ( 47 ) ، ومسلم 8/60 ( 2673 )
( 13 ) ، وابن ماجه ( 52 ) ، والترمذي ( 2652 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 5907 ) و( 5908 ) ، وابن حبان ( 4571 ) و( 6719 ) و( 6723 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، به .
(3) في ( ص ) : ( ذلك ) .
(4) أي : المستدرك 4/554 ، وصححه .
وفي قوله : ( يتطاولون في البنيان ) دليلٌ على ذمِّ التباهي والتفاخر ، خصوصاً بالتطاول في البنيان ، ولم يكن إطالة (1) البناء معروفاً (2) في زمن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، بل كان بنيانهم قصيراً بقدر الحاجة(3) ، وروى أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تقومُ الساعةُ ، حتَّى يتطاول الناسُ في البنيان ) . خرَّجه البخاري(4) .
وخرَّج أبو داود(5) من حديث أنسٍ : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج فرأى(6) قُبَّةً مشرفة ، فقال : ( ما هذه ؟ ) قالوا : هذه لفلان ، رجل من الأنصار ، فجاء صاحِبُها ، فسلّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأعرضَ عنه ، فعلَ ذلك مراراً ، فهدمها الرَّجُلُ . وخرَّجه الطبراني(7) من وجه آخر عن أنس أيضاً ، وعنده ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( كلُّ بناءٍ – وأشار بيده هكذا على رأسه – أكثر مِنْ هذا ، فهو وبالٌ على
صاحبه (8) ) .
وقال حريثُ بن السائب ، عن الحسن : كنتُ أدخلُ بيوتَ أزواج النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في خلافة عثمان - رضي الله عنه - فأتناولُ سقفَها بيدي(9) .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) في ( ص ) : ( مرفوعاً ) .
(3) انظر : فتح الباري 13/110 .
(4) في " صحيحه " 9/74 ( 7121 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 449 ) .
(5) في " سننه " ( 5237 ) .
وأخرجه : أبو يعلى ( 4347 ) والبيهقي في " شُعب الإيمان " ( 10705 ) من حديث أنس ابن مالك ، به . وإسناده لا بأس به .
(6) في ( ص ) : ( أنَّه رأى ) .
(7) في " الأوسط " ( 3103 ) ، وأخرجه ابن ماجه ( 4161 ) بلفظ أطول ، وإسناده ضعيف .
(8) عبارة : ( على صاحبه ) سقطت من ( ج ) .
(9) أخرجه : البخاري في "الأدب المفرد" ( 450 ) ، وابن أبي الدنيا في "قصر الأمل" ( 245 ) .
ورُويَ عن عمرَ أنَّه كتب : لا تُطيلوا بناءكم ، فإنَّه شرُّ أيامكم(1) .
وقال يزيدُ بن أبي زياد : قال حذيفة لسلمان : ألا نبني لك مسكناً يا أبا
عبد الله ؟ قالَ : لِمَ ، لتجعلني ملكاً ؟ قال : لا ، ولكن نبني لك بيتاً من قصب ونَسقفه بالبواري، إذا قمت كاد أنْ يصيب رأسك، وإذا نمت كاد أنْ يمس طرفيك ، قال : كأنَّك كنت في نفسي(2) .
وعن عمّار بن أبي عمّار ، قال : إذا رفع الرجل بناءه فوق سبع أذرع ، نودي
يا أفسقَ الفاسقين ، إلى أين (3) ؟
خرّجه كلّه(4) ابنُ أبي الدنيا .
وقال يعقوب بنُ شيبة في " مسنده " : بلغني عن ابن عائشة ، حدثنا ابن أبي شُميلة ، قال : نزل المسلمون حولَ المسجد ، يعني : بالبصرةِ في أخبية الشَّعرِ ، ففشا فيهم السَّرَقُ ، فكتبوا إلى عمرَ ، فأذن لهم في اليراع ، فبنوا بالقصب ، ففشا فيهمُ الحريقُ ، فكتبوا إلى عمر ، فأذن لهم في المدَرِ ، ونهى أنْ يرفعَ الرجل سمكه أكثر من سبعة أذرع ، وقال : إذا بنيتُم منه بيوتكم ، فابنوا منه المسجدَ . قال ابن عائشة : وكان عتبةُ بن غزوان بنى مسجدَ البصرة بالقصب ، قال : من صلى فيه وهو من قصب أفضلُ ممن صلى فيه وهو مِنْ لبن ، ومن صلى فيه وهو من لبن خير(5) ممن صلَّى فيه وهو من آجُر .
وخرّج ابن ماجه(6)
__________
(1) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 452 ) .
(2) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " قصر الأمل " ( 306 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/202 .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " قصر الأمل " ( 250 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/75 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) في ( ص ) : ( أفضل ) .
(6) في " سننه " ( 739 ) .
وأخرجه : أحمد 3/143 و145 و152 و230 و283 ، والدارمي ( 1415 ) ، وأبو داود
( 449 ) ، والنسائي 2/32 وفي " الكبرى " ، له ( 768 ) ، وأبو يعلى ( 2798 )
و( 2799 ) ، وابن خزيمة ( 1322 ) و( 1323 ) ، وابن حبان ( 1614 ) من حديث أنس ابن مالك ، به . وهو حديث صحيح .
من حديث أنس ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تقومُ الساعةُ حتّى يتباهى الناسُ في المساجد ) .
ومن حديث ابن عباس ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أراكم ستُشرِّفون مساجدَكم بَعْدي كما شرَّفتِ اليهودُ كنائسها ، وكما شرَّفتِ النَّصارى
بِيَعَها(1) )(2) .
وروى ابن أبي الدُّنيا(3) بإسناده عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن - رضي الله عنه - ،
قال : لما بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد ، قال : ( ابنوه عريشاً كعريشِ موسى ) .
قيل للحسن : وما عريشُ موسى ؟ قال : إذا رفع يَده بلغ العريش ، يعني :
السقف .
__________
(1) حديث ابن عباس متقدم على حديث أنس في ( ص ) .
(2) أخرجه : ابن ماجه ( 740 ) ، وابن حبان ( 1615 ) ، والبيهقي 2/438-439 ، والبغوي ( 463 ) ، وإسناده ضعيف .
(3) في " قصر الأمل " ( 286 ) ، ومن طريقه البيهقي في " دلائل النبوة " 2/541-542 ، وهو مع إرساله ضعيف ، فراويه عن الحسن البصري إسماعيل بن مسلم المكي ضعيف الحديث ، وانظر : البداية والنهاية لابن كثير 4/532 .
الحديث الثالث
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ بن الخطاب رضي الله عنهُما ، قال : سَمِعْتُرَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يقولُ : ( بُنِي الإسلامُ عَلى خَمْسٍ : شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله ، وأنَّ مُحمَّداً عَبْدُه وَرَسولُهُ ، وإقامِ الصلاةِ ، وإيتاءِ الزَّكاةِ ، وحَجِّ البيتِ ، وصَومِ رَمضانَ ) . رَواهُ البُخارِي ومُسلمٌ .
هذا الحديثُ خرَّجاه في " الصحيحين " (1) من رواية عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر ، وخرّجه مسلم(2) من طريقين آخرين عن ابنِ عمرَ (3)، وله طرقٌ أخرى(4) عنه .
وقد روي هذا الحديث من رواية جريرِ بنِ عبدِ الله البجلي ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وخرَّج حديثَه(5) الإمام أحمدُ(6)
__________
(1) " صحيح البخاري " 1/9 ( 8 ) ، و" صحيح مسلم " 1/34 ( 16 ) ( 22 ) .
وأخرجه : أحمد 2/143 ، والترمذي ( 2609 ) م ، والنسائي 8/107 وفي " الكبرى " ، له
( 11732 ) ، وابن خزيمة ( 308 ) و( 1880 ) ، وابن حبان ( 158 ) و( 1446 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 40 ) من طرق عن عكرمة ، بهذا الإسناد .
(2) في " صحيحه " 1/34 ( 16 ) ( 19 ) و( 20 ) من طريق سعد بن عبيد ، عن ابن عمر ، وفي 1/34 ( 16 ) ( 21 ) من طريق محمد بن زيد بن عبد الله ، عن ابن عمر ، به .
(3) عبارة : ( عن ابن عمر ) لم ترد في ( ص ) .
(4) أخرجه : الحميدي ( 703 ) ، وأحمد 2/26 و92 و120 ، وعبد بن حميد ( 823 ) ، والترمذي ( 2609 ) ، وأبو يعلى ( 5788 ) ، وابن خزيمة ( 309 ) و( 1881 )
و( 2505 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 41 ) و( 42 ) و( 43 ) و( 149 ) و( 150 ) ، والبيهقي 4/81 و199 من طرق عن ابن عمر ، به .
(5) في ( ص ) : ( وخرجه ) بإسقاط كلمة ( حديثه ) .
(6) في " مسنده " 4/363 و364 . =
= ... وأخرجه : المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 419 ) و( 420 ) و( 421 ) و( 422 ) ، وأبو يعلى ( 7502 ) و( 7507 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 2363 ) و( 2364 ) وفي
" الصغير "، له ( 782 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 9/251 من طريق الشعبي ، عن جرير، به.
.
وقد سبق في الحديث الذي قبله ذكرُ الإسلام .
والمرادُ من هذا الحديث أنَّ الإسلام مبنيٌّ على هذه الخمس ، فهي كالأركان والدعائم لبنيانه ، وقد خرَّجه محمدُ بنُ نصر المروزي في " كتاب الصلاة "(1) ، ولفظه : ( بُني الإسلام على خمسِ دعائم ) فذكره .
والمقصودُ تمثيل الإسلام ببنيانه ودعائم البنيان هذه الخمس ، فلا يثبت البنيانُ بدونها ، وبقيةُ خصالِ الإسلام كتتمة البنيان ، فإذا فقد منها شيء ، نقص البنيانُ وهو قائم لا ينتقض بنقص ذلك ، بخلاف نقضِ هذه الدعائم الخمس ؛ فإنَّ الإسلام يزولُ بفقدها جميعِها بغير إشكالٍ ، وكذلك يزولُ بفقدِ الشهادتين ، والمراد بالشهادتين (2) الإيمان بالله ورسوله . وقد جاء في رواية ذكرها البخاري تعليقاً :
( بني الإسلام على خمس : إيمان بالله ورسوله ) ، وذكر بقية الحديث(3) . وفي رواية لمسلم(4) : ( على خمس : على أن يُوحَّدَ الله ) وفي رواية لهُ(5) : ( على أنْ يُعبَد الله ويُكفَرَ بما دونه ) .
وبهذا يُعلم أنَّ الإيمان باللهِ ورسوله داخل في ضمن الإسلام كما سبق تقريره في الحديث الماضي .
وأما إقام الصَّلاة ، فقد وردت أحاديثُ متعددةٌ تدلُّ على أنَّ من تركها ، فقد خرج من الإسلام ، ففي " صحيح مسلم " (6)
__________
(1) حديث ( 413 ) .
(2) عبارة : ( والمراد بالشهادتين ) سقطت من ( ص ) .
(3) في " صحيحه " 6/32 ( 4514 ) .
(4) في " صحيحه " 1/34 ( 16 ) ( 19 ) .
(5) في " صحيحه " 1/34 ( 16 ) ( 20 ) .
(6) 1/61 ( 82 ) ( 134 ) .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 30394 ) ، وعبد بن حميد ( 1022 ) و( 1043 ) ، والدارمي
( 1236 ) ، وأبو داود ( 4678 ) ، وابن ماجه ( 1078 ) ، والترمذي ( 2618 )
و( 2619 ) و( 2620 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 886 ) و( 887 )
و( 888 ) و( 889 ) و( 890 ) و( 891 ) و( 892 ) ، والنسائي 1/232 ، وأبو يعلى
( 1783 ) و( 1953 ) و( 2102 ) و( 2191 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل "
( 3175 ) و( 3176 ) و( 3177 ) و( 3178 ) من طرق عن جابر ، به .
عن جابر ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
( بَيْنَ الرجل وبَينَ الشِّركِ والكفرِ تركُ الصلاة ) ، ورُوي مثلُه من حديث بُريدة(1) وثوبان(2) وأنس(3) وغيرهم .
وخرَّج محمد بنُ نصر المروزيُّ(4) من حديث عُبادة بنِ الصامت، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال : ( لا تتركِ الصَّلاةَ متعمداً ، فمن تركها متعمداً ، فقد خرج من الملة ) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/346 و355 ، وابن ماجه ( 1079 ) ، والترمذي ( 2621 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 894 ) و( 895 ) و( 896 ) ، والنسائي 1/231 وفي
" الكبرى " ، له ( 329 ) ، وابن حبان ( 1454 ) ، والدارقطني 2/52 ، والحاكم 1/6و7 ، والبيهقي 3/366 .
(2) أخرجه : اللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1521 ) .
(3) أخرجه : ابن ماجه ( 1080 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 897 ) و( 898 )
و( 899 ) و( 900 ) ، وأبو يعلى ( 4100 ) .
(4) في " تعظيم قدر الصلاة " ( 920 ) .
وأخرجه : اللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1522 ) من طريق سلمة بن شريح ، عن عبادة ابن الصامت ، به ، وإسناده ضعيف .
وفي حديث معاذ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( رأسُ الأمر الإسلام ، وعمودُه
الصَّلاةُ(1) ) فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاطُ ولا يثبتُ إلا
به ، ولو سقط العمودُ ، لسقط الفسطاط ، ولم يثبت بدونه .
وقال عمر : لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاة(2) ، وقال سعد وعليُّ بنُ أبي طالبٍ(3) : من تركها فقد كفر .
وقال عبد الله بنُ شقيق : كانَ أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَرَونَ من الأعمال شيئاً تركه كفر غير الصلاة(4) .
__________
(1) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20303 ) ، وأحمد 5/231 و237 ، وعبد بن حميد
( 112 ) ، والترمذي ( 2616 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 195 ) و( 196 ) و( 197 ) و( 198 )، والنسائي في " الكبرى " ( 11394 ) وفي " التفسير "، له ( 414 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 21515 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 266 ) ، والحاكم 2/412-413 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 3350 ) ، والبغوي ( 11 ) وفي
" التفسير " ، له ( 1661 ) ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) وسند الترمذي منقطع ، ولعله قال ذلك لما للحديث من طرق وشواهد .
(2) أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 3/188 ، وابن أبي شيبة ( 37074 ) ، وأحمد في
" مسائله " برواية ابنه عبد الله ( 55 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 923 ) -
( 929 ) ، والآجري في " الشريعة " : 134 ، والدارقطني 2/52 ، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1528 ) و( 1529 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 7640 ) وفي " الإيمان " ، له ( 126 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 933 ) ، والآجري في " الشريعة " : 135 من طرق عن علي ، به .
(4) أخرجه : الترمذي ( 2622 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 948 ) .
وأخرجه الحاكم 1/7 من طريق الجريري ، عن عبد الله ، عن أبي هريرة ، به .
وقال أيوب السَّختياني : تركُ الصَّلاةِ كفرٌ ، لا يُختَلَفُ فيه .
وذهب إلى هذا القول جماعةٌ من السَّلف والخلف ، وهو قولُ ابنِ المبارك وأحمد وإسحاق ، وحكى إسحاق عليه إجماعَ أهل العلم ، وقال محمد بن نصر المروزي : هو قولُ جمهور أهل الحديث (1) .
وذهبَ طائفةٌ منهم إلى أنَّ منْ تركَ شيئاً من أركان الإِسلام الخمسة عمداً أنَّه كافر بذلك ، ورُوي ذلك(2) عن سعيد بن جبير ونافع والحكم ، وهو رواية عن أحمد اختارها طائفةٌ من أصحابه وهو قول ابنِ حبيبٍ من المالكية .
وخرَّج الدَّارقطني(3) وغيرُه من حديثِ أبي هريرة قال : قيل : يا رسولَ الله الحج في كلِّ عام ؟ قال : ( لو قلتُ : نعم ، لوجب عليكم ، ولو وجب عليكم ، ما أطقتُموه ، ولو تركتموه لكفرتُم ) .
وخرَّج اللالكائي(4)
__________
(1) في ( ص ) : ( جمهور العلماء وأهل الحديث ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) في " سننه " 2/281 ، والطبري في " تفسيره " ( 9979 ) ، وطبعة التركي 9/18 ، وإسناده ضعيف فإنَّ مداره على إبراهيم بن مسلم الهجري ، وهو ضعيف . انظر : الجرح والتعديل 2/77 ( 417 ) .
وأخرجه : إسحاق بن راهويه ( 60 ) ، وأحمد 2/508 ، ومسلم 4/102 ( 1337 )
( 412 ) ، والنسائي 5/110 وفي " الكبرى " ، له ( 3598 ) ، وابن خزيمة ( 2508 ) ، والطحاوي في "شرح المشكل" ( 1472 ) و( 1473 )، وابن حبان ( 3704 ) و( 3705 )، والبيهقي 4/326 من طرق عن أبي هريرة ، به لكن بدون لفظ : ( ولو تركتموه لكفرتم ) .
(4) في " أصول الاعتقاد " ( 1576 ) .
وأخرجه : أبو يعلى ( 2349 ) من طريق أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، به ، والحديث ضعيف لضعف مؤمل بن إسماعيل فقد دفن كتبه ثم حدّث بعد فدخل الوهم في حديثه .
من طريق مؤمَّل ، قال : حدثنا حمادُ بنُ زيد ، عن عمرو ابن مالك النُّكري ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، ولا أحسبه إلا رفعه قال :
( عُرى الإسلامِ وقواعدُ الدِّين ثلاثةٌ ، عليهن أُسِّسَ الإسلامُ : شهادةُ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ (1)، والصَّلاةُ ، وصومُ رمضانَ . من ترك منهنَّ واحدةً ، فهو بها كافرٌ ، حلالُ الدَّمِ ، وتجدُه كثير المال لم يحجَّ ، فلا يزالُ بذلك كافراً ولا يحلُّ دمه ، وتجده كثيرَ المال فلا يزكِّي ، فلا يزالُ بذلك كافراً ولا يحلُّ دَمُهُ ) ورواه قتيبة بنُ سعيدٍ ، عن حماد بنِ زيد موقوفاً مختصراً ، ورواه سعيدُ بنُ زيد أخو حماد ، عن عمرو بنِ مالك ، بهذا الإسناد مرفوعاً، وقال : ( من ترك منهنَّ واحدةً، فهو باللهِ كافرٌ ، ولا يُقبَلُ منه صرفٌ ولا عدلٌ ، وقد حلَّ دمُه ومالُه ) ولم يذكر
ما بعده .
وقد رُويَ عن عمر ضربُ الجزية على من لم يحجَّ، وقال : ليسوا بمسلمين(2) . وعن ابن مسعود : أنَّ تارك الزَّكاة (3) ليس بمسلم(4) ، وعن أحمد رواية : أنَّ ترك الصلاة والزكاة خاصَّةً كفرٌ دونَ الصيام والحج .
وقال ابن عيينة : المرجئة سَموا تركَ الفرائض ذنباً بمنزلة ركوبِ المحارم ، وليس سواء ؛ لأنَّ ركوب المحارم متعمداً من غير استحلالٍ معصيةٌ ، وتركَ الفرائض من غير جهلٍ ولا عذرٍ هو كفر . وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهودِ الذين أقرُّوا ببعث(5) النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بلسانهم ، ولم يعملوا بشرائعه(6) .
__________
(1) عبارة : ( وأن محمداً رسول الله ) لم ترد في ( ج ) .
(2) تقدم تخريجه .
(3) في ( ص ) : ( الصلاة ) .
(4) تقدم تخريجه .
(5) في ( ج ) : ( بنعت ) .
(6) أخرجه : عبد الله بن أحمد في " السنة " ( 745 ) .
وقد استدلَّ أحمد وإسحاق على كفرِ تاركِ الصَّلاةِ بكفر إبليسَ بترك السجودِ
لآدمَ ، وتركُ السُّجود لله أعظم(1) .
وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إذا قرأ ابنُ آدم السَّجدةَ فسجدَ ، اعتزل الشيطان (3) يبكي ويقول : يا ويلي أُمِرَ ابنُ آدمَ بالسُّجود ، فسجد ، فله الجنة ، وأُمرت بالسجود فأبيت ، فلي النار ) .
واعلم أنَّ هذه الدعائم الخمسَ بعضُها مرتبطٌ ببعض ، وقد روي أنَّه لا يُقبل بعضُها بدون بعض كما في "مسند الإمام أحمد"(4)
__________
(1) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 2/144-145 .
(2) الصحيح 1/61 ( 81 ) ( 133 ) .
وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 981 ) ، وأحمد 2/443 ، وابن ماجه
( 1052 ) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 316 ) ، وأبو عوانة 2/224 و225 ، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1527 ) ، وأبو نعيم في " المستخرج " ( 244 ) وفي
" الحلية " ، له 5/60 من طرق عن أبي هريرة ، به .
(3) في ( ص ) : ( قام إبليس ) بدل : ( فسجد اعتزل الشيطان ) .
(4) المسند 4/200 ، وهو مع إرساله فيه ابن لهيعة ضعيف .
وأورده المنذر في "الترغيب والترهيب" ( 810 ) وعزاه لأحمد، وقال عقبه : ( وهو مرسل ) .
عن زياد بن نُعيم الحضرمي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أربعٌ فرضهنّ الله في الإسلام ، فمن أتى بثلاثٍ لم يُغنين عنه شيئاً حَتّى يأتي بهنّ جميعاً: الصَّلاةُ، والزكاةُ، وصومُ رمضان، وحَجُّ البيتِ ) وهذا مرسل ، وقد روي عن زياد، عن عُمارةَ بن حزم، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ورُوي عن عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، قال : قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الدِّين خمسٌ لا يقبلُ الله(2) منهن شيئاً دون شيء : شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله ، وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله ، وإيمانٌ بالله وملائكته وكتبه ورُسُلِه ، وبالجنَّةِ والنارِ ، والحياةِ بعدَ الموتِ هذه واحدة ، والصلواتُ الخمسُ عمود الدين لا يقبلُ الله الإيمان إلاَّ بالصلاة ، والزكاةُ طهور من الذنوب ، ولا يقبلُ الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة، فمن فعل هؤلاء(3)، ثم جاء رمضان فتركَ صيامَه متعمداً ، لم يقبل الله منه الإيمانَ ، ولا الصلاةَ ، ولا الزكاة(4) ، فمن فعل هؤلاء الأربع ، ثُمَّ تيسَّر له الحجّ ، فلم يحجّ ، ولم يُوص بحجة ، ولم يحجَّ عنه بعض أهله ، لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها ) ذكره ابن أبي حاتم(5)
__________
(1) أخرجه أحمد كما في " جامع المسانيد " 9/316 ( 6833 ) . وأورده الحافظ ابن حجر في
" أطراف المسند " 2/365 ( 2398 ) في مسند زياد بن نعيم ثم قال : ( هكذا وقع في بعض النسخ ، وعليه مشى ابن عساكر ، ووقع في بعضها : عن زياد بن نعيم ، عن عمارة بن حزم ، به ) ، وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " 6/47 وعزاه لأحمد والطبراني في " الكبير " ، وقال الهيثمي : ( وفي إسناده ابن لهيعة ) .
(2) لفظ الجلالة لم يرد في ( ص ) .
(3) زاد بعدها في ( ص ) : ( الأربع ) .
(4) عبارة : ( ولا الزكاة ) لم ترد في ( ص ) .
(5) في " العلل " 1/293-294 ( 879 ) و2/156 ( 1962 ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/201-202 من طريق عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، به . وقال عقبه : ( غريب من حديث ابن عمر ، بهذا اللفظ ) .
، وقال : سألت أبي عنه فقال : هذا حديث منكر يُحتمل أنَّ هذا من كلام عطاء الخراساني .
قلت : الظاهر أنَّه من تفسيرِهِ لحديث ابنِ عمرَ ، وعطاء من جلَّةِ علماءِ
الشَّام .
وقال ابنُ مسعود : من لم يزكِّ ، فلا صلاةَ له . ونفيُ القبولِ هنا لا يُراد به نفيُ الصِّحَّةِ ، ولا وجوب الإعادة بتركه ، وإنما يُراد بذلك انتفاء الرِّضا به ، ومدح عامله ، والثناء بذلك عليه في الملأ الأعلى ، والمباهاة به للملائكة .
فمن قام بهذه الأركان على وجهها ، حصل له القبول بهذا المعنى ، ومن
قام (1) ببعضها دُونَ بعضٍ ، لم يحصل له ذلك ، وإنْ كان لا يُعاقَبُ على ما أتى به منها عقوبةَ تاركه ، بل تَبرَأُ به ذمته ، وقد يُثابُ عليه أيضاً .
ومن هنا يُعلَمُ أنَّ ارتكابَ بعضِ المحرماتِ التي ينقص بها الإيمانُ تكونُ مانعةً من قبول بعض الطاعات ، ولو كان من بعض أركان الإسلام بهذا المعنى الذي ذكرناه ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ شرِبَ الخمرَ لم يقبل الله له صلاة أربعين
يوماً )(2)
__________
(1) في ( ص ) : ( أتى ) .
(2) أخرجه : الطيالسي ( 1901 ) ، وعبد الرزاق ( 17058 ) و( 17059 )، وأحمد 2/35 ، والترمذي ( 1862 ) ، وأبو يعلى ( 5686 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 13441 ) و(13445 ) و( 13448 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 5580 ) ، والبغوي
( 3016 ) من طرق عن ابن عمر ، به ، قال الترمذي : ( هذا حديث حسن ) .
وأخرجه : أحمد 2/176 ، والبزار ( 2493 ) ، والنسائي 8/316 وفي " الكبرى " ، له
( 579 ) ، والحاكم 1/30 عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، به .
وأخرجه : أحمد 5/171 ، والبزار ( 4074 ) من طرق عن أبي ذر ، به .
، وقال : ( مَنْ أتى عرَّافاً فصدَّقه بما يقولُ ، لم تُقبل له صلاة أربعين
يوماً )(1) ، وقال : ( أيما عبد أبقَ من مواليه ، لم تُقْبَلْ له صلاةٌ )(2) .
__________
(1) أخرجه : أحمد 4/68 ، ومسلم 7/37 ( 2230 ) ( 125 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 10/406-407، والبيهقي 8/138 من طريق نافع ، عن صفية ، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، به .
(2) أخرجه : مسلم 1/59 ( 70 ) ( 124 ) ، والنسائي 7/102 وفي " الكبرى " ، له
( 3498 ) ، وابن خزيمة ( 941 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 2357 ) ، وابن حزم في
" المحلى " 4/46 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 8595 ) ، والبغوي ( 2409 ) من طريق الشعبي ، عن جرير ، به .
وحديثُ ابنِ عمر يستدلُّ به على أنَّ الاسمَ إذا شمل أشياءَ متعدِّدةً ، لم يَلزم زوال الاسم بزوال بعضها، فيبطل بذلك قولُ من قال: إنَّ الإيمانَ لو دخلت فيه الأعمال، للزم أنْ يزولَ بزوالِ عمل مما دخل في مسمَّاه، فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جعل هذه الخمسَ دعائمَ الإسلامِ ومبانيه، وفسر بها الإسلام في حديث جبريل(1)، وفي حديث طلحة ابن عُبيد الله الذي فيه أنَّ أعرابياً سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ الإسلام ، ففسره له بهذه الخمس(2) .
__________
(1) وحديث جبريل تقدم تخريجه ، وهو الحديث الثاني من هذا الكتاب .
(2) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 485 ) برواية الليثي ، والشافعي في " الرسالة " ( 344 ) وفي " مسنده " ، له ( 116 ) و( 117 ) بتحقيقي ، وأحمد 1/162 ، والدارمي ( 1586 ) ، والبخاري 1/18 ( 46 ) و3/30 ( 1891 ) و3/235 ( 2678 ) و9/29 ( 6956 ) ، ومسلم 1/31 ( 11 ) ( 8 ) و1/32 ( 11 ) ( 9 ) ، وأبو داود ( 391 ) و( 392 )
و( 3252 ) ، والبزار ( 933 ) ، والنسائي 1/226-228 و4/120 و8/118-119 وفي
" الكبرى " ، له ( 319 ) ( 2400 ) و( 11759 ) ، وابن الجارود ( 144 ) ، وابن خزيمة ( 306 ) ، وابن حبان ( 1724 ) و( 3262 ) ، والبيهقي 1/361 و2/8 و466 و467 ، والبغوي ( 7 ) .
ومع هذا فالمخالفون في الإيمان يقولون : لو زال من الإسلام خَصلةٌ واحدةٌ ، أو أربع خصالٍ سوى الشهادتين ، لم يخرج بذلك من الإسلام . وقد روى بعضهم : أنَّ جبريلَ - عليه السلام - سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن شرائع الإسلام ، لا عن الإسلام ، وهذه اللفظة لم تصحَّ عندَ أئمَّة الحديث ونُقَّاده ، منهم : أبو زُرعة الرازي ، ومسلم بن الحجاج(1) ، وأبو جعفر العُقيلي وغيرُهم .
وقد ضرب العلماءُ مثل الإيمان بمثلِ(2) شجرة لها أصلٌ وفروعٌ وشُعَبٌ ، فاسمُ الشَّجرةِ يَشمَلُ ذلك كله ، ولو زال شيءٌ من شُعَبها وفروعها ، لم يزُل عنها اسمُ الشجرة ، وإنَّما يُقال : هي شجرة ناقصةٌ ، أو غيرُها أتمُّ منها .
وقد ضربَ الله مثلَ الإيمان بذلك في قوله تعالى : { ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } (3). والمراد بالكلمة كلمةُ التَّوحيد ، وبأصلها التَّوحيد الثَّابت في القلوب ، وأُكُلها : هو(4) الأعمال الصالحة الناشئة منه (5).
__________
(1) قال مسلم في " التمييز " : 75 : ( فأما رواية أبي سنان ، عن علقمة في متن هذا الحديث إذ قال فيه : إن جبريل - عليه السلام - قال : جئت أسألك عن شرائع الإسلام فهذه زيادة مختلقة ، ليست من الحروف بسبيل وإنما أدخل هذا الحرف –في رواية هذا الحديث- شرذمة زيادة في الحرف=
= مثل ضرب النعمان بن ثابت وسعيد بن سنان ومن نحا في الإرجاء نحوهما ، وإنما أرادوا بذلك تصويباً في قوله في الإيمان وتعضيد الإرجاء ذلك ما لم يزد قولهم إلاّ وهناً وعن الحق إلاّ بعداً إذ زادوا في رواية الأخبار ما كفى بأهل العلم ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) إبراهيم : 24-25 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) انظر : تفسير الطبري 13/635 .
وضرب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثل المؤمن والمسلمِ بالنَّخلة(1) ، ولو زال شيءٌ من فروع النخلة ، أو من ثمرها، لم يزل بذلكَ عنها اسمُ النخلة بالكلية ، وإن كانت ناقصةَ الفروع أو الثَّمر .
ولم يذكر الجهاد في حديث ابن عمر هذا ، مع أنَّ الجهادَ أفضلُ الأعمال ،
وفي رواية : أنَّ ابنَ عمر قيل له : فالجهاد ؟ قالَ : الجهاد حسن ، ولكن هكذا حدَّثنا رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . خرَّجه الإمام أحمد(2) .
وفي حديث معاذ بنِ جبل : ( إنَّ رأسَ الأَمرِ الإسلامُ ، وعمودهُ الصَّلاةُ ، وذروةُ سنامه الجهاد )(3) وذروةُ سنامه : أعلى شيء فيه ، ولكنَّه ليس من دعائمه وأركانه التي بُني عليها ، وذلك لوجهين :
__________
(1) هو حديث ابن عمر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها وأنَّها مثل المسلم فحدثوني ما هي ؟ ) فوقع الناس في شجر البوادي ، قال عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما - : ووقع في نفسي أنَّها النخلة فاستحيت ، ثم قالوا : حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ فقال : هي النخلة ، قال : فذكرت ذلك لعمر ، فقال : لأنْ تكون قلت هي النخلة أحب إليّ من كذا وكذا .
... أخرجه : الحميدي (676 ) و( 677 ) ، وأحمد 2/12 و31 و61 و115 و157 ، والبخاري 1/23 ( 61 ) و1/24 ( 62 ) و1/28 ( 72 ) و1/44 ( 131 ) و3/103 =
= ... ( 2209 ) و6/99 ( 4698 ) و7/104 ( 5448 ) و8/36 ( 6122 ) و8/42
( 6144 ) ، ومسلم 8/137 ( 2811 ) ( 63 ) و( 64 ) واللفظ له ، والنسائي في
" الكبرى " ( 11261 ) من طرق عن ابن عمر ، به . والروايات مطولة ومختصرة .
(2) في " مسنده " 2/26 ، وإسناده ضعيف لانقطاعه ولجهالة حال يزيد بن بشر السكسكي .
(3) تقدم تخريجه قبل صفحات .
أحدهما : أنَّ الجهادَ فرضُ كفاية عند جمهورِ العلماء ، ليس بفرضِ عينٍ ، بخلاف هذه الأركان(1) .
والثاني : أنَّ الجهاد لا يَستمِرُّ فعلُه إلى آخر الدَّهر ، بل إذا نزل عيسى - عليه السلام - ، ولم يبقَ حينئذٍ ملة إلاّ ملة(2) الإسلام ، فحينئذٍ تضعُ الحربُ أوزارَها ، ويُستغنى عن الجهاد ، بخلاف هذه الأركان ، فإنَّها واجبةٌ على المؤمنين إلى أن يأتيَ أمرُ الله وهم على ذلك ، والله أعلم .
__________
(1) قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك وسائر فقهاء الأمصار : ( إن الجهاد فرض إلى يوم القيامة ، إلا أنه فرض على الكفاية إذا قام به بعضهم كان الباقون في سعة من تركه ) . وقد ذكر أبو عبيد أن سفيان الثوري كان يقول : ( ليس بفرض ولكن لا يسع الناس أن يجمعوا على تركه ويجزي فيه بعضهم على بعض ) . أحكام القرآن للجصاص 3/146 .
(2) في ( ص ) : ( سوى ملة ) .
الحديث الرابع
عَنْ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ : حَدَّثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ الصَّادِقُ المَصدوقُ : ( إنَّ أَحَدَكُم يُجْمَعُ خلقُهُ في بَطنِ أُمِّهِ أَربعينَ يَوماً نطفة (1) ، ثمَّ يكونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ ، ثمَّ يكونُ مُضغةً مِثلَ ذلكَ ، ثمَّ يُرسلُ الله إليه المَلَك ، فيَنْفُخُ فيه الرُّوحَ ، ويُؤْمَرُ بأربَعِ كلماتٍ : بِكَتْب رِزقه وعمله وأجَلِه ، وشقيٌّ أو سَعيدٌ ، فوالذي لا إله غيره إنَّ أحدكُم ليَعْمَلُ بعمَلِ أهلِ الجنَّةِ حتَّى ما يكونَ بينَهُ وبَينها إلاَّ ذِراعٌ ، فيَسبِقُ عليهِ الكتابُ فَيعمَلُ بعمَلِ أهل النَّار فيدخُلها ، وإنَّ أحدكم ليَعمَلُ بعملِ أهل النَّارِ حتّى ما يكون بينَهُ وبينها إلاَّ ذِراعٌ ، فيسبِقُ عليه الكِتابُ ، فيعمَلُ بعملِ أهل الجنَّةِ فيدخُلُها ) رَواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ .هذا الحديث متفق على صحته، وتلقته الأمة بالقبول، رواه الأعمش، عن زيد ابنِ وهب، عن ابن مسعود، ومن طريقه خرَّجه الشيخان في " صحيحيهما(2) " (3)
__________
(1) هذه اللفظة لم ترد في شيء من مصادر التخريج إلاّ في " تفسير ابن أبي حاتم " ( 13780 ) ، و"مسند الشاشي" ( 682 ) ، وتحمل على أنَّها رواية للنووي من طريق الشيخين أو أحدهما ، فهكذا جاءت في الأربعين وعدم تغييرها من المحدّثين إنَّما هو لأمانتهم العلمية .
(2) في ( ص ) : ( من طريق الشيخان في صحيحيهما ) .
(3) صحيح البخاري 4/135 ( 3208 ) و4/161 ( 3332 ) و8/152 ( 6594 ) و9/165
( 7454 ) ، وصحيح مسلم 8/44 ( 2643 ) ( 1 ) .
وأخرجه : معمر في " جامعة " ( 20093 ) ، والطيالسي ( 298 ) ، والحميدي ( 126 ) ، وأحمد 1/382 و414 و430 ، وأبو داود ( 4708 ) ، وابن ماجه ( 76 ) ، والترمذي
( 2137 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 11246 ) وفي " التفسير " ، له ( 266 ) ، وأبو يعلى ( 5157 ) ، وأبو بكر الخلال في " السنة " ( 890 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل " ( 3861 ) – ( 3870 )، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ( 13780 ) ، والشاشي ( 680 )=
= ... - ( 686 ) ، وابن حبان ( 6174 ) ، والطبراني في " الصغير " ( 192 ) ، وأبو الشيخ في
" العظمة " ( 1089 ) ، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " ( 1040 ) و( 1041 )
و( 1042 ) من طرق عن ابن مسعود ، به .
.
وقد رُوي عن محمد بن يزيد الأسفاطي ، قال : رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يرى النائم ، فقلتُ : يا رسول الله ، حديث ابن مسعود الذي حدَّث عنك ، فقال : حدثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الصادق المصدوق . فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( والذي لا إله إلاّ هو(1) حدَّثته به أنا ) يقوله ثلاثاً ، ثم قال : غفر الله للأعمش كما حدَّث به ، وغفر الله لمن حدَّث به قبلَ الأعمش ، ولمن حدَّث به بعده(2) .
وقد روي عن ابن مسعودٍ من وجوهٍ أخر .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ أحدكم يُجمع خلقه في بطنِ أُمِّه أربعين يوماً نُطفةً ) قد روي تفسيره عن ابن مسعود ؛ روى الأعمش ، عن خيثمَة ، عن ابنِ مسعودٍ ، قال : إنَّ النطفةَ إذا وقعت في الرحمِ ، طارت في كلِّ شعرٍ وظُفر، فتمكثُ أربعين يوماً، ثم تنحدِرُ في الرَّحم ، فتكونُ علقةً . قال : فذلك جمعُها . خرَّجه ابن أبي حاتم(3) وغيره .
وروي تفسير الجمع مرفوعاً بمعنى آخر ، فخرَّج الطبراني وابنُ منده في
كتاب " التوحيد " من حديث مالك بن الحويرث : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الله تعالى إذا أرادَ خلقَ عبدٍ ، فجامعَ الرَّجُلُ المرأةَ ، طار ماؤهُ في كلِّ عرقٍ وعضوٍ منها ، فإذا كانَ يومُ السابع جمعه الله ، ثم أحضره كلّ عرق له دونَ آدم(4) : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } (5) ، وقال ابن منده : إسناده متصل مشهور على رسم أبي
عيسى والنَّسائي وغيرهما .
__________
(1) في ( ص ) : ( لا إله غيره ) .
(2) أخرجه : أبو بكر الخلال في " السنة " ( 889 ) ، واللالكائي في " أصول الاعتقاد "
( 1043 ) .
(3) في " تفسيره " ( 13781 ) .
(4) أخرجه الطبراني في" الكبير " 19/( 644 ) وفي " الصغير " ، له ( 100 ) .
(5) الانفطار : 8 .
وخرَّج ابنُ جريرٍ ، وابنُ أبي حاتم ، والطبراني من رواية مُطَهَّرِ بن الهيثم ،
عن موسى بن عُلي(1) بن رباح ، عن أبيه ، عن جدّه : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لجدّه : ( يا فلان ، ما وُلِدَ لك ؟ ) قالَ : يا رسول الله ، وما عسى أن يُولَدَ لي ؟ إمّا غلامٌ وإمّا جاريةٌ ، قالَ : ( فمن يشبهُ ؟ ) قال : مَنْ عسى أنْ يُشبه ؟ يشبه أمه أو أباه ، قال : فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تقولن كذا ، إنَّ النطفة إذا استقرتْ في الرحم ، أحضرها الله كلّ نسب بينها وبينَ آدم ، أَمَا قرأت هذه الآية : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ
رَكَّبَكَ } ، قال : سلككَ ) (2) وهذا إسناد ضعيف ، ومطهر بن
الهيثم ضعيف جداً(3) ، وقال البخاري : هو حديث لم يصح وذكر بإسناده عن
موسى بن عُلي ، عن أبيه : أنَّ أباه لم يُسلم إلا في عهد أبي بكر الصديق ، يعني : أنَّه لا صحبة له .
__________
(1) بضم العين مصغراً ، وانظر بلا بدّ شرح التبصرة والتذكرة 2/275 وتعليقي عليه .
(2) أخرجه الطبري في " تفسيره " ( 28342 ) ، وطبعة التركي 24/180 ، وابن أبي حاتم في
" تفسيره " 10/3408 ( 19176 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 4624 ) ، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 18/30 .
(3) قال عنه أبو سعيد بن يونس : متروك الحديث . انظر : تهذيب الكمال 7/133 ( 6602 ) ، وميزان الاعتدال 4/129 ( 8596 ) ، والتقريب ( 6713 ) .
ويشهد لهذا المعنى قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للذي قال له : وَلَدتِ امرأتي غُلاماً أسودَ
: ( لعله نزعه عرق )(1) .
وقوله: ( ثم يكون علقةً مثل ذلك ) يعني : أربعين يوماً ، والعلقة : قطعةٌ من دم .
( ثم يكون مضغةً مثلَ ذلك ) يعني : أربعين يوماً . والمضغة : قطعة من
لحم .
( ثمَّ يُرسلُ الله إليه المَلَك ، فينفخ فيه الرُّوحَ ، ويؤمر بأربع كلماتٍ : بكتبِ رزقِه وعملهِ وأجلهِ وشقيٌّ أو سعيد ) .
فهذا الحديث يدلُّ على أنَّه يتقلب في مئة وعشرين يوماً ، في ثلاثة أطوار ، في كلّ أربعين منها يكون في طَوْرٍ ، فيكون في الأربعين الأولى نطفةً ، ثم في الأربعين الثانية علقةً ، ثم في الأربعين الثالثة مضغةً ، ثم بعد المئة وعشرين يوماً ينفخ المَلَكُ فيهِ الرُّوحَ ، ويكتب له هذه الأربع كلمات .
وقد ذكر الله في القرآن في مواضعَ كثيرةٍ تقلُّبَ الجنين في هذه الأطوار ، كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ونُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } (2) .
__________
(1) أخرجه : الحميدي ( 1084 ) ، وأحمد 2/233 و234 و239 و279 و409 ، والبخاري 7/68 ( 5305 ) و8/215 ( 6847 ) و9/125 ( 7314 )، ومسلم 4/211 ( 1500 ) ( 18 ) و( 19 ) و( 20 ) و4/212 ( 1500 ) ( 20 ) ، وأبو داود ( 2260 )
و( 2261 ) و( 2262 ) ، وابن ماجه ( 2002 ) ، والترمذي ( 2128 ) ، والنسائي 6/178 و179 وفي " الكبرى " ، له ( 5672 ) من حديث أبي هريرة ، به .
(2) الحج : 5 .
وذكر هذه الأطوار الثلاثة : النُّطفة والعلقةَ والمضغة في مواضع متعددةٍ من القرآن ، وفي موضع آخر ذكر زيادةً عليها ، فقال في سورة المؤمنين : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (1) .
فهذه سبعُ تارات ذكرها الله في هذه الآية لخلق ابنِ آدمَ قبل نفخ الروح فيه . وكان ابنُ عباس يقول : خُلِقَ ابنُ آدمَ مِنْ سبعٍ ، ثم يتلو هذه الآية ، وسئل عن العزل ، فقرأ هذه الآية ، ثم قال : فهل يخلق أحد حتّى تجري فيه هذه الصفة ؟ وفي رواية عنه قال : وهل تموت نفس حتّى تمر على هذا الخلق(2) ؟(3)
ورُوي عن رفاعة بن رافع قال : جلس إليَّ عمر وعليٌّ والزبير وسعد في نفر(4) مِنْ أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتذاكَروا العزلَ ، فقالوا : لا بأس به ، فقال رجلٌ : إنَّهم يزعمون أنَّها الموؤدةُ الصُّغرى ، فقال علي : لا تكون موؤدةً حتَّى تمرَّ على التَّارات السَّبع : تكون سُلالةً من طين ، ثمَّ تكونُ نطفةً ، ثم تكونُ علقةً ، ثم تكون مضغةً ، ثم تكونُ عظاماً ، ثم تكون لحماً ، ثم تكون خلقاً آخرَ ، فقال عمرُ : صدقتَ ، أطالَ الله بقاءك . رواه الدارقطني في " المؤتلف والمختلف "(5) .
__________
(1) المؤمنون : 13-14 .
(2) في ( ص ) : ( على التارات السبع ) .
(3) أخرجه : عبد الرزاق ( 12570 ) ، والبيهقي 7/230 .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) عبارة : ( رواه الدارقطني في المؤتلف والمختلف ) سقطت من ( ص ) ، والحديث في
" المؤتلف والمختلف " 2/877 .
وقد رخص طائفةٌ مِنَ الفقهاء للمرأةِ (1) في إسقاط ما في بطنها مالم يُنفخ فيه الرُّوحُ ، وجعلوه كالعزلِ(2) ، وهو قولٌ ضعيفٌ ؛ لأنَّ الجنين ولدٌ انعقدَ ، وربما تصوَّر ، وفي العزل لم يُوجَدْ ولدٌ بالكُلِّيَّةِ ، وإنَّما تسبَّب إلى منع انعقاده ، وقد لا يمتنع انعقادُه بالعزل إذا أراد الله خلقه ، كما قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سُئِلَ عن العزل : ( لا عليكم أنْ لا تَعزِلُوا ، إنَّه ليسَ مِن نفسٍ منفوسةٍ إلا الله خالقُها )(3) . وقد صرَّح أصحابنا بأنَّه إذا صار الولدُ علقةً(4) ، لم يجز للمرأة إسقاطُه ؛ لأنَّه ولدٌ انعقدَ ، بخلاف النُّطفة ، فإنَّها لم تنعقد بعدُ ، وقد لا تنعقدُ ولداً .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) قال الحنفية : إذا أسقطت جنينها قبل مضي أربعة أشهر ، أي : قبل نفخ الروح فيه فإذا أسقطته في هذه الفترة من عمر الجنين فلا مسؤولية عليها ، ولكن هذه الحالة مقيدة بالعذر عند المحققين منهم .
وقالوا : يباح إسقاط الولد قبل أربعة أشهر ولو بلا إذن الزوج . انظر : المفصل في أحكام المرأة 5/406-407 ، وقد أشار ابن رجب إلى أنَّه قولٌ ضعيف ؛ لذا فلا يجوز الأخذ به ، ولا يجوز اسقاط الجنين حتى ولو كان عمره أسبوعاً .
(3) أخرجه : مالك في " الموطأ " ( 1740 ) برواية يحيى الليثي ، والطيالسي ( 2175 )
و( 2177 ) ، والحميدي ( 746 ) ، وأحمد 3/22 و47 و49 و68 و72 و93 ، والدارمي ( 2229 ) و( 2230 ) ، والبخاري 3/109 ( 2229 ) و5/147 ( 4138 ) و8/153
( 6603 ) و9/148 ( 7409 ) ، ومسلم 4/158 ( 1438 ) ( 125 ) و( 128 )
و( 129 ) و4/159 ( 1438 ) ( 131 ) ، وأبو داود ( 2172 ) ، وابن ماجه ( 1926 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، به .
(4) في ( ص ) : ( إذا كان علقة ) .
وقد ورد في بعض روايات حديث ابن مسعودٍ ذكرُ العظامِ ، وأنَّه يكونُ عظماً أربعين يوماً ، فخرَّج الإمام أحمد(1) من رواية عليِّ بن زيدٍ سمعت أبا عبيدةَ يحدِّثُ قال: قال عبد الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( إنَّ النُّطفةَ تكونُ في الرَّحم أربعينَ يوماً على حالها لا تغيَّر ، فإذا مضتِ الأربعونَ ، صارت علقةً ، ثمَّ مضغةً كذلك، ثم عظاماً كذلك، فإذا أراد الله أنْ يسوِّي خلقَه، بعث الله إليها ملكاً ) ، وذكر بقية الحديث .
ويُروى من حديث عاصم ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعودٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ النطفةَ إذا استقرَّت في الرَّحمِ ، تكونُ أربعينَ ليلةً ، ثم تكونُ علقةً أربعينَ
ليلةً ، ثمَّ تكون مضغة أربعين ليلة (2)، ثم تكونُ عظاماً أربعين ليلةً ، ثم يكسو الله
العظامَ لحماً )(3) .
__________
(1) في " مسنده " 1/374 ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان ، ثمَّ إنَّ سند الحديث منقطع ؛ فأبو عبيدة لم يسمع من أبيه .
(2) عبارة : ( ثم تكون مضغة أربعين ليلة ) سقطت من ( ج ) .
(3) أخرجه : أبو بكر الخلال في " السنة " ( 892 ) ، وتمام في " فوائده " ( 31 ) ، وإسناده ضعيف لضعف مسلم بن ميمون ويحيى بن عيسى .
ورواية الإمام أحمد تدلُّ على أنَّ الجنين لا يُكسى اللَّحمَ إلاَّ بعد مئةٍ وستِّين
يوماً ، وهذه غلطٌ بلا ريبَ ، فإنَّه بعد مئة وعشرينَ يوماً يُنفخُ فيه الرُّوحُ بلا ريب
كما سيأتي ذكره ، وعلي بنُ زيدٍ : هو ابنُ جُدْعان ، لا يحتجُّ به(1) . وقد ورد في
حديث حذيفة بن أسيدٍ ما يدلُّ على خلقِ اللَّحمِ والعِظام في أوَّلِ الأربعين الثانية ،
ففي "صحيح مسلم" (2) عن حُذيفة بن أسيدٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا مرّ بالنُّطفة ثنتان وأربعونَ ليلةً ، بعثَ الله إليها مَلَكاً ، فصوَّرها وخلق سمعها وبصرَها وجِلدَها ولحمَها وعِظامَها، ثُمَّ قال : يا ربِّ أذكرٌ أم أُنثى ؟ فيَقضي ربُّك ما شاءَ ، ويكتبُ الملَكُ، ثُمَّ يقولُ: يا ربِّ ، أجله ؟ فيقول : ربك ما شاء، ويكتب الملك ، ثُمَّ يقول : يا ربِّ ، رزقُه ؟ فيقضي ربُّك ما شاء ، ويكتُبُ الملَكُ ، ثم يخرُجُ الملكُ بالصَّحيفة في يده فلا يزيد على ما أُمِرَ ولا ينقُصُ ) .
وظاهر هذا الحديث يدلُّ على أنَّ تصويرَ الجنين وخلقَ سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه يكون في أوَّل الأربعين الثانية ، فيلزمُ من ذلك أنَّ يكون في الأربعين الثانية لحماً وعظاماً .
وقد تأوَّل بعضهم ذلك على أنَّ المَلَك يقسِمُ النُّطفةَ إذا صارت علقةً إلى
أجزاء ، فيجعلُ بعضَها للجلد ، وبعضها للحم ، وبعضها للعظام ، فيقدِّر ذلك كلَّه قبل وجوده . وهذا خلافُ ظاهر الحديث ، بل ظاهرُه أنَّه يصوِّرها ويخلُق هذه الأجزاء كلها ، وقد يكونُ خلقُ ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وُجودِ اللحم والعظام ، وقد يكون هذا في بعض الأجِنَّةِ دُونَ بعض .
__________
(1) انظر : التاريخ الكبير 6/106-107 ( 8460 ) ، والجرح والتعديل 6/240 (1021 ) ، والمجروحين 2/103 ، وميزان الاعتدال 3/127 ( 5844 ) .
(2) 8/45 ( 2644 ) ( 2 ) و8/46 ( 2645 ) ( 4 ) .
وحديث مالكِ بنِ الحويرث المتقدِّم يدلُّ على أنَّ التصويرَ يكونُ للنُّطفة أيضاً في اليوم السابع ، وقد قال الله - عز وجل - : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } (1) وفسَّرَ طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ أمشاجَ النُّطفةِ بالعُروقِ التي فيها(2) . قال ابن مسعود : أمشاجها : عروقها(3) .
وقد ذكر علماء أهل الطبِّ ما يُوافق ذلك ، وقالوا : إنَّ المنيَّ إذا وقعَ في
الرحم ، حصل له زَبَديَّةٌ ورغوةٌ ستَّةَ أيَّامٍ أو سبعة ، وفي هذه الأيام تصوَّرُ النطفةُ مِنْ
غير استمداد من الرحم ، ثم بعدَ ذلك تستمد منه ، وابتداء الخطوط والنقط بعد هذا
بثلاثة أيام ، وقد يتقدَّم يوماً ويتأخَّر يوماً (4)، ثم بعدَ ستة أيام - وهو الخامس عشر من وقت العلوق - ينفُذُ الدم إلى الجميع فيصير علقة، ثم تتميَّز الأعضاءُ تميزاً ظاهراً ، ويتنحَّى بعضُها عن مُماسَّةِ بعضٍ ، وتمتدُّ رطوبةُ النُّخاع ، ثم بعد تسعةِ أيام ينفصلُ
الرأسُ عن المنكبين ، والأطراف عن الأصابع تميزاً يتبين في بعضٍ ، ويخفى في بعضٍ .
قالوا : وأقلّ مدَّة يتصوَّر الذكر فيها ثلاثون يوماً ، والزمان المعتدل في تصوُّرِ الجنين خمسة وثلاثون يوماً(5) ، وقد يتصوَّر في خمسة وأربعين يوماً .
قالوا : ولم يوجد في الأسقاط ذَكَرٌ تَمَّ قبل ثلاثين يوماً ، ولا أنثى قبل أربعين يوماً (6)، فهذا يوافق ما دلَّ عليه حديثُ حذيفةَ بن أسيدٍ في التخليق في الأربعين الثانية ، ومصيره لحماً فيها أيضاً .
__________
(1) الإنسان : 2 .
(2) زاد بعدها في ( ص ) : ( قال : من أمشاج ) ، وقال زيد بن أسلم : الأمشاج العروق التي في النطفة . انظر : تفسير الطبري ( 27709 ) .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 27708 ) .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) من قوله : ( والزمان المعتدل ... ) إلى هنا لم يرد في ( ص ) .
(6) في ( ص ) : ( والأنثى قبل الثلاثين يوماً ) .
وقد حَمل بعضُهم حديث ابن مسعود على أنَّ الجنين يغلِبُ عليه في الأربعين الأولى وصفُ المنيّ ، وفي الأربعين الثانية وصفُ العلقة ، وفي الأربعين الثالثة وصفُ المضغة ، وإن كانت خلقته قد تمَّت وتمَّ تصويرُهُ، وليس في حديث ابن مسعود ذكرُ وقتِ تصوير الجنين.
وقد روي عن ابن مسعود نفسِه ما يدلُّ على أنَّ تصويره قد يقعُ قبل الأربعين
الثالثة أيضاً ، فروى الشَّعبيُّ ، عن علقمة ، عن ابن مسعود قال : النُّطفة إذا استقرَّتْ
في الرَّحم جاءها مَلَكٌ فأخذها بكفه ، فقال : أي ربِّ ، مخلَّقة أم غير مخلَّقة ؟ فإن
قيل : غير مخلَّقة ، لم تكن نسمة ، وقذفتها الأرحام ، وإنْ قيل : مخلَّقة ، قالَ : أي
ربِّ ، أذكرٌ أم أنثى ؟ شقيٌّ أم سعيد ؟ ما الأجل ؟ وما الأثرُ ؟ وبأيِّ أرضٍ تموتُ ؟
قال : فيُقال للنطفة : من ربك ؟ فتقول : الله ، فيقال : من رازقك ؟ فتقول : الله ،
فيقال : اذهب إلى الكتاب ، فإنك تجد فيه قصة(1) هذه النطفة ، قال : فتُخْلَق ، فتعيش في أجلها وتأكل رزقها ، وتطأ في أثرها ، حتَّى إذا جاء أجلُها ، ماتت ، فدفنت في ذلك ، ثم تلا الشَّعبي هذه الآية : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ } (2) . فإذا بلغت مضغة ، نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة ، فإن كانت غير مخلقة ، قذفتها الأرحام دماً ، وإنْ كانت مخلقة نكست نسمة . خرَّجه ابن أبي حاتم وغيره(3) .
__________
(1) في ( ص ) : ( فستجد قصة ) .
(2) الحج : 5 .
(3) في " تفسيره " 8/2474 ( 13781 ) .
وأخرجه الطبري في " تفسيره " ( 18845 ) ، وطبعة التركي 16/461 .
وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود أنْ لا تصويرَ قبل ثمانين يوماً ، فروى السُّدِّيُّ ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مُرَّةَ الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناسٍ من أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله - عز وجل - : { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } (1) ، قال : إذا وقعتِ النطفة في الأرحامِ ، طارت في الجسد أربعين يوماً ، ثم تكونُ علقةً أربعين يوماً ، ثم تكونُ مضغةً أربعين يوماً ، فإذا بلغ أن تُخلَّق ، بعث الله ملكاً يصوّرها ، فيأتي الملَكُ بترابٍ بين أصبعيه ، فيخلطه في المضغة ، ثم يعجنه بها ، ثم يصوِّرها(2) كما يؤمر فيقول : أذكرٌ أو أنثى ؟
أشقيٌّ أو سعيد ؟ وما رزقه ؟ وما عمره ، وما أثره ؟ وما مصائبه ؟ فيقول الله تبارك وتعالى ، ويكتب المَلَك ، فإذا مات ذلك الجسدُ ، دُفِنَ حيثُ أخذ ذلك التراب ، خرَّجه ابن جرير الطبري في " تفسيره "(3) ، ولكن السدي مختلف في أمره(4)
__________
(1) آل عمران : 6 .
(2) من قوله : ( فيأتي الملك بتراب ... ) إلى هنا لم ترد في ( ص ) .
(3) التفسير ( 5159 ) ، وطبعة التركي 5/186-187، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ( 3156 ) ، ومن تخليط محققه أنَّه عزاه لمسلم !!
(4) هو إسماعيل بن عبد الرحمان بن أبي كريمة ، وهو مختلف فيه وهو إلى القوة أقرب ، وهناك شخص آخر يقال له : السُّدّي : هو محمد بن مروان بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الرحمان مولى عبد الرحمان بن زيد بن الخطاب المعروف بالسدّي الصغير ، قال عنه الإمام أحمد : أدركته وقد كبر فتركته ، وقال البخاري : سكتوا عنه ولا يكتب حديثه البتة ، وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : هو ذاهب الحديث ، متروك الحديث ، لا يكتب حديثه البتة ، وقال النسائي : يروي عن الكلبي ، متروك الحديث ، وقال أبو جعفر الطبري : لا يحتج بحديثه ، وقال ابن عدي : الضعف على رواياته بين .
انظر : التاريخ الكبير 1/233 ( 729 ) ، والضعفاء والمتروكين للبخاري ( 340 ) ، وللنسائي ( 538 ) ، والضعفاء الكبير 4/136 ( 1696 ) ، والجرح والتعديل 8/100
( 364 )، والكامل 7/512 ، والأنساب 3/28 ، وميزان الاعتدال 4/32-33 ( 8154 )، والكشف الحثيث ( 728 ) ، وتهذيب التهذيب 9/377-378 ( 6573 ) ، وقد ترجمت للثاني ؛ لأنَّ كثيراً من طلبة العلم يخلطون بينهما .
، وكان الإمام أحمد ينكر عليه جمعهُ الأسانيد المتعددة للتفسير الواحد(1) ، كما كان هو وغيرُه يُنكرون على الواقدي جمعه الأسانيدَ المتعددة للحديثِ الواحد .
وقد أخذ طوائف من الفقهاء بظاهر هذه الرواية ، وتأوَّلوا حديثَ ابنِ مسعود المرفوع عليها ، وقالوا : أقلُّ ما يتبيَّن فيه(2) خلق الولد أحد وثمانون يوماً ؛ لأنَّه لا يكون مُضغةً إلاّ في الأربعين الثالثة ، ولا يتخلق قبل أنْ يكون مضغةً(3) .
وقال أصحابُنا وأصحابُ الشافعي بناءً على هذا الأصل: إنَّه لا تنقضي العدَّةُ ، ولا تعتق أم الولد إلا بالمضغة المخلَّقة(4)
__________
(1) هذه من العلل الخفية التي لا يدركها إلاّ الأئمة النقاد، قال ابن رجب في "شرح علل الترمذي" 2/816 : ( إنَّ الرجل إذا جمع بين حديث جماعة ، وساق الحديث سياقة واحدة فالظاهر =
= ... أنَّ لفظهم لم يتفق فلا يقبل هذا الجمع إلاّ من حافظ متقن لحديثه ، يعرف اتفاق شيوخه واختلافهم كما كان الزهري يجمع بين شيوخ له في حديث الإفك ، وغيره .
وكان الجمع بين الشيوخ ينكر على الواقدي وغيره ممن لا يضبط هذا ، كما أُنكر على ابن إسحاق وغيره . وقد أنكر شعبة أيضاً على عوف الأعرابي ) .
(2) سقطت من ( ج ) .
(3) انظر : فتح الباري 12/595 .
(4) قال عمر بن الخطاب : إذا ولدت الأمة من سيدها فقد عتقت وإن كان سقطاً . انظر : المغني لابن قدامة 12/504 .
وقال الحسن : إذا أسقطت أم الولد شيئاً يعلم أنّه حمل عتقت به وصارت أم ولد . انظر : السنن الكبرى للبيهقي 10/348 .
والمخلقة : هي المنتقلة عن اسم النطفة وحدها وصفتها إلى أن خلقها الله - عز وجل - علقة كما في القرآن فهي حينئذٍ ولد مخلق فهي بسقوطه أو ببقاءه أم ولد . انظر : المحلى 10/118، وعند مالك والأوزاعي وغيرهما : المضغة إذا كانت مخلقة أو غير مخلقة تكون الأمة أم ولد ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : إن كان قدْ تبين شيء من خلق بني آدم أصبع ، أو عين ، أو غير ذلك فهي أم ولد . انظر : تفسير القرطبي 12/9 .