كتاب : شرح الزركشي على مختصر الخرقي
المؤلف : شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي
الهميان للمحرم ، ولا يرخصون في عقد غيره ، واللَّه أعلم .
قال : وله أن يحتجم .
1549 ش : في الصحيحين عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما .
قال : احتجم النبي وهو محرم .
1150 وعن أنس : أن النبي احتجم وهو محرم ، على ظهر القدم من وجع كان به . رواه أبو داود ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يقطع شعراً .
ش : لإطلاق قوله تعالى : 19 ( { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ) فإن احتاج إلى القطع فله ذلك .
1551 لما رواه عبد اللَّه بن مالك بن بحينة قال : احتجم رسول اللَّه بلحي جمل ، من طريق مكة في وسط رأسه . متفق عليه ومن ضرورة ذلك حلق الشعر ، وتلزمه والحال هذه الفدية لقوله تعالى : 19 ( { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام } ) الآية ، واللَّه أعلم .
قال : ويتقلد بالسيف عند الضرورة .
1552 ش : لما روى البراء بن عازب رضي اللَّه عنهما قال : لما صالح رسول اللَّه أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلوها إلا بجلبان السلاح . فسألته : ما جلبان السلاح ؟ قال : االقراب بما فيه . رواه الشيخان وأبو داود وهذا لفظه ، وهذا محل حاجة ، لأنه عليه السلام لم يأمن أهل مكة أن ينقضوا العهد . ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يفعل ذلك لغير ضرورة ، ولذلك قال أحمد : لا إلا من ضرورة .
1553 وذلك لأن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : 16 ( لا يحمل المحرم السلاح في الحرم . قال أبو محمد : والقياس إباحة ذلك ، لأنه ليس في معنى اللباس المنصوص على منعه .
( تنبيه ) : ( الجلبان ) بضم الجيم واللام ، وفتح الباء الموحدة المشددة ، وبنون بعد الألف ، وروي بضم الجيم وسكون اللام ، مثل الجلبان من الحبوب ، وصوبه جماعة ، وقد فسرها هنا بالقراب وما فيه .
1554 وفي حديث آخر : السيف والقوس ونحوه ، واللَّه أعلم .
قال : وإن طرح على كتفيه القباء والدواج فلا يدخل يديه في الكمين .
ش : لا إشكال في أنه ليس له أن يدخل يديه في كمي القباء والفرجية ونحوهما ، ومن فعل ذلك افتدى ، أما إن وضع ذلك على كتفيه ، ولم يدخل يديه في كميه ، فظاهر كلام الخرقي أن له ذلك ولا شيء عليه ، وهو الذي صححه صاحب التلخيص ، لأنه لم يشتمل على جميع بدنه ، أشبه ما لو ارتدى بالقميص . وظاهر كلام الإمام أحمد المنع من ذلك ، قال في رواية حرب : لا يلبس الدواج ولا شيئاً يدخل منكبيه فيه . وقال في رواية ابن إبراهيم : إذا لبس القبا لا يدخل عاتقيه فيه . وهذا اختيار القاضي في خلفه و أبي الخطاب ، و أبي البركات وغيرهم ، لأنه يلبس معتاداً هكذا ، فمنع منه كالقميص .
1555 وقد روى النجاد بإسناده عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي اللَّه عنه قال : 16 ( من اضطر إلى لبس قباء وهو محرم ، ولم يكن له غيره ، فلينكس القباء وليلبسه ) .
1556 وروى ابن المنذب أن النبي نهى عن لبس الأقبية وعلى هذا عليه الفدية كما لو لبس القميص ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يظلل على رأسه في المحمل .
هذا هو المشهور عن أحمد ، والمختار لأكثر لأكثر الأصحاب ، حتى أن القاضي في التعليق وفي غيره ، وابن الزغواني ، وصاحب التلخيص ، وجماعة لا خلاف عندهم في ذلك ، لأن المحرم أشعث أغبر ، وهذا تظليل مستدام فيزيلهما .
1557 واعتمد أحمد على قول ابن عمر وقد رأى رجلاً محرماً على رحل ، ) 16 ( قد رفع ثوبه بعود يستره منحر الشمس فقال : 16 ( أضح لمن أحرمت له ) ، رواه الأثرم ، وفي لفظ أنه قال له : إن اللَّه لا يحب الخيلاء . وفي لفظ أنه ناداه : اتق اللَّه . رواهما النجاد .
وحكى ابن أبي موسى ، والشيخان رواية بالجواز ، وهي اختيار أبي محمد ، قال : ظاهر كلام أحمد رحمه اللَّه أنه إنما كره ذلك كراهية تنزيه ، وذكر رواية الأثرم عن أحمد : أكره ذلك ذلك ، قيل له : فإن فعل يهريق دماً ؟ قال : لا وأهل المدينة يغلظون فيه .
1558 وذلك لما روت أم الحصين رضي اللَّه عنها قالت : حججنا مع رسول اللَّه حجة الوداع ، فرأيت أسامة وبلالاً ، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي ، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر ، حتى رمى جمرة العقبة . رواه مسلم وغيره .
1559 وعن عثمان رضي اللَّه عنه 16 ( أنه ظلل عليه وهو محرم . )
15660 وعن 16 ( ابن عباس : لا بأس بالظل للمحرم ) . وكما لو استظل بخيمة ، أو بيت ونحوهما ، وقد ذكر لأحمد حديث أم الحصين فقال : هذا في الساعة ، يرفع له الثوب بالعود ، يرفعه بيده من حر الشمس ، يعني أن هذا يسير غير مستدام ، [ بخلاف ظل المحمل ونحوه ، فإنه مستدام ] وهذا هو الجواب عن الاستظلال بالخيمة ونحوها ، وعلى هذا يحمل قول ابن عباس ، وحمل القاضي قوله وفعل عثمان على أن ثم عذراً من حر أو برد ، وهو يمشي له في فعل عثمان ، لأنها واقعة عين ، بخلاف قول ابن عباس . واللَّه أعلم .
قال : فإن فعل فعليه دم .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار الخرقي ، والقاضي في التعليق ، لأنه ستر ممنوع منه [ مستدام ] أشبه ما لو ستره بعمامة ونحوها .
( والثانية ) : وإليها ميل أبي محمد لا فدية عليه ، إذ الأصل عدم الوجوب والمنع من الستر احتياطاً ، لاختلاف العلماء ، والروايتان عند ابن أبي موسى ، وأبي محمد في الكافي ، وأبي البركات على الروايتين في الأصل ، فإن قلنا بالجواز ثم فلا فدية ، وإلا وجبت ، وهما عند القاضي وموافقيه على القول بالمنع ، إذ لا جواز عندهم ، إلا أن القاضي يستثني اليسير فيبيحه ، ولا يوجب فيه فدية ، ونص أحمد على ذلك في رواية الجماعة ، وبه أجاب عن [ حديث ] أم الحصين كما تقدم ، وقال في رواية حرب وقد سئل : هل يتخذ على رأسه فوق المحمل ؟ ) 16 ( فقال : لا إلا الشيء الخفيق .
وحكى صاحب التلخيص في الفدية ثلاث روايات ، الثالثة تجب الفدية في الكثير دون اليسير ، وأطلق القول بالمنع ، كما أطلقه الخرقي وجماعة ، وهو مردود بالحديث ، وبنص أحمد ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يقتل الصيد ولا يصيده .
ش : هذا إجماع والحمد للَّه [ وقد شهد له ] قوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ) وقوله : 19 ( { أحل لكم صيد البحر وطعامه ، متاعاً لكم وللسيارة ، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً ، واتقوا اللَّه الذي إليه تحشرون } ) . واللَّه أعلم .
قال : ولا يشير إليه ، ولا يدل عليه حلالاً ولا محرماً .
1561 ش : لما روى قتادة رضي اللَّه عنه قال : كنت يوماً جالساً مع رجال من أصحاب رسول اللَّه في منزل في طريق مكة ، ورسول اللَّه أمامنا ، والقوم محرمون ، وأنا غير محرم عام الحديبية [ فأبصروا حماراً وحشياً ، وأنا مشغول أخصف نعلي ، فلم يؤذنوني به ، وأحبوا لو أني أبصرته ، فالتفت فأبصرته ، فقمت إلى الفرس فأسرجتهّ ثم ركبت ونسيت السوط والرمح ، فقلت لهم : ناولوني السوط والرمح . قالوا : واللَّه لا نعينك عليه بشيء . [ فغضبت ] فنزلت فأخذتهما ، ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ، ثم جئت به وقد مات ، فوقعوا فيه يأكلونه ، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم ، فرحنا وخبأت العضد معي ، فأدركنا رسول اللَّه فسألناه عن ذلك ، فقال ( هل معكم شيء ) ؟ فقلت : نعم ، فناولته العضد فأكلها وهو محرم وفي رواية : فقال لهم النبي ( منكم أحد أمره أن يحمل عليه ، أو أشار إليه ) ؟ قالوا : لا . قال ( فكلوا ما بقي من لحمها ) متفق عليه . [ قلت ] : وظاهره أن جواز الأكل مرتب على عدم الإشارة ونحوها ، وكذا فهم الصحابة رضي اللَّه عنهم حيث قالوا : واللَّه لا نعينك .
( تنبيه ) : ( خصف نعله يخصفها ) إذا أطبق طاقا على طاق ، وأصل الخصف الضم والجمع ، و ( عقرت الصيد ) إذا أصبته بسهم أو غيره فقتلته ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يأكله إذا صاده الحلال لأجله .
ش : لا يأكل المحرم الصيد الذي صاده الحلال من أجله .
1562 لما روى جابر رضي اللَّه عنه قال : سمعت رسول اللَّه يقول ( صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم ) رواه الخمسة إلا ابن ماجه ، وقال الشافعي : وهو أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس . ) 16 ( انتهى وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث ، فإن النبي قد ثبت عنه في الصحيح أنه أكل مما صاده أبو قتادة ، فيحمل على أنه علم أو ظن أنه لم يصده لأجله .
1563 مع أنه قد ورد في حديث أبي قتادة : وإني إنما صدته لك . فأمر النبي أصحابه فأكلوا ، ولم يأكل حين أخبرته أني اصطدته له . رواه أحمد ، وابن ماجه ، والدارقطني ، قال بعض الحفاظ : بإسناد جيد . وقال الدارقطني : قال أبو بكر يعني النيسابوري : قوله : اصطدته لك . وقوله : ولم يأكل منه . لا أعلم أحداً ذكره في الحديث غير معمر ، وهذا إن ثبت فهنو كحديث جابر ، لا يحتاج إلى تأويل . انتهى . ويحمل ما في الصحيح أنه أكل على أنه أكل ظاناً أنه لم يصده له ، فلما أخبره بالحال امتنع .
1564 ويحمل حديث الصعب بن جثامة . وهو أنه أهدى إليه النبي حماراً وحشياً ، وهو بالأبواء أو بودان ، فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال ( إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ) متفق عليه . [ على أنه علم أنه صيد من أجلهّ .
وقد فهم من [ كلام الخرقي أن المحرم يأكل مما صاده الحلال لا من أجله ، وهون واضح لما تقدم ، وفهم من ] كلامه بطريق التنبيه أنه لا يأكل ما صاده محرم مطلقاً ، ولا ما صاده هو بطريق الأولى ، وكذلك ما أعان عليه ، أو أشار إليه .
وفهم من كلامه [ أيضاً ] أن للمحل أكل ما صاده الحلال لأجل المحرم ، وهو كذلك ، لأن النبي لما رد على الصعب بن جثامة الحمار الوحشي علل بكونه حرماً ، ولم ينهه عن أكله ، وهل للمحرم غير الذي صيد لأجله أكله ؟ فيه احتمالان ، واللَّه أعلم .
1565 ش : هذا إجماع ، وقد شهد له قوله عليه السلام : في المحرم ( لا تحنطوه ، ولا تخمروا رأسه ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ، فدل على أن المنع لأجل الإحرام ، والطيب ما تطيب رائحته ، ويتخذ للشم ، كالمسك ، والكافور ، والعنبر ، والغالية ، والزعفران ، وماء الورد ، ودهن البنفسج ، ونحو ذلك ، وفي النباتات الطيبة الريح كالريحان ، والورد ، والبنفسج ونحوها ثلاثة أقوال ، ثالثها وهو اختيار أبي محمد يباح [ شم ] الريحان ونحوه مما لا يتخذ منه طيب ، دون الورد ، والبنفسج ، ونحوه مما يتخذ منه طيب ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يلبس ثوباً مسه ورس ، ولا زعفران [ ولا طيب ] .
ش : لما تقدم من حديث ابن عمر ( ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران ) وغيرهما من الطيب مقيس عليهما .
( تنبيه ) : ( الورس ) نبت أصفر يكون باليمن ، ) 16 ( تصبغ به الثياب ، يخرج على الرمث ، بين الشتاء والصيف ، والرمث براء مهملة مكسورة ، وميم وثاء مثلثة مرعى من مراعي الإبل ، واللَّه أعلم .
قال : ولا بأس بما صبغ بالعصفر .
1566 ش : لما روى ابن عمر أنه سمع رسول اللَّه ينهى النساء في إحرامهن عن القفازن ، والنقاب وما مس الورص والزعفران من الثياب ، ولتلبس ما أحبت من ألوان الثياب ، من معصفر ، أو خز ، أو حلي أو سراويل ، أو قميص ، أو خف . رواه أبو داود .
1567 وعن عائشة بنت سعد رضي اللَّه عنها قالت : 16 ( كن أزواج النبي يحرمن من المعصفرات ) . رواه الإمام أحمد في المناسك وفارق الورص والزعفران ، فإنه ليس بطيب ، بخلافهما ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يقطع شعراً من رأسه ولا جسده .
ش : لقوله تعالى : 19 ( { ولا تحلقوا رؤوسكم حتي يبلغ الهدي محله ، فمن كان منك مريضاً أو ب أذى من رأسه ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك } ) ولا فرق بين قطع الشعر بالموسى أو بغير ذلك ، أو زواله بنتف ونحوه ، ولا بين شعر الرأس والبدن ، لما في ذلك من الرفاهية التي حال المحرم ينافيها ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يقطع ظفراً إلا أن ينكسر .
ش : لا يقطع ظفراً إجماعاً ، لأنه يترفه به ، فمنع منه كإزالة الشعر ، فإن انكسر فله قطع ما انكسر بالإجماع أيضاً ، لأنه يؤذيه ويؤلمه ، أشبه الصيد الصائل عليه ، واللَّه أعلم .
قال : ولا ينظر في المرآة لإصلاح شيء .
ش : لا ينظر في المرآة لإصلاح شيء زينة كتسوية شعر ونحوه ، قال أحمد ؛ لا بأس [ أن ينظر ] في المرآة ، ولا يزيل شعثاً ، ولا ينفض عنه غباراً ، وذلك لزوال الشعثة والغبرة اللتين هما من صفات المحرم .
1568 وفي الترمذي عن ابن عمر رضي اللَّه عنه أن رجلاً قال لرسول اللَّه : من الحاج ؟ قال : ( الشعث التفل ) قال : وأي الحج أفضل ؟ قال : ( العج والثج ) قال : وما السبيل ؟ قال : ( الزاد والراحلة ) وله أن ينظر في المرآة لا لزينة .
1569 وقد روى مالك في الموطأ 6 ( أن ابن عمر نظر في المرآة لشكوى بعينه وهو محرم ) .
1570 وعن ابن عباس أيضاً 6 ( أنه أباح ذلك ) ، رواه البخاري وعلى كل حال فالمنع من ذلك منع أدب ، لا فدية فيه قاله أبو محمد .
( تنبيه ) : ( الشعث ) البعيد العهد بتسريح شعره وغسله . )6 ( ( التفل ) التارك للطيب واستعماله ، و ( العج ) رفع الصوت . و ( الثج ) سيلان دماء الهدي ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يأكل من الزعفران ما يجد ريحه .
ش : إذ المقصود من الطيب ريحه ، وهو موجود ، فلا فرق بين ما مسته النار وغيره ، لوجود المقتضي للمنع وهو الرائحة ، وذكر الزعفران على سسبيل التمثيل ، فيساويه كل مأكول فيه طيب وجد ريحه ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يدهن بما فيه طيب .
ش : كدهن البنفسج والورد ونحوهما ، لوجود الطيب الممنوع منه شرعاً ، واللَّه أعلم .
قال : ولا ما لا طيب فيه .
ش : لا يدهن بما لا طيب فيه ، كالزيت ، والشيرج ، ونحوهما ، على أنَّ الروايتين ، واختيار الخرقي ، لأنه يزيل الشعثة والغبرة ، وعلى هذا اعتمد أحمد رحمه اللَّه قال في رواية أبي داود : الزيت الذي يؤكل لا يدهن به المحرم رأسه . فذكرت له حديث ابن عمر أن النبي ادّهن بزيت غير مقتت ؛ فسمعته يقول : الأشعث الأغبر . ( والرواية الثانية ) : يجوز ذلك ، سأله الأثرم : يدهن بالزيت والشيرج ؟ قال : نعم ، يدهن به إذا احتاج إليه . وذلك لما استدل به أبو داود رحمه اللَّه على أحمد .
1571 وهو ما روى عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أن النبي كان يدهن بدهن غير مقتت ، يعني غير مطيب ، وفي رواية : كان يدهن بالزيت وهو محرم غير المقتت . رواه أحمد ، وابن ماجه ، والترمذي وقال : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث فرقد السبخي ، وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد ، وقد روى عنه الناس .
1572 وعن ابن عباس قال : يشم المحرم الريحان ، وينظر في المرآة ، ويتداوى بما يأكل بالزيت والسم ، رواه البخاري . وهنا شيئاً ( أحدهما ) منع أحمد إنما هو في الرأس ، فلذلك خص أبو محمد في مقنعه ومغنيه الروايتين بذلك ، أما البدن فيجوز عنده دهنه بلا نزاع ، وجعل ذلك في الكافي احتمالاً ، وقدم إجزاء الروايتين فيهما ، وهذه طريقة الأكثرين ، القاضي في تعليقه ، وأبي الخطاب وصاحب التلخيص ، وأبي البركات وغيرهم ، فلعلهم نظروا إلى تعليل أحمد بالشعث ، وذلك موجود في البدن ، وإن كان في الرأس أكثر . ( الثاني ) : حيث قيل بالمنع فإن الفدية تجب كغيره ، على ظاهر كلام عامة الأصحاب ، ولذلك قال القاضي في تعليقه : إنه ظاهر كلام الإمام أحمد ، لأن منع منه ، وهو اختيار الخرقي انتهى . ولم يوجب أبو محمد الفدية على الروايتين ، وقد ذكر ذلك أيضاً القاضي في تعليقه لكنه جعل المنع بمعنى الكراهة ، ) 16 ( فقال : ويحتمل أن يكون منع على طريق الكراهة من غير فدية .
( تنبيه ) : ( المقتت ) المطيب بالقت ، وهو الذي تطبخ فيه الرياحين حتى يطيب واللَّه أعلم .
قال : ولا يتعمد لشم الطيب .
ش : كما إذا جلس عند العطار للشم ، أو دخل البيت حال تجميره لذلك ، إذ المقصود من الطيب الرائحة ، فإذا تعمد شم الطيب فقد وجد الممنوع منه شرعاً وهو الطيب ، ولو لم يتعمد الشم فشم كما إذا جلس عند العطار لحاجة ونحو ذلك فلا شيء عليه ، لأن ذلك يشق الاحتراز منه ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يغطي شيئاً من رأسه .
ش : لما تقدم من حديث ابن عمر ( ولا العمامة ولا البرنس ) وحديث ابن عباس في المحرم الذي وقصته ناقته ( لا تخمروا رأسه ) والمنهي عنه يحرم فعل بعضه ، بدليل الحلق . وكلام الخرقي يشمل التغطية بمعتاد كالعمامة والبرنس ونحوهما [ وغيره ] كما لو عصبه أو طينه بطين ، أو جعل عليه دواء ونحوه . وهو كذلك . نعم يستثنى من ذلك ما لو حمل على رأسه طبقاً ونحوه ولو قصد به الستر ، لأنه لا يقصد له غالباً ، ولم يستثنه ابن عقيل مع الستر ، ويستثني أيضاً الستر بيديه ، وتلبيد الشعر بغسل أو نحوه ، وستر بعضه بطيب الإحرام .
1573 لأن النبي لبد رأسه ، وكان وبيص الطيب في مفرقه ، واللَّه أعلم .
قال : والأذنان من الرأس .
ش : فلا يجوز تغطيتهما كبقية أبعاض الرأس .
1574 لأنه يروى عن النبي ( الأذنان من الرأس ) رواه ابن ماجه من طرق .
1575 وعن الصنابحي أن النبي قال : ( إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه ) وذكر الحديث إلى أن قال : ( فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه ، حتى تخرج من أذنيه ) رواه مالك في الموطأ ، والنسائي وابن ماجه فقوله ( حتى تخرج من أذنيه ) دليل على دخولهما في مسماه .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يحرم عليه تغطية وجهه . وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار القاضي في تعليقه ، و [ في ] جامعه ، وأبي محمد وغيرهما ، لأن الأشهر والأكثر .
في الرواية في المحرم ( ولا تخمروا رأسه ) ومفهومه جواز [ تخمير ] ما عدا ذلك .
1576 16 ( وقد خمر عثمان وجهه ) ، ذكره مالك في الموطأ .
1577 ورواه عنه أيضاً وعن زيد ، وابن الزبير ، وابن عباس ، [ وجابر ] وسعد رضي اللَّه عنهم ؛ النجاد رحمه اللَّه تعالى . ( والرواية الثانية ) لا يجوز .
1578 لأن في رواية في الصحيح ( ولا تخمروا وجهه ولا رأسه ) . ) 16 (
1579 وعن نافع ، أن ابن عمر كان يقول : 16 ( ما فوق الذقن من الرأس ، فلا يخمره المحرم ) . رواه مالك في الموطأ أي من حكم الرأس ، واللَّه أعلم .
قال : والمرأة إحرامها في وجهها .
ش : المرأة إحرامها في وجهها ، فلا تغطيه ببرقع ، ولا نقاب ولا غيرهما .
لأن في حديث ابن عمر رضي اللَّه عنه الذي في الصحيح ( ولا تنتقب المرأة ، ولا تلبس القفازين ) وفي حديثه الذي في السنن أنه سمع رسول اللَّه ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين ، والنقاب .
1580 وروى النجاد بإسناده عن نافع عنه قال : 16 ( إحرام المرأة في وجهها ، وإحرام الرجل في رأسه ) .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : يجتمع في حق المحرمة وجوب تغطية الرأس وتحريم تغطية الوجه ، ولا يمكن تغطية محل الرأس إلا بتغطية جزء من الوجه ، ولا كشف [ جميع ] الوجه إلا بكشف جزء من الرأس ، فإذاً المحافظة على ستر الرأس أولى ، قاله أبو محمد ، لأنه عورة يجب ستره مطلقاً .
( الثاني ) : ( القفاز ) بالضم والتشديد ، قال الجوهري : [ هو ] شيء يعمل لليدين ، يحشى بقطن ، و يكون له أزرار تزرر على الساعدين من البرد . وقال صاحب المطالع : هو غشاء الأصابع مع الكف ، معروف يكون من جلد وغيره . ونحو هذا قال صاحب التلخيص قال : معمول لليد كالمعمول لأيدي البازبازية ونحو ذلك قال ابن الزاغوني ، وقال ابن دريد و ابن الأنباري : ضرب من الحلي . ثم قال ابن دريد : لليدين .
وقال الآخر : وللرجلين . واللَّه أعلم .
قال : فإن احتاجت سدلت على وجهها .
ش : إذا احتاجت المرأة لستر وجهها حذاراً من رؤية الرجال سدلت على وجهها ثوباً ونحوه .
1581 لما روي عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : 16 ( كان الركبان يمرون بنا ، ونحن مع رسول اللَّه محرمات ، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها [ من رأسها ] على وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه ) . رواه أبو داود وابن ماجه .
1582 وعلى هذا يحمل ما روى مالك في الموطأ عن فاطمة بنت المنذر قالت : 16 ( كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر ) .
ثم شرط القاضي في الساتر كونه متجافياً عن وجهها ، بحيث لا يصيب البشرة ، فإن أصابها ثم ارتفع بسرعة فلا شيء عليها ، كما لو أطارت الريح الثوب عن عورة المصلي ، ) 16 ( وخالفه في ذلك أبو محمد ، فقال : لم أر هذا الشرط عن أحمد ، ولا هو في الخبر ، بل الظاهر من الخبر خلافه واللَّه أعلم .
قال : لا تكتحل بكحل أسود .
ش : لأن في حديث جابر الطويل وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى قال : وقدم علي من اليمن ، فوجد فاطمة رضي اللَّه عنها ممن حل ، ولبست ثياباً صبيغاً ، واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، وقال : من أمرك بهذا ؟ قالت : أبي . فقال النبي ( صدقت صدقت ) فدل هذا على أنها قبل الإحلال ممنوعة من ذلك ، وتقييده بالأسود لأنه الذي تحصل به الزينة ، فيخرج ما ليس للزينة ، كالذي يتداوى به ، فلا تمنع منه .
1583 لما روى نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد اللَّه بن معمر اشتكى عينيه وهو محرم ، فأراد أن يكحلها ، فنهاه أبان بن عثمان ، وأمره أن يضمدها بالصبر ، وحدثه عن عثمان عن النبي [ أنه كان يفعلهّ رواه مسلم وغيره ، ولفظ النسائي : عن النبي ( للمحرم إذا اشتكى عينه أن يضمدها بالصبر ) فيلحق بذلك ما في معناه مما ليس فيه زينة .
وظاهر كلام الخرقي أن المنع من ذلك على سبيل التحريم ، بل قد يقال : ظاهر كلامه وجوب الفدية ، وقد أقره على ذلك أبو الحسن بن الزاغواني ، فقال : كالطيب واللباس ، وجعله أبو البركات مكروهاً ، وكذلك أبو محمد ، ولم يوجب فيه فدية ، وسوى في ذلك بين الرجل والمرأة ، واللَّه أعلم .
قال : وتجتنب كل ما يجتنب الرجل إلا في اللباس ، وتظليل المحمل .
ش : لأن حكم الرسول [ على المحرم ] بأمر ، يدخل فيه النساء ، وإنما استثني اللباس ، وتظليل المحمل ، لحاجتها إلى السترة إذ هي عورة ، [ وقد ] قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم [ على ] أن المرأة ممنوعة مما منع منه الرجل إلا بعض اللباس ، وأجمعوا على أن للمحرمة لبس القميص ، والدرع ، والسراويلات ، والخمر ، والخفاف ، وقد تقدم حديث ابن عمر ( ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب ) إلى آخره ، واللَّه أعلم .
قال : ولا تلبس القفازين .
ش : يستثنى من جواز اللباس لها القفازان فإنها تمنع منهما كما يمنع الرجل ، لما تقدم في حديث ابن عمر ( ولا تلبس القفازين ) وتقدم ثم أيضاً معناهما ، واللَّه أعلم .
قال : ولا الخلخال وما أشبهه .
ش : أي من الحلي كالسوار ونحوه ، لأن ذلك يتخذ للزينة ويدعو إلى نكاحها ،
أشبه الطيب ، وقد قال أحمد : المعتدة والمحرمة يتركان الطيب [ والزينة ] ، ولهما ما عدا ذلك . ) 16 (
وظاهر كلام الخرقي و أحمد في هذا النص أن المنع من ذلك على سبيل التحريم ، ونص [ أحمد ] في رواية حنبل على الجواز ، فقال : تلبس المحرمة الحلي والمعصفر . وعلى هذا جمهور الأصحاب . لما تقدم من حديث ابن عمر ( ولتلبس بعد ما أحبت من ألوان الثياب ، من معصفر ، أو خز ، أو حلي ) وحمل أبو محمد كلام الخرقي على الكراهة ، كقوله في الكحل ، وجزم بأنه لا فدية فيه ، واللَّه أعلم .
قال : ولا ترفع المرأة صوتها بالتلبية إلا بمقدار ما تسمع رفيقتا .
ش : لما كان مفهوم كلام الشيخ أنه يباح لها ما يباح للرجل ، استثنى من ذلك رفع صوتها بالتلبية ، فإنها لا ترفع إلا بمقدار ما تسمع رفيقتها ، حذاراً من الفتنة بصوتها ، ولهذا لم يشرع في حقها أذان ولا إقامة .
1584 وعن سليمان بن يسار أنه قال : 16 ( السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال ) .
وقال ابن عبد البر : أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها ، وإنما عليها أن تسمع صنفسها ، وظاهر إطلاق الخرقي تحريم الزيادة على ذلك ، وهو ظاهر إطلاق الشيخين وغيرهما ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يتزوج المحرم ولا يزوج ، فإن فعل فالنكاح باطل .
ش : هذه المسألة قد ذكرها الخرقي هنا وفي النكاح ، وقد تكلمنا عليها في النكاح وللَّه الحمد ، فلا حاجة إلى إعادتها ، ونزيد هنا بأنه إذا خالف وفعل فلا فدية عليه بلا خلاف نعلمه ، لأنه عقد فسد لأجل الإحرام ، أشبه شراء الصيد ، واللَّه أعلم .
قال : فإن وطىء المحرم في الفرج فأنزل أو لم ينزل فقد فسد حجهما .
ش : مجرد النكاح لا يفسد الإحرام بلا ريب ، بل إذا وطىء فيه ، أو وطىء مطلقاً في الفرج فقد فسد حجه اتفاقاً ، قاله ابن المنذر ، فقال : أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع ، انتهى وقد قضى بهذا الصحابة .
1585 فقال مالك في الموطأ : 16 ( بلغني أن عمر ، وعلياً ، وأبا هريرة سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم [ بالحج ] فقالوا : ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما ، ثم عليهما حج من قابل والهدي . )
1586 قال : وقال علي : وإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا ، حتى يقضيا حجهما .
1587 وعن ابن عمر وابن عباس نحو ذلك ، رواه الأثرم في سنهنه ( ولا فرق بين ) أن ينزل أو لا ينزل ، لإطلاق الصحابة ، ( ولا بين ) أن يكون الوطء قبل الوقوف أو بعده ، ) 16 ( لإطلاقهم أيضاً ، ( ولا بين ) الوطء قبل الوقوف أو بعده ، لإطلاقهم أيضاً ، ( ولا بين ) الوطء في القبل أو الدبر ، من آدمي أو بهيمة ، لأنه وطء محرم ، يجب الاغتسال ، أشبه وطء الآدمية في القبل ، يتخرج أن لا يفسد الحج بوطء البهيمة ، كما لا تجب الكفارة على الصائم في نهار رمضان في قول . ( ولا فرق : بين العامد والساهي ، على المنصوص المشهور المختار للأصحاب ، حتى أن الشيخين [ وجماعة ] لم يذكروا خلافاً . وخرج القاضي في الروايتين رواية بعدم الفساد مع النسيان ، قال : من قوله في رواية أبي طالب في الصائم : إذا وطىء ناسياً لم يفسد صومه . ( قلت ) : وقد يخرج من رواية عدم وجوب الكفارة ثم ، وهو أولى ، إذ إيجاب الكفارة [ ثم ] هو نظير إفساد الحج ، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى .
وأيضاً هذه الرواية هي أشهر ثم من القول الذي خرج منه القاضي ، وهذا التخريج لازم لأبي محمد ، لأنه المخرج في البهيمة أنه لا يفسد الحج بوطئها ، لكنه لم ينص على محل التخريج ، انتهى .
وحكم الجاهل بالتحريم والمكره حكم الناسي قاله أبو محمد ، واللَّه أعلم .
قال : وعليه بدنة إن كان استكرهها ، وإن كانت طاوعته فعلى كل واحد منهما بدنة .
ش : لا يخلو الواطىء المحرم من أن يكون استكره الموطوءة أو طاوعته ، فإن طاوعته فعلى كل واحد منهما بدنة ، على المشهور من المذهب ، والمختار للأصحاب ، لأنها أحد المجامعين ، أشبهت الرجل .
1588 وقد ثبت الأصل بما في الموطأ عن ابن عباس 16 ( أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيض ، فأمره أن ينحر بدنة ) .
1859 وعنه أيضاً أنه قال : أهد ناقة ولتهد ناقة .
1890 قال أحمد في رواية أبي طالب : على كل واحد هدي أكرهها أو لم يكرهها ، هكذا قال ابن عباس . ( وعن أحمد ) أنه قال : أرجو أن يجزئها هدي واحد . وخرج ذلك القاضي في روايتيه من قوله في الصوم : لا كفارة وإن طاوعت . وعلى هذه [ الرواية ] لا يجب مع الإكراه إلا بدنة واحدة بطريق الأولى ، وذلك على المذهب على المشهور من الروايتين ، إذ المكره لا ينسب له فعل ، فوجوده كالعدم . ( وعنه ) : عليها بدنة كالرجل ، وقد تقدم نصه على ذلك ، واعتماده على قول ابن عباس ، وقد تقدم نصه على ذلك ، واعتماده على قول ابن عباس ، وعلى هذه يتحملها الزوج عنها على المشهور ، لأن ذلك حصل [ بسبب ] فعله وعدوانه ، وظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب أنها تستقر عليها ، ) 16 ( وحكم النائمة حكم المكرهة ، واللَّه أعلم .
قال : فإن وطئها دون الفرج فلم ينزل فعليه دم ، فإن أنزل فعليه بدنة وقد فسد حجه .
ش : إذا وطىء دون الفرج فلا يخلو إما أن ينزل أولاً . فإن لم ينزل لم يسد نسكه بلا نزاع ، ووجب عليه دم ، لأنه فعل محرم ، لم يفسد النسك ، أشبه الحلق ، ثم هل هو شاة أو بدنة ؟ على روايتين أشهرهما الأول ، وإن أنزل وجبت بدنة بلا ريب ، لأنه وطء اقترن به الإنزال ، أشبه الوطء في الفرج . وهل يفسد النسك ؟ فيه روايتان أشهرهما عنه وهي اختيار الخرقي وأبي بكر والقاضي في روايتيه يفسد ، لما تقدم ، ولأن الصحابة أطلقوا الإصابة . ( والثانية ) واختارها أبو محمد لا يفسد ، لأنه استمتاع لا يجب بنوعه الحد ، فلم يفسد النسك ، كما لو لم ينزل ، والإصابة في كلام الصحابة رضي اللَّه عنهم كناية عن الوطء في الفرج ، واللَّه أعلم .
قال : وإن قبل فلم ينزل فعليه دم ، فإن أنزل فعليه بدنة ، وعن أبي عبد اللَّه رحمه اللَّه رواية أخرى : إن أنزل فسد حجه .
ش : إذا قبل أو مس فلم ينزل فعليه دم لما تقدم .
1591 وقد روى الأثرم بإسناده عن عبد الرحمن بن الحارث أن عمر بن عبيد اللَّه قبل عائشة بنت طلحة محرماً ، فسأل فأجمع له على أن يهريق دماً والظاهر أنه لم ينزل وإلا لذكر . ( وإن أنزل ) فعليه بدنة لأنه نوع مباشرة أشبه المباشرة فيما دون الفرج ، وفل يفسد نسكه ؟ فيه روايتان ، توجيههما يفهم مما تقدم .
واعلم أن الخرقي رحمه اللَّه جزم [ ثم ] بالفساد ، وحكى الروايتين هنا ، وتبعه على ذلك صاحب التلخيص ، [ وعاكسه ] ابن أبي موسى فيما أظن ، فحكى [ الروايتين ] في الوطء دون الفرج . وجزم في القبلة بعدم الفساد ، وجعل القاضي والشيخان الروايتين في الجميع ، وهو أوجه من جهة النقل ، إذ أحمد قد نص على الفساد بالقبلة ، وإذا أردت جمع الطرق كان في المسألتين ثلاثة أقوال ، ونظير ذلك لو باشر في الصيام ، على ما حكاه أبو البركات تجب الكفارة ، لا تجب ، تجب بالوطء [ دون الفرج دون القبلة وهي المشهورة ، واختيار الخرقي هنا أيضاً ، ولا شك أن الوطء ] دون الفرج أبلغ من القبلة ونحوها ، واللذة به أزيد ، فاقتى زيادة في الواجب ، واللَّه أعلم .
قال : وإن نظر فصرف بصره فأمذى فعليه دم .
ش : ظاهر هذا أنه إذا أمذى بمجرد النظر كان عليه دم ، وعلى ذلك شرح ابن الزاغوني ، لأنه إنزال يؤثر في فساد الصوم ، فأوجب الكفارة ، دليله إنزال المني ، وظاهر كلام أبي الخطاب ، ) 16 ( وصاحب التلخيص ، والشيخين بل صريحه أنه لا يجب والحالة هذه شيء ، لأن ذلك يوجد كثيراً ، لا سيما من الشبان ، فالوجوب به فيه حرج . واللَّه أعلم .
قال : فإن كرر النظر حتى أمنى فعليه بدنة .
ش : وهذا إحدى الروايتين ، لأن نوع استمتاع ممنوع منه ، أشبه القبلة ونحوها ( والثانية ) وهي المنصوصة عليه شاه ، لأنه إنزال لا عن مباشرة ، أشبه الإنزال بالفكر انتهى . ولو كرر النظر فمذى فاتفق الأصحاب هنا فيما علمت أنه يجب عليه شاة ، ويفهم ذلك مما تقدم من كلام الخرقي بطريق التنبيه .
وفهم من كلام الخرقي أيضاً أنه متى لم ينزل بالنظر فلا شيء عليه ، وهو كذلك ، وقد بقي عليه من أنوال الاستمتاع الفكر ، إذا أنزل به ، ولا نزاع أنه لا شيء عليه إذا غلبه ، وكذلك إن استدعاه ، على أشهر الوجهين ، وقد يقال : إنه مقتضى كلام الخرقي .
( تنبيه ) : فساد النسك هنا بمنزلة وجوب الكفارة في الصوم ، لأن ذلك الأمر الأغلظ فيهما ، ووجوب الكفارة هنا بمنزلة فساد الصوم ثم ، لأن الأخف فيهما ، فالوطء [ في الفرج ] موجب للفساد والكفارة في البابين ، والوطء دون الفرج مع الإنزال موجب لفساد الصوم [ بلا ريب ] والكفارة على الأشهر ، وهنا موجب للكفارة بلا ريب [ وكذلك ] لفساد النسك على الأشهر .
والقبلة ونحوها مع الإنزال موجب للفساد ثم بلا ريب أيضاً ، [ غير ] موجب للكفارة على الأشهر .
وتكرار النظر بشرطه يفسد ثم ، ويوجب الكفارة هنا ، ولا يقتضي كفارة ثم ، ولا فساداً هنا ، والإنزال بالفكر المستدعى لا يوجب كفارة ثم ، ولا فساداً هنا ، وهل يفسد ثم ، ويوجب الكفارة هنا ؟ فيه وجهان ، واللَّه أعلم .
قال : وللمحرم أن يتجر .
1592 ش : لما روى أبو داود عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية : 19 ( { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } ) [ قال ] : كانوا لا يتجرون بمنى ، فأمروا بالتجارة إذا أفاضوا من عرفات .
1593 وفي الصحيح عنه قال : كان ذو المجاز ، وعكاظ متجر الناس في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك ، حتى نزلت : 19 ( { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } ) في مواسم الحج ، واللَّه أعلم .
قال : ويصنع الصنائع كلها .
ش : لأن ذلك في معنى التجارة ، واللَّه أعلم .
قال : ويرتجع زوجته ، وعن أبي عبد اللَّه أحمد رحمه اللَّه رواية أخرى في الارتجاع أن لا يفعل ذلك . ) 16 (
ش : الرواية الأولى اختيار أبي محمد ، والقاضي في روايتيه ، إذ الرجعية زوجة ، والرجعة إمساك ، قال سبحانه : 19 ( { فإمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان } ) ولهذا لا يفتقر إلى الولي ، ولا إلى الشهود . ( والثانية ) : هي اوشهر عن أحمد ، واختيار القاضي في التعليق في مواضع ، لأنه عقد يتوصل به إلى استباحة بضع مقصود ، فمنع منه الإحرام ، دليله عقد النكاح . ولا يرد شراء الأمة [ إذ ] المقصود منه الملك ، لا استباحة البضع ، ولا المظاهر إذا كفر في حال الإحرام ، فإنه يتوصل إلى إباحة ، لكن ذلك ليس بعقد .
وقد أورد على هذا أن الرجعية مباحة فلا استباحة ، فأجاب القاضي : الاستباحة تتعلق بها ، وإن قلنا هي مباحة ، فإنه لو تركها حتى مضت العدة حرم وطؤها ، فرجعتها تبيح الوطء بعد مضيب [ مدة ] العقد ، واللَّه أعلم .
قال : وله أن يقتل الحدأة ، والغراب ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور .
1594 ش : في الصحيحين [ وغيرهما ] من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه قال : ( خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهم جناح الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور ، متفق عليه .
وقد شمل كلام الخرقي وكلام غيره من الأصحاب صغار هذه ، وعموم الحديث [ أيضاً ] يقتضيه ، وإذا قيل : إن فسقهن لأذاهن فلا ينبغي أن يدخل في ذلك إلا من وجد فيه حقيقة الأذى ، أو تأهله لذلك .
( تنبيه ) : المراد بالغراب الغراب الأبقع بلا ريب ، وهو الذي في بطنه وظهره بياض ، وغراب البين عندنا كذلك ، نظراً لعموم الأحاديث الصحيحة وونه يعدو على الناس ، ويحرم أكله ، فهو كالأبقع ، ويخرج من ذلك غرب الزرع لجواز أكله ، وعدم أذاه . وقيل : المراد في الحديث الأبقع فقط ، حملاً للمطلق على المقيد ، إذ في مسلم ( والغراب الأبقع ) و ( الحدأة ) بكسر الحاء والهمزة ، ( والعقور ) العضوض ، فعول بمعنى فاعل ، أي العاقر ، واختلف فيه ، فقيل : هو كل سبع يعقر ، نظراً لجانب اللفظ .
1596 ويؤيده أن النبي دعى على عتبة بن أبي لهب فقال : ( اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ) فافترسه الأسد .
وقيل : هو الكلب المألوف ، نظراً لجانب العرف ، إذ الظاهر في اللام أنها لمعهود ذهني ، و ( الحرم ) ضبطه جماعة بفتح الحاء والراء وهو الحرم المشهور ، وضبطه القاضي في المشارق بضم الحاء والراء ، جمع حرام ، كقوله سبحانه وتعالى : 19 ( { وأنتم حرم } ) قال : ) 16 ( والمراد به المواضع المحرمة . قال النووي : والأول أظهر .
وتمسية هؤلاء فواسق قيل : لخروجهن عن السلامة منهن إلى الأذى ، وقيل : لخروجهن عن الحرمة إلى الأمر بقتلهن .
وقيل : سمي الغراب فاسقاً لتخلفه عن نوح ، [ وخروجه ] عن طاعته ، وأصل الفسوق الخروج ، يقال : فسقت الرطبة ، إذا خرجت عن قشرها ، واللَّه أعلم .
قال : وكل ما عدا عليه ، أو آذاه ، ولا فداء عليه .
ش : أي يجوز قتله ، ويحتمل أن يريد بذلك كل ما عدا على المحرم في نفسه أو ماله ، وإن لم يكن من طبعه الأذى ، ولا نزاع في ذلك ، لأنه إذاً هو الجاني على نفسه ، ويحتمل أن يريد ما في طبعه الأذى وإن لم يوجد [ منه ] كسباع البهائم ، وجوارح الطير ، كالنمر ، والفهد ، والبازي ، والعقاب ، ونحو ذلك . والزنبور ، والبق ، والبراغيث ، وشبهها من الحشرات المؤذية ، إذ قوله ( خمس من الفواسق يقتلن ) من باب ترتيب الحكم على الوصف ، فحيث وجد الفسق ترتب الحكم ، ثم إنه أكد ذلك بأن عدد أنواعاً ، تنبيهاً على ما في معناها [ كالعقرب ] .
1597 وفي رواية أحمد ذكر الحية تنبيهاً على ما يشاركها في الأذى باللسع كالبرغوث والزنبور .
والفأرة تبيه على ما آذى بالنقب والتقريض كابن عرس ونحوه .
والغراب والحدأة تنبيه على ما يؤذي بالاختطاف كالصقر .
والكلب العقور تنبيه على كل عاد كالنمر ونحوه ، والاحتمالان صحيحان [ على المذهب ] لكن ظاهر كلامه [ هو ] الأول .
وقد يقال عليه : إن ظاهر كلامه منع قتل ما عدا الخمسة المذكورة ما لم تعد عليه ، ويرجحه أن في مسلم ( يقتل خمس فواسق ) بالإضافة من غير تنوين ، وهي إضافة بمعنى [ من ] أي من الفواسق . وتخصيص هذه الخمسة بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداها ، ويرجح ذلك رواية ابن عمر السابقة ، واللَّه أعلم .
قال : وصيد الحرم حرام على الحلال والمحرم .
ش : هذا إجماع من أهل العلم ، وللَّه الحمد .
1598 وقد دل عليه ما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه قال : لما فتح اللَّه عز وجل على رسول اللَّه مكة ، قام في الناس ، فحمد اللَّه ثم أثنى عليه ، ثم قال : ( إن اللَّه حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، وإنها لا تحل لأحد من بعدي ، فلا ينفر صيدها ، ولا يختلى شوكها ، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يفدي وإما أن يقتل ) فقال العباس : إلا الإذخر يا رسول اللَّه ، فإنا نجعله في قبورها وبيوتنا . ) 16 ( فقال رسول اللَّه ( إلا الإذخر ) فقام أبو شاه رجل من أهل اليمن فقال : اكتبوا لي يا رسول اللَّه . فقال رسول اللَّه ( اكتبوا لأبي شاه ) متفق عليه واللفظ لمسلم ، وفي لفظ : لا يختلى خلاه .
1599 وفي الصحيحن أيضاً عن ابن عباس نحوه .
وقد شمل كلام الخرقي الصيد من آبار الحرم وعيونه ، ونحو ذلك ، وهو إحدى الروايتين ، لعموم ( لا ينفر صيدها ) والثانية وهي ظاهر كلام ابن أبي موسى يباح ذلك ، لأن الإحرام لا يحرمه ، أشبه الحيوان الأهلي .
( تنبيه ) : ( الخلا ) مقصور الحشيش الرطب . واختلاؤه قطعه و ( الأذخر ) بذال معجمة حشيشة طيبة الريح ، تسقف بها البيوت فوق الخشب ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك شجرة ونباته ، إلا الإذخر ، وما زرعه الإنسان .
ش : أي يحرمان على الحلال والمحرم أي قطعهما إلا الإذخر ، وما زرعه الإنسان ، فإن يباح أخذهما ، وهذه الجملة مجمع عليها ، قاله ابن المنذر ، وقد تقدم قوله ( لا يختلى شوكها ) و ( لا يختلى خلاه ) وفي حديث ابن عباس ( لا يعضد شوكها ) أي لا يقطع ، والإذخر قد تقدم استثناؤه ، وما زرعه بتركه [ فهو ] كالإذخر وأولى .
[ وقول الخرقي : و ] ما زرعه الإنسان . يحتمل اختصاصه بالزرع دون الشجر ، ويحتمل أن يعم جميع ما يزرع ، فيدخل الشجر ، وهما وجهان للأصحاب ( أحدهما ) وهو اختيار القاضي ما نبت أصله في الحرم لا يباح أخذه ، لعموم الحديث ، وما نقل من الحل إلى الحرم يباح أخذه ، نظراً إلى أصله .
وقد دخل في عموم كلام الخرقي الشوك ، والعوسج ، واليابس من الشجر والحشيش ، وقد استثنى الشوك والعوسج ونحوهما جمهور الأصحاب ، نظراً لأذاه ، فهو كسباع البهائم ، ومنع أبو محمد من استثنائه أخذاً بصريح الحديث ، واتفق الكل فيما علمت على استثناء اليابس ، لأنه بمنزلة الميت ، واللَّه أعلم .
قال : وإن أحصر بعدوّ نحر ما معه من الهدي وحل .
ش : الحصر والمنع ، يقال : حصره العدو فهو محصور ، وأحصر بالمرض فهو محصر ، هذا هو الأشهر قاله غير واحد ، وقيل : يجوز فيهما حصر وأحصر ، وهو ظاهر القرآن ، ولا نزاع بين العلماء أن من منعه عدو عن الوصول إلى البيت أن له التحلل في الجملة ، لقوله سبحانه : 19 ( { وأتموا الحج والعمرة للَّه ، فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ، ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله } ) الآية : قال أبو محمد : لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية .
1600 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما : )6 ( خرجنا مع رسول اللَّه معتمرين ، فحال كفار قريش دون البيت ، فنحر رسول اللَّه وحلق رأسه .
1601 وعن مسور ومروان في حديث عمرة الحديبية والصلح أن النبي لما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحاب ( قوموا فانحروا ثم احلقوا ) رواهما البخاري وغيره .
ويشترط لجواز الحل أن لا يجد طريقاً آمناً ، فإن وجد طريقاً آمناً لزمه سلوكه ، وإن بعد وخاف الفوات ، وإذا جاز له التحلل فلا يتحلل إلا بنحر الهدي إن قدر عليه ، أو ببدله إن عجز عنه ، وهو الصيام ، للآية الكريمة ، إذ قوله تعالى : { فما استيسر من الهدي } أي فالواجب ما استيسر من الهدي ، أو فعليكم ما استيسر من الهدي ، [ أو فأهدوا ما استيسر من الهدي ] ثم قال تعالى : { ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله } ولأن النبي كذا فعل ، نحر وأمر أصحابه أن ينحروا ، وفعله خرج بياناً للأمر المشروع .
وقول الخرقي : وإن حصر أي عن البيت ، بدليل قوله بعد في المريض [ ولو حصر ] في الحج عن عرفة وحدها لم يكن له التحلل ، ولزمه المضي إلى البيت ، فيتحلل بعمرة ، ولا شيء عليه [ على ] المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين و ( الثانية ) له التحلل كما لو صد عن البيت ، ويحتملها إطلاق الخرقي .
وقوله : وإن حصر [ بعدو ] يشمل في الحج وفي العمرة ، وقبل الوقوف وبعده ، وفي الحج الصحيح والفاسد ، وهو كذلك ، ويشمل إذا أحاط العدو به من جميع الجوانب ، وكذلك أطلق غيره ، قال صاحب التلخيص : ويحتمل عندي أنه ليس له التحلل والحال هذه ، لأنه لا يتخلص منه فهو كالمرض ، ويشمل الحصر العام والخاص ، كما لو حصر هو وحده ، بأن أخذته اللصوص ، أو حبس وحده ، نعم يشترط لذلك أن يكون مظلوماً ، فلو حبس بحق يلزمه ويمكنه أداؤه لم يكن له التحلل ، ويشمل العدو الكافر والمسلم ، ولا يتحقق الحصر به إلا إن احتاج في دفعه إلى قتال أو بذل مال كثير ، فإن كان يسيراً والعدو مسلماً فهل يجب الدفع ولا يتحلل ، أو لا يجب فيتحلل ؟ فيه وجهان .
وقوله : نحر ما معه من الهدي . ظاهره في الموضع الذي حصر فيه ، وهو منصوص أحمد ، ومختار الأصحاب ، لأن النبي لما أحصر نحر وقال ( لأصحابه قوموا فانحروا ) وكان ذلك بالحديبية ، وهي من الحل ، قال مالك رحمه اللَّه [ في الموطأ ] : إذا أحصر بعدو يحلق في أي موضع كان [ ولا قضاء عليه ] لأن رسول اللَّه وأصحابه نحروا بالحديبية وحلقوا ، وحلوا من كل شيء قبل الطواف بالبيت . مختصر ويشهد لهذا قوله تعالى : 19 ( { والهدي معكوفاً أن يبلغ محله } ) فأخبر سبحانه أن الهدي حبس عن بلوغ محله . ) 16 (
وعن أحمد رحمه اللَّه رواية أخرى : ليس له نحره إلا في الحرم ، فيبعث به ، ويواطىء رجلاً على نحره في وقت يتحلل فيه ، لظاهر قوله سبحانه : 19 ( { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ) أي مكانه الذي يجب نحره فيه .
1602 وعن عمرو بن سعيد النخعي ، أنه أهل بعمرة ، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ ، فخرج أصحابه إلى الطريق ، عسى أن يلقوا من يسألونه ، فإذا هم بابن مسعود ، فقال لهم : ليبعث بهدي أو بثمنه ، واجعلوا بينكم وبينه أمارا يوماً ما ، فإذا ذبح الهدي فليحل ، وعليه قضاء عمرته . وقال في المغنى : هذا واللَّه أعلم فيمن حصره خاص أما من حصره عام فلا ينبغي أن يقال ، لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل ، لتعذر وصول الهدي إلى محله ، وعلى هذا حكى الرواية في الكافي .
1603 ويشهد لذلك قول ابن عباس رضي اللَّه عنه : إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ ، فأما من حبسه عدو أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع ، وإن كان معه هدي وهو محصر نحره إن كان لا يستطيع أن يبعث به ، وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله . رواه البخاري انتهى ، ولا يرد غلى [ هذا ] فعل الرسول وأصحابه ، لأن الظاهر أن البعطث تعذر عليهم .
وعن أحمد رحمه اللَّه رواية ثالثة : لا يجزئه الذبح إلا يوم النحر ، إذ هذا وقت ذبحه ، كذا أطلق الرواية في التلخيص ، وقيدها في الكافي بما إذا ساق هديا . انتهى .
ويجب أن ينوي بذبحه التحلل به ، لأن الهدي يكون لغيره ، فلزمته النية طلقاً للتمييز .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب الحلاق . وهو إحدى الروايتين . ( والثانية ) يجب ، وهو اختيار القاضي في التعليق وغيره ، وبناهما أبو محمد في الكافي على أنه نسك أو إطلاق من محظور . فإن قلنا : نسك . وجب وتوقف الحل عليه ، ولا يحصل إلا بثلاثة أشياء النحر مع النية والحلق ، وإن قلنا : إطلاق من محظور لم يتوقف الحل عليه ، فيحصل بالنحر مع النية .
وقول الخرقي : حل . ظاهره أن الحل مترتب على النحر ، وقد تقدم ، وسيأتي ما هو أصرح من ذلك ، ولا ريب أن ذلك هو المذهب لما تقدم .
1604 وقال ابن عباس رضي اللَّه عنه : أحصر رسول اللَّه ، فحلق رأسه ونحر هديه ، وجامع نساءه ، حتى اعتمر عاماً قابلاً . [ رواه البخاري ] . وعنه في المحرم بالحج : لا يحل إلا يوم النحر ليتحقق الفوات ، لاحتمال زوال الحصر ، واللَّه أعلم .
قال : وإن لم يكن معه هدي ، ولا يقدر عليه ، ) 16 ( صام عشرة أيام ثم حل .
ش : إذا لم يكن معه هدي لزمه أن يشتري هديا لم يكن له التحلل في المشهور من الروايتين ، والمختار للأصحاب .
1607 لما روى أيوب السختياني ، عن رجل من أهل البصرة [ كان قديماً ] أنه قال : خرجت إلى مكة ، حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي ، فأرسلت إلى مكة وبها عبد اللَّه بن عباس ، وعبد اللَّه بن عمر ، والناس ، فلم يرخص لي أحد أن أحل ، وأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر ، حتى حللت بعمرة .
1608 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : من حبس بمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، فإن اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها ، أو الدواء صنع ذلك وافتدى . رواهما مالك في موطئه .
1609 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما : لا حصر إلا حصر العدو . رواه الشافعي [ في مسنده ] وأيضاً ما تقدم من حديث ضباعة بنت الزبير ، فإن النبي أمرها بالاشتراط خوفاً من حبسها بالمرض ، ولو كان المرض مبيحاً للتحلل لم تكن حاجة إلى الاشتراط ، ويفارق حصر العدو [ لأنه ثم إذا تحلل حاجة إلى الاشتراط ، ويفارق حصر العدو [ لأنه ثم إذا تحلل تخلص من العدوّ وهنا لا يتخلص بالتحلل مما وقع فيه .
و [ الرواية ] الثانية ولعلها أظهر : له التحلل ، لظاهر قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } إذ أحصر إن كان يستعمل للمنع بالعدو والمرض فهو شامل لهما ، وإن كان للمرض وهو الأشهر حتى قال الأزهري : إنه كلام العرب ، وعليه ( أهلّ اللغة وقال الزجاج : ) 16 ( إنه الرواية عن العرب . فالآية إنما وردت في حصر المريض ، واستفيد حصر العدو بطريق التنبيه ، وبورود الآية بسببه .
1610 وروى الحجاج بن عمرو الأنصاري قال : سمعت رسول اللَّه يقول : ( من كسر أو عرج فقد حل ، وعليه الحج من قابل ) قال عكرمة : فسمعته يقول ذلك ، فسألت ابن عباس وأبا هريرة رضي اللَّه عنهم عما قال فصدقاه . رواه الخمسة وحسنه الترمذي وزاد أبو داود في رواية ( أو مرض ) لا يقال : هذا متروك الظاهر ، لأنه لا يحل بمجرد ذلك . لأنا نقول : هذا مجاز سائغ ، إذ من أبيح له التحلل فقد حل ، لا يقال : فابن عباس قد خالف ذلك ، وهو يضعف ما روي عنه من التصديق ، لأنا نقول : غايته أن يكون مخالفاً لروايته ، ومخالفة الراوي لظاهر الحديث [ لا ] يقدح فيه ، على المشهور من قولي العلماء ، وأصح الروايتين عن أحمد ، وحمله على الحل بالفوات ، أو على الاشتراط بعيد جداً ، وما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي اللَّه عنهم فقد تقدم عن ابن مسعود ما يخالفه ، وحديث ضباعة في الاشتراط فيه فائدة غير الحل ، وهو عدم وجوب شيء ، وكونه لا يتخلص من الأذى الذي به ممنوع ، فإنه يتخلص من مشقة الإحرام ، ثم رجوعه إلى بلده أخف عليه من بقائه على الإحرام حتى يقدر على . البيت ، ثم يرجع إلى بلده .
فعلى هذه الرواية حكمه حكم من حصر بعدو ، وينحر الهدي ، أو يصوم إن لم يجد الهدي ثم يحل ، وعلى المشهور إن كان ساق هدياً بعث به ليذبح بمكة ، ثم إن فاته الحج تحلل بعمرة كغير المريض .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) حيث تحلل المحصر بعدو أو مرض ونحوه فلا قضاء عليه على إحدى الروايتين ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار القاضي وابنه [ أبي الحسين ] وغيرهما ، لما تقدم عن ابن عباس : إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ . الحديث ولأن النبي لم ينقل عنه أنه أمر من حل معه بالحديبية أن يقضوا ، والظاهر أنه لو وقع لنقل .
( والرواية الثانية ) يجب القضاء ، لأن النبي لما تحلل قضى من قابل .
1611 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه قال : 16 ( أليس حسبكم سنة رسول اللَّه ، إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت ، وبالصفا والمروة ثم حل من كل شيء ، حتى يحج عاماً قابلاً ، فيهدي أو يصوم إن لم يجد هدياً ) . رواه البخاري وغيره ( وأجيب ) بأنه لا نزاع في القضاء ، إنما النزاع في وجوبه ، وقول ابن عمر يحمل على من تحلل من حج واجب فإنه لا نزاع في قضاء ذلك نظراً للوجوب السابق .
( التنبيه الثاني ) : ( عرج ) [ بفتح الراء ] يعرج إذا أصابه شيء في رجليه فجمع ومشى مشية العرجان ، ) 16 ( وليس بخلقة ، فإذا كان خلقة قيل : بالكسر قاله المنذري ، وقال الزمخشري : ( عرج ) بالفتح إذا تعارج ، وعرج بالكسر إذا كان خلقة ، واللَّه أعلم .
قال : وإن قال : أنا أرفض إحرامي وإحل . فلبس المخيط ، وذبح الصيد ، وعمل ما يعمله الحلال ، كان عليه في كل فعل فعله دم [ وكان على إحرام ] .
ش : [ يعني ] إذا قال الممنوع من البيت بمرض ونحوه : أنا أترك إحرامي وأحل . فإن إحرامه لا يرتفض بهذا ، لأنه عبادة لا يخرج منها بالفساد ، فلا يخرج منها بالرفض ، بخلاف سائر العبادات ، وإذاً يلزمه فداء كل جناية جناها على إحرامه ، لبقائه في حقه ، ولا يلزمه بالرفض شيء ، لأنه نية لم تؤثر ، واللَّه أعلم .
قال : وإن كان وطىء فعليه للوطء بدنة ، مع ما يجب عليه من الدماء .
ش : كما لو وطىء من غير رفض ، لبقاء الإحرام ، وقد فهم من فحوى كلام الخرقي أن المحرم لو رفض إحرامه من غير حصر لم يرتفض ، واللَّه أعلم .
قال : ويمضي في حج فاسد .
ش : يعني من وطىء فقد فسد حجه كما تقدم ، ويجب عليه أن يمضي فيه فيفعل ما يفعله من حجه صحيح من الوقوف والمبيت بمزدلفة ، والرمي ، وغير ذلك ، ويجتنب ما يجتنبه من حجه صحيح من الوطء ثانياً ، وقتل الصيد وغيرهما ، حتى لو جنى جناية على هذا النسك الفاسد ، لزمه فداؤها ، لإطلاق قوله تعالى : 19 ( { وأتموا الحج والعمرة للَّه } ) وهو شامل للصحيح والفاسد ، وقد يقال الفاسد ليس بحج ، إذ الحقائق الشرعية إنما تحمل على صحيحها ، دون فاسدها ، والمعتمد . في ذلك قول الصحابة عمر ، وعلي ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس رضي اللَّه عنهم وقد تقدم ذلك عنهم ، واللَّه أعلم .
قال : ويحج من قابل واللَّه أعلم بالصواب .
ش : لما [ تقدم عن ] الصحابة أيضاً .
( تنبيه ) : إن كان ما فسد واجباً قبل الإحرام كحجة الإسلام ، والمنذورة ، والقضاء أجزأت الحجة من قابل عن ذلك ، وإن كان تطوعاً فبالإحرام وجب تمامه ، فإذا أفسده وجب قضاؤه ، واللَّه أعلم .
باب ذكر الحج ودخول مكة
نبدأ وباللَّه التوفيق قبل الشروع في ذلك بحديث جابر ، في صفة حج النبي ، فإنه حديث عظيم ، يعرف منه غالب المناسك .
1612 قال جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال : دخلنا على جابر بن عبد اللَّه ، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت : أنا محمد بن علي بن حسين . فأهوى بيده إلى رأسي ، فنزع زري الأعلى ، ثم نزع زري الأسفل ، ثم وضع كفه بين ثديي ، وأنا يومئذ غلام شاب ، فقال : مرحباً بابن أخي ، سل عما شئت . فسألته وهو أعمى ، وحضر وقت الصلاة ، فقام في ساجة ملتحفاً بها ، كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها ، ورداؤه إلى جنبه على المشجب ، فصلى بنا ، فقلت : أخبرني عن حجة رسول اللَّه فقال بيده ، فعقد تسعاً ، فقال : إن رسول اللَّه مكث تسع سنين لم يحج ، ثم أذن في الناس في العاشرة : إن رسول اللَّه حاج ، فقدم المدينة بشر كثير ، كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللَّه ويعمل مثل عمله ، فخرجنا معه ، حتى أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول اللَّه : كيف أصنع ؟ فقال ( اغتسلي واستثفري بثوب ، وأحرمي ) فصلى رسول اللَّه في المسجد ، ثم ركب القصواء ، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت مد بصري بين يديه ، من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول اللَّه بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملنا به ، فأهل بالتوحيد ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك له لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد رسول اللَّه شيئاً منه ، ولزم رسول اللَّه تلبيته ، قال جابر : لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة ، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن ، فرمل ثلاثاً ، ومشى أربعاً ، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فقرأ 19 ( { واتخذوامن مقام إبراهيم مصلى } ) فجعل المقام بينه وبين البيت ، فكان أبي يقول : ولا أعلمه ذكره إلا عن رسول اللَّه ، كان يقرأ في الركعتين : 19 ( { قل هو اللَّه أحد } ) و : 19 ( { قل يا أيها الكافرون } ) ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ : 19 ( { إن الصفا والمروة من شعائر اللَّه } ) ( أبدأ بما بدأ اللَّه ) فبدأ بالصفا ، فرقي عليه ، حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، ووحد اللَّه وكبره ، وقال ( لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا اللَّه وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ) ثم دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي ، [ سعى ] حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا ، حتى إذا كان آخر الطواف عند المروة قال ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، وليجعلها عمرة ) [ فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي ومن كان معه الهدي ] فقام سراقة بن جعشم فقال : يا رسول اللَّه ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فشبك رسول اللَّه أصابعه [ واحدة ] في الأخرى ، وقال ( دخلت العمرة في الحج ) مرتين ( لا بل لأبد أبد ) وقدم علي بن أبي طالب من اليمن ببدن [ رسول اللَّه ] فوجد فاطمة ممن حل ، ولبست ثياباً صبيغاٍ ، واكتحلت ، فأنكرت ذلك عليها ، فقالت : أبي أمرني بهذا قال : وكان علي يقول بالعراق : فذهبت إلى رسول اللَّه فيما ذكرت عنه ، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها ، فقال ( صدقت صدقت ، ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ ) قال : قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسول اللَّه . قال : ( فإن معي الهدي ، قال : فلا تحل ) قال : فكان جماعة الهدي الذي قدم به على من اليمن ، والذي أتى به رسول اللَّه مائة ، قال : فحل الناس كلهم وقصروا ، إلا النبي ومن كان معه هدي ، فلما كان يوم الروية توجهوا إلى منى ، وأهلوا بالحج ، فركب رسول اللَّه ، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس ، فأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة ، فسار رسول اللَّه ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام ، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فأجاز رسول اللَّه حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها ، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي ، فخطب الناس وقال : ( إن دماءكم ، وأموالكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي [ موضوع ، ودماء الجاهلية تحت قدمي ] وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعاً في بني سعد ، فقتلته هذيل . وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه رباناً ربا العباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله ، فاتقوا اللَّه في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللَّه ، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب اللَّه ، وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون ؟ ) قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ، ونصحت . فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ، وينكتها إلى الناس ( اللهم اشهد ، اللهم اشهد ) ثلاث مرات ثم أذن ثم أقام ، فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئاً ، ثم ركب رسول اللَّه حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلاً ، حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول اللَّه ، وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى ( أيها الناس السكينة السكينة ) كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء [ بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع رسول اللَّه حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح ] بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء ، حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ، ووحده ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ، فدفع قبل أن تطلع الشمس ، وأردف الفضل بن العباس ، وكان رجلاً حسن الشعر ، أبيض وسيماً ، فلما دفع رسول اللَّه مرت ظعن يجرين ، فطفق الفضل ينظر إليهن ، فوضع رسول اللَّه [ يده ] على وجه الفضل ، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر ، فحول رسول اللَّه يده [ من الشق ] الآخر [ على وجه الفضل ، فصرف وجهه من الشق ] ينظر حتى أتى بطن محسر ، فحرك قليلاً ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة ، فرماها بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة منها ، مثل حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر ثلاثاً وستين بدنة ، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر ، وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر فطبخت ، فأكلا من لحمها ، وشربا من مرقها ، ثم ركب رسول اللَّه فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ) فناولوه دلوا فشرب منه . رواه أبو داود ، وابن ماجه ، [ ومسلم ] وهذا لفظه ، وله في رواية أخرى ( نحرت هاهنا ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ، ووقفت ههنا ، وعرفة كلها موقف ، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف ) .
( تنبيه ) : محمد بن علي بن حسين هو الباقر ، والذي فعله معه جابر من وضع كفه بين ثدييه ونحره تأنيساً به ، ورقا عليه ، أو تبركاً بالذرية الطاهرة ، ( ومرحباً ) كلمة تقال عند المسرة للقادم ، ومعناها : صادفت رحباً ، أي سعة . ( والساجة ) الطيلسان ، ويقال لها أيضاً ( الساج ) وقيل : هي الخضر خاصة وفي رواية أبي داود ( نساجة ) بكسر النون ، ضرب من الملاحف المنسوجة ، وقوله : بشر كثير . قيل حضر معه حجة الوداع أربعون ألفاً . ( والمشجب ) بكسر الميم وبالشين المعجمة ، وباء موحدة بعد الجيم [ عيدان تضم رؤسها ] ، ويفر / بين قوائهما ، توضع الثياب عليها ، وقد تعلق عليها الأسقية ، لتبريد الماء ( واستثفري ) بالثاء المثلثة ، وقد تقدم معنا ، وفي أبي داود ( واستفذري ) بذال معجمة ، قيل : مأخوذ من ( الذفر ) وهو كل ريح ذكية من طيب أي تستعمل طيباً يزيل هذا الشيء عنها ، ( والقصوى ) بفتح القاف ممدود وقيل ومقصور ناقة رسول اللَّه [ والقصواء هي الناقة التي قطع طرف أذنها . فقيل : كانت ناقته ] كذلك وقيل وهو المشهور : إنما كان [ هذا ] لقباً لها ، لأنها كانت لا تكاد تسبق ، كان عندها أقضى الجري .
وقوله في الصفا : فرقي عليه . أي صعد ، بكسر القاف على الأشهر .
وقوله : محرشاً على فاطمة . التحريش الإغراء بين القوم والبهائم ، وتهييج بعضهم على بعض ، وهو ههنا ذكر ما يوجب عتابه لها .
ويوم التروية هو [ اليوم ] الثامن من ذي الحجة ، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده ، وقيل : لأن قريشاً كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحجاج تسقيهم وتطعمهم ، فيروون منه . وقيل : لأن الإمام يروي للناس فيه من أمر المناسك . وقيل : لأن إبراهيم تروى فيه في ذبح ولده . ( والمورك ) بكسر الراء المرفقة التي تكون عند قادمة الرحل ، يضع الراكب رجله عليها ، يستريح من وضع رجليه في الركاب ، شبه المخدة الصغيرة و ( الوسامة ) الحسن الوضيء الثابت ( والإفاضة ) الدفع في السير ، قيل : أصلها الصب ، فاستعيرت لذلك ( والبضعة ) بفتح الباء القطعة من اللحم . ( وحبل المشاة ) بفتح الحاء المهملة ، أي صفهم ومجتمعهم في مشيهم ، وقيل : طريقهم الذي يسلكونه في الرمل .
وقوله : ( كلما أتى حبلاً ) الحبل المستطيل [ من الرمل ] وقيل : الحاج دون الحبال .
وقوله : ينكتها . بالتاء ثالث الحروف ، هذه الرواية ، وروي : ينكبها . بالباء الموحدة ، قال المنذري : وهو الصواب أي يميلها إليهم ، يشهد اللَّه عليهم .
وقوله : ( بكلمة اللَّه ) قيل : قوله : 19 ( { فإمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان } ) وقيل : إباحة اللَّه الزواج ، وإذنه فيه .
وقوله : ( تكرهونه ) قيل : أن لا يستخلين مع الرجال ، وليس المراد الزنا ، لأنه حرام مع من يكرهه أو [ من ] لا يكرهه ، ( مبرح ) أي غير مؤثر ولا شاق . ( والظعن ) بضم العين المهملة وسكونها ، جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ، فإذا لم تكن فيه فليست بظعينة .
وتحريكه في بطن محسر : قال الشافعي : يجوز أنه فعله لسعة الموضع ، أو لأنه مأوى الشياطين .
1613 و ( حصى الخذف ) قال الشافعي : أصغر من الأنملة طولاً وعرضاً ، وقال عطاء : مثل طرف الإصبع .
1614 و ( الناس ) في قوله 19 ( { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } ) قيل : آدم ، وقيل : إبراهيم ، وقيل : سائر العرب . واللَّه أعلم .
قال : وإذا دخل المسجد الحرام فالاستحباب له أن يدخل من باب بني شيبة .
ش : اقتداء بالنبي .
1615 فعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، قال : كان النبي إذا دخل مكة دخل من الثنية العليا التي بالبطحاء ، وإذا خرج خرج من الثنية السفلى . متفق عليه . وعلى هذا استمر فعل الأمة سلفاً بعد سلف ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا رأى البيت رفع يديه .
1616 ش : لما روي عن ابن جريج أن النبي كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال ( اللهم زد هذا البيت تشريفاً ، وتكريماً ، وتعظيماً [ ومهابة ، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمره تشريفاً ، وتعظيماً ، وتكريما ] وبراً ) رواه الشافعي في مسنده ، واللَّه أعلم .
قال : وكبر .
ش : إشعاراً بعظمة الرب سبحانه وتعالى .
1617 وفي حديث ابن عباس قال : طاف رسول اللَّه على بعير ، كلما أتى [ على ] الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر . رواه البخاري والرائي للبيت آت على الركن ، واللَّه أعلم .
قال : ثم أتى الحجر الأسود إن كان فاستلمه إن استطاع وقبله .
ش : لما تقدم في حديث جابر : حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن .
1618 وعن عابس بن ربيعة قال : رأيت عمر يقبل الحجر ، ويقول : إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ، ولولا أني رأيت رسول اللَّه يقبلك ما قبلتك . رواه الجماعة .
وقوله : ثم أتى الحجر الأسود إن كان . أي إن كان الحجر في مكانه ، والعياذ باللَّه كما وقع ذلك في زمن الخرقي رحمه اللَّه ، لما أخذته القرامطة فإنه يقف مقابلاً لمكانه ، ويستلم الركن ، عملاً بما استطاع ، واللَّه أعلم .
قال : فإن لم يستطع قام حياله ، ورفع يديه ، وكبر اللَّه تعالى وهلله .
ش : إذا لم يستطع الاستلام والتقبيل المندوبين وأمكنه الاستلام بشيء في يده فعل .
1619 لأن النبي طاف على بعير يستلم الركن بمحجنه ، وإن لم يمكنه قام حياله ، ورفع يديه مشيراً بهما إليه ، وكبر اللَّه عز وجل وهلله .
1620 لما روي عن عمر رضي اللَّه عنه أن النبي قال له ( يا عمر إنك رجل قوي ، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف ، إن وجدت خلوة فاستلمه ، وإلا فاستقبله وهلل وكبر ) رواه أحمد .
1620 م وله أيضاً عن ابن عباس : طاف رسول اللَّه على بعير ، كلما أتى [ على ] الركن أشار إليه بشيء في يده [ وكبر ] .
1621 وقال بعض الأصحاب : يقول إذا استلمه ( بسم اللَّه ، واللَّه أكبر ، إيماناً بك ، وتصديقاً بكتابك ، ووفاء بعهدك ، واتباعاً لسنة نبيك محمد ) لأن ذلك يروى عن النبي .
( تنبيه ) : والاستلام مسح الحجر باليد ، أو بالقبلة ، افتعال من السلام وهو التحية ، ولذلك أهل اليمن يسمون الركن الأسود المحيا ، أي أن الناس يحيونه ، قاله الأزهري ، وقال القتيبي والجوهري : افتعال من السلام وهي الحجارة ، واحدها ( سلمة ) بكسر اللام ، يقول : استلمت الحجر . إذا لمسته ، كما يقول : اكتحلت من الكحل ، وقيل : افتعال من المسالمة ، كأنه فعل ما يفعله المسالم [ انتهى . وقيل : الاستلام ] أن يحيى نفسه عند الحجر بالسلام لأن الحجر لا يحييه ، كما يقال : اختدم . إذا لم يكن له خادم ، وقال ابن الأعرابي : هو مهموز الأصل ، ترك همزة ، مأخوذ من المسالمة وهي الموافقة ، وقيل : من الملاءمة وهي السلاح ، كأنه خص نفسه بمس الحجر . انتهى .
و ( المحجن ) عصا محنية الرأس . واللَّه أعلم .
قال : واضطبع بردائه .
1622 ش : لما روى يعلى بن أمية أن النبي طاف مضطبعاً ، وعليه رداؤه . رواه ابن ماجه ، والترمذي ، وأبو داود ، وأحمد ولفظه : لما قدم طاف بالبيت وهو مضطبع ببرد له أخضر . والإضطباع أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن ، وطرفيه على عاتقه الأيسر [ سمي بذلك لإبداء الضبعين ، وهما ما تحت الإبط ، وهل يسير إلى آخر الطواف أو إلى آخر الرمل ؟ فيه روايتان ، واللَّه أعلم ] .
قال : ورمل ثلاثة أشواط ، ومشى أربعاً .
ش : كذلك قال جابر : رمل ثلاثاً ، ومشى أربعاً .
1623 وفي الصحيح أيضاً عن ابن عمر أن النبي كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثاً ، ومشى أربعاً ، لا يقال : فالرسول [ إنما ] فعل هذا لإظهار الجلد للكفار .
1621 كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : قدم رسول اللَّه وأصحابه مكة ، وقد وهنتهم حمى يثرب ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم غداً قوم وقد وهنتهم الحمى ، ولقوا منها شدة ، فجلسوا مما يلي الحجر ، وأمرهم النبي أن يرملوا ثلاثة أشواط ، ويمشوا بين الركنين ، ليرى المشركون جلدهم ، فقال المشركون : هؤلاء الذي زعمتم أن الحمى وهنتهم ، ولا أجلد من هؤلاء . قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم . وقد زال ذلك . لأنا نقول : قد فعل ذلك رسول اللَّه في حجة الوداع ، كما ثبت في حديث جابر وغيره ، بعد زوال ذلك المعنى .
1625 وقد جاء عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : رمل رسول اللَّه في حجته وفي عمره كلها ، وأبو بكر ، وعمر ، والخلفاء . رواه أحمد .
1626 وعن أسلم : سمعت عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يقول : فيم الرملان ، والكشف عن المناكب ، وقد أطأ اللَّه تعالى الإسلام ، ونفى الكفر وأهله ؟ لكن مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله مع رسول اللَّه . رواه أبو داود .
( تنبيه ) : ( الرمل ) قال الجوهري : الرمل الهرولة ، وقال الأزهري : الإسراع ، وفسر الأصحاب الرمل بإسراع المشي ، مع تقارب الخطا من غير وثب ، ( والوهن ) الضعف ، ( والجلد ) القوة والصبر . ( والأشواط ) جمع شوط ، والمراد به المرة الواحدة من الطواف بالبيت ، و ( أطأ ) مهد وثبت ، والهمزة بدل من الواو ، ثمل ( أقت ) من وقت . واللَّه أعلم .
قال : كل ذلك من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود .
ش : أي ما تقدم من أن الرمل في الثلاثة الأشواط ، والمشي في الأربعة يكون من الحجر إلى الحجر . لمال تقدم من حديثي جابر وابن عمر .
1627 وفي الصحيح عن جابر أن رسول اللَّه رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه .
1628 وكذلك في حديث ابن عمر في الصحيح : رمل من الحجر إلى الحجر . وهذان يقدمان على حديث ابن عباس : أنه لم يرمل بين الركنين ، لتأخرهما عنه ، واحتمال أن ذلك مختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم . يؤيد هذا عمل جلة الصحابة على ما قلناه .
وقد فهم من مجموع ما تقدم أن الداخل للبيت أول ما يبدأ بالطواف ، ما لم تقم الصلاة ونحو ذلك ، اقتداء بفعل رسول اللَّه وفعل أصحابه ، إذ هو تحية المسجد ، كما أن الصلاة تحية بقية المساجد ، وقال صاحب التلخيص تبعاً لابن عقيل : أول ما يبدأ بتحية المسجد ، اعماداً على عموم ( إذا دخل أحدكم المسجد ) الحديث . وجعلا الطواف تحية الكعبة ، والاعتماد على الأول . واللَّه أعلم .
قال : ولا يرمل في جميع طوافه إلا هذا .
ش : لا يرمل في طواف الزيارة ، ولا طواف الوداع [ ولا غيرهما ] إلا في الطواف أول ما يقدم مكة ، وهو طواف القدوم ، أو طواف العمرة ، لأن النبي وأصحابه إنما رملوا في ذلك ، هذا اختيار الشيخين وغيرهما وزعم القاضي وصاحب التلخيص أنه لو ترك الرمل في القدوم ، أتى به في الزيارة ، وأنه لو رمل في القدوم ولم يسع عقبه ، فإذا طاف للزيارة رمل ، حذاراً من أن يكون التابع وهي السعي أكمل من المتبوع لوجود الرمل فيه ، واللَّه أعلم .
قال : وليس على أهل مكة رمل .
ش : قال أحمد : ليس على أهل مكة رمل عند البيت ، ولا بين الصفا والمروة ، وذلك لأن الرمل [ في الأصل ] كان لإظهار الجلد ، وذلك معدوم في أهل مكة ، وحكم من أحرم من مكة حكم أهلها .
( تنبيه ) : يسن الاضطباع لمن يسن له الرمل ، واللَّه أعلم .
قال : ومن نسي الرمل فلا إعادة عليه .
ش : لأنه هيئة فلا تجب إعادته ، كهيئات الصلاة ، ولا فرق في ذلك بين العامد والناسي ، بناء على أنه سنة .
وظاهر كلام الخرقي أن من تركه عامداً عليه الإعادة ، وقد يحمل على استحباب الإعادة ، ليأتي بما فعله رسول اللَّه [ وأصحابه ] وليخرج من الخلاف ، فإن بعض العلماء أوجب في تركه دماً ، واللَّه أعلم .
قال : ويكون طاهراً في ثياب طاهرة .
ش : يشترط للطائف أن يكون طارهاً من الحدث والخبث ، في ثياب صفتها أنها طاهرة في المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين .
1629 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه قال : ( الطواف حول البيت مثل الصلاة ، إلا أنكم تتكلمون فيه ، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير ) رواه النسائي والترمذي وهذا لفظه ، وحكم المشبه حكم المشبه به ، فيثبت له ما يثبت له .
1630 وقد عمل على هذا الصحابة فقال ابن عمر : أقلوا من الكلام ، فإنما أنتم في صلاة . رواه النسائي .
1631 وفي الصحيح أن النبي قال لعائشة رضي اللَّه عنها [ لما حاضت ] ( فعلي ما يفعل الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي ) .
1632 وفي حديث أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه عن النبي قال : ( لا يطوف بالبيت عريان ) والنهي يقتضي فساد المنهي عنه .
( والرواية الثانية ) : أن ذلك واجب ، يجبر بالدم ، وليس بشرط ، لإطلاق 19 ( { وليطوفوا بالبيت العتيق } ) ومن طاف وهو كذلك فقد طاف به ، ون الطواف فعل من أفعال الحج فلم تكن الطهارة شرطاً فيه ، كالسعي ، والوقوف .
وأجيب بأن هذين لا تجب لهما الطهارة ، والطواف تجب له الطهارة ، وعن الآية بأن الطواف والحالة هذه منهي عنه ، فلا يدخل تحت الأمر .
( تنبيه ) : نص أحمد الذي أخذ منه الرواية الثانية فيما إذا تركه ناسياً قال : يهريق دماً [ وقال : الناسي أهونّ . فأخذ من ذلك القاضي ومن بعده رواية الوجوب ، فيجبر [ بالدم ] مطلقاً . وأجرى أبو حفص العكبري النص على ظاهره ، فقال : لا يختلف قوله إذا تعمد أنه لا يجزئه ، واختلف قوله في الناسي على قولين ، والخرقي رحمه اللَّه تعالى ليس في كلامه تصريح بالاشتراط ولا عدمه ، إنما يدل على الوجوب ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يستلم ولا يقبل من الأركان إلا الأسود واليماني .
ش : أما كونه لا يستلم الركن العراقي ولا الشامي وهما اللذان يليان الحجر .
1633 فلقول ابن عمر رضي اللَّه عنهما : لم أر رسول اللَّه يستلم من البيت إلا الركنين اليمانين ، متفق عليه .
1634 وعن أبي الطفيل قال : كنت مع ابن عباس ، ومعاوية لا يمر بركن إلا استلمه ، فقال له ابن عباس : إن النبي لم يكن يستلم إلا الحجر الأسود ، والركن اليماني . فقال معاوية ليس شيء من البيت مهجوراً . رواه الترمذي وغيره .
1635 وفي أبي داود أن ابن عمر قال : إني لأظن رسول اللَّه لم يترك استلامهما إلا أنهما ليسا على قواعد البيت ، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك .
وأما كونه لا يقبلهما . فلعدم ورود ذلك .
وأما كونه يستلم الأسود واليماني فلما تقدم من حديث ابن عمر وابن عباس رضي اللَّه عنهم .
1636 وعن عبيد بن عمير أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما كان يزاحم على الركنين ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن إنك تزاحم على الركنين ، زحاماً ما رأيت أحداً من أصحاب رسول اللَّه يزاحمه . فقال : إن أفعل فإني سمعت رسول اللَّه يقول : ( إن مسحهما كفارة للخطايا ) وسمعته يقول ( من طاف بهذا البيت أسبوعاً فأحصاه ، كان كعتق رقبة ) وسمعته يقول ( لا يرفع قدماً ، ولا يحط قدماً إلا حط الَّه عنه بها خطيئة ، وكتب له بها حسنة ) رواه النسائي والترمذي .
وأما كونه يقبلهما ، أما الأسود فلما تقدم ، ولا نزاع فيه ، وأما اليماني فظاهر كلام الخرقي أنه يقبله .
1637 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : كان النبي يقبل الركن اليماني ، ويضع خده عليه . رواه الدارقطني .
1638 وعنه أيضاً قال : كان النبي إذا استلم الركن اليماني قبله رواه البخاري في تأريخه .
وقال أحمد في رواية الأثرم : يضع يده . فقيل له : ويقبل ؟ فقال : يقبل الحجر الأسود . وعلى هذا الأصحاب ، القاضي ، والشيخان ، وجماعة ، لأن المعروف المشهور في الصحاح والمسانيد إنما هو تقبيل الأسود . وحديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال ابن المنذر : لا يصح .
( وفي المذهب ) قول ثالث أنه يقبل يده إذا مسه تنزيلاً له منزلة بين منزلتين ، واللَّه أعلم .
قال : ويكون الحجر داخلاً في الطواف ، لأن الحجر من البيت .
ش : أي يكون طوافه خارجاً عن الحجر ، فلو طاف في الحجر ، أو على جداره لم يجزئه ، لما علل به الخرقي من أن الحجر من البيت ، واللَّه سبحانه قد أمر بالطواف بالبيت [ جميعه بقوله : { وليطوفوا بالبيت ] العتيق } ومن ترك بعضه لم يطوّف به ، إنما طاف ببعضه .
1639 والدليل على أن الحجر من البيت ما روت عائشة رضي اللَّه عنها قالت : كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه ، فأخذ رسول اللَّه بيدي ، فأدخلني في الحجر فقال لي : ( صلي فيه إن أردت دخول البيت ، فإنما هو قطعة منه ، وإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة ، فأخرجوه من البيت ) رواه الخمسة إلا ابن ماجه ، وصححه الترمذي .
1640 وعنها أيضاً قالت : سألت رسول اللَّه عن الحجر ، أمن البيت هو ؟ قال : ( نعم ) قلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟ فقال : ( إن قومك قصرت بهم النفقة ) قالت : فما شأن بابه مرتفعاً ؟ قال : ( فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤا ، ويمنعوا من شاؤا ، ولولا أن قومك حديث عهد بالجاهلية ، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الحجر في البيت ، وأن ألصق بابه بالأرض ) متفق عليه .
( تنبيه ) : المشي على شاذروان البيت كالمشي على الجدار ، لأنه من البيت ، نعم لو مس الجدار بيده في موازاة الشاذروان صح ، لأن معظمه خارج من البيت ، وقدر الشاذروان ستة أذرع ، قاله في التلخيص ، وقال ابن أبي الفتح نحو سبعة أذرع ، واللَّه أعلم .
قال : ويصلي ركعتين خلف المقام .
ش : أي إذا فرغ من الطواف صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم ، لما تقدم من حديث جابر ، وقد بين النبي مستنده في ذلك ، وهو قوله سبحانه : 19 ( { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ) والمستحب أن يقرأ فيهما ب : 19 ( { قل يا أيها الكافرون } ) و : 19 ( { قل هو اللَّه أحد } ) لما تقدم من حديث جابر ، ولو قرأ فيهما بغير ذلك ، أو لم يصلهما خلف المقام فلا بأس .
1641 وقد روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه ركعهما بذي طوى ، وهما أيضاً سنة .
1642 لقول النبي ( خمس صلوات كتبهن اللَّه على العبد في اليوم والليلة ) الحديث .
1643 وقول الأعرابي للنبي : هل علي غيرها ؟ لما أخبره أن اللَّه فرض عليه خمس صلوات قال : ( لا إلا أن تطوع ) .
( وهل ) تجزىء عنهما المكتوبة ، اختاره أبو محمد ، كركعتي الإحرام ، أو لا تجزىء فيفعلهما بعدها ، اختاره أبو بكر ، كركعتي الفجر لا تجزيء عنهما الفجر ؟ فيه قولان والمنصوص عن أحمد الإجزاء ، مع أن الأفضل عنده فعلهما ، والَّه أعلم .
قال : ويخرج إلى الصفا من بابه .
ش : إذا فرغ من الركعتين فالمستحب له أن يمضي إلى الحجر الأسود فيستلمه ، وقد أهمل ذلك الخرقي ، ثم يخرج إلى الصفا من باب الصفا ، لما تقدم في حديث جابر ، واللَّه أعلم .
قال : فيقف عليه فيكبر اللَّه تعالى ، ويهلله ، ويحمده ، ويصلي على النبي ، ويسأل اللَّه تعالى ما أحب .
ش : أما الرقي على الصفا ، والتكبير ، والتهليل ، والتحميد ، والدعاء بما أحب من أمر الدنيا والآخرة ما لم يتضمن مأثماً ، فلما تقدم من حديث جابر رضي اللَّه عنه أنه رقى على الصفا ، حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحد اللَّه ، وكبره وقال ( لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا اللَّه [ وحده ] ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ) ثم دعى بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات .
1644 وفي الموطأ عن نافع أنه سمع ابن عمر يدعو على الصفا يقول : اللهم إنك قلت : { ادعوني أستجب لكم } وإنك لا تخلف الميعاد ، وأنا أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه مني ، حتى تتوفاني وأنا مسلم .
1645 وورد عنه أنه كان يطيل الدعاء هناك .
1646 وأما الصلاة على النبي فلما روى فضالة بن عبيد قال : سمع النبي رجلاً يدعو في صلاته ، فلم يصل على النبي ، فقال : ( عجل هذا ) ثم دعاه فقال له أو لغيره ( إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد اللَّه والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي ، ثم ليدع بما شاء ) رواه الترمذي وصححه .
( تنبيه ) : جميع ما تقدم مستحب ، والواجب قطع ما بين الصفا والمروة [ بأن يلصق عقبيه ] بأصل الصفا ، وأصابع رجليه بأصل المروة ، ولا يسن للمرأة الرقي ، واللَّه أعلم .
قال : ثم ينحدر من الصفا ، فيمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي ، يرمل من العلم إلى العلم ، ثم يمشي حتى يأتي المروة ، فيقف عليها ، فيقول كما قال على الصفا ، وما دعى به أجزأه ، ثم ينزل ماشياً إلى العلم ، ثم يرمل حتى يأتي العلم ، يفعل ذلك سبع مرات ، يحتسب بالذهاب سعية ، وبالرجوع سعية .
ش : أما كونه ينحدر من الصفا ويمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي ، وهو الميل الأخضر المعلق في ركن المسجد ، فلأن في حديث جابر : ثم نزل إلى المروة ، حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي . وأما كونه يرمل من العلم المذكور إلى العلم الأخضر وهما الميلان الأخضران اللذان بفناء المسجد ، وحذاء دار العباس فلأن في حديث جابر : حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ، وفي رواية أبي داود : حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي ، حتى إذا صعدتا مشى .
والخرقي واللَّه أعلم تبع هذا الحديث فقال : يرمل . وظاهره أنه بالرمل السابق في الطواف ، والأصحاب قالوا : إنه هنا يسعى سعياً شديداً .
1647 لما روى أحمد في المسند عن حبيبة بنت أبي تجراة رضي اللَّه عنها قالت : رأيت رسول اللَّه يطوف بين الصفا والمروة ، والناس بين يديه وهو وراءهم ، وهو يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي ، يدور به إزاره ، وهو يقول ( اسعوا فإن اللَّه كتب عليكم السعي ) .
وأما كونه يمشي بعد ذلك حتى يأتي المروة ، فيقف عليها فيقول كما قال على الصفا ، فلأن في حديث جابر كذلك ، وأما كونه ما دعى به أجزأه فلأنه لم يرد فيه شيء مؤقت وفي قوله هنا وقوله : ثم دعا بما أحب . إشعار بأنه لا يجب عليه الاقتصار على ما وردت به الآثار ، بخلاف الصلاة يمنع الكلام فيها بخلاف هذا . وأما كونه ينزل ماشياً إلى العلم ، ثم يرمل حتى يأتي العلم ، يفعل ذلك سبع مرات . فلأن ذلك مما ورثه الخلف ، عن السلف ، عن رسول اللَّه ، وكالمرة الأولى . وأما كونه يحتسب بالذهاب سعية ، وبالرجوع سعية ، فلأن في حديث جابر : حتى إذا كان آخر الطواف عند المروة . وهو قد بدأ بالصفا ، وإنما يكون آخر طوافه عند المروة إذا احتسبت بالذهاب سعيه وبالرجوع سعية ، وهذا كله على سبيل الاستحباب والواجب قطع ما بينهما على ما تقدم وإكمال السبع ، واللَّه أعلم .
قال : ويفتتح بالصفا ويختم بالمروة .
ش : هذا على سبيل الوجوب ، فلو بدأ بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط ، لأن النبي بدأ بالصفا ، اتباعاً لما بدأ اللَّه به .
1648 وقد قال ( خذوا عني مناسككم ) .
1649 مع أن في النسائي في حديث جابر ( ابدؤا بما بدأ اللَّه به ) وهذا أمر ، واللَّه أعلم .
قال : وإن نسي الرمل في بعض سعيه فلا شيء عليه .
ش : القول في ترك الرمل في السعي كالقول في تركه للطواف ، وقد تقدم ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا فرغ من السعي فإن كان متمتعاً قصر من شعره ثم قد حل .
ش : لما تقدم في حديث جابر : فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي ومن كان معه هدي .
1650 وفي حديث ابن عمر الصحيح قال : فلما قدم رسول اللَّه مكة قال للناس ( من كان معه هدي لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، وليقصر وليحلل ) .
ويستثنى من ذلك من كان معه هدي فإنه لا يتحلل ، بل يقيم على إحرامه ، ثم يدخل الحج على العمرة ، على المختار من الروايات [ لما تقدم ] .
1651 وفي الصحيحين عن حفصة رضي اللَّه عنها أنها قالت : يا رسول اللَّه ما شأن الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال : ( إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر ) .
وعن أحمد : يحل له التقصير من شعر رأسه خاصة ، قال : كما فعل النبي ، وذلك .
1652 لما روى معاوية رضي اللَّه عنه قال : قصرت شعر رسول اللَّه بمشقص . متفق عليه ، ولأبي داود والنسائي : رأيته يقصر على المروة بمشقص .
وبهذا يتخصص عموم ما تقدم ، [ ويجاب ] عنه بأن المشهور والأكثر في الرواية ما تقدم .
1653 وقد قال معاوية لابن عباس رضي اللَّه عنهم : أعلمت أني قصرت من رأس رسول اللَّه عند المروة ؟ فقال : لا . انتهى .
1654 وقال قيس : الناس ينكرون هذا على معاوية .
ونقل عنه يوسف بن موسى فيمن قدم متمتعاً وساق الهدي : إن قدم في شوال نحر الهدي وحل ، وعليه هدي آخر ، وإن قدم في العشر أقام على إحرامه . وقيل له : معاوية [ يقول ] : قصرت شعر رسول اللَّه بمشقص ؟ فقال : إنما حل بمقدار التقصير ، ورجع حراماً ، مكانه وكأن أحمد رحمه اللَّه لحظ قبل العشر أن في البقاء مشقة ، وأن الذي وقع من عدم الحل إنما هو في العشر ، واستثنى مقدار تقصير الشعر فقط للنص ، وبه يتخصص عموم كلامه الأول في رواية حنبل : إذا قدم في أشهر الحج وقد ساق الهدي ، فلا يحل حتى ينحره . [ والعشر أوكد ، فإذا قدم في العشر لم يحل ، لأن رسول اللَّه قدم في العشر ولم يحل . ومن وجه آخر وهو أنه قال : إذا قدم لم يحل حتى ينحر ] وقال في رواية يوسف بن موسى : ينحر ويحل . وليس بين الروايتين تناف ، بل متى قدم قبل العشر ونحر حل على مقتضى الروايتين ، ويؤيد هذا أنه قال : إذا قدم في العشر لم يحل ، فأطلق ولم يقل : حتى ينحر .
وهذا كله في المتمتع ، أما المعتمر غير المتمع فإنه يحل وإن كان معه هدي . وقول الخرقي : قصر من شعره . يدل على أن الأفضل للمتمتع التقصير ، وعلى هذا جرى أبو محمد ، وقال أحمد : يعجبني إذا دخل متمتعاً أن يقصر ، ليكون الحلق للحج .
1655 وذلك لما تقدم من فعل الصحابة ، ومن أمر النبي لهم بذلك ، ولما علل به أحمد ، إذ الحج هو النسك الأكبر ، فاستحب أن يكون الحلق الذي هو الأفضل فيه ، وقال صاحب التلخيص فيه : الحلق أفضل من التقصير في الحج والعمرة . وتبعه على ذلك أبو البركات ، فقال : إن كان في عمرة حلق أو قصر وحل .
وقول الخرقي : قصر ثم حل . يقتضي أن التقصير نسك ، وسيأتي ذلك إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : وطواف النساء وسعيهن مشي كله .
ش : أي لا رمل فيه ولا اضطباع أيضاً ، وهذا بالإجماع [ قاله ابن المنذر ] ولأن الأصل في مشروعيتها إظهار الجلد ، وو غير مطلوب من المرأة ، واللَّه أعلم .
قال : ومن سعى بين الصفا والمروة على غير طهارة كرهنا له ذلك وقد أجزأه .
ش : المذهب المشهور المنصوص ، والمختار للأصحاب من الروايتين عدم اشتراط الطهارتين للسعي بين الصفا والمرة .
1656 لما روت عائشة رضي اللَّه عنها قالت : خرجنا مع رسول اللَّه لا نذكر إلا الحج ، حتى جئنا سرف فطمثت ، فدخل عليَّ رسول اللَّه وأنا أبكي ، فقال : ( ما لك لعلك نفست ؟ ) فقلت : نعم . فقال : ( هذا شيء كتبه اللَّه على بنات آدم ، فافعلي ما يفعل الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي .
1657 وأصرح من هذا ما في المسند عنها عن النبي قال : ( الحائض تقضي المناسك إلا الطواف ) رواه أحمد ، والطواف ينصرف إلى المعهود وهو الطواف بالبيت ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى حكم السعي في الطهارة قال في رواية ابن إبراهيم : الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ولأنه طواف فيدخل أو يقاس على ما تقدم ، ودليل الوصف قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ) .
1658 وقال النبي لعائشة ( طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة ، يكفيك لحجك وعمرتك ) رواه أبو داود وغيره ، ولا نزاع أن المستحب أن يسعى على طهارة ، خروجاً من الخلاف .
وحكم طهارة الخبث حكم طهارة الحدث ، لأنها أخف منها .
أما الستارة فالأكثرون لا يذكرون في عدم اشتراطها خلافاً ، وأجرى أبو محمد في الكافي والمقنع الخلاف فيها . واللَّه أعلم .
قال : وإن أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة وهو يطوف أو يسعى صلى فإذا صلى بنى .
1659 ش : أما إذا أقيمت الصلاة فلعموم قول النبي ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) وفي لفظ ( إلا التي أقيمت ) والصلاة قد أقيمت والحال هذه ، فلا يصلي إلا هي ، وكذلك لا يسعى بطريق الأولى ، وأما صلاة الجنازة فلأن التشاغل عنها ربما فوتها ، وتأخيرها ربما أفسد الميت ، مع أن الزمن يسير .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يترك الطواف لغير هذهي ، وهو كذلك ، ومتى ترك وطال الفصل بطل ، لفوات شرطه وهو الموالاة على المذهب ، وإن لم يل لم يبطل فيبني ، ودليل اشتراطهما أن النبي شبه الطواف بالصلاة ، والموالاة تشترط في الصلاة ، فكذلك في الطواف ، ولأن النبي وإلى في طوافه وقال : ( خذوا عني مناسككم ) ( وفي المذهب قول ثان ) لا تشترط الموالاة ، فلو طاف أول النهار شوطاً ، وآخر النهار بقية الأسبوع أجزأه ، حكاه أبو الخطاب تخريجاً ، وصاحب التلخيص وجهاً ، وأبو البركات رواية ، وكذلك أبو محمد في الكافي والمغنى ، لكنه خصها بحال العذر ، ونص الإمام إنما يدل على ذلك ، قال : إذا أعيى في الطواف لا بأس أن يستريح .
1660 وقال : 16 ( الحسن غشي عليه فحمل إلى أهله ، فلما أفاق أتمه ) .
وظاهر كلام الخرقي أن حكم السعي حكم الطواف في الموالاة ، وعلى هذا اعتمد القاضي ، وصاحب التلخيص ، وأبو البركات وغيرهم ، وخالفهم أبو محمد ، فاختار أنها لا تشترط هنا بخلاف ثم ، وهو ظاهر كلام أحمد ، واختيار أبي الخطاب ، واللَّه أعلم .
قال : وإن أحدث في بعض طوافه تطهر وابتدأ الطواف إن كان فرضاً .
ش : الطواف في حكم الصلاة ، فيثبت له ما يثبت لهاإلا ما استثناه الشارع ، فإذا أحدث في طوافه فإن كان عمداً أبطله واستأنف ، وإن سبقه الحدث فهل يتطهر ويستأنف ، أو يبني ، أو يستأنف إن كان الحدث غائطاً أو بولاً ، ويبني إن كان غيرهما ؟ على ثلاث روايات ، كالروايات الثلاث في الصلاة ، كذا ذكره القاضي في روايتيه ، وبناه أيضاً على القول باشتراط الطهارة للطواف ، وفيه نظر ، فإنه وإن لم يشترطها ، فالخلاف جار ، ليأتي بالواجب فإنه لا نزاع في وجوبها ، نعم ينبغي البناء على أصل آخر وهو الموالاة ، فإنا إن لم نشترطها ينبغي البناء مطلقاً .
وقول الخرقي : وابتدأ الطواف إن كان فرضاً . يحترز به عن النفل ، فإنه لا يلزمه أن يبتدىء به ، لأنه لا يلزم بالشروع ، بخلاف الفرض ، فإنه لازم له ، ولا يتوهم أن مراده إذا كان نفلاً أنه يبني ، فإنه لا فرق في البناء وعدمه في الفرض والنفل ، واللَّه أعلم .
قال : ومن أطاف أو سعى محمولاً لعلة أجزأه .
ش : إذا طاف راكباً أو محمولاً لعذر من مرض أو غيره أجزأه بلا ريب .
1661 لما في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، قال : طاف النبي في حجة الوداع على بعير ، يستلم الركن بمحجن ، وفي رواية لأبي داود أن النبي قدم مكة وهو يشتكي ، فطاف على راحلته .
1662 وعن أم سلمة رضي اللَّه عنها قالت : شكوت إلى رسول اللَّه أني أشتكي ، فقال : ( طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ) فطفت ورسول اللَّه يصلي إلى جنب البيت ، يقرأ ب { الطور ، وكتاب مسطور } متفق عليه .
وإن طاف راكباً أو محمولاً لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي وهو إحدى الروايات وأشهرها عن الإمام محمد ، واختيار القاضي أخيراً ، والشريف أبي جعفر [ لا يجزئه . لأن النبي ] شبه الطواف بالصلاة ، والصلاة لا تفعل كذلك إلا لعذر ، فكذلك الطواف ، وطواف النبي راكباً كان لعذر ، إما لشكاية به كما تقدم في رواية أبي داود ، وإما ليراه الناس فيأتموا به ، ويتعلموا منه .
1663 قال جابر رضي اللَّه عنه : طاف النبي في حجة الوداع على راحلته بالبيت ، يستلم الركن بمحجنه ، وبين الصفا والمروة ليراه الناس ، وليشرف وليسألوه ، فإن الناس غشوه . رواه مسلم ، وأبو داود والنسائي . وكذلك قال أحمد في رواية محمد بن أبي حرب ، وحنبل . ( والرواية الثانية ) يجزئه ولا شيء عليه ، على ظاهر كلام أحمد ، اختارها أبو بكر . في زاد المسافر ، وابن حامد ، والقاضي قديماً ، قال في تعليقه : كنت أنصر أنه يجزئه [ ولا دم عليه ] ثم رأيت كلام أحمد أنه لا يجزئه ، فنصرت نفي الإجزاء ، وذلك لأن اللَّه تعالى ذكر الطواف ولم يبين صفته ، فكيف ما طاف أجزأه ، ولطوافه راكباً ، وقد تقدم الجواب عن ذلك . وحكى أبو محمد ( رواية ثانية ) : يجزئه ويجبره بدم . ولم أرها لغيره ، بل قد أنكر ذلك أحمد في رواية محمد بن منصور الطوسي ، في الرد على أبي حنيفة قال : طاف رسول اللَّه على بعيره . وقال هو : إذا حمل فعليه دم . انتهى . وحكم السعي حكم الطواف عند الخرقي ، وصاحب التلخيص ، وأبي البركات وغيرهم ، قال القاضي : وهو ظاهر كلام أحمد ، قال في رواية حرب : لا بأس بالسعي بين الصفا والمروة على الدواب للضرورة ، وخالفهم أبو محمد فقطع بالإجزاء ، كما اختار أنه لا تشترط له الطهارة .
( تنبيه ) : إذا طاف أو سعى راكباً لم يرمل ، نص عليه أحمد ، واختاره أبو محمد ، لأنه لم ينقل عن النبي ، واختار القاضي أظنه في المجرد أن بعيره يخب به ، واللَّه أعلم .
قال : ومن كان قارناً أو مفرداً أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى ، ويجعلها عمرة ، إلا أن يكون قد ساق معه هدياً فيكون على إحرامه .
ش : قد ثبت أن النبي أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ، ثبوتاً لا ريب فيه ، وقد تقدم في حديث جابر رضي اللَّه عنه أمره بذلك ، قال جابر رضي اللَّه عنه : حتى إذا كان آخر الطواف على المروة قال : ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل ، وليجعلها عمرة ) فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول اللَّه ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فشبك رسول اللَّه أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال : ( دخلت العمرة في الحج ) مرتين ( لا بل لأبد أبد ) .
1664 وعن أبي موسى رضي اللَّه عنه قال : قدمت على رسول اللَّه وهو منيخ بالبطحاء ، فقال لي : ( حججت ؟ ) فقلت : نعم . قال ( بما أهللت ؟ ) قال : قلت لبيك بإهلال كإهلال رسول اللَّه ، قال : ( فقد أحسنت ، طف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، وأحل ) قال : فطفت بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم أتيت امرأة من بني قيس ، ففلت رأسي ، ثم أهللت بالحج ، قال : فكنت أفتي به الناس ، حتى كان في خلافة عمر رضي اللَّه عنه ، فقال له رجل : يا أبا موسى أو يا عبد اللَّه بن قيس رويدك بعض فتياك ، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك ، فقال : يا أيها الناس من كنا أفتيناه فتيا فليتئد ، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم ، فبه فأتموا ، قال فقدم عمر ، فذكرت ذلك له فقال : إن نأخذ بكتاب اللَّه فإن كتاب اللَّه يأمرنا بالتمام ، وإن نأخذ بسنة رسول اللَّه فإن رسول اللَّه لم يحل حتى بلغ الهدي محله . متفق عليه واللفظ لمسلم . وفي رواية له قال : ( هل سقت من هدي ؟ ) قال : لا . قال : ( فطف بالبيت ، وبالصفا والمروة ثم حل ) وفي رواية له أيضاً أن عمر قال : قد علمت أن النبي قد فعله وأصحابه ، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك ، ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم .
1665 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : تمتع رسول اللَّه في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول اللَّه فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ، وتمتع الناس مع رسول اللَّه بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد ، فلما قدم رسول اللَّه قال للناس : ( من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ، وليقصر وليحلل ، ثم ليهل بالحج وليهد ) . مختصر متفق عليه واللفظ لمسلم .
1666 وعن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال : خرجنا مع رسول اللَّه ونحن نصرخ بالحج صراخاً ، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي ، فلما كان يوم التروية ورجعنا إلى منى أهللنا بالحج ، رواه أحمد ومسلم .
1667 وقد روي ذلك [ أيضاً من حديث أسماء ، وعائشة ، وابن عباس ، وأنس بن مالك وكلها في الصحاح ، وروي ] أيضاً عن البراء بن عازب وغيرهم ، قال أبو عبد اللَّه بن بطة : سمعت أبا بكر بن أيوب يقول : سمعت إبراهيم الحربي يقول وسئل عن فسخ الحج فقال : [ قال ] سلمة بن شبيب لأحمد : كل شيء منك حسن غير خلة واحدة ، قال : ما هي ؟ قال : تقول بفسخ الحج ، قال أحمد : كنت أرى لك عقلاً ، عندي ثمانية عشر حديثاً صحيحاً أتركها لقولك . انتهى .
ولا نزاع بين المسلمين أن النبي أمر أصحابه بذلك ، وإنما النزاع هل كان ذلك خاصاً بأصحاب رسول اللَّه ، أو لمعنى آخر لا يشركهم فيه غيرهم ، أو لأن إحرامهم وقع مطلقاً . فقيل وهو أضعفها لم يكونوا أحرموا بالحج .
1668 قال : لأن الشافعي رضي اللَّه عنه روى أن النبي وأصحابه أحرموا مطلقاً ينتظرون القضاء . فلما نزل عليهم القضاء قال : ( اجعلوها عمرة ) ولا نزاع أن من لم يعين ما أحرم به له أن يجعله عمرة ، وهذا ذهول أو مكابرة في الأحاديث ، فإن في حديث جابر : لسنا نريد إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة . وفي حديث أبي موسى أنه أهل كإهلال النبي ، وقد تقدم نسك النبي ، والخصم يدعي أنه كان مفرداً أو قارناً ، وفي حديث أبي سعيد : نصرخ بالحج صراخاً .
1669 وفي حديث أسماء في رواية لمسلم : قدمنا مع رسول اللَّه مهلين بالحج . وفي حديث عائشة : لا نرى إلا أنه الحج .
1670 وفي حديث أنس رضي اللَّه عنه : أنه بات بذي الحليفة حتى أصبح ، ثم أهل بحج وعمرة ، وأهل الناس بهما .
1671 وفي حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفراً ، ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر ، فقدم النبي وأصحابه صبيحة رابعة ، مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول اللَّه أي الحل ؟ قال : ( الحل كله ) متفق عليه .
وهذه الأحاديث مع جملة أيضاً من الأحاديث تنفي أنهم أحرموا مطلقاً .
وقيل : لأن الفسخ كان لمعنى في حقهم ، وهو معدوم في حقنا ، وهو أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ، بدليل حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما المتقدم . ورد بأنه لو كان كذلك لما خص بالفسخ من لم يسق الهدي ، لأن الجميع كانوا في الاعتقاد على حد سواء ، ولكان الرسول علل امتناعه من الفسخ بكونه يعتقد جواز العمرة ، ولم يعلل بذلك ، وإنما علل بسوق الهدي .
وقيل وهو أقواها عندهم إن ذلك كان خاصاً لأصحاب النبي .
1672 بدليل ما روي عن الحارث بن بلال ، عن أبيه ، قال : قلت : يا رسول اللَّه أفسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : ( بل لنا خاصة ) رواه الخمسة إلا الترمذي .
1673 وعن أبي ذر قال : كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة . وفي رواية قال : كانت رخصة . يعني متعة الحج ، رواه مسلم ، ولأبي داود : كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة : لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول اللَّه .
وقد أجاب أحمد رضي اللَّه عنه عن هذا ، فقال عبد اللَّه : قيل لأبي : حديث بلال بن الحارث ؟ قال : لا أقول به ، فلا يعرف هذا الرجل . وقال في رواية الميموني : أرأيت لو عرف بلال بن الحارث ، إلا أن أحد عشر رجلاً من أصحاب رسول اللَّه يروي ما يروي ، أين يقع بلال بن الحارث منهم ؟ وقال في رواية أبي داود : ليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة ، وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر ، وشطراً من خلافة عمر . انتهى . فقد أشار أحمد رحمه اللَّه إلى ضعف الحديث ، ثم على تقدير صحته عارضه بالجم الغفير من الصحابة الذي رووا خلاف ذلك ، ويشهد بذلك حديث جابر ( لا بل لأبد الأبد ) وهذا خبر لا يقبل الفسخ والتغيير ، ويؤيد هذا أن عمر رضي اللَّه عنه لم يذكر تخصيصاً ، وإنما استدل بظاهر الكتاب ، وبفعل الرسول ، بل قد أقر أن النبي وأصحابه فعلوا ذلك ، واعتذر بما ذكر من أنهم يظلون معرسين ، وقد تقدم الجواب عن قولهم ، في أي الأنساك أفضل ، وقول أبي ذر رضي اللَّه عنه موقوف عليه ، وهو مخالف لقول صاحب الشريعة ، ثم قد خالفه أبو موسى وأفتى به في خلافة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما ، وخالفه أيضاً ترجمان القرآن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، بل كان من مذهبه أنه متى طاف بالبيت حل .
1674 فعن عطاء قال : كان ابن عباس رضي اللَّه عنهما يقول : لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حل . قيل لعطاء : من أين يقول ذلك ؟ قال : من قول اللَّه سبحانه : { ثم محلها إلى البيت العتيق } قيل لعطاء : فإن ذلك بعد المعرف ، قال : فكان ابن عباس يقول : هو بعد المعرف وقبله ، وكان يأخذ ذلك جوازاً من أمر النبي ، حين أمرهم أن يحلوا من حجة الوداع .
إذا تقرر هذا فشرط جواز الفسخ عدم سوق الهدي ، أما من ساق الهدي فإنه لا يجوز له الفسخ ، لما تقدم من النصوص ، ( وشرطه ) أيضاً عدم الوقود ، أما بعد الوقوف فلا فسخ ، لوجود معظمه ، ولأنه إذاً يشرع في تحلله ، فلا يليق فسخه ، مع أن النص لم يرد بذلك ، ولو فسخ السائق أو الواقف لم ينفسخ .
ومعنى الفسخ أنه إذا طاف وسعى فسخ نية الحج ، ونوى عمرة مفردة ، فيصير متمتعاً ، فيقصر ويحل ، هذا ظاهر الأحاديث ، ومقتضى كلام الخرقي وأبي محمد ، وعن ابن عقيل : الطواف بنية العمرة هو الفسخ ، وبه حصل رفض الإحرام لا غير ، فهذا تحقيق الفسخ وما ينفسخ به .
( قلت ) : وهذا جيد ، والأحاديث لا تأباه ، والقاضي وأبو الخطاب وغيرهما لم يفصحا بالمسألة ، بل قالوا : يفسخ نيته بالحج ، وينويان إحرامهما ذلك لعمرة ، فإذا فرغا منها أحرما بالحج ، ولا يغرنك كلام ابن المنجا فإنه قال : إن ظاهر كلام المصنف أن الطواف والسعي شرط في استحباب الفسخ ، قال : وليس الأمر كذلك ، لأن الأخبار تقتضي الفسخ قبل الطواف والسعي ، ولأنه إذا طاف وسعى ثم فسخ يحتاج إلى طواف وسعي لأجل العمرة ، ولم يرد مثل ذلك ، قال : ويمكن تأويل كلام المصنف على أن ( إذا ) ظرف لأحببنا له أن يفسخ وقت طوافه ، أي وقت جواز طوافه . انتهى كلامه .
وقد غفل رحمه اللَّه عن كلام الخرقي وعن كلام الشيخ في المغني فإن نصه ما قلته ، وكلام القاضي ومن وافقه لا يأبى ذلك ، فإنهم لم يشترطوا للفسخ إلا عدم سوق الهدي والوقوف ، وكلامه صريح بأنه لو فسخ بعد الطواف صح ذلك ، وليس في كلامهم ما يقتضي أنه يطوف [ طوافاً ] ثانياً كما زعم ، ولا بعد أن ينقلب الطواف فيصير للعمرة ، [ كما ينقلب إحرامه للحج فيصير للعمرة ] ، وقوله : إن الأخبار تقتضي الفسخ قبل الطواف والسعي . ليس كذلك ، بل قد قال : إن ظاهرها أن الفسخ إنما هو بعد الطواف ، ويؤيد ذلك حديث جابر المتقدم ، فإنه كالنص ، فإن الأمر بالفسخ إنما كان بعد طوافهم . انتهى .
وظاهر كلام الخرقي وتبعه أبو محمد ، وصاحب التلخيص [ وغيرهم ] أن الفسخ على سبيل الاستحباب ، وهو مقتضى النصوص ، و القاضي و أبو الخطاب و أبو البركات جعلوا ذلك جائزاً .
( تنبيه ) : ( اتئد في فتياك ) ( يظلوا معرسين بهن في الأراك ، ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم ) .
( الفجور ) الميل عن الواجب ( الدبرلإ جمع دبرة وهي العقرة في ظهر البعير يقول : دبر البعير بالكسر ، وأدبره القتب . ( وعفا الأثر ) .
قال : ومن كان متمتعاً قطع التلبية إذا وصل إلى البيت ، واللَّه أعلم .
ش : منصوص أحمد رحمه اللَّه في رواية الجماعة الميموني ، والأثرم ، وحنبل ، وأبي داود أنه يقطع التلبية إذا استلم الحجر ، لأنه إذاً شرع في التحلل ، أشبه الحاج إذا شرع في رمي جمرة العقبة .
1675 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما يرفع الحديث : أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة حين يستلم الحجر . رواه الترمذي وصححه .
1676 وعنه عن النبي قال : ( يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر ) رواه أبو داود ، قال : وقد روي موقوفاً عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما .
وقول الخرقي : إذا وصل إلى البيت ، يجوز أن يحمل على منصوص الإمام ، لأن الرائي للبيت غالباً يشرع في الطواف ، وعلى هذا حمله [ أبو محمد ، ويجوز أن يحمل على ظاهره ، وأن يقطع بمجرد الرؤية وإن لم يشرع في الطواف ، وعلى هذا حمله ] أبو البركات ، وجوز القاضي في التعليق الاحتمالين ، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم .
باب ذكر الحج
قال : وإذا كان يوم التروية أهل بالحج .
ش : ظاهر هذا الكلام أن كل من كان بمكة لم يحرم بالحج فإنه يحرم به يوم التروية ، سواء كان من المقيمين بمكة ، أو من المتمتعين الذين حلوا ، أو لم يحلوا لسوق الهدي ، ويحتمله كلام أبي البركات ، وكلام صاحب التلخيص يقتضي أن من ساق الهدي من المتمتعين يحرم بالحج [ عقب ] طوافه وسعيه ، قال : إلا أن يكون قد ساق الهدي ، فيحرم بالحج إذا طاف وسعى لعمرته قبل التحلل منها ، وكذلك قال القاضي قبله : المتمتع السائق للهدي إذا طاف وسعى لعمرته لا يحل منها ، ولكن يحرم بالحج ، ويحتمل هذا كلام أبي محمد ، وأن استحباب الإحرام يوم التروية لمن كان حلالاً ، ويشهد لهذا حديث جابر المتقدم ، قال : فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي ومن كان معه هدي ، فلما كان يوم التروية ووجهوا إلى منى أهلوا بالحج . وظاهره أن الذين حلوا هم الذين أحرموا يوم التروية .
وقوله : أهل بالحج : يعني من مكة ، لما تقدم له من أن ميقات أهل مكة من مكة ، ولو أحرم من خارج مكة من الحرم جاز ، لقول جابر : فأهللنا بالحج من الأبطح . ويستحب أن يغتسل ويتنظف ، ونحو ذلك مما يفعله عند الإحرام [ ويطوف أسبوعاً ، ثم يصلي ركعتين ، ويحرم ، ولا يسن تطويف بعد الإحرام ] .
( تنبيه ) : يوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة ، سمي بذلك قيل : لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده . وقيل : لأن قريشاً كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحاج تسقيهم وتطعمهم ، فيرتوون منه وقيل : لأن الإمام يروي للناس فيه من أمر المناسك . وقيل : لأن إبراهيم عليه السلام تروى فيه في ذبح ولده ، واللَّه أعلم .
قال : ومضى إلى منى فيصلي بها الظهر إن أمكنه ، لأنه يروى عن النبي أنه صلى بمنى خمس صلوات .
ش : كذا في حديث جابر ، قال : فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ، وأهلوا بالحج ، فركب رسول اللَّه فصلى بها الظهر ، والعصر والمغرب ، والعشاء ، والفجر .
وقول الخرقي : إن أمكنه . لأن كثيراً من الناس يشتغل يوم التروية بمكة إلى آخر النهار ، قال أبو محمد : وهذا كله على سبيل الاستحباب . وظاهره أن المبيت بمنى في هذه الليلة لا يجب .
( تنبيه ) : لو صادف يوم التروية يوم الجمعة وجب فعلها لمن تجب عليه [ وأقام حتى زالت الشمس ، وإلا لم تجب ] ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا طلعت الشمس دفع إلى عرفة .
ش : من المستحب أيضاً أن لا يدفع من منى حتى تطلع الشمس ، كما صنع رسول اللَّه ، واللَّه أعلم .
قال : فأقام بها حتى يصلي مع الإمام الظهر والعصر بإقامة لكل صلاة ، وإن أذن فلا بأس .
ش : إذا دفع من منى إلى عرفة فالأولى أن يقيم بنمرة ، ثم يخطب الإمام خطبة يعلم الناس فيها حكم الوقوف ، والمبيت بمزدلفة ، ويحثهم على المهم من أمر الإسلام ، تأسياً بالنبي ، فقد ثبت ذلك عنه في حديث جابر ، ثم ينزل الإمام فيصلي بهم الظهر والعصر ، ويجمع بينهما بأذان يعقب الخطبة ، ثم بإقامة لكل صلاة ، كما في حديث جابر ، وحكى صاحب التلخيص في الأذان روايتين ، والخرقي رحمه اللَّه خير في الأذان ، وكذا قال أحمد ، لأن كلا يروى عن النبي .
وإطلاق الخرقي يشمل كل من كان بعرفة من مكي وغيره ، وصرح به أبو محمد . معتمداً على أن النبي جمع فجمع معه من حضره ، ولم يأمرهم بترك الجمع .
1677 كما أمر بترك القصر في محل آخر ، حيث قال ( أتموا فإنا قوم سفر ) وإلا يكون تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وقد قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة ، وكذلك من صلى مع الإمام .
وشرط القاضي وأصحابه ومتابعوهم كأبي البركات وصاحب التلخيص كذلك أن يكون ممن يجوز له الجمع
.
( تنبيه ) : ( نمرة ) موضع بعرفة ، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم ، على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الموقف ، قاله المنذري ، وبهذا يتبين أن قول صاحب التلخيص : أقام بنمرة ، وقيل بعرفة . ليس بجيد ، إذ نمرة من عرفة ، وكلام الخرقي قد يشهد لهذا ، لأنه قال : دفع إلى عرفة . ثم قال : ثم يسير إلى موقف عرفة . واللَّه أعلم .
قال : وإن فاته مع الإمام صلى في رحله .
1678 ش : أي إذا فاته الجمع مع الإمام جمع في رحله ، كذا يروى عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، ولأنه يجمع مع الإمام ، فجمع وحده كغير هذا الجمع ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يصير إلى موقف عرفة عند الجبل .
ش : كذا قال جابر : ثم أذن ثم أقام ، فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئاً ، ثم ركب رسول اللَّه حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة . والووقوف عند الجبل ، واستقبال القبلة ، ونحو ذلك من المستحبات ، اتباعاً للنبي ، والغرض الصيرورة بعرفة كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : وعرفة كلها موقف ، ويرفع عن بطن عرنة فإنه لا يجزئه الوقوف فيه .
1679 ش : في رواية لمسلم في حديث جابر أن رسول اللَّه قال : ( نحرت هاهنا ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ، ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف ) ورواه أحمد ، وأبو داود وابن ماجه أيضاً .
1680 وعن مالك : بلغه أن النبي قال : ( عرفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة ، والمزدلفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن محسر ) .
1681 وعن ابن الزبير من قوله كذلك ، رواهما مالك في موطئه .
( تنبيه ) : الوقوف بعرفة ركن إجماعاً .
1682 وقد روي عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي اللَّه عنه أن ناساً من أهل نجد أتوا رسول اللَّه وهو واقف بعرفة ، فسألوه ، فأمر منادياً فنادى ( الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فتم حجه ، أيام منى ثلاثة أيام ، { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه } وأردف رجلاً ينادي بمنى . رواه الخمسة .
وعن عروة بن مضرس نحو ذلك ، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى والمشترط الحصول بعرفة . عاقلاً ، فلا وقوف لمجنون ، ولا لمغمى عليه ، ولا لسكران ، قاله ابن عقيل وغيره ، لعدم شعورهم بها ، وفي النائم وجهان ، أصحهما عند صاحب التلخيص وبه جزم أبو محمد الإجزاء لأنه في حكم المنتبه ، وكذلك في الجاهل بكونها عرفة [ وجهان ] ، الإجزاء قطع به أبو محمد ، وعدمه قاله أبو بكر في التنبيه .
1683 ويشهد لقول أبي محمد عموم حديث عروة بن مضرس الطائي رضي اللَّه عنه قال : أتيت رسول اللَّه بالموقف ، يعني بجمع قلت : جئت يا رسول اللَّه من جبلي طيء ، فأكللت مطيتي ، وأتعبت نفسي ، واللَّه ما تركت من حبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ، فقال رسول اللَّه ( من أدرك معنا هذه الصلاة ، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه ) رواه الخمسة وهذا لفظ أبي داود وصححه الترمذي ولا يشترط للوقوف طهارة ، ولا نية ، ولا استقبال ، ولا ستارة .
( تنبيه ) : ( جمع ) اسم علم للمزدلفة .
1684 وسميت بذلك قبل لاجتماع آدم بحواء فيه ، كذا روى ابن عباس و ( الحبل ) بالحاء المهملة أحد حبال الرمل ، وهو ما اجتمع منه واستطال ، وروى ( جبل ) بالجيم .
1685 و ( التفث ) قال الأزهري لا يعرف في كلام العرب إلا في قول ابن عباس وأهل التفسير ، وقال غيره : ) هو قص الأظفار ، والشارب ، وحلق العانة ، والرأس ، ورمي الجمار والنحر ، وأشباه ذلك . وقيل : هو إذهاب الشعث والدرن ، والوسخ مطلقاً ، واللَّه أعلم .
قال : ويكبر ويهلل ، ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس .
1686 ش : عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده رضي اللَّه عنه أنه قال : أكثر دعاء النبي يوم عرفة ( لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ) رواه أحمد والترمذي ولفظه أن النبي قال : ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ) قيل لسفيان بن عيينة : هذا ثناء وليس بدعاء ؟ فقال : أما سمعت قول الشاعر :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
حباؤك إن شيمتك الحباء
إذا أثنى عليك المرء يوماً
كفاه من تعرضه الثناء
انتهى .
1687 وعن أسامة رضي اللَّه عنه قال : كنت ردف النبي بعرفات ، فرفع يديه يدعو ، فمالت به ناقته ، فسقط خطامها ، فتناول الخطام بإحدى يديه ، وهو رافع يده الأخرى . رواه النسائي . ولمطلوبية الدعاء في هذا اليوم استحب الإفطار كما تقدم ، وإن كان صومه يكفر سنتين .
1688 وقد روى ابن ماجه عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه قال : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق اللَّه فيه عبداً من النار من يوم عرفة ، فإنه ليدنو عز وجل ، ثم يباهي بكم الملائكة ، فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ ) .
وقول الخرقي : ويكبر ويهلل ، ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس . التكبير والتهليل والدعاء مستحب ، وأما الوقوف إلى غروب الشمس فواجب ، ليجمع بين الليل والنهار ، فإن النبي وقف حتى غربت الشمس كذا في حديث جابر ، وفي حديث غيره ، وقد قال : ( خذوا عني مناسككم ) والواجب عليه إذا وقف نهاراً أن يكون قبيل الغروب بعرفة ، لتغرب الشمس عليه وهو بها ، فلو لم يأت عرفة إلا بعد الغروب فلا شيء عليه ، وكذلك لو دفع منها نهاراً ثم عاد قبل الغروب ، فوقف إلى الغروب ، هذا تحصيل المذهب . واللَّه أعلم .
قال : فإذا دفع معه إلى مزدلفة .
ش : الإمام هو الذي إليه أمر الحج ، ولا نزاع في مطلوبية أتباعه ، وأن لا يدفع إلا بعد دفعه ، لأنه الأعرف بأمور الحج ، وما يتعلق بها ، وأضبط للناس من أن يتعدى بعضهم على بعض ، ولا ريب أن النبي وأصحابه معه دفعوا من عرفة ، وكان يأمرهم بالرفق في السير .
1689 فعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه دفع مع النبي يوم عرفة ، فسمع النبي وراءه زجراً شديداً ، وضرباً للإبل فأشار بسوطه إليهم ، وقال : ( أيها الناس عليكم السكينة ، فإن البر ليس بالإيضاع ) متفق عليه ، والإيضاع ضرب من سير الإبل سريع ، واللَّه أعلم .
قال : ويكون في الطريق يلبي ويذكر اللَّه عز وجل .
ش : أما الذكر فلأنه مطلوب في كل وقت إلا أن يمنع منه مانع ، وهنا أجدر ، لكونه في عبادة .
1690 وأما التلبية فلما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن أسامة كان ردف النبي من عرفة إلى مزدلفة ، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى ، فكلاهما قال : لم يزل النبي يلبي حتى رمى جمرة العقبة .
1691 وعن محمد بن أبي بكر الثقفي قال : 16 ( قلت لأنس غداة غرفة : ما تقول في التلبية هذا اليوم ؟ قال : سرت هذا المسير مع رسول اللَّه وأصحابه ، فمنا المكبر ، ومنا المهلل ، لا يعيب أحدنا على صاحبه ، متفق عليهما ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يصلي مع الإمام المغرب وعشاء الآخرة .
ش : يعني بمزدلفة ، ولا نزاع والحال هذه [ أن المطلوب ] تأخير المغرب ليجمع بينها وبين العشاء بمزدلفة ، كما فعل رسول اللَّه ، كما تقدم في حديث جابر ، ول ترك ذلك صح ، واللَّه أعلم .
قال : بإقامة لكل صلاة ، وإن جمع بينهما بإقامة فلا بأس .
ش : يجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة ، بإقامة لكل صلاة ، بلا أذان .
1692 لما روى أسامة بن زيد رضي اللَّه عنه قال : دفع رسول اللَّه من عرفة ، حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ، ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء ، فقلت : الصلاة يا رسول اللَّه ؟ فقال ( الصلاة أمامك ) فركب فلما جاء المزدلفة نزل ، فتوضأ فأسبغ الوضوء ، د ثم أقيمت الصلاة ، فصلى المغرب ، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ، ثم أقيمت العشاء ، فصلى ولم يصل بينهما . متفق عليه . وإن جمع بينهما بإقامة فلا بأس .
1693 لأنه يروى عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : جمع رسول اللَّه بين المغرب والعشاء بجمع ، صلى المغرب ثلاثاً ، والعشاء ركعتين ، بإقامة واحدة ، رواه مسلم .
والأول قال ابن المنذر : إنه قول أحمد ، لأنه رواية أسامة ، وهو أعلم بحال النبي ، فإنه كان رديفة ، وإنما لم يؤذن للأولى لأنها في غير وقتها ، بخلاف المجموعتين بعرفة ، قال أبو محمد : وإن أذن للأولى وأقام ، ثم أقام لكل صلاة فحسن ، لما تقدم في حديث جابر ، وهو متضمن لزيادة ، وكسائر الفوائت والمجموعات ، قلت : وقد يقال : إن حديث جابر لا يخالف حديث أسامة ، إذ قوله : ) 16 ( ثم أقيمت الصلاة ، أي دعي إليها ، وذلك قد يكون بأذان وإقامة ، والارتداف لا يرجح روايته والحال هذه ، لأنه لم يخبر عن شيء وقع من النبي وهو رديفه ، إنما أخبر بعد زوال الارتداف ، واللَّه أعلم .
قال : وإن فاته مع الإمام صلى وحده .
ش : أي يجمع منفرداً كما يجمع مع الإمام ، وهذا إجماع والحمد للَّه ، إذ الثانية منهما تفعل في وقتها ، بخلاف العصر مع الظهر ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا صلى الفجر وقف مع الإمام عند المشعر الحرام فدعا .
ش : كذا في حديث جابر رضي اللَّه عنه : ثم اضطجع رسول اللَّه حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعاء اللَّه تعالى وكبره ، وهلله ، ووحده ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ، فدفع قبل أن تطلع الشمس . وقد قال اللَّه سبحانه : 19 ( { فإذ أفضتم من عرفات فاذكروا اللَّه عند المشعر الحرام ، واذكروه كما هداكم ، وإن كنتم من قبله لمن الضالين ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا اللَّه إن اللَّه غفور رحيم } ) وجميع هذا مستحب إلا المبيت بمزدلفة كما سيأتي ، وفيه نظر ، لأن اللَّه سبحانه أمر بالذكر عند المشعر الحرام ، وفعله المبين لكتاب ربه ، مع قوله ( خذوا عني مناسككم ) وهذا لا يتقاصر عن الوجوب ، بل قد قال بعض العلماء بركنيته ، ويشهد له حديث عروة بن مضرس .
( تنبيه ) : المشعر الحرام بفتح الميم ، قال المنذري : وأكر كلام العرب بكسرها ، وحكى القتيبي وغيره أنه لم يقرأ بها أحد ، وحكى الهذلي أن أبا السمال قرأ المشعر بالكسر ، وسمي مشعراً لأنه من علامات الحج ، وكل علامات الحج مشاعر ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يدفع قبل طلوع الشمس .
ش : لما تقدم في حديث جابر .
1694 وعن عمر رضي اللَّه عنه قال : كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ، ويقولون : أشرق ثبير . قال : فخالفهم النبي فأفاض قبل طلوع الشمس . رواه البخاري وغيره ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا بلغ محسراً أسرع ولم يقف فيه حتى يأتي منى .
ش : ( محسر ) قيل واد بين عرفة ومنى ، وهو مقتضى قول الخرقي ، لأنه غيا الإسراع فيه إلى إتيان منى ، وقيل : موضع بمنى ، وقيل : ما صب [ من محسر في المزدلفة فهو منا ، وما صب ] منه في منى فهو من منى ، قال المنذري : وصوبه بعضهم ، ويستحب الإسراع فيه إن كان ماشياً ، أو يحرك دابته إن كان راكباً ، تأسياً بمن المأمور اتباعه ، )6 ( . قال جابر في حديثه : حتى أتى محسراً فحرك قليلاً . قال المنذري : لعله سمي بذلك لأنه يحسر سالكيه ويتبعهم . وقال الشافعي في الإملاء : يجوز أن يكون فعل ذلك لسعة الموضع . وقيل : يجوز أن يكون فعله لأنه مأوى الشياطين . وقيل : سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعيى . واللَّه أعلم .
قال : وهو مع ذلك ملب .
ش : يعني من الدفع من مزدلفة إلى منى ، لما تقدم في الصحيحين من حديث ابن عباس ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يأخذ حصى الجمار من طريقه أو من مزدلفة .
ش : الرمي تحية منى ، فلا يشتغل عند الوصول إليها بغيره ، فلذلك ندب أن يأخذ الحصى من طريقه أو من مزدلفة .
1695 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه كان يأخذ الحصى من جمع .
1696 [ وفعله سعيد بن جبير ، وقال : كانوا يتزودون الحصى من جمع ] وعن أحمد : خذ الحصى من حيث شئت . وهذا اختيار أبي محمد ، وهو الذي فعله النبي .
1697 قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : قال لي رسول اللَّه غداة العقبة وهو على راحلته ( هات القط لي ) فلقطت له حصيات من حصى الخذف ، فلما وضعتهن في يده قال ( بأمثال هؤلاء ، وإياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ) رواه النسائي وابن ماجه ولهذا الخبر قلنا لالتقاط أولى من التكسير . واللَّه أعلم .
قال : والاستحباب أن يغسله .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد رحمه اللَّه .
1698 لأنه يروى عن ابن عمر أنه غسله ، وكان يتحرى سنة النبي .
( والثانية ) : واختارها أبو محمد لا يستحب ، وقال : لم يبلغنا أن النبي فعله . انتهى ، وهو مقتضى حديث ابن عباس السابق ، وعلى هذا لو رمى بحجر نجس فهل يجزئه لوجود الحجرية ، أو لا يجزئه لأنه يؤدي به عبادة ، أشبه حجر الاستجمار ؟ فيه قولان ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا وصل إلى منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات .
ش : جمرة العقبة هي آخر الجمرات مما يلي منى ، وأولها مما يلي مكة ، وهي عند العقبة ، وبها سميت ، فإذا قدم من مزدلفة إلى منى فأول ما يبدأ برميها بسبع حصيات ، كما فعل رسول اللَّه ، قال جابر : حتى أتى الحمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات . وكذلك في حديث غيره .
وقول الخرقي : رمى . يخرج منه ما لو وضعها بيده في المرمى ، فإنه لا يجزئه ، لعدم الرمي ، نعم لو طرحها طرحاً أجزأته ، لوجود الرمي .
وقوله : حصيات . المستحب كونها مثل حصى الخذف ، ) 16 ( لحديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، وفي حديث جابر رضي اللَّه عنه : بمثل حصى الخذف . وفسره الأثرم بأن يكون أكبر من الحمص ، ودون البندق .
1699 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما : مثل بعر الغنم . وهو قريب من ذلك ، فإن خالف ورمى بحجر كبير أجزأه على قول ، وهو المشهور ، لوجود الحجرية ، وعن أحمد : لا يجزئه حتى يأتي بما فعله رسول اللَّه ، وكذلك القولان في الصغير قاله أبو محمد ، وشرطه على كل حال الحجرية ، فلا يجزىء الرمي بغيره كالكحل ، والجواهر المنطبعة ، والفيروزج ، والياقوت ، ونحو ذلك ، على المشهور والمختار من الروايات ، ( وعنه ) يجزىء مع الجهل دون القصد ، والرخام والكذان والرام ونحو ذلك ملحق بالحجر عند أبي محمد ، وعند القاضي بالفيروزج ، وجعل الدراهم ، والدنانير ، والحديد ، والنحاس ، والرصاص أصلاً قاس عليه المنع .
ولا بد أن يقع الحصى في المرمى ، فلو وقع دونه لم يجزئه ، نعم لو وقعت الحصاة على [ ثوب ] إنسان فطارت فوقعت في المرمى أجزأه ، لاختصاصه بالفعل ، فلو نفضها الإنسان فوقعت في المرمى أجزأت ، قاله أبو بكر في الخلاف ، حاكياً له عن أحمد في رواية بكر بن محمد ، ولم يجز عند ابن عقيل ، واللَّه أعلم .
قال : يكبر في أثر كل حصاة .
ش : في حديث جابر : يكبر مع كل حصاة ، وكذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود وابن عمر رضي اللَّه عنهما .
قال : ولا يقف عندها . واللَّه أعلم .
1700 ش : لما روى سالم أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، ثم يتقدم فيسهل ، فيقوم مستقبل القبلة طويلاً ويدعو ، ويرفع يديه ، ثم يرمي الوسطى ، ثم يأخذ ذات الشمال ، فيسهل فيقوم مستقبل القبلة ، ثم يدعو ويرفع يديه ، ويقوم طويلاً ، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ، ويقول : هكذا رأيت رسول اللَّه يفعله . رواه البخاري وغيره . والسنة أن يستبطن الوادي ، وأن يستقبل القبلة لهذا الخبر ، كذا قال أصحابنا وفيه نظر ، إذ ليس في هذا الحديث أنه استقبل القبلة في جمرة العقبة ولا في غيرها .
1701 وقد ورد في الصحيحن عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال : رمى عبد اللَّه بن مسعود جمرة العقبة من بطن الوادي ، بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، وجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ، فقيل له : إن ناساً يرمونها من فوقها . فقال عبد اللَّه : هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة .
1702 لكن قد ورد في رواية النسائي والترمذي أنه استبطن الوادي ، ) 16 ( واستقبل الكعبة ، وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن ، وقال : من ههنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة ، ولو رماها من فوقها جاز .
1703 لأن عمر رضي اللَّه عنه رماها كذلك للزحام ، واللَّه أعلم .
قال : ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي .
1704 ش : لما تقدم في الصحيحين عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، عن أسامة والفضل رضي اللَّه عنهما ، أنهما قالا : لم يزل النبي يلبي حتى رمى جمرة العقبة . وفي رواية للنسائي فلما رمى قطع التلبية ، واللَّه أعلم .
قال : وينحر إن كان معه هدي .
ش : في حديث جابر رضي اللَّه عنه : رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر ثلاثاً وستين بدنة ، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر . ولا فرق في ذلك بين الواجب والتطوع ، فلو لم يكن معه هدي ، وعليه هدي واجب اشتراه ونحره ، وإلا فإن أحب الأضحية اشترى ما يضحي به .
وقوله : وينحر إن كان معه هدي . النحر مختص بالإبل ، وأما غيره فيذبح ، وكأنه أشار بذلك إلى أن الأولى في الهدي أن يكون من الإبل ، اقتداء بالنبي ، ولا إشكال في ذلك ، وفي مسنونية سوقه ، ووقفه بعرفة ، والجمع فيه بين الحل والحرم ، واللَّه أعلم .
قال : ويحلق أو يقصر .
1705 ش : عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن النبي أتى منى ، فأتى الجمرة فرماها ، ثم أتى منزله بمنى ونحر ، ثم قال للحلاق ( خذ ) وأشار إلى جانبه الأيمن ، ثم الأيسر ، ثم جعل يعطيه الناس . متفق عليه ، والسنة البداءة بالجانب الأيمن لهذا ، ويخير بين الحلق والتقصير كما اقتضاه كلام الخري ، ولا ريب فيه ، وقد قال سبحانه : { محلقين رؤسكم ومقصرين } .
1706 قال ابن عمر رضي اللَّه عنهما : إن رسول اللَّه حلق في حجة الوداع وأناس من أصحابه ، وقصر بعضهم ، متفق عليه .
1707 وثبت عنه أنه دعا للمحلقين بالرحمة ، وفي رواية بالمغفرة ثلاثاً ، وللمقصرين مرة ، [ والأولى الحلق ] ، ولهذا قدمه الخرقي ، اقتداء بالنبي .
1708 وقد قال : ( اللهم ااغفر للمحلقين ) قالوا : يا رسول اللَّه والمقصرين ؟ قال : ( اللهم اغفر للمحلقين ) قالوا : يا رسول اللَّه وللمقصرين ؟ قال : ( وللمقصرين ) قال : ذلك في الثالثة أو الرابعة والحكمة في ذلك واللَّه أعلم أنه أبلغ في العبادة ، وأدل على صدق النية للَّه تعالى ، لأن المقصر مبق على نفسه بعض الزينة التي ينبغي للحاج أن يكون مجانباً لها .
1709 وقيل : إن سبب دعائه للمحلقين ثلاثاً أنه لما أمرهم يوم الحديبية [ بالحلاق ] لم يقم أحد منهم ، ) 16 ( لما في أنفسهم من أمر الصلح ، فلما حلق النبي ودعا للمحلقين ثلاثاً ، وللمقصرين مرة ، تبادروا إلى ذلك .
1710 وقد ورد في مسلم من حديث أم الحصين أنها سمعت النبي دعا للمحلقين ثلاثاً ، وللمقصرين مرة ، هذا يدل على أن الحديبية لم يكن لها اختصاص بذلك .
وهل يستثنى من ذلك من لبد أو عقص ، أو ظفر ؟ ظاهر كلام الخرقي وكثير من الأصحاب عدم استثنائه ، وعموم كلام أحمد يقتضيه ، قال في رواية حنبل والميموني : إن شاء قصر ، وإن شاء حلق ، والحلق أفضل ، وذلك للعمومات المتقدمة ، ( وعن أحمد ) رحمه اللَّه : من فعل ذلك فليحلق .
1711 وقد روي عن عمر رضي اللَّه عنه أنه قال : من عقص رأسه أو ظفر أو لبد فقد وجب عليه الحلاق . رواه مالك في الموطأ ، ولأن النبي لبد رأسه وحلق .
1712 ويروى عنه أنه قال : ( من لبد فليحلق ) قال أبو محمد : والأول أصح إلا أن يثبت الخبر .
1713 إذ عمر خالفه ابن عباس رضي اللَّه عنهم ، فتسلم العمومات المتقدمة ، وفعل الرسول لكون الحلاق أفضل لا لتعينه . انتهى .
ولو لم يكن على رأسه شعر كالأصلع ومن رأسه محلوق ، فظاهر كلام أحمد في رواية المروذي أنه يمر الموسى على رأسه ، قال في رواية المروذي في المتمتع : إن دخل يوم التروية فأعجر إلي أن يقصر ، فإن دخل في العشر فأراد أن يحلق حلق ، [ فإن دخل يوم التروية فحلق فلا بأس ، ويمر الموسى على رأسه يوم الحلق ] وحمله القاضي على الاستحباب ، لقوله في رواية بكر بن محمد : لا يعتمر حتى يخرج شعره ، فيمكن حلقه أو تقصيره . قال : فدل على أن إمرار الموسى لا يجب ، فلا يقوم مقام الحلق ، وفي أخذ الاستحباب من هذا نظر ، لكن في الجملة هو قول الأصحاب ، لقول اللَّه تعالى : { محلقين رؤسكم ومقصرين } أي شعور رؤسكم ، فمن لا شعر له لم تتناوله الآية .
1714 وإنما استحب له إمرار الموسى اقتداء بقول عمر : الأصلع يمر الموسى على رأسه ، رواه النجاد .
وقوله : يحلق أو يقصر . ظاهره أن الحكم متعلق بالجميع ، فيحلق أو يقصر من جميع رأسه ، فإن كان الشعر مظفوراً قصر من رؤس الظفائر ، إلا جمعه وقصر من أطرافه ، ولا يجب التقصير من كل شعرة ، لأن ذلك لا يعلم إلا بحلقه ، هذا أشهر الروايتين ، والرواية الثانية ) يجزىء حلق بعضه ، أو تقصير بعضه ، ومبنى الخلاف على المسح في الطهارة ، قاله غير واحد ، وعلى هذا ( هل هذا ) البعض هو الأكثر أو قدر الناصية ، أو إنما يكتفي بالبعض في حق المرأة دون الرجل ؟ ) 16 ( مبني على ما تقدم من الخلاف ، واللَّه أعلم .
قال : ثم قد حل من كل شيء إلا النساء .
ش : هذا المذهب والمشهور من الروايتين .
1715 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه ( إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء ) فقال رجل : والطيب ؟ فقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : أما أنا فقد رأيت رسول اللَّه يضمخ رأسه بالمسك ، أفطيب ذلك أم لا ؟ رواه أحمد ، ورواه النسائي موقوفاً على ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، ( والرواية الثانية ) : يحل من كل شيء إلا الوطء في الفرج ، فتحل له القبلة ، واللمس لشهوة ، وعقد النكاح ، لأن الوطء هو الأغلظ ، ولهذا اختص الفساد به ، [ فيختص المنع به ] بخلاف غيره ، ونقل الميموني في المتمتع إذا دخل الحرم حل له بدخوله كل شيء إلا النساء والطيب ، قبل أن يقصر أو يحلق ، وهذا يعطي رواية ثالثة .
1716 ومرجعها قول عمر رضي اللَّه عنه لما خطب الناي في عرفة فقال لهم فيما قال : إذا جئتم منى غداً فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب ، لا يمس أحد نساء ولا طيباً حتى يطوف بالبيت ، رواه مالك في الموطأ . والمعنى يعضده ، إذ الطيب من دواعي النكاح ، فهو كالقبلة . انتهى .
وقد أشعر كلام الخرقي بأمرين ( أحدهما ) أن الحلق أو التقصير نسك ، ويثاب على فعله ، ويذم بتركه ، وهذا المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين ، حتى أن القاضي في التعليق وغيره لم يذكروا خلافاً ، وذلك لقوله سبحانه : { ثم ليقضوا تفثهم } قيل : المراد به الحلق ، وقيل : بقايا أفعال الحج ، في الرمي ونحوه ، وعلى كليهما فقد دخل الحلق في الأمر ، وظاهره الوجوب ، لا سيما وقد قرن بالوفاء بالنذور ، وبالطواف ، وأيضاً قوله تعالى : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللَّه آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين } فوصفهم وامتن عليهم بذلك ، فدل على أنه من العبادة لتتميز به ، وليعبر عنها به .
1717 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه لبد رأسه وأهدى ، فلما قدم مكة أمر نساءه أن يحللن ، قلن : مالك أنت لم تحل ؟ قال : ( إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أحل من حجتي ، وأحلق رأسي ) رواه أحمد ، ولو لم يكن نسكاً لم يتوقف الحل عليه ، وقد تقدم أن النبي دعا للمقصرين والمحلقين ، وفاضل بينهم ، فلولا أنه نسك لما استحقوا لأجله الدعاء ، ولما فاضل فيه ، إذ لا تفاضل في المباح .
( والرواية الثانية ) أنه إطلاق محظور كان محرماً عليه بالإحرام ، ) 16 ( فأطلق فيه عند الحل ، كاللباس والطيب ، قال : لأن النبي قال لأبي موسى رضي اللَّه عنه ( بما أهللت ؟ ) قال : بإهلال النبي قال : ( هل سقت الهدي ؟ ) قلت : لا . قال : ( فطف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم حل ) فطفت بالصفا والمروة ، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني ، وغسلت رأسي . الحديث وقد تقدم ، فظاهره أن الحل مرتب على الطواف والسعي ، وهو الذي فهمه أبو موسى رضي اللَّه عنه ، فإنه لم يذكر أنه قصر ، ولا أنه حلق .
1718 وعن سراقة بن مالك المدلجي رضي اللَّه عنه أنه قال : يا رسول اللَّه اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم . فقال : ( إن اللَّه عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة ، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت ، وبالصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي ) رواه أبو داود انتهى .
( الأمر الثاني ) ظاهر كلام الخرقي أن الحل مرتب على الرمي والحلق أو التقصير ، لما تقدم من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : ( لا أحل حتى أحل من حجتي ، وأحلق رأسي ) .
1719 وعن جابر رضي اللَّه عنه قال : أهل النبي وأصحابه رضي اللَّه عنهم بالحج ، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي وطلحة ، وقدم علي من اليمن معه هدي ، فقال : أهللت بما أهل به النبي ، فأمر النبي أصحابه رضوان اللَّه عليهم أن يجعلوها عمرة ، ويطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي . مختصر متفق عليه .
1720 وفي حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما : وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف ويسعى ، ويقصر ، ثم يحل . رواه أبو داود وأصله في الصحيحين . ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن التحلل يحصل بالرمي وحده ، لما تقدم من حديث أبي موسى ، وحديث ابن عباس رضي اللَّه عنهم ( إذا رميتم الجمرة حل لكم كل شيء ) وحديث سراقة .
( تنبيه ) : الخلاف في توقف الحل على الحلق والتقصير مرتب على نسكيته ووجوبه ، فإن قيل بذلك توقف الحل عليه ، وإلا فلا ، هذا مقتضى كلام جماعة ، وصرح به بعضهم ، وجعل القاضي في تعليقه الروايتين في توقف الحل عليه على القول بنسكيته ، ولا نزاع في ذلك ، إذ المبيت بمزدلفة ونحو ذلك نسك ولا يتوقف الحل عليه ، وهذا أعني عدم البناء إليه ميل أبي محمد في المغني ، لأنه صحح القول بأنه نسك ، والقول بأن الحل لا يتوقف عليه .
( تنبيه ) : ليس عند أحمد فيما علمت قولاً يدل على إباحته ، حتى يقول إنه إطلاق محظور ، بل نصوصه متوافرة على مطلوبيته ، وذم تاركه ، نعم عنه ما يدل على أنه غير واجب ، ) 16 ( قال في الذي يصيب أهله في العمرة : الدم كثير . وقال فيمن اعتمر فطاف وسعى ولم يقصر حتى أحرم بالحج : بئس ما صنع ، وليس عليه شيء . ومن هذا وشبهه أخذ أنه إطلاق محظور ، ومن هنا يعلم أن جزم القاضي بأنه نسك يثاب على فعله ، ويذم على تركه وأن حكاية أبي البركات الخلاف فيب وجوبه ، أجود من عبارة غيرهما أنه نسك ، أو إطلاق محظور ، واللَّه أعلم .
قال : والمرأة تقصر من شعرها مقدار الأنملة .
ش : المشروع في حق المرأة التقصير بالإجماع ، حكاه ابن المنذر .
1721 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ( ليس على النساء حلق ، إنما على النساء التقصير ) رواه أبو داود .
1722 وعن علي رضي اللَّه عنه قال : نهى رسول اللَّه أن تحلق المرأة رأسها . رواه الترمذي .
وظاهر كلام الخرقي أن قدر الأنملة واجب ، وهو ظاهر كلام أحمد والأصحاب .
1723 قال أحمد : تقصر من كل قرن قدر الأنملة ، وهو قول ابن عمر وسئل أحمد : تقصر من كل رأسها ؟ قال : نعم ، تجمع رأسها إلى مقدم رأسها ، ثم تأخذ من أطراف رأسها قدر الأنملة . وحمل أبو محمد ذلك على الاستحباب ، قال : لأن الأمر به مطلق ، وبأي شيء أزال الشعر أجزأه ، وكذلك أن أزاله بنورة ، أو بنتفه ، إذ القصد إزالته ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يزور البيت ، فيطوف به سبعاً . وهو الطواف الواجب ، الذي به تمام الحج .
ش : يعني أنه بعد رمي جمرة العقبة ، والنحر ، والحلق أو التقصير يزور البيت ، فيطوف به سبعاً ، لأن في حديث جابر رضي اللَّه عنه بعد أن ذكر النحر قال : ثم ركب رسول اللَّه ، فأفاض إلى البيت . وهذا الطواف هو الذي به تمام الحج بالإجماع قاله ابن عبد البر ، ويشهد له قوله تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم ، وليطوفوا بالبيت العتيق } .
1724 وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : حججنا مع رسول اللَّه فأفضنا يوم النحر ، فحاضت صفية ، فأراد النبي منها ما يريد الرجل من أهله ، فقلت : يا رسول اللَّه إنها حائض ، قال : ( أحابستنا هي ؟ ) قالوا : يا رسول اللَّه نها أفاضت يوم النحر . قال : ( أخرجوا ) متفق عليه . فدل على أنه حابس لمن لم أت به ، ولا بد في هذا الطواف من تعيينه بالنية ، كما سينص عليه الخرقي ، فلو أطلق ، أو طاف للوداع لم يجزئه ، لأن الأعمال بالنية ، وليتميز عن بقية الأطوفة ، ويسمى هذا ( طواف الفرض ) لأنه فرض عليه فعله بالحج ، ( وطواف الزيارة ) لأنه يزور به البيت ، ) 16 ( و ( طواف الإفاضة ) لأنه يفعل بعد الإفاضة من منى ، و ( طواف الصدر ) لأنه يصدر إليه من منى ، وقيل قال المنذري : وهو المشهور : إن طواف الصدر هو طواف الوداع ، وهو أقرب ، إذ الصدر رجوع المسافر من مقصده ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يصلي ركعتين .
ش : كما تقدم في طواف القدوم .
قال : إن كان مفرداً أو قارناً ، ثم قد حل له كل شيء .
ش : قد تقدم أن القارن والمفرد إذا دخلا مكة يطوفان للقدوم ثم يسعيان ، فإذا طافا والحال هذه لم يبق عليهما شيء من أركان الحج ، فيحلان إذاً الحل كله .
1725 لحديث ابن عمر الصحيح : ثم لم يحلل من شيء حرم عليه حتى قضى حجه ، ونحر هديه يوم النحر ، وأفاض . فطاف بالبيت ، ثم حل من كل شيء حرم عليه ، وفعل مثل ما فعل النبي من أهدى فساق الهدي من الناس . واللَّه أعلم .
قال : وإن كان متمتعاً فيطوف بالبيت [ سبعاً ، وبالصفا والمروة سبعاً ، كما فعل للعمرة ، ثم يعود فيطوف بالبيت ] طوافاً ينوي به الزيارة ، وهو قوله عز وجل : 19 ( { وليطوفوا بالبيت العتيق } ) .
ش : المتمتع إذا قدم على مكة فإنه يطوف للعمرة ويسعى لها ، ثم يحرم بالحج يوم التروية ، فيسن في حقه طواف القدوم ، لكن على أشهر الروايتين لا يفعله إلا بعد رجوعه من منى ، فإذاً يطوف للقدوم ، ثم يسعى ، ثم يطوف للزيارة ، وأشار الخرقي بقوله : وهو قوله تعالى : 19 ( { وليطوفوا بالبيت العتيق } ) إلى آخره بأن هذا [ هو ] الطواف المتحتم ، المأمور به في كتاب اللَّه عز وجل ، بخلاف طواف القدوم .
1726 واستدل أحمد على ذلك بحديث جابر : أنهم طافوا بعد ما رجعوا من منى .
1727 وبحديث عائشة رضي اللَّه عنها قالت : 16 ( طاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم ، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً ) . انتهى .
1728 وقد روى نافع أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت ، ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى . رواه مالك في الموطأ ولأن طواف القدوم والحال هذه كتحية المسجد ، عند دخول المسجد قبل شروعه في الصلاة . ( والرواية الثانية ) عن أحمد : يجوز فعله قبل الرجوع ، فيفعله عقب الإحرام .
ومنع أبو محمد مسنونية هذا الطواف رأساً ، ) 16 ( وقال : ولا أعلم أحداً وافق أبا عبد اللَّه على هذا . واعتمد على أن النبي لم ينقل أنه أمر من تمتع في حجة الوداع به ، ولا أن الصحابة المتمتعين فعلوه ، قال : وحديث عائشة رضي اللَّه عنها يدل على هذا ، لأنها إنما ذكرت طوافاً واحداً ، وأضافته للحج ، وهذا هو طواف الزيارة ، وإلا تكون قد أخلت بذكر الركن ، وذكرت ما ليس بركن ، ثم عائشة رضي اللَّه عنها قد قرنت الحج والعمرة بأمره ، ولم تكن طافت للقدوم ، ثم لم ينقل أنها طافت للقدوم ، ولا أمرها النبي به . انتهى .
والحكم في المكي إذا أحرم [ من مكة ] والمفرد ، والقارن الآفاقيان إذا لم يأتيا مكة قبل يوم النحر ، كالحكم في المتمتع على ما سبق ، فعلى قول [ أبي محمد ] هؤلاء كلهم يسعون عقب طواف الإفاضة ، ثم يحلون .
وقد أشعر كلام الخرقي بأن الحل يتوقف على السعي ، ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب ، في معتمر طاف فواقع أهله قبل أن [ يسعى فسدت عمرته وعليه مكانها ، ولو طاف وسعى ثم وطىء قبل أن ] يحلق أو يقصر ، عليه دم ، إنما العمرة الطواف والسعي والحلاق . انتهى ، ولا نزاع في هذا إن قلنا بركينة السعي ، ( وهو إحدى الروايتين ) عن أحمد ، واختيار القاضي في التعليق الكبير ، أما إن قلنا بسنيته ( وهو الرواية الثانية ) فهل يتوقف الحل عليه ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) نعم ، وهو ظاهر كلام أبي البركات ( والثاني ) وبه قطع في التلخيص لا ، وعلى هذا إن قيل بوجوبه كما هو اختيار القاضي في المجرد ، وأبي محمد في المغنى ، وحكاه صاحب التلخيص رواية فالقياس توقف الحل عليه .
( تنبيه ) : الطواف محلل من المحللات ، فيحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة ، الرمي والحلق ، والطواف ، ويحصل التحلل الثاني بالثالث ، هذا إن قلنا : الحلاق نسك ، وإلا حصل الأول بواحد من اثنين ، الرمي ، والطواف ، ويحصل الثاني بالثاني ، صرح به صاحب التلخيص ، وقال أبو محمد : إنه مقتضى قول الأصحاب ، فكأنه لم ير ذلك مصرحاً به ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يرجع إلى منى .
1729 ش : في الصحيحين وغيرهما عن نافع عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : إن رسول اللَّه أفاض يوم النحر ، ثم رجع فصلى الظهر بمنى ، قال نافع : وكان ابن عمر رضي اللَّه عنهما يفيض يوم النحر ، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى . ويذكر أن النبي فعله ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يبيت بمكة ليالي منى .
ش : ظاهر هذا أن المبيت بمنى لياليها واجب ، وهو المشهور ، والمختار من الروايتين .
1730 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : ) 16 ( استأذن العباس رضي اللَّه عنه رسول اللَّه أن يبيت بمكة ليالي منى ، من أجل سقايته ، فأذن له ، متفق عليه . فظاهر هذا أن غيره كان ممنوعاً من ذلك .
1731 وقد روي : لم يرخص النبي لأحد يبيت بمكة إلا للعباس من أجل سقايته . رواه ابن ماجه ، ولأن النبي بات بها ، وقال : ( خذوا عني مناسككم ) .
1732 وقال مالك في الموطأ : زعموا أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه كان يبعث رجالاً يدخلون الناس من وراء العقبة .
( والرواية الثانية ) يسن ولا يجب ، لأنه قد حل من جحه ، فلا يجب عليه المبيت بموضع معين ، كليلة الحصبة .
1733 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما : إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت . انتهى ويجب الليالي الثلاث إن لم يرد التعجل ، وإن أراد فليلتان . واللَّه أعلم .
قال : فإذا كان من الغد وزالت الشمس رمى الجمرة الأولى بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، ويقف عندها ويدعو فيطيل ، ثم يرمي الوسطى بسبع حصيات يكبر أيضاً ويدعو ، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ، ولا يقف عندها .
ش : الجمرة الأولى هي أبعد الجمرات من مكة ، وتلي مسجد الخيف ، فإذا كان غداة يوم النحر ، بدأ بها فرماها بسبع [ حصيات ] .
1734 لحديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، ثم يتقدم فيسهل ، فيقوم مستقبل القبلة ، ثم يدعو ، ويرفع يديه ، ويقوم طويلاً ، [ ثم يرمي الجمرة الوسطى ، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل ، فيقوم مستقبل القبلة ، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً ] ثم يرمي الجمرة ذات العقبة ، من بطن الوادي ، ولا يقف عندها ، ويقول : هكذا رأيت رسول اللَّه يفعله . وهذا الترتيب شرط ، فلو بدأ بجمرة العقبة ، أو الوسطى لم يجزئه ، على المنصوص والمختار من الروايتين أو الروايات ، لأن النبي رتبها ، وفعله خرج بياناً لصفة الرمي المشروع .
1735 لا سيما عضده ما روى جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما قال : رأيت رسول اللَّه يرمي على راحلته يوم النحر ويقول لنا : ( خذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد جحتي هذه ) رواه مسلم وغيره ، وهذا أمر بالاقتداء به ، فإن فعله ورد بياناً لمجملات الحج ، والأشهر في الرواية : يقول لنا : بلام مفتوحة وبالنون ، وروي ( لتأخذوا ) بكسر اللام للأمر ، وبالتاء باثنين من فوق ، وهي لغة . ( والثانية ) يجزئه . جمرة أرجو أن لا يكون عليه شيء .
1736 وذلك لأنه يروي عن النبي أنه قال : ( من قدم نسكاً بين يدي نسك فلا حرج ) وحكى أبو البركات الرواية بالإجزاء مع الجهل . ) 16 (
وشرط صحة الرمي في الجميع أن يكون بعد الزوال ، على المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين .
1737 لما روى جابر رضي اللَّه عنه قال : رأيت رسول اللَّه يرمي يوم النحر ضحى ، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس . رواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي والنسائي .
1738 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه كان يرمي الجمار إذا زالت الشمس . رواه الترمذي ، وفعله خرج بياناً كما تقدم ، وقد فهمت هذا الصحابة رضي اللَّه عنهم أجمعين .
1739 قال وبرة بن عبد الرحمن السلمي : سألت ابن عمر رضي اللَّه عنهما متى أرمي الجمار ؟ قال : إذا رمي إمامك فارمه . فأعدت عليه المسألة فقال : كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا . رواه البخاري وغيره ، ( والرواية الثانية ) : إن رمى في اليوم الآخر قبل الزوال أجزأه ولا ينفر إلا بعد الزوال ، ( والثالثة ) كالثانية إلا أنه إن نفر قبل الزوال لا شيء عليه ، قال في رواية ابن منصور : إذا رمى عند طلوع الشمس في النفر الأول ثم نفر . كأنه لم ير عليه دماً .
واختلف في عدد الحصا ، فعنه : لا بد من سبع . كما قال الخرقي ، اتباعاً لعف النبي ، فإنه قد ثبت ذلك عنه من حديث ابن عمر المتقدم ، ومن حديث ابن مسعود ، وعائشة رضي اللَّه عنهم ، وفعله خرج بياناً كما تقدم .
1740 وعن جابر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه : ( الاستجمار تو ، ورمي الجمار تو ، والسعي بين الصفا والمروة تو ، وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو ) [ رواه مسلم وغيره ] والتو الوتر . ( وعنه ) تجزىء الست ، ولا يجزىء ما دونها .
1741 لما روى سعد رضي اللَّه عنه قال : رجعنا في الحجة مع النبي وبعضنا يقول : رميت بسبع . وبعضنا يقول : رميت بست ، فلم يعب بعضهم على بعض . رواه النسائي وأحمد . وهذا اتفاق منهم على جواز الاكتفاء بالست .
1742 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما : لا أبالي رميت بست أو بسبع ، ( وعنه ) تجزىء الخمس ، إذ الأكثر يعطى حكم الجميع ، وقد ثبت عن الصحابة التساهل في البعض .
ويسن أن يكبر مع كل حصاة ، لما تقدم من حديث جابر ، وابن عمر ، وابن مسعود ، ويقف يدعو ، ويطيل في الجمرتين الأولتين ، ولا يقف في جمرة العقبة ، لما تقدم من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، والخرقي قال : يقف عندها . ولعله يريد قريباً منها ، إذ السنة التقدم كما في الحديث ، واللَّه أعلم .
قال : ويفعل في اليوم الثاني كما فعل بالأمس .
1743 ش : ) 16 ( لا نزاع في ذلك ، وعلى ذلك فعل الخلف ، اقتداء بالسلف ، وقد قالت عائشة رضي اللَّه عنها : أفاض رسول اللَّه من آخر يوم النحر حين صلى الظهر ، ثم رجع إلى منى ، فمكث بها ليالي أيام التشريق ، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس ، كل جمرة بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، ويقف عند الأولى والثانية ، فيطيل القيام ويتضرع ، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها . رواه أبو داود ، واللَّه أعلم .
قال : فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل المغرب .
ش : أيام منى وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر ، فمن أحب أن يتعجل في يومين منها خرج قبل المغرب ، لقول اللَّه سبحانه وتعالى : 19 ( { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه } ) الآية والتخيير هنا واللَّه أعلم نظراً لجواز الأمرين ، وإن كان التأخر أفضل ، وكلام الخرقي وعامة الأصحاب يشمل مريد الإقامة بمكة ، وكذلك عموم الآية الكريمة .
1744 وعن يحيى بن يعمر أن رسول اللَّه قال : ( أيام منى ثلاثة ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه ) مختصر رواه أبو داود وغيره . ( وعن أحمد ) : لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة .
1745 وذلك لما روي عن عمر رضي اللَّه عنه أنه قال : من شاء من الناس كلهم أن ينفر في الأول ، إلا آل خزيمة فلا ينفروا إلا في النفر الأخير فجعل [ أحمد وإسحاق معنى قول عمر رضي اللَّه عنه : إلا آل خزيمة . أي أنهم أهل حرم ، وحمل أبو محمد ] هذا على الاستحباب ، محافظة على العموم ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا غربت الشمس وهو بها لم يخرج حتى يرمي في غد بعد الزوال كما رمى بالأمس .
ش : شرط جواز التعجل في اليومين أن ينفر قبل غروب الشمس لزمه المبيت والرمي من الغد ، لأن اللَّه سبحانه وتعالى جعل التعجل في اليوم ، [ وكذلك المبين ] لكلامه ، واليوم اسم للنهار ، فمن غربت الشمس عليه خرج عن أن يكون في اليوم ، فهو ممن تأخر .
1746 وعن نافع أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما كان يقول : 16 ( من غربت له الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى ، فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد ) ، رواه مالك في الموطأ .
وقول الخرقي : حتى يرمي في غد بعد الزوال ، يحترز به عن [ مذهب ] الحنفية من أنه يجوز في هذا اليوم الرمي قبل الزوال ، وهي رواية مرجوحة قد تقدمت واللَّه أعلم .
قال : ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى مع الإمام . ) 16 (
ش : يعني مسجد الخيف ، تأسياً بالنبي .
1747 قال عبد اللَّه بن مسعود : صليت مع رسول اللَّه بمنى ركعتين ، ومع أبي بكر ، وعمر ، وعثمان رضي اللَّه عنهم ركعتين ، صدرا من خلافته . وهذا إن لم يمنع [ مانع ، فإن منع مانع ] من فسق أو غيره [ صلى ] في رحله ، واللَّه أعلم .
قال : ويكبر في دبر كل صلاة ، من صلاة الظهر يوم النحر ، إلى آخر أيام التشريق .
ش : قد تقدم الكلام في التكبير في عيد النحر ، وفي صفته ، ومحله ووقته وأن المحل يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة ، وأما المحرم فيكبر من صلاة الظهر يوم النحر ، لأنه قبل ذلك مشتغل بالتلبية حتى يرمي جمرة العقبة ، وليس بعد جمرة العقبة صلاة يكبر فيها إلا الظهر ، فلو رمى جمرة العقبة قبل الفجر إذ وقتها يدخل بانتصاف ليلة النحر ، على المشهور من الروايتين فعموم كلام أصحابنا يقتضي أنه لا فرق ، حملاً على الغالب ، ويؤيد هذا أنه لو أخر الرمي إلى بعد صلاة الظهر فإنه يجتمع في حقه التكبير والتلبية ، ومنصوص أحمد في رواية ابنه عبد اللَّه أنه يبدأ بالتكبير ثم يلبي ، إذ التلبية قد خرج وقتها المستحب ، وهو الرمي ضحى فبذلك قدم التكبير عليها ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت ، يطوف به سبعاً ، ويصلي ركعتين .
1748 ش : لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال رسول اللَّه : ( لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ) رواه أحمد ومسلم وليس بركن اتفاقاً ، بل واجب يجبر بالدم ، لهذا الحديث ، هذا المشهور والمعروف عند الأصحاب ، وقال أحمد في رواية ابن إبراهيم : إذا نسي طواف الزيارة ، فطاف للصدر لا يجزئه التطوع عن الفريضة وكذلك نقل المروذي ، وظاهر هذا أنه سنة لا واجب . إلا أن يقال : أطلق على الواجب تطوعاً حيث قابله بالركن ، إذ واجبات الحج تترك ، وتصح العبادة بدونها ، فلها شبه بالتطوع .
وقول الخرقي : لم يخرج . يقتضي أنه لو أراد المقام بمكة لا وداع عليه ، وهو كذلك ، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده .
وقوله : لم يخرج . ظاهره أنه لو خرج ولو إلى دون مسافة القصر أنه يلزمه الطواف ، وهو ظاهر إطلاق الحديث ، والمراد بالخروج الخروج عن الحرم .
ويجزئه طواف الزيارة إذا طافه عند الخروج عن طواف الوداع ، في أشهر الروايتين لأنه حصل آخر عهده بالبيت طواف ، واللَّه أعلم .
قال : إذا فرغ من جميع أموره ، حتى يكون آخر عهده بالبيت . ) 16 (
ش : يعني أن هذا الطواف يكون في وقت فراغه من جميع أموره ، كي يكون آخر عهده بالبيت ، اتباعاً لنص حديث ابن عباس ، واللَّه أعلم .
قال : فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع ثم رحل .
ش : يعني يتفرغ على ما تقدم أنه لو ودع ثم اشتغل في تجارة ، أو حاجة ، أو عيادة مريض ، أنه يعيد الوداع ، عملاً بقوله ( حتى يكون آخر عهده بالبيت ) ومن أقام في تجارة أو زيارة لم يكن آخر عهده بالبيت الطواف ، وقد بالغ أحمد في ذلك ، فقال له أبو داود : إذا ودع البيت ثم نفر يشتري طعاماً يأكله ؟ قال : لا ، يقولون حتى يجعل الردم وراء ظهره . وقال في رواية أبي طالب : إذا ودع لا يلتفت ، فإن التفت رجع حتى يطوف بالبيت ، وأبو محمد رحمه اللَّه يجوز شراء اليسير ، وقضاء الحاجة في الطريق ، لأنه لا يسمى إقامة ، واللَّه أعلم .
قال : فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب ، وإن أبعد بعث بدم .
ش : نص أحمد رحمه اللَّه على هذا ، محافظة على الإتيان بالواجب ، إذ القريب في حكم المقيم ، أما البعيد فمسافر ، مع أن المشقة تلحقه غالباً ، بخلاف القريب ، ولو تعذر على القريب الرجوع فهو كالعبيد .
1749 وعن يحيى بن سعيد الأنصاري ، أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه رد رجلاً من مر الظهران لم يكن ودع البيت حتى ودع ، رواه مالك في الموطأ .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه اللَّه أنه لو رجع القريب لا دم عليه ، وهو كذلك ، لأنه في حكم المقيم أما البعيد إذا رجع فعن القاضي : لا يسقط عنه الدم ، لاستقراره بالبعد ، ولأبي محمد احتمال ، وحد البعد مسافة القصر ، نص عليه أحمد ، واعتبرها أبو محمد من مكة ، وقد يقال من الحرم ، واللَّه أعلم .
قال : والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت ، ولا وداع عليها ولا فدية .
ش : أما سقوط طواف الوداع عن الحائض فقول العامة .
1750 لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : 16 ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض ) . متفق عليه .
1751 وعن نافع ، أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت إلا الحيض ، رخص لهن رسول اللَّه . رواه الترمذي .
1752 وفي مسلم وغيره عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : حاضت صفية ، قالت عائشة : فذكرت حيضها للنبي ، فقال : ( أحابستنا هي ؟ ) قلت : يا رسول اللَّه إنها قد كانت أفاضت ، وطافت بالبيت ، ثم حاضت بعد الإفاضة . فقال رسول اللَّه : ) 16 ( ( فلتنفر ) أما انتفاء الفدية فلأن النبي لم يذكرها في شيء من الأحاديث ، ولو وجبت لذكرها ، وحكم النفساء حكم الحائض .
( تنبيه ) : إذا طهرت الحائض أو النفساء قبل مفارقة البنيان لزمها الرجوع والوداع ، فإن لم ترجع ولو لعذر فعليها الدم ، ولو كان الطهر بعد مفارقة البنيان فلا رجوع عليها ، واللَّه أعلم .
قال : ومن خرج قبل طواف الزيارة رجع من بلده حراماً ، حتى يطوف بالبيت .
ش : قد تقدم أن طواف الزيارة ركن لا يتم الحج إلا به ، فإذا تركه الإنسان ، ورجع إلى بلده ، فإنه لا بد أن يرجع من بلده ، ليأتي بركن الحج ، ويرجع حراماً عن النساء إن كان قد رمى جمرة العقبة ، وإلا فحراماً عن كل شيء كما تقدم ، وقد دل على الأصل قول النبي لصفية ( أحابستنا هي ؟ ) فدل على أن الطواف يحبس صاحبه . واللَّه أعلم .
قال : وإن كان قد طاف للوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة .
ش : لا بد من تعيين النية لطواف الزيارة ، فإذا طاف للوداع ، أو مطلقاً ، لم يجزئه عن طواف الزيارة ، [ نظراً ] لقول النبي ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لامرىء ما نوى ) الحديث ، وهذا لم ينو طواف الزيارة ، فلا يكون له ، ونبه بهذا على مذهب مالك رحمه اللَّه في أنه يجزئه ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد .
ش : هذا هو المذهب ، المختار للأصحاب ، والمشهور عن أحمد في الروايتين ، حتى أن القاضي في تعليقه لم يذكر غيره ، ورواه عن أحمد سبعة من أصحابه ، وذلك لما تقدم من أن الصحيح أن النبي كان نسكه القرآن ، والخصم يسلم ذلك ، ولم ينقل عنه أنه طاف إلا طوافاً واحداً .
1753 كما صرح به جابر رضي اللَّه عنه فقال : إن رسول اللَّه قرن الحج والعمرة ، وطاف لهما طوافاً واحداً . رواه الترمذي والنسائي .
1754 وعنه أيضاً قال : لم يطف النبي ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول . رواه الجماعة إلا البخاري .
1755 وروى عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعاً ) رواه الترمذي وهذا لفظه ، والنسائي وقال : إن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قرن الحج والعمرة ، فطاف لهما طوافاً واحداً ، وقال : هكذا رأيت النبي يفعله .
1856 وفي الصحيحين أيضا معنى هذا عنه رضي اللَّه عنه ، في حديث طويل ، لما حج حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير رضي اللَّه عنهما . ) 16 (
1757 وعن عائشة رضي اللَّه عنها في حديثها الصحيح وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى قالت : وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً .
1758 ولمسلم في هذا الحديث : أن النبي قال لها : ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) .
1759 ولأبي داود أن النبي قال لها : ( طوافك بالبيت ، وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك ) لا يقال : الطواف اسم جنس مضاف لها ، فيشمل كل طواف صدر منها ، لأنا نقول : طواف . يقتضي ما يقع عليه اسم الطواف ، وهو يصدق بواحد ، كذا أجاب القاضي ، وفيه شيء ، إذ لا يظهر لي فرق بين [ طوافك ] وعبدك ، ونحوه ، وهو وإن صدق بواحد ، لكن لا يدل على تعيين الواحد ، وإنما الجواب أن المعلوم من قصتها أنها طافت طوافاً واحداً ، والخصم يسلم ذلك ، لأن عنده أن أمرها آل إلى الإفراد ، ثم لو لم يكن كذلك لم يكن [ في قوله ] ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) فائدة ، إذ لا يتوهم أن في القران ثلاثة أطواف ، ولأنهما عبادتان [ من جنس واحد ] فإذا اجتمعا دخلت الصغرى في الكبرى كالطهارتين .
( والرواية الثانية ) يلزمه طواف وسعي للعمرة ، وطواف وسعي للحج ، لا يدخل أحدهما في الآخر ، حكاها جماعة ، وهي نظير الرواية رواية أن عمرة القران لا تجزيء عن عمرة الإسلام ، ( وبالجملة ) قد استدل لهذه الرواية بقوله تعالى : 19 ( { وأتموا الحج والعمرة للَّه } ) وإتمامها أن يأتي بأفعالها على الكمال .
1760 وبأنه قد روي عن رسول اللَّه أنه طاف طوافين ، وسعى سعيين من رواية علي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وعمران بن حصين ، رضي اللَّه عنهم .
1761 وروي عنه أيضاً أنه قال : من جمع بين الحج والعمرة فعليه طوافان ) .
1762 وأجيب عن الآية بأن الإتمام أن يحرم بهما من دويرة أهله ، كما قال عمر وعلي رضي اللَّه عنهما على أنا نقول بموجبه ، لأنا نقول : إذا طاف وسعى لهما فقد أتمهما ، وعن الأحاديث بضعفها ، قال الحافظ المنذري : ليس فيها شيء يثبت .
وينبني على الخلاف إذا قتل القارن صيداً ، أو أفسد نسكه ، فالمنصوص جزاء واحد للصيد ، وبدنة للوطء ، وخرج جزاآن للصيد ، وبدنة وشاة ، كما لو فعل ذلك في كل من النسكين .
( تنبيه ) : لا نزاع في اتحاد الإحرام والحلق ، واللَّه أعلم .
قال : إلا أن عليه دماً ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، يكون آخرها يوم عرفة ، وسبعة إذا رجع إلى أهله .
ش : ) 16 ( هذا استثناء منقطع ، لأن الدم ليس من عمل القارن ، فالتقدير : لكن عليه دم . أو التقدير ليس في عمل القارن ، ولا في حكمه زيادة على عمل المفرد ، ولا في حكمه ، إلا أن عليه دماً ، وبالجملة وجوب الدم قول الجمهور ، لقوله تعالى : 19 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } ) الآية ، وقد تقدم أن القارن يدخل في ذلك .
1763 ويؤيد ذلك ما قال سعيد بن المسيب قال : اجتمع علي وعثمان بعسفان ، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة ، فقال له علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول اللَّه تنهى الناس عنه . فقال له عثمان : دعنا . قال : إني لا أستطيع أن أدعك . فلما رأى ذلك أهل بهما جميعاً ، متفق عليه ، وفي رواية : لما رأى ذلك علي أهل بهما : لبيك بعمرة وحجة . ففهم علي دخول القران في لفظ التمتع ، ففعله ليعلم الناس أنه غير منهي عنه .
1764 وعن جابر رضي اللَّه عنه قال : نحر رسول اللَّه عن عائشة رضي اللَّه عنها بقرة يوم النحر . رواه مسلم . وقد تقدم أنها كانت قارنة ، ولأنه ترفه بأحد السفرين ، فلزمه دم كالمتمتع .
وإذا لم يجد الهدي صام على الصفة المذكورة كالمتمتع ، وسيأتي [ ذلك ] إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : ومن اعتمر في أشهر الحج ، فطاف وسعى وحل ، ثم أحرم بالحج من عامه ، ولم يكن خرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة ، فهو متمتع ، وعليه دم .
ش : وجوب الدم على المتمتع في الجملة إجماع ، وقد شهد له الآية الكريمة { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } أي فعليه أو فالواجب { ما استيسر من الهدي } .
1765 وفي مسلم وغيره عن جابر رضي اللَّه عنه قال : كنا نتمتع مع رسول اللَّه بالعمرة فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها .
ويشترط لذلك شروط ( أحدها ) أن يعتمر في أشهر الحج ، فلو اعتمر بها في غير أشهره لم يكن متمتعاً ، لأن قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } ) أي أوصل ذلك بالحج ، وهذا إنما يكون إذا كان في أشهر الحج ، والاعتبار عندنا بالشهر الذي أحرم فيه ، لا بالشهر الذي حل فيه ، فلو أحرم بالعمرة في رمضان ، ثم حل في شوال لم يكن متمتعاً ، نص عليه أحمد في رواية جماعة .
1766 ويروى ذلك عن جابر رضي اللَّه عنه ، وعليه اعتمد أحمد رحمه اللَّه ( الشرط الثاني ) أن يحل من عمرته ثم يحرم بالحج ، فلو أدخل الحج على العمرة قبل طوافها صار قارناً ، ) 16 ( إذ أحد نوعي القران أن يدخل الحج على العمرة .
1767 كما صنع ابن عمر رضي اللَّه عنهما عام حجة الحرورية ، وقال : هكذا صنع رسول اللَّه وقد تقدم ، ( الثالث ) أن يحج من عامه ، لظاهر الآية الكريمة ، مع أن هذا كالإجماع .
( الرابع ) أن لا يخرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة ، فإن خرج إلى ما تقصر فيه الصلاة لم يكن متمتعاً ، نص عليه أحمد ، إلا أن لفظه : إن خرج من الحرم سفراً تقصر في مثله الصلاة ، ثم رجع فحج فليس بمتمتع ، وبينه وبين كلام الخرقي فرق ، إذ الخرقي اعتبر الخروج من مكة ، وأحمد اعتبر الخروج من الحرم .
1768 وبالجملة العمدة في ذلك ما روي عن عمر رضي اللَّه عنه أنه قال : إذا اعتمر في أشهر الحج فهو متمتع ، فإن خرج ورجع فليس بمتمتع . وعن ابنه نحو ذلك ، رواه أبو حفص ، وهذه الشروط الأربعة لا أعلم فيها خلافاً بين الأصحاب ، ويشترط أيضاً ( شرط خامس ) لا نزاع فيه بينهم وهو أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ، لقوله تعالى : 19 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } ) إلى قوله تعالى : 19 ( { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } ) أي ( ذلك ) الحكم وهو وجوب الدم ( لمن لم يكن أهله ) من ( حاضري المنسجد الحرام ) أي ثابت ( لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) وهذا أجود من جعل اللام بمعنى ( على ) أي ذلك الواجب على من لم يكن أهله حاضري كما في قوله تعالى : 19 ( { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، وإن أسأتم فلها } ) إذ هذا [ مجاز ] للمقابلة ومهما أمكن استعمال اللفظ في موضوعه الأصلي فهو أولى ، لا يقال : ( ذلك ) إشارة إلى قوله : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } أي هذا التمتع ( لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) فيخرج المكي ، لأنا نقول : قوله تعالى : 19 ( { فمن تمتع } ) شرط ، و 19 ( { فما استيسر } ) جزاء ، و 19 ( { ذلك لمن لم يكن } ) استثناء ، [ والاستثناء ] يرجع إلى الجزاء دون الشرط ، كقول القائل : من دخل داري فأعطه درهماً ، إلا أن يكون أعجمياً . انتهى وهذا الشرط يعم المتمتع والقارن .
( تنبيه ) : إلا حاضري المسجد الحرام المقيم بالحرم ، سواء كان من أهله أو داخلاً إليه ، فلو دخل الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج ، ثم أقام بمكة ، ) 16 ( فاعتمر في أشهر الحج ، وحج من عامه فهو متمتع ، نص عليه ، وبالغ القاضي فقال : في الآفاقي : إذا تجاوز الميقات إلى أن بقي بينه وبين مكة دون مسافة القصر ، فلا دم عليه ، لأنه من حاضريه ، وخالفه أبو محمد ، لأن الحضور بالإقامة . انتهى .
واختلف في ثلاثة شرائط ( أحدها ) هل يشترط أن لا يحرم من الميقات ، فإن أحرم منه فليس بمتمتع ؟ وفيه روايتان ، أنصهما وبه جزم أبو البركات الاشتراط ، قال أحمد في رواية يوسف بن موسى ، وأحمد بن الحسن : إذا أقام فأنشأ الحج من مكة فهو متمتع ، فإن خرج إلى الميقات فأحرم بالحج فليس بمتمتع ، وذلك لأنه لم يترفه بترك أحد الميقاتين ، فلم يلزمه الدم ، كما لو لم يحج من عامه ، ( والثانية ) : لا يشترط ذلك ، إنما المشترط مفارقة الحرم بمسافة القصر ، قال أحمد في رواية حرب في من أحرم بعمرة في أشهر الحج فهو متمتع إذا أقام حتى يحج ، فإن خرج من الحرم سفراً تقصر في مثله الصلاة ، ثم رجع فحج فليس بمتمتع ، وهذا اختيار القاضي في تعليقه ، وبالغ فحمل الأولى على أن بين الميقات وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة ، ولا يعرف أبو محمد غير هذا ، نظراً إلى أن القريب في حكم الحاضر ، ويظهر أثر هذا الشرط في ( قرن ) ميقات أهل نجد ، فإنه [ على ] يوم وليلة من مكة ، أما ما عداه فإن بينها وبين مكة مسافة القصر فأزيد ، فلا حاجة إلى هذا الشرط فيها : ( الثاني ) هل تشترط النية في ابتداء العمرة أو أثنائها ؟ فيه وجهان ، والاشتراط اختيار القاضي وأبي الخطاب ، وصاحب التلخيص ، وعدمه هو اختيار أبي محمد ( الثالث ) هل يشترط أن يكون النسكان عن رجل واحد ، فلو كانا عن شخصين فلا تمتع ؟ اشترط ذلك صاحب التلخيص ، قال : لأنه لا يختلف أصحابنا أنه لا بد للإحرام بالنسك الثاني من الميقات ، إذا كان عن غير الأول ، يعني والإحرام من الميقات يسقط التمتع ، ولم يشترط ذلك الشيخان ، و أبو محمد يخالف صاحب التلخيص في الأصلين اللذين بنى عليهما كما عرفت ، أما أبو البركات فيوافقه في الأصل الثاني ، فظاهر كلامه مخالفته في الأول وإذاً يزول البناء .
( تنبيه ) : هذه الشروط كلها للتمتع الموجب للدم ، لا للتمتع المطلق كما تقدم التنبيه عليه ، واللَّه أعلم .
قال : فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، آخرها يوم عرفة ، وسبعة إذا رجع .
ش : أي إذا لم يجد الدم صام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة ، ) 16 ( وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله ، لقوله سبحانه : 19 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجعتم ، تلك عشرة كاملة } ) ويعتبر الوجدان بالموضع الذي هو فيه ، دون بلده ، ولا ريب في وجوب الصوم على العادم للهدي في الجملة .
والكلام فيه في ثلاثة أشياء ، في وقت وجوبه ووقت استحبابه ، ووقت جوازه ، فأما وقت الوجوب فهو وقت وجوب الهدي ، لأنه بدل عنه ، قاله القاضي وأبو محمد ، وقد سئل أحمد في رواية ابن القاسم : متى يجب صيام المتعة ؟ فقال : إذا عقد الإحرام ، قال القاضي في التعليق : أي إن عقده سبب للوجوب ، لأن الوجوب يتعلق به ، وهذا التأويل بعيد ، لتصريح السائل بالوجوب ، ووقت وجوب الهدي عند القاضي في تعليقه ، ومن تابعه كصاحب التلخيص وغيره بطلوع فجر يوم النحر ، واعتمد القاضي على قول أحمد في رواية المروذي ، وقيل له : متى يجب على المتمتع الدم ؟ قال : إذا وقف بعرفة . قال القاضي : معناه إذا مضى وقت الوقوف . وأجرى أبو محمد الرواية على ظاهرها ، فحكى الرواية أنه يجب بالوقوف ، وقال : إنها اختيار القاضي ، ولعله في المجرد .
وحكى أبو محمد وغيره رواية أخرى أنه يجب بالإحرام بالحج ، ولعلهم أخذوه من رواية ابن القاسم التي أولها القاضي ، وهي محتملة ، إذ الإحرام يحتمل إحرام الحج ، وإحرام العمرة ، ويتلخص على هذا أربعة أقوال ، ومدركها واللَّه أعلم أن قوله تعالى : 19 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر } ) أي : فمن تمتع بالعمرة قاصداً إلى الحج أو : فمن تمتع بالعمرة موصلاً بها إلى الحج . وذلك إنما يكون بالإحرام بالحج ، وهذا أظهر ، أو أن الحج إنما يتحقق بالحصول بعرفة ، إذ هو الركن الأعظم ، وقبل ذلك هو معرض للفوات ، أو أن وقت نحر الهدي هو يوم النحر ، فلا يجب قبله ، لعدم قدرته على الفعل ، وعلله القاضي بأن الهدي من جنس ما يحصل به التحلل ، فكان وقته بعد وقت الوقوف ، كالطواف والحلق ، وفي كلا التعليلين نظر .
( تنبيه ) : على كل الأقوال لا ينحر إلا يوم النحر ، على ظاهر إطلاق أحمد في رواية ابن منصور ، واختيار الجمهور ، والمنصوص عنه في رواية أبي طالب وغيره أنه إن قدم [ في ] العشر فكذلك ، اتباعاً لفعل الصحابة ، وقبله ينحر حذاراً من ضياع الهدي أو تلفه ، انتهى .
وأما وقت الاستحباب ( ففي الثلاثة ) يكون آخرها يوم عرفة ، ) 16 ( كما ذكره الخرقي ، ونص عليه أحمد في رواية الأثرم ، وأبي طالب ، واختاره القاضي في تعليقه ، وأبو محمد وغيرهما ، فيصوم السابع ، والثامن ، والتاسع ، وفي المجرد : ويكون آخرها يوم التروية ، فيصوم السادس ، والسابع ، والثامن ، حذاراً من صوم يوم عرفة ، والأولون قالوا : يوم فاضل ، فكان أولى بصوم الواجب ، وحذاراً من تقديم الإحرام ، فعلى الأول قال أبو محمد : يقدم الإحرام على يوم التروية ، فيحرم يوم السابع ، وعلى ما في المجرد يحرم يوم السادس ، لظاهر قوله تعالى : 19 ( { فصيام ثلاثة أيام في الحج } ) أي بعد الإحرام بالحج ، وخروجاً من الخلاف ، ( وفي السبعة ) إذا رجع إلى أهله ، للآية الكريمة .
1769 وفي حديث ابن عمر رضي اللَّه عنه المتفق عليه ( فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله ) .
وأما وقت الجواز ( ففي الثلاثة ) إذا أحرم بالعمرة ، على المختار للأصحاب ، إناطة [ للحكم ] بالسبب ، كالتكفير قبل الحنث ونحوه ، وقد أشار أحمد إلى هذا ، قال : إذا عقد الإحرام فصام ، أجزأه إذا كان في أشهر الحج ، وهذا قد يدخل على من قال : لا تجزىء الكفارة إلا بعد الحنث ، ولعل هذا ينصرف فلا يحج . انتهى ، ومن هذا أخذ القاضي هذا الحكم ، وقال : قوله : عقد الإحرام . أي إحرام العمرة قال : لتشبيهه بالكفارة ، وإنما يقع التشبيه إذا كان صومه قبل الإحرام بالحج ، لأنه وجد أحد السببين ، قال : ولأنه قال : إذا عقد الإحرام في أشهر الحج ، وهذا إنما يقال في إحرام العمرة ، ليوجد شرط التمتع ، انتهى . ( وعن أحمد رواية ثانية ) حكاها أبو محمد : وقت الجواز إذا حل من العمرة . ليتحقق وجود السبب ( وحكى بعضهم رواية ثالثة ) : يجوز تقديم الصوم على إحرام العمرة ، قال أبو محمد : وليست بشيء ، لما فيه من تقديم الصوم على سببه ووجوبه ، و أحمد رحمه اللَّه ينزه عن هذا . انتهى وكأن هذه الرواية أخذت من قول أحمد في رواية الأثرم في قوله تعالى : 19 ( { فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذ رجعتم } ) : يجعل آخرها يوم عرفة ، ولا يبالي أن يقدم أولها ، بعد أن يصومها في أشهر الحج ، وإن صامها قبل أن يحرم فجائز ، انتهى ، فجعل أشهر الحج ظرفاً وقال : قبل أن يحرم . وأطلق ، و القاضي قال : أراد قبل أن يحرم بالحج .
وقد أورد على هذا قوله تعالى : 19 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استسسر من الهدي } ) فظاهره أن الصوم إنما يكون بعد أن يصل العمرة بالحج ، ) 16 ( وذلك إنما يكون بالإحرام بالحج ، وقد أكد سبحانه هذا المعنى بقوله : 19 ( { فصيام ثلاثة أيام في الحج } ) جعل الحج ظرفاً للصوم ، وإنما يكون ذلك بعد الإحرام به ( وأجيب ) بأن المحرم بالعمرة وهو يريد الحج يصير متمتعاً ، بدليل لو ساق هدياً كان هدي متعة ، فإذا معنى الآية الكريمة واللَّه أعلم : فمن تمتع بالعمرة مريداً إيصالها بالحج ، وأما الأمر بالصوم فلا بد فيه من تقدير ، إذ نفس الحج لا يصام فيه فالخصم يقدر : في إحرام الحج . ونحن نقدر : في وقت الحج . وهو أولى ، لأن الوقت ظرف للفعل حقيقة ، والإحرام ليس بظرف له حقيقة ، مع أنا نقول بموجب تقدير الخصم ، والآية إذاً إنما دلت على الوجوب حالة الإحرام بالحج ، ونحن نلتزمه ، قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندي وسئل عن صيام المتعة : متى يجب ؟ قال : إذا عقد الإحرام . والكلام هنا في الجواز . انتهى .
ووقت الجواز في السبعة بعد الفراغ من الحج ، هذا قول القاضي ، وحكى أبو محمد : بعد أيام التشريق . وهما متقاربان ، وقد قال أحمد في رواية أبي طالب : إن قدر على الهدي ، وألا يصوم بعد الأيام ، قيل له : بمكة أو في الطريق ؟ قال : كيف شاء . ومراده باويام واللَّه أعلم أيام التشريق ، وذلك لأنه متمتع صام بعد الفراغ من النسك ، في وقت يصح فيه الصوم ، فوجب أن يجزئه إذا لم يكن معه هدي ، كما لو رجع إلى وطنه ، وأما قوله تعالى : { وسبعة إذا رجعتم } فيحتمل : إذا رجعتم من الحج . أي رجعتم إلى ما كنتم عليه من الحل ، وعلى هذا فحديث ابن عمر رضي اللَّه عنه السابق بين الاستحباب ، والآية بينت الجواز ، ويحتمل أن المراد بالرجوع في الآية الرجوع إلى الأهل كالحديث ، ولا ينافي ذلك مدعانا ، لأن معنى الآية إذاً : وسبعة في وقت رجوعكم إلى أهليكم ، وبالفراغ من الحج غالباً يشرع في الرجوع إلى الأهل فيجوز الصوم ، ولو سلم أن المراد بالرجوع إلى الأهل الحصول في الأهل ذلك رخصة من الشارع ، تخفيفاً على المكلف ورفقاً به ، ولا إشكال في مطلوبية ذلك ، ويجوز معه الأخذ بالعزيمة والفعل وقت الوجوب .
( تنبيه ) : هنا سؤالات ( أحدها ) كيف جاز تقديم الصوم قبل وجوبه ؟ وجوابه أنه كتقديم الزكاة والكفارة ونحوهما ، مما يقدم بعد سببه ، وقبل وجوبه . ( ثانيها ) أن الصوم بدل عن الهدي ولا ينتقل إلى البدل إلا عند العجز عن المبدل ، ولا يتحقق العجز إلا في وقت الوجوب ووقت الوجوب عندهم على المشهور يوم النحر ؟ ) 16 ( وجوابه أنا اكتفينا بالعجز الظاهر ، إذ الأصل استمراره . ( وثالثها ) أن وقت الوجوب على زعمهم يدخل بيوم النحر ، ولا يجوز الصوم إذاً ، بل ولا يصح ، وإذا فعله بعد ، فعله قضاء كما صرح به القاضي وغيره ، فهذا واجب ليس له وقت أداء أصلاً ، وإنما يفعل قبل وقته على سبيل التعجيل ، وأبلغ من هذا أنه لو لم يعجل وأخر إلى وقت الوجوب وجب عليه دم على رواية ، ولا يعرف لهذا نظير إلا أن يقال : الحائض يتعلق بها وجوب الصوم ، ولا يتصور في حقها ، وكذلك من أدرك من الوقت قدر تكبيرة ، لأنا نقول ثم : الفعل له وقت إذاً في الجملة ، وإن تعذر في فرد .
ولو قيل إن الوجوب بالإحرام بالحج ، كما هو ظاهر كلام أحمد ، بل ليس في كلامه ما يدل على خلافه ، لسلمنا من هذه الإيرادات أو غالبها ، واللَّه أعلم .
قال : فإن لم يصم قبل يوم النحر صام أيام منى ، في إحدى الروايتين عن أبي عبد اللَّه رحمه اللَّه ، والرواية الأخرى : لا يصوم أيام منى ، ويصوم بعد ذلك عشرة أيام ، وعليه دم .
ش : أيام منى أيام التشريق ، وقد تقدم كلام الخرقي في أنه هل يصومها عن الفرض أو لا ؟ وتقدم الكلام عليه ، فلا حاجة إلى إعادته .
لكن هنا شيء آخر ، وهو أنه إذا أخر صوم الثلاثة عن يوم النحر ، وعن أيام منى ، لمنعه من الصوم فيها أو مطلقاً ، فإنه يقضيها فيما بعد ، لأنه واجب ، فلا يسقط [ بخروج ] وقته ، كصوم رمضان ، وبناء على أصلنا ، وهو أن القضاء بالأمر الأول لا بأمر جديد . ( وهل عليه دم ) والحال هذه ؟ فيه ثلاث روايات ( إحداها ) نعم ، اختارها الخرقي ، ونص عليها أحمد .
1770 معتمداً على [ أن ] هذا قول ابن عباس ولأنه أخر واجباً من مناسك الحج عن وقته ، فلزمه دم [ كرمي الجمار ] ( والثانية ) لا دم عليه ، وهي التي نصبها القاضي في تعليقه ، ونص عليها أحمد في الهدي إذا أخره ، وذلك لأنه أخره إلى وقت جواز فعله ، فلم يجب به دم ، كما لو أخر الوقوف إلى الليل ونحوه ، ( والثالثة ) يجب الدم إلا مع العذر ، حملاً عليه ، نص عليها أحمد في الهدي أيضاً إذا أخره ، ويحكى هذا عن القاضي في المجرد ، وصرح في التعليق بأن المذهب عدم التفرقة ، وقد علمت أن المنصوص في الصوم وجوب الدم ، وفي الهدي عدم الوجوب ، والوجوب مع انتفاء العذر ، فحصل من المجموع ثلاث روايات في المسألتين .
والخرقي رحمه اللَّه خص وجوب الدم بما بعد أيام منى ، فمقتضاه أنه لو صام أيام منى لا دم عليه ، ويقرب منه كلام القاضي ، قال : إذا لم يصم قبل يوم النحر صامها قضاء ، ) 16 ( وهل عليه دم لتأخيرها عن أيام الحج ؟ انتهى ، وأيام منى هي أيام الحج ، واللَّه أعلم .
قال : ومن دخل في الصوم ثم قدر على الهدي ، لم يكن عليه أن يخرج من الصوم إلى الهدي إلا أن يشاء .
ش : لأنه تلبس بالصوم ، فلم يلزمه الانتقال إلى الهدي ، كما إذا دخل في صوم السبعة فإنه اتفاق ، ودعوى الخصم بأن الهدي بدل عن الثلاثة لا السبعة ، فإذا وجد الهدي في الثلاثة بطل حكمها ، للقدرة على المبدل ، لا نسلم ، بل نقول : الهدي بدل عن الجميع وهو ظاهر الآية الكريمة : 19 ( { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجعتم } ) [ والمعطوف والمعطوف عليه في حكم الشيء الواحد ، ويرجح هذا قوله سبحانه ] { تلك عشرة كاملة } .
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا قدر على الهدي قبل الشروع في الصوم أنه يلزمه الانتقال إليه ، وهو إحدى الروايتين ، ومبنى الخلاف على ما قال في التلخيص : هل الإعتبار في الكفارات بحال الوجوب ، أو بأغلظ الأحوال ؟ فيه روايتان مشهورتان ، تأتيان إن شاء اللَّه تعالى في محلهما ، واللَّه أعلم .
قال : والمرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت ، وخشيت فوات الحج أهلت بالحج ، وكانت قارنة .
ش : إذا دخلت المرأة متمتعة وحاضت ولم تطف ، فإنها ممنوعة من الطواف كما تقدم ، ولا يمكن أن تحل من عمرتها إلا به ، فحينئذ إن خشيت فوات الحج ، بأن كان ذلك قريب وقت الوقوف ، وخشيت أنها إن بقيت في عمرتها فاتها الحج ، فإنها تحرم بالحج ، وتصير قارنة ، لتأمن بذلك الفوات ، إذ إدخال الحج على العمرة مع الأمن جائز ، فكيف مع عدمه .
1771 وقد وقع هذا لعائشة رضي اللَّه عنها ، قالت : خرجنا مع رسول اللَّه ، موافقين هلال ذي الحجة ، فلما كان بذي الحليفة قال : ( ممن شاء إن يهل بحجة فليهل ، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل ، وإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة ) قالت : فكنت فيمن أهل بعمرة ، فلما كان في بعض الطريق حضت ، فدخل علي رسول اللَّه وأنا أبكي ، فقال : ( ما يبكيك ؟ ) قلت : وددت أني لم أكن خرجت العام . فقال : ( ارفضي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ) فلما كان ليلة الصدر أمر تعني النبي عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم ، فأهلت بعمرة مكان عمرتها ، فطافت بالبيت ، رواه الشيخان وغيرهما بألفاظ مختلفة .
1772 ولمسلم في رواية : قال لها رسول اللَّه ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) .
1773 ولأبي داود : قال لها النبي ( طوافك بالبيت ، ) 16 ( وبين الصفا والمروة ، يكفيك لحجك وعمرتك ) وإنما يسعها أو يكفيها طوافها لحجها وعمرتها إذا حصلا لها .
1774 وعن جابر رضي اللَّه عنه في حديث له قال : وأقبلت عائشة رضي اللَّه عنها مهلة بعمرة ، حتى إذا كانت بسرف عركت . وذكر الحديث إلى أن قال : ثم دخل رسول اللَّه على عائشة رضي اللَّه عنها ، فوجدها تبكي ، فقال : ( ما شأنك ؟ ) قالت : شأني أني قد حضت ، وقد أحل الناس ولم أحل ، ولم أطف بالبيت ، والناس يذهبون إلى الحج الآن ، قال : ( إن هذا أمر كتبه اللَّه على بنات آدم ، فاغتسلي ثم أهلي بالحج ) ففعلت ووقفت المواقف كلها ، حتى إذا طهرت طافت بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم قال : ( قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً ) قالت : يا رسول اللَّه إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت ، قال : ( فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم ) وذلك ليلة الحصبة ، رواه مسلم ، والنسائي ، وأبو داود وهذا لفظه . وهو صريح في حصول النسكين لها كما قلناه ( وقد اعترض ) على حديث عائشة رضي اللَّه عنها بأنها إنما كانت مفردة .
1775 بدليل أن في رواية في الصحيح قالت : فدخل عليَّ رسول اللَّه وأنا أبكي ، فقال : ( ما يبكيك يا هنتاه ؟ ) فقلت : سمعت قولك لأصحابك ، فمنعت العمرة ، قال : ( وما شأنك ؟ ) قلت : لا أصلي . قال : ( فلا يضرك ، إنما أنت امرأة من بنات آدم ، كتب عليك ما كتب عليهن ، فكوني في حجك ، فعسى اللَّه أن يرزقكيها ) وفي رواية : خرجنا مع رسول اللَّه لا نذكر إلا الحج ، [ حتى جئنا سرف ] فطمثت . وذكرت القصة ، وفيها : قال لها رسول اللَّه : ( افعلي ما يفعل الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) .
1776 وأيضاً ففي لفظ لمسلم عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : ( فقضى اللَّه حجتنا وعمرتنا ، ولم يكن في ذلك هدي ، ولا صدقة ، ولا صوم ) والقارن على قول العامة لا يخلو من أحدها . ( ويجاب ) بأنها قد أخبرت عن نفسها كما سبق بأنها كانت ممن أهل بعمرة .
1777 وكذلك أخبر عنها جابر رضي اللَّه عنه ، وكذلك قول الرسول ( ارفضي العمرة ) ونحو ذلك ، وقوله ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) يدل على أنها كانت معتمرة ، وأما قوله : ( افعلي ما يفعل الحاج ) أي أنشيء ما ينشيء الحاج من الإهلال به والاغتسال [ له ، كما جاء مصرحاً به ، ( وأهلي بالحج ) وكذلك يحمل ( فكوني في حجك ) أي ادخلي في الحج ] ونحو ذلك ، إذ هذا ونحوه مما نقل بالمعنى قطعاً ، فإن الواقعة واحدة ، واللفظ واحد ، وأما قولها : ولم يكن في ذلك هدي ، ولا صدقة ، ) 16 ( ولا صوم . ويكون الرسول تحمل عنها ذلك ، وهو يعلم رضاها بذلك ، فلا يحتاج إلى أذنها في التكفير .
والنعمان رحمه اللَّه يقول : آل أمرها إلى الإفراد ، ويوافق [ على ] أن إحرامها كان بعمرة ، ثم لما حاضت أمرها بترك العمرة ، ثم بالإهلال بالحج .
1778 مستدلاً بقوله لها : ( ارفضي العمرة ، وانقضي رأسك وامتشطي ) وفي رواية : ( اتركي العمرة ) وفي رواية ( دعي العمرة ) وهذه الألفاظ كلها في الصحيح والسنن .
1779 ويرشح هذا ما في الحديث : فأهلت بعمرة مكان عمرتها ، وفي رواية : أرسلني رسول اللَّه مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم ، فاعتمرت ، فقال : ( هذه مكان عمرتك ) وفي رواية : قالت يا رسول اللَّه أترجع صواحبي بحج وعمرة ، وأرجع أنا بحج ؟ فأمر رسول اللَّه عبد الرحمن بن أبي بكر فذهب بها إلى التنعيم ، فلبت بالعمرة .
وقد أجيب عن قوله لها : انقضي رأسك ، وامتشطي ) أن ذلك [ يجوز أن ] يكون لعذر ، كما جوز لكعب بن عجرة الحلق ، مع أن المحرم يجوز له نقض الشعر ، والامتشاط غايته أن يكون برفق ، حذاراً من نتف الشعر ، وإنما قال ذلك الرسول لعائشة رضي اللَّه عنها هنا لأجل اغتسالها للحج ، وأما قوله : ( ارفضي العمرة ) ونحو ذلك فحمله الإمام الشافعي وغيره على ترك أفعال العمرة ، لا على ترك العمرة رأساً ، ليوافق قوله : ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) وقوله : في حديث جابر رضي اللَّه عنه ( قد حللت من حجك وعمرتك ) وأحمد رحمه اللَّه قال في رواية أبي طالب : إنما قال النبي لعائشة : ( أمسكي عن عمرتك ، وامتشطي وأهلي بالحج ) وقال في رواية الميموني وذكر له عن أبي معاوية يرويه ( انقضي عمرتك ) فقال : غير واحد يرويه ( أمسكي عن عمرتك ) أيش معنى : انقضي ، هو شيء تنقضه ، هو ثوب تلقيه ؟ وعجب من أبي معاوية .
وأما قوله : ( هذه مكان عمرتك ) [ أي مكان عمرتك ] التي أحرمت بها مفردة ، وقولها : أترجع صواحبي بحج وعمرة . إلى آخره أي بحج ، وعمرة مفردة عن الحج ، وأرجع بحج اندرجت فيه العمرة ، وأما إعمارها من التنعيم فتطييب لقلبها ، كذا قال الإمام أحمد وغيره ، ويشهد له حديث جابر رضي اللَّه عنه المتقدم ، انتهى .
وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه يلزمها إدخال الحج والحال هذه ، وكذلك كل من خشي فوات الحج ، حذاراً من تفويت الحج الواجب على الفور . ) 16 (
( تنبيه ) : ( هنتاه ) كناية عن البله ، وقلة المعرفة بالأمور ( وليلة الصدر ) و ( ليلة الحصبة ) ( وليلة البطحاء ) كل ذلك واحد ، وهو نزوله بالمحصب ليلة النفر الآخر ، والمحصب والأبطح ، والمعرس وخيف بني كنانة واحد ، وهو بطحاء مكة [ وهو بين مكة ] ومنى ، و ( سرف ) على فرسخين من مكة ، وقيل على أربعة أميال و ( عركت ) بفتح العين والراء ، أي حاضت ، والعارك الحائض ، وكذلك ( طمثت ) حاضت ، واللَّه أعلم .
قال : ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم .
ش : أي إذا طهرت ، لأن النبي لم يأمر عائشة رضي اللَّه عنها بقضائه ، وهذا مما يورد على المتمتع في قضائه طواف القدوم ، ويجاب عنه بأنه هنا سقط عنها لمكان العذر ، كما يسقط طواف الوداع عن الحائض ، أما ثم فلا عذر ، واللَّه أعلم .
قال : ومن وطيء قبل أن يرمي جمرة العقبة فقد أبطل حجهما .
ش : قد تقدمت هذه المسألة في قوله : فإن وطيء محرم في الفرج . إلا أنه ثم فصل بين أن يطأ في الفرج أو دونه ، وبيّن هنا أن شرط بطلان الحج أن يكون قبل رمي جمرة العقبة ، أما إن كان بعد رمي الجمرة فإن النسك لا يبطل لما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : وعليه دم إن كان استكرهها ، ولا دم عليها .
ش : تقدمت هذه المسألة أيضاً ، وأن الدم بدنة ، وأنها إذا طاوعته فعلى كل واحد منهما [ بدنه ] . واللَّه أعلم .
قال : وإن وطيء بعد رمي جمرة العبة فعليه دم .
ش : وإذا كان الوطء بعد التحلل الأول كما إذا رمى جمرة العقبة فإن النسك لا يفسد .
1780 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى ، قبل أن يفيض ، فأمره أن ينحر بدنة ، وفي رواية عن عكرمة قال : 16 ( لا أظنه إلا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : الذي يصيب أهله قبل أن يفيض يعتمر ويهدي . رواه مالك في الموطأ ) .
1781 ولعموم ( الحج عرفة ، من صلى صلاتنا ، ووقف معنا ، حتى ندفع ، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة في ليل أو نهار ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه ) وقد تقدم ذلك .
ويلزمه دم ، وهل هو بدنة ، كما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، أو شاة ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد ، كالوطء دون الفرج إذا لم ينزل ، والجامع عدم البطلان بهما ؟ فيه روايتان ، واللَّه أعلم .
قال : ويمضي إلى التنعيم فيحرم ، ليطوف وهو محرم [ وكذلك المرأة ] .
ش : قد تقرر أن الحج لا يبطل بالوطء بعد رمي جمرة العقبة ، وإذا لم يبطل فما بقي من الإحرام يبطل ، ) 16 ( لحصول الوطء فيه ، وإذاً يلزمه أن يحرم ، ليأتي بطواف الركن في إحرام صحيح ، ويحرم من الحل ، ليجمع في الإحرام بين الحل والحرم ، وأقرب الحل إلى مكة التنعيم ، فلذلك ذكره الخرقي رحمه اللَّه .
وظاهر كلام الخرقي وجماعة أنه إذا أحرم أتى بالطواف ، وإن كان لم يسع أتى بالسعي ، على ما تقدم ، ثم قد حل ، لأن هذا هو الذي بقي عليه من حجه ، قال أبو محمد : والمنصوص عن أحمد أنه يعتمر ، قال : فيحتمل أنه يريد هذا ، وهو يسمى عمرة ، لأنه هو أفعال العمرة ، ويحتمل أنه يريد عمرة حقيقية ، فيلزمه سعي وتقصير .
وظاهر كلامه أيضاً أن الوطء بعد رمي جمرة العقبة لا يفسد ، وإن كان قبل الحلق وظاهر كلام جماعة أنه إذا أوقفنا الحل عليه فسد النسك به ، لأنهم ينيطون الحكم بالحل الأول . والخرقي ظاهر كلامه أنه متوقف على الحلق ، وقرر أبو محمد الأول على ظاهره ، وقال : إنه ظاهر كلام أحمد وغيره من الأئمة .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) إذا وطيء بعد الطواف وقبل الرمي فظاهر كلام جماعة أنه كالأول ، لإناطتهم الحكم بالوطء بعد التحلل الأول ، ولأبي محمد في موضع في لزوم الدم والحال هذه احتمالان ، وله في موضع في لزوم الدم متابعة للأصحاب ( الثاني ) لم يتعرض الخرقي لحكم الوطء في العمرة ، والحكم أنه يجب بالوطء فيها شاة ، وهل تفس ؟ إن كان قبل السعي فسدت ، وإن كان بعده وجب دم ولم تفسد ، نص عليه أحمد ، وقاله الشيخان ، ومقتضى كلامهما وإن قلنا : الحلق نسك ، بل هو صريح كلام أبي محمد ، وبنى [ ذلك ] صاحب التلخيص على الحلق ، إن قيل إطلاق محظور فكذلك ، وإن قيل نسك فسدت ، واللَّه أعلم .
قال : ومباح لأهل السقاية والرعاء أن يرموا بالليل .
ش : تخفيفاً ، ودفعاً للحرج والمشقة عنهما ، إذ أهل السقاية مشتغلون بالسقي [ نهاراً ] ، وكذلك الرعاة مشتغلون بالرعي [ كذلك ] فعلى هذا يرمون كل يوم في الليلة التي تعقبه ، فجمرة العقبة في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق ، ورمي اليوم الأول في ليلة الثاني ، ورمي الثاني في ليلة الثالث ، والثالث إذا أخروه إلى الغروب سقط عنهم ، كسقوطه عن غيرهم .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يباح الرمي في الليل لغير الصنفين ، وهو ظاهر كلام أحمد ، قال في رواية ابن منصور وقد سئل عن الرمي في الليل إذا فاته فقال : أما الرعاء فقد رخص لهم ، وأما غيرهم فلا يرمون إلا بالنهار من الغد إذا زالت الشمس يرمي رميين ، وكذلك صرح صاحب التلخيص بأن آخر الوقت غروب الشمس ، ) 16 ( والليل على هذا كقبل الزوال .
( تنبيه ) : ( أهل السقاية ) هم الذين يسقون على زمزم . ( والرعاة ) بضم الراء ، وبهاء في آخره ، وبكسر الراء ممدوداً بلا هاء ، لغتان مشهورتان ، والثانية لغة الكتاب والسنة ، واللَّه أعلم .
قال : ومباح للرعاء أن يؤخروا الرمي ، فيقضوه في اليوم الثاني واللَّه أعلم .
ش : الرعاء يشق عليهم المبيت ، ليرموا في كل يوم ، فلذلك رخص لهم في ترك رمي يوم ، ليرموه في الذي بعده .
1782 وقد روى أبو البداح بن عاصم بن عدي ، عن أبيه أن رسول اللَّه رخص للرعاء أن يرموا يوماً ، ويدعوا يوماً ، رواه أبو داود ، والنسائي والترمذي وصححه ، وفي رواية : أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى ، يرمون يوم النحر ، ثم يجمعون رمي يومين بعد يوم النحر ، فيرمونه في آخرهما ، قال مالك : ظننت أنه قال : في الأول منهما ، ثم يرمون يوم النفر .
وقد تضمن هذا الكلام أن للرعاء ترك المبيت بمنى ، وكذلك الحكم في أهل السقاية ، إلا أن الخرقي لم يتعد هذا الحديث ، وقد تقدم أن العباس رضي اللَّه عنه استأذن رسول اللَّه أن يبيت بمكة ليالي منى ، من أجل سقايته فأذن له . إلا أن بين الرعاء وأهل السقاية فرقاً ، وذلك أن الرعاء متى غربت الشمس وهم بمنى لزمهم المبيت ، بخلاف أهل السقاية .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يباح تأخير الرمي من يوم إلى آخر لغير من تقدم ، ولعل مراده نفي الإباحة الاصطلاحية ، وهو ما استوى طرفاه ، لا الإباحة التي هي بمعنى الإذن في الفعل ، ومراده بالإباحة في التأخير إلى الليل الإذن في الفعل ، والذي ألجأ إلى هذا أن ظاهر كلام الأصحاب أنه يجوز تأخير الرمي كله إلى آخر أيام التشريق ، ولا يجوز مجاوزة أيام التشريق ، قال أبو محمد ، وصاحب التلخيص : إذا أخر إلى آخر أيام منى ترك السنة ولا شيء عليه ، وقال أبو البركات : إذا أتى بالرمي كله في آخر أيام منى جاز ، وأصرح من هذا كلام القاضي في التعليق قال : أيام التشريق كلها بمنزلة اليوم الواحد ، واعتمد على نص أحمد المتقدم في رواية ابن منصور ثم قال بعد لما قيل له : إن التأخير لليوم الثاني منهي عنه . قال : لا نسلم ، بل جميع الثلاثة وقت للرمي إذاً لا قضاء وإنما يكون تاركاً للفضيلة . انتهى .
وقوة كلام الخرقي يقتضي المنع من ذلك ، وهو ظاهر الحديث ، وكلام أحمد في [ غير ] رواية إنما يدل على أن اليوم الثاني [ والثالث ] يرمي فيه ، ولا دم عليه ، وليس فيه فيما رأيت تصريح بجواز التأخير . ) 16 (
( تنبيه ) : وحيث أخر فرمى في اليوم الثاني أو الثالث فإنه لا بد من ترتيب ذلك بالنية . واللَّه أعلم .
باب الفدية وجزية الصيد
قال : ومن حلق أربع شعرات فصاعداً ، عامداً أو مخطئاً ، فعليه صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين ، أو ذبح شاة ، أي ذلك فعل أجزأه .
ش : لا نزاع في وجوب الفدية بحلق الرأس في الجملة ، وقد شهد لذلك [ نص ] الكتاب ، قال سبحانه : 19 ( { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ، فمن كان منكم مريضاً ، أو به أذى من رأسه ، ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك } ) أي فحلق فعليه فدية ، أو فالواجب فدية .
1783 ونص السنة ، وهو ما روي عن كعب بن عجرة رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه مر به زمن الحديبية ، فقال : ( قد آذاك هوام رأسك ؟ ) قال : نعم . فقال النبي ( احلق ، ثم اذبح شاة نسكاً ، أو صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر ، على ستة مساكين ) رواه الشيخان وغيرهما ، وفي أبي داود قال : أصابني هوام في رأسي ، وأنا مع رسول اللَّه عام الحديبية ، حتى تخوفت على بصري ، فأنزل اللَّه تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو بهد أذى من رأسه } الآية : فدعاني رسول اللَّه وقال لي : ( احلق رأسك وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين فرقاً من زبيب ، أو انسك ضاة ) فحلقت رأسي ثم نسكت .
واختلفت الرواية عن أحمد في القدر الذي يتعلق به الفدية ، ( فعنه ) وهو اختيار القاضي وأصحابه وغيرهم تجب في ثلاث فصاعداً ، إذ بذلك يسمى حالقاً ، فيدخل تحت قوله تعالى : { ففدية } إذ التقدير : فحلق ، ( وعنه ) وهو الأشهر عنه ، واختيار الخرقي لا يجب إلا في أربع فصاعداً ، إذ الثلاثة آخر حد القلة ، وما زاد عليه كثير ، فيتعلق الحكم به دون القليل ، ( وعنه ) وهو أضعفها ، واختيار أبي بكر لا يتعلق إلا بخمس فصاعداً ، ( وزوال الشعر ) بنوره أو غيره كحلقاة ، إناطة بالترفه ، وإنما ذكر الخرقي الحلق إناطة بالغالب .
وقد دخل في كلام الخرقي شعر الرأس والبدن ، ولا إشكال في تعلق الفدية عندنا بشعر البدن ، لحصول الترفه به ، ثم هل هو مع شعر الرأس كالشيء الواحد ، فلو حلق منه شعرتين ، ومن شعر الرأس شعرتين وجبت الفدية ، ولو حلق منه أربع شعرات ، ومن شعر الرأس أربع شعرات لم يجب إلا فدية واحدة ، لأن الشعر كله جنس واحد ، أو لكل واحد منهما حكم منفرد ، لحصول التحلل بأحدهما دون الآخر ، فلا تكمل الفدية في الصورة الأولى ، وتجب في الصورة الثانية فديتان ؟ فيه روايتان منصوصتان ، الأولى اختيار أبي الخطاب ، وأبي محمد ، والثانية اختيار القاضي في التعليق وفي غيره ، وابن عقيل .
ولا فرق في زوال الشعر بين من له عذر وهو الذي ورد فيه النص ، ومن لا عذر له ، ولا بين العامد والناسي ونحوه ، على المنصوص ، والمعمول به في المذهب ، إذ غاية الناسي ونحوه أنه معذور ، وقد وجبت [ الكفارة بالنص على المعذور ، والفقه ] في ذلك أنه إتلاف لا يمكن تداركه ، بخلاف اللباس ونحو . .
ونص أحمد رحمه اللَّه في الصيد أنه لا كفارة إلا في العمد ، فخرج القاضي ومن بعده منه قولاً أنه لا يجب إلا في العمد ، تعلقاً بظاهر آية الصيد ، وبقول النبي : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ) الحديث .
والفدية واحد من ثلاثة أشياء ، الصوم ، والصدقة ، والنسك ، كما نص اللَّه عليها ، وبينها من له البيان بأنها صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة ، ويجزىء فيها ما يجزىء في الفطرة ، وغالب الروايات وردت بالتمر ، ولذلك اقتصر عليه الخرقي ، وورد أيضاً الزبيب كما تقدم ، وفي رواية في الصحيح ( نصف صاع طعام لكل مسكين ) وهو يشمل البر والشعير ، ولا نزاع في وجوب نصف صاع من التمر ، والزبيب ، والشعير ، وأما من البر فروايتان ( إحداهما ) كذلك ، لظاهر ( نصف صاع طعام ) و ( الثانية ) وهي أشهرهما يجزيء مد بر كما في كفارة اليمين وغيرها ، ويخير بين الثلاثة مع العذر بلا ريب للنص .
1784 وفي رواية أبي داود أن رسول اللَّه قال له ( إن شئت فانسك نسيكة ، وإن شئت فصم ثلاثة أيام ، وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين ) .
ومع عدمه فيه روايتان ( إحداهما ) وهي ظاهر كلام الخرقي ، وإليها ميل أبي محمد أنه كذلك ، لأن الحكم يثبت فيه بطريق التنبيه ، والفرع لا يخالف أصله . ( والثانية ) يتعين الدم ، وبها جزم ابن أبي موسى ، والقاضي في جامعه وفي تعليقه ، ونص عليها أحمد ، ولفظه : لا ينبغي أن يكون مخيراً ، لأن اللَّه سبحانه خيَّر الحالق لوجود الأذى ، فإذا عدم الأذى عدم التخيير ، ووجوب الدم مع عدم العذر للجناية على الإحرام ، لا بالقياس على المعذور ، واللَّه أعلم .
قال : وفي كل شعرة من الثلاث مد من الطعام .
ش : لما كان الثلاث عند الخرقي هي حد القلة ، ووجوب الفدية منوط بما زاد عليها ، جعل في كل واحدة من الثلاث مدا من طعام ، وعلى المذهب تجب الفدية في الثلاث ، فيجب في الشعرتين مدان ، وعلى الرواية الضعيفة لا تجب الفدية إلا في خمس ، فيجب المد في كل واحدة من الأربع ، وبالجملة وجوب المد في الشعرة هو المشهور من الروايات ، والمختار لعامة الأصحاب ، الخرقي ، وأبي بكر ، وابن أبي موسى ، والقاضي وأصحابه ، غيرهم ، نظراً إلى أن هذا لا مقدر فيه ، والمد أقل ما وجب في الشرع فدية ، فوجب الرجوع إليه ، ولا ينتقص منه ، إذ لا ضابط لذلك ، ولا يزاد عليه إذ الأصل براءة الذمة .
فإن قيل : فلا يجب شيء نظراً للأصل ؟ قيل : ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالصيد ( والثانية ) يجب في كل شعرة قبضة من طعام ، لأنه حصل نوع تكفير ، والنص عن أحمد الذي فيه هذه الرواية أن في الشعرة والشعرتين قبضة ، ( والثالثة ) يجب في كل شعرة درهم ، أو نصف درهم ، خرجها القاضي ومن بعده من ليالي منى ، ويلزم على ذلك أن يخرج أن لا شيء ، وأن يجب كما حكي ذلك في ليالي منى ، وفي بعض الشعرة ما في كلها على الأشهر ، وقيل : يجب بالقسط ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك الأظفار .
ش : الحكم في الأظفار كالحكم في الشعر سواء ، في جميع ما تقدم ، والجامع حصول الترفه بكل منهما ، واللَّه أعلم .
قال : وإن تطيب المحرم عامداً غسل الطيب ، وعليه دم .
ش : أما غسل الطيب فلا ريب فيه ، إذ كل من فعل محظوراً فإنه يجب عليه تركه ، والرجوع إلى أمر ربه .
1785 وقد ورد في غير هذا عن صفوان بن يعلى بن أمية ، عن أبيه أن رجلاً أتى النبي وهو بالجعرانة وعليه أثر خلوق ، أو قال صفرة ، وعليه جبة ، فقال : يا رسول اللَّه كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ فأنزل اللَّه سبحانه على النبي الوحي ، فلما سري عنه قال : ( أين السائل عن العمرة ؟ ) قال : ( اغسل عنك أثر الخلوق أو قال أثر الصفرة ، واخلع الجبة عنك ، واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك ) متفق عليه .
وأما وجوب الدم فلا نزاع فيه ، لأنه ترفه بما منع منه ، فوجبت الفدية كحلق الرأس ، وكلام الخرقي يشمل القليل والكثير وهو كذلك ، وقول الخرقي : عليه دم . فيه تجوز ، إذ لا يتعين الدم . بل الواجب فدية كفدية حلق الرأس كما تقدم ، وقوله : عامداً . يحترز به عن الناسي ، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك إن لبس المخيط ، أو الخف عامداً وهو يجد النعل ، خلع وعليه دم .
ش : لا نزاع أيضاً في وجوب الفدية بلبس المخيط ، وتغطية الرأس ، ولبس الخف ، بالقياس على حلق الرأس .
( تنبيه ) : إذا جمع الجميع ، فلبس وغطى رأسه ، ولبس الخف ، لم تجب إلا فدية واحدة ، لأن الجميع جنس واحد .
وقول الخرقي : وهو يجد النعل ، احترازاً مما إذا عدمه ، فإنه يلبس الخف ولا شيء عليه ، واللَّه أعلم .
قال : وإن تطيب أو لبس ناسياً فلا فدية عليه .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار أبي محمد ، والقاضي في روايتيه ، لعموم قول النبي ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ) الحديث . ويلتزم العموم في المضمرات ولحديث يعلى بن أمية السابق ، إذ النبي لم يذكر له فدية ، ولو وجبت لذكرها ، إذ هو سائل عن حالة ، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأنه لا يجوز ، ولا يلزم الحلق ، والتقليم ، وقتل الصيد ، لتعذر تلافيها ، بخلاف ما نحن فيه ، ( والثانية ) واختارها القاضي في تعليقه تجب الفدية ، لأنه معنى يخظره الإحرام ، فاستوى عمده وسهوه ، كالحلق [ وقلم الظفر ] ، واعتمد أحمد رحمه اللَّه على أن اللَّه أوجب الكفارة في قتل الخطأ ، مع انتفاء القصد ، فكذلك هنا ، ومنع القاضي العموم في المضمرات ، وجعل التقدير : رفع المأثم . وأجاب عن حديث يعلى بأن ذلك قبل تحريم الطيب ، بدليل انتظاره للوحي ، قال : ولا أثر للتفرقة بالتلافي وعدمه ، لأن الفدية تجب لما مضى ، وذلك مما لا يمكن تلافيه . انتهى ، وحكم الجاهل بالتحريم حكم الناسي ، قاله غير واحد من الأصحاب ، وكذلك المكره قاله أبو محمد ، واللَّه أعلم .
قال : ويخلع اللباس ، ويغسل الطيب .
ش : لما تقدم من الحديث ، واللَّه أعلم .
قال : ويفزع إلى التلبية .
ش : أي يسرع إليها استذكاراً للحج أنه نسيه ، واستشعاراً بإقامته [ عليه ] ، واللَّه أعلم .
قال : ولو وقف بعرفة نهاراً ، ودفع قبل الإمام فعليه دم .
ش : أما وجوب الدم بما إذا وقف نهاراً أي ولم يقف إلى الليل فلأن النبي وقف إلى الليل ، وقال ( خذوا [ عني ] مناسككم ) .
1786 وقد قال ابن عباس : من ترك نسكاً فعليه دم . والواجب على من وقف نهاراً أن يجمع في وقوفه بين الليل والنهار ، لا أن يستمر الوقوف إلى الليل ، فلو دفع قبل الغروب [ ثم عاد قبل الغروب ] فوقف إليه فلا شيء عليه ، ولو لم يواف عرفة إلا ليلاً فلا شيء عليه .
وأما وجوب الدم فيما إذا دفع قبل الإمام فاقتداء بأصحاب النبي ، فإنهم لم يدفعوا إلا بعده ، وهذه إحدى الروايتين . ( والثانية ) وهي اختيار جمهور الأصحاب لا دم عليه ، ولا يجب الوقوف حتى يدفع مع الإمام ، بل يستحب ، إذ لم يثبت أن ذلك نسك ، حتى يدخل تحت قوله ( خذوا عني مناسككم ) وفي بعض النسخ : ولو وقف بعرفة نهاراً ، ودفع قبل الإمام . فلا يستفاد منه إلا مسألة واحدة ، وهي الدفع قبل الإمام ، ويكون وجوب الدم مشروطاً بمن وقف نهاراً ، وأظنها أشهر ولا يحتاج معها إلى تقدير ، ولكن الأولى عليها شرح أبو محمد ، واللَّه أعلم .
قال : ومن دفع من مزدلفة قبل نصف الليل من غير الرعاء وأهل سقاية الحاج فعليه دم .
ش : المبيت بمزدلفة ليلتها واجب في الجملة ، لأن النبي وأصحابه باتوا بها ، وقال ( خذوا عني مناسككم ) ويجب بتركه دم نص عليه ، لما تقدم عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، وكبقية الواجبات ، وقيل عنه : لا دم عليه . ولا عمل عليه .
والواجب أن لا يدفع قبل نصف الليل ، ولو دفع بعده جاز ، لأن النبي قدم ضعفة أهله بعد نصف الليل .
1787 وقال ابن عباس رضي اللَّه عنه : 16 ( أنا ممن قدم النبي ليلة المزدلفة في ضعفه أهله ) . أخرجه الجماعة .
1788 وقالت عائشة رضي اللَّه عنها : 16 ( أرسل النبي بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت فأفاضت ، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول اللَّه . تعني عندها ) ، رواه أبو داود وغيره .
1789 وعن أم حبيبة : أن النبي بعث بها من جمع بليل ، وفي رواية قالت أم حبيبة : كنا نفعله على عهد النبي نغلس من جمع إلى منى . رواه النسائي .
واستثنى الخرقي رحمه اللَّه الرعاء ، وأهل السقاية ، فلم يجعل عليهم مبيتاً ، لأن بهم حاجة إلى حفظ مواشيهم ، وسقي الحاج ، فلذلك رخص لهم ، بخلاف غيرهم ، ولم أر من صرح باستثنائهما إلا أبا محمد ، حيث شرح كلام الخرقي ، واللَّه أعلم .
قال : ومن قتل وهو محرم من صيد البر عامداً أو مخطئاً ، فداه بنظيره من النعم ، إن كان المقتول دابة .
ش : وجوب الجزاء بقتل صيد البر على المحرم إجماع في الجملة ، وقد شهر له قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } الآية .
ويستثنى من ذلك ثلاثة أشياء ( أحدها ) إذا صال الصيد عليه ، ولم يقدر على دفعه إلا بقتله ، فإنه يباح له قتله ولا جزاء عليه ، لأنه قد التحق بالمؤذيات طبعاً ، مع أنه المتعدي على نفسه ، وعن أبي بكر فيه الجزاء ، نظراً إلى أن قتله لحاجة [ نفسه ] أشبه قتله لحاجة الأكل . ( الثاني ) إذا خلص الصيد من سبع ، أو شبكة ، ونحو ذلك ، فأفضى ذلك إلى قتله ، فلا ضمان فيه ، نظراً إلى أنه فعل مباح مطلوب ، أشبه مداواة الولي [ لموليه ] ونحوه ، وقيل : عليه الضمان ، إذ غايته أنه لم يقصد قتله ، كالخاطىء ، ( الثالث ) إذا قتله في مخمصة ، فعن أبي بكر : لا ضمان عليه ، إناطة بإباحة قتله ، والمذهب المجزوم به عند الشيخين وغيرهما وجوب الضمان ، لعموم الآية ، ولأن إتلافه لمحض نفع نفسه ، من غير تعد من الصيد ، أشبه حلق الشعر لأذى برأسه . انتهى .
والصيد [ الذي يتعلق به الجزاء ما كان وحشياً ، مأكولاً ، ليس بمائي ، فيخرج بالوصف الأول ما ليس بوحش كبهيمة الأنعام ونحوها ، والاعتبار ] في ذلك بالأصل لا بالحال ، فلو استأنس الوحش وجب الجزاء ، ولو توحش الأهلي فلا جزاء ، ويستثني من ذلك ما تولد بين وحشي وغيره ، تغليباً للتحريم ، واختلف في الدجاج السندي ، والبط ، هل فيهما جزاء ، على روايتين ، والصحيح في البط [ وجوب ] الجزاء ، نظراً لأصله وهو التوحش .
ويخرج بالوصف الثاني ما ليس بمأكول ، كسباع البهائم ، وجوارح الطير [ ونحو ذلك ] قال أحمد رحمه اللَّه : إنم جعلت الكفارة في [ الصيد ] المحلل أكله ، واختلف في الثعلب ، وسنور البر ، والهدهد ، والصرد ، هل فيها جزاء ، كما اختلف في إباحتها ، وكذلك كل ما احتلف في إباحته ، مختلف في جزائه ، هذا الصحيح من الطريقتين عند أبي محمد ، والقاضي وغيرهما ، وقيل : لا يلزم ذلك ، بل يجب الجزاء في الثعلب ونحوه وإن حرمنا أكله ، تغليباً للتحريم ، كما وجب الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره ومما يستثنى من القاعدة القمل على رواية قد تقدمت ، واستثنى بعض الأصحاب أم حبين ، وهي دابة منتفخة البطن ، تستخبث عند الأصحاب .
1790 فأوجب فيها جدياً تبعاً لعثمان رضي اللَّه عنه ، فإنه روي عنه أنه قضى فيها بذلك ، والصحيح عدم استثنائها ، جرياً على القاعدة .
ويخرج بالوصف الثالث ما كان مائياً لقوله سبحانه : 19 ( { أحل لكم صيد البحر } ) الآية ، والمائي هو ما يعيش في الماء ، ويبيض فيه ، ويفرخ فيه ، وإن كان يعيض في البر ، كالضفدع والسلحفاة ، [ ونحوهما ] ، وعن ابن أبي موسى أنه أوجب الجزاء في الضفدع ، وعلى قياسه كل ما يعيش في البر ، تغليباً للتحريم .
ويخرج مما تقدم طير الماء ، لكونه مما يفرخ ، ويبيض في البر ، وإنما يدخل في الماء ليتعيش فيه ، ويتكسب منه .
واختلف عن أحمد رحمه اللَّه في الجراد ، فقيل : هو من صيد البر ، لأنه يطير فيه ، فهو كغيره من الطيور ، ولذلك يهلكه الماء .
1791 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ما يدل عليه أو أنه من صيد البحر .
1792 ويحكى ذلك عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما .
1793 وعن عروة : هو من نثرة حوت .
1794 وعن النبي ( الجراد من صيد البحر ) وفي حديث [ آخر ] ( إنما هو من صيد البحر ) لكن قال أبو داود : كلا الحديثين وهم . وقال أبو بكر المعافري : ليس في الباب حديث صحيح ، على روايتين . انتهى .
ولا فرق في وجوب الجزاء بقتل الصيد بين العمد والخطأ ، على المنصوص المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين ، لأنه ضمان إتلاف ، فاستوى عمده وخطؤه ، كغيره من المتلفات .
1795 وأيضاً قول جابر رضي اللَّه عنه : جعل رسول اللَّه في الضبع يصيبه المحرم كبشاً . وفي رواية عن النبي قال : ( في الضبع إذا أصابه المحرم كبش ) فعلق الوجوب على إصابة المحرم ، وكذلك حكم الصحابة على ما سيأتي يدل على ذلك . ( والثانية ) يختص الضمان بالعمد ، لظاهر قوله سبحانه : 19 ( { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } ) ودليل خطابه أن غير المعتمد لا جزاء عليه ، وأجيب بأن الآية نزلت في المتعمد بدليل 19 ( { ليذوق وبال أمره عفا اللَّه عما سلف ومن عاد فينتقم اللَّه منه } ) وما نزل على سبب لا مفهوم له اتفافاً ، انتهى .
والجزاء هو فداء الصيد بنظيره من النعم إن كان المقتول دابة ، لقوله سبحانه 19 ( { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } ) وهذا على قراءة من نون ( جزاء ) ورفع ( مثل ) واضح ، إذ التقدير : فعليه جزاء مثل الذي قتل من النعم . أي صفته مثل ما قتل ، ف ( مثل ) هي نعت للجزاء وأما على قراءة من لم ينون ( جزاء ) وخفض ( مثل ) بإضافته إليه فقد يقال : ظاهره وجوب القيمة إذ ينجلي إلى فجزاء من مثل المقتول من النعم ، أي من مثل جنس المقتول من النعم ، والواجب [ في المقتول من النعم القيمة ، فكذلك في الصيد ، وهذا أولاً ممنوع ، لأن الحيوان قد يجب فيه مثله ، بدليل وجوب المثل في الضبع ونحوه ، وقد ثبت ذلك بالسنة ثم لو سلم ثم لا نسلمه هنا ، إذ ثمة الحق لآدمي ، والواجب ] المثلية في جميع الصفات ، أو في المقصود منها ، ويتعذر غالباً وجود ذلك ، فلذلك عدل إلى القيمة ، وهنا الحق للرب سبحانه وتعالى ، والواجب المثل تقريباً ، وقد وكله سبحانه إلى اجتهاد ذوي عدل منا ، وتعين هذا القراءة الأخرى ، إذ الأصل توافق القراءتين .
ثم إن المبين لكتاب ربه ، وكذلك أصحابه نجوم الهدى ، الذين خوطبوا بالحكم إنما حكموا بالمثل لا بالقيمة .
1795 م فعن جابر رضي اللَّه عنه قال : جعل رسول اللَّه في الضبع يصيبه المحرم كبشاً ، وجعله من الصيد . رواه أبو داود وابن ماجه .
1796 وعنه أيضاً عن النبي قال : ( في الضبع إذا أصابه المحرم كبش ، وفي الظبي شاة ، وفي الأرنب عناق ، وفي اليربوع جفرة ) قال : والجفرة التي قد ارتعت . رواه الدارقطني .
1797 وعن محمد بن سيرين أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال : إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية ، فأصبنا ظبياً ونحن محرمان ، فماذا ترى ؟ فقال عمر رضي اللَّه عنه لرجل إلى جنبه : تعالَ حتى نحكم أنا وأنت . قال : فحكما عليه بعنز ، فولى الرجل وهو يقول : هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي ، حتى دعا رجلاً فحكم معه . فسمع عمر قول الرجل ، فدعا فسأله : هل تقرأ سورة المائدة ؟ فقال : لا . فقال : هل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي ؟ فقال : لا . فقال : لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضرباً ، ثم قال : إن اللَّه عز وجل يقول في كتابه : { يحكم به ذوا عدل منكم ، هدياً بالغ الكعبة } وهذا عبد الرحمن بن عوف . رواه مالك في الوطأ .
1798 وعن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، ومعاوية ، رضي اللَّه عنهم ، في النعامة بدنة .
1799 وعن عمر رضي اللَّه عنه أنه حكم في حمار الوحش ببقرة .
1800 وعن ابن عباس ، وأبي عبيدة رضي اللَّه عنهما ، أنهما حكما فيه ببدنة ، لا يقال : الحكم بذلك لأنه وافق القيمة ، لأنا نقول : الرسول قد حكم حكماً عاماً ، وكذلك الصحابة ، وعمر وعبد الرحمن رضي اللَّه عنهم لم يحضرا الظبي ، ولا سألا عن صفته ، ووجوب القيمة متوقف على ذلك ، أما وجوب النظير في الصورة تقريباً فلا يتوقف على ذلك . انتهى .
والمرجع في النظير إلى ما حكم به النبي أو أصحابه ، فإن لم يكن فقول عدلين من أهل الخبرة وإن كانا قتلاً ، وبيان تفاصيل ذلك له موضع آخر .
وقول الخرقي : إن كان المقتول دابة . يحترز عما إذا كان طائراً كما سيأتي ، فأطلق الدابة على ما في البر من الحيوان ، وهو عزيز إذ الدابة في الأصل لكل ما دب ، ثم في العرف للخيل والبغال والحمير ، وكأنه رحمه اللَّه نظر إلى قوله سبحانه : 19 ( { وما من دابة في الأرض ، ولا طائر يطير بجناحيه } ) الآية واللَّه أعلم .
قال : وإن كان طائراً فداه بقيمته في موضعه ، إلا أن تكون نعامة ، فيكون فيها بدنة ، أو حمامة وما أشبهها ، فيكون في كل واحد منها شاة .
ش : هذا قسيم : إن كان المقتول دابة . وملخصه أن الطيور على أربعة أقسام ( أحدها ) النعامة ، وسماها طيراً لأن لها جناحين ، وفيها بدنة بلا ريب ، لقضاء الصحابة بذلك ، ولشبهها لها في الصورة ( الثاني ) الحمام ، فيجب فيه شاة .
1801 لأن عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وابن عباس ، رضي اللَّه عنهم حكموا بذلك ، ويلحق به ما أشبهه مما يعب الماء ، أي يكرعه كرعاً ككرع الشاة ، ولا يأخذه قطرة قطرة كالعصفور ونحوه ، فيجب فيه شاة ، لشبهه لها في كرع الماء ( الثالث ) ما كان أصغر [ من الحمام ] ولم يشبهها ، فتجب قيمته ، لتعذر مثله من النعم ، ( الرابع ) ما كان أكبر من الحمام كالحبارى ، والكركي ونحوهما ، ففيه وجهان ( أحدهما ) وهو اختيار ابن أبي موسى يجب شاة ، إذ وجوبها في الحمام تنبيه على وجوبها هنا .
1802 مع أن ذلك يروى عن ابن عباس وجابر رضي اللَّه عنهم ( والثاني ) وهو ظاهر كلام أبي البركات تجب القيمة ، إذ المعروف عن الصحابة القضاء في الحمام ، وإذاً لم يتحقق لهذا مثل ، فيرجع إلى قيمته كالعصافير .
وقول الخرقي : فداه بقيمته في موضعه . أي بقيمة الطائر في الموضع الذي أتلفه فيه ، كغيره في المتلفات ، واللَّه أعلم .
قال : وهو مخير إن شاء فداه بالنظير ، أو قوّم النظير بدراهم ، ونظر كم يجيء به طعاماً ، فأطعم كل مسكين مداً ، أو صام عن كل مد يوماً ، موسراً كان أو معسراً .
ش : يخير قاتل الصيد الذي له نظير بين التكفير بواحد من هذه الثلاثة المذكورة ، موسراً كان أو معسراً ، على المختار للأصحاب ، والمنصوص من الروايتين ، للآية الكريمة ، إذ أصل ( أو ) التخيير . قتل أحمد رحمه اللَّه : هو على ما في القرآن وكل شيء في القرآن ( أو ) فإنما هو على التخيير .
1803 وهذا اللفظ يروى عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أيضاً ، ولأنها فدية وجبت بفعل محظور ، فخير فيها كفدية الأذى . ( والثانية ) لا يخير ، بل الجزاء مرتب ، فيجب المثل ، فإن لمي يقدر عليه أطعم ، فإن لم يجد صام ، لأن النبي وأصحابه حكموا بالنظير ، وظاهر حكمهم تعينه ، وإلا لذكروا قسيميه ، وبالقياس على دم المتعة ، ( وجوابه ) بأن حكمهم بالنظير لتبيينه لا لتعيينه ، والقياس فاسد ، لمخالفته النص . انتهى .
والتخيير أو الترتيب بين الثلاثة على المذهب بلا ريب ، ( وعنه ) أن ذلك بين شيئين ، وأنه لا مدخل للإطعام في جزاء الصيد ، وإنما ذكر في الآية ليعدل به الصيام .
1804 ويحكى هذا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، ولا عمل عليه .
إذا تقرر هذا فمن أراد إخراج النظير لزمه ذبحه ، لأن اللَّه سماه هدياً ، والهدي يجب ذبحه ، والتصدق به على مساكين الحرم ، لأن اللَّه سبحانه قال : 19 ( { هدياً بالغ الكعبة } ) ولا يختص ذبحه بأيام النحر ، بل بالحرم ، ومن أراد التقويم فإنه على المشهور والصحيح من الروايتين يقوم المثل . ( والرواية الثانية ) يقوم الصيد ، وأيما قوم فإنه يشتري بالقيمة طعاماً ، ويطعمه المساكين ، على المذهب أيضاً من الروايتين ، والرواية الأخرى يجوز أن يتصدق بالقيمة ، حكاها ابن أبي موسى ، وإذا أطعم أطعم كل مسكين مد بر ، أو نصف صاع من غيره ، على المنصوص والمشهور كبقية الكفارات .
وظاهر كلام الخرقي الاجتزاء بمد مطلقاً ، وتبعه على ذلك أبو محمد في المقنع ، ولا يجزىء من الطعام إلا ما يجزىء في الفطرة قاله أبو محمد هنا ، وفي فدية الأذى ، لكنه فسر ذلك بالبر ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وقد يوهمم كلام أبي البركات الاقتصار على البر والشعير والتمر ، ولأبي محمد هنا احتمال أنه يجزىء ما يسمى طعاماً ، نظراً لإطلاق الآية .
( تنبيه ) : يعتبر قيمة المثل في الحرم ، لأنه محل ذبحه ، ومن أراد الصيام فالذي قال الخرقي [ / قه ] وتبعه أبو محمد في كتابه الصغير أنه يصوم من كل مد يوماً ، وحكى ذلك في المغني رواية وحكى رواية أخرى أنه يصوم عن كل نصف صاع يوماً ، ثم حكى هو وصاحب التلخيص عن القاضي أنه حمل رواية المد على الحنطة ، ورواية نصف الصاع على التمر والشعير ، إذ الصيام مقابل بإطعام لمسكين في كفارة الظهار وغيرها ، فكذلك هنا ، والذي رأيته في روايتي القاضي أن حنبلاً وابن منصور نقلاً عنه أن يصوم عن كل نصف صاع يوماً ، وأن الأثرم نقل في فدية الأذى عن كل مد يوماً وعن كل نصف صاع تمر أو شعير يوماً ، [ قال : وهو اختيار الخرقي ، وأبي بكر ، قال : ويمكن أن يحمل قوله : عن كل نصف صاع يوماً . على أن نصف الصاع من التمر والشعير لا من البر ] ، انتهى . وعلى هذا فإحدى الروايتين مطلقة ، والآخرى مقيدة ، لا أن الروايتين مطلقتان ، وإذاً يسهل الحمل ، وكذلك قطع به أبو البركات وغيره ، إلا أن عزو ذلك إلى الخرقي فيه نظر .
وما لا نظير له من الصيد يخير قاتله على المذهب بين أن يشتري بقيمته طعاماً فيطعمه المساكين ، وبين أن يصوم ، واللَّه أعلم .
قال : وكلما قتل صيداً حكم عليه .
ش : يجب الجزاء بقتل الصيد الثاني والثالث ، كما يجب بالأول ، ولا يتداخل ، على المختار ، والمشهور من الروايات لأنه بدل متلف ، يجب فيه المثل أو القيمة ، فلم يتداخل ، كبدل مال الآدمي ، قال أحمد : روي عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ فيمن قتل ، ولم يسألوه هل كان قتل قبل هذا أو لا ( والثانية ) : إن كفر عن الأول فللثاني كفارة ، وإلا يتداخلا ، لأنها كفارة تجب لفعل محظور في الإحرام ، فتداخل جزاؤها قبل التكفير ، كاللبس ، والطيب ( ويجاب ) بأن هذا بدل متلف ، فلم يتداخل ، بخلاف ثم فإنه لمحض [ المخالفة فهو ] كالحدود . ( والثالثة ) لا يجب إلا جزاء الأول فقط ، تمسكاً بظاهر قوله تعالى : { ومن عاد فينتقم اللَّه منه } . [ ويجاب ] بأن الانتقام لأجل المخالفة ، وانتهاك محارم الرب سبحانه ، وذلك لا يمنع وجوب البدل ، ويرشح هذا أن قوله سبحانه 19 ( { وهو قتله منكم متعمداً } ) أي واللَّه أعلم قاصداً للفعل ، غير عالم بالتحريم ، وهذا هو الخاطىء ، ثم قوله بعد { ومن عاد } أي إلى القتل ، بعد أن علم النهي ، فإن اللَّه تعالى ينتقم منه لمخالفته ، والجزاء على ما تقدم ، واللَّه أعلم .
قال : ولو اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد .
ش : هذا المختار من الروايات ، اختاره ابن أبي موسى وابن حامد ، والقاضي ، وأبو الخطاب ، وأبو محمد وغيرهم ، لظاهر قوله سبحانه : { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } أي : فالواجب مثل [ ما قتل ] من النعم . أو : فعلى القاتل مثله . وهذا يشمل الواحد والجماعة ، ويمنع من إيجاب زائد على ذلك ، ولأنه بدل متلف ، فلم يجب فيه إلا جزاء واحد ، كبدل مال الآدمي ، ( والثانية ) على كل واحد جزاء ، اختاره أبو بكر ، نظراً لوجود المخالفة من كل واحد منهم ، وزجراً له عن فعله ، ( والثالثة ) إن كفروا بالمال فكالأول ، لأنه إذاً تمحضت بدليته ، وإن كفروا بالصيام فعل كل واحد كفارة ، لأنها إذاً تتمحض كفارة ، وهي كفارة قتل ، فأشبهت قتل الآدمي على المذهب .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) هذه المسألة فيما إذا [ كان ] كل منهم صالحاً لترتب الجزاء عليه ، كما لو كانوا محرمين ، أما لو لم يكن كذلك كما إذا كان أحدهم حلالاً فإنه لا شيء عليه ، ثم إن سبق الحلال بالجرح فعلى المحرم جزاؤه مجروحاً ، وإن سبق المحرم ضمن أرش الجرح فقط ، وإن وجدت الجراحات معاً فهل على المحرم بقسطه كما لو كان المشارك له مثله ، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه ، أو يكمل الجزاء عليه ، لتعذر إيجاب الجزاء على شريكه ؟ فيه وجهان ، هذا تفصيل أبي محمد ، وفيه بحث .
( والثاني ) : قال القاضي و أبو الخطاب : إن المنصوص في الصوم أن على كل واحد كفارة ، وأن ابن حامد قال بالاشتراك ، كما لو كان التكفير بغيره ، واللَّه أعلم .
قال : وم لم يقف بعرفة حتى يطلع الفجر من يوم النحر تحلل بعمرة .
ش : من فاته الوقوف بعرفة فهل يجب عليه أن يمضي في حج فاسد ويقضي ، لأنه بالإحرام لزمه إتمامه ، وتعذر الإتيان بالبعض لا يمنع الإتيان بما بقي ، أولا يجب عليه ، بل يتحلل منه لقضاء الصحابة رضي اللَّه عنهم بذلك .
1805 فعن سليمان بن يسار أن أبا أيوب الأنصاري رضي اللَّه عنه خرج حاجاً ، حتى إذا كان بالنازية من طريق مكة أضل رواحله ، وإنه قدم على عمر رضي اللَّه عنه يوم النحر ، فذكر ذلك له ، فقال عمر رضي اللَّه عنه : اصنع ما يصنع المعتمر ، ثم قد حللت ، فإذا أدركك الحج قابلاً فاحجج ، واهد ما استيسر من الهدي .
1806 وعنه أيضاً قال : إن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ينحر هديه ، فقال : يا أمير المؤمنين أخطأنا العدة ، كنا نرى أن هذا اليوم يوم عرفة . فقال عمر رضي اللَّه عنه : اذهب إلى مكة وطف أنت ومن معك ، وانحروا هدياً إن كان معكم ، ثم احلقوا أو قصروا ، وارجعوا ، فإذا كان عاماً قابلاً فحجوا وأهدوا ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع . رواهما مالك في الموطأ .
1807 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنه نحو ذلك .
1808 وعن عطاء أن النبي قال : ( من لم يدرك الحج فعليه الهدي ، وحج من قابل ، وليجعلها عمرة ) رواه ابن أبي شيبة وغيره ، لكنه مرسل ، قيل : وضعيف ؟ على روايتين المذهب منهما بلا ريب الثاني ، وعليه : المذهب أيضاً المنصوص أنه يتحلل بعمرة ، اختاره الخرقي ، وأبو بكر ، والقاضي وأصحابه ، والشيخان ، فيطوف ويسعى ، ويحلق أو يقصر ، ثم قد حل ، وهذا ظاهر ما تقدم عن عمر وابنه رضي اللَّه عنهما .
1809 ويروى أيضاً عن ابن عباس ، وابن الزبير رضي اللَّه عنهما .
( وعن أحمد رواية أخرى ) حكاها أبو الحسين ، وأبو الخطاب ، وهو قول ابن حامد : إحرامه بحاله ، ويتحلل منه بطواف وسعي ، إذ هذا مقتضى الإحرام المطلق ، فعلى الأولى صرح أبو الخطاب ، وصاحب التلخيص وغيرهما أن إحرامه ينقلب بمجرد الفوات إلى عمرة ، ولفظ أبي محمد في المغني : يجعل إحرامه بعمرة ، ولا فرق بين الفوات لعذر من مرض ، أو ضياع نفقة ، أو غلط عدد ونحو ذلك أو لغير عذر من توان ، أو نوم ، أو تتشاغل بما لا يغني ، إلا في المأثم ، قال ذلك صاحب التلخيص وغيره .
وقد استفيد من كلام الخرقي أن آخر وقت الوقوف آخر ليلة النحر ، ولا نزاع في ذلك ، وحديث عروة بن مضرس وقد تقدم يدل على ذلك ، وكذلك حديث عبد الرحمن بن يعمر ( الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك ) .
واختلف في أول الوقت ، فالمذهب عندنا أنه من طلوع الفجر يوم عرفة ، لحديث عروة بن مضرس ( وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه ) الحديث ، واختار أبو عبد اللَّه بن بطة ، وأبو حفص العكبريان بأن أوله زوال الشمس ، لأن النبي وقف حينئذ .
قال : وذبح إن كان معه هدي .
ش : يعني إذا فاته الحج ، وتحلل بعمرة ، فإن كان معه هدي ساقه فإنه يذبحه ، كما لو أحرم بعمرة ابتداء ، وساق هدياً ، قال ابن أبي موسى وصاحب التلخيص : ولا يجزئه عن دم الفوات . وأطلقا ، وقال أبو محمد في المغني : لا يجزئه إن قلنا بوجوب القضاء ، والذي يظهر النظر في هذا الهدي ، فإن كان واجباً فإنه ليس له صرف هذا الوجوب إلى وجوب آخر ، وذبحه عن دم الفوات ، وإن قلنا : لا قضاء عليه وإن كان تطوعاً ، فهذا باق على ملكه ، فله أن يذبحه عن الفوات إن قيل بعدم القضاء ، واللَّه أعلم .
قال : وحج من قابل وأتى بدم .
ش : يعني يلزم من فاته الحج القضاء على الفور ، والهدي ، وهذا إحدى الروايات ، وأصحها عند الأصحاب ، لما تقدم من قضاء الصحابة رضي اللَّه عنهم ، ومن حديث عطاء ( والثانية ) نقلها الميموني : يلزمه القضاء ، ولا يلزمه الهدي ، وإلا لزم المحصر هديان ، هدي للإحصار ، وهدي للفوات ، ولا يلزمه إلا هدي واحد ، ( والثالثة ) نقلها أبو طالب : يلزمه الهدي لما تقدم ، ولا يلزمه القضاء حذاراً من وجوب الحج على إنسان مرتين ، والنص قد شهد بمرة ، فعلى هذا يذبح الهدي في عامه ، وعلى الأول يذبحه في حجة القضاء .
ومحل الخلاف في القضاء فيما إذا كان الذي فاته تطوعاً ، أما إن كان واجباً بأصل الشرع أو بغيره ، فإنه يفعله ولا بد بالوجوب السابق .
( تنبيه ) : قال أبو محمد : إذا اختار من فاته الحج البقاء على إحرامه ليحج من قابل فله ذلك ، لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه كالعمرة ، قال : ويحتمل أنه ليس له ذلك ، لظاهر قول الصحابة رضي اللَّه عنهم ، ولأن إحرام الحج يصير في غير أشهره . انتهى ، وهذا ظاهر في أن الإحرام لا ينقلب بمجرد الفوات بعمرة ، وقد صرح أبو الخطاب بأن فائدة الخلاف أنه إذا قيل بالانقلاب له أن يدخل عليه الحج ، وإذا قيل بعدم الانقلاب [ كما يقوله ابن حامد ] لا يدخل عليه الحج ، واللَّه أعلم .
قال : وإن كان عبداً لم يكن له أن يبح .
ش : العبد لا يلزمه هدي ، لأنه في حكم المعسر ، إذ لا مال له ، بل هو أسوأ حالاً منه ، لأنه لا يملك ، ولو ملك على ما عليه الفتيا ، ولهذا قال الخرقي : إنه ليس له الذبح مطلقاً ، بناء على قاعدته ، من أنه لا يملك ، والتكفير إنما يكون بما يملكه ، إذ ذلك محنة ، ولا محنة بما لا يملك ، أما على الرواية الأخرى التي نقول فيها : إنه يملك ، فمتى ملكه سيده مالاً ، وأذن له في التكفير فله ذلك ، لوجود المقتضي وانتفاء المانع ، هذا هو الجادة عند القاضي ومن بعده ، وذهب كثير من متقدمي الأصحاب أن له التكفير بإذن سيده وإن لم نقل بملكه ، بناء على أحد القولين من أن الكفارة لا يلزم أن تدخل في ملك المكفر عنه ، أو أنه يثبت له ملك خاص [ بقدر ما يكفر ] كما نقوله في التسري ، على ما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى .
وحيث جاز له التكفير . بإذن السيد فهل يلزمه ذلك ؟ قال القاضي ، وابن عقيل وتبعه أبو محمد هنا باللزوم ، لأنه واجب ، فيدخل تحت قوله تعالى : { فما استيسر من الهدي } لا تحت قوله تعالى : { فمن لم يجد } وقال أبو محمد في الكفارات على كلتي الروايتين : لا يلزمه التكفير ، وإن أذن له سيده ، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى الكلام على ذلك بما هو أبسط من هذا .
( تنبيه ) : الحكم في كل دم لزم العبد في الإحرام حكم ما تقدم ، واللَّه أعلم .
قال : وكان عليه أن يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوماً .
ش : إذا انتفى الهدي في حق العبد انتفى الإطعام أيضاً ، إذ المعنى فيهما واحد ، وإذاً يتعين في حقه الصوم ، ويصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوماً ، جرياً على قاعدة الخرقي من أن اليوم يقابل المد ، وقد تقدم أن المذهب أنه يقابل المد من البر ، أما من غيره فنصف الصاع ، وقال أبو محمد : الأولى أن يكون الواجب هنا من الصوم عشرة أيام كصوم المتعة ، اقتداء بقول عمر رضي اللَّه عنه المتقدم لهبار ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يقصر ويحل .
ش : هذا تنبيه على أن العبد لا يحلق ، لا هنا ولا في موضع آخر ، لأن الشعر ملك للسيد ، ويزيد في قيمته ، ولم يتعين زواله ، فلم يكن له ذلك كغير حال الإحرام ، نعم إن أذن له سيده جاز ، إذ الحق له ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا أحرمت المرأة بواجب لم يكن لزوجها منعها .
ش : إذا أحرمت المرأة بحج أو عمرة فلا يخلو إما أن يكون بإذن زوجها أو بغير إذنه .
فإن كان بإذنه لم يملك تحليلها بلا ريب ، وإن كان ما أذن فيه تطوعاً ، لأنه قد أسقط حقه فيما يلزمها المضي فيه ، وهذه الصورة ترد على عموم مفهوم [ كلام ] الخرقي ، إذ مفهومه أن له منعها في التطوع مطلقاً .
وإن كان إحرامها بغير إذنه فلا يخلو إما إن يكون بواجب أو بتطوع .
فإن كان بواجب فلا يخلو إما أن يكون وجوبه بأصل الشرع ، أو بإيجابها على نفسها .
فإن كان بأصل الشرع لم يملك منعها على المذهب ، كما لو صلت الفريضة في أول وقتها ونحو ذلك . قال في التلخيص : وقيل في ذلك روايتان ، [ ولا فرق ] بين أن تكمل شروط الحج في حقها أولاً ، كما إذا لم تجد الاستطاعة أو المحرم ، على ظاهر إطلاق الأصحاب ، وصرح به أبو محمد في شرط الاستطاعة وله فيه احتمال . أن له منعها .
وإن كان بإيجابها على نفسها فروايتان ، ذكرهما القاضي ، وصاحب التلخيص ، والمنصوص منهما أنه ليس له ذلك ، قال في رواية ابن إبراهيم في المرأة تحلف بالحج والصوم ، ويريد زوجها منعها ، فقال : ليس في ذلك ، قد ابتليت ، وابتلي زوجها . قال القاضي : حلفت : أي نذرت . ( الثانية ) خرجها القاضي من إحدى الروايتين في أن للسيد تحليل عبده ، والفرق أن النذر من جهتها ، أشبه التطوع .
والمذهب الأول ، وبه قطع الشيخان ، إذ بعد الإيجاب تحتم عليها الفعل ، فهو كالواجب الأصلي . ولهذا المعنى قال القاضي : لا يمتنع أن نقول : إذا نذرت أن تحج متى شاءت : أن له تحليلها . انتهى .
وإن كان الإحرام بتطوع فروايتان : ( إحداهما ) : وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار ابن حامد وأبي محمد له منعها ، حذاراً من أن تتسبب في إسقاط واجب عليها ، وهو حق الزوج ، [ بما ليس بواجب ] ، لا يقال : بعد الإحرام قد صار واجباً ، فلا فرق ، لأنا نقول : وجوب حق الزوج مقدم ، فاقتضى تقديمه . ( والثانية ) وهي أصرحهما ليس له منعها ، اختارها أبو بكر في الخلاف ، والقاضي ، وقال : تأملت كلام أحمد فوجدت أكثره يدل على ذلك ، لأنها عبادة تلزم بالدخول فيها ، فإذا عقدها بغير إذن سيده لم يملك فسخها أصله الإيمان ولعموم ( ولا تبطلوا أعمالكم )9 ( { وأتموا الحج والعمر للَّه } ) انتهى . ولا نزاع عندهم فيما علمت أن إحرامها ينعقد بدون إذنه ، لأن الحج عبادة محضة أشبه الصلاة والصوم .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) معنى منعها أنه يأمرها بالتحلل ، فتصير كالمحصر على ما تقدم ، فإن أبت أن تتحلل فله مباشرتها والإثم عليها ، قاله صاحب التلخيص .
( الثاني ) : إذا لم تحرم فله منعها من حج التطوع بلا نزاع ، وكذلك من حج الفرض إذا لم تكمل الشروط ، قاله أبو محمد [ ومع استكمالها ليس له منعها من الواحب بأصل الشرع . وفي المنذور روايتان ] وهذا أيضاً وارد على عموم مفهوم كلام الخرقي ، إذ مفهومه أنها إذا لم تحرم فله منعها مطلقاً ، واللَّه أعلم .
قال : ومن ساق هدياً واجباً فعطب دون محله صنع به ما شاء .
ش : سوق الهدي يقع على ضربين : واجب وتطوع ، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، والواجب على ضربين أيضاً : ( أحدهما ) : واجب عيّنه عما في ذمته ، من هدي متعة ، أو قران ، أو نذر ، أو غير ذلك ، وهذا مراد الخرقي ، فهذا إذا عطب دون ملحه الذي هو الحرم فهل له استرجاعه ، فيصنع به ما شاء ، من أكل وبيع ونحو ذلك ، أم لا ؟ فيه روايتان : ( إحداهما ) وهو اختيار الخرقي ، وابن أبي موسى : له ذلك ، لأنه إنما أوجبه عما في ذمته ، ولم يقع عنه ، فيكون له العود فيه ، كمن أخرج زكاة ماله الغائب ، فبان أنه كان تالفاً .
1810 وقد روى سعيد : حدثنا سفيان ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : إذا أهديت هدياً تطوعاً فعطب فانحره ، ثم اغمس النعل في دمه ، ثم اضرب بها صفحته ، فإن أكلت أو أمرت به غرمت ، وإذا أهديت هدياً واجباً فعطب فانحره ، ثم كله إن شئت ، وأهده إن شئت ، وبعه إن شئت ، وتقوّ به في هدي آخر . ( والثانية ) : ليس له ذلك ، لأن حق الفقراء قد تعلق به ، أشبه ما لو عينه ابتداء بنذره .
( الثاني ) : من ضربي الواجب عيّنه ابتداء لا عما في ذمته ، كأن قال : هذا للَّه . ونحو ذلك ، فهذا إذا عطب لا يرجع فيه بلا ريب ، لأنه قد صار للَّه تعالى ، أشبه الدراهم ونحوها .
1811 ولدخوله تحت قول النبي لعمر رضي اللَّه عنه ( لا تعد في صدقتك ) الحديث ، ويصنع به ما يصنع بهدي التطوع على ما سيأتي .
( تنبيه ) : تعيين الهدي لا يحصل إلا بالقول ، بأن يقول : هذا هدي ، أو نحو ذلك ، من ألفاظ النذر ، على المذهب المعروف المشهور ، ولأبي الخطاب احتمال بالاكتفاء بالنية ، وتوسط أبو محمد فضم مع النية التقليد أو الإشعار ، وحكاه مذهباً ، ولا يتابع على ذلك ، وقد يشهد لقوله صحة الوقف بالفعل ، كما إذا بنى بيته مسجداً ، أو جعل أرضه مقبرة ونحو ذلك ، لكن ثم لا بد من قوله وهو أن يأذن للناس في الصلاة في المسجد ، أو الدفن في المقبرة ، واللَّه أعلم .
قال : وعليه مكانه .
ش : إذا عين واجباً عما في ذمته ، فعطب دون محله ، فإن عليه مكانه ، إذ ما في ذمته لا يبرأ منه إلا بإيصاله إلى مستحقه ، أشبه ما إذا أخرج الدراهم ليدفعها عن دينه ، فتلفت قبل الأداء .
1812 وقد روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي قال : ( من أهدى تطوعاً ثم ضلت فليس عليه البدل إلا أن يشاء ، وإن كانت نذراً فعليه البدل ) وفي رواية ( ثم عطبت ) رواه الدارقطني لكنه ضعيف وقد رواه مالك في الموطأ من قول ابن عمر رضي اللَّه عنهما نفسه .
وقد يقال : مفهوم كلام الخرقي أن ما عطب في محله لا يرجع فيه ، أو ليس عليه بدله ، وليس كذلك ، فلا فرق بين أن يعطب في محله أو دونه ، في أنه إن كان عن واجب في الذمة فلا بد من نحره صحيحاً ، وإن كان معيناً ابتداء نحره مطلقاً ، واللَّه أعلم .
قال : وإن كان ساقه تطوعاً فعطب دون محله ] نحره موضعه ، وخلى بينه وبين المساكين ، ولم يأكل منه ، ولا أحد من أهل رفقته .
ش : إذا ساق هدياً يقصد به التقرب إلى اللَّه سبحانه ، لا عن واجب في ذمته ، أو عن واجب لم يعينه عنه كما تقدم ، فإنه إذا عطب دون محله فإنه ينحره في موضعه ، ويخلي بينه وبين [ المساكين ] ولا يأكل منه ، ولا أحد من رفقته .
1813 لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن ذؤيباً أبا قبيصة حدثه أن رسول اللَّه كان يبعث معه بالبدن ، ثم يقول : ( إن عطب منها شيء ، فخشيت عليها موتاً ، فانحرها ، ثم اغمس نعلها في دمها ، ثم اضرب بها صفحتها ، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك ) رواه مسلم وغيره .
1814 وبهذا يتقيد حديث ناجية الخزاعي قال قلت : يا رسول اللَّه كيف أصنع بما عطب من الهدي ، قال : ( انحرها ، ثم اغمس نعلها في دمها ، ثم خل بينها وبين الناس فيأكلونها ) رواه الترمذي وأبو داود . والمعنى واللَّه أعلم في منع رفقته ونفسه من الأكل ليبالغ في حفظها ، لأنه إذا علم أنها إذا عطبت لا يحصل له منها نفع البتة بالغ في حفظها . وحكم الواجب المعين حكم التطوع ، إلا أن بينهما فرقاً ، وهو أن الواجب المعين لا بد من نحره مع عطبه ، فلا طريق له في رجوعه إلى ملكه ، وفي التطوع وما نواه عن الواجب ولم يعينه ، له أن يفسخ نيته فيه ، فيرجع إلى ملكه ، يصنع به ما يشاء ، واللَّه أعلم .
قال : ولا بدل عليه .
ش : إذا لم يلتزم شيئاً في ذمته لم يلزمه بدله ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يأكل من كل واجب إلا من هدي التمتع .
ش : [ وكذلك القران ] وكأن الخرقي رحمه اللَّه استغنى بذكر التمتع عن القران لأنه نوع تمتع ، لترفهه بأحد السفرين ، وبالجملة لا نزاع في المذهب فيما علمت أنه لا يأكل من جزاء الصيد ، لتمحض بدليته ، ولا من المنذور لتعيينه للَّه ، نعم أجاز أبو بكر ومال إليه أبو محمد الأكل من أضحية النذر ، ولا نزاع أنه يأكل من هدي المتعة ، وكذلك القران على المذهب ، وقد تقدم أن عائشة رضي اللَّه عنها كانت قارنة ، وبقية نسائه كن متمتعات .
1815 لأن في حديث عائشة الطويل قالت : فأمرني رسول اللَّه فأفضت ، قالت : فأتينا بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : أهدى النبي عن نسائه بالبقر .
1816 وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن . رواه أبو داود .
وقد يقال : إن ظاهر كلام الخرقي أنه لا يأكل [ منه ، وهل يأكل ] مما عدا ذلك ، نظراً للإباحة الأصلية ، ولا نص مانع ، أو لا يأكل ، وهو الأشهر ، لأنه وجب بفعل محظور ، أشبه جزاء الصيد ؟ فيه روايتان ، وألحق ابن أبي موسى الكفارة بجزاء الصيد والنذر ، وجوّز الأكل مما عدا ذلك ، ويتركب من مجموع الأقوال ما عدا جزاء الصيد والنذر ، وهدي المتعة أربعة أقوال ، الجواز ، وعدمه ، والجواز إلا في دم الكفارة ، وعدمه إلا في دم القران .
( تنبيه ) : مفهوم كلام الخرقي أنه يأكل من التطوع ، وهو كذلك ، بل يستحب ، قال سبحانه : 19 ( { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } ) وفي حديث جابر رضي اللَّه عنه المتقدم : ثم أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر فطبخت ، فأكلا من لحمها ، وشربا من مرقها . وهدي التطوع ما ساقه تطوعاً ، وكذلك ما أوجبه ابتداء ، قاله أبو محمد .
قال : وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم ، إن قدر على إيصاله إليهم ، إلا من أصابه أذى من رأسه فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه .
ش : جميع الهدايا ما عدى جزاء الصيد ، ودم الإحصار ، وما وجب بفعل محظور محلها الحرم ، لقوله سبحانه : 19 ( { ثم محلها إلى البيت العتيق } ) وكذلك جزاء الصيد ، على المذهب بلا ريب ، لقوله سبحانه : 19 ( { هدياً بالغ الكعبة } ) ( وعنه ) يفدي حيث القتل كبقية المحظورات ، وعلى المذهب إن اضطر إليه فهل يأتي بالجزاء موضع اضطراره أو يختص بالحرم ؟ فيه وجهان .
وأما دم الإحصار ففيه روايتان أيضاً وقد تقدمتا ، والمذهب منهما عكس المذهب في الصيد .
وأما ما وجب بفعل محظور كفدية حلق الرأس ، واللبس ، ونحوهما فعنه يختص بالحرم ، لظاهر { ثم محلها إلى البيت العتيق } وعنه : ينحر حيث فعل .
1817 لما تقدم من حديث كعب رضي اللَّه عنه ، فإن النبي أمره بالفدية وهو بالحديبية ، ولم يأمره ببعثها إلى الحرم . وفي رواية أنه قال : فحلقت رأسي ثم نسكت . وقال القاضي ، و ابن عقيل ، و أبو البركات : ما فعله لعذر ينحر هديه [ حيث استباح ] ، وما فعله لغير عذر اختص بالحرم .
والخرقي رحمه اللَّه إنما نص على الحلق مع العذر فقط ، فيحتمل أن يختص الجواز به ، دون غيره من المحظورات ، لأن النص ورد به ، فيخرج من عموم ( ثم محلها ) ويبقى فيما عداه على قضية العموم ، والقاضي ومن وافقه يقيسون على الصورة ما في معناها ، وهو أوجه ، إذ المذهب تخصيص العموم بالقياس ، [ والطعام تبع للنحر ففي أي موضع قبل النحر فالطعام كذلك ] .
( تنبيهات ) : ( أحدها ) : إنما يجب النحر في الحرم إذا قدر على إيصال الهدي إليه ، إما بنفسه ، أو بمن يرسله معه ، فإن عجز مطلقاً نحر حيث كان ، كما دل عليه كلام الخرقي ، لأنه فعل ما استطاع ، فلا يكلف زيادة عليه ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق ، وخرج ابن عقيل رواية وصححها فيمن حصر عن الخروج لذبح الهدي المنذور ، أنه يذبحه في موضع حصره ، ولا يلزمه تنفيذه ، كدم الإحصار على المذهب . ( الثاني ) : حيث قيل : النحر في الحرم ، فإنه لا يجوز في الحل ، لكنه لا يختص بمحل من الحرم ، بل في أي موضع نحر من الحرم أجزأه ، وحيث قيل : النحر في الحل فذلك على سبيل الجواز ، على مقتضى كلام الشيخين ، وظاهر كلام الخرقي ، وصاحب التلخيص وطائفة الوجوب ، ويحتمله كلام أحمد : وما كان من فدية حلق الرأس فحيث حلقه . ( الثالث ) : مساكين الحرم من كان فيه ، من أهله أو وارد إليه ، من الحاج وغيرهم ، وهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم ، واللَّه أعلم .
قال : وأما الصيام فيجزئه بكل مكان .
ش : لا نزاع في ذلك .
1818 وعن ابن عباس : الهدي والطعام بمكة ، والصوم حيث شاء . والمعنى فيه واللَّه أعلم أن نفعه لا يتعدى إلى أحد ، فلم يتخصص بمكان ، بخلاف الهدي والإطعام ، واللَّه أعلم .
قال : ومن وجبت عليه بدنة فذبح سبعاً من الغنم أجزأه .
ش : تجزيء السبع من الغنم عند عدم البدنة بلا نزاع .
1819 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي أتاه رجل فقال : إن علي بدنة وأنا موسر لها ، ولا أجدها فأشتريها ؟ فأمره النبي أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن . رواه أحمد وابن ماجه .
وأما مع وجودها فقولان : ( أحدهما ) : واختاره ابن عقيل ، وزعم أنه ظاهر كلام أحمد : لا يجزئه لأنها بدل ، والبدل لا يجزىء مع وجود المبدل ، ولذلك جوزها الشارع عند العدم . ( والثاني ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد : يجزئه ، لأن الشاة معدولة بسبع بدنة .
1820 بدليل أن النبي أمر السبعة بالإشتراك في البدنة فالسبع شياه يعدلن البدنة شياه يعدلن البدنة ، وما أجزأ فيه أحد المثلين أجزأ فيه المثل الآخر ، والسؤال وقع عن حال العدم ، فأجاب بالجواز ، ولا مفهوم له اتفاقاً ، ولا نسلم أن أحدهما بدل عن الآخر .
وعكس هذا من وجب عليه سبع من الغنم تجزئه البدنة إن كان في غير جزاء الصيد ، لما تقدم من أنهما مثلان ، أما في جزاء الصيد فلا ، لأن معتمده التقويم ، واللَّه أعلم .
قال : وما لزم من الدماء فلا يجزيء فيه إلا الجذع من الضأن ، والثني من غيره ، واللَّه أعلم .
ش : لأنه دم مشروع إراقته ، فلا يجزيء فيه إلا ما يجزيء في الأضحية ، والجامع مشروعية الإراقة ، ودليل الأَصل يأتي إن شاء اللَّه تعالى ، وبيان الجذع من الضأن ، والثني من المعز قد تقدم في الزكاة ، والثني من البقر ما كمل سنتين ، ومن الإبل ما كمل خمساً ، واللَّه أعلم .
(
كتاب البيوع
)ش : البيوع جمع بيع ، مصدر : باع يبيع . بمعنى ملك ، وبمعنى اشترى ، وكذلك شرى يكون بالمعنيين ، وعن أبي عبيدة وغيره : أباع بمعنى باع ، وهو ( في اللغة ) قيل : أن يدفع عوضاً ويأخذ معوضاً منه . وقال أبو عبد اللَّه السامري : إنه الإيجاب والقبول إذا تناول علنين ، أو عيناً بثمن . ( وفي الشرع ) قال القاضي و ابن الزاغوني وغيرهما : إنه عبارة عن الإيجاب والقبول ، إذا تضمن عينين للتمليك ، وأبدل السامري : عينين . بمالين ، ليحترز عما ليس بمال ، فلا يطرد لدخول الربا ، وقد يدخل القرض على الثاني ، فلا ينعكس ، لخروج بيع المعاطاة ، على رواية مختارة ، وخروج المنافع كممر الدار ونحوه ، والبيع في الذمة وقال أبو محمد : مبادلة المال بالمال لغرض التمليك ، فدخلت المعاطاة ، وقد يدخل القرض ، إلا أنه وإن قصد فيه التملك لكن المقصود الأعظم فيه الإرفاق ، لكنه يدخل عليه الربا .
وحده بعض المتأخرين بأنه : تمليك عين مالية ، أو منفعة مباحة ، وعلى التأبيد ، بعوض مالي على التأبيد ، ويدخل عليه أيضاً القرض والربا ، وبالجملة الحدود قل ما يسلم منها ، انتهى .
واشتقاقه قال أبو محمد وكثير من الفقهاء : إنه مشتق من الباع ، لأن كل واحد منهما يمد باعه للأخذ . ورد ( من جهة الصناعة ) بأنه مصدر ، والمصدر على رأي البصريين منبع الاشتقاق ، فهو مشتق منه ، لا أنه مشتق ، فإن أجيب بالتزام مذهب الكوفيين بأن الأصل والاشتقاق للفعل رد بأنه الفعل الذي منه المصدر ، لا فعل مقدر آخر ، لأن الباع عينه واو ، إذ هو من : بوع . والبيع عينه ياء ، من : بيع . وشرط الاشتقاق موافقة الأصل والفرع في الحروف الأصول ، وقد يجاب عن هذا وعن كثير من اشتقاقات الفقهاء بأن هذا من الاشتقاق الأكبر ، الذي يلحظ فيه المعنى ، دون الموافقة في الحروف ، ولا ريب أن بين البيع والباع مناسبة ما كما تقدم ، على أن بعض البيانيين لم يشترط الموافقة على المعنى [ أيضاً ] فقال في قوله تعالى : 19 ( { إن لعملكم من القالين } ) : إنه من الاشتقاق الكبير ، المشبه للاشتقاق الصغير ، مع أن : قال . من القول ، ( والقالين ) من القلي وهو البغض فالحروف لم تتفق ، والمعنى لم يتحد .
( ومن جهة المعنى ) بالبيع في الذمة ونحوه ، لانتفاء مد الباع فيه .
وقيل : إنه مشتق من البيعة ، وفيه نظر ، إذ المصدر لا يشتق من المصدر ، ثم معنى البيع غير معنى المبايعة . انتهى .
وهو مما علم جوازه من دين اللَّه سبحانه بالضرورة ، وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على ذلك ، قال سبحانه : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ) وقال تعالى : 19 ( { وأحل اللَّه البيع } ) إن قيل : إن الألف واللام فيه للاستغراق أو للعهد ، بناء على أنه منقول شرعي ، أما إن قيل : إنه مجمل . فلا ، وأما السنة فما لا يحصى كثرة ، وسيأتي جملة منه إن شاء اللَّه ، وأما الإجماع فبنقل الأثبات ، ثم الحكمة تقتضيه ، إذ الإنسان قد يحتاج إلى ما في يد صاحبه من مأكول ، وملبوس ، وغير ذلك ، وليس كل أحد يسمح أن يبذل ماله مجاناً ، فاقتضت الحكمة جواز ذلك ، تحصيلاً للمصلحة من الطرفين .
واعلم أن ماهية البيع مركبة من ثلاثة أشياء ، عاقد ، ومعقود عليه ، ومعقود به ( أما العاقد ) فيشترط له أهلية التصرف ، وهو أن يكون بالغاً ، عاقلاً ، مأذوناً له ، مختاراً ، غير محجور عليه ، ( وأما المعقود به ) فهو كل ما دل على الرضا ، ولا يتعين : بعت واشتريت . على أشهر الروايتين ، وهل يتعين [ اللفظ ] فلا يصح بيع المعاطاة ، أو لا يتعين ، فيصح ، أو يتعين فيما له خطر دون المحقرات ؟ على ثلاثة أقوال ، وفصل الخطاب في ذلك أن قوله سبحانه : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } هل المعتبر حقيقة الرضى ، فلا بد من صريح القول ، أو ما يدل عليه ، فيكتفي بما يدل على ذلك ؟ فيه قولان للعلماء .
ثم رتبة الإيجاب التقدم ، ورتبة القبول التعاقب له ، فإن تقدم القبول الإيجاب بلفظ الطلب نحو : بعني . فروايتان منصوصتان ، وخرجهما أبو الخطاب وجماعة فيما إذا تقدم بلفظ لماضي ، نحو : ابتعت منك . وظاهر كلام أبي محمد في الكافي منع ذلك ، والجزم بالصحة ، أما الاستفهام نحو : أتبيعني ؟ فليس بقبول ، وإذاً لا مدخل له في التقسيم ، وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما داما في مجلس العقد ، ولم يتشاغلا بما يقطعه .
وأما المعقود [ عليه ] فيشترط له شروط ، ( أحدها ) كونه مما فيه منفعة مباحة لغير حاجة ( الثاني ) كونه مأذوناً للعاقد في بيعه ، بملك أو إذن ( الثالث ) كونه معلوماً للمتعاقدين برؤية حال العقد بلا ريب ، وكذلك على المذهب بصفة ضابطة لما يختلف به الثمن غالباً ، أو برؤية متقدمة بشرط عدم تغير المبيع غالباً ( الرابع ) كونه مقدوراً على تسليمه ، ثم مع ذلك لا بد من انتفاء مانعه ، وهو مقارنة نهي من الشارع ، وتحقيق ذلك يحتاج إلى بسط طويل ، لا يليق بهذا الكتاب واللَّه أعلم .
قال :
باب خيار المتبايعين
ش : الخيار اسم مصدر من : اختار يختار اختياراً . وهو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه ، واللَّه أعلم .
قال : والمتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما .
1821 ش : الأصل في ذلك ما روى عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما عن رسول اللَّه قال : ( إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا ، وكانا جميعاً ، أو يخير أحدهما الآخر ، فإن تبايعا على ذلك فقد وجب البيع ، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ، ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع ) متفق عليه .
1822 وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي قال : ( البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا ، إلا أن تكون صفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله ) رواه الخمسة إلا ابن ماجه ، وحسنه الترمذي ، وللدارقطني فيه ( حتى يتفراق من مكانهما ) وهذا نص في أن التفرق بالأبدان لا بالأقوال ، ويقرب منه حديث ابن عمر لقوله ( وإن تفرقا بعد أن تبايعا ) وحقيقة ذلك بعد صدور البيع ، ثم يعين ذلك فعل راويه المشافه لقائله .
1823 ففي مسلم عن نافع ، أن ابن عمر رضي اللَّه عنه كان إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله مشى هنية ثم رجع ، وراوي الحديث إذا فسره بما يقتضي ظاهره أكد ذلك الظاهر ، ومنع تأويله عند العامة ، [ ثم يرجح ذلك أن البائع اسم مشتق من البيع ، وحقيقته بعد البيع ] .
واعتراض المالكي بعمل أهل المدينة مردود بمخالفة سعيد بن المسيب ، والزهري ، وابن أبي ذئب ، ولقد بالغ ابن أبي ذئب في الإنكار على من خالف الحديث .
واعترض الحنفي بكونه خبر آحاد فيما تعم به البلوى مردود باستفاضة الحديث .
1824 فقد رواه الجماعة من حديث عبد اللَّه بن عمر ، وحكيم بن حزام ، وأبو داود والترمذي والنسائ من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص ، والترمذي ، وأبو داود من حديث أبي هريرة ، والنسائي من حديث سمرة بن جندب ، وأبو داود من حديث أبي برزة والترمذي من حديث جابر ، ثم قد عمل الصحابة عليه ، على أنا لا نسلم الأصل ، بل نقول بخبر الواحد والحال ما تقدم .
وقول الخرقي : والمتبايعان . يدخل فيه جميع أنواع البيع ، من التولية ، والمرابحة ، والشركة ، والمواضعة ، وكذلك ( الصلح ) بمعنى البيع ، كما إذا أقر له بدين أو بعين ، ثم صالحه عنه بعوض ، ( والإجارة ) لأنها بيع منافع ، وفي الكافي وجه بالمنع إذا كانت الإجارة على مدة تلي العقد ، ويدخل أيضاً الصرف ، والسلم ، لأنهما بيع حقيقة ، وعنه : لا خيار فيهما ، وخص القاضي في روايتيه الخلاف بالصرف ، وتردد في السلم هل يلحق بالصرف أو ببقية البياعات ؟ على احتمالين ، ويدخل أيضاً ( الهبة بعوض ) ، إذ المغلب إذاٍ حكم البيع على المشهور ، والإقالة ، والقسمة ، حيث قيل : إنهما بيع ، ويدخل أيضاً ( الحوالة ) إن قيل : إنها بيع . لا إن قيل : إنها إسقاط ، أو عقد مستقل ، لوجود البيع في جميع ما تقدم .
ويستثنى من عموم كلامه إذا اشترى من يعتق عليه ، فإنه لا خيار له ، كما لو باشر عتقه ، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، وفي سقوط حق صاحبه وجهان .
ويخرج من كلامه كل ما ليس ببيع ، كالنكاح ، والخلع ، والقرض والكتابة ، وغير ذلك ، وكذلك المساقاة ، والمزارعة ، والسبق ، والشفعة ، إذا أخذ بها ، وفي الأربعة إن قيل بلزومها وجه .
وقد يخرج من كلامه ما إذا اتحد العاقد ، كما إذا اشترى لنفسه من مال ابنه الصغير ، ونحو ذلك ، إذ لا متبايعان ، وقد يدخل لأنه في حكم متبايعين ، وبالجملة في ثبوت الخيار لمن هذه حالته قولان ، المجزوم به منهما لصاحب [ التلخيص ] وابن حمدان في الصغرى ، وأورده أبو محمد مذهباً عدم الثبوت ، وعلى القول بالثبوت هل يعتبر مفارقة المجلس ، أو لا بد من اختيار اللزوم ؟ قولان أيضاً .
وقوله : ما لم يتفرقا بأبدانهما . يقتضي أن الخيار لهما ولو طال المجلس بنوم ، أو بناء حاجز ، أو مشي منهما ، ونحو ذلك ، وهو كذلك ، لظاهر الحديث .
1825 وكذا فهم أبو برزة رضي اللَّه عنه أحد رواة الحديث .
وكلامه ( شامل ) لما إذا مات أحدهما ، لعدم التفرق بالأبدان ، وهو أحد الوجهين ، ( والثاني ) وبه جزم ابن حمدان ، وصاحب التلخيص ، ويحتمله كلام الخرقي كما سيأتي أن الخيار والحال هذه يبطل ، إذ الموت أعظم الفرقتين ، ( وشامل ) أيضاً لما إذا تبايعا على أن لا خيار بينهما ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار القاضي في تعليقه ، وأبي الخطاب في خلافه الصغير ، وأبي الحسين ، وابن عقيل في الفصول ، لأن أكثر الأحاديث ( البيعان بالخيار ) من غير زيادة ، ولأنه إسقاط للحق قبل وجوبه ، ( والثانية ) وهي اختيار ابن أبي موسى ، والقاضي في روايتيه ، والشيرازي ، وأبي محمد يبطل الخيار والحال هذه ، لما تقدم في حديث ابن عمر ( أو يخير أحدهما الآخر ، فإن تبايعا على ذلك فقد وجب البيع ) والأخذ بالزائد أولى ، والتبايع على ذلك يمنع انعقاد السبب مؤقتاً . ( فعلى الأولى ) في فساد العقد باشتراط ذلك قولان ، أظهرهما وهو ظاهر كلام الخرقي عدم الفساد .
ومفهوم كلامه أنه متى حصل تفرقهما بطل خيارهما ، ويدخل في ذلك ما لو حصلت الفرقة بهرب ، أو من غير قصد ، أو جهلا ، أو بإكراه ، وهو كذلك ، نعم في الإكراه ( وجه آخر ) ، يحكى عن القاضي ، وأورده في التلخيص مذهباً : أن خيار المكره لا ينقطع ، وإذاً يكون له الخيار في المجلس الذي زال عنه الإكراه فيه دون صاحبه ، ( وقول ثالث ) : إن كان المكره قادراً على كلام يقطع به خياره انقطع ، وإلا فلا ، ثم إن أبا محمد في المغني خص الخلاف بما إذا أكره أحدهما ، أما إن أكرها فقال : ينقطع خيارهما ، لأن كل واحد منهما ينقطع خياره بفرقة الآخر ، فأشبه ما لو أكره صاحبه دونه ، وصرح في الكافي بالخلاف في الصورتين ، [ وهو أجود ] وقد قطع ابن عقيل في الفصول ببقاء خيارهما مع إكراههما ، وجعل من صور ذلك إذا رأيا سبعاً ، أو ظالماً يؤذيهما ، أو احتملهما السيل أو أحدهما ، أو حملت الريح أحدهما ، وجعل في جميع ذلك الخيار لهما في موضع زوال المانع ، ويتلخص من ذلك على ما قطع به ابن عقيل ، وأورده في المغني مذهباً ، فيما إذا أكرها أو أحدهما ثلاثة أقوال ، يبطل الخيار في الصورتين ، لا يبطل فيهما ، يبطل فيما إذا أكرها ، ولا يبطل فيما إذا أكره أحدهما ، بل يكون الخيار له دون صاحبه .
ثم هل له الخيار مطلقاً ، أو بشرط عدم قدرته على كلام يقطع به خياره ؟ فيه قولان .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) المرجع في التفرق إلى العرف لعدم نص من الشارع ببيانه ، وقد ضبط ذلك بأنهما إن كانا في رحب واسع فبأن يمشي أحدهما مستدبراً لصاحبه خطوات ، على ما قطع به ابن عقيل ، وأورده في المغني مذهباً ، اتباعاً لفعل ابن عمر المتقدم ، وقيل وقطع به في الكافي : [ بل ] يبعد منه ، بحيث لا يسمع كلامه عادة ، وإن كانا في دار كبيرة فمن بيت إلى آخر ، أو إلى مجلس أو صفة ، بحيث يعدُّ مفارقاً له ، وفي صغيرة يصعد أحدهما سطحها ، أو يخرج منها ، وفي سفينة صغيرة يخرج أحدهما ويمشي ، وفي كبيرة يصعد أحدهما أعلاها وينزل الآخر أسفلها ، ونحو ذلك .
( الثاني ) : قول الخرقي : ما لم يتفرقا وكذلك في الحديث قال الأزهري : سئل أحمد بن يحيى ثعلب عن الفرق بين التفرق والافتراق ، فقال : أخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال : يقال : فرقت بين الكلامين مخففاً فافترقا ، وفرقت بين اثنين مشدداً فتفرقا ، فجعل الافتراق في الأقوال ، والتفرق في الأبدان وهو يؤيد ما ذهبنا إليه .
وقوله في حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص ( إلا أن يكون صفقة خيار ) أصل الصفقة ضرب اليد [ على اليد ] في البيع ، ثم جعل عبارة عن العقد ، أي إلا أن يكون عقد خيار ، ثم يحتمل أن المراد عقد شرط فيه الخيار ، ويكون مستثنى مما بعد الغاية ، ويحتمل أنه عقد نفي فيه الخيار ، فيكون مستثنى من المنطوق ، ولعله أظهر وقول نافع : مشى هنيهة . تصغير ( هنة ) وهي كلمة يعبر بها عن كل شيء قليل ، واللَّه أعلم .
قال : فإن تلفت السلعة ، أو كان عبداً فأعتقه المشتري أو مات ، بطل الخيار .
ش : إذا تلفت السلعة في مدة الخيار بطل في إحدى الروايتين عن أحمد ، اختارها الخرقي وأبو بكر ، نظراً إلى أن التالف لا يتأتى عليه الفسخ ( والثانية ) وهي أنصهما ، واختارها الشريف ، وابن عقيل ، وحكاها في موضع من الفصول عن الأصحاب يبطل خيار المشتري ، لحصول التلف في ملكه ، ولا يبطل خيار البائع ، بل له الفسخ ، والرجوع إلى البدل ، لتعذر الرجوع في العين ، نظراً إلى أن الفسخ للعقد ، وإنما ورد على موجود ، ولعموم ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) وكأن محل التردد هل النظر إلى حال العقد أو إلى الحال الراهنة ، وحكم عتق المشتري للعبد [ المبيع ] حكم تلفه ، لأنه تلف معنوي ، لانتفاء المالية منه ، ولما كان التلف المعنوي قد يتوهم أنه يخالف التلف الحسين نبه الخرقي عليه ، مع زيادة فائدة يأتي بيانها إن شاء اللَّه تعالى ، ثم لما فصل العبد من بقية السلع ، ذاكراً لحكم عتقه ، رمبا أوهم أن تلفه ليس كذلك ، فأزال ذلك الوهم فقال : أو مات . ويحتمل أن يعود الضمير لعله أظهر في : أو مات . إلى المشتري ، فيفيد أن المشتري إذا مات [ في ] مدة خيار المجلس يبطل الخيار ، لما تقدم من أن الموت أعظم الفرقتين .
والفائدة التي أشرنا إليها ثم في كلام الخرقي هي أن عتق المشتري يصح ، وهو مبني على انتقال الملك إليه بمجرد العقد ، كما هو المشهور والمختار من الروايتين ، وعلى الرواية التي تقول لا ينتقل الملك إليه إلا بانقضاء الخيار لا ينفذ عتقه ، بل عتق البائع ، إناطة بالملك .
واعلم أنه لا يصح تصرف المشتري فيما صار إليه ، ولا تصرف البائع فيما بذل له ، بشيء في مدة الخيار ، على المشهور من الروايتين ، حذاراً من إبطال حق الغير من الخيار أو التصرف في غير ملك ، ( والثانية ) يقع التصرف موقوفاً على انقضاء الخيار ، [ ولا يبطل حق من لم يتصرف من الخيار ] فإن انقضى ولا فسخ صح التصرف ، وإن فسخ من لم يتصرف ، بطل التصرف ، ويستثنى من ذلك العتق ، فإنه يصح ممن له الملك بلا نزاع نعلمه عندنا .
1826 اعتماداً على عموم مفهوم قوله : ( لا عتق لابن آدم فيما لا يملك ) [ ولبنائه على التغليب والسراية ] ولتشوف الشارع إليه ، [ ولهذا يسري في ملك الغير ] وفي إلحاق الوقف به خرف ، الأصح : لا ، واستثنى أبو الخطاب في الانتصار والشيخان تصرف المشتري والخيار له وحده ، وزاد أبو البركات بتصرفه مع البائع ، ونبه بذلك على [ تصرفه بإذن البائع ، أو تصرف البائع ، بوكالة المشتري أنه يصح بطريق الأولى ، كما صرح به أبو محمد ، وله في تصرف البائع بإذن المشتري احتمالان ، ولصاحب التلخيص احتمال بعدم ] صحة تصرف المشتري ، والخيار له وحده ، وبناه على القول بأن الملك إنما يحصل له بالعقد واللزوم ، على الرواية الضعيفة ، وقد عرف من هذا أن لشيخين فرعا على الرواية المشهورة ، من حصول الملك له بالعقد ، وأن إيراد ابن حمدان المذهب بمنع التصرف مطلقاً إلا في العتق تبعاً لإطلاق بعض الأصحاب المنع ليس بشيء .
( تنبيه ) : كلام الخرقي ومن حذا حذوه واللَّه أعلم في التلف إنما هو فيما كان من ضمان المشتري ، أما ما كان من ضمان البائع فسيأتي أنه تارة ينفسخ العقد فيه بمجرد التلف ، وتارة يخير المشتري بين الفسخ والإمضاء ، ومطالبة المتلف بالبدل ، وكلامهم يشمل ما إذا كان في مدة الخيارة أو بعدها ، وقد نبه على ذلك أبو محمد ، وإن كان في كلامه تجوز ، فإنه قال : إن التلف إن كان قبل القبض وكان مكيلاً أو موزوناً انفسخ العقد ، وكان من مال البائع ، قال : ولا أعلم فيه خلافاً ، إلا أن يتلفه المشتري ، فيكون من ضمانه ، ويبطل خياره ، وفي خيار البائع روايتان ، فأطلق والحال ما تقدم أن العقد ينفسخ ، وهو ممنوع لأنه إذا أتلفه أجنبي لم ينفسخ العقد كما سيأتي ، بل يخير المشتري بين الفسخ ومطالبة متلفه ببدله ، وقد وقع لابن عقيل أيضاً نحو قوله ، واللَّه أعلم .
قال : وإن تفرقا من غير فسخ لم يكن لواحد منهما الرد إلا بعيب أو خيار .
ش : إذا تفرق المتبايعان من غير فسخ لم يكن لواحد منهما الرد في الجملة ، لما تقدم من قوله : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) وفي رواية ( حتى يتفرقا ) غياه إلى غاية هي التفرق فمفهومه أنه لا خيار لهما بعد التفرق ، وأصرح من ذلك قوله : ( وإن تفرقا بعد أن تبايعا ، ولم يترك واحد منهما البيع ، فقد وجب البيع ) أي ثبت واستقر .
وعموم كلام الخرقي يدخل فيه ما يفتقر إلى القبض ، وهو المذهب بلا ريب ، لظواهر الأحاديث وعن القاضي في [ موضع ] أن ما يفتقر إلى القرض لا يلزم إلا بقبضه .
واستثنى الخرقي رحمه اللَّه شيئين ( أحدهما ) أن من اطلع منهما على عيب فإن له الرد ، وهو كذلك في الجملة ، وقيل : إنه لم يصح فيه حديث ، ولكنه إجماع ، وفي معنى العيب إذا أخبره في المرابحة بثمن ، فبان أنه أقل ، أو أخبره أن الثمن حال ، فبان مؤجلاً ، ونحو ذلك ، والتدليس بما يختلف به الثمن ، ويقرب منه اشتراط صفة تقصد فلم توجد .
( الثاني ) : إذا اشترطا أو أحدهما خيار اليوم أو الشهر ، فإن له الرد بذلك .
1827 لعموم قوله : ( المؤمنون عند شروطهم ) الحديث ، ولما تقدم في حديث عبد اللَّه بن عمرو ( إلا أن تكون صفقة خيار ) على أحد الاحتمالين فيه ، ولأنها مدة ملحقة بالعقد ، فصحت كالأجل ، مع أن أبا محمد قد حكى ذلك في الكافي إجماعاً ، لكنه معترض ، نعم هو قول العامة ، وهذا يلقب بخيار الشرط ، والأول بخيار المجلس .
وقوله : بعيب أو خيار . الباء للسببية ، أي بسبب عيب ، أو بسبب خيار ، فيحتمل أن يريد ما تقدم من شروط الخيار ، وهو أظهر لما سيأتي ، ويحتمل أن يريد حيث ثبت لواحد منهما خيارد ، فيدخل في ذلك خيار تلقي الركبان والنجش ، ويأتيان إن شاء اللَّه تعالى ، وخيار المسترسل ، وهو الجاهل بقيمة المبيع ، كفقير يشتري جوهرة ، ونحو ذلك ، والمذهب صحة معاوضة من هذه حاله ، والمذهب أيضاً على صحة البيع ثبوت الخيار له إذا غبن ، والمذهب المنصوص أيضاً عدم تحديد الغبن ، وإناطته بما لا يتغابن بمثله ، أما إن كان عالماً بالقيمة فإنه لا خيار له وإن غبن ، قاله القاضي وغيره ، ولأن ذلك الغبن حصل بعجلته ، وعدم تأمله عادة وقدره أبو بكر ، وابن أبي موسى بالثلث ، وبعض الأصحاب بالسدس ، ويدخل أيضاً خيار الخلف في الصفة حيث صح البيع بها ، أو برؤية متقدمة ، وخيار الرؤية على المشهور من الروايتين ، حيث صح البيع بلا رؤية مطلقاً ولا صفة ، كما هو رواية مرجوحة ، واللَّه أعلم .
وقال : والخيار يجوز أكثر من ثلاث .
ش : الألف واللام لمعهود تقدم ، هو خيار الشرط ، وقوله : أكثر من ثلاث أي ثلاث ليال بأيامها ، إذ التاريخ يغلب فيه الليالي ، وكأن الخرقي رحمه اللَّه تبع لفظ الحديث .
1828 وهو ما روي عن [ محمد بن ] يحيى بن حبان قال : هو جدي منقذ بن عمرو كان رجلاً قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه ، وكان لا يدع على ذلك التجارة ، فكان لا يزال يغبن ، فأتى النبي فذكر ذلك له ، فقال : ( إذا أنت بايعت فقل : لا خلابة ، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال ، إن رضيت فأمسك ، وإن سخطت فارددها ) رواه البخاري في تأريخه ، وابن ماجه والدارقطني .
1829 وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر أن رجلاً ذكر لرسول اللَّه أنه كان يخدع في البيوع ، فقال النبي : ( من بايعت فقل : لا خلابة ) فكان إذا بايع قال : لا خلابة . رواه البخاري ورواية مسلم قال : لا خيابة . إذا عرف هذا فالأصل في جواز الخيار أكثر من ثلاث قوله سبحانه : 19 ( { أوفوا بالعقود } ) وقول النبي : ( المسلمون عند شروطهم ) ولأنها مدة ملحقة بالعقد ، فجاز ما اتفقا عليه كالأجل ، ولا يرد خبر منقذ ، لأنه خاص به .
1830 بدليل أنه عاش إلى زمن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه ، وكان يبايع ويغبن ، ويرد السلع على التجار ، ويقول : الرسول جعل لي الخيار ثلاثاً ، فيمر الرجل من أصحاب الرسول فيقول : ويحك صدقك ، إن رسول اللَّه جعل له الخيار ثلاثاً .
ويدخل في عموم كلام الخرقي إذا كان المبيع لا يبقى في المدة المشترطة كطعام رطب [ ونحوه ] ، وصرح بذلك القاضي في أثناء مسألة اشتراط الخيار [ في الإجارة ] ، وأورد عليه فقال : يصح ويباع ، ويحفظ ثمنه إلى المدة ، قلت : وهذا قياس ما قالوه في الرهن إذا كان لا يبقى إلى المدة ، قال أبو العباس : ويتوجه عدم الصحة من وجه في الإجارة ، أي من وجه عدم صحة اشتراط الخيار في إجارة تلي العقد ، ومن أن تلف المبيع يبطل الخيار .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : من شرط الخيار أن يكون معلوماً ، فلا يصح مجهولاً على المشهور المعمول عليه من الروايتين ، ( والثانية ) يصح وينقطع بانقطاع من له الخيار أو انقطاع مدته ( ثم محل الخيار البيع ) وما في معناه ، إلا بيع بشرط القبض ، كالصرف ، والسلم ، ( وفي الإجارة ) ، لأنها بيع في الحقيقة ، لا إجارة تلي العقد في وجه ، ( الثاني ) قد تقدم عن يحيى بن حبان أن الذي كان يغبن هو جده منقذ بن عمرو ، وقال جماعة : إنه والده حبان ، وهو بفتح الحاء وبالموحدة ( والأمة ) [ هي التي تصل إلى جلدة الدماغ كما ] سيأتي بيانها إن شاء اللَّه تعالى ، ( ولا خلابة ) بكسر الخاء ، أي لا خديعة ، ومنه قولهم : ( إذا لم تغلب فاخلب ) وقوله : ( لا خيابة ) لأنه كان ألثغ ، يبدل اللام ياء ورواه بعضهم : لا خيانة . بالنون وهو تصحيف ، واللَّه أعلم .
قال رحمه اللَّه تعالى :
باب الربا والصرف وغير ذلك
ش : الربا مقصور ، وأصله الزيادة ، والمادة حيث تصرفت لذلك ، قال اللَّه سبحانه : 19 ( { وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } ) أي علت وارتفعت ، وقال تعالى : 19 ( { أن تكون أمة هي أربى من أمة } ) أي أكثر عدداً ، وقال تعالى : 19 ( { كمثل جنة بربوة } ) أي بمكان عال ، وهو في الشرع : زيادة في شيء مخصوص .
والصرف بيع أحد النقدين بالآخر قيل : سمي بذلك من صريفهما وهو تصويتهما في الميزان ، وقيل : لانصرافهما عن مقتضي البياعات ، من عدم جواز التفرق قبل القبض والبيع نساء .
( وغير ذلك ) أي من حكم العيب إذا وجد في الصرف ، وبيان العرايا ، والراب نوعان ، قد شملهما كلام الخرقي ربا الفضل ، وربا النسيئة ، وكلاهما محرم ، وممنوع منه في الجملة ، لقوله تعالى : { وأحل اللَّه البيع ، وحرم الربا } إن لم نقل : إنها مجملة كما تقدم .
1831 وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي أنه قال : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) قيل : يا رسول اللَّه وما هن ؟ قال : ( الإشراك باللَّه ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) متفق عليه .
1832 وعن ابن مسعود رضي اللَّه عنه ، أن النبي لعن آكل الربا ، وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه ، رواه الخمسة ، وصححه الترمذي ، وأجمع المسلمون على تحريم ربا النسيئة تحريما لا ريب فيه ، وعامتهم على تحريم ربا الفضل .
1833 ووقع خلاف في الصدر الأول عن أسامة بن زيد ، وزيد بن أرقم ، وابن الزبير ، وابن عباس وعنه اشتهر .
1834 لما روى رضي اللَّه عنه عن النبي أنه قال : ( لا ربا إلا في النسيئة ) رواه البخاري وقد أقر رضي اللَّه عنه لأبي سعيد أنه سمع ذلك من أسامة .
1835 وحديث أسامة في الصحيحين ( الربا في النسيئة ) وفي رواية ( إنما الربا في النسيئة ) وفي أخرى ( لا ربا فيما كان يداً بيد ) وهذه أصرحها ، ثم قد صار إجماعاً ، ورجع من تقدم إلى قول الجماعة ، واختلف في رجوع ابن عباس ، وبالجملة . يشهد لقول العامة إطلاق ما تقدم .
1836 وعن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه ، عن النبي قال : ( الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يداً بيد ) رواه أحمد ، ومسلم ، وغيرهما .
1837 وعن أبي سعيد رضي اللَّه عنه ، قال : قال رسول اللَّه ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز ) متفق عليه وفي رواية لأحمد والبخاري ( الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، يداً بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء ) .
1838 وفي الصحيح أيضاً هذا المعنى من حديث فضالة بن عبيد ، وأبي بكرة رضي اللَّه عنهما ، وحديث أسامة لا يقاوم هذه ، لكثرة رواتها ، وصراحة دلالتها ، إذ هي دلالة منطوق بلا ريب ، ثم يحمل على أنه وقع جواباً لسؤال عن الجنسين من أموال الربا ، أو مطلقاً ، فقال : ( لا ربا إلا في النسيئة ) أي من المسؤول عنه وهو الجنسان ، أو أن المراد نفي الربا الأغلظ الذي ورد نص القرآن في تحريمه بلا ريب ، وهو الذي كانت العرب تعرفه ، تقول للغريم إذا حل الدين : إما أن تقضي ، وإما أن تربي في الدين ، أي تزيد .
1839 وهو الذي نسخه النبي يوم عرفة ، وقال عنه : ( ألا أن كل ربا موضوع ، وإن أول ربا أضعه ربا عباس ) وهذا كما يقال : إنما المال الإبل ، وإنما الشجاع علي ، ونحو ذلك ، ثم لو قدر التعارض من كل وجه ، فقد يقال : نسخ حديث أسامة أولى ، لورود النسخ إذاً على مباح الأصل ، لأن الشارع إنما منع من النساء ، وبقي التفاضل على ما كان عليه .
( تنبيه ) : ( لا تشفوا بعضها على بعض ) أي لا يكون لأحدهما شفوف على الآخر ، أي زيادة ، و ( الناجز ) المعجل الحاضر ، واللَّه أعلم .
قال : وكل ما كيل أو وزن من سائر الأشياء فلا يجوز التفاضل فيه إذا كان جنساً واحداً .
ش : قد تقدم أن الإجماع قد انعقد على تحريم ربا الفضل في الجملة ، وإن كان قد وقع في الصدر الأول خلاف ، وأجمعوا على ذلك في الأعيان الستة المذكورة في حديث عبادة ، ثم اختلفوا هل جرى الربا فيها لأعيانها أو لمعان فيها ؟ فقال داود ومتابعوه : لأعيانها ، فلا يتعدى الحكم إلى غيرها ، وقال العامة : لمعان فيها ، ثم اختلفوا هل عرف ذلك المعنى أم لا ؟ فعن ابن عقيل في العمد أنه تردد في المعنى ، ولم يتعد الستة ، لتعارض الأدلة عنده في المعنى وتكافئها ، ويحتمل هذا قول طاوس وقتادة ، فإنه حكي عنهما القصر على الستة ، ويحتمل أن قولهما كقول داود ، وأن عندهما أن ( وأحل اللَّه البيع ) عام ، خرج منه الأعيان الستة ، بقي ما عداها على مقتضى العموم ، ولا يريان تخصيص العام بالقياس .
وجمهور أهل العلم على معرفة العلة ، وتعديها إلى غير الستة ، ثم اختلفوا فيها على سبعة أقوال ، وعن إمامنا رحمه اللَّه من ذلك ثلاثة أقوال .
( أحدها ) : وهو الأشهر عنه ، ومختار عامة أصحابه ، قال القاضي : اختارها الخرقي وشيوخ أصحابنا أن العلة في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس ، والعلة في الأربعة الباقية كونهن مكيلات جنس ، فيتعدى الحكم إلى كل موزون ، ومكيل بيع بحبسه ، كالحديد ، والنحاس ، والحبوب ، والأبازير ، وغير ذلك ، دون ما لا يكال ولا يوزن من مطعوم وغيره .
1840 لما روي عن أبي سعيد ، وأبي هريرة رضي اللَّه عنهما ، أن رسول اللَّه استعمل رجلاً على خيبر ، فجاء بتمر جنيب ، فقال : ( أكل تمر خيبر هكذا ؟ ) فقال : لا يا رسول اللَّه ، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال رسول اللَّه : ( لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيباً ) وقال في الميزان مثل ذلك ، ولمسلم ( وكذلك الميزان ) متفق عليه فقوله : في الميزان أي في الموزون ، وإلا فنفس الميزان ليس من أموال الربا .
1841 وقال الإمام إسحاق بن راهويه : أخبرنا روح بن عبادة ، حدثنا حيان بن عبيد اللَّه ، وكان رجلاً صدوقاً عن أبي مجلز ، عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه قال : ( التمر بالتمر ) وذكر الحديث ، إلى قوله : ( فما زاد فهو ربا ) قال : ( وكذلك ما يكال وما يوزن ) من قول أبي سعيد ، قال : دل على ذلك قوله : قال : وكذلك ما يكال وما يوزن . وليس في هذا دليل ، لاحتمال عود الضمير إلى النبي ، وهو الأصل ، ويؤيده رواية البخاري السابقة : وقال في الميزان مثل ذلك .
1842 وعن الحسن عن أنس وعبادة ، أن رسول اللَّه قال : ( ما وزن مثلاً بمثل ، إذا كان نوعاً واحداً ، وما كيل فمثل ذلك ) رواه الدارقطني .
1843 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه : ( لا تبيعوا الدينار بالدينارين ، ولا الدرهم بالدرهمين ، ولا الصاع بالصاعين ، فإني أخاف عليكم الرماء ) وهو الربا ، فقام إليه رجل فقال : يا رسول اللَّه أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس ، والنجيبة بالإبل ؟ فقال : ( لا بأس إذا كان يداً بيد ) رواه أحمد .
( والقول الثاني ) : أن العلة في الذهب والفضة الثَمَنِيَّة ، فلا يتعدى إلى غيرهما ، والعلة في الأربعة الباقية كونهن مطعوم جنس .
1844 لما روى معمر بن عبد اللَّه أنه أرسل غلامه بصاع قمح ، فقال : بعه ثم اشتر به شعيراً ، فذهب الغلام فأخذ صاعاً زيادة بعض الصاع ، فلما جاء معمراً أخبره بذلك ، فقال له عمر : لم فعلت ذلك ؟ انطلق به فرده ، وقال : لا تأخذ إلا مثلاً بمثل ، فإني كنت أسمع رسول اللَّه يقول : ( الطعام بالطعام مثلاً بمثل ) وكان طعامنا يومئذ الشعير ، قيل له : فإنه ليس بمثله ، قال : إني أخاف أن يضارع ، رواه مسلم والطعام يشمل كل مطعوم ، ولأن الطعم وصف شريف ، إذ به قوام الأبدان ، وكذلك الثمنية ، إذ بها قوام الأموال ، فاقتضت الحكمة التعليل بهما .
( والقول الثالث ) : العلة في النقدين الثمنية ، والعلة في الأربعة الباقية الطعم والتقدير في الجنس ، فإن الأربعة مكيلة ، غير أن المؤثر إنما هو التقدير المنضبط ، فيدخل فيه الوزن ، فيتدى ذلك إلى كل مطعوم مقدر بكيل أو وزن بيع بجنسه ، وهذا اختيار أبي محمد ، نظراً إلى ما ذكرناه من أن هذه الأربعة مطعومة ، والمماثلة إنما تعتبر بالمعيار الشرعي ، وهو الكيل والوزن ، وجمعاً بين الأحاديث ، فنهيه عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل ، يحمل على ما فيه معيار شرعي ، وهو الكيل أو الوزن ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين [ ونحوه ] يحمل على المطعوم ، توفيقاً بينهما .
ويرجح الأول بأن الطعام بعض أفراد الصاع [ الصاعين ] ونحو ذلك ، لما تقدم من أن المثلية لا تتحقق إلا بكيل أو وزن ، وهو المدعى على القول الأول علة ، ويجاب بمخالفته له في المفهوم ، وهو مبني على اعتبار مفهوم اللقب ، والمذهب اعتباره ، ثم على اعتباره والحال هذه ، وفيه وجهان ، انتهى واتفق الكل على اعتبار الجنس في ربا الفضل ، كما نص عليه الخرقي .
1845 إلا سعيد بن جبير ، فإنه جعل الشيئين المتقارب نفعهما الحنطة مع الشعير ، والتمر مع الزبيب كالجنس الواحد ، وهو مردود بالنصوص السابقة .
( تنبيهات ) : ( أحدها ) على المذهب يجري الربا في كل مكيل ، وإن لم يكن مطعوماً ، كالأشنان ونحوه ، وفي كل موزون ، وإن لم يكن كذلك ، كالحديد ونحوه ، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن ، كالبيض والماء ونحوهما ، والمعتبر كون جنس ذلك مكيلاً أو موزوناً ، وإن لم يأت فيه ذلك ، إما لقلته ، كتمرة ، وحبة شعير ونحو ذلك ، وإما لثقله ، كالزبرة العظيمة من الحديد ونحوه ، وإما للعادة كلحم الطير ونحوه ، فلا يجوز بيع بعض ذلك ببعض إلا مثلاً بمثل ، بمعياره الشرعي ، وهو الكيل أو الوزن ويحتمل قول الخرقي جواز ذلك ، لقوله : وكل ما كيل أو وزن . وهو محمول على ما جنسه الكيل أو الوزن ، وهل يعم المعمول من الموزون بأصله ، أو بحاله بعد العمل ؟ نص أحمد في رواية : جماعة : أنه لا يباع فلس بفلسين ، ولا سكين بسكينين ، ولا إبرة بإبرتين ، معللاً بأن أصل ذلك الوزن ، ونص في رواية جماعة أنه لا بأس ببيع ثوب بثوبين ، وكساء بكسائين ، فنقل القاضي في المجرد إحدى المسألتين إلى الأخرى ، فجعل فيهما جميعاً روايتين ، والمنع اختيار جماعة منهم ابن عقيل في الفصول وغيره اعتباراً بأصله ، والجواز اختيار أبي محمد في المغني ، نظراً للحال الراهنة ، ومقتضى كلام القاضي في التعليق ، وفي الجامع الصغير ، حمل النص على اختلاف حالين ، فإنه لما قال : يجري الربا في معمول الحديد ونحوه ، وذكر نصه على ذلك ، فأورد عليه النص الآخر في جواز ثوب بثوبين ، فقال : هذا في ثياب لا ينبغي بها الوزن ، أما الإبريسم ونحوه فإنه لا يجوز ، ونحو هذا قول جماعة [ وهو أوجه ] فينظر في حاله بعد العمل ، فإن قصد وزنه جرى فيه الربا ، وإلا فلا ، وأبو محمد في الكافي نظر إلى هذا المعني في الموزون ، وقطع في منسوج القطن والكتان بأنه لا ربا فيه وأطلق ، وصاحب التلخيص جعل الروايتين فيما لا يتعين وزنه بعد عمله ، أما ما يقصد وزنه بعد عمله فجزم بوجوب التماثل فيه . انتهى . ثم إن صاحب التلخيص قال في الفلوس بعد أن حكى فيها الروايتين : وسواء كانت نافقة أو كاسدة ، بيعت بأعيانها أو بغير أعيانها ، وكذلك قال القاضي في الجامع الصغير ، وابن عقيل ، والشيرازي وغيرهم ، وجزم أبو الخطاب في خلافه الصغير بأنها مع نفاقها لا تباع بمثلها إلا متماثلة ، معللاً بأنها أثمان فأشبهت الدراهم والدنانير ، ثم عقب ذلك بذكر الخلاف في معمول الحديد ، وظاهر هذا أنها مع كسادها يجوز التفاضل فيها إن لم يعتبر الوزن ، ويتلخص من ذلك أن الفلوس النافقة هل تجري مجرى الأثمان ، فيجري الربا فيها ، إن قلنا ، العلة في النقدين الثمنية مطلقاً ، وهو ظاهر ما حكاه عن أبي الخطاب في خلافه الصغير ، أو لا تجري مجراها ، نظراً إلى أن العلة ما هو ثمن غالباً ، وذلك يخص الذهب والفضة ، وهو قول أبي الخطاب في خلافه الكبير ؟ على قولين ، فعلى الثاني لا يجري الربا فيها إلا إذا اعتبرنا أصلها ، وقلنا : العلة في النقدين الوزن ، كالكاسدة ، وعلى رواية الطعم والثمنية في النقدين يجري الربا في كل مطعوم قوتاً كان أو أدماً ، أو فاكهة ، أو دواء .
ويستثني من ذلك الماء ، على ما قطع به القاضي في الجامع الصغير ، وأبو محمد وصاحب التلخيص ، والسامري ، وغيرهم ، مع أنه مطعوم ، قال سبحانه : 19 ( { ومن لم يطعمه فإنه مني } ) وعلل ذلك صاحب التلخيص بأن أصله الإباحة ، وهو منتقض بلحم الطير ، وبالطين الأرمين ونحوهما ، وبأنه مما لا يتمول ، وهو مردود ، بأن العلة عندنا ليست المالية ، والقياس جريان الربا فيه على هذه الرواية ، وهو ظاهر ما في خلاف أبي الخطاب الصغير .
والمعتبر الطعم للآدميين لا لغيرهم ، فلا يجري الربا في التبن ونحوه على مقتضى كلام أبي محمد ، ويجري الربا في الذهب والفضة ، تبرهما ومضروبهما ، وكيف ما كانا ، على المشهور ، وعنه أنه منع من بيع الصحاح بالمسكرة ، ولا عمل عليه ، لظواهر النصوص ، وهل يجري الربا في الفلوس النافقة ؟ فيه تردد تقدم ، وعلى رواية