كتاب : شرح الزركشي على مختصر الخرقي
المؤلف : شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي
( مقدمة المؤلف )
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ، اللهم يسّر ، وأعن يا كريم .
قال الشيخ الإِمام ، العالم العلامة ، المحقق المتقن ، شيخ الإسلام والمسلمين ، وحيد دهره ، وفريد عصره ، ناصر السنة ، وقامع البدعة ، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي الحنبلي تغمده الله تعالى برحمته [ وأسكنه فسيح جنته ] :
كتاب الطهارة
( كتاب ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا كتاب الطهارة . وهو مصدر سمي به المكتوب ، كالخلق سمي به المخلوق ، والكتب في اللغة الجمع ، قال سالم بن دارة :
لا تأمنن فزاريا خلوت به
على قلوصك واكتبها بأسيار
أي اجمعها بأسيار ، والقلوص في الإبل بمنزلة الجارية في الناس ، فكتاب الطهارة هو الجامع لأحكام الطهارة ، من بيان ما يتطهر به ، وما يتطهر له ، وما يجب أن يتطهر منه إلى غير ذلك .
والطهارة في اللغة النظافة والنزاهة عن الأقذار ، ومادة ( نزه ) ترجع إلى البعد :
1 وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كان رسول الله إذا دخل على مريض قال : ( لا بأس طهور إن شاء الله ) أي مطهر من الذنوب ، والذنوب أقذار معنوية .
وفي اصطلاح الفقهاء قال أبو محمد : رفع ما يمنع الصلاة من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه بالتراب . وأورد على عكسه الحجر وما في معناه في الاستنجاء ، ودلك النعل ، وذيل المرأة ، على قول ، فإن تقييده بالماء والتراب يخرج ذلك ، وأيضاً نجاسة تصح الصلاة معها فإن زوالها طهارة ولا تمنع الصلاة ، وأيضاً الأغسال المستحبة ، والتجديد ، والغسلة الثانية ، والثالثة ، فإنها طهارة ولا تمنع الصلاة ، ثم يحتاج أن يقيد الماء والتراب بكونهما طهورين ، وقد أجيب عن الأغسال المستحبة ونحوها بأن الطهارة في الأصل إنما هي لرفع شيء ، إذ هي مصدر : طهر . وذلك يقتضي رفع شيء ، فإطلاق الطهارة على الوضوء المجدد ، والغسل المستحب مجاز لمشابهته الوضوء الرافع في الصورة ، وابن أبي الفتح لما استشعر هذا زاد بعد ( ما يمنع الصلاة ) وما أشبهه . لتدخل الأغسال المستحبة ونحوها ، وهو على ما فيه من الإجمال يوهم أن : من حدث أو نجاسة . بيان لما أشبهه ، وليس كذلك وإنما هو لبيان ما يمنع الصلاة ، وحدها بعض متأخري البغاددة بأنها : استعمال الطهور في محل التطير على الوجه المشروع . ولا يخفى أن فيه زيادة ، مع أنه حد للتطهير ، لا للطهارة ، فهو غير مطابق للمحدود ، وقد حدت بحدود كثيرة يطول ذكرها والكلام عليها ، والله أعلم .
قال :
باب ما تكون به الطهارة من الماء
ش : أي هذا باب . و ( كان ) هنا تامة ، لأنها بمعنى الحصول والحدث ، أي ما تحصل به الطهارة ، كما في قوله تعالى : 19 ( { وإن كان ذو عسرة } ) على القراءة المشهورة ، أي إن وجد ذو عسرة ، أو حصل ذو عسرة ، والباب ما يدخل منه إلى المقصود ، ويتوصل به إلى الاطلاع عليه .
قال : والطهارة بالماء الطاهر المطلق ، الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره ، مثل ماء الباقلاء ، وماء الحمص ، وماء الورد ، وماء الزعفران ، وما أشبهها مما لا يزايل اسمه اسم الماء في وقت .
ش : الألف واللام للاستغراق ، والجار والمجرور خبر الطهارة ، وهو متعلق بمحذوف ، وذلك المحذوف في الحقيقة هو الخبر ، والتقدير : كل طهارة حاصلة أو كائنة بالماء . والطاهر ( ما ليس بنجس ) ، ( والمطلق ) غير المقيد ، وقد بينه وأوضحه بقوله : الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره ثم مثل للذي يضاف إلى اسم شيء غيره بماء الباقلاء ، وهو الفول ، وماء الورد ، وماء الحمص ، وماء الزعفران ، وما أشبه هذه الأشياء ، كماء القرنفل ، وماء العصفر ، ونحو ذلك مما لا يفارق اسمه اسم الماء في وقت . واحترز بذلك عن إضافة مفارقة في وقت كماء النهر و [ ماء ] البحر ونحو ذلك ، لأن إضافته تزول بمفارقته ، فوجود هذه الإضافة كعدمها ، هذا حل لفظه .
وأما الأحكام المستنبطة منه فقد ( دل منطوقه ) على أن كل طهارة سواء كانت طهارة حدث أو خبث تحصل بكل ماء هذه صفته سواء نزل من السماء ، أو نبع من الأرض على أي صفة خلق عليها ، من بياض وصفرة ، وسواد ، وحرارة وبرودة ، إلى غير ذلك ، قال الله تعالى : 19 ( { وأنزلنا من السماء ماء طهوراً } ) وهذا وإن كان نكرة في سياق الإثبات لكنه في سياق الامتنان ، فيعم كل ماء .
2 وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال : سأل رجل النبي فقال : إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله : ( هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته ) رواه الخمسة وصححه غير واحد من الأئمة .
3 وقال عليه الصلاة والسلام في بئر بضاعة : ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) قال أحمد : حديث بئر بضاعة صحيح .
4 وأمر أسماء بنت عميس أن تغسل دم الحيض بالماء .
5 وقال : ( صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء ) .
ودل مفهومه على مسائل . ( الأولى ) أن جميع الطهارات لا تجوز بغير الماء ، من دهن ، وخل ، ونبيذ ، ونحو ذلك ، أما في طهارة الأحداث فلقوله تعالى : 19 ( { أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء فتيمموا } ) فنقلنا عند عدم الماء إلى التيمم .
6 وقول النبي لأبي ذر : ( إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ) رواه أحمد والترمذي وصححه .
7 وأما في طهارة الأنجاس فلما روى أبو ثعلبة رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله إنا بأرض أهل كتاب ، فنطبخ في قدورهم ونشرب بآنيتهم . فقال رسول الله : ( إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء ) رواه الترمذي وصححه والرحض الغسل وأمر أسماء أن تغسل دم الحيض بالماء .
( وعن أحمد ) رحمه الله ما يدل على زوال النجاسة بكل مائع طاهر مزيل ، كالخل ونحوه ، إذ المقصود زوال العين ، ( وعنه ) زوالها بالطاهر غير المطهر ، نظراً لإطلاق حديثي أبي ثعلبة وأسماء .
وعلى الأولى وهي المذهب بلا ريب يجوز استعماله في النجاسة تخفيفاً لها ، ويستثنى من هذا المفهوم ما يتيمم به ، فإنه مطهر وليس بماء ، وكذلك ما يستنجى به ، وأسفل الخف إذا دلك ، وذيل المرأة على قول في الثلاثة وقد يقال : لا يرد عليه التيمم ، لأن كلامه في طهارة رافعة للحدث ، وطهارة التيمم مبيحة ، لا رافعة ، والحجر في الاستنجاء ونحو ليس بمطهر على المشهور ، ويكون ذلك مأخوذاً من كلام الخرقي وظاهر كلامه . .
( المسألة الثانية ) أن الطهارة لا تصح بماء نجس لتقييده الماء بالطاهر ، وهو واضح .
( المسألة الثالثة ) أن الطهارة لا تصح بغير الماء المطلق ، فلا تصح بماء مضاف إضافة لازمة ، ويأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك في المسألة الآتية بعد ، والله أعلم .
قال : وما سقط فيه مما ذكرنا أو غيره ، وكان يسيراً فلم يوجد له طعم ، ولا لون ولا رائحة كثيرة حتى ينسب الماء إليه توضة به .
ش : ما سقط في الماء مما ذكره من الباقلاء ، والزعفران ، والورد ، والحمص ، أو غيره من الطاهرات كالعصفر ، والملح الجبلي ، وورق الشجر إذا وضع فيه قصداً ، ونحو ذلك ، وكان الواقع يسيراً ، فلم يوجد للواقع في الماء طعم ، ولا لون ، ولا رائحة ، حتى أنه بسبب ذلك يضاف الماء إليه ، فيقال : ماء زعفران ، ونحو ذلك ، فهو باق على إطلاقه فيتوضأ به ، لدخوله تحت قوله تعالى : 19 ( { فلم تجدوا ماءً فتيمموا } ) ونحو ذلك .
8 وقد ثبت أن النبي اغتسل هو وزوجته من جفنة فيها أثر عجين .
ومفهوم كلام الخرقي أنه متى وجد للواقع لون ، أو طعم أو رائحة كثيرة ، بحيث صار الماء يضاف إليه ، زالت طهوريته ، ومنع التوضؤ به ، وهو إحدى الروايات ، اختارها أكثر الأصحاب لخروجه عن الماء المطلق ، فلم يتناوله قوله تعالى : 19 ( { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ) ودليل ذلك لو وكله أن يشتري له ماء ، فاشترى له هذا الماء المتغير لم يكن ممتثلًا .
( والرواية الثانية ) وهي الأشهر نقلًا ، وإليها ميل أبي محمد هو باق على طهوريته ، لأن ( ماء ) من قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } نكرة في سياق النفي ، فيشمل كل ماء ، إلا ما خصه الدليل ، ( والرواية الثالثة ) أنه طهور بشرط أن لا يجد غيره ، وحيث أثر التغيير فإنما هو إذا كان كثيراً ، فإن كان يسيراً فثلاثة أوجه ، ثالثها وهو اختيار الخرقي يعفى عن يسير الرائحة ، لأن تأثيرها عن مجاورة ، بخلاف غيرها ، وإنما قيد الخرقي الواقع بكونه يسيراً إجراء على الغالب ، إذ الغالب أن الواقع متى كان كثيراً أثر في الماء ، وأزال طهوريته على مختاره ، ومحل الخلاف مع بقاء اسم الماء ، أما مع زوال الاسم كما إذا صيره الواقع حبراً ، أو خلًا ، أو طبيخاً ، ونحو ذلك فإن طهوريته تزول بلا ريب .
ويدخل في عموم المفهوم التراب المطروح فيه عمداً ، وهو أحد الوجهين ( والثاني ) وبه قطع العامة لا يؤثر شيئاً ، ( نعم ) إن ثخن بحيث لا يجري على الأعضاء أثر ، لخروجه عن اسم الماء ، وأجرى ابن حمدان الوجهين في الملح البحري أيضاً .
ويدخل فيه أيضاً إذا كان الواقع لا يخالط الماء ، كقطع العود ، والكافور والخشب والدهن والشمع ، ونحو ذلك ، وهو أحد الوجهين ، واختيار أبي الخطاب في انتصاره وأبي البركات ( والثاني ) وهو اختيار جمهور الأصحاب لا يؤثر وقوعه ولو غير الماء ، لأنه تغيير مجاورة لا مخالطة ، أشبه ما لو تغير بجيفة إلى جنبه .
ويستثنى من مفهوم كلام الخرقي واقع يشق الاحتراز عنه ، كورق الشجر ، وما تلقيه الرياح والسيول من العيدان ونحو ذلك ، فإنه لا يؤثر وقوعه في الماء وإن غير جميع أوصافه ، صرح به الشيرازي وكذلك الملح البحري ، والله أعلم .
قال : ولا يتوضأ بماء قد توضئ به .
ش : هذا هو المشهور من المذهب ، وعليه عامة الأصحاب .
9 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ) فقال الراوي : كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال : يتناوله تناولًا . رواه مسلم والنسائي ولولا أن الغسل فيه لا يجزىء ، وأن طهوريته تزول لم ينه عن ذلك ، ولأنه أزال به مانعاً من الصلاة ، أشبه الماء المزال به النجاسة ، أو استعمل في عبادة على وجه الإتلاف ، أشبه الرقبة في الكفارة ، وعلى هذه الرواية هو طاهر في نفسه ، يجوز شربه والعجن به ، والطبخ به .
10 لأن في الصحيحين أنه توضأ وصب على جابر من وضوئه والأصل المساواة ، ( وعن أحمد ) رحمه الله رواية أخرى أنه نجس ، نص عليها ، وتأولها القاضي وبعّد ابن عقيل تأويله ، والحق امتناعه و ( عنه ) رواية ثالثة : أنه باق على طهوريته .
11 لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : اغتسل بعض أزواج النبي في جفنة ، فجاء النبي ليتوضأ منها أو يغتسل ، فقالت : يا رسول الله إني كنت جنباً . فقال : ( إن الماء لا يجنب ) رواه الخمسة إلا ابن ماجه ، وصححه الترمذي .
وقال بعض المتأخرين : ظاهر كلام الخرقي أنه طهور في إزالة الخبث فقط لأنه إنما منع من الوضوء به . وليس بشيء ، وحكم ما اغتسل به من الجنابة ونحوها حكم ما توضئ به .
وقد شمل كلام الخرقي رحمه الله ما توضئ به في طهر مستحب ، كتجديد ونحوه ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار ابن عبدوس بناء على أن العلة استعماله في عبادة ، ( والثانية ) واختاره أبو البركات أنه باق على طهوريته ، بناء على أن العلة ثم إزالة المانع ، وعكس ذلك المنفصل من غسل الذمية ، في حيض ونحوه ، هل يخرجه عن طهوريته لإزالته المانع وهو الوطء ، أو لا يخرجه ، لعدم استعماله في عبادة ؟ على روايتين .
واعلم أن كلام الخرقي رحمه الله خرج على الغالب ، إذ يندر أن الإنسان يتوضأ بقلتي ماء ، فلو اتفق ذلك لم يخرجه عن طهوريته بلا نزاع ، والله أعلم .
قال : وإذا كان الماء قلتين وهو خمس قرب فوقعت فيه نجاسة ، فلم يوجد لها طعم ولا لون ولا رائحة ، فهو طاهر .
ش : القلة اسم لكل ما ارتفع وعلا ، ومنه ( قلة الجبل ) وهي هنا الجرة الكبيرة ، سميت قلة لعلوها وارتفاعها ، وقيل : لأن الرجل العظيم يقلها بيده أي يرفعها ، ثم المراد هنا القلال المنسوبة إلى هجر .
12 لأن في بعض ألفاظ الحديث : ( إذا كان الماء قلتين بقلال هجر ) ذكره الشافعي رحمه الله في مسنده ، والدارقطني مرسلًا ولأنها كانت مشهورة معلومة ، فالظاهر وقوع التحديد بها .
13 ولهذا في حديث المعراج قال النبي : ( ثم رفعت لي سدرة المنتهى ، فإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، وإذا نبقها مثل قلال هجر ) واختلف في مقدار القلة من ذلك ، فقال الخرقي رحمه الله وهو المشهور من الروايات ، والمختار للأصحاب : إنها قربتان ونصف .
14 لأن ابن جريج قال : رأيت قلال هجر ، فرأيت القلة منها تسع قربتين ، أو قربتين وشيئاً فالاحتياط إثبات الشيء ، وجعله نصفاً ، لأنه أقصى ما ينطلق عليه اسم ( شيء ) منكراً . ( والرواية الثانية ) أنها قربتان .
15 لأن يحيى بن عقيل قال : رأيت قلال هجر ، وأظن أن القلة تأخذ قربتين . رواه الجوزجاني ونحوه عن ابن جريج . ( والثالثة ) قربتان وثلث ، جعلا للشيء ثلثاً ، ومقدار القربة عند القائلين بتحديد الماء بالقرب مائة رطل عراقية ، والرطل العراقي مائة وثمانية وعشرون درهماً ، قاله في المغني القديم ، وعزاه إلى أبي عبيد وقيل : وثلاثة أسباع درهم ؛ ذكره في التلخيص وقيل : وأربعة أسباع . قاله في المغنى الجديد ، وهو المشهور وقيل : وثلاثون درهماً .
إذا تقرر هذا فقد دل منطوق كلام الخرقي على أن النجاسة إذا وقعت في القلتين المذكورتين ، ولم يتغير وصف من أوصاف الماء فهو طاهر ، ولا نزاع عندنا في ذلك في غير البول والعذرة المائعة .
16 لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : سئل رسول الله عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع ، فقال : ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ) وفي لفظ : ( لم ينجسه شيء ) رواه الخمسة ، وصححه ابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني . وقال الحاكم : إنه على شرط الشيخين .
17 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قيل : يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ، والنتن ، ولحوم الكلاب قال : ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) رواه أبو داود ، والترمذي وحسنه ، وأحمد وصححه .
ودل مفهومه على مسألتين ( إحداهما ) أن الماء ينجس بتغير وصف من أوصافه وإن كثر ، ولا نزاع في ذلك ، وقد حكاه ابن المنذر إجماعاً .
18 وقد روى أبو أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه ) رواه ابن ماجه ، والدارقطني ، ولفظه : ( إلا ما غير ريحه أو طعمه ) إلا أن الشافعي رحمه الله قال : هذا الحديث لا يثبت أهل العلم مثله . إلا أنه قول العامة ، لا أعرف بينهم فيه خلافاً ، وكذلك قال أحمد رحمه الله : ليس فيه حديث ، ولكن الله تعالى حرم الميتة ، فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه ، فذلك طعم الميتة أو ريحها ، فلا تحل له . وقال أبو حاتم الرازي : الصحيح أنه مرسل قلت : وإذاً يسهل الأمر .
وظاهر كلام الخرقي ( أنه ) لا فرق بين يسير التغير وكثيره وشذ ابن البنا فحكى وجهاً في العفو عن يسير الرائحة . ( المسألة الثانية ) ، أن ما دون القلتين ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير ، وهو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين ، لمفهوم خبر القلتين ، ولأن النبي أمر بإراقة الإناء الذي ولغ فيه الكلب ولم يعتبر التغير ، ( والثانية ) : لا ينجس إلا بالتغير ، اختارها ابن عقيل ، وابن المنى وأبو العباس ، وابن الجوز فيما أظن لخبر بئر بضاعة ، ويرشحه حديث أبي أمامة ، وخبر القلتين قد تكلم فيه ابن عبد البر وابن عدي وغيرهما ، وعلى تقدير صحته فالتقدير بهما والله أعلم بناء على الغالب ، إذ الغالب أن ما دون القلتين يظهر فيه الخبث ، ويؤثر فيه فيغيره ، بخلاف القلتين فإن الغالب عدم تأثرهما وتغيرهما بورود الدواب والسباع ونحو ذلك عليهما .
وعموم كلام الخرقي رحمه الله يشمل الراكد والجاري ، وهو إحدى الروايات ، واختارها السامري وغيره ، فعلى هذا إن بلغ مجموع الجاري قلتين لم ينجس إلا بالتغير ، وإلا نجس ، ( والرواية الثانية ) أن الجاري لا ينجس إلا بالتغير ، اختارها الشيخان ( والثالثة ) وهي اختيار الأكثرين ، القاضي وأصحابه تعتبر كل جرية بنفسها ، فإن كانت يسيرة نجست وإلا فلا ، ثم الجرية عند الأكثرين ما أحاط بالنجاسة ، فوقها وتحتها إلى قرار النهر ، وعن يمينها وشمالها ما بين جانبي النهر ، وزاد أبو محمد : ما قرب من النجاسة أمامها وخلفها . ولابن عقيل في فنونه أنها ما فيه النجاسة ، وقدر مساحتها فوقها وتحتها ، ويمينها ويسارها . انتهى .
وقول الخرقي رحمه الله : فوقعت فيه نجاسة . يخرج به ما إذا كانت النجاسة إلى جنبه كميتة ونحوها ، فإنها لا تؤثر فيه شيئاً ، إذ ذاك تغير مجاورة لا مخالطة ، ويخرج بذلك أيضاً ما إذا سخن بنجاسة ، ولم يعلم وصول شيء من أجزاء النجاسة إليه ، فإن طهوريته باقية بلا خلاف نعلمه ، نعم فيه كراهيته روايتان ( إحداهما ) واختارها ابن حامد : لا يكره نظراً للأصل ( والثانية ) واختارها الأكثرون يكره ، ولها مأخذان ( أحدهما ) احتمال وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء ، وإذاً يرتاب فيه .
19 فيدخل تحت قوله : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) فعلى هذا إذا كان الحائل حصيناً ، وعلم عدم وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء لم يكره ، وهذا اختيار أبي جعفر ، وابن عقيل ، ( والثاني ) استعمال الوقود النجس ، لأن هذه الصفة التي حصلت فيه ، حصلت بفعل محرم أو مكروه ، على اختلاف الأصحاب في استعمال ذلك ، فأثرت فيه منعاً ، وعلى هذا يكره وإن كان الحائل حصينا ، وهو اختيار القاضي ، وأحمد رحمه الله أومأ إلى التعليل بكل منهما .
( تنبيه ) : قد تقدم بيان القلة و ( لم يحمل الخبث ) ، أي يدفعه عن نفسه ، كما يقال : فلان لا يحمل الضيم . إذا كان يأباه ويدفعه عنه ، ( والريب ) الشك ، تقول : وابني فلان . إذا علمت منه الريبة ، وأرابني . إذا أوهمني الريبة والله أعلم .
قال : إلا أن تكون النجاسة بولًا أو عذرة مائعة فإنه ينجس ، إلا أن يكون الماء مثل المصانع التي بطريق مكة ، وما أشبهها من المياه الكثيرة التي لا يمكن نزحها ، فذلك الذي لا ينجسه شيء . .
ش : هذا مستثنى من منطوق المسألة السابقة ، وهو أن الماء إذا كان قلتين فوقعت فيه نجاسة لم ينجس إلا بالتغير ، فاستثنى من ذلك إذا كانت النجاسة بولًا أو عذرة مائعة ، فإنه ينجس وإن لم يتغير ، إن لم يبلغ الماء حداً يشق معه نزحه ، وهذا أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله نقلًا ، واختارها الأكثرون . قال القاضي : اختارها الخرقي ، وشيوخ أصحابنا . وقال أبو العباس : اختارها أكثر المتقدمين . قلت : وأكثر المتوسطين ، كالقاضي ، والشريف وابن البنا ، وابن عبدوس ، وغيرهم .
20 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ) وفي رواية : ( ثم يغتسل منه ) متفق عليه ، وهو شامل للقليل والكثير ، خرج منه ما يشق نزحه اتفاقاً ، فما عداه يبقى على قضية العموم ، ويحمل خبر القلتين على غير البول . ( والثانية ) أن حكم البول والعذرة حكم غيرهما ، اختارها ابن عقيل ، وأبو الخطاب والشيخان ، وقال أبو العباس : اختارها أكثر المتأخرين وقال السامري : وعليها التفريع ، لحديثي القلتين ، وبئر بضاعة ، أما ما يشق نزحه فلا ينجس إلا بالتغير إجماعاً .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) قال أبو محمد : لم أجد عن أحمد رحمه الله ولا عن أحد من أصحابه تقدير ذلك بأكثر من المصانع التي بطريق مكة . وقال الشيرازي : ذكر المحققون من أصحابنا أن ذلك يقدر ببئر بضاعة ، وكان قدر الماء فيها ستة أشبار في ستة أشبار . انتهى .
قال أبو داود : قدرت بئر بضاعة بردائي ، فمددته عليها ثم ذرعته ، فإذا عرضها ستة أذرع .
ومراد الخرقي رحمه الله بالبول بول الآدميين ، بقرينة ذكره العذرة ، فإنها خاصة بالآدميين ، مع أن لنا وجهاً أن غير بول الآدمي كبوله ، وحكم العذرة الرطبة حكم المائعة ، لاشتراكهما في السريان .
( الثاني ) : ( الماء الدائم ) الواقف ، لأنه قد دام في مكانه وسكن ، والله أعلم .
قال : وإذا مات في الماء اليسير ما ليست له نفس سائلة مثل الذباب ، والعقرب ، والخنفساء ، وما أشبهها فلا ينجسه .
ش : النفس السائلة الدم السائل ، قال ابن أبي الفتح : سمي الدم نفساً لنفاسته في البدن . وقال الزمخشري : النفس ذات الشيء وحقيقته ، يقال : عندي كذا نفساً . ثم قيل للقلب نفساً لأن النفس به ، ألا ترى إلى قولهم : المرء بأصغريه . وكذا الروح والدم نفس لأن قوامها بالدم انتهى . والحيوانات على ضربين ( أحدهما ) ما ليس له نفس سائلة ، كالذباب ، والعقرب ، والخنفساء ، والزنبور ، والنمل ، والقمل ، والسرطان ، ونحو ذلك ، وكذلك الوزغ ، ودود القز في وجه فيهما ، فلا ينجس الماء إذا مات فيه ، ما لم يكن متولداً من النجاسات ، لأنه لا ينجس بالموت على المشهور المعروف من الروايتين ، وإذا لم ينجس بالموت على المشهور المعروف من الروايتين ، وإذا لم ينجس بالموت لا ينجس الماء بالموت فيه .
21 ودليل عدم نجاسته بالموت ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه ، فإن في أحد جناحيه شفاء ، وفي الآخر داء ) رواه أحمد والبخاري ، وأبو داود ، ولأحمد ، والنسائي وابن ماجه ، من حديث أبي سعيد نحوه والظاهر أنه يموت بغمسه لا سيما إذا كان الطعام حاراً فإنه لا يكاد يعيش غالباً ، ولو نجس الطعام لأفسده ، فيكون أمراً بإفساد الطعام ، وهو خلاف ما قصده الشارع ، إذ قصد بغمسه دفع مضرة حصلت فيه ، كما شهد به التعليل ، لا إفساده بالكلية ، ولأن الله تعالى إنّما حرّم الدم المسفوح ، وهذا ليس بمسفوح ( وعن أحمد ) رحمه الله رواية أخرى بنجاسة ذلك بالموت ، فيكون حكمه إذا مات في الماء حكم غيره من النجاسات ، وقيّد ابن حمدان ذلك بما إذا أمكن التحرز منه غالباً ، وفيه نظر ، أما إن تولد من النجاسات كصراصير الكنيف فهو نجس حياً وميتاً ، بناء على المذهب من أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة ، ولا يرد هذا على الخرقي ، لأن موته لم يؤثر فيه شيئاً ، بل هو باق على ما كان عليه .
( الضرب الثاني ) ، ما له نفس سائلة ، وهو على ضربين أيضاً ( أحدهما ) ما كان نجساً في حال الحياة ، وهو واضح ، إذ موته لا يزيده إلا خبثاً ( الثاني ) ما كان طاهراً في الحياة ، وهو على ثلاثة أنواع ( أحدها ) السمك وما في معناه مما لا يعيش إلا في الماء ، فإن ميتته طاهرة ، وإن كان طافياً على المعروف ، وكذلك الجراد وإن لم يكبس ولم يطبخ ، على المذهب .
22 بدليل ما روي عن النبي أنّه قال : ( أحلت لنا ميتتان ودمان ، السمك والجراد ، والكبد والطحال ) ( الثاني ) الآدمي ، وميتته طاهرة على الصحيح من الروايتين .
23 لقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( إن المؤمن لا ينجس ) .
24 وفي حديث حذيفة : ( إن المسلم لا ينجس ) وكلاهما في الصحيح وهما شاملان للحياة والموت .
25 وقال البخاري : قال ابن عباس : المسلم لا ينجس حياً ولا ميتاً . ( والثانية ) نجسة ما عدا النبي ، فتنجس الماء اليسير ، قياساً على غيرها مما له نفس سائلة ، وقيل بتنجيس ميتة الكافر دون المؤمن ، عملًا بقوله : ( المسلم لا ينجس ) وهذان النوعان يردان على مفهوم كلام الخرقي على المذهب ، وقد يقول بنجاسة الآدمي بالموت ، فيرد عليه النوع الأول فقط . ( النوع الثالث ) ما عدا هذين من حيوانات البر الطاهرة ، مأكولًا كان أو غير مأكول ، وحيوانات البحر الذي يعيش في البر ، فإن ميتته نجسة ، فينجس الماء اليسير ، لعموم { حرمت عليكم الميتة } { إنما حرم عليكم الميتة والدم } .
وتقييد الخرقي رحمه الله الماء باليسير لأنه الذي ينجس بمجرد الملاقاة على المذهب ، أما لو كان كثيراً فإنه لا ينجس إلا بالتغير ، والغالب أن مجرد موت الحيوان في الماء الكثير لا يغيره .
( تنبيه ) : ( الذباب ) هذا الحيوان المعروف ، مفرد ، جمع القلة منه أذبة ، والكثير ذباب ، ولا يقال : ذبابة . قاله غير واحد ، والله أعلم .
قال : ولا يتوضأ بسؤر كل بهيمة لا يؤكل لحمها ، إلا السنور ، وما دونها في الخلقة .
ش : السؤر مهموز بقية طعام الحيوان وشرابه ، وسؤر الحيوان مبني عليه ، فإن كان الحيوان طاهراً فهو طاهر ، وإن كان نجساً فهو نجس ، وإن لم يتغير ، بناء على المذهب من تنجيس الماء القليل بمجرد الملاقاة ، وهو الغالب على السؤر ، ولهذا أطلق الخرقي رحمه الله . أما إذا كان السؤر كثيراً فإنه لا ينجس إلا بالتغير . إذا عرف هذا فالحيوان على ضربين ( بهم ) جمع بهيمة وهو ما عدا الآدمي ( والآدمي ) وهذا الضرب لم يتعرض الخرقي للحكم عليه بنفي ولا إثبات ، وحكمه أنه طاهر في الجملة ، مسلماً كان أو كافراً ، طاهراً أو محدثاً ، وكذلك سؤره ، لقوله : ( إن المؤمن لا ينجس ) .
26 وفي الصحيح أن عائشة رضي الله عنها كانت تشرب من الإناء ، فيضع فاه على موضع فيها . ويستثنى من ذلك سؤر المجوسي والوثني ومن في معناهما من ذمي يتظاهر بشرب الخمر أو أكل الخنزير ، أو من مسلم مدمن لشرب الخمر ، أو لتناول النجاسات ، فإن سؤر هؤلاء نجس ، على رواية مشهورة ، مختارة لكثير من الأصحاب تغليباً للظاهر على حكم الأصل .
27 وعليه يحمل حديث أبي ثعلبة المتقدم ، وقد جاء ذلك مصرحاً فيه وحكى في التلخيص عن أحمد رحمه الله رواية أخرى بتنجيس سؤر الكافر مطلقاً .
والضرب الأول الذي حكم عليه الخرقي رحمه الله على ضربين أيضاً ، مأكول وغير مأكول ، فالمأكول كله طاهر في الجملة إجماعاً حكاه ابن المنذر وغيره ، فيكون سؤره كذلك ، كما اقتضاه مفهوم كلام الخرقي . وهل يستثنى من ذلك الجلالة وهي التي تأكل العذرة بناء على نجاستها إذاً أولًا وهو مقتضى عموم مفهوم كلام الخرقي نظراً لأصلها ؟ على روايتين .
وغير المأكول على ثلاثة أضرب ( أحدها ) طاهر ، وهو السنور ويسمى الضيون بضاد معجمة ، وياء مثناة من تحتها ، ونون والهر والقط وما دونه في الخلقة ، كابن عرس والفأرة ونحو ذلك ، فهو طاهر ، وكذلك سؤره كما شهد بذلك النص .
28 فعن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة رضي الله عنهم أن أبا قتادة دخل عليها ، فسكبت له وضوءاً ، فجاءت هرة تشرب منه ، فأصغى لها الإناء حتى شربت ، قالت كبشة : فرآني أنظر إليه ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ فقلت : نعم . فقال : إن رسول الله قال : ( إنها ليست بنجس ، إنها من الطوافين عليكم والطوافات ) رواه الخمسة ، وصححه الترمذي وهذا يدل على طهارة الهر بالنص والتعليل ، ويدل على طهارة ما دونها بالتعليل وإذاً لا عبرة بوجه ضعيف بنجاسة سؤر ما دون الهرة ، نعم يكره سؤر ذلك على إحدى الروايتين بخلاف الهرة .
( تنبيه ) : لو أكلت الهرة أو نحوها نجاسة ، ثم شربت من ماء ، فثلاثة أوجه مشهورات ثالثها : إن شربت بعد غيبتها وقيل : قدر ما يطهر فمها بريقها فسؤرها طاهر ، وإلا فنجس . ( الضرب الثاني ) نجس بلا نزاع عندنا ، وكذلك سؤره ، وهو الكلب والخنزير ، وما تولد منهما أو من أحدهما .
29 لقوله : ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً ) ولمسلم : ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات ، أولاهن بالتراب ) . والخنزير شر منه ، والمتولد من الخبيث خبيث ، وحكى ابن حمدان رواية بطهارة سؤر الكلب والخنزير واستغربها واستبعدها وإنها لجديرة بذلك .
( الضرب الثالث ) سباع البهائم ، وجوارح الطير ، والبغل ، والحمار ، وفيها روايتان ( إحداهما ) وهي المشهورة عند الأصحاب ، وظاهر كلام الخرقي نجاستها ، فكذلك سؤرها ، لظاهر حديث القلتين وإلا لم يكن للتحديد بهما فائدة . ( والثانية ) طهارتها ، واختارها أبو محمد في البغل والحمار ، لعموم البلوى بهما ، ولأن النبي وأصحابه كانوا يركبونها مع حرارة بلادهم ، والظاهر أنهم لا يسلمون من ملاقاتها .
30 ويدل على ذلك في السباع ما روى مالك في الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن ، أن عمر رضي الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص ، حتى وردوا حوضاً ، فقال عمرو : يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع ؟ فقال عمر بن الخطاب : لا تخبرنا ، فإنا نرد على السباع ، وترد علينا . قال رزين : زاد بعض الرواة في قول عمر رضي الله عنه : وإني سمعت رسول الله يقول : ( لها ما أخذت في بطونها ، ولنا ما بقي طهور وشراب ) اه ، وإمامنا اعتمد على قول عمر ، فالظاهر عدم صحة الزيادة عنده ، وعلى هذه : سؤرها طاهر . ( وعن أحمد ) رواية ثالثة بالشك في سؤر البغل والحمار ، فيتيمم معه إن لم يجد ماء طهوراً ، وينوي بتيممه الحدث والنجاسة احتياطاً لاحتمالها ، وقيل : يتيمم ويصلي ، ثم يتوضأ به ويصلي .
واعلم أن المنصوص عن أحمد رحمه الله رواية الشك والنجاسة على ما ذكره القاضي في روايتيه ، وأبو الخطاب في خلافه ، أما رواية الطهارة فذكرها أبو الخطاب مخرجة ، والطاهر من سباع البهائم والله أعلم .
قال : وكل إناء حلت فيه نجاسة من ولوغ كلب ، أو بول ، أو غيره ، فإنه يغسل سبع مرات ، إحداهن بالتراب .
ش : لا خلاف عن إمامنا فيما نعلمه أن الإناء يجب غسله من نجاسة الكلب والخنزير سبعاً إحداهن بالتراب ، فكذلك ما تولد منهما أو من أحدهما .
30 م لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً ) متفق عليه ، ولمسلم : ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات ، أولاهن بالتراب ) وله في أخرى : ( فليرقه ، ثم ليغسله سبع مرات ) والخنزير شر منه ، نص الشارع على تحريمه ، وحرمة اقتنائه ، فالحكم يثبت فيه من طريق التنبيه ، وإنما لم ينص الشارع عليه والله أعلم لأن العرب لم يكونوا يعتادونه ، بخلاف الكلب ، فإنهم كانوا يعتادونه كثيراً ، والمتولد من الخبيث خبيث . ( وعن أحمد رحمه الله يجب الغسل ثمانياً ) .
31 لما روى عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله : ( إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات ، وعفروه الثامنة بالتراب ) رواه مسلم وغيره وحمل على أنه عدّ التراب ثامنة ، جمعاً بين الأحاديث ، وفي أي موضع جعل التراب أجزأه .
31 م لأن في مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( أولاهن بالتراب ) وفي أبي داود فيه : ( السابعة ) وفي الترمذي فيه : ( أولاهن أو أخراهن ) فدل على أن المقصود حصول التراب في الغسلات ، إلا أن الأولى جعله في الأولى ، ليأتي الماء عليه فينظفه ، ويكفي هم التراب لو انتضح من الغسلات على شيء على الأشهر ( وعنه ) : أن غسل ثمانياً جعله في الآخرة ، لحديث ابن مغفل ( وعنه ) بل في الآخرة مطلقاً ، ( وعنه ) : حيث شاء ، وهل يقوم الأشنان [ ونحوه ، أو الغسلة الثامنة مقام التراب ، أو لا يقومان ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، أو يقوم الأشنان ] ونحوه دون الماء ، أو إن تعذر التراب أو تضرر المحل به أجزأ الأشنان وإلا فلا . أو إن فسد المحل به كثوب حرير ونحوه سقط اعتباره رأساً ؟ على خمسة أوجه .
وحكم غير الإناء من الثياب والفرش ونحوها حكم الإناء ، إلا أن في وجوب التراب فيه قولان ، أصحهما يجب ، وإنما نص الخرقي رحمه الله على الإناء والله أعلم لورود النص فيه ، ( أما الأرض ) وما اتصل بها من الحيطان ، والأحواض ونحو ذلك ، فالواجب مكاثرتها بالماء حتى تزول عين النجاسة ، أيّ نجاسة كانت ، وإن كانت نجاسة كلب أو خنزير على المذهب ، وقد ذكر الخرقي رحمه الله هذا في غير هذا الموضع .
واختلف عن إمامنا رحمه الله في نجاسة غير الكلب والخنزير ، وما تولد منهما في غير الأرض وما اتصل بها ، فعنه ثلاث روايات مشهورات .
( إحداهن ) وهي اختيار الخرقي رحمه الله وجمهور الأصحاب أنها تغسل سبعاً ، كنجاسة الكلب قياساً عليها ، لأنه إذا وجب السبع في ولوغ الكلب ، مع الخلاف في طهارته وفي أكله ففي بول الآدمي ونحوه ، مع الإتفاق على نجاسته أولى وأخرى .
32 وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : أمرنا بغسل الأنجاس سبعاً وعلى هذه الرواية وقيل : بل حيث اشترط العدد ، وهو ظاهر ما في التلخيص والرعاية هل يجب التراب وهو اختيار الخرقي ، إلحاقاً له بنجاسة الكلب أو لا يجب وهو اختيار أبي البركات قصراً له على مورد النص ، أو لأن ذلك للزوجة في ولغ الكلب ؟ فيه وجهان . ( والثانية ) يجب غسلها ثلاثاً ، اختارها أبو محمد في العمدة .
33 لقوله : ( إذا انتبه أحدكم من نومه ، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً ، فإنه لا يدري أين باتت يده ) علل بوهم النجاسة ، ولا يزيل وهمها [ إلا ما يزيل ] حقيقتها ، ( والثالثة ) تكاثر بالماء حتى تزال ، من غير اعتبار عدد ، لأن النبي أمر أسماء بغسل دم الحيض ، ولم يأمرها بعدد ، وأمر أن يصب على بول الأعرابي ذنوباً من ماء ولم يأمر بعدد .
34 وقد روى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كانت الصلاة خمسين ، والغسل من الجنابة سبع مرات والغسل من البول سبع مرات فلم يزل النبي يسأل ، حتى جعلت الصلاة خمساً ، والغسل من الجنابة مرّة ، والغسل من البول مرّة . رواه أحمد وأبو داود ، وهو نص لكن في إسناده ضعف وروي أن السبع لا تعتبر في [ غير ] محل الإستنجاء من البدن ، وتعتبر في محل الاستنجاء [ وسائر المحال ، قال الخلال : وهي وهم ، وروي الاجتزاء بثلاث في محل الاستنجاء ] واعتبار السبع في غيره ، وضعفت أيضاً .
[ تن ] ( تنبيهات ) [ / تن ]
( أحدها ) قد شمل كلام الخرقي رحمه الله محل الإستنجاء ، فعلى المشهور عند الأصحاب : يغسل سبعاً كغيره . وقد صرح بذلك الثاضي في التعليق والشيرازي ، وابن عقيل ، وابن عبدوس ونص عليه أحمد رحمه الله في رواية صالح ، واختار أبو محمد في المغني أنه لا يجب العدد فيه ، اعتماداً على أنه لم يصح عن النبي في ذلك عدد ، لا من فعله ، ولا من قوله وتمسكا بإطلاق أحمد في رواية أبي داود وقد سئل عن حد الاستنجاء بالماء فقال : ينقي . ويؤيد هذا أنه لا يشترط له تراب ، كما نص عليه أحمد رحمه الله فقال : يجزئه الماء وحده ، وقطع به أبو محمد ، وابن تميم ، وغيرهما .
( الثاني ) : حيث اشترط التراب فهل من شرطه كونه طهوراً يجوز التيمم به ، أو يكتفى بكونه طاهراً ، وهو ظاهر ما في التلخيص ؟ قولان ، ثم شرط ابن عقيل أن يكون بحيث تظهر صفته ، ويغير صفة الماء .
( الثالث ) : ( ولغ يلغ ) بفتح اللام فيهما ، وحكى ابن الأعرابي كسرها في الماضي إذا شرب مما في الإناء بطرف لسانه ، ( والتعفير ) التمريغ في العفر وهو التراب [ والله أعلم ] .
قال : وإذا كان معه في السفر إناآن نجس وطاهر ، واشتبها [ عليه ] أراقهما وتيمم .
ش : صورة هذه المسألة إذا لم يجد طهوراً غيرهما ، ولم يمكن تطهير أحدهما بالآخر ، أما إذا كان ذلك فإنه يجب اعتماده ، وإنما ترك الخرقي رحمه الله بيان ذلك لوضوحه ، ولذلك قيد بالسفر ، لأنه حال مظنة عدم الماء ، ووجود إناء يسع قلتين ، وإلا فالحكم لا يختص بالسفر ، وبالجملة إذا اشتبه طاهر بنجس والحال ما تقدم واستويا ، فإنه لا خلاف في المذهب أنه يعدل إلى التيمم ، ولا يتحرى .
35 لقوله : ( دع ما يريبك ، إلى ما لا يريبك ) ولأنه اشتبه المباح بالمحظور ، فيما لا تبيحه الضرورة ، أشبه اشتباه أخته بأجنبية ، أو ميتة بمذكاة ، وإن كثر عدد الطاهر على عدد النجس ، فكذلك على المشهور ، المختار للأكثرين ، لما تقدم .
وأومأ الإمام في موضع إلى أنه يتحرى ، فما يغلب على ظنه أنه طهور استعمله ، وهو اختيار أبي بكر ، وابن شاقلا ، والنجاد ولأن إصابة الطهور والحال هذه أغلب ، ثم هل يكتفى بمطلق الكثرة [ أو لا بد من كثرة ] عرفاً وحكي عن القاضي في التعليق أو لا بد وأن يكون النجس عشر الطهور وهو المشهور ؟ فيه أوجه .
وظاهر كلام الخرقي أن ( صحة ) تيممه موقوف على إراقتهما ، وهو إحدى الروايتين ، بشرط أن يأمن العطش ، واختاره أبو البركات ، ليصير عادماً للماء بيقين فيدخل تحت قوله تعالى : { فلم تجدوا ماءً فتيمموا } . ( والثانية ) واختارها أبو بكر وأبو محمد : لا يشترط ، لأنه ممنوع من استعمالهما شرعاً ، أشبه الجريح ، وحكم الخلط حكم الإراقة .
وإطلاق الخرقي يقتضي أنه إذا صلى بالتيمم لا إعادة عليه بعد ، ولو علم عين الطاهر ، وهو المعروف من الوجهين ، [ والله سبحانه أعلم ] .
قال :
باب الآنية
ش : ( الآنية ) جمع إناء ، كسقاء وأسقية ، وجمع الآنية أواني ، والأصل : ءآني . أبدلت الهمزة الثانية واواً ، كراهة اجتماع همزتين ، ومثله : آدم وأوادم .
قال : وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس .
ش : مراد الخرقي والله أعلم الميتة النجسة ، وقد تقدم بيان الميتة النجسة من الطاهرة ، وجلد الميتة قبل الدبغ نجس ، أما بعد الدبغ ففيه روايتان : أشهرهما : وهي اختيار الخرقي وعامة الأصحاب أنه نجس ، لقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } والجلد جزء منها ، وهذا على القول بعمومها ، كما هو ظاهر كلام إمامنا رحمه الله لأنه استدل بها على ذلك ، وكثير من أصحابنا ، منهم القاضي في الكفاية ، وعلى هذا إما أن يمنع صحة الأحاديث الواردة في الدباغ ، كما أشار إليه أحمد كما سيأتي ، أو يلتزم صحتها ويمنع تخصيص عام القرآن بالسنة على أنا نلتزم أن الآية الكريمة ليست عامة ، وإنما المحرم تحريم الفعل المقصود من كل جزء منها ، والمقصود من الجلد الانتفاع به ، كما أن المقصود من اللحم الأكل .
36 ويؤيد ذلك حديث عبد الله بن عكيم قال : كتب إلينا رسول الله أن : ( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ) وفي رواية أبي داود : قبل موته بشهر : ( أن لا تنتفعوا ) وفي رواية للترمذي : بشهرين . رواه الخمسة وحسنه الترمذي وقال أحمد : ما أصلح إسناده . وفي رواية ابنه صالح : قال : ليس عندي في الدباغ حديث صحيح ، وحديث ابن عكيم أصحها . وفي لفظ للدارقطني : ( كنت رخصت لكم في جلود الميتة ، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ) وهو مشعر بنهي بعد رخصة ، وأن ما ورد من الرخصة كان أولًا . ولا يقال الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ . قاله النضر بن شميل وغيره ، لأنا نمنع ذلك ، كما قاله طائفة من أهل اللغة ويؤيد قولهم أنه لم يعلم من النبي فيه قبل الدبغ رخصة ، ولا عادة الناس الإنتفاع به .
فعلى هذه وقيل : وإن لم يدبغ هل يجوز استعماله في اليابس ونحوه ؟ على روايتين ، أما في المائع فقال كثير من الأصحاب : لا ينتفع بها رواية واحد ، قال ابن عقيل : ولو لم ينجس الماء ، بأن كانت تسع قلتين . قال : لأنها نجسة العين ، أشبهت جلد الخنزير ، وجوز أبو العباس في فتاويه الانتفاع بها في اليابس انتهى . فعلى رواية الجواز يجوز الدبغ وعلى رواية المنع فيه ( وجهان ) .
( والثانية ) أن الدباغ مطهر في الجملة ، اختارها أبو العباس ، وإليها ميل جده في المنتقى ، وابن حمدان في الكبرى ، وقيل : إنها آخر قولي أحمد ، قال أحمد بن الحسن الترمذي كان أحمد يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر : قبل وفاته بشهرين . ويقول : هذا آخر الأمرين من رسول الله ، ثم تركه للاضطراب في إسناده ، حيث روى بعضهم : عن عبد الله بن عكيم ، عن أشياخ من جهينة .
37 وذلك لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : تصدق على مولاة لميمونة بشاة ، فماتت ، فمر بها رسول الله فقال : ( هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ) .
38 ( وعنه أيضاً ) قال : سمعت رسول الله يقول : ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) رواهما مسلم وغيره وفي رواية في الصحيح أيضاً : ( إنما حرم أكلها ) .
39 ولأحمد وأبي داود ، والنسائي ، والدارقطني وصححه في حديث شاة ميمونة : ( يطهرها الماء والقرظ ) .
40 وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي في جلد الميتة قال : ( إن دباغة ذهب بخبثه أو رجسه أو نجسه ) رواه البيهقي في سننه وصححه وإذاً يمنع العموم في الآية الكريمة ، ويدعى فيها إما الإجمال كما قاله القاضي في العدة ، أو أن المحرم تحريم الأكل ، لأنه المقصود منها عرفاً ، أو يلتزم العموم ويدعى تخصيصه ، بما تقدم ، وحديث ابن عكيم لا يقاوم حديث ابن عباس .
41 ثم قد ورد نحوه من حديث عائشة ، وعالية بنت سبيع ، وسلمة بن المحبق ، وكلها في السنن على أن حديث ابن عكيم يحمل على ما قبل الدبغ ، جمعاً بين الأحاديث .
وعلى هذه الرواية هل الدباغ يصيره كالحياة ، بدليل رواية ابن عباس التي رواها البيهقي ، وهو اختيار أبي محمد ، وصاحب التلخيص فيه ، فيطهر جلد كل ما حكم بطهارته في الحياة كالهر ونحوها ، ما سوى الكلب والخنزير ، والمتولد منهما على رواية ، أو كالذكاة .
42 لأن في رواية : ( ذكاتها دباغها ) وهو اختيار أبي البركات فلا يطهر إلا ما يطهره الذكاة ؟ فيه وجهان ، وقد يخرج عليهما جلد الآدمي ، فإن في طهارته إن قيل بنجاسته بالموت بالدبغ وجهان ، والله أعلم .
قال : وكذلك آنية عظام الميتة .
ش : يعني أنها نجسة إذا كانت من ميتة نجسة ؛ لما تقدم من حديث عبد الله بن عكيم .
43 وفي بعض ألفاظه : ( أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء ) رواه البيهقي في سننه ولأن الحياة تحله فينجس بالموت كالجلد ، ودليل الوصف قوله تعالى : { قال من يحيي العظام وهي رميم } الآية ، وحكى أبو الخطاب ومن تبعه قولا بالطهارة ، وهو مختار أبي العباس .
44 لما روى أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( اشتر لفاطمة سوارين من عاج ) والعاج عظم الفيل ، وحكم القرن ، والظفر ، والحافر ، كالعظم ، إن أخذ من مذكى فهو طاهر ، ومن حي طاهر في الحياة ينجس بالموت فهو نجس ، وكذلك ما سقط عادة من قرون الوعول ونحوها ، ولأبي محمد ( رحمه الله ) فيه احتمال بالطهارة ، والله أعلم .
قال : ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة .
ش : أراد بالكراهة ( كراهة ) التحريم ، كما هو دأب السلف كثيراً ، وقد صرح بذلك في غير هذا الموضع ، فقال : والمتخذ آنية الذهب والفضة عاص ، وفيها الزكاة وإذا حرم الاتخاذ فالاستعمال أولى ، وقال : والشرب في آنية الذهب والفضة حرام .
45 وذلك لما روى حذيفة قال سمعت رسول الله يقول : ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ) وفي رواية : ( ولكم في الآخرة ) متفق عليه .
46 وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) متفق عليه وفي رواية لمسلم : ( الذي يأكل ويشرب ) وغير الأكل والشرب في معناهما .
وعموم كلام الخرقي يشمل الرجل والمرأة ، وهو كذلك ، لعموم الدليل ، وتخصيصه ، المنع بالذهب والفضة يقتضي إباحة ما عداهما ، وهو كذلك في الجملة .
47 لأن في حديث عبد الله بن زيد : أتانا رسول الله فأخرجنا له ماء في تور ( من صفر ) فتوضأ . رواه البخاري .
48 وجاء أنه توضأ هو وأصحابه من مخضب من حجارة ، ومن قدح من زجاج ، وأنه كان له قدح من خشب يشرب فيه ويتوضأ . ويدخل في المفهوم الثمين ، وهو ما كثر ثمنه ، قال أبو البركات : هو ما كان جنسه أكثر قيمة من جنس النقدين ، كالجوهر والبلور ، ونحوهما وهو كذلك ، لتخصيص النبي النهي بالذهب والفضة ، ومفهومه إباحة ما عداهما ، فمفهوم اللقب حجة عندنا على الأشهر ، ثم العلة فيهما الخيلاء ، وكسر قلوب الفقراء ، وهي غير موجودة هنا ، إذ الجوهر ونحوه لا يعرفه إلا خواص الناس ، ولا عبرة بكراهة الشيرازي الوضوء من الصفر والنحاس لما تقدم .
ويستثنى من العموم النجس ، كآنية عظام الميتة ونحو ذلك ، وقد يؤخذ من كلامه ثم ، والمحرم ، كالمغصوبة ونحوها ، والمضبب والمطعم بالذهب أو الفضة .
49 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : ( من شرب من إناء ذهب ، أو فضة ، أو إناء فيه شيء من ذلك ، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) رواه البيهقي في سننه وقال : والمشهور عن ابن عمر في المضبب من قوله ، وعن عمرة قالت : ما زلنا بعائشة حتى رخصت لنا في الحلي ، ولم ترخص لنا في الإناء المفضض . رواه البيهقي أيضاً .
ويستثنى من المضبب [ المضبب ] بضبة من الفضة ، ويأتي الكلام على هذا إن شاء الله في كتاب الأشربة ، أبسط من هذا .
[ تنبيهان : ( أحدهما ) : ( يجرجر في بطنه ) أي يحدر ، جعل الشرب جرجرة ، وهو صوت وقوع الماء في الجوف ] ( الثاني ) : ( التور ) شبه الطست ، وقال ابن الأثير : إناء صغير ( والمخضب ) مثل الإجانة التي تغسل فيها الثياب . والله أعلم .
قال : فإن فعل أجزأه .
ش : إذا خالف وتوضأ فيها أجزأه عند الخرقي ، وأبي محمد ، إذ استعمال الماء في الوضوء حصل بعد فعل المعصية ، وبهذا فارق الصلاة في البقعة الغصب ، ولم يجزه عند أبي بكر ، وأبي الحسين ، وأبي العباس لإتيانه بالعبادة على وجه المحرم ، أشبه الصلاة في المحل الغصب ، ودليل الوصف وصف الشارع الأكل والشرب بالتحريم ، مع حصولهما بعد فعل الأكل والشرب ، حيث توسل إليهما بالمحرم .
وقول الخرقي : يتوضأ في آنية الذهب والفضة . يحتمل أنه غطس فيها وكانت تسع قلتين ، ووجد الترتيب ، بأن أخرج وجهه أولًا ، ثم يديه ، ثم مسح رأسه ، أو غسله وقلنا : يجزئ عن المسح ، ثم أخرج رجليه ، وعلى هذا يصح فيما إذا توضأ منها ، أو بها ، أو جعلها مصباً للماء بطريق الأولى ، ويحتمل أن يريد أنه جعلها مصباً للماء ، وعلى هذا لا يلزم الصحة فيما إذا توضأ فيها ، أو بها ، أو منها ، لأنّا إذا قلنا بعدم الصحة في هذه الصور ، ففي جعلها مصباً احتمالان ، أصحهما الصحة ، والله أعلم .
قال : وصوف الميتة وشعرها طاهر .
ش : يعني من الميتة الطاهرة في الحياة ، وإلا فالنجسة في الحياة ؛ الموت لا يزيدها إلّا خبثاً ، وهذا هو المعروف المشهور من نص أحمد ، وعليه أصحابه ، لقول الله تعالى : 19 ( { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها } ) الآية . ساقه سبحانه وتعالى في سياق الامتنان ، فالظاهر شموله لحالتي الحياة والموت ، وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي وجد شاة ميتة فقال : ( هلا انتفعتم بجلدها ) ؟ فقالوا : إنها ميتة . فقال : ( إنما حرم أكلها ) ( وعن أحمد ) رواية أخرى أنها نجسة ، أومأ إليها في شعر الآدمي الحي ومن ثم يعلم أن حكاية صاحب التلخيص الخلاف في شعر غير الآدمي ، والقطع فيه بالطهارة ليس بشيء وذلك لما تقدم من حديث عبد الله بن عكيم : ( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ) ولعموم { حرمت عليكم الميتة } ( وأجيب ) : بأن المراد بالآية الحياة الحيوانية ، ومن خاصيتها الحس والحركة الإرادية ، وهما منتفيان في الشعر ، وحكم الوبر والريش حكم الشعر .
وقد دخل في قولنا : من الميتة الطاهرة في الحياة . شعر الهرة ونحوها ، وهو اختيار أبي محمد وابن عقيل ، وقيل بنجاسة شعر ذلك بعد الموت ، إذ طهارته في الحياة لعلة مشقة الاحتراز منه ، وقد زالت بالموت وجعل القاضي الخلاف في المنفصل في حياته أيضاً ، وألحق ابن البنا بذلك سباع البهائم ونحوها ، على القول بطهارتها والله أعلم .
باب السواك وسنة الوضوء
ش : ( السوك ) والمسواك العود الذي يتسوك به ، يذكّر ويؤنّث ، سمي بذلك لكون الرجل يردده في فيه ويحركه ، يقال : تساوكت الإبل إذا مشت مشياً في لين ، ( والسنة ) الشريعة والطريقة .
50 قال رسول الله : ( فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .
51 وقال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) وإذا أطلقت في مقابلة الواجب أريد بها المستحب .
52 ومنه قوله : ( إن الله فرض صيام رمضان ، وسننت لكم قيامه ) الحديث ، ورسمت بأنها ما رسم للتحدي ، وهو ما يكون المتأسي فيه مماثلًا للأول لا مخالفاً له ، والله أعلم .
قال : والسواك سنة .
53 ش : عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ) رواه أحمد والنسائي ، والبخاري تعليقاً مجزوماً به ، وابن حبان ورواه أيضاً من طريق أبي هريرة ، ورواه أحمد من طريق أبي بكر ، وابن عمر رضي الله عنهم .
54 ولأحمد عن واثلة . . ( لقد أمرت بالسواك ، حتى خشيت أن يكتب علي ) .
55 وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ) . وهو لأبي داود ، والترمذي من حديث زيد بن خالد الجهني .
والحكم الذي حكم به الخرقي يشمل النبي ، وهو اختيار ابن حامد ، واختيار القاضي وابن عقيل الوجوب عليه ، بخلاف أمته ، والله أعلم .
قال : يستحب عند كل صلاة .
ش : يتأكد استحباب السواك في مواضع ( منها ) عند الصلاة ، لما تقدم من حديث أبي هريرة ، ( وعند المضمضة ) في الوضوء .
56 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء ) رواه أحمد بإسناد صحيح . . ( وعند القيام ) من نوم الليل .
57 لأن في الصحيحين أن النبي كان إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك . . ( وعند دخول ) المسجد والمنزل ، وقراءة القرآن ، وإطالة السكوت ، وخلو المعدة من الطعام ، واصفرار الأسنان ، وتغير رائحة الفم ، والله أعلم .
قال : إلا أن يكون صائماً ، فيمسك من وقت الزوال إلى أن تغرب الشمس .
ش : هذا هو المشهور في المذهب ، حتى أن ابن عقيل قال : لا يختلف المذهب في ذلك .
58 وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ) والخلوف إنما يظهر غالباً بعد الزوال ، ولأنه أثر عبادة ، مستطاب شرعاً ، أشبه دم الشهيد ، وهذا الإمساك على سبيل الاستحباب ، فلو خالف ففي الكراهة روايتان . وحكى القاضي وغيره رواية بالاستحباب ، وهي أظهر .
59 لما روى عامر بن ربيعة قال : رأيت رسول الله ما لا أحصي يتسوك وهو صائم . رواه أحمد وأبو داود ، والترمذي وحسنّه .
60 قال البخاري : وكان ابن عمر يستاك أول النهار وآخره ولأن مرضاة الرب أطيب من ريح المسك ، والقياس نقول بموجبه ، ونمنع أن الخلوف في محل السواك إنما هو من المعدة والخلو على أنه لو صح القياس للزم أن لا يزال بعد الغروب ، وحيث سن السواك ففي كراهته بعود رطب خشية تحلل جزء روايتان والله أعلم .
( تنبيه ) : ( يشوص ) أي يغسل ، قاله الهروي : وقيل : يدلك . قال ابن الأعرابي وقيل : ينقي وقيل : هو أن يستاك عرضاً . وعن ابن دريد . . الشوص هو الاستياك من سفل إلى علو ، ومنه الشوصية ريح ترفع القلب عن موضعه اه . ( والموص ) بمعناه ، وقيل لا ، ( والخلوف ) : بضم الخاء ، هكذا الرواية الصحيحة ورواه من لا يحقق بفتحها وخطأ ذلك الخطابي . . قال الهروي : خلف فوه ، إذا تغير ، يخلف خلوفاً والله أعلم قال : وغسل اليدين إذا قام من نوم الليل ، قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثاً .
ش : لا إشكال في مطلوبية الغسل والحال هذه .
60 م لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إذا استيقظ أحدكم من نومه ، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً ، فإنه لا يدري أين باتت يده ) متفق عليه . . هذا لفظ مسلم ، ولفظ البخاري : ( إذا استيقظ أحدكم من نومه ، فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) . وللترمذي وصححه : ( إذا استيقظ أحدكم من الليل ) .
وهل تنهض المطلوبية للوجوب ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) نعم ، واختارها أبو بكر والقاضي ، وعامة أصحابه ، بل وأكثر الأصحاب ، لما تقدم من الأمر بذلك ، والنهي عن عدمه ، ومقتضى ذلك الوجوب ، وعلى هذه : غسلهما شرط لصحة الصلاة ، قاله ابن عبدوس وغيره ، وهل هو تعبد ، فيجب وإن شدت يده ، أو جعلت في جراب ونحو ذلك ، أو معلل بوهم النجاسة ، فلا يجب من نحو ما تقدم ؟ فيه وجهان . ويتعلق الحكم بالنوم الناقض على الأشهر ، لا بنوم أكثر الليل ، وهل تجب النية والتسمية لغسلهما ؟ أوجه ثالثها : تجب ( النية ) دون التسمية .
( والرواية الثانية ) : لا تنهض لذلك ، اختارها الخرقي والشيخان ، قال أبو العباس : اختارها الخرقي وجماعة ، لأن قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } شمل القائم من النوم .
61 لا سيّما وقد فسره زيد بن أسلم رضي الله عنه بالقيام من الليل ولم يذكر سبحانه وتعالى غسل اليدين ، والأمر السابق للندب ، لأنه علل بوهم النجاسة ، وذلك يقتضي الندبية لا الوجوب استصحاباً للأصل .
واعلم أن السنة لا تختص بنوم الليل بل يسن له أن يغسل يديه عند الوضوء وإن لم يقم من نوم أصلًا ، حتى لو تيقن طهارتهما ، على المذهب المنصوص ، لأن الواصفين لوضوئه قالوا : وغسل كفيه ثلاثاً . وإنما نص الخرقي على نوم الليل دون غيره لتأكده ، ولينص على محل الخلاف ، والغسل المطلوب إلى الكوع ، والله أعلم .
قال : والتسمية عند الوضوء .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار أبي محمد ، وقال الخلال : إنه الذي استقرت عليه الروايات .
62 لقوله : ( توضؤا بسم الله ) ولم يجب ، لقوله سبحانه : 19 ( { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } ) ولم يذكر التسمية ، ولأنها طهارة ، فلم تجب لها التسمية كطهارة الخبث . ( والرواية الثانية ) : تجب . واختارها أبو بكر ، وابن شاقلا وأبو جعفر ، وأبو الحسين ، وأبو الخطاب . قال أبو العباس : اختارها القاضي وأصحابه ، وكثير من أصحابنا بل أكثرهم .
63 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال : ( لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه ) رواه أحمد وأبو داود ، ولأحمد وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد [ وأبي سعيد مثله قال البخاري : أحسن شيء في هذا الباب حديث سعيد بن زيد ] وكذلك قال إسحاق : إنه أصحها ، وعلى هذه تسقط بالسهو على رواية اختارها القاضي في التعليق ، وابن عقيل وأبو محمد ، ولا تسقط في أخرى ، اختارها ابن عبدوس ، وأبو البركات ، وقال الشيرازي ، و ابن عبدوس : متى سمى في أثناء الوضوء أجزأه على كل حال .
( تنبيه ) : محل التسمية اللسان ، وصفتها : بسم الله . فإن قال : بسم الرحمن : أو القدوس ، لم يجزئه على الأشهر ، كما لو قال : الله أكبر . ونحوه ، على المحقق وتكفي الإشارة بها من الأخرس ونحوه ، والله أعلم .
قال : والمبالغة في الاستنشاق ، إلّا أن يكون صائماً .
64 ش : أي تسن لما روى لقيط بن صبرة قال : قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء . قال : ( أسبغ الوضوء ، وخلل بين الأصابع ، وبالغ في الاستنشاق إلّا أن تكون صائماً ) رواه أبو داود والنسائي وصححه الترمذي ، وابن خزيمة ، والحاكم وإنما لم تجب على المشهور لسقوطها بصوم النفل ، والواجب لا يسقط بالنفل ، وقال ابن شاقلا ويحكي رواية تجب . لظاهر الأمر ، وقيل : في الكبرى فقط .
واقتصر الخرقي رحمه الله على الاستنشاق تبعاً للحديث ، ولنص أحمد : فإنه إنما نص على ذلك وصرّح بذلك ابن الزاغوني فقال : يبالغ في الاستنشاق دون المضمضة ، وعامة المتأخرين على أنه يبالغ فيهما ، وقد روي في بعض ألفاظ لقيط : ( وبالغ في المضمضة والاستنشاق ) .
وظاهر كلام الخرقي أن المبالغة للصائم لا تسن ، وصرح به أبو محمد وأبو العباس ، وقال الشيرازي : لا يجوز . وينبغي أن يقيد قوله بصوم الفرض .
( تنبيه ) : المبالغة في الاستنشاق اجتذاب الماء بالنّفس إلى أقصى الأنف ، ولا يصيّره سعوطاً ، وفي المضمضة إدارة الماء في أقاصي الفم ، ولا يصيّره وجوراً والله أعلم .
قال : وتخليل اللحية .
ش : تخليل اللحة من سنن الوضوء ، على المذهب المعروف .
65 لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه توضأ وخلل لحيته ، حين غسل وجهه ، ثم قال : رأيت رسول الله فعل الذي رأيتموني فعلت . رواه الترمذي ، وصححه ابن خزيمة ، وابن حبان ، وحسنه البخاري وهذا إذا كانت كثيفة ، أما إذا كانت خفيفة تصف البشرة ، فإنه يجب غسلها ، وحكم بقية الشعور كذلك كما سيأتي .
وصفة التخليل من تحتها بأصابعه ، نص عليه ، أو من جانبيها .
66 وفي السنن عن أنس رضي الله عنه : أن رسول الله كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فيدخله تحت حنكه ، ويخلل به لحيته ، ويقول : ( بهذا أمرني ربي عز وجل ) ومن ثم قيل بوجوب التخليل ، كما ذكره ابن عبدوس وقيل أيضاً : يخلل بماء جديد وقيل : بل بماء الوجه . ونص أحمد على أنه إن شاء خللها مع وجهه ، وإن شاء إذا مسح رأسه ، والله أعلم .
قال : وأخذ ماء جديد للأذنين ظاهرهما وباطنهما .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار ابن أبي موسى والقاضي في الجامع الصغير ، وابن عقيل ، وابن عبدوس والشيرازي ، وابن البنا ، وصاحب التلخيص .
67 لما روي عن حبان بن واسع ، أن أباه حدثه ، أنه سمع عبد الله بن زيد ، يذكر أنه رأس رسول الله يتوضأ ، فأخذ لأذنيه ماء خلاف الذي أخذ لرأسه . رواه البيهقي في سننه ، وقال : إسناده صحيح . ( والثانية ) : واختارها القاضي في تعليقه ، وأبو الخطاب في خلافه الصغير ، وأبو البركات : لا يسن . لأن غالب من وصف وضوء النبي ، ذكر أنه مسح رأسه وأذنيه بماء واحد .
68 وصفة مسحهما أنه يدخل سباحتيه في صماخي أذنيه ، ويمسح بإبهاميه ظاهرهما ، كذلك وصف ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي . رواه النسائي .
قال : وتخليل ما بين الأصابع .
ش : لا إشكال في مسنونية تخليل أصابع الرجلين .
69 وفي السنن عن المستورد بن شداد ، قال : رأيت رسول الله إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره . وفي أصابع اليدين ( روايتان ) أشهرهما كما اقتضاه كلام الخرقي يسن لعموم حديث لقيط .
70 وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال له : ( إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك ) ( والثانية ) : لا يسن . إذ تفريجهما يغني عن تخليلهما ، وتخليل أصابع رجليه بخنصره كما في حديث المستورد اليسرى ، لأنها المعدّة لإزالة الوسخ والدرن ، ونحو ذلك ، من باطن رجله ، لأنه أبلغ في التخليل ، يبدأ بخنصر رجله اليمنى ، ويختم بخنصر اليسرى ، تأسياً بمحبة النبي التيمن ، وأصابع يديه إحداهما بالأخرى ، والله أعلم .
قال : وغسل الميامن قبل المياسر .
ش : أي يبدأ باليد اليمنى قبل اليسرى ، وكذلك في الرجلين ، وكذلك إذا بدأ بإحدى أذنيه ، ونحو ذلك .
71 لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله ، وطهوره ، وفي شأنه كله ، ولا يجب . قال أحمد : لأن مخرجهما في الكتاب واحد . يعني أن الله تعالى قال : 19 ( { وأيديكم إلى المرافق . . . وأرجلكم إلى الكعبين } ) ولم يقل : واليد اليمنى ، واليد اليسرى وشذ الفخر الرازي فحكى في تفسيره عن أحمد الوجوب ، وهو منكر ، فقد قال ابن عبدوس : هما في حكم اليد الواحدة ، حتى أنه يجوز غسل إحداهما بماء الأخرى .
( تنبيه ) : ظاهر كلام الخرقي أنه لا يسن مسح العنق ، لأنه لم يذكره ، وهو الصحيح من الروايتين .
72 لعدم ثبوت ذلك في الحديث .
وظاهر كلامه أيضاً أنه لا يسن غسل داخل العينين ، وهو اختيار القاضي في تعليقه والشيخين ، نظراً إلى أن الضرر المتوقع كالمتحقق ، واستسنه صاحب التلخيص وغيره ، بشرط أمن الضرر ، وغالي بعضهم فحكى رواية بالوجوب ، مخرجة من وجوب ذلك في الغسل ، فإن فيه عن أحمد روايتان منصوصتان ، المختار منهما عند الشيخين ، عدم الوجوب ، بل وعدم الاستحباب أيضاً ، وعلى الروايتين خرج غسلهما من النجاسة ، والله أعلم .
قال :
باب فرض الطهارة
ش : الفرض والشرط يشتركان في توقف الماهية عليهما ، ويفترقان في أن الشرط يكون خارج الماهية ، والفرض داخلها ، وأيضاً فالشرط يجب استصحابه في الماهية ، من أولها إلى آخرها ، والفرض ينقضي ويأتي غيره ، واعتبر ذلك بالطهارة ، وغسل الوجه ، ونحو ذلك ، والخرقي رحمه الله نظر إلى المعنى الأول ، فسمى الماء الطاهر ، وإزالة الحدث ، والنية فروضاً ، وهي بالمعنى الثاني شرائط .
ومراد الخرقي ( رحمه الله ) هنا بالطهارة طهارة الحدث ، لا طهارة الخبث والله أعلم .
قال : وفرض الطهارة ماء طاهر .
ش : أراد بالماء الطاهر الطاهر غير المضاف ، الذي صدر به كتاب الطهارة ، وترك التنبيه على ذلك للاستغناء بما تقدم ، ولعله دل عليه بقرينة التنكير ، وأراد به التنويع ، وقد تقدم أن الطهارة لا تكون إلا بالماء الطاهر ، والله أعلم .
قال : وإزالة الحدث .
ش : أي الاستنجاء بالماء ، أو الأحجار على ما نبين في موضعه إن شاء الله تعالى ، إن وجد منه ما يقتضي ذلك ، وقد اختلفت الرواية عن أحمد في ذلك ، فروي عنه وهو اختيار الخرقي والجمهور أن من شرط صحة الوضوء إزالة ذلك .
73 لأن في حديث المذي : ( يغسل فرجه ثم يتوضأ ) و ( ثم ) للترتيب .
74 ولأن المنقول عن النبي ، وعن أصحابه الاستنجاء قبل الوضوء وروي عنه وهو اختيار أبي محمد لا يشترط ذلك ، لأنها نجاسة ، فصح الوضوء قبلها ، كالنجاسة على سائر البدن ، أو على المخرج غير خارجة منه ، فإن ذلك محل وفاق ، والقاضي في موضع جعل ذلك كالنجاسة على المخرج منه ، فعلى هذه الرواية يستفيد مس المصحف ، واللبث في المسجد إن كان جنباً ، ولبس الخف ، والصلاة إذا عجز عن الاستنجاء ، أما مع القدرة فيستنجي بحائل ، أو ينجيه غيره ، بشرطه ، أو هو بلا حائل إن قيل : مس الفرج لا ينقض ، ثم يصلي .
وحكم التيمم حكم الوضوء ، فيصح على هذه الرواية ، والحال هذه ، اختاره ابن حامد ، واختار القاضي ، وأبو البركات ، وابن حمدان البطلان بخلاف الوضوء في التيمم ، لأنه مبيح ، ولا استباحة قبل الإستنجاء .
وحكم النجاسة على غير المخرج في التيمم ، حكمها على المخرج ، وعند ابن عقيل والأشبه عند أبي محمد ، وصححه ابن حمدان الفرق ، كما لو كانت على الثوب ، والله أعلم .
قال : والنية للطهارة .
ش : أي لطهارة الأحداث ، ولا خلاف عندنا في ذلك ، لقوله سبحانه وتعالى : 19 ( { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ) والإخلاص محض النية .
75 وثبت أن النبي قال : ( إنما الأعمال بالنيات ) وأكّد ذلك بقوله : ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) وقوله : ( لا عمل إلا بنية ) اه . والنية في اللغة القصد يقال : نواك الله بخير . أي قصدك به ، وفي الشرع : قصد رفع الحدث ، أو الطهارة ، لما لا يباح إلا بالطهارة ، كمس المصحف ، والطواف ، ونحو ذلك ، فأما قصد ما تسن له الطهارة ، كقراءة القرآن ، والأذان فقيل : يحصل به رفع الحدث ، اختاره أبو حفص ، والشيخان وقيل : لا اختاره ابن حامد والشيرازي ، وأبو الخطاب ومحل النيّة القلب ، فالعبرة به دون اللسان ، نعم : الأولى عند كثير من المتأخرين الجمع بين القصد والتلفظ والله أعلم .
قال : وغسل الوجه .
ش : هذا بالإجماع ، وبنص كتاب الله سبحانه وتعالى ، قال الله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ، وأيديكم إلى المرافق ، وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين } ) .
قال : وهو من منابت شعر الرأس ، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن ، وإلى أصول الأذنين ، ويتعاهد المفصل ، وهو ما بين اللحية والأذن .
ش : حد الوجه طولًا من منابت شعر الرأس غالباً فلا عبرة بالأقرع ، الذي ينبت شعره في بعض جبهته ، ولا بالأجلح ، الذي انحسر شعره عن مقدم رأسه إلى ما انحدر من اللحيين والذقن ، وعرضا ما بين أصول الأذنين ، لأن جميع ذلك تحصل به المواجهة ، فدخل تحت الآية الكريمة ، وقد دل كلام المصنّف على [ أن ] الأذنين ليسا من الوجه ، وسنصرّح بذلك إن شاء الله ، ودل أيضاً على أن البياض الذي بين العذار والأذن من الوجه ، وقد أكّد ذلك بقوله : ويتعاهد المفصل . ونص أحمد رحمه الله على ذلك ، لأنه من الوجه في حق الصبي ، فكذلك في حق غيره .
تنبيهان :
( أحدهما ) : يدخل في الوجه ( العذار ) وهو الشعر الذي على العظم الناتئ المسامت صماخ الأذن ، وما انحط عنه ، إلى وتد الأذن ( والعارض ) وهو النازل عن حد العذار على اللحيين ، قال الأصمعي ما جاوز وتد الأذن عارض . ( والذقن ) وهو مجمع اللحيين ، والحاجبان ، وأهداب العينين ، والشارب ، والعنفقة ، وفي ( الصدغ ) وهو الشعر الذي بعد انتهاء العذار ، يحاذي رأس الأذن ، وينزل عن رأسها قليلًا ( والتحذيف ) وهو الشعر الخارج إلى طرفي اللحيين ، في جانبي الوجه ، بين النزعة ومنتهى العارض ثلاثة أوجه : يدخلان ، لا يدخلان ، واختاره أبو محمد في الكافي وأبو البركات ، زاعماً أنه ظاهر كلام أحمد ، ( الثالث ) : يدخل التحذيف دون الصدغ ، واختاره ابن حامد ، وأبو محمد في المغني ، ولا يدخل فيه ( النزعتان ) ، وهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس ، متصاعداً من جانبي الرأس ، عند أبي محمد ، ويدخلان عند ابن عقيل ، والشيرازي ، وحكم ما دخل في الوجه من هذه الشعور وجوب غسلها إن كانت خفيفة ، تظهر معها البشرة ، مع ما ظهر من البشرة ، ووجوب غسل الظاهر منها إن كانت كثيفة ، لا تصف البشرة كلحية الرجل سواء ، نص عليه أحمد ، وقيل في لحية المرأة ، وما عدا لحية الرجل : يجب غسل باطنه مطلقاً ، لندرة كثافة ذلك ، فعلى المذهب : إن خف بعض ، وكثف بعض فلكل حكمه .
( الثاني ) : قد يقال : ظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب غسل المسترسل من اللحية ، وهو إحدى الروايتين ، فلا يجب غسل ما خرج منها عن محاذاة محل الفرض ، كالنازل من الرأس عنه ، ( والرواية الثانية ) وهي المذهب عند الأصحاب بلا ريب يجب غسل المسترسل مطلقاً .
76 لقول النبي : ( ثم يغسل وجهه كما أمره الله ، إلّا خرّت خطايا وجهه من أطراف لحيته ، مع الماء ) ولأن اللحية تشارك الوجه في معنى التوجه والمواجهة ، وخرج ما نزل من الرأس عنه ، لعدم مشاركته للرأس في الترأس ، ونقل بكر بن محمد ، عن أبيه ، أنه سأل أحمد أيما أعجب إليك غسل اللحية ، أو التخليل ؟ فقال : غسلها ليس من السنّة ، وإن لم يخلل أجزأه ، فأخذ من ذلك الخلال أنها لا تغسل مطلقاً ، فقال : الذي ثبت عن أبي عبد الله ، أنّه لا يغسلها ، وليست من الوجه البتة ، وامتنع من ذلك القاضي في تعليقه ، والشيخان وغيرهم ، فقالوا : معنى قوله : ليس من السنّة أي غسل باطنها ، [ والله أعلم ] .
قال : والفم والأنف من الوجه .
ش : يعني فيجب غسلهما مع غسل الوجه ، ويعبر عن ذلك بالمضمضة والاستنشاق ، والمذهب المشهور الوجوب في الطهارتين الصغرى والكبرى ، لأن الله سبحانه [ وتعالى ] أمر بغسل الوجه ، وأطلق .
77 وفسره النبي بفعله وتعليمه ، فمضمض واستنشق ، ولم ينقل عنه أنه أخل بذلك ، مع اقتصاره على المجزئ ، وهو الوضوء مرة مرة ، وقوله : ( هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وفعله إذا خرج بياناً كان حكمه حكم ذلك المبين ، وأيضاً حديث لقيط بن صبرة المتقدم ، وهو يدل من جهة اللازم ، وفي رواية لأبي داود فيه : ( إذا توضأت فمضمض ) .
78 وللدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أمر رسول الله بالمضمضة والاستنشاق . وقد روي مسنداً ومرسلًا ولأنها في حكم الظاهر ، ألا ترى أن وضع الطعام ، واللبن ، والخمر فيهما لا يوجب فطراً ، ولا ينشر حرمة ، ولا يوجب حداً ، وحصول النجاسة فيهما يوجب غسلهما ، وينقض الوضوء بشرطه . ( وعنه ) الواجب الاستنشاق فقط فيهما .
79 لأن في الصحيح : ( إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثمّ لينتثر ) وفي لفظ : ( من توضأ فليستنشق ) وإذا أمر بذلك في الوضوء ففي الغسل أولى . ( وعنه ) يجبان في الكبرى ، لأنه يجب وصول الماء فيها إلى باطن الشعور ، ونحو ذلك ، ولا يجبان في الصغرى ، لأن المأمور به فيها غسل الوجه ، والوجه ما تحصل به المواجهة ، وليسا كذلك ، فأشبها باطن اللحية الكثّة ( وعنه ) يجب الاستنشاق وحده في الوضوء فقط ، جموداً على قوله : ( من توضأ فليستنشق ) ( وحيث ) قيل بالوجوب ، فتركهما أو أحدهما ولو سهواً ، لم يصح وضوءه ، قاله الجمهور ، وقال ابن الزاغوني : إن قيل : إن وجوبهما بالسنة صح مع السهو ، وحكى عن أحمد في ذلك روايتين ، إحداهما بالكتاب ، والثانية بالسنّة .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب تقديمهما على سائر الوجه ، لأنهما منه ، وأنه يجب الترتيب والموالاة بينهما وبين سائر الأعضاء ، كما يجب في الخد ونحوه وهو إحدى الروايتين ، قال أبو البركات : وهي أقيسهما ، كبقية أجزائه ، والرواية الثانية واختارها أبو البركات : لا يجب فلو تركهما ثمّ صلّى أتى بهما ، وأعاد الصلاة دون الوضوء ، نصّ عليه أحمد ، ومبناه ( على ) أن وجوبهما بالسنّة ، والترتيب إنما وجب بدلالة القرآن معتضداً بالسنّة ، ولم يوجد ذلك فيهما ، بل قد وجد في السنّة ما يقتضي عدم الوجوب .
80 فعن المقدام بن معد يكرب قال : أتي رسول الله بوضوء فتوضأ ، فغسل كفيه ثلاثاً ، وغسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ غسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ تمضمض واستنشق ثلاثاً ، ثمّ مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما . رواه أبو داود ، وأحمد وزاد : وغسل رجليه ثلاثاً والله أعلم .
تنبيه : المضمضة دوران الماء بالفم ، والإستنشاق إدخال الماء في الأنف ، قال أبو محمد : ولا تجب الإدارة في جميع الفهم ولا الإيصال إلى جميع باطن الأنف ، وهو مشعر بوجوب الإدارة والوصول في الجملة ، وصرّح بذلك الشيرازي ، وقال ابن أبي الفتح : المضمضة في اللغة تحريك الماء في الفم ، وفي الشرع وضع الماء في فيه ، وإن لم يحركه . وليس بشيء ، والله أعلم .
قال : وغسل اليدين [ إلى المرفقين ] .
ش : هذا بالإجماع ، والآية الكريمة ، وكلامه شامل لما إذا نبتت له يد أو أصبع زائدة في محل الفرض ، فإنه يجب غسلها معه ، وهو كذلك فلو كان النابت في العضد ، أو المنكب ولم تتميز الأصلية ، غسلا معاً ، وإن تميزت لم يجب غسل ما لم يحاذ محل الفرض ، وفيما حاذاه وجهان ، الوجوب اختيار القاضي ، والشيرازي ، وعدمه اختيار ابن حامد وابن عقيل ، والشيخين ، والله أعلم .
قال : ويدخل المرفقين في الغسل .
81 ش : لما روى جابر رضي الله عنه قال : كان رسول الله إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه . رواه الدارقطني وفعله خرج بياناً للآية الكريمة ، إذ ( إلى ) في الآية الكريمة يجوز أن تكون الغائية ، كما هو الغالب فيها ، ويجوز أن تكون بمعنى ( مع ) كما في قوله تعالى : 19 ( { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ) فبيّن أنها للمعنى الثاني ، أو يقال : اليد تطلق حقيقة إلى المنكب و ( إلى ) أخرجت ما عدا المرفق اه . ومن لا مرفق له يغسل إلى قدر المرفق ، في غالب الناس .
( تنبيه ) : المرفق بكسر الميم وفتح الفاء والعكس لغة ، والله أعلم .
قال : ومسح الرأس .
ش : وجوب مسح الرأس في الجملة ثابت بالنص والإجماع ، والخلاف في القدر الواجب من ذلك ، وعن إمامنا رحمه الله في ذلك ثلاث روايات ، إحداهن وهي ظاهر كلام الخرقي ، والمختار لعامة الأصحاب : وجوب استيعاب جميع الرأس بالمسح ، لأنه سبحانه أمر بمسح الرأس ، وبمسح الوجه في التيمم ، ثم في التيمم يجب الاستيعاب ، فكذلك في مسح الرأس ، ولأنه مسح جميع رأسه ، وفعله وقع بياناً لكتاب ربه سبحانه .
82 وما جاء عنه من أنه مسح مقدم رأسه ، فمحمول على أن ذلك مع العمامة ، كما جاء مفسراً في الصحيح ، في حديث المغيرة بن شعبة ، وموقع الباء والله أعلم إلصاق الفعل بالمفعول ، إذ المسح إلصاق ماسح بممسوح ، فكأنه قيل : ألصقوا المسح برؤسكم أي المسح بالماء ، وهذا بخلاف ما لو قيل : امسحوا رؤسكم . فإنه لا يدل على أنه ثم شيء ملصق ، كما يقال : مسحت رأس اليتيم . وما قيل : إن الباء للتبعيض . فغير مسلم ، دفعاً للاشتراك ، ولإنكار الأئمة قال أبو بكر عبد العزيز : سألت ابن دريد وابن عرفة عن الباء تبعض ؟ فقالا : لا نعرف في اللغة أنها تبعض . وقال ابن برهان : من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه . وأما قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { يشرب بها عباد الله } ) فمن باب التضمين ، والله أعلم ، فكأنه قيل : يروى بها عباد الله .
وكذلك بماء البحر .
والثانية : الواجب مسح البعض ، وقد فهم دليل ذلك مما تقدم ، من أن الباء تبعض ، ومما روي من أنّه مسح البعض . ( وعنه ) بل في حق المرأة فقط ، واختاره الخلال ، وأبو محمد ، دفعاً للحرج والمشقة عنها ، بوجوب مسح الكل .
والرواية الرابعة : الواجب الأكثر ، إذ إيجاب الكل قد يفضي إلى الحرج والمشقة غالباً ، وأنه منفي شرعاً .
فعلى الأولى : يجب مسح الأذنين معه على رواية ، واختارها الأكثرون ، لأنهما من الرأس كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ولا يجب في أخرى ، وهي أشهر نقلًا : واختارها الخلال ، وأبو محمد ، وقال الشيرازي : لو مسح وتخلل مواضع يسيرة ، عفي عنها للمشقة ، وظاهر كلام الأكثرين بخلافه .
وعلى الثانية والثالثة : البعض مقدر بالناصية ، قاله القاضي ، وعامة من بعده ، لكن لا تتعين على المعروف ولابن عقيل احتمال بتعينها ، وصرح ابن أبي موسى بعدم تحديد الرواية فقال : وعنه يجب مسح البعض من غير تحديد . واتفق الجمهور على أنه لا يجزيء مسح الأذنين عن ذلك البعض ، وكذلك مسح ما نزل عن الرأس من الشعر ، ولو كان معقوصاً على الرأس ، وللقاضي في شرحه الصغير وجه بإجزاء مسح الأذنين عن البعض .
وعلى الرابعة حد الكثير الثلثان ، واليسير الثلث ، فما دون ، قاله القاضي في تعليقه ، وأبو الخطاب في خلافه الصغير ، وأطلق ذلك جماعة .
وقول الخرقي رحمه الله : ومسح الرأس . يدخل فيه ولو مسح بأصبع أو بأصبعين وهو الصحيح من الروايتين ، ويدخل أيضاً ما لو مسح بخرقة أو خشبة ، وهو أصح القولين عند أبي البركات ، ويدخل أيضاً ما إذا وقف تحت مطر ونحوه ، قاصداً للطهارة ، وأمّر يده ، لوجود المسح ، أما إن لم يمرها ، ولم يجر الماء ، فإنه لا يجزئه على أشهر القولين ، وإن جرى الماء خرج على روايتي غسله كما سيأتي ، ولو لم يقصد الطهارة فأصابه ماء فمسح قاصداً لها فإنه يجزئه ، على إحدى الروايتين ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، ومختار أبي البركات ، ( والثانية ) وبها قطع صاحب التلخيص ، وابن عقيل زاعماً بأنها تحقيق المذهب لا يجزئه .
ويخرج من كلامه ما لو وضع يده على رأسه ولم يمرها ، فإنه لا يجزئه ، لعدم المسح ، وبه قطع أبو البركات وغيره ، ولأبي محمد فيه احتمال بالإجزاء ، وما لو غسل رأسه بدل مسحه ، وهو الصحيح من الروايتين ، عند أبي البركات ، وابن عقيل ، نعم : أن أمّر يده أجزأه ، على المعروف المشهور ، وقيد ابن حمدان إجزاء الغسل عن المسح بما إذا نواه به ، والله أعلم .
تنبيهات ، ( أحدها ) : حد الرأس من المقدم ، بحيث لا يسمى وجهاً ، وقد تقدم حد الوجه ، وبه يعرف حد الرأس ، ومن المؤخر بحيث لا يسمى قفا ، والناصية مقدم الرأس ، قاله القاضي وغيره .
( الثاني ) : الواجب مسح ظاهر الشعر ، فلو مسح البشرة لم يجزئه ، كما لو غسل باطن اللحية دون أعلاها ، نعم لو حلق البعض ، فنزل عليه شعر ما لم يحلق أجزأه المسح عليه .
( الثالث ) : صفة المسح أن يضع أحد طرفي سبابتيه على طرف الأخرى ويضعهما على مقدم رأسه ، ويضع الإبهامين على الصدغين ، ثم يمرهما إلى قفاه ، ثم يردهما إلى مقدمه ، نص عليه أحمد ، وهو المشهور ، والمختار .
83 لحديث عبد الله بن زيد وغيره ، وفيه خلاف كثير ، أعرضنا عنه اختصاراً ، والله أعلم .
قال : وغسل الرجلين .
84 ش : للآية الكريمة ، فإن جماعة منهم علي ، وابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهم قرؤا : { وأرجلكم } بالنصب ، عطفاً على المغسول ، وهو قوله : ( { وجوهكم ، وأيديكم } ) وقراءة الخفض قيل : عطف على المغسول ، والخفض للمجاورة ، كما قالوا : جحر ضب خرب . فخرب . خفض بمجاورة الضب ، مع أنه صفة للمرفوع ، وهو الحجر . وقيل : منه قوله سبحانه وتعالى : 9 ( { فيأخذكم عذاب يوم عظيم } ) ( فعظيم ) خفض بمجاورة اليوم وهو صفة للعذاب ، ورد بأن الإعراب بالمجاورة شاذ ، فلا ينبغي حمل الكتاب العزيز عليه .
وقيل : بل المعطوف على الممسوح ، ثم قيل : المراد مسح الخفين . وعلى قراءة النصب غسل الرجلين ، تكثيراً لمعنى الآية الكريمة ، وقيل : بل أطلق المسح وأريد خفيف الغسل ، فمعنى القراءتين واحد ، وهو أولى ، إذ الأصل توافق القراءتين ، ويشهد لذلك ما قاله أبو علي الفارسي ، فإنه قال : العرب تسمي خفيف الغسل مسحاً ، يقولون : تمسحت للصلاة ، أي توضأت لها ، ونحوه قال أبو زيد وغيره ، وخصت الأرجل بذلك والله أعلم دون بقية الأعضاء لأنها تقصد بصب الماء كثيراً ، فهي مظنة الإسراف المنهي عنه ، فلذلك عطف على الممسوح ، تنبيهاً على الاقتصاد في صب الماء ، وقيل : ( إلى الكعبين ) ليزول وهم من يظنها ممسوحة ، إذ المسح لم يحدد في كتاب الله عز وجل ، بخلاف الغسل . ويؤيد أن المراد من الآية الغسل بيان من له البيان ، وهو رسول الله .
85 فإن الواصفين لوضوئه كعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن زيد ، وغيرهم أخبروا أنه غسل رجليه .
86 وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر [ رضي الله عنهما ] قال : تخلف عنا رسول الله في سفر ، فأدركنا وقد أرهقتنا العصر ويروى : أرهقنا العصر . فجعلنا نتوضأ ، ونمسح على أرجلنا ، قال : فنادى بأعلى صوته : ( ويل للأعقاب من النار ) مرتين ، أو ثلاثاً .
87 وفي مسلم عن عمرو بن عبسة قال : قلت يا نبي الله حدثني عن الوضوء . قال : ( ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه ، وفيه وخياشيمه ، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله ، إلا خرّت خظايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ، ثم يمسح رأسه إلا خرّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء ، فإن هو قام فصلى : فحمد الله ، وأثنى عليه ، ومجّده بالذي هو له أهل ، وفرغ قلبه لله ، إلا انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه ) وفي رواية أحمد رحمه الله ، وابن خزيمة في صحيحه ، كما أمر الله تعالى بعد غسل الرجلين .
88 على أن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : أجمع أصحاب رسول الل على غسل القدمين .
( تنبيه ) : ( أرهقنا العصر ) أخرناها عن وقتها ، حتى كدنا نغشها ، ونلحقها بالصلاة التي بعدها ، ( وأرهقتنا العصر ) أي قاربتنا العصر . والله أعلم .
قال : إلى الكعبين .
ش : أي حد الغسل إلى الكعبين ، وهذا يوهم أنه لا يجب إدخالهما في الغسل ، وليس كذلك ، بل حكمهما حكم اليدين ، وقد قيل : إن الرجل من أصل الفخذ إلى القدم ، وكأن الخرقي إنما ترك التنبيه على ذلك ، اكتفاء بما تقدم له في اليد ، والله أعلم .
قال : وهما العظمان الناتئان .
89 ش : أي الكعبين هما العظمان الناتئان ، إذ في الحديث أن الصحابة كان أحدهم يلصق كعبه بكعب من إلى جنبه في الصلاة ، والله أعلم .
قال : ويأتي بالطهارة عضواً بعد عضو ، كما أمر الله تعالى .
ش : أي يبدأ بغسل الوجه ، ثم اليدين ، ثم يمسح الرأس ، ثم يغسل الرجلين ، وهذا هو المذهب بلا ريب ، للآية الكريمة ، فإنه سبحانه وتعالى أدخل ممسوحاً بين مغسولين ، وقطع النظير عن نظيره ، أما على قراءة النصب فواضح ، وكذلك على قراءة الخفض ، لأن مع تأخير الرجلين أدخلا في حيز المسح ، وأريد به الغسل ، ولا يقطع النظير عن نظيره ، ويفصّل بين الأمثال في الكلام العربي ، إلا لفائدة ، والفائدة هنا والله أعلم الترتيب .
90 على أنه قد روى النسائي : أن النبي لما دنا من الصفا قال : ( ابدؤا بما بدأ الله به ) بصيغة الأمر ، وظاهر الأمر البداءة بكل ما بدأ الله به ، وأيضاً فإن فعله خرج بياناً للآية الكريمة ، ولم ينقل عنه أنه توضأ إلا مرتباً ، ولو جاز عدم الترتيب لفعله ولو مرة ، تبييناً للجواز ، وقد توضأ مرة مرة ، على عادة وضوئه ، وقال : ( هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وهذا كله على المذهب ، من أن الواو ليست للترتيب ، كما هو المذهب ، أما إن قلنا إنها له على رواية فواضح ، فعلى هذا لو بدأ بشيء من الأعضاء الأربعة قبل غسل وجهه لم يحسب له ، نعم : أن توضأ منكساً أربع مرات ، صح وضوءه إن قرب الزمن ، لأنه حصل له من كل مرة غسل عضو اه .
( وعن أحمد ) رحمه الله رواية تقدمت باغتفار الترتيب بين المضمضة والاستنشاق ، وبين بقية أعضاء الوضوء ، فأخذ منها أبو الخطاب في انتصاره ، وابن عقيل في فصوله رواية بعدم وجوب الترتيب رأساً ، وتبعهما بعض المتأخرين ، منهم أبو البركات في محرره ، وغيره ، وأبي ذلك عامة الأصحاب ، متقدمهم ومتأخرهم ، ومنهم أبو محمد ، وأبو البركات في شرحه .
واعلم أن الواجب عندنا الترتيب ، لا عدم التنكيس ، فلو وضأه أربعة في حالة واحدة لم يجزئه ، ولو انغمس في ماء جار ، ينوي رفع الحدث ، فمرت عليه أربع جريات ، أجزأه إن مسح رأسه ، أو قيل بإجزاء الغسل عن المسح ولو لم يمر عليه إلا جرية واحد لم يجزئه ، ولو كان انغماسه في ماء كثير راكد فمنصوصه وبه قطع ابن عقيل ، وأبو محمد أنه إن أخرج وجهه ، ثم يديه ، ثم مسح برأسه ، ثم خرج من الماء أجزأه ، مراعاة للترتيب ، إذ الحدث إنما يرتفع بارتفاع الماء ، عن العضو ، وقيل وقواه أبو البركات : إن مكث فيه قدراً يتسع للترتيب ، وقلنا : يجزئ غسل الرأس عن مسحه ، أو مسحه ثم مكث برجليه قدراً يسع غسلهما أجزأه .
( تنبيه ) : لم ينص الخرقي رحمه الله على الموالاة فقيل : ظاهر كلامه أنها لا تجب . وإلا لم يهملها ، وهو رواية حنبل عن أحمد .
91 اقتداء بابن عمر ، فإنه روي عنه أنه توضأ في المسجد ، أو في السوق ، فأعوز الماء ، فأكمله في البيت .
وقيل : بل ظاهره الوجوب ، لقوله في مسح الخفين : فإن خلع قبل ذلك ، أعاد الوضوء . ولو لم تجب لكفاه غسل القدمين ، إذ قوة كلامه أن الخلع بعد مدة ، وهذا رواية الجماعة عن أحمد ، وعليها الأصحاب ، لظاهر الآية الكريمة إذ قوله سبحانه : 19 ( { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } ) إلى آخرها يقتضي الفورية على قاعدتنا ، ثم ( إذ قمتم إلى الصلاة ) شرط و ( فاغسلوا ) جوابه ، [ وإذا وجد الشرط ، وهو القيام وجب أن لا يتأخر عنه جوابه ] وهو غسل الأعضاء الأربعة .
92 وعن خالد بن معدان ، عن بعض أصحاب النبي ، أنه رأى رجلًا يصلي ، وفي ظهر قدمه لمعة ، فأمره النبي بالوضوء والصلاة . رواه أبو داود ، وأحمد وجود إسناده ، ولم يستفصله النبي هل فرط أم لا ؟ ثم إن النبي لم ينقل عنه أنه توضأ إلا مرتباً متوالياً ، وفعله كما تقدم خرج بياناً للآية الكريمة .
وفي المذهب قول ثالث ، اختاره أبو العباس ، وزعم أنه الأشبه بأصول الشريعة . وأصول أحمد ، اعتماداً على قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { فاتقوا الله ما استطعتم } ) .
93 وقول النبي : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) والتارك لعذر قد فعل ما استطاع ، ونظراً إلى أن التتابع في صوم شهري الكفارة واجب بالنص والإجماع ثم لو تركه لعذر لم ينقطع ، وكذلك الموالاة في قراءة الفاتحة ، ثم لو تركها ( ولو ) كثيراً لاستماع قراءة [ الإمام ] ونحو ذلك أتمها ، وكذلك الموالاة في الطواف والسعي ، لا تبطل بفعل المكتوبة ، وصلاة الجنازة ، وطرد ذلك هنا أنّه لو أنقذ غريقاً ، أو أمر بمعروف ، ونحو ذلك في أثناء الوضوء ، لم يضره وإن طال ، وكذلك الصلاة تجب الموالاة فيها ، بحيث لا يفرق بين أبعاضها بما ينافيها ، ثم لو فرق لضرورة لم يضره .
94 كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر في صلاة الخوف : أن الطائفة الأولى تذهب بعد صلاة ركعة ، وجاه العدو ، ثم ترجع إلى صلاتها بعد أن تصلي الطائفة الثانية الركعة الثانية ، وتذهب جهة العدو ، وكذلك من سبقه الحدث ، يتوضأ ويبني ، على أحد القولين ، ما لم يبطل صلاته بكلام عمد ونحوه .
95 ثم ما وقع للنبي في حديث ذي اليدين ، من الكلام ، والقيام والمشي ، إلى غير ذلك ، ومثله يبطل الصلاة لولا العذر . وأجاب عن حديث خالد بن معدان بأن أمره بالإعادة كان لتفريطه ، وهو عدم معاهدته الوضوء ، ثم طرد ذلك في الترتيب ، وقال : لو قيل بسقوطه للعذر ، كما إذا ترك غسل وجهه فقط لمرض ونحوه ، ثم زال قبل انتقاض وضوئه فغسله لتوجه اه .
فعلى الأولى : لا أثر للتفريق ، لكن يحتاج إلى استئناف نية ، قاله ابن عقيل ، و أبو البركات ، معللين بأن النية الحكمية تبطل بالفصل الطويل ، كما تبطل به قبل الشروع .
وعلى الثانية : المؤثر تفريق يفحش عادة ، في رواية حكاها ابن عقيل ، إذ ما لا حد له في الشرع ، المرجع فيه إلى ذلك ، كالحرز ، والقبض ، والمشهور عند الأصحاب : المؤثر أن يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله . زاد أبو البركات : أو أخّر عضواً عن أوله إلى أن ينشف أوله اه ، في الزمن المعتدل شتاء وصيفاً ، وهواء أو قدر ذلك ، ولعل هذا أضبط للعرف المتقدم ، فيتحد القولان ، وحكى ابن عقيل وجهاً أن المؤثر بنشاف عضو ( ما ) فلو نشف وجهه قبل غسل رجليه بطل وضوءه ، ( ويستثنى ) مما تقدم ما إذا كان الجفاف لسنة ، من تخليل أو إسباغ ، أو إزالة شك ، ونحو ذلك ، فإنه لا يؤثر ، فلو كان لعبث ، أو إسراف ، أو زيادة على الثلاث أثر ، وكذلك إن كان لإزالة وسخ لغير طهارة ، وإن كان لوسوسة ، أو إزالة نجاسة : فوجهان ، وإن كان لعوز الماء ، أو للاشتغال بتحصيله أثّر ، وعنه متى كان في علاج الوضوء فلا بأس والله أعلم .
قال : والوضوء مرّة مرّة يجزئ ، والثلاث أفضل .
ش : المرّة هي التي عمّت المحل بالغسل ، ولا إشكال في الاجتزاء بها .
96 لما صح أنه توضأ مرّة مرّة ، وتوضأ مرتين مرتين ، وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً .
97 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال توضأ رسول الله مرّة مرّة ، ثمّ قال : ( هذا وضوء من لا تقبل له صلاة إلا به ) ، ثم توضأ مرتين مرتين ، ثم قال : ( هذا وضوء من يضاعف له الأجر مرتين ) ثمّ توضأ ثلاثاً ثلاثاً ، ثم قال : ( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ) رواه البيهقي في السنن ، وفي رواية : ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) .
98 ولابن ماجه نحوه عن أبيّ بن كعب .
والثلاث أفضل بلا ريب ، لأنه الذي واضب عليه النبي وأصحابه .
واقتصار المصنف على الثلاث يقتضي أنه لا يستحب الزيادة على ذلك ولا إشكال فيه ، وقد صرح بعضهم بالكراهة .
99 لأن في حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي توضأ ثلاثاً ثلاثاً ، ثم قال : ( هكذا الوضوء ، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم ، أو ظلم وأساء ) رواه أبو داود ، وهذا لفظه ، ورواه أحمد والنسائي ، وصححه ابن خزيمة ، وفي رواية لأحمد ، والنسائي مختصراً : ( فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى ، وظلم ) وليس في رواية أحد منهم ( أو نقص ) غير أبي داود ، وقد تكلم فيه مسلم وغيره ، وأوله البيهقي على نقصان العضو ، قال الذهبي : وكذلك ينبغي أن تفسر الزيادة والله أعلم .
قال : وإذا توضأ لنافلة ، صلى بها فريضة .
ش : هذا يلتفت إلى ما تقدم من أن النية في الاصطلاح الشرعي هي قصد رفع الحدث ، أو استباحة ما لا يباح إلا بالطهارة ، والنافلة لا تباح إلا بالطهارة ، والله أعلم .
قال : ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء .
100 ش : لما روي عن علي رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله يقضي حاجته ، ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم ، ولا يحجبه . وربما قال : ولا يحجزه شيء من القرآن ليس الجنابة . رواه الخمسة ، وصححه الترمذي .
101 وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي قال : ( لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن ) رواه أبو داود وحكم النفساء حكم الحائض إذ دم النفاس هو دم الحيض ( حقيقة ) .
102 مع أنه قد روي عن جابر رضي الله عنه عن النبي قال : ( لا تقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئاً ) رواه الدارقطني .
وقول الخرقي : القرآن . الألف واللام للجنس ، فيتناول القليل والكثير ، وهو إحدى الروايات واختارها أبو البركات ، لظواهر النصوص المتقدمة ، ( وعنه ) : يجوز لهم قراءة بعض آية ، كما لو لم يقصد بذلك القرآن ، ( وعنه ) : تجوز قراءة الآية ونحوها حكاها الخطابي وأشار إليها في التلخيص فقال : وقيل : يتخرج من تصحيح خطبة الجنب جواز قراءة الآية مع اشتراطها ، ويستثنى من ذلك قول : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) تبركاً ، وعلى الغسل والوضوء ، والذبيحة ، ونحو ذلك ، و ( الحمد لله رب العالمين ) عند تجدد نعمة ونحوه ، بشرط عدم قصد القراءة ، نص عليه ، وهذا يخرج من كلام الخرقي رحمه الله ، لانتفاء القراءة والحال هذه ، والخرقي رحمه الله ذكر الجنب والحائض ، والنفساء ، وبعض المتأخرين كأبي الخطاب ، ومن تبعه يقول : ومن لزمه الغسل . فيدخل في كلامهم الكافر إذا أسلم ، على المذهب من : لزوم الغسل له . والله أعلم .
قال : ولا يمس المصحف إلا طاهر ( والله أعلم ) .
103 ش : لما روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه النبي لعمرو بن حزم : ( أن لا يمس القرآن إلا طاهر ) وكذلك رواه أحمد ، وأبو داود مرسلًا ، ورواه النسائي ، والدارقطني ، من رواية الزهري ، عن أبي بكر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي .
104 وعن ابن عمر أنه قال : لا يمس المصحف إلا على طهارة . احتج به أحمد [ واستدل ] بقوله تعالى : 19 ( { لا يمسه إلا المطهرون } ) على أن المراد بالكتاب المصحف بعينه وأن 19 ( { لا يمسه } ) خبر بمعنى النهي ، أو أنه نهي علي بابه ، وحرك بالضم لالتقاء الساكنين ، ورد بأن المشهور عن السلف ، وأهل التفسير أن الكتاب اللوح المحفوظ ، وأن { المطهرون } الملائكة ، ويؤيده الآية الأخرى : 19 ( { كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره ، في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ، بأيدي سفرة ، كرام بررة } ) وأيضاً الإخبار بأنه : { في كتاب مكنون } أي مصون ، لا تناله أيدي الضالين ، وهذه صفة اللوح المحفوظ وأيضاً : { المطهرون } من طهرهم غيرهم ، ولو أريد طهارة بني آدم لقيل : المتطهرون . كما قال سبحانه : { إن الله يحب التوابين ، ويحب المتطهرين } ويمكن توجيه الاستدلال بالآية على وجه آخر ، وهو أن يقال : القرآن الذي في اللوح المحفوظ هو الذي في المصحف ، وإذا كان من حكم الذي في السماء أن { لا يمسه إلا المطهرون } فكذلك الذي في الأرض ، لأنه هو هو .
وقول الخرقي رحمه الله : لا يمس . يشمل مسه بيده ، وسائر جسده ، ويقتضي أن له حمله بعلاقته ، أو بحائل له ، منفصل عنه ، ولا يتبعه في البيع كعلاقة ، أو بحائل تابع للحامل ، كحمله في كمه ، أو ثوبه ، أو تصفحه بعود ، ونحو ذلك ، وهو المشهور من المذهب ، قطع به أبو الخطاب ، وابن عبدوس ، وصاحب التلخيص ، واختاره القاضي وأبو محمد ، اعتماداً على مفهوم الحديث ( وعنه ) : المنع من تصفحه بكمه ، وخرجه القاضي والمجد إلى بقية الحوائل ، وأبى ذلك طائفة منهم أبو محمد في المغني مشيراً إلى الفرق ، بأن كمه وثيابه متصلة به ، أشبهت أعضاءه .
ويقتضي أيضاً أن له الكتابة من غير مس ، وبه جزم أبو محمد ، وقيل : بل هو كالتقليب بالعود ، وقيل : لا يجوز وإن جاز التقليب . ولأبي البركات احتمال بالجواز للمحدث دون الجنب ، ومحل الخلاف إذا لم يحمله ، على مقتضى ما في التلخيص ، والرعاية .
وقوله : مصحف . المصحف معروف ، مثلث الميم ، وهو شامل لما يسمى مصحفاً من الكتاب ، والجلد ، والحاشية ، والورق الأبيض المتصل به ، ويخرج منه : كتب الفقه والتفسير والإعراب ، ورسالة فيها قرآن ، ونحو ذلك ، وهو المذهب ، نظراً لمفهوم الحديث .
105 وفي الصحيحين أنه كتب إلى هرقل : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، من محمد عبد الله ورسوله ، إلى هرقل عظيم الروم ، وفيه و 9 ( { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } ) الآية إلى { مسلمون } وحكى القاضي وغيره رواية بالمنع ، ويخرج منه المنسوخ ، وهو المشهور من الوجهين ، وكذلك مس الأحاديث المأثورة عن الرب سبحانه وتعالى .
ويستثنى من مفهوم كلامه : إذا كتب بعض القرآن مفرداً عن تفسير وغيره ، فإنه لا يجوز مسه ، وإن لم يسم مصحفاً ، نعم في مس الصبيان ألواحهم قيل : والمصحف ومس الدراهم المكتوب عليها القرآن ، وثوب طرز به قولان ، ظاهر كلامه الجواز .
وقوله : إلا طاهر . يعني من الحدثين الأكبر والأصغر ، أما طهارة الخبث فلا يشترط انتفاؤها ، نعم العضو المتنجس يمنع من المس ( به ) على المذهب ، وقد يدخل في كلامه طهارة التيمم ، وقد يخرج ، وبالجملة يجوز المس بها ، وإن لم يكن ( به ) حاجة إلى ذلك ، على المقدم .
ويخرج من كلامه الذمي ، لانتفاء الطهارة منه ، بل وعدم تصورها ، وهو كذلك ، نعم له نسخه بدون حمل ومس ، على ما قاله القاضي في تعليقه وغيره ، وقال أبو بكر ( إنه ) لا يختلف قوله في ذلك ، وقد ذكر أحمد أن نصارى الحيرة كانوا يكتبون المصاحف ، لقلة من كان يكتبها ، قيل له : يعجبك هذا ؟ قال : لا يعجبني . فأخذ من ذلك ابن حمدان والله أعلم رواية بالمنع ، وقال القاضي في تعليقه : يمكن ( حملها ) على أنهم حملوا المصاحف في حال كتابتها .
ويخرج من كلامه أيضاً إذا طهر بعض عضو ، فإنه لا يجوز المس به ، لأن الماس غير طاهر على المذهب ، والله أعلم .
قال :
باب الاستطابة والحدث
ش : أي ( هذا ) باب حكم الاستطابة ، وحكم الحدث ، فحكم الاستطابة : كيف يستطيب بالماء أو بالحجر ؟ وأي حجر يستطيب به ، ونحو ذلك ، وحكم الحدث الذي يوجب الاستنجاء ، والذي لا يوجبه .
( والاستطابة ) تكون بالحجر وبالماء ، سميت بذلك لأنه يطيب جسده بخروج ذلك . والله أعلم .
قال : وليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء .
ش : المعروف في المذهب أنه لا يجب من الريح استنجاء .
106 لما روى عن النبي أنه قال : ( من استنجى من الريح فليس منا ) رواه الطبراني ، وإذا لم يجب من الريح ، فمن النوم الذي هو مظنته أولى ، [ والله أعلم ] .
قال : والاستنجاء لما يخرج من السبيلين .
ش : أي ما عدى الريح ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف ، تقديره : والاستنجاء واجب أو ثابت ، أو يثبت أو يجب ، لما يخرج من السبيلين ، وهما طريقا البول والغائط .
107 والأصل في وجوب الاستنجاء [ في الجملة ] ما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار ، فإنها تجزئ عنه ) رواه أحمد ، والنسائي ، وأبو داود والدارقطني ، وقال إسناد حسن صحيح . والإجزاء غالباً إنما يستعمل في الواجب .
108 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي مر بقبرين فقال : ( إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) رواه الجماعة ، وفي رواية للبخاري : ( وما يعذبان في كبير ) ثم قال : ( بلى ، كان أحدهما ) .
وقد شمل كلام الخرقي النادر ، والمعتاد ، والطاهر ، والنجس ، وهو ظاهر كلام الأصحاب ، وخالفهم أبو البركات فقال : لا يجب من الطاهر ، كالمنى على المذهب ، والدواء الذي تحملت به المرأة ، إن قيل بطهارة فرجها ، والمذي على رواية ، ( وشمل ) أيضاً الرطب واليابس ، حتى لو أدخل ميلًا في ذكره ، ثم أخرجه ، وجب عليه الاستنجاء وهو المشهور ، ربطاً للحكم بالمظنة ، وهي استصحاب الرطوبة ، وقال في المغني : القياس أنه لا يجب من يابس لا يلوث المحل ، وحكى ابن تميم ذلك وجهاً .
( تنبيه ) : ( لا يستنزه ) أي لا يطلب البعد من البول ، والمادة كما تقدم للبعد وهو معنى الرواية الأخرى : ( لا يستبرئ ) أي لا يتبرأ من البول ، أي ( لا ) يتباعد منه ، أما رواية : ( لا يستتر ) فمن الاستتار ، أي لا يبالي بكشف عورته ، ويحتمل أنه من المعنى الأول ، أي لا يجعل بينه وبين بوله سترة ، حتى يتحفظ منه ، ( والنميمة ) من : نم الحديث ينمه وينمه ، بكسر النون وضمها ، نما . إذا نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض ، على جهة الإفساد بينهم ، وعرفها بعضهم بأنها المقالة التي ترفع عن قائلها ، ليضربها قائلها في دينه ، أو نفسه ، أو ماله ، وهذا التعريف أشمل ، لدخول إفشاء السر فيه ، ثم قوله : ترفع عن قائلها . يعم كل ما يحصل به الرفع ، ولو بكتابة ، أو رمز ، ونحو ذلك .
وهي كبيرة عندنا على الأشهر ، وكيف لا . وقد جعلها الله تعالى صفة لمن اعتدى وكذب ، فقال تعالى : 19 ( { ولا تطع كل حلاف مهين ، هماز مشاء بنميم } ) الآيات .
109 وأخبر نبيه أن فاعلها لا ينظر الله تعالى إليه ، ولا يدخله الجنة فقال : ( لا ينظر الله إلى ذي الوجهين ) .
110 وفي الصحيحين : ( لا يدخل الجنة قتات ) أي نمام ، كما جاء في رواية أخرى .
111 ولقد أجاد كعب الأحبار ، وقال له عمر رضي الله عنهما : أي شيء في التوراة أعظم إثماً ؟ قال : النميمة . فقال عمر : هي أقبح من القتل ؟ فقال : وهل يولد [ القتل ] وسائر الشرور إلا من النميمة ؟ قلت : ومصداق ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى : 19 ( { والفتنة أشد من القتل } ) وهذا كله إذا تضمنت مفسدة ، أما إذا كان فيها مصلحة شرعية ، فلا منع فيها ، بل ربما وجبت ، كما إذا عزم إنسان على قتل إنسان ، ونحو ذلك ، وعلم ذلك منه ، بجور منه ، فإنه ينم ( عليه ) والحال هذه ، وكذلك من سعى في الأرض بالفساد ، فإنه يخبر به من له ولاية ، ونحو ذلك ، قال بعضهم : يجوز إذا كان القائل للمقالة ظالماً ، وللمقول له فيها تحذيراً ونصحاً ، ولا ريب أن المرجع في ذلك ( إلى ) المقاصد ، قال الله سبحانه : 19 ( { والله يعلم المفسد من المصلح } ) والله أعلم .
قال : فإن لم يعد مخرجهما أجزأه ثلاثة أحجار ، إذا أنقى بهن ، فإن أنقى بدون الثلاثة لم يجزه حتى يأتي بالعدد ، فإن لم ينق بثلاثة أحجار زاد حتى ينقي .
ش : إذا لم يتجاوز الخارج مخرج البول وهو ثقب الذكر ومخرج الغائط وهو ثقب الدبر أجزأه الاستجمار بالحجر ، ثم المشترط شيئان : ( أحدهما ) : العدد ، وهو ثلاثة أحجار ، لما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها .
112 وقيل لسلمان رضي الله عنه : نبيكم علمكم كل شيء حتى الخراءة . قال : أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أبو بول ، وأن نستنجي باليمين ، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ، وأن تستنجي برجيع أو عظم . أخرجه مسلم وغيره .
113 وما في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( من استجمر فليوتر ، من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج ) محمول إن صح على ما زاد على الثلاثة ، جمعاً بين الأدلة ، لأن رواية الصحيحين ( من استجمر فليوتر ) ( والثاني ) : الإنقاء إجماعاً ، وصفته أن يعود الحجر الآخر ولا شيء عليه ، أو عليه شيء لا يزيله إلا الماء ، فعلى هذا إن أنقى بثلاثة ، فقد حصل الشرطان ، وإن أنقى بدون الثلاثة أتى ببقيتها ، تحصيلًا لشرط العدد ، وإن لم ينق بالثلاثة زاد حتى ينقي ، تحصيلًا لشرط الإنقاء ، ويستحب أن يقطع على وتر ، لما تقدم من الحديث .
وقول الخرقي : فإن لم يعد مخرجهما . يحتمل أن يريد المخرج المعتاد وإذاً لا يكون في كلامه تعرض لما [ إذا ] انسد المخرج ، وانفتح غيره ، ويحتمل أن يريد أعم من ذلك ، فيدخل ذلك ، وبالجملة ففي المسألة وجهان ، الإجزاء ، وهو قول القاضي ، والشيرازي ، وعدمه ، وهو قول ابن حامد ، واختيار أبي محمد وحينئذ يتعين الماء ، وسواء انفتح فوق المعدة أو تحتها ، صرح بذلك الشيرازي ، وقيد أبو البركات ، المسألة تبعاً لابن عقيل بما إذا انفتح أسفل المعدة ، قال ابن تميم : ظاهر كلام [ بعض ] الأصحاب إجزاء الوجهين مع بقاء المخرج أيضاً ، اه .
وقوّة قوله : أجزأه ثلاثة أحجار . يفهم أن الماء أفضل ، وهو المشهور ، والمختار من الروايات ، لزوال الجسم والأثر ، ولهذا طهر المحل ، والحجر لا يزيل الأثر ومن ثم لم يطهر على الأشهر ، ( والثانية ) واختارها ابن حامد : الحجر أفضل لإجزائه إجماعاً .
113 م وعمل السلف عليه ، ولهذا أنكر الماء طائفة منهم ، والثالثة ) : يكره الاقتصار على الماء ، حذاراً من مباشرة النجاسة ، مع عدم الحاجة إلى ذلك ، وبكل حال جمعهما أفضل .
114 لما روت معاذة أن عائشة رضي الله عنها قالت : مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء ، فإني أستحييهم منه ، وإن رسول الله كان يفعله . رواه الترمذي والنسائي .
115 وعن عويم بن ساعدة رضي الله عنه ، أن رسول الله أتاهم في مسجد قباء ، فقال : ( إن الله أحسن عليكم الثناء في الطهور ، في قصة مسجد قباء ، فما هذا الطهور الذي تتطهرون به ؟ ) قالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً ، إلا أنه كان لنا جيران من اليهود ، يغسلون أدبارهم ، فنغسلها كما غسلوها . رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه ، وظاهر كلام ابن أبي موسى أن الجمع في محل الغائط فقط ، ويستثنى من قول الخرقي ما إذا خرجت أجزاء الحقنة فإن الحجر لا يجزىءفي ذلك ، قاله ابن عقيل .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : قال الشيخان وغيرهما : كيفما حصل الإنقاء جاز ، إلا أن المستحب في الدبر كما قال القاضي وغيره أن يمر الأول من صفحته اليمنى ، إلى مؤخرها ، ثم يديره على اليسرى ، حتى يرجع إلى الموضع الذي بدأ منه ، ثم يمر الثاني من مقدم اليسرى كذلك ، ثم يمر بالثالث على المسربة والصفحتين ، فإن أفرد كل جهة بحجر فوجهان ، ( الاجزاء ) ، وهو رواية ، حكاها ابن الزاغوني .
116 لما روى سهل بن سعد عن النبي أنّه سئل عن الاستطابة ، فقال : ( أو لا يجد أحدكم حجرين للصفحة ، وحجراً للمسربة ) رواه الدارقطني وحسن إسناده . ( وعدمه ) قاله أبو جعفر ، وابن عقيل ، لأنه تلفيق لا تكرار ، أما في القبل فيأخذ ذكره بشماله ، ويمسحه بالأرض ، أو بالحجر ونحوهما ، فإن كان الحجر صغيراً ، ولم يمكنه أن يجعله بين عقبيه ، أو بين أصابعه ، فهل يمسكه بيمينه ، ويمسح بشماله ، أو بالعكس ؟ فيه وجهان ، أصحهما الأول .
117 لئلا يدخل تحت : ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه ) والأفضل أن يبدأ الرجل بالقبل ، وتخير المرأة ، في وجه قطع به ابن عقيل ، وأبو محمد ، وتبدأ بالدبر في آخر ، قطع به الشيرازي وابن عبدوس .
( الثاني ) : الخراءة بكسر الخاء ، ممدود مهموز ، اسم فعل الحدث ، وأما الحدث نفسه فبغير تاء ، ممدود ، مع فتح الخاء وكسرها ، قاله القرطبي ، وقال الجوهري :
خرىء خراءة مثل كره كراهة . فجعل الحدث بالفتح والمد ، ( والغائط ) المكان المطمئن من الأرض ، سمي الخارج به ، تسمية للحال باسم المحل ، لكثرة قصد ذلك ( والرجيع ) الروث والعذرة ، سمي رجيعاً لرجوعه عن حاله الأولى ، بعد أن كان طعاماً أو علفاً ، وكل شيء من قول أو فعل رد فهو رجيع ، إذ معناه : مرجوع أي مردود وقيل : المراد بالرجيع هنا الحجر الذي قد استنجي به ، و ( أجل ) أي نعم ، قال الأخفش : إلا أنه أحسن من ( نعم ) في الخبر ، و ( نعم ) أحسن منه في الاستفهام ، و ( المسربة ) بفتح الراء وضمها مجري الغائط ، مأخوذ من : سرب الماء . والله أعلم .
قال : والخشب والخرق وكل ما أنقى به فهو كالأحجار .
ش : هذا هو المشهور ، والمختار من [ الروايتين ] .
118 لما روى خزيمة بن ثابت قال : سئل رسول الله عن الاستطابة فقال : ( بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ) فلولا أن اسم الأحجار يعم الجوامد لم يكن لاستثناء الرجيع معنى ، وإنما خص الحجر والله أعلم بالذكر لأنه أعم الجامدات وجوداً ، وأسهلها تناولًا .
119 وقد روي عن طاوس ، قال : قال رسول الله : ( إذا أتى أحدكم البراز ، فليذهب معه بثلاثة أحجار ، أو ثلاثة أعواد ، أو ثلاث حثيات من تراب ، ثم ليقل : الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني ، وأمسك علي ما ينفعني ) رواه الدارقطني والبيهقي ، موقوفاً ومرفوعاً ، وقال : الموقوف أرجح .
120 وعن مولى عمر ، قال : كان عمر إذا بال قال : ناولني شيئاً أستنجي به . فأناوله العود ، والحجر ، أو يأتي حائطاً يتمسح به ، أو يمسه الأرض ، ولم يكن يغسله . رواه البيهقي وقال : أنه أصح ما في الباب وأعلاه . ( والثانية ) : واختارها أبو بكر تتعين الأحجار ، جموداً على ظواهر النص .
تنبيهان : ( أحدهما ) : إذا استجمر بجلد سمك أو مذكى ، فحكى ابن عقيل عن الأصحاب أنهم خرجوه على الروايتين ، قال : ويحتمل عندي المنع مطلقاً ، لأنه مطعوم ، والأصحاب غفلوا عن هذه الخصيصة . قلت : لم يغفلوا عن ذلك ، بل قد قطع ابن أبي موسى بالمنع ، معللًا بأنه طعام .
121 وروى أبو داود والنسائي ، والترمذي واللفظ له ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام ، فإنه زاد إخوانكم من الجن ) ، وإذا نهينا عن الاستنجاء بطعام الجن ، فبطعامنا أولى .
( الثاني ) : ( البراز ) بفتح الباء : موضع قضاء الحاجة ، وفي الأصل : الفضاء الواسع من الأرض ، وأكثر الرواة يروونه بكسر الباء ، وهو غلط [ والله أعلم ] .
قال : إلا الروث ، والعظام ، والطعام .
ش : هذا استثناء من كل ما أنقى ، وقد تقدم حديث سلمان في النهي عن الاستنجاء بالرجيع ، والعظم .
واعلم أنه يشترط في المستجمر به شروط ، ( أحدها ) : أن يكون جامداً لأن المائع إن كان ماء فهو استنجاء وليس باستجمار ، وإن كان [ غير ] ماء لم يجز كما تقدم . ( الثاني ) : أن يكون طاهراً ، لما تقدم من حديث سلمان وغيره .
122 وعن ابن مسعود قال : أتى النبي الغائط ، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار ، فوجدت حجرين ، والتمست الثالث فلم أجده ، فأخذت روثة فأتيته بها ، فأخذ الحجرين ، وألقى . الروثة ، وقال : ( إنها ركس ) رواه البخاري وغيره ، والركس النجس . ( الثالث ) : أن يكون منقياً ، فلا يجوز بالفحم الرخو ، ولا بالزجاج ونحوه ، إذ المقصود الإنقاء ، ولم يحصل . ( الرابع ) : أن لا يكون محترماً ، فلا يجوز بطعامنا ، ولا بطعام دوابنا ، وكذلك طعام الجن ودوابهم ، وكذلك كتب الفقه والحديث ، وما فيه اسم الله تعالى ، ونحو ذلك ، وتجل الكتب المنزلة أن تذكر إذاً ، وما اتصل بحيوان ، كذنبه وصوفه ، ونحو ذلك . ( الخامس ) : أن لا يكون محرماً ، فلا يجوز بمغصوب ونحوه ، وهذا الشرط قد أهمله المصنف ( والأربعة ) الباقية قد تؤخذ من كلامه ، ( أما ) الجامد فلتمثيله بالخشب والخرق ، ( وأما ) المنقي فلقوله : وكل ما أنقى [ به ] ( وأما ) الطاهر فلأنه استثنى الروث والعظام ، وذلك شامل للطاهر منهما والنجس ، فيلحق بالنجس منهما كل نجس ، ( وأما ) المحترم فلأنه منع من الطعام ، وغيره في معناه ، ومتى خالف واستجمر بما نهي عنه ، لم يجزئه على المذهب ، لارتكابه النهي .
123 وفي الدارقطني وصححه أن النبي نهى أن يستنجى بعظم أو روث ، وقال : ( إنهما لا يطهران ) وخرج بعضهم الإجزاء في الحجر المغصوب ونحوه من رواية صحة الصلاة في بقعة غصب ونحوها ، ورد بأن الاستجمار رخصة ، والرخص لا تستباح على وجه محرم .
واختار أبو العباس في قواعده الإجزاء في ذلك ، وفي المطعوم ونحوه ، ومن مذهبه زوال النجاسة بغير الماء من المزيلات ، كماء الورد ونحوه ، نظراً إلى أن إزالة النجاسة من باب التروك المطلوب عدمها ، ولهذا لا يشترط لزوالها قصد ، حتى لو زالت بالمطر ونحوه ، أو بفعل مجنون ، حصل المقصود ، والنهي تأثيره في العبادات ، إذ القصد المتقرب به إلى الله سبحانه [ وتعالى ] لا يكون على وجه محرم . ( قلت ) : وهذا جيد إن لم يصح ما رواه الدارقطني ، أما مع صحته وقد قال : إن إسناده صحيح . فمردود .
وحيث قيل بعدم الإجزاء فإنه يتعين الماء في الشرط الأول ، وهو ما إذا استجمر بمائع غير الماء ، وكذلك في الثاني ، على ما قطع ، به أبو البركات ، وأبو محمد في الكافي ، وفي المغني احتمال بإجزاء الحجر ، وهو وهم ، وفي الثالث : يعدل إلى حجر منق ، وفي الرابع والخامس : هل يجزئه الحجر جعلًا لوجود آلة النهي كعدمها ، أو يعدل إلى الماء ، لعدم فائدة الحجر إذاً لنقاء المحل ، وإذاً يتعين الماء ، نظراً لقوله في الروث والعظم : ( إنهما لا يطهران ؟ ) فيه وجهان .
( تنبيه ) : الروث للدواب قاله أبو عبيد كالعذرة للآدميين ، والركس قال أبو عبيد : شبيه بالرجيع ، يقال : ركسه وأركسه . إذا ردده وقوله سبحانه وتعالى : { والله أركسهم بما كسبوا } أي ردهم إلى حكم الكفار . [ والله أعلم ] .
قال : والحجر الكبير الذي له ثلاث شعب يقوم مقام الثلاثة الأحجار .
ش : هذا هو المشهور ، المعمول به من الروايتين ، إذ الشعب الثلاثة يحصل بها ما يحصل بالأحجار ، من كل وجه ، فلا معنى للجمود على التعداد .
124 وقد روى البيهقي عن جابر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً ) ولأحمد عنه ، قال : قال رسول الله : ( إذا تغوط أحدكم فليمسح ثلاث مرات ) . ( والرواية الثانية ) واختارها أبو بكر ، والشيرازي لا بد من تعداد الأحجار ، جموداً على عامة النصوص الصحيحة ، وعلى هذه : لو كسر ما تنجس من الحجر ، أو غسله ثم استجمر به ، أو استجمر بثلاثة أحجار ذي شعب ، أو مسح بالأرض أو بالحائط [ في ] ثلاثة مواضع ، فوجهان في الجميع ، الصحيح منهما الإجزاء [ والله أعلم ] .
قال : وما عدا المخرج فلا يجزىء فيه إلا الماء .
ش : قد تقدم أن من شرط الاستجمار [ بالحجر ] أن لا يتجاوز الخارج المخرج ، أما إن تجاوز الخارج المخرج فلا يجزيء فيه إلا الماء ، لأن الأصل وجوب إزالة النجاسة بالماء ، رخص في الاستجمار ، لتكرر النجاسة على المخرج ، دفعاً لمشقة تكرار الغسل ، فإذا جاوزت المخرج ، خرجت عن حد الرخصة ، فغسلت كسائر المحال .
وإطلاق الخرقي يقتضي غسل ما جاوز المخرج مطلقاً ، وهو ظاهر كلام بعضهم ، قال ابن عقيل و الشيرازي : لا يستجمر في غير المخرج . قال في الفصول : وحد المخرج نفس الثقب ، واغتفر الشيخان ، وصاحب التلخيص ، والسامري ، وغيرهم ما تجاوزه تجاوزاً جرت العادة به ، وحده أبو العباس في شرح العمدة بأن ينتشر الغائط إلى نصف باطن الألية فأكثر ، والبول إلى نصف الحشفة فأكثر ، فإذاً يتعين الماء ، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية ، وحكى الشيرازي وجهاً أنه يستجمر في المتعدي إلى الصفحتين .
وقول الخرقي : لا يجزىء فيه إلا الماء . أي : فيما جاوز المخرج إلا الماء ، فظاهره أن الحجر يجزىء في نفس المخرج ، وبه قطع ابن تميم وقال بعضهم : لا يجزىء في الجميع إلا الماء . وهو ظاهر كلام الشيخين ، وفي الوجيز لابن الزاغوني روايتان كالقولين ، وقد يقال : إن ظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط عدد والحال هذه ولا تراب ، لعدم ذكره لذلك . وليس بشيء ، إذ بساط هذه المسألة أن المتجاوز عن المخرج لا يجزىء فيه الحجر ، أما ما يشترط لزوال النجاسة بالماء فله محل آخر قد تقدم . والله أعلم .
قال :
باب ما ينقض الطهارة
ش : نقضت الشيء إذا أفسدته ، فنواقض الطهارة مفسدات الطهارة ، والمراد [ الطهارة ] الصغرى .
قال : والذي ينقض الطهارة ما خرج من قبل أو دبر .
ش : الذي ينقض الطهارة أشياء ( أحدها ) كل شيء خرج من قبل أو دبر ، لقول الله تعالى : 19 ( { أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء فتيمموا } ) .
125 وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) فقال رجل من أهل حضر موت : ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال : فساء أو ضراط . متفق عليه .
وكلام الخرقي يشمل القليل والكثير ، لعموم ما تقدم ، ويشمل أيضاً النادر ، كالدود ، والحصا والشعر ، ونحو ذلك .
126 لما روى علي رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال : ( في المذي الوضوء ، وفي المني الغسل ) رواه أحمد والترمذي وصححه وهو شامل للدائم ، وهو نادر .
127 وعن عروة ، عن فاطمة بنت أبي حبيش ، أنها كانت تستحاض ، فقال لها النبي : ( إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف ، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة ، فإذا كان الآخر ، فتوضئي وصلي ، فإنما هو دم عرق ) رواه أبو داود والنسائي ، ودم الاستحاضة نادر .
128 ويشمل أيضاً الطاهر كالمني ، والريح ، وإن خرجت من القبل ، لعموم حديث أبي هريرة أن رسول الله قال : ( لا وضوء إلا من صوت أو ريح ) رواه الترمذي وصححه ، ولمسلم وأبي داود معناه ، وهذا المنصوص المشهور ، وقال أبو الحسين : قياس مذهبنا النقض بالريح من قبل المرأة دون الرجل ، وكذلك قال ابن عقيل : إنه الأشبه ، لأن قبل المرأة ينفذ إلى الجوف ، دون قبل الرجل ، وريح الدبر إنما نقض لاستصحابه جزءاً لطيفاً من النجاسة ، بدليل نتنها ، قال أبو البركات : ومن قال هذا من الأصحاب التزم نجاسة المني ، وقال : إذا أحدث في مائع ، أو ماء يسير نجسه ، حذاراً من النقض بطاهر .
ويشمل أيضاً إذا قطر في إحليله دهناً ثم سال ، أو احتشى قطناً ثم خرج منه ولا بلة معه ، أو كان في وسط القطن ميل فسقط بلا بلة ، وهو أحد الوجوه ، إناطة بالمظنة ، ( والثاني ) : لا ينقض ، لانتفاء الخارج ، فإن تيقن خروج بلة نقض على الأعرف ، وأبعد من قال : لا نقض حتى يخرج بول .
( والثالث ) : ينقض الدهن خاصة ، لاستصحابه بلة غالباً ، بخلاف غيره .
وخرج من كلامه إذا استرخت مقعدته ، فخرجت مع بلة لم ينفصل عنها ، ثم عادت ، وما إذا احتقن ، ولم يخرج شيء من الحقنة ، أو وطيء في الفرج أو دونه ، فدب ماؤه فدخل فرجها ولم يخرج ، وهو أحد الوجهين [ في الجميع ] .
ومراد الخرقي [ رحمه الله ] والله أعلم بالقبل المتيقن ، نظراً للغالب ، لئلا يرد عليه خروج النجاسة من أحد فرجي الخنثي المشكل ، إذا لم يكن بولًا ، ولا غائطاً ، فإنه لا ينقض إلا كثيرها على المذهب ، [ والله أعلم ] .
قال : وخروج الغائط والبول من غير مخرجهما .
ش : الثاني من النواقض في الجملة خروج النجاسة من غير السبيلين المعتادين ، ولا يخلو إما أن يكون بولًا أو غائطاً ، أو غيرهما ، فإن كان بولًا أو غائطاً ، نقضت وإن قلت ، لعموم [ قوله تعالى ] : { أو جاء أحد منكم من الغائط } .
129 وقول النبي في حديث صفوان : ( ولكن من غائط وبول ونوم ) وإن كانت ( من ) غيرهما فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى .
قال : وزوال العقل ، إلا أن يكون النوم اليسير جالساً أو قائماً .
ش : الناقض الثالث : زوال العقل في الجملة ، لأن الحس يذهب معه ، وذلك مظنة خروج الخارج ، والمظنة تقوم مقام الحقيقة ، ولحديث صفوان المتقدم ، والمزيل للعقل على ضربين ، نوم وغيره ، فغيره كالجنون والإغماء ، ونحو ذلك ينقض إجماعاً حكاه ابن المتدر في الإغماء وعممه أبو محمد ، وأما النوم فينقض في الجملة على المذهب بلا ريب ، لما تقدم .
130 وعن علي رضي الله عنه : ( العين وكاء السه ، فمن نام فليتوضأ ) رواه أحمد ، وأبو داود ، ولأحمد عن معاوية نحوه ، وقد سأله ابن سعيد عنهما فقال : حديث علي أثبت وأقوى . ونقل عنه الميموني : لا ينقض بحال لكن نفاها الخلال ، ولا تفريع عليها ، أما على المذهب فالكثير ينقض على أي حال كان ، لما تقدم ، ولتحقيق المظنة ، وقيل عنه بعدم النقض في غير الاضطجاع ، واليسير ينقض في حال الاضطجاع لما تقدم ، ولا ينقض في حال القعود على الأعرف ، وحكي عنه النقض .
131 وهي مردودة بأن في الصحيحين أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينامون ، ثم يصلون ولا يتوضؤن . والجلوس منهم متيقن .
132 ولأبي داود عن أنس : كان أصحاب رسول الله ينتظرون العشاء الآخرة ، حتى تخفق رؤسهم ، ثم يصلون ولا يتوضؤن .
وفي القائم ، والراكع ، والساجد روايات ، ( إحداهن ) : النقض في الجميع ، لعموم ما تقدم ، خرجت منه حالة الجلوس بفعل الصحابة رضي الله عنهم لتيقنها ، ففيما عداها يبقى على قضية العموم . ( الثانية ) : النقض إلا في القائم ، وهو اختيار المصنف ، وأبي محمد ، والخلال إلحاقاً للقائم بالقاعد ، بل أولى ، لاعتماد القاعد بخلاف القائم ( الثالثة ) : النقض إلا في القائم والراكع ، لشبه الراكع بالقائم ، ( الرابعة ) : عدم النقض في الجميع ، وهو اختيار القاضي ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وابن عقيل ، وابن البنا ، قال أبو العباس : اختارها القاضي وأصحابه ، وكثير من أصحابنا .
133 لما روى أحمد رحمه الله في الزهد عن الحسن البصري رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إذا نام العبد وهو ساجد يباهي الله به الملائكة ، يقول : انظروا إلى عبدي روحه عندي ، وهو ساجد لي ) فسماه ساجداً مع نومه ، ولأن الأصل الطهارة ، فلا تزول بالشك ، وهل يلحق المستند ، والمحتبي ، والمتكي ، بالمضطجع أو بالقاعد ؟ فيه قولان ، أشهرهما الأول .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : المرجع في اليسير والكثير إلى العرف ، لعدم حد الشارع له ، قاله الشيخان وغيرهما ، فإذا سقط الساجد عن هيئته ، أو القائم عن قيامه ، ونحو ذلك ، بطلت طهارته ، لأن أهل العرف يعدون ذلك كثيراً ، وكذلك إن رأى حلماً ، نص عليه ، وقطع به جماعة ، والأشبه عند أبي البركات عدم تأثير ذلك ، وحد أبو بكر اليسير بركعتين ، وظاهر كلام أحمد خلافه ، ولا بد في النوم الناقض من الغلبة على العقل ، فمن سمع كلام غيره وفهمه فليس بنائم ، فإن سمعه ولم يفهمه فيسير .
( الثاني ) : ( الوكاء ) في الأصل الخيط الذي تشد به القربة ونحوها ، جعلت اليقظة للأست كالوكاء للقربة ، ( والسه ) حلقة الدبر ، وكني بالعين عن اليقظة لأن النائم لا عين له تبصر ، ( وتخفق رؤوسهم ) . من الخفوق وهو الاضطراب ، وقيل : معناه ينامون وهم قعود ، حتى تسقط ذقونهم في صدورهم [ والله أعلم ] .
قال : والتقاء الختانين .
ش : هذا الناقض الرابع ، وأكثر الأصحاب لا يعدونه ناقضاً ، لما استقر عندهم والله أعلم من أن ما أوجب الغسل نقض الطهارة الصغرى ، وقد أشار إلى ذلك القاضي في الجامع الكبير ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بعد ، من أن التقاء الختانين يوجب الغسل ، وإن كان بحائل ، كما هو [ ظاهر ] إطلاق الأكثرين ، وممن صرح بأن موجبات الغسل ناقضات للطهارة وإن لم يوجد خروج خارج ، ولا ملامسة السامري ، وابن حمدان .
والخرقي رحمه الله ذكر ذلك ليشعر بهذين الأصلين ، وإنما قيل بالنقض بذلك قياماً للمظنة مقام الحقيقة ، وقد حكى ابن حمدان وجهاً في الكافر يسلم : لا يجب عليه الوضوء ، وإن وجب عليه الغسل ، وهذا غير ما تقدم ، إذ الكلام ثَمَّ في أن ما أوجب الغسل نقض الطهارة ، لأن ما أوجب الكبرى أوجب الصغرى والله أعلم .
قال : والارتداد عن الإسلام .
ش : الناقض الخامس : الارتداد عن الإسلام والعياذ بالله على المحقق المعروف .
134 لقول النبي : ( الطهور شطر الإيمان ) وإذا بطل الإيمان فكيف بشطره ، نظراً إلى أن الإيمان تركب من طهارة الظاهر ، وطهارة الباطن كما سيأتي .
135 وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الحدث حدثان ، حدث اللسان ، وحدث الفرج ، وحدث اللسان أشد من حدث الفرج . ورواه ابن شاهين مرفوعاً إلى النبي .
واستدل بقوله تعالى : 19 ( { لئن أشركت ليحبطن عملك } ) بناء على الإحباط بمجرد الردة ، والموت في قوله تعالى : 19 ( { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر } ) شرط للخلود ، وفيه نظر . إذ المشهور أن الإحباط مشروط بالموت على الردة ، ولهذا صح الحج في الإسلام السابق ، ولزمه قضاء ما تركه فيه من صلاة وزكاة ، وصوم ، على المشهور ، ثم الإحباط إنما ينصرف للثواب ، دون نفس العمل ، بدليل [ صحة صلاة ] من صلى خلفه وهو مسلم ، ولم يعد القاضي في جامعه ، وخصاله وأبو الخطاب في هدايته ، وابن البنا ، وابن عقيل في التذكرة ، وصاحب التلخيص ، والسامري الردة في النواقض ، فقيل : لأنها لا تنقض عندهم ، وقيل : إنما تركوها لعدم فائدتها ، لأنه إن لم يعد إلى الإسلام فظاهر ، وإن عاد إلى الإسلام وجب عليه الغسل ، ويدخل فيه الوضوء ، وقد أشار إلى ذلك القاضي في الجامع الكبير فقال : لا معنى لجعلها من النواقض ، مع وجوب الطهارة الكبرى .
واستدل أبو العباس عليه [ فقال ] : إن فائدة ذلك تظهر فيما إذا عاد ، فإنا نوجب عليه الوضوء والغسل ، فإن نواهما بالغسل أجزأه ، ولو لم ينقض لم يجب عليه [ إلا ] الغسل . ( قلت ) : ومثل هذا لا يخفى على القاضي ، وإنما أراد القاضي والله أعلم أن وجوب الغسل ملازم لوجوب الطهارة الصغرى كما تقدم ، وممن صرح بأن موجبات الغسل تنقض الوضوء ، السامري ، وابن حمدان حكى وجهاً بأن الوضوء لا يجب بالالتقاء بحائل ، ولا بالإسلام ، وإذاً ينتفي الخلاف بين الأصحاب في المسألة .
وتخصيص المصنف للنقض بالردة مشعر بعدم النقض بغيرها من الكلام ، وهو صحيح ، نعم : يستحب من الكلام المحرم ، وهل يستحب من القهقهة ؟ فيه وجهان .
( تنبيه ) : ( الشطر ) النصف ، وجعل الطهور والله أعلم شطر الإيمان لأنه يطهر الظاهر ، والإيمان يطهر الباطن ، والله أعلم .
قال : ومس الفرج [ من غير حائل ] .
ش : السادس من النواقض مس الفرج ، والفرج مأخوذ من الانفراج ، وهو اسم لمخرج الحدث ، ويتناول الذكر ، والدبر وفرج المرأة ، ومناط المسألة الذكر ، وغيره مبني ومفرع عليه ، فلنتكلم على الذكر أولًا فنقول : المذهب المشهور الذي عليه عامة الأصحاب : أن مسه ينقض الوضوء في الجملة .
136 لما روت بسرة رضي الله عنها أن النبي قال : ( من مس ذكره فليتوضأ ) رواه الخمسة ، وصححه أحمد والترمذي ، وقال البخاري : إنه أصح ما في الباب .
137 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ، ليس دونها حجاب ، فقد وجب عليه الوضوء ) رواه أحمد ، والطبراني وهذا لفظه ، وابن حبان ، والحاكم وصححه وللنسائي ، من حديث بسرة نحوه ، مع أن عمل الصحابة عليه .
138 فقد رواه مالك في الموطأ ، عن سعد بن أبي وقاص ، وابن عمر وحكاه إمامنا عن عمر وابنه وابن عباس ، وأنس ، وابن عبد البر عن زيد بن خالد الجهني ، والبراء ، وجابر ، والخطابي عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين ( وعن أحمد ) رحمه الله رواية أخرى : يستحب الوضوء من مسه ولا يجب . اختارها أبو العباس في فتاويه .
139 لما روى قيس بن طلق ، عن أبيه رضي الله عنه ، قال : قدمنا على رسول الله ، فجاءه بدوي فقال : يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما توضأ ؟ فقال : ( وهل هو إلا مضغة منه ، أو بضعة منه ) رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي . ويحمل ما تقدم على الاستحباب ، جمعاً بين الأدلة ، ومن نصر الأول ضعّف الحديث ، ثم ادعى نسخه على تقدير صحته .
140 بدليل أن وفادة طلق كانت في سنة الهجرة [ وهم يؤسسون المسجد ، وإسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة من الهجرة ] وهذا إن لم يكن نصاً في النسخ لكنه ظاهر فيه ، ثم يؤيده أن حديث طلق موافق للأصل ، ودعوى الاستحباب مردودة بقوله : ( وجب عليه الوضوء ) ومنهم من حمل حديث طلق على المس من وراء حائل ، لأنه قد جاء أن السؤال عن المس في الصلاة ، وتعليله يرده .
ولا تفريع على هذه الرواية ، أما على الأولى فقد شمل كلام الخرقي ذكر نفسه ، وذكر غيره ، وهو المعروف ، لأن في حديث بسرة في رواية لأحمد والنسائي أنها سمعت رسول الله يقول : ( ويتوضأ من مس الذكر ) وحكى ابن الزاغوني رواية باختصاص النقض بذكر نفسه ، جموداً على أنه المعروف من الرواية : ( من مس ذكره ) ( وشمل ) [ أيضاً ] ذكر الصغير والكبير ، وهو المذهب المنصوص عليه ، نظراً لعموم ما سبق ، وعنه : لا ينقض ذكر الطفل . حكاها الآمدي . ( وشمل ) أيضاً ذكر الحي والميت ، وهو المذهب المنصوص أيضاً ، لما تقدم ، وقيل : لا ينقض ذكر الميت . ( وشمل ) أيضاً المتصل والمنقطع المنفصل ، وهو أحد الوجهين ، وبه قطع الشيرازي ، تعليقاً بالعموم ، ( والثاني ) : لا ينقض المنقطع لعدم حرمته ، وانتفاء مظنة خروج الخارج ، ( وشمل ) أيضاً أصل الذكر ورأسه ، وهو المذهب لما تقدم ، وعنه : تخصيص النقض بالحشفة ، وعنه بالثقب . وكلاهما بعيدان .
وقول الخرقي : مس الفرج . المس اللمس باليد ، فالنقض مختص بها وإن كان بزائدة منها ، لحديث أبي هريرة المتقدم ، والمراد باليد على المذهب : إلى الكوع ، كما في آية التيمم ، والسرقة ، وعنه : [ بل إلى ] المرفق ، كما في آية الوضوء . وعنه : بل يختص النقض ببطن الكف ، وعليها في حرفها وجهان ، وقال الأصحاب : النقض أيضاً يحصل بمس الفرج ، لأنه أدعى إلى الحدث ، ومال أبو البركات إلى عدم النقض به ، لأن النقض بمس الذكر تعبد عند المحققين .
وقد شمل كلام الخرقي المس سهواً ، ولغير شهوة ، وهو المشهور ، لظواهر النصوص ، ( وعنه ) : لا ينقض مسه شهواً .
141 لقوله : ( عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ) الحديث ، ولا لغير شهوة ، نظراً إلى أنه معلل بخروج الخارج ، كلمس النساء .
وشرط الخرقي أن يكون اللمس من غير حائل ، وهو المذهب .
142 لما تقدم من حديث أبي هريرة ، ولأحمد فيه : ( ليس دونه ستر ) وحكى عنه القاضي في شرح المذهب النقض مع الحائل .
إذا عرف هذا ففي النقض بمس حلقة الدبر روايتان ، ( إحداهما ) وقال الخلال : إنها الأشيع في قوله وحجته ، وقواها أبو البركات : لا ينقض ، لأن غالب الأحاديث مقيدة بالذكر ، ( والثانية ) : وهي ظاهر كلام الخرقي واختيار الأكثرين ، الشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي وابن عقيل ، وابن البنا ، وابن عبدوس : ينقض .
143 لما روت أم حبيبة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله يقول : ( من مس فرجه فليتوضأ ) رواه ابن ماجه ، والأثرم ، وصححه أحمد ، وأبو زرعة والفرج اسم جنس مضاف ، فيعم ، وذكر الذكر لا يخصص ، لأنه بعض أفراده ، وفي مس المرأة فرجها ، أيضاً روايتان ( إحداهما ) : لا ينقض لما تقدم من أن أكثر الأحاديث مقيدة بالذكر ، ( والثانية ) : وصححها أبو البركات ينقض ، لعموم ( من مس فرجه فليتوضأ ) وذكر الذكر لا يخصص ، لما تقدم ، والمفهوم غير مراد ، لأن الخطاب كان جواب سؤال سائل للرجال .
144 وقد روى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي قال : ( أيما رجل مس فرجه فليتوضأ ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ ) ولا فرق بين مس فرجها وفرج غيرها ، وفي التلخيص : ينقض مس فرج المرأة ، وفي مسها فرج نفسها وجهان . وفيه نظر .
وظاهر كلام الأصحاب أنه لا يشترط للنقض بذلك الشهوة ، وهو مفرع على المذهب ، وشرطها ابن أبي موسى ، وهو جار على الرواية الضعيفة .
( تنبيه ) : المضغة ، قدر اللقمة من اللحم ، ( والبضعة ) قطعة أكبر من المضغة . والله أعلم .
قال : والقيء الفاحش ، والدم الفاحش ، والدود الفاحش ، يخرج من الجروح .
ش : قد تقدم في الثاني من النواقض أن النجاسة الخارجة من غير السبيلين تنقسم إلى بول وغائط وغيرهما [ وقد تقدم الكلام على البول والغائط ، والكلام هنا فيما عداه ] ولا يخلو إما أن يكون فاحشاً أو غير فاحش .
فإن كان غير فاحش لم ينقض على المشهور من الروايتين .
145 لأن عبد الله بن أبي أوفى بصق دماً ، فمضى في صلاته ، وابن عمر عصر بثرة فخرج منها دم فلم يتوضأ ، ذكرهما البخاري .
146 وعن أبي هريرة أنه أدخل أصبعه في أنفه ، فخرج عليها دم ، فلم يتوضأ ، ذكره أحمد وقال : قال ابن عباس في الدم : 16 ( إذا كان فاحشاً أعاد الوضوء ) . وقال : الدم القليل لا أرى فيه الوضوء ، لأن أصحاب رسول الله رخصوا فيه . وغير ذلك ما عدا البول ، والغائط في معناه ، والرواية الثانية : ينقض لعموم ما يأتي .
وإن كان فاحشاً نقض على المعروف ولا عبرة برواية أثبتها بعضهم ، ونفاها أبو البركات : أن القيح والصديد ، والمدة لا ينقض مطلقاً .
147 لما روى معدان بن أبي طلحة ، عن أبي الدرداء ، أن النبي قاء فتوضأ ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق ، فذكرت ذلك له فقال : صدق ، أنا صببت له وضوءه . رواه أحمد والترمذي وقال : هو أصح شيء في الباب . وقال الأثرم لأحمد : اضطربوا في [ هذا ] الحديث . فقال : حسين المعلم يجوده . وقيل له : حديث ثوبان يثبت عندك ؟ قال : نعم .
148 ولابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( من أصابه قيء ، أو رعاف ، أو قلس ، أو مذي ، فلينصرف فليتوضأ ) فيحمل هذا والذي قبله على الفاحش عملًا بالدليلين ، ويؤيد ذلك قول ابن عباس المتقدم ، وقد اعترض على هذا الحديث بأنه مرسل ولا يضر على قاعدتنا ، على أنه قد أيد بعمل الصحابة .
149 فحكى أحمد الوضوء من الرعاف عن علي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عبد البر عن عمر : ثم حديث معدان يوافقه .
إذا عرف هذا فاختلف عن إمامنا في الفاحش اختلافاً كثيراً ، نحو عشرة أقوال أو أكثر ، والمشهور منها ، المعمول عليه ، أنه : ما يفحش في النفس ، ولا عبرة بما قطع به ابن عبدوس ، وحكى عن شيخه : أن اليسير قطرتان ، لما تقدم عن ابن عباس ، ولا يعرف عن صحابي خلافه ، ثم المعتبر في حق كل إنساء بما يستفحشه في نفسه ، نص عليه ، وقال الخلال : إنه الذي استقر عليه قوله ، ومال إليه أبو محمد ، وقال أبو العباس في شرح العمدة ، إنه ظاهر المذهب ، وحده أنه الأولى ، إلا أنه استثنى القطرة والقطرتين ، فعفى عن ذلك مطلقاً ، إذ العفو لدفع المشقة ، فإذا لم يستفحشه شق عليه غسله وإن استفحشه هان عليه غسله ، وقال ابن عقيل في فصوله ، وشيخه أظنه في المجرد : والمعتبر نفوس أوساط الناس ، فلا عبرة بالقصابين ، ولا المتوسوسين ، كما رجع في يسير اللقطة إلى نفوس الأوساط ، وفي الأحراز والقبوض إلى عادة الأكثر ، وتبعهما على ذلك صاحب التلخيص وأبو البركات في محرره .
( تنبيه ) : القلس بالتحريك وقيل بالسكون ما خرج من الجوف ، مل الفم أو دونه ، وليس بقيء ، فإن عاد فهو القيء . والله أعلم .
قال : وأكل لحم الجزور .
ش : السابع من النواقض أكل لحم الجزور ، على المذهب ، المختار لعامة الأصحاب .
150 لما روى جابر رضي الله عنه ، أن رجلًا سأل النبي : أنتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : ( إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ ) قال : أنتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : ( نعم توضؤا من لحوم الإبل ) قال : أصلي في مرابض الغنم ؟ قال : ( نعم ) قال : أصلي في مبارك الإبل ؟ قال : ( لا ) رواه أحمد ومسلم ، وقال ابن خزيمة : لم نر خلافاً بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح ، لعدالة ناقليه .
151 وعن البراء بن عازب قال : سئل رسول الله عن الوضوء من لحوم الإبل ، فقال : ( توضؤا منها ) وسئل عن لحوم الغنم ، فقال : ( لا تتوضؤا منها ) وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : ( لا تصلوا فيها ، فإنها من الشياطين ) وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم ، فقال : ( صلوا فيها ، فإنها بركة ) رواه أحمد وأبو داود ، والترمذي ، وصححه والذي قبله أحمد وإسحاق ، وظاهر الأمر الوجوب ، والوضوء إذا أطلقه الشارع حمل على الشرعي ، لا سيما وقد قرنه بالصلاة ، وفرق بينه وبين لحم الغنم ، مع مطلوبية الوضوء اللغوي فيه ، وهو غسل اليد والفم .
152 وكذا فهم جابر راوي الحديث وغيره الوضوء الشرعي فقال : كنا نتمضمض من ألبان الإبل ، ولا نتمضمض من ألبان الغنم ، وكنا نتوضأ من لحوم الإبل ، ولا نتوضأ من لحوم الغنم ، ذكره البيهقي في السنن .
153 وقال : أمرنا رسول الله أن نتوضأ من لحوم الإبل ، ولا نتوضأ من لحوم الغنم ، رواه ابن ماجه ، وله نحوه عن ابن عمر ، وكذا لأحمد من حديث أسيد بن الحضير والمعنى في ذلك إن قيل : [ إنه ] معلل ما أشار إليه النبي بأنها من الشياطين ، إذ كل عات متمرد شيطان ، فالكلب الأسود شيطان الكلاب ، والإبل شياطين الأنعام .
154 وفي الحديث ( على ذروة كل بعير شيطان ) والأكل منها يورث حالًا شيطانية ، والشيطان من نار والماء يطفئها .
155 ودعوى النسخ بقول جابر رضي الله عنه [ في الصحيح ] : كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مست النار ، ودعوى النسخ مردودة بأن هذه قضية عين ، ولا عموم لها ، ولو سلم عمومها كما قاله أصحابنا ، أو ورد لفظ عام لم ينسخ العام الخاص ، بل الخاص يقضي على العام ، ثم لو سلم اندراج المطبوخ [ منه ] في العموم ، فإنما يدل على نفي الوضوء بسبب مس النار ، لا نفي الوضوء من جهة أخرى ، وإذاً نقول : الوضوء من المطبوخ كان لعلتين ، مس النار ، وكونه لحم إبل ، فإذا زالت إحداهما لا يلزم زوال الأخرى .
وقد شمل كلام الخرقي النيء وهو كذلك ، لما تقدم . وعن أحمد ( رواية أخرى ) : لا ينقض مطلقاً ، وقد فهم دليلها [ وجوابه ] مما تقدم ، وعنه ( ثالثة ) : إن طالت المدة وفحشت ، كعشر سنين لم يعد ، بخلاف ما إذا قصرت ، وعنه ( رابعة ) وقال الخلال : إن عليها استقر قوله : يفرق بين الجاهل وغيره ، لأنه خبر آحاد فيعذر بالجهل به كما يعذر بالجهل بالزنا ونحوه الحديث العهد بالإسلام ، والجاهل هنا من لم يبلغه الحديث ، قاله أبو العباس ، أما من بلغه فلا يعذر ، وعنه : بلى مع التأويل ، وعنه : مع طول المدة .
وقد خرج من كلام الخرقي ما عدا اللحم من لبنها ، وسنامها ، وكرشها ، وكبدها ، ومرقها ، ونحو ذلك ، وهو إحدى الروايتين في اللبن ، وأحد الوجهين ، أو الروايتين المخرجتين في غيره ، واختيار الأكثرين فيهما ، لأن الصحيح من الأحاديث ليس فيه ذكر اللبن .
156 ثم في ابن ماجه عن النبي : ( مضمضوا من اللبن ، فإن له دسماً ) وظاهره الاكتفاء بالمضمضة في كل لبن ، ( والقول الثاني ) : يجب في جميع ذلك .
157 لأن في بعض الأحاديث : ( توضؤا من لحوم الإبل وألبانها ) رواه أحمد . وغيره اللبن في معناه ، من السنام ونحوه ، والمعتمد أن الوضوء من لحوم الإبل هل هو معلل ، فيلحق به ذلك ، أو غير معلل ، وهو المشهور ؟ على قولين .
وخرج من كلامه أيضاً ما عدا لحم الإبل من اللحوم ، وهو المشهور من الروايتين في اللحوم المحرمة أما غير المحرمة فلا تنقض اتفاقاً ، نعم في استحباب الوضوء مما مست النار وجهان .
تنبيه : ( مرابض الغنم ) اسم لمواضع ربضها ، أي إقامتها ، ( ومبارك ) اسم لموضع البروك .
قال : وغسل الميت .
ش : ( الثامن ) من النواقض غسل الميت مطلقاً ، على المنصوص ، المختار للجمهور .
158 لما روى عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء .
159 وقال أبو هريرة : أقل ما فيه الوضوء ، وقال التميمي ، وأبو محمد : لا ينقض ، كما لو يممه .
160 وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله : ( ليس عليكم في ميتكم غسل إذا غسلتموه ، فإن ميتكم ليس بنجس ، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم ) رواه الدارقطني ، قال بعض الحفاظ : إسناده جيد .
وقد دخل في كلام الخرقي ما إذا غسله في قميصه ، وهو ظاهر كلام غيره ، وفيه احتمال ، وخرج من كلامه ما إذا غسل بعضه ، وهو أظهر الاحتمالين عند ابن حمدان ، وخرج أيضاً ما إذا يممه ، وهو المعروف ، وقيل : فيه احتمال .
( تنبيه ) : قيد ابن حمدان المسألة بما إذا قيل : إن مس فرجه ينقض اه . والغاسل من يقلبه ويباشره ، لا من يصب الماء ونحوه و ( حسبكم ) . أي يكفيكم . والله أعلم .
قال : وملاقاة جسم المرأة لشهوة . .
ش : هذا خاتمة النواقض ، وهو ملاقاة جسم الرجل [ جسم ] المرأة لشهوة ، على المشهور ، المعمول به من الروايات ، لقول الله تعالى : 19 ( { أو لامستم النساء } ) الآية والمفهوم منه في العرف المس المقصود منهن ، وهو المس للتلذذ ، أما المس لغرض آخر فلا فرق بينهن وبين غيرهن في ذلك ، ولأن اللمس بشهوة هو المظنة لخروج المني والمذي ، فأقيم مقامه ، كالنوم مع الريح .
161 وعلى هذا يحمل قول ابن مسعود : من قبلة الرجل امرأته الوضوء . ونحو عن ابن عمر ، أخرجهما مالك في الموطأ .
162 وقول عمر رضي الله عنه : إن القبلة من اللمس ، فتوضؤا منها . رواه البيهقي ، فتخصيصه القبلة بذلك قرينة الشهوة .
163 وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل أصاب [ من ] امرأة لا تحل له ، فلم يدع شيئاً يصيب الرجل من المرأة إلا قد أصاب منها ، إلا أنه لم يجامعها ؟ فقال : ( توضأ وضوءاً حسناً ثم قم فصل ) فأنزل الله تعالى هذه الآية : 19 ( { وأقم الصلاة طرفي النهار ، وزلفا من الليل . إن الحسنات يذهبن السيئات } ) فقال معاذ : هي له خاصة ، أم للمسلمين عامة ؟ فقال : ( بل هي للمسلمين عامة ) رواه أحمد والدارقطني ، مع أن فيه انقطاعاً ، فإن راويه عن معاذ عبد الرحمن بن أبي ليلى ولم يدركه .
164 وما روي من أنه قبّل ولم يتوضأ ، إن صح أيضاً محمول على التقبيل ترحماً ونحوه ، ولو أريد بالآية الجماع لاكتفى بقوله تعالى : 19 ( { وإن كنتم جنباً } ) ( والثانية ) : ينقض مطلقاً لظاهر [ إطلاق ] الآية الكريمة ، وما تقدم من حديث معاذ ونحوه ، ويؤيد ذلك أنه قد ورد في لسان الشارع ، وأريد به ذلك .
165 قال في حديث ماعز ( لعلك قبلت أو لمست ) ؟
166 ونهى عن بيع الملامسة وقد حكي عن أحمد أنه رجع عن هذه الرواية ( والثالثة ) : لا ينقض مطلقاً ، وهو اختيار أبي العباس في فتاويه ، وهو قول الحبر ابن عباس ، حملًا للآية على الجماع .
167 قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله حيي كريم ، يكني بما شاء عما شاء وإن مما كنى به عن الجماع الملامسة . ويؤيد ذلك ما روي من تقبيله وما تقدم يحمل على الاستحباب ، جمعاً بين الأدلة اه .
وقد شمل كلام الخرقي الأجنبية ، وذات المحرم ، والعجوز ، وهو كذلك ، وشمل أيضاً الحية والميتة ، وهو اختيار القاضي وابن عبدوس ، وابن البنا ، وصاحب التلخيص وغيرهم نظراً للعموم ، وقياساً على وجوب الغسل بوطئها ، وخالفهم أبو جعفر ، وابن عقيل ، وأبو البركات ، لأنها ليست محلًا للشهوة ، أشبهت البهيمة ، وشمل أيضاً مسها بعضو زائد ، ومس عضو زائد منها ، لأن جسمه لاقى جسمها ، وصرح به غيره .
وقوله : المرأة . قد يخرج به الطفلة . وصرّح به أبو البركات ، مقيداً بالتي لا تشتهى ، وصرّح أبو محمد ، وصاحب التلخيص ، والسامري ، وغيرهم بأنه لا فرق بين الصغيرة والكبيرة .
وقوله : المرأة . أي لجسم المرأة ، فيحتمل أن يدخل تحته الشعر والسن ، والظفر ، وهو قويل ، والمذهب عدم النقض بذلك .
وخرج من كلامه اللمس بحائل وهو المعروف المنصوص وحكي عنه النقض مع الحائل أيضاً وبعدت .
وقوله : ملاقاة جسم الرجل للمرأة ، قد يدخل فيه ما إذا مسته المرأة ووجدت منه الشهوة ، أن وضوءه ينتقض ، وهذا ينبني على أصلين ، ( أحدهما ) : أن المرأة هل حكمها حكم الرجل إذا مسته ، وهو المشهور ، أم لا ؟ فيه روايتان ( الثاني ) : أن اللامس حيث انتقض وضوءه هل ينتقض وضوء الملموس ، وهو اختيار ابن عبدوس ، أو لا ينتقض ، وهو اختيار أبي البركات ؟ على روايتين أيضاً ، ثم محلها وفاقاً للشيخين فيما إذا وجدت الشهوة من الملموس ، فيكون كلام الخرقي ينبني على أن حكم المرأة حكم الرجل ، وأن وضوء اللامس ينتقض إذا انتقض وضوء الملموس .
واعلم أن عامة الأصحاب يعد النواقض كما عدها الخرقي ، عدا التقاء الختانين كما تقدم ، وزاد بعض المتأخرين : زوال عذر المستحاضة ونحوها بشرطه ، وخروج وقت صلاة تيمم لها ، وبطلان المسح بفراغ مدته ، أو خلع حائله ، ونحو ذلك ، وبرء محل الجبيرة ، ورؤية الماء للمتيمم العادم له ونحو ذلك ، وهذا وإن [ كان ] مناقشاً فيه ، لكن الحكم متفق عليه اه .
( تنبيه ) : 19 ( { وزلفا من الليل } ) أي ساعة بعد ساعة . واحدتها : زلفة [ والله أعلم ] .
قال : ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث ، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة ، فهو على ما تيقن منهما .
168 ش : روى عبد الله بن زيد قال : شكي إلى النبي الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ؟ قال : 19 ( ( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً ، أو يجد ريحاً ) ) متفق عليه .
169 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً ، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا ؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً ، أو يجد ريحاً ) رواه مسلم وغيره ، والمعنى في ذلك أن الشيء إذا كان على حال ، فانتقاله عنها يفتقر إلى زوالها ، وحدوث غيرها ، وبقائها ، وبقاء الأولى لا يفتقر [ إلا ] إلى مجرد [ بقائها ] ويكون أولى .
واعلم أن كلام الخرقي يشمل صوراً ، منها ما تقدم ، ( ومنها ) إذا تيقن الطهارة والحدث ، وشك في السابق منهما ، فإنه على ضد حاله قبلهما ، مثاله : إذا تيقن بعد الزوال مثلًا أنه كان متطهراً ومحدثاً ، فإنه ينظر إلى ما قبل الزوال فإن كان محدثاً فهو الآن متطهر ، لأنه قد تيقن زوال ذلك الحدث ، بطهارة بعد الزوال ، والحدث الموجود بعد الزوال ، يحتمل أن يكون ذلك الحدث واستمر ، ويحتمل أنه حدث متجدد ، فهو متيقن للطهارة ، شاك في الحدث ، وإن كان قبل الزوال متطهراً فهو الآن محدث ، وبيانه مما تقدم ( ومنها ) إذا تيقن فعل الطهارة والحدث ، وصورته أنه تيقن بعد الزوال أنه تطهر طهارة رفع بها حدثاً ، وأحدث حدثاً نقض به طهارة ، فيكون على مثل حاله قبل الزوال ، فإن كان قبله متطهراً فهو الآن متطهر ، لأن الطهارة التي قبل الزوال ، قد تيقن زوالها بالحدث ، وتيقن أيضاً زوال الحدث بالطهارة التي بعد الزوال ، والأصل بقاؤها ، وإن كان قبل الزوال محدثاً ، فهو الآن محدث ، وبيانه مما تقدم ، والضابط كما قال الخرقي العمل بالأصل .
( تنبيه ) : الشك في كلام الخرقي خلاف اليقين ، وإن انتهى إلى غلبة الظن ، وفاقاً للفقهاء واللغويين كما قاله الجوهري ، وابن فارس وغيرهما ، وفي اصطلاح الأصوليين هو تساوي الاحتمالين والله سبحانه وتعالى أعلم .
قال :
باب ما يوجب الغسل
ش : قال القاضي عياض : الغسل بالفتح الماء ، وبالضم الفعل ، وقال ابن مالك : [ الغسل ] بالضم الاغتسال ، والماء الذي يغسل به . وقال الجوهري : غسلت الشيء غسلًا . بالفتح ، والاسم الغسل . بالضم ، والغسل بالكسر ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره ، [ والله أعلم ] .
قال : والموجب للغسل خروج المني .
ش : خروج المني في الجملة موجب للغسل اتفاقاً ، وقد قال [ الله ] تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } .
170 وثبت أنه قال : ( إنما الماء من الماء ) .
171 وفي الصحيحين عن أم سلمة ، أن أم سليم قالت : يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق ، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ قال : ( نعم إذا رأت الماء ) فقالت أم سلمة : أو تحتلم المرأة ؟ فقال : ( تربت يداك ، وبم يشبهها ولدها ) ؟
172 وفي رواية لمسلم : ( ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر ، فمن أيهما علا أو سبق يكون الشبه منه ) .
والألف واللام في كلام الخرقي يجوز أن تكون لمعهود ذهني وهو المني المعتاد ، وهو الخارج على وجه الدفق واللذة ، فلا يجب الغسل لمني خرج بغير ذلك كالخارج لمرض أو أبردة أو كسر ظهر ، أو نحو ذلك ، وهو المشهور المعروف .
173 لما روي عن علي رضي الله عنه قال : كنت رجلًا مذاء ، فسألت النبي قال : ( إذا خذفت الماء فاغتسل ، وإن لم تكن خاذفاً فلا تغتسل ) رواه أحمد والخذف خروجه بسرعة ، وفي رواية أبي داود : ( إذا فضخت الماء فاغتسل ) والفضخ قال إبراهيم الحربي : خروجه بالغلبة .
174 ( وعنه ) أيضاً قال : كنت رجلًا مذاء ، فلما رأى رسول الله الماء قد آذاني ، قال : ( إنما الغسل من الماء الدافق ) رواه البيهقي في سننه .
ويحتمل أن تكون للجنس ، أي خروج كل مني ، فعلي هذا يجب الغسل وإن خرج بلا دفق وشهوة ، وهو تخريج كما سيأتي ، وقيل : رواية حكاها ابن عبدوس ، لعموم قوله : ( إنما الماء من الماء ) وقوله : ( نعم إذا رأت الماء ) وقوله : ( في المذي الوضوء وفي المني الغسل ) ويجاب بالقول بموجب هذه الأحاديث وأن الألف واللام لمعهوده ذهني ، كما تقدم .
ومقتضى كلام الخرقي أن الغسل لا يجب بالانتقال ، لتعليقه الحكم على الخروج ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي محمد ، والشريف فيما حكاه عنه الشيرازي ، لما تقدم في النصوص ، إذ الحكم في الجميع مرتب على الرؤية ، ( والرواية الثانية ) : وهي المنصوصة المشهورة عن أحمد ، والمختارة لعامة أصحابه ، حتى أن جمهورهم جزموا بها يجب بذلك ، لقوله تعالى : 19 ( { وإن كنتم جنباً فاطهروا } ) والجنابة أصلها البعد ، قال سبحانه : { والجار الجنب } أي البعيد وسمي من جامع جنباً لبعده عن الصلاة وموضعها حتى يطهر ، ومع الانتقال قد باعد الماء محله ، فصدق عليه اسم الجنب ، وإناطة للحكم [ بالشهوة ] وتعليقاً له على المظنة ، إذ بعد انتقاله يبعد عدم خروجه ، كما قد أشار إليه أحمد ، ومحل الروايتين وفاقاً لابن حمدان فيما إذا لم يخرج إلى قلفة الأقلف ، وفرج المرأة ، فعلى الأولى إذا خرج بعد ذلك وجب الغسل ، وإن خرج لغير شهوة ، لأن انتقاله كان لشهوة ، وتترتب الأحكام المتعلقة بخروج المني ، من إفساد صوم ونحوه ، ويعيد ما صلى من وقت انتقاله ، قاله ابن حمدان ، وعلى الثانية تترتب الأحكام بمجرد الانتقال ، من إفساد صوم ، ووجوب بدنة في الحج ، حيث وجبت بخروج المني ، قاله القاضي في تعليقه التزاماً ، وجعله ابن حمدان وجهاً وبعده .
وهل يجب عليه إن كان قد اغتسل غسل ثان ؟ حكمه حكم مني اغتسل له ، ثم خرجت بقيته ، وفيه روايات ( إحداها ) وهي ظاهر كلام الخرقي ، واختيار الخلال ، وابن أبي موسى ، وأبي البركات وغيرهم لا غسل عليه ، حذاراً من أن يلزمه بمني واحد غسلان ، وتبعاً لعلي ، وابن عباس رضي الله عنهم ( والثانية ) : عليه الغسل ، إناطة بخروج المني ، ( والثالثة ) وهي اختيار القاضي في تعليقه إن خرج قبل البول فعليه الغسل ، لأنه بقية مني دافق بلذة ، وإن خرج بعد البول فلا ، لأن الظاهر أنه غير الأول ، وقد تخلف عنه شرطه وهو الدفق واللذة ، وهي اختيار القاضي في التعليق ، ( وعنه رابعة ) : عكس الثالثة ، حكاها القاضي في المجرد : إن خرج قبل البول لم يجب الغسل ، لأنه بقية الأول ، وقد اغتسل له ، وإن خرج بعده وجب ، لأنه مني جديد ، ومنها خرج أبو البركات الوجوب فيما إذا خرج المني لغير شهوة .
أما إن انتقل ولم يغتسل له ثم خرج بعد فإنه يغتسل بلا نزاع نعلمه .
ومقتضى كلام الخرقي أيضاً أن الغسل لا يجب بمجرد الاحتلام وهو المذهب بلا ريب ، وقد حكاه ابن المنذر وغيره إجماعاً ، وأغرب ابن أبي موسى في حكايته رواية بالوجوب ، فعلى المذهب إن خرج بعد شهوة اغتسل له ، وإلا فروايتا الانتقال ، قاله ابن حمدان والمنصوص عن أحمد الوجوب ، وهو أظهر لئلا يلزم انتقال مني وخروجه من غير اغتسال ، ثم ينبغي أن يقول بروايات الانتقال .
ومقتضى كلام الخرقي أيضاً أنه إذا وجد المني في النوم ، ولم يذكر احتلاماً ، أن عليه الغسل ، وهو كذلك .
175 لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : سئل رسول الله عن الرجل يجد البلل ، ولا يذكر احتلاماً ؟ قال ( يغتسل ) : وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ، ولا يجد البلل ؟ قال : ( لا غسل عليه ) فقالت أم سلمة : يا رسول الله فالمرأة ترى ذلك أعليها غسل ؟ قال : ( نعم ، إنما النساء شقائق الرجال ) رواه أبو داود والترمذي ، أما إن وجد بللًا ، وشك هل هو مني أم لا ؟ فإن وجد سبب المني وهو الاحتلام أنيط لحكم عليه وعمل به ، وإن وجد سبب المذي وهو الملاعبة ونحوها ، أو كانت به أبردة تعلق الحكم بذلك ، وعمل عليه وإن لم يوجد واحد منهما فهل يحكم بأنه مني وهو المشهور وبه قطع بعضهم ، لظاهر حديث عائشة ، ولانتفاء سبب صالح لغيره ، أو للمذي لأن الأصل عدم وجوب الغسل ، وإلى هذا ميل أبي محمد ؟ فيه روايتان ، فعلى الأول : يتوضأ مرتباً متوالياً ، ويغسل يديه وثوبه احتياطاً ، وعلى الثاني : يستحب [ الغسل احتياطاً ] .
وقد شمل كلام الخرقي إذا جعل الألف واللام للجنس إذا وطيء دون الفرج ، فدب منيه فدخل فرج المرأة ثم خرج ، أو وطيء في الفرج ، ثم خرج منيه من فرجها بعد غسلها ، أو خرج ما استدخلته [ من مني ] بقطنة ، ولم يخرج منيها ، وهو وجيه في الكل ، والمنصوص المقطوع به عدم الغسل على المرأة والحال هذه ، ولا نزاع فيما نعلمه أن الغسل لا يجب بخروج المني من غير مخرجه ، وإن وجد شرطه .
( تنبيه ) : قد تقدم بيان الخذف والفضخ ، ( وتربت يداك ) أي افتقرت ، في الصحاح : ترب الشيء . بالكسر إذا أصاب التراب ، ومنه ترب الرجل . إذا افتقر ، كأنه لصق بالتراب ، وأترب ، إذا استغنى ، كأنه صار ماله من الكثرة بقدر التراب ، وتأول مالك ، وعيسى بن دينار رضي الله عنهما الحديث على الاستغناء والمقام يأباه .
وقال الأصمعي : معناه الحظ على تعلم مثل هذا ، كما يقال : أنج ثكلتك أمك . وذهب أبو عبيد والمحققون إلى أن هذا اللفظ وشبهه يجري على ألسنة العرب من غير قصد الدعاء ، فينظر في القول وقائله ، فإن كان ولياً فهو الولاء وإن خشن ، وإن كان عدوا فهو البلاء وإن حسن ، ولقد أحسن بعضهم في قوله : قد يوحش اللفظ وكله ود ، ويكره الشيء وما من فعله بد ، هذه العرب تقول : لا أبا لك للشيء إذا أهم ، وقاتلك الله . لا يريدون به الذم ، وويل أمه . للأمر إذا تم .
176 ثم على تقدير كونه أراد بذلك أصله من الدعاء عليها فهو لها قربة ورحمة ، كما جاء في الحديث .
( والمني ) مشدد ، وفعله رباعي على الأشهر ، وبهما جاء القرآن ، قال سبحانه : [ ي ] { من منّي تمنى } ) وقال : 9 ( { أفرأيتم ما تمنون } ) وحكي فيه التخفيف على وزن العمي ، وفعله ( منى ) بالتخفيف ، ( ومنّى ) بالتشديد ، وسمى بذلك لأنه يمنى أي يصب ( والمذي ) مخفف بمعجمة ، على الأفصح فيهما ، وحكي فيه التشديد والإهمال ، ومن يحذف لامه كيد ، وقالوا في فعله : مذي وأمذى ومذى . بالتشديد ، ( وشقائق ) . جمع شقيقة ، تأنيث : شقيق ، وهو المثل والنظير ، كأنه اشتق هو ونظيره من شيء واحد ، فهذا شق وهذا شق ، ومنه قيل للأخ شقيق ، والله أعلم .
قال : والتقاء الختانين .
ش : الختانان واحدهما ختان ، والختان في الأصل قطع جلدة حشفة الذكر ، وفي المرأة : قطع بعض جلدة عالية مشرفة على محل الإيلاج ، ثم عبّر بذلك عن موضع الختن ، والتقاؤهما تقابلهما وتحاذيهما ، ولما كان الموجب هو التقاء الختانين لا المس ، وكان ذلك لا ينفك عن تغييب الحشفة أو قدرها ، جعل ذلك هو الضابط ، فقال الفقهاء ، تغييب الحشفة .
177 إذا عرف هذا فالأصل في وجوب الغسل بذلك في الجملة ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ، ثمّ جهدها وفي لفظ ثمّ اجتهد فقد وجب الغسل ) متفق عليه .
وفي لفظ لأحمد ومسلم : ( وإن لم ينزل ) .
178 وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار ، فقال الأنصاريون : لا يجب الغسل إلا من الدافق ، أو من الماء . وقال المهاجرون : بل إذا خالط فقد وجب الغسل . قال : فقلت أنا أشفيكم . فقمت فاستأذنت على عائشة فأذنت لي ، فقلت لها : إني أريد أن أسألك عن شيء ، وأنا أستحييك . فقالت : لا تستحي أن تسألني عن ما كنت سائلًا عنه أمك . فإنما أنا أمك . قلت : فما يوجب الغسل ؟ قالت : على الخبير سقطت ، قال رسول الله : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ، ومس الختان الختان ، فقد وجب الغسل ) رواه أحمد ومسلم .
179 وعن رافع بن خديج قال : ناداني النبي وأنا على بطن امرأتي ، فقمت ولم أنزل ، فاغتسلت وخرجت ، فأخبرته فقال : ( لا عليك ، الماء من الماء ) قال رافع : ثم أمرنا رسول الله بالغسل ، رواه أحمد ، وبهذا يعلم نسخ ما تقدم من قوله : ( إنما الماء من الماء ) ونحوه ، وقد صرح بذلك رافع بن خديج [ كما تقدم ] .
180 وكذلك سهل بن سعد فقال : حدثني أبي أن الفتيا التي كانوا يفتون : ( إن الماء من الماء ) رخصة رخصها رسول الله في بدء الإسلام ، ثم أمر بالاغتسال بعد ذلك ، رواه أبو داود ، وفي لفظ : ثم أمرنا . وصرح بذلك جماعة من العلماء ، ويعلم وهم من ظن أنها تخصيص عموم مفهوم ( إنما الماء من الماء ) حذاراً من النسخ ، إذ ذاك إنما يتمشى له قبل العمل ، أما بعد العمل فيتعين النسخ ، ورد قول من قال : إنه من باب تعليق الحكم على المظنة ، بعد تعليقه على الجملة لخفائها ، إذ لا ريب أن الإنزال ليس بخاف .
181 ثم في سنن أبي داود من حديث أُبي أن رسول الله جعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام لقلة الثياب ، ثم أمرنا بالغسل ، ونهى عن ذلك . فذكر أن السبب قلة الثياب .
182 وابن عباس رضي الله عنهما يؤول : ( إنما الماء من الماء ) على الحلم في المنام ، من غير رؤية ماء ، لكن عامة الصحابة على خلاف ذلك .
إذا تقرر هذا فاعلم أنا قد أنطنا الحكم بتغييب الحشفة في الفرج أو قدرها ، ولا بد من كونهما أصليين ، فلو أولج الخنثى المشكل حشفته ، ولم ينزل في فرج أصلي ، أو أولج غير الخنثى ذكره في قبل الخنثى ، فلا غسل على واحد منهما ، لاحتمال كون الحشفة أو القبل خلقة زائدة .
ثم بعد ذلك هو شامل لكل واطىء وموطوأة ، ولو مع إكراه ونوم ، أو كانت المرأة ميتة ، نص عليه ، أو كانا غير بالغين ، نص عليه أيضاً ، واستدل على أنه لا يشترط البلوغ باغتسال عائشة .
183 وفي مسلم عنها أن رجلًا سأل رسول الله عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل وعائشة جالسة فقال رسول الله : ( إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل ) وعن القاضي منع الوجوب مع الصغر ، نظراً إلى عدم تكليف الصغير ، وكأن الخلاف لفظي ، إذ مراد القاضي والله أعلم بعدم الوجوب انتفاء تحتم الغسل على الصغير ، وإلزامه بذلك ، ومراد أحمد والله أعلم بالوجوب اشتراطه للصلاة ونحوها ، لا التأثيم بالتأخير ، وهذا متعين ، إذ التكاليف الخطابية لا تتعلق بغير بالغ ، والصلاة ونحوها لا تصح بلا طهارة ، وقد أشار القاضي إلى ذلك في تعليقه فقال : إن الصبي والمجنون إذا أولجا في الفرج وجب الغسل عليهما بعد البلوغ والإفاقة ، إذا أراد الصلاة ، فإن ماتا قبل وجوب الصلاة عليهما وجب غسلهما ، وكان عن الجنابة والموت .
إذا عرف هذا فشرط تعلق الغسل بغير البالغ أن تكون ممن يوطأ مثلها على ظاهر كلام أحمد في رواية ابن إبراهيم ، قال وقد سئل عن الجارية متى يجب عليها الغسل ؟ . قال : إذا كان مثلها يوطأ . وأصرح منه ما حكي عنه أنه قال : إذا وطئ جارية لا يوطأ مثلها فلا غسل عليه ، حذاراً من أن تكون جنابة ، وصرح بذلك ابن عقيل ، وصاحب التلخيص فيه ، وأبو البركات في الشرح ، والسامري مقيداً الجارية ببنت تسع سنين ، والغلام بابن عشر ، وظاهر إطلاق كثيرين عدم الاشتراط ، ومن ثم أورده ابن حمدان مذهباً .
وشامل أيضاً للوطء في كل فرج أصلي كما تقدم وإن كان دبراً ، أو لميتة ، وحيوان بهيم ، حتى السمكة ، ذكرها القاضي في التعليق .
( تنبيه ) : ( شعبها الأربع ) بين رجليها وشفريها ، الخطابي : أسكتيها وفخذيها . عياض : نواحي الفرج . وقيل : رجليها ويديها . ( وجهدها ) قيل : أتعبها . وقيل : بلغ جهده منها . وهو يوافق رواية : ( ثم اجتهد ) والجهد الطاقة والإشارة بذلك والله أعلم إلى الحركة ، ويمكن صورة العمل ، وهو قريب من قول الخطابي : حفرها . قال : والجهد اسم من أسماء النكاح ، وعلى هذا معناه : ثمّ نكحها . و ( على الخبير سقطت ) . أي صادفت مخبراً يخبرك بحقيقة ما سألت عنه ، حاذقاً فيه و ( يكسل ) مضارع أكسل . إذا جامع ولم ينزل . والله أعلم .
قال : وإذا أسلم الكافر .
ش : هذا هو المنصوص المختار لعامة الأصحاب .
184 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن ثمامة بن أثال أسلم فقال النبي : ( اذهبوا به إلى حائط بني فلان ، فمروه أن يغتسل ) رواه أحمد .
185 وفي الصحيحين أنه اغتسل ، وليس فيه أمر النبي بذلك ، وفي البخاري أنه اغتسل قبل الإسلام ، وإذاً الحديثان لم يتواردا على محل واحد ، فاغتساله كان قبل إسلامه ، وأمر النبي بذلك كان بعد الإسلام .
186 وعن قيس بن عاصم أنه أسلم فأمره النبي أن يغتسل بماء وسدر . رواه الخمسة إلا ابن ماجه ، وحسنه الترمذي ولأنه لا يسلم غالباً من جنابة ، فأقيمت المظنة مقام الحقيقة كالنوم ، وتردد أبو بكر فوافق الأصحاب في التنبيه ، وخالفهم في غيره فقال : يستحب ، ولا يجب ، وأغرب أبو محمد في الكافي ، فحكى ذلك رواية .
187 لأن النبي لم يأمر به في حديث معاذ ، ولو وجب لأمر به ، إذ هو أول الواجبات بعد الإسلام ، ولأن ذلك يقع كثيراً ، وتتوفر الدواعي على نقله ، فلو وقع لاستفاض ، وحديث أبي هريرة في إسناده مقال [ ما ] ، على أنه قد يحمل على الاستحباب ، وكذلك حديث قيس ، وقرينته ذكر السدر فيه ، جمعاً بين الأدلة ( ويجاب ) بأنه إنما ذكر في حديث معاذ أصول العبادات لا شرائطها ، ولا نسلم عدم استفاضة ذلك ، بل قضية ثمامة تقتضي استفاضته ، وظاهر الأمر الوجوب ( فعلى الأول ) إذا أجنب في حال كفره ثم أسلم تداخلًا ، وأنيط الحكم بغسل الإسلام ، وعلى قول أبي بكر : يجب عليه الغسل للجنابة وإن اغتسل في كفره ، لعدم صحة نيته .
وقد شمل كلام الخرقي المرتد ، ومن لم يوجد منه جنابة ، وهو الأعرف فيهما ، ومن اغتسل في حال كفره ، وهو كذلك ، وقد قيد ابن حمدان المسألة بالبالغ ، والأكثرون أطلقوا ، لكن قد يؤخذ من تعليلهم ما قاله ، وقد يوجه الإطلاق بأن المذهب صحة إسلام من لم يبلغ ، ومقتضى كلامهم أن الغسل والحال هذه شرط لصحة الصلاة ، كما صرح به أبو بكر في التنبيه ، وإذاً يصير بمنزلة وطء الصبي ، والتحقيق تعلق الغسل به كما تقدم ، والله أعلم .
قال : والطهر من الحيض والنفاس .
ش : لا خلاف في وجوب الاغتسال بذلك في الجملة ، لإشارة النص وهو قوله سبحانه وتعالى : { ويسألونك عن المحيض ، قل هو أذى ، فاعتزلوا النساء في المحيض ، ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن } أي اغتسلن ، أوقف سبحانه حق الزوج من الوطء على الاغتسال ، فدل على وجوبه .
188 وقد صرح بذلك المبين لكتاب ربه فقال لفاطمة بنت أبي حبيش وقد سألته عن استحاضتها ، فقال : ( ذلك عرق وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا ذهبت فاغتسلي وصلي ) رواه البخاري .
189 وقال لأم حبيبة وسألته أيضاً عن ذلك ، فقال لها : ( هذا عرق ، فاغتسلي وصلي ) رواه مسلم ، والبخاري ولفظه : ( ثم اغتسلي وصلي ) ودم النفاس هو دم حيض يجتمع ثمّ يخرج .
وظاهر كلام الخرقي أن الغسل إنما يجب بالانقطاع ، وهو أحد الوجهين وظاهر الأحاديث ، ( والثاني ) وصححه أبو البركات وغيره يجب بالخروج ، إناطة للحكم بسببه ، لكن الانقطاع شرط لصحته اتفاقاً ، وفائدة الوجهين إذا استشهدت الحائض ، فعلى قول الخرقي لا تغسل ، إذ الانقطاع الشرعي الموجب للغسل لم يوجد ، وعلى قول غيره تغسل للوجوب بالخروج ، وقد حصل الانقطاع حساً ، فأشبه ما لو طهرت في أثناء عادتها ، وقال أبو محمد : لا يجب على الوجهين ، لأن الطهر شرط في صحة الغسل ، أو في السبب الموجب له .
وقد ينبني أيضاً على قول الخرقي [ أنه لا يجب ] ، بل ولا يصح غسل ميتة مع قيام حيض ونفاس ، وإن لم تكن شهيدة ، وهو قويل في المذهب ، لكن لا بد أن يلحظ فيه أن غسلها للجنابة قبل انقطاع دمها لا يصح ، لقيام الحدث ، كما هو رأي ابن عقيل في التذكرة ، وإذاً لا يصح غسل الموت لقيام الحدث كالجنابة ، وإذا لم يصح لم يجب ، حذاراً من تكليف ما لا يطاق ، والمذهب صحة غسلها لها قبل ذلك ، فينتفي هذا البناء .
واعلم أن ظاهر ترجمة الخرقي أو لا يقتضي أنه لا يجب الغسل بغير تلك الخمسة المذكورة ، لأنه قال : والموجب للغسل خروج المني . إلى آخره ، وظاهره حصر الوجوب في هذه الخمسة دون غيرها .
فلا يجب بولادة عرية عن دم ، وهو أحد الوجهين أو الروايتين ، على ما في الكافي ، واختيار الشيخين ، لعدم المقتضي لذلك ، وهو النفاس أو المني ، ( والثاني ) واختاره ابن أبي موسى ، وابن عقيل في التذكرة ، وابن البنا ، وغيرهم ، يجب قياماً للمظنة مقام الحقيقة ، ولأنه مني منعقد ، ورد بخروج العلقة ، فإنها لا توجب الغسل بلا نزاع ، وينبني على التعليلين الفطر بذلك ، وتحريم الوطء قبل الاغتسال ، فمن علل بالأول يلزمه ذلك ، لا من علل بالثاني اه .
ولا يجب أيضاً بغسل ميت ، بل يستحب ، ( وعنه ) : يجب من تغسيل الكافر .
190 لما روي عن علي رضي الله عنه : أنه لما مات أبو طالب أتيت رسول الله فقلت : إن عمك الشيخ الضال قد مات . قال : ( اذهب فوار أباك ، ثمّ لا تحدثن شيئاً حتى تأتيني ) فواريته فجئته فأمرني فاغتسلت فدعا لي . رواه أبو داود والنسائي ، وقد يجب مطلقاً .
191 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( من غسل ميتاً فليغتسل ) رواه أبو داود ، والمذهب الأول بلا ريب ، نظراً للأصل ، وحملًا لما تقدم على الاستحباب ، لعموم حديث صفوان : أمرنا رسول الله أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة .
192 وفي مالك في الموطأ أن أسماء غسلت أبا بكر رضي الله عنه حين توفي ، ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين ، فقالت : إني صائمة ، وإن هذا يوم شديد البرد ، فهل عليّ من غسل ؟ فقالوا : لا . على أنه ليس في حديث علي أنه غسله ، مع أن الأحاديث لم تثبت ، قاله أحمد وغيره ، ومن ثم قال ابن عقيل : ظاهر كلام أحمد عدم الاستحباب رأساً . اه .
ولا يجب أيضاً على من أفاق من إغماء أو جنون لم يتيقن معه حلم ، وإن وجد بلة على المعروف من الروايتين ، لأنه معنى يزيل العقل فلا يوجب الغسل كالنوم ، ولأنه مع عدم البلة يبعد احتمال الجنابة ، ومع وجودها يحتمل أن ذلك لغير شهوة ، ويحتمل أنه [ حصل ] عن المرض المزيل للعقل ، فلا يجب الغسل مع الشك ، ( والثانية ) : يجب وإن لم يجد بلة .
193 لأن النبي اغتسل من الإغماء ، وفعله على وجه القربة دليل على الوجوب ، وتوسط أبو الخطاب فأوجبه مع البلة كالنائم .
ولا يجب أيضاً على من أراد الجمعة وسيأتي إن شاء الله تعالى .
ويرد على حصر الخرقي [ الموت ] فإنه موجب في الجملة بلا نزاع . والله أعلم .
قال : والحائض ، والجنب ، والمشرك إذا غمسوا أيديهم في الماء فهو طاهر .
ش : لا إشكال أن مجرد غمس الحائض أو الجنب يده أو غيرها من أعضائه في الماء لا يزيل طهارته ، لطهارة بدنيهما .
194 لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب ، قال : فانخنست منه . الحديث إلى قوله : ( سبحان الله إن المؤمن لا ينجس ) .
195 ولمسلم من حديث حذيفة نحوه .
196 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أشرب وأنا حائض ، فأناوله النبي ، فيضع فاه على موضع فيها . رواه مسلم وغيره ، أما لو غمس الجنب أو الحائض الذي انقطع حيضها يده في الإناء قاصداً رفع الحدث عنها والماء قليل ، فإن طهوريته تزول على المذهب المنصوص ، ولم يرتفع حدثه على المعروف ، وهل زوالها بأول جزء لاقاه ، أو بأول جزء انفصل عنه ؟ فيه وجهان ، أشهرهما الثاني ، وإن نويا الاغتراف فهو باق على طهوريته ، وإن غمسا بعد نية الاغتسال ذاهلين عن نية الاغتراف ، وعن رفع الحدث عن اليد بالوضع فروايتان . أنصهما عن الإمام ، وأصحهما عند عامة الأصحاب : زوال طهوريته ، لحصول الغمس بعد نية رفع الحدث .
197 وفي سنن سعيد عن ابن عمر : من اغترف من ماء وهو حنب فما بقي فهو نجس . ( والثانية ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي البركات بقاء طهوريته .
198 لأن أبا هريرة رضي الله عنه قال : إنه يتناوله تناولًا ولأنه لما قصد بأخذه استعماله خارج الإِناء فقد صرف عنه النية ، هذا هو التحقيق في التقسيم ، وظاهر ما في المغني عن بعض الأصحاب أنه قال بالمنع أيضاً فيما إذا نويا الإِغتراف ، وفيه نظر ، ولو وضع الجنب رجله بعد نية الغسل أثر على الأصح ، قاله ابن تميم ، وعاكسه ابن حمدان فقال : إنه ظاهر في الأصح ، ولأبي محمد في المغني في إلحاق الرجل باليد منعاً وتسليماً .
وقد دخل في كلام الخرقي بطريق التنبيه المحدث إذا غمس يده في الإِناء أنه لا يؤثر ، وهو كذلك ، [ إلا إذا اغترف بعد نية الطهارة ، وبعد غسل وجهه ، قاصداً لرفع الحدث عنها بالغمس ، فإن طهوريته تزول ، كما في الجنب ، وكذا إن ] ذهل عن رفع الحدث عنها والحال ما تقدم ، على قويل ، والمذهب عدم تأثير ذلك ، بخلاف الجنب على الأشهر كما تقدم ، نظراً إلى أن الوضوء يتكرر ، فلو أثر لشق ، بخلاف الجنب .
199 ثم إن النبي اغترف في الوضوء بعد غسل وجهه ، كما ثبت في الصحيح ، ولم يثبت أنه في الجنابة اغترف إلا بعد غسل يديه ، إذا عرف حكم الحائض والجنب ، فحكم المشرك أنه إن كان ممن تحل ذبيحته ، ولم يتظاهر بشرب الخمر ، وأكل الخنزير ، ونحو ذلك ، فإن غمسه لا يؤثر شيئاً .
200 لأن النبي توضأ من مزادة مشركة ، وأضافه يهودي بخبز شعير ، وإهالة سنخة ، ولأن الكفر في قلبه لا يؤثر في بدنه ، وقوله سبحانه : 19 ( { إنما المشركون نجس } ) ليس المراد به والله أعلم النجاسة الحقيقية على الأشهر الأعرف ، بل الاستقذار ، وفاقاً لأبي عبيدة والزجاج .
201 وعن قتادة : قيل لهم ذلكلأنم يجنبون ولا يغتسلون ، ويحدثون ولا يتوضؤن . ومن هذه حاله جدير بأن يوصف بالتنجيس ، ويمنع من قربان مسجد له على غيره شرف وتعظيم .
وإن كان ممن لا تحل ذبيحته ، أو ممن يتظاهر بأكل الخنزير ، ونحو ذلك فيخرج في نجاسة الماء بغمسه روايتان ، بناء على الروايتين فيما استعملوه هؤلاء من آنيتهم ، هل تباح مطلقاً ، أو لا تباح إلا بعد غسل ، وأصلهما يعارض الأصل والغالب .
( تنبيهات ) : [ أحدهما ] مراد الخرقي بالطاهر الطاهر غير المقيد ، المذكور في صدر كتاب الطهارة . ( الثاني ) : ( انخنست ) [ من ] . انفعلت ، مطاوع خنس ، من ( الخنوس ) وهو التأخر والاختفاء ، ومنه سميت الكواكب الخمسة زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطار الخنس . وفي قوله سبحانه : 19 ( { فلا أقسم بالخنس } ) على قول بعضهم ، لأنها تتأخر في رجوعها ، بينا تراها في مكان من السماء ، حتى تراها راجعة إلى وراء جهتها التي كانت تسير إليها ، وقيل : الخنس النجوم كلها ، لاختفائها نهاراً .
( لثالث ) : المزادة بفتح الميم ، التي يسميها الناس الرواية ، والسطيحة أصغر منها ، ( وإهالة سنخة ) شحم متغير . والله أعلم .
قال : ولا يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت بالماء .
ش : معنى الخلوة أن لا يستعمل الرجل الماء معها ، في إحدى الروايتين ، لعموم حديث الحكم الآتي ، خرج منه حالة الاستعمال .
202 لحديث عائشة رضي الله عنها : كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد ، تختلف أيدينا فيه من الجنابة . فما عداه على المنع . ( والثانية ) : وهي المختارة أ لا يشاهدها حال طهارتها رجل مسلم .
203 لأن في الصحيح أن النبي توضأ بفضل وضوء ميمونة بعد فراغها ، فيحمل على أنه كان شاهدها وقضية النهي على عدمها ، جمعا بين الدليلين ، وعلى هذه إن شاهده صبي مميز ، أو امرأة ، أو كافر فهل يخرج عن أن تكون خالية به ، كما في خلوة النكاح ؟ وهو اختيار الشريف ، والشيرازي ، أو لا يخرج إلا بالرجل المسلم ، لأن الحكم يختص به ؟ وهو اختيار القاضي في المجرد ، فيه وجهان ، وألحق السامري المجنون بالصبي ونحوه .
إذا عرف [ هذا ] فحيث حكم بخلوتها بالماء باق على طهوريته ، يجوز لها الطهارة به ، على المعروف المشهور ، حتى قال أبو البركات [ إنه ] لا خلاف في ذلك ، وفي خصال ابن البنا ، والمذهب لابن عبدوس : أنه طاهر غير مطهر . وحكى صاحب التلخيص ، وابن حمدان المسألة على روايتين ، ولقد أبعد السامري حيث اقتضى كلام الجزم بطهارته ، مع حكايته الخلاف في طهارة الرجل به : والعمل على القول بطهوريته ، وإذاً يجوز لها بلا ريب الطهارة به ، وكذلك لامرأة أخرى على الأعرف .
وهل يجوز للرجل الوضوء به ؟ فيه روايتان ( أشهرهما ) وهي اختيار الخرقي ، وجمهور الأصحاب : لا يجوز نص عليه .
204 لما روى الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه ، أن رسول الله نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة . وفي رواية : وضوء المرأة . رواه الخمسة ، وحسنه الترمذي .
205 وعند عبد الله بن سرجس ، عن النبي نحوه ، رواه البيهقي في السنن .
206 وقال أحمد : أكثر أصحاب رسول الله يقولون : إذا خلت بالماء فلا يتوضأ منه . وهو أمر لا يقتضيه القياس ، فالظاهر أنهم قالوه عن توقيف ، ( والثانية ) واختارها أبو الخطاب ، وابن عقيل وإليها ميل المجد في المنتقى : يجوز مع الكراهة .
207 لما روى عمرو بن دينار قال : والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني ، أن ابن عباس أخبره أن رسول الله كان يغتسل بفضل ميمونة . رواه مسلم .
208 وعن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : اغتسل بعض أزواج النبي في جفنة ، فجاء النبي ليتوضأ منها أو يغتسل ، فقالت : يا رسول الله إني كنت جنباً . فقال رسول الله : ( إن الماء لا يجنب ) رواه أحمد وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي وصححه هو وابن خزيمة ، والحاكم ، وابن حبان ، لكن أحمد قال : أتقيه لحال سماك ، ليس أحد يرويه غيره ، وحديث الحكم قيل : عن البخاري أنه قال : ليس بصحيح . وعنه في حديث ابن سرجس أنه قال : قد أخطأ من رفعه .
ولمن نصر الأول أن يقول : حديث ابن عباس الأول لم يجزم عنه أبو الشعثاء ، والثاني وهو حديث سماك قد تقدمت الإِشارة من أحمد على تضعيفه ، ويؤيد ذلك اختلاف ألفاظه ، فرواه الثوري وقال فيه : ( إن الماء لا ينجس ) ثم لو صحا حملا على عدم الخلوة ، جمعاً بين الدليلين ، ثم على تقدير التعارض يرجح الأول بأنه حاظر ، ثمّ ناقل عن الأصل ، إذ الأصل الحل اه .
والخرقي رحمه الله خص المنع بالوضوء تبعاً للحديث ، وغيره ممن علمت من الأصحاب يسوي بين الحدثين بمعنى أن لا فارق ، فهو في معنى المنصوص ، ولهم في إلحاق طهارة الخبث بذلك وجهان ، ( الإلحاق ) اختيار القاضي ، وأبي البركات ، وحكاه الشيرازي عن الأصحاب ما عدا ابن أبي موسى ، إذ كل مائع لا يزيل الحدث لا يزيل النجاسة . ( وعدمه ) اختيار ابن أبي موسى ، وأبي محمد ، وأبي البركات في المحرر ، اقتصاراً على مورد النص ، وقوله : لا يتوضأ الرجل . يخرجها وامرأة سواها وقد تقدم . وكذا الخنثى لعدم تحقق ذكوريته ، وقد يخرج الصبي وهو مقتضى تعليل أبي البركات .
وقوله : بفضل . ربما أشعر بقلة الباقي ، فلو كان ما خلت به كثيراً لم تؤثر خلوتها ، وهذا هو المذهب ، إذ النجاسة لا تؤثر في الكثير ، فهذا أولى وأحرى . وطرد ابن عقيل الحكم في اليسير والكثير ، نظراً للتعبد به .
وقوله : ( بفضل ) وهو يشمل المستحب ، وهو أحد الوجهين ، ( ويخرج ) منه ما خلت به لإِزالة النجاسة ، وهو أحد الوجهين أيضاً ، وبه قطع ابن عبدوس ، إذ الطهارة تنصرف إلى طهارة الحدث ، ( والثاني ) وصححه أبو البركات : حكمه حكم ما خلت به لطهارة حدث ، نظراً لعموم : نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة . ( ويخرج ) منه أيضاً ما خلت به لرفع طهارة كبرى ، والأصحاب على التسوية بينهما كما تقدم ، ولفظ الحديث يشهد لذلك أيضاً ، ( ويخرج ) منه أيضاً ما خلت به للتبريد والتنظيف ، وهو واضح لأن ذلك ليس بطهارة ، وكذلك ما خلت به للشرب ، نعم هل يكره ؟ .
209 لأن في بعض ألفاظ الحكم بن عمرو : أن رسول الله نهى عن سؤر المرأة ، أو لا يكره ، وهو اختيار أبي البركات ، لأن اللفظ المشتهر ( وضوء المرأة ، أو طهور المرأة ) ؟ على روايتين ، وظاهر كلام ابن تميم حكايتهما في الجواز وعدمه .
وقول الخرقي : المرأة . يشمل الكافرة ، وهو أحد الوجهين ، ويخرج الرجل وهو واضح ، وكذلك الخنثى ، إذ المانع الأنثوية [ ولم تتحقق ] ، وقد يخرج الصغيرة ، ويحتمل : إن صحت طهارتها وجهان ، ( التأثير ) لأنها من أهل الطهارة ، والحديث خرج على الغالب ( وعدمه ) اعتماداً على الحديث .
( تنبيه ) : لم يتعرض الخرقي رحمه الله لعكس هذه المسألة ، وهو فضل ما خلى به الرجل للنساء ، وقوة كلامه يعذي أن ذلك لا يؤثر منعاً ، ونص أحمد على ذلك في رواية الجماعة ، لمفهوم حديث الحكم ، وعن بعض الأصحاب أنه منعهن من ذلك .
21 لما روى حميد الحميري قال : لقيت رجلًا صحب النبي أربع سنين ، كما صحبه أبو هريرة ، قال : نهى رسول الله أن تغتسل المرأة بفضل الرجل ، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة ، وليغترفا جميعاً . رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وصححه الحميدي ، وقال البيقهي : رجاله كلهم ثقات . والرجل المبهم قيل : إنه الحكم ، وقيل : إنه عبد الله بن سرجس ، وقيل : ابن مغفل . والله أعلم .
قال :
باب الغسل من الجنابة
ش : الجنابة معروفة وقد تقدم أن أصلها البعد ، ويقال : أجنب الرجل كما قال الخرقي [ يجنب ] ، فهو جنب ، وجنب يجنب ، فهو مجنب ، ويقال للواحد والإثنين ، والجمع ، والمذكر ، والمؤنث ، بلفظ واحد ، [ والله أعلم ] .
قال : وإذا أجنب [ الرجل ] غسل ما به من أذى ، وتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم أفرغ [ الماء ] على رأسه ثلاثاً ، يروي بهن أصول الشعر ، ثم يفيض الماء على سائر جسده [ ثلاثاً ] .
ش : هذا على نحو ما في الصحيحين وغيرهما .
211 فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي كا إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء ، فيخلل بها أصول شعره ، ثم يصب الماء على رأسه بثلاث غرف ، ثمّ يفيض الماء على جلده كله . وفي رواية : قالت : كان رسول الله إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ، ثم يفرغ بيمينه على شماله ، فيغسل فرجه ، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر ، حتى إذا رأى أن قد استبرأ ، حفن على رأسه ثلاث حفنات ، ثم أفاض [ الماء ] على سائر جسده ، ثم غسل رجليه . وفي رواية للنسائي ، بعد غسل الفرج : ثم يمضمض ويستنشق .
212 وعن ميمونة رضي الله عنها قالت : وضع للنبي ماء يغتسل به ، فأفرغ على يديه ، فغسلهما مرتين أو ثلاثاً ، ثم أفرغ بيمينه على شماله ، فغسل مذاكيره ، ثم دلك يده بالأرض ، ثم تمضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه ويديه ، ثم غسل رأسه ثلاثاً ، ثم أفرغ على جسده ، ثم تنحى عن مقامه فغسل قدميه ، فناولته خرقة فلم يردها ، وجعل ينفض الماء بيده .
واعلم أن مراد الخرقي بهذه الصفة صفة الكمال ، كما يدل عليه كلامه بعد ، وقد قال كثير من متأخري الأصحاب : إن الكمال بعشرة أشياء ، النية ، والتسمية ، وغسل يديه ثلاثاً ، وغسل ما به من أذى ، والوضوء ، ويحثي على رأسه ثلاث حثيات ، يروي بهن أصول الشعر ، ويفيض الماء على سائر جسده ثلاثاً ، ويبدأ بشقه الأيمن ويدلك بدنه بيديه ، وينتقل من موضعه فيغسل قدميه .
والخرقي رحمه الله نص من ذلك على أربعة ، وتقدم له غسل يديه إذا قام من نوم الليل ، إدخالهما الإِناء ثلاثاً ، وتقدم التنبيه على أنه لا فرق في أصل المسنونية بين نوم الليل ونوم النهار ، وغير ذلك ، وهذه الخمسة هي التي في الحديثين ، ويأتي له النية والكلام عليها ، وإنما لم تذكر في الحديثين لأن متعلقها القصد ، وعائشة وميمونة رضي الله عنهما إنما حكيا ما شاهداه من أفعاله .
وقد يؤخذ من كلام الخرقي البداءة بشقه الأيمن قبل الأيسر من قوله ثم : وغسل الميامين قبل المياسر ، وفي بعض روايات حديث عائشة المتقدم أنه بدأ بشق رأسه الأيمن ، ثم الأيسر ، ثم أخذ بكفيه ، فقال بهما على رأسه ، وأما التسمية ، والدلك فلم يتعرض الخرقي لهما نظراً للحديثين ، وكذلك غسل قدميه أخيراً اعتماداً على حديث عائشة ، وإنما استحب الأصحاب التسمية .
213 لعموم ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أجزم ) الحديث ، وقياساً لإِحدى الطهارتين على الأخرى ، أو نقول : الكبرى صغرى وزيادة . اه .
والدلك لأنه أحوط ، وأعون على إيصال الماء إلى جميع البشرة ، وخروجاً من الخلال ، إذ [ قد ] أوجبه بعض العلماء ، مع أن كلام أحمد قد يحتمله ، قال أبو داود : سأل رجل أحمد رحمه الله عن إمرار اليد ، فقال : إذا اغتسل بماء بارد في الشناء أمر يده ، لأن الماء ينزلق عن البدن في الشتاء ، لكن تعليله يقتضي المسنونية .
214 ويدل على المسنونية المبالغة في إيصلل الماء إلى جميع البشرة في الجملة ما روي عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( من ترك موضع [ شعرة ] من جنابة لم يصبها الماء فعل الله بذه كذا وكذا من النار ) قال علي : فمن ثمّ عاديت شعري . وكان يجزه ، رواه أحمد ، وأبو داود ، ومن ثمّ قال الأصحاب : يتعاهد معاطف بدنه ، وسرته ، وتحت إبطه ونحو ذلك ، وما ينبو عنه الماء . اه .
والإِنتقال لغسل قدميه لحديث ميمونة ، وقد اختلف عن إمامنا في ذلك ، فقال في رواية : أحب إليّ أن يغسلهما بعد الوضوء ، لحديث ميمونة ، وفي أخرى قال : العمل على حديث عائشة . وفي ثالثة قال : يخيّر لورود الأمرين . وظاهر إحدى روايات حديث عائشة وقد تقدمت أنه جمع بينهما ، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب .
تنبيهات : ( أحدها ) مراد الخرقي هنا بالأذى والله أعلم . ما يستقذر وإن لم يكن نجساً ، كالمني ونحوه ، بخلاف مراد أبي محمد بالأذى في المجزئ كما سيأتي ، فإنه النجاسة . اه .
( الثاني ) : ينوي بالوضوء المتقدم رفع الحدث ، ذكره السامري ، وقول الخرقي وغيره : يروي بهن أصول الشعر . ظاهره : بالغرفات الثلاث ، وفي المستوعب : يروى بكل مرة . ثم ظاهر كلامه وكلام قليل من الأصحاب أن الإِفاضة على سائر الجسد لا تثليث فيها ، وهو ظاهر الأحاديث ، واختيار أبي العباس ، ولعل عامة الأصحاب استحبوا التثليث قياساً لإِحدى الطهارتين على الأخرى ، أو اطلاع على نص بذلك وقد استحب أبو محمد زيادة على ما تقدم ، وهو أن يخلل أصول شعر رأسه ولحيته قبل إفاضة الماء ، كما في حديث عائشة ، ولا ريب أنه أعون على إصابة الماء البشرة ، وقد تقدم أنه بدأ بشق رأسه الأيمن ثمّ الأيسر ، ثمّ جمع بينهما ، فينبغي أن يعتمد [ على ] ذلك .
( الثالث ) : قول عائشة رضي الله عنها : رأى أن قد استبرأ . أي : استقصى وخلص من عهدة الغسل ، وبرئئ منها كما يبرى من الدين وغيره ، و ( حفن ) أخذ وصب ، والحفنات جمع حفنة ، وهو ملء الكفين من طعام أو نحوه ، أصلها من الشيء اليابس كالدقيق ، والرمل ونحون ، ( وغرف ) جمع غرفة وهو ملء الكف ، وغرفة بالفتح أي مرة ، والله أعلم .
قال : وإن غسل مرة ، وعم بالماء رأسه وجسده ، ولم يتوضأ أجزأه ، بعد أن يتمضمض ويستنشق ، وينوي به الغسل والوضوء ، وكان تاركاً للاختيار .
ش : هذه صفة الغسل المجزيء ، والأصل فيها في الجملة قوله تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } وقوله : { ولا جنباً إلا عابري سبيل ، حتى تغتسلوا } ظاهه الاجتزاء بالتطهير ، وبالاغتسال من غير اشتراط وضوء ولا غيره .
215 وعن جابر رضي الله عنه ، أن ناساً قدموا على رسول الله فسألوه عن غسل الجنابة ، وقالوا : إنا بأرض باردة . فقال : ( إنما يكفي أحدكم أن يحفن على رأسه ثلاث حفنات ) وفي لفظ أنه قال : ( أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثاً ) رواهما مسلم ، وظاهرهما الاجتزاء بذلك من غير وضوء . وإنما اشترطت النية المذكورة لعموم قوله : ( إنما الأعمال بالنيات ) ( لا عمل إلا بالنية ) .
واشترط الخرقي رحمه الله المضمضة والاستنشاق ، لما تقدم له من أن الفم والأنف من الوجه ، وقد تقدم بيان ذلك والخلاف فيه ، فلا حاجة إلى إعادته وهذا هو المذهب المعروف ، أعني الاجتزاء بالغسل عن الوضوء ، بالشرط المذكور ، لظاهر ما تقدم ، ( وعنه ) لا بد أن يأتي بالوضوء . قال أبو الخطاب في هدايته ، والسامري ، وصاحب التلخيص وغيرهم : وإن لم يوجد ما يقتضيه ، كما إذا أوجبنا الغسل بالانتقال ، وهو يلتفت لما تقدم في النواقض . تأسياً بفعله ويجاب بأنه فعل الكامل ، بدليل الإِتفاق على أنه لا يجب الوضوء قبل ، وتوسط أبو بكر ، والشيرازي فقالا : يتداخلان فيما يتفقان فيه ، ولا يسقط ما ينفرد به الوضوء عن الغسل من الترتيب والموالاة والمسح وإن لم يقل بإجزاء الغسل عن المسج كما لا يسقط ما ينفرد به الغسل من تعميم البدن ونحوه .
( تنبيه ) : في معنى نية الوضوء والغسل ، إذا نوى استباحة الصلاة ، أو أمراً لا يبحاح إلا بهما ، كلمس المصحف ، لا قراءة القرآن . اه .
وقد تضمن كلام الخرقي رحمه الله أنه لا يشترط للغسل ( ترتيب ) ، وهو كذلك ، لظاهر ما تقدم ، ولقوله لأبي ذر ( إذا وجدت الماء فأمسه جلدك ) ولم يأمره بترتيب ، ولا موالاة ، وهو المعروف في المذهب ، لظاهر ما تقدم أيضاً .
216 وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، أن رجلًا سأل النبي عن الرجل يغتسل من الجنابة ، فيخطئ الماء بعض جسده ؟ فقال رسول الله : ( يغسل ذلك المكان ، ثم يصلي ) رواه البيهقي في سننه ، ( ولا ذلك ) ، وهو كذلك ، لظاهر ما تقدم أيضاً ، ( ولا تسمية ) ، وهو بناء على قاعدته من أن التسمية لا تجب في الوضوء ، أما إن قلنا : تجب ثمّ . وجبت هنا ، وجزم صاحب التلخيص ، والسامري وغيرهما بالوجوب هنا ، نظراً منهم إلى أن ذلك المذهب ثمّ .
ومقتضى كلام الخرقي أيضاً أن المجزىء لا يتوقف على إزالة ما به من أذى ، وإن كان نجاسة ، وهو ظاهر كلام طائفة من الأصحاب ، فعل هذا يرتفع الحدث مع بقاء النجاسة ، وصرح بذلك ابن عقيل ، ومنصوص أحمد رحمه الله أن الحدث لا يرتفع إلا مع آخر غسلة طهرت المحل ، وعلى هذا يتوقف صحة الغسل على الحكم يزوال النجاسة ، وهو ظاهر كلام أبي محمد في المنقنع ، فقال في المجزىء : يغسل ما به من أذى . والله أعلم . أي من نجاسة وينوي ، لكنه يوهم زوال ما به من أذى أولًا ، وهذا الإِيهام ظاهر ما في المستوعب ، فإنه قال في المجزىء : يزيل ما به من أذى ، ثم ينوي . وتبعاً في ذلك والله أعلم أبا الخطاب في الهداية لكن لفظه في ذلك أبين من لفظيهما ، وأجرى على المذهب ، فإنه قال : يغسل فرجه ثم ينوي . وكذلك قال ابن عبدوس في المجزىء : ينوي بعد كمال الاستنجاء ، وزوال نجاسته إن كانت ثمّ ، وقد يحمل كلام أبي محمد والسامري على ما قاله أبو الخطاب ، ويكون المراد بذلك الاستنجاء بشرط تقدمه على الغسل ، كالمذهب في الوضوء ، لكن هذا [ قد ] يشكل على أبي محمد ، فإن مختاره ثمّ أنه لا يجب تقديم الاستنجاء ، وعلى الخرقي ، فإن مذهبه تقديم الاستنجاء ، فكان من حقه أن ينبه على ذلك .
ويتلخص لي أنه يشترط لصحة الغسل تقديم الاستنجاء على الغسل إن قلنا : يشترط تقديمه ثمّ . وإن لم نقل ذلك ، أو كانت [ النجاسة ] على غير السبيلين ، أو عليهما غير خارجة منهما ، لم يشترط التقديم ، ثم هل يرتفع الحدث مع بقاء النجاسة ، أو لا يرتفع إلا مع الحكم بزوال النجاسة ؟ فيه قولان ، ثم محل الخلاف إذا لم تكن النجاسة كثيفة ، تمنع وصول الماء ، أما إن منعته فلا إشكال في توقف صحة الغسل على زوالها ، وهذا واضح والله أعلم .
قال : ويتوضأ بالمد ، وهو رطل وثلث [ بالعراقي ] ، ويغتسل بالصاع ، وهو أربعة أمداد .
ش : لا نزاع فيما نعلمه في صحة الوضوء والغسل بذلك .
217 لما في مسلم وغيره عن سفينة رضي الله عنه قال : كان رسول الله يغتسل بالصاع ، ويتطهر بالمد .
218 وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال : كان النبي يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ، ويتوضأ بالمد .
وقد تضمن كلام الخرقي رحمه الله أن المد ربع الصاع ، ولا نزاع في ذلك ، ويقتضي أن الصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي ، وهو المذهب المشهور ، كصاع الفطرة والزكاة ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى ( وعنه ) ما يدل واختاره القاضي ، وأبو البركات أن الصاع عنا ثمانية أرطال .
219 لما روى أنس رضي الله عنه قال : كان النبي يتوضأ بما يكون رطلين ويغتسل بالصاع . رواه أحمد وأبو داود .
220 وعن موسى الجهني قال : أتي مجاهد بقدح ، حزرته ثمانية أرطال ، فقال : حدثتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان يغتسل بمثل هذا . رواه النسائي و ( كان ) في مثل هذا المقام تقتضي المداومة ، والله أعلم .
قال : وإن أسبغ بدونهما أجزأه .
ش : الإسباغ تعميم العضو بالماء ، بحيث يجري عليه ، ولا يكون مسحاً ، فإذا حصل ذلك بدون المد في الوضوء ، وبدون الصاع في الغسل حصل الواحب ، على المشهور ، المعروف من الروايتين ، لظاهر الآية .
221 وقوله : ( أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً ) ونحو ذلك .
222 وعن عائشة رضي الله عنها ، أنها كانت تغتسل هي والنبي من إناء واحد ، يسع ثلاثة أمداد أو قريباً من ذلك . رواه مسلم .
223 وعن أم عمارة بنت كعب ، أن النبي توضأ من إناء قدر ثلثي المد . رواه أبو داود والنسائي ، ( والثانية ) : لا يجزىء دون المد في الوضوء ، ولا دون الصاع في الغسل .
224 لظاهر ما روي عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( يجزىء من الغسل الصاع ، ومن الوضوء المد ) رواه أحمد ، والله أعلم .
قال : وتنقض المرأة شعرها لغشلها من الحيض ، وليس عليها نقضه [ لغسلها ] من الجنابة ، إذا روت أصوله . [ والله أعلم ] .
ش : هذا منصوص أحمد في الصورتين ، ومختار كثير من الأصحاب .
225 لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال لها وكانت حائضاً ( انقضي شعرك واغتسلي ) رواه ابن ماجه ، قال صاحب المنتقى : بإسناد صحيح .
226 وفي مسلم : أن أم سلمة سألت النبي فقالت : ( أفأنقضه لغسل الجنابة ) .
227 وأصرح من ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه : قال رسول الله : ( إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها ، واغتسلت بالخطمي والأشنان ، [ وإذا اغتسلت من الجنابة لم تنقضه ، ولم تغتسل بالخطمي والأشنان ] ) رواه البيهقي في السنن ، لكن في إسناده محمد بن يونس ، قال : وليس بثقة . والمعنى في ذلك أن مدة الحيض تطول ، فيتلبد الشعر ، فشرع النقض ، طريقاً موصلًا إلى وصول الماء إلى أصول الشعر ، بخلاف غسل الجنابة ، فإنه لا يطول غالباً ، فلا حاجة إلى النقض ، لوصول الماء بدونه غالباً ، فلذلك لم يطلب النقض رفعاً لكلفته .
وحكى ابن الزاغوني رواية أخرى في الحيض ، أنه لا يجب النقض ، وهو اختيار أبي محمد ، وابن عبدوس ، وابن عقيل في التذكرة .
228 لأن في مسلم : أن أم سلمة قالت : قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ظفر رأسي ، أفأنقضه للحيض والجنابة ؟ قال : ( لا ، إنما يكفيك أن تفرغي عليك ثلاث حفنات ، ثمّ قد طهرت ) وحديث أنس لا يصح ، وحديث عائشة رضي الله عنها ، قضية عين فيحتمل أنه رأى عليها ما يمنع وصلو الماء ، ولكن ذكرها للحيض ظاهره أن العلة ذلك ، والأولى حمل الحديثين على الاستحباب ، جمعاً بين الأدلة . وقرينة ذلك ذكر الخطمي والأشنان في حديث أنس .
ولنا قول آخر بالوجوب في الجنابة ، قياساً على الحيض ، والنص يرده ، وابن الزاغوني قيده بما إذا طالت المدة ، قال : بناء على أن العلة في النقض في الحيض طول المدة أما إن جعل المناط النص تعبداً فلا .
وقول الخرقي : إذا روت أصوله . فيه إشعار على أنه يشترط إيصال الماء إلى أصول الشعر والبشرة ، وهو كذلك ، وإن كانت كثيفة ، بمخلاف ما تقدم في الوضوء .
229 وقد شهد لذلك قوله : ( تحت كل شعرة جنابة ، فاغسلوا الشعر ، وأنقوا البشرة ) وإذا أوجب الخرقي رحمه الله تروية أصول الشعر ، ويلزم من ذلك غسل البشرة ، فما بالك بالشعور نفسها ، فيؤخذ من ذلك وجوب غسلها وإن استرسل ، وهو المذهب ، وحكى أن محمد وجها أن لا يجب غسل المسترسل ، وقال : إنه يحتمله كلام الخرقي . فلا يظهر لي وجه احتمال كلام الخراقي لذلك ، والله أعلم قال المصنف رحمه الله تعالى :
باب التيمم
ش : التيمم في اللغة القصد ، قال سبحانه وتعالى : { ولا آمين البيت الحرام } أي قاصدين ، وقال الشاعر [ العذري ] :
وما أدري إذا يممت أرضا
أريد الخير أيهما يليني
أالخير الذي أنا مبتغيه
أم الشر الذي هو يبتغيني
يقال : يممت فلانا وتيممته وأممته . إذا قصدته ، وقد قريء بالثلاثة في قوله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } أي لا تقصد وا الخبيث للإِنفاق منه ، فقرأ الجمهور ( ولا تيمموا ) بالفتح ، وقرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ( ولا تأمموا ) وابن عباس رضي الله عنهما ( ولا تيمموا : بضم التاء . وهو في العرف الشرعي عبارة عن : قصد شيء مخصوص وهو التراب الطاهر على وجه مخصوص وهو مسح الوجه واليدين من شخص مخصوص ، وهو العادم للماء ، أو من يتضرر باستعماله ، وتحقيق ذلك كله له محل آخر ، وقد يطلق ويراد به مسح الوجه واليدين وسمي المقصود بالتيمم تيمماً .
وهو جائز بالإِجماع ، وقد شهد له قوله سبحانه وتعالى : { إن كنتم مضرى ، أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء ، فتيمموا صعيداً طيبا } الآية ، وحديث عمار وغيره كمنا سيأتي إن شاء الله تعالى وهو من خصائص هذه الأمة ومما فضلت به على غيرها ، توسعة عليها ، وإحساناً إليها .
230 قال : ( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة ) [ والله أعلم ] .
قال : ويتيمم في قصير السفر وطويله .
ش : هذا هو المعروف في المذهب المقطوع به ، اعتماداً على شمول الآية المتقدمة بإطلاقه . لحالتي السفر ، ثم شرع التيمم يقتضي ذلك ، إذ السفر القصير يكثر ، فيكثر عدم الماء فيه ، فلو لم يجز التيمم إذاً لأفضى إلي حرج ومشقة ، وذلك ينافي أصل مشروعية التيمم ، وقد بالغ الأصحاب في ذلك فقالوا : لو خرج من المصر إلى أرض من أعماله لحاجة : كالحرائه ، والاحتطاب ، والاحتشاش ونحو ذلك ، ولا يمنكه حمل الماء مته ، ولا الرجوع للوضوء إلا بتفويت حاجته ، فله التيمم ، ولا إعادة عليه على الأشهر ، وقيل : بلى لأنه كالمقيم ، إذا هو في عمل المصر ، ومن ثم لو كانت الأرض التي يخرج إليها من عمل قرية أخرى فلا إعادة عليه .
وقد شمل كلام الخرقي رحمه الله سفر المعصية ، وهو المعروف ، لأنه عزيمة لا يجوز تركه ، وعليه لا يعيد على المشهور .
ومفهوم كلام أنه لا يجوز التيمم في الحضر ، ولو خاف فوات الصلاة ، وهو المذهب وعن أبي العباس جواز ذلك ، ولأحمد [ رحمه الله ] رواية بالجواز في الجواز في الجنازة خاصة .
وأنه لا يجوز التيمم في الحضر لعدم الماء ، كما إذا حبس في المصر ولم يجد ماء ، أو انقطع الماء عن أهل البلد ، ونحو ذلك ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار الخلال ، لظاهر الآية الكريمة فإن ظاهرها اختصاص جواز التيمم بحالة [ عدم ] الماء في السفر ، وإلا لم يكن للتقييد بالسفر فائدة ، [ والثانية ] : وهي المشهورة ، وعليها جمهور الأصحاب : يجب عليه التيمم والحال هذه والصلاة ، لعموم قول النبي في حديث أبي ذر ( إن الصعيد [ الطيب ] طهور المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ) ، رواه أحمد والترمذي وصححه ، وحديث ( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبل ) وغير ذلك ، والتقييد بالسفر في الآية خرج والله أعلم مخرج الغالب ، إذ السفر محل العدم غالباً ، وهذا كاختصاص الخلع بحال الخوف ، وشهادة الرجل والمرأتين بحالة تعذر الرجلين ، ومثل ذلك لا يكون مفهوم حجة اتفاقاً .
فعلى هذا إذا صلى بالتيمم هل يعيد ؟ فيه قولان ، أشهرهما لا . لفعله المأمور به ، وإذاً يخرج عن العهدة لندرة ذلك ، ولأبي محمد احتمال بالتفرقة بين عذر يزول عن قريب ، كالضيف إذا أغلق عليه الباب ، ونحو ذلك ، فهذا يعيد لأنه بمنزلة المتشاغل بطلب الماء ، وبين عذر يمتد ، كالحبس ، وانقطاع الماء عن القرية ، فهذا لا إعادة عليه ، قلت : وهذا التعليل منه إنما يبيح عدم التيمم والحال هذه ، والله أعلم .
قال : إذا دخل وقت الصلاة ، وطلب الماء فأعوزه .
ش : ذكر الخرقي [ رحمه الله ] لجواز التيمم [ في السفر ] ثلاثة شروط ، ( أحدها ) دخول وقت الصلاة ، فلا يجوز التيمم لصلاة قبل وقتها ، وهذا هو المشهور ، والمختار للأصحاب ، لأن الله تعالى أمر بالوضوء أو التيمم عند إرادة القيام إلى الصلاة ، وإنما يكون ذلك بعد دخول الوقت ، وظاهر الخطاب : كلما أراد القيام إلى الصلاة .
231 خرج الوضوء ، لصلاته الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد ، وبقي التيمم على مقتضى ظاهرها .
232 وعن عمر بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله : ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت ) مختصر ، رواه أحمد ، وللبيهقي في سننه عن أبي أمامة نحون ، وظاهره تقييد طهورية التراب بحال إداراك الصلاة ، وإنما يتحقق ذلك بدخول الوقت ، وأيضاً فالتيمم قبل الوقت لا حاجة إليه ، فهو كالتيمم مع وجود الماء ، وقد أشار الله سبحانه [ وتعالى ] إلى اشتراط الحاجة بقوله : 19 ( { فلم تجدوا ماء } ) . ( وعن أحمد ) [ رحمه الله ] ما يدل على جواز ذلك ، وهو اختيار أبي العباس .
233 لعموم قوله : ( وجعلت تربتها طهوراً إذا لم نجد الماء ) وشمله قوله : ( إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ) ونظرا إلى أنه بدل فيساوي مبدله ، إلا ما خرج بالدليل كالإطعام مع العتق في الكفارة ، ونحو ذلك ولقد تخرج عبد العزيز في حكايته الإِجماع على منع التيمم قبل الوقت .
( تنبيه ) : وقت المكتوبة المؤداة زوال الشمس ، أو غروبها ونحو ذلك ، والفائتة كل وقت ، وكذلك المنذورة على المذهب ، وصلاة الاستسقاء باجتماع الناس في الصحراء ، والصلاة على الميت بنجاز غسله ، وصلاة الكسوف بالكسوف إن أجزنا ذين في وقت النهي ، وإن لم نجزهما فيه فبذلك مع خروج وقت النهي ، وكذلك جميع التطوعات وقتها وقت جواز فعلها اه .
( الشرط الثاني ) : طلب الماء ، على المشهور المختار من الروايتين لظاهر الآية فإنه سبحانه وتعالى شرط الجواز التيمم عدم الوجدان ، ولا يقال : ما وجد . إلا بعد الطلب ، ولا يرد قوله سبحانه : { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } مع انتفاء الطلب منهم .
234 وكذلك قوله : ( من وجد لقطة ) لأن كلامنا في جانب النفي ، أما جانب الوجود فسلم لأنه [ لا ] يقتضي الطلب ، ( فإن قيل ) : فيرد قوله سبحانه : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } لاستحالة الطلب على الله سبحانه ، ( وقيل ) : الله سبحانه [ وتعالى ] طلب منهم الثبات على العهد ، أي أمرهم بذلك ، فهو سبحانه يطلب منهم ما قدمه إليهم من العهذ ، فلذلك قيل : { وما وجدنا [ لأكثرهم ] } .
ولأنه بدل ، شرط له عدم مبدله ، فلم يجز إلا بعد طلب المبدل ، كالصيام مع الرقبة في الكفارة ، وكالقياس مع النص في الحادثة ، يحقق ذلك أن البدل من شرطه الضرورة ، وهي بعد الطبب متحققة حسب الإمكان ، أما قبله فمشكوك فيها ، فلا تثبت الرخصة .
( وعن أحمد ) رحمه الله رواية أخرى واختارها أبو بكر : يستحب الطلب ولا يجب . اعتماداً على ظاهر الحال ، كالفقير لا يلزمه طلب الرقبة ، ومحل الخلاف وفاقاً ولأبي البركات ، وصاحب التلخيص إذا احتمل وجود الماء ، ولم يكن ظاهراً ، أما مع الجزم بعدم الماء فلا يجب بلا ريب ، ومع ظن وجوده إما في رحله ، أو بأن رأى خضرة ، ونحو ذلك : يجب بالإِجماع .
وصفة الطلب أن يفتش من رحله ما يحتمل أن الماء فيه ، ويسعى يمنه ويسرة ، وأماماً ووراء ، ما العادة أن المسافر يسعى إليه لطلب الماء ، والمرعى والإِحتطاب ، ونحو ذلك ، لا فرسخاً ولا ميلًا ولا ما يلحقه فيه الغوث على الأشهر ، ويشترط للسعي لأمن على نفسه ، وأهله ، وماله ، لسبب يقتضيه ، لا جبناً ، وأمن فوت الوقت ، وفوت الرفقة ، ولقد أبعد ابن عبدوس في اشتراط ذلك للقرب دون البعد ، وابن أبي موسى في حكايته وجهاً بوجوب الإِعادة [ على المرأة ] إذا خافت الفجور في القصد ، فإن رأى خضرة أو موضعاً يتساقط عليه الطير قصده ، لأن ذلك مظنة الماء ، بالشرط السابق ، وكذلك إن كان يقربه مانع من انبساط [ النظر ] كجبل ونحوه قصده بالشرط السابق ، فصعد عليه ، وهل يلزمه المشيء خلفه ؟ على وجهين ، ويسأل رفقته عن مظانه ، فإن دله عليه ثقة قصده بالشرط السابق أيضاً ، ( ومحل الطلب ) عند دخول وقت كل صلاة ، كما أشار إليه الخرقي بقوله : إذا دخل وقت الصلاة . فإن طلب قبل الوقت لم يعتد به .
( الشرط الثالث ) : إعواز الماء ، بأن يطلب الماء فلا يجد ، كما نص الله تعالى عليه بقوله : { فلم تجدوا ماء } وحصل الاتفاق عليه ، وفي معنى العادم إذا وجد الماء وتعذر عليه استعماله ، لعدم قدرته على النزول إليه ، أو الاستقاء منه ، أو غلبة الواردين عليه ، أو إحالة سبع ونحو دونه .
ثم الإِعواز له حالتان ( إحداهما ) : ما تقدم ، وهو أن يكون عادماً للماء ، إما حساً ، وإما حكماً ، ( الثانية ) : وجد ماء ولكن لا يكفيه لطهره ، والمعروف والحال هذه حتى قال القاضي في روايتيه : إنه لا خلاف فيه في المذهب أنه يلزمه استعماله إن كان جنباً ، ثم يتيمم لما بقي ، وكذلك إن كان محدثاً ، على أشهر الوجهين ، أو الروايتين على ما في الرعاية ، ( والثاني ) : واختاره ابن أبي موسى ، وأبو بكر ، مع حكايته له عن بعض الأصحاب لا يلزمه استعماله ويتيمم ، وعلى هذا في إراقته قبله قلت : إن لم يحتج إليه لعطش روايتان ، حكاهما ابن حمدان ، ونظيرهما الروايتان في الطهور المشتبه بنجس ، والله أعلم .
قال : والاختيار تأخير التيمم [ إلى آخر الوقت ] .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار ابن عبدوس .
235 ما روي عن علي رضي الله عنه ، أنه قال : إذا أجنب الرجل في السفر : تلوم ما بينه وبين آخر الوقت ، فإن لم يجد الماء تيمم وصلى . رواه الدارقطني والبيهقي ولكن من رواية الحارث عنه ، وهو ضعيف ، واحتياطاً للخروج من الخلاف ، إذ بعض العلماء وهو رواية عن إمامنا ، حكاها أبو الحسين لا يجوز التيمم إلا عند ضيق الوقت ، ( والثانية ) : وهي المختارة للجمهور إن رجا وجود الماء فالأفضل التأخير ، إذ طهارة [ الماء ] في نفسها فريضة ، وأول الوقت فضيلة ، ولا ريب أن انتظار الفريضة أولى ، وإن علم أن ظن عدمه فالأفضل التقديم ، وكذلك إن تردد ، على أحد الوجهين ، إذا فضيلة الوقت متيقنة ، فلا تترك لأمر مأيوس أو مشكوك [ فيه ] والله أعلم .
قال : فإن تيمم في أول الوقت وصلى أجزأه ، وإن أصاب الماء في الوقت .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، وإن تيقن وجود الماء في الوقت ، ولا عبرة بالرواية التي حكاها أبو الحسين .
236 لما روى عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : خرج رجلان في سفر ، فحضرت الصلاة ، وليس معهما ماء ، فتيمما صعيداً طيباً فصليا ، ثمّ وجدا الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ، ولم يعد الآخر ، ثمّ أتيا رسول الله ، فذكرا ذلك له ، فقال للذي لم يعد ( أصبت السنّة ، وأجزأتك صلاتك ) وقال للآخر : ( لك الأجر مرتين ) رواه أبو داود وقال : ذكر أبي سعيد فيه وهم ، وليس بمحفوظ ، وهو مرسل ، وللنسائي بمعناه .
237 وعن نافع قال : تيمم ابن عمر على رأس ميل أو ميلين من المدينة ، فصلى العصر ، فقدم والشمس مرتفعة ، ولم يعد [ الصلاة ] رواه البيهقي ، وللموطأ معناه ، واحتج به أحمد .
238 وعن ابن أبي الزناد عن أبيه ، قال : كل من أدركت من فقهائنا فذكر الفقهاء السبعة كانوا يقولون : من تيمم فصلى ، ثمّ وجد الماء [ وهو ] في الوقت ، أو [ في ] غير الوقت ، فلا إعادة عليه ، ويتوضأ لما يستقبل من الصلوات ويغتسل ، والتيمم من الجنابة والوضوء سواء . رواه البيهقي والله أعلم .
قال : والتيمم ضربة واحدة .
ش : أي التيمم المشروع ، أو الواجب ، أو المجزيء ضربة واحدة ، لا نزاع عندنا فيما نعلمه أن الواجب في التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين .
239 لما روى عمار رضي الله عنه قال : أجنبت ، فلم أصب الماء ، فتمعكت في الصعيد ثم صليت ، فذكرت ذلك للنبي فقال : ( إنما يكفيك هذا ) وضرب النبي بكفيه الأرض ، ونفخ فيهما ، ثم مسح بها وجهه وكفيه . متفق عليه ، وفي لفظ : لم يجاوز الكوع وفي لفظ للدارقطني ( إنما [ كان ] يكفيك أن تضرب بكفيك [ في ] التراب ، ثم تنفخ فيهما ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين ) .
240 وعن عمار أيضاً ، أن النبي قال في التيمم ( ضربة للوجه والكفين ) رواه أحمد ، والترمذي بمعناه وصححه .
ولقد أنصف الشافعي ( رحمه الله ) حيث قال في رواية الزعفراني [ إن ] ابن عمر تيمم ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين ، وبهذا رأيت أصحابنا يأخذون ، وقد روي فيه شيء عن النبي ، لو علمته ثابتاً لم أعده ، ولم أشك فيه ، وقد قال عمار : تيممنا مع [ النبي ] إلى المناكب ، وروي عنه الوجه والكفين . فكأنه قوله : تيممنا مع النبي إلى المناكب . لم يكن عن أمر الرسول [ ] ، فإن ثبت عن عمار ، عن النبي الوجه واليدين ، ولم يثبت عنه : [ إلى ] ( المرفقين ) فالثابت أولى . اه ولا ريب في ثبوت ذلك عند أهل العلم بهذا الشأن ، وأنه أثبت من ( إلى المرفقين ) بل لم يثبت في ذلك شيء ، قال الإِمام أحمد ( رحمه الله ] : من قال ضربتين . إنما هو شيء زاده . اه .
وهل تسن زيادة على ضربة ؟ المنصوص وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد وغيره لا تسن ، لما تقدم ، إذ قوله في التيمم : ( ضربة للوجه والكفين ) ظاهره أن التيمم ليس إلا هذا ، وقال القاضي ، و الشيرازي ، و ابن الزاغوني ، و أبو البركات : يسن ضربتان ، ضربة للوجه ، وأخرى لليدين إلى المرفقين احتياطاً ، للخروج من الخلاف ، إذ بعض ( العلماء ] يوجبه ، مع أنه قد ورد .
241 فعن جابر رضي الله عنه عن النبي قال : ( التيمم ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين ) رواه الدارقطني ، وروى أيضاً نحوه من حديث ابن عمر وغيره عن النبي ، وهي وإن كان في أسانيدها مقال ، لكن ورودها من طرق يفيد ظناً بصحتها ، على الدارقطني فيما الجن صحح بيضها على أن الدارقطني فيما الجن صحح بعضها يحمل ما تقدم على الإِجزاء ، جمعاً بين الكل ، ولا نزاع فيما نعلمه أنه لا يسن زيادة على ضربتين إذا حصل الاستيعاب بهما . .
( تنبيه ) : الرصغ والرسغ مفصل اليد ، والله أعلم .
قال : يضرب بيديه على الصعيد الطيب وهو التراب .
ش : صفة الضربة في التيمم المشروع [ أو الواجب ] أن يضرب بيديه على ما أمر الله سبحانه [ وتعالى به ] وهو الصعيد الطيب ، ثم فسر الصعيد بأنه التراب ، وهذا أشهر الروايات عن أحمد ، واختيار عامة أصحابه لظاهر قول الله سبحانه : 19 ( { فتيمموا صعيدا طيبا ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } ) فدل على أنه شيء يمسح منه ، والصخر ونحوه ليس بشيء يمسح به .
242 ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : الصعيد تراب الحرث ، والطيب الطاهر .
24( وعن حذيفة ) رضي الله عنه عن النبي قال : ( جعلت لنا الأرض كلها مسجداً ، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ) رواه مسلم 8 .
244 [ وعن علي ] رضي الله عنه : قال رسول الله : ( أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء ، نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض ، [ وسميت أحمد ] ، وجعل لي التراب طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم ) رواه أحمد ، فعم الأرض بحكم المسجدية ، وخص ترابها بحكم الطهارة ، وذلك يقتضي نفي الحكم عما عداه ، ( وقول الخليل ) : إن الصعيد وجه الأرض . وكذلك الزجاج ، مستدلا بقوله سبحانه : 19 ( { فتصبح صعيداً زلقا } ) وقائلًا : بأنه لا يعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة . يعارضه قول ابن عباس رضي الله عنهما ، على أن قولهما يرجع إلى التفسير اللغويد وقول ابن عباس يحمل على التفسير الشرعي ، ويؤيده بيان صاحب الشرع حيث قال : ( وترابها لنا طهوراً ) ( وقول من قال ) : إن ( منه ) لابتداء الغاية ، ليكن ابتداء الفعل بالأرض ، وانتهاء المسح بالوجه . مردود بأن ابتداء المسح بإمرار اليد على الوجه [ لا ] بالأخذ من الأرض ، وقد قال الزمخشري : إن هذا قول متعسف ، وإن الإِذعان للحق أحق من المراء ، ( والثانية ) أومأ إليها في رواية أبي داود وغيره يجوز التيمم بالرمل ، والأرض السبخة ، لعموم الحديث الصحيح ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) .
245 وقوله في الحديث الآخر : ( أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره ) وما تقدم بعض أفراد هذا ، وذكر بعض الأفراد لا يخصص ، وهذا وإن شمل كل الأرض لكن قوله تعالى : 19 ( { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } ) خصصه بما في معنى التراب من الرمل ونحوه ( ويجاب ) : بأن التخصيص بالمفهوم ، لا بذكر بعض الأفراد ، وهو وإن كان مفهوم اللقب ، فهو حجة عندنا على المذهب ( والرواية الثالثة ) : يجوز التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من الجص ، والنورة ، والرمل ، ونحو ذلك ، عند عدم التراب ، حملا للنص المقيد بالتراب على حال وجدانه ، والنص المطلق على حالة العدم ، جمعاً بينهما .
إذا تقرر هذا ( فعلى الأولى ) يجوز بكل تراب ، على أي لون كان ، يشرط كون له غبار يعلق باليد ، ومن ثم لو ضرب بيده على لبد أو [ على ] شجرة ، ونحو ذلك ، فحصل على يده غبار تراب أجزأه ، وكذلك لو سحق الطين وتيمم به أجزأه ، وإن كان مأكولًا كالطين الأرمني نعم : إن كان بعد طبخه لم يجزه على أشهر الوجهين ، فإن خالط ما يتيمم به ما لا يتيمم به ، كالزعفران ونحوه ، فهل هو كالماء إذا خالطه الطاهرات ، وهو قول القاضي ، وأبي الخطاب وغيرهما : إن غيره منع هنا قولًا واحداً ، وهو اختيار ابن عقيل ، وأبي البركات ، على طريقتين ، ومحلهما يما يعلق باليد كما مثلنا ، أما ما لا يعلق باليد فلا يمنع ، لنص أحمد على جواز التيمم ( وعلى الرواية الثانية ) فظاهر كلام أحمد الجواز مطلقاً ، والقاضي يحمل قوله بالجواز على ما إذا كان له غبار ، وقوله بالمنع على عدم الغبار ، فلا خلاف عنده [ وعلى ] الثالثة ) هل يعيد إذا وجد الماء أو التراب ؟ فيه روايتان .
وقول الخرقي : يضرب بيديه . ليست حقيقة الضرب شرطاً ، بل لو وضع يده على تراب ناعم أجزأه ، إذ القصد إغبار الراحتين ، وقد وجد ، لكنه قد يحترز بذلك عما إذا وصل التراب إلى وجهه ويديه بغير ضرب ، نحو أن سفت عليه الريح ترابا يعمه ، وله حالتان ( إحدهما ) إذا نوى بعد حصول التراب عليه ، فإنه لا يجزئه ، لانتفاء قصد التراب رأساً ، نعم لو مسح وجهه بما حصل على يديه أجزأه ، ( الثانية ) : نوى وعمد للريح فحصل عليه تراب ، فهنا ثلاثة أوجه ( الإِجزاء ) وهو مختار أبي جعفر ، وأبي البركات وصاحب التلخيص ، والسامري ( وعدمه ) ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، ( والثالث ) إن مسح أجزأه ، وإلا فلا ، والله أعلم .
قال : وينوي به المكتوبة .
ش : لا نزاع عندنا في اشتراط النية في التيمم في الجملة ، لقوله تعالى : 19 ( { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ) وقول النبي : ( إنما الأعمال بالنيات ) ( لا عمل إلا بنية ) ونحو ذلك ، ثمّ كيفية النية قد بناه جماعة على أصل ، فلنتعرض له وهو : أن التيمم هل يرفع الحدث أم لا ؟ وفيه قولان للعلماء ، أشهرهما أنه لا يرفع الحدث ، وهو المختار لأصحابنا ، وأحمد رحمه الله نقل عنه الفضل ، وبكر بن محمد أنه يصلي [ به ] ما لم يحدث ، فأخذ من ذلك أبو الخطاب وغيره أنه يرفع الحدث ، ونقل عنه أنه لا يصح التيمم لفريضة قبل وقتها ، وأنه يتيمم لوقت كل صلاة ، بل وأنه لا يجمع به بين فرضين ، فأخذ من ذلك أنه لا يرفع الحدث .
وبالجملة قد جاء في الباب حديثان مشهوران .
246 [ أحدهما ] حديث عمرو بن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة ، في غزوة ذات السلاسل ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ، ثم صليت بأصحابي الصبح ، فذكروا ذلك للنبي : ( يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ) ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال ، وقلت : إني سمعت الله عز وجل يقول : { ولا تقتلوا أنفسكم ، إن الله كان بكم رحيماً } فضحك رسول الله ، ولم يقل شيئاً . رواه أبو داود ، وظاهره أنه أقره على أن صلى وهو جنب ، وإلا لم يبين لهم أنه ليس بجنب .
247 ( والثاني ) : حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ، فإن ذلك خير ) رواه الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وفي رواية ( طهور ) فدل على أنه عند عدم الماء طهور بمنزلة [ الماء ] ، وإذاً يعطى حكم الماء ، فيرفع الحدث ، والحق أنه لا تعارض بين الحديثين ، إذ ( في الأول ) غايته أنه لم يمنع من إطلاق الحدث عليه ، لأن بزوال البرد ، أبو بوجود الماء ونحو ذلك حكم الحدث ، ويبطل التيمم ، فدل على أن المانع لم يزل رأساً ، ( وفي الثاني ) جعل التراب طهوراً عند عدم الماء ، لأنه يستبيح به ما يستبيح بالماء والحال ما تقدم .
وقد قال أبو العباس : إن ذلك ينبني على قاعدة أصولية ، وهي أن المانع المعارض للمقتضي هل يرفعه أم لا ؟ فإن المقتضي للحدث موجود ، وقد عارضه عدم الماء ، مع الحاجة إلى الصلاة ، وقيام الشارع التراب مقام الماء ، فهل يقال : استبيحت الصلاة والحال هذه ، مع قيام السبب المانع منها وهو الحدث ، أو أن السبب والحال هذه لم يبق حاضراً ، فكأن لا حدث ؟ ونظير ذلك الاختلاف في الميتة عند الضرورة ، هل أبيحت مع قيام سبب الحظر ، وهو ما فيها من [ خبث ] التغذية ، أو [ أن ] عند الضرورة زال المقتضي للحظر ، مع بقاء ] قيام السبب وهو التحريم ؟ .
وكشف الغطاء من ذلك أنه إن أريد بالسبب الحاضر السبب التام ، وهو مجموع ما يستلزم الحكم من العلة ، والشرط ، وعدم المانع ، فلا ريب في ارتفاع هذا عند المخمصة ، وعند الصلاة بالتيمم ، لوجود الحل وإباحة الصلاة ، وإن أريد بالسبب ما يقتضي الحكم وإن توقف على وجود شرط ، أو انتفاء مانع ، فلا ريب في وجود هذا هنا ، لولا المعارض الراجح ، وهو المخمصة ، وعدم الماء ، فالقائل الأول التفاته إلى هذا السبب ، والقائل الثاني التفاته إلى السبب التام ، وإذا فالفريقان مجمعان على إباحة الصلاة والحال ما تقدم ، وعلى منع الصلاة عند وجود الماء حتى يتطهر ، ومن ثمّ قال القاضي في تعليقه : الخلاف في عبارته ، قال : إذ فائدة قولنا : إنه لا يرفع الحدث . أنه إذا وجد الماء لزمه استعماله في رفع الحدث ، وهذا اتفاق .
ومن هنا يعرف خطأ ابن حمدان في قوله : وعنه يصلي به ما لم يحدث . وقيل : أو يجد ماء . فإنه يقتضي أنه على النص يصلي وإن وجد الماء ، وهو خلاف الإِجماع ، والنصوص الصريحة ، والذي أوقعه في ذلك والله أعلم أن النص عن أحمد مطلق ، لكن نصوصه المتوافرة بالبطلان بوجود الماء حتى وهو في الصلاة ، تقيد ذلك ، لا سيما مع النصوص الصريحة فكيف يظن بأحمد مخالفتها .
وقول أبي البركات : وعنه : يصلي به ما لم يحدث كالماء . وكأن أبا البركات أراد [ أن ] على هذه الرواية أشبه الماء ، فيعطى حكمه ، من جواز التيمم قبل الوقت ، ونحو ذلك ، كما صرح به . أه وظاهر ما قاله القاضي من أن الخلاف في عبارته ، أنه لم يبن على ذلك فائدة شرعية ، وكذا صرح به أبو العباس في قواعده فقال : ليس بين القولين نزاع شرعي عملي ، بل عليهما لم يبق الحدث مانعاً مع وجود طهارة التيمم ، فيكون طاهراً قبل الوقت وبعده وفيه ، وبنى البطلان بخروج الوقت ، [ وكونه لا يجمع به بين فرضين ، على القول بأنه لا يتيمم قبل الوقت ] وبين كونه يصلي به ما يشاء ، ولا يبطل بخروج الوقت على القول بجواز التيمم قبل الوقت ، والقاضي خرج رواية جواز التيمم قبل الوقت من قوله : إنه يصلي به ما لم يحدث . فعلى هذا يكون أبو العباس قد جعل الأصل فرعاً ، والفرع أصلًا ، أما أبو الخطاب وجماعة فقالوا : إنا إذا قلنا : لا يرفع الحدث . اشترط أن ينوي استباحة الصلاة من الحدث الذي عليه ثم إن أنوى شيئاً استباحة وما دونه ، ولا يستبيح ما هو أعلى منه ، كما يأتي بيانه ، ولا يجوز إلا بعد الوقت ، ويبطل بخروجه ، وإن قلنا : يرفع . جاز أن ينوي رفع الحدث ، وإذا نوى فعل الصلاة استباح فرضها ، وجاز قبل الوقت ، ولم يبطل بخروجه ، كالماء سواء .
إذا تقرر هذا فقول الخرقي : ينوي به المكتوبة . ظاهره والله أعلم [ أنه ] لحظ ما تقدم ، من أن التيمم مبيح لا رافع ، فيحصل له إباحة ما نواه ، ويدخل فيه بطريق الضمن ما دونه ، ولا شيء أعلى من المكتوبة ، فلذلك نص الخرقي عليها ، وقد نص أحمد في رواية البرزاطي في من تيمم لسجود القرآن ، أو للقراءة في المصحف ، وصلى به فريضة أنه يعيد ، وعلى هذه القاعدة : لو نوى صلاة الجنازة استباح النافلة ، لا المكتوبة ، ولا يستبيح الجنازة بنية النافلة ، ويستبيح مس المصحف بنيتهما ، ولا تباح هي بنيتهما ، ويستبيح قراءة القرآن واللبث في المسجد ، بنية الطواف ، لأنه أعلى منهما ، لشبهه بالصلاة ، ولا يباح هو بنية أحدهما ، ولو [ نوى ] قراءة القرآن ، لكونه جنباً ، أو اللبث في المسجد ، أو مس المصحف ، فقال أبو محمد : لا يستبيح غير ما نواه ، وقال أبو البركات : إن نوى القراءة ، أو اللبث استباح الآخر ، دون ما يقتضي الطهارتين ، [ من صلاة ، ومس مصحف ، إذ تيممه هذا كالغسل وحده ، ويستبيح بنية النافلة ، ومس المصحف اللبث والقراءة ، لأن تيممه والحال هذه بمنزلة الطهارتين ] .
هذا كله على ما هو عندهم المذهب كما تقدم ، أما على القول الآخر فالتيمم كالماء ، فتباح الفريضة بنية النافلة ، كما نص عليه الخرقي ثمّ ، وتوسط ابن حامد فقال : يباح الفرض بنية مطلقة ، [ دون نية النفل ] . والله أعلم .
قال : فيمسح بهما وجهه وكفيه .
ش : يمسح بالضربة التي ضربها بيديه وجهه وكفيه ، لما تقدم من حديث عمار ، والواجب في مسح الوجه ظاهره مما لا يشق ، فلا يمسح باطن الفم والأنف ، ولا باطن الشعور الخفيفة ، وظاهر ما في المستوعب استثناء باطن الفم والأنف فقط ، وفي مسح اليدين إلى الرسغين ، كما في الحديث ، وكما يقطع السارق ، فلو قطع منهما ، فهل يجب مسح موضع القطع ؟ وهو المنصوص ، ومختار ابن عقيل ، وصاحب التلخيص ، كما لو بقي من الكف بقية ، أو لا يجب ؟ وهو قول القاضي ، بل يستحب ، كما لو قطع من فوق الكوع على منصوصه ، فيه قولان .
وقوله : يمسح بهما وجهه . يخرج به ما إذا معك وجهه في التراب ، أو أوصله إليه بخربة ، أو خشبة ، وهو أحد الوجهين .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط التسمية ، ولا الموالاة ، ولا الترتيب ، وهو لم يشترط التسمية في الوضوء الذي فيه النص ، فالتيمم الذي هو بدل عن الوضوء أولى .
وكذلك ظاهر كلامه عدم اشتراط الموالاة ثمّ ، كما سبق ، فكذلك هنا ، والأصحاب حكوا في المسألتين روايتين من الروايتين ثمّ ، أما الترتيب فقال : ثم باشتراطه ، وظاهر كلامه هنا عدم الاشتراط ، وهو أحد الأقوال ، وإن اشترطناه في الوضوء ، نظرا لظواهر الأحاديث ، والثاني : يجب حتى في الطهارة الكبرى ، لأنه صفة واحدة ، بخلاف الغسل والوضوء ، فإن صفتيهما مختلفة ، وهو قول أبي الحسين ، والمذهب إعطاء حكم التيمم في ذا المحل حكم الماء ، فيجب الترتيب في الوضوء على المذهب ، ولا يجب في الغسل ، .
قال : وإن كان ما ضرب بيديه غير طاهر لم يجزئه .
ش : قد تقدم أنه يضرب بيديه على الصعيد الطيب ، وأشار هنا إلى أن الطيب [ هو ] الطاهر ، ويروى عن ابن عباس .
248 وقال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله قال : ( جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً وطهوراً ) فعلى هذا لا يجوز بأرض نجسة ، ولا مقبرة تكرر نبشها ، لاختلاط ترابها بصديد الموتى ، وإن لم يتكرر النبش فوجهان ، ( الأجزاء ) ، وبه قطع أبو محمد ، واختاره أبو البركات ، نظراً لللأصل ، ( وعدمه ) ، لأنه رخصة في الأصل ، فلا يستباح مع الشك .
وقول الخرقي : طاهر . يحتمل أن يحترز به عن النجس كما تقدم ، فيدخل في عمومه ما يتيمم به ، ويحتمل أن يريد به الطاهر المطلق ، كما قال في الماء ثمّ ، فيخرج المستعمل ، وبالجملة في المستعمل هنا إن قيل بخروج الماء عن طهوريته ثمّ ، وأن التيمم لا يرفع الحدث ، قولان ( أحدهما ) : بقاؤه على ما كان عليه ، لأن لم يرفع حدثاً ، ( والثاني ) : خروجه عن الطهورية ، وبه قطع صاحب التلخيص ، والسامري ، لاستعماله في طهارة أباحته الصلاة ومحل الخلاف [ في ] المتناثر عن أعضاء المتيمم ، أما ما ضرب بيديه عليه فهو كفضل الوضوء .
بقي : هل خلوة المرأة في التيمم كخلوتها في الوضوء ؟ لم أر المسألة منقولة ، والقياس ذلك ، لكن المسألة المنع فيها تعبد ، فليقتصر على مورد النص ثمّ ، وبعض العلماء قال : المراد بالطيب هو الحلال . وهذا لا ريب في اشتراطه عنده على المذهب ، كالوضوء بماء مغصوب بل أولى ، إلا أن في أخذه من هنا نظرا ، نعم الطيب يطلق ويراد به الحلال ، كما في قوله تعالى : { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } ونحو ذلك ، وبعضهم قال : المراد بالطيب المنبت . مستنداً لقوله سبحانه وتعالى : 19 ( { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } ) وهذا قول من لا يجوز التيمم بغير التراب ، كما هو المشهور من مذهبنا ، والله أعلم .
قال : وإن كان به قرح أو مرض مخوف ، وأجنب فخشي على نفسه [ إن أصابه ] الماء ، غسل الصحيح من جسده ، وتيمم لما لم يصبه الماء .
ش : لما انتهى الخرقي [ رحمه الله ] من الكلام على التيمم لعدم الماء ، طفق يتكلم على التيمم للمرض ونحوه ، ولا إشكال في جواز ذلك في الجملة ، وقد دل على ذلك قوله سبحانه [ وتعالى ] : 19 ( { وإن كنتم مرضى أو على سفر } ) الآية ، وقوله تعالى : 19 ( { ولا تقتلوا أنفسكم } ) وبها استدل أحد فقهاء الصحابة عبد الله بن عمرو بن العاص ، لما تيمم في ليلة باردة ، لجنابة أصابته ، وأقره النبي [ ] على ذلك .
إذا عرف هذا فالمريض ونحوه إذا [ كان ] حاله ما تقدم ، فإنه يغسل الصحيح ويتيمم للجريح ونحوه ، سواء كان المتيمم له [ هو ] القليل أو بالعكس ، لقول الله سبحانه : 19 ( { فاتقوا الله ما استطعتم } ) وقول النبي : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
249 وعن جابر ( رضي الله عنه ) قال : خرجنا في سفر ، فأصاب رجلًا منا حجر ، فشجه في رأسه ، ثم احتلم ، فقال لأصحابه : هل تجدون لي رخصة ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة ، وأنت تقدر على الماء . فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي أخبر بذلك ، فقال : [ قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذا لم يعلموا ، إنما شفاء العي السؤال ] ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ، ويعصر أو يعصب شك موسى على جرحه خرقة ، ثم يمسح عليها ، ويغسل سائر جسده ) رواه أبو داود والدارقطني ، وهو نص ، لكنه من رواية الزبير بن خريق قال البيهقي : وليس ممن يحتج به .
250 وقد روي أيضاً نحوه عن عطاء ، أنه سمع ابن عباس يخبر أن رجلًا أصابه جرح في عهد النبي ، ثمّ أصابه احتلام ، فأمر بالاغتسال ، فاغتسل فكزّ فمات ، فبلغ رسول الله فقال : ( قتلوه قتلهم الله ، ألم يكن شفاء العي السؤال ؟ ) قال عطاء : فبلغنا أن رسول الله قال : ( لو غسل جسده ، وترك رأسه حيث أصابه الجرح ) .
إذا تقرر هذا فشرط جواز التيمم للمرض أو الجرح أن يخشى على نفسه من إصابة الماء ، إذ لا ريب في أن الماء هو الأصل ، والأصل لا يعدل عنه إلا لضرورة ، كما في الإِطعام مع الصيام ، والصيام مع العتق في الكفارة ، وقوله تعالى : 19 ( { وإن كنتم مرضى أو على سفر } ) الآية أي والله أعلم مرضنا يتضرر معه باستعمال الماء ، وإلا يكون ذكر المرض لغواً .
251 وقد ثبت أن رسول الله قال : ( الحمى من فيح جهنم ، فأطفئوها بالماء ) والحمى نوع من المرض ، ثم هل الخشية المشترطة هي تلف النفس ، أو العضو ، أو يكتفي بخشية الضرر ، من زيادة مرض ، أو تباطئ برء ، ونحو ذلك ؟ فيه روايتان ، المذهب منهما الثاني . وصورة هذه المسألة إذا خشي على نفسه من إصابة الماء مسحاً وغسلًا ، أما إن خشي غسلا لا مسحاً فثلاث روايات ( إحداهن ) واختارها القاضي فرضه التيمم ، لعجزه عن الواجب ، ( والثانية ) : فرضه المسح ، لأنه أقرب إلى المعنى المأمور به وهو الغسل ( والثالثة ) : يجمع بين التيمم والمسح ، فالتيمم للعجز عن الغسل ، والمسح لقدرته على إيصال الماء إلى العضو في الجملة .
وكلام الخرقي محتمل للقولين الأولين ، ومحل الروايات [ إذا لم يكن ] الجرح نجساً [ أما إن كان نجساً ] فإنه قال في التلخيص : لا يمسح ويتيمم . ثم إن كانت النجاسة معفواً عنها ألغيت ، واكتفى بنية الحدث ، وإلا نوى الحدث والنجاسة إن شرطنا فيها النية ، وهل يكتفي بتيمم واحد ؟ على وجهين ، وفي البلغة احتمال أنه لا يجزئه إلا تيمم واحد ، قال : لتحصل الإِباحة المنوية .
وقد فهم من كلام الخرقي جواز التيمم للجنب ، وهو قول العامة ، لما تقدم من حديث عمار بن ياسر ، وعمرو بن العاص ، وصاحب الشجة ، وأبي ذر .
252 وعن عمران بن حصين رضي الله عنه ، قال : رأى رسول الله رجلًا معتزلًا ، لم يصل في القول ، فقال : ( يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم ) ؟ فقال : يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء . قال : ( عليك بالصعيد فإنه يكفيك ) متفق عليه .
واعلم أن الحكم المتقدم لا يختص بالجنابة ، بل الوضوء كذلك وإنما نص الخرقي على الجنابة لينبه على مذهب الخصم .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : يخير الجنب الجريح ونحوه بين البداءة بالغسل أو بالتيمم ، لوجود سببهما ، وعدم اعتبار الترتيب لطهارته ، وهذا بخلاف الجنب الواجد لماء يكفي بعض بدنه ، فإنه لا يصح تيممه حتى يستعمل ما وجده ، ليتحقق شرط التيمم وهو العدم ، أما الجريح المتوضيء ، فعند عامة الأصحاب يلزمه أن لا ينتقل إلى ما بعده حتى يتيمم للجرح ، نظراً للترتيب ، وأن يغسل الصحيح ، مع التيمم لكل صلاة إن اعتبرت الموالاة ، واختار أبو البركات وإليه ميل أبي محمد سقوط الترتيب والموالاة في ذلك ، دفعا للحرج والمشقة ، مع عدم النص في ذلك ، وإذا كان الجرح في أعضاء التيمم أمر التراب عليه . ( الثاني ) : القرح بفتح القاف وضمها لغتان بمعنى الجراح وألمها ، كالضعف والضعف ، وقد قرىء بهما في قوله سبحانه : 19 ( { إن يمسسكم قرح } ) ، وقيل : بالفتح الجراح ، وبالضم ألمها ، ( والعي ) قصور الفهم ، وشفاء هذا المرض بالسؤال عما جهله ليعرف ، والله أعلم .
قال : وإذا تيمم صلى الصلاة التي حضر وقتها ، وصلى به فوائت إن كانت عليه والتطوع ، إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، المعمول به عند الأصحاب من الروايات . مع أن القاضي في التعليق لم يحك [ به ] نصاً ، وإنما قال : أطلق أحمد القول في رواية الجماعة ، أبى طالب ، والمروذي ، وأبي داود ، ويوسف بن موسى ، أنه يتيمم لكل صلاة ، ومعناه : لوقت كل صلاة . قال : وقد ذكره الخرقي على هذا . اه . ( والثانية ) أنه يصلي به ما لم يحدث ، نص عليها في رواية الفضل ، وبكر بن محمد ، ( والثالثة ) وهي المشهورة في نصه لا يجمع [ به ] بين فرضين ، وقد تقدمت الإِشارة إلى توجيه الخلاف ، وأن أبا الخطاب وغيره بنو ذلك على أن التيمم هل يرفع الحدث أم لا ؟ وأبا العباس بنى على جواز التيمم قبل الوقت ، وعدم جوازه ، ونزيد هنا بأن المنقول عن الصحابة التيمم لكل صلاة .
253 فعن ابن عمر بإسناد صحيح : يتيمم لكل صلاة ، وإن لم يحدث . وعن الحارث ، عن علي قال : يتيمم لكل صلاة . وعن قتادة أن عمرو بن العاص كان يحدث لكل صلاة تيمماً ، وكان قتادة يأخذ به ، رواهن ابن المنذر والبيهقي في سننه .
254 وروي أيضاً عن ابن عباس أنه قال : لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة ولهذا والله أعلم جاءت غالب نصوص أحمد على ذلك ، تبعاً للصحابة .
255 وقد روى [ أيضاً ] عن ابن عباس أنه قال : من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة ، ثم يتيمم للأخرى ، وهذا أقوى في اشتراط التيمم لكل صلاة ، لكنه من رواية الحسن بن عمارة ، وهو ضعيف .
256 مع أن حربا روى بإسناده عن ابن عباس أنه قال : التيمم بمنزلة الوضوء ، يصلي به الصلوات كلها ما لم يحدث وبالجملة لا تفريع على الرواية الوسطى ، أما على الثالثة فيستبيح إذا تيمم لصلاة [ الفرض ] الطواف ، ومس المصحف ، واللبث في المسجد إن كان جنباً ، والوطء إن كانت حائضاً ، وذكر ابن عقيل أن الوطء يحتاج إلى تيمم ، والتنفل قبل الصلاة وبعدها ، [ على ] مختار القاضي وغيره ، وظاهر كلام أحمد في رواية علي بن سعيد : أنه لا يستبيح إلا السنة الراتبة قبل ، وحكى أبو الخطاب وجهاً في الانتصار : أن كل نافلة تحتاج إلى تيمم ، لظاهر قول الصحابة المتقدم ، وهو ظاهر نصوص أحمد السابقة ، وقد روى البرزاطي عنه فيما وجد بخط ابن بطة : رجل تيمم في السفر ، وصلى على جنازة ، ثم جيء بأخرى فصلى عليها بذلك التيمم ؟ فقال : إن جيء بالأخرى حين سلم من الأولى صلى عليها بذلك التيمم ، وإن كان بينها مقدار ما يمكنه التيمم لم يصل على الأخرى حتى يعيد التيمم . قال القاضي : وهذا يحتمل وجهين ( أحدهما ) أن وقت الأولى إلى تمام فعلها ، فإذا جاء بعد ذلك فقد خرج الوقت ، ( والثاني ) [ أن الثانية ] إذا جاءت عقب الأولى لحقت المسبقة في التيمم ، لتفاوت الزمن ، بخلاف ما إذا تراخت . قلت : وهذا من القاضي يقتضي أن وقت صلاة الجنازة يخرج بفعلها ، وقوة كلام الإِمام يقتضي أنه لا يصلي بتيمم واحد نافلتين ، لأنه أطلق ، مع أن من الجائز أن صلاة الجنازة نافلة في حقه اه . وعلى المذهب : يصلي الصلاة التي تيمم لها ، وما عليه من منذورة وفائتة ، ويجمع بين الصلاتين ، ويتطوع ، ويصلي على الجنازة ، إلى أن يدخل وقت التي تليها فيبطل ، وهل يبطل الفجر بخروج وقتها ، أو بدخول [ وقت ] التي تليها ؟ فيه وجهان ، ظاهر كلام الخرقي الثاني ، وقال أبو محمد في المغني : [ إن ] المذهب الأول ، وحمل كلام الخرقي عليه ، وظاهر كلامه نفي الخلاف ، ولو كان تيمم في غير وقت صلاة ، كالمتيمم بعد طلوع الشمس يبطل بزوال الشمس ، ولو نوى الجمع بين الصلاتين في وقت الثانية من يباح له ، فتيمم في وقت الأولى لها ، أو لفائتة ، لم يبطل تيممه بدخول وقت الثانية ، لأن الوقتين قد صارا للصلاتين وقتاً واحداً .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : ظاهر كلام الأصحاب أن التيمم يبطل بخروج الوقت ، ولو كان في صلاة ، وصرح به في المغني ، وعن ابن عقيل : لا يبطل وإن كان الوقت شرطاً ، كما قلنا في الجمعة ، وخرجه السامري على روايتي وجود الماء في الصلاة ( الثاني ) : إذا خرج الوقت ولم يصل الحاضرة التي تيمم لها ، فعند أبي البركات : له قضاؤها ، وقضاء النوافل ، والفوائت ، ومس المصحف ، والطواف ، لاستباحة ذلك ، وعند الأصحاب ليس له ذلك ، وكذا لو تيمم لنافلة قبل الزوال ، جاز فعلها [ عنده دونهم ، وعكس هذا لو تيمم لحاضرة ، ثم نذر صلاة ، لم يجز عنده فعلها ] [ بذلك ] ، لعدم سبق وجوبها ، وظاهر قول الأصحاب الجواز ، وملخص الأمر أن الأصحاب أناطوا الحكم بالوقت ، وأبا البركات بما استباحه .
ومما خالف فيه الأصحاب أيضاً 19 ( تيمم الجنب لقراءة ، أو لبث في مسجد ، أو الحائض لوطء ، أو استباحوا ذلك بالتيمم لصلاة ، لم يبطل تيممهم بدخول وقت الصلاة عنده ، وعندهم يبطل ، وأبطله أبو البركات بأن وقت الصلاة لا تعلق له بذلك والله أعلم .
قال : وإذا خاف العطش حبس الماء وتيمم وصلى ، )9 ( ولا إعادة عليه .
257 ش : لما روي عن علي رضي الله عنه في الرجل يكون في السفر ، فتصيبه الجنابة ، ومعه الماء القليل ، يخاف أن يعطش ، قال : يتيمم ولا يغتسل . رواه الدارقطني ، وروى البيهقي أيضاً عنه نحوه .
258 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا كنت مسافراً وأنت جنب أو محدث ، فخفت إن توضأت تموت من العطش ، فلا تتوضأ ، واحبس لنفسك . رواه البيهقي في سننه وقال أحمد : عدة من أصحاب رسول الله كانوا يتيممون ويحبسون الماء لشفاههم ولأنه يخشى الضرر على النفس ، فأشبه المريض بل أولى ، وحكم خشية العطش على رفيقه أو بهيمة محترمة له أو لرفيقه ، حتى كلب صيد لا خنزير ونحوه حكم خشية العطش على نفسه .
( تنبيه ) : هل دفع الماء إلى عطشان يخشى تلفه واجب أو مستحب ؟ على وجهين ، هذا نقل أبي محمد ، وصاحب التلخيص ، وفي الغاية وهو أصوب هل حبس الماء لعطش الغير المتوقع واجب أو مستحب ؟ على وجهين ، ويقرب من النقل الأول : إذا مات من له ماء ، ورفقته عطاش ، فهل ييمموه ويغرموا الثمن للورثة ، أو يكون الميت أولى به ؟ قال أبو بكر في التنبيه : على قولين ، أظهرهما الأول ، والله أعلم .
قال : وإذا نسي الجنابة ، وتيمم للحدث لم يجزئه .
ش : وكذلك بالعكس ، لقول النبي : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى ) وكطهارة الماء بل أولى ، لأن ثم رافع ، وهذا مبيح على الأشهر ، ومفهوم كلامه أنه لو نواهما أجزأه ، وهو كذلك لما تقدم ، وإذا أحدث إذاً بطل تيممه عن الحدث دون الجنابة ، والله أعلم .
قال : وإذا وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة خرج فتوضأ ، أو اغتسل إن كان جنباً ، واستقبل الصلاة .
ش : إذا وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة فإنه يلزمه الخروج منها ، على المشهور المعمول عليه في المذهب ، لقوله لأبي ذر : ( إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وفي رواية طهور المسلم عشر سنين ، ما لم يجد الماء ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ) فجعل طهوريته مقيدة بعدم وجدان الماء ، فإذا وجد الماء فليس بوضوء ولا طهور ، ولذلك أوجب عليه استعمال الماء إذا قدر [ عليه ] ، ولأن تيممه قد بطل ، بدليل أنه لم يفرغ من الصلاة حتى عدم الماء لم يجز له التنفل حتى يجدد التيمم ، صرح به ابن عقيل وغيره ، وكذا لو كان في نافلة ، ولم ينو عدداً ، لم يزد على ركعتين ، بل ولا على ركعة إن صح التطوع بها ، ) 19 ( وأبو محمد يختار عدم البطلان إن لم يقل ببطلان الصلاة برؤية الماء ، وإذاً له التنفل بعد ، إن عدم الماء قبل كمال الصلاة ، ولأنه معنى يبطل به التيمم خارج الصلاة ، وكذلك فيها ، كانقطاع دم الاستحاضة .
وعن أحمد [ رحمه الله ] رواية أخرى نص عليها في رواية الميموني وغيره : أنه يمضي فيها ، حذارا من بطلان العمل المنهي عن إبطاله ، واستدل بعضهم بعموم ( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) وليس بشيء ، لأن معنى الحديث إذا خيل إليه بشيء فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً ، أو يجد ريحاً ، فليس في الحديث تعرض لغير التخييل ، وقد رجع أحمد عن هذه الرواية في رواية المروذي ، فقال : كنت أقول : يمضي في صلاته ، ثم تدبرت ، فإذا أكثر الأحاديث على أنه يخرج ويتوضأ . ومن ثم أسقطها ابن أبي [ موسى ] وطائفة من الأصحاب ، ولم يعتبر ذلك ابن حامد ، وطائفة معه ، بل أثبتوها رواية ، وكذلك القولان في كل رواية علم رجوع الإِمام عنها . اه ( فعلى رواية الميموني ) : هل الخروج أفضل ، للخروج من الخلاف وهو رأى أبي جعفر أو يمتنع الخروج وهو ظاهر كلام الإِمام لقوله سبحانه : 19 ( { ولا تبطلوا أعمالكم } ؟ ) على قولين : ( وعلى المذهب ) يخرج ويتطهر ، ويستأنف الصلاة كما قال الخرقي ، ونص عليه أحمد ، وخرج القاضي وطائفة من الأصحاب منهم المجد في المحرر البناء من رواية البناء في من سبقه الحدث ، وأبى ذلك أبو محمد ، وأبو البركات في الشرح ، [ مفرقين ] بأن بوجود الماء ظهر حكم الحدث السابق على الصلاة ، قبل كمال المقصود بالتيمم ، فصار كافتتاح الصلاة مع الحدث ، بخلاف من سبقه الحدث في الصلاة ، فإنه لم يتقدم ذلك حدث .
وقول الخرقي : وهو في الصلاة . يحترز به عما إذا وجد الماء بعد الصلاة ، فإن صلاته ماضية ، وإن أصابه في الوقت ، وقد نص على ذلك فيما تقدم ، نعم : هل تستحب له الإِعادة والحال هذه ؟ فيه وجهان ، وفيه تنبيه على ما إذا وجده قبل الدخول في الصلاة ، فإن تيممه يبطل بلا ريب ، لحديث أبي ذر المتقدم ، حتى لو وجده ثم عمد من ساعته ، فإنه يلزمه استئناف التيمم .
وقول الخرقي : إذا وجد الماء . ظاهره أنه لا بد من وجود حقيقة الماء ، وهو كذلك ، فلو وجد ركباً [ وغلب على ظنه وجود الماء فيه لم يبطل تيممه ، نعم إن تيقن وجود الماء فيه بطل ، وهذا بخلاف ما لو كان خارج الصلاة ، فإنه إذا وجد ركباً ] أو نحوه مما يظن معه وجود الماء ، فإن تيممه [ يبطل على الصحيح ] . ) 19 (
وهذا كله إذا كان تيممه لعدم الماء ، وهو آمن العطش ، أما إن كان لمرض ونحوه ، أو كان عطشاناً ، فإن تيممه ] لا يبطل بوجوده ولو داخل الصلاة ، والله أعلم .
قال : وإذا شد الكسير الجبائر ، وكان طاهراً ، ولم يعد بها موضع الكسر ، مسح عليها كلما أحدث ، إلى أن يحلها .
ش : جواز المسح على الجبيرة إجماع في الجملة ، وقد دل عليه حديث صاحب الشجة .
259 وروى البيهقي في سننه ، وأحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم ، بإسناديهما عن ابن عمر ، أنه كان يقول : من كان به جرح معصوب عليه ، توضأ ومسح على العصابة ، ويغسل ما حول العصابة ، وإن لم يكن عليه عصابة مسح ما حوله .
260 وقد روي المسح على الجبائر عن علي ، وابن عمر عن النبي ، لكن بأسانيد ضعاف .
261 ومن ثم قال الشافعي رحمه الله : روي حديث عن علي أنه انكسر إحدى زندي يديه ، فأمره النبي أن يمسح على الجبائر ولو عرفت إسناده بالصحة قلت به . اه .
وظاهر كلام الخرقي وجوب المسح عليها ، وهو كذلك ، [ لما تقدم ، وظاهره أيضاً أنه لا إعادة عليه مع المسح ، وهو كذلك ] لظاهر ما تقدم ، ولأنها طهارة عذر ، فأسقطت الفرض ، كطهارة المستحاضة والتيمم ، وقد حكى ابن أبي موسى ، وابن عبدوس ، وغيرهما رواية بوجوب الإِعادة ، لكنهم بنوها على ما إذا لم يتطهر لها ، وقلنا بالاشتراط ، والذي يظهر لي عند التحقيق أن هذا ليس بخلاف كما سيأتي .
وظاهر كلامه [ أيضاً ] الاجتزاء بالمسح ، وهو المشهور المقطوع به من الروايتين ، لظاهر ما تقدم عن ابن عمر ، ولأنه مسح على حائل ، فأجزأ من غير تيمم ، كمسح الخف بل أولى ، إذ صاحب الضرورة أحق بالتخفيف ، ( والثانية ) : لا بد من التيمم مع المسح ، لظاهر حديث صاحب الشجة ، وقد تقدم تضعيفه ، مع أنه يحتمل أن الواو فيه بمعنى ( أو ) أي : إنما يكفيه أن يتيمم ، أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها . ويحتمل أن [ التيمم في ] الحديث لشد العصابة على طهارة ، واقتصر الشارع على ذكر التيمم ، نظر لحال الشاج ، لكن يلزم من هذا الاكتفاء بطهارة التيمم في شد الجبيرة ونحوها ، والأصحاب على عدم الاكتفاء بذلك ، بناء منهم على أن التيمم لا يرفع الحدث ، فعلى هذه [ الرواية ] لا يمسح الجبيرة بالتراب ، فلو استوعبت محل التيمم سقط . اه .
واشترط الخرقي رحمه الله لجواز المسح على الجبيرة شرطين ( أحدهما ) : أن يشدها وهو طاهر ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار القاضي في روايتيه ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، ) 19 ( وابن عبدوس ، وابن البنا ، لأنه مسح على حائل ، فاشترط له تقدم الطهارة كالخف ، ودليل الأصل الإِجماع والنص كما سيأتي ، ( والثانية ) : لا تعتبر الطهارة لها قبل الشد بحال ، اختارها الخلال وصاحبه ، وابن عقيل في التذكرة ، وصاحب التلخيص فيه ، وإليها ميل الشيخين لما تقدم عن ابن عمر وبه احتج أحمد ، ولأن الجبيرة بمنزلة العضو ، بدليل دخولها في الطهارتين ، وعدم توقيتها ، فهو كجلدة انكشطت ، والتحمت على حدث ، وتفارق الخف ، إذ الكسر يقع بغتة ، ويبادر إلى إصلاحه في الحال عادة ، فلو اشترطت الطهارة والحال هذه لأفضى إلى حرج ومشقة ، وهما منفيان شرعاً ( فعلى الأولى ) حكمها حكم الخف في الطهارة ، فلو غسل موضعها ، ثم شدها ، ثم كمل طهارته ، لم يجز له المسح ، على المذهب من اشتراط كمال الطهارة ، ولو شد على غير طهارة خلع ما لم يضر به ، ومع خوف الضرر يتيمم لها كالجرح ، وقيل : ويمسحها أيضاً ليخرج من الخلاف ، فإن ترك الخلع مع أمن الضرر ، أو التيمم مع الضرر أعاد ، وعلى هذا يحمل ما حكاه ابن أبي موسى وغيره من الإِعادة إذا اشترطنا الطهارة .
( الشرط الثاني ) : أن يعدو بها موضع الكسر ، أي لا يتجاوز بها [ موضع ] ذلك ، ومراده والله أعلم تجاوزا لم تجر العادة به ، فإن الجبيرة إنما توضع على طرفي الصحيح ، لينجبر الكسر ، وفي معنى ذلك ما جرت العادة به من التجاوز لجرح ، أو ورم ، أو رجاء برء ، أو سرعته ، وإذا لم يجد إلا عظماً كبيراً ، أو لم يجد ما يصغره به ، ونحو ذلك ، أما إن تجاوز من غير حاجة ولا ضرورة ، فهذا الذي يحمل عليه كلام الخرقي ، ومقتضى كلامه أنه لا يجوز له المسح والحال هذه ، وهو كذلك في الجملة ، وبيانه بأنه إن لم يخف الضرر إذاً لزمه النزع ، وإلا يكون تاركاً لغسل ما أمر بغسله من غير ضرر ، وفي كلام أبي محمد عن الخلال ما يقتضي عدم اللزوم وليس بشيء ، وإن خاف التلف بالنزع سقط عنه بلا ريب ، وكذلك إن خاف الضرر على المذهب ، وخرج من قول أبي بكر فيمن جبر كسره بعظم نجس عدم السقوط .
وحيث سقط النزع مسح قدر الحاجة ، وتيمم للزائد ، ولم يجزئه مسحه على المشهور من الوجهين ، اختاره القاضي وابن عقيل ، وأبو محمد وغيرهم ، لعدم الحاجة إلى الزائد ( والوجه الثاني ) : يجزئه المسح على الزائد ، اختاره الخلال وأبو البركات ، لأنه قد صارت ضرورة إلى المسح عليه ، أشبه موضع الكسر ، ولأن المجاوزة إنما تقع غالباً لسهو أو غفلة ، أو دهشة فمنع الرخصة مع ذلك ، ومع الخوف من النزع فيه حرج ومشقة ، وتعمد ذلك نادر ، ) 19 ( فلا يفرد بحكم ، ( وفي المذهب قول ثالث ) : يجمع في الزائد بين المسح والتيمم .
وقول الخرقي : شد الكسير الجبائر . ذكره على سبيل المثال ، إذ لا فرق بين الكسر والجرح في موضع الجبيرة ، نص عليه أحمد ، وقصة صاحب الشجة كانت في الجرح ، وفي معنى ذلك لو وضع على جرحه دواء وخاف من نزعه ، فإنه يمسح عليه ، وكذا لو ألقم إصبعه مرارة .
262 كما روى [ الأثرم و ] البيهقي بإسناديهما عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة ، فألقمها مرارة ، وكان يتوضأ عليها ، أما لو كان برجله شق ، فجعل فيه قاراً ، وتضرر بنزعه ، ( فعنه ) واختاره أبو بكر : لا يجزئه المسح ، ولأنه في معنى الكي المنهي عنه ، لأنه لا يستعمل إلا مغلياً بالنار ، ( وعنه ) واختاره أبو البركات ؛ يجزئه ، كالمرارة ونحوها ، والكي المنهي عنه يحمل على ما فيه خطر ، أو لم يغلب على الظن نفعه .
263 لأنه [ قد ] صح عنه أنه كوى أبي بن كعب ، وسعد ابن معاذ رضي الله عنهما .
وكلام الخرقي يشمل المسافر وإن كان عاصياً ، وهو كذلك ، بخلاف ماسح الخف إذا كان عاصياً بسفره ، فإنه يمتنع من المسح في وجه ، وفي المشهور : يلغى حكم السفر ، ويمسح مسح مقيم ( ويشمل ) الحدثين المسح ، لأن مسحها للضرورة ، والضرورة توجد معها ، بخلاف الخف ، ( ويشعر ) بأن مسحها لا يتأقت بمدة ، وهو كذلك ، لأنه مسح للضرورة ، فيبقى ببقائها ، بخلاف الخف ، إذ مسحه رخصة ، وعن ابن حامد : أنها تتوقت كالخف ، ( وبأنه ) لا يشترط سترها لمحل الفرض ، وهو كذلك ، إذا لم تكن حاجة ، لما تقدم ، بخلاف الخف ، ( وبأن ) شدها مختص بحال الضرورة ، وهو كذلك ، بخلاف الخف .
وإذا انتهينا إلى ذلك فقد عرفت أنها تفارق الخف فيما تقدم ، وتفارقه أيضاً في أنها تستوعب بالمسح كالتيمم ، بخلاف الخف ، إذ استيعابه يوهنه ، ويضعفه ، ويتلفه ، فلذلك اجتزىء ببعضه ، ( وأنها ) تجوز من خرق ونحوها ، بخلاف الخف ( وأنها ) لو كانت من حرير ونحوه صح المسح عليها ، على رواية صحة الصلاة في ذلك ، بخلاف [ الخف ] على المحقق ، ( وأنها ) لا تشترط لها الطهارة رأساً في رواية ، بخلاف الخف ( وأنه ) لو لبس الخف على طهارة مسح فيها عليها جاز له أن يمسح عليه ، ولو لبسه على طهارة مسح فيها على عمامة ( أو عمامة ) على طهارة مسح فيها على الخف ، لم يجز المسح على وجه ( فهذه عشرة ) أشياء ، ومرجعها أو معظمها على أن مسح الجبيرة عزيمة ، ومسح الخف ونحوه رخصة ، والله سبحانه أعلم .
قال :
باب المسح على الخفين
ش : جواز المسح على الخفين في الجملة ثابت بالسنة الصريحة الصحيحة .
264 فعن جرير : رأيت رسول الله بال ثم توضأ ، ومسح على خفيه . قال إبراهيم النخعي : وكان يعجبهم هذا ، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة . متفق عليه ، وفي رواية النسائي : وكان أصحاب عبد الله يعجبهم قول جرير ، وكان إسلام جرير قبل موت النبي بيسير . ولأحمد عن جرير : ما أسلمت إلا بعد أن أنزلت المائدة ، وأنا رأيت رسول الله يمسح بعد ما أسلمت .
265 وعن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ، ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، ويوماً وليلة للمقيم . رواه أحمد وقال : هذا من أجود حديث في المسح ، لأنه في غزوة تبوك ، وهي آخر غزوة غزاها النبي ، وهو آخر فعله . وقال في رواية الميموني : سبعة وثلاثون نفساً يروون المسح عن النبي . وقال في رواية أخرى : ليس في قلبي من المسح شيء ، فيه أربعون حديثاً عن أصحاب رسول الله ، وما رفعوا إلى النبي ، وما وقفوا .
266 وروى ابن المنذر عن الحسن البصري أنه قال : حدثني سبعون من أصحاب النبي أنه مسح على الخفين .
267 وقال ابن المبارك : ليس في المسح على الخفين عندنا خلاف أنه جائز ، وإن الرجل ليسألني عن المسح ، فأرتاب به أن يكون صاحب هوى .
وقد استنبط ذلك بعض العلماء من الكتاب العزيز ، من قوله تعالى : 19 ( { وأرجلكم إلى الكعبين } ) على قراءة الجر ، وحمل قراءة النصب على الغسل ، حذاراً من أن تخلو إحدى القراءتين من فائدة .
268 ويرشح ذلك ما روى عن المغيرة بن شعبة قال : كنت مع النبي في سفر ، فقضى حاجته ثم توضأ ، ومسح على خفيه ، قلت : يا رسول الله أنسيت ؟ قال : ( بل أنت نسيت ، بهذا أمرني ربي ) رواه أحمد ، وأبو داود .
ولقد بالغ إمامنا رحمه الله في اتباع السنة كما هو دأبه ، فجعل المسح أفضل من الغسل في رواية ، وإليها ميل الشيخين ، أخذا بالرخصة ، ومخالفة لأهل البدع المانعين من ذلك ، وسوى بينهما في أخرى ، لورود الشريعة بهما والله أعلم .
قال : ومن لبس خفيه وهو كامل الطهارة ، ثم أحدث مسح عليهما .
ش : يشترط لجواز المسح على الخفين أن يلبسهما بعد كمال الطهارة ، على المشهور ، المعمول عليه من الروايتين .
269 لما روى صفوان بن عسال قال : أمرنا رسول الله أن نمسح على الخفين ، إذا نحن أدخلناهما على طهر ، ثلاثاً إذا سافرنا ، ويوماً وليلة إذا أقمنا ، ولا نخلعهما من غائط ، ولا بول ، ولا نوم ، ولا نخلعهما إلا من جنابة . رواه أحمد والدارقطني ، وابن خزيمة والطهر المطلق ينصرف إلى الكامل .
270 وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، عن النبي ، أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم يوماً وليلة ، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما . رواه الدارقطني ، وابن خزيمة ، والطبراني والأثرم ، وصحح الخطابي إسناديهما ، ولأن ما اشترطت له الطهارة اشترط له كمالها ، كمس المصحف . ( والثانية ) : لا يشترط كمال الطهارة ، فلو غسل رجلًا وأدخلها الخف ، ثم الأخرى وأدخلها الخف [ الآخر ] أو غسل رجليه وأدخلهما الخف ، ثم تمم طهارته وصح ذلك ، بأن يشترط الترتيب ، جاز له المسح مع الكراهة .
271 لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : كنت مع النبي في سفر ، فأهويت لأنزع خفيه ، فقال : ( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ) فمسح عليهما مختصر متفق عليه ، ولأبي داود ( دع الخفين ، فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان ) .
272 وعنه أيضاً قال : قلنا : يا رسول الله : أيمسح أحدنا على الخفين ؟ قال : ( نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان ) رواه الدارقطني ، والحميدي في مسنده [ وقد وجد طهارتهما والحال هذه ] وكونهما طاهرتين أعم من أن يوجد ذلك معاً ، أو واحدة بعد الأخرى ، وحمل ذلك على طهارتهما بطهر كامل ، توفيقاً بين الأحاديث ، على أنا نمنع الطهاة قبل كمالها حكماً ، بدليل المنع من مس المصحف .
وقد تضمن دليل الروايتين اشتراط تقدم الطهارة ، وهو المعروف بلا ريب ، وحكى الشيرازي رواية بعدم الاشتراط رأساً ، فلو لبس محدثاً ، ثم توضأ وغسل رجليه جاز له المسح ، وهو غريب بعيد .
وقد يحترز الخرقي بكمال الطهارة أيضاً عما إذا لبس على طهارة تيمم ، فإنه لا يجوز له المسح ، لعدم كمال الطهارة ، إذ التيمم لا يرفع الحدث على المذهب ، ويتخرج الجواز بناء على أنه رافع ، وقد أشار إليه أحمد [ قال ] أبو العباس ، وهذا في من تيممه لعدم الماء ، أما من تيممه لمرض كالجريح ونحوه فينبغي أن يكون كالمستحاضة ، قال : وتعليل أصحابنا يقتضيه . اه ؛ .
ومما يلحظ فيه البناء على رفع الحدث وعدمه إذا لبس خفا على طهارة مسح فيها على عمامة ، أو عمامة على طهارة مسح فيها على خف ، أو ماسح أحدهما إذا شد جبيرة وشرطنا لها الطهارة ، فإن في جواز المسح في جميع ذلك وجهان ، أصحهما عند أبي البركات الجواز ، جريا على قاعدته ، من أن المسح يرفع الحدث ، أما المستحاضة ومن به سلس البول ، ونحوهما فلهم المسح ، نص عليه أحمد ، لأن طهارتهم كاملة في حقهم ، ثمّ هل حكمهم حكم الصحيح في التوقيت ، وهو منصوص الإِمام ، وظاهر كلام ابن أبي موسى وغيره يتوقت المسح في حقهم ، أو بوقت بكل صلاة ، وهو قول القاضي في الجامع ؟ فيه قولان .
وقول الخرقي : ثم أحدث . يريد الحدث الأصغر ، إذ جواز المسح مختص به ، بدليل حديث صفوان المتقدم ، والله أعلم .
قال : يوماً وليلة للمقيم ، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر .
ش : لما ذكر [ رحمه الله ] جواز مسح الخف بشرطه ، بين أن ذلك موقت بيوم وليلة للمقيم ، وبثلاثة للمسافر ، لما تقدم من حديث عوف بن مالك ، وقد جوده أحمد ، وصفوان .
273 وعن شريح بن هانىء : سألت عائشة رضي الله عنها عن المسح على الخفين ، فقالت : سل علياً فإنه أعلم بهذا مني ، وكان يسافر مع رسول الله . فسألته فقال : قال رسول الله : ( للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم يوما وليلة ) رواه مسلم والنسائي وأحمد .
274 وعن خزيمة بن ثابت عن النبي أنه سئل عن المسح على الخفين فقال : ( للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم يوم وليلة ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وقال مثنى : سئل أحمد عن أجود الأحاديث في المسح فقال : حديث شريح ابن هانىء ، وخزيمة بن ثابت ، وعوف بن مالك ؛ وقال في رواية الأثرم : هو صحيح مرفوع ؟ قال : نعم . وقول الخرقي : للمسافر . أي المسافر سفرا يبيح القصر لأنه الذي تتعلق [ به ] الرخص ، أما المسافر في معصية فكالمقيم ، يمسح يوما وليلة ، على أصح الوجهين ، إلغاء للسفر ، وقيل : لا يمسح أصلًا عقوبة له . والله أعلم .
قال : فإن خلع قبل ذلك أعاد الوضوء .
ش : يعني قبل اليوم والليلة ، بعد ( المسح ) ، أو قبل الثلاثة أيام ، وهذا أشهر الروايتين ، وعليها العمل ، ( والثانية ) : يجزئه غسل قدميه .
275 وقد روى ( ذلك ) البيهقي في سننه عن أبي بكرة ، ورجل من أصحاب النبي ، وقد تأول الخلال هذه الرواية ، وخالفه العامة ، وبنوها على أن الطهارة تتبعض ، وأنه يجوز تفريقها كالغسل ، وإذاً إما [ أن ] نقول : الحدث لم يرتفع عن الرجلين ، فيغسلان بحكم الحدث السابق ، أو نقول : ارتفع وعاد إليهما فقط ، أما المذهب فهو مبني عند ابن الزاغوني ، وأبي محمد على المذهب في اشتراط الموالاة ، وبنيا عليه أن الخلع إذا كان عقب المسح كفاه غسل رجليه ، وارتفع الخلاف ، وهو مفرع على أن طهارة المسح لا ترفع الحدث ، وإنما تبيح الصلاة كالتيمم ، فإذا ظهرت الرجلان ظهر حكم الحدث السابق ، وقد وقع ذلك أيضاً للقاضي في التعليق ، في توقيت المسح ، مصرحاً بأن طهارة المسح ترفع الحدث إلا عن الرجلين ، وبناه أبو البركات على شيئين ( أحدهما ) : أن المسح يرفع حدث الرجلين رفعاً مؤقتاً ، وقد نص أحمد على ذلك في رواية أبي داود ، وقاله القاضي في التعليق في هذه المسألة ، وصاحب التلخيص فيه ، ( والثاني ) : أن الحدث لا يتبعض ، وقد صرح بذلك القاضي أيضاً وعيره ، وإذاً إذا خلع عاد الحدث إلى الرجلين ، فيسري إلى بقية الأعضاء ، وعلى هذا يستأنف وإن قرب الزمن ، كما هو ظاهر كلام أحمد ، لإِطلاقه القول بالاستئناف ، بل قيل : إنه منصوصه ، وقد قال القاضي : لو سلمنا أن المسح لا يرفع الحدث عن الرجلين لا يضر ، لأن نزعهما أبطل حكم المسح في الرجلين ، وأوجب غسلهما ، فيجب بطلانها في جميع الأعضاء ، لأنها لا تتبعض ، وحاصل هذا البناء على شيء واحد اه وهكذا الخلاف في انقضاء المدة وهو على طهارة .
وقوله : خلع . يشمل الخفين أو أحدهما ، وهو كذلك ، ويخرج منه ما إذا انكشطت ظهارة الخف ، وبقيت بطانته ، فإنه ليس كالخلع على المذهب ، وقيل : بلى . وحكم ظهور بعض القدم حكم ظهور جميعه ، أما إن خرج القدم إلى الساق فعنه وهو المشهور أنه كالخلع ، وعنه ويحتمله كلام الخرقي لترتيبه الحكم على الخلع : لا أثر لذلك ، ( فعلى الأول ) وهو المذهب إن خرج بعض القدم إلى الساق فروايتان ، أصحهما أنه كما لو خرج القدم جميعه ، هذا نقل القاضي في التعليق ، وأبي الخطاب ، تبعاً لأبي حفص البرمكي ، وقال أبو البركات : إن خرج البعض إلى الساق ، خروجاً لا يمكن المشي معه ، فكالخلع ، نص عليه ، وعنه : إن جاوز العقب حد موضع الغسل فكالخلع ، وما دونه لا يؤثر .
( تنبيه ) : إذا حدث ما تقدم من الخلع أو انقضاء مدة المسح وهو في الصلاة فظاهر كلام الخرقي وكثير من الأصحاب أنه كما لو كان خارجها ، نظراً لإِطلاقهم ، وبناه ابن عقيل على وجود المتيممِ الماءَ وهو في الصلاة ، وكأنه لحظ أن المسح لا يرفع الحدث ، والسامري على من سبقه الحدث وهو في الصلاة ، وهو أقعد على المنصوص من أن المسح يرفع الحدث . والله أعلم .
قال : ولو أحدث وهو مقيم ، فلم يمسح حتى سافر ، أتم على مسح مسافر ، منذ كان الحدث .
ش : أما كونه يمسح [ مسح ] مسافر والحال ما تقدم فلظاهر قوله : ( يمسح المسافر ) وهذا مسافر فدخل في ذلك ، ولأنه لم يمسح في الحضر ، فأشبه من لبس فيه ولم يحدث .
وأما كون ابتداء مدة المسح من حين الحدث فلأن قول صفوان [ رضي الله عنه ] ، أمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثاً ، من بول ، وغائط ، ونوم . مقتضاه أنها تنزع لثلاث يمضين من ذلك ، وفيه بحث ، إذ قد يقال : إن ( من ) للسببية ، أي ننزع بعد الثلاث ، بسبب حدث وجد قبل ذلك ، ولأن المسح عبادة مؤقتة ، فاعتبر وقتها بجواز فعلها ، لا بفعلها كالصلاة ، ( وهذا ) أشهر الروايتين ، واختيار الأصحاب .
( والثانية ) : ابتداء المدة من المسح بعد الحدث ، لظاهر قوله : ( يمسح المسافر ثلاثاً ) ولو كان أوله الحدث لم يتصور ذلك ، إذا الحدث لا بد أن يسبق المسح ، وهو محمول على وقت جواز المسح ، والله أعلم .
قال : ولو أحدث مقيماً ، ثم مسح مقيماً ثم سافر ، أتم على مسح مقيم [ ثم خلع ] .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار ابن أبي موسى ، وأبي محمد ، والقاضي ، وجمهور أصحابه ، منهم أبو الخطاب في خلافه الصغير ، إذ المسح عبادة وجد أحد طرفيها في الحضر ، والآخر في السفر ، فغلب جانب الحضر كالصلاة ، ( والثانية ) : يتم مسح مسافر . اختارها الخلال وصاحبه ، وأبو الخطاب في الانتصار ، لظاهر قوله : ( يمسح المسافر ) وهذا مسافر ، وكما لو أحدث وهو مقيم ، فلم يمسح حتى سافر ، ولقد غالى الخلال حيث جعل المسألة رواية واحدة ، فقال : نقل عنه أحد عشر نفساً أنه يتم مسح مسافر ، ورجع عن قوله : يتم مسح مقيم .
وظاهر كلام الخرقي والأصحاب أنه لا فرق بين أن يصلي في الحضر أو لا يصلي ، وقال أبو بكر : يتوجه أن يقال : إن صلى بطهارة المسح في الحضر غلب جانبه ، رواية واحدة . والله أعلم .
قال : وإذا مسح مسافراً أقل من يوم وليلة ، ثم أقام ، أو قدم ، أتم على مسح مقيم وخلع .
ش : لا خلاف في هذا نعلمه ، لما تقدم من تغليب جانب الحضر ، والله أعلم .
قال : [ وإذا مسح مسافر يوماً وليلة فصاعداً ثم أقام أو قدم خلع ] .
ش : هذا المعروف في المذهب ، حتى قال ابن تميم : رواية واحدة . لما تقدم من تغليب جانب الحضر ، وقد تنقضي المدة فيلزمه الخلع ، وشذ الشيرازي فقال : إذا مسح أكثر من يوم وليلة ، ثم أقام أو قدم أتم على مسح مسافر . والله أعلم .
قال : ولا يمسح إلا على خفين ، أو ما يقوم مقامهما ، من مقطوع ، أو ما أشبه مما يجاوز الكعبين .
ش : يمسح على الخفين لورود السنة بذلك كما تقدم ، وعلى ما يقوم مقام الخفين مما يستر محل الفرض ، ويثبت بنفسه ، إذ ما يقوم مقام الشيء يعطى حكمه ، وذلك كالخف المقطوع الساق ، وما أشبه المقطوع . كالخف القصير الساق ، ولعله يريد الجرموق .
276 وقد روى بلال رضي الله عنه أن النبي كان يتوضأ ويمسح على عمامته وموقيه ، رواه أحمد ، وأبو داود ، والموق هو الجرموق ، فارسي معرب ، قاله الجوهري ، وهو خف واسع يلبس فوق الخف في البلاد الباردة ، ولا يمسح على ما عدا ذلك ، إذ الأصل [ الغسل ] ، خرج من ذلك ما وردت فيه السنة وما في معناه .
واعلم أنه يشترط لجواز المسح على الخف وما ألحق به كما اقتضاه كلام الخرقي من حوائل الرجل شروط ( أحدها ) : كونه ساتراً لمحل الفرض ، وإلا فحكم ما ظهر الغسل ، وحكم ما استتر المسح ، وإذاً يغلب الغسل ، لأنه الأصل ، وسواء كان ظهور محل الفرض لقصر ذلك ، أو لسعته ، أو خفته ، أو صفائه ، كالزجاج الرقيق ونحوه ، أو خرق فيه وإن صغر ، ومال أبو البركات إلى العفو عن خرق لا يمنع متابعة المشي ، نظراً إلى ظاهر خفاف أصحاب رسول الله .
277 وقال قال عبد الرزاق : سمعت الثوري يقول : يمسح على الخف ما تعلق بالقدم وإن تخرق ؛ قال : وكذلك كانت خفاف المهاجرين والأنصار ، مخرقة مشققة .
وبالغ أبو العباس فقال في قواعده بالجواز على المخرق ، ما لم يظهر منه أكثر القدم ، فإن ظهر أكثر القدم فهو عنده كالنعل ، أو الزربول الذي لا يستر القدم مما في نزعه مشقة ، بأن لا يخلع بمجرد خلع الرجل [ بل ] إنما يخلع بالرجل الأخرى ، أو باليد ، والذي يميل إليه في جميع ذلك أنه يغسل ما ظهر من القدم ، ويمسح النعل ، أو يمسح الجميع ، وكلامه في ذلك فيه اضطراب ، ثم ظاهر كلامه أن المسح والحال هذه لا يكون بدلًا ، بل أصلًا مكملًا بغيره فلا يتوقف ، ومعتمده في ذلك على أحاديث وآثار .
278 ( منها ) : ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : يا ابن عباس ألا أتوضأ لك كما رأيت رسول الله يتوضأ ؟ قلت : بلى . وفيه : فأخذ حفنة من ماء فضرب بها رجله ، وفيها النعل ، فغسلها به ، ثم الأخرى مثل ذلك . رواه أحمد وأبو داود ، والترمذي .
279 ( ومنها ) : ما روي عن ابن عباس أيضاً قال : توضأ رسول الله فأخذ ملء كفه ماء ، فرش به على قدميه وهو منتعل .
280 ( وعن ابن عمر ) أنه كان إذا توضأ ونعلاه في قدميه مسح ظهور قدميه بيديه ، ويقول : كان رسول الله يصنع هكذا وغير ذلك من أحاديث وآثار .
وغيره من العلماء أشار إلى ضعف ما ورد من ذلك ، إذ أعلاها الحديث المصدر به ، وقد سئل عنه البخاري فضعفه ، وقال : ما أدري ما هذا . وكذلك البيهقي ضعف جملة من ذلك ، ثم الحديث الأول لا حجة فيه ، إذ فيه أنه غسلها في النعل ، [ والنعل لا يمنع الغسل ] ، وعلى ذلك حمل البيهقي ما ورد من ذلك ، والطحاوي حملها على أنها كانت تحتها جوربان ، أو على أنه في الوقت الذي كان يجوز فيه المسح على القدمين ، وأن ذلك كان هو الفرض ، والمسح على النعلين فضلًا ، وادعى الإِجماع على عدم جواز [ مسح ] ما تقدم ، وأبو العباس يضعف هذه الأجوبة ويقول : إن هذا رد للآثار بإجماع لا نعلم حقيقته أه .
( الثاني ) : [ من الشروط ] ثبوته بنفسه ، إذ الرخصة وردت في الخف المعتاد ، وهو ثابت بنفسه ، وما لا يثبت بنفسه ليس في معناه ، فلا يلحق به ، وإذاً لا يجوز المسح على ما يسقط من الرجل ، أولًا يثبت إلا بالشد ، وفي معنى ذلك اللفافة على المنصوص ، والمجزوم به عند الأصحاب ، وحكى ابن عبدوس رواية بالجواز بشرط قوتها وشدّتها ، وبعض الأصحاب تخريجاً بشرط مشقة النزع ، وابن تميم وجهاً مطلقاً . أه ، أما إن ثبت الخف ونحوه بنفسه لكن لولا الشد أو الشرج لبدا بعضه ، فوجهان ( الجواز ) اختيار ابن عبدوس ، وأبي البركات ، ( والمنع ) اختيار الآمدي ، وفي معنى ذلك الزربول الذي له آذان .
( الشرط الثالث ) : إمكان المشي فيه ، فلو تعذر لضيقه ، أو ثقل حديده ، أو تكسيره كرقيق الزجاج ونحو ذلك ، لم يجز المسح ، إذ ليس بمنصوص عليه ، ولا في معنى المنصوص .
( الشرط الرابع ) : كونه مباحاً ، فلا يصح على حرير ، ومغصوب ، وخرج القاضي وابن عبدوس ، والشيرازي ، والسامري ؛ الصحة على الصلاة في ذلك ، وأبى ذلك الشيخان ، وصاحب التلخيص ، وقال : إنه وهم ، إذ الرخص لا تستباح بمحرم ، نعم من اضطر إلى ذلك ، كمن كان في بلد ثلج ، وخاف سقوط أصابعه ، أجزأه المسح عليها ، قاله السامري واختلف في شرطين آخرين ( أحدهما ) : هل من شرطه كونه معتاداً فلا يجوز على الخشب ، والزجاج ، والنحاس ؟ وهو اختيار الشيرازي ، أو لا يشترط ، وهو اختيار القاضي ، وأبي الخطاب ، وأبي البركات ؟ على قولين ، ( الثاني ) : هل يشترط طهارة عينه ؟ فيه وجهان ، يظهر أثرهما فيمن لبس جلد كلب أو ميتة في بلد ثلج ، وخشي سقوط أصابعه ، ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام أبي محمد لا يشترط ، للإِذن فيه إذاً ، ونجاسة الماء حال المسح لا تضر ، كالجنب إذا اغتسل وعليه نجاسة لا تمنع وصول الماء ، على أحد القولين ، ( والثاني ) وهو اختيار ابن عقيل ، وابن عبدوس ، وأبي البركات يشترط ، لأنه منهي عنه في الأصل ، وهذه ضرورة نادرة ، وإذاً يتيمم للرجلين ، فإن كان طاهر العين ، لكن بباطنه أو بقدمه نجاسة لا تزال إلا بنزعه ، فقال كثيرون : يخرج على روايتي الوضوء قبل الاستنجاء ، وفرق أبو البركات بأن نجاسة المحل ثم لما أوجبت الطهارتين جعلت إحداهما تابعة للأخرى ، وهذا معدوم هنا ، وهذه الشروط قد تؤخذ من كلام الخرقي ، لخروج كلامه على خف معتاد ، ماعدا شرطي الحل ، وطهارة العين ، والله أعلم .
قال : وهما العظمان الناتئان .
ش : قد تقدم أن الكعبين هما العظمان [ النائتان ] ، في ( باب فرض الطهارة ) وتقدم الدليل عليه ، فلا حاجة إلى إعادته ، والله أعلم .
قال : وكذلك الجورب الصفيق ، الذي لا يسقط إذا مشى فيه .
ش : لما كان الخف المعتاد من شأنه أن يكون صفيقاً ، لا يسقط إذا مشى فيه ، لم يصرح بذكر هذين الشرطين فيه ، ولما كان الجورب وهو غشاء من صوف ، يتخذ للدفأ يستعمل تارة وتارة كذا ، صرح باشتراط ذلك فيه ، وقد تقدم بيان هذين الشرطين عن قرب ، والكلام الآن في جواز المسح على الجورب في الجملة .
281 والأصل فيه ما روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله توضأ ومسح على الجوربين والنعلين . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، لكن الأكابر قد أشاروا إلى شذوذه ورده ، فقال ابن المديني : رواه هزيل ، وخالف الناس وقال ابن معين : الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس ونحوه قال إمامنا رحمه الله في رواية ابنه عبد الله ، وقال مسلم : أبو القيس ، وهزيل يعني راويا الحديث لا يحتملان هذا مع مخالفتهما للأجلة الذين رووا عن المغيرة ، فقالوا : مسح على الخفين . وقال أبو داود : وكان ابن مهدي لا يحدث به ، لأن المعروف عن المغيرة الخفين . ( قلت ) : وهذا كله لا ينبغي أن يرد به الحديث ، إذ لا مانع من رواية المغيرة اللفظين معاً ، ولهذا قال به أحمد ، وبنى عليه مذهبه ، ثم قد عضده فعل الصحابة ، فقال أحمد [ في رواية الميموني ] : قد فعله سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله [ ] .
282 وقال ابن المنذر : يروى عن تسعة من أصحاب رسول الله ، علي ، وعمار ، وابن مسعود ، وأنس ، وابن عمر ، والبراء ، وبلال ، وابن أبي أوفى ، وسهل بن سعد ، وقال أبو داود : روى عن [ عمرو ] ابن عباس . وقال البيهقي : روي عن أبي أمامة ، وعمرو بن حريث ، فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً ، غالبهم من أكابر فقهاء الصحابة المعتبرين . اه .
وقد شمل كلام الخرقي المجلد والمنعل [ وغيرهما ] ، وصرح به غيره ، وشمل أيضاً جورب الخرق ، وهو المشهور من الروايتين ، واختيار الشيخين ، ( والثانية ) : وجزم بها في التلخيص ليس له ذلك في جورب الخرق ، والله أعلم .
قال : فإن كان يثبت بالنعل مسح عليه ، فإذا خلع النعل انتقضت الطهارة .
ش : إذا كان الجورب لا يثبت إلا بالنعل جاز له المسح ، لأن الشرط الثبوت وقد وجد ، مع أن ذلك قد روى عن بعض الصحابة ، وقد يتخرج المنع من قول الآمدي في الخف المشرج ، وقد تقدم ، ومتى خلع [ النعل ] انتقضت الطهارة ، لزوال الشرط ، والأولى أن يمسح على الجورب والنعل ، كما هو ظاهر الحديث ، ويمسح من النعل سيوره التي على ظهر القدم ، دون أسفله وعقبه كالخف ، فإن اقتصر على قدر الواجب من أحدهما فقال القاضي وهو ظاهر كلام صاحب التلخيص فيه : لا يجزئه ، لمخالفته ظاهر الحديث ، وظاهر كلام أحمد على ما قال أبو البركات الأجزاء لأنهما [ قد ] جعلا كالشيء الواحد ، وقيل بالإجزاء على الجورب دون النعل ، والله أعلم .
قال : وإذا كان في الخف خرق يبدو منه بعض القدم لم يجزه المسح عليهما .
ش : قد تقدم هذا الشرط عن قرب ، ونزيد هنا بأن مقتضى كلام الخرقي أن ظهور بعض القدم كظهور القدمين ، ثم قوله : خرق يبدو منه بعض القدم . يخرج منه خرق لا يبدو شيء من القدم لانضمامه ونحو ذلك ، فإنه لا يمنع من المسح ، ونص عليه أحمد ، والله أعلم .
قال : ويمسح على ظاهر القدم .
283 ش : لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله يمسح على الخفين ، على ظاهرهما . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه .
284 وعن علي كرم الله وجهه : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، لقد رأيت رسول الله يمسح على ظاهر خفيه . رواه أبو داود ، وقدر الواجب في المسج جميع ظاهر الخف ، وهو مشط القدم ، إلى ظهر العرقوب ، قاله الشيرازي ، وقدر ذلك ابن البنا بقدر الناصية ، وظاهر كلام أحمد وعليه الجمهور أن الواجب أكثر ظهر القدم .
385 لما روى جابر رضي الله عنه قال : مر رسول الله برجل وهو يغسل خفيه ، فقال بيديه ، كأنه دفعه : ( إنما أمرت بالمسح هكذا ) من أعلى أطراف الأصابع ، إلى أصل الساق ، خططا بالأصابع ، ورواه ابن ماجه ، وقال : وفرق الأصابع وصفة المسح المسنون أن يضع يده مفرجة الأصابع ، على أطراف أصابع رجليه ثم يجرهما إلى ساقه مرة واحدة ، اليمين باليمين ، واليسرى باليسرى ، قال في البلغة : ويسن تقديم اليمين .
286 وقد روى البيهقي في سننه بسنده ، عن المغيرة رضي الله عنه أن رسول الله مسح على خفيه ، وضع يده [ اليمين ] على خفه الأيمن ، ويده اليسرى على خفه الأيسر ، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة ، كأني أنظر إلى أصابع رسول الله على الخفين . وظاهر هذا أنه لم يقدم إحداهما على الأخرى ، وكيفما مسح أجزأه ، كما في الرأس ، نعم لو مسح بخرقة أو خشبة ففي الأجزاء احتمالان ، والله أعلم .
قال : فإن مسح أسفله دون أعلاه لم يجزئه .
ش : لظاهر ما [ تقدم ] من الأحاديث قبل ، وظاهر كلام الخرقي أنه لو مسح أسفله وأعلاه أجزأه ، وهو كذلك ، لإِتيانه بالمقصود وزيادة ، نعم هل يسن ذلك وهو ظاهر قول ابن أبي موسى أو لا يسن وهو ظاهر كلام الخرقي ، ومنصوص الإِمام ، وعليه العامة ، [ اتباعاً ] لظواهر الأحاديث ؟ على قولين ومن ثم لا يسن استيعابه ، ولا تكرار مسحه ، وكره غسله ، وبالغ القاضي فقال بعدم الأجزاء مع الغسل ، لعدوله عن المأمور ، وشيخه نظر إلى أنه أتى بالأبلغ ، فاجتزى بذلك ، وتوقف الإِمام والحال هذه ، والله أعلم .
قال : والرجل والمرأة في ذلك سواء .
ش : أي فيما ذكر من المسح على الخف : والجورب ، ونحوهما ، وشرائطهما ، لأن ذلك معتاد لها ، فكان حكمها فيه حكم الرجل ، وخرج بذلك العمامة ، ولأنه مسح أقيم مقام الغسل ، فاستويا فيه كالتيمم ، والله أعلم .
قال :
باب الحيض
ش : الحيض مصدر : حاضت المرأة تحيض ، حيضاً ومحاضاً ومحيضاً ، فهي حائض ، وحائضة في [ لغة ] ، وتحيضت : قعدت أيام عادتها عن الصلاة .
وأصله [ من ] السيلان ، يقال : حاض الوادي ؛ إذا سال ، والحيض دم يرخيه الرحم عند البلوغ ، في أوقات معلومة ، لحكمة تربية الولد ، فعند الحمل ينصرف ذلك الدم بإذن الله تعالى إلى تغذية الولد ، ولذلك لا تحيض الحامل ، وعند الوضع يخرج ما فضل عن غذاء الولد من ذلك الدم ، ثم يقلبه الله تعالى لبناً يتغذى به الولد ، ولذلك قل ما تحيض المرضع ، فإذا خلت من حمل ورضاع بقي ذلك الدم لا مصرف له في محلة ، ثم يخرج غالباً في كل شهر ستة أيام أو سبعة ، وقد يزيد على ذلك ويقل ، ويطول ويقصر ، على حسب ما ركبه الله في الطباع ، والله أعلم .
قال : وأقل الحي يوم وليلة .
ش : هذا [ هو ] المشهور من الروايتين ، والمختار للعامة قال ابن الزاغوني : اختارها عامة المشايخ . والثانية : أقله يوم . اختارها أبو بكر على ما حكاه [ عنه ] جماعة ، والذي في التنبيه يوم وليلة ، وقد قيل يوم ، والأصل في ذلك عدم التقدير من الشرع ، قال : ( إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، فإذا ذهب قدرها فاغتسلي [ وصلي ] ولم يقيد ذلك بقدر ، بل وكله إلى ما تعرفه من عادتها ، وما لا تقدير فيه من الشرع المرجع فيه إلى العرف ، إذ الشارع إنما ترك تقديره لذلك ، وإلا يكون أهمل حكمه ، وأنه لا [ يجوز ] وأهل العرف قد ورد عنهم ذلك .
287 ( فعن ) [ عطاء ] : رأيت من النساء من كانت تحيض يوماً ، ومن كانت تحيض خمسة عشر يوماً . ( وعن : الشافعي [ رحمه الله ] : رأيت امرأة قالت : إنها لم تزل تحيض [ يوماً لا يزيد ] ، وقال لي عن نساء : إنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام ، ( وعن ) ابن مهدي ، عن امرأة أنها قالت : حيضي يومان . وعن إسحاق : صح في زماننا عن غير واحدة أنها قالت : حيضي يومان فثبت بنقل هؤلاء الأئمة الأعلام أن في النساء جماعة يحضن يوماً ، ويومين ، فمن قال باليوم دون ليلته أخذ بظاهر [ إطلاق ] اليوم ، ويؤيده قول الأوزاعي : عندنا امرأة تحيض بكرة ، وتطهر عشية . ومن اعتبر اليوم مع ليلته قال : إنه المفهوم من إطلاق اليوم ، ومن ثم قال القاضي في الروايتين : يمكن حمل قول أحمد : أقله يوم . [ أي ] : بليلته ، فتكون المسألة رواية واحدة ، وهذه طريقة الخلال ، وما حكاه الأوزاعي فعن امرأة واحدة ، ومثله لا يثبت حكماً شرعياً في حق سائر النساء ، وما نقل من التقدير بثلاثة أيام ، ( فإما ) صريح غير صحيح .
288 كما روى عنه أنه قال : ( أقل الحيض ثلاثة يام ، وأكثره عشرة أيام ) رواه الدارقطني وغيره من طرق وروي أيضاً عن بعض الصحابة ، لكن كلها ضعيفة ، بل فيها ما قيل : إنه موضوع . قال أحمد [ رحمه الله ] في رواية الميموني : ) ما صح عن أحد من أصحاب النبي أنه قال في الحيض : عشرة أيام ، أو خمسة عشرة . ( وإما ) صحيح غير صريح ، كقوله للمستحاضة : ( لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن ) .
289 وقوله لفاطمة بنت أبي حبيش : ( اجتنبي الصلاة أيام حيضك ) رواه أحمد وأقل الجمع ثلاثة ، فهذا ونحوه مما خرج على الغالب ، إذ الغالب أن حيض النساء أكثر من اليوم ، بل ومن الثلاثة أيام ، والله أعلم .
قال : وأكثره خمسة عشر يوماً .
ش : هذا هو المذهب أيضاً ، والمشهور من الروايتين ، لما تقدم عن عطاء ، ونقل ذلك [َيضاً ] عن الشافعي وإسحاق ، ويحيى بن آدم ، وشريك .
290 ويرشحه ما روى ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي قال : ( ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن . أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل ، وأما نقصان دينها فإنها تمكث شطر عمرها لا تصلي ) قال القاضي : رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه . والشطر النصف ، والظاهر أنه أراد منتهى نقصانهن ، وقول البيهقي : إنه لم يجده في شيء من كتب الحديث يرده ما حكاه القاضي ، لكن قال ابن منده : لا يثبت هذا بوجه من الوجوه عن النبي ( والثانية ) : أكثره سبعة عشر يوماً ، لأن ذلك يحكى عن نساء الماجشون ، وحكاه ابن مهدي عن غيرهن ، اه .
ولم يذكر الخرقي أقل الطهر ، فيحتمل أنه لا حد لأقل الطهر عنده ، وهو إحدى الروايات عن أحمد ، رواها عنه جماعة ، قاله أبو البركات ، واختاره بعض الأصحاب ، ولا عبرة بحكاية ابن حمدان ذلك [ قولًا ] ثم تخطئته ، ( والمختار ) في المذهب أن أقله ثلاثة عشر يوماً .
لما رواه أحمد واحتج به عن علي رضي الله عنه أن امرأة جاءت إليه قد طلقها زوجها ، زعمت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض ، طهرت عند كل قرء وصلت ، فقال علي لشريح : قال فيها . فقال شريح : إن جاءت ببينة من بطانة أهلها ، ممن يرضى دينه وأمانته ، شهدت أنها حاضت في شهر ثلاثاً ، وإلا فهي كاذبة . فقال علي : قالون . أي جيد ، بالرومية ، وثلاث حيض في شهر دليل على أن الثلاثة عشر طهر صحيح يقيناً أما على الإثني عشر وما دونها فمشكوك فيه .
( والرواية الثالثة ) : أقله خمسة عشر يوماً ، لما تقدم من حديث ( تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي ) وزعم أبو بكر في روايتيه أن هاتين الروايتين مبنيتان على أكثر الحيض ، [ فإذا ] قيل : أكثره خمسة عشر . فأقل الطهر خمسة عشر ، وإن قيل : أكثره سبعة عشر . فأقل الطهر ثلاثة عشر . والمشهور عند الأصحاب خلاف هذا ، إذ المشهور أن أكثر الحيض خمسة عشر وأقل الطهر ثلاثة عشر . ثم إنما يلزم هذا [ أن ] لو كانت المرأة تحيض في كل شهر حيضة ، لا تزيد على ذلك ولا تنقص ، وليس كذلك .
( تنبيه ) : غالب الطهر بقية الشهر ، ( واللب ) العقل ، والله أعلم .
قال : فمن طبق بها الدم ، وكانت ممن تميز ، فتعليم إقباله ، بأنه أسود ثخين منتن ، وإدباره بأنه رقيق أحمر ، تركت الصلاة في إقباله ، فإذا أدبر اغتسلت ، وتوضأت لكل صلاة وصلت ، وإن لم يكن دمها منفصلًا ، وكانت لها أيام من الشهر تعرفها ، أمسكت عن الصلاة فيها ، واغتسلت إذا جاوزتها ، وإن كانت لها أيام أنسيتها ، فإنها تقعد ستاً أو سبعاً في كل شهر .
ش : لما ذكر رحمه الله تعالى أكثر الحيض ، أراد أن يبين حكم المرأة إذا زاد دمها على ذلك ، فقال : من طبق بها الدم . أي استمر بها ، وجاوز الخمسة عشر يوماً ، وهذه هي المستحاضة ، التي قال فيها رسول الله : ( إن ذلك عرق ، وليس بالحيضة ) أي أن دمها يسيل من عرق ، وليس هو دم الحيض ، وهذا العرق يسمى ( العاذل ) بالمعجمة ، ويقال بالمهملة ، حكاهما ابن سيده ، ( والعاذر ) لعة فيه .
والمستحاضة على ضربين ، مبتدأة [ ومعتادة ] وغيرهما لها أربعة أحوال ، وهذه التي كلام الشيخ فيها ( الحال الأولى ) المميزة ، وهي التي [ لها ] دمان ، أحدهما أقوى من الآخر ، كأن [ يكون ] أحدهما ثخين منتن ، والآخر رقيق أحمر ، أو أحدهما أحمر مشرق ، والآخر دونه ، ونحو ذلك ، ( الثانية ) ن تكون معتادة ، وهي التي لها أيام من الشهر تعرفها ، وشهر المرأة ما اجتمع لها فيه حيض وطهر ، وأقل ذلك على المذهب أربعة عشر يوماً ، ( الحالة الثالثة ) أن تكون معتادة ومميزة ، بأن يكون لها أيام من الشهر تعرفها ، ثم استحيضت ، فصار لها دمان ، أحدهما أقوى من الآخر . ( الحال الرابعة ) عكسها ، وهي من لا عادة لها ولا تمييز .
إذا عرف هذا فلا نزاع عندنا أنه متى انفرد التمييز عمل به ، فتجلس زمن الدم الأقوي .
292 لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي ، فقالت : إني امرأة استحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ قال : ( لا ، إنما ذلك عرق ، وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ) وظاهره إناطة الحكم بإقبال الحيضة وإدبارها ، من غير نظر إلى عادة .
293 وأصرح من ذلك ما روي عن عروة بن الزبير ، عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض ، فقال لها النبي : ( إذا كان دم الحيض ، فإنه أسود يعرف ، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة ، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي ، فإنما هو عرق ) رواه أبو داود ، والنسائي .
294 وروى البيهقي في سننه عن مكحول ، عن أبي أمامة رضي الله عنه ، قال رسول الله : ( دم الحيض أسود خاثر ، تعلوه حمرة ، ودم المستحاضة أصفر رقيق ) لكنه مرسل ، إذ مكحول لم يسمع من أبي أمامة ، قال الدارقطني : مع أن في سنده مجهولًا وضعيفاً ، نعم ذكر ذلك أبو داود عن مكحول من قوله ، وأيضاً فإن مع الاشتباه يرجع إلى الصفات ، كما لو اشتبه المني بالمذي ، ونحو ذلك ، ( ويشترط ) للعمل بالتمييز أن لا ينقص الأقوى عن أقل الحيض ، ولا يزيد على أكثره ، وأن يكون بين الدمين القويين أقل الطهر ، قلت : إن قلنا : لأقله حد . وهل يشترط كون مجموع الدمين الأقوى والأضعف لا يزيدان على أكثر من شهر ؟ فيه وجهان ، أصحهما : لا يشترط ، إذ أكثر الطهر لا حد له ، والثاني : يشترط ، نظراً لغالب عادات النساء ، ومتى اختل شرط من ذلك فكأن لا تمييز . اه .
ولا نزاع أيضاً أنه متى انفردت العادة عمل بها .
295 لما روت عائشة رضي الله عنها ، أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى رسول الله الدم ، فقال لها : ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ، ثم اغتسلي ) فكانت تغتسل عند كل صلاة ، رواه مسلم .
296 وعن أم سلمة أنها استفتت رسول الله في امرأة تهراق الدم ، فقال : ( لتنظر قدر الأيام والليالي التي كانت تحيضهن ، وقدرهن من الشهر ، فتدع الصلاة ، ثمّ لتغتسل ، ولتستثفر ولتصل ) رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وقال أحمد في رواية المروذي ، وإسحاق بن إبراهيم ، وغيرهما : الحيض يدور عندي على ثلاثة أحاديث ، حديث فاطمة بنت أبي حبيش ، وحديث حمنة بنت جحش ، وحديث سليمان ابن يسار ، وهو حديث أم سلمة . اه ورلا تثبت العادة إلا بتكرار مرتين على رواية ، لوجود المعاودة ، وعلى أخرى وهي المذهب ، واختيار الخرقي [ رحمه الله ] ، وقال ابن الزاغوني : إنها اختيار عامة المشايخ لا بد من تكرار ثلاثاً ، لظاهر ما تقدم ، إذ ( كان ) في مل هذا التركيب إنما تستعمل في ما دام وتكرر ، وهل يعتبر التكرار في التمييز ، حيث يعمل به ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) وهو اختيار القاضي والآمدي نعم ، كالعادة بل أولى ، إن قلنا : تقدم عليه . لأنه إذا اعتبر في الأقوى ، ففي الأضعف أولى ( والثاني ) : وهو ظاهر كلام الإِمام والخرقي واختيار ابن عقيل لا ، لأن النص دل على الرجوع إلى صفة الدم مطلقاً . أه . وإن اجتمعت العادة والتمييز فروايتان ( إحداهما ) يقدم التمييز على العادة ، فتعمل عليه وتتركها ، وهي ظاهر كلام الخرقي ، لقوله : وكانت ممن تميز . وهو شامل لما إذا كان لها عادة ، ثم قال : وإن لم يكن دمها منفصلًا . أي بعضه من بعض ، بل كان كله شيئاً واحداً ، فلم ينقلها للعادة إلا عند عدم التمييز ، وذلك لأن التمييز أمارة قائمة في نفس الدم ، موجودة حال الاشتباه ، فقدم على العادة لانقضائها ، وتحمل أحاديث العادة على من لا تمييز لها ( والثانية ) تقدم العادة ، وهو اختيار الجمهور ، لورودها في غالب الأحاديث من غير تفصيل ، وجعلهن كلهن غير مميزات فيه بعد ، ولم يرد العمل بالتمييز إلا في حديث فاطمة المتقدم ، وحديثها الذي في الصحيح ليس فيه تصريح بذلك .
297 بل في الصحيح من حديث عائشة ، رضي الله عنها أن النبي قال لها : ( ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ، ثم اغتسلي وصلي ) فردها إلى العادة ، وقد نقل حرب عن أحمد أنها نسيت أيامها فالظاهر أنه ردها للتمييز حين ذكرت أنها ناسية . أه .
وإن عدمت العادة والتمييز ، وهي التي كانت لها أيام فأنسيتها ودمها غير متميز ، وتلقب ( بالمتحيرة ) ، وهي التي قد تحيرت في حيضها ، ولها ثلاثة أحوال ( أحدهما ) أن تنسى وقتها وعددها ، وهذه [ التي ] قال الخرقي : إنها تجلس ستاً أو سبعاً ، نظراً لغالب عادات النساء .
298 كما قد صرح بذلك في حديث حمنة بنت جحش ، وسألت النبي عن استحاضتها ، فقال : ( إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان ، فتحيضي ستة أيام ، أو سبعة أيام في علم الله تعالى ، ثم اغتسلي ، حتى إذا رأيت أن قد طهرت ، واستنقأت فصلي أربعاً وعشرين ليلة ، أو ثلاثة وعشرين ليلة وأيامها ، وصومي ، فإن ذلك يجزئك ، وكذلك فافعلي كل شهر ، كما تحيض النساء وكما يطهرن ، لميقات حيضهن