كتاب : شرح الزركشي على مختصر الخرقي
المؤلف : شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي
التلخيص المنع ، قال القاضي : وهي أشهرهما . قلت : وأنصهما . نظراً إلى أن من تلزمه نفقته غني بوجوب النفقة له ، فأشبه الغني ، ولأن نفع الزكاة والحال هذه يعود إلى الدافع ، لأنه يسقط عنه [ النفقة ] لغنى المدفوع إليه بها ، فأشبه ما لو دفعها لعبده .
1181 وقد روى الأثرم في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : 16 ( إذا كان ذو قرابة لا تعولهم فأعطهم من زكاة مالك ، وإن كنت تعولهم فلا تعطهم ، ولا تجعلها لمن تعول ) . ( والثانية ) وقال أبو محمد في المغني : إنها الظاهرة عنه الجواز :
1182 لعموم قوله : ( الصدقة على المسكين صدقة ، وهي لذي الرحم ثنتان ، صدقة وصلة ) . رواه أحمد والترمذي ، وابن ماجه ، والصدقة والرحم عامان .
1183 وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح ) رواه أحمد .
( تنبيه ) : إعلم أن عامة الأصحاب على حكاية الروايتين ، وقال القاضي في التعليق في النفقات : وها هنا يمكن حملها على اختلاف حالين ، فالموضع الذي منع إذا كانت النفقة واجبة ، والموضع الذي أجاز إذا لم تجب [ كما ] إذا لم يفضل عنه ما ينفق عليهم ، والله أعلم .
قال : ولا للزوج ولا للزوجة .
ش : عطف على الوالدين ، أما الزوجة فبالإجماع ، قاله ابن المنذر ، ولأن نفقتها واجبة عليه ، وبها تستغني عن الزكاة ، وأما الزوج ففيه روايتان منصوصتان :
( إحداهما ) وهي اختيار القاضي في التعليق الجواز ، لدخوله تحت قوله تعالى : 19 ( { إنما الصدقات للفقراء } ) الآية .
1184 وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت : قال رسول الله : ( تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن ) قالت : فرجعت إلى عبد الله فقلت : إنك رجل خفيف ذات اليد ، وإن رسول الله أمرنا بالصدقة ، فأته فاسأله ، فإن كان ذلك يجزيء عني ، وإلا صرفتها إلى غيركم . قالت : فقال عبد الله : بل ائتيه أنت . قالت : فانطلقت فإذا امرأة [ من الأنصار ] بباب رسول الله ، حاجتها حاجتي ، قالت : وكان رسول الله قد ألقيت عليه المهابة ، قالت : فخرج علينا بلال ، فقلنا له : ائت رسول الله فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك أتجزيء الصدقة عنهما على أزواجهما ، وعلى أيتام في حجورهما ، ولا تخبر من نحن . قالت : فدخل [ بلال ] فسأله ، فقال له : ( من هما ) ؟ قال : امرأة من الأنصار ، وزينب . قال : ( أي الزيانب ؟ ) قال : امرأة عبد الله . فقال : ( لهما أجران ، أجر القرابة وأجر الصدقة ) متفق عليه ، وللبخاري : أتجزيء عني أن أنفق على زوجي ، وأيتام لي في حجري ، انتهى . لا يقال : السياق يقتضي التطوع ، لأنا نقول الاعتبار باللفظ لا بالسبب .
( والثانية ) : وهي اختيار الخرقي ، وأبي بكر المنع ، قياساً لأحد الزوجين على الآخر ، ولأن النفع يعود لها ، لأنها تتمكن إذاً من أخذ نفقة الموسرين منه أو من أصل النفقة مع العجز الكلي . وحديث زينب تأوله أحمد في رواية ابن مشيش على غير الزكاة ، والله أعلم .
قال : ولا الكافر .
ش : عطف أيضاً على ما تقدم ، وهذا إجماع حكاه ابن المنذر .
1185 وفي الصحيحين في حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي قال له : ( أخبرهم أن [ الله قد فرض ] عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) والصدقة إنما تؤخذ من أغنياء المسلمين ، والذمي ليس من فقرائهم ، والله أعلم .
قال : ولا المملوك .
ش : لأن العبد يجب على سيده نفقته ، فهو غني بغناه ، وقد قال أبو محمد : لا أعلم فيه خلافاً .
قال : إلا أن يكونوا من العاملين [ عليها ] ، فيعطون بحق ما عملوا .
ش : هذا الاستثناء راجع إلى الوالدين ، والمولودين ، والزوجة ، والزوج ، والكافر والمملوك ، وبه يتم الكلام على ما تقدم ، وإنما جاز لمن تقدم أن يأخذ من الزكاة إذا كان عاملًا لأن الذي يأخذه أجرة عمله ، لا زكاة ، فلذلك يقدر ما يأخذه بقدر عمله ، قال أحمد : يأخذ على قدر عمالته .
واعلم أن كلام الخرقي رحمه الله تضمن أموراً : ( أحدها ) : أن قوله : الصدقة المفروضة . يدخل فيه الزكاة ، وقد نص الخرقي على الكفارة في بابها ، مصرحاً بأن حكمها حكم الزكاة . ونص أبو الخطاب في الهداية أيضاً على ذلك . وخرج بقوله : المفروضة . التطوع ، فإنه يجوز لمن تقدم الأخذ منه ، ولا ريب في ذلك ، لقوله تعالى : 19 ( { ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ، ويتيماً ، وأسيراً } ) والأسير يومئذ هو الكافر .
1186 وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قدمت عليّ أمي [ وهي مشركة ] فقلت : يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة ، أفأصلها ؟ قال : ( نعم صلي أمك ) .
( الثاني ) : أن ظاهر كلامه أن العامل يجوز أن يكون كافراً أو عبداً ، أو أباً ، وهو مبني على ما تقدم من [ أن ] الذي يأخذه العامل يأخذه أجرة لا زكاة ، لكن اختلف عن أحمد هل من شرطه الإسلام ؟ على روايتين : ( إحداهما ) : لا ، وهي اختيار الخرقي ، والقاضي في الجامع الصغير ، وفي التعليق الكبير ، وابن البنا وجماعة ، لإطلاق قوله تعالى : 19 ( { والعاملين عليها } ) . ولما تقدم من أن الذي يأخذه العامل يأخذه أجرة لا زكاة ، وتجوز إجارة الكافر . ( والثانية ) : نعم ، اختاره القاضي فيما حكاه عنه أبو الخطاب ، وكأنه في المجرد ، نظراً إلى أن من شرط العامل الأمانة بالإتفاق والكافر ليس بأمين . وأجاب القاضي في التعليق بأنا نشترط أمانته ، كما نشترط عدالته في الوصية في السفر . ( الأمر الثالث ) أن الخرقي إنما جوز دفع الزكاة [ لمن تقدم ] إذا كانوا عمالًا فقط ، لأنه إنما استثنى العامل [ لا غير ] وقال : [ أبو الخطاب ] وصاحب التلخيص ، و 19 ( أبو البركات ) : يجوز دفع الزكاة لمن تقدم إذا كانوا عمالًا ، أو غزاة ، أو مؤلفة ، أو غارمين لإصلاح ذات البين ، وهو مقتضي كلام القاضي في التعليق ، لأنهم إنما يأخذون لمصلحتنا ، لا لحاجتهم .
1187 وفي سنن أبي داود ، والموطأ عن عطاء بن يسار ، أن رسول الله قال : ( لا تحل الصدقة لغني إلا [ لخمسة ] ، لغاز في سبيل الله ، أو لعامل عليها ، أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني ) . ولأبي سعيد رضي الله عنه عن النبي معناه ، قاله أبو داود ، ورواه أحمد ، والحاكم ، وقال : على شرطهما وحكى أبو محمد في المغني عن الأصحاب أنهم جوزوا الدفع إلى الغارم لمصلحة نفسه ، وإن كان من ذوي القربي ، وحكى هو احتمالًا بالمنع ، والله أعلم .
قال : ولا لبني هاشم ولا لمواليهم .
ش : أي ولا يدفع من الصدقة المفروضة لبني هاشم ، ولا لمواليهم .
1188 [ أما بنو هاشم ] فلما روى المطلب بن ربيعة بن الحارث بن [ عبد ] المطلب ، أنه و [ الفضل ] بن العباس انطلقا إلى رسول الله ، قال : ثم تكلم أحدنا فقال : يا رسول الله جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات ، فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة ، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس . فقال : ( إن الصدقة لا تحل لمحمد ، ولا لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس ) مختصر ، رواه أحمد ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي .
1189 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة ، فجعلها في فيه ، فقال رسول الله : ( كخ كخ [ إرم بها ] أما علمت أنا لا نأكل الصدقة ؟ ) وفي رواية : ( أنا لا تحل لنا الصدقة ) متفق عليه .
1190 وأما مواليهم فلما روى أبو رافع رضي الله عنه قال : بعث رسول الله رجلًا على الصدقة من بني مخزوم ، قال أبو رافع : فقال [ له ] : اصحبني فإنك تصيب منها معي ، قلت : حتى أسأل رسول الله ، فانطلق إلى النبي فقال : ( مولى القوم من أنفسهم ، وإنا لا تحل لنا الصدقة ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي .
ومقتضى كلام الخرقي أنه يجوز دفع صدقة التطوع إليهم ، وهو المشهور والمختار من الروايتين .
1191 نظراً إلى أن النبي قال : ( المعروف كله صدقة ) متفق عليه ، ولا خلاف في إباحة المعروف إلى الهاشمي .
1192 وعن جعفر بن محمد عن أبيه أنه 16 ( كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة ، فقلت له : أتشرب من الصدقة ؟ فقال : إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة ) . ( والرواية الثانية ) لا يجوز ، لعموم ما تقدم ، ورد بأن التعريف للعهد لا للعموم .
( فعلى الأولى ) : يجوز لهم الأخذ من الوصايا والنذور ، قال أبو محمد : لأنهما تطوع وفي الكفارة قولان .
ومقتضى كلامه أيضاً [ أنه لا يجوز أن يأخذوا لعمالتهم ، ( سقط : وظاهر كلامه 0000 إلى أخر الصفحة ) ( سقط : من أول الصفحة إلى فقرة رقم 1196 ) ، ولا لقوي مكتسب ويستثنى من ذلك العامل ، والمؤلف ، والغارم لإصلاح ذات البين ، فإن الغنى لا يمنع من الدفع إليهم ، لما تقدم من أن الدفع لمصلحتنا ، لا لحاجتهم ، ويجوز للغني أن يأخذ من صدقة التطوع لما تقدم .
( تنبيه ) : ( المرّة ) القوة والشدة ، و ( السوي ) المستوي الخلق ، التام الأعضاء ، والله أعلم .
قال : وهو الذي يملك خمسين درهماً ، أو قيمتها من الذهب .
ش : اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في حد الغنى ، فنقل عنه مهنا أن يكون له كفاية على الدوام ، إما من تجارة ، أو من صناعة ، أو أجرة عقار ، أو غير ذلك ، فالحكم على هذه الرواية منوط بالحاجة وعدمها ، فمن كان محتاجاً حلت له الزكاة وإن ملك نصباً ، ومن لم يكن محتاجاً لم تحل له وإن لم يملك شيئاً ، وهذه الرواية اختيار أبي الخطاب ، وابن شهاب العكبري .
1197 لأن النبي
قال لقبيصة بن مخارق : ( يا قبيصة لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة ) وذكر الحديث إلى أن قال : ( ورجل أصابته فاقة ، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه : لقد أصابت فلاناً فاقة . فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش ، أو سداداً من عيش ) رواه مسلم وغيره . فأباح المسألة حتى يصيب القوام أو السداد ، فمن ملك خمسين درهماً ولم يصب القوام ولا السداد حل له بمقتضى النص الأخذ ، ولأن في العرف أن من كان محتاجاً فهو فقير ، فيدخل في عموم النص .
ونقل عنه جماعة أن من ملك خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب وإن كان حلياً فهو غني وإن لم تحصل له الكفاية ، وإن ملك عقاراً قيمته عشرة آلاف درهم أو يحصل له من غلته مثل ذلك ، أو أقل ، أو أكثر ، ولا يقوم بكفايته يأخذ من الزكاة ، وهذا هو المذهب عند الأصحاب ، حتى إن عامة متقدميهم لم يحكوا خلافاً .
1198 وذلك لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشاً أو كدوشاً في وجهه ) قالوا : يا رسول الله وما غناه ؟ قال : ( خمسون درهماً أو حسابها من الذهب ) رواه الخمسة ، وحسنه الترمذي ، وأحمد في رواية الأثرم ، فقال : حسن بين وإليه نذهب . انتهى .
1199 وقال في رواية عبد الله : روي عن سعد ، وابن مسعود ، وعلي . يعني اعتبار الخمسين ، وهذا نص في أن من ملك خمسين درهماً أو حسابها من الذهب أنه غني ، وما عداه يبقى فيه على قصة قبيصة ، وعلى قوله عليه السلام : ( لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ) .
( تنبيه ) : ( الحجى ) العقل ، والله أعلم .
قال : ولا تعطي إلا في الثمانية الأصناف التي سمى الله عز وجل .
ش : لأن الله سبحانه وتعالى حصرها في الثمانية بقوله : 19 ( { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ، والمؤلفة قلوبهم ، وفي الرقاب والغارمين ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل } ) الآية .
1200 وعن زياد بن الحارث الصدائي قال : أتيت رسول الله فبايعته . فذكر حديثاً طويلًا ، فأتاه رجل فقال : أعطني من الصدقة . فقال [ له ] رسول الله : ( إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها ، فجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت منهم أعطيتك ) رواه أبو داود .
وقد تضمن كلام الخرقي رحمه الله أنه لا يعطى منها لبناء قنطرة ولا سقاية ، ونحو ذلك ، وهو صحيح لما تقدم .
وتضمن أيضاً أن حكم المؤلفة باق ، وهذا أشهر الروايتين عن أحمد ، واختيار الأصحاب ، لأن الله تعالى ذكرهم ، وكذلك المبين لكتابه ، وأعطاهم ، فالأصل بقاؤهم ، إلا أن يدل دليل على النسخ ولا دليل عليه ، واحتماله غير كاف . ( وعن أحمد ) رحمه الله أن حكمهم انقطع للإستغناء عنهم .
1201 وعن عمر رضي الله عنه : 16 ( إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً ، ( فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ) .
( تنبيه ) : مقتضى كلام الشيخين جريان الخلاف على الإطلاق ، ومقتضى كلام [ صاحب ] التلخيص تبعاً لأبي الخطاب في الهداية أن الخلاف مختص بالكافر منهم ، أما المسلم فالحكم باق في حقه بلا نزاع ، وكلام القاضي في التعليق يحتمل ذلك ، والله أعلم .
قال : إلا أن يتولى الرجل إخراجها بنفسه ، فيسقط العامل .
ش : لما دل كلامه السابق على أنه يجوز دفعها في الثمانية ، استثنى من ذلك [ ما ] إذا تولى الرجل إخراجها بنفسه ، فإن العامل يسقط للاستغناء عنه إذاً ، إذ هو إنما يأخذ أجر عمله ولا عمل ، والله أعلم .
قال : وإن أعطاها كلها في صنف واحد أجزأه إذا لم يخرجه إلى الغنى .
ش : المشهور والمختار عند جمهور الأصحاب من الروايتين أنه يجوز لرجل دفع زكاته إلى صنف واحد من الأصناف بشرطه ، بناء على أن اللام في الآية الكريمة للاختصاص ، ولبيان جهة المصرف ، ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { إن تبدو الصدقات فنعماً هي ، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } ) [ فاقتصر سبحانه على الفقراء بعد ذكر الصدقات وهو عام ] وقال تعالى : 19 ( { والذين في أموالهم حق معلوم ، للسائل والمحروم } ) فجعل الحق والظاهر أنه الزكاة لصنفين فقط .
1202 وقال لمعاذ : ( أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد في فقرائهم ) فلم يذكر إلا صنفاً واحداً .
1203 ويروى أنه قال لسلمة بن صخر : ( اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك ) .
1204 وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملت حمالة فأتيت رسول الله أسأله فيها ، فقال : ( أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ) مختصر ، رواه مسلم وغيره .
( وعن أحمد رحمه الله ) رواية أخرى : يجب أن يستوعب الأصناف إلا أن يخرجها بنفسه فيسقط العامل ، اختارها أبو بكر في تعاليق أبي حفص ، بناء على أن اللام في الآية الكريمة للملك ، ولحديث زياد بن الحارث الصدائي فإنه قال : ( جزأها ثمانية أجزاء ) وحمل على بيان وجه المصرف .
وقول الخرقي : ما لم يخرجه إلى الغنى . بيان لشرط الدفع ، وهو أنه إذا دفع إلى صنف أو أكثر إنما يدفع ما تحصل به الكفاية والاستغناء ، وتزول به الحاجة ، إلا أن قول الخرقي رحمه الله : إذا لم يخرجه إلى الغنى . ظاهره أن شرط الإعطاء أن لا يوصله إلى الغنى ، [ بل لا بد أن ينقص عنه ، ونص أحمد والأصحاب يقتضي أنه يوصله إلى الغنى ] لكن لا يزيد عليه ، وإذاً فلنتعرض إلى ما يدفع إلى كل واحد من الأصناف ، على سبيل الاختصار .
فيدفع إلى الفقير والمسكين أدنى ما يغنيهما ، فإن كان المدفوع إليهم غير الذهب والفضة دفع إليهما [ تمام ] كفايتهما لسنة ، قاله القاضي ، وأبو البركات ، وغيرهما ، نظراً إلى أن ظاهر كلام أحمد اعتبار كفاية العمر [ وكفاية العمر ] تحصل بذلك ، إذ في كل سنة يدفع إليهما ، [ فتحصل لهما ] الكفاية الأبدية ، فإن كان المدفوع إليه ذا حرفة ، واحتاج إلى ما يعمل به من عدة ونحو ذلك ، دفع إليه ما يحصل ذلك ، وكذلك الحكم إن كان المدفوع إليهما ذهباً أو فضة ، وقلنا : المعتبر في الغنى الكفاية ، من غير نظر إلى قدر من المال . وإن قلنا : الغنى يحصل بخمسين درهماً ، أو قيمتها من الذهب . لم يدفع إليهما أكثر من ذلك ، نص عليه أحمد في رواية الأثرم ، وإبراهيم بن الحارث ، ومحمد بن الحكم ، وينبغي أنه إذا كان معهما قدر من ذلك أنه يكمل لهما تمام الخمسين ، أو قيمتها من الذهب .
ويدفع إلى العامل أجرة مثله ، ويدفع إلى المؤلف ما يحصل به التأليف ، قاله أبو محمد ، وقال صاحب التلخيص فيه : يدفع إليه ما يراه الإمام ، وهو قريب من الأول ، ويدفع في الرقاب بأن يعطي المكاتب ما عليه إن لم يجد وفاءه ، أو يفتدي أسيراً ، ونحو ذلك ، على ما سيأتي [ بيانه ] إن شاء الله تعالى ، ويدفع إلى الغارم قدر دينه . وإلى الغازي ما يحتاج إليه لغزوه . وإلى الفقير ما يحج به في رواية ، ويدفع إلى ابن السبيل ما يوصله بلده ، ولا يزاد أحد منهم على ذلك ، والله أعلم .
قال : ولا تخرج الصدقة من بلدها إلى بلد تقصر في مثله الصلاة .
ش : المذهب أنه لا يجوز نقل الزكاة من بلدها إلى بلد تقصر في مثله الصلاة ، مع القدرة على دفعها في بلدها ، هذا المعروف في النقل ، وظاهر كلام أحمد [ والخرقي ] وإن كان القاضي في روايتيه ، وجامعه الصغير ، وتعليقه الكبير ، ترجم المسألة بلفظ الكراهة ، واحتج أحمد بحديث معاذ المتفق عليه ، أن النبي قال له : ( أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ) .
لا يقال : المراد فقراء المسلمين . لأنا نقول : الضمير راجع إلى أهل اليمن ، إذ هم المبعوث إليهم ، أي صدقة تؤخذ من أغنياء مسلمي اليمن ، فترد في فقراء مسلمي اليمن ، ( فإن قيل ) : اليمن بلاد كثيرة ، فعموم الحديث يقتضي الدفع إلى جميع فقرائها ؟ ( قيل ) : لكنه ظاهر في منع الدفع في إقليم آخر ، وإذاً فيتعارض ظاهران ، والحمل على جانب العموم أولى ، لتطرق التخصيص إليه غالباً ، ثم قوله : ( فترد في فقرائهم ) في معنى الأمر ، فلو حمل على جميع [ بلاد ] اليمن لحمل على المكروه ، وحمل الأمر على المكروه ممتنع .
1205 واحتج أحمد أيضاً بما روى الأثرم في سننه ، عن طاوس [ قال : في كتاب ] معاذ بن جبل : 16 ( ( من انتقل من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته ) ) انتهى .
1206 وعن عمران بن حصين ، أنه استعمل على الصدقة ، فلما رجع قيل له : أين المال ؟ قال : وللمال أرسلتني ؟ أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله ، ووضعناه حيث كنا نضعه .
1207 ولما بعث معاذ الصدقة إلى عمر من اليمن ، أنكر ذلك عمر ، وقال : لم أبعثك جابياً ، ولا آخذ جزية ، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس ، فترد في فقرائهم . فقال معاذ : ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد من يأخذه مني . رواه أبو عبيد في الأموال ولأن في النقل ضياع فقراء تلك البلد ، وهو عكس مشروعية الزكاة .
( وعن أحمد رحمه الله ) رواية [ أخرى ] : يجوز النقل مطلقاً ، لظاهر قوله سبحانه : { إنما الصدقات للفقراء } الآية ، ولم يفرق سبحانه بين فقراء وفقراء ، ولأن النبي قال لقبيصة : ( أقم حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك بها ) فدل على أن الصدقة كانت تنقل .
( وأجيب ) عن الآية بأن المراد منها بيان المصرف ، وعن الحديث بأنه محمول على الفاضل من الصدقات .
1208 وبهذا أجاب أحمد عما روي من نقل الصدقات إلى النبي ، وإلى أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما .
( وعنه ) رواية ثالثة نص عليها في رواية جماعة أنه يجوز نقلها إلى الثغور خاصة ، وقال في هذا غير شيء ، وذلك لأن المرابط قد لا يمكنه الخروج [ من ] الثغر ، فالحاجة داعية إلى البعث إليه ، لا سيما وما هم عليه فإنه من أعظم أمور الدين ، بل هو أصلها .
فعلى الأولى إن خالف ونقل فهل يجزئه ؟ فيه روايتان ، حكاهما أبو الخطاب وأتباعه ، وعن القاضي أنه قال : لم أجد عنه نصاً في المسألة . واختار هو وشيخه المنع لأنه دفعها إلى غير من أمر بدفعها إليه ، أشبه ما لو دفعها إلى غير الأصناف . واختار أبو الخطاب الجواز ، لأن الأدلة في المسألة متقاربة ، وقد وصلت إلى الفقراء ، فدخلت في عموم الآية ، ولعل قصة عمر المتقدمة تشهد لذلك .
وقول الخرقي : ولا تخرج الصدقة . اللام في الصدقة للعهد المتقدم ، وهو الزكاة ، ويشمل زكاة المال والبدن ، أما صدقة التطوع فيجوز نقلها بلا كراهة ، وأما الكفارات ، والنذور ، والوصايا ، فيجوز نقلها ، قاله في التلخيص ، [ قال ] : وخرج القاضي وجهاً في الكفارات بالمنع ، فيخرج في النذور والوصية مثله . ( قلت ) : ومراد صاحب التلخيص بالوصية ؛ الوصية المطلقة ، كالوصية للفقراء [ مثلًا ] أما الوصية لفقراء بلد فإنه يتعين صرفها في فقرائه ، نص عليه أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم . وقوله : من بلدها . أي [ من ] البلد الذي وجبت فيه ، أو الذي المال فيه ، فلو كان ماله غائباً عنه زكاه في بلده ، نص عليه في رواية بكر بن محمد ، فقال : أحب إلي أن تؤدي حيث يكون المال ، فإن كان بعضه حيث هو ، وبعضه في بلد آخر ، يؤدي زكاة كل مال حيث هو . وظاهر كلامه أنه ولو في نصاب من السائمة ، وفيه وجه آخر أنه في السائمة والحال هذه يجزيء الإخراج في بعضها ، حذاراً من التشقيص ، ولو كان ماله تجارة يسافر به ، فقال أحمد في رواية يوسف بن موسى : يزكيه في الموضع الذي مقامه فيه أكثر . ( وعنه ) أنه سهل في إعطاء البعض في بلد ، والبعض في البلد الآخر . وعن القاضي : يخرج زكاته حيث حال [ عليه ] حوله . أما زكاة البدن فيزكي حيث البدن .
وقوله : إلى بلد تقصر في مثله الصلاة . [ مفهومه أنها تنقل إلى بلد لا تقصر في مثله الصلاة ] ، ونص عليه أحمد والأصحاب ، لأن ما قارب البلد في حكمه .
وكلام الخرقي [ وغيره ] شامل للساعي ، ولرب المال ، وهو ظاهر كلام أحمد ، وشامل لما إذا كان في البلد البعيد أقارب محاويج أو لم يكن ، وصرح به غيره ، ويستثنى مما تقدم ما إذا استغنى فقراء بلده ، فإنه يفرقها في أقرب البلاد إليه وكذلك إن كان ماله ببادية فرق زكاتع في أقرب البلاد إليه .
( تنبيه ) : ( المخلاف ) والله أعلم .
قال : وإذا باع ماشية قبل الحول بمثلها زكاها إذا تم حوله من وقت ملكه الأول .
ش : إذا باع ماشية وهي الإبل ، والبقر ، والغنم في أثناء الحول بمثلها ، بأن باع إبلًا بإبل ، أو بقراً ببقر ، أو غنماً بغنم ، فإن حوله لا ينقطع ، فيزكيه إذا تم الحول ، نظراً إلى أنه لم يزل في ملكه نصاب من الجنس ، أشبه ما لو نتج النصاب نصاباً ، ثم ماتت الأمات فإن الحول لا ينقطع ، كذلك هاهنا ، وخرج أبو الخطاب قولًا بالانقطاع ، ولم يلتفت لذلك أبو محمد في المغني ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن باع مائتي درهم بعشرين ديناراً ، أو عشرين ديناراً بمائتي درهم ، فلا تبطل الزكاة بانتقالها .
ش : لما كان قياس ما تقدم أنه لو باع نصاباً بجنسه أن الحول لا ينقطع ، وأنه لو باعه بغير جنسه [ أن الحول ينقطع ، أراد إن ينبه على أن الدراهم والذهب يخالفان ذلك ، فلو باع نصاباً من الفضة بنصاب ] من الذهب [ أو نصاباً من الذهب ] بنصاب من الدراهم ، لم ينقطع الحول ، لأنهما في حكم الجنس الواحد ، إذ هما قيم المتلفات ، وأروش الجنايات ، والنفع بأحدهما كالنفع بالآخر . وفي معنى ما ذكره الخرقي إذا باع عرضاً للتجارة [ بأحدهما ] أو اشتراهما به ، فإن الحول لا ينقطع ، إذ الزكاة في قيمتها ، وهي أحدهما .
واعلم أن الذي ذكره الخرقي من أن الحول لا ينقطع ببيع أحد النقدين بالآخر يحتمل أنه بناء منه على ما سيأتي له إن شاء الله تعالى من ضم أحد النقدين للآخر ، وهي طريقة أبي محمد ، وطائفة من الأصحاب ، وصححها أبو العباس .
وطريقة القاضي وجماعة منهم أبو البركات أن الحول لا ينقطع [ مطلقاً ] وإن لم نقل بالضم ، والله أعلم .
قال : ومن كانت عنده ماشية ، فباعها قبل الحول بدراهم ، فراراً من الزكاة ، لم تبطل الزكاة عنه .
ش : إذا باع ماشية قبل الحول بدراهم ، فلا يخلو إما أن يفعل ذلك فراراً من الزكاة أو لا ، فإن فعله فراراً من الزكاة ، لم تسقط [ الزكاة ] عنه ، لأن سبب الوجوب وهو انعقاد الحول ، مع ملك النصاب قد وجد ، فلا تسقط [ عنه ] بفعل محرم ، وهذه قاعدة لنا : أن الحيل كلها لإسقاط واجب ، أو لارتكاب محرم باطلة . ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليها في غير هذا الموضع . وقد عاقب الله سبحانه من فر من الصدقة وقصد منع المسكين ، قال الله تعالى : 19 ( { إنا بلوناهم ، كما بلونا أصحاب الجنة ، إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين } ) إلى قوله : 19 ( { فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } ) الآية .
وإن لم يفعل ذلك فراراً من الزكاة فقد انقطع الحول ، ولا زكاة عليه ، لأن الحول لم يحل على مال ، ولا على ما [ هو ] في معناه .
واعلم أن الذي ذكره الخرقي على سبيل المثال ، والضابط على سبيل التقريب والاختصار أنه إن باع نصاباً بجنسه لم ينقطع الحول ، وبغير جنسه فاراً فكذلك ، وغير فار ينقطع ، إلا في بيع العرض بأحد النقدين ، وبيع أحد النقدين بالآخر على ما تقدم .
( تنبيه ) : ظاهر كلام الخرقي أنه يشترط أن يكون البيع فراراً في آخر الحول ، وهو الغالب على كلام كثير من المتقدمين ، واختيار طائفة من المتأخرين ، كابن عقيل ، وأبي البركات ، وغيرهما ، وكان القاضي قديماً ، وأبو الخطاب ، وطائفة من الأصحاب ، ومنهم أبو محمد ، يخصصون ذلك بما إذا [ كان البيع ] فعله في آخر الحول ، كالنصف الثاني من الحول ، أما لو كان في أوله ، أو وسطه ، فإن الحول ينقطع ، والله أعلم .
قال : [ والزكاة تجب في الذمة بحلول الحول ] ، وإن تلف المال ، فرط أو لم يفرط .
ش : هذا الكلام دل على أحكام : ( أحدها ) أن الزكاة تجب في الذمة ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار صاحب التلخيص ، وأبي الخطاب في الانتصار ، وغالي فزعم أن المسألة رواية واحدة ، ورد مأخذ شيخه في التعليق بالعين ، لأنها زكاة واجبة فكان محلها الذمة كزكاة الفطر ، ولأنها لو وجبت في المال لامتنع ربه من التصرف فيه بالبيع والهبة كالمرهون ، ولامتنع من الأداء من غيره ، ولملك الفقراء جزءاً منه مشاعاً ، بحيث يختصون بنمائه ، واللوازم باطلة ، وإذا بطلت بطل الملزوم .
والرواية الثانية وهي المشهورة ، حتى أن القاضي في التعليق وفي الجامع لم يذكر غيرها ، واختارها أبو الخطاب في خلافه الصغير ، والشيرازي وصححها أبو البركات في الشرح .
1209 لظاهر قوله : ( في أربعين شاة شاة ، وفيما سقت السماء العشر ، فإذا كان لك مائتا درهم ، وحال عليها الحول ، ففيها خمسة دراهم ، فإذا كانت لك عشرون ديناراً ، وحال عليها الحول ، ففيها نصف دينار ) فأثبت الزكاة في المال .
وفائدة الخلاف على ما قاله القاضي في التعليق ، وأبو الخطاب ، والشيخان ، وغير واحد لو مضى حولان على نصاب لم يؤد زكاته ( فإن قلنا ) : الزكاة تتعلق بالعين . لم يجب إلا زكاة واحدة ، لأن النصاب قد تعلق للفقراء به حق ، فنقص الملك في ذلك القدر ، ومن شرط وجوب الزكاة استقرار الملك في جميع النصاب وتمامه ، وهذا الملك غير تام في جميعه . ( وإن قلنا ) : الزكاة تتعلق بالذمة . وجبت زكاته لأن النصاب لم يتعلق به شيء ، فالملك في جميعه تام ، اللهم إلا إذا قلنا : إن دين الله يمنع كدين الآدمي . فإنه لا تجب إلا زكاة واحدة ، قاله القاضي وغيره ، ومنع ذلك صاحب التلخيص ، متابعة لابن عقيل ، وقال هنا : لا يمنع ، لأن الشيء لا يمنع مساويه . ثم منع أصل البناء وقال : إنه مناقض لما فسروا به الوجوب في العين ، [ إذ قد فسروه بأنه كتعلق الجناية بالمجني لا كتعلق المرتهن بالرهن ، ولا كتعلق الشريك بالعين ] المشتركة ، ولهذا صح البيع قبل الأداء ، نص عليه ، وتبقى الزكاة على البائع ، لاختياره الإخراج من غيره ، نعم للبائع فسخ البيع في قدر الزكاة ، مع إعسار البائع ، ثم لو كان كتعلق الجناية بالعبد المجني ، لسقط [ بتلف ] المال ، كما تسقط الجناية بتلف العبد المجني [ عليه ] قال : وإذاً تتكرر الزكاة بتكرار الأحوال على كلتا الروايتين ، وتكون فائدة الوجوب في العين انتهاؤه إذا استأصلت المال ، بخلاف الوجوب في الذمة ، وتقديم الزكاة على الرهن قلت : وما تقدم من التعليل لا يرد عليه شيء إن شاء الله تعالى ، وقول القاضي وغيره : أنه كتعليق الجناية بالعبد المجني . هو معنى ما قلناه ، إذ لا شك أن تعلق الجناية بالمجني ينقص الملك فيه [ ويزلزله ] مع أن الملك باق ، لا يمتنع بيعه ، ولا هبته ، ونحو ذلك .
وقوله : إنه يلزم سقوط الزكاة بتلف المال ، كما تسقط الجناية بموت المجني . قلنا : الغرض من التشبيه بالعبد الجاني نقصان الملك مع بقائه لا التشبيه به في جميع أحكامه ، والزكاة وإن تعلقت بالعين ، فهي مع ذلك لها تعلق بالذمة قطعاً ، فإذا وجبت لا تسقط ، كما لا تسقط الصلاة إذا دخل الوقت ، وإن لم يتمكن المكلف من الأداء ، ثم قوله : إن فائدة الوجوب في العين انتهاؤه إذا استأصلت المال ، وهو معنى ما قالوه ، فالذي فر منه وقع فيه .
واعلم أن محل الخلاف والتردد فيما عدا شياه الإبل ، أما في شياه الإبل فإنها تجب في الذمة بلا تردد ، ولأن الواجب من غير الجنس ، وشذ السامري فقال بالتعليق بالعين على روايتها ، قال : لأن التعليق حكمي .
( الحكم الثاني ) : مما دل عليه كلام الخرقي أن الزكاة لا تسقط بتلف المال وإن لم يفرط في الإخراج ، وهذا المذهب المعروف المشهور ، إذ الزكاة حق آدمي ، أو مشتملة عليه ، فلا تسقط بعد وجوبها كدين الآدمي ، أو زكاة واجبة ، فلا تسقط بتلف المال ، كزكاة الفطر ( وحكى ) الشيخان رواية بالسقوط قبل إمكان الأداء ، وذكرها في المغني نصاً من رواية الميمومي ، واختارها ، لأن الزكاة في يده أمانة كالوديعة ، والذي في التعليق من رواية الميموني وجوب الزكاة فرط أو لم يفرط . ( وحكي ) من رواية النيسابوري ما يدل على أنه في الماشية تسقط الزكاة ، وفي الدراهم لا تسقط ، قال أبو حفص : وهو خلاف ما روى الجماعة ، ولعل مدرك هذه الرواية أن السعاة كانوا يعتبرون ما وجدوا [ لا غير ] ولهذا لم يمنع الدين في الأموال الظاهرة ، وقد منع القاضي أنها أمانة ، وفرق بأن [ في ] الأمانة لا يلزمه مؤنة التسليم ، وهنا يلزمه .
ويستثنى المعشرات ، فإنها إذا تلفت بآفة سماوية بعد الوجوب تسقط ، إذ استقراره منوط بالوضع في الجرين .
( الحكم الثالث ) : أن الزكاة تجب بحلول الحول ، ولا يشترط في الوجوب إمكان الأداء وهو صحيح ، لمفهوم قوله : ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ) ولأنه لو اشترط إمكان الأداء لم ينعقد الحول الثاني حتى يتمكن من الأداء ، وليس كذلك ، والله أعلم .
قال : ومن رهن ماشية فحال عليها الحول أدى منها إذا لم [ يكن ] له مال يؤدي عنها ، والباقي رهن .
ش : قد دل كلام الخرقي رحمه الله على أحكام ( أحدها ) : أن الزكاة تجب في العين المرهونة ، وهو واضح ، لأن الملك فيها تام .
( الثاني ) : أنه إذا كان معه ما يؤدي منه الزكاة غير الرهن لزمه الإخراج ، إذ الزكاة بمنزلة مؤونة الرهن ، [ ومؤونة الرهن ] على الراهن ، ولا يجوز له الإخراج من الرهن ، لتعلق حق المرتهن به .
( الثالث ) : إذا لم يكن له ما يؤدي منه الزكاة غير الرهن ، فإنه يخرج منه ، بناء على ما تقدم من أن تعلق الزكاة بالنصاب ، كتعلق الجناية بالعبد المجني ، وحق الجناية مقدم على حق المرتهن ، فكذلك حق الزكاة ، وهذا واضح على القول بتعلق الزكاة بالنصاب ، أما على القول بتعلقها بالذمة ففيه نظر ، لأن حق الراهن يتعلق بالرهن والذمة ، وحق الفقراء والحال هذه لا يتعلق إلا بالذمة ، وماله تعلق بالعين ، آكد مما لا تعلق له بها .
[ وقد يقال : إن المرتهن دخل على ذلك ، لأنه دخل على حكم الشرع ، ومن حكم الشرع وجوب الزكاة ] .
واعلم أن عموم كلام الخرقي هنا يقتضي أن الدين لا يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة لأن كلامه يشمل ما [ إذا ] كان الفاضل عن الدين نصاباً ، وما إذا نقص عن النصاب ، وسيأتي ذلك إن شاء الله سبحانه وتعالى .
باب زكاة الزروع والثمار
ش : الأصل في وجوب الزكاة في ذلك في الجملة قوله تعالى : 19 ( { وآتوا حقه يوم حصاده } ) .
1210 فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال [ في ] حقه : الزكاة المفروضة . وقوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، ومما أخرجنا لكم من الأرض } ) وقد استفاضت السنة بذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وأجمع المسلمون عليه في البر ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، والله أعلم .
قال : وكل ما أخرج الله عز وجل من الأرض مما ييبس ويبقى ، مما يكال ويدخر ، ويبلغ خمسة أوسق فصاعداً ، ففيه العشر ، إن كان سقيه من السماء والسيوح ، وإن كان يسقى بالدوالي والنواضح وما فيه الكلف فنصف العشر .
ش : يشترط [ في ] وجوب الزكاة في الخارج من الأرض شروط : ( أحدها ) : أن يكون مما ييبس ، فلا تجب في الخضراوات كالقثاء ، والخيار ، ونحو ذلك .
1211 لما روي أن معاذاً رضي الله عنه كتب إلى رسول الله في الخضراوات ، [ فكتب ] : ( ليس فيها شيء ) رواه الترمذي وضعفه .
1212 وعن عطاء بن السائب قال : أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات صدقة ، فقال له موسى [ بن طلحة ] : ليس لك ذلك إن رسول الله كان يقول : ( ليس في ذلك صدقة ) رواه الأثرم في سننه ، وهو قوي في المراسيل ، لاحتجاج من أرسله به . ( الشرط الثاني ) : أن يكون مما يبقى ، أي يدخر عادة ، فلا تجب في التين ونحوه ، لعدم ادخاره ، لأن غير المدخر لم تكمل ماليته ، لعدم التمكن من الانتفاع به في المآل ، أشبه الخضر .
1213 وقد روى الأثرم بإسناده 16 ( أن عامل عمر كتب إليه في كروم فيها من الفرسك ما هو أكثر من الكرم أضعافاً مضاعفة ، فكتب إليه عمر : ليس عليها عشر ، هي من العضاه ) .
( الشرط الثالث ) : أن يكون مما يكال ، فلا تجب في الجوز ، والأجاص ، والتين ، ونحوها ، لانتفاء كيلها .
1214 لأن النبي قدر ذلك بالكيل فقال : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) متفق عليه . وفي لفظ لمسلم وأحمد : ( ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة ) والتقدير بالكيل يدل على إناطة الحكم به . ( الشرط الرابع ) : أن يبلغ ذلك خمسة أوسق لما تقدم ، ثم لا بد مع ذلك أن يكون أنبتته أرض مملوكة له .
وقد شمل كلام الخرقي رحمه الله ما كان من القوت كالحنطة ، والشعير ، والقطنيات كالباقلا ، والعدس ، والماش ، ونحو ذلك ، ومن البزور كبزر القثاء ، والخيار [ ونحوهما ] ومن الأبازير ، كالكزبرة ، والكمون ، ونحوهما [ ومن الحبوب كحب البقول ، وحب الفجل ، وسائر الحبوب بالشروط السابقة ] وخالف في ذلك ابن حامد ، فلم يوجب الزكاة في الأبازير وحب البقول [ انتهى ] . وكذلك جميع الثمار كالتمر ، واللوز ، والفستق ونحوها .
وشمل أيضاً ما أنبته الآدميون كما تقدم ، وما نبت بنفسه كبزر قطوناً [ ونحوه ] وهو اختيار القاضي ، وصاحب التلخيص ، وغيرهما ، بشرط أن يكون قد نبت في أرضه كما تقدم . وشرط ابن حامد أن يكون مما أنبته الآدمي ، فلو نبت بنفسه فلا زكاة ، وهو اختيار أبي محمد .
وشمل أيضاً ما كان حباً أو ثمراً كما تقدم ، وما ليس كذلك كالأشنان ، والصعتر ونحوهما ، وهو اختيار العامة . وشرط أبو محمد أن يكون حباً أو ثمراً ، تمسكاً بما تقدم من قوله : ( ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة ) .
ويتلخص الخلاف في ثلاثة شروط :
( أحدها ) : هل من شرطه أن لا يكون أبازير ؟
( الثاني ) : هل من شرطه أن يكون مما أنبته الآدمي ؟
( الثالث ) : هل من شرطه أن يكون حباً أو ثمراً ؟
إذا تقرر هذا فالواجب فيما سقي بغير كلفة كالسيوح ، والسماء ، ونحو ذلك العشر ، وفيما سقي بكلفة كالدوالي ، والنواضح نصف العشر .
1215 لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي قال : ( فيما سقت الأنهار والغيم العشر ، وفيما سقي بالسانية نصف العشر ) رواه مسلم وغيره .
1216 وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن النبي قال : ( فيما سقت السماء والعيون ، أو كان عثرياً العشر وما سقي بالنضح نصف العشر ) رواه البخاري وغيره .
1217 وقال معاذ : بعثني رسول الله إلى اليمن ، فأمرني أن آخذ مما سقت السماء العشر ، وما سقي بالدوالي نصف العشر . رواه النسائي .
ثم أعلم أنه قد خرج من كلام الخرقي رحمه الله الزيتون ، لأنه لا ييبس ، ولا يدخر على حاله ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار أبي بكر ، والقاضي في التعليق ، لفوات الشروط السابقة . ( والرواية الثانية ) : تجب فيه الزكاة . اختارها الشيرازي ، وابن عقيل في التذكرة ، نظراً إلى أنه مكيل ولهذا اعتبر نصابه بالأوسق نص عليه ، ولأن ما يخرج منه يدخر ، ولأن الله تعالى قال : 19 ( { وآتوا حقه يوم حصاده } ) بعد ذكر الزيتون .
1218 والمراد بالحق الزكاة ، كذا روي عن ابن عباس وغيره ، والصحيح أن هذه الآية مكية ، نزلت قبل فرض الزكاة .
وخرج من كلامه القطن أيضاً والزعفران ، لعدم كيلهما ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر والقاضي في التعليق ، وأبي محمد ، لفوات الشرط . ( والرواية الثانية ) : يجب فيها الزكاة . وهو اختيار الشيرازي ، وابن عقيل ، قياساً على الأشنان ونحوه . وفي العصفر ، والورس وجهان ، بناء على الروايتين ، ونصاب هذه حيث أوجبنا الزكاة فيهما أما الزيتون فبالكيل ، نص عليه ، وأما القطن ، والزعفران ، وما لحق بهما ، فاختلف كلام القاضي ، فقال في المجرد : يعتبر نصاب ذلك بالوزن ، فلا بد وأن يبلغ الواحد منها ألفاً وستمائة رطل . وتبعه على ذلك أبو محمد . وقال في التعليق : لم يقع لي عن أحمد مقدار النصاب . قال : ويتوجه أن يقدر بما تكون قيمته خمسة أوسق ، من أدنى نبات يزكى ، وتبعه على ذلك أبو البركات ، وجعل القاضي في التعليق العصفر تبعاً للقرطم ، فإن بلغ القرطم خمسة أوسق وجبت الزكاة ، وإلا فلا .
( تنبيه ) : ( الفرسك ) هو الخوخ ، و ( العضاه ) . و ( الأوسق ) والأوساق جمع وسق بفتح الواو وكسرها . و ( السواني ) جمع سانية ، وهي الناقلة التي يستقى عليها .
1219 ومنه حديث البعير الذي يشكي إلى النبي ، فقال أهله : كنا نسنو عليه . أي نسقي .
و ( العثري ) . . . و ( الدوالي ) جمع دالية ، وهي الدولاب تديره البقر ، والناعورة يديرها الماء و ( النواضح ) جمع ناضح وناضحة ، وهما البعير والناقة ، ويستقى عليها و ( السيوح ) جمع سيح ، قال الجوهري : هو الماء الجاري على وجه الأرض ، والمراد الأنهار ونحوها ، والله أعلم .
قال : والوسق ستون صاعاً .
ش : ( الوسق ) بفتح الواو وكسرها ، والأشهر في اللغة [ أنه ] كما قال الخرقي ، وأطبق علماء الشريعة على ذلك .
1220 وفي المسند ، وسنن ابن ماجه ، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : 16 ( الوسق ستون صاعاً ) . والله أعلم .
قال : والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي .
ش : قد تقدم قدر الرطل العراقي ، وتقدم صاع الماء هل هو خمسة أرطال أو ثمانية ؟ أما ما عداه فلا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه خمسة أرطال وثلث .
1221 لما روى الدارقطني عن إسحاق بن سليمان الرازي ، قال : قلت لمالك بن أنس : 16 ( أبا عبد الله كم قدر صاع النبي ؟ قال : خمسة أرطال وثلث بالعراقي أنا حزرته . فقلت : أبا عبد الله خالفت شيخ القوم ، )6 ( قال : من هو ؟ قلت : أبو حنيفة رحمه الله ، يقول : ثمانية أرطال . فغضب غضباً شديداً ، ثم قال لجلسائه : يا فلان هات صاع جدك ، ويا فلان هات صاع جدك ، ويا فلان هات صاع جدك . قال إسحاق : فاجتمعت آصع ، فقال : ما تحفظون في هذا ؟ فقال هذا : حدثني أبي عن أبيه ، أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي . وقال هذا : حدثني أبي ، عن أخيه ، أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي . فقال الآخر : حدثني أبي ، عن أمه ، أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي . فقال مالك : أنا حزرت هذه ، فوجدتها خمسة أرطال وثلثاً ) .
1222 وروي 16 ( أن أبا يوسف سأل مالك بن أنس بحضرة الرشيد عن مقدار صاع النبي ، فاستهمله إلى الغد ، ثم جاء من الغد ، ومعه أولاد المهاجرين والأنصار ، ومع كل واحد منهم صاعه الذي ورثه عن مورثه ، الذي كان يؤدي به الزكاة إلى رسول الله ) .
( تنبيهات ) : ( أحدها ) : ظاهر كلام الخرقي هنا أن النصاب هنا تحديد ، فلو نقص يسيراً فلا زكاة فيه ، لقوله : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) وهو قول القاضي ، قال : إلا أن يكون نقصاً يدخل [ في ] المكاييل ، كالأوقية ونحوها فلا تؤثر ، وهذا إحدى الروايتين ، ( والثانية ) : أنه تقريب ، وعليها قال في التلخيص : لا تسقط إلا بمقدار لو وزع على الخمسة أوسق لظهر النقصان .
( الثاني ) : النصاب معتبر بالكيل ، [ وإنما ذكر الوزن ليضبط ويحفظ ، ولذلك تعلقت الزكاة بالمكيل ] دون الموزون ، والمكيل يختلف [ فيه ] وزنه ، ونص أحمد رحمه الله على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة . قال في التلخيص : لا تعويل على الوزن إلا في البر ، ثم مكيل ذلك من جميع الحبوب . انتهى . ( وعنه ) أنه قدر ذلك بالعدس .
( الثالث ) : تعتبر الخمسة الأوسق بعد التصفية في الحبوب بلا نزاع ، وبعد الجفاف في الثمار على المذهب ، عند أبي محمد ، وصاحب التلخيص ، وابن عقيل في التذكرة ، وصححه القاضي [ في التعليق ] ، وأبو الخطاب في الهداية . وقال في الروايتين : إنها الأشبه في المذهب .
1223 لأن في حديث أبي سعيد المتقدم ( ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة ) رواه مسلم وأحمد ، والنسائي ، لكن في رواية أخرى لمسلم ( ثمر ) بالثاء ذات النقط الثلاث .
1224 وفي الدارقطني في حديث عتاب : أن النبي أمره أن يخرص العنب زبيباً ، كما تخرص التمر ) . ( وعن أحمد رحمه الله ) رواية أخرى : أنه يعتبر نصاب ثمرة النخل والكرم رطباً وعنباً ، ويؤخذ منه مثل عشر الرطب ، أو نصف عشره ، تمراً أو زبيباً ، وهذا نص عنه ، واختيار الخلال ، وصاحبه أبي بكر في الخلاف ونصبها الشريف ، وأبو الخطاب ، وشيخهم في خلافاتهم ، مع أن شيخهم صحح الأولى وذلك لظاهر قول النبي : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) مفهومه [ أنه ] إذا بلغها وجبت ، ولم يعتبر الجفاف .
1225 وعن عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال : أمر رسول الله أن يخرص العنب كما يخرص النخل ، فتؤخذ زكاته زبيباً ، كما تؤخذ صدقة النخل تمراً . رواه أبو داود ، والترمذي . فأمر بخرص العنب ولم يشترط الجفاف ، ( وحمل أبو محمد ) هذه الرواية على أنه [ أراد أن ] يؤخذ عشر ما يجيء منه من التمر إذا بلغ رطباً خمسة أوسق . قال : لأن إيجاب قدر عشر الرطب من التمر ، إيجاب لأكثر من العشر ، وذلك يخالف النص والإجماع . ( وهذا ) التأويل لا يصح ، فإن أحمد قال في رواية الأثرم : قال الشافعي رحمه الله يخرص ما يؤول إليه ، وإنما هو على ظاهر الحديث ، قيل له فإن خرص عليه مائة وسق رطباً ، يعطي عشرة أوسق تمراً ؟ فقال : نعم هو على ظاهر الحديث ، وهذا نص صريح في مخالفة التأويل ، وقوله : إنه يخالف النص والإجماع . مردود إذ لا نص صريح ، وأحمد قد خالف ، فأين الإجماع ، والله أعلم .
قال : والأرض أرضان ، صلح وعنوة ، فما كان من صلح ففيه الصدقة .
ش : يعني إذا صالحنا الكفار على أرض كانت بأيديهم ، فيقع ذلك تارة على أن الأرض لهم ، ولنا الخراج عنها ، فالخراج والحال هذه في حكم الجزية ، متى أسلموا سقط عنهم ، وإن انتقلت إلى مسلم فلا خراج عليه ، وإن زرعها المسلم فعليه الزكاة بشرطها ، بالإجماع قاله ابن المنذر .
والغرض من ذكر هذه [ المسألة ] أن أرض الصلح ، ليس فيها إلا العشر ، بخلاف أرض العنوة ، على ما سيأتي إن شاء الله ، والله أعلم .
قال : وما كان عنوة أدى عنها الخراج ، وزكى ما بقي إذا بلغ خمسة أوسق ، وكان لمسلم .
ش : العنوة هي ما أجلي عنها أهلها بالسيف ، وهي أرض كثيرة فتحها عمر رضي الله عنه ، ووقفها على المسلمين ، وضرب عليها خراجاً معلوماً ، يؤخذ ممن هي في يده في كل عام ، فهذه إذا زرعت اجتمع الخراج والعشر بشرطه ، وهذا الغرض من ذكر هذه المسألة ، أن العشر والخراج يجتمعان ، لعموم قوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، ومما أخرجنا لكم من الأرض } ) وقوله : ( فيما سقت السماء العشر ) ولأن الخراج بمنزلة الأجرة ، فجاز اجتماعه مع العشر ، كالأرض المؤجرة ، ولأنهما حقان يجبان عن عين ، فلم ينف أحدهما الآخر ، دليلة قيمة الصيد والجزاء ، وأجرة الدكان وزكاة التجارة .
1226 وما يروى عن أبي حنيفة عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال : ( لا يجتمع العشر والخراج على مسلم في أرضه ) فيرويه عن أبي حنيفة يحيى بن عنبسة وهو هالك . قال ابن حبان : ليس هذا الحديث من كلام رسول الله ، ويحيى بن عنبسة دجال يضع الحديث ، وهو كذب على أبي حنيفة ومن بعده ، إلى رسول الله . وقال ابن عدي : لم يصل هذا الحديث غير يحيى ، وهو مكشوف الأمر ، ورواياته عن الثقات الموضوعات .
وقول الخرقي : وكان لمسلم . لأن الزكاة لا تجب إلا على مسلم ، ونبه على هذا وإن كان فهم من قوله السابق : الأحرار المسلمين . لئلا يتوهم [ متوهم ] أن اختصاص هذه المسألة بالذكر لاختصاصها بحكم غير ما تقدم .
وقوله : أدى عنها [ الخراج ] وزكى ما بقي إن كان خمسة أوسق . لأن الزكاة لا تجب إلا في هذا القدر ، وهو صريح في أن الخراج مقدم على الزكاة ، فتمتنع الزكاة في قدره .
وأصل هذا أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة ، كالنقدين ، والعروض ، على المذهب بلا ريب . وهل يمنع في الأموال الظاهرة ، كالزروع ، والماشية ؟ ( فيه روايتان ) ، أشهرهما وهي اختيار أبي بكر ، وابن أبي موسى ، والقاضي ، وأكثر الأصحاب ، يمنع ؛ لقول النبي في حديث معاذ : ( أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة ، تؤخذ من أغنيائهم ) والمدين ليس بغني .
1227 يرشحه قول النبي : ( لا صدقة إلا عن ظهر غني ) ولأن الزكاة مواساة ، ولا مواساة مع الدين .
1228 واعتمد أحمد رحمه الله بأن عثمان رضي الله عنه خطب الناس فقال : هذا شهر زكاتكم ، فمن كان عليه دين فليؤد دينه ، ثم ليزك ما بقي . فلم يأمر بإخراج الزكاة عن المؤدى في الدين ، وهذا قاله بمحضر من الصحابة ، ولم ينقل مخالفته ، فيكون إجماعاً ( والثانية ) : لا يمنع لعموم ( في خمس من الإبل شاة ، وفيما سقت السماء العشر ) ولأنه كان يبعث [ السعاة ] إلى أرباب الأموال الظاهرة ، وكذلك خلفاؤه بعده ، ولم ينقل [ عنهم ] أنهم سألوا أربابها : هل عليكم دين ؟ ولأن أنفس [ الفقراء ] تتشوف إليها ، بخلاف الباطنة ، وعلى هذه الرواية ما لزمه لمؤنة الزرع ، من أجرة كحصاد ، وكراء أرض ، ونحو ذلك يمنع ، نص عليه أحمد ، وذكره ابن أبي موسى ، وقال : رواية واحدة ، وتبعه صاحب التلخيص ، وحكى أبو البركات رواية أخرى : أن الدين لا يمنع في الظاهرة مطلقاً . قال أبو العباس : ولم أجد بها نصاً عن أحمد .
إذا تقرر هذا فقول الخرقي في الخراج : إنه يؤديه ، ويزكي الباقي إن بلغ خمسة أوسق . يحتمل أن يتعدى هذا إلى كل دين ، فيكون من مذهبه أن الدين يمنع مطلقاً ، كما هو المشهور ، ويكون غرضه من المسألة السابقة فيما إذا رهن ماشية ، أن الزكاة تؤدي من عين الرهن ، إذا لم يكن له ما يؤدي [ عنه ] وهذا أوفق للمذهب ويحتمل أن يريد أن الدين لا يمنع في الظاهرة ، بناء على [ ظاهر ] إطلاقه ثم ، وعلى مقتضى كلامه في باب زكاة الدين ، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، لكن يستثنى من ذلك ما لزمه من مؤنة الزرع ، كما نص عليه أحمد ، وقال ابن أبي موسى : إنه رواية واحدة ، والله أعلم .
قال : وتضم الحنطة إلى الشعير ، وتزكى إذا كانت خمسة أوسق ، وكذلك القطنيات .
ش : اختلفت الرواية عن أحمد : هل تضم الحبوب بعضها إلى بعض ؟ . ( فعنه ) : لا تضم مطلقاً ، وإليها ميل أبي محمد ، لأنهما جنسان ، فلا يضم أحدهما إلى الآخر ، كالتمر ، والزبيب ، لكن قد نقل إسحاق بن إبراهيم أن أحمد رجع عن هذا ، فقال بعد أن نقل عنه القول بعدم الضم : قد رجع أبو عبد الله عن هذه المسألة ، وقال : يضم الذهب إلى الفضة ويزكى ، وكذلك الحنطة إلى الشعير ، يضم بعضه إلى بعض ، وضم القليل إلى الكثير هو أحوط . قال القاضي : وظاهر هذا الرجوع عن منع الضم .
( وعنه ) : يضم بعضها إلى بعض مطلقاً ، اختارها أبو بكر ، والقاضي في التعليق على ما رأيت في النسخة المنقول منها ، لظاهر قول النبي : ( لا زكاة فيما دون خمسة أوساق من حب ولا تمر ) مفهومه أنه إذا بلغ خمسة أوساق من حب ففيه الصدقة ، وهو شامل بظاهره كل حب ، [ وكذا ] علل أحمد بأنه يطلق عليها اسم حبوب ، واسم طعام .
( وعنه ) : تضم الحنطة إلى الشعير ، والقطنيات بعضها إلى بعض . اختارها الشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وحكيت عن القاضي ، وهي ظاهر كلام الخرقي ، لأن الحنطة والشعير في حكم الجنس الواحد ، لاتفاقهما في المنبت ، والمحصد ، والإقتيات ، فجرى ذلك مجرى أنواع الحنطة ، كالبر ، والعلس ، وكذلك القطاني تتفق في المنبت ، والمحصد وكونها تؤكل أدماً وطبخاً .
( تنبيه ) : القطنيات بكسر القاف وفتحها ، مع تخفيف الياء وتشديدها ، فيهما ، جمع قطنية ، ويجمع أيضاً [ على ] قطاني ، فعليه من : قطن يقطن في البيت . أي يمكث فيه ، وهي حبوب كثيرة ، فمنها الحمص ، والعدس ، والماش ، والجلبان ، واللوبيا ، والدخن والأرز ، والباقلا ، فهذه وما يطلق عليه هذا الاسم يضم بعضه إلى بعض ، أما البزور فلا تضم إليها ، لكن يضم بعضها إلى بعض على هذه الرواية ، كالكزبرة والكراويا ونحو ذلك ، وحبوب البقول لا تضم إلى القطاني ، ولا البزور ، وما تقارب منها ضم بعضه إلى بعض ، وما شككنا فيه فلا يضم ، وحيث قيل بالضم فإنه يؤخذ من كل جنس ما يخصه ، ولا يؤخذ من جنس عن غيره إلا في الذهب والفضة ، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
قال : وكذلك الذهب والفضة ، وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أنه لا يضم ، ويخرج من كل صنف [ على انفراده ] إذا كان منصباً للزكاة ، والله أعلم .
ش : أي وكذلك الذهب والفضة يضم بعضها إلى بعض ، وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أنه لا يضم ، ويخرج من كل صنف إذا كان منصباً للزكاة ، أي محلًا للزكاة ، بأن يبلغ نصاباً بانفراده ، وقد تقدمت هذه الرواية في الحبوب ، أما الذهب والفضة ففي ضم أحدها إلى الآخر [ إذا لم يبلغ كل منهما نصاباً ، أو بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر ] روايتان مشهورتان : ( إحداهما ) : يضمان . اختارها الخلال ، والقاضي ، وولده ، وعامة أصحابه ، كالشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وابن عقيل في التذكرة ، وابن البنا ، لأنهما في حكم الجنس الواحد ، إذ هما قيم المتلفات ، وأروش الجنايات ، ويجمعهما لفظ الأثمان ، واستدل القاضي بقوله تعالى : 19 ( { والذين يكنزون الذهب والفضة ، ولا ينفقونها في سبيل الله } ) الآية قال : فظاهرها وجوب الزكاة فيهما في عموم الأحوال ، وأجاب عن إفراد الضمير بأن العرب تذكر المذكر ، وتعطف عليه المؤنث ، ثم تكني عن المؤنث وتريدهما ، كما في قوله تعالى : 19 ( { واستعينوا بالصبر والصلاة ، وإنها لكبيرة } ) وقوله تعالى : 19 ( { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } ) ( والثانية ) : لا يضمان . اختارها أبو بكر في التنبيه ، مع اختياره في الحبوب الضم ، وهو ظاهر رواية الميموني ، وقال لأحمد : إذا كنا نذهب في الذهب والفضة إلى أن لا نجمعهما [ لم لا نشبه الحبوب بهما ؟ قال : هذه يقع عليها إذا لم يبلغ كل منهما نصاباً ، أو بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر اسم طعام ، واسم حبوب . قال : ورأيت أبا عبد الله في الحبوب يحب جمعها ] ، وفي الذهب ، والبقر ، والغنم ، والفضة لا يجمع ، وذلك لأنهما جنسان فلا يجمعان ، كالتمر ، والزبيب ، ولظاهر قول النبي : ( ليس فيما [ دون ] خمس أواق صدقة ) .
1229 وفي حديث عمرو بن شعيب : ( ليس في أقل من عشرين مثقالًا من الذهب شيء ) انتهى . وحيث قلنا بالضم فإنه بالأجزاء لا بالقيمة ، على ظاهر رواية الأثرم ، وسأله عن رجل عنده ثمانية دنانير ، ومائة درهم ، فقال : [ إنما قال ] : من قال فيها الزكاة إذا كانت عشرة دنانير ، ومائة درهم . وهذا اختيار القاضي في جامعه وفي تعليقه ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما وأبي محمد ، نظراً إلى أنه لو وجب التقويم في حال الإنفراد لوجب في حال الإجتماع ، دليله العبد في التجارة ، يقوم منفرداً ، ومع غيره من العروض ، وعن القاضي أظنه في المجرد أنه قال : قياس المذهب أنه يعتبر الأحظ للمساكين [ من الأجزاء والقيمة ، قال في التعليق : وقد أومأ إليه أحمد في رواية المروذي ، فقال : أذهب إلى الضم ، هو أحظ للمساكين ] ، فاعتبر الاحتياط قياساً على الثوبين في التجارة .
( تنبيه ) : مما يتعلق بالضم : هل يخرج أحد النقدين عن الآخر ؟ فيه روايتان مشهورتان ، اختار أبو بكر منهما المنع ، كما اختار عدم الضم ، ووافقه أبو الخطاب هنا ، وخالفه ثم ، فاختار الضم ، وأبو محمد صحح [ هنا ] الجواز . ولم يصحح [ ثم ] شيئاً ، والله سبحانه أعلم .
باب زكاة الذهب والفضة
ش : الأصل في زكاة الذهب والفضة قوله تعالى : 19 ( { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } ) الآية فظاهر هذا الوعيد أنه عن واجب ، وفي البخاري في حديث أنس رضي الله عنه : ( وفي الرقة ربع العشر ) .
وفي الصحيحين في حديث أبي سعيد : ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) .
1230 وفيهما أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فأحمي عليها في نار جهنم ، فيكوى به جنبه ، وجبينه وظهره ، كلما بردت أعيدت له ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضي الله بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) مع أن هذا إجماع في الجملة .
( تنبيه ) : ( الرقة ) : الهاء فيها بدل من الواو في الورق والورق بكسر الراء وإسكانها الفضة المضروبة ، وقيل : وغيرها ، كما هو المراد بالحديث . ( والأواقي ) : بتشديد الياء [ وتخفيفها ، جمع أوقية بضم الهمزة ، وتشديد الياء ] وأنكر الجمهور ( وقية ) وحكى اللحياني الجواز . وجمعها وقايا .
والأوقية الشرعية أربعون درهماً بلا نزاع ، وخص ( الجنب ، [ والجبين ] والظهر ) بالذكر دون بقية الأعضاء ، نظراً لحال البخيل . المسؤول لأنه إذا سئل قطب وجهه ، وجمع أساريره ، فيتجعد جبينه ، ثم إن تكرر الطلب ناء بجنبه ، ثم إن ألح عليه في الطلب ولى بظهره ، وهي النهاية في الرد .
و ( فيرى ) يروى على البناء للفاعل والمفعول ، والله أعلم .
قال : ولا زكاة فيما دون المائتي درهم ، إلا أن يكون في ملكه ذهب أو عروض للتجارة ، فيتم به .
ش : نصاب الفضة مائتا درهم ، بلا نزاع بين أهل العلم ، وقد ثبت ذلك بسنة رسول الله ففي الصحيحين [ ما تقدم ] من حديث أبي سعيد : ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) .
1231 وفي البخاري من حديث أنس : ( فإن لم يكن إلا تسعين ومائة ، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها ) فإذا كان عنده دون المائتي درهم ، فلا زكاة [ عليه ] ، إلا أن يكون عنده ذهب فيتم به [ لما تقدم على المذهب من أن كل واحد من النقدين يضم إلى الآخر ، أو يكون عنده عروض للتجارة فيتم به ] إذ عرض التجارة يضم إلى كل واحد من النقدين ، ويكمل به نصابه بلا نزاع ، لأن الزكاة تجب في قيمتها ، وهي تقوم بكل واحد منهما ، فتضم إلى كل واحد منهما ، والله أعلم .
قال : وكذلك دون العشرين مثقالًا .
ش : يعني من الذهب ، لا زكاة فيها إلا أن تكون عنده فضة أو عروض ، فيتم به ، وإنما قلنا : نصاب الذهب عشرون مثقالًا .
1232 لما تقدم في حديث علي : ( وليس عليك شيء [ يعني ] في الذهب حتى يكون لك عشرون ديناراً ، [ فإذا كانت لك عشرون ديناراً ] وحال عليها الحول ، ففيها نصف دينار ، فما زاد فبحساب ذلك ) قال الحارث : فلا أدري أعلي يقول : بحساب ذلك ، أم رفعه إلى النبي . رواه أبو داود .
1233 وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي أنه قال : ( ليس في أقل من عشسرين مثقالًا من الذهب ، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة ) رواه أبو عبيد .
وظاهر كلام الخرقي أن النصاب [ في النقدين ] تحديد ، فلو نقص يسيراً لم تجب الزكاة ، وهو اختيار أبي الفرج والشيرازي ، وأبي محمد ، اعتماداً على الأصل واستصحاباً [ للبراءة ] الأصلية ، حتى يتحقق [ الموجب ] ، وتمسكاً بظاهر قوله : ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) . والمشهور عند الأصحاب أنه لا يعتبر النقص [ اليسير ] كالحبة والحبتين ، لاختلاف الموازين بذلك ، ثم بعد ذلك يؤثر نقص ثمن ، في رواية اختارها أبو بكر ، وفي أخرى في الفضة ثلث درهم ، وفي أخرى في الذهب نصف مثقال ، ولا يؤثر الثلث .
( تنبيه ) : لا فرق بين التبر والمضروب ، كما اقتضاه كلام الخرقي ، وشرط النصاب أن يكون خالصاً ، فلو كان مغشوشاً فلا زكاة حتى يبلغ النقد الخالص فيه نصاباً ، لأن قوله : ( ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ) إنما ينصرف للخالص ، والدراهم المعتبرة هنا ، وفي نصاب السرقة ، وغير ذلك ، هي التي كل عشرة فيها سبعة مثاقيل بمثقال الذهب ، وكانت الدراهم في الصدر الأول صنفين ( طبرية ) ، وهي أربعة دوانيق ( وسوداء ) وهي ثمانية دوانيق ، فجمعا وجعلا درهمين متساويين ، كل درهم ستة دوانيق ، فعل ذلك بنو أمية ، فصارت عدلًا بين الصغير والكبير ، ووافقت سنة رسول الله ، ودرهمه الذي قدر به المقادير الشرعية ، أما المثقال فلم يختلف في جاهلية ولا إسلام ، والله أعلم .
قال : فإذا تمت ففيها ربع العشر .
ش : أي إذا تمت الفضة مائتي درهم ففيها ربع العشر ، وإذا تمت العشرون ديناراً ففيها ربع العشر ، لما تقدم من حديثي أبي سعيد وعلي ، قال أبو محمد : ولا نعلم فيه خلافاً ؛ والله أعلم .
قال : وفي زيادتها وإن قلت .
ش : أي في زيادة المائتي درهم وإن قلت ربع العشر ، وفي زيادة العشرين ديناراً وإن قلت ربع العشر ، لعموم قوله : ( وفي الرقة ربع العشر ) خرج منه ما دون المائتي درهم بالنص ، فيبقي فيما عداه على مقتضي العموم ، وما تقدم من حديث علي رضي الله عنه ، والله أعلم .
قال : وليس في حلي المرأة زكاة إذا كان مما تلبسه أو تعيره .
ش : المذهب المنصوص ، المختار للأصحاب أنه لا زكاة في الحلي في الجملة ، قال أحمد في رواية الأثرم : فيه عن خمسة من أصحاب رسول الله .
1234 وقد رواه مالك في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها ، وابن عمر .
1235 ورواه الدارقطني عن أسماء بنت أبي بكر ، وأنس بن مالك .
1236 وقال أبو يعلى : أنبأنا القاضي أبو الطيب الطبري ، قال : ثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الباقي ، قال : ثنا أبو الحسين أحمد بن المظفر الحافظ ، قال : ثنا أحمد بن عمير بن جوصا ، قال : ثنا إبراهيم بن أيوب [ قال : ثنا عافية بن أيوب ] عن ليث بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي قال : ( ليس في الحلي زكاة ) وهذا نص ، إلا أنه ضعيف من قبل عافية ) .
ولأنه عدل به عن النماء إلى فعل مباح ، أشبه ثياب البذلة ، وعبيد الخدمة ، ودور السكني ، أو نقول : معد لاستعمال مباح ، أشبه ما ذكرنا .
وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى حكاها ابن أبي موسى : تجب فيه الزكاة ، لعموم قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } الآية ، وقوله : ( في الرقة ربع العشر ) ولعموم مفهوم : ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) .
1237 وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن [ جده ] قال : إن امرأة أتت النبي ومعها ابنة لها ، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب ، فقال : ( أتعطين زكاة هذا ؟ ) قالت : لا . قال : ( أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار ؟ ) [ فخلعتهما ] ، فألقتهما إلى النبي ، وقالت : هما لله ولرسوله . رواه الترمذي ، والنسائي ، وأبو داود ، وهذا لفظه .
1238 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل عليَّ رسول الله فرأى في يدي فتخات من ورق ، فقال : ( ما هذا يا عائشة ) ؟ فقلت : صنعتهن أتزين لك يا رسول الله . قال : ( أتؤدين زكاتهن ؟ ) فقلت : لا . أو ما شاء الله . قال : ( هو حسبك من النار ) . رواه أبو داود . وقد أجيب عن عموم الآية ، والحديثين الأولين بدعوى تخصيصهما بما تقدم . وعن الحديثين الآخرين بأن فيهما كلاماً ، وقد قال الترمذي بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب : لا يصح في هذا الباب شيء وعلى تسليم الصحة بأن ذلك حين كان الحلي بالذهب حراماً على النساء ، فلما أبيح لهن سقطت منه الزكاة ، قاله القاضي وغيره .
1239 [ أو ] بأن المراد بالزكاة عاريته ، هكذا روي عن سعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وغيرهما ، ويجوز التوعد على المندوبات ، كما في قوله تعالى : 19 ( { ويمنعون الماعون } ) أو بأن المراد ما صنع بعد وجوب الزكاة فيه .
إذا تقرر هذا فقد تقدمت الإشارة بأن الأصل وجوب الزكاة في الذهب والفضة ، إلا حيث عدل به عن جهة النماء ، إلى فعل مباح مطلوب ، كما إذا صيره للبس ، أو للعارية .
أما الحلي المحرم قال أبو العباس : وكذلك المكروه . وما أعد للكراء ، أو التجارة أو النفقة عند الحاجة [ إليه ] فهو باق على أصله في وجوب الزكاة .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين قليل الحلي وكثيره ، وهو المذهب . نعم يقيد ذلك بما جرت عادتهن بلبسه ، كالسوار ، والتاج ، والخلخال ، بخلاف ما لم تجر عادتهن به ، كمنطقة الرجل ، واتخاذ قبقاب [ من ذهب ] ونحو ذلك ، فإنه يحرم ، وتجب فيه الزكاة . وجعل ابن حامد ما بلغ ألف مثقال يحرم [ في حقها مطلقاً ، وحكاه في التلخيص رواية ، وتوسط ابن عقيل فقال : إن بلغ الحلي الواحد ألف مثقال حرم ] وإن زاد المجموع على ألف فلا .
( تنبيه ) : ( المسكة ) بالتحريك السوار من الذبل ، وقيل : هي من قرن الأوعال ، وإذا كانت من غير ذلك أضيف إلى ما هي منه ، فيقال : من ذهب ، أو من فضة . أو غير ذلك ( والفتخة ) بالتحريك ، وجمعها فتخات بفتحتين ، حلقة من فضة لا فصّ لها ، فإذا كان فيها فص فهي خاتم . وقال عبد الرزاق : هي الخواتم ، وتجعل في الأرجل ، وقيل في الأيدي ، والله أعلم .
قال : وليس في حلية سيف الرجل ، ومنطقته ، وخاتمه زكاة .
ش : إنما سقطت [ الزكاة ] من ذلك لإباحتها للرجال ، فهي كحلية النساء ، [ إذ قد صرفت عن جهة النماء إلى فعل مباح ، أشبهت ثياب البذلة ] والدليل على إباحة ذلك .
1240 أما السيف فلأن أنساً رضي الله عنه قال : كانت قبيعة سيف النبي فضة .
1241 وقال هشام بن عروة : كان سيف الزبير محلى بالفضة . رواهما الأثرم . وأما المنطقة فلأن ذلك معتاد للرجل ، أشبه الخاتم ، وهذا المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين . وعن أحمد رحمه الله أنه كرهها ، لما فيها من الفخر ، والخيلاء .
1242 وأما الخاتم فلأن النبي اتخذ خاتماً من ورق ؛ متفق عليه .
( تنبيهات ) : ( أحدها ) : قول الخرقي يشمل التحلية بالذهب والفضة ، وينبغي أن يحمل كلامه على الفضة ، لأن الذهب لا يباح منه إلا حلية السيف ، على المشهور [ من الروايتين ] ولا يلحق به كل سلاح على قول العامة ، خلافاً للآمدي ، وما دعت إليه الضرورة كشد الأسنان به ، ولا يباح اليسير منه مفرداً كالخاتم ، بلا خلاف أعلمه ولا تبعاً لغيره على المذهب ، فلو حمل كلامه على الذهب لزم فساده في الخاتم قطعاً ، وفي المنطقة على المذهب .
( الثاني ) : قول الخرقي : حلية السيف . يشمل القبيعة ، وهي ما على طرف مقبضه وغيرها ، وأكثر الأصحاب يخص ذلك بالقبيعة ، وكان أبو العباس كتب في شرح العمدة فيما يباح من الذهب قبيعة السيف ، ثم ضرب عليه ، وكتب : حلية السيف . وهذا مقتضى كلام أحمد .
1243 لأنه قال : روي أنه كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب . وقال : إنه كان لعمر سيف فيه سبائك من ذهب . [ والمنطقة [ تجعل في الوسط ، وتسميها العامة الحياصة .
( الثالث ) : ظاهر كلام الخرقي [ أنه ] لا يباح للرجل تحلية غير هذه الثلاثة . وقد خرج القاضي في الجوشن ، والدرع ، والخوذة ، والمغفر وجهين . ( أحدهما ) أنها كالمنطقة ، وهو قول الأكثرين ، أبي الخطاب ، وابن عقيل ، والمتأخرين ( الثاني ) المنع رواية واحدة ، كما هو ظاهر كلام الخرقي ، والخف ، والران ، عند القاضي ، والآمدي ، وأبي الخطاب ، والأكثرين كالجوشن ، وعند ابن عقيل لا يباح ، ففيه الزكاة ، وكذلك الحكم عنده في الكمران ، والخريطة قال أبو العباس : وعلى قول غيره هما كالخف . وقال التميمي : يكره عمل خفين من فضة كالنعلين ، ولا يحرم ، وألحق أبو الخطاب وجماعة حمائل السيف وهي علائقه [ بالمنطقة ] وجزم القاضي بالمنع ، وحكاه عن أحمد . والله أعلم .
قال : والمتخذ آنية الذهب والفضة عاص ، وفيها الزكاة .
ش : هذا المشهور المعروف ، المنصوص [ عليه ] من الروايتين ، حتى أن القاضي في التعليق ، وجمهور الأصحاب لم يحكوا خلافاً ، إذ الإِتخاذ يراد للاستعمال ، والاستعمال محرم ، فكذلك الإِتخاذ ، دليله آلات اللهو ، كالطنبور ، والعود . ( والرواية الثانية ) : يباح الإِتخاذ ، نظراً [ إلى ] أن المحرم الاستعمال ، أما الإِتخاذ فإنه تغيير المال من صفة إلى صفة ، فلا يؤثر والله أعلم .
قال : وما كان من الركاز وهو دفن الجاهلية ، قل أو كثر ففيه الخمس لأهل الصدقات ، وباقيه فله .
ش : عرف الخرقي رحمه الله الركاز بأنه دفن الجاهلية ، ويعرف ذلك بأن توجد عليه أسماء ملوكهم ، أو صلبانهم ، ونحو ذلك . قال مالك رحمه الله في الموطأ : الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا ، والذي سمعت أهل العلم يقولون ، أن الركاز إنما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية ، ما لم يطلب بمال ، ولم يتكلف فيه بنفقة ، ولا كبير عمل ولا مؤنة . انتهى أما ما وجد عليه علامة المسلمين كأسماء ملوكهم ، وأنبيائهم ، أو آية من القرآن ، أو نحو ذلك ، أو على بعضه ، فليس بركاز ، لأن ذلك قرينة صيرورته إلى مسلم ، وكذلك لو لم يوجد عليه علامة ، لانتفاء الشرط ، وهو علامة الكفار ،
إذا تقرر [ ذلك ] فما حكم بأنه ركاز ففيه الخمس .
1244 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( العجماء جبار ، والبئر جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس ) رواه الجماعة ، ولا فرق بين القليل والكثير ، لعموم الحديث ، ولأنه مال مخمس من مال الكفار ، أشبه الغنيمة ، ومصرف الخمس لأهل الزكاة ، في إحدى الروايتين ، اختارها الخرقي ، نظراً إلى أنه مستفاد من الأرض ، أشبه المعدن .
1245 وعن علي رضي الله عنه أنه أمر صاحب الكنز أن يتصدق به عل المساكين ، حكاه الإِمام أحمد . ( والرواية الثانية ) وهي اختيار ابن أبي موسى ، والقاضي في تعليقه وجامعه وابن عقيل ، وأبي محمد أن مصرفه مصرف الفيء ، لأنه مال كافر مخموس ، أشبه الغنيمة .
1246 ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه والباقي بعد الخمس لواجده ، وله صور : ( إحداها ) : إذا وجده في موات ، أو في أرض لا يعلم مالكها ، أو في ملكه الذي ملكه بالإِحياء ، ونحو ذلك ، فهذا يكون له بلا نزاع . ( الثانية ) : وجده في ملك انتقل إلبه بهبة أو بيع ، أو غير ذلك ، [ فهو ] لواجده أيضاً ، في أنص الروايتين ، واختيار القاضي في التعليق ، نظراً إلى أنه يملك بالظهور عليه ، أشبه الغنيمة .
( والرواية الثانية ) : يكون لمن انتقل عنه إن اعترف به ، وإلا فلأول مالك ، قال أبو محمد : فإن لم يعرف أول مالك فكالمال الضائع ، نظراً إلى يملك بملك الأرض كأجزائها ولهذه المسألة التفات إلى مسألة المباح من الكلأ ونحوه ، هل يملك بملك الأرض ، أو لا يملك إلا بالأخذ ؟ فيه روايتان ، كذا أشار إليه القاضي وغيره .
( الثالثة ) : وجده في ملك آدمي معصوم ، كأن دخل دار إنسان فحفر فوجد ركازاً ، فحكمه حكم الذي قبله ، فيه الروايتان عند أبي البركات ، وأبي محمد في المقنع وقطع صاحب التخليص هنا تبعاً لأبي الخطاب في الهداية أنه لمالك الأرض ، وقد أورد على القاضي هذه المسألة ، فقال : لا يمتنع أن يقول : [ إنه ] لواجده ، كما لو وجد طائراً أو ظبياً . انتهي . وقد نص أحمد فيمن استأجر إنساناً ليحفر له بئراً ، فوجد ركازاً ، أنه لصاحب الدار ، ونص في رواية الكحال في الساكن إذا وجد كنزاً أنه له ، ومن مسألة الأجير أخذ القاضي وغيره الرواية في الملك المنتقل إليه [ أنه يكون لمن انتقل إليه ] قالوا : لأنه لم يجعله للأجير بالظهور ، بل جعله لمالك الأرض ، ثم إن القاضي في التعليق كلامه يقتضي أنه سلم مسألة الأجير ، فقال لما أورد عليه الأجير : عمله لغيره . وهذا التسليم يمنع من جريان الخلاف ، ويشعر بتقرير النصوص على ظواهرها .
( الرابعة ) : وجده في أرض الحرب بنفسه ، فهو ركاز ، وإن وجده بجماعة لهم منعة فهو غنيمة .
واعلم أن ظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق [ بين ] أن يكون الركاز ذهباً ، أو عروضاً ، أو غير ذلك ، ونص عليه أحمد . وظاهر كلامه أيضاً أن هذا الخمس لا يجب إلا على مسلم ، فإنه قال : يصرف لأهل الصدقات . فيكون صدقة ، وقد قال : إن الصدقة لا تجب إلا على الأحرار المسلمين . وكذا قال في التلخيص ، إن قلنا : إنه زكاة . لم تجب على الذمي ، [ وإن قلنا : إنه فيء . وجب عليه ، وقدم في المغني أنه يجب على الذمي ] ثم قال : ويتخرج أن لا يجب عليه بناء على أنه زكاة ، قال : والأول أصح .
( تنبيه ) : العجماء : الدابة ، والجبار : الهدر ، يعني أن الدابة إذا أتلفت شيئاً فلا شيء فيه ، وهذا له موضع يذكر فيه إن شاء الله تعالى ، وكذا المعدن والبئر إذا تلف بهما أجير فلا شيء فيه ، والله أعلم .
قال : وإذا أخرج من المعادن [ من الذهب ] عشرين مثقالًا ، أو من الورق مائتي درهم ، أو قيمة ذلك من الرصاص ، أو الزئبق أو الصفر ، أو غير ذلك مما يستخرج من الأرض ، فعليه الزكاة من وقته والله أعلم .
ش : المعادن جمع معدن بكسر الدال ، قال الأزهري : سمي معدنا لعدون ما أنبته الله سبحانه وتعالى فيه ، أي لإِقامته يقال : عدن بالمكان ، يعدن عدونا ، والمعدن المكان الذي عدن فيه الجوهر من جواهر الأرض ، أي ذلك كان . انتهى ، وصفة المعدن الذي تتعلق به الزكاة ما يخرج من الأرض ، مما يخرق [ فيها ] من غيرها ، سواء كان أثمانا أو غيرها ، ينطبع أو لا ينطبع ، لعموم قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، ومما أخرجنا لكم من الأرض } والأصل في وجوب الزكاة فيه في الجملة هذه الآية الكريمة .
1247 وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن غير واحد ، أن رسول الله أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القبلية ، وهي من ناحية الفرع ، فتلك المعادن لا يؤخذ منها [ إلا ] الزكاة إلى اليوم . رواه أبو داود ، ومالك في الموطأ . قال أبو عبيد : القبلية بلاد معروفة في الحجاز .
وإنما تجب الزكاة إذا أخرج نصاباً من الذهب ، أو الفضة ، أو ما يبلغ أحدهما من غيرهما ، لعموم قوله : ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) ليس عليك شيء [ يعني ] في الذهب ، حتى يكون لك عشرون ديناراً وإنما لم يلحق بالركاز لأن الركاز مال كافر ، أشبه الغنيمة ، وهذا وجب مواساة ، وشكر لنعمة الغنى ، فاعتبر له النصاب كسائر الأموال ، ولا يعتبر له الحول كما تقدم ، ولأنه مستفاد من الأرض ، أشبه الزورع والثمار ، وقدر الواجب فيه ربع العشر ، لعموم قوله : ( في الرقة ربع العشر ) ولأن الواجب زكاة ، بدليل قصة بلال رضي الله عنه ، وإذا كان زكاة كان الواجب فيه ربع العشر بلا ريب ، وإنما ترك الخرقي رحمه الله والله أعلم التنبيه على ذلك اكتفاء بذكر نصاب الذهب والفضة ، إذ بذلك ينتبه الناظر ، على أن الواجب فيه كالواجب فيهما .
وقد شمل كلام الخرقي [ رحمه الله ما أخرجه من أرض مباحة ، أو مملوكة ، وهو صحيح ، وشمل أيضاً ] الإِخراج على أي صفة كان ، وقد شرط الأصحاب في الإِخراج أن يخرجه في دفعة أو دفعات ، لم يترك العمل بينهما ترك إهمال ، والله سبحانه أعلم .
باب زكاة التجارة
ش : الأصل في وجوب زكاة التجارة عموم قوله تعالى : 19 ( { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } ) الآية وقوله : 19 ( { والذين في أموالهم حق معلوم } ) .
1248 وروى سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : أما بعد فإن رسول الله كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع . رواه أبو داود .
1249 وعن ابن عمر رضي الله عنهما : ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة . رواه البيهقي . مع أن ذلك قد حكاه ابن المنذر إجماعاً ، وإن كان قد حكي فيه خلاف شاذ عن داود ونحوه ، والله أعلم .
قال : والعروض إذا كانت للتجارة قومها إذا حال [ عليها ] الحول وزكاها .
ش : العروض جمع عرض بسكون الراء ، ما عدا الأثمان ، كأنه سمي بذلك لأنه يعرض ليباع ويشترى ، تسمية للمفعول باسم المصدر ، كتسمية المعلوم علماً . والحكم الذي حكم به الخرقي ، وجوب الزكاة في عروض التجارة ، وقد تقدم [ دليل ] ذلك ، واشترط لذلك حولان الحول .
1250 وذلك لعموم قول النبي : ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ) [ وظاهر ] إطلاق الخرقي يقتضي [ وجوب ] الزكاة لكل حول ، وهو كذلك ، خلافاً لمالك في اقتصاره على وجوب الزكاة في الحول الأول .
وقوله : قومها . إشعار لايعتبر ما اشتريت به ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى . وفيه إشارة بأن الزكاة تجب في القيمة لا في العين ، وأن الإِخراج يكون منها .
وقوله : إذا كانت للتجارة . صيرورتها للتجارة بأن يملكها بفعله ، بنية التجارة بها ، ولا يشترط أن يملكها بعوض على الأصح ، فلو ملكها بغير فعله كأن ملكها بإرث أو بفعله لكن لم ينو التجارة بها لم تصر للتجارة ، وكذا إن ملكها بفعله لكن بلا عوض كأن اتهبها ، أو غنمها على وجه ، نعم لو نواها للتجارة بعد ففيه روايتان يأتي بيانها إن شاء الله تعالى .
( تنبيه ) : وقدر الواجب ربع العشر بلا نزاع ، والله أعلم .
قال : ومن كانت له سلعة للتجارة ، ولا يملك غيرها ، وقيمتها دون المائتي درهم ، فلا زكاة عليه حتى يحول [ عليه ] الحول من يوم ساوت مائتي درهم .
ش : يشترط لوجوب الزكاة فيما أعد للتجارة أن تبلغ قيمته نصاباً [ بلا نزاع ، ويعتبر وجود النصاب في جميع الحول كالأثمان ، فعلى هذا لو كانت عنده سلعة للتجارة لا تبلغ قيمتها نصاباً ] فلا زكاة فيها حتى تبلغ قيمتها نصاباً ، فينعقد عليها الحول إذاً على المذهب ، حتى جعله رواية واحدة ، وقيل عنه إذا كمل النصاب بالربح ، فحوله حين ملك الأصل كالماشية في رواية .
وقوله : ومن كانت له سلعة للتجارة ولا يملك غيرها . احترازاً مما إذا ملك غيرها من الدراهم أو الدنانير ، فإنه يضم إليها ، فإن بلغا نصاباً انعقد الحول عليهما ، وإلا فلا .
وقوله : ساوت مائتي درهم . وكذلك إذا ساوت عشرين مثقالًا ، لما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
قال : وتقوم السلع إذا حال عليها الحول بما هو أحظ للمساكين من عين أو ورق ، ولا يعتبر ما اشتريت به .
ش : لأنه قد وجب تقويمه لحق المساكين شرعاً ، فاعتبر الأحظ لهم ، كما لو اشترى سلعة بعرض فحال عليها الحول ولها نقدان مستعملان ، فإنها تقوم بما هو أحظ للمساكين ، [ فكذلك ههنا ] فعلى هذا إذا بلغت قيمتها نصاباً بالدراهم دون الدنانير قومت به ، وإن كان اشتراها بالدنانير ، وكذلك بالعكس ، فإن بلغت بكل منهما نصاباً ، قومت بالأحظ منهما أيضاً للفقراء عند القاضي ، وأبي محمد في الكافي ، وصاحب التلخيص وغيرهم .
وقال في المغني : تقوم بأيهما شاء ، لكن الأولى أن تقوم بنقد البلد ، والله أعلم .
قال : وإذا اشتراها للتجارة ، ثم نواها للاقتناء ، ثم نواها للتجارة ، فلا زكاة فيها حتى يبيعها ، فيستقبل بثمنها حولًا .
ش : أما إذا اشتراها للتجارة ثم نواها للاقتناء ، فلا إشكال في انقطاع الحول ، وسقوط الزكاة ، لأنه نوى ما هو الأصل وهو القنية ، فوجب اعتباره ، كما لو نوى المسافر الإِقامة ، فإذا عاد فنواها للتجارة لم تصر للتجارة ، على أنّ الروايتين ، [ وأشهرهما ] واختارها الخرقي ، والقاضي ، وأكثر الأصحاب ، لأن ما لا تتعلق به الزكاة من أصله ، لا يصير محلاً لها بمجرد النية ، كالمعلوفة إذا نوى فيها السوم .
( والثانية ) : تصير للتجارة اختارها أبو بكر ، وابن أبي موسى ، وابن عقيل ، وأبو محمد في العمدة ، لعموم حديث سمرة المتقدم ، ولأنها تصير للقنية بمجرد النية ، فكذا للتجارة بل أولى ، تغليباً للإِيجاب ، وفرق بأن القنية هي الأصل ، فالنية ترد إليها ، بخلاف التجارة ، فعلى الأولى لا زكاة حتى يبيغ العرض فيستقبل بثمنه حولًا ، والله أعلم .
قال : وإذا كان في ملكه منصب للزكاة ، فاتجر فيه ، أدى زكاة الأصل مع النماء إذا حال [ عليه ] الحول ، والله أعلم .
ش : حول النماء في التجارة حول الأصل ، إذ لو اعتبر لكل جزء حول لأفضى ذلك إلى حرج ومشقة ، وهما منتفيان شرعاً ، ولأنه نماء جار في الحول ، تابع لأصله في الملك ، فضم إليه في الحول كالنتاج ، ودليل الأصل قول عمر رضي الله عنه لساعيه : 16 ( اعتد عليهم بالسخلة ، ولا تأخذها منهم . والله سبحانه أعلم ) .
باب زكاة الدين والصدقة
ش : الصدقة بفتح الصاد وضم الدال ، لغة في الصداق بفتح الصاد وكسرها ، وفيه لغتان أخريان ، صدقة بسكون الدال ، مع فتح الصاد وضمها ، والله أعلم .
قال : وإذا كان معه مائتا درهم وعليه دين فلا زكاة عليه .
ش : قد تقدمت هذه المسألة مبسوطة في باب زكاة الزروع [ والثمار ] ، ونزيد هنا أن ظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن يكون الدين لآدمي أو لله تعالى كالكفارة ونحوها ، وفي دين الله تعالى حيث منع دين الآدمي [ روايتان أصحهما أنه كدين الآدمي . ( والثانية ) : لا يمنع وإن منع دين الآدمي ] ، ومبنى ذلك عند القاضي وأتباعه على أن الدين هل يمنع وجوب الكفارة وفيه روايتان ، فإن قيل : [ يمنع . لم تمنع الكفارة ونحوها الزكاة ، لضعفها عن الدين ، وإن قيل ] : لا يمنع . منعت الكفارة الزكاة ، لأنها إذاً أقوى من الدين ، وإذا منع الضعيف قالقوي [ من باب ] أولى . واختلف في الخراج ، بل من ديون [ الآدميين ] ، كديون بيت المال ، والزكاة دين الله تعالى ، فيمنع الزكاة عند الأكثرين ، كالكفارة ، وعند ابن عقيل ، وصاحب التخليص : لا يمنع . قالا : لأن الشيء لا يمنع مساويه ، والله أعلم .
قال : وإذا كان له دين على مليء فليس عليه زكاة حتى يقبضه ، فيؤدي لما مضى .
ش : دل كلام الخرقي على مسائل : ( إحداها ) : أن الزكاة تجب في الدين على المليء ، وهذا مقتضى ما روي عن علي ، وعائشة ، وابن عمر رضي الله عنهم كما سيأتي ، وذلك لعموم النصوص ( في الرقة ربع العشر ) فإذا كان لك عشرون ديناراً ، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار ) ونحو ذلك ، ولأنه مال ممكن الاستيفاء ، تام الملك ، فوجبت فيه الزكاة ، كبقية الأموال . ( المسألة الثانية ) : أنه لا يجب أداء الزكاة حتى يقبض ، فيؤدي عنه إذاً ، على المذهب المعروف المنصوص ، إذ الزكاة مواساة ، وليس من المواساة إخراج زكاة مال لم يقبضه .
1251 وقد روى أحمد بسنده عن عائشة وعلي [ وابن عمر رضي الله عنهم ] أنهم كانوا لا يرون في الدين زكاة حتى يقبض . ذكر ذلك أبو بكر . وحكى الشيرازي رواية أخرى أن الأداء يجب قبل القبض ، لأنه نصاب مقدور على أخذه بالطلب ، أشبه الوديعة . ( المسألة الثالثة ) : أنه إذا قبض زكي لما مضى من الأحوال ، على المذهب المشهور أيضاً ، لأنه في جميع الأحوال عى حال [ واحد ] فترجيح بعضها بالوجوب [ ترجيح ] بلا مرجح ، وقيل عنه ( رواية أخرى ) أن الزكاة تجب لحول واحد فقط .
وقوله : على مليء . أي بماله وقوله وبدنه . فيخرج منه المعسر ، والجاحد ، والمماطل ، والحكم في ذلك كالحكم في المال المغصوب على ما سيأتي .
وشمل كلام الخرقي المؤجل ، وبه قطع صاحب التلخيص ، وأبو محمد في كتابيه ، معتمداً على أنه ظاهر كلام أحمد ، وفي بعض نسخ المقنع إجراء روايتي الدين على المعسر فيه ، وهي طريقة القاضي والآمدي ، وفرق بأن الأجل ثابت باختياره ، وله في التأخير فائدة ، فأشبه ما لو دفعه إلى آخر مضاربة .
وقوله : حتى يقبضه . لا مفهوم له ، بل لو قبض البعض زكى بحسابه على المذهب ، وقيل : إن قبض دون نصاب فلا شيء عليه إلا أن يكون بيده ما يتمه به ، والله أعلم .
قال : وإذا غصب مالًا زكاه إذا قبضه لما مضى ، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله والرواية الأخرى قال : ليس هو كالدين الذي [ متى ] قبضه زكاه لما مضى ، وأحب [ إليّ ] أن يزكيه .
ش : الرواية الأولى نقلها مهنا ، و [ أبو ] الحارث ، واختارها القاضي ، وأبو بكر وأبو الخطاب ، وابن عقيل ، وابن عبدوس ، وأكثر الأصحاب ، لعموم ما تقدم في التي قبلها ، والمنع [ من ] التصرف لا أثر له ، بدليل المال المرهون . ( والرواية الثانية ) : نقلها إبراهيم بن الحارث وغيره ، واختارها أبو محمد في العمدة ، إذ الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة ، بدليل أنها لا تجب إلا في مال نام ، فلا تجب في العقار ونحوه ، وحقيقة النماء ومظنته منتفية ههنا ، لعدم القدرة على التصرف .
1252 وقد روي عن عثمان وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا : لا زكاة في مال الضمار . وهوالمال الذي لا يعرف مالكه موضعه . ( وفي المذهب رواية ثالثة ) : أن ما لا يؤمل رجوعه كالمسروق ، والمغصوب ، والمجحود لا زكاة فيه ، وما يؤمل رجوعه كالدين على المفلس ، أو الغائب المنقطع خبره فيه الزكاة . قال أبو العباس : وهذه أقرب إن شاء الله تعالى ، ( وفيه رواية رابعة ) : أن الذي عليه الدين إن كان يؤدي زكاته فلا زكاة على ربه ، وإلا فعليه الزكاة ؛ [ نص عليه في المجحود ] حذارا من وجوب زكاتين في مال واحد .
( تنبيه ) : وكذا الخلاف في المال المسروق ، والضال ، والدين على معسر [ أو جاحد ] أو مماطل ونحو ذلك ، والله أعلم .
قال : واللقطة إذا صارت بعد الحول كسائر مال الملتقط استقبل بها حولًا ثم زكاها .
ش : إنما تصير اللقطة كسائر مال الملتقط إذا كانت مما يملك بعد الحول ، على ما سيأتي وإذاً يستقبل بها حولاً ، فإذا مضى الحول زكاها ، ولا يحتسب بحول التعريف ، لعدم الملك إذاً ، وهذا منصوص أحمد ، لأنه ملكها ملكاً تاماً ، فوجبت فيها الزكاة كبقية أمواله ، وكون لمالكها انتزاعها إذا عرفها لا يضر ، بدليل ما وهبه الأب لابنه ، وعن القاضي : لا زكاة فيها ، نظراً إلى أنه ملكها مضمونة عليه بمثلها أو قيمتها ، فهي دين عليه في الحقيقة ، وكذلك عن ابن عقبيل ، [ لكن ] نظر إلى عدم استقرار الملك فيها ، ورد الأول بأن البدل إنما يثبت بظهور المالك ، والثاني بما وهبه الأب لابنه ، والله أعلم .
قال : فإن جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعاً منها .
ش : هذه صورة من صور المال الضال ، وقد تقدم الخلاف فيه ، وأن المذهب وجوب الزكاة ، ولو لم يملكها الملتقط بعد الحول زكاها مالكها لجميع الأحوال على المذهب ، والله أعلم .
قال : والمرأة إذا قبضت صداقها زكته لما مضى .
ش : ينعقد الحول على الصداق على المذهب المشهور المعروف ، حتى أن القاضي جعله في التعليق رواية واحدة [ وذلك لعموم ما تقدم في غيره من الديون ] ( وقيل عنه ) : لا ينعقد ، لأن الملك فيه غير تام ، إذ هو بصدد أن يسقط أو يتنصف ، وقيل : محل الخلاف فيما قبل الدخول ، فعلى المذهب إن كان الصداق على مليء زكي عند القبض لما مضى ، وإن كان على غير مليء جرى فيه الخلاف السابق ، هذا كله إن كان الصداق في الذمة ، أما إن كان معيناً كأن أصدقها هذه الخمس من الإِبل ونحو ذلك فإن الحول ينعقد عليها من حين الملك بلا ريب ، نص عليه أحمد ، وقال القاضي : رواية واحدة ، ولو لم تقبض الصداق فإن كان لجحد [ الزوج ] أو فلسه ونحو ذلك فلا شيء على المرأة ، إذ لا مواساة مع انتفاء القبض ، وكذلك ما سقط لطلاق الزوج ، إذ لا صنع لها في ذلك ، أما من سقط لفسخها فاحتمالان ( الوجوب ) ، لأنه سبب من جهتها ( وعدمه ) لعدم تصرفها ، ومن هنا اختلف عن أحمد رحمه الله فيما إذا وهبت المرأة [ زوجها ] صداقها ، ( فعنه ) وهو الصحيح عند القاضي عليها زكاته ، وعلله أحمد بأنه كان في ملكها ، يعني وقد تصرفت فيه بالهبة ، فأشبه ما لو أحالت به أو قبضته ، ( وعنه ) : الزكاة على الزوج ، لأنه ملك ما ملك عليه قبل قبضه منه ، فكأنه لم يزل [ ملكه ] عنه ، ولأبي محمد في الكافي احتمال بنفي الزكاة عنهما ، المبريء لعدم قبضه ، والمدين لأن ذلك سقط عنه فلم يملكه ، والله أعلم .
قال : والماشية إذا بيعت بالخيار فلم ينقض الخيار حتى ردت استقبل البائع بها حولًا ، سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري ، لأنه تجديد ملك ، والله أعلم .
ش : هذا مبني على أصل ، وقد أشار إليه الخرقي ، وهو أن البيع ينقل الملك إلى المشتري بمجرد العقد ، إن لم ينقض الخيار ، على المشهور من الروايتين .
1253 لقول النبي : ( من باع عبداً وله مال فماله للبائع ، إلا أن يشترطه المبتاع ) جعله للبائع بمجرد البيع . ( والرواية الثانية ) لا ينتقل الملك إلا بانقضاء مدة الخيار ، فعلى الأولى إذا كان المبيع مما تجب فيه الزكاة فقد انتقل الملك فيه بمجرد العقد ، فينقطع حول البائع ، فإذا رد عليه فقد تجدد له الملك بعد زواله ، فيستقبل به حولًا ، وعلى الرواية الأخرى الملك باق له ، فكذلك الحول ، وقول الخرقي : إذا بيعت بالخيار ، وكذلك لو ردت في مدة خيار المجلس ، والله أعلم .
باب زكاة الفطر
ش : من باب إضافة الشيء إلى سببه ، إذ سبب وجوبها الفطر من رمضان ، أما ( الفطرة ) فكلمة مولدة ، وقد عدها بعضهم مما يلحن فيه العامة ، وإن كان قد استعمل كثيراً من كلام الفقهاء وغيرهم .
والأصل في وجوبها قيل : قوله تعالى : 19 ( { قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى } ) .
1254 فعن سعيد بن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز أنها زكاة الفطر .
1255 والمعتمد في الوجوب على ما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : فرض رسول الله زكاة الفطر صاعاً من تمر ، أو صاعاً من شعير ، على الحر والعبد ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير من المسلمين ، وأمر بها أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة . متفق عليه واللفظ للبخاري .
ودعوى أن : فرض . بمعنى : قدر . مردود بأن كلام الراوي لا سيما الفقيه محمول على الموضوعات الشرعية .
1256 وبأن في الصحيح أيضاً في حديثه : أمر رسول الله بزكاة الفطر صاعاً من تمر ، أو صاعاً من شعير . قال عبد الله : فجعل الناس مكانه مدين من حنطة واختلف عن أحمد رحمه الله في زكاة الفطر هل تسمى فرضاً ؟ على روايتين ، مبناهما على أنه لا يسمى فرضاً إلا ما ثبت في الكتاب ، وما ثبت بالسنة يسمى واجباً ، أو أن كل ثابت وإن كان بالسنة يسمى فرضاً ، والله أعلم .
قال : وزكاة الفطر واجبة على كل حر وعبد ، ذكر وأنثى من المسلمين .
ش : هذا نص رواية ابن عمر المتقدم ، فاعتمد الخرقي عليها ، وكفى بذلك معتمداً ، وقد دخل في الحديث وفي كلام الخرقي اليتيم ، فتجب في ماله ، وخرج الكافر ، وإن كان عبداً ، أو صغيراً [ وفي المذهب وجه أنها لا تجب على من لم يكلف بالصوم ، نظراً إلى أنها طهرة للصائم كما ورد ، ومن لا يكلف بصوم ، لا حاجة إلى تطهير صومه ] .
( تنبيه ) : لو هلَّ هلال شوال على عبد مسلم ملكاً لكافر فهل تجب على سيده الكافر بطرته ، فيه وجهان ، مبناهما على أن السيد هل هو متحمل أو أصيل ؟ فيه قولان ، إن قلنا : إنه متحمل وجبت عليه ، وإن قلنا : أصيل ، لم تجب عليه ، والله أعلم .
قال : صاع بصاع النبي ، وهو خمسة أرطال وثلث بالعراقي ، من كل حبة وثمرة تقتات .
ش : الواجب في الفطرة صاع ، لما تقدم من حديث ابن عمر .
1257 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام ، أو صاعاً من شعير ، أو صاعاً من تمر ، أو صاعاً من زبيب ، أو صاعاً من أقط ، فلم نزل نخرجه حتى كان معاوية ، فرأى أن مدين من بر تعدل صاعاً من تمر . قال أبو سعيد : أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه ما عشت . متفق عليه ، ( وخرج ) إجزاء نصف صاع بر كما في الكفارات ، ويشهد له فعل معاذ .
1258 وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي بعث منادياً في فجاج مكة ( ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ، ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، صغير أو كبير ، مدان من قمح أو سواه صاع من طعام ) رواه الترمذي انتهى . والصاع بصاع النبي خمسة أرطال وثلث ، لما تقدم في باب زكاة الزروع .
وصفة المخرج أبن يكون من كل حبة وثمرة تقتات على قول الخرقي ، وأبي بكر ، إذ المتفق عليه في الحديث بلا ريب البر ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وذلك حب أو ثمرة تقتات ] فاعتبر ما شابهها في الوصفين ، ولم يعتبر ابن حامد ، وصاحب التلخيص إلا القوتية فقط .
1259 نظراً إلى قول النبي ( أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم ) وبالقوت يحصل الغنى لا بغيره ، ولأن الشارع قد نص على الأقط ، وليس بحب ، ولا ثمر ، فعلى هذا يجزيء اللحم وإن كان سمكاً ، واللبن ونحو ذلك لمن كان قوته ، وعلى الأول لا يجزيء ولأبي الحسن ابن عبدوس [ احتمال ] أنه لا يجزيء غير الخمسة المنصوص عليها ، وتبقى الفطرة عند عدمها في ذمته ، والله أعلم .
قال : وإن أعطى أهل البادية الأقط صاعاً أجزأ إذا كان قوتهم .
[ ش : نقل بكر بن محمد ، وحنبل عن أحمد ما ] يدل على أن الأقط أصل بنفسه ، فقال : وقد سئل عن صدقة الفطر صاع من شعير ، أو تمر ، أو أقط ، أو زبيب ، أو حنطة . فعلى هذا يجزئ مع وجود الأربعة المذكورة وإن لم يكن قوته ، وهذا اختيار أبي بكر ، وجزم به ابن أبي موسى ، والقاضي وأبو الخطاب في خللافيهما ، وابن عقيل ، وابن عبدوس ، وابن البنا ، والشيرازي وغيرهم .
1260 لأن في رواية النسائي في حديث أبي سعيد المتقدم قال : فرض رسول الله صدقة الفطر صاعاً من طعام ، أو صاعاً من شعير ، أو صاعاً من تمر ، أو صاعاً من أقط . مع أن اقترانه بالأربعة في الروايات الصحيحة ، مشعر بأنه كهي .
ونقل عنه ابن مشيش [ ما يدل على أنه بدل ، فقال في رواية ابن مشيش ] : إذا لم يجد التمر فأقط ، هذا نقل القاضي في روايتيه ، ولفظه في تعليقه عن ابن مشيش : إذا أعطى الأعرابي صاعاً من البر أجزأ عنه ، والأقط أعجب إلى ، على حديث أبي سعيد ؛ ونحو هذا اللفظ نقل حنبل ، وبكر بن محمد ، وهذا لا يعطي رواية ، إنما يدل على أن الأقط لأهل البادية أفضل ، لكن أبا الخطاب في الهداية ، وصاحب التلخيص والشيخين ، وغيرهم ، على حكاية رواية البدلية ، وذلك لأنه [ لا ] يجزيء في الكفارة ، أشبه اللحم ، والمشهور من رواية أبي سعيد : كنا نخرج . وقد يكون ذلك لكونه قوتهم ، واختلف الحاكون لهذه الرواية ، فقال صاحب التلخيص ، و أبو محمد ، تبعاً لأبي الخطاب : لا يجزيء إلاعند عدم الأربعة . وقال أبو البركات : لا يجزيء إلا لمن هو قوته . وظاهره : وإن وجدت ، وهذا مقتضى قول الخرقي ، وإنما ذكر أهل البادية نظراً إلى الغالب . انتهى ، فعلى الأول وهو المذهب في إجزاء اللبن والجبن وجهان .
( تنبيه ) : الأقط فيه أربع لغات ، تثليث الهمزة مع سكون القاف ، وفتح الهمزة مع كسر القاف ، وهو شيء يعمل من اللبن المخيض ، وزعم ابن الأعرابي أنه يعمل من ألبان الإِبل [ خاصة ، والله أعلم .
قال : واختيار أبي عبد الله رحمه الله إخراج التمر .
ش : أفضل الخمسة المنصوص عليها التمر ، وإن كان قوت ] البلد غيره ، نص عليه أحمد في رواية أبي داود ، وظاهر إطلاقه : وإن كان غيره أعلى [ منه ] قيمة ، وصرح به القاضي ، لما تقدم من حديث ابن عمر ، فإنه لم يذكر البر فيما فرضه رسول الله ، إنما ذكر التمر والشعير ، ثم هو راوي الحديث ، وقد كان يواظب على إخراج التمر .
1261 ففي النسائي ، والموطأ ، وغيرهما أنه كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر ، إلا مرة واحدة فإنه أخرج شعيراً ، وفي لفظ : فأعوز أهل المدينة التمر عاماً ، فأعطى الشعير .
1262 وقد روى الإِمام أحمد رحمه الله عن أبي مجلز قال : قلت لابن عمر : إن الله قد أوسع ، والبر أفضل من التمر ، قال : إن أصحابي سلكواب طريقاً ، وأنا أحب أن أسلكه . وظاهر هذا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يداومون على إخراجه ، ولأنه ساوى غيره في القوتية ، وزاد عليه بالحلاوة ، وقرب التناول . وحكى ابن حمدان [ رواية ] أن الأقط أفضل لمن هو قوته ، ولعل يعتمدها رواية ابن مشيش ونحوها المتقدمة ، وهي إنما تعطي أنه أفضل من البر .
واختلف في الأفضل بعد التمر ، فعند الأكثرين الزبيب ، ثم البر ، ثم الشعير ، لأنه يساوي التمر في القوتية ، والحلاوة ، وقرب التناول ، فألحق به ، وإنما قدم التمر عليه لاتفاق الأحاديث [ عليه ] ولمداومة الصحابة [ عليه ] ولأنه أقوى في القوتية ، وعند أبي محمد في كتابيه : الأفضل بعد التمر البر ، لأنه أبلغ في الإِقتيات ، فيكون أوفق لقول النبي ( أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم ) وأفضل ، ولهذا جعل معاوية مداً منه يعدل مدين وإنما عدل عنه إلى التمر لفعل الصحابة ، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل ، وله احتمال في المغني أن الأفضل بعد البر ما كان أغلى قيمة ، وأكثر نفعاً ، وهو ظاهر قوله في المقنع ، وقد تقدم نص أحمد أن الأقط لمن هو قوته أفضل من البر ، والله أعلم .
قال : ومن قدر على البر أو التمر أو الشعير أو الزبيب أو الأبط فأخرج غيره لم يجزئه .
ش : هذا هو المذهب المعروف المشهور لظاهر حديث ابن عمر وأبي سعيد ، إذ ظاهرهما أنه لم يفرض غير ذلك ، فالعدول عن ذلك عدول عن المنصوص عليه ، أشبه ما لو عدل إلى القيمة ، وخرج أبو بكر قولًا آخر أنه يعطي ما قام مقام الخمسة على ظاهر الحديث ( صاعاً من طعام ) والطعام قد يكون براً أو شعيراً ، أو ما دخل فيه الكيل ، ويجاب بأنه قد جاء ( صاعاً من بر ) مكان ( طعام ) ، فدل على أن المراد بالطعام البر .
وقد دل كلام الخرقي على أنه متى أخرج التمر ونحوه أجزأه ، وإن كان القوت في غيره ، ودل على أن ما تقدم من قوله : ( من كل حبة وثمرة تقتات ) أنه مع عدم الخمسة .
وقد يقال : إن ظاهر كلامه أنه لا يجزيء الدقيق ولا السويق مع وجود أصليهما ، لأن الروايات الصحيحة ليسا فيها والمنصوص عن أحمد رحمه الله إجزاؤهما .
1263 لأن سفيان بن عيينة ذكر في حديث أبي سعيد ( أو صاعاً من دقيق ) وهو ثقة فتقبل زيادته ، وقد اعتمد أحمد على ذلك في رواية مهنا ، فقال : سفيان بن عيينة يقول : عن محمد بن عجلان ، عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح ، عن أبي سعيد [ يقول : دقيقاً . قلت له : أي شيء مذهبك في هذا ؟ فقال : حديث عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد ] ولأن النبي قال : ( أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم ) ولا ريب أن الغنى يحصل بالدقيق أكثر من الزبيب ونحوه ، وقال ابن أبي موسى : لا يجزيء السويق ، لأنه خرج عن الأقتيات لعموم الناس ، بخلاف الدقيق .
( تنبيه ) يعتبر صاع الدقيق [ والسويق ] بوزن حبهما ، ولا يشترط نخل الدقيق ، والله أعلم .
[ قال : ومن أعطى القيمة لم تجزئه ] .
ش : نص على هذا أحمد رحمه الله ، معتمداً على قول ابن عمر : فرض رسول الله . الحديث ، ومن دفع القيمة لم يعط ما فرضه رسول الله .
1264 وعن معاذ أن رسول الله قال له حين بعثه إلى اليمن : ( خذ الحب من الحب ، والشاة من الغنم ، والبعير من الإِبل ، والبقر من البقر ) رواه أبو داود ، وظاهره وجوب ذلك ، والله أعلم ] .
قال : ويخرجها إذا خرج إلى المصلى .
ش : لا إشكال في مطلوبية إخراج زكاة الفطر عند الخروج إلى صلاة العيد تحقيقاً لقول النبي : ( أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم ) .
1265 لأن في البخاري في حديث ابن عمر : فرض رسول الله صدقة الفطر . الحديث وقال فيه : وأن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ، ولمسلم : أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ، ولأبي داود : وكان ابن عمر يؤديها قبل خروج الناس إلى الصلاة . أما إن قدمها على ذلك فسيأتي [ بيان ذلك ] إن شاء الله تعالى ، فإن أخرها عن الصلاة ففي بقية اليوم تجوز ، وتقع إذاً ، لحصول الغنى في ذلك اليوم ، لكن يكره ذلك عند أبي محمد ، لعدم حصول الغنى في جميع اليوم ، ولم يكرهه القاضي ، وشدد بعض الأصحاب فجعلها بعد الصلاة قضاء لظاهر ما تقدم .
1266 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : فرض رسول الله زكاة القطر طهرة للصائم من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين ، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات . رواه أبو داود ، وبعد يوم العيد يأثم ، وهي قضاء بلا ريب . والله أعلم .
قال : وإن قدمها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه .
ش : هذا منصوص أحمد رحمه الله ، وقول أصحابه ، لا أعلمهم يختلفون في ذلك .
1267 لأن [ في ] حديث ابن عمر في الصحيح : وكانوا يعطون قبل العيد بيوم أو يومين .
وهذا إشارة إلى جماعتهم ، فيكون كالإِجماع ، وقوله : ( أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم ) لا يدفع ذلك ، إذ ما قارب الشيء أعطي حكمه .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يجوز تقديمها أكثر من ذلك وهو المذهب بلا ريب ، إذ ظاهر الأمر بأدائها قبل الصلاة ، والإِغناء عن السؤال في يوم العيد ، ونحو ذلك [ يقتضي ] أن لا يجوز التقديم مطلقاً ، خرج منه التقديم باليوم واليومين لما تقدم فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل ، ( وقيل عنه ) : يجوز تقديمها بثلاث .
1267 لأن في رواية الموطأ أن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة . ( وقيل عن أحمد ) : رواية ثالثة : يجوز تقديمها بعد نصف الشهر ، كما يجوز تقديم أذان الفجر بعد نصف الليل . ( وفي المذهب قول رابع ) : تجوز من أول الشهر ، لدخول سبب الوجوب ، أشبه تقديم زكاة المال بعد النصاب ، وقبل تمام الحول الذي به الوجوب ، والدليل على أن الصيام سبب الوجوب قول ابن عباس المتقدم : فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم الحديث .
1269 وفي الصحيح في حديث ابن عمر : فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان . فأضافها إلى الفطر من رمضان .
1270 وفي سنن أبي داود ، والنسائي عن الحسن البصري رضي الله عنه قال : خطب ابن عباس رضي الله عنهما في آخر رمضان ، على منبر البصرة فقال : أخرجوا صدقة صومكم . انتهى وفرق بين هذا وبين صدقة المال ، بأنه إذا خرج هنا من أول الشهر لم يحصل المقصود الذي قصده الشارع بالإِغناء عن السؤال في يوم العيد ، بخلاف ثم .
( تنبيه ) : وقت الوجوب [ على الصحيح المنصوص ] يدخل بغروب شمس آخر يوم من رمضان ، على الصحيح [ المنصوص ] المشهور من الروايتين ، لما تقدم من حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما : فرض رسول الله [ صدقة الفطر من رمضان ، فرض رسول الله زكاة الفطر ، طهرة للصائم والفطر من رمضان في الحقيقة يحصل بغروب الشمس من آخر ] يوم من رمضان ، فوجب أن يتعلق الوجوب به ( [ والرواية ] الثانية ) تجب بطلوع فجر يوم العيد ، لأن الفطر من رمضان على الإِطلاق [ يقع ] على يوم الفطر .
1271 قال النبي ( فطركم يوم تفطرون ) فأضاف الفطر على الإِطلاق إلى اليوم .
1272 ونهى عن صيام يومين ( يوم فطركم من صيامكم ، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم ) ورد بأن الفطر في الحقيقة إنما هو بخروج وقت الصوم كما تقدم ، وقوله : ( الفطر يوم تفطرون ) أي الفطر بالنهار يوم تفطرون .
وينبني على ذلك أنه لو ملك عبداً ، أو ولد له ولد ، أو تزوج أو أسلم قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان وجب عليه له ولهم وبعد طلوع فجر يوم العيد لا تجب ، وفيما بينهما الروايتان ، ولو كان معسراً فأيسر قبل الغروب وجبت ، [ وبعد طلوع الفجر لا تجب ، وفيما بينهما الخلاف .
( وعنه ) رواية أخرى : إن أيسر يوم العيد وجبت ] : اختارها أبو العباس ، لحصول اليسار في وقت الوجوب فهو كالمتمتع إذا قدر على الهدي يوم النحر ، ( وعنه ) إن أيسر في أيام العيد وجبت ، وإلا فلا ، فيحتمل أن يريد أيام النحر ، ويحتمل أن يريد الستة من شوال ، لأنه قد نص في رواية أخرى أنه إذا قدر بعد خمسة أيام يخرج ( وعن أحمد ) رواية أخرى : تبقى في ذمته ككفارة الظهار ونحوها ، والأول اختيار الأكثرين ، والله سبحانه أعلم .
قال : ويلزمه أن يخرج عن نفسه وعن عياله ، إذا كان عنده فضل عن قوت يومه وليلته .
ش : يلزمه أن يخرج عن نفسه بلا ريب ، والأحاديث صريحة بذلك ، وعن عياله وهم من يمونه .
1273 لأنه يروى في بعض طرق حديث ابن عمر : فرض رسول الله الفطر عن كل صغير ، وكبير ، وعبد ، ممن تمونون . رواه الدارقطني .
1274 ولإِطلاق قول النبي ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) ويشترط في وجوبها أن يكون عنده فضل عن قوت يوم العيد وليلته ، لأن صاحب الشرع أمر بإغناء السؤال في يوم العيد ، ومن لم يكن عنده فضل عن قوت يوم العيد هو أحق بإغناء نفسه ، قال : ( ابدأ بنفسك ) أما إن فضل عنده فضل فيلزمه الإِخراج ، وإن لم يملك نصاباً ، لأنه قد حصل له غناء هذا اليوم ، فاحتمل ماله المواساة .
1275 ولعموم حديث ابن عمر : فرض رسول الله [ زكاة الفطر ] صاعاً من تمر ، أو صاعاً من شعير ، على العبد والحر ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير من المسلمين .
1276 وعن عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله : ( زكاة الفطر صاع من بر ، أو قمح ، عن كل صغير أو كبير ، حر أو عبد ، ذكر أو أنثى ، أما غنيكم فيزكيه الله ، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه ) رواه أبو داود وقال أحمد في رواية حنبل : فرض رسول الله : [ صدقة الفطر ] على الغني والفقير . وظاهر هذا صحة هذا الحديث [ عنده ] ( وقد دخل ) في كلام الخرقي زوجته ، وعبده ووالده وولده ، وكل من تلزمه نفقته ، لأنهم في عياله ، وحكمهم في التقديم يأتي في النفقات إن شاء الله تعالى ، ( ودخل ) في كلامه [ كل ] من تبرغ بمؤنته في شهر رمضان ، فإنه تلزمه فطرته ، لأنه قد مانه حقيقة فيدخل في قوله عليه السلام : ( ممن تمونون ) وهذا منصوص أحمد ، وقول عامة أصحابه ، وخالفهم أبو الخطاب في الهداية ، وتبعه أبو محمد ، فقالا : فطرته على نفسه . وجعلا الإِعتبار بلزوم المؤنة ، وحكى ذلك ابن حمدان رواية ، ( فعلى الأولى ) تعتبر المؤنة في جميع الشهر على المشهور ، وقال ابن عقيل : قياس المذهب أنه إذا مانه آخر ليلة وجبت فطرته ، كما لو ملك عبداً عند الغروب ، فلو مانه جماعة فعلى قول ابن عقيل فطرته على من مانه آخر ليلة ، وعلى المشهور هل تجب على جميعهم بالحصص ، لاشتراكهم في سبب الوجوب ، أو لا تجب عليهم ، لأن الوجوب على كل واحد منوط بمؤنة جميع الشهر ولم يوجد ؟ فيه احتمالان .
( تنبيه ) : يعتبر مع كفاف يوم العيد وليلته سد حوائجه الأصلية ، من دار يسكنها ، ودابة يحتاج إلى ركوبها ، وثياب يتجمل بها ونحو ذلك ، على ما قاله صاحب التلخيص ، وأبو محمد وغيرهما ، وأورد ابن حمدان المذهب بعدم اعتبار ذلك ، ولعله ظاهر كلام الخرقي ، والله أعلم .
قال : وليس عليه في مكاتبه زكاة .
ش : لأنه لا يمونه ، فلا يدخل تحت قوله عليه السلام ( ممن تمونون ) ولأنه لا يلزمه مؤنته ، فأشبه الأجنبي .
قال : وعلى المكاتب أن يخرج عن نفسه زكاة الفطر .
ش : لأنه تلزمه نفقة نفسه ، فلزمه فطرتها كالحر ، والله أعلم .
قال : وإذا ملك جماعة عبداً أخرج كل واحد منهم صاعاً ، وعن أبي عبد الله رواية أخرى صاعاً عن الجميع .
ش : تجب قطرة العبد المشترك على مواليه ، نص عليه أحمد ، لعموم ما تقدم من الأحاديث ( ثم هل على الجميع صاع ) يقسم بينهم على قدر حصصهم ، وهو الظاهر عن أحمد ، بل قيل : إنه الذي رجع إليه آخراً ، لأن النبي أوجب على كل واحد صاعاً ، ولم يفرق بين مشترك وغيره ، ولأن الفطرة تتبع النفقة ، والنفقة تقسم عليهم بالحصص ، فكذلك الفطرة ( أو على كل [ واحد ] صاع ) وهو اختيار أبي بكر . قال القاضي و الخرقي : لأنها طهرة ، فوجب تكميلها على كل واحد من الشركاء ، ككفارة القتل ؟ فيه روايتان ، والله أعلم .
قال : ويعطي صدقة الفطر لمن يجوز أن يعطي صدقة الأموال .
ش : لأنها صدقة ، فتدخل تحت قوله : 19 ( { إنما الصدقات للفقراء } ) . الآية ، وتحت قوله عليه السلام لمعاذ : ( أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة يؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) إلى غير ذلك . ويمنع منها من يمنع من صدقة الأموال كالذمي ، والعبد ، والزوجة ، والولد ونحوهم ، لأنها صدقة واجبة ، فحكم عليها بما يكم على بقية الصدقات ، والله أعلم .
قال : ويجوز أن تعطى الجماعة ، ما يلزم الواحد .
ش : لإِطلاق 19 ( { إنما الصدقات للفقراء } ) الآية ، مع أن أبا محمد قال : لا أعلم فيه خلافاً والله أعلم .
قال : ويعطي الواحد ما يلزم الجماعة .
ش : لأنها صدقة واجبة ، فجاز أن يدفع للواحد فيها مايلزم الجماعة كصدقة المال ، وقد تقدم الدليل على الأصل ، فلا حاجة إلى إعادته ، والله أعلم .
قال : ومن أخرج عن الجنين لحسن ، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يخرج عن الجنين .
1276 م ش : المشهور المعروف من الروايتين أن إخراج زكاة الفطر عن الجنين مستحب ، لفعل عثمان رضي الله عنه ولا يجب ، لأن هذا حكم من أحكام الدنيا ، فلم يتعلق به كبقية الأحكام . ونقل عنه يعقوب بن بختان وجوبها اتباعاً لفعل عثمان رضين الله عنه ، ولأنه آدمي تصح الوصية له وبه ، ويرث ، أشبه المولود ، والله أعلم .
قال : ومن كان في يده ما يخرح صدقة الفطر ، وعليه دين مثله ، لزمه أن يخرج ، إلا أن يكون مطالباً به فعليه قضاء الدين ولا زكاة عليه ، والله أعلم .
ش : أما مع عدم المطالبة فتلغابر التعلق إذ هذه زكاة بدن ، وتلك زكاة مال ، ومع الدين قد نقص المال ، فلذلك أثر ثمّ بخلاف هنا ، ولأن زكاة الفطر آكد وجوباً من زكاة المال ، بدليل وجوبها على الفقير ، فلا يلزم من المنع ثم المنع هنا ، وأما مع المطالبة فقد وجب الصرف إلى الغريم ، فصار وجود المال كعدمه ، فيكون معسراً هذا هو المذهب المجزوز به عند الشيخين وغيرهما ، وقيل : لا يمنع الدين مطلقاً لما تقدم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
كتاب الصيام
ش : الصيام والصوم مصدر ( صام ) وفي اللغة : عبارة عن الإِمساك ، قال الله سبحانه : { فقولي إني نذرت للرحمن صوماً } وقال الشاعر :
خيل صيام وخيل غير صائمة
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي ممسكة عن الصهيل . وفي الشرع : إمساك مخصوص ، في وقت مخصوص ، [ على وجه مخصوص ] وهو من أركان الإِسلام المعلومة من دين الله تعالى بالضرورة ، وقد شهد لذلك قوله تعالى : { كتب عليكم الصيام } إلى قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } الآية .
1277 وقول النبي : ( بني الإِسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا ) الحديث إلى غير ذلك من الأحاديث ، والله أعلم .
قال : وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوماً طلبوا الهلال .
ش : يستحب للناس أن يتراءوا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ، احتياطاً لصومهم ، وحذاراً من الاختلاف .
1278 وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله يتحفظ من شعبان مالا يتحفظ من غيره ، ثم يصوم لرؤية رمضان ، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام . رواه أحمد وأبو داود ، والدارقطني وقال : هذا إسناد صحيح . والله أعلم .
قال : فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم .
ش : أي طلب الناس الهلال ، فإن رأوه وجب صيامه ، وهذا إجماع ، لقوله تعالى : 19 ( { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ) . وإن لم يروه فإن كانت السماء مصحية [ لم يصوموا ذلك اليوم ] لأنه ( إما يوم شك ) وهو منهي عن صيامه .
1279 قال صلة بن زفر : كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه ، فأتي بشاة ، فتنحى بعض القوم ، فقال عمار : من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم . رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه [ والترمذي ] وصححه . ( أو غير شك ) وقد نهي عنه أيضاً .
1280 فروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين ، إلا أن يكون صوم يصومه رجل ، فليصم ذلك اليوم ) رواه الجماعة .
1281 وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لا تقدموا الشهر ، حتى تروا الهلال ، أو تكملوا العدة ، ثم تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ) رواه النسائي وأبو داود . وهذا المنع على طريق [ الكراهة ] عند القاضي وأبي الخطاب ، والأكثرين .
ولأبي محمد في الكافي احتمال بالتحريم ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وكلام صاحب التلخيص في يوم الشك [ قال : صيام يوم الشك ] منهي عنه ، وفي صحته مع النهي ما في الصلاة في أوقات النهي . انتهى وهو مقتضى نصوص أحمد رحمه الله ، قال في رواية أبي داود : الشك على ضربين ، فالذي لا يصام إذا لم يحل دون منظره سحاب ولا قتر ، والذي يصام إذا حال دون منظره سحاب أو قتر ، وفي رواية المروذي : سئل عن نهي النبي عن صيام [ يوم ] الشك ، فقال : هذا إذا كان صحوا لم يصم ، وأما إن كان في السماء غيم [ صام ] . وفي رواية الأثرم : ليس بنبغي أن يصبح صائماً إذا لم يحل دون منظر الهلال شيء من سحاب ولا غيره . انتهى وذلك لظواهر النصوص .
ويستثنى من المنع النذر ، والورد ، كمن عادته صوم يوم الخميس فوافق آخر الشهر ، أو صوم يوم وفطر يوم للحديث .
( تنبيه ) : يوم الشك [ قال بعض المتأخرين ] : اليوم الذي يتحدث الناس برؤيته لا يثبت ، وحرر القاضي ذلك في تعليقه بأن يكون في الصحو ، وزاد عليه : إذا لم يتراء الناس الهلال حتى جاوز وقت الرؤية أو لم تكن السماء مصحية وقلنا : لا يجب الصوم ] أما إن قلنا بوجوبه فليس بشك [ عند القاضي ، وهو شك ] عند الخلال فيما أظن ، وهما روايتان عن أحمد ، والله أعلم .
قال : وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه ، وقد أجزأ إن كان من شهر رمضان .
ش : هذا هو المذهب المشور ، المختار لعامة الأصحاب ، الخرقي ، وابن أبي موسى ، والقاضيد وأكثر أصحابه .
1282 لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله يقول : ( إذا رأيتموه فصوموا ، وإن رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فاقدروا له ) متفق عليه . أي فضيقوا له العدد ، من قوله تعالى : 19 ( { ومن قدر عليه رزقه } ) الآية أي ضيق عليه رزقه 19 ( { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } ) أي يضيق عليه 19 ( { وقدر السرد } ) أي ضيق { فظن أن لن نقدر عليه } أي لن نضيق عليه . وتضييق العدد ، بأن يجعل شعبان تسعة وعشرين .
1283 ويدل على هذا مافي سنن أبي داود وغيره عن نافع قال : وكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعاً وعشرين نظر له ، فإن رؤي فذاك ، وإن لم ير ، ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر ، أصبح مفطراً ، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائماً ، قال : وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب وهو راوي الحديث وأعلم بمعناه فيرجع إلى تفسيره ، كما رجع إلى تفسيره في ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) فكان إذا بايع رجلًا بشيء مشى خطوات لا سيما وهو من أتبع الناس [ للسنة ] ويجوز أن يكون معنى ( فاقدروا له ) أي اقدروا طلوعه .
1284 يدل عليه أن في مسلم وسنن أبي داود في الحديث ( إنما الشهر تسع وعشرون ، فإذا رأيتموه فصوموا ) فقوله : ( الشهر تسع وعشرون ) كالتوطئة [ لقوله ] ( فاقدروا له ) . أي لا تظنوا أن الشهر ثلاثون ، إنما هو تسع وعشرون ، فإذا مضى تسع وعشرون وغم عليكم ، فاقدروا طلوعه ، وهذا معنى الذي قبله ، لأنا إذا قدرنا طلوعه ، فقد ضيقنا شعبان .
1285 ( فإن قيل ) : ففي هذا الحديث في مسلم ( فإن أغمي عليكم فاقدروا ثلاثين ) وفي البخاري ( فأكملوا العدة ثلاثين ) .
( قيل ) : يحمل الأول [ على ] فضيقوا عدة شعبان ، أو قدروا طلوع الهلال ، لتصوموا ثلاثين . والثاني [ على ] فأكملوا عدة رمضان ثلاثين ، لأنه أقرب مذكور ، فالألف واللام بدل من المضاف إليه ، جمعا بين الأدلة .
1286 ويؤيده أن في الصحيح كما سيأتي إن شاء الله تعالى : ( فصوموا ثلاثين ) .
1287 وعلى هذا ما في الصحيحين وغيرهما عن عمران بن حصين رضي الله أن رسول الله قال لرجل : ( هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً ؟ ) قال : لا . قال : ( فإذا أفطرت فصم يوماً ) وفي رواية ( يومين ) وسار الشهر : آخره . سمي بذلك لاستسرار القمر فيه فلا يظهر ، محمول على حال الغيم ونحوه . وحديث أبي هريرة : ( لا تقدموا رمضان ) على الصحو . ليتوافقا إذ ] في حال الغيم لا يعلم أنه تقدم رمضان بيوم ولا يومين ، فلا يدخل تحت النهي ، ولأن هذا قول جماعة من الصحاية رضي الله عنهم .
1288 فعن مكحول : أن عمر كان يصوم يوم الشك إذا كانت السماء في تلك الليلة متغيمة ، ويقول : ليس هذا بالتطدم ، ولكنه بالتحري . رواه أبو حفص بسنده .
1289 وكات عائشة رضي الله عنها تقول إذا غم : لأن أصوم يوماً من شعبان ، أحب إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان . وقد تقدم عن ابن عمر أنه كان يصوم يوم [ الغيم .
1290 وعلى هذا يحمل ما روي عن أسماء ، وأبي هريرة ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم من صوم يوم ] الشك على وجود الغيم ونحوه ، وهؤلاء من أكابر الصحابة ، وعلمائهم ، وهم رواة أحاديث الباب ، فلا يظن بهم مخالفتها ، ولا مخالفة ظاهرها ، ولأن الصوم في ذمته بيقين ، ولا يبرأ منه بيقين إلا بصوم ذلك ، كما لو كانت عليه صلاة من يوم لا يعلم عينها ، وجب عليه أن يصلي خمس صلوات .
وعن أحمد رحمه الله ( رواية ثانية ) : لا يصام هذا اليوم ، بل ينهى عنه ، لأنه يوم شك ، وقيل : إن هذا اختيار ابن عقيل ، وأبي الخطاب ، في خلافيهما ، والذي نصره أبو الخطاب في الخلاف الصغير هو الأول ، فلعل هذا في الكبير وذلك لما تقدم [ من ] أنه من يوم شك ، ويوم الشك منهي عنه لما تقدم ، ولما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها ، فإن فيه : عدّ ثلاثين يوماً ثم صام . وحديثي أبي هريرة ، وحذيقة ، في النهي عن التقدم .
1291 وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله : ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ) رواه البخاري . ولمسلم ( فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ) . وقوله في حديث ابن عمر : ( فاقدروا له ) أي قدروا له عدد ثلاثين حتى تكملوها . يدل عليه بقية الروايات ، وكون [ التقدير ] التضييق ممنوع ، إنما هو غير التضييق والتوسيع .
1292 كما قيل في قوله : 19 ( { وقدر في السرد } ) لا توسع الحلقة ولا تضيقها ، ولا ترقق المسامير ولا تغلظها ، وفي 19 ( { ومن قدر عله رزقه } ) أي جعل بقدر لا ينقص ، ولا يفضل عن حاجته . وفي 19 ( { فظن أن لن نقدر عليه } ) أي نضيق عليه . وفعل الصحابة لعله عن اجتهاد وظن ، كما ظنه غيرهم .
1293 ثم قد روي عن بعضهم [ وعن غيرهم ] خلاف ذلك ، والاحتياط في الوجوب إنما يكون فيما علم وجوبه ، أما ما شك فيه فلا يجب ، وإلا يلزم الوجوب بالشك ، وعلى هذا فهل النهي نهي تحريم أو تنزيه على قولين .
ومن نصر الأول قال : لا نسلم أن هذا يوم شك ، مع أن عماراً رضي الله عنه لم ينقل لنا عن النبي لفظاً ، فيجوز أن يكون قاله عن اجتهاد ، بناء على النهي عن التقدم ، وأما حديثا أبي هريرة وحذيفة في التقدم فتقدم الجواب عنهما ، وأما حديث أبي هريرة وحذيفة في التقدم فتقدم الجواب عنهما ، وأما حديث أبي غلط من الراوي ، وأن سائر الرواة لم يذكروا ذلك ، مع أن في المسند ومسلم والنسائي في هذا الحديث ( فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين ) وفي لفظ لأحمد والترمذي وصححه ، ( فعدوا ثلاثين ثم أفطروا ) والحديث واحد فتتعارض الروايتان ويتساقطان . ثم على تقدير صحة الأول فيحمل على ما إذا غم رمضان ، بعد أن غم شعبان ، فإنا لا نفطر ، ونعد شعبان إذاً ثلاثين يوماً ورمضان ثلاثين يوماً ، ويكون الصوم أحداً وثلاثين .
وعن أحمد رحمه الله رواية ثالثة : الناس تبع للإِمام في الصوم والفطر .
1294 لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( الفطر يوم يفطر الناس ، والأضحى يوم يضحي الناس ) رواه الترمذي وصححه .
قال أحمد : السلطان أحوط في هذا ، وأنظر للمسلمين ، وأشد تفقدا ، ويد الله على الجماعة .
وقيل عن أحمد رواية أخرى باستحباب الصوم ، لا بإيجابه ، ولا بالمنع منه ، وهذا اختيار أبي العباس ، وقال : إن المنقول عن أحمد أنه كان يصومه ، أو يستحب صيامه ، اتباعاً لابن عمر ، قال : ولم أقف من كلام أحمد على ما يقتضي الوجوب ، وحملا للأوامر بإتمام شعبان ، ونحو ذلك على بيان الواجب ، وما ورد من صيام ذلك على الاستحباب ، لا سيما وفيه احتياط لعبادة ، وأصول الشريعة لا تمنع من ذلك .
وقيل عنه رواية بالإِباحة ، قال بعضهم : تحكى فيه الأحكام الخمسة . وقول سادس وهو التبعية .
فعلى الأولى : يشترط له النية من الليل ، على أنه من رمضان حكماً ، فإن تبين أنه من رمضان أجزأه ، وإلا فهو نفل ، وهل تصلى التراويح ليلته ؟ فيه وجهان : قال صاحب التلخيص : أظهرهما لا . وحكي عن أحمد وعن التميمي أنه ينويه جزماً ، وإذاً تصلى التراويح . ولو نوى : إن كان غدا من رمضان فهو فرض ، وإلا فهو نفل ، لم يجزئه إن قيل باشتراط التعيين في النية لفواته ، وإلا أجزأه بطريق الأولى ، لمكان العذر هنا ، وهل تثبت بقية الأحكام من الأجل المعلق برمضان ، والطلاق المعلق به ، ونحو ذلك ؟ فيه احتمالان ، ذكرهما القاضي في التعليق ، فالثبوت للحكم برمضانيته ، والمنع لأنه حق لآدمي .
( تنبيه ) : ( الغيم ) قال ابن سيده : الغيم السحاب . وقيل أن لا ترى شمساً من شدة الدجى . وجمعه غيوم وغيام . و ( القتر ( جمع قترة وهي الغبار ومنه قوله تعالى : 19 ( { ترهقها قترة } ) .
1295 قال ابن زيد : الفرق بين الغبرة والقترة أن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء ، والغبرة ما كان أسفل في الأرض . و ( فاقدروا له ) قد تقدم معناه والصواب عند أهل اللغة والتفسير المعنى الثاني ، وهو بالوصل ، وكسر الدال وضمها ، و ( سرر الشهر ) و ( سراره ) وسراره ثلاث لغات ، قال الفراء : والفتح أجود . ويقال فيه أيضاً : سر الشهر . وجاءت به السنة ، وقد تقدم معناه ، وقيل : سره وسطه ، وسر كل شيء جوفه ويدل عليه أن في بعض الروايات ( أصمت من سرة هذا الشهر ؟ ) وفسر ذلك بأيام البيض والله أعلم .
قال : ولا يجوز صيام فرض حتى ينويه أيَّ وقت كان من الليل .
ش : أما أصل النية في الصوم وإن كان تطوعاً فمجمع عليها ، لأنه عبادة فيدخل تحت قوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وعمل فيدخل تحت قوله عليه السلام : ( إنما الأعمال بالنيات ) ثم إن كان [ الصوم ] فرضاً كرمضان وصوم الكفارة والنذر اشترط أن ينويه من الليل .
1296 لما روي عن ابن عمر عن حفصة رضي الله عنهم عن النبي قال : ( من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) رواه الخمسة ، وفي لفظ ( من لم يجمع الصيام ) وروى موقوفاً على ابن عمر .
1297 وعن عمرة عن عائشة رضي الله عنهما قالت : من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له . رواه الدارقطني وقال : إسناده كلهم ثقات . وما يورد من صوم عاشوراء فوجوبه كان في النهار فلذلك أجزأت فيه النية .
1298 على أن أبا حفص قد قال : إنه لم يكن واجباً ، بدليل حديث معاوية سمعت رسول الله يقول : ( إن هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب عليكم صيامه ، وإني صائم فمن شاء فليصم ) ورد بأن معاوية إنما أسلم عام الفتح ،
1299 ووجوب عاشوراء كان في الثانية من الهجرة ، يوماً واحداً ثم نسخ بصوم رمضان في ذلك العام فهو إنما سمع ذلك بعد النسخ ، ولا شك أنه إذا ذاك غير مكتوب . انتهى .
وفي أي وقت نوى من الليل أجزأه ، لإِطلاق الحديث ، وسواء وجد بعد النية مناف للصوم ، كالجماع والأكل ، أو لم يوجد [ على المذهب ] عملًلا بإطلاق الحديث ، وقيل : يبطله المنافي من الأكل ، ونحوه ، كما لو فسخ النية ، ولا بد مع النية من تعيين ما يصومه ، فينوي الصوم عن كفارته ، أو نذرة ، أو فرض رمضان ، على ظاهر كلام الخرقي هنا ، لقوله : ولا يجوز صيام فرض حتى ينويه . أي ينوي ذلك الفرض ، وهو إحدى الروايتين ، وأنصهما عن أحمد ، وهي اختيار أبي بكر ، وأبي حفص ، والقاضي ، وابن عقيل ، والأكثرين ، لظاهر قول النبي : ( إنما الأعمال بالنيات ) ومن أطلق لم ينو صوم رمضان ، وكذلك من نوى تطوعاً بطريق الأولى ( والرواية الثانية ) : لا يشترط تعيين النية لرمضان ، حكاها أبو حفص عن بعض الأصحاب ، وهي اختيار الخرقي في شرح المختصر ، قال في صوم يوم الشك : إن قيل : كيف يجوز أن ينويه من رمضان وهو غير متحقق ؟ قيل : ليس يحتاج أن ينوي من رمضان ولا غيره ، لأن من أصلنا : لو نوى أن يصوم تطوعاً فوافق رمضان أجزأه ، لأنه يحتاج أن يفرق بين الفرض والتطوع ، لما يصلح لها ، وشهر رمضان لا يصلح أن يصام فيه تطوع . انتهى .
وذلك لما أشار إليه الخرقي بأن هذا الزمن متعين لصوم رمضان ، لا يتأتي فيه غيره ، فلا حاجة إلى النية ، وصار هذا كمن عليه حجة الإِسلام فنوى تطوعاً ، وفرق بأن الحج آكد حكماً ، بدليل المضي في فاسده ، وانعقاده مع الفساد ، فلذلك لم يعتبر له تعيين النية ، بخلاف الصوم ثم نص الرواية إنما هو في من نوى وأطلق ، والقاضي وجماعة يحكون الرواية في من أطلق ، أو نوى تطوعاً .
وفي المسألة قول ثالث اختاره أبو العباس : أنه مع العلم يجب عليه تعيين النية ، وإلا يكون عاصياً لله بقصد ما لا يحل له ، ومع عدم العلم كمن لم يعلم أن غدا من رمضان ، ونوى صوماً ما مطلقاً أو مقيداً ، فتبين أنه من رمضان ، لا يجب التعيين ، بل يجزيء الإِطلاق [ ونية غير رمضان عنه ] لمكان العذر ، ونص الخرقي في شرحه ، وكذلك كلام أحمد [ في ] رواية : الإِجزاء إنما هو في مثل هذا . انتهى .
وهل يكفي نية من أول الشهر عن جميعه ؟ فيه روايتان : أشهرهما عن أحمد وأصحهما عند الأصحاب لا ، والله أعلم .
قال : ومن نوى من الليل ، فأغمي عليه قبل طلوع الفجر ، فلم يفق حتى غربت الشمس ، لم يجزه صيام ذلك اليوم .
ش : لأن الصوم الشرعي مركب من إمساك مع النية .
1300 بدليل قول النبي ( يقول الله تعالى : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي ، وأنا أجزي به ، يدع طعامه ، وشرابه من أجلي ) متفق عليه فأضاف ترك الطعام والشراب إليه ، ومن أغمي عليه جميع النهار لم يضف إليه إمساك النية ، فلم يصح صومه ، إذ المركب ينتفي بانتفاء جزئه .
وقد فهم من كلام الخرقي أنه لو أفاق قبل غروب الشمس أجزأه ، وهو صحيح ، لوجود الإِمساك في الجملة .
ودل كلامه على أن المغمى عليه يجب عليه الصوم ، ولا نزاع في ذلك ، لأن الولاية لا تثبت عليه ، فلم يزل به التكليف كالنوم ، ولهذا جاز على الأنبياء ، والله أعلم .
قال : ومن نوى صيام التطوع من النهار ولم يكن طعم أجزأه .
1301 ش : لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : دخل على النبي ذات يوم فقال : ( هل عندكم شيء ) قلنا : لا . قال : ( فإني إذاً صائم ) مختصر رواه مسلم . وفيه دليلان ( أحدهما ) طلبه الأكل ، والظاهر أنه كان مفطراً ، وإلا يلزم إبطال العمل المطلوب إتمامه . ( والثاني ) : قوله : ( إني إذاً ) و ( إذاً ) للاستقبال ، وبهذا يتخصص قوله عليه السلام : ( من لم يبيت الصيام قبل الفجر . . . ) الحديث ، وشرط هذا أن لا يوجد مناف غير نية الإِفطار ، اقتصاراً على مقتضى الدليل ، ونظراً إلى أن الإِمساك هو المقصود الأعظم ، فلا يعفى عنه أصلًا .
وظاهر كلام الخرقي والإِمام أحمد أنه لا فرق بين [ قبل ] الزوال وبعده ، وهو اختيار ابن أبي موسى ، والقاضي في الجامع الصغير ، وأبي محمد ، لأن ما صححت النية في أوله ، صحت في آخره كالليل ، وعن أحمد : لا يجزئه بعد الزوال ، واختاره القاضي في المجرد ، وابن البنا في الخصال ، لأنه قد مضى معظم اليوم ، ومعظم الشيء في حكم كله في كثير من الأحكام ، فكذلك ها هنا .
( تنبيه ) : يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية ، على المنصوص والمختار لأبي محمد وغيره ، إذ ( ليس لامريء إلا ما نوى ) بنص الرسول وعند أبي الخطاب يحكم له بالصوم من أول النهار نظراً إلى أن الصوم لا يتبعض ، وهو ممنوع ، والله أعلم .
قال : وإذا سافر إلى ما تقصر فيه الصلاة فلا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره .
ش : يجوز الفطر في السفر بنص الكتاب ، قال سبحانه : 19 ( { فمن كان منكم مريضاً ، أو على سفر فعدة من أيام أخر } ) وقال النبي : ( ليس من البر الصوم في السفر ) .
ومن شرط الفطر أن يكون [ سفره ] تقصر في مثله الصلاة ، وهو ستة عشر فرسخاً فأزْيَد ، إذ ما دون ذلك في حكم المقيم لما تقدم في قصر الصلاة ، وأن يترك البيوت وراء ظهره ، أي يتجاوزها [ لأنه ما لم يتجاوزها ] فهو حاضر غير مسافر ، فيدخل تحت قوله تعالى : 19 ( { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ) والله أعلم .
قال : ومن أكل ، أو شرب ، أو احتجم ، أو استعط ، أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان ، أو قَبَّلَ فأمنى أمذى ، أو كرر النظر فأنزل ، أي ذلك فعل عامداً وهو ذاكر لصومه ، فعليه القضاء بلا كفارة ، إذا كان صومه واجباً ، وإن فعل ذلك ناسياً فهو على صومه ، ولا قضاء عليه .
ش : أما الفطر بالأكل والشرب فبدلالة قوله تعالى : 19 ( { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض ، من الخيط الأسود من الفجر ، ثم أتموا الصيام إلى الليل } ) أباح سبحانه الأكل إلى غاية هي تبين الخيط الأبيض ، من الخيط الأسود ثم أمر سبحانه بالإِمساك عنهما إلى الليل ، وقال النبي : ( يقول الله تعالى : كل عمل ابن آدم له ، إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه من أجلي ) فدل على أن الصوم حالته هذه ، ولا فرق بين مغذ وغيره ، لظاهر إطلاق الكتاب .
1302 وأما الفطر بالاحتجام فلما روى شداد بن أوس أن رسول الله أتى على رجل وهو بالبقيع ، وهو يحتجم ، وهو آخذ بيدي ، لثمان عشرة خلت من رمضان فقال : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه والحاكم وصححه ، وصححه أيضاً الإِمام أحمد وإسحاق ، وابن المديني ، والدارمي وغيرهم .
1303 وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) رواه أحمد ، والترمذي ، وقال أحمد : إنه أصح حديث في الباب . وفي رواية : إسناده جيد .
1304 ولأحمد وأبي داود من حديث ثوبان مثله . وقال ابن المديني : إنه وحديث شداد أصح شيء في الباب . وقال الأثرم : ذكرت لأبي عبد الله حديث ثوبان وشداد بن أوس صحيحان هما عندك ؟ [ قال : نعم ] .
1305 ولأحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مثله .
1306 ولأحمد من حديث عائشة ، وأسامة بن زيد مثله .
1307 وعن الحسن عن معقل بن يسار الأشجعي ، أنه قال : مر عليَّ رسول الله وأنا أحتجم في ثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ، فقال : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) .
1308 وروى أحمد بسنده مثل ذلك من حديث مصعب بن سعد ، عن أبيه .
1309 ومن حديث بلال ، ومن حديث صفية ، ومن حديث أبي موسى الأشعري ، ومن حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ذكر ذلك ابنه عبد الله في مسائله [ عنه ] فهؤلاء اثناعشر صحابياً رووا هذا الحديث ، وهذا يزيد على رتبة المستفيض ، قال الإِمام ابن خزيمة : ثبتت الأخبار عن رسول الله أنه قال : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) . انتهى . وما يذكر من أنهما كانا يغتابان ، بعيد ، لأنهما من الصحابة ، إذ الظاهر تنزيههما عن ذلك ، وقد ذكر هذا لأحمد فقال : لو كان للغيبة ما كان لنا صوم . أي أنا لا نسلم من ذلك ، فكيف يحمل الحديث على أمر يغلب وقوعه ، ثم إن هذه الأحاديث كلها ليس فيها ذكر الغيبة ، فكيف يجوز أن يترك من الحديث ما الحكم [ منوط ] به ، ثم لو قدر وجودها في الحديث فالاعتبار بعموم اللفظ .
1310 ثم قد روى أحمد في مسائل ابنه عبد الله الإِفتاء بهذا اللفظ عن علي ، وعائشة ، وأبي هريرة ، وصفية ، وابن عمر .
1311 وعن الحسن عن عدة من أصحاب النبي ، وهذا يدل على تثبته والأخذ بعمومه عندهم .
1312 وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي احتجم وهو صائم ، واحتجم وهو محرم رواه البخاري ، وفي لفظ ( احتجم وهو محرم صائم ) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، ( سقط : إلى آخر الصفحة ) ( سقط : من أول الصفحة إلى فقرة رقم 1316 ) حتى لو أوصل إلى جوفه سكيناً أفطر ، لأنه أوصل إلى جوفه ما هو ممنوع من إيصاله إليه ، أشبه ما لو أوصل إليه مأكولا .
1316 وقد روي في حديث أن النبي أمر بالإِثمد عند النوم ، وقال : ( ليتقه الصائم ) رواه أبو داود وغيره .
وقول الخرقي : [ أو أدخل إلى جوفه شيئاً ] من أي موضع كان . من عطف العام على الخاص ، لاختصاص الخاص وهو الأكل والشرب ، والإِستعاط بمعنى لم يوجد في العام وهو النص .
1317 وأما الفطر بالقبلة مع الإِمناء والإِمذاء فلما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله يقبل وهو صائم ، ويباشر وهو صائم ، ولكنه أملككم لإِربه . متفق عليه واللفظ لمسلم ، وفي لفظ له : يقبل في رمضان وهو صائم . وفيه إشارة إلى أن من لا يملك إربه يضره ذلك .
1318 وعن عمر رضي الله عنه قال : هششت فقبلت وأنا صائم [ فقلت : يا رسول الله صنعت اليوم أمراً عظيماً ، قبلت وأنا صائم ] قال : ( أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم ؟ ) قلت : لا بأس به . قال : ( فمه ) رواه أبو داود . شبه القبلة بالمضمضة من حيث أنها مقدمة للشهورة بالمضمضة ، والمضمضة إذا لم يكن معها نزول ماء لم يفطر ، ومع النزول يفطر ، كذلك القبلة ، إلا أن أحمد ضعف هذا الخبر ولأنه إنزال بمباشرة ، أشبه الإِنزال بالجماع .
ومفهوم كلام الخرق أن القبلة إذا خلت عن [ إنزال لم يفطر ، ولا ريب في ذلك ، لما تقدم من الحديثين ، وحكم الاستنماء باليد حكم القبلة .
وأما الفطر بتكرار النظر مع ] الإِنزال أي إنزال المني ، إذ هذا العرف في الإِنزال فلأنه عمل يمكن التحرز منه ، ويتلذذ به ، أشبه الإِنزال باللمس ، وخرج بذلك إنزال المذي ، فلا يفطر به على الصحيح ، لأنه إنزال لا عن مباشرة فلم يلتحق المذي بالمني لضعفه [ عنه ] وعن أبي بكر : يفطر . وخرج أيضاً بطريق التنبيه إذا لم ينزل .
ومفهوم كلام الخرقي : أنه لو أنزل بنظره لم يفطر ، ولا يخلو إما أن يقصد النظر أو لا ، فإن لم يقصد لم يفطر بلا ريب ، وإن قصده فكذلك ، على ظاهر كلام أبي محمد ، وأبي الخطاب وغيرهما ، وظاهر كلام أبي البركات أن في المذي في النظر وجهان فالإِمناء أولى ، وقطع القاضي بالفطر .
ومقتضى كلام الخرقي أن الفكر لا أثر له ، وهو كذلك إن غلبه ، وكذلك إن استدعاه على أصح الوجهين .
1319 لعموم قول النبي ( عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل أو تتكلم ) .
وشرط الإِفطار في جميع ما تقدم أن يكون عامداً أي قاصداً للفعل ، فلو لم يقصد بأن طار إلى حلقه ذباب ، أو غبار ، أو ألقي في ماء فوصل إلى جوفه ، أو صب في حلقه ، أو أنفه شيء كرهاً ، أو حجم كرهاً ، أو قبلته امرأة بغير اختياره ، ونحو ذلك لم يفطر .
1320 لما روى أبو هريرة أن النبي قال : ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ، ومن استقاء فعليه القضاء ) رواه الخمسة والحاكم وقال : صحيح على شرطهما ، والدارقطني وقال : رواته كلهم [ ثقات ] . نفى القضاء لسبق القيء لانتفاء الاختيار ، فيلحق به ما في معناه .
1321 ولقوله عليه السلام : ( عفي لأمتي عن الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ) ولأن من لم يقصد غافل ، والغافل غير مكلف ، وإلا يلزم تكليف ما لا يطاق .
وأن يكون ذاكراً لصومه ، فلو كان ناسياً لم يفطر في شيء مما تقدم .
1322 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من نسي وهو صائم فأكل أو شرب ، فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه ) متفق عليه . وفيه دليلان : أحدهما أنه قال : فليتم صومه فاقتضى أن ثم صوم يتم . والثاني قوله : ( فإنما أطعمه الله وسقاه ) فأضاف الفعل إلى الرب سبحانه وتعالى ، فدل على أنه لا أثر لذلك الفعل بالنسبة [ إليه ] .
1323 مع أن الدارقطني قد روى في الحديث من طرق قيل إنه صحح بعضها ( فإنما هو رزق ساقه الله إليه ، ولا قضاء عليه ) وفي لفظ له ( ولا قضاء عليه ، لأن الله أطعمه وسقاه ) . وإذا ثبت هذا في الأكل والشرب قسنا عليه ما عداه ، لأنه في معناه .
1324 مع أن الدارقطني والحاكم رويا ( من أفطر من شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة ) وصحح ذلك الحاكم ويؤيد ذلك عموم قوله عليه السلام ( عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان ) الحديث ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن الحجامة تفطر مع النسيان ، لإِطلاق الحديث ، ولعدم استفصاله من معقل بن يسار وغيره ، وفي الاستمناء وجه ، إلحاقاً له بالجماع .
ومقتضى كلام الخرقي أن الجهل بالتحريم لا أثر له ، وهو اختيار الشيخين ، لظاهر حديث معقل بن يسار ، لأنه كان جاهلًا بالتحريم وجعله صاحب التلخيص تبعاً لأبي الخطاب كالمكره والناسي .
( تنبيه ) : النائم كالناسي ، لعدم قصده ، أما المكره بالوعيد فقال القاضي في تعليقه : ليس عن أصحابنا فيه رواية . ثم حكى [ فيه ] احتمالين ، وحكى ابن عقيل عن الأصحاب أنه كالملجأ [ لعموم الحديث قال ] : ويحتمل عندي أن يفطر ، لأنه لدفع ضرر عنه ، أشبه من شرب لدفع عطش . انتهى .
ومن حكم بفطره ممن تقدم فعليه القضاء إن كان صومه واجباً ، لأن الصوم ثابت في ذمته ، فلا تبرأ إلا بأدائه ولم يؤد ، فيجب قضاؤه ، والواجب في القضاء عن كل يوم ؛ يوم ، إذ القضاء يحكي الأداء .
1325 وفي حديث المجامع في رمضان ( صم يوماً مكانه ) رواه أبو داود . ولا كفارة في شيء مما تقدم .
1326 أما في الأكل والشرب فلعموم قول النبي ( ليس في المال حق سوى الزكاة ) ولأن الأصل براءة الذمة ، فلا يثبت الشغل إلا بدليل من نص ، أو إجماع ، أو قياس ، ولم يوجد [ واحد ] منها ، والقياس على الجماع ممنوع ، لأنه أفحش ، فالحاجة إلى الزجر عنه أبلغ ، وقيل : تجب الكفارة على من أكل أو شرب عمداً كالجماع ، ( وأما ) في الاحتجام فلما تقدم ، ولأن النبي [ لم يلزمه بالكفارة و ] لو كانت واجبة لبينها ( وعنه ) إن كان عالماً بالنهي وجبت وإلا فلا ، وعلى هذه هل هي كفارة وطء أو مرضع ؟ فيه روايتان ، ( وأما ) في الإستعاط ، ومن أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان ، فلما تقدم في الأكل والشرب . ( وأما ) في القبلة وتكرار النظر فلأنه إفطار بغير مباشرة ، أشبه الإِفطار بالأكل والشرب ، واعتماداً على الأصل ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار الخرقي ، وأبي بكر ، وابن أبي موسى . ( والرواية الثانية ) : تجب الكفارة ، واختارها القاضي في تعليقه ، لأنه إفطار باستمتاع ، أشبه الفطر بالجماع . وحكم الاستمناء حكم القبلة ، قاله في التلخيص ، وجزم القاضي في التعليق بعدم الكفارة فيه ، معتمداً على نص الإِمام في رواية ابن منصور ، وفرق بينه وبين ما تقدم ، بأن الاستمناء ليس بإنزال عن مباشرة ، إذ المباشرة لا تكون إلا بين شخصين .
ومفهوم كلام الخرقي في قوله : إذا كان صوماً واجباً . أن الصوم لو لم يكن واجباً لا قضاء فيه ، وهو المذهب بلا ريب ، وستأتي المسألة إن شاء الله تعالى .
وقوله : وإن فعل كل ذلك ناسياً فهو على صومه ، ولا قضاء عليه . [ هو ] مفهوم ( ذاكراً ) وقد تقدم الكلام عليه .
( تنبيه ) ( الأَرب ) بفتح الهمزة والراء الحاجة ، وكذلك بكسر الهمزة وسكون الراء ، وقيل : بل العضو أي الذكر ، والله أعلم .
ش : لحديث أبي هريرة المتقدم والإِستقاء : طلب القيء ، والذرع خروجه . بغير اختياره . وظاهر كلام الخرقي : أنه لا فرق بين قليل القيء وكثيره ، وهو المذهب بلا ريب ، وعنه : لا يفطر إلا بملء الفم . وعنه : بل بملء نصفه . والله أعلم .
قال : ومن ارتد عن الإِسلام فقد أفطر .
ش : لأن الصوم عبادة محضة ، فنافاها الكفر كالصلاة ، مع أن أبا محمد قال : لا أعلم في هذا خلافاً والله أعلم .
قال : ومن نوى الإِفطار فقد أفطر .
ش : هذا هو المذهب المعروف المشهور ، لأنها عبادة من شرطها النية ، فبطلت بنية الخروج منها كالصلاة ، ولأنه قد خلي جزء من العبادة عن النية المشترطة لجميع العبادة ، والمركب يفوت بفوات جزئه فيبطل . وعن ابن حامد : لا يفطر ، لأنها عبادة يلزم المضي في فاسدها ، فلم تفسد بنية الخروج منها كالحج . فعلى الأول : إذا تردد في قطعه ، أو نوى أن سيقطعها ، أو علقها على شرط [ فنوى الإِفطار ] كوجود الفداء ونحوه فوجهان ، هذا كله إذا كان الصوم فرضاً ، أما إن كان نفلًا فنوى الإِفطار فقد أفطر ، ثم الذي وجد من صومه في حكم العدم ، فإذا عاد فنوى الصوم أجزأه وإن كان بعد الزوال على الصحيح ، والله أعلم .
قال : ومن جامع في الفرج ، فأنزل أو لم ينزل ، أو دون الفرج فأنزل ، عامداً أو ساهياً ، فعليه القضاء والكفارة ، إذا كان في شهر رمضان .
1327 ش : الأصل في الجماع في رمضان ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي فقال : هلكت يا رسول الله . قال : ( وما أهلكك ) ؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان . قال : ( هل تجد ما تعتق رقبة ؟ ) قال : لا . قال : ( فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . قال : ( فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً ؟ ) قال : لا . ثم جلس فأتي النبي بعرق فيه تمر ، فقال : ( تصدق بهذا ( فقال : على أفقر منا ؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا . فضحك النبي حتى بدت نواجذه ثم قال : ( اذهب فأطعمه أهلك ) رواه الجماعة ، وفي لفظ لابن ماجه وأبي داود ( وصم يوماً مكانه ) قال بعض الحفاظ : روي الأمر بالقضاء من غير وجه .
إذا تقرر هذا فمتى جامع في نهار في رمضان في الفرج عامداً فقد فسد صومه ، وعليه القضاء والكفارة [ نظراً ] لهذدا الحديث ، إذ هو العمدة في الباب ، ولا فرق بين أن ينزل أو لا ينزل ، لعدم الاستفصال في الحديث ، ولا بين كون الفرج قبلًا أو دبراً ، من آدمي أو بهيمة ، على المذهب المختار للقاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وأبي البركات وغيرهم ، وقيل عنه : لا تجب الكفارة بوطء البهيمة . ومبنى الروايتين عند الشريف ، وأبي الخطاب [ على ] وجوب [ الحد ] بوطئها وعدمه ، ولا بين كون الموطوءة زوجته أو أجنبية .
وإن جامع دون الفرج ب [ فأنزل ] عامداً فكذلك ، عليه القضاء والكفارة ، على المشهور من الروايتين ، حتى أن القاضي لم يذكر في التعليق غيرها ، وخص الروايتين بالقبلة واللمس ، وكذلك الخرقي ، وابن أبي موسى ، وأبو بكر ، قالوا هنا بالكفارة ، مع قولهم ثم بعدمها ، وذلك لأنها مباشرة اقترن بها الإِنزال ، أشبهت المباشرة في الفرج ، ولشمول : وقعت لها مع عدم الإِنزال ضعفت المباشرة ، فصارت بمنزلة اللمس ونحوه .
واختلف في وطء الساهي ، هل حكمه حكم وطء العامد فيما تقدم ؟ فعنه وهو المشهور عنه ، والمختار لعامة أصحابه [ الخرقي ] والقاضي وغيرهما : نعم يجب القضاء والكفارة ، لما تقدم من حديث الأعرابي ، فإن النبي لم يستفصله بين أن يكون ناسياً أو عامداً ، ولو اختلف الحكم لاستفصله وبينه [ له ، ] بذلك استدل أحمد رحمه الله ، وما يورد من قول الأعرابي : هلكت . يحتمل أنه قال ذلك لعلمه أن النسيان هنا لا يؤثر ] . ( وعن أحمد ) رواية أخرى : يجب القضاء ولا تجب الكفارة . نص عليها في رواية أبي طالب ، واختارها ابن بطة ، ولعله مبني على أن الكفارة ماحية ، ومع النسيان لا إثم يمحى . ونقل أحمد بن القاسم عن الإِمام أحمد : كل أمر غلب عليه الصائم ليس عليه قضاء ولا غيره . فأخذ من هذا أبو الخطاب [ ومن تبعه ] رواية بانتفاء القضاء والكفارة والحال ما تقدم ، وهو ظاهر قول النبي : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان . . ) الحديث ، وقياسه الأكل [ ناسياً ] ونحوه ، وليست هذه الرواية عند القاضي ، بل قال في تعليقه : يجب القضاء رواية واحدة . وكذلك قال الشيرازي ، وهو مقتضى قول الشريف ، وأبي الخطاب ، وابن الزاغوني ، وأبي البركات [ لجزمهم بذلك ، ونقل أبو داود عن أحمد رحمه الله التوقف .
وحكم المخطئ كمن جامع يظن ] أن الفجر لم يطلع وقد طلع أو أن الشمس قد غربت ولم تغرب حكم الناسي عند أبي البركات ، وجزم أبو محمد بوجوب القضاء والكفارة [ عليه ] ، وكذلك نص أحمد في رواية حنبل وعبد الله ، وكلام القاضي في التعليق محتمل . وكذلك حكم المكره حكم الناسي عند أبي الخطاب ، والشيخين في مختصريهما وعن القاضي الجزم بوجوب الكفارة به ] بناء عنده على أن الإِكراه على الوطء لا يتصور . واستثنى ابن عقيل الملجأ الذي غلبته نفسه فلم يجعل عليه قضاء ولا كفارة ، والظاهر أن رواية ابن القاسم المتقدمة [ تدل ] على ذلك ، وقال أبو محمد : ظاهر كلام أحمد [ وجوب القضاء ] لقوله في المرأة إذا غصبها رجل فجامعها : عليها [ القضاء ] .
فالرجل أولى ، وكذلك جزم القاضي في تعليقه فقال : إذا جامع امرأة مكرهة أو نائمة فعليها القضاء واستشهد بنص أحمد . وحكم النائم الملجأ عند ابن عقيل : لا قضاء عليه ولا كفارة ، والقاضي يجعل عليه القضاء .
وقول الخرقي فعليه القضاء والكفارة إذا كان في شهر رمضان . الشرط راجع إلى الكفارة فقط فلا تجب الكفارة بالجماع في غير رمضان ، اتباعاً [ للنص ] ويعضده أن الأصل براءة الذمة ، أما [ القضاء ] فهو في كل صوم واجب .
( تنبيه ) : العرق بفتح [ العين و ] الراء مكتل ، والله أعلم .
قال : والكفارة عتق رقبة ، فإن لم يمكنه فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً [ لكل مسكين مدبر أو نصف صاع من تمر أو شعير ] .
ش : لحديث أبي هريرة المتقدم ، فإنه نص فيه على الثلاثة ، وهو ظاهر في الترتيب .
وأنص منه ما روى ابن ماجه في الحديث أنه قال : ( أعتق رقبة ) قال : لا أجدها . قال : ( صم شهرين متتابعين ) . قال : لا أطيق . قال : ( أطعم ستين مسكيناً ) . أمره بالعتق وظاهر الأمر الوجوب ، ولم ينقله عنه إلا عند العجز ، وهذا هو المذهب والمختار من الروايتين بلا ريب .
( وعنه ) [ رواية أخرى : أن ] الكفارة على التخيير فيخير بين الثلاثة ، لأنه قد ورد بلفظ [ أو ] [ في بعض الروايات ] .
1328 وقال أحمد : حدثنا روح ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة أن رجلًا أفطر في رمضان ، فأمره رسول الله : بعتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكيناً . [ وذكر الحديث ] رواه مسلم .
والأصح والأشهر في الرواية ما تقدم ، ثم هو لفظ الرسول ، والثاني لفظ الراوي ، لكن [ قد يقال ] : ليس في الرواية الصحيحة دلالة على الترتيب ، وتقديم العتق يحتمل [ أن يكون ] لشرفه ، ورواية ابن ماجه الأمر فيها يحتمل أنه للإِرشاد ، لتتوافق الروايات ، إذ القصة واحدة ، والأصل عدم خطأ الراوي بالمعنى ، وصفة الرقبة تذكر إن شاء الله تعالى في الظهار ، ( وصوم الشهرين ) يكون متتابعاً لنص الحديث ، ( وصفة الإِطعام ) لكل مسكين مدبر ، أو نصف صاع [ من ] تمر أو شعير ، إذ حكم الإِطعام هنا حكم الإِطعام في كفارة الظهار ، حملا للمطلق على المقيد ، والواجب في كفارة الظهار كذلك .
1329 بدليل ما روي عن أبي سلمة ، عن سلمة بن صخر رضي الله عنه أن النبي أعطاه مكتلا فيه خمسة عشر صاعاً فقال : ( أطعمه ستين مسكيناً ، وذلك لكل مسكين مد بر ) رواه الدارقطني ، وللترمذي معناه .
1330 وفي حديث خويلة بنت مالك قالت : ظاهر مني أوس بن الصامت ، فجئت رسول الله أشكو إليه ، ورسول الله يجادلني فيه ، ويقول : ( اتقى الله ، فإه ابن عمك ) فما برح حتى نزل القرآن 19 ( { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } ) إلى الفرضد فقال : ( يعتق رقبة ) فقلت : لا يجد . قال : ( فيصوم شهرين متتابعين ) قلت : يا رسول الله إنه شيخ كبير ، ما به من صيام . قال : ( فليطعم ستين مسكيناً ) قلت : ما عنده من شيء يتصدق به . قال : ( فإني سأعينه بعرق من تمر ) قلت : يا رسول الله فإني سأعينه بعرق آخر . قال : ( قد أحسنت ، فاذهبي فأطعمي عنه ستين مسكيناً ، وارجعي إلى ابن عمك ) والعرق ستون صاعاً ، رواه أبو داود وفي رواية : والعرق مكتل يسع ثلاثين صاعاً . وقال : هذا أصح .
1331 وروى أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن أبي يزيد المدني ، قال : جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير ، فقال رسول الله للمظاهر ( أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر ) . وبهذا الحديث يحصل الجمع بين الأحاديث ، وبين أن الواجب من التمر والشعير نصف صاع ، ومن البر مد .
واقتصر الخرقي رحمه الله على ذكر التمر والبر والشعير ، لورود النص بها ، وإلا فالواجب في الكفارة ما يجزيء في الفطرة ، وفي الخبز ، وقوت البلد خلاف ، يأتي إن شاء الله تعالى في غير هذا الموضع ، والله أعلم .
قال : وإذا جامع فلم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة .
ش : إذا جامع في يوم في رمضان ، ثم لم يكفر حتى جامع في ذلك اليوم ثانياً ، فكفارة واحدة بلا نزاع ، لأن الكفارات زواجر ، بمنزلة الحدود ، فتتداخل كالحدود ، وإن جامع في يوم ثم لم يكفر حتى جامع في يوم آخر فوجهان : ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي بكر في التنبيه ، وابن أبي موسى لا يجب إلا كفارة واحدة ، كما لو كانا في يوم ، وقياساً على الحدود ، ولأن حرمة الشهر كله حرمة واحدة ، فهو كاليوم الواحد ، ولهذا أجزأ بنية واحدة على رواية . ( والثاني ) : يجب عليه كفارتان ، أو كفارات بعدد الأيام ، اختاره ابن حامد ، والقاضي في خلافه ، وفي جامعه ، وروايتيه ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وصاحب التلخيص ، لأنهما يومان لو انفرد كل منهما بالفساد تعلقت به الكفارة ، فإذا عمهما الفساد وجب أن يتعلق بكل منهما كفارة ، كاليومين من رمضانين ، ولأن كل يوم بمنزلة عبادة منفردة ، بدليل أن فساد بعضها لا يسري إلى بقيتها ، واحتياج كل يوم إلى نية على المذهب ، والله أعلم .
قال : وإن كفّر ثم جامع فكفارة ثانية .
ش : نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية حنبل والميموني ، لأنه وطء محرم لحرمة رمضان ، فوجب أن تتعلق به الكفارة كالوطء الأول ، أو عبادة يجب بالجماع فيها كفارة ، فجاز أن تتكرر الكفارة مع الفساد ، دليله الحج ، والله أعلم .
قال : وإن أكل وظن أن الفجر لم يطلع ، وقد كان طلع ، أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب فعليه القضاء .
ش : لأنه أكل مختاراً ذاكراً ، أشبه ما لو أكل يوم الشك فتبين أنه من رمضان ، ولأنه كان يمكنه التحرز ، أشبه العامد .
1332 وقد روي عن هشام بن عروة ، عن فاطمة امرأته ، عن أسماء ، قالت : أفطرنا على عهد رسول الله في يوم [ غيم ] ثم طلعت الشمس . قيل لهشام : أمروا بالقضاء ؟ قال : لا بد من القضاء . أخرجه البخاري . أما إن أكل ظاناً أن الفجر لم يطلع ، وأن الشمس قد غربت ، ولم يتبين له شيء ، فلا قضاء عليه ، ولو تردد بعد ، قاله أبو محمد ، إذا لم يوجد يقين أزال ذلك الظن ، فالأصل بقاؤه وأوجب عليه صاحب التلخيص القضاء في ظن الغروب ، إذ الأصل بقاء النهار ، ومن هنا قال : يجوز الأكل بالاجتهاد [ في أول اليوم فلا يجوز في آخره إلا بيقين . وأبو محمد يجوز الأكل بالاجتهاد ] فيهما . واتفقوا على وجوب القضاء فيما إذا أكل شاكاً في غروب الشمس ، لا في طلوع الفجر ، نظراً للأصل فيهما ، والله أعلم .
قال : ومباح لمن جامع بالليل أن لا يغتسل حتى يطلع الفجر ، وهو على صومه .
ش : قد دل على ذلك إشارة النص في قوله تعالى : 19 ( { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } ) الآية وهو يشمل جميع الليلة ومن ضرورة حل الرفث في جميع الليلة أن يصبح جنباً صائماً ، وقد شهدت السنة [ لذلك ] .
1323 فعن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال : يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ؟ فقال رسول الله : ( وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ) فقال : لست مثلنا يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر . فقال : ( والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله تعالى وأعلمكم بما أتقى ) . رواه أحمد ومسلم ، وأبو داود .
1334 وفي الصحيحين عن أم سلمة قالت : كان رسول الله يصبح جنباً من جماع لا حلم [ ثم ] لا يفطر ولا يقضي .
1335 وحديث أبي هريرة ( من أصبح جنباً فلا صوم له ) قال الخطابي أحسن ما سمعت فيه أنه منسوخ . والله أعلم .
قال : وكذلك المرأة إذا انقطع حيضها قبل الفجر ، فهي صائمة إذا نوت الصوم قبل طلوع الفجر ، وتغتسل إذا أصبحت .
ش : لأنه حدث يوجب الغسل ، أشبه الجنابة ويشترط لصحة صومها انقطاع الحيض من الليل ، وإلا لو انقطع في أول جزء من اليوم أفسده ، ونية الصوم قبل طلوع الفجر ، لما تقدم من وجوب النية من الليل في الفرض ، والله أعلم .
قال : والحامل إذا خافت على جنينها ، والمرضع على ولدها ، أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً .
ش : أما إفطارهما فأمر مطلوب ، بحيث يكره تركه ، لأن خوفهما على ولديهما خوف على آدمي ، أشبه خوفهما على أنفسهما ، ولو خافتا على أنفسهما أفطرتا ، لأنهما بمنزلة المريض [ فكذلك إذا خافتا على ولديهما .
وأما القضاء فلما تقدم من أنهما بمنزلة المريض ] والمريض عليه القضاء بنص الكتاب ، قال سبحانه : 19 ( { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام آخر } ) فكذلك هما .
وأما وجوب إطعامهما عن كل يوم مسكيناً فلقوله تعالى : 19 ( { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } ) أي إذا أفطروا والحامل والمرضع يطيقان الصوم ، فدخلا في الآية الكريمة ، ولا يقال :
1336 هذه الآية منسوخة بما بعدها من قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } كذا في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنهما .
1337 لأنا نقول : قال ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أثبتت للحبلى والمرضع . وعنه : 19 ( { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } ) قال : كانت رخصة للشيخ الكبيرة ، والمرأة الكبيرة ، وهما يطيقان الصيام ، أن يفطروا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً ، والحبلى والمرضع إذا خافتا . رواه أبو داود ، وقال : إذا خافتا يعني على أولادهما . فظاهر قوله الأول نسخ الحكم في حق غير الحامل والمرضع ، وبقاء الحكم فيهما . وظاهر قوله الثاني أن الآية [ الكريمة ] محكمة غير منسوخة ، وأنها إنما أريد بها هؤلاء من باب إطلاق العام وإرادة الخاص ، وهذا أولى من إدعاء النسخ ، فإنه خلاف الأصل ، فالواجب عدمه أو تقليله ما أمكن وما يقال من أن قوله : بعد 19 ( { وأن تصوموا خير لكم } ) ينافي الحمل على ما تقدم ، إذ الصوم ليس بخير لها ولا يجاب عنه بأن تخصيص آخر الآية لا يدل على تخصيص أولها على الصحيح ، كما في قوله تعالى : 19 ( { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ) بعد 19 ( { والمطلقات يتربصن } ) ونحوه . بقي أن يقال : فظاهر الآية الكريمة يقتضي أنه لا يجب إلا الفدية فقط ، فإيجاب القضاء يخالف ظاهر الآية ؟ فيقال : القضاء من دليل آخر ، وهو القياس على المريض .
وقول الخرقي : والمرضع . يشمل الأم وغيرها [ وهو كذلك ] وإطعام المسكين مد بر ، أو نصف صاع تمر أو شعير على ما تقدم .
ولو كان خوف الحامل أو المرضع على نفسها لم يجب إلا القضاء فقط ، على ظاهر كلام الخرقي ، وقول العامة ، لتحقق شبهها بالمريض ، بل هي فرد من أفراده ، وظاهر كلام أحمد بل نصه : وجوب القضاء والفدية . قال في رواية الميموني : الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما يفطران ، ويطعمان ، ويصومغان إذا أطاقتا . وقال في رواية صالح : [ تخاف على نفسها ] تفطر وتقضي وتطعم وهذا ظاهر [ إطلاق ] ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وحمل القاضي كلام أحمد على أنها خافت على ولدها أيضاً مع خوفها على نفسها [ وهو ] بعيد من اللفظ . والله أعلم .
قال : وإذا عجز عن الصوم لكبر أفطر ، وأطعم عن كل يوم مسكيناً .
ش : نص على هذا أحمد في رواية الميموني وحرب ، وذلك لما تقدم من الآية الكريمة ، وقول ابن عباس في تفسيرها ، ولأنه صوم واجب ، فجاز أن ينوب عنه المال ، كالصوم في كفارة الظهار والجماع ، وفي معنى العجز عن الصوم لكبر العجز عنه لمرض لا يرجى برؤه ، وقد ذكر ذلك الخرقي في أول الحج ، والله أعلم .
قال : وإذا حاضت المرأة [ أو نفست ] أفطرت وقضت وإن صامت لم يجزئها .
ش : هذا إجماع و ( الحمد لله رب العالمين ) .
1338 وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : كنا نحيض فنؤمر بقضاء الصوم ، ولا نؤمر بقضاء الصلاة .
1339 وفي البخاري : قال النبي : ( أليست إحداكن إذا حاضت لم تصل ولم تصم ، فذلك من نقصان دينها ) وهذا أخبار عن شأنها الشرعية وحالها ، ودم النفاس هو دم حيض في الحقيقة ، فحكمه حكمه ، وتأثم بالفعل لارتكابها المنهي عنه ، والله أعلم .
قال : فإن أمكنها القضاء فلم تقض حتى ماتت أطعم عنها عن كل يوم مسكين .
ش : القضاء واجب على الحائض والنفساء بالإِجماع ، وقد شهد له حديث عائشة ، ثم لا يخلو [ إما ] أن يمكنها القضاء أو لا ، فإن لم يمكنها لمرض أو سفر ، أو ضيق وقت ، ونحو ذلك ، حتى ماتت فلا فدية عليها ولا مضى عليها أحوال ، في ظاهر كلام الخرقي ، وهو الصحيح المعروف من الروايتين ، لأنه حق الله تعالى ، وجب بالشرع ، مات من وجب عليه قبل إمكان فعله ، فسقط إلى غير بدل كالحج . ( والرواية الثانية ) : تجب الفدية ، لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه ، فوجب الإِطعام عنه ، كالشيخ العاجز عن الصيام .
وإن أمكنها القضاء فلم تقضى حتى ماتت فلا يخلو إما أن يكون قبل أن يدركها رمضان آخر ، أو بعد أن أدركها رمضان آخر ، فإن كان قبل أن أدركها رمضان آخر وجب أن يطعم عنها من تركتها لكل يوم مسكين .
1340 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : ( من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه [ مكان ] كل يوم مسكين ) رواه الترمذي [ وقال ] : الصحيح أنه عن ابن عمر موقوف .
1341 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء ، وإن نذر قضى عنه وليه . رواه أبو داود .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يجوز أن يصام [ عنه ] والحال ما تقدم ، لما تقدم ، ولأنه نوع عبادة لا تصح النيابة عنه في حال الحياة عند العجز عنه ، فلا تصح النيابة عنه بعد الموت كالصلاة .
1342 وقول النبي ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) محمول على النذر جمعا بين الأدلة ويؤيده أن عائشة رضي الله عنها هي راوية الحديث .
1343 وقد روي عنها أنها قالت : يطعم في قضاء رمضان ولا يصام . رواه الأثرم في سننه والظاهر من حالها فهم التخصيص ، وهو أولى من ذهولها عما روت .
وإن ماتت بعد أن أدركها رمضان آخر فوجهان ، وقيل : روايتان : ( إحداهما ) وهو ظاهر إطلاق أحمد في رواية المروذي والخرقي ، والقاضي ، والشيرازي . وغيرهم : يطعم عنه لكل يوم مسكين [ إذ بذلك يزول التفريط بالتأخير ، فيصير كما لو مات من غير تفريط . ( والثاني ) : يطعم عنه لكل يوم مسكينان ] جزم به أبو الخطاب في الهداية وصاحب التلخيص ، وأبو البركات ، لأن الموت مع التفريط بدون التأخير عن رمضان آخر يوجب كفارة ، والتأخير بدون الموت يوجب كفارة ، فإذا اجتمعا وجب أن يجب كفارتان ، والله أعلم .
قال : ولو لم تمت المفرطة حتى أظلها [ شهر ] رمضان آخر صامته ثم قضت ما كان عليها ، وأطعمت عن كل يوم مسكيناً .
ش : قد تقدم [ له ] حكم التفريط مع الموت ، بقي حكم التفريط مع الحياة ، فقال : إنه إذا أظلها [ مع التفريط ] شهر رمضان آخر ، فإنها تصومه ، لما تقدم من أن زمنه متعين له ، لا يمكن أن يقع فيه غيره ، ثم تقضي ما كان عليها نذراً كالواجب ، ثم تطعم لكل يوم مسكيناً ، نص على ذلك .
1344 معتمداً على قول الصحابة [ منهم ] ابن عمر وابن عباس ، وأبو هريرة رضي الله عنهم ، وقد روى ذلك عنهم الدارقطني بسنده .
1345 ورواه مرفوعاً إلى النبي من حديث أبي هريرة ، لكن فيه ضعف وكلام الخرقي يقتضي أنه لا يجب أكثر من إطعام مسكين وإن حصل التأخير رمضانات ، وأشعر كلامه بأنها لو أخرت مفرطة ثم فعلت قبل أن يدخل [ عليها ] رمضان فلا شيء عليها ، لأنها قد فعلت الواجب في وقته ، أشبه ما لو لم تؤخره ، وهذا يتضمن أن وقت أداء قضاء رمضان جميع السنة .
1346 وذلك لقول عائشة رضي الله عنها : كان يكون على الصيام من رمضان ، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان ، وذلك لمكان رسول الله . [ رواه الجماعة ] وفي الدلالة منه نظر لتصريحها بالعذر ، والله أعلم .
قال : وكذلك حكم المريض والمسافر في الموت والحياة إذا فرطا في القضاء .
ش : يعني ما تقدم في الحائض والنفساء من أنهما إذا فرطا وماتا وجب الإِطعام عنهما لكل يوم مسكيناً ، ومن أنهما إذا أخرتا مفرطتين حتى أظلهما رمضان أنهما يقضيان ويطعمان يجري مثله في المريض والمسافر ، لاشتراك الكل في المعنى المتقي للاشتراك في الحكم .
وقوله : إذا فرط في القضاء . لأنهما إذا لم يفرطا فلا شيء عليهما مع الموت ، ومع الحياة يلزمها الفعل ليس إلا ، والله أعلم .
قال : وللمريض أن يفطر إذا كان الصوم يزيد في مرضه .
ش : للمريض أن يفطر في الجملة بالإِجماع ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة } ) أي : فأفطر فعليه عدة ، أو فالواجب عدة ، ومن قرأ ( عدة ) بالنصب فالتقدير : فليصم عدة ، ومن شرط جواز الفطر عندنا التضرر بالصوم ، بأن يزيد بالصوم مرضه أو يتباطأ [ برؤه ] ونحو ذلك ، لأن ذلك وقع رخصة لنا ، ودفعا للحرج [ والمشقة ] عنا ، ولذلك قرنه بالسفر ، فإذا لم يوجد الضرر فلا معنى للفطر ، والله أعلم .
قال : فإن تحمل وصام كره له ذلك وأجزأه .
ش : إذا تحمل من جاز له الفطر بالمرض وصام كره له ذلك ، لإِضراره بنفسه ، وتركه تخفيف الله تعالى ، ورخصته المطلوب إتيانها .
1347 قال النبي : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته ) ولأن بعض العلماء لا يصحح صومه ، ويمنع [ من ] التقدير في الآية . انتهى ، فإن فعل أجزأه لإِتيانه بالأصل الذي هو العزيمة ، وصار هذا بمنزلة من أبيح له ترك القيام في الصلاة فتكلف وقام ، والله أعلم .
قال : وكذلك المسافر .
ش : أي حكم المسافر المتقدم في أول الباب الذي يجوز له الفطر حكم المريض في أن الفطر أولى له ، وأنه إن صام أجزأه لما تقدم .
1348 وفي الصحيحين أن النبي قال : ( ليس من البر الصوم في السفر ) .
1349 وقال : ( عليكم برخصة الله التي رخص لكم ) .
1350 وقال النبي لحمزة بن عمرو الأسلمي وكان كثير الصوم ، وقد سأله عن الصوم في السفر فقال : ( إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر ) فهذا لبيان الجواز ، وتلك للأفضلية ، والله أعلم .
قال : وقضاء شهر رمضان متفرقاً يجزيء .
ش : لإِطرق قوله تعالى : 19 ( { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } ) وبذلك استدل ابن عباس رضي الله عنهما .
1351 قال البخاري : قال ابن عباس : لا بأس أن يفرق ، لقوله تعالى : 19 ( { فعدة من أيام أخر } ) .
1352 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال : ( قضاء رمضان إن شاء فرق ، وإن شاء تابع ) رواه الدراقطني .
1353 وعن محمد بن المنكدر قال : بلغني أن رسول الله سئل عن تقطيع قضاء رمضان ، فقال ( ذاك إليك ، أرأيت لو كان على أحد دين فقضى الدرهم والدرهمين ، ألم يكن قضاء ؟ فالله أحق أن يعفو ويغفر ) رواه الدارقطني وحسن إسناده وهو مرسل .
1354 وما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : نزلت 19 ( { فعدة من أيام أخ متتابعات } ) فسقطت متتابعات . رواه الدارقطني إن صح فهو محمول على أنه سقط حكمها بالنسخ ، لا أنه ضاع لقوله تعالى : 9 ( { إنا نحن الذكر وإنا له لحافظون } ) والله أعلم .
قال : والمتتابع أحسن .
ش : إذ القضاء يحكي الأداء ، وخروجاً من خلاف العلماء ، والله أعلم .
قال : ومن دخل في صيام تطوع فخرج منه فلا قضاء عليه .
ش : من دخل في صوم تطوع جاز له الخروج منه وإن لم يكن له عذر ، ولا قضاء عليه على المذهب المنصوص المعروف .
1355 لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل على النبي ذات يوم فقال : ( هل عندكم شيء ؟ ) فقلنا : لا . فقال : ( إني إذا صائم ) ثم أتانا يوماً آخر ، فقلنا : يا رسول الله قد أهدي لنا حيس . فقال : ( أرينيه فلقد أصبحت صائماً ) فأكل . وفي لفظ : قال طلحة هو ابن يحيى فحدثت مجاهداً بهذا الحديث فقال : ذاك يمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله ، فإن شاء أمضاها ، وإن شاء أمسكها . رواه مسلم .
1356 وعن أم هانئ أن رسول الله دخل عليها بشراب فشرب ، ثم ناولها فشربت ، وقالت : يا رسول الله أما إني كنت صائمة ، فقال رسول الله : ( الصائم المتطوع أمير نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ) [ رواه أحمد والترمذي ] . وفي رواية قالت : إني صائمة ، ولكني كرهت أن أرد سؤرك . فقال : ( يعني إن كان قضاء رمضان فاقضي يوماً مكانه ، وإن كان تطوعاً فإن شئت فاقضي ، وإن شئت فلا تقضي ) رواه أحمد ، وأبو داود بمعناه . وهذا نص .
ونقل حنبل عن أحمد : إذا أجمع على الصيام من الليل ، فأوجبه على نفسه ، فأفطر من غير عذر ، أعاد يوماً مكانه . فظاهر إطلاق هذا وجوب القضاء على من خرج من صوم التطوع لغير عذر .
1357 وذلك لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : أهدي لحفصة طعام ، وكنا صائمتين فأفطرنا ، ثم دخل رسول الله فقلنا : يا رسول الله إنا أهديت لنا هدية واشتهيناها فأفطرنا . فقال رسول الله : ( لا عليكما ، صوماً مكانه يوماً آخر ) رواه أبو داود . ومنع القاضي وغيره رواية حنبل ، وحملوها على النذر ، توفيقاً بي نصوصه ، وأما الحديث فقد أنكره أحمد في رواية الأثرم ، وقال أبو داود : لا يثبت . وقال الترمذي : فيه مقال ، ثم هو محمول على الندب جمعا بين الأدلة ، وبقرينة ( لا عليكما ) أي لا بأس أو لا حرج ، ومن لا بأس عليه لا قضاء عليه حتماً .
( تنبيه ) : ( الحيس ) تمر وأقط وسمن يطبخ ، والله أعلم .
قال : وإن قضاه فحسن .
ش : لا يجب عليه قضاء صوم التطوع إذا أفسده ، وإن قضاه فحسن . لما تقدم من حديث عائشة ، وللخروج من الخلاف .
( تنبيه ) : وحكم سائر التطوعات حكم الصوم فيما تقدم ، عدا الحج والعمرة ، فإنهما يلزمان بالشروع ، وعنه أنه قال : الصلا أشد ، فلا يقطعها ، يعني من الصوم . قيل له : فإن قطعها قضاها ؟ قال : إن قضاها فليس فيه اختلاف ؛ فمال الجوزجاني [ من هذا ] إلى أنها تلزم بالشروع ، لأنها ذات إحلال وإحرام ، فأشبهت الحج ، وعامة الأصحاب على خلافه ، وكلام أحمد لا دلالة فيه على وجوب القضاء ، بل [ على ] تأكد استحبابه ، والله أعلم .
قال : وإذا كان للغلام عشر سنين وأطاق الصوم أخذ به .
ش : أي ألزم به ، ليتمرن على ذلك ويعتاده ، كما يؤمر بالصلاة إذا بلغ عشراً ، ثم هل هذا الأخذ على سبيل الوجوب عليه أم لا ؟ فيه روايتان . ( إحداهما ( نعم ) .
1358 لما روي عن النبي أنه قال : ( إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام رمضان ) ( والثالثة ) : وهي المذهب لا . لرفع القلم عنه كما في الحديث ، ثم الخرقي قيده بعشر سنين . وغيره ينيطه بالتمييز مع الإِطاقة ، والله أعلم .
قال : وإذا أسلم الكافر في شهر رمضان صام ما يستقبل من بقية الشهر .
ش : لا نزاع في ذلك ، لصيرورته أهلًا لأداء العبادة الواجبة على كل مكلف .
وقد روى ابن ماجه عن سفيان بن عبد الله بن ربيعة رضي الله عنهما قال : حدثنا وفدنا الذين قدموا على رسول الله بإسلام ثقيف قال : وقدموا عليه في رمضان ، وضرب عليهم قبة في المسجد ، فلما أسلموا صاموا ما بقي عليهم من الشهر .
ومقتضى كلامه أنه لا يجب عليه قضاء ما مضى من الشهر قبل إسلامه ، ولا نزاع في ذلك أيضاً عندنا ، إذ الإِسلام يجب ما قبله ، وكرمضان الماضي ، واختلف عن أحمد في اليوم الذي أسلم فيه هل يلزمه إمساكه وقضاؤه ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) وهي المنصوصة عن الإِمام و [ المذهب ] عند القاضي وغيره يلزمانه ، لإِدراكه جزءاً من [ وقت ] العبادة ، أشبه من أدرك ركعةً من وقت الصلاة .
1360 وفي الصحيحين أن النبي قال في يوم عاشوراء : ( من كان أصبح صائماً فليتم صومه ، ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ) .
1361 وفي أبي داود عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه رضي الله عنهما أن أسلم أتت النبي فقال : ( صممتم يومكم هذا ؟ ) قالوا : لا . قال : ( فأتموا يومكم واقضوا ) وهذا صريح في وجوب الإِتمام والقضاء .
( والثانية ) : لا يجبان ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، لعدم تمكنه من [ التلبس ] بالعبادة أشبه ما لو أسلم بعد خروج اليوم ، وحكى أبو العباس رواية ثالثة فيما أظن واختارها : يجب الإِمساك ولا يجب القضاء ، نظراً إلى أن الحديث الصحيح إنما فيه الأمر بذلك ، والله أعلم .
قال : ومن رأى هلال رمضان وحده صام .
ش : هذه إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله قال : أعجب إليّ أن يصوم وهو المذهب [ عند الأصحاب ] لظاهر قوله تعالى : 19 ( { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ) وقول النبي : ( صوموا لرؤيته ) وهذا قد رآه ، ولأنه قد تيقنه من رمضان ، فلزمه صومه كاليوم الذي بعده . ( والرواية الثانية ) وهي أنصهما لا يصوم إلا في جماعة الناس ، لظاهر قول النبي : ( فإن شهد ذوا عدل فصوموا ) فعلق الرؤية على ذوي عدل ، ولأنه يوم محكوم به من شعبان ، أشبه الذي قبله ، والله أعلم .
قال : فإن كان عدلًا صوم الناس بقوله .
ش : إذا كان الرائي عدلًا صوم الإِمام أو نائبه الناس بقوله ، هذا هو المذهب المنصوص ، المختار للأصحاب .
1362 لما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء أعرابي إلى النبي فقال : إني رأيت الهلال . قال بعض الرواة : يعني رمضان . فقال : ( أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ ) قال : نعم . قال : ( أتشهد أني رسول الله ؟ ) قال : نعم . قال : يا بلال أذن في الناس أن يصوموا ) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، وروي عن عكرمة مرسلًا .
1363 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : تراءى الناس الهلال ، فأخبرت رسول الله أني رأيته ، فصام وأمر الناس بصيامه رواه أحمد وأبو داود . وهذا ظاهر في أنه رتب صومه وصوم الناس على إخباره ، ولأنه خبر يلزم به عبادة يستوي فيه المخبر والمخبر ، لا يتعلق به حق آدمي ، فقبل منه [ قول ] واحد ، كالإِخبار عن النبي ، ولا يلزمه هلال شوال ، لأنه يتعلق به حق آدمي وهو الإِفطار ، ولا الشهادة في سائر الحقوق ، لعدم استواء المخبر فيهما وعدم لزوم العبادة [ فيها ] ( وعن أحمد ) ما يدل [ على ] أنه لا يقبل فيه إلا قول اثنين كبقية الشهود .
1364 لما روي عن أمير مكة الحارث بن حاطب رضي الله عنهما قال : عهد إلينا رسول الله أن ننسك للرؤية ، فإن لم نره وشهد شاهدان عدلان نسكنا لشهادتهما ، رواه أبو داود والدارقطني ، وقال : هذا إسناد متصل صحيح . وأجيب بأنا نقول بمنطوقه ، ومفهومه قد عارضه منطوق ما تقدم ، ولا ريب أن المنطوق يقدم على المفهوم . وتوسط أبو بكر فقال : إن كان الواحد بين جماعة الناس ، وتفرد بالرؤية لم يقبل ، لأنهم يعاينون ما عاين ، فالظاهر خطؤه ، وإن كان منفرداً قبل كالأعرابي الجائي من الحرة ، لما شهد عند النبي ، ورد بحديث ابن عمر المتقدم .
( تنبيه ) : [ هذا ] الخلاف السابق مبني على أن هذا هل يجري مجرى الإِخبار أو مجرى الشهادة ؟ والمذهب إجراؤه مجرى الإِخبار ، وعليه فلو أخبره من يثق بقوله قبل قوله ، وإن لم يثبت ذلك عند الحاكم ، وتقبل فيه المرأة ، وعلى الثاني لا تقبل ، والله أعلم .
قال : ولا يفطر إلا بشهادة عدلين .
ش : حكم هلال شوال حكم بقية الشهور لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين .
1365 لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال : إني جالست أصحاب النبي [ وسألتهم ، وإنهم حدثوني أن رسول الله ] قال : ( صوموا لرؤيته ، وأفطروا [ لرؤيته ، وأنسكوا ، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين ، وإن شهد شاهدان ذو عدل فصوموا وأفطروا ) ] رواه النسائي .
1366 وعن ابن عمر عن النبي : ( أنه أجاز رجل واحد على رؤية الهلال ، وكان لا يجيز على شهادة الإِفطار إلا [ شهادة ] رجلين ) وفارق هلال رمضان ، لما فيه من الاحتياط للعبادة .
وظاهر قول الخرقي أن شرطهما أن يكونا رجلين وهو كذلك إذ هذا ليس بمال ، ولا يقد به المال ، ويطلع عليه الرجال . وقوله : بشهادة [ اثنين ] . يحتمل عند الحاكم ، ويحتمل مطلقاً ، وبه قطع أبو محمد ، فجوز الفطر بقول عدلين لمن يعرف حالهما ، ولو ردهما الحاكم لجهله بهما ، قال : ولكل واحد من العدلين [ أيضاً ] الفطر ، والله أعلم .
قال : ولا يفطر إذا رآه وحده .
ش : هذا منصوص أحمد رحمه الله في رواية جماعة ، وقال : يتهم نفسه .
1367 وذلك لظاهر قول النبي : ( صومكم يوم تصومون ، وفطركم يوم تفطرون ) .
1368 وعن أبي قلابة أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال يعني شوال وقد أصبح الناس صياماً ، فأتيا عمر رضي الله عنه فذكرا ذلك له ، فقال لأحدهما : أصائم أنت ؟ قال : بل مفطر . قال : ما حملك على هذا ؟ قال : لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال . وقال للآخر . قال : أنا صاسم . قال : ما حملك على هذا ؟ . قال : لم أكن لأفطر والناس صيام . فقال للذي أفطر : لولا مكان هذا لأوجعت رأسك . ثم نودي في الناس أن أخرجوا . رواه سعيد . وهذا ظاهر في أنه أراد ضربه لإِفطاره برؤيته ، ورفع عنه الضرب لشهادة صاحبه . وقيل : يفطر سرا ، لظاهر قول النبي : ( صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ) [ الحديث ] ولأنه يوم تيقن أنه من شوال ، أشبه الذي بعده ، والله أعلم .
قال : وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير تحرى وصام ] .
ش : قياساً على من اشتبهت عليه أدلة القبلة ، فإن صلى [ مع القدرة عليه ] بغير اجتهاد لم يجزه لأنه ترك فرضه ، وبدونها كما إذا خفيت عليه الأدلة وجهان ، أصلهما إذا صلى على حسب حاله ، لخفاء أدلة القبلة ، والله أعلم .
قال : فإن صام شهراً يريد به شهر مضان فوافقه أو ما بعده أجزأه ، وإن وافق ما قبله لم يجزئه .
ش : إذا تحرى وصام شهراً يريد به شهر رمضان ، فإن لم ينكشف له الحال فلا ريب عندنا في الإِجزاء ، وإن تبين له الحال فإن وافق شهر رمضان فبها ونعمت ، ولا يضره التردد في النية ، لمكان الضرورة ، وإن وافق بعده أجزؤه أيضاً ، ولا يضره عدم نية القضاء وإن اشترطت ، لمحل العذر ، وإن وافق [ ذلك ] قبله لم يجزئه لعدم تعلق الخطاب به إذاً .
وظاهر إطلاق الخرقي أنه متى وافق شهراً بعده أجزأه ، وإن كان ناقصاً ورمضان تام ، وصرح بذلك القاضي ، وصاحب التلخيص ، وأورده أبو البركات مذهباً ، كما لو نذر شهراً ، واختار أبو محمد أنه يلزمه بعدة أيام رمضان ، لظاهر قوله تعالى : { فعدة من أيام أخر } ، والله أعلم .
قال : ولا يصام يوما العيدين ، ولا أيام التشريق ، لا عن فرض ، ولا عن تطوع ، فإن قصد لصيامهما كان عاصياً ، ولم يجزئه عن فرض ، وفي أيام التشريق عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى : أنه يصومها للفرض ،
ش : لا يجوز أن يصام يوم العيد لا الفطر ولا الأضحى عن فرض ولا عن تطوع .
1469 لما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله نهى عن صيام يومين ، يوم الفطر ويوم النحر ، وفي لفظ للبخاري ( لا صوم في يومين ) ولمسلم : ( لا يصح الصوم في يومين ) .
1370 وعن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال : شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فصلى ، ثم انصرف فخطب الناس ، فقال : إن هذين يومان نهى رسول الله عن صيامهما ، يوم فطركم من صيامكم ، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم . متفق عليه . فإن قصد صيامهما كان عاصياً ، لقصده ارتكاب ما نهى الشارع عنه ، ولم يجزئه عن فرض ، لارتكابه النهي المقتضي لفساد المنهي عنه ، هذا هو المشهور ، وهو قياس المذهب فيمن صلى في ثوب غصب ، أو [ في ] بقعة غصب ، أو حج بمال غصب ، أن باع وقت النداء ونحو ذلك ، والمنصوص عن أحمد في رواية مهنا الصحة مع التحريم . وهو قياس القول الآخر في هذه المسائل .
وقول الخرقي : ولم يجزئه عن فرض . ربما أوهم أنه يجزئه عن التطوع ، وليس كذلك ، وإنما المحتاج إليه في البيان [ هو الفرض ] أما المتطوع فقد اقتضى كلامه أنه يعصي بقصد صومه ، والحكم على صحته وفساده لا حاجة إليه . انتهى .
أما أيام التشريق فلا يجوز صيامها عن تطوع .
1371 لما روى نبيشة الهذلي قال : قال رسول الله : ( أيام التشريق أيام أكل وشرب ، وذكر الله تعالى ) رواه مسلم .
1372 وعن سعد بن أبي وقاص قال : أمرني رسول الله أن أنادي أيام منى ( إنها أيام أكل وشرب ، ولا صوم فيها ) يعني أيام التشريق . رواه أحمد .
و [ في ] جواز صومها عن الفرض روايتان : ( إحداهما ) وهي التي رجع إليها [ أحمد ] أخيراً قال : كنت أذهب إليه ، يعني [ عن ] صوم المتمتع لأيام التشريق فأما اليوم فإني أهابه ، لقول النبي ( هي أيام أكل وشرب ) واختيار الخرقي ، وابن أبي موسى ، والقاضي ، والشيرازي وغيرهم لا يجوز لما تقدم .
1373 وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله نهى عن صوم خمسة أيام في السنة ، يوم الفطر ، ويوم النحر ، وثلاثة [ أيام التشريق . رواه الدراقطني ] . ( والثانية ) : يجوز إذ يوم النحر أحد العيدين ، فوجب أن يختص بحظر الصوم فيه دون ما بعده ، دليله يوم الفطر ، وابن أبي موسى خص الخلاف بالصوم عن دم المتعة ، ونص أحمد بالجواز إنما هو في ذلك ، نعم أومأ إلى الجواز في النذر .
1374 وذلك لما روى عن عائشة رضي الله عنها وابن عمر رضي الله عنهما قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي . رواه البخاري وأجاب القاضي عن هذا بأنه خاص مختلف فيه ، والأول عام متفق عليه ، فتقدم على المختلف فيه . انتهى ، وفيه نظر ، فعلى الأول إن صامها فهو كصيام يوم العيد على ما مر .
( تنبيه ) : أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر ، والثاني عشر ، والثالث عشر ، من ذي الحجة ، سميت بذلك لأنهم يشرقون فيها لحوم الأضاحي ، أي يقطعونها تقديداً وقيل : بل لأجل صلاة العيد وقت شروق الشمس . وقيل : بل لأن الذبح بعد الشروق ، والله أعلم .
قال : وإذا رؤي الهلال نهاراً قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة .
ش : أما بعد الزوال فللمقبلة بلا نزاع نعلمه ، لقربه منها .
1375 ولقصة عمر رضي الله عنه ، وأما قبله فعنه للماضية لقربه منها . وعنه للمقبلة ، وهي المذهب .
1376 لما روي أبو وائل قال : جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين : أن الأهلة بعضها أكبر من بعض ، فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تفطروا حتى تمسوا ، إلا أن يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس عشية . وهذا يشمل ما قبل الزوال وبعده ، ( وعنه ) إن كان في أول الشهر فللماضية ، وفي آخره للمقبلة ، احتياطاً للعبادة .
( تنبيه ) : هذا التعليل وكلام أبي محمد [ وغيره ] يقتضي أن هذا مختص برمضان ، فاللام في كلام الخرقي للعهد ، والله أعلم .
قال : والإِختيار تأخير السحور .
ش : لا نزاع في مطلوبية السحور .
1377 قال النبي : ( تسحروا فإن في السحور بركة ) . متفق عليه .
1378 وقال عليه السلام : ( إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور ) رواه مسلم وغيره . والمستحب تأخيره .
1379 لما روي عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي كان يقول : ( لا تزال أمتي بخير ما [ أخروا ] السحور ، وعجلوا الفطر ) رواه أحمد .
( تنبيه ) : السحور بفتح السين اسم لما يؤكل في السحر ، وبالضم اسم الفعل على الأشهر ، وقيل : يجوز في اسم الفعل [ الفتح ] أيضاً ، والمراد في كلام الخرقي الفعل ، فيكون بالضم على الصحيح و ( الأكلة ) بفتح الهمزة ، ورواه بعضهم بضمها ، قال الحافظ زكي الدين : والوجه الفتح ، فإن الأكلة بالفتح بمعنى المرة الواحدة . مع الاستيفاء ، وبالضم اللقمة إذا لم يكن معها ماء ، والله أعلم .
قال : وتعجيل الإفطار .
ش : أي [ والاختيار تعجيل الإفطار ] لما تقدم .
1380 وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي قال : ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ) .
1381 وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( يقول الله عز وجل : إن أحب عبادي إليّ أعجلهم فطراً ) رواه أحمد والترمذي ، والله أعلم .
قال : ومن صام [ شهر ] رمضان ، واتبعه بست من شوال ، وإن فرقها فكأنما صام الدهر .
1382 ش : ما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( من صام رمضان ثم اتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر ) رواه مسلم وغيره .
1383 وعن ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله قال : ( من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر ، كان تمام السنة ، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) رواه ابن ماجه .
وقوة كلام الخرقي وغيره يقتضي أن الأولى متابعتها ، مبادرة للمندوب إليه ، ومحافظة على ( وأتبعه ) [ إذ المتابعة ] ظاهرها التوالي ، والله أعلم .
قال : وصيام يوم عاشوراء ، كفارة سنة ، ويوم عرفة كفارة سنتين .
1384 ش : لما روي عن أبي قتادة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( صوم يوم عرفة يكفر سنتين ، ماضية ومستقبلة ، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية ) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي .
( تنبيه ) : عاشوراء بالمد على الأشهر ، وقيل : وبالقصر وفيه [ لغة ] ثالثة عاشورا . وهو اليوم العاشر من المحرم .
1385 وعن ابن عباس : أنه التاسع ونص أحمد على استحباب صومهما ، وعلى صيام ثلاثة أيام مع إشتباه أول الشهر ، ويوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة بلا ريب ، سمي بذلك قيل : [ لأن الوقوف بعرفة فيه . وقيل ] : لأن إبراهيم الخليل صلوات الله عليه عرف فيه أن رؤياه حق ، والله أعلم .
قال : ولا يستحب لمن كان بعرفة أن يصوم ، ليتقوى على الدعاء .
1386 ش : عن أم الفضل رضي الله عنها : ( أنهم شكوا في صوم النبي يوم عرفة ، فأرسلت إليه بلبن ، فشرب وهو يخطب الناس بعرفة ) متفق عليه .
وجعل الخرقي رحمه الله [ المعنى ] في الإِفطار التقوي على الدعاء المطلوب في هذا اليوم ، وهو حسن ، وعن أبي العباس . لأنه يوم عيد .
1387 ويشهد له ما روى عقبة بن عامر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق عيدنا أهل الإِسلام ، وهي أيام أكل وشرب ) رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي ، والله أعلم .
قال : وأيام البي التي حض رسول الله على صيامها هي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر [ من كل شهر ] ، والله أعلم .
1388 ش : ثبت أن النبي أوصى أبا هريرة بصيام ثلاثة أيام من كل شهر .
1389 وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر ) فأنزل الله تعالى : [ تصديق ذلك في كتابه : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } اليوم بعشرة ) رواه ابن ماجه والترمذي . والأيام البيض هي اليوم الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر .
1390 لما روي عن أبي ذر رضي الله عنه أيضاً : قال : قال رسول الله : ( يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة فصم ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة ) رواه أحمد والنسائي والترمذي .
وعن بعض العلماء : الثاني عشر بدل الخامس [ عشر ] وسميت بيضاً لابيضاض ليلها كله بالقمر [ أي ] أيام الليالي البيض ، وقيل : لأن الله تعالى تاب على آدم فيها وبيض صحيفته ذكره التميمي ، والله سبحانه أعلم .
كتاب الاعتكاف
ش : الاعتكاف في اللغة لزوم الشيء والإقبال عليه . قال سبحانه : 19 ( { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } ) وقال : { يعكفون على أصنام لهم } وفي الشرع : لزوم المسجد للطاعة من مسلم عاقل ، طاهر مما يوجب غسلا ، وأقله أدنى لبث إن لم يشترط الصوم ، مع الكف عن مفسداته ، ولا يكفي العبور بكل حال ، ذكره في التلخيص .
1391 وهو مشروع ، قالت عائشة رضي اللَّه عنها : كان رسول اللَّه يعتكف العشر الأواخر من رمضان . حتى توفاه اللَّه تعالى ، ثم اعتكف أزواجه من بعده .
1392 وعن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال : كان رسول اللَّه يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فلم يعتكف عاما ، فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين . رواه أحمد . والترمذي وصححه . وقد أمر اللَّه سبحانه نبيه [ إبراهيم ] بتطهير بيته 19 ( { للطائفين والعاكفين والركع السجود } ) .
قال : والاعتكاف سنة ، إلا أن يكون نذرا فيلزم الوفاء به .
ش : هذا إجماع والحمد للَّه ، وقد شهد له ما تقدم .
1393 وإنما لم يجب لأن النبي لم يأمر به أصحابه ، بل في الصحيحين أنه قال لهم ( من أحب منكم أن يعتكف فليعتكف ) .
1394 وإنما وجب بالنذر لما روى ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن عمر سأل النبي قال : كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ؟ قال ( فأوف بنذرك ) متفق عليه وللبخاري ( فاعتكف ليلة ) أمره وظاهر الأمر للوجوب .
1395 وقال عليه السلام ( من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه ) رواه البخاري ، واللَّه أعلم .
قال : ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره : بصوم .
ش : يجوز الاعتكاف بلا صوم ، على المشهور من الروايتين ، والمختار للأصحاب ، لحديث عمر المتقدم ، وفيه نظر ، لأن في رواية في الصحيح أيضا ( أن أعتكف يوما ) فدل على أنه أطلق الليلة وأراد بها اليوم ، إذ الواقعة واحدة .
1396 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي قال ( ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه ) رواه الدارقطني والحاكم ، وقال بعض الحفاظ : والصحيح أنه موقوف ولأنها عبادة تصح بالليل ، فلا يشترط لها الصوم كالصلاة ، ( والثانية ) : لا يجوز إلا بصوم .
1397 لما روي عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ، ولا يباشرها ، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم ، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع . رواه أبو داود ، ويجاب عنه إن صح بنفس الكمال ، جمعاً بين الأدلة .
فعلى الأولى يصح اعتكاف ليلة مفردة ، وبعض يوم مطلقاً . وعلى الثانية : لا يصح اعتكاف ليلة [ مفردة ] ولا بعض يوم من مفطر ، أما من صائم فقطع أبو البركات بصحته ، لوجود الشرط وهو الصوم ، وهو احتمال لأبي محمد في المغني ، والذي أورده مذهباً البطلان ، نظراً إلى أن الصوم لم يقصد له ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه .
ش : لا يجوز الاعتكاف إلا في المسجد في الجملة بلا ريب ، لقول اللَّه تعالى : 19 ( { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ) وصف سبحانه المعتكف بكونه في المسجد ، ولأن النبي كان يعتكف في مسجده .
1398 قالت عائشة رضي اللَّه عنها : وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . وفعله خرج بياناً للاعتكاف المشروع ، وقد تقدم قول عائشة رضي اللَّه عنها : لا اعتكاف إلا في مسجد جامع . ومن شرط المسجد أن يجمع فيه ، أي تقام فيه الجماعات ، إن تضمن الاعتكاف وقت صلاة ، والمعتكف ممن تجب عليه الجماعة ، وهو الحر البالغ ، غير المعذور ، حذاراً من ترك الواجب الذيى هو الجماعة ، أو تكرر الخروج المنافي للاعتكاف في اليوم والليلة خمس مرات ، مع إمكان التحرز عن ذلك ، أما إن لم يتمضن الاعتكاف وقت صلاة ، أو كان المعتكف ممن لا تجب عليه الجماعة ، كالصبي والعبد ، إن لم تجب عليه الجمعة والمرأة ، ونحوهم ، فالمشترط المسجدية فقط ، لزوال المحذور ، نعم لا يصح الاعتكاف في مسجد البيت بلا ريب ، لانتفاء حكم المسجدية عنه في سائر الأحكام ، فكذلك هنا ، ولا يشترط للمسجد إقامة الجمعة فيه لندرة الخروج منه ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان .
ش : كذا في الصحيحين عن عائشة رضي اللَّه عنها : وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ، وحاجة الإنسان البول والغائط ، كني عنهما بحاجة الإنسان ، وفي معنى [ ذلك ] الاغتسال من الجنابة والوضوء ، قال أحمد : لا يعجبني أن يتوضأ في المسجد . وكذلك الأكل والشرب ، إن لم يكن له من يناوله ذلك ، وإذا خرج للبول والغائط ، وثم سقاية أقرب من منزله ، ولا ضرر عليه في دخولها لزمه ذلك ، لزوال العذر وإن تضرر بدخولها كمن عليه نقيصة في ذلك ، أو لعدم التمكن من التنظيف ، ونحو ذلك لم يلزمه ، دفعاً للضرر ، وله المضي إلى منزله ، وإذا خرج مشى على المعتاد من غير عجلة ، ولا توان ، لا لأكل ولا لغيره ، نعم قال ابن حامد : يأكل في بيته اليسير كلقمة ونحوها ، لا جميع أكله ، وقال القاضي : يتوجه أن له الأكل في بيته ، والخروج إليه ابتداء ، لما في الأكل في المسجد من الدناءة ، ونصر أبو محمد الأول ، لحديث عائشة رضي اللَّه عنها . واللَّه أعلم .
قال : وإلى صلاة الجمعة .
ش : أي وله الخروج من المسجد الذي اعتكف فيه إذا لم تقم فيه الجمعة ، وبهذا يتبين أن قول الخرقي : يجمع فيه . أي تقام فيه الجماعة ، لا أنه يجمع فيه أي تقام فيه الجمعة ، لأن الخروج للجمعة كالمستثنى باللفظ ، للزوم ذلك له ، ولأن ذلك واجب متحتم عليه ، أشبه الخروج لقضاء العدة ، وإذا خرج فصلى ، فإن أحب أن يتم اعتكافه في الجامع فله ذلك ، وإلا استحب له الإسراع إلى معتكفه ، قال أبو محمد : ويحتمل أن يخير في تعجيل الرجوع وتأخيره ، لأنه مكان يصلح للاعتكاف ، أشبه ما لو نوى الاعتكاف فيه ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يعود مريضاً ، ولا يشهد جنازة ، إلا أن يشترط ذلك .
ش : أما مع عدم الشرط فلا يفعل ذلك على المشهور من الروايتين ، والمجزوم عند [ عامة ] الأصحاب ، لما تقدم من حديث عائشة رضي اللَّه عنها : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ، ولا يشهد جنازة ويرجحه حديث الصحيحين : وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان .
1399 وفي الصحيح عنها رضي اللَّه عنها أنها قالت : إن كنت لأدخل البيت للحاجة ، والمريض فيه ، فما أسأل عنه إلا وأنا مارة . ولأن عيادة المريض مستحبة ، فلا يترك لها واجب ، وشهود الجنازة إن لم يتعين فكذلك ، وإن تعين أمكن فعله في المسجد فلا حاجة إلى الخروج ، نعم إن لم يمكن شهودها في المسجد فالخروج لواجب تعين عليه ، لا لشهود جنازة ، ( والرواية الثانية ) : له ذلك كما له الوضوء .
1400 وعن علي رضي اللَّه عنه : 16 ( ( إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة ، ولعيد المريض وليحضر الجنازة ، وليأت أهله ليأمرهم بالحاجة وهو قائم ) ) رواه الإمام أحمد وأما مع الشرط فيجوز بلا ريب .
1401 لعموم قوله ( المسلمون على شروطهم ) ونحوه ولأن مع الشرط المنذور اعتكافه حقيقة ما عدا هذه الشروط .
( تنبيه ) : محل الخلاف في الاعتكاف الواجب ، أما الاعتكاف المتطوع به فله ذلك ، لأن له تركه رأساً ، لكن الأولى عدم الخروج اقتداءً برسول اللَّه ، فإنه لم يكن يعرج على المريض ، مع كون اعتكافه كان تطوعاً ، واللَّه أعلم .
قال : ومن وطيء فقد أفسد اعتكافه .
ش : يحرم على المعتكف الوطء لنص الكتاب قال اللَّه تعالى : 19 ( { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ، تلك حدود اللَّه فلا تقربوها } ) والجماع مراد من الآية بلا ريب ، إما عموما وإما خصوصا ، وهو أظهر ، فإن وطىء فقد أفسد اعتكافه ، لأنه وطء حرام في العبادة ، فيفسدها كالوطء في الحج والصوم ، مع أن هذا إجماع في العمد حكاه ابن المنذر ، انتهى .
وإطلاق الخرقي يشمل العمد وغيره وهو صحيح قياساً على الحج والصوم . ويتخرج من الصوم عدم البطلان مع العذر كنسيان ونحوه .
ومقتضى كلامه أنه لا كفارة عليه لأجل الوطء ، وهو إحدى الروايتين واختيار أبي محمد وزعم في المغني أنه ظاهر المذهب وفي الكافي أنه المذهب ، إذ الوجوب من الشرع ولم يرد ، ولأنها عبادة لم تجب بأصل الشرع فلم يجب بإفسادها بالوطء كفارة كالوطء في الصوم المنذور . ( والرواية الثانية ) واختارها القاضي و الشريق و أبو الخطاب في خلافيهما تجب الكفارة لأنها عبادة يفسدها الوطء ، فوجب به كفارة كالحج ، ثم هذه الكفارة كفارة يمين [ عند الشريف أبي جعفر ، تبعاً لأبي بكر في التنبيه ، لأنها كفارة نذر ، وكفارة النذر كفارة يمين ] وعند القاضي في الخلاف : كفارة واطىء في رمضان قياساً لها عليها ، وقد حكى الشيرازي القولين روايتين ومقتضى كلامه أن المباشرة دون الفرج لا تبطل ، وهو كذلك إن عريت عن الإنزال ، أما مع الاقتران به فتفسد على المذهب المجزوم به عند الأكثرين كما في الصوم ، وفيه احتمال لابن عبدون واللَّه أعلم .
قال : ولا قضاء عليه إلا أن يكون واجباً .
ش : إذا فسد الاعتكاف بالوطء ، نظرت فإن كان تطوعاً لم يجب القضاء ، بناء على قاعدتنا من أن النوافل ما عدا الحج والعمرة لا تلزم بالشروع ، وقد تقدم ذلك في الصوم . وإن كان الاعتكاف واجباً بأن نذره وجب القضاء ، لأن الذمة مشتغلة ، ولم يوجد ما يبرئها فوجب براءتها ، وهذا من حيث الجملة ، أما من حيث التفصيل فإن كان النذر لأيام متتابعة فقد أفسده بالفطر غير المعذور فيه ، فيلزمه الاستئناف بإمكان الإتيان [ بالمنذور ] على صفته ، نعم مع العذر ، بل يقضي ويجري في الكفارة وجهان ، وإن كان النذر لأيام معينة كعشر ذي الحجة ونحو ذلك فهل يبطل التتابع ، كما لو اشترطه بلفظه ، أو لا يبطل لأنه إنما حصل لضرورة الزمن ؟ فيه وجهان ، فعلى الأول يستأنف العشرة . وعلى الثاني : يتم بقية العشرة ويقضي اليوم الذي أفسده ، وتلزمه الكفارة على الوجهين ، بتركه عين المنذور ، وينبغي أن يجري في الكفارة مع العذر وجهان واللَّه أعلم .
قال : وإذا وقعت فتنة خاف منها ترك الاعتكاف .
ش : إذا وقعت فتنة فخاف على نفسه ، أو أهله ، أو ماله ، منها ، جاز له الخروج وترك الاعتكاف ، إذ ذاك يترك له الواجب بأصل الشرع ، وهو الجمعة والجماعة ، فما أوجبه على نفسه أولى ، وفي معنى ذلك المرض الذي يشق المقام معه ونحو ذلك واللَّه أعلم .
قال : فإذا أمن بنى على ما مضى إذا كان نذر أياماً معلومة ، وقضى ما ترك ، وكفر كفارة يمين .
ش : إذا زال المعنى الذي جاز لأجله ترك الاعتكاف كما إذا أمن [ في ] الفتنة ونحو ذلك ، والاعتكاف تطوع خير بين الرجوع وعدمه ، وإن كان واجباً وجب عليه الرجوع إلى معتكفه ، ليأتي بالواجب ، ثم لا يخلو من ثلاثة أحوال ( أحدها ) نذر أياماً معلومة مطلقة ، كاعتكاف عشرة أيام غير متتابعة ، أو عشرة أيام وقلنا : لا يلزمه التتابع على المذهب ، فإنه يتم باقيها لا غير ، ولا شيء عليه ، لإتيانه بالمنذور على وجهه ، ويبتدىء اليوم الذي خرج فيه من أوله ، قاله أبو محمد . ( الثاني ) : نذر أياماً متتابعة غير معينة كعشرة أيام متتابعة ونحو ذلك فيخير بين البناء وقضاء ما بقي منها ، مع كفارة يمين ، لفوات صفة المنقور ، وبين الاستئناف بلا كفارة ، لإتيانه بالمنذور على وجهه ، وقد نبه الخرقي على هذا في النذر فقال : ومن نذر أن يصوم شهراً متتابعاً ولم يسمه ، فمرض في بعضه ، فإذا عوفي بنى ، وكفر كفارة يمين ، وإن أحب أتى بشهر كامل متتابع ، ولا كفارة عليه وكذلك إذا نذرت المرأة صيام شهر متتابع وحاضت فيه . ( الثالث ) : من الأحوال : نذر أياماً معينة ، وهو مراد الخرقي هنا لقوله : معلومة ، كعشر ذي الحجة ونحوه ، فيقضي ما ترك ، ليأتي بالواجب ، ويكفر كفارة يمين ، لترك المنذور في وقته ، إذ النذر كاليمين ، ولو ترك ما حلف على فعله ، أو فعل ما حلف على تركه ، وجبت الكفارة ، وإن كان معذوراً ، ( وعن أحمد ) ما يدل على أنه لا كفارة مع العذر ، حملاً على العذر ، إذ الكفارة زاجرة أو ماحية ، وهما منتفيان معه ( وعن القاضي ) إن وجب الخروج ، كالخروج لنفير عام ، أو شهادة متعينة ونحو ذلك ، فلا كفارة كالخروج للحيض ، وإن لم يجب وجبت ، ويقرب منه قول صاحب التلخيص وابن عبدون : إنت كان الخروج لحق نفسه كالمرض والفتنة ونحوهما ، وجبت ، وإن كان لحق عليه ، كأداء الشهادة ، والنفير ، والحيض ، لا كفارة . قال : وقيل : تجب ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك في النفير إذا احتيج إليه .
ش : إذا احتيج للمعتكف في الجهاد ، بأن استنفره الإمام ، أو حصر العدو بلده ونحو ذلك ، تعين عليه ترك الاعتكاف ، والخروج لذلك ، وحكمه إذا زال ذلك في رجوعه إلى معتكفه ، وفي القضاء والكفارة حكم ما تقدم من التفصيل ، لأنه ساواه معنى ، فيساويه حكماً ، واللَّه أعلم .
قال : والمعتكف لا يتجر .
ش : الاعتكاف وضعه حبس النفس للطاعة ، والتجارة تنافي ذلك في الجملة .
1402 ولأن النبي : نهى عن البيع والشراء في المسجد ، رواه الترمذي وحسنه . وإذا نهي عن البيع والشراء في غير حال الاعتكاف ففيه أجدر .
( تنبيه ) : له أن يشتري ما لا بد منه من مأكول ونحوه ، لكن خارج المسجد ، والَّه أعلم .
قال : ولا يتكسب بالصنعة .
ش : كالخياطة ونحوها ، إذ ذاك في معنى التجارة ، فمنع منه كهي .
ومفهوم كلام الخرقي أن له فعل الصنعة لا متكسباً ، وظاهر كلام أحمد المنع ، قال في رواية المروذي وقد سأله : ترى له أن يخيط ؟ قال : لا ينبغي أن يعتكف إذا كان يريد أن يفعل . وقرر ذلك القاضي فقال : لا يجوز أن يخيط في المسجد ، وإن احتاج إليها ، قلت : وقال أبو محمد : الأولى فعل ما احتاج إليه وقل ، مثل أن انشق قميصه فيخيطه ، ونحو ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : ولا بأس أن يتزوج في المسجد ، ويشهد النكاح .
ش : إذ النكاح طاعة ، وحضوره قربة ، ومدته لا تطول ، أشبه رد السلام ، وتشميت العاطس ، واللَّه أعلم .
قال : والمتوفى عنها زوجها وهي معتكفة تخرج لقضاء العدة ، وتفعل كما فعل الذي خرج لفتنة .
ش : المتوفى عنها زوجهاإذا كانت معتكفة فإنها تخرج لتعتد في بيت زوجها ، إذ ذاك واجب بأصل الشرع ، والاعتكاف إن كان تطوعاً فواضح ، وإن كان واجباً فهي التي أوجبته على نفسها ، ولأن الاعتكاف لا يفوت ، لأنه يقضى ، والعدة تفوت ، لانقضائها بمضي الزمن ، فإذا انقضت العدة فإنها تفعل [ كما ] فعل الذي خرج للفتنة ، فترجع إلى معتكفها ، وتقضي وتكفر ، على ما مضي من التفصيل فيه ، لاشتراكهما في أنه خروج لواجب ، واللَّه أعلم .
قال : والمعتكفة إذا حاضت خرجت من المسجد ، وضربت خباء في الرحبة .
ش : إذا حاضت المعتكفة خرجت من المسجد ، لأنه حدث يمنع اللبث في المسجد ، فهو كالجنابة ، بل آكد .
1403 وقد قال النبي ( إني لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض ) رواه أبو داود .
1404 وفي حديث آخر : ( إن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض ) رواه ابن ماجه ، وإذا خرجت فإن لم يكن للمسجد رحبة مضت إلى بيتها ، وإن كانت له رحبة ضربت خباء ، وأقامت فيها لأن ذلك أقرب إلى محل اعتكافها .
1405 وقد روى أبو حفص بسنده عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : 16 ( كن [ المعتكفات ] إذا حضن أمر رسول اللَّه بإخراجهن من المسجد ، وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن ) . وهذا على سبيل الاستحباب قال أبو البركات ، وصاحب التلخيص ، حاكياً له عن بعض الأصحاب ، وكذلك قال أبو محمد : الظاهر أنه مستحب وشرط ذلك الأمن على نفسها ، وإلا رجعت إلى بيتها ، ولهذا قال بعضهم هذا مع سلامة الزمان ، وإذا طهرت رجعت ، فأتت بما بقي من اعتكافها ، ولا كفارة عليها ، كما أشعر به كلام الخرقي ، حيث لم يجعلها كالخارجة لقضاء عدتها ، وهو واضح ، إذ هذا خروج معتاد أشبه الخروج للجمعة ، ولأنه كالمستثنى لفظا ، وقد تقدم أن صاحب التلخيص حكى قولاً بوجوب الكفارة عليه [ وكذلك حكاه أبو البركات ، نظراً إلى أن العذر لا يمنع وجوب الكفارة ] .
وقد دل كلام الخرقي على أن رحبة المسجد ليست في حكم المسجد ، وعن أحمد ما يدل على روايتين ، وجمع القاضي بينهما على اختلاف حالتين ، فالموضع الذي قال فيه تقيم ، إذا كانت محوطة وعليها باب في حكمه ، وما لا فلا ، واللَّه أعلم .
قال : ومن نذر أن يعتكف شهراً بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس ، واللَّه أعلم .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، إذ الشهر يدخل بدخول الليل ، ولهذا ترتبت الأحكام المعلقة بها من حلول الديون ونحوها بذلك ، ومن ضرورة اعتكاف جميع الليل الدخول قبل غروب الشمس ، نظراً إلى قاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به [ فهو ] واجب . ( والرواية الثانية ) : قبل طلوع فجر أول يوم من أوله ، ولعله بناء على اشتراط الصوم له ، وإذاً لا يبتدىء قبل الشرط .
1406 واستدل بعضهم بأن النبي كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه . متفق عليه . وهذا لا يبيح الدعوى لأن النبي لم يدخل إلا بعد صلاة الصبح ، وهم يوجبون قبل ذلك ، على أن اعتكافه كان تطوعاً ، والمتطوع متى شاء شرع ، مع أن ابن عبد البر قال : لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بهذا الحديث . واللَّه أعلم .
كتاب الحج
ش : الحج بفتح الحاء وكسرها القصد ، وعن الخليل : كثرة القصد إلى من يعظمه ، وفي الشرع : عبارة عن القصد إلى محل مخصوص [ من عمل مخصوصّ .
وهو مما علم وجوبه من دين اللَّه تعالى بالضرورة ، بشهادة الكتاب ، والسنة ، والإجماع قال اللَّه تعالى : 19 ( { وللَّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ) .
1407 وقال النبي ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه ، وإقام الصلاة وإيناء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) وأجمع المسلمون على ذلك واللَّه أعلم .
قال : ومن ملك زاداً وراحلة ، وهو عاقل بالغ ، لزمه الحج والعمرة .
ش : يشترط [ لوجوب ] الحج شروط :
( أحدها ) الاستطاعة ، لأن الخطاب إنما ورد للمستطيع ، إذ ( من ) بدل من ( الناس ) فتقدير الكلام : وللَّه على المستطيع . ولانتفاء تكليف ما لا يطاق شرعاً ، بل وعقلاً ، والاستطاعة عندنا أن يملك زاداً وراحلة .
1408 لما روي عن أنس رضي اللَّه عنه ، عن النبي ، في قوله عز وجل 19 ( { من استطاع إليه سبيلا } ) قال : قيل يا رسول : ما السبيل ؟ قال ( الزاد والراحلة ) رواه الدارقطني .
1409 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه قال ( الزاد والراحلة ) يعني قوله عز وجل { من استطاع إليه سبيلا } رواه ابن ماجه .
1410 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : جاء رجل إلى رسول اللَّه فقال : ما يوجب الحج ؟ قال ( الزاد والراحلة ) رواه الترمذي وقال : وعليه العمل عند أهل العلم ، ولأنها عباد ة تتعلق بقطع مسافة بعيدة ، فكانت الاستطاعة فيها شرط ذلك ، دليله الجهاد ، وكون القوة قد يحصل بها الاستطاعة يتخلف في غالب الناس ، والحكم إنما يناط بالأعم الأغلب .
ويشترط في الزاد والراحلة أن يكونا صالحين لمثله ، لمدة ذهابه وإيابه ، وأن يكون ذلك فاضلاً عن نفقة نفسه ، وعياله وحوائجه الأصلية ، وبيان ذلك له موضع آخر إن شاء اللَّه ، وإنما يشترط الراحلة لمن بينه وبين مكة مسافة القصر ، أما من كان دون ذلك ، ويمكنه المشي ، فلا تشترط له الراحلة .
وقول الخرقي : من ملك . مقتضاه [ أنه ] لو بذل له ذلك لم يصر مستطيعاً ، وإن كان الباذل ابنه ، وهو صحيح لما تقدم ، إذا قوله عليه السلام في جواب ما يوجب الحج ؟ قال ( الزاد والراحلة ) انتهى .
( الثاني والثالث ) : العقل والبلوغ فلا يجب الحج على مجنون ولا صبي .
1411 لما روى ابن عباس قال : أتي عمر رضي اللَّه عنه بمجنونة قد زنت ، فاستشار فيها أناساً ، فأمر بها عمر أن ترجم ، فمر بها علي بن أبي طالب فقال : ما شأن هذه ؟ قالوا : مجنونة بني فلان زنت ، فأمر بها أن ترجم . فقال : ارجعوا بها . فقال : يا أمير المؤمنين إن القلم مرفوع عن ثلاثة ، عن المجنون حتى يبرأ ، وفي رواية حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يعقل . فقال : بلى . قال : فما بال هذه ؟ قال : لا شيء . قال : [ فأرسلها ] . فأرسلها عمر قال : فجعل يكبر ، وفي رواية قال له : أو ما تذكر أن رسول اللَّه قال . . وذكر الحديث وفيه : وقال : ( عن الصبي حتى يحتلم ) رواه أبو داود .
( الشرط الرابع ) : الحرية ، ويأتي في كلام الخرقي إن شاء اللَّه تعالى .
( الشرط الخامس ) : الإسلام ، وكأن الخرقي إنما ترك هذا الشرط لوضوحه ، إذ جميع العبادة لا يجب على كافر أداؤها ، ولا قضاؤها إذا أسلم ، وإنما معنى توجه الخطاب إليه ترتب ذلك في ذمته فيسلم ويفعل ، وفائدة ذلك العقاب في الآخرة ، نعم اختلف فيما إذا وجد المرتد الاستطاعة في زمن الردة ، ثم أسلم وفقدت ، هل يجب عليه الحج بناء [ على أنه ] في حكم المسلم حيث التزم حكم الإسلام ، أو لا يجب عليه ، بناء [ عى أنه ] في حكم الكافر الأصلي ، والإسلام يجب ما قبله ؟ فيه روايتان أشهرهما الثاني ، انتهى .
فظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط لوجوب الحج غير ما ذكر ، وهذا إحدى الروايتين ، وإليها ميل أبي محمد ، لظاهر إطلاق الكتاب والسنة ، وهو قوله تعالى { وللَّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } الآية ، وقول النبي ( وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) وأصرح من هذا لما سئل النبي عن ما يوجب الحج قال ( الزاد والراحلة ) ولأن إمكان الأداء على قاعدتنا ليس بشرط في وجوب العبادة ، بدليل ما إذا طهرت الحائض ، أو بلغ الصبي ، أو أفاق المجنون ، ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن الأداء فيه . ( والرواية الثانية ) : وهي ظاهر كلام ما ابن أبي موسى ، والقاضي في الجامع : يشترط لوجوب الحج شرطان آخران ، سعة الوقت ، وأمن الطريق ، إذ بدونهما يتعذر فعل الحج ، فاشترطا كالزاد ، والراحلة ، فعلى الأولى هما شرطان للزوم الأداء ، وفائدة الروايتين إذا مات قبل الفعل ، فعلى الأولى يخرج من تركته للوجوب ، وعلى الثانية لا ، لعدمه ، ومعنى سعة الوقت أن يمكنه المسير على العادة في وقت جرت العادة به ، ومعنى تخلية الطريق أن يكون آمناً مما يخاف في النفس ، والبضع ، والمال ، سالماً من خفارة وإن كانت يسيرة ، اختاره القاضي وغيره ، حذاراً من الرشوة في العبادة ، وعن ابن حامد : يجب بذل الخفارة اليسيرة ، هذا نقل أبي البركات ، وأبي محمد في الكافي ، وفي المقنع والمغني والتلخيص : إن لم يجحف بماله لزمه البذل ، لأن ذلك مما يتسامح بمثله .
وحيث وجب الحج فهل تجب العمرة ؟ فيه ثلاث روايات : ( أشهرها ) وبه جزم جمهور الأصحاب : نعم .
1412 لما روي عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : قلت يا رسول للَّه هل على النساء جهاد ؟ قال ( نعم عليهم جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة ) رواه أحمد وابن ماجه ، قال بعض الحفاظ : ورواته ثقات .
1413 وعن أبي رزين العقيلي رضي اللَّه عنه أنه أتى النبي فقال : إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ، ولا الظعن ، فقال ( حج عن أبيك واعتمر ) رواه الخمسة وصححه الترمذي ، وقال الإمام أحمد : لا أعلم في وجوب العمرة حديثاً أجود من هذا ، ولا أصح .
1414 وعن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال : بينما نحن جلوس عند النبي إذ جاء رجل فقال : يا محمد ما الإسلام ؟ فقال : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللَّه ، وأن محمداً رسول اللَّه ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت ، وتعتمر ، وتغتسل من الجنابة ، وتتم الوضوء ، وتصوم رمضان ) وذكر باقي الحديث ، وأنه قال ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) رواه الدارقطني ، وقال : هذا إسناد صحيح ثابت .
1415 وقد قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : 16 ( إنهما لقرينة الحج في كتاب اللَّه ) . يشير إلى قوله سبحانه 19 ( { وأتموا الحج والعمرة للَّه } ) .
1416 والظاهر أن الصبي بن معبد فهم ذلك [ أيضاً ] وأقره عمر رضي اللَّه عنه عليه حيث قال لعمر : يا أمير المؤمنين إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي ، فأهللت بهما ، فقال عمر : هديت لسنة نبيك محمد ، رواه أبو داود والنسائي . ( والرواية الثانية ) : لا تجب .
1417 لما روي [ عن ] جابر رضي اللَّه عنه أن النبي سئل عن العمرة : واجبة هي ؟ قال ( لا ، وأن تعتمر فهو أفضل ) رواه أحمد وضعفه ، والترمذي وصححه .
( والرواية الثالثة ) : تجب إلا على أهل مكة ، وهذا المذهب عند أبي ومحمد في المغني إذ ركن العمرة ومعظمها هو الطواف ، وهو حاصل منهم .
1418 قال أحمد : كان ابن عباس يرى العمرة واجبة ، ويقول : يا أهل مكة ليس عليكم عمرة ، إنما عمرتكم الطواف بالبيت . واللَّه أعلم .
قال : فإن كان مريضاً لا يرجى برؤه ، أو شيخاً لا يستمسك على الراحلة ، أقام من يحج عنه ويعتمر .
ش : هذان شرطان لوجوب المباشرة بلا ريب ، حذاراً من تكليف ما لا يطاق ، أو حصول الضرر المنفي شرعاً ، وإذا عدما وبقية الشروط موجودة فيه ، ووجد مالاً فاضلاً عن حاجته المعتبرة ، وافياً بنفقة راكب ، وجب عليه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر من بلده ، لما تقدم من حديث أبي رزين .
1419 وعن أبي عباس رضي اللَّه عنهما أن امرأة من خثعم قالت : يا رسول اللَّه إن أبي أدركته فريضة اللَّه في الحج شيخاً كبيراً ، لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره ، قال ( فحجي عنه ) رواه الجماعة .
1420 وعن عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه عنهما قال : جاء رجل [ من خثعم ] إلى رسول اللَّه فقال : إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير ، لا يستطيع ركوب الرحل ، والحج مكتوب عليه ، أفأحج عنه ؟ قال ( أنت أكبر ولده ؟ ) قال : نعم . قال ( أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته [ عنه ] أكان ذلك يجزىء عنه ؟ ) قال : نعم . قال ( فحج عنه ) رواه أحمد والنسائي بمعناه ، فأخبره عليه الصلاة والسلام بأن الحج مكتوب عليه وفريضة على من هذا حاله ، ولم ينكر ذلك ، وإذا وجبت وجبت النيابة لتبرأ الذمة .
ومفهوم كلامه أن المريض المرجو البرء ليس له الاستنابة ، و [ كذلك ] الصحيح بطريق الأولى ، وهو كذلك في الفرض ، أما في النفل فالمريض له الاستنابة ، والصحيح فيه روايتان ، ( الجواز ) بشرط أن يحج الفرض ، نظراً إلى أن الحج لا يلزمه بنفسه ، أشبه المعضوب ، ( وعدمه ) لأنه يقدر على الحج بنفسه ، فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض هذه طريقة أبي محمد في المغني ، وطريقة صاحب التلخيص ، وابن حمدان في الصغرى جريان الروايتين فيهما .
( تنبيهان ) : [ أحدهما ] : حكم المحبوس حكم المريض المرجو البرء .
( الثاني ) : لو لم يجد العاجز من ينوب ، فقال أبو محمد : قياس المذهب أنه يبني على الروايتين في إمكان المسير ، هل هو شرط للوجوب ، أو للزوم الأداء ؟ فعلى الأول : لا يجب عليه شيء ، وعلى الثاني : يثبت الحج في ذمته ، واللَّه أعلم .
قال : وقد أجزأ عنه وإن عوفي .
ش : إذا أقام المعضوب من يحج عنه فإنه يجزىء [ عنه ] ذلك وإن عوفي ، لأنه أتى بالمأمور به ، فيخرج عن العهدة ، كما لو لم يبرأ ، إذ الشارع إنما يكلف العبد بما ظنه واجتهاده ، لا بما لا اطلاع له عليه .
واعلم أن هذا له ثلاث حالات : ( إحداها ) برىء بعد فراغ النائب ، فيجزئه بلا ريب عندنا ، ( الحالة الثانية ) بريء قبل إحرام النائب ، فلا يجزئه بلا ريب ، للقدرة على المبدل قبل الشروع في البدل ، أشبه المتيمم إذا وجد الماء قبل الدخول في الصلاة ، ( الحالة الثالثة ) : بعد شروع النائب وقبل الفراغ ، فقال أبو محمد : ينبغي أن لا يجزئه ، هو أظهر الوجهين عند أبي العباس ، كالمتيمم إذا وجد الماء في الصلاة ( والثاني ) وهو احتمال لأبي محمد في المغني ، واختاره صاحب الوجيز يجزئه كالمتمتع إذا شرع في الصوم ثم قدر على الهدي ، واللَّه أعلم .
قال : وحكم المرأة إذا كان لها محرم كحكم الرجل .
ش : المذهب المشهور المعروف أن المرأة لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم .
1421 لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها ، أو أخوها ، أو زوجها [ أو ابنها ] أو ذو محرم منها ) رواه أبو داود والترمذي ، ومسلم ، وللبخاري نحوه .
1422 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن النبي قال ( لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم ) متفق عليه .
1423 وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها ) رواه مسلم ، وأبو داود ورواه البخاري والترمذي وقالا ( أن تسافر يوماً وليلة ) ولأبي داود في رواية ( بريدا ) .
1424 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه سمع رسول اللَّه يخطب يقول ( لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ) فقام رجل فقال : يا رسول اللَّه إن امرأتي خرجت حاجة ، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا . قال ( فانطلق فحج مع امرأتك ) متفق عليه . وهذا معنى دخول سفر الحج في العموم .
وعن أحمد رحمه اللَّه جواز ذلك في الفريضة ، قال : أما في حجة الفريضة فأرجو أنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته ، وأما في غيرها فلا ، لأنه عليه السلام فسر الإيجاب بالزاد والراحلة ، وهذه واجدتهما ، ولأنه سفر واجب ، فلم يشترط له المحرم كسفر الهجرة ، وأجيب بأن ما تقدم أخص ، وفيه زيادة ، وهو أكثر رواة ، وأصح بلا ريب ، وسفر الهجرة محل ضرورة ، فلا يقاس عليه غيره .
وبالجملة لا تفريع ولا عمل على هذه الرواية ، أما على المذهب فيشترط المحرم لمسافة القصر فما زاد ، وفي اشتراطه لما دونها روايتان : ( أشهرهما ) : الاشتراط ، ولعل مبناهما اختلاف الأحاديث ، وقد أشار أحمد إلى هذا فقال :
1425 أما أبو هريرة فيقول : يوم وليلة . ويروى عن أبي هريرة ( لا تسافر سفراً ) أيضاً ، وأما حديث أبي سعيد فيقول ( ثلاثة أيام ) قيل له : ما تقول أنت : قال : لا تسافر قليلاً ولا كثيراً إلا مع ذي محرم . وعلى هذا فيجمع بين الأحاديث بأن النبي قال ذلك في مواطن مختلفة ، بحسب أسئلة ، فحدث كل بما سمع ، وإن كان واحداً فحدث بها مرات على حسب ما سمعها ، أو يقال : المراد بالليلة مع اليوم ، وذلك إشارة إلى مدة الذهاب .
1426 وقد روي في الصحيح ( يومان ) فيكون إشارة إلى مدة الذهاب والرجوع ، ورواية ( الثلاث ) إشارة إلى مدة الذهاب ، والرجوع ، واليوم الذي يقضي فيه الحاجة ، أو يقال : هذا كله تمثيل للعدد القليل ، فاليوم الواحد [ أول العدد وأقله ، والاثنان أول الكثير وأقله ، والثلاث أول الجمع وأقله فأشار واللَّه أعلم إلى أن مثل هذا ] في قلة الزمن لا تسافره إلا مع ذي محرم ، فكيف بما فوقه . انتهى .
وهل المحرم شرط للوجوب ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، أو للزوم الأداء ؟ فيه روايتان .
والمحرم زوج المرأة ومن تحرم عليه على التأييد بنسب أو سبب مباح ، قال أبو محمد متابعة لكثير من الأحصا : فيخرج زوج الأخت ونحوها ، إذ تحريمها [ عليه ] ليس على التأبيد ، وكذلك عبد المرأة ، لا يكون محرماً لسيدته على المذهب المشهور والمجزوم به عند الأكثرين ، منهم أبو محمد ، وصاحب التلخيص لذلك .
1427 وقد جاء عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن النبي ( سفر المرأة مع عبدها ضيعة ) [ رواه سعيد ] ( وعن أحمد ) وزعم القاضي في شرح المذهب أنه المذهب أنه محرم لها ، لأنه يباح له النظر إليها ، أشبه ذا رحمها ، ويخرج الزاني والواطىء بالشبهة لا يكون محرماً للمزني بها ، والموطوءة بشبهة ، لعدم إباحة السبب ، هذا المذهب المنصوص ، وقيل : بل هو محرم لها ، نظراً للتحريم المؤبد ، وقيل ويحكى عن ابن عقيل : تحصل المحرمية في وطء الشبهة [ دون الزنا ، لعدم وصف وطء الشبهة ] بالتحريم ، وهو ظاهر في التلخيص ، قال : لسبب غير محرم . وعدل أبو البركات فقال : زوجها ، ومن تحرم عليه أبداً ، لا من تحريمها بوطء شبهة أو زنا . فقيل ) إنما قال ذلك حذاراً من أن يرد عليه أزواج النبي ، لأن تحريمهن على المسلمين أبداً بسبب مباح ، وهو الإسلام ، ليسوا بمحارم لهن ، فكان يجب استثناؤهن كما استثنى المزني بها ، فأجيب لانقطاع حكمهن [ فأورد عليه الملاعنة ، ولا جواب عنه .
ويعتبر للمحرم التكليف والإسلام ، نص عليهما ، والبذل للخروج فلو ] امتنع لم يجبر على المذهب ، وعنه : يجب عليه الخروج ، فيقتضي أنه يجبر ، واللَّه أعلم .
قال : فمن فرط فيه حتى توفي ، أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة .
ش : ( من ) من أدوات الشرط ، يشمل المذكر والمؤنث ، على المشهور من قولي الأصوليين ، فمن وجب عليه الحج من الرجال والنساء ، ولم يحج حتى مات ، وجب أن يحج عنه ، ويعتمر إن قلنا بوجوب العمرة ، وهو المذهب .
1428 لما روي عن ابن عباس ري اللَّه عنهما أنه قال : أتى رجل النبي فقال : إن أختي نذرت أن تحج ، وإنها ماتت ، فقال النبي ( لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟ ) قال : نعم . قال ( فاقض اللَّه فهو أحق بالقضاء ) وفي رواية : أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي فقالت : إن أمي نذرت أن تحج ، فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ قال ( حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ ) قالت : نعم . قال ( اقضوا اللَّه فاللَّه أحق بالوفاء ) متفق عليه .
1429 وله أيضاً قال : أتى رجل النبي فقال : إن أبي مات وعليه حجة الإسلام ، أفأحج عنه ؟ قال ( أرأيت لو أن أباك ترك ديناً عليه أقضيته عنه ؟ ) قال : نعم . رواه الدارقطني .
1430 وعن بريدة قال : جاءت امرأة إلى النبي فقالت : إن أمي ماتت ولم تحج ، أفأحج عنها ؟ قال ( مهك حجي عنها ) رواه الترمذي انتهى . ويحج عنه من جميع ماله ، لأنه دين مستقر ، أشبه دين الآدمي ، فإن اجتمع معه دين آدمي تحاصا على المذهب ، لاستواء الحقين في الوجوب ، ووجود مرجح لكل منهما ، فدين اللَّه يقدم لعظم مستحقه ، وقد قال النبي ( اللَّه أحق بالوفاء ) ودين الآدمي لشحه ، وقيل : يقدم دين الآدمي ، للمعني الثاني .
ويجب أن يحج عنه من حيث وجب ، من بلده ، أو من محل يساره ، لتعلق الوجوب من ثم ، والقضاء على وفق الأداء ، نعم لو خرج للحج فمات في الطريق حج عنه من حيث مات ، لأن ما مضى سقط عنه وجوبه ، حتى لو فعل بعض المناسك سقطت عنه ، وفعل ما بقي ، ولو لم تف تركته بالإخراج من حيث وجب حج عنه من حيث يبلغ على المذهب ، لقول النبي ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ( وعنه ) ما يدل على سقوط الحج والحال هذه ، لعدم الإتيان به على الكمال ، وحيث وجب الإتيان به من مح ل فأتى به من دونه فإن كان دون مسافة القصر أجزأ ، لأنه في حكم القريب ، وإن بلغها فقولان : ( الإجزاء ) ، وهو احتمال لأبي محمد ، كما لو أحرم دون الميقات وهو فرضه ، ( وعدمه ) ، قاله القاضي ، لعدم الإتيان بالواجب .
وقول الخرقي : فمن فرط حتى توفي . لا مفهوم له ، بل من مات بعد وجوب الحج عليه وجب أن يحج عنه بشرطه ، وإن لم يكن فرط ، إذ التمكن من الأداء ليس بشرط في الوجوب ، والظاهر أن الخرقي رحمه اللَّه أشار بهذا إلى أن الحج وجوبه على الفور ، وهو المشهور والمذهب من الروايتين ، بناء على قاعدتنا من أن الأوامر كلها على الفور .
1431 وفي الباب بخصوصه عن ابن عباس ، عن النبي ( تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ) رواه أحمد ، وفيه غير ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : ومن حج عن غيره ، ولم يكن حج عن نفسه رد ما أخذ . وكانت الحجة عن نفسه .
ش : لا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره على الصحيح المشهرو من الروايتين ، حتى أن القاضي في الروايتين قال : لا يختلف أصحابنا أنه لا ينعقد عن المحجوج عنه .
1432 لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : إن النبي سمع رجلاً يقول : لبيك عن شبرمة . قال : ( ومن شبرمة ؟ ) قال أخ لي أو قريب لي . قال ( أحججت عن نفسك ؟ ) قال : لا . قال ( حج عن نفسك ثم احجج عن شبرمة ) رواه أبو داود ، وقال البيهقي : هذا إسناد صحيح ليس في الباب أصح منه .
( والثانية ) : يجوز ، حكاها أبو الحسين وغيره ، لأن الحج تدخله النيابة ، فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يسقط فرضه عن نفسه كالزكاة ، فعلى هذا يقع عن الغير لعموم ( الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى ) .
وعلى المذهب فاختار أبو بكر في الخلاف وحكاه عن أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد يقع إحرامه باطلاً ، لأنه لم ينو عن نفسه فلا يحصل له إذ ليس لامرىء إلا ما نوى ، وغيره ممنوع من الإحرام [ عنه ] فلا يصح له ، لارتكابه النهي ، وقال الخرقي و ابن حامد و القاضي وأتباعه : يقع حجة عن نفسه ، إلغاء لنية التعيين ، فيصير كما لو أحرم مطلقاً ، ولو أحرم مطلقاً صح عن نفسه بلا ريب فكذلك هاهنا ، وفارق الصلاة ، فإنها لا تصح بنية مطلقة ، وكذلك الصوم على المذهب .
1433 وقد جاء في الحديث ( هذه عنك ، وحج عن شبرمة ) رواه الدارقطني وقال أبو حفص العكبري : يقع الإحرام عن المحجوج [ عنه ] نظراً للنية ، ثم [ يجب أن ] يقلبه الحاج عن نفسه .
1434 إذ في الحديث ( اجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة ) رواه ابن ماجه وحيث لا يقع الحج عنالغير فإنه يرد ما أخذ ، لأنه لم يعمل العمل الذي أخذ العوض لأجله .
( تنبيهات ) : ( أحدها ) : الحكم فيما إذا كان عليه قضاء أو نذر فحج عن الغير كالحكم في حجة الإسلام على ما سبق .
( الثاني ) : كما أنه لا يجوز أن يحج عن الغير [ من ] لم يحج عن نفسه كذلك يجب إذا حج عن نفسه أن يقدم الفريضة ، ثم حجة القضاء ، ثم النذر ، ثم النافلة وإذا جوزنا [ ثم جوزنا ] هنا ، فعلى الأول : إذا خالف فقدم على حجة الإسلام غيرها ، أو على القضاء النذر ، أو على النذر التطوع ، فهل يقع باطلاً ، أو عن ما يجب الإيقاع عنه ، على ما تقدم من الخلاف ؟ هذا نقل أبي البركات ، وأما أبو الحسين في الفروع ، وصاحب التلخيص ، و أبو محمد في المغني ، فحكوا هنا روايتين أصحهما الوقوع عما يجب الإيقاع عنه .
( والثانية ) : أنه يقع عما نواه ، قال أبو الحسين : وهو ظاهر كلام أبي بكر . وقال أبو محمد : وهو قول أبي بكر ، ولم يحكوا القول بالبطلان هنا ، مع حكايتهم قول أبي بكر ثم . انتهى .
وحكم نائب المعضوب أو الميت يحرم بتطوع أو نذر عمن عليه حجة الإسلام حكم ما لو أحرم هو كذلك ، إذ حكم النائب حكم المنوب عنه ، نعم له أن يستنيب رجلين أحدهما يحرم بالفريضة والآخر بالمنذورة في سنة واحدة ، لكن أيهما أحرم أولاً وقع عن الفريضة ، ثم الثاني عن النذر ، قاله أبو محمد ( الثالث ) : العمرة إن قيل بوجوبها كالحج فيما تقدم ، واللَّه أعلم .
قال : ومن حج وهو غير بالغ فبلغ ، أو عبد فعتق فعليه الحج .
ش : من حج وهو صبي أو بلغ أو [ وهو ] عبد ثم عتق لم يجزئهما عن حجة الإسلام ، وعليهما الحج بعد البلوغ والعتق .
1435 لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه ( أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى ، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى ، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى ) رواه البيهقي [ وغيره ] وقال بعض الحفاظ : ولم يرفعه إلا يزيد بن زريع عن شعبة وهو ثقة .
1436 وعن محمد بن كعب القرظي عن النبي قال ( أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه ، فإن أدرك فعليه الحج ، وأيما رجل مملوك حج به أهله ، فمات أجزأت عنه ، فإن عتق فعليه الحج ) ذكره أحمد في رواية ابنه عبد اللَّه هكذا مرسلاً ولأنهما فعلا الحج قبل وجوبه عليهما فلم يجزئهما ، أصله إذا صلى الصبي الصلاة ثم بلغ في وقتها ، مع أن هذا قول عامة أهل العلم إلا شذوذا ، بل قد حكاه الترمذي إجماعاً .
وقد فهم [ من ] كلام الخرقي أنه يصح حج الصبي والعبد ، ولا ريب في ذلك لما تقدم ، ولأن العبد من أهل العبادات والتكاليف في الجملة .
1437 وروى ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي أنه لقي ركباً بالروحاء فقال ( من القوم ؟ ) قالوا : المسلمون . فقالوا : من أنت ؟ قال ( أنا رسول اللَّه ) فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت : ألهذا حج ؟ قال ( نعم ولك أجر ) رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، وفي رواية لمسلم ( صبياً صغيراً ) .
واقتضى كلام الخرقي أيضاً أن الحج لا يجب عليهما وإلا لأجزأهما ، وهو كذلك ، لما تقدم من حديثي ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ، ولأن الصبي القلم مرفوع عنه ، والعبد مشغول بحقوق سيده ، والحج تطول مدته غالباً ، ويعتبر له الزاد والراحلة ، فلم يجب على العبد كالجهاد .
( تنبيه ) : لو حصل العتق أو البلوغ قبل الفراغ من الحج ، فإن كان بعد فوات وقت الوقوف لم يجزئهما ذلك عن حجة الإسلام بلا ريب ، لفوات الركن الأعظم وهو الوقوف ، وإن كان في وقت يدركان معه الوقوف ووقفا ، نظرت فإن كان قبل السعي ، أو بعده وقلنا السعي ليس بركن أجزأتهما تلك الحجة عن حجة الإسلام ، لإدراكهما الركن [ الأعظم ] وهو الوقوف ، والإحرام مستصحب .
1438 واعتمد أحمد بأن ابن عباس قال : إذا أعتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته ، وإن أعتق بجمع لم تجزىء عنه . وإن كان العتق أو البلوغ بعد السعي ، وقلنا بركنيته فوجهان ( أحدهما ) واختاره ابن عقيل تبعاً لقول شيخه في المجرد : أنه قياس المذهب لا يجزئه ، لوقوع الركن في غير وقت الوجوب ، أشبه ما لو كبر للإحرام ثم بلغ . ( والثاني ) وهو اختيار القاضي أظنه في التعليق ، و أبي الخطاب ، وظاهر كلام أبي محمد يجزئه ، نظراً لحصول الركن الأعظم وهو الوقوف ، وجعلا لغيره تبعاً له ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا حج بالصغير جنب ما يجتنبه الكبير .
ش : إذا حج بالصبي وجب أن يجنب ما يجنبه الكبير من الطيب ، واللباس ، وقتل الصيد ، وحلق الشعر ، وغير ذلك ، لأن الحج يصح له بحكم النص السابق ، وإذا صح له ترتبت أحكامه ، ومن أحكامه تجنب ما ذكر ، وهو لا يخاطب بخطاب تكليفي ، فوجب على الولي أن يجنبه ذلك ، كما وجب عليه تجنيبه شرب الخمر ، وغيرها من المحرمات .
1439 وقد روي عن عائشة رضي اللَّه عنها 16 ( أنها كانت [ تجرد ] الصبيان إذا دنوا من الحرم ، واللَّه أعلم ) .
قال : وما عجز عنه من عمل الحج عمل عنه .
ش : كما إذا عجز عن الرمي ، أو الطواف ونحوهما .
1440 لما روى جابر رضي اللَّه عنه قال : 16 ( حججنا مع رسول اللَّه ومعنا النساء والصبيان ، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم ) . رواه أحمد وابن ماجه .
1441 وعن ابن عمر أنه كان يحجج صبيانه وهم صغار ، فمن اصتطاع منهم أن يرمي رمى ، ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه .
1442 وعن أبي إسحاق أن أبا بكر رضي اللَّه عنه طاف بابن الزبير في خرقة . رواهما الأثرم .
وظاهر كلام الخرقي أن ما أمكن الصبي عمله عمله ، وذلك كالوقوف ، والمبيت بمزدلفة ، وبمنى ، ونحو ذلك ، وكذلك الإحرام أن عقله صح منه بإذن الولي بلا ريب وبدون إذنه فيه وجهان : أصحهما وبه جزم أبو محمد لا يجزئه ، قياساً على بقية تصرفاته ، إذ لا ينفك عن لزوم [ مال ] فهو كالبيع .
والثاني : يجزئه تغليباً لجانب العبادة ، وإن لم يعقله فعله الولي ، ( والولي ) هو من يلي ماله من أب أو غيره ، وفي صحة إحرام الأم عنه وجهان ، ( الصحة ) وهو ظاهر كلام أحمد ، اخرتاه ابن عقيل ، ومال إليه أبو محمد ، لظاهر حديث ابن عباس ، إذ الظاهر أن الأجر الثابت لها لكون الصغير تبعاً لها في الإحرام ، ( وعدمها ) وهو اختيار القاضي ، لعدم ولايتها [ عليه ] في المال ، أشبهت الأجنبي ، وفي بقية العصبات وجهان مخرجان من القولين فيها ، فأما الأجنبي فلا يصح أن يحرم عنه وجهاً واحداً ، ومعنى الإحرام عنه أن يعقد له الإحرام ، فيصير الصبي محرماً بذلك [ الإحرام ] دون العاقد ، واللَّه أعلم .
قال : ومن طيف به محمولاً كان الطواف له دون حامله ، واللَّه أعلم بالصواب .
ش : يصح طواف المحمول في الجملة ، وستأتي هذه المسألة إن شاء اللَّه تعالى ، ثم لا يخلو من ثمانية أحوال ( أحدها ) : نويا جميعاً عن [ الحامل ، فيصح له فقط بلا ريب . ( الثاني ) نويا جميعاً عن ] المحمول ، فتختص الصحة به أيضاً .
( الثالث ) : نوى كل منهما عن نفسه ، فيصح الطواف للمحمول دون الحامل ، جعلا له كالآلة ، وحسن أبو محمد صحة الطواف لهما [ وهو مذهب الحنفية ، واحتمال لابن الزغوانيّ نظراً إلى نيتهما ، ومنع أبو حفص العكبري الصحة في هذه الصورة رأساً ، زاعماً أنه لا أولوية لأحدهما ، والفعل الواحد لا يقع عن اثنين ، وهذه الصورة واللَّه أعلم هي الحاملة للخرقي على ذكر هذه المسألة . ( الرابع والخامس ) : نوى كل منهما عن نفسه ، ولم ينو الآخر [ شيئاً ] فيصح للناوي دون غيره .
( السادس والسابع والثامن ) : لم ينو واحد منهما ، أو نوى كل منهما عن صاحبه ، فلا يصح لواحد منهما ، ويتحرر أنه يصح الطواف للمحمول في ثلاث صور ، إذا نويا جميعاً له ، أو نوى هو لنفسه ولم ينو الآخر شيئاً ، أو نوى كل منهما لنفسه ، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم .
باب ذكر المواقيت
ش : المواقيت جمع ميقات ، وهو الزمان والمكان المضروب للفعل ، واللَّه أعلم .
قال : وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة ، وأهل الشام ومصر والمغرب من الجحفة ، وأهل اليمن من يلملم ، وأهل الطائف ونجد من قرن ، وأهل المشرق من ذات عرق .
1443 ش : روى ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه قال ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، ويهل أهل الشام من الجحفة ، ويهل أهل نجد من قرن ) قال ابن عمر رضي اللَّه عنه : وذكر لي ولم أسمع أن رسول اللَّه قال ( يهل أهل اليمن من يلملم ) .
1444 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ، هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ، ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة ) متفق عليهما ، فهذه الأربع مواقيت ثبتت في الصحيح .
1445 وأما ذات عرق لأهل المشرق ففي سنن أبي داود والنسائي عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه : وقت لأهل العراق ذات عرق .
1446 وفي البخاري عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : 16 ( لما فتح هذان المصران ، أتوا عمر بن الخطاب فقالوا : يا أمير المؤمنين إن رسول اللَّه حد لأهل نجد قرناً ، وإنه جور عن طريقنا ، وإنا إن أردنا أن نأتي قرناً شق علينا . قال : فانظروا حذوها من طريقكم . قال : فحدّ لهم عمر ذات عرق ) . فيحتمل أن اجتهاد عمر رضي عنه وقع على وفق ما قاله رسول اللَّه ، فإنه رضي اللَّه عنه كان موفقاً للصواب ، ويحتمل اختصاص عمر بذلك ، وكافيك به لكن ثبوت توقيت ذلك عن رسول اللَّه ليس كغيره ، وقد أنكر أحمد رحمه اللَّه حديث عائشة في ذات عرق .
1447 وجاء عن ابن عباس قال : وقت رسول اللَّه لأهل المشرق العقيق ، رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، قال الحافظ المنذري : وفيه يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف .
( تنبيه ) : ( ذو الحليفة ) بضم الحاء وفتح اللام موضع عند قرية ، بينه وبين المدينة ستة أميال أو سبعة ، ( والجحفة ) بجيم مضمومة ، ثم حاء مهملة ساكنة قرية جامعة تميز على طريق المدينة من مكة كان اسمها ( مهيعة ) ، فجحف السيل بأهلها فسميت به ، ( ومهيعة ) بفتح الميم ، وسكون الهاء ، وفتح الياء ، وقال بعضهم بكسر الهاء كجميلة ، وهي [ على ] ثلاث مراحل من مكة ، و ( قرن ) بفتح القاف [ وسكون الراء المهملة ، ويقال له ( قرن المنازل ) و ( قرن الثعالب ) ورواه بعضهم بفتح الراء وغلط ، قيل ] من قال بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع ، ومن قال بالفتح أراد الطريق الذي يفترق منه ، فإنه موضع فيه طرق مفترقة ، وهو تلقاء مكة ، على يوم [ وليلة ] منها ، و ( يلملم ) بفتح الياء آخر الحروف ، و [ يقال ] : ألملم باللام والراء ، وهو على ليلتين من مكة ، و ( ذات عرق ) منزل معروف من منازل الحاج ، يسمى بذلك لأن فيه عرقاً وهو الجبل الصغير ، وقيل : العرق من الأرض سبخة تنبت الطرفاء ، و ( العقيق ) قبل ذات عرق بمرحلة أو مرحلتين ، وكل مسيل شقه ماء السيل فوسعه فهو عقيق ، و ( المصران ) البصرة والكوفة والمصر المدينة ( والجور ) الميل عن القصد ، واللَّه أعلم .
قال : وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل .
ش : ميقات أهل مكة إذا أرادوا العمرة من الحل .
1448 لقول عائشة رضي اللَّه عنها : نزل رسول اللَّه [ بالمحصب ] فدعى عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال ( اخرج بأختك [ من الحرم ] فلتهل بعمرة ، ثم لتطف بالبيت ، فإني أنتظركما هنا ) مختصر ، متفق عليه . وليجمع في النسك بين الحل والحرم ، إذ أفعال العمرة كلها في الحرم ، فلو أحرم منه لم يجمع بينهما ، وهذا بخلاف الحج ، إذ في الحج يخرج إلى عرفة ، فيحصل الجمع ، ومن أي الحل أحرم جاز ، وإنما أمرت عائشة رضي اللَّه عنها واللَّه أعلم بالإحرام من التنعيم لأنه أقرب الحل إلى مكة . وقال أحمد في المكي : كلما تباعد فهو أعظم للأجر ، هي على قدر تعبها ، وذكر صاحب التلخيص أن أفضل مواقيتها الجعرانة ، ثم التنعيم ، ثم الحديبية ، فلو خالف فأحرم بها من الحرمك ، أثم ولزمه دم . لمخالفة الميقات ، ثم إن خرج إلى الحل قبل إتمامها وعاد أجزأته عمرته ، لوجود الجمع بين الحل والحرم ، وإن لم يخرج حتى أتم أفعالها فوجهان ( أحدهما ) : وهو المشهور يجزئه ، إذ فوات الإحرام من الميقات لا يقتضي البطلان ، دليله الحج
( والثاني ) : لا يجزئه ، نظراً إلى أن الجمع شرط وقد فات ، فعلى هذا لا يعتد بأفعاله ، وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يأتي بها ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا أرادوا الحج فمن مكة .
ش : إذا أراد أهل مكة الحج فميقاتهم من مكة ، لما تقدم من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنه ، وفي رواية ( حتى أهل مكة يهلون منها ) .
1449 وقال جابر رضي اللَّه عنه : أمرنا رسول اللَّه لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا من الأبطح . رواه مسلم ( وعن أحمد ) فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة : يهل بالحج من الميقات ، فإن لم يفعل فعليه دم . وذكر القاضي أظنه في المجرد ونقله عن أحمد فيمن دخل مكة محرماً عن غيره بحج أو عمرة [ ثم أراد أن يحرم عن غيره بحج أو عمرة ] أنه يلزمه الإحرام من الميقات ، فإن لم يفعل فعليه دم ، لأنه جاوز الميقات مريداً للنسك ، والمشهور وهو اختيار أبي محمد الأول عملاً بإطلاق الحديث ، وعليه لو أحرم من الحل فقال أبو محمد : إن كان من الحل الذي يلي عرفة فهو كالمحرم دون الميقات ، فيلزمه دم ، وكذلك إن كلن من الجانب الآخر ولم يسلك الحرم ، لعدم الجمع بين الحل والحرم ، وإن سلكه فهو كالمحرم قبل الميقات فلا دم عليه ، وحكى أبو البركات وغيره روايتين على الإطلاق ، وعلى رواية وجوب الدم لو أحرم بين مكة والحل ففي وجوب الدم أيضاً روايتان ، حكاهما في التلخيص .
( تنبيه ) : أهل مكة من كان فيها ، ساء كان مقيماً بها أو غير مقيم ، وحكم الحرم حكم مكة في [ جواز ] إحرام المكي منه ، وقد أحرم الصحابة من الأبطح . واللَّه أعلم .
قال : ومن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم .
ش : لما تقدم من حديث عمر رضي اللَّه عنه : انظروا حذوها من طريقكم . فإن لم يعلم حذو الميقات احتاط فأحرم قبلة ، إذ الإحرام قبل الميقات جائز ، وبعده حرام ، ولا يجب الإحرام حتى يعلم المحاذاة ، حذاراً من الوجوب بالشك ، واللَّه أعلم .
قال : وهذه المواقيت لأهلها ، ولمن مر عليها من غير أهلها ، ممن أراد حجا أو عمرة .
ش : المواقيت التي تقدمت لأهلها الذين ذكرهم ، ولمن مر عليها من غير أهلها ، سواء كان مريداً للحج أو للعمرة فإذا حج الشامي من طريق المدينة فمر بذي الحليفة فهي ميقاته ، لحديث ابن عباس ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد حجاً أو عمرة ) ، واللَّه أعلم .
قال : والاختيار أن لا يحرم قبل ميقاته .
ش : لأن النبي وأصحابه رضي اللَّه عنهم لم يحرموا إلا من الميقات ، ولا يفعلون إلا الأفضل والأكمل قطعاً ، ولم ينقل عن النبي أنه أمر أحداً أن يحرم قبل الميقات .
1450 وعن الحسن 16 ( أن عمران بن الحصين أحرم من البصرة ، )6 ( فبلغ ذلك عمر رضي اللَّه عنه ، فغضب وقال : يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول اللَّه أحرم من مصره . )
1451 وقال 16 ( إن عبد اللَّه بن عامر أحرم من خراسان ، فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع ، وكرهه له ) . رواهما سعيد والأثرم .
1452 وقال البخاري في صحيحه 16 ( : كره عثمان أن يحرم الرجل من خراسان ) . ولأنه يعرض نفسه لمواقعة المحظور ، وفيه مشقة على نفسه ، فلم يطلب كالوصال في الصوم .
1453 وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أيوب قال : قال رسول اللَّه ( ليستمتع أحدكم بحله [ ما استطاع ] فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه ) .
1454 ويرشح هذا قوله عليه السلام ( بعثت بالشريعة السهلة السمحة ) ونحو هذا .
1455 وما روي عن أم سلمة رضي اللَّه عنها قالت : سمعت النبي يقول ( من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه ) رواه أحمد وأبو داود فمختص واللَّه أعلم ببيت المقدس ، ليجمع في الصلاة بين مسجدين في إحرام واحد ، ولهذا أحرم ابن عمر منه .
1456 قال مالك في موطئه : عن الثقة عنده 16 ( أن ابن عمر أهل بحج من إيلياء ) مع أن الحديث قد ضعف ، قال المنذري : اختلف الرواة في متنه وفي إسناده اختلافاً كثيراً .
1457 وما يروى عن عمر وعلي رضي اللَّه عنهما [ أنهما ] 16 ( قالا في قوله تعالى 9 ( { وأتموا الحج والعمرة للَّه } ) : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ) . ففسره أحمد وسفيان بأنه ينشى لهما سفراً من بلده مقصوداً لهما ، ويعين هذا أن النبي وأصحابه لم يحرموا إلا من الميقات ، وإلا يلزم مخالفة الأمر ، وهو منفي قطعاً ، ثم قد تقدم أن عمر أنكر على عمران إحرامه من مصره ، فكيف ينكر المأمور ، واللَّه أعلم .
قال : فإن فعل فهو محرم .
ش : إذا ترك الاختيار ، وأحرم قبل الميقات صح إحرامه بالإجماع ، حكاه ابن المنذر وما تقدم عن عمر وعثمان يدل على ذلك ، إذ لم يأمرا من أحرم قبل الميقات بإعادة الإحرام ، وهل يكره ؟ فيه قولان المجزوم به عند أبي محمد الكراهة ، تبعاً لما نقل عن عثمان رضي اللَّه عنه وحذاراً من المخالفة لما فعله سيد الأنام .
قال : ومن أراد الإحرام فجاوز الميقات غير محرم رجع فأحرم من الميقات ، فإن أحرم من موضعه فعليه دم وإن رجع محرماً إلى الميقات .
ش : يجب على المريد للنسك أن يحرم من الميقات ، اقتداء بفعل رسول اللَّه ، وبقوله ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ) الحديث ، ولأنه ميقات للعبادة ، فلم يجز تجاوزه كميقات الصلاة ، فإن أحرم فبها ونعم ، وإن جاوزه غير محرم فقد أثم إن كان عالماً ، ووجب عليه الرجوع إن أمكنه ، ليأتي بالواجب ، فإن رجع فأحرم من الميقات فلا دم عليه ، وإن لم يرجع وأحرم من مكانه فعليه دم لتركه الواجب .
1458 وقد روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنه عن النبي أنه قال ( من ترك نسكاً فعليه دم ) روي موقوفاً ومرفوعاً وسواء رجع محرماً إلى الميقات أو لم يرجع ، إذ بالإحرام دون الميقات حصل ترك الواجب فوجب الدم ، والأصل عدم سقوطه .
وقول الخرقي : ومن أراد الإحرام . ومفهومه أن من لم يرد الإحرام ليس حكمه كذلك ، فلا يخلو غير المريد للإحرام إما أن يريد الحرم أو دونه ، فإن كان مراده دون الحرم فلا إحرام عليه بلا نزاع ، لحديث ابن عباس ، ولأن النبي أتى بدراً مرتين ولم يحرم ، ثم إن بدا له الإحرام أحرم من موضعه ولا شيء عليه ، على ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد ، اعتماداً على ظاهر حديث ابن عباس ، وعن أحمد : يلزمه الرجوع إلى الميقات . انتهى .
وإن كان مراده الحرم فلا يخلو من ثلاثة أحوال :
( أحدها ) أن يكون قصده لذلك لحاجة تتكرر ، كالاحتشاش والاحتطاب ، ونحوهما ، أو لقتال مباح ، أو خوف ، فيجوز له الدخول بغير إحرام ، لظاهر حديث ابن عباس ، ويخص القتال والخوف ونحوهما .
1459 بما روى جابر أن النبي دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام . رواه مسلم ، والنسائء .
1460 وفي الصحيح أنه دخل مكة [ عام الفتح ] وعلى رأسه المغفر ، الحديث قال مالك : ولم يكن رسول اللَّه يومئذ محرماً ، ويخص من تكررت حاجته لأن في وجوب الإحرام عليه إذاً حرجاً ومشقة ، وهما منتفيان شرعاً .
الحال الثاني : أن يكون ممن لم يتعلق به الوجوب ، كالصبي والعبد والكافر ، فهؤلاء لا إحرام عليهم ، لحديث ابن عباس ثم [ أيضاً ] إن بلغ الصبي ، وعتق العبد ، وأرادا النسك وجب عليهما الإحرام من موضعهما ، ولا شيء عليهما ، لتعلق الوجوب بهما إذاً ، وكذلك الكافر يسلم على إحدى الروايتين ، واختيار أبي محمد ، نظراً إلى أن الإسلام يجب ما قبله ، فحكم الخطاب إنما تعلق إذاً ( والرواية الثانية ) : يجب عليه الرجوع إلى الميقات ليحرم منه ، فإن أحرم من موضعه فعليه دم ، اختاره أبو بكر والقاضي ، وأبو الخطاب في خلافه الصغير وغيرهم ، بناء على مخاطبته بالفروع على المذهب ، ومن هنا يمتنع تخريج أبي محمد الرواية للصبي والعبد .
( الحال الثالث ) من عدا ما تقدم ، كالداخل لتجارة ، أو زيارة ونحو ذلك ، ففيه روايتان ، أنصهما وهو اختيار جمهور الأصحاب وجوب الإحرام ، لأنه من أهل فرض الحج ، وحاجته لا تتكرر ، أشبه مريد النسك . والثانية : وهو ظاهر كلام الخرقي لا إحرام عليه ، وهو ظاهر النص .
1461 وحكاه أحمد عن ابن عمر فعلى الأولى إذا دخل طاف وسعى وحلق وحل ، نص عليه أحمد ، واللَّه أعلم .
قال : ومن جاوز الميقات غير محرم فخشي إن رجع إلى الميقات فاته الحج أحرم من مكانه وعليه دم ، واللَّه أعلم .
ش : من جاوز الميقات ممن يلزمه الإحرام غير محرم ، فخشي أنه إن رجع إلى الميقات فاته الحج ، فإنه يسقط عنه الرجوع ، ويحرم من موضعه ، محافظة على إدراك الحج ، ونظراً إلى وجوب ارتكاب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما وعليه دم لتركه الواجب واللَّه سبحانه وتعالى أعلم .
(
باب ذكر الإحرام
)قال : ومن أراد الحج وقد دخل أشهر الحج فإذا بلغ الميقات فالاختيار [ له ] أن يغتسل .
ش : الاختيار لمن أراد الإحرام أن يغتسل .
1462 لما روي عن خارجة بن زيد عن أبيه ، أن النبي تجرد لإهلاله واغتسل . رواه الترمذي وقال : حسن غريب .
وثبت أن النبي أمر أسماء بنت عميس لما نفست أن تغتسل وتهل .
1464 وكذلك أمر عائشة لما حاضت .
1465 [ وفي الموطأ عن نافع ، 16 ( أن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما كان يغتسل لإحرامه ] قبل أن يحرم ، ولدخوله مكة ، ولوقوفه عشية بعرفة ) .
فإن لم يجد ماء سن له التيمم عند القاضي ، لأنه قائم مقامه ، فشرع كالغسل الواجب ، ولم يسن له التيمم عند أبي محمد ، لأنه غسل مسنون ، أشبه غسل الجمعة ، ولفوات المقصود منه وهو التنظيف .
وقد أشعر كلام الخرقي بأن المطلوب أن لا يحرم الإنسان بالحج إلا من الميقات المكاني ، وفي الميقات الزماني ، أما الأول فقد تقدم ، وأما الثاني فلا ريب فيه ، بحيث لو أحرم قبل ذلك كره ، قياساً على الميقات المكاني وخروجاً من الخلاف ، فإن بعض العلماء لا يصحح إحرامه بالحج قبل أشهره ، وهو رواية عن أحمد رحمه اللَّه ، ويحتمله كلام الخرقي ، لظاهر قول اللَّه تعالى 19 ( { الحج أشهر معلومات } ) أي وقت الحج أشهر معلومات ، وإذا كان هذا وقته فلا يجوز تقديم شيء منه عليه كوقت الصلاة .
1466 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما : 16 ( من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ) . رواه البخاري . أي الطريقة والشريعة ، هذا هو الظاهر ( والمذهب ) المنصوص المختار للأصحاب صحة الحج قبلها ، قياساً على الميقات المكاني ، ولإطلاق قوله تعالى 19 ( { يسألونك عن الأهلة ، قل هي مواقيت للناس والحج } ) ظاهره أن جميع الأهلة مواقيت الحج ، وتحمل الآية الكريمة السابقة على ما عدا الإحرام من أفعال الحج ، أو يقال : الإحرام مستصحب ، فيكتفي بالجزء الواقع فيها ، فما خرج شيء من أفعال الحج عنها ، والسنة في قول ابن عباس يحتلم أنها المقابلة للواجب .
1467 كما في قول النبي ( إن اللَّه فرض صيام رمضان ، وسننت أنا قيامه ) .
وعلى الرواية الأولى ولعلها أظهر إذا أحرم بالحج صح عمرة ، لصحة الإحرام بها في كل السنة ، ومجرد الإحرام يقتضي أفعالها ، وهو الطواف والسعي والحلق ، وما زاد على ذلك مختص بالحج ، وإذا بطل الخصوص بقي العموم فهو كما لو أحرم بالصلاة قبل وقتها ، لكن يقال على هذا بأن اقتضاء الإحرام لأفعالها لا يقتضي أنه إذا بطل الحج أنه تحصل له عمرة ، إذ العمرة نسك آخر ، فهو كالعصر إذا نقلها للظهر لا تصح ظهراً ، غايته أن يقال : يتحلل بعمل عمرة .
وقد يبني الخلاف في انعقاد الحج قبل أشهره على الخلاف في الإحرام ، هل هو شرط أو ركن ؟ فإن قلنا ركن لم يصح ، إذ ركن العبادة لا يصح في غير وقتها ، وقد يقال : على القول بالشرطية لا يصح أيضاً ، لأن بالإحرام دخل في الحج ، فيلزم إيقاع جزء من العبادة في غير وقتها ، والانفصال عن هذا جميعه بأنا لا نسلم أن هذه الأشهر هي الوقت له ، بل جميع السنة وقت له ، واللَّه تعالى أعلم .
وقد عرفت من هنا أن تقييد الخرقي مريد الحج بهذا الحكم لتخرج العمرة ، فإنها تفعل في كل السنة .
1468 قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : عن النبي ( عمرة في رمضان تعدل حجة ) متفق عليه .
1469 وعنه أن النبي اعتمر أربعاً ، إحداهن في رجب . رواه الترمذي وصححه .
1470 وعن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي اعتمر عمرتين ، عمرة في ذي القعدة ، وعمرة في شوال . رواه أبو داود ، واللَّه أعلم .
قال : ويلبس ثوبين نظيفين .
ش : أي والاختيار [ للمحرم ] أن يلبس ثوبين [ أي ] نوعين من الثياب ، وهما الإزار والرداء .
1471 لما روي عن ابن عمر في حديث له عن النبي قال ( وليحرم أحدكم في إزار ورداء ، ونعلين ، فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين ، وليقطعهما أسفل [ من ] الكعبين ) ، رواه أحمد ، وقال ابن المنذر : ثبت ذلك عن رسول اللَّه ، ( والمستحب ) أن يكونا نظيفين ، جديدين أو غسيلين ، إذ يستحب له تنظيف بدنه ، فكذلك ثيابه ، والأولى أن يكنا [ أبيضين .
1472 لقوله عليه السلام ( خير ثيابكم البياض ) ] ، واللَّه أعلم .
قال : ويتطيب .
ش : لما روت عائشة رضي اللَّه عنها قالت : طيبت رسول اللَّه بيدي هاتين لإحرامه حين أحرم ، ولحله حين أحل ، قبل أن يطوف ، وبسطت يديها ، وفي رواية : بطيب فيه مسك . وفي أخرى : في حجة الوداع للحل والإحرام . وفي أخرى : بأطيب ما أجد ، حتى أجد وبيض المسك في رأسه [ ولحيته ] . وفي أخرى : قال محمد بن المنتشر : 16 ( سألت عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما عن الرجل يتطيب ثم يصبح محرماً . فقال : ما أحب أن أصبح محرماً أنضح طيباً ، لأن أطلي بقطران ، أحب [ إلي من ] أن أفعل ذلك . [ فدخلت علي عائشة ، فأخبرتها أن ابن عمر قال : ما أحب أن أصبح محرماً أنضح طيباً ، لأن أطلي بقطران ، أحب [ إلي من ] أن أفعل ذلك ] . فقال عائشة رضي اللَّه عنها : أنا طيبت رسول اللَّه عند إحرامه ، ثم طاف في نسائه ، ثم أصبح محرما ) زاد في رواية : ينضح طيباً متفق عليه .
1474 ورئي 6 ( ابن عباس محرماً وعلى رأسه مثل الرب من الغالية ) .
1475 وقال مسلم بن صبيح : 6 ( رأيت [ ابن ] الزبير وهو محرم ، وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو [ كان ] لرجل اتخذ منه رأس مال ) .
وكلام الخرقي يشمل ما له جرم ، وما لا جرم له ، وصرح به غيره .
1476 وفي سنن أبي داود عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : كنا نخرج مع رسول اللَّه إلى مكة ، فنضمد جباهنا بالسّكّ المطيب عند الإحرام ، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها ، فيراه النبي فلا ينهانها .
ويشمل أيضاً الطيب في البدن والثياب ، وكذلك كلام كثير من الأصحاب ، إذ التنظيف مقصود فيهما ، وقال أبو محمد في الكافي والمغني : يستحب في بدنه لا في ثوبه . وهو الذي أورده ابن حمدان مذهباً ، لأن في بعض روايات حديث عائشة رضي اللَّه عنها : طيبت رسول اللَّه لحله وطيبته لإحرامه ، طيباً لا يشبه طيبكم هذا . تعني ليس له بقاء ، رواه النسائي . وفي الثوب يبقى .
1477 وحديث يعلى بن أمية رضي اللَّه عنه أن رجلاً أتى النبي وهو بالجعرانة ، قد أهل بعمرة ، وهو مصفر لحيته ورأسه ، وعليه جبة ، فقال : يا رسول اللَّه أحرمت بعمرة وأنا كما ترى ؟ فقال ( انزع عنك الجبة ، واغسل عنك الصفرة ) . متفق عليه ، ورواه أبو داود وقال ( اغسل عنك أثر الخلوق أو قال : أثر الصفرة ) محمول [ على ] أنه كان زعفراناً .
1478 والنبي نهى أن يتزعفر الرجل ، وإذا نهى عن ذلك في غير الإحرام ففيه أحذر ، ثم حديث عائشة متأخر ، لأنه في حجة الوداع ، في السنة العاشرة ، وهذا الحديث بالجعرانة سنة ثمان ، والعمل بالمتأخر أولى ، ودعوى اختصاصه بالتطيب لهذا الحديث ، مردود بقول عائشة المتقدم : كنا نخرج مع رسول اللَّه [ إلى مكة ] فنضمد جباهنا . الحديث . ثم هو في مقام البيان ، وقد قال ( خذوا عني مناسككم ) فكيف لا يبين الخصوصية .
( تنبيه ) : اللام في ( لحله ) لام الوقت ، أي لوقت حله ، كما في قوله تعالى 9 ( { أقم الصلاة لدلوك الشمس } ) و ( بيض الطيب ) بريقه ولمعانه ، يقال : وبص الشيء يبص وبيصاً ، وبص يبص بصيصاً ، و ( ينضح ) يفوح ، وأصله الرشح ، فشبه كثرة ما يفوح من طيبه بالرشح ، والرواية بالحاء المهملة ، وجاء في بعض نسخ مسلم : ( ينضح ) بخاء معجمة ، فقيل : هما سيان في المعنى ، وقيل : بل النضح بالمعجمة أكثر من النضح بالمهملة ، وقيل غير ذلك . و ( نضمد ) يقال : ضمدت الجرح . إذا جعلت عليه الدواء ، وضمدته بالزعفران ونحوه . وإذا لطخته . و ( السّكّ ) نوع من الطيب ، و ( الجعرانة ) في الحل بين الطائف ومكة ، وهي إلى مكة أقرب ، وتخفف وتشدد ، والتخفيف أكثر ، قال المنذري : [ هو الذي قيده ] المتقنون واللَّه أعلم .
قال : فإن حضر وقت صلاة مكتوبة صلاها ، وإلا صلى ركعتين .
ش : المستحب أن يحرم عقب صلاة ، إما فريضة أو نافلة .
1479 لما روي عن أنس بن مالك : أن رسول اللَّه صلى الظهر بالبيداء ثم ركب وصعد جبل البيداء ، وأهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر . رواه النسائي .
1480 وفي حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما : خرج رسول اللَّه حاجاً ، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعيته ، أوجب في مجلسه . واللَّه أعلم .
قال : فإن أراد التمتع وهو اختيار أبي عبد اللَّه رحمه اللَّه تعالى فيقول : اللَّهم إني أريد العمرة .
ش : الأنساك ثلاثة ، التمتع ، والإفراد ، والقران ، ولا خلاف بين الأئمة والحمد للَّه في جواز كل منها .
1481 [ وقد شهد لذلك قول عائشة رضي اللَّه عنها : خرجنا مع رسول اللَّه فقال : ( من أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل ] ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل ) قالت : وأهل رسول اللَّه بالحج ، وأهل به ناس معه ، وأهل معه ناس بالعمرة والحج ، وأهل ناس بالعمرة ، وكنت فيمن أهل بعمرة . متفق عليه .
واختلف الأئمة في الأولى منها [ والأفضل ] فذهب إمامنا رحمه اللَّه في نفر كثير من الصحابة وغيرهم إلى أن التمتع أفضل ، وذهب أبو حنيفة رضي اللَّه عنه وجماعة إلى أن القران أفضل ، وذهب مالك ونفر من الصحابة وغيرهم ، وهو ظاهر مذهب الشافعي إلى أن الإفراد أفضل . واختلفوا في إحرام رسول اللَّه ، فادعى كل أنه أحرم كمختاره ، واختلافهم لاختلاف الأحاديث ، فقد تقدم عن عائشة رضي اللَّه عنها أنه أهل بالحج ، وفي رواية عنها : أنه أفرد الحج .
1482 وكذا في مسلم وغيره عن ابن عمر ، أن رسول اللَّه أحرم بالحج مفرداً . 1483 وروى أنس رضي اللَّه عنه أنه سمع رسول اللَّه يلبي بالحج والعمرة جميعاً . وفي رواية : سمعت رسول اللَّه يقول ( لبيك حجاً وعمرة ) .
1484 وعن جابر أن رسول اللَّه : قرن الحج والعمرة . رواه الترمذي والنسائي .
1485 وعن ابن عمر 16 ( أنه قرن الحج والعمرة ، وقال : هكذا رأيت رسول اللَّه يفعله ) . رواه النسائي .
1486 وجاء في رواية في الصحيح أنه أدخل الحج على العمرة ، وأنه طاف لهما طوافاً واحداً وقال : كذلك فعل رسول اللَّه .
1487 وعن علي نحو ذلك .
1488 وعن عمر رضي اللَّه عنه : سمعت رسول اللَّه وهو بوادي العقيق يقول ( أتاني الليلة آت [ من ربي ] فقال : صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة ) رواه أحمد والبخاري وأبو داود ، وفي رواية : ( وقل عمرة وحجة ) .
1489 وقال عمر رضي اللَّه عنه للصبي بن معبد لما أخبره أنه أهل بهما : 16 ( هديت لسنة نبيك ) ، رواه النسائي وغيره .
1490 وقال سراقة بن مالك رضي اللَّه عنه : سمعت النبي يقول ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ) قال : وقرن رسول اللَّه في حجة الوداع . رواه أحمد ، انتهى .
1491 وروى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : تمتع رسول اللَّه ، وأبو بكر وعمر ، وعثمان ، وأول من نهى [ عنها ] معاوية . رواه الترمذي والنسائي .
1492 وعن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه قال : لقد تمتعنا مع رسول اللَّه . رواه مسلم وفي رواية النسائي وغيره : صنعناها مع رسول اللَّه بأمره ، وصنعها هو .
1493 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما سمعت عمر رضي اللَّه عنه يقول : واللَّه لا أنهاكم عن المتعة ، فإنها لفي كتاب اللَّه ، ولقد فعلها رسول اللَّه أأمر أبي نتبع أم أمر رسول اللَّه ؟ فقال الرجل : بل أمر رسول اللَّه . [ فقال : لقد صنعها رسول اللَّه ] رواه الترمذي .
1495 وفي الصحيحين في رواية عن عمران بن حصين : تمتع نبي اللَّه وتمتعنا معه .
1496 وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عمر : تمتع رسول اللَّه في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وروي غير ذلك .
وقيل : إنه أحرم مطلقاً ، بدليل حديث عمر المتقدم ، والمحققون على أنه كان نسكه قراناً ، والظاهر أنه أحرم بعمرة ، ثم أدخل عليها الحج ، كما تقدم في الصحيح عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه فعل ذلك ، وأنه أخبر أن رسول اللَّه فعله .
1497 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : أهل رسول اللَّه بعمرة ، وأهل أصحابه بالحج . رواه مسلم ، وأبو داود والنسائي .
1498 وفي الصحيحين من حديث حفصة أنها قالت : يا رسول اللَّه ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال ( إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر ) أي واللَّه أعلم من عمرتك التي ابتدأت بها الإحرام .
وبهذا يحصل وباللَّه التوفيق الجمع بين الأحاديث ، فمن أخبر أنه أفرد الحج فلأنه أحرم به مفرداً ، حيث أدخله على العمرة ، ومن أخبر أنه قرن فلأن نسكه كان قراناً فأخبر بما آل إليه الحال ، ومن أخبر أنه تمتع فلأنه لم يفرد الحج [ بسفرة ] ، والعمرة بسفرة ، بل جمع بينهما في نسك واحد ، فقول الراوي : تمتع رسول اللَّه بالعمرة إلى الحج . أي [ تمتع ] بالعمرة موصلاً بها إلى الحج ، وعلى هذا فالآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : 19 ( { فمن نتمتع بالعمرة إلى الحج } ) قد يقال : إنه يشمل القران والتمتع .
وإنما اختار إمامنا رحمه اللَّه تعالى المتعة ليس واللَّه أعلم لأن إحرام النبي كان تمتعاً ، ولكن لأمره أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ، وقد ثبت ذلك عنه ثبوتاً لا ريب فيه ، وسيأتي طرف منه إن شاء اللَّه تعالى ، ولم يكن لينقلهم إلى المفضول ويترك الأفضل ، وإنما منعه من الفسخ سوق الهدي ، كما صرح به .
1499 ففي حديث عائشة في رواية لأبي داود أنه قال ( من شاء أن يهل بحج فليهل ، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل ، ولولا أني أهديت لأهللت بعمرة ) .
1500 وعنها أيضاً أن رسول اللَّه قال ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ) رواه أبو داود والبخاري بنحوه .
1501 وفي حديث جابر لما أمر أصحابه بجعل نسكهم عمرة قال ( إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت [ ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت ) متفق عليه .
1502 وفي حديث أنس ( لو استقبلت من أمري ] ما استدبرت لجعلتها عمرة ، ولكن سقت الهدي ، وقرنت بين الحج والعمرة ) رواه أحمد فأخبر عليه السلام أنه إنما منعه من الإحرام بالعمرة سوق الهدي ، وأنه لولا سوقه لفسخ إحرامه إلى العمرة ، وتأسف على ذلك ، ولم يكن ليندم إلا على الأفضل والأولى ، ثم إن التمتع مذكور في كتاب اللَّه تعالى ، بخلاف غيره ، ويجتمع له العمرة والحج في أشهر الحج ، مع كمالهما وكمال أفعالهما ، مع سهولة ، وزيادة نسك ، [ وهو الدم ] يرشح هذا حديث أبي أيوب المتقدم . ( ليستمتع أحدكم بحله ما استطاع ، فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه ) وأيضاً فإن عمرة التمتع تجزىء بلا خلاف ، بخلاف عمرة القران ، والعمرة من التنعيم بعد الحج ، فإن فيهما خلافاً .
ثم من العلماء من أوجب التمتع .
1503 كما يحكى عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما وهو قول الظاهرية ، بخلاف النسكين الآخرين ، فإنه لا يعلم قائل بوحوبهما .
1504 وما يحكى عن عمر وعثمان من نهيهما عن ذلك ، فقد خالفهما غيرهما .
1505 قال سعيد بن المسيب : 16 ( اجتمع عثمان وعلي بعسفان ، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة ، فقال له علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول اللَّه تنهى النا عنه ؟ فقال [ له عثمان ] : دعنا عنك . قال : إني لا أستطيع أن أدعك . فلما رأى ذلك أهل بهما جميعاً . ) متفق عليه وقد تقدم الإشارة من ابن عمر إلى الإنكار على أبيه .
1506 مع أن في الصحيحين في حديث لأبي موسى أنه كان يفتي بالمعتة في زمن أبي بكر ، وشطراً من خلافة عمر ، وأنه قيل له : اتئد في فتياك ، إنك لا تدري ما يحدث أمير المؤمنين في شأن النسك 6 ( [ وأنه جاء إلى عمر فقال : إن نأخذ بكتاب اللَّه فإن اللَّه يقول : { وأتموا الحج والعمرة للَّه } وإن نأخذ بسنة رسول اللَّه فقد قال ( خذوا عني مناسككم ) فإن النبي لم يحل حتى نحر الهدي . ) 16 ( ) وفي رواية لمسلم : 6 ( قد علمت أن النبي قد فعله وأصحابه ، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك ، ثم يروحون إلى الحج تقطر رؤوسهم . )
فهذا في الحقيقة ليس بمخالفة ، فإن عثمان لم يبين [ حجة ] ، بل أذعن لذلك ، وعمر بيّن عذره في ذلك ، وهو الأمر بإتمام الحج والعمرة ، ومراده في ذلك واللَّه أعلم أن يأتي بكل من النسكين في سفرة ، كما روي عنه أنه يحرم بهما من دويرة أهله ، ولا نزاع بين أهل العلم أن هذا الصورة أفضل بلا نزاع ، واعتذر أيضاً بأن رسول اللَّه لم يحل حتى نحر الهدي ، وقد بين الرسول عليه السلام المانع له من الحل ، واعتذر أيضاً بأنه [ كره ] أن يظلوا معرسين إلى آخره .
1507 وقد ذكر ذلك لرسول اللَّه ، فقالوا : كيف ننطلق إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا ؟ فغضب رسول اللَّه ، ودخل على عائشة رضي اللَّه عنها فقالت : من أغضبك أغضبه اللَّه ؟ قال : ( كيف لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع ) رواه أحمد وابن ماجه انتهى .
وعن أحمد رحمه اللَّه رواية أخرى واختارها أبو العباس فيما أظن أنه إن ساق الهدي فالقرآن أفضل ، لأنه الذي اختاره اللَّه لنبيه ، وأمره به ، كما تقدم في حديث عمر ، ولقوله عليه السلام : ( لولا أن معي الهدي لأحللت بعمرة ) .
وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة ، وهي تحتمل أكثر من هذا ، وحالنا وحال الكتاب يقتضي الاقتصار على هذا وباللَّه التوفيق . إذا تقرر هذا فصفة التمتع [ أن يحرم ] بالعمرة [ في أشهر الحج ] ثم يحج من عامه ، لقوله تعالى : 9 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } ) أي تمتع [ بالعمرة ] موصلاً بها إلى الحج ، وقد أشار [ إلى هذا ] الشيخان أبو البركات ، و أبو محمد في المغني ، عند [ ذكر ] شروط وجوب الدم على المتمتع ، قال : حقيقة التمتع ، وذكر ما قلناه ، ولا يغرنك ما وقع في كلام أبي محمد وغيره من أن التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، ويفرغ منها ، ث يحرم بالحج [ من مكة ] إلى آخره ، فإن هذا التمتع الموجب للدم [ ومن ] هنا قلنا : إن تمتع حاضري المسجد الحرام صحيح على المذهب ، وقال ابن أبي موسى : لا متعة لهم . ويحكى ذلك رواية ، وقد تعرض أبو محمد لها فقال : نقل عن أحمد : ليس على أهل مكة متعة ، ومعناه ليس عليهم دم متعة ، لأن المتعة له لا عليه ، انتهى . ( قلت ) : وقد يقال : إن هذا الإمام بناء على أن العمرة لا تجب عليهم ، فلا متعة عليهم ، أي الحج كافيهم ، لعدم وجوب العمرة [ عليهم ] فلا حاجة لهم إلى المتعة .
وقول الخرقي : يقول : اللهم إني أريد العمرة . أراد به الاستحباب ، وإلا فالمشترط قصد ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : ويشترط فيقول : إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني ، فإن حبس حل من الموضع الذي حبس فيه ، ولا شيء عليه .
ش : الاشتراط عندنا في الإحرام جائز بل مستحب .
1508 لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول اللَّه فقالت : يا رسول اللَّه إني [ أريد ] الحج أشترط ؟ قال : ( نعم ) قالت : كيف أقول ؟ قال : ( قولي : لبيك اللهم لبيك ، ومحلي [ من الأرض ] حيث حبستني ) رواه الجماعة إلا البخاري ، وهذا لفظ أبي داود . وفي رواية للنسائي : ( فإن [ لك ] على ربك ما استثنيت ) .
1509 وهو للشيخين من رواية عائشة رضي اللَّه عنها .
1510 ورواه أحمد عن عكرمة ، عن ضباعة قالت : قال رسول اللَّه ( أحرمي وقولي : إن محلي حيث حبستني ، فإن حبست أو مرضت فقد حللت من ذلك ، بشرطك على ربك عز وجل ) وصفته كما في الحديث وما في معناه ، لأن المعنى هو المقصود .
1511 وعن ابن مسعود أنه كان يقول : 16 ( اللَّهم أني أريد العمرة إن تيسرت لي ، وإلا فلا حرج علي . ) ويفيد هذا الشرط شيئين :
( أحدهما ) : [ أنه ) متى حبس بمرض ، أو ذهاب نفقة ، ونحوهما فإنه يحل ، على ظاهر كلام الخرقي ، و صاحب التلخيص فيه ، و أبي البركات ، وهو ظاهر الحديث ، وقال القاضي في الجامع ، و أبو الخطاب في الهداية ، و أبو محمد : إن له التحلل . فإذاً لا بد من قصده .
( الثاني ) : أنه متى حل بذلك أو بعذر ونحوه فلا شيء عليه من دم ، ولا غيره .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : هل يكفي قصده للاشتراط تبعية للإحرام ، أو لا بد من التلفظ ، كالاشتراط في الوقت ونحوه ؟ فيه احتمالان .
( الثاني ) : ( محلي ) بكسر الحاء وفتحها ، وهو موضع الحلول ، واللَّه أعلم .
قال : وإن أراد الإفراد قال : اللهم إني أريد الحج . ويشترط .
ش : الإفراد أن يحرم بالحج مفرداً [ قاله أبو محمد ] . وقال بعض الأصحاب أن لا يأتي في أشهر الحج بغيره . وهو أجود . ويشترط فيه كالعمرة ، واللَّه أعلم .
قال : وإن أراد القران قال : اللهم إني أريد العمرة والحج . ويشترط .
ش : القران أن يحرم بالعمرة والحج معاً ، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج ، قبل فعل ركنها الأعظم وهو الطواف .
1512 وفي الصحيحين عن ابن عمر ، 16 ( أنه أدخل الحج على العمرة عام حجة الحرورية . وذكر الحديث وقال : هكذا صنع رسول اللَّه . )
1513 وكذلك [ في الصحيح ) عن جابر أن رسول اللَّه أمر عائشة بذلك . وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى . ولو أدخل العمرة على الحج لم يصح ، لعدم الأثر في ذلك ، ولأنه لم يستفد به فائدة ، بخلاف ما تقدم .
وظاهر كلام الخرقي أنه يستحب أن ينطق بما أحرم به من عمرة ، أو حج ، أو هما ، وهو المشهور . وعن أبي الخطاب : لا يستحب ذكر ما أحرم به ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا استوى على راحلته لبى .
ش : ظاهر كلام الخرقي أنه لا يلبي إلا إذا استوت به راحلته .
1514 وذلك لما روى ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : 16 ( بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول اللَّه فيها ، ما أهل رسول اللَّه إلا من عند الشجرة ، حين قام به بعيره ، ) وفي رواية : رأيت رسول اللَّه يركب راحلته بذي الحليفة ، ثم يهل حين تستوي به قائمة . متفق عليه .
والمشهور في المذهب أن الأولى أن يلبي حين يحرم .
1515 لما روى سعيد بن جبير قال : قلت لعبد اللَّه بن عباس : 16 ( يا أبا العباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول اللَّه في إهلال رسول اللَّه حين أوجب . فقال : إني لأعلم الناس بذلك إنها إنما كانت من رسول اللَّه حجة واحدة ، فم هناك اختلفوا ، خرج رسول اللَّه حاجاً ، فلما صلى بمسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه ، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه ، فسمع ذلك منه أقوام فحفظت عنه ، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل ، وأدرك ذلك منه أقوام ، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالاً ، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا : إنما أهل حين استقلت به ناقته ، ثم مضى رسول اللَّه ، فلما علا على شرف البيداء أهل ، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا : إنما أهل حين علا على شرف البيداء وايم اللَّه لقد أوجب في مصلاه ، وأهل حين استوت به ناقته ، وأهل حين علا على شرف البيداء . ) رواه أبو داود ، وقال المنذر : وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني وهو ضعيف .
( تنبيه ) : ( البيداء ) البرية ، والمراد في الحديث موضع مخصوص بين مكة والمدينة . و ( الإهلال ) رفع الصوت بالتلبية ، وكل شيء ارتفع صوته فقد استهل ، وبه سمي الهلال ، لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه ، ( أوجب ) إذا باشر مقدمات الحج من [ الإحرام ] والتلبية . و ( أرسالا ) أي متتابعين ، قوماً بعد قوم ، و ( استقلت به راحلته ) أي نهضت به حاملة له ، واللَّه أعلم .
قال : فيقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .
ش : لما ذكر أنه يلبي [ ذكر ] صفة التلبية ، وهذه تلبية رسول اللَّه .
1516 ففي الصحيحين وغيرهما عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما أن تلبية رسول اللَّه ( لبيك اللهم لبيك ، [ لبيك ] لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ) قال : وكان عبد اللَّه بن عمر يزيد في تلبيته : 6 ( لبيك لبيك ، لبيك وسعديك ، والخير بيديك ، والرغباء إليك والعمل . )
( تنبيه ) : ( لبيك ) لفظ يجاب به الداعي ، وهو في تلبية الحج إجابة لدعاء اللَّه تعالى الناس إلى الحج في قوله تعالى : 9 ( { وأذن في الناس بالحج } ) الآية ومعنى هذه التثنية فيه ، أي مرة بعد مرة ، وهو من : ألب بالمكان . إذا أقام به ، كأنه قال : إقامة على إجابتك بعد إقامة . وقيل : من قولهم : أنا ملب بين يديك . أي خاضع ، وقيل غير ذلك ، ( وسعديك ) المساعدة الطاعة أي مساعدة بعد مساعدة ، قال الجرمي : ولم يسمع سعديك مفرداً . و ( الرغباء والرغبى ) بالفتح مع المد ، والضم مع القصر ، والمعنى هنا الطلب والمسألة . ( وإن الحمد ) بالفتح ، وبالكسر ورجحه بعضهم ، قال ثعلب : من قال بالكسر فقد عم ، ومن قال بالفتح فقد خص ، واللَّه أعلم .
قال : ثم لا يزال يلبي إذا علا نشزا ، أو هبط وادياً ، وإذا التقت الرفاق ، وإذا غطى رأسه ناسياً ، وفي دبر الصلوات المكتوبة .
ش : أما فيما عدا تغطية الرأس .
1517 فلما يروى عن جابر رضي اللَّه عنه قال : كان رسول اللَّه يلبي في حجته إذا لقي ركباً ، أو علا أكمة ، أو هبط وادياً ، وفي أدبار الصلوات المكتوبة ، وفي آخر الليل .
1518 وعن إبراهيم : 16 ( كانوا يستحبون ) . وذكر نحوه ، إلا أنه أبدل آخر الليل : فإذا استوت به راحلته . وأما في تغطية الرأس ، وما في معناه من فعل محظور ناسياً ، فليبادر لما هو عليه ، والإقلاع عما صدر عنه ، واللَّه أعلم .
قال : والمرأة أيضاً يستحب لها أن تغتسل عن الإحرام ، وإن كانت حائضاً أو نفساء ، لأن النبي أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام .
ش : قياساً على الرجل ، والحائض والنفساء كغيرهما ، بل قال أبو محمد : إنه في حقهما آكد ، لورود السنة فيهما .
1519 ففي حديث جابر الصحيح : أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول اللَّه كيف أصنع ؟ فقال : ( اغتسلي ، واستثفري بثوب ، واحرمي ) .
1520 وفي حديثه الصحيح أيضاً [ في قصة عائشة ) أنها لما حاضت ، وكانت قد أحرمت بعمرة قال لها : ( هذا أمر كتبه اللَّه على بنات آدم ، فاغتسلي ثم أهلي بالحج ) ففعلت .
1521 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه قال : ( النفساء والحائض إذا أتتا على الميقات ، يغتسلان ، ويحرمان ، ويقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت ) رواه أبو داود والترمذي . ولأن المقصود من غسل الإحرام ، التنظيف ، وهما أجدر بذلك ، وهذا يؤيد أن غسل الجنابة يصح من الحائض ، وأن التيمم لا مدخل له في غسل الإحرام .
( تنبيه ) : ( استثفري ) استثفرت المرأة الحائض إذا شدت على فرجها خرقة ، وعطفت طرفيها إلى شيء مشدود في وسطها ، من مقدمها ومؤخرها ، مأخوذ من ( ثفر الدابة ) وهو ما يكون تحت ذنبها ، واللَّه أعلم .
قال : ومن أحرم وعليه قميص خلعه ولم يشقه .
ش : لما تقدم من حديث يعلى بن أمية ، والخالع غير لابس ، واللَّه أعلم .
قال : وأشهر الحج شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة . واللَّه أعلم .
1522 ش : قال ابن عمر رضي اللَّه عنهما : 16 ( أشهر الحج شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة . ) رواه البخاري .
1523 وللدارقطني مثله عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير .
1524 وعن ابن عمر أن رسول اللَّه : وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال : ( أي يوم هذا ؟ ) قالوا : يوم النحر . قال : ( هذا يوم الحج الأكبر ) رواه البخاري ، وأبو داود ، ونزل بعض الشهر منزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا . وإنما رآه في ساعة منها . انتهى . وفائدة ذلك عندنا وعند الحنفية اليمين ، وعند الشافعي عدم صحة الإحرام في غيرها ، وعند مالك وجوب الدم بتأخير طواف الزيارة عنها ، قال القاضي : جميع ذلك ، واللَّه أعلم .
(
باب ما يتوقى المحرم وما أبيح له
)قال : ويتوقى المحرم في إحرامه ما نهاه اللَّه عز وجل عنه من الرفث وهو الجماع والفسوق وهو السباب والجدال ، وهو المراء .
ش : قال اللَّه تعالى : 19 ( { الحج أشهر معلومات ، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ، ولا فسوق ولا جدال في الحج } ) قرئت [ المنفيات ] الثلاث بالنصب والرفع ، وعلى كليهما هو خبر بمعنى النهي ، أي لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا ، وهذه وإن منع الإنسان منها في غير الحج ، لكن فيه أجدر ، ولهذا وردت بلفظ الخبر ، إشارة بأنها جديرة بأن تنفى ولا توجد البتة ، وقرىء الأولان بالرفع ، والثالث بالنصب ، حملا للأوليين واللَّه أعلم على النهي ، أي لا يكون رفث ولا فسوق ، والثالث على الخبر [ المحض ] بانتفاء الجدال .
1525 وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائر العرب ، فتقف في المشعر الحرام ، وسائر العرب يقفون بعرفة ، وكانوا يقدمون الحج سنة ، ويؤخرونه سنة ، وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ، ورد الوقوف إلى عرفة ، فأخبر اللَّه سبحانه أنه قد ارتفع الجدال في الحج .
1526 ويؤيد هذا قول النبي ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) ولم يذكر الجدال ، وميل الخرقي رحمه اللَّه تعالى للأول .
1527 وفسر الرفث بالجماع ، والفسوق بالسباب ، والجدال بالمراء ، تبعاً في ذلك لابن عباس رضي اللَّه عنهما ، ذكره عنه البخاري تعليقاً .
1528 وحكى ذلك [ أيضاً ] عن ابن عمر ، وجماعة من التابعين وقيل : الرفث الفحش من الكلام ، وأصله الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه كلفظ النيك .
1529 ويحكى عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما 16 ( أنه أنشد وهو محرم : وهن يمشين بنا هميساً إن تصدق الطير ننك لميسا قيل له : أرفثت ؟ فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء ) . انتهى . وكني به عن الجماع لأنه لا يكاد يخلو منه . وقيل في الفسوق : إنه الخروج عن حدود اللَّه تعالى ، وهو أعم وأوفق للغة ، والمراد بالمراء المراء مع الخدم ، والرفقاء ، والمكارين ونحو ذلك .
( تنبيه ) ( هميساً ) : [ المشي ] اللين و ( لميسا ) اسم جارية لابن عباس رضي اللَّه عنه واللَّه أعلم .
قال : ويستحب [ له ] قلة الكلام إلا فيما ينفع ، وقد روي عن شريح رحمه اللَّه أنه كان إذا أحرم كأنه حية صماء .
ش : قلة الكلام في الجملة مستحب لكل أحد ، وهو في حق المحرم آكد ، لتلبسه بهذه العبادة العظيمة ، وتشبهه بالقادم على ربه عز وجل في يوم القيامة .
1530 وفي الصحيح : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) .
153( ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) .
1532 وقد استشهد أحمد رحمه اللَّه تعالى على قلة الكلام في هذا بخصوصه بفعل شريح رحمه اللَّه تعالى أما ما فيه نفع من الكلام كتعليم جاهل ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، ونحو ذلك فأمر مطلوب بلا ريب ، بل قد يجب ، ويتأكد في حق المحرم ، فإنه كما يتأكد في [ حقه ] ترك المنهيات ، كذلك يتأكد في حقه فعل الواجبات والمندوبات واللَّه أعلم .
قال : ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل .
ش : المحرم لا يقتل القمل في أنص الروايتين ، واختيار الخرقي ، لأنه مما يترفه به ، فمنع منه كقطع الشعر .
1533 وهو ظاهر حال كعب بن عجرة .
1534 وفي الموطأ عن نافع أن ابن عمر قال : 16 ( يكره أن ينزع المحرم حلم أو قراداً من بعيره ) . ( والثانية ) : له ذلك منيطاً للحكم بالأذى ، قال : كل شيء من جسده لا بأس به ، إذا آذى انتهى ، وقياساً على البراغيث ، فاءنه لا نزاع في جوز قتلهن ، وقال أبو محمد : وقتل القمل ، وإلقاؤه على الأرض ، وقتله بالزئبق ونحو ذلك سواء ، نطراً لعلة المنع وهو الترفه . انتهى قال القاضي في الروايتين : وموضع الروايتين إذا ألقاها من بين شعر رأسه ، أو بدنه ، أو لحمه ، أما إن ألقاها من ظاهر بدنه ، أو ثيابه ، أو بدون محل ، أو محرم غيره ، فهو جائز ، ولا شيء عليه رواية واحدة . انتهى . والتفلي وسيلة إلى قتل القمل ، فإن جاز جاز وإلا منع ، وحيث تفلى وقتل القمل حيث منع منه ( فعنه ) : لا شيء عليه لأن كعبا رضي اللَّه عنه قتل قملاً كثيراً بحلق رأسه ، ولم يؤمر إلا بفدية حلق الشعر فقط .
1535 وعن ابن عمر : 6 ( هو أهون مقتول ) .
1536 وعن ابن عباس 6 ( في محرم ألقى قملة ثم طلبها : تلك ضالة لا تبتغى ) ( وعنه ) : 6 ( يتصدق بشيء ما ، جبراً لما حصل منه ) ، واللَّه أعلم .
قال : ويحك رأسه وجسده حكاً رفيقاً .
ش : يحك رأسه وجسده في الجملة ، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك .
1537 وقد روى مالك في الموطأ عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه قالت : 6 ( سمعت عائشة زوج النبي تسأل عن المحرم يحك جسده ؟ قالت : نعم فليحكه وليشدد . قالت عائشة : لو ربطت يداي فلم أجد إلا رجلي لحككت . )
ويكون برفق حذاراً من إزالة ما منع منه من شعر أو قمل ، فءن حك فوجد في يديه شعراً استحب له الفداء احتياطاً ، ولا يجب حتى يتيقن أنه قعله ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يلبس القميص ، ولا السراويل ، ولا العمامة ، ولا البرنس .
ش : هذا إجماع والحمد للَّه من أهل العلم .
1538 وقد شهد له ما في الصحيحين وغيرهما عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال : سئل رسول اللَّه ما يلبس المحرم ؟ فقال : ( لا يلبس المحرم القميص ، ولا العمامة ، ولا البرنس ، ولا السراويل ، ولا ثوباً مسه ورس ، ولا زعفران ، ولا الخفين ، إلا أن لا يجد نعلين ، فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ) . وفي رواية : ما يترك المحرم من الثياب ؟ فتخصيصه القميص تخصيص تمثيل ، فيلحق به ما في معناه من الجبة ، والدراعة ونحوهما ، وكذلك العمامة يلحق بها ما في معناها ، من كل ساتر معتاد ، أو كل ساتر ملاصق ، على اختلاف العلماء ، وكذلك السراويل يلح به التبان وما في معناه ، وضابط ذلك كل شيء عمل للبدن على قدره ، أو قدر عضو منه ، كهذه المذكورات ، وسواء كان مخيطاً أو غير مخيط كلبد ونحو ، واللَّه أعلم .
قال : فإن لم يجد الإزار لبس السراويل ، فإن لم يجد النعلين لبس الخفين .
1539 ش : لما روى عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي قال : ( من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل ، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين ) رواه الجماعة ، ولفظ الترمذي : ( المحرم إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل ، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين ) .
1540 وعن جابر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( من لم يجد نعلين فليلبس خفين ، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل ) رواه أحمد ومسلم واللَّه أعلم .
قال : ولا يقطعهما ولا فداء عليه .
ش : إذا لبس المحرم الخفين لعدم النعلين جاز له لبسهما من غير قطع ، على المنصوص [ المشهور ] المختار من الروايتين ، عملاً بإطلاق حديثي ابن عباس وجابر ، فإنه لم يأمر فيهما بقطع ، ولو وجب لبنيه ، لا يقال : قد بين ذلك في حديث ابن عمر ، فيحمل المطلق على المبين ، جمعاً بين الأدلة ، لأنا نقول : يشترط في حمل المطلق على المقيد أن لا يفضي الإطلاق إلى تأخير بيان واجب ، والحمل هنا مفض إلى ذلك ، لأن حديث ابن عمر كان في المدينة ، كذا في رواية لأحمد والدارقطني .
1541 ففي رواية أحمد قال : سمعت رسول اللَّه يقول على هذا المنبر ، وفي رواية الدارقطني : أن رجلاً نادى في المسجد : ماذا يترك المحرم من الثياب ؟ وحديث ابن عباس كان في خطبته بعرفات ، كذا في الصحيح ، وهو وقت الحاجة للبيان ، وقد حضره في ذلك الوقت من لم يحضره في غيره ، واجتمع من الخلائق عدد لا يحصيهم إلا اللَّه تعالى ، ثم تفرقوا عنه بعد قليل ، والذين حضروا قوله بالمدينة كانوا نفراً يسيراً ، بحيث يقطع المنصف بأنه لا يتصور منهم البيان لكل من حضر إذ ذاك ، فيلزم من ذلك أن يكون إطلاق خبر ابن عباس ناسخاً للتقييد في حديث ابن عمر ، دفعاً لمحذور تأخير البيان عن وقت الحاجة ويؤيد هذا أن جملة الصحابة عملوا على ذلك .
1542 فعن عمر رضي اللَّه عنه : 16 ( الخفان نعلان ، لمن لا نعل له ) .
1543 وعن علي رضي اللَّه عنه : 16 ( السراويل لمن لم يجد الإزار ، والخفان لمن لم يجد النعلين ) ، ونحوه عن ابن عباس .
1544 ورؤي على المسور بن مخرمة في رجليه خفان وهو محرم ، فقيل له : 16 ( ما هذا ؟ قال : أمرتنا به عائشة ) . روى ذلك كله النجاد بإسناده ، ويرشج هذا ما في القطع من إفساد المال المنهي عنه شرعاً .
1545 على أنه قد روى ابن أبي موسى ، عن صفية بنت أبي عبيد ، عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول الَّه رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما . 16 ( [ وكان ابن عمر يفتي بقطعهما ] قالت صفية فلما أخبرته بهذا رجع ) وهذا تصريح بالنسخ .
1546 إلا أن الذي في سنن أبي داود عن سالم بن عبد اللَّه ، 16 ( أن عبد اللَّه بن عمر كان يصنع ذلك يعني يقطع الخفين للمرأة المحرمة . ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة رضي اللَّه عنها حدثتها ، أن رسول اللَّه قد كان رخص للنساء في الخفين . فترك ذلك . )
( والرواية الثانية ) : يقطعهما إلى أسفل الكعبين ، فإن لبسهما من غير قطع افتدى ، وهذا مذهب أكثر الفقهاء ، حملاً للمطلق على المقيد تساهلاً . قال الخطابي : العجب من أحمد في هذا يعني في قوله بعدم القطع قال : فاءنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه ، وقل سنة لم تبلغه . قلت : والعجب كل العجب من الخطابي رحمه اللَّه في توهمه عن الإمام أحمد رحمه اللَّه مخالفة السنة أو خفاءها ، وقد قال المروذي : احتججت على أبي عبد اللَّه بقول ابن عمر عن النبي ، قلت : هو زيادة في الخبر . فقال : هذا حديث ، وذاك حديث . فقد اطلع رحمه اللَّه على السنة ، وإنما نظر نظراً لا ينظره إلا الفقهاء المتبصرون ، وهو يدل على غايته في الفقه والنظر .
وقد دل كلام الخرقي رحمه اللَّه أنه لا فدية على من لبس السراويل لعدم الإزار ، ولا من لبس الخفين لعدم النعلين ، وهو واضح ، لظاهر حديثي ابن عباس وجابر رضي اللَّه عنهما ، واللَّه أعلم .
قال : ويلبس الهميان ، ويدخل السيور بعضها في بعض ، ولا يعقدها .
ش : يلبس الهميان ، قال أبو عمر بن عبد البر : على ذلك جماعة الفقهاء ، متقدموهم ومتأخروهم ، ويدخل السيور بعضها في بعض ، لئلا تسقط ، ولا يعقدها لعدم الحاجة إلى ذلك ، نعم إن احتاج إلى ذلك ، كأن لا يثبت بدون العقد جاز ذلك ، نص عليه أحمد .
1547 لقول عائشة رضي اللَّه عنها 16 ( أوثق عليك نفقتك ) .
1548 وعلى هذا يحمل قول إبراهيم النخعي : كانوا يرخصون في عقد