كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
اقتضى بعد ذلك من قليل أو كثير ففيه الزكاة ، وإن كان قد استهلك العشرين التي اقتضى .
قال : وهو قول مالك .
(قال) ابن القاسم : وكل مال كان أصله واحدا فأسلفت بعضه أو ابتعت ببعضه سلعة وأبقيت منه في يديك مالا تجب الزكاة فيه فحال عليه الحول وهو في يديك ثم أتلفته- فإنه يضاف ما اقتضيت إلى ما كان في يديك مما لا زكاة فيه ، فإذا تم ما اقتضيت إلى ما كان في يديك مما أنفقت بعد الحول- فإنه إذا تم عشرين دينارا فعليك فيه الزكاة ، ثم ما اقتضيت بعد ذلك من قليل أو كثير فعليك فيه الزكاة .
(قال) : وكل مال كان أصله واحدا فابتعت ببعضه أو أسلفت بعضه وأبقيت في يديك ما لا تجب فيه الزكاة ثم استهلكته قبل أن يحول عليه الحول- فإنه لا يضاف شيء من مالك كان خارجا من دينك إلى شيء منه ، وما اقتضيت منه قبل أن يحول عليه الحول فاستهلكته قبل أن يحول عليه الحول- فهو كذلك أيضا لا يضاف إلى ما بقي لك من دينك ، ولكن ما حال عليه الحول في يديك مما تجب فيه الزكاة أو لا زكاة فيه فإنه يضاف إلى دينك ، فإن كان الذي في يديك مما تجب فيه الزكاة فإنك تزكي ما اقتضيت من قليل أو كثير من دينك وإن كنت قد استهلكته ، وإن كان مما لا تجب فيه الزكاة مما حال عليه الحول فاستهلكته بعد الحول- فإنك لا تزكي ما اقتضيت حتى يتم ما اقتضيت ، وما استهلكت بعد الحول عشرين دينارا فتخرج زكاتها ، ثم ما اقتضيت بعد ذلك من قليل أو كثير فعليك فيه الزكاة .
(قلت) : ما قول مالك في الدين يقيم على الرجل أعواما لكم يزكيه صاحبه إذا قبضه ؟ فقال : لعام واحد .
(قلت) : وإن كان الدين مما يقدر على أخذه فتركه ، أو كان مفلسا لا يقدر على أخذه منه فأخذه بعد أعوام أهذا عند مالك سواء ؟
(قال) : نعم ، عليه زكاة عام واحد إذا أخذه ، وهذا كله عند مالك سواء .
(قلت) : أرأيت لو أن رجلا كانت له دنانير على الناس فحال عليها الحول فأراد أن يؤدي زكاتها من ماله قبل أن يقبضها ؟
(قال) : لا يقدم زكاتها قبل أن يقبضها .
(قال) : وقد قال لي مالك في رجل اشترى سلعة للتجارة فحال عليها الحول قبل أن يبيعها فأراد أن يقدم زكاتها .
(قال) : فقال مالك : لا يفعل ذلك .
(فقال) : فقلت له : إن أراد أن يتطوع بذلك .
(قال) : يتطوع في غير هذا ويدع زكاته حتى يبيع عرضه والدين عندي مثل هذا .
(قال) ابن القاسم : وإن قدم زكاته لم تجزئه ، قال : فرأيت الدين مثل هذا .
(قال) أشهب عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمر : أن عبد الله بن دينار حدثه عن عبد الله بن عمر : أنه قال : ليس في الدين زكاة حتى يقبض ، فإذا قبض فإنما فيه زكاة واحدة لما مضى من السنين .
(قال) أشهب : قال : وأخبرني ابن أبي الزناد وسليمان بن بلال
والزنجي مسلم بن خالد : أن عمرا مولى المطلب حدثهم أنه سأل سعيد بن المسيب عن زكاة الدين ، فقال : ليس في الدين زكاة حتى يقبض فإذا قبض فإنما فيه زكاة واحدة لما مضى من السنين .
(قال) ابن القاسم وابن وهب وعلي بن زياد وابن نافع وأشهب عن مالك عن يزيد بن خصيفة : أنه سأل سليمان بن يسار عن رجل له مال وعليه دين مثله أعليه زكاة ؟ فقال : لا .
(قال) ابن وهب عن نافع وابن شهاب : أنه بلغه عنهما مثل قول سليمان .
(قال) ابن وهب عن يزيد بن عياض عن عبد الكريم بن أبي المخارق عن الحكم بن عتيبة عن علي بن أبي طالب مثله .
(قال) ابن وهب عن عمرو بن قيس عن عطاء بن أبي رباح : أنه كان يقول : ليس في الدين زكاة وإن كان في ملاء حتى يقبضه صاحبه .
(قال) سفيان عن ابن جريج عن عطاء قال : ليس في الدين إذا لم يأخذه صاحبه زمانا ثم أخذه أن يزكيه إلا مرة واحدة .
(قال) ابن مهدي عن الربيع بن صبيح عن الحسن مثله .
(قال) أشهب : قال مالك : والدليل على أن الدين يغيب أعواما ثم يقضيه صاحبه فلا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة : العروض تكون عند الرجل للتجارة فتقيم أعواما ثم يبيعها فليس عليه في أثمانها إلا زكاة واحدة ، فكذلك الدين ، وذلك أنه ليس عليه أن يخرج زكاة ذلك الدين أو
العروض من مال سواء لا تخرج زكاة من شيء عن شيء غيره (1)
ب- قال ابن رشد الجد تحت عنوان : (في زكاة الديون) :
الديون في الزكاة تنقسم على أربعة أقسام :
دين من فائدة ، ودين من غصب ، ودين من قرض ، ودين من تجارة .
فأما الدين من الفائدة : فإنه ينقسم على أربعة أقسام :
أحدها : أن يكون من ميراث أو عطية أو أرش جناية أو مهر امرأة أو ثمن خلع وما أشبه ذلك- فهذا لا زكاة فيه حالا كان أو مؤجلا حتى يقبض ويحول الحول عليه من بعد القبض ولا دين على صاحبه يسقط عنه الزكاة فيه ، وإن ترك قبضه فرارا من الزكاة لم يوجب ذلك عليه فيه الزكاة .
والثاني : أن يكون من ثمن عرض أفاده بوجه من وجوه الفوائد- فهذا لا زكاة فيه حتى يقبض ويحول الحول عليه بعد القبض ، وسواء كان باعه بالنقد أو بالتأخير .
وقال ابن الماجشون والمغيرة : إن كان باعه بثمن إلى أجل فقبضه بعد حول زكاه ساعة يقبضه ، فإن ترك قبضه فرارا من الزكاة تخرج ذلك على قولين :
أحدهما : أنه يزكيه لما مضى من الأعوام .
والثاني : أنه يبقى على حكمه فلا يزكيه حتى يحول عليه الحول من بعد قبضه أو حتى يقبضه إن كان باعه بثمن إلى أجل على الاختلاف الذي
__________
(1) [المدونة] (1\219) .
ذكرناه في ذلك .
والثالث : أن يكون من ثمن عرض اشتراه بناض عنده للقنية- فهذا إن كان باعه بالنقد لم تجب عليه فيه زكاة حتى يقبضه ويحول عليه الحول بعد القبض ، وإن كان باعه بتأخير فقبضه بعد حول زكاه ساعة يقبضه ، وإن ترك قبضه فرارا من الزكاة زكاه لما مضى من الأعوام ، ولا خلاف في وجه من وجوه هذا القسم .
الرابع : أن يكون الدين من كراء أو إجارة- فهذا إن كان قبضه بعد استيفاء السكنى والخدمة كان الحكم فيه على ما تقدم في القسم الثاني .
وإن كان قبضه بعد استيفاء العمل مثل أن يؤجر نفسه ثلاثة أعوام بستين دينارا فيقبضها معجلة ففي ذلك ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه يزكي إذا حال الحول ما يجب له من الإجارة وذلك عشرون دينارا ؛ لأنه قد بقيت في يده منذ قبضها حولا كاملا ، ثم يزكي كل ما مضى له من المدة شيء له بال ما يجب له من الكراء إلى أن يزكي جميع الستين لانقطاع الثلاثة الأعوام ، وهذا يأتي على ما في سماع سحنون عن ابن القاسم ، وعلى قياس قول غير ابن القاسم في المدونة ، في مسألة هبة الدين هو عليه بعد حلول الحول عليه .
والثاني : أنه يزكي إذا حال الحول تسعة وثلاثين دينارا ونصف دينار وهو نص ما قاله ابن المواز على قياس القول الأول .
والثالث : أنه لا زكاة عليه في شيء من السنين حتى يمضي العام الثاني ، فإذا مر زكى عشرين ؛ لأن ما ينوى بها من العمل دين عليه فلا يسقط إلا بمرور العام شيئا بعد شيء فوجب استئناف حول آخر بها منذ
سقوط الدين عنها .
وأما الدين من الغصب ففيه في المذهب قولان : أحدهما : وهو المشهور أنه يزكيه زكاة واحدة ساعة يقبضه كدين القراض . والثاني : أنه يستقبل حولا مستأنفا من يوم يقبضه كدين الفائدة ، وقد قيل : إنه يزكيه للأعوام الماضية ، وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله في مال قبضه بعض الولاة ظلما ثم عقب بعد ذلك بكتاب آخر أن لا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة ؛ لأنه كان ضمارا .
وأما دين القرض فيزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من السنين .
واختلف هل يقومه المدير أم لا ؟
فقيل : إنه يقومه وهو ظاهر ما في [المدونة] .
وقيل : إنه لا يقومه ، وهو قول ابن حبيب في الواضحة .
وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف فيمن له مالان يدير أحدهما ولا يدير الآخر ؛ لأن المدير إذا أقرض من المال الذي يدير قرضا فقد أخرجه بذلك عن الإدارة .
وأما دين التجارة فلا اختلاف في أن حكمه حكم عروض التجارة ، يقومه المدير ويزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من الأعوام كما يقوم المدير عروض التجارة ، ولا يزكيها غير المدير حتى يبيع فيزكيها زكاة واحدة لما مضى من الأعوام ، وإذا قبض من الدين أقل من نصاب أو باع من العروض بعد أن حال عليه الحول بأقل من نصاب- فلا زكاة عليه حتى يقبض تمام النصاب ، أو يبيع بتمامه ، فإذا كمل عنده تمام
النصاب زكى جميعه ، كان ما قبض أولا قائما بيده ، أو كان قد أنفقه .
واختلف إن كان تلف من غير سببه :
وقال محمد بن المواز : لا ضمان عليه فيه ؛ لأنه بمنزلة مال تلف بعد حلول الحول عليه من غير تفريط ، فعلى قياس قول مالك في هذه المسألة التي نظرها بها يسقط عنه زكاة باقي الدين إن لم يكن فيه نصاب ، وعلى قول محمد بن الجهم فيها يزكي الباقي إذا قبضه ، وإن كان أقل من نصاب ، وهو الأظهر ؛ لأن المساكين نزلوا معه بمنزلة الشركاء فكانت المصيبة فيما تلف منه ومنهم ، وكان ما بقي بينه وبينهم قل أو كثر .
وقال ابن القاسم وأشهب : يزكي الجميع ، وهذا الاختلاف إنما يكون إذا تلف بعد أن مضى من المدة ما لو كان ما تجب فيه الزكاة لضمنه ، وأما إن تلف بفور قبضه فلا اختلاف في أنه لا يضمن ما دون النصاب ، كما لا يضمن النصاب .
وقول ابن المواز أظهر ؛ لأن ما دون النصاب لا زكاة عليه فيه فوجب أن لا يضمنه في البعد كما لا يضمنه في القرب .
ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم وأشهب من أنه يضمن ما تلف بغير سببه في البعد مراعاة على قول من يوجب الزكاة في الدين ، وإن لم يقبض فهو استحسان ، فإذا تخلل الاقتضاء فوائد وكان كلما اقتضى من الدين شيئا أنفقه ، وكلما حال الحول على فائدة أفادها أنفقها .
فمذهب أشهب في ذلك : أن يضيف كل ما اقتضى من الدين وكل ما حل من الفوائد إلى ما كان اقتضى قبله من الدين وأنفقه وإلى ما كان حل عليه الحول من الفوائد قبله فأنفقه .
وأما ابن القاسم فمذهبه : أن يضيف الدين إلى ما أنفقه من الدين وإلى ما أنفقه من الفوائد بعد حلول الحول عليها ، ولا يضيف الفائدة التي حال الحول عليها إلى ما أنفقه من الدين بعد اقتضائه ولا إلى ما أنفقه من الفوائد بعد حلول الحول عليها .
مثال ذلك : أن يقتضي من دين له خمسة دنانير فينفقها وله فائدة لم يحل عليها الحول وهي عشرة دنانير فينفقها بعد حلول الحول عليها ثم يقبض من دينه عشرة فإنه يزكيها مع العشرة الفوائد التي أنفقها ولا يزكي الخمسة الأولى التي اقتضى من الدين حتى يقتضي خمسة أجزاء ، وبالله التوفيق (1) .
ج- وقال ابن رشد الحفيد : وأما المال الذي هو في الذمة - أعني : في ذمة الغير وليس هو بيد المالك- وهو الدين فإنهم اختلفوا فيه أيضا :
فقوم قالوا : لا زكاة فيه ، وإن قبض حتى يستكمل شرط الزكاة عند القابض له وهو الحول ، وهو أحد قولي الشافعي وبه قال الليث ، أو هو قياس قوله .
وقوم قالوا : إذا قبضه زكاه لما مضى من السنين .
وقال مالك : يزكيه لحول واحد وإن أقام عند المديان سنين إذا كان أصله عن عوض .
وأما إذا كان عن غير عوض مثل الميراث فإنه يستقبل به الحول .
__________
(1) [المقدمات] بهامش [المدونة] (1\ 245) وما بعدها .
وفي المذهب تفصيل في ذلك (1) .
د- جاء في [أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك] و[الشرح الصغير ، له : (ويزكي الدين) بعد قبضه- كما يأتي- السنة) فقط وإن أقام عند المدين أعواما ، وتعتبر السنة (من يوم ملك أصله) بهبة ونحوها ، أو قبضه إن كان عما لا زكاة فيه (أو) من يوم (زكاه) إن استمر عنده عاما . ومحل تزكيته لسنة فقط إذا لم يؤخره فرارا من الزكاة ، وإلا زكاه لكل عام مضى عند ابن القاسم .
ولزكاته لسنة شروط أربعة :
أولها : أن يكون أصله عينا بيده فيسلفها ، أو عروض تجارة يبيعها بثمن معلوم لأجل ، وإليه أشار بقوله : (إن كان) الدين الذي هو على المدين (عينا ، كائنة (من قرض أو) ثمن (عروض تجارة) لمحتكر ، أي : سببه أحد هذين الأمرين ، لا إن كان الدين عرضا فلا يزكى إلا على ما سيأتي في المدير .
الشرط الثاني : أن يقبض من المدين ، وإليه أشار بقوله (وقبض) لا إن لم يقبض فلا يزكى ، اللهم إلا أن يكون أصله ثمن عرض تجارة لمدير فلا يزكى بتمام شروطه الآتية في المدير .
الشرط الثالث : أن يقبض (عينا) ذهبا أو فضة لا إن قبضه عرضا ، فلا زكاة حتى يبيعه على ما سيأتي من احتكار أو إدارة ، إذا كان القابض له رب الدين ، بل (ولو) كان القابض له (موهوبا له) من رب الدين (أو
__________
(1) [بداية المجتهد ونهاية المقتصد] (1\ 247) .
أحال) ربه به من له عليه دين على المدين ، فإن ربه المحيل يزكيه من غيره بمجرد قبول الحوالة ، ولا يتوقف على قبضه من المحال عليه ؛ ولذا عبرنا بالفعل المعطوف على كان المحذوفة بعد لو ، والمعنى وقبضه عينا ، ولو أحال به فإن الحوالة تعد قبضا ، بخلاف ما ولو وهبه فلا بد من زكاته على ربه الواهب من قبض الموهوب له بالفعل ، خلافا لما يوهمه قول الشيخ : ولو بهبة أو إحالة ، فقولنا : ولو أحال ، في قوة ولو إحالة أي : ولو كان القبض إحالة فيزكيه المحيل . وأما المحال فيزكيه أيضا منه لكن بعد قبضه ، وأما المحال عليه فيزكيه أيضا من غيره بشرط أن يكون عنده ولو من العروض ما يفي بدينه .
الشرط الرابع : أن يقبض نصابا كاملا ولو في مرات ، كأن يقبض منه عشرة ثم عشرة فيزكيه عند قبض ما به التمام ، أو يقبض بعض نصاب وعنده ما يكمل النصاب ، وإليه أشار بقوله (وكمل) المقبوض (نصابا ، بنفسه ولو على مرات بل (وإن) كمل (بفائدة) عنده (ثم حولها) كما لو قبض عشرة وعنده عشرة حال عليها الحول ، فيزكي العشرين (أو كمل) المقبوض نصابا (بمعدن) ؛ لأن المعدن لا يشترط فيه الحول على ما سيأتي :
(و) ولو اقتضى من دينه دون نصاب ، ثم اقتضى ما يتم به النصاب في مرة أو مرات كان (حول المتم) بفتح التاء اسم مفعول وهو : ما قبض أولا (من) وقت (التمام) فإذا قبض خمسة فخمسة فعشرة ، فحول الجميع وقت قبض العشرة فيزكي العشرين حينئذ (ثم زكى المقبوض) بعد ذلك (ولو قل) كدرهم حال قبضه ويكون كل اقتضاء بعد التمام على
حوله لا يضم لما قبله ولا بعده ولو نقص النصاب بعد تمامه لاستقرار حوله بالتمام (1) .
__________
(1) [أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك] وشرحه [الشرح الصغير] (2\ 155) وما بعدها ، مطبعة الحلبي .
3 -
النقل عن الشافعية
:أ- جاء في [الأم] تحت ترجمة : (باب زكاة الدين) :
(قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : وإذا كان الدين لرجل غائبا عنه فهو كما تكون التجارة له غائبة عنه ، والوديعة ، وفي كل زكاة .
(قال) : وإذا سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحول لم يجز أن يجعل زكاة ماله إلا في حول ؛ لأن المال لا يعدو أن يكون فيه زكاة ، ولا يكون إلا كما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لا يكون فيه زكاة ، فيكون كالمال المستفاد .
(قال الشافعي ) : وإذا كان لرجل على رجل دين فحال عليه حول ، ورب المال يقدر على أخذه منه بحضور رب الدين وملائه وأنه لا يجحده ولا يضطره إلى عدوى- فعليه أن يأخذ منه أو زكاته كما يكون ذلك عليه في الوديعة هكذا ، وإن كان رب المال غائبا ، أو حاضرا لا يقدر على أخذه منه إلا بخوف أو بفلس له إن استعدى عليه ، وكان الذي عليه الدين غائبا ، حسب ما احتبس عنده حتى يمكنه أن يقبضه ، وإذا قبضه أدى زكاته لما مر عليه من السنين لا يسعه غير ذلك . وهكذا الماشية تكون للرجل غائبة لا يقدر عليها بنفسه ولا يقدر له عليها ، وهكذا الوديعة ، والمال يدفنه فينسى موضعه لا يختلف في شيء .
(قال الشافعي ) : وإن كان المال الغائب عنه في تجارة يقدر وكيل له على قبضه حيث هو ، قوم حيث هو ، وأديت زكاته ولا يسعه إلا ذلك ، وهكذا المال المدفون والدين ، وكلما قلت لا يسعه إلا تأدية زكاته بحوله وإمكانه له ، فإن هلك قبل أن يصل إليه وبعد الحول وقد أمكنه فزكاته عليه دين ، وهكذا كل مال له يعرف موضعه ولا يدفع عنه ، فكلما قلت له : يزكيه فلا يلزمه زكاته قبل قبضه حتى يقبضه فهلك المال قبل أن يمكنه قبضه فلا ضمان عليه فيما مضى من زكاته ؛ لأن العين التي فيها الزكاة هلكت قبل أن يمكنه أن يؤديها .
(قال الشافعي ) : فإن غصب مالا فأقام في يدي الغاصب زمانا لا يقدر عليه ثم أخذه أو غرق له مال فأقام في البحر زمانا ثم قدر عليه أو دفن مالا فضل موضعه فلم يدر أين هو ثم قدر عليه- فلا يجوز فيه إلا واحد من قولين : أن لا يكون عليه فيه زكاة لما مضى ولا إذا قبضه حتى يحول عليه حول من يوم قبضه ؛ لأنه كان مغلوبا عليه بلا طاعة منه كطاعته في السلف والتجارة والدين ، أو يكون فيه الزكاة إن سلم ؛ لأن ملكه لم يزل عنه لما مضى عليه من السنين .
(قال الربيع ) : القول الآخر أصح القولين عندي ؛ لأن من غصب ماله أو غرق لم يزل ملكه عنه ، وهو قول الشافعي .
(قال الشافعي ) : وهكذا لو كان له على رجل مال أصله مضمون أو أمانة فجحده إياه ولا بينة له عليه أوله بينة غائبة لم يقدر على أخذه منه بأي وجه ما كان الأخذ .
(قال الربيع ) : إذا أخذه زكاه لما مضى عليه من السنين ، وهو معنى
قول الشافعي .
(قال الشافعي ) : فإن هلك منه مال فالتقطه منه رجل أو لم يدر التقط أو لم يلتقط- فقد يجوز أن يكون مثل هذا ، ويجوز أن لا يكون عليه فيه زكاة بحال ؛ لأن الملتقط يملكه بعد سنة على أن يؤديه إليه إن جاءه ، ويخالف الباب قبله بهذا المعنى .
(قال الشافعي ) : وكل ما أقبض من الدين الذي قلت عليه فيه زكاة زكاه إذا كان في مثله زكاة لما مضى ، ثم كلما قبض منه شيئا فكذلك .
(قال الشافعي ) : وإذا عرف الرجل اللقطة سنة ثم ملكها فحال عليها أحوال ولم يزكها ثم جاء صاحبها فلا زكاة على الذي وجدها وليس هذا كصداق المرأة ؛ لأن هذا لم يكن لها مالكا قط حتى جاء صاحبها ، وإن أدى عنها زكاة منها ضمنها لصاحبها .
(قال الشافعي ) : والقول في أن لا زكاة على صاحبها الذي اعترفها ، أو أن عليها الزكاة في مقامها في يدي غيره كما وصفت أن تسقط الزكاة في مقامها في يدي الملتقط بعد السنة ؛ لأنه أبيح له أكلها بلا رضا من الملتقط ، أو يكون عليه فيها الزكاة ؛ لأنها ماله ، وكل ما قبض من الدين الذي قلت عليه فيه زكاة زكاه إذا كان في مثله زكاة لما مضى فكلما قبض منه شيئا فكذلك ، وإن قبض منه ما لا زكاة في مثله فكان له مال أضافه إليه ، وإلا حسبه فإذا قبض ما تجب فيه الزكاة معه أدى زكاته لما مضى عليه من السنين (1) .
__________
(1) [الأم] (2\ 43) .
ب- قال الشيرازي : ( وإن كان له دين نظرت ، فإن كان دينا غير لازم كمال الكتابة لم يلزمه زكاته ؛ لأن ملكه غير تام عليه ، فإن العبد يقدر أن يسقطه ، وإن كان لازما نظرت ، فإن كان على مقر مليء لزمه زكاته ؛ لأنه مقدور على قبضه فهو كالوديعة ، وإن كان على مليء جاحد ، أو مقر معسر فهو كالمال المغصوب ، وفيه قولان ، وقد بيناه في زكاة الماشية ، وإن كان له دين مؤجل ، ففيه وجهان . قال أبو إسحاق : هو كالدين الحال على فقير أو مليء جاحد ، فيكون على قولين . وقال أبو علي بن أبي هريرة : لا تجب فيه الزكاة ، فإذا قبضه استقبل به الحول ؛ لأنه لا يستحقه ، ولو حلف أنه لا يستحقه كان بارا ، والأول أصح ؛ لأنه لو لم يستحقه لم ينفذ فيه إبراؤه ، وإن كان له مال غائب ، فإن كان مقدورا على قبضه وجبت فيه الزكاة إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يرجع إليه ، وإن لم يقدر عليه فهو كالمغصوب ) .
ج- وقال النووي في شرح ذلك : قال أصحابنا : الدين ثلاثة أقسام : (أحدها) : غير لازم كمال الكتابة ، فلا زكاة فيه بلا خلاف ؛ لما ذكره المصنف .
(الثاني) : أن يكون لازما وهو ماشية بأن كان له في ذمة إنسان أربعون شاة سلما أو قرضا ، فلا زكاة فيها أيضا بلا خلاف ؛ لأن شرط زكاة الماشية السوم . ولا توصف التي في الذمة بأنها سائمة .
(الثالث) : أن يكون دراهم أو دنانير أو عرض تجارة ، وهو مستقر ، ففيه قولان مشهوران : (القديم) لا تجب الزكاة في الدين بحال ؛ لأنه غير معين . (والجديد) الصحيح باتفاق الأصحاب وجوب الزكاة في الدين
على الجملة .
وتفصيله : أنه إن تعذر استيفاؤه لإعسار من عليه ، أو جحوده ولا بينة ، أو مطله ، أو غيبته ، فهو كالمغصوب ، وفي وجوب الزكاة فيه طرق تقدمت في باب زكاة الماشية ، والصحيح وجوبها ، وقيل : تجب في الممطول والدين على مليء غائب بلا خلاف ، وإنما الخلاف فيما سواهما . وبهذا الطريق قطع صاحب [الحاوي] وغيره ، وليس كذلك ، بل المذهب طرد الخلاف .
فإن قلنا بالصحيح : وهو الوجوب لم يجب الإخراج قبل حصوله بلا خلاف ، ولكن (1) في يده أخرج عن المدة الماضية ، هذا معنى الخلاف .
وأما إذا لم يتعذر استيفاؤه بأن كان على مليء باذل أو جاحد عليه بينة أو كان القاضي يعلمه ، وقلنا : القاضي يقضي بعلمه ؛ فإن كان حالا وجبت الزكاة بلا شك ووجب إخراجها في الحال ، وإن كان مؤجلا فطريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليليهما :
(أصحهما) : عند المصنف والأصحاب : أنه على القولين في المغصوب : (أصحهما) : تجب الزكاة .
(الثاني) : لا تجب ، وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي .
والطريق الثاني : طريقة ابن أبي هريرة : لا زكاة فيه قولا واحدا ، كالمال الغائب الذي يسهل إحضاره .
فإن قلنا بوجوب الزكاة ، فهل يجب إخراجها في الحال ؟
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : ولكن إذا حصل . . . إلخ
فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون : (أصحهما) : لا يجب ، وبه قطع الجمهور كالمغصوب .
قال إمام الحرمين : ولأن الخمسة نقدا تساوي ستة مؤجلة ، ويستحيل أن يسلم أربعة نقدا تساوي خمسة مؤجلة ، فوجب تأخير الإخراج إلى القبض ، قال : ولا شك أنه لو أراد أن يبرئ فقيرا عن دين له عليه ، ليوقعه عن الزكاة لم يقع عنها ؛ لأن شرط أداء الزكاة أن يتضمن تمليكا محققا . والله تعالى أعلم .
وأما المال الغائب فإن لم يكن مقدورا عليه ؛ لانقطاع خبره فهو كالمغصوب ، هكذا قال المصنف والجمهور ، وقيل : تجب الزكاة قطعا ؛ لأن تصرفه فيه نافذ ، بخلاف المغصوب ، ولا خلاف أنه لا يجب الإخراج عنه قبل عوده وقبضه ، وإن كان مقدورا على قبضه وجبت الزكاة منه بلا خلاف ، ووجب إخراجها في الحال بلا خلاف ، ويخرجها في بلد المال ، فإن أخرجها في غيره ففيه خلاف نقل الزكاة ، هذا إذا كان المال مستقرا ، فإن كان سائرا غير مستقر لم يجب إخراج زكاته قبل أن يصل إليه ، فإذا وصل أخرج عن الماضي بلا خلاف ، هذا هو الصواب في مسألة الغائب ، وما وجدته خلافه في بعض الكتب فنزله عليه ، ومما يظن مخالفا قول المصنف : (فإن كان مقدورا على قبضه وجبت فيه الزكاة ، إلا إنه لا يلزمه إخراجها حتى يرجع إليه) ، هكذا قاله ابن الصباغ ، وكلامهما محمول على ما ذكرنا إذا كان سائرا غير مستقر ، هكذا صرح به أبو المكارم في العدة وغيره ، وجزم الشيخ أبو حامد بأنه يخرجها في الحال ، هو محمول على ما إذا كان المال مستقرا في بلد . والله تعالى أعلم .
قال أصحابنا : كل دين وجب إخراج زكاته قبل قبضه ، وجب ضمه إلى ما معه من جنسه لإكمال النصاب ، ويلزمه إخراج زكاتهما في الحال ، وكل دين لا يجب إخراج زكاته قبل قبضه ويجب بعد قبضه .
فإن كان معه من جنسه ما لا يبلغ وحده نصابا ، ويبلغ بالدين نصابا ، فوجهان مشهوران : (أحدهما) وبه قطع صاحب البيان : لا يلزمه زكاة ما معه في الحال ، فإذا قبض الدين لزمه زكاتهما عن الماضي (وأصحهما) عند الرافعي وغيره : يجب إخراج قسط ما معه . قالوا : وهما مبنيان على أن التمكن شرط في الوجوب أو في الضمان ، إن قلنا بالأول لا يلزمه لاحتمال أن لا يحصل الدين ، وإن قلنا بالثاني لزمه . والله تعالى أعلم .
وكل دين لا زكاة فيه في الحال ولا بعد عوده عن الماضي ، بل يستأنف له الحول إذا قبض ، فهذا لا يتم به نصاب ما معه ، وإذا قبضه لا يزكيهما عن الماضي بلا خلاف ، بل يستأنف لهما الحول . والله تعالى أعلم .
أما إذا كان له مائة درهم حاضرة ومائة غائبة فإن كانت الغائبة مقدورا عليها لزمه زكاة الحاضرة في الحال في موضعها والغائبة في موضعها ، وإن لم يكن مقدورا عليه فإن قلنا : لا زكاة فيه إذا عاد فلا زكاة في الحاضر ؛ لنقصه عن النصاب ، وإن قلنا : تجب زكاته فهل يلزمه زكاة الحاضر في الحال ؛ فيه الوجهان السابقان في الدين بناء على أن التمكن شرط في الوجوب أم الضمان ، فإن لم نوجبها في الحال أوجبناها فيه ، وفي الغائب إن عاد وإلا فلا (1) .
__________
(1) [المهذب] و[المجموع] (6\ 19) وما بعدها
4 -
النقل عن الحنابلة:
أ- قال الخرقي : ( وإذا كان له دين على مليء فليس عليه زكاة حتى يقبضه ويؤدي لما مضى) .
ب - وقال ابن قدامة : وجملة ذلك : أن الدين على ضربين :
أحدهما : دين على معترف به باذل له فعلى صاحبه زكاته ، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه فيؤدي لما مضى ، روي ذلك عن علي رضي الله عنه ، وبهذا قال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي .
وقال عثمان وابن عمر وجابر رضي الله عنهم ، وطاوس ، والنخعي ، وجابر بن زيد ، والحسن ، وميمون بن مهران ، والزهري ، وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو عبيد : عليه إخراج الزكاة في الحال وإن لم يقبضه ؛ لأنه قادر على أخذه والتصرف فيه فلزمه إخراج زكاته كالوديعة .
وقال عكرمة : ليس في الدين زكاة ، وروي ذلك عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم ؛ لأنه غير نام فلم تجب زكاته كعروض القنية . وروي عن سعيد بن المسيب ، وعطاء بن أبي رباح ، وعطاء الخراساني ، وأبي الزناد : يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة .
ولنا : أنه دين ثابت في الذمة فلم يلزمه الإخراج قبل قبضه ، كما لو كان على معسر ، ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة ، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به .
وأما الوديعة فهي بمنزلة ما في يده ؛ لأن المستودع نائب عنه في حفظه ويده كيده ، وإنما يزكيه لما مضى ؛ لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به
فلزمته زكاته كسائر أمواله .
الضرب الثاني : أن يكون على معسر أو جاحد أو مماطل به ، فهذا هل تجب فيه الزكاة ؟ على روايتين :
إحداهما : لا تجب ، وهو قول قتادة ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأهل العراق ؛ لأنه غير مقدور على الانتفاع به أشبه مال المكاتب .
والرواية الثانية : يزكيه إذا قبضه لما مضى . وهو قول الثوري ، وأبي عبيد ؛ لما روي عن علي رضي الله عنه في الدين المظنون ، قال : إن كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى .
وروي نحوه عن ابن عباس ، رواهما أبو عبيد . ولأنه مملوك يجوز التصرف فيه فوجبت زكاته لما مضى كالدين على المليء .
وللشافعي قولان : كالروايتين ، وعن عمر بن عبد العزيز والحسن والليث والأوزاعي ومالك : يزكيه إذا قبضه لعام واحد .
ولنا : أن هذا المال في جميع الأحوال على حال واحد ؛ فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها ، كسائر الأموال ، ولا فرق بين كون الغريم يجحده في الظاهر دون الباطن أو فيهما .
(فصل) وظاهر كلام أحمد : أنه لا فرق بين الحال والمؤجل ؛ لأن البراءة تصح من المؤجل ، ولولا أنه مملوك لم تصح البراءة منه ، لكن يكون في حكم الدين على المعسر ؛ لأنه لا يمكن قبضه في الحال (1) .
ج- قال الخرقي : (وإذا غصب مالا ، زكاه إذا قبضه لما مضى في
__________
(1) [المغني] (3\42) .
إحدى الروايتين عن أبي عبد الله ، والرواية الأخرى قال : ليس هو كالدين الذي متى قبضه زكاه ، وأحب إلي أن يزكيه) .
د- وقال ابن قدامة في شرح ذلك : قوله : (إذا غصب مالا) أي : إذا غصب الرجل مالا ، فالمفعول الأول المرفوع مستتر في الفعل ، والمال هو المفعول الثاني ، فلذلك نصبه ، وفي بعض النسخ : (وإذا غصب ماله) وكلاهما صحيح ، والحكم في المغصوب والمسروق والمجحود والضال واحد ، وفي جميعه روايتان :
إحداهما : لا زكاة فيه ، نقلها الأثرم والميموني . ومتى عاد صار كالمستفاد يستقبل به حولا ، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في قديم قوليه ؛ لأنه مال خرج عن يده وتصرفه ، وصار ممنوعا منه ، فلم يلزمه زكاته ، كمال المكاتب .
والثانية : عليه زكاته ؛ لأن ملكه عليه تام ، فلزمته زكاته ، كما لو نسي عند من أودعه ، أو كما لو أسر ، أو حبس ، وحيل بينه وبين ماله ، وعلى كلتا الروايتين لا يلزمه إخراج زكاته قبل قبضه .
وقال مالك : إذا قبضه زكاه لحول واحد ؛ لأنه كان في ابتداء الحول في يده ، ثم حصل بعد ذلك في يده ، فوجب أن لا تسقط الزكاة عن حول واحد . وليس هذا بصحيح ؛ لأن المانع من وجوب الزكاة إذا وجد في بعض الحول ، يمنع كنقص النصاب .
هـ- قال الخرقي : ( واللقطة إذا صارت بعد الحول كسائر مال الملتقط استقبل بها حولا ثم زكاها ، فإن جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها) .
و- وقال ابن قدامة في شرح ذلك : ظاهر المذهب : أن اللقطة تملك بمضي حول التعريف ، واختار أبو الخطاب أنه لا يملكها حتى يختار . وهو مذهب الشافعي - يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى- ومتى ملكها استأنف حولا ، فإذا مضى وجبت عليه زكاتها . وحكى القاضي في موضع ، أنه إذا ملكها وجب عليه مثلها إن كانت مثلية ، أو قيمتها إن لم تكن مثلية .
وهذا مذهب الشافعي ، ويذكر في موضعه إن شاء الله تعالى .
ومقتضى هذا أن لا تجب عليه زكاتها ؛ لأنه دين فمنع الزكاة كسائر الديون .
وقال ابن عقيل : يحتمل أن لا تجب الزكاة فيها لمعنى آخر ، وهو أن ملكه غير مستقر عليها ، ولصاحبها أخذها منه متى وجدها .
والمذهب ما ذكره الخرقي ، وما ذكره القاضي يفضي إلى ثبوت معاوضة في حق من لا ولاية عليه بغير فعله ولا اختياره ، ويقتضي ذلك أن يمنع الدين الذي عليه الميراث والوصية كسائر الديون والأمر بخلافه .
وما ذكره ابن عقيل يبطل بما وهبه الأب لولده وبنصف الصداق فإن لهما استرجاعه ، ولا يمنع وجوب الزكاة .
فأما ربها إذا جاء فأخذها ، فذكر الخرقي أنه يزكيها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها ، وهو حول التعريف ، وقد ذكرنا في الضال روايتين ، وهذا من جملته .
وعلى مقتضى قول الخرقي : أن الملتقط لو لم يملكها مثل من لم يعرفها ، فإنه لا زكاة على ملتقطها ، وإذا جاء ربها زكاها للزمان كله
وإنما تجب عليه زكاتها إذا كانت ماشية بشرط كونها سائمة عند الملتقط ، فإن علفها فلا زكاة عليه على ما ذكرنا في المغصوب .
ز- قال الخرقي : ( والمرأة إذا قبضت صداقها زكته لما مضى ) .
ح- وقال ابن قدامة في شرح ذلك : وجملة ذلك : أن الصداق في الذمة دين للمرأة ، حكمه حكم الديون على ما مضى ، إن كان على مليء به فالزكاة واجبة فيه ، إذا قبضته أدت لما مضى ، وإن كان على معسر أو جاحد فعلى الروايتين .
واختار الخرقي وجوب الزكاة فيه ، ولا فرق بين ما قبل الدخول أو بعده ؛ لأنه دين في الذمة ، فهو كثمن مبيعها ، فإن سقط نصفه بطلاقها قبل الدخول ، وأخذت النصف فعليها زكاة ما قبضته دون ما لم تقبضه ؛ لأنه دين لم تتعوض عنه ، ولم تقبضه ، فأشبه ما تعذر قبضه لفلس أو جحد ، وكذلك لو سقط كل الصداق قبل قبضه لانفساخ النكاح بأمر من جهتها ، فليس عليها زكاته ؛ لما ذكرنا ، وكذلك القول في كل دين يسقط قبل قبضه من غير إسقاط صاحبه ، أو يئس صاحبه من استيفائه .
والمال الضال إذا يئس منه فلا زكاة على صاحبه ؛ فإن الزكاة مواساة فلا تلزم المواساة إلا مما حصل له .
وإن كان الصداق نصابا فحال عليه الحول ثم سقط نصفه وقبضت النصف ، فعليها زكاة النصف المقبوض ؛ لأن الزكاة وجبت فيه ثم سقطت من نصفه لمعنى اختص به ؛ فاختص السقوط به . وإن مضى عليه حول قبل قبضه ثم قبضته كله زكته لذلك الحول .
وإن مضت عليه أحوال قبل قبضه ، ثم قبضته زكته لما مضى كله ما لم ينقص عن النصاب . وقال أبو حنيفة : لا تجب عليها الزكاة ما لم تقبضه ؛ لأنه بدل عما ليس بمال فلا تجب الزكاة فيه قبل قبضه ، كدين الكتابة .
ولنا : أنه دين يستحق قبضه ، ويجبر المدين على أدائه ، فوجبت فيه الزكاة كثمن المبيع . يفارق دين الكتابة ، فإنه لا يستحق قبضه ، وللمكاتب الامتناع من أدائه ولا يصح قياسهم عليه ، فإنه عوض عن مال .
(فصل) : فإن قبضت صداقها قبل الدخول ، ومضى عليه حول فزكته ، ثم طلقها الزوج قبل الدخول ، رجع فيها بنصفه وكانت الزكاة من النصف الباقي لها . وقال الشافعي في أحد أقواله : يرجع الزوج بنصف الموجود ونصف قيمة المخرج ؛ لأنه لو تلف الكل رجع عليها بنصف قيمته ، فكذلك إذا تلف البعض .
ولنا : قول الله تعالى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } (1) ولأنه يمكنه الرجوع في العين فلم يكن له الرجوع إلى القيمة ، كما لو لم يتلف منه شيء ، ويخرج على هذا ما لو تلف كله ، فإنه ما أمكنه الرجوع في العين ، وإن طلقها بعد الحول وقبل الإخراج ، لم يكن له الإخراج من النصاب ؛ لأن حق الزوج تعلق به على وجه الشركة ، والزكاة لم تتعلق به على وجه الشركة ، لكن تخرج الزكاة من غيره أو يقتسمانه (2) ، ثم تخرج الزكاة من حصتها ، فإن طلقها قبل الحول ملك النصف مشاعا ، وكان حكم ذلك كما لو باع نصفه قبل الحول مشاعا ، وقد بينا حكمه .
__________
(1) سورة البقرة الآية 237
(2) في ب ، م : (يقسمانه) .
(فصل) : فإن كان الصداق دينا فأبرأت الزوج منه بعد مضي الحول ، ففيه روايتان :
إحداهما : عليها الزكاة ؛ لأنها تصرفت فيه ، فأشبه ما لو قبضته .
والرواية الثانية : زكاته على الزوج ؛ لأنه ملك ما ملك عليه ، فكأنه لم يزل ملكه عنه ، والأول أصح ، وما ذكرنا لهذه الرواية لا يصح ؛ لأن الزوج لم يملك شيئا وإنما سقط الدين عنه . ثم لو ملك في الحال لم يقتض هذا وجوب زكاة ما مضى . ويحتمل أن لا تجب الزكاة على واحد منهما لما ذكرنا في الزوج ، والمرأة لم تقبض الدين ؛ فلم تلزمها زكاته ، كما لو سقط بغير إسقاطها وهذا إذا كان الدين مما تجب فيه الزكاة إذا قبضه ، فأما إن كان مما لا زكاة فيه ، فلا زكاة عليها بحال .
وكل دين على إنسان أبرأه صاحبه منه بعد مضي الحول عليه فحكمه حكم الصداق فيما ذكرنا .
قال أحمد : إذا وهبت المرأة مهرها لزوجها وقد مضى له عشر سنين ، فإن زكاته على المرأة ؛ لأن المال كان لها . وإذا وهب رجل لرجل مالا فحال الحول ، ثم ارتجعه الواهب فليس له أن يرتجعه ، فإن ارتجعه فالزكاة على الذي كان عنده .
وقال في رجل باع شريكه نصيبه من داره فلم يعطه شيئا ، فلما كان بعد سنة قال : ليس عندي دراهم فأقلني فأقاله .
قال : عليه أن يزكي ؛ لأنه قد ملكه حولا (1) .
__________
(1) [المغني] (3\44) وما بعدها .
ط- قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولا بد في الزكاة من الملك . واختلفوا في اليد ، فلهم في زكاة ما ليس في اليد كالدين ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها تجب في كل دين وكل عين ، وإن لم تكن تحت يد صاحبها ، كالمغصوب والضال ، والدين المجحود ، وعلى معسر أو مماطل ، وأنه يجب تعجيل الإخراج مما يمكن قبضه ، كالدين على الموسر . وهذا أحد قولي الشافعي ، وهو أقواهما (1) .
وسئل رحمه الله : عن صداق المرأة على زوجها تمر عليه السنون المتوالية لا يمكنها مطالبته به لئلا يقع بينهما فرقة ، ثم إنها تتعوض عن صداقها بعقار ، أو يدفع إليها الصداق بعد مدة من السنين ، فهل تجب زكاة السنين الماضية ؟ أم إلى أن يحول الحول من حين قبضت الصداق ؟ فأجاب : الحمد لله ، هذه المسألة فيها للعلماء أقوال :
قيل : يجب تزكية السنين الماضية ، سواء كان الزوج موسرا أو معسرا . كأحد القولين في مذهب الشافعي ، وأحمد ، وقد نصره طائفة من أصحابهما .
وقيل : يجب مع يساره وتمكنها من قبضها ، دون ما إذا لم يمكن تمكينه من القبض . كالقول الآخر في مذهبهما .
وقيل : تجب لسنة واحدة . كقول مالك ، وقول في مذهب أحمد .
وقيل : لا تجب بحال . كقول أبي حنيفة ، وقول في مذهب أحمد .
وأضعف الأقوال : من يوجبها للسنين الماضية ، حتى مع العجز عن
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (25\ 45) .
قبضه ، فإن هذا القول باطل ، فأما أن يجب لهم ما يأخذونه مع أنه لم يحصل له شيء ، فهذا ممتنع في الشريعة ، ثم إذا طال الزمان كانت الزكاة أكثر من المال ، ثم إذا نقص النصاب . وقيل : إن الزكاة تجب في عين النصاب ، لم يعلم الواجب إلا بحساب طويل يمتنع إتيان الشريعة به .
وأقرب الأقوال : قول من لا يوجب فيه شيئا بحال حتى يحول عليه الحول ، أو يوجب فيه زكاة واحدة عند القبض فهذا القول له وجه ، وهذا وجه ، وهذا قول أبي حنيفة ، وهذا قول مالك ، وكلاهما قيل به في مذهب أحمد . والله أعلم (1) .
ي- قال ابن مفلح : ويعتبر تمام ملك النصاب في الجملة (و) فلا زكاة في دين الكتابة (و) لعدم استقرارها ، ولهذا لا يصح ضمانها ، وفيه رواية ، فدل على الخلاف هنا ، ولا في دين مؤجل ، أو على معسر ، أو مماطل ، أو جاحد قبضه ، ومغصوب ، ومسروق ، ومعرف ، وضال رجع ، وما دفنه ونسيه ، وموروث ، أو غيره وجهله ، أو جهل عند من هو ، وفي رواية صححها صاحب التلخيص وغيره ، ورجحها بعضهم ، واختارها ابن شهاب وشيخنا (و هـ) . وفي رواية : تجب ، اختاره الأكثر ، وذكر صاحب [الهداية] و [المحرر] : ظاهر المذهب (و م ش) وجزم به جماعة في المؤجل (م 5) (و هـ) (2) لصحة الحوالة به والإبراء ، فيزكي ذلك إذا قبضه لما مضى من السنين ، خلافا لرواية عن مالك .
__________
(1) [مجموع الفتاوى] (25\ 47)
(2) في مخطوط الدار : (و) .
وقال أبو الفرج : إذا قلنا : تجب في الدين وقبضه ، فهل يزكيه لما مضى ؟ على روايتين ، ويتوجه ذلك في بقية الصور ، وقيد في [المستوعب] المجحود ظاهرا وباطنا .
وقال أبو المعالي : ظاهرا .
وقال غيرهما : ظاهرا أو باطنا أو فيهما ، وإن كان به بينة فوجهان (م 6) .
وقيل : تجب في مدفون بداره ، ودين على معسر ومماطل ، والروايتان في وديعة جحدها المودع ، وجزم في [الكافي] بوجوبها في وديعة جهل عند من هي (م 7) ولا يخرج المودع إلا بإذن (1) ربها ، نص عليه وقيد الحنفية المدفون بمغارة (2) ، وعكسه المدفون في البيت ، وفي المدفون في كرم أو أرض اختلاف المشايخ .
وتجب عندهم في دين على معسر ، أو جاحد عليه بينة ، أو علم به القاضي ، وعلى مقر مفلس عند أبي حنيفة ؛ لأن التفليس لا يصح عنده ، وعند محمد : لا تجب لتحقق الإفلاس بالتفليس عنده ، وقاله أبو يوسف ، وقال في حكم الزكاة كقول أبي حنيفة ، رعاية للفقراء .
ولو وجبت في نصاب ، بعضه دين على معسر أو غصب أو ضال ، ففي وجوب إخراج زكاة ما بيده قبل قبض الدين والغصب وجهان (م 8 و 9) فإن قلنا : لا ، وكان الدين على مليء ، فوجهان .
__________
(1) في مخطوط الدار : بلا إذن .
(2) في مخطوط الدار : بمفازة .
ومتى قبض شيئا من الدين أخرج زكاته ولو لم يبلغ نصابا ، نص عليه (و ش) خلافا للقاضي وابن عقيل ومالك ، وخلافا لأبي حنيفة إن كان الدين بدلا عن مال غير زكوي ولم يقبض منه أربعين درهما أو أربعة دنانير ، ويرجع المغصوب منه على الغاصب بالزكاة ، لنقصه بيده كتلفه ، وإن غصب رب المال بأسر أو حبس ومنع من التصرف في ماله لم تسقط زكاته في الأصح ؛ لنفوذ تصرفه ولو حمل إلى دار الحرب ؛ لأن عصمته بالإسلام ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : « فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم » (1) ، وعند أبي حنيفة تسقط ؛ لأن العاصم دار الإسلام فلا يضمن بإتلاف ويملك باستيلاء ، ومن دينه حال على مليء باذل زكاه على الأصح ، وفاقا ، إذا قبضه ، وعنه : أو قبله (2) (و م ش) ويزكيه لما مضى ، قصد ببقائه عليه الفرار من الزكاة (و) أم لا (م) ، وعنه : لسنة واحدة ، بناء على أنه يعتبر لوجوبها إمكان الأداء ، ولم يوجد فيما مضى ، ويجزئه إخراج الزكاة قبل قبضه (م) لزكاة (3) سنين ، ولو منع التعجيل لأكثر من سنة لقيام الوجوب ، وإنما لم تجب رخصة .
ولو ملك مائة نقدا ومائة مؤجلة زكى النقد لتمام حوله والمؤجل إذا قبضه .
وإذا ملك الملتقط اللقطة (4) استقبل بها (حولا) وزكى ، نص عليه ؛ لأنه لا شيء في ذمته .
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3341),مسند أحمد بن حنبل (3/332).
(2) في الطبعة الأولى : أو قيل .
(3) في مخطوط الدار : كزكاة .
(4) في الطبعة الأولى : وإذا ملك اللقطتان لقطة .
وقيل : لا يلزمه ؛ لأنه مدين بها ، فإن ملك ما يقابل قدر عوضها زكى (1) .
وقيل : لا (و م) لعدم استقرار ملكه ، وإذا ملكها الملتقط وزكى فلا زكاة إذا على ربها على الأصح ، وهل يزكيها ربها حول التعريف كبعده (2) إذا لم يملكها الملتقط ؟ فيه الروايتان في المال الضال ، فإن لم يملك اللقطة وقلنا يتصدق بها ، لم يضمن حتى يختار ربها الضمان ، فيثبت حينئذ في ذمته كدين مجدد ، وإن أخرج الملتقط زكاتها عليه منها ثم أخذها ربها رجع عليه بما أخرج .
وقيل : لا ، إن قلنا : لا تلزم ربها زكاتها . قال بعضهم : لوجوبها على الملتقط إذا .
ويستقبل (3) بالصداق وعوض الخلع والأجرة بالعقد حولا ، عينا كان ذلك أو دينا مستقرا أو لا ، نص عليه (و ش) وكذلك مالك في غير نقد ، للعموم ، ولأنه ظاهر إجماع الصحابة ، وعنه : حتى يقبض ذلك (و هـ) ، وعنه : لا زكاة في صداق قبل الدخول حتى يقبض فيثبت الانعقاد والوجوب قبل الدخول .
قال صاحب [المحرر] بالإجماع ، مع احتمال الانفساخ ، وعنه : تملك قبل الدخول نصف الصداق ، وكذا في الخلاف : في اعتبار القبض في كل دين لا في مقابلة مال أو مال غير زكوي عند الكل كموصى به
__________
(1) في الطبعة الأولى : فإن مالك ما يقابل قدره عوضها زكى .
(2) في الطبعة الأولى : (لعبده) وفي تصحيحاتها : بعيدة .
(3) في الطبعة الأولى : وليستقل بالصداق .
وموروث وثمن مسكن ، وعنه : لا حول لأجرة ، اختاره شيخنا (خ) وقيدها بعضهم بأجرة العقار (خ) نظرا إلى كونها غلة أرض مملوكة ، وعنه : ومستفاد .
وذكرها أبو المعالي فيمن باع سمكا صاده بنصاب زكاة ، فعلى الأول لا يلزمه الإخراج قبل القبض ، وإن كان دينا من بهيمة الأنعام فلا زكاة (و) لاشتراط السوم فيها ، بخلاف سائر الديون ، فإن عينت زكيت كغيرها ، وكذا الدية الواجبة لا تزكى (و) لأنها لم تتعين مالا زكويا ؛ لأن الإبل في الدية فيها أصل أو أحدها ، وتجب في قرض ودين وعروض تجارة (و) وكذا في مبيع قبل القبض ، خلافا لرواية عن أبي حنيفة ، جزم به صاحب [المحرر] وغيره ، فيزكيه المشتري ، ولو أزال ملكه عنه أو زال أو انفسخ العقد بتلف مطعوم قبل قبضه .
ويزكي المبيع بشرط الخيار أو في خيار المجلس من حكم له بملكه ولو فسخ العقد ، ودين السلم إن كان للتجارة ولم يكن أثمانا ، وثمن المبيع ورأس مال السلم قبل قبض عوضهما ولو انفسخ العقد (1) ، جزم بذلك كله جماعة ؛ لأن الطارئ لا يضعف ملكا تاما ، كمال الابن معرض لرجوع أبيه وتملكه ، وفي [الرعاية] : إنما تجب الزكاة في ملك تام مقبوض ، وعنه : أو مميز لم يقبض ، قال : وفيما (صح) تصرف ربه (فيه) قبل قبضه أو ضمنه بتلفه ، وفي ثمن المبيع ورأس مال السلم قبل قبض عوضهما ، ودين السلم إن كان للتجارة ولم يكن أثمانا والمبيع في
__________
(1) في مخطوط الدار : ولو انفسخ البعض .
مدة الخيار قبل القبض ، روايتان (1) ، وللبائع إخراج زكاة مبيع فيه خيار منه ، فيبطل البيع في قدره (2) ، وفي بقيته روايتا تفريق الصفقة ، وفي أيهما يقبل قوله في قيمة المخرج ؟ وجهان .
وقال ابن حامد : إذا دلس البائع العيب فرد عليه فزكاته عليه ، فأما مبيع غير متعين ولا متميز فيزكيه البائع ، وكل دين سقط قبل قبضه لم يتعوض عنه سقطت زكاته (و) وقيل : هل يزكيه من سقط عنه ؟ يخرج على روايتين ، وإن أسقطه زكاه (3) نص عليه (م) لأنه أتلف ما فيه الزكاة ، فقيرا كان المدين أو غنيا ، وعنه : يزكيه المدين المبرأ ؛ لأنه [ملك] ، ما عليه ، وحملها صاحب [المحرر] على أن بيد المدين نصابا منع الدين زكاته (و م) وإلا فلا شيء عليه .
وقيل : لا زكاة عليها (خ) (4) وإن أخذ ربه [به] ، عوضا أو أحال أو احتال- زاد بعضهم : وقلنا الحوالة وفاء- زكاه كعين وهبها ، وعنه : زكاة التعويض على المدين ، وقيل في ذلك وفي الإبراء : يزكيه ربه إن قدر وإلا المدين ، والصداق كالدين .
__________
(1) (تنبيه) قوله : وفي ثمن المبيع ورأس مال السلم قبل قبض عوضهما ، ودين السلم إن كان للتجارة ولم يكن أثمانا ، والمبيع في مدة الخيار قبل القبض ، روايتان . انتهى . ليس هذا من الخلاف المطلق إنما هو من تتمة كلام صاحب الرعاية ، فليعلم ذلك ، والمصنف قد قدم في هذا حكما ، وإنما حكى كلام صاحب [الرعاية] طريقة .
(2) في الطبعة الأولى : ''فيبطل البيع فيه في قدره'' وحذفنا (فيه) تبعا لمخطوط الدار ، ونقل صاحب تصحيح الفروع بالهامش .
(3) في الطبعة الأولى : وإن أسقط ربه زكاة .
(4) في الطبعة الأولى : (هـ) .
(و) وقيل : سقوطه كله ؛ لانفساخ النكاح من جهتها ، كإسقاطها ، وإن زكت صداقها كله ثم تنصف بطلاقها (1) رجع فيما بقي بكل حقه . وقيل : إن كان مثريا (2) ، (3) وإلا فبقيمة حقه .
وقيل : يرجع ونصف ما بقي ونصف بدل ما أخرجت .
وقيل : يخير بين ذلك ونصف قيمة ما أصدقها يوم العقد أو مثله ، ولا تجزئها زكاتها منه بعد طلاقه ؛ لأنه مشترك ، وقيل : بلى : عن حقها وتغرم له نصف (4) ما أخرجت ، ومتى لم تزكه رجع بنصفه كاملا وتزكيه هي ، فإن تعذر فيتوجه : لا يلزم الزوج ، وفيها- في [الرعاية]- بلى ، ويرجع عليها إن تعلقت بالعين ، وقيل : أو بالذمة ، ويزكي المرهون على الأصح (و) ويخرجها الراهن منه بلا إذن إن عدم ، كجناية رهن على دينه .
وقيل : منه مطلقا ، وقيل : إن تعلقت بالعين .
وقيل : يزكي راهن موسر . وإن أيسر معسر جعل بدله رهنا .
وقيل : لا ، وفي مال مفلس محجور عليه روايتا مدين ، عند أبي المعالي والأزجي ، وعند القاضي والشيخ كمغصوب .
وقيل : يزكي سائمة ؛ لنمائها بلا تصرف ، قال أبو المعالي : إن عين حاكم لكل غريم شيئا فلا زكاة ، لضعف ملكه إذا ، وإن حجر عليه بعد
__________
(1) في الطبعة الأولى : كله لم ينصف بطلاقها .
(2) في مخطوط الدار : مليئا .
(3) الصواب : إن كان مثليا كما يدل عليه السياق والمعنى .
(4) في الطبعة الأولى : وقيل بلى في حقها وتعدم نصف .
وجوبها لم تسقط .
وقيل : بلى إن كان قبل تمكنه من الإخراج ، وهل له إخراجها منه ؟ فيه وجهان ، ولا يقبل إقراره بها ، جزم به بعضهم ، وعنه : يقبل ، كما لو صدقه الغريم ، فأما قبل الحجر فإن الدين وإن لم يكن من جنس المال يمنع وجوب الزكاة في قدره في الأموال الباطنة (و م) قال أبو الفرج : وهي الذهب والفضة ، وقال غيره : وقيمة عروض التجارة ، وفي المعدن وجهان ، وعنه : لا يمنع الدين الزكاة (و ش) وعنه : يمنعها الدين الحال خاصة ، جزم به في [الإرشاد] وغيره ، ويمنعها في الأموال الظاهرة ، كماشية وحب وثمرة أيضا ، نص عليه ، واختاره أبو بكر والقاضي وأصحابه ، والحلواني وابن الجوزي وغيرهم .
قال ابن أبي موسى : هذا الصحيح من مذهب أحمد ، وعنه : لا يمنع (و م ش) وعنه : يمنع ما استدانه للنفقة على ذلك أو كان من ثمنه ، وعنه : خلا الماشية ، وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب ابن عباس ، لتأثير ثقل المؤنة في المعشرات وعند (هـ) كل دين مطالب به يمنع إلا في المعشرات ؛ لأن الواجب فيها ليس بزكاة عنده ، ومتى أبرأ المدين أو قضى مال مستحدث ابتدأ حولا ؛ لأن ما منع وجوب الزكاة منع انعقاد الحول (1) ، وقطعه ، وعنه : يزكيه (و م) فيبني إن كان في أثناء الحول . وبعده يزكيه في الحال . ولا يمنع الدين خمس الركاز (2) ، ويمنع أرش
__________
(1) في الطبعة الأولى : مع انعقاد الحول .
(2) في الطبعة الأولى : خمس الزكاة .
جناية عند التجارة زكاة قيمته ؛ لأنه وجب جبرا لا مواساة ، بخلاف الزكاة ، وجعله بعضهم كالدين ، ومن له عرض قنية يباع لو أفلس يفي بدينه . فعنه : يجعل في مقابلة ما معه ويزكي (1) ما معه من المال الزكوي (و م) جمعا بين الحقين ، وهو أحظ ، وعنه : يجعل في مقابلة ما معه ولا يزكيه (وهـ) لئلا تحتمل المواساة ولأن عرض القنية كملبوسه في أنه لا زكاة فيهما ، فكذا فيما يمنعها ، وكذا الخلاف فيمن بيده ألف دينا- والمراد على مليء وجزم به بعضهم- وعليه مثلها ، يزكي ما معه على الأولى (و م) لا الثانية فإن كان العرض للتجارة فنص في رواية أبي الحارث والمروذي : يزكي ما معه بخلاف ما لو كان للقنية ، وحمله القاضي على أن الذي عنده للقنية فوق حاجته (2) ، وقيل : إن كان فيما معه من المال الزكوي جنس الدين جعل في مقابلته ، وحكى رواية : وإلا اعتبر الأحظ (وقيل : يعتبر) الأحظ للفقراء مطلقا ، فمن له مائتا درهم وعشرة دنانير قيمتها مائتا درهم ، جعل الدنانير قبالة دينه وزكى ما معه ، ومن له أربعون شاة وعشرة أبعرة ، ودينه قيمة أحدهما جعل قبالة الغنم وزكى بشاتين .
ونقد البلد أحظ للفقراء ، وفوق نفعه زيادة المالية ، ودين المضمون عنه يمنع الزكاة بقدره في ماله ، دون الضامن ، خلافا لما ذكره أبو المعالي ، كنصاب غصب من غاصبه وأتلف فإن المنع يختص بالثاني
__________
(1) في الطبعة الأولى : ما عليه معه ويزكي .
(2) في الطبعة الأولى : وفق حاجته .
مع أن للمالك طلب كل منهما (و) ولو استأجر لرعي غنمه بشاة موصوفة صح ، وهي كالدين في منعها للزكاة ، وحيث منع دين الآدمي ، فعنه : دين الله من كفارة ونذر مطلق ودين الحج ونحوه كذلك ، صححه صاحب [المحرر] و [الرعاية] (و م) وجزم به ابن البنا في خلافه في الكفارة والخراج ، وقال : نص عليه ، وهو الذي احتج له القاضي في الكفارة . وعنه : لا يمنع ، وفي [المحرر] : الخراج من دين الله ، وقدم أحمد الخراج على الزكاة ، ويأتي في اجتماع العشر والخراج في أرض العنوة ، وعند (هـ) ، لا يمنع إلا دين زكاة وخراج ؛ لأن لهما مطالبا بهما ، وأجاب القاضي بأن الكفارة عندنا على الفور ، فإن منعها (1) وعلم الإمام بذلك طالبه بإخراجها كالزكاة ، نص عليه في رواية إبراهيم بن هانئ : يجبر المظاهر (2) على الكفارة ، على أن هذا لا يؤثر في الحج ، كذا الكفارة ، ولأن الإمام لا يطالب بزكاة مال باطن ، والدين يمنع منه ، ويأتي في من منع الزكاة .
وإن نذر الصدقة بمعين (3) قال : لله علي أن أتصدق بهذا ، أو هو صدقة ، فحال الحول ، فلا زكاة لزوال ملكه أو نقصه ، وعند ابن حامد : تجب ، فقال في قوله : إن شفى الله مريضي تصدقت من هاتين المائتين بمائة فشفي ثم حال الحول قبل الصدقة وجبت الزكاة ، وفي [الرعاية] : إن نذر التضحية بنصاب معين- وقيل : أو قال : جعلته ضحايا- فلا زكاة
__________
(1) في مخطوط الدار : فإن علمها .
(2) في الطبعة الأولى : لخبر المظاهر .
(3) في الطبعة الأولى : لمعين .
ويحتمل وجوبها إذا تم حوله قبلها ، وإن قال : لله علي الصدقة بهذا النصاب إذا حال الحول ، فقيل : لا زكاة . وقيل : بلى ، فتجزئه الزكاة منه في الأصح ، ويبرأ بقدرها من الزكاة والنذر إن نواهما معا ، لكون الزكاة صدقة ، وكذا لو نذر الصدقة ببعض النصاب ، هل يخرجها أو يدخل النذر في الزكاة وينويهما ؟ وذكر ابن تميم إذا نذر الصدقة بنصاب إذا حال الحول ، فقيل : لا زكاة .
وقيل : بلى ، فيجزئ إخراجها منه ، ويبرأ بقدرها من الزكاة والنذر ، ويحتمل أن لا يجزئ إخراجها منه ، وإن نذر الصدقة ببعض النصاب وجبت الزكاة ووجب إخراجهما معا .
وقيل : يدخل النذر في الزكاة وينويهما معا .
ولا زكاة في الفيء والخمس وكذا الغنيمة المملوكة إذا كانت أجناسا ؛ لأن للإمام أن يقسم بينهم قسمة تحكيم ، فيعطي كل واحد منهم من أي الأصناف شاء ، فما تم ملكه على معين بخلاف الميراث ، وإن كانت صنفا فكذلك عند أبي بكر والقاضي ، والأشهر ينعقد الحول عليها إن بلغت حصة كل واحد نصابا ، وإلا ابتنى على الخلطة ، ولا يخرج قبل القبض ، كالدين ، ولا زكاة في وقف على غير معين أو على المساجد والمدارس والربط ونحوها (هـ م) (1) ، قال أحمد في أرض موقوفة على المساكين : لا عشر ؛ لأنها كلها تصير إليهم ، وسبق في الفصل الثاني خلاف الحنفية في العشر ، ولم يصرحوا في الوقف على فقهاء مدرسة أو
__________
(1) في مخطوط الدار : ونحوها (و) .
نحوها ، ويتوجه الخلاف ، وإن وقف سائمة أو أسامها الموقوف عليه على معينين كأقاربه ففيها الزكاة ، نص عليه .
وقيل : لا ؛ لنقص ملكه ، وكما لو قلنا : الملك لله ، ولا يخرج منها لمنع نقل الملك في الوقف ، وإن وقف أرضا أو شجرا عليه وجبت في الغلة ، نص عليه ، لجواز بيعها .
وقيل : تجب مع غنى الموقوف عليه ، جزم به أبو الفرج والحلواني وابنه صاحب [التبصرة] ، ولعله ظاهر ما نقله ابن سعيد وغيره ، ومن وصى بدراهم في وجوه البر ، أو ليشتري بها ما يوقف ، فاتجر بها الوصي ، فربحه مع المال فيما وصى ، ولا زكاة فيهما ، ويضمن إن خسر ، نقل ذلك الجماعة ، وقيل : ربحه إرث ، ويأتي كلام صاحب [الموجز] وشيخنا في آخر الشركة ، والمال الموصى به يزكيه من حال الحول على ملكه ، وإن وصى بنفع نصاب سائمة زكاها مالك الأصل ، ويحتمل : لا زكاة إن وصى به أبدا ، ولا زكاة في حصة المضارب ، ولا ينعقد الحول قبل استقراره ، نص عليه .
واختاره : أبو بكر والقاضي والشيخ وغيره ، وذكره في الوسيلة ظاهر المذهب ، لعدم الملك أو لضعفه ؛ لأنه وقاية رأس المال ، واختار أبو الخطاب وغيره- وقدمه في [المستوعب] وغيره- تجب الزكاة وينعقد حوله بملكه بظهور الربح (و هـ ش) أو بغيره ، على خلاف يأتي ، كمغصوب ودين على مفلس ، وأولى ليده وتنميته ، فعلى هذا يعتبر بلوغ حصته نصابا ، ودونه ينبني على الخلطة ، ومذهب (م) يزكيها .
وإن قلت بحول المالك ، ولا يلزمه عندنا إخراجها قبل القبض
كالدين ، ولا يجوز له إخراجها من مال المضاربة بلا إذن ، نص عليه ؛ لأنه وقاية .
وقيل : يجوز لدخولهما على حكم الإسلام ، صححه صاحب المستوعب والمحرر .
وقيل : يزكيها رب المال (هـ) (1) بحول أصله ؛ لأنه نماؤه ، والعامل لا يملكه على هذا .
وأوجب أبو حنيفة فيمن اشترى بألف المضاربة عبدين فصار يساوي كل منهما ألفا زكاة قيمتهما على المالك ، لشغل رأس ماله كلا منهما ، كشغل الدين ذمة الضامن والمضمون ، فلم يفضل ما يملكه المضارب ، ولهذا لو أعتق المالك أحدهما عتق كله ، واستوفى رأس ماله ، وعندنا أن ذلك ممنوع ، والحكم كعبد واحد مطلقا (و ش) ويزكي رب المال حصته - نص عليه (و) كالأصل ؛ لأنه يملكه بظهوره ، زاد بعضهم : في أظهر الروايتين ، وهو سهو- قبل قبضها ، وفيه احتمال ، ويحتمل سقوطها قبله لتزلزله ، وإذا أداها من غيره فرأس المال باق ، وإن أدى منه حسب من المال والربح ، ذكره القاضي وتبعه صاحب [المستوعب] و[المحرر] وغيرهما .
وفي [المغني] : تحتسب من الربح ورأس المال باق ؛ لأنه وقاية ولا يقال مؤنة (2) كسائر المؤن ؛ لأنه يلزم أن يحسب عليهما .
__________
(1) في مخطوط الدار : رب المال (خ) .
(2) في الطبعة الأولى : ولا مال مؤنة .
وفي [الكافي] : هي من رأس المال ، ونص عليه أحمد ؛ لأنه واجب عليه كدينه ، وليس لعامل إخراج زكاة تلزم رب المال إلا بإذنه ، نص عليه ، ومن شرط منهما زكاة حصته على الآخر جاز ؛ لأنه شرط لنفسه نصف الربح وثمن عشره .
ولا يصح أن يشترط رب المال زكاة رأس المال أو بعضه من الربح ؛ لأنه قد يحيط بالربح ، فهو كشرط فضل دراهم ، سأله المروذي : يشترط المضارب على رب المال أن الزكاة من الربح ، قال : لا ، الزكاة على رب المال ، وصححه شيخنا ، كما يختص بنفعه في المساقاة إذا لم يثمر الشجر (1) ، وركوب الفرس في الجهاد إذا لم يغنموا ، كذا قال .
قال الشيخ في [فتاويه] : ويصح شرطها في المساقاة على العامل ؛ لأنه جزء من النماء المشترك ، فمعناه القدر المسمى [لك] مما يفضل عنها ، ويحتمل أن لا يصح ؛ لأنا لا نعلم هل يوجد من الثمرة ما فيه العشر أولا ؟ فيصير نصيبه مجهولا ، ولأنه يفضي (2) إلى أن يصح له القليل إذا كثرت الثمرة ، والكثير إذا قلت ، ولا نظير له (3) .
ك- جاء في [الإنصاف] : قوله : ( ومن كان له دين على مليء- من صداق أو غيره- زكاه إذا قبضه ) .
هذا المذهب ، وعليه الأصحاب . وعنه : لا تجب فيه الزكاة ، فلا يزكيه إذا قبضه . وعنه : يزكيه إذا قبضه أو قبل قبضه . قال في [الفائق] :
__________
(1) في الطبعة الأولى : إذا لم يثمر عن ربح الشجر .
(2) في الطبعة الأولى : ولأنه يفضل .
(3) لفروع (2\323) وما بعدها .
وعنه يلزمه في الحال . وهو المختار .
تنبيه : قوله : (على مليء) من شرطه أن يكون باذلا .
فائدة : الحوالة به والإبراء منه كالقبض . على الصحيح من المذهب . وقيل : إن جعلا وفاء فكالقبض ، وإلا فلا .
قوله : (زكاه إذا قبضه لما مضى) .
يعني : من الأحوال . وهذا المذهب ، سواء قصد ببقائه الفرار من الزكاة أو لا . وجزم به في [المغني] ، و[الشرح] ، و[الوجيز] وغيرهم . وقدمه في [الفروع] وغيره . وعليه الأصحاب . وعنه يزكيه لسنة واحدة ، بناء على أنه يعتبر لوجوبها إمكان الأداء . ولم يوجد فيما مضى .
فوائد :
إحداها : يجزئه إخراج زكاته قبل قبضه لزكاة سنين ، ولو منع التعجيل لأكثر من سنة ؛ لقيام الوجوب ، وإنما لم يجب الأداء رخصة .
الثانية : لو ملك مائة نقدا ومائة مؤجلة ، زكى النقد لتمام حوله ، وزكى المؤجل إذا قبضه .
الثالثة : حول الصداق من حين العقد . على الصحيح من المذهب ، عينا كان أو دينا ، مستقرا كان أو لا ، نص عليه . وكذا عوض الخلع والأجرة . وعنه : ابتداء حوله من حين القبض لا قبله .
وعنه : لا زكاة في الصداق قبل الدخول حتى يقبض . فيثبت الانعقاد والوجوب قبل الحول .
قال المجد : بالإجماع مع احتمال الانفساخ . وعنه : تملك قبل الدخول نصف الصداق .
وكذا الحكم خلافا ومذهبا في اعتبار القبض في كل دين ، إذا كان في غير مقابلة مال ، أو مال زكوي عند الكل ، كموصى به وموروث وثمن مسكن .
وعنه : لا حول لأجرة ، فيزكيه في الحال كالمعدن .
اختاره الشيخ تقي الدين ، وهو من المفردات . وقيدها بعض الأصحاب بأجرة العقار . وهو من المفردات أيضا ، نظرا إلى كونها غلة أرض مملوكة له .
وعنه أيضا : لا حول لمستفاد . وذكرها أبو المعالي فيمن باع سمكا صاده بنصاب زكاة ، فعلى الأول لا يلزمه الإخراج قبل القبض .
الرابعة : لو كان عليه دين من بهيمة الأنعام فلا زكاة لاشتراط السوم فيها ، فإن عينت زكيت لغيرها . وكذا الدية الواجبة ، لا تجب فيها الزكاة ؛ لأنها لم تتعين مالا زكويا ؛ لأن الإبل في الذمة فيها أصل أو أحدها .
تنبيه : شمل قول المصنف : (من صداق أو غيره) القرض ودين عروض التجارة ، وكذا المبيع قبل القبض . جزم به المجد وغيره ، فيزكيه المشتري ، ولو زال ملكه عنه ، أو زال ، أو انفسخ العقد بتلف مطعوم قبل قبضه . ويزكي المبيع بشرط الخيار ، أو في خيار المجلس من حكم له بملكه . ولو فسخ العقد . ويزكي أيضا دين السلم إن كان للتجارة ، ولم يكن أثمانا .
ويزكي أيضا ثمن المبيع ورأس مال السلم قبل قبض عوضهم ، ولو انفسخ العقد . قال في [الفروع] : جزم بذلك جماعة . وقال في [الرعاية] :
وإنما تجب الزكاة في ملك تام مقبوض . وعنه : أو مميز لم يقبض . ثم قال : قلت : وفيما صح تصرف ربه فيه قبل قبضه ، أو ضمنه بتلفه . وفي ثمن المبيع ، ورأس مال المسلم قبل قبض عوضهما ، ودين السلم إن كان للتجارة ولم يكن أثمانا ، وفي المبيع في مدة الخيار قبل القبض ، روايتان .
وللبائع إخراج زكاة مبيع فيه خيار منه ؛ فيبطل البيع في قدره ، وفي قيمته روايتا تفريق الصفقة ، وفي أيهما تقبل .
قوله : (وفي قيمة المخرج وجهان) .
وأطلقهما في [الفروع] ، وابن تميم .
قلت : الصواب قول المخرج .
فأما مبيع غير متعين ولا متميز فيزكيه البائع .
الخامسة : كل دين سقط قبل قبضه ، ولم يتعوض عنه ، تسقط زكاته ، على الصحيح من المذهب . وقيل : هل يزكيه من سقط عنه ؟ يخرج على روايتين . وإن أسقطه ربه زكاه . نص عليه . وهو الصحيح من المذهب ، كالإبراء من الصداق ونحوه .
وقيل : يزكيه المبرأ من الدين ؛ لأنه ملك عليه . وقيل : لا زكاة عليهما . وهو احتمال في الكافي وهو من المفردات .
وإن أخذ ربه عوضا ، أو أحال أو احتال- زاد بعضهم وقلنا : الحوالة وفاء- زكاه . على الصحيح من المذهب كعين وهبها . وعنه زكاة التعويض على الدين .
وقيل في ذلك وفي الإبراء : يزكيه ربه إن قدر وإلا المدين .
السادسة : الصداق في هذه الأحكام كالدين فيما تقدم . على الصحيح من المذهب .
وقيل : سقوطه كله لانفساخ النكاح من جهتها كإسقاطها . وإن زكت صداقها .
قال الزركشي : وقيل : لا ينعقد الحول ؛ لأن الملك فيه غير تام .
وقيل : محل الخلاف فيما قبل الدخول .
هذا إذا كان في الذمة . أما إن كان معينا فإن الحول ينعقد من حين الملك . نص عليه . انتهى . وإن زكت صداقها كله ، ثم تنصف بطلاق ، رجع فيما بقي بكل حقه . على الصحيح من المذهب .
وقيل : إن كان مثليا وإلا فقيمة حقه .
وقيل : يرجع بنصف ما بقي ، ونصف بدل ما أخرجت .
وقيل : يخير بين ذلك ونصف قيمة ما أصدقها يوم العقد أو مثله . ولا تجزيها زكاتها منه بعد طلاقه ؛ لأنه مشترك .
وقيل : بلى عن حقها ، وتغرم له نصف ما أخرجت ، ومتى لم تزكه رجع بنصفه كاملا ، وتزكيه هي . فإن تعذر ، فقال في [الفروع] : يتوجه ، لا يلزم الزوج . وقال في [الرعاية] : يلزمه ، ويرجع عليها إن تعلقت بالعين . وقيل : أو بالذمة .
فائدة : لو وهبت المرأة صداقها لزوجها ، لم تسقط عنها الزكاة . على الصحيح من المذهب . قاله القاضي وغيره . وعنه : تجب على الزوج . وفي [الكافي] احتمال بعدم الوجوب عليها .
قوله : (وفي الدين على غير المليء ، والمؤجل ، والمجحود
والمغصوب ، والضائع ، روايتان) .
وكذا لو كان على مماطل ، أو كان المال مسروقا ، أو موروثا ، أو غيره ، جهله ، أو جهل عند من هو ، وأطلقهما في [الفروع] ، و[الشرح] ، و [الرعايتين] ، و [الحاويين] و[ المستوعب] ، و [المذهب الأحمد] ، و [لمحرر] .
إحداهما : كالدين على المليء ، فتجب الزكاة في ذلك كله إذا قبضه . وهو الصحيح من المذهب . قال في [الفروع] : اختاره الأكثر . وذكره أبو الخطاب ، والمجد ظاهر المذهب . وصححه ابن عقيل ، وأبو الخطاب ، وابن الجوزي ، والمجد في [شرحه] ، وصاحب [الخلاصة] ، و[تصحيح المحرر] . ونصرها أبو المعالي .
وقال : اختارها الخرقي وأبو بكر . وجزم به في [الإيضاح] و [الوجيز] .
وجزم به جماعة في المؤجل ؛ وفاقا للأئمة الثلاثة لصحة الحوالة به والإبراء . وشمله كلام الخرقي . وقطع به في [التلخيص] ، و[المغني] ، و[الشرح] .
والرواية الثانية : لا زكاة فيه بحال . صححها في [التلخيص] وغيره . وجزم به في العمدة في غير المؤجل ورجحها بعضهم ، واختارها ابن شهاب والشيخ تقي الدين . وقدمه [ ابن تميم ] و[الفائق] .
وقيل : تجب في المدفون في داره ، وفي الدين على المعسر والمماطل . وجزم في [الكافي] بوجوبها في وديعة ، جهل عند من هي .
وعليه : ما لا يؤمل رجوعه ؛ كالمسروق المغصوب والمجحود لا
زكاة فيه . وما يؤمل رجوعه كالدين على المفلس أو الغائب المنقطع خبره فيه الزكاة . قال الشيخ تقي الدين : هذه أقرب .
وعنه : إن كان الذي عليه الدين يؤدي زكاته ، فلا زكاة على ربه ، وإلا فعليه الزكاة . نص عليه في المجحود . ذكرهما الزركشي وغيره .
فعلى المذهب : يزكي ذلك كله إذا قبضه لما مضى من السنين . على الصحيح من المذهب ، وعليه الأصحاب ، وجزموا به .
وقال أبو الفرج في [ المبهج ] : إذا قلنا تجب في الدين وقبضه ، فهل يزكيه لما مضى أم لا ؛ على روايتين . قال في [ الفروع ] : ويتوجه ذلك في بقية الصور .
تنبيه : قوله : ( المجحود ) يعني : سواء كان مجحودا باطنا أو ظاهرا أو ظاهرا وباطنا . هذا المذهب . وعليه الأكثر . وقيده في [ المستوعب ] بالمجحود ظاهرا وباطنا . وقال أبو المعالي : ظاهرا .
فوائد :
منها : لو كان بالمجحود بينة ، وقلنا : لا تجب في المجحود . ففيه هنا وجهان . وأطلقهما في [ الفروع ] و [ ابن تميم ] . وقال : ذكرهما القاضي ) .
أحدهما : تجب . وهو الصحيح . جزم به المجد في [ شرحه ] . وقدمه في [ الفائق ] و [ الرعايتين ] و [ الحاويين ] .
الثاني : لا تجب .
ومنها : لو وجبت في نصاب بعضه دين على معسر ، أو غصب أو ضال ونحوه ، ففي وجوب إخراج زكاة ما بيده قبل قبض الدين والغصب
والضال وجهان . وأطلقهما في [ الفروع ] و [ ابن تميم ] .
أحدهما : يجب إخراج زكاة ما بيده . وهو المذهب قدمه في [ الرعايتين ] و [ الحاويين ] . وهو ظاهر ما قدمه المجد في شرحه . فلو كانت إبلا خمسا وعشرين ، منها خمس مغصوبة أو ضالة ، أخرج أربعة أخماس بنت مخاض .
والثاني : لا يجب حتى يقبض ذلك . فعلى هذا الوجه لو كان الدين على مليء ، فوجهان . وأطلقهما في [ الفروع ] و [ ابن تميم ] و [ الرعايتين ] و [ الحاويين ] .
قلت : الصواب وجوب الإخراج .
ومنها : لو قبض شيئا من الدين ، أخرج زكاته ولو لم يبلغ نصابا . على الصحيح من المذهب ، ونص عليه في رواية صالح وأبي طالب وابن منصور . وقال : يخرج زكاته بالحساب ولو أنه درهم . وعليه أكثر الأصحاب . وقدمه في [ الفروع ] والمجد في شرحه . و [ الفائق ] وغيرهم . وقال القاضي في [ المجرد ] وابن عقيل في [ الفصول ] : لا يلزمه ما لم يكن المقبوض نصابا ، أو يصير ما بيده ما يتمم به نصابا .
ومنها : يرجع المغصوب منه على الغاصب بالزكاة لنقصه بيده كتلفه .
ومنها : لو غصب رب المال بأسر أو حبس ، ومنع من التصرف في ماله ، لم تسقط زكاته . على الصحيح من المذهب ؛ لنفوذ تصرفه فيه . وقيل : تسقط .
قوله : ( وقال الخرقي : واللقطة إذا جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها ) .
اللقطة قبل أن يعلم ربها حكمها حكم المال الضائع . على ما تقدم خلافا ومذهبا . وعند الخرقي : أن الزكاة تجب فيها إذا وجدها ربها لحول التعريف . وذكر المصنف الخرقي تأكيدا لوجوب الزكاة فيما ذكره .
فوائد :
إذا ملك الملتقط اللقطة بعد الحول ، استقبل بها حولا وزكاها . على الصحيح من المذهب . نص عليه ، وعليه جماهير الأصحاب . وجزم به الخرقي وغيره . وقدمه في [ الفروع ] وغيره .
وقيل : لا يلزمه ؛ لأنه مدين بها . وحكي عن القاضي لا زكاة فيها ؛ نظرا إلى أنه ملكها مضمونة عليه بمثلها ، أو قيمتها . فهي دين عليه في الحقيقة . انتهى . ولذلك قال ابن عقيل : لكن نظر إلى عدم استقرار الملك فيها . انتهى .
فعلى القول الثاني : لو ملك قدر ما يقابل قدر عوضها زكى . على الصحيح .
وقيل : لا ؛ لعدم استقرار ملكه لها . وتقدم كلام ابن عقيل .
وإذا ملكها الملتقط وزكاها فلا زكاة إذن على ربها . على الصحيح من المذهب . وعنه ، بلى . وهل يزكيها ربها حول التعريف أو بعده ، إذا لم يملكها الملتقط ؟ فيه الروايتان في المال الضال .
وإن لم يملك اللقطة - وقلنا : له أن يتصدق بها - لم يضمن حتى يختار ربها الضمان ، فتثبت حينئذ في ذمته ، كدين تجدد . فإن أخرج الملتقط زكاتها عليه منها ، ثم أخذها ربها ، رجع عليه بما أخرج على الصحيح من
المذهب . وقال القاضي : لا يرجع عليه ، إن قلنا : لا يلزم ربها زكاتها . قال في [ الرعاية ] : لوجوبها على الملتقط إذن (1) .
__________
(1) [ الإنصاف ] ، ( 3 \ 18 ) وما بعدها .
رابعا :
الديون التي على الإنسان هل تمنع وجوب الزكاة
؟الديون التي على الإنسان قد تكون لآدمي ، وقد تكون لله تعالى ، وقد يكون الدين حالا أو مؤجلا .
وفيما يلي نصوص فقهاء الإسلام تبين أقوالهم وأدلتهم مع المناقشة :
1 -
النقل عن الحنفية
أ- قال الكاساني : ومنها : أن لا يكون عليه دين مطالب به من جهة العباد عندنا ، فإن كان فإنه يمنع وجوب الزكاة بقدره ، حالا كان أو مؤجلا . وعند الشافعي : هذا ليس بشرط ، والدين لا يمنع وجوب الزكاة كيفما كان ، احتج الشافعي بعمومات الزكاة من غير فصل ، ولأن سبب وجوب الزكاة ملك النصاب ، وشرطه أن يكون معدا للتجارة أو للإسامة وقد وجد .أما الملك فظاهر ؛ لأن المديون مالك لماله ؛ لأن دين الحر الصحيح يجب في ذمته ولا يتعلق بماله ، ولهذا يملك التصرف فيه كيف شاء . وأما الإعداد للتجارة أو الإسامة ؛ فلأن الدين لا ينافي ذلك ، والدليل عليه أنه لا يمنع وجوب العشر .
( ولنا ) : ما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه خطب في شهر رمضان وقال في خطبته : ألا إن شهر زكاتكم قد حضر ، فمن كان له مال وعليه
دين فليحسب ماله بما عليه ، ثم ليزك بقية ماله . وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم ، فكان ذلك إجماعا منهم على أنه لا تجب الزكاة في القدر المشغول بالدين .
وبه تبين أن مال المديون خارج عن عمومات الزكاة ، ولأنه محتاج إلى هذا المال حاجة أصلية ؛ لأن قضاء الدين من الحوائج الأصلية ، والمال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون مال الزكاة ؛ لأنه لا يتحقق به الغنى ، « ولا صدقة إلا عن ظهر غنى » (1) على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد خرج الجواب عن قوله : إنه وجد سبب الوجوب وشرطه ؛ لأن صفة الغنى مع ذلك شرط ولا يتحقق مع الدين مع ما (2) أن ملكه في النصاب ناقص ، بدليل أن لصاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه أن يأخذه من غير قضاء ولا رضاء .
وعند الشافعي : له ذلك في الجنس وخلاف الجنس وذا آية عدم الملك ، كما في الوديعة والمغصوب . فلأن يكون دليل نقصان الملك أولى .
وأما العشر : فقد روى ابن المبارك عن أبي حنيفة : أن الدين يمنع وجوب العشر فيمنع على هذا الرواية ، وأما على ظاهر الرواية ؛ فلأن العشر مؤنة الأرض النامية كالخراج فلا يعتبر فيه غنى المالك ، ولهذا لا يعتبر فيه أصل الملك عندنا حتى يجب في الأراضي الموقوفة وأرض المكاتب ، بخلاف الزكاة ، فإنه لا بد فيها من غنى المالك ، والغنى لا
__________
(1) صحيح البخاري النفقات (5040),سنن النسائي الزكاة (2534),سنن أبو داود الزكاة (1676),مسند أحمد بن حنبل (2/230),سنن الدارمي الزكاة (1651).
(2) كذا في الأصل . ولعل ( ما ) زائدة ، أو تكون بعد أن .
يجامع الدين ، وعلى هذا يخرج مهر المرأة ، فإنه يمنع وجوب الزكاة عندنا معجلا كان أو مؤجلا ؛ لأنها إذا طالبته يؤاخذ به .
وقال بعض مشايخنا: إن المؤجل لا يمنع ؛ لأنه غير مطالب به عادة ، فأما المعجل فيطالب به عادة فيمنع .
وقال بعضهم : إن كان الزوج على عزم من قضائه يمنع ، وإن لم يكن على عزم القضاء لا يمنع ؛ لأنه لا يعده دينا ، وإنما يؤاخذ المرء بما عنده في الأحكام .
وذكر الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري في الإجارة الطويلة التي تعارفها أهل بخارى أن الزكاة في الأجرة المعجلة تجب على الآجر ؛ لأنه ملكه قبل الفسخ وإن كان يلحقه دين بعد الحول بالفسخ . وقال بعض مشايخنا : إنه يجب على المستأجر أيضا ؛ لأنه يعد ذلك مالا موضوعا عند الآجر .
وقالوا في البيع الذي اعتاده أهل سمرقند وهو بيع الوفاء : إن الزكاة على البائع في ثمنه إن بقي حولا ؛ لأنه ملكه .
وبعض مشايخنا قالوا : يجب أن يلزم المشتري أيضا ؛ لأنه يعده مالا موضوعا عند البائع فيؤاخذ بما عنده .
وقالوا فيمن ضمن الدرك فاستحق المبيع : إنه إن كان في الحول يمنع ؛ لأن المانع قارن الموجب فيمنع الوجوب ، فأما إذا استحق بعد الحول لا يسقط الزكاة ؛ لأنه دين حادث ؛ لأن الوجوب مقتصر على حالة الاستحقاق وإن كان الضمان سببا حتى اعتبر من جميع المال ، وإذا اقتصر وجوب الدين لم يمنع وجوب الزكاة قبله .
وأما نفقة الزوجات فما لم يصر دينا إما بفرض القاضي أو بالتراضي لا يمنع ؛ لأنها تجب شيئا فشيئا ؛ فتسقط إذا لم يوجد قضاء القاضي أو التراضي ، وتمنع إذا فرضت بقضاء القاضي أو بالتراضي لصيرورته دينا .
وكذا نفقة المحارم تمنع إذا فرضها القاضي في مدة قصيرة نحو ما دون الشهر فتصير دينا ، فأما إذا كانت المدة طويلة فلا تصير دينا ، بل تسقط ؛ لأنها صلة محضة ، بخلاف نفقة الزوجات .
إلا أن القاضي يضطر إلى الفرض في الجملة في نفقة المحارم أيضا لكن الضرورة ترتفع بأدنى المدة .
وقال بعض مشايخنا : إن نفقة المحارم تصير دينا أيضا بالتراضي في المدة اليسيرة .
وقالوا : دين الخراج يمنع وجوب الزكاة ؛ لأنه مطالب به . وكذا إذا صار العشر دينا في ذمته بأن أتلف الطعام العشري صاحبه .
فأما وجوب العشر فلا يمنع ؛ لأنه متعلق بالطعام يبقى ببقائه ويهلك بهلاكه ، والطعام ليس مال التجارة حتى يصير مستحقا بالدين .
وأما الزكاة الواجبة في النصاب أو دين الزكاة بأن أتلف مال الزكاة حتى انتقل من العين إلى الذمة - فكل ذلك يمنع وجوب الزكاة في قول أبي حنيفة ومحمد ، سواء كان في الأموال الظاهرة أو الباطنة .
وقال زفر : لا يمنع كلاهما .
وقال أبو يوسف : وجوب الزكاة في النصاب يمنع ، فأما دين الزكاة فلا يمنع .
هكذا ذكر الكرخي قول زفر ولم يفصل بين الأموال الظاهرة والباطنة .
وذكر القاضي في شرحه [ مختصر الطحاوي ] : أن هذا مذهبه في الأموال الباطنة من الذهب والفضة ، وأموال التجارة .
ووجه هذا القول ظاهر ؛ لأن الأموال الباطنة لا يطالب الإمام بزكاتها ، فلم يكن لزكاتها مطالب من جهة العباد ، سواء كانت في العين أو في الذمة ، فلا يمنع وجوب الزكاة ، كديون الله تعالى من الكفارات والنذور وغيرها ، بخلاف الأموال الظاهرة ؛ لأن الإمام يطالب بزكاتها .
وأما وجه قوله الآخر فهو : أن الزكاة قربة ، فلا يمنع وجوب الزكاة ، كدين النذور والكفارات .
ولأبي يوسف : الفرق بين وجوب الزكاة وبين دينها هو : أن دين الزكاة في الذمة لا يتعلق بالنصاب ، فلا يمنع الوجوب ؛ كدين الكفارات والنذور .
وأما وجوب الزكاة فمتعلق بالنصاب ، إذ الواجب جزء من النصاب ، واستحقاق جزء من النصاب يوجب النصاب ؛ إذ المستحق كالمصروف . وحكي أنه قيل لأبي يوسف : ما حجتك على زفر ؟ فقال : ما حجتي على من يوجب في مائتي درهم أربعمائة درهم ؟ ! والأمر على ما قاله أبو يوسف ؛ لأنه إذا كان له مائتا درهم فلم يؤد زكاتها سنين كثيرة ، يؤدي إيجاب الزكاة في المال أكثر منه بأضعافه وأنه قبيح .
ولأبي حنيفة ومحمد : أن كل ذلك دين مطالب به من جهة العباد .
أما زكاة السوائم فلأنها يطالب بها من جهة السلطان عينا كان أو دينا ؛ ولهذا يستحلف إذا أنكر الحول ، أو أنكر كونه للتجارة أو ما أشبه ذلك ،
فصار بمنزلة ديون العباد . وأما زكاة التجارة فمطالب بها أيضا تقديرا ؛ لأن حق الأخذ للسلطان .
وكان يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى زمن عثمان رضي الله عنه . فلما كثرت الأموال في زمانه وعلم أن في تتبعها زيادة ضرر بأربابها رأى المصلحة في أن يفوض الأداء إلى أربابها بإجماع الصحابة ، فصار أرباب الأموال كالوكلاء عن الإمام . ألا ترى أنه قال : من كان عليه دين فليؤده وليترك ما بقي من ماله .
فهذا توكيل لأرباب الأموال بإخراج الزكاة ، فلا يبطل حق الإمام عن الأخذ ؛ ولهذا قال أصحابنا : إن الإمام إذا علم من أهل بلدة أنهم يتركون أداء الزكاة من الأموال الباطنة فإنه يطالبهم بها ، لكن إذا أراد الإمام أن يأخذها بنفسه من غير تهمة الترك من أربابها ليس له ذلك؛ لما فيه من مخالفة إجماع الصحابة رضي الله عنهم .
وبيان ذلك : أنه إذا كان لرجل مائتا درهم أو عشرون مثقال ذهب فلم يؤد زكاته سنتين يزكي السنة الأولى وليس عليه للسنة الثانية شيء عند أصحابنا الثلاثة .
وعند زفر : يؤدي زكاة سنتين ، وكذا هذا في مال التجارة ، وكذا في السوائم إذا كان له خمس من الإبل السائمة مضى عليها سنتان ولم يؤد زكاتها - أنه يؤدي زكاة السنة الأولى ، وذلك شاة ، ولا شيء عليه للسنة الثانية .
ولو كانت عشرا وحال عليها حولان ، يجب للسنة الأولى شاتان ، وللثانية شاة .
ولو كانت الإبل خمسا وعشرين يجب للسنة الأولى بنت مخاض ، وللسنة الثانية أربع شياه ، ولو كان له ثلاثون من البقر السوائم يجب للسنة الأولى تبيع أو تبيعة ، ولا شيء للسنة الثانية .
وإن كانت أربعين يجب للسنة الأولى مسنة ، وللثانية تبيع أو تبيعة وإن كان له أربعون من الغنم عليه للسنة الأولى شاة ، ولا شيء للسنة الثانية . وإن كانت مائة وإحدى وعشرين عليه للسنة الأولى شاتان ، وللسنة الثانية شاة .
ولو لحقه دين مطالب به من جهة العباد في خلال الحول ، هل ينقطع حكم الحول ؟ قال أبو يوسف : لا ينقطع ، حتى إذا سقط بالقضاء أو بالإبراء قبل تمام الحول تلزمه الزكاة إذا تم الحول .
وقال زفر : ينقطع الحول بلحوق الدين . والمسألة مبنية على نقصان النصاب في خلال الحول؛ لأن بالدين ينعدم كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية ؛ فتنعدم صفة الغنى في المالك ، فكان نظير نقصان النصاب في أثناء الحول .
وعندنا نقصان النصاب في خلال الحول : لا يقطع الحول ، وعند زفر : يقطع على ما نذكر ، فهذا مثله . وأما الديون التي لا مطالب لها من جهة العبادات كالنذور والكفارات وصدقة الفطر ووجوب الحج ونحوها لا يمنع وجوب الزكاة ؛ لأن أثرها في حق أحكام الآخرة وهو الثواب بالأداء والإثم بالترك فأما لا أثر له في أحكام الدنيا ، ألا ترى أنه لا يجبر ولا يحبس فلا يظهر في حق حكم من أحكام الدنيا فكانت ملحقة بالعدم في حق أحكام الدنيا .
ثم إذا كان على الرجل دين وله مال الزكاة وغيره من عبيد الخدمة وثياب البذلة ودور السكنى فإن الدين يصرف إلى مال الزكاة عندنا سواء كان من جنس الدين أو لا ، ولا يصرف إلى غير مال الزكاة وإن كان من جنس الدين .
وقال زفر : يصرف الدين إلى الجنس وإن لم يكن مال الزكاة ، حتى إنه لو تزوج امرأة على خادم بغير عينه وله مائتا درهم وخادم فدين المهر يصرف إلى المائتين دون الخادم عندنا ، وعنده يصرف إلى الخادم .
وجه قول زفر : أن قضاء الدين من الجنس أيسر؛ فكان الصرف إليه أولى .
ولنا : أن عين مال الزكاة مستحق كسائر الحوائج ، ومال الزكاة فاضل عنها ، فكان الصرف إليه أيسر وأنظر بأرباب الأموال ، لهذا لا يصرف إلى ثياب بدنه وقوته وقوت عياله ، وإن كان من جنس الدين لما قلنا .
وذكر محمد في الأصل : أرأيت لو تصدق عليه لم يكن موضعا للصدقة .
ومعنى هذا الكلام : أن مال الزكاة مشغول بحاجة الدين ؛ فكان ملحقا بالعدم ، وملك الدار والخادم لا يحرم عليه أخذ الصدقة ، فكان فقيرا ، ولا زكاة على الفقير .
ولو كان في يده من أموال الزكاة أنواع مختلفة من الدراهم والدنانير وأموال التجارة والسوائم ، فإنه يصرف الدين إلى الدراهم والدنانير وأموال التجارة دون السوائم ؛ لأن زكاة هذه الجملة يؤديها أرباب الأموال ، وزكاة السوائم يأخذها الإمام ، وربما يقصرون في الصرف إلى الفقراء ظنا بما
لهم ، فكان صرف الدين إلى الأموال الباطنة ليأخذ السلطان زكاة السوائم نظرا للفقراء ، وهذا أيضا عندنا .
وعلى قول زفر : يصرف الدين إلى الجنس وإن كان من السوائم ، حتى إن من تزوج امرأة على خمس من الإبل السائمة بغير أعيانها وله أموال التجارة وإبل سائمة - فإن عنده يصرف المهر إلى الإبل ، وعندنا يصرف إلى مال التجارة لما مر .
وذكر الشيخ الإمام السرخسي : أن هذا إذا حضر المصدق ، فإن لم يحضر فالخيار لصاحب المال ، إن شاء صرف الدين إلى السائمة وأدى الزكاة من الدراهم ، وإن شاء صرف الدين إلى الدراهم وأدى الزكاة من السائمة ؛ لأن في حق صاحب المال هما سواء لا يختلف ، وإنما الاختلاف في حق المصدق ، فإن له ولاية أخذ الزكاة من السائمة دون الدراهم؛ فلهذا إذا حضر صرف الدين إلى الدراهم وأخذ الزكاة من السائمة .
فأما إذا لم يكن له مال الزكاة سوى السوائم فإن الدين يصرف إليها ولا يصرف إلى أموال البذلة لما ذكرنا .
ثم ينظر إن كان له أنواع مختلفة من السوائم ، فإن الدين يصرف إلى أقلها زكاة حتى يجب الأكثر نظرا للفقراء ، بأن كان له خمس من الإبل وثلاثون من البقر وأربعون شاة ، فإن الدين يصرف إلى الإبل أو الغنم دون البقر حتى يجب التبيع ؛ لأنه أكثر قيمة من الشاة . وهذا إذا صرف الدين إلى الإبل والغنم بحيث لا يفضل شيء منه ، فأما إذا استغرق أحدهما وفضل منه شيء وإن صرف إلى البقر لا يفضل منه شيء - فإنه
يصرف إلى البقر ؛ لأنه إذا فضل شيء منه يصرف إلى الغنم فانتقص النصاب بسبب الدين فامتنع وجوب شاتين .
ولو صرف إلى البقر وامتنع وجوب التبيع تجب الشاتان ؛ لأنه لو صرف الدين إلى الغنم يبقى نصاب الإبل السائمة كاملا ، والتبيع أقل قيمة من شاتين ، ولو لم يكن له إلا الإبل والغنم .
ذكر في [ الجامع ] : أن لصاحب المال أن يصرف الدين إلى أيهما شاء ، لاستوائهما في قدر الواجب ، وهو الشاة .
وذكر في نوادر الزكاة أن للمصدق أن يأخذ الزكاة من الإبل دون الغنم ؛ لأن الشاة الواجبة في الإبل ليست من نفس النصاب؛ فلا ينتقص النصاب بأخذها . ولو صرف الدين إلى الإبل يأخذ الشاة من الأربعين فينتقص النصاب فكان هذا أنفع للفقراء .
ولو كان له خمس وعشرون من الإبل وثلاثون بقرا وأربعون شاة ، فإن كان الدين لا يفضل عن الغنم يصرف إلى الشاة ؛ لأنه أقل زكاة ، فإن فضل منه ينظر إن كان بنت مخاض وسط أقل قيمة من الشاة وتبيع وسط يصرف إلى الإبل ، وإن كان أكثر قيمة منها يصرف إلى الغنم والبقر ؛ لأن هذا أنفع للفقراء ، فالمدار على هذا الحرف .
فأما إذا لم يكن له مال للزكاة فإنه يصرف الدين إلى عروض البذلة والمهنة أولا ثم إلى العقار ؛ لأن الملك مما يستحدث في العروض ساعة فساعة ، فأما العقار فمما لا يستحدث فيه الملك غالبا ؛ فكان فيه مراعاة
النظر لهما جميعا . والله أعلم (1) .
ب- قال الزيلعي : وأما كونه فارغا عن الدين وعن حاجته الأصلية ؛ كدور السكنى وثياب البذلة وأثاث المنازل وآلات المحترفين وكتب الفسقة لأهلها ، فلأن المشغول بالحاجة الأصلية كالمعدوم ؛ ولهذا يجوز التيمم مع الماء المستحق بالعطش .
وقال الشافعي في الجديد : الدين لا يمنع وجوب الزكاة للعمومات ، والحجة عليه ما رويناه ، وهو قول عثمان بن عفان وابن عباس وابن عمر ، وكفى بهم قدوة ، وكان عثمان رضي الله عنه يقول : ( هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تخلص أمواله فيؤدي منها الزكاة ) بمحضر من الصحابة من غير نكير ، فكان إجماعا ، ولأن الزكاة تجب على الغني لإغناء الفقير ، ولا يتحقق الغنى بالمال المستقرض ما لم يقضه ، ولأن ملكه ناقص حيث كان للغريم أن يأخذه إذا ظفر بجنس حقه ، فصار كمال المكاتب ، ولا يلزم على هذا الموهوب له حيث تجب عليه الزكاة وإن كان للواهب أن يرجع فيه ؛ لأنه ليس له أن يأخذه إلا بقضاء القاضي أو برضا الموهوب له ، فلا يصح رجوعه بدونهما .
وفيما قال الشافعي : يلزم تزكية مال واحد في سنة واحدة مرارا بأن كان لرجل عبد يساوي ألفا فباعه من آخر بدين ثم باعه الآخر كذلك حتى تداولته عشرة أنفس مثلا فحال عليه الحول ، يجب على كل واحد منهم زكاة ألف ، والمال في الحقيقة واحد حتى لو فسخت البياعات بعيب
__________
(1) [ بدائع الصنائع ] ( 2 \ 6 ) وما بعدها .
رجع إلى الأول فلم يبق لهم شيء . ولا فرق في الدين بين المؤجل والحال .
والمراد بالدين : دين له مطالب من جهة العباد حتى لا يمنع دين النذر والكفارة ، ودين الزكاة مانع حال بقاء النصاب ؛ لأنه ينتقص به النصاب ، وكذا بعد الاستهلاك ، خلافا لزفر رحمه الله فيهما ، ولأبي يوسف في الثاني ؛ لأنه مطالب به من جهة الإمام في الأموال الظاهرة ، ومن جهة نوابه في الباطنة ؛ لأن الملاك نوابه ، فإن الإمام كان يأخذها إلى زمن عثمان رضي الله عنه ، وهو فوضها إلى أربابها في الأموال الباطنة ، قطعا لطمع الظلمة فيها ، فكان ذلك توكيلا منه لأربابها .
وقيل لأبي يوسف : ما حجتك على زفر ؛ فقال : ما حجتي على رجل يوجب في مائتي درهم أربعمائة درهم ؟ ! ومراده إذا كان لرجل مائتا درهم وحال عليها ثمانون حولا .
ولو طرأ الدين في خلال الحول يمنع وجوب الزكاة عند محمد ، كهلاك النصاب كله ، وعند أبي يوسف لا يمنع ، كنقصان النصاب في أثناء الحول ، ثم لا فرق بين أن يكون الدين بطريق الكفالة والأصالة حتى لا تجب عليهما الزكاة ، بخلاف الغاصب وغاصب الغاصب ، حيث تجب على الغاصب في ماله دون غاصب الغاصب ، والفرق أن الأصيل والكفيل كل واحد منهما مطالب به ؛ أما الغاصبان فكل واحد منهما غير مطالب به ، بل أحدهما .
وإن كان ماله أكثر من الدين زكى الفاضل إذا بلغ نصابا بالفراغة عن الدين ، وإن كان له نصب يصرف الدين إلى أيسرها قضاء .
مثاله : إذا كان له دراهم ودنانير وعروض التجارة وسوائم من الإبل ومن البقر والغنم وعليه دين ، فإن كان يستغرق الجميع فلا زكاة عليه ، وإن لم يستغرق صرف إلى الدراهم والدنانير أولا ، إذ القضاء منهما أيسر ؛ لأنه لا يحتاج إلى بيعهما ، ولأنه لا تتعلق المصلحة بعينهما ، ولأنهما لقضاء الحوائج وقضاء الدين منها ، ولأن للقاضي أن يقضي الدين منهما جبرا ، وكذا للغريم أن يأخذ منهما إذا ظفر بهما وهما من جنس حقه ، فإن فضل عنهما الدين أو لم يكن له منهما شيء ، صرف إلى العروض ؛ لأنهما عرضة للبيع ، بخلاف السوائم ؛ لأنها للنسل والدر والقنية ، فإن لم يكن له عروض أو فضل الدين عنها صرف إلى السوائم ، فإن كانت السوائم أجناسا صرف إلى أقلها زكاة نظرا للفقراء ، وإن كان له أربعون شاة وخمس من الإبل يخير لاستوائهما في الواجب ، وقيل : يصرف إلى الغنم لتجب الزكاة في الإبل في العام القابل (1) .
__________
(1) [ تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ] ( 1 \ 253 ) وما بعدها .
2 -
النقل عن المالكية
أ- جاء في [ المدونة ] تحت عنوان ( زكاة المديان ) : ( قلت ) : أرأيت الرجل تكون له الدنانير فيحول عليها الحول وهي عشرون دينارا ، وعليه دين وله عروض ، أين يجعل دينه ؟( فقال ) : في عروضه ، فإن كانت وفاء دينه زكى هذه العشرين الناضة التي حال عليها الحول عنده .
( قلت ) : أرأيت إن كانت عروضه ثياب جسده وثوبي جمعته وسلاحه
وخاتمه وسرجه وخادما تخدمه ودارا يسكنها .
( فقال ) : أما خادمه وداره وسلاحه وسرجه وخاتمه فهي عروض يكون الدين فيها ، فإن كان فيها وفاء الدين زكى العشرين التي عنده ، قال : وهو قول مالك وأصل هذا لما جعلنا من قول مالك أنه ما كان للسلطان أن يبيعه في دينه فإنه يجعل دينه في ذلك ، ثم يزكي ما كان عنده بعد ذلك من ناض ، وإذا كان على الرجل الدين ، فإن السلطان يبيع داره وعروضه كلها ، ما كان من خادم أو سلاح أو غير ذلك ، إلا ما كان من ثياب جسده مما لا بد له منه ، ويترك له ما يعيش به هو وأهله الأيام . ( قلت ) : أرأيت ثوبي جمعته أيبيع عليه السلطان ذلك في دينه ؟
( فقال ) : إن كانا ليس لهما تلك القيمة فلا يبيعهما ، وإن كان لهما قيمة باعهما .
( قلت ) : أتحفظ هذا عن مالك ؟ فقال : لا ، ولكن هذا رأيي .
( قلت ) : أرأيت من له مال ناض وعليه من الدين مثل هذا المال الناض الذي عنده وله مدبرون قيمتهم أو قيمة خدمتهم مثل الدين الذي عليه ؟
( فقال ) : يجعل الدين الذي عليه في قيمة المدبرين .
( قلت ) : قيمة رقابهم أم قيمة خدمتهم .
( فقال ) : قيمة رقابهم ويزكي الدنانير الناضة التي عنده .
( قلت ) : وهذا قول مالك ؟ قال : هذا رأيي .
( قلت ) : فإن كانت له دنانير ناضة وعليه من الدين مثل الدنانير وله مكاتبون ، فقال : ينظر إلى قيمة الكتابة .
( قلت ) : وكيف ينظر إلى قيمة الكتابة ؟
( فقال ) : يقال : ما قيمة ما على هذا المكاتب من هذه النجوم على محلها بالعاجل من العروض ثم يقال : ما قيمة هذه العروض بالنقد ؛ لأن ما على المكاتب لا يصلح أن يباع إلا بالعرض ، إذا كان دنانير أو دراهم فينظر إلى قيمة المكاتب الآن بعد التقويم ، فيجعل دينه فيه ؛ لأنه مال له لو شاء أن يتعجله تعجله ، وذلك أنه لو شاء أن يبيع ما على المكاتب بما وصفت لك فعل ، فإذا جعل دينه في قيمة ما على المكاتب زكى ما في يديه من الناض إن كانت قيمة ما على المكاتب مثل الدين الذي عليه . ( قال ) : وكانت الدنانير التي في يديه هذه الناضة تجب فيها الزكاة ، فإن كانت قيمة ما على المكاتب أقل مما عليه من الدين جعل فضل دينه فيما في يديه من الناض ، ثم ينظر إلى ما بقي بعد ذلك ، فإن كان ذلك مما تجب فيه الزكاة زكاه ، وإن كان مما لا تجب فيه الزكاة لم يكن عليه فيها شيء .
( قلت ) : وهذا قول مالك في هذه المسألة في المكاتب .
( فقال ) : لم أسمع منه هذا كله ، ولكن قال مالك : لو أن رجلا كانت له مائة دينار في يديه ، وعليه دين مائة دينار ، وله مائة دينار دينا ، رأيت أن يزكي المائة الناضة التي في يديه ، ورأيت ما عليه من الدين في الدين الذي له إن كان دينا يرتجيه وهو على مليء .
( قلت ) : فإن لم يكن يرتجيه ؟
( قال ) : لا يزكيه فمسألة المكاتب عندي على مثل هذا ؛ لأن كتابة المكاتب في قول مالك لو أراد أن يبيع ذلك بعرض مخالف لما عليه كان
ذلك له وهو مال للسيد كأنه عرض في يديه لو شاء أن يبيعه باعه . ( قلت ) : أرأيت إن كان عليه دين وله عبيد قد أبقوا وفي يديه مال ناض ، أيقوم العبيد الأباق فيجعل الدين فيهم ؟ قال : لا .
( قلت ) : لم ؟ قال : لأن الأباق لا يصلح بيعهم ولا يكون دينه فيهم . ( قلت ) : أتحفظ هذا عن مالك ؟ قال : لا ، ولكن هذا رأيي .
( قلت ) : فما فرق ما بين الماشية والثمار والحبوب والدنانير في الزكاة ؟
( فقال ) : لأن السنة إنما جاءت في الضمار ، وهو المال المحبوس في العين ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز كانوا يبعثون الخراص في وقت الثمار فيخرصون على الناس لإحصاء الزكاة ، ولما للناس في ذلك من تعجيل منافعهم بثمارهم الأكل والبيع وغير ذلك ، ولا يؤمرون فيه بقضاء ما عليهم من دين ليحصل أموالهم ، وكذلك السعاة يبعثونهم فيأخذون من الناس مما وجدوا في أيديهم ولا يسألونهم عن شيء من الدين ، وقد قال أبو الزناد : كان من أدركت من فقهاء المدينة وعلمائهم ممن يرضى وينتهي إلى قولهم ، منهم : سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله وسليمان بن يسار في مشيخة سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل ، وربما اختلفوا في الشيء فأخذ يقول أكثرهم أنهم كانوا يقولون : لا يصدق المصدق إلا ما أتى عليه ، لا ينظر إلى غير ذلك .
( وقال ) أبو الزناد : وهي السنة . قال أبو الزناد : وإن عمر بن عبد العزيز ومن قبله من الفقهاء يقولون ذلك .
( قال ) ابن وهب : وقد كان عثمان بن عفان يصيح في الناس : هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقضه حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة . فكان الرجل يحصي دينه ثم يؤدي مما بقي في يديه إن كان ما بقي تجب فيه الزكاة .
( قال ) ابن مهدي : عن أبي عبد الرحمن عن طلحة بن النضر قال : سمعت محمد بن سيرين يقول : كانوا لا يرصدون الثمار في الدين وينبغي للعين أن ترصد في الدين . ( قال ) ابن مهدي : عن حماد بن يزيد عن أيوب عن محمد بن سيرين قال : كان المصدق يجيء فأينما رأى زرعا أو إبلا قائمة أو غنما قائمة أخذ منها الصدقة . ( قلت ) : أرأيت لو أن رجلا كانت في يديه مائة دينار ناضة فحال عليها الحول وعليه مائة دينار مهر لامرأته أيكون عليه فيما في يديه الزكاة ؛ فقال : لا .
( قلت ) : وهو قول مالك . فقال : قال لي مالك : إذا أفلس زوجها حاصت الغرماء ، فإن مات زوجها حاصت الغرماء فهو دين ، وهذا مثله .
( قلت ) : أرأيت لو أن رجلا كانت عنده مائة دينار فحال عليها الحول وعليه زكاة قد كان فرط فيها لم يؤدها من زكاة المال والماشية وما أنبتت الأرض ، أيكون عليه فيما في يديه الزكاة ؟
( فقال ) : لا يكون عليه فيما في يديه الزكاة إلا أن يبقى في يديه بعد أن يؤدي ما كان فرط فيه من الزكاة ما تجب فيه الزكاة عشرون دينارا فصاعدا ، فإن بقي في يديه عشرون دينارا فصاعدا زكاه .
( قلت ) : وهذا قول مالك . فقال : هذا رأيي ؛ وذلك ؛ لأن مالكا قال لي في الزكاة : إذا فرط فيها الرجل ضمنها ، وإن أحاطت بماله فهذا عندي مثله .
( قلت ) : أرأيت رجلا له عشرون دينارا قد حال عليها الحول وعليه عشرة دراهم لامرأته نفقة شهر قد كان فرضها عليه القاضي قبل أن يحول الحول بشهر .
( فقال ) : يجعل نفقة المرأة في هذه العشرين الدينار ، فإذا انحطت فلا زكاة عليه فيها .
( قلت ) : أرأيت إن لم يكن فرض لها القاضي ولكنها أنفقت على نفسها شهرا قبل الحول ثم تبعته بنفقة الشهر وعند الزوج هذه العشرون الدينار . فقال : تأخذ نفقتها ولا يكون على الزوج فيها زكاة .
( قلت ) : ويلزم الزوج ما أنفقت من مالها وإن لم يفرض لها القاضي .
( فقال ) : نعم ، إذا كان الزوج موسرا ، فإن كان غير موسر فلا يضمن لها ما أنفقت ، فمسألتك أنها أنفقت وعند الزوج عشرون دينارا ، فالزوج يتبع بما أنفقت يقضى لها عليه بما أنفقت من مالها فإذا قضى لها بذلك عليه حطت العشرون الدينار إلى ما لا زكاة فيها فلا يكون عليه زكاة .
( قلت ) : وهذا قول مالك .
( قال ) : قال مالك : أيما امرأة أنفقت على نفسها وزوجها في حضر أو في سفر وهو موسر ، فما أنفقت فهو في مال الزوج إن اتبعته على ما أحب أو كره الزوج مضمونا عليه . فلما اتبعته به كان ذلك دينا عليه ، فجعلته في هذه العشرين فبطلت الزكاة عنه .
( قلت ) : أرأيت إن كانت هذه النفقة التي على هذا الزوج الذي وصفت لك إنما هي نفقة والدين أو ولد . فقال : لا تكون نفقة الوالدين والولد دينا أبطل به الزكاة عن الرجل ؛ لأن الوالدين والولد إنما تلزم النفقة لهم إذا ابتغوا ذلك ، وإن أنفقوا ثم طلبوه بما أنفقوا لم يلزمه ما أنفقوا وإن كان موسرا ، والمرأة تلزمه ما أنفقت قبل أن تطلبه بالنفقة إن كان موسرا .
( قلت ) : فإن كان القاضي قد فرض للأبوين نفقة معلومة فلم يعطهما ذلك شهرا وحال الحول عليها عند هذا الرجل بعد هذا الشهر ، أتجعل نفقة الأبوين ههنا دينا فيما في يديه إذا قضى به القاضي . قال : لا .
( قال ) أشهب : أحط عنه به الزكاة وألزمه ذلك إذا قضى به القاضي عليه في الأبوين ؛ لأن النفقة لهما إنما تكون إذا طلبا ذلك ، ولا يشبهان الولد ، ويرجع على الأب بما تداين به الولد ، أو أنفق عليه إذا كان موسرا ، ويحط بذلك عنه الزكاة ، كانت بفريضة من القاضي أو لم تكن ؛ لأن الولد لم تسقط نفقتهم عن الوالد إذا كان له مال من أول ما كانوا حتى يبلغوا ، والوالدين قد كانت نفقتهما ساقطة فإنما ترجع نفقتهما بالقضية ، والحكم من السلطان . والله أعلم .
( قلت ) لابن القاسم : أرأيت رجلا كانت عنده دنانير قد حال عليها الحول تجب فيها الزكاة وعليه إجارة أجراء قد عملوا عنده قبل أن يحول على ما عنده الحول ، أو كراء إبل أو دواب ، أيجعل ذلك الكراء والإجارة فيما في يديه من الناض ثم يزكي ما بقي ؟
( فقال ) : نعم إذا لم يكن له عروض .
( قلت ) : وهذا قول مالك ؟ قال : نعم .
( قال ) : وسألت مالكا عن العامل إذا عمل بالمال قراضا سنة فربح ربحا وعلى العامل المقارض دين فاقتسماه بعد الحول ، وأخذ العامل ربحه ، هل ترى على العامل في حظه زكاة وعليه دين ؟
( فقال ) : لا إلا أن تكون له عروض فيها وفاء بدينه ، فيكون دينه في العروض ويكون في ربحه هذا الزكاة . قال : فإن لم تكن له عروض فلا زكاة عليه في ربحه إذا كان الدين يحيط بربحه كله ، وقال غيره : فيه الزكاة .
( قال ) ابن وهب وسفيان بن عيينة : إن ابن شهاب حدثهما عن السائب بن يزيد أن عثمان بن عفان كان يقول : هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة .
( قال ) أشهب : عن ابن لهيعة عن عقيل عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد قال : سمعت عثمان بن عفان على المنبر وهو يقول : هذا شهر زكاتكم الذي تؤدون فيه زكاتكم فمن كان عليه دين فليقض في دينه ، فإن فضل عنده ما تجب فيه الزكاة فليؤد زكاته ، ثم ليس عليه شيء حتى يحول عليه الحول .
( قال ) ابن القاسم وابن وهب وأشهب : عن مالك أن يزيد بن خصيفة حدثه أنه سأل سليمان بن يسار عن رجل له مال وعليه دين مثله أعليه زكاة ؟ قال : لا .
( قال ) ابن وهب : وأخبرني غير واحد عن ابن شهاب ونافع مثل قول سليمان بن يسار .
( قال ) ابن مهدي : عن أبي الحسن عن عمرو بن حزم قال : سئل جابر بن يزيد عن الرجل يصيب الدراهم وعليه دين أكثر منها . فقال : لا زكاة عليه حتى يقضي دينه (1) .
ب- قال ابن رشد - الجد - تحت ترجمة ( في تقسيم الديون التي تسقط الزكاة ) : والديون التي تسقط زكاة العين تنقسم عند ابن القاسم على ثلاثة أقسام :
قسم منها يسقط الزكاة ، وهو دين الزكاة ، كانت له عروض تفي به أو لم تكن ، مرت به سنة من يوم استدانه : مثل : أن يكون له عشرون دينارا فيحول عليها الحول فلا يخرج زكاتها ويمسكها حتى يحول عليها حول آخر فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من أجل الدين الذي عليه من زكاة العام الأول ، أو لم تمر به سنة من يوم استدانه : مثل : أن يفيد عشرين دينارا فتقيم عنده عشرة أشهر ثم يفيد عشرين أخرى فيحول حول العشرين الأولى فلا يزكيها وينفقها أو تتلف ثم يحول الحول على العشرين الأخرى فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من أجل الدين الذي عليه من زكاة الفائدة الأولى .
وقسم منها يسقط الزكاة ، مرت به سنة من يوم استدانه أو لم تمر ، إلا أن تكون له عروض تفي به يجعل الدين فيها ، وهو ما استدانه في غير ما بيده من مال الزكاة .
وقسم (2) يسقط الزكاة إن لم تمر به سنة من يوم استدانه ، كانت له
__________
(1) المدونة ، ومعها ( المقدمات ) ( 1 \ 234 ) .
(2) في طبعة ( دار الغرب الإسلامي ) : ( وقسم لا يسقط الزكاة ) . قال المحقق في الهامش : ( في المطبوعتين : ( وقسم يسقط الزكاة ) وهو بتر مفسد للمعنى ) ا . هـ . ( 1 \ 280 ) .
عروض أو لم تكن ، ويسقطها إن مرت به سنة من يوم استدانه ، إلا أن تكون له عروض يجعله فيها ، وهو ما استدانه فيما بيده من مال الزكاة ، كان الدين من سلف أو مبايعة .
فكونه من سلف : هو مثل أن تكون له عشرة دنانير فيتسلف عشرة أخرى ويتجر بالعشرين حولا ، فهذا يزكي العشرين إن كانت له عروض تفي بالعشرة التي عليه دينا من السلف ، فإن بقيت العشرة التي بيده عشرة أشهر فتسلف عشرة أخرى فتجر في العشرين إلى تمام الحول لم يجب عليه زكاتها ، وإن كان له من العروض ما يفي بالعشرة التي عليه من السلف حتى يحول الحول عليه من يوم تسلفها . وكونه من مبايعة : هو مثل أن تكون له عشرة دنانير فيأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة ، فتجر بالعشرين حولا فإنه يزكي العشرين إن كانت له عروض تفي بالعشرة التي عليه من السلم ، ولو بقيت العشرة التي له بيده عشرة أشهر فأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة فتجر في العشرين إلى تمام الحول لم يجب عليه زكاتها وإن كان له من العروض ما يفي بالدين الذي عليه من السلم حتى يحول الحول من يوم أخذ العشرة دنانير في السلم .
وأشهب يساوي بين دين الزكاة وغير الزكاة ، فالدين ينقسم في هذا عنده على قسمين . وقد قيل : إن الدين يسقط الزكاة العين على كل مال وفي كل دين ، وإن كانت له عروض لم يجعله فيها على ظاهر حديث
عثمان بن عفان المذكور ، إذ لم يفرق فيه بين دين الزكاة من غيره ، ولا شرط عدمه للعروض . وبالله التوفيق (1) .
وقال أيضا تحت عنوان : ( زكاة الديون ) : الدين لا يسقط زكاة ما عدا العين من الأموال التي تجب فيها الزكاة .
والدليل على ذلك : أن الله تبارك وتعالى قال : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } (2) وقال : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } (3) فعم ولم يخص من عليه دين ممن لا دين عليه في مال من الأموال ، والعموم محتمل للخصوص ، فخصص أهل العلم من ذلك من عليه دين في المال العين بإجماع الصحابة على ذلك ، بدليل ما روي أن عثمان بن عفان كان يصيح في الناس : يا أيها الناس ، هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى يحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة . وبقي ما سوى ذلك على العموم ، فلا يسقط الدين زكاة الحرث ولا الماشية ، وكذلك زكاة الفطر عن العبد على الصحيح من الأقوال ، وهو قول ابن وهب عن مالك خلاف ظاهر ما في المدونة ، ونص ما في كتاب ابن المواز .
وقد فرق أيضا بين العين وغيرها في وجوب إسقاط الدين بتفاريق من جهة المعنى لا تخلص من الاعتراض ، وقد يحتمل أن يكون حذر عنها
__________
(1) المقدمات ، ومعها [ المدونة ] ( 1 \ 219 ) وما بعدها .
(2) سورة التوبة الآية 103
(3) سورة الأنعام الآية 141
الإجماع . وبالله التوفيق (1) .
ج- قال ابن رشد الحفيد : وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة فإنهم اختلفوا في ذلك ، فقال قوم : لا زكاة في مال حبا كان أو غيره حتى تخرج منه الديون ، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زكي وإلا فلا .
وبه قال الثوري وأبو ثور وابن المبارك وجماعة .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : الدين لا يمنع زكاة الحبوب ويمنع ما سواها .
وقال مالك : الدين يمنع زكاة الناض فقط إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع ، وقال قوم بمقابل القول الأول ، وهو أن الدين لا يمنع زكاة أصلا . والسبب في اختلافهم : اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين ؟
فمن رأى أنها حق لهم قال : لا زكاة في مال من عليه الدين ؛ لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين ، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين لا الذي بيده . ومن قال : هي عبادة ، قال : تجب على من بيده مال ؛ لأن ذلك هو شرط التكليف وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف ، سواء كان عليه دين أو لم يكن ، وأيضا فإنه قد تعارض هناك حقان : حق لله وحق للآدمي ، وحق الله أحق أن يقضى ، والأشبه بغرض
__________
(1) [ المقدمات ] ومعها [ المدونة ] ( 1 \ 306- 310 ) .
الشرع إسقاط الزكاة عن المديان ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : « فيها صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم » (1) . والمدين ليس بغني .
وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب وبين الناض وغير الناض فلا أعلم له شبهة بينة ، وقد كان أبو عبيد يقول : إنه إن كان لا يعلم أن عليه دينا إلا بقوله لم يصدق ، وإن علم أن عليه دينا لم يؤخذ منه . وهذا ليس خلافا لمن يقول بإسقاط الدين الزكاة ، وإنما هو خلاف لمن يقول يصدق في الدين كما يصدق في المال (2) .
د- جاء في [ أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك ] وشرحه الصغير : ( ولا يسقط الدين ) ولو عينا ( زكاة حرث وماشية ومعدن ) لتعلق الزكاة بعينها ( بخلاف العين ) الذهب والفضة ( فيسقطها ) الدين ( ولو ) كان الدين ( مؤجلا أو ) كان ( مهرا ، عليه لامرأته أو مؤخرا ( أو ) مقدما أو كان ( نفقة كزوجة ) أو أب أو ابن ( تجمدت ) عليه ( أو ) كان ( دين زكاة ) وانكسرت عليه ، ( لا ) دين ( كفارة ) ليمين أو غيره كظهار ، وصوم ، ( و ) لا دين ( هدي ) وجب عليه في حج أو عمرة فلا يسقطان زكاة العين ( إلا أن يكون له ) أي : لرب العين المدين ( من العروض ما ) أي : شيء ( يفي به ) أي : بدينه فإنه يجعله في نظير الدين الذي عليه ويزكي ما عنده من العين . ولا تسقط عنه الزكاة بشرطين : أشار لأولهما بقوله : ( إن حال حوله ) أي : العرض ( عنده ) ، وللثاني بقول : ( وبيع ) ذلك العرض : أي : وكان مما يباع ( على المفلس ) كثياب ونحاس وماشية ، ولو دابة ركوب أو ثياب
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1331),صحيح مسلم الإيمان (19),سنن الترمذي الزكاة (625),سنن النسائي الزكاة (2435),سنن أبو داود الزكاة (1584),سنن ابن ماجه الزكاة (1783),مسند أحمد بن حنبل (1/233),سنن الدارمي الزكاة (1614).
(2) [ بداية المجتهد ونهاية المقتصد ] ( 1 \ 236 ) .
جمعة أو كتب فقه ، لا ثوب جسده أو دار سكناه ، إلا أن يكون فيها فضل عن ضرورته .
فإن كان عنده من العرض ما يفي ببعض ما عليه نظر للباقي ، فإن كان فيه الزكاة زكاه ، كما لو كان عنده أربعون دينارا وعليه مثلها وعنده عرض يفي بعشرين زكى العشرين .
( والقيمة ) لذلك العرض تعتبر ( وقت الوجوب ) أي : وجوب الزكاة آخر الحول ( أو ) يكون ( له دين مرجو ولو مؤجلا ) فإنه يجعله فيما عليه ويزكي ما عنده من العين ( لا غير مرجو ) كما لو كان على معسر أو ظالم لا تناله الأحكام ، ( ولا ) إن كان له ( آبق ) فلا يجعل في نظير الدين الذي عليه ( ولو رجي ) تحصيله ؛ لعدم جواز بيعه بحال .
( فلو وهب الدين له ) أي : لمن هو عليه - بأن أبرأه ربه منه ولم يحل حوله من يوم الهبة - فلا زكاة في العين التي عنده ؛ لأن الهبة إنشاء لملك النصاب الذي بيده ، فلا تجب الزكاة فيه ، إلا إذا استقبل حولا من يوم الهبة ( أو ) وهب له ( ما ) أي : شيء من العرض أو غيره ، أي : وهب له إنسان ما : أي : شيئا ( يجعل فيه ) أي : في نظير الدين ، ( ولو لم يحل حوله ) أي : حول الشيء الموهوب عند رب العين ( فلا زكاة ) في العين التي عنده حتى يحول الحول ؟ لما تقدم في الذي قبله ، وهذا التصريح بمفهوم قوله : ( إن حال حوله ) (1) .
__________
(1) [ أقرب المسالك ] وشرحه [ الشرح الصغير ] ( 1 \ 647 ) .
3 -
النقل عن الشافعية
أ- جاء في [ الأم ] تحت ترجمة ( باب الدين مع الصدقة ) : أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد : أن عثمان بن عفان كان يقول : هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة .( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى : وحديث عثمان يشبه والله تعالى أعلم أن يكون إنما أمر بقضاء الدين قبل حلول الصدقة في المال في قوله : هذا شهر زكاتكم ، يجوز أن يقول : هذا الشهر الذي إذا مضى حلت زكاتكم ، كما يقال : شهر ذي الحجة وإنما الحجة بعد مضي أيام منه .
( قال الشافعي ) : فإذا كانت لرجل مائتا درهم وعليه دين مائتا درهم فقضى من المائتين شيئا قبل حلول المائتين ، أو استعدى عليه السلطان قبل محل حول المائتين فقضاها فلا زكاة عليه ؛ لأن الحول حال وليست مائتين .
( قال ) : وإن لم يقض عليه بالمائتين إلا بعد حولها فعليه أن يخرج منها خمسة دراهم ، ثم يقضي عليه السلطان بما بقي منها .
( قال الشافعي ) : وهكذا لو استعدى عليه السلطان قبل الحول فوقف ماله ولم يقض عليه بالدين حتى يحول عليه الحول - كان عليه أن يخرج زكاتها ثم يدفع إلى غرمائه ما بقي .
( قال الشافعي ) : ولو قضى عليه السلطان بالدين قبل الحول ثم حال الحول قبل أن يقبضه الغرماء - لم يكن عليه فيه زكاة ؛ لأن المال صار للغرماء دونه قبل الحول . وفيه قول ثان : أن عليه فيه الزكاة من قبل أنه لو
تلف كان منه ، ومن قبل أنه لو طرأ له مال غير هذا كان له أن يحبس هذا المال وأن يقضي الغرماء من غيره .
( قال الشافعي ) : وإذا أوجب الله عز وجل عليه الزكاة في ماله فقد أخرج الزكاة من ماله إلى من جعلها له فلا يجوز عندي - والله أعلم - إلا أن يكون كمال كان في يده فاستحق بعضه فيعطي الذي استحقه ويقضي دينه من شيء إن بقي له .
( قال الشافعي ) : وهكذا هذا في الذهب والورق والزرع والثمرة والماشية كلها لا يجوز أن يخالف بينها بحال ؛ لأن كلا مما قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في كله إذا بلغ ما وصف صلى الله عليه وسلم الصدقة .
( قال الشافعي ) : وهكذا هذا في صدقة الإبل التي صدقتها منها ، والتي فيها الغنم وغيرها ، كالمرتهن بالشيء ، فيكون لصاحب الرهن ما فيه ، ولغرماء صاحب المال ما فضل عنه ، وفي أكثر من حال المرتهن وما وجب في مال فيه الصدقة من إجارة أجير وغيرها أعطي قبل الحول .
( قال الشافعي ) : ولو استأجر الرجل على أن يرعى غنمه بشاة منها بعينها فهي ملك للمستأجر ، فإن قبضها قبل الحول فهي له ، ولا زكاة على الرجل في ماشيته ، إلا أن يكون ما تجب فيه الصدقة بعد شاة الأجير ، وإن لم يقبض الأجير الشاة حتى حال الحول ففي غنمه الصدقة على الشاة حصتها من الصدقة ؛ لأنه خليط بالشاة .
( قال الشافعي ) : وهكذا هذا في الرجل يستأجر بتمر نخلة بعينها أو نخلات لا يختلف إذا لم يقبض الإجارة .
( قال الشافعي ) : فإن استؤجر بشيء من الزرع قائم بعينه لم تجز
الإجارة به ؛ لأنه مجهول ، كما لا يجوز بيعه ، إلا أن يكون مضى خبر لازم بجواز بيعه ؛ فتجوز الإجارة عليه ، ويكون كالشاة بعينها وتمر النخلة والنخلات بأعيانهن .
( قال الشافعي ) : وإن كان استأجره بشاة بصفة ، أو تمر بصفة ، أو باع غنما ، فعليه الصدقة في غنمه وتمره وزرعه ، ويؤخذ بأن يؤدي إلى الأجير والمشتري منه الصفة التي وجبت له من ماله الذي أخذت منه الزكاة أو غيره .
( قال الشافعي ) : وسواء كانت له عروض كثيرة تحمل دينه أو لم يكن له شيء غير المال الذي وجبت فيه الزكاة .
( قال الشافعي ) : ولو كانت لرجل مائتا درهم فقام عليه غرماؤه فقال : قد حال عليها الحول ، وقال الغرماء : لم يحل عليها الحول ، فالقول قوله ، ويخرج منها الزكاة ويدفع ما بقي منها إلى غرمائه إذا كان لهم عليه مثل ما بقي منها أو أكثر .
( قال الشافعي ) : ولو كان له أكثر من مائتي درهم فقال : قد حالت عليها أحوال ولم أخرج منها الزكاة ، وكذبه غرماؤه ، كان القول قوله ويخرج منها زكاة الأحوال ، ثم يأخذ غرماؤه ما بقي منها بعد الزكاة أبدا أولى بها من مال الغرماء ؛ لأنها أولى بها من ملك مالكها .
( قال الشافعي ) : ولو رهن رجل رجلا ألف درهم بألف درهم أو ألفي درهم بمائة دينار فسواء ، وإذا حال الحول على الدراهم المرهونة قبل أن يحل دين المرتهن أو بعده فسواء ، ويخرج منها الزكاة قبل دين المرتهن .
( قال الشافعي ) : وهكذا كل مال رهن وجبت فيه الزكاة (1) .
ب- وجاء في [ الأم ] أيضا تحت هذه الترجمة ( باب الدين في الماشية ) : قال الشافعي رحمه الله تعالى : وإذا كانت لرجل ماشية فاستأجر عليها أجيرا في مصلحتها بسن موصوفة أو ببعير منها لم يسمه فحال عليها حول ولم يدفع منها في إجارتها شيء ففيها الصدقة ، وكذلك إن كان عليه دين أخذت الصدقة وقضي دينه منها ومما بقي من ماله . ولو استأجر رجل رجلا ببعير منها أو أبعرة منها بأعيانها فالأبعرة للمستأجر ، فإن أخرجها منه فكانت فيها زكاة زكاها ، وإن لم يخرجها منه فهي إبله ، وهو خليط بها يصدق مع رب المال الذي فيها وفي الحرث والورق والذهب سواء ، وكذلك الصدقة فيها كلها سواء (2) .
ج- قال الشيرازي : فإن كان ماشية أو غيرها من أموال الزكاة وعليه دين يستغرقه أو ينقص المال عن النصاب ففيه قولان ، ( قال في القديم ) : لا تجب الزكاة فيه ؛ لأن ملكه غير مستقر ؛ لأنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء .
( وقال في الجديد ) : تجب الزكاة فيه ؛ لأن الزكاة تتعلق بالعين ، والدين يتعلق بالذمة ؛ فلا يمنع أحدهما الآخر ، كالدين وأرش الجناية .
وإن حجر عليه في المال ففيه ثلاث طرق :
أحدها : إن كان المال ماشية وجبت فيه الزكاة ؛ لأنه قد حصل له
__________
(1) [ الأم ] ( 2 \ 42 ) وما بعدها .
(2) [ الأم ] ( 2 \ 22 ) .
نماؤه ، وإن كان غيرها فقيل : قولان كالمغصوب .
والثاني : تجب الزكاة فيه قولا واحدا ؛ لأن الحجر لا يمنع وجوب الزكاة كالحجر على السفيه والمجنون .
والثالث : وهو الصحيح : أنه على قولين كالمغصوب ؛ لأنه حيل بينه وبينه فهو كالمغصوب .
وأما قول الأول : أنه حصل له النماء من الماشية فلا يصح ؛ لأنه وإن حصل النماء إلا أنه ممنوع من التصرف فيه ويحول دونه . وقول الثاني : لا يصح ؛ لأن حجر السفيه والمجنون لا يمنع التصرف ؛ لأن وليهما ينوب عنهما في التصرف ، وحجر المفلس يمنع التصرف فافترقا .
د- وقال النووي : الدين هل يمنع وجوب الزكاة ؟ فيه ثلاثة أقوال :
أصحها : عند الأصحاب ، وهو نص الشافعي رضي الله عنه في معظم كتبه الجديدة : تجب . والثاني : لا تجب ، وهو نصه في القديم ، وفي اختلاف العراقيين من كتبه الجديدة ، وذكر المصنف دليل القولين . الثالث : حكاه الخراسانيون : أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة ، وهي : الذهب والفضة وعروض التجارة ، ولا يمنعها في الظاهرة ، وهي : الزروع والثمار والمواشي والمعادن ، والفرق : أن الظاهرة نامية بنفسها . وبهذا القول قال مالك .
قال أصحابنا : وسواء كان الدين حالا أو مؤجلا ، وسواء كان من جنس المال أو من غيره ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور .
وقال جماعة من الخراسانيين : القولان إذا كان ماله من جنس الدين ، فإن خالفه وجبت قطعا ، وليس بشيء .
فالحاصل : أن المذهب وجوب الزكاة ، سواء كان المال باطنا أو ظاهرا ، من جنس الدين أم غيره .
قال أصحابنا : سواء دين الآدمي ودين الله عز وجل ، كالزكاة السابقة والكفارة والنذر وغيرها .
وأما مسألة الحجر الذي ذكرها المصنف قال أصحابنا : إذا قلنا : الدين يمنع وجوب الزكاة ، فأحاطت برجل ديون وحجر عليه القاضي - فله ثلاثة أحوال :
أحدها : يحجر ويفرق ماله بين الفرق الغرماء فيزول ملكه ، ولا زكاة .
الثاني : أن يعين لكل غريم شيئا من ملكه ، ويمكنهم من أخذه ، فحال الحول قبل أخذه ، فالمذهب : أنه لا زكاة أيضا ، وبه قطع الجمهور ؛ لضعف ملكه .
وحكى الشيخ أبو محمد الجويني وآخرون من الخراسانيين وجها : أن وجوب الزكاة فيه يخرج على الخلاف في المغصوب ؛ لأنه حيل بينه وبينه . وقال القفال : يخرج على الخلاف في اللقطة في السنة الثانية ؛ لأنهم تسلطوا على إزالة ملكه تسلط الملتقط في السنة الثانية بخلاف المغصوب .
والصحيح : ما سبق عن الجمهور .
والفرق : أن تسلط الغرماء أقوى من تسلط الملتقط ؛ لأنهم أصحاب حق على المالك ولأنهم مسلطون بحكم حاكم ، فكان تسليطهم مسنده ثبوت المال في ذمة المالك ، وهو أقوى ، بدليل : أنهم إذا قبضوه لم يرجع فيه المفلس بوجه ما ، بخلاف الملتقط ، فإن للمالك إذا رجع أن
يرجع في عين اللقطة على أحد الوجهين .
( الحال الثاني ) : (1) أن لا يفرق ماله ولا يعين لأحد شيئا ، ويحول الحول في دوام الحجر . وهذه هي الصورة التي أرادها المصنف . وفي وجوب الزكاة هنا ثلاثة طرق ذكرها المصنف بدلائلها :
أصحها : أنه على الخلاف في المغصوب .
والثاني : القطع بالوجوب . والثالث : القطع بالوجوب في الماشية ، وفي الباقي الخلاف كالمغصوب . والله أعلم .
إذا ثبت هذا فقد قال الشافعي رضي الله عنه في [ المختصر ] : ولو قضى عليه بالدين وجعل لهم ماله حيثما وجدوه قبل الحول ثم جاء الحول قبل أن يقبضه الغرماء - لم يكن عليه زكاة ؛ لأنه صار لهم دونه قبل الحول . فمن الأصحاب من حمله على الحالة الأولى ، ومنهم من حمله على الثانية .
وقال الشافعي في الحالة الثانية : وللغرماء أن يأخذوا الأعيان التي عينها لهم الحاكم حيث وجدوها .
فاعترض الكرخي عليه ، وقال : أباح الشافعي لهم نهب ماله .
فأجاب أصحابنا عنه فقالوا : هذا الذي توهمه الكرخي خطأ منه ؛ لأن الحاكم إذا عين لكل واحد عينا جاز له أخذها حيث وجدها ؛ لأنه يأخذها بحق . والله أعلم .
( فرع ) : قال صاحب [ الحاوي ] وآخرون من الأصحاب : إذا أقر قبل
__________
(1) كذا في الأصل . ولعل الصواب : ( الحال الثالث ) .
الحجر بوجوب الزكاة عليه فإن صدقه الغرماء ثبتت ، وإن كذبوه فالقول قوله مع يمينه ؛ لأنه أمين .
وحينئذ هل تقدم الزكاة أم الدين أم يستويان ؟
فيه الأقوال الثلاثة المشهورة في اجتماع حق الله تعالى ، ودين الآدمي . وإن أقر بالزكاة بعد الحجر ففيه القولان المشهوران في المحجور عليه إذا أقر بدين بعد الحجر ، هل يقبل في الحال ويزاحم به الغرماء أم يثبت في ذمته ولا تثبت مزاحمته ؟
( فرع ) إذا قلنا : الدين يمنع الزكاة فقد ذكرنا أنه يستوي دين الله تعالى ودين الآدمي ، قال أصحابنا : فلو ملك نصابا من الدراهم أو الماشية أو غيرهما فنذر التصدق بهذا المال أو بكذا من هذا المال فمضى الحول قبل التصدق - فطريقان :
أصحهما : القطع بمنع الزكاة لتعلق النذر بعين المال .
والثاني : أنه على الخلاف في الدين . ولو قال : جعلت هذا المال صدقة أو هذه الأغنام ضحايا أو لله علي أن أضحي بهذه الشاة ، وقلنا : يتعين التضحية بهذه الصيغة ، فالمذهب : أنه لا زكاة قطعا ، وطرد إمام الحرمين وبعضهم فيه الخلاف .
قال الإمام : والظاهر : أنه لا زكاة ؛ لأن ما جعل صدقة لا تبقى فيه حقيقة ملك ، بخلاف الصورة السابقة ، فإنه لم يتصدق ، وإنما التزم التصدق ، ولو نذر التصدق بأربعين شاة أو بمائتي درهم ولم يضف إلى دراهمه وشياهه - فهذا دين نذر . فإن قلنا : دين الآدمي لا يمنع ، فهذا أولى ، وإلا فوجهان : أصحهما عند إمام الحرمين : لا يمنع ؛ لأن هذا
الدين لا مطالبة به في الحال ، فهو أضعف ، ولأن النذر يشبه التبرعات ، فإن الناذر مخير في ابتداء نذره ، فالوجوب به أضعف .
ولو وجب عليه الحج وتم الحول على نصاب في ملكه . قال إمام الحرمين والغزالي : فيه الخلاف المذكور في مسألة النذر قبله . والله أعلم .
( فرع ) : إذا قلنا : الدين يمنع الزكاة ، ففي علته وجهان : أصحهما وأشهرهما : - وبه قطع كثيرون أو الأكثرون - ضعف الملك لتسلط المستحق .
والثاني : أن مستحق الدين تلزمه الزكاة . فلو أوجبنا على المديون أيضا لزم منه تثنية الزكاة في المال الواحد (1) .
__________
(1) [ المهذب ] و [ المجموع ] ( 5 \ 317 ) وما بعدها .
4 -
النقل عن الحنابلة
أ- قال الخرقي : وإذا كان معه مائتا درهم وعليه دين فلا زكاة عليه .ب- وقال ابن قدامة في شرح ذلك : وجملة ذلك : أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة رواية واحدة ، وهي الأثمان وعروض التجارة ، وبه قال عطاء ، وسليمان بن يسار ، وميمون بن مهران ، والحسن ، والنخعي ، والليث ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي . وقال ربيعة ، وحماد بن أبي سليمان ، والشافعي في جديد قوليه : لا يمنع الزكاة ؛ لأنه حر مسلم ملك نصابا حولا ، فوجبت عليه الزكاة كمن لا دين عليه .
ولنا : ما روى أبو عبيد في [ الأموال ] : حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد قال : سمعت عثمان بن عفان يقول : ( هذا شهر زكاتكم ، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم ) . وفي رواية : ( فمن كان عليه دين فليقض دينه وليزك بقية ماله ) . قال ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكروه ؟ فدل على اتفاقهم عليه .
وروى أصحاب مالك عن عمير بن عمران عن شجاع عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا كان لرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه » وهذا نص ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم » .
فدل على أنها إنما تجب على الأغنياء ، ولا تدفع إلا إلى الفقراء ، وهذا ممن يحل له أخذ الزكاة فيكون فقيرا فلا تجب عليه الزكاة ؛ لأنها لا تجب إلا على الأغنياء ؟ للخبر ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : « لا صدقة إلا عن ظهر غنى » (1) ، ويخالف من لا دين له عليه فإنه غني يملك نصابا ، يحقق هذا : أن الزكاة إنما وجبت مواساة للفقراء ، وشكرا لنعمة الغنى ، والمدين يحتاج إلى قضاء دينه كحاجة الفقير أو أشد ، وليس من الحكمة تعطيل حاجة المالك لحاجة غيره ولا حصل له من الغنى ما يقتضي الشكر بالإخراج ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ابدأ بنفسك ثم بمن تعول » (2) .
( فصل ) : فأما الأموال الظاهرة ، وهي : السائمة والحبوب والثمار فروي عن أحمد : أن الدين يمنع الزكاة أيضا فيها ؟ لما ذكرناه في الأموال الباطنة .
قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم : يبتدئ بالدين فيقضيه ، ثم ينظر ما بقي عنده بعد إخراج النفقة ، فيزكي ما بقي ، ولا يكون على أحد
__________
(1) صحيح البخاري النفقات (5040),سنن النسائي الزكاة (2534),سنن أبو داود الزكاة (1676),مسند أحمد بن حنبل (2/230),سنن الدارمي الزكاة (1651).
(2) صحيح مسلم الزكاة (997),سنن النسائي البيوع (4652),سنن أبو داود العتق (3957),مسند أحمد بن حنبل (3/305).
دينه أكثر من ماله صدقة في إبل أو بقر أو غنم أو زرع ولا زكاة .
وهذا قول عطاء ، والحسن ، وسليمان ، وميمون بن مهران ، والنخعي ، والثوري ، والليث ، وإسحاق ؛ لعموم ما ذكرنا .
وروي أنه لا يمنع الزكاة فيها .
وهو قول مالك ، والأوزاعي ، والشافعي .
وروي عن أحمد أنه قال : قد اختلف ابن عمر وابن عباس . فقال ابن عمر : يخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته وأهله ويزكي ما بقي .
وقال الآخر : يخرج ما استدان على ثمرته ويزكي ما بقي .
وإليه أذهب أن لا يزكي ما أنفق على ثمرته خاصة ويزكي ما بقي ؛ لأن المصدق إذا جاء فوجد إبلا أو بقرا أو غنما لم يسأل أي شيء على صاحبها من الدين ، وليس المال هكذا .
فعلى هذه الرواية لا يمنع الدين الزكاة في الأموال الظاهرة إلا في الزرع والثمار فيما استدانه للإنفاق عليه خاصة .
وهذا ظاهر قول الخرقي ؛ لأنه قال في الخراج : يخرجه ثم يزكي ما بقي . جعله كالدين على الزرع .
وقال في الماشية المرهونة : يؤدي منها إذا لم يكن له مال يؤدي عنها ، فأوجب الزكاة فيها مع الدين .
وقال أبو حنيفة : الدين الذي تتوجه فيه المطالبة يمنع في سائر الأموال إلا الزرع والثمار . بناء منه على أن الواجب فيها ليس صدقة . والفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة أن تعلق الزكاة الظاهرة آكد ؛ لظهورها وتعلق قلوب الفقراء بها .
ولهذا يشرع إرسال من يأخذ صدقتها من أربابها ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السعاة فيأخذون الصدقة من أربابها ، وكذلك الخلفاء بعده .
وعلى منعها قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ولم يأت عنه أنهم استكرهوا أحدا على صدقة الصامت ، ولا طالبوه بها إلا أن يأتي بها طوعا ، ولأن السعاة يأخذون زكاة ما يجدون ولا يسألون عما على صاحبها من الدين ؛ فدل على أنه لا يمنع زكاتها .
ولأن تعلق أطماع الفقراء بها أكثر والحاجة إلى حفظها أوفر فتكون الزكاة فيها أوكد .
( فصل ) : وإنما يمنع الدين الزكاة إذا كان يستغرق النصاب أو ينقصه ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب ، أو ما لا يستغني عنه ، مثل أن يكون له عشرون مثقالا وعليه مثقال أو أكثر أو أقل مما ينقص به النصاب إذا قضاه به ، ولا يجد له قضاء من غير النصاب ، فإن كان له ثلاثون مثقالا وعليه عشرة فعليه زكاة العشرين ، وإن كان عليه أكثر من عشرة فلا زكاة عليه ، وإن كان عليه خمسة فعليه زكاة خمسة وعشرين ، ولو كان له مائة من الغنم وعليه ما يقابل ستين فعليه زكاة الأربعين ، فإن كان عليه ما يقابل إحدى وستين فلا زكاة عليه ؛ لأنه ينقص النصاب ، وإن كان له ما لأن من جنسين وعليه دين جعله في مقابلة ما يقضي منه ، فلو كان له خمس من الإبل ومائتا درهم ، فإن كانت عليه سلما أو دية ونحو ذلك مما يقضى بالإبل جعلت الدين في مقابلتها ، ووجبت عليه زكاة الدراهم ، وإن كان أتلفها أو غصبها جعلت قيمتها في مقابلة الدراهم ؛ لأنها تقضى منها ، وإن كانت قرضا خرج على الوجهين فيما يقضى منه .
فإن كانت إذا جعلناها في مقابلة أحد المالين فضلت منها فضلة تنقص النصاب الآخر ، وإذا جعلناها في مقابلة الآخر لم يفضل منها شيء كرجل له خمس من الإبل ومائتا درهم وعليه ست من الإبل قيمتها مائتا درهم فإذا جعلناها في مقابلة المائتين لم يفضل من الدين شيء ينقص نصاب السائمة ، وإذا جعلناها في مقابلة الإبل فضل منها بعير نقص نصاب الدراهم ، أو كانت بالعكس .
مثل : أن يكون عليه مائتان وخمسون درهما وله من الإبل خمس أو أكثر تساوي الدين ، أو تفضل عليه جعلنا الدين في مقابلة الإبل هاهنا ، وفي مقابلة الدراهم في الصورة الأولى ؛ لأن له من المال ما يقضي به الدين سوى النصاب ، وكذلك لو كان عليه مائة درهم وله مائتا درهم وتسع من الإبل ، فإذا جعلناها في مقابلة الإبل لم ينقص نصابها ؛ لكون الأربع الزائدة عنه تساوي المائة وأكثر منها ، وإن جعلناه في مقابلة الدراهم سقطت الزكاة منها فجعلناها في مقابلة الإبل كما ذكرنا في التي قبلها ، ولأن ذلك أحظ للفقراء .
وذكر القاضي نحو هذا فإنه قال : إذا كان النصابان زكويين جعلت الدين في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته ، وإن كان من غير جنس الدين .
فإن كان أحد المالين لا زكاة فيه والآخر فيه الزكاة كرجل عليه مائتا درهم وله مائتا درهم وعروض للقنية تساوي مائتين ، فقال القاضي : يجعل الدين في مقابلة العروض . وهذا مذهب مالك وأبي عبيد .
قال أصحاب الشافعي : وهو مقتضى قوله ؛ لأنه مالك لمائتين زائدة
عن مبلغ دينه ؟ فوجبت عليه زكاتها ، كما لو كان جميع ماله جنسا واحدا .
وظاهر كلام أحمد رحمه الله : أنه يجعل الدين في مقابلة ما يقضى منه ، فإنه قال في رجل عنده ألف وعليه ألف وله عروض بألف : إن كانت العروض للتجارة زكاها ، وإن كانت لغير التجارة فليس عليه شيء .
وهذا مذهب أبي حنيفة ، ويحكى عن الليث بن سعد ؛ لأن الدين يقضى من جنسه عند التشاح ، فجعل الدين في مقابلته أولى ، كما لو كان النصابان زكويين .
ويحتمل أن يحمل كلام أحمد هاهنا على ما إذا كان العرض تتعلق به حاجته الأصلية ، ولم يكن فاضلا عن حاجته فلا يلزمه صرفه في وفاء الدين ؛ لأن الحاجة أهم ، ولذلك لم تجب الزكاة في الحلي المعد للاستعمال ، ويكون قول القاضي محمولا على من كان العرض فاضلا عن حاجته وهذا أحسن ؛ لأنه في هذه الحال مالك لنصاب فاضل عن حاجته ، وقضاء دينه ، فلزمته زكاته كما لو لم يكن عليه دين .
فأما إن كان عنده نصابان زكويان وعليه دين من غير جنسهما ولا يقضى من أحدهما - فإنك تجعله في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته .
( فصل ) : فأما دين الله كالكفارة والنذر ففيه وجهان :
أحدهما : يمنع الزكاة كدين الآدمي ؛ لأنه دين يجب قضاؤه ، فهو كدين الآدمي ، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « دين الله أحق أن يقضى » (1) .
والآخر : لا يمنع ؛ لأن الزكاة أكد منه لتعلقها بالعين ، فهو كأرش
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1852),صحيح مسلم الصيام (1148),سنن الترمذي الصوم (716),سنن النسائي الأيمان والنذور (3816),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3310),سنن ابن ماجه الصيام (1758),مسند أحمد بن حنبل (1/362),سنن الدارمي الصوم (1768).
الجناية ، ويفارق دين الآدمي لتأكده وتوجه المطالبة به . فإن نذر الصدقة بمعين فقال : لله علي أن أتصدق بهذه المائتي درهم إذا حال الحول . فقال ابن عقيل : يخرجها في النذر ولا زكاة عليه ؛ لأن النذر آكد لتعلقه بالعين ، والزكاة مختلف فيها ، ويحتمل أن تلزمه زكاتها ، وتجزئه الصدقة بها ، إلا أن ينوي الزكاة بقدرها ، ويكون ذلك صدقة تجزئه عن الزكاة ؛ لكون الزكاة صدقة ، وسائرها يكون صدقة لنذره وليس بزكاة ، وإن نذر الصدقة ببعضها وكان ذلك البعض قدر الزكاة أو أكثر فعلى هذا الاحتمال يخرج النذور وينوي الزكاة بقدرها منه .
وعلى قول ابن عقيل يحتمل أن تجب الزكاة عليه ؛ لأن النذر إنما تعلق بالبعض بعد وجود سبب الزكاة وتمام شرطه فلا يمنع الوجوب ، لكون المحل متسعا لهما جميعا . وإن كان المنذور أقل من قدر الزكاة وجب قدر الزكاة ودخل النذر فيه في أحد الوجهين ، وفي الآخر يجب إخراجهما جميعا .
( فصل ) : إذا قلنا : لا يمنع الدين وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة ، فحجر الحاكم عليه بعد وجوب الزكاة لم يملك إخراجها ؛ لأنه قد انقطع تصرفه في ماله وإن أقر بها بعد الحجر لم يقبل إقراره ، وكانت عليه في ذمته كدين الآدمي ، ويحتمل أن تسقط إذا حجر عليه قبل إمكان أدائها كما لو تلف ماله . فإن أقر الغرماء بوجوب الزكاة عليه أو ثبت ببينة ، أو كان قد أقر بها قبل الحجر عليه - وجب إخراجها من المال ، فإن لم
يخرجوها فعليهم إثمها .
( فصل ) : وإذا جنى العبد المعد للتجارة جناية تعلق أرشها برقبته منع وجوب الزكاة فيه إن كان ينقص النصاب ؛ لأنه دين ، وإن لم ينقص النصاب منع الزكاة في قدر ما يقابل الأرش (1) .
ج- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : فإن كان على مالك الزرع والثمار دين فهل تسقط الزكاة ؛ فيه ثلاثة أقوال :
قيل : لا تسقط بحال . وهو قول مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، ورواية عن أحمد .
وقيل : يسقطها . وهو قول عطاء ، والحسن ، وسليمان بن يسار ، وميمون بن مهران ، والنخعي ، والليث ، والثوري ، وإسحاق . وكذلك في الماشية : الإبل ، والبقر ، والغنم .
وقيل : يسقطها الدين الذي أنفقه على زرعه ، ولا يسقطها ما استدانه لنفقة أهله . وقيل : يسقطها هذا وهذا . الأول قول ابن عباس . اختاره أحمد بن حنبل وغيره . والثاني قول ابن عمر (2) .
وقال شيخ الإسلام أيضا : والدين يسقط زكاة العين : عند مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، وأحد قولي الشافعي ، وهو قول عطاء ، والحسن ، وسليمان بن يسار ، وميمون بن مهران ، والنخعي ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث ، وإسحاق ، وأبي ثور .
__________
(1) [ المغني ] ، ومعه الشرح الكبير ( 2 \ 635 ) وما بعدها .
(2) [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ] ( 25 \ 27 ) .
واحتجوا بما رواه مالك في [ الموطأ ] ، عن السائب بن يزيد قال : سمعت عثمان رضي الله عنه يقول : هذا شهر زكاتكم ، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخلص أموالكم تؤدون منها الزكاة . وعند مالك إن كان عنده عروض توفي الدين ترك العين وجعلها في مقابلة الدين ، وهي التي يبيعها الحاكم في الدين ما يفضل عن ضرورته . وإن كان له دين على مليء ثقة جعله في مقابلة دينه أيضا ، وزكى العين . فإن لم يكن إلا ما بيده سقطت الزكاة (1) .
د- قال ابن مفلح : تجب الزكاة في عين المال ، نقله واختاره الجماعة ، قال الجمهور : هذا ظاهر المذهب ، حكاه أبو المعالي وغيره ( و هـ م ق ) . (2) ، وعنه : تجب في الذمة ، اختاره الخرقي وأبو الخطاب وصاحب [ التلخيص ] ، قال ابن عقيل : هو الأشبه بمذهبنا ( وهـ ق ) . فعلى الأول : لو لم يزك نصابا حولين فأكثر لزمه زكاة واحدة ( وهـ ق ) (3) ولو تعدى بالتأخير ، وعلى الثانية يزكي لكل حول . أطلقه أحمد وبعض الأصحاب .
قال ابن عقيل وغيره : لو قلنا : إن الدين يمنع وجوب الزكاة لم تسقط هنا ؛ لأن الشيء لا يسقط نفسه ، وقد يسقط غيره . واختار جماعة منهم صاحب [ المحرر ] : إن سقطت الزكاة بدين الله تعالى ، وليس له سوى النصاب فلا زكاة للحول الثاني ، لأجل الدين ، لا للتعلق بالعين .
__________
(1) [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ] ص ( 19 ) .
(2) في الطبعة الأولى ( وهـ م ق ش ) .
(3) في الطبعة الأولى ( وهـ ش ) .
زاد صاحب [ المستوعب ] : متى قلنا : يمنع الدين فلا زكاة للعام الثاني ، تعلقت بالعين أو بالذمة ، وإن أحمد حيث لم يوجب زكاة العام الثاني فإنه بنى على رواية منع الدين ؛ لأن زكاة العام الأول صارت دينا على رب المال ، والعكس بالعكس ، جعل فوائد الروايتين إخراج الراهن الموسر من الرهن بلا إذن إن علقت بالعين ، واختاره في سقوطها بالتلف وتقديمها على الدين ، وقال غيره خلافه ، وإنه إن كان فوق نصاب ، فإن وجبت في العين نقص من زكاته لكل حول بقدر نقصه بها ، فإذا نقص بذلك عن نصاب فلا زكاة لما بعد ذلك ، وإن وجبت في الذمة زكاه جميعه لكل حول ، ما لم تفن الزكاة المال . وقال ابن تميم : إن قلنا : تجب في العين فهل تكرر الزكاة بتكرر الأحوال ؟ فيه وجهان ، والشاة في الإبل تتكرر بتكرر الأحوال إن قلنا : دين الزكاة لا يمنع ، كذا قال ، وكذا عند زفر تتعلق بالعين وتتكرر ، كما لو كانت دينا فأتلف نصابا وجبت فيه ، ثم حال عنده حول على نصاب آخر فالمنع ورد على رواية (1) ثم التعلق بالعين أقوى ؛ ولهذا يمنع النذر المتعلق بالعين ، ولا يمنع إذا كان في الذمة على رواية ، فعلى المذهب : في مائتين وواحدة من الغنم خمس ، ثلاث للأول ، واثنتان للثاني ( وق ) (2) ، وعلى الثاني ست لحولين ، ولو لم يزك خمسين من الغنم اثني عشر حولا زكى إحدى عشرة شاة وفي الثانية عشرة الخلاف ، أما لو كان الواجب من غير الجنس
__________
(1) في مخطوط الدار : كما لو كان دينا بأن أتلف نصابا . . . آخر ورد بالمنع على رواية .
(2) في الطبعة الأولى : وهو قول ( ش ) .
كالإبل المزكاة (1) بالغنم ، فنص أحمد أن الواجب فيه في الذمة ، وأن الزكاة تتكرر ، فرق بينه وبين الواجب من الجنس ( و م ش ) ؛ لأن الواجب هنا (2) ليس بجزء من النصاب ، وظاهر كلام أبي الخطاب واختاره صاحب [ المستوعب ] و [ المحرر ] أنه كالواجب من الجنس ( و هـ ش ) على ما سبق من العين والذمة ؛ لأن تعلق الزكاة كتعلق الأرش بالجاني والدين بالرهن ، فلا فرق إذا ، فعلى النص : لو لم يكن له سوى خمس من الإبل ففي امتناع زكاة الحول الثاني لكونها دينا الخلاف .
قال القاضي في الخلاف : هذه المسألة لا تلزمه ؛ لأن أحمد علل في المال ( بما ) إذا أدى منه نقص ، فاقتضى ذلك إذا أدى من الغنم ما يحصل عليه به دين لم يلزمه ؛ لأن الدين يمنع وجوب الزكاة ، وحمل كلام أحمد على أنه عنده من الغنم ما يقابل الحولين ، فعلى النص في خمس وعشرين بعيرا في ثلاثة أحوال : حول (3) بنت مخاض ، ثم ثمان شياه لكل حول ، وعلى كلام أبي الخطاب أنها تجب في العين مطلقا كذلك لأول حول ثم الثاني ، ثم إن نقص النصاب بذلك من عشرين بعيرا إذا قومناها فللثالث ثلاث شياه ، وإلا أربع ، وهل يمنع التعلق بالعين انعقاد الحول الثاني قبل الإخراج ؟ يأتي في الفصل الثالث من الخلطة (4) .
هـ- جاء في [ المقنع ] وشرحه [ الإنصاف ] : قوله : ( ولا زكاة في مال
__________
(1) في الطبعة الأولى : الزكاة .
(2) في الطبعة الأولى : لأن الواجب هذا
(3) في مخطوط الدار : لأول حول بنت مخاض '' لكن ناقل التصحيح لم يذكرها بالهامش '' .
(4) [ الفروع ] ، ( 2 \ 343 ) وما بعدها .
من عليه دين ينقص النصاب ) .
هذا المذهب ، إلا ما استثني . وعليه أكثر الأصحاب . وعنه : لا يمنع الدين الزكاة مطلقا ، وعنه : يمنع الدين الحال خاصة . جزم به في [ الإرشاد ] ، وغيره .
قوله : ( إلا في الحبوب والمواشي ) . في إحدى الروايتين . وقدمه في [ الفائق ] .
والرواية الثانية : يمنع أيضا . وهي المذهب ، نص عليه . وعليه جماهير الأصحاب .
قال الزركشي : هذا اختيار أكثر الأصحاب .
قال ابن أبي موسى : هذا الصحيح من مذهب أحمد .
قلت : اختاره أبو بكر ، والقاضي ، وأصحابه ، والحلواني ، وابن الجوزي ، وصاحب [ الفائق ] ، وغيرهم ، وجزم به في [ العمدة ] ، وقدمه في [ المستوعب ] ، و [ الفروع ] ، وصححه في [ تصحيح المحرر ] ، وأطلقهما في [ الشرح ] ، و [ المحرر ] و [ الرعايتين ] ، و [ الحاويين ] .
وعنه : يمنع ما استدانه للنفقة على ذلك ، أو كان ثمنه . ولا يمنع ما استدانه لمؤنة نفسه ، أو أهله .
قال الزركشي : فعلى رواية عدم المنع : ما لزمه من مؤنة الزرع من أجرة حصاد وكراء أرض ونحوه يمنع . نص عليه . وذكره ابن أبي موسى وقال : رواية واحدة . وتبعه صاحب [ التلخيص ] .
وحكى أبو البركات رواية : أن الدين لا يمنع في الظاهر مطلقا .
قال الشيخ تقي الدين : لم أجد بها نصا عن أحمد . انتهى .
وعنه : يمنع ، خلا الماشية . وهو ظاهر كلام الخرقي .
فوائد :
الأولى : في الأموال : ظاهرة ، وباطنة :
فالظاهرة : ما ذكره المصنف من الحبوب والمواشي ، وكذا الثمار .
والباطنة : كالأثمان ، وقيمة عروض التجارة ، على الصحيح من المذهب . وعليه الأكثر .
وقال أبو الفرج الشيرازي : الأموال الباطنة : هي الذهب والفضة فقط . انتهى .
وهل المعدن من الأموال الظاهرة ، أو الباطنة ؛ فيه وجهان : وأطلقها في [ الفروع ] و [ ابن تميم ] و [ الرعايتين ] ، و [ الحاويين ] :
أحدهما : هو من الأموال الظاهرة . وهو ظاهر كلام الشيرازي على ما تقدم .
الثاني : هو من الأموال الباطنة .
قلت : وهو الصواب ؛ لأنه أشبه بالأثمان ، وقيمة عروض التجارة . قال في [ المغني ] : الأموال الظاهرة : السائمة ، والحبوب ، والثمار .
قال في الفائق ، : ولمنع في المعدن (1) وقيل : لا .
الثانية : لا يمنع الدين خمس الركاز ، بلا نزاع .
الثالثة : لو تعلق بعد تجارة أرش جناية ، منع الزكاة في قيمته ؛ لأنه وجب جبرا لا مواساة ، بخلاف الزكاة . وجعله بعضهم كالدين . منهم صاحب [ الفروع ] ، في حواشيه .
__________
(1) كذا في الأصل . ولعله ( ويمنع ) .
الرابعة : لو كان له عرض قنية يباع لو أفلس يفي بما عليه من الدين، جعل في مقابلة ما عليه من الدين وزكى ما معه من المال، على إحدى الروايتين.
قال القاضي: هذا قياس المذهب.
ونصره أبو المعالي اعتبارا بما فيه الحظ للمساكين. وعنه: يفعل في مقابلة ما معه ولا يزكيه. صححه ابن عقيل . وقدمه ابن تميم وصاحب [الحواشي]، و [الرعايتين]، و [الحاويين]، وأطلقهما في [ الفروع] ، و[شرح المجد]، و[الفائق].
وينبني على هذا الخلاف ما إذا كان بيده ألف، وله ألف دينار على مليء، وعليه مثلها، فإنه يزكي ما معه على الأولى لا الثانية. قاله في [الفروع] . وقدم في [الفائق]، و[الرعايتين]، و[الحاويين] هنا، جعل الدين مقابلا لما في يده، وقالوا: نص عليه، ثم قالوا: أو قيل: مقابلا للدين.
الخامسة : لو كان له عرض تجارة بقدر الدين الذي عليه، ومعه عين بقدر الدين الذي عليه، فالصحيح من المذهب: أنه يحمل الدين في مقابلة العرض، ويزكي ما معه من العين. نص عليه في رواية المروذي وأبي الحارث، وقدمه في [الفروع]، و[الحواشي]، و[ ابن تميم ].
وقيل: إن كان فيما معه من المال الزكوي جنس الذي جعل في مقابلته، وحكاه ابن الزاغوني رواية، وتابعه في [الرعايتين]، و[الحاويين]، وغيرهم. وإلا اعتبر الأحظ . وأطلقهما في [الرعايتين]، و[الحاويين].
وقيل: يعتبر الأحظ للفقراء مطلقا. فمن له مائتا درهم وعشر (دنانير) قيمتها مائتا درهم، جعل الدنانير قبالة دينه، وزكى ما معه. ومن له
أربعون شاة وعشرة أبعرة، ودينه قيمة أحدهما، جعل قبالة دينه الغنم وزكى شاتين.
السادسة : دين المضمون عنه، يمنع الزكاة بقدره في ماله، دون الضامن. على الصحيح من المذهب، خلافا لأبي المعالي.
السابعة: لا تجب الزكاة في المال الذي حجر عليه القاضي للغرماء، كالمال المغصوب؛ تشبيها للمنع الشرعي بالمنع الحسي.
هذا الصحيح من المذهب. اختاره المصنف، والشارح، والقاضي، وقدمه في [الرعايتين].
وقال الأزجي في [النهاية]: هذا بعيد، بل إلحاقه بمال الديون أقرب. اختاره أبو المعالي . وظاهر الفروع: إطلاق الخلاف.
وقيل: إن كان المال سائمة زكاها لحصول النماء والنتاج من غير تصرف، بخلاف غيرها.
وقال أبو المعالي : إن قضى الحاكم ديونه من ماله، ولم يفضل شيء من ماله. فهو الذي ملك نصابا وعليه دين. قال: وإن سمى لكل غريم بعض أعيان ماله، فلا زكاة عليه مع بقاء ملكه؛ لضعفه بتسليط الحاكم لغريمه على أخذ حقه. انتهى.
وإن حجر عليه بعد وجوبها، لم تسقط الزكاة. على الصحيح من المذهب.
وقيل: تسقط إن كان قبل تمكنه من الإخراج.
قال في [الحواشي]، و[ ابن تميم ]: وهو بعيد. ولا يملك إخراجها من المال؛ لانقطاع تصرفه. قاله المصنف والشارح.
وقال ابن تميم : والأولى أن يملك ذلك كالراهن. وهما وجهان. وأطلقهما في [الفروع]. فإنه قال: لا يقبل إقراره بها. وجزم به بعضهم. ولا يقبل إقرار المحجور عليه بالزكاة. وتتعلق بذمته، كدين الآدمي . ذكره المصنف، والشارح، وأبو المعالي . وهو ظاهر ما قدمه في [الفروع] وعنه: يقبل كما لو صدقه الغريم.
ويأتي زكاة المرهون في فوائد الخلاف الآتي آخر الباب. قوله: (والكفارة كالدين في أحد الوجهين) وحكاهما [أكثرهم] روايتين. وأطلقهما في [الهداية]، و[المغني]، و [الشرح] ، و[الحاويين] ، [والفائق] ، [والفروع] ، [والحواشي] ، [ وابن تميم ] ، [والمحرر] : إذا لم يمنع دين الآدمي الزكاة، فدين الله- من الكفارة والنذر المطلق، ودين الحج ونحوه- لا يمنع بطريق أولى. وإن منع الزكاة، فهل يمنع دين الله؛ فيه الخلاف.
أحدهما: هو كالدين (الذي) للآدمي. وهو الصحيح من المذهب. صححه المجد، وابن حمدان في [رعايته] . وهو قول القاضي وأتباعه. وجزم به ابن البنا في خلافه في الكفارة والخراج. وقال: نص عليه. وهو الذي احتج به القاضي في الكفارة.
الوجه الثاني: لا يمنع وجوب الزكاة.
فائدتان:
إحداهما : النذر المطلق، ودين الحج ونحوه كالكفارة، كما تقدم. وقال في [المحرر] : والخراج من دين الله ، وتابعه في [الرعايتين] ، [والحاويين] ، وغيرهم. قاله القاضي، وابن البنا، وغيرهما. ففيه الخلاف
في إلحاقه بديون الآدميين.
وأما الإمام أحمد، فقدم الخراج على الزكاة.
وقال الشيخ تقي الدين : الخراج ملحق بديون الآدميين. ويأتي، لو كان الدين زكاة، هل يمنع؟ عند فوائد الخلاف (في الزكاة هل تجب) في العين أو في الذمة؟
الثانية: لو قال: لله علي أن أتصدق بهذا، أو هو صدقة، فحال الحول، فلا زكاة فيه. على الصحيح من المذهب.
وقال ابن حامد : فيه الزكاة. فقال في قوله: (إن شفى الله مريضي تصدقت من هاتين المائتين بمائة) فشفي، ثم حال الحول قبل أن يتصدق بها: وجبت الزكاة.
وقال في [الرعاية]: إن نذر التضحية بنصاب معين.
وقيل: أو قال: جعلته ضحايا، فلا زكاة. ويحتمل وجوبها إذا تم حولها قبلها. انتهى.
ولو قال: (علي لله أن أتصدق بهذا النصاب إذا حال الحول) وجبت الزكاة على الصحيح من المذهب. اختاره المجد في شرحه. وقيل: هي كالتي قبلها. اختاره ابن عقيل، وأطلقهما [ ابن تميم ]، و [الفروع].
فعلى الأول: تجزئه الزكاة (منه) على أصح الوجهين. ويبرأ بقدرها من الزكاة والنذر إن نواهما معا؛ لكون الزكاة صدقة. وكذا لو نذر الصدقة ببعض النصاب، هل يخرجهما، أو يدخل النذر في الزكاة وينويهما؟
وقال ابن تميم : وجبت الزكاة ووجب إخراجهما معا. وقيل: يدخل
النذر في الزكاة وينويهما معا. انتهى (1) .
__________
(1) [الإنصاف] (3\ 24) وما بعدها.
خامسا:
التعزير بالمال
:اختلف العلماء في التعزير بالمال.
وفيما يلي ذكر أقوالهم ومداركهم مع ما تيسر من مناقشات بعضهم لبعض:
1 -
النقل عن المالكية
أ- قال الشاطبي : إن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات فاختلف العلماء في ذلك، حسبما ذكره الغزالي . على أن الطحاوي حكى أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ، فأجمع العلماء على منعه.فأما الغزالي فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام، ولا يلائم تصرفات الشرع. مع أن هذه العقوبة الخاصة لم تتعين لشرعية العقوبات البدنية بالسجن والضرب وغيرهما.
قال: فإن قيل: فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاطر خالد بن الوليد في ماله، حتى أخذ رسوله إحدى نعله وشطر عمامته.
قلنا: المظنون من عمر أنه لم يبتدع العقاب بأخذ المال على خلاف المألوف من الشرع، وإنما ذلك لعلم عمر باختلاط ماله بالمال المستفاد من الولاية، وإحاطته بتوسعته، فلعله ضمن المال، فرأى شطر ماله من فوائد الولاية, فيكون استرجاعا للحق، لا عقوبة في المال؛ لأن هذا من
الغريب الذي لا يلائم قواعد الشرع. هذا ما قال. ولما فعل عمر وجه آخر غير هذا، ولكنه لا دليل فيه على العقوبة بالمال، كما قال الغزالي.
وأما مذهب مالك : فإن العقوبة في المال عنده ضربان:
(أحدهما): كما صوره الغزالي، فلا مرية في أنه غير صحيح. على أن ابن العطار في [رقائقه] صغى إلى إجازة ذلك. فقال في إجازة أعوان القاضي إذا لم يكن بيت مال أنها على الطالب، فإن أدى المطلوب كانت الإجازة عليه. ومال إليه ابن رشد . ورده عليه ابن النجار القرطبي وقال: إن ذلك من باب العقوبة في المال، وذلك لا يجوز على حال.
(والثاني): أن تكون جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه، فالعقوبة فيه عنده ثابتة، فإنه قال في الزعفران المغشوش إذا وجد بيد الذي غشه: إنه يتصدق به على المساكين قل أو كثر.
وذهب ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون إلى أنه يتصدق بما قل منه دون ما كثر، وذلك محكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنه أراق اللبن المغشوش بالماء.
ووجه ذلك: التأديب للغاش. وهذا التأديب لا نص يشهد له، لكن من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة، وقد تقدم نظيره في مسألة تضمين الصناع.
على أن أبا الحسن اللخمي قد وضع له أصلا شرعيا، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أمر بإكفاء القدور التي أغليت بلحوم الحمر قبل أن تقسم. وحديث العتق بالمثلة أيضا من ذلك.
ومن مسائل مالك في المسألة: إذا اشترى مسلم من نصراني خمرا
فإنه يكسر على المسلم، ويتصدق بالثمن أدبا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه. وعلى هذا المعنى فرع أصحابه في مذهبه، وهو كله من العقوبة في المال، إلا أن وجهه ما تقدم (1) .
ب- قال ابن فرحون في أثناء الكلام على التعزير: ومنها: إباحته صلى الله عليه وسلم بسلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده. ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها.
ومنها: أمره لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما بتحريق الثوبين المعصفرين.
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الأهلية، ثم استأذنوه في غسلها فأذن لهم، فدل على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة بالكسر لم تكن واجبة.
ومنها: هدمه صلى الله عليه وسلم لمسجد الضرار.
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم بتحريق متاع الذي غل من الغنيمة.
ومنها: إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر. ومنها إضعاف الغرم على كاتم الضالة.
ومنها: أخذه شطر مانع الزكاة عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى.
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم لابس خاتم الذهب بطرحه، فلم يعرض له أحد.
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل اليهود إغاظة لهم.
ومنها: تحريق عمر رضي الله عنه المكان الذي يباع فيه الخمر.
__________
(1) [الاعتصام] للشاطبي (2\ 123).
ومنها: تحريق عمر رضي الله عنه قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية وصار يحكم في داره.
ومنها: مصادرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عماله بأخذ شطر أموالهم، فقسمها بينهم وبين المسلمين.
ومنها: أنه رضي الله عنه ضرب الذي زور على نقش خاتمه وأخذ شيئا من بيت المال مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني مائة، ثم ضربه في اليوم الثالث مائة.
ومنها: أن عمر رضي الله عنه لما وجد مع السائل من الطعام فوق كفايته وهو يسأل أخذ ما معه وأطعمه إبل الصدقة.
ومنها: أنه رضي الله عنه أراق اللبن المغشوش. وغير ذلك مما يكثر تعداده. وهذه قضايا صحيحة معروفة (1) .
__________
(1) [تبصرة الحكام] على هامش [فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك] (2\ 261).
2 -
النقل عن الشافعية
أ- قال الشيرازي : وإن منع الزكاة أو غل أخذ منه الفرض، وعزره على المنع والغلول . وقال في القديم: يأخذ الزكاة وشطر ماله، ومضى توجيه القولين في أول الزكاة.قال النووي في شرح ذلك: إذا لزمته زكاة فمنعها أو غلها- أي: كتمها - وخان فيها أخذ الإمام أو الساعي الفرض منه، والقول الصحيح الجديد أنه لا يأخذ شطر ماله. وقال في القديم: يأخذه، وسبق شرح القولين بدليلهما وفروعها في أول كتاب الزكاة.
قال الشافعي في [المختصر] في آخر باب صدقة الغنم السائمة: ولو غل صدقته عزر إذا كان الإمام عادلا، إلا أن يدعي الجهالة، ولا يعزر إن لم يكن الإمام عادلا. هذا نصه.
قال أصحابنا: إذا كتم ماله أو بعضه عن الساعي أو الإمام ثم اطلع عليه أخذ فرضه، فإن كان الإمام أو الساعي جائرا في الزيادة، بأن يأخذ فوق الواجب أو لا يصرفها مصارفها لم يعزره، لأنه معذور في كتمه، وإن كان عادلا فإن لم يدع المالك شبهة في الإخفاء عزره؛ لأنه عاص آثم بكتمانه، وإن ادعى شبهة بأن قال: لم أعلم تحريم كتمانها، أو قال: ظننت أن تفرقتي بنفسي أفضل أو نحو ذلك، فإن كان ذلك محتملا في حقه لقرب إسلامه أو لقلة اختلاطه بالعلماء ونحوهم لم يعزره.
قال السرخسي : فإن اتهمه فيه حلفه، وإن كان ممن لا يخفى عليه لاختلاطه بالعلماء ونحوهم لم يقبل قوله وعزره (1) .
ب- قال ابن حجر : حديث: « في كل أربعين من الإبل السائمة بنت لبون، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمد منها شيء » (2) أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وقد قال يحيى بن معين في هذه الترجمة: إسناد صحيح إذا كان من دون بهز ثقة.
وقال أبو حاتم : هو شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به .
__________
(1) [المهذب] وعليه [المجموع] (6\ 172، 173) .
(2) سنن النسائي الزكاة (2444),سنن أبو داود الزكاة (1575),مسند أحمد بن حنبل (5/4),سنن الدارمي الزكاة (1677).
وقال الشافعي : ليس بحجة، وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولو ثبت لقلنا به. وكان قال به في القديم.
وسئل عنه أحمد، فقال: ما أدري ما وجهه. فسئل عن إسناده، فقال: صالح الإسناد.
وقال ابن حبان : كان يخطئ كثيرا، ولولا هذا الحديث لأدخلته في الثقات، وهو ممن أستخير الله فيه.
وقال ابن عدي : لم أر له حديثا منكرا.
وقال ابن الطلاع في [أوائل الأحكام]: بهز مجهول.
قال ابن حزم : غير مشهور بالعدالة. وهو خطأ منهما، فقد وثقه خلق من الأئمة، وقد استوفيت ذلك في [تلخيص التهذيب].
وقال البيهقي وغيره : حديث بهز هذا منسوخ. وتعقبه النووي بأن الذي ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في الأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف، ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ.
والجواب عن ذلك ما أجاب به إبراهيم الحربي، فإنه قال في سياق هذا المتن: لفظة وهم فيها الراوي، وإنما هو: « فإنا آخذوها من شطر ماله، » (1) أي: نجعل ماله شطرين، فيتخير عليه المصدق، ويأخذ الصدقة من خير الشطرين؛ عقوبة لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمه فلا . نقله ابن الجوزي في [جامع المسانيد] عن الحربي . والله الموفق (2) .
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2449),سنن أبو داود الزكاة (1575),سنن الدارمي الزكاة (1677).
(2) [تلخيص الحبير] (2\ 160, 161).
3 -
النقل عن الحنابلة
:أ- قال ابن قدامة : وإن منعها معتقدا وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه أخذها وعزره ولم يأخذ زيادة عليها في قول أكثر أهل العلم. منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم. وكذلك إن غل ماله وكتمه حتى لا يأخذ الإمام زكاته فظهر عليه.
وقال إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن عبد العزيز : يأخذها وشطر ماله؛ لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: « في كل سائمة الإبل في كل أربعين بنت لبون، لا تفرق عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن أباها فإني آخذها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء » (1) .
وذكر هذا الحديث لأحمد فقال: ما أدري ما وجهه؟ وسئل عن إسناده؟ فقال: هو عندي صالح الإسناد. رواه أبو داود والنسائي في سننهما.
ووجه الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم : « ليس في المال حق سوى الزكاة » (2) .
ولأن منع الزكاة كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع توفر الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينقل أحد عنهم زيادة ولا قولا بذلك.
واختلف أهل العلم في العذر عن هذا الخبر:
فقيل: كان في بدء الإسلام، حيث كانت العقوبات في المال ثم نسخ بالحديث الذي رويناه.
وحكى الخطابي عن إبراهيم الحربي أنه يؤخذ منه السن الواجبة عليه
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2444),سنن أبو داود الزكاة (1575),مسند أحمد بن حنبل (5/4),سنن الدارمي الزكاة (1677).
(2) سنن الترمذي الزكاة (659),سنن ابن ماجه الزكاة (1789),سنن الدارمي الزكاة (1637).
من خيار ماله من غير زيادة في سن ولا عدد، لكن ينتقي من خير ماله ما تزيد به صدقته في القيمة بقدر شطر قيمة الواجب عليه، فيكون المراد بماله ها هنا الواجب عليه من ماله فيزاد عليه في القيمة بقدر شطره (1) .
ب- قال شيخ الإسلام ابن تيمية : و( التعزير بالعقوبات المالية ) مشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضع بلا نزاع عنه، وفي مواضع فيها نزاع عنه، والشافعي في قول، وإن تنازعوا في تفصيل ذلك. كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل إباحته سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده، ومثل أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفه، ومثل « أمره عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين، وقال له: أغسلهما؟ قال: لا، بل احرقهما » ، وأمره لهم يوم خيبر بكسر الأوعية التي فيها لحوم الحمر. ثم لما استأذنوه في الإراقة أذن. فإنه « لما رأى القدور تفور بلحم الحمر أمر بكسرها وإراقة ما فيها، فقالوا: أفلا نريقها ونغسلها؟ فقال: " افعلوا » (2) .
فدل ذلك على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة بذلك لم تكن واجبة.
ومثل: هدمه لمسجد الضرار، ومثل: تحريق موسى للعجل المتخذ إلها، ومثل: تضعيفه صلى الله عليه وسلم الغرم على من سرق من غير حرز، ومثل: ما روي من إحراق متاع الغال، ومن حرمان القاتل سلبه لما اعتدى على الأمير.
ومثل: أمر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بتحريق المكان
__________
(1) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (2\ 435).
(2) صحيح البخاري الأدب (5796),صحيح مسلم الجهاد والسير (1802),سنن النسائي الجهاد (3150),سنن ابن ماجه الذبائح (3195),مسند أحمد بن حنبل (4/48).
الذي يباع فيه الخمر، ومثل: أخذ شطر مال مانع الزكاة، ومثل: تحريق عثمان بن عفان المصاحف المخالفة للإمام، وتحريق عمر بن الخطاب لكتب الأوائل، وأمره بتحريق قصر سعد بن أبي وقاص الذي بناه لما أراد أن يحتجب عن الناس، فأرسل محمد بن مسلمة، وأمره أن يحرقه عليه، فذهب فحرقه عليه.
وهذه القضايا كلها صحيحة معروفة عند أهل العلم بذلك، ونظائرها متعددة.
ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك عن أصحاب مالك وأحمد فقد غلط على مذهبهما.
ومن قاله مطلقا من أي مذهب كان فقد قال قولا بلا دليل.
ولم يجئ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء قط يقتضي أنه حرم جميع العقوبات المالية، بل أخذ الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير منسوخ.
وعامة هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه. وبعضها قول عند الشافعي باعتبار ما بلغه من الحديث.
ومذهب مالك وأحمد وغيرهما: أن العقوبات المالية كالبدنية، تنقسم إلى ما يوافق الشرع وإلى ما يخالفه، وليس العقوبة المالية منسوخة عندهما. والمدعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ، لا من كتاب ولا سنة.
وهذا شأن كثير ممن يخالف النصوص الصحيحة والسنة الثابتة بلا حجة، إلا مجرد دعوى النسخ، وإذا طولب بالناسخ لم يكن معه حجة
لبعض النصوص (1) توهمه ترك العمل إلا أن مذهب طائفته ترك العمل بها إجماع، والإجماع دليل على النسخ.
ولا ريب أنه إذا ثبت الإجماع كان ذلك دليلا على أنه منسوخ، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكن لا يعرف إجماع على ترك نص إلا وقد عرف النص الناسخ له؛ ولهذا كان أكثر من يدعي نسخ النصوص بما يدعيه من الإجماع إذا حقق الأمر عليه لم يكن الإجماع الذي ادعاه صحيحا، بل غايته أنه لم يعرف فيه نزاعا. ثم من ذلك ما يكون أكثر أهل العلم على خلاف قول أصحابه، ولكن هو نفسه لم يعرف أقوال العلماء.
وأيضا فإن واجبات الشريعة التي هي حق لله ثلاثة أقسام: عبادات، كالصلاة والزكاة والصوم. وعقوبات ؛ إما مقدرة، وإما مفوضة. وكفارات. وكل واحد من أقسام الواجبات ينقسم إلى بدني وإلى مالي، وإلى مركب منهما.
فالعبادات البدنية: كالصلاة والصيام. والمالية: كالزكاة. والمركبة: كالحج.
والكفارات المالية: كالإطعام. والبدنية: كالصيام. والمركبة: كالهدي يذبح.
والعقوبات البدنية: كالقتل والقطع. والمالية: كإتلاف أوعية الخمر. والمركبة: كجلد السارق من غير حرز وتضعيف الغرم عليه، وكقتل
__________
(1) لعله (إلا بعض نصوص) إلخ.
الكفار وأخذ أموالهم.
وكما أن العقوبات البدنية تارة تكون جزاء على ما مضى كقطع السارق، وتارة تكون دفعا عن المستقبل كقتل القاتل، فكذلك المالية، فإن منها ما هو من باب إزالة المنكر. وهي تنقسم كالبدنية إلى إتلاف، وإلى تغيير، وإلى تمليك الغير.
فالأول المنكرات من الأعيان والصفات يجوز إتلاف محلها تبعا لها مثل: الأصنام المعبودة من دون الله لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها. فإذا كانت حجرا أو خشبا ونحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها، وكذلك آلات الملاهي، مثل الطنبور، يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء. وهو مذهب مالك، وأشهر الروايتين عن أحمد .
ومثل ذلك: أوعية الخمر يجوز تكسيرها وتخريقها. والحانوت الذي يباع فيه الخمر يجوز تحريقه. وقد نص أحمد على ذلك هو وغيره من المالكية وغيرهم.
واتبعوا ما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أمر بتحريق حانوت كان يباع فيه الخمر لرويشد الثقفي، وقال: إنما أنت فويسق لا رويشد. وكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أمر بتحريق قرية كان يباع فيها الخمر، رواه أبو عبيد وغيره؛ وذلك لأن مكان البيع مثل الأوعية. وهذا أيضا على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرهما.
ومما يشبه ذلك ما فعله عمر بن الخطاب، حيث رأى رجلا قد شاب اللبن بالماء للبيع فأراقه عليه. هذا ثابت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبذلك أفتى طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل؟ وذلك لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه « نهى أن يشاب اللبن بالماء للبيع، » وذلك بخلاف شوبه للشرب؛ لأنه إذا خلط لم يعرف المشتري مقدار اللبن من الماء، فأتلفه عمر .
ونظيره ما أفتى به طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل في جواز إتلاف المغشوشات في الصناعات : مثل الثياب التي نسجت نسجا رديئا أنه يجوز تمزيقها وتحريقها؛ ولذلك لما رأى عمر بن الخطاب على ابن الزبير ثوبا من حرير مزقه عليه، فقال الزبير : أفزعت الصبي، فقال: لا تكسوهم الحرير. وكذلك تحريق عبد الله بن عمر لثوبه المعصفر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا كما يتلف من البدن المحل الذي قامت به المعصية، فتقطع يد السارق، وتقطع رجل المحارب ويده. وكذلك الذي قام به المنكر في إتلافه نهي عن العود إلى ذلك المنكر. وليس إتلاف ذلك واجبا على الإطلاق، بل إذا لم يكن في المحل مفسدة جاز إبقاؤه أيضا، إما لله وإما أن يتصدق به، كما أفتى طائفة من العلماء على هذا الأصل: أن الطعام المغشوش من الخبز والطبيخ والشواء، كالخبز والطعام الذي لم ينضج، وكالطعام المغشوش، وهو الذي خلط بالرديء وأظهر المشتري أنه جيد ونحو ذلك- يتصدق به على الفقراء، فإن ذلك من إتلافه.
وإذا كان عمر بن الخطاب قد أتلف اللبن الذي شيب للبيع، فلأن يجوز التصدق بذلك بطريق الأولى، فإنه يحصل به عقوبة الغاش وزجره عن العود، ويكون انتفاع الفقراء بذلك أنفع من إتلافه.
وعمر أتلفه؛ لأنه كان يغني الناس بالعطاء، فكان الفقراء عنده في
المدينة إما قليلا وإما معدومين.
ولهذا جوز طائفة من العلماء التصدق به وكرهوا إتلافه, ففي [المدونة] عن مالك بن أنس : أن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش في الأرض أدبا لصاحبه. وكره ذلك مالك في رواية ابن القاسم , ورأى أن يتصدق به, وهل يتصدق باليسير؟ فيه قولان للعلماء.
وقد روى أشهب عن مالك منع العقوبات المالية, وقال: لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان وإن قتل نفسا. لكن الأول أشهر عنه, وقد استحسن أن يتصدق باللبن المغشوش, وفي ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه, ونفع المساكين بإعطائهم إياه, ولا يهراق.
قيل لمالك : فالزعفران والمسك أتراه مثله؟ قال: ما أشبهه بذلك, إذا كان هو غشه فهو كاللبن.
قال ابن القاسم : هذا في الشيء الخفيف منه, فأما إذا كثر منه فلا أرى ذلك, وعلى صاحبه العقوبة؛ لأنه يذهب في ذلك أموال عظام, يريد في الصدقة بكثيره.
قال بعض الشيوخ: وسواء على مذهب مالك كان ذلك يسيرا أو كثيرا؛ لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره , وخالفه ابن القاسم فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا, وذلك إذا كان هو الذي غشه.
وأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو, وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه, فلا خلاف في أنه لا يتصدق بشيء من ذلك.
وممن أفتى بجواز إتلاف المغشوش من الثياب ابن القطان . قال في
الملاحف الرديئة النسج: تحرق بالنار, وأفتى ابن عتاب فيها بالتصدق, وقال: تقطع خرقا وتعطى للمساكين إذا تقدم إلى مستعمليها فلم ينتهوا. وكذلك أفتى بإعطاء الخبز المغشوش للمساكين.
فأنكر عليه ابن القطان , وقال: لا يحل هذا في مال امرئ مسلم إلا بإذنه.
قال القاضي أبو الأصبغ : وهذا اضطراب في جوابه وتناقض في قوله؛ لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطاء هذا الخبز للمساكين. وابن عتاب أضبط في أصله في ذلك وأتبع لقوله.
وإذا لم ير ولي الأمر عقوبة الغاش بالصدقة أو الإتلاف فلا بد أن يمنع وصول الضرر إلى الناس بذلك الغش, إما بإزالة الغش , وإما ببيع المغشوش ممن يعلم أنه مغشوش ولا يغشه على غيره.
قال عبد الملك بن حبيب : قلت لمطرف وابن الماجشون لما نهينا عن التصدق بالمغشوش لرواية أشهب : فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن؟ قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق, وما كثر من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا يفرق ولا ينهب.
قال عبد الملك بن حبيب : ولا يرده الإمام إليه وليؤمر ببيعه عليه من يأمن أن يغش به, ويكسر الخبز إذا كثر ويسلم لصاحبه, ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله, ويبين له غشه, هكذا العمل فيما غش من التجارات.
قال: وهو إيضاح من استوضحته ذلك من أصحاب مالك وغيرهم (1) .
ج- قال ابن القيم : وأما التعزير بالعقوبات المالية فمشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي .
وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بذلك في مواضع:
منها: إباحته صلى الله عليه وسلم سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده.
ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها.
ومثل: أمره لعبد الله بن عمر بأن يحرق الثوبين المعصفرين.
ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الإنسية ثم استأذنوه في غسلها, فأذن لهم, فدل على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة لم تكن واجبة بالكسر.
ومثل: هدمه مسجد الضرار .
ومثل: تحريق متاع الغال.
ومثل: حرمان السلب الذي أساء على نائبه.
ومثل : إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر .
ومثل: إضعافه الغرم على كاتم الضالة.
ومثل: أخذ شطر مال مانع الزكاة, عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى.
ومثل: أمره لابس خاتم الذهب بطرحه, فطرحه فلم يعرض له أحد.
ومثل: تحريق موسى عليه السلام العجل وإلقاء برادته في اليم.
__________
(1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] (28\ 109) وما بعدها.
ومثل: قطع نخيل اليهود إغاظة لهم.
ومثل: تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر.
ومثل: تحريق عمر قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية.
وهذه قضايا صحيحة معروفة، وليس يسهل دعوى نسخها.
ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك، فقد غلط على مذاهب الأئمة نقلا واستدلالا، فأكثر هذه المسائل ساغ في مذهب أحمد وغيره، وكثير منها سائغ عند مالك.
وفعل الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة لها بعد موته صلى الله عليه وسلم مبطل أيضا لدعوى نسخها.
والمدعون للنسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم، إلا أن يقول أحدهم: مذهب أصحابنا عدم جوازها.
فمذهب أصحابه عيار على القبول والرد. وإذا ارتفع عن هذه الطبقة ادعى أنها منسوخة بالإجماع. وهذا خطأ أيضا. فإن الأمة لم تجمع على نسخها ومحال أن ينسخ الإجماع السنة، ولكن لو ثبت الإجماع لكان دليلا على نص ناسخ.
قال ابن رشد في كتاب [البيان] له: ولصاحب الحسبة الحكم على من غش في أسواق المسلمين في خبز أو لبن أو عسل أو غير ذلك من السلع بما ذكره أهل العلم في ذلك.
فقد قال مالك في [المدونة]. (إن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن
المغشوش في الأرض) أدبا لصاحبه.
وكره ذلك في رواية ابن القاسم، ورأى أن يتصدق به.
ومنع من ذلك في رواية أشهب، وقال: لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان، وإن قتل نفسا.
وذكر ابن الماجشون عن مالك - في الذي غش اللبن- مثل الذي تقدم في رواية أشهب.
قال ابن حبيب : فقلت لمطرف وابن الماجشون : فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن؟ قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق، وما غش من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا يهراق ولا ينهب.
قال ابن حبيب : ولا يبدده الإمام، وليأمر ثقته ببيعه عليه ممن يأمن أن لا يغش به، ويكسر الخبز إذا كثر ثم يسلمه لصاحبه، ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله، ويبين له غشه، وهكذا العمل في كل ما غش من التجارات، وهو إيضاح ما استوضحته من أصحاب مالك وغيرهم.
وروي عن مالك : أن المستحسن عنده أن يتصدق به؟ إذ في ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه، ونفع المساكين بإعطائهم إياه. ولا يهراق.
وقيل لمالك : فالزعفران والمسك أتراه مثله؟ قال: ما أشبهه بذلك، إذا كان هو الذي غشه فهو كاللبن.
قال ابن القاسم : هذا في الشيء الخفيف ثمنه، فأما إذا كثر ثمنه فلا أرى ذلك وعلى صاحبه العقوبة؛ لأنه يذهب في ذلك أموال عظام، تزيد
في الصدقة بكثير.
قال ابن رشد : قال بعض الشيوخ: وسواء- على مذهب مالك - كان ذلك يسيرا أو كثيرا؛ لأنه يسوي في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره.
وخالفه ابن القاسم، فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا. وذلك إذا كان هو الذي غشه. فأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه، فلا خلاف أنه لا يتصدق بشيء من ذلك. والواجب أن يباع ممن يؤمن أن يبيعه من غيره مدلسا به، وكذلك ما وجب أن يتصدق به من المسك والزعفران يباع على الذي غشه.
وقول ابن القاسم في أنه لا يتصدق من ذلك إلا بالشيء اليسير أحسن من قول مالك، لأن الصدقة بذلك من العقوبات في الأموال، وذلك أمر كان في أول الإسلام.
ومن ذلك: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة: « إنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا » (1) ، وروي عنه في جريبة النخل: « أن فيها غرامة مثلها وجلدات نكال » (2) ، وما روي عنه: « أن من وجد يصيد في حرم المدينة شيئا فلمن وجده سلبه » (3) .
ومثل هذا كثير، نسخ ذلك كله. والإجماع على أنه لا يجب، وعادت العقوبات في الأبدان، فكان قول ابن القاسم أولى بالصواب استحسانا. والقياس: أنه لا يتصدق من ذلك بقليل ولا كثير، انتهى كلامه.
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2449),سنن أبو داود الزكاة (1575),سنن الدارمي الزكاة (1677).
(2) سنن النسائي قطع السارق (4959).
(3) صحيح مسلم الحج (1364),سنن أبو داود المناسك (2037),مسند أحمد بن حنبل (1/170).
وقد عرفت أنه ليس مع من ادعى النسخ نص ولا إجماع.
والعجب أنه قد ذكر نص مالك وفعل عمر، ثم جعل قول ابن القاسم أولى، ونسخ النصوص بلا ناسخ . فقول عمر وعلي والصحابة ومالك وأحمد أولى بالصواب، بل هو إجماع الصحابة. فإن ذلك اشتهر عنهم في قضايا متعددة جدا، ولم ينكره منهم منكر، وعمر يفعله بحضرتهم، وهم يقرونه ويساعدونه عليه، ويصوبونه في فعله، والمتأخرون كلما استبعدوا شيئا قالوا: منسوخ ومتروك العمل به.
وقد أفتى ابن القطان في الملاحف الرديئة النسج بالإحراق بالنار، وأفتى ابن عتاب فيها بتقطيعها خرقا وإعطائها للمساكين إذا تقدم لمستعملها فلم ينته. ثم أنكر ابن القطان ذلك وقال: لا يحل هذا في مال مسلم بغير إذنه، يؤدب فاعل ذلك بالإخراج من السوق.
وأنكر ذلك القاضي أبو الأصبغ على ابن القطان وقال: هذا اضطراب في جوابه، وتناقض من قوله، لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطائها للمساكين، قال: وابن عتاب أضبط لأصله في ذلك وأتبع لقوله.
وفي [تفسير ابن مزين ]، قال عيسى : قال مالك في الرجل يجعل في مكياله زفتا: إنه يقام من السوق، فإنه أشق عليه. يريد: من أدبه بالضرب والحبس (1) .
__________
(1) [الطرق الحكمية] ص (266) وما بعدها.
الخلاصة
:أولا: حق ولي الأمر في الجباية :
مما تقدم يتبين ما يأتي:
1 - الأموال الظاهرة بالنسبة لما تجب فيه الزكاة هي: بهيمة الأنعام والحبوب والثمار. والأموال الباطنة هي: النقدان وعروض التجارة. أما زكاة الفطر فقيل من الظاهرة وقيل من الباطنة.
2 - يجب على ولي الأمر جباية الزكاة ممن امتنع من إخراجها، فإن أبى أن يعطيها لعمال الإمام أيضا وجب قتاله حتى تؤخذ منه؛ لحديث: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.. » (1) الحديث، ولقتال أبي بكر رضي الله عنه من منعها، مع تسليم الصحابة رضي الله عنهم ذلك له، وقتالهم معه، والمحافظة على حقوق مستحقيها، وإقامة هذه الشعيرة التي هي من أعظم أركان الإسلام، ولإنكار المنكر.
3 - إذا طلب ولي الأمر دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى عماله وكان عادلا وجب على أرباب هذه الأموال دفعها إلى جباتها إجماعا، وإذا طلب دفع زكاة الأموال الباطنة فقيل: يجب دفعها إلى عماله؛ لعموم آية: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } (2) ولعموم الأحاديث الواردة في ذلك، ولما في منعها بعد طلبها من شبهة الخروج عليهم المؤدي إلى الهرج والفساد، ولأنه طلب أمرا جائزا له فوجبت طاعته فيه، ولأنه يتيقن سقوط الفرض به بخلاف توزيعها من قبل رب المال بنفسه أو وكيله بعد طلبها منه، ولأن الإمام أعرف بالمستحقين
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25),صحيح مسلم الإيمان (22).
(2) سورة التوبة الآية 103
وبالمصالح وبقدر الحاجات وبمن أخذ من قبل, ولأنه يقصد لها.
وقيل: يجوز لرب المال, أن يفرقها بنفسه أو وكيله , ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقيها.
4 - إذا كان الإمام عادلا ولم يطلب زكاة الأموال الباطنة فقيل: الأفضل أن يفرقها رب المال بنفسه.
وقيل : الأفضل أن يسلمها لعمال الإمام, وتعليل القولين ما تقدم في الفقرة الثالثة.
والاختلاف بين ما ذكر في الفقرتين إنما هو في الوجوب والأفضلية بناء على وجود طلب من الإمام وعدمه.
5 - إذا طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وكان جائرا فقد قيل : يجب دفعها إليه؛ لعموم الأدلة ولدرء الفتنة , على ما تقدم , وبذلك تبرأ ذمة دافعيها, والإثم على من خان فيها من الإمام أو عماله , وقيل : لا يدفعها له, بل يحتال لإخفائها مه, ثم يخرجها بنفسه, أو وكيله الأمين ويضعها في مصارفها الشرعية, وإن طلب زكاة الأموال الباطنة ففي وجوب دفعها ومنعها خلاف.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله أنه ينبغي ألا يدفعها له, ويجب توزيعها على مستحقيها , فإن أكره على أخذها منه في الأموال الظاهرة والباطنة أجزأته وبرئت منها ذمته, وإن لم يطلبها لم تدفع له, وبل يجب على رب المال تفريقها في مصارفها الشرعية.
6 - ليس للإمام ولا لعماله تتبع الأموال الباطنة والتنقيب عنها, بل يتقبل من أربابها ما بينوه, وتؤخذ منهم الزكاة على ما أقروا به؛ لأنهم
مؤتمنون على أموالهم, إلا إذا دلت الأمارات وقرائن الأحوال على خيانتهم وكتمانهم ما تحب فيه الزكاة من الأموال, فيقوم بالبحث والاستقصاء حتى يعرف الواقع ويأخذ بمقتضاه.
ثانيا : زكاة عروض التجارة .
مما تقدم يتبين ما يأتي:
1 - العروض جمع عرض , فقيل: هو ما قصد الاتجار فيه عند تملكه بمعاوضة محضة.
وقيل : هو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه, من الثياب والحيوان والعقار وسائر المال, إذا قصد به التجارة.
2 - ذهب أهل الظاهر إلى أن العروض لا زكاة فيها ؛ لحديث « عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق » (1) ولأن الزكاة عبادة من العبادات مبنية على التوقيف, والنص إنما ورد في الدراهم والدنانير والسوائم والحبوب والثمار, وبقي ما عدا ذلك على الأصل, ولا يثبت بالقياس؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لا زكاة في العروض.
ويجاب : عن الأول بحمله على ما ليس للتجارة . ومعناه: لا زكاة في عينه, بخلاف الأنعام, وهذا التأويل متعين؛ ليجمع بينه وبين الأحاديث.
وعن الثاني بأنه ورد النص.
وعن الثالث بأنه قد ضعفه الشافعي والبيهقي وغيرهما, فلا حجة فيه. وعلى فرض صحته فهو محمول على عرض ليس للتجارة ؛
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (620),سنن النسائي الزكاة (2477),سنن أبو داود الزكاة (1574),سنن ابن ماجه الزكاة (1790),مسند أحمد بن حنبل (1/132),سنن الدارمي الزكاة (1629).
جمعا بينه وبين الأحاديث وبين الرواية الأخرى عنه.
وذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى وجوب الزكاة في عروض التجارة؛ لعموم أدلة القرآن, ولدلالة السنة والأثر والمعنى , كما سبق في الإعداد ص : ( 36, 40, 45).
3 - اختلف القائلون بوجوب الزكاة في عروض التجارة. فمنهم من أوجبها في كل حول؛ لعموم أدلة وجوب الزكاة في المال إذا حال عليه الحول ولا مخصص لها.
وذهب الإمام مالك رحمة الله إلى أن التاجر ينقسم إلى قسمين :
مدير وغير مدير , فالمدير هو الذي يكثر بيعه وشراؤه ولا يقدر أن يضبط أحواله , فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة يقوم فيه ما عنده من العروض ويحصي ما له من الديون التي يرتجي قبضها فيزكي ذلك على ما عنده من الناض.
وأما غير المدير وهو المحتكر الذي يشتري السلع ويتربص بها النفاق, وكذلك من كسدت سلعته, فهذا لا زكاة عليه فيما اشترى من السلع حتى بيعها , وإن قامت أحوالا, فإذا باعها زكاها لحول واحد ص: (26) وما بعدها .
وحجته : أن الحول الثاني لم يكن المال عينا في أحد طرفيه؛ فلم تجب فيه الزكاة كالحول الأول إذا لم يكن في أوله عين.
ويجاب عن ذلك: بأن سبب وجوب الزكاة وشرطه في كل حول متوفران , فلا معنى لتخصيص الحول الأول بالوجوب فيه كالسوائم وبأنه دليل اجتهادي مقابل للنص , ولا اجتهاد مع النص.
4 - يشترط الحنفية ومن وافقهم لوجوب الزكاة كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية , ولا يشترط مالك , وحجته العمومات .
والجواب: أنها محمولة على الفاضل عن الحوائج الأصلية. ويرجع إلى ص ( 22) . ويشترطون أيضا نية التجارة مقارنة لعمل التجارة .
أما المالكية فلهم شروط خمسة : أن لا يكون مما في عينه زكاة كالفضة , وأن يكون مملوكا بالشراء, وأن ينوي به التجارة عند الشراء, وأن يكون الثمن الذي اشترى به ذلك العرض عينا وعرضا ملك بشراء, وأن يبيع من العرض بعين نصابا فأكثر في المحتكر أو أقل لو درهما في المدير . ص ( 34) .
ويشترط الشافعية : أن يملكه بعقد فيه عوض كالبيع , وأن ينوي عند العقد أنه تملكه للتجارة . ص (42)
أما الحنابلة : فيشترطون أن يملكه بفعله كالبيع, وأن ينوي عند تملكه أنه للتجارة , وعن أحمد رواية أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية, وعليه فلا يعتبر أن يملكه بفعله ولا أن يكون في مقابله عروض, بل متى نوى به التجارة صار للتجارة , ومما تقدم يعلم أن النية شرط عند الجميع.
5 - تقوم عروض التجارة بالأحظ للفقراء, وقيل : بما اشتريت به, فإن لم تكن دخلت عليه بأحد النقدين فإنه يقومها بالنقد الغالب. وقيل : يقومها بالنقد الغالب مطلقا. وقيل: يقومها بما شاء: ومدارك هذه الأقوال الاجتهاد . ص (21, 22) .
6 - تضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة, أو يقوم الذهب والفضة ويضمهما إلى قيمة العروض بالقيمة أو بالإجزاء , ومدرك كل من القولين الاجتهاد ص: (20) .
7 - إذا ادعى من طلبت منه الزكاة أن ما بيده من العروض لم ينو به التجارة , أو أنه أدى زكاته, أو لم يحل عليه الحول, فقيل : يقبل؛ لأنه عبادة كالصلاة , فهو مؤتمن عليها: وقيل: لا يقبل إن اتهم ؛ بناء على العمل بقاعدة القرائن ؛ لما سبق في رقم (6) من ملخص الأمر الأول.
ثالثا : الدين الذي للإنسان على غيره هل تلزمه زكاته؟
1 - قسم أبو حنيفة الديون ثلاثة أقسام: قوي , وضعيف , متوسط فالقوي: هو الذي وجب بدلا عن مال التجارة , ولا يخاطب بأداء شيء من زكاة ما مضى ما لم يقبض أربعين درهما , فكلما قبض أربعين درهما أدى درهما واحدا.
والضعيف : ما وجب له بدلا عن شيء وجب له بغير صنعه كالميراث أو بصنعه كالوصية , أو وجب عما ليس بمال كالمهر, فيزكيه إذا قبضه كله وحال عليه الحول بعد القبض.
والوسط : ما وجب له بدلا عما ليس للتجارة كثمن عبد الخدمة وثمن ثياب البذلة والمهنة, فقال: تجب فيه الزكاة قبل القبض ولا يخاطب بالأداء ما لم يقبض مائتي درهم, فإذا قبض مائتي درهم زكى لما مضى , وقال: لا زكاة فيه حتى يقبض المائتين ويحول عليه الحول من وقت القبض. وهو أصح الروايتين عنه. ومدركه
اجتهادي يرجع إليه في ص: (53).
2 - الديون عند المالكية تنقسم إلى أربعة أقسام: دين من فائدة , ودين من غصب , ودين من قرض, ودين من تجارة.
فأما الدين من الفائدة فإنه ينقسم إلى أربعة أقسام:
أحدها : أن يكون من ميراث ونحوه, فلا زكاة فيه حالا كان أو مؤجلا حتى يقبضه ويحول عليه الحول من بعد القبض.
الثاني: أن يكون من ثمن عرض أفاده , فإذا قبضه, وحال عليه الحول بعد القبض زكاه.
الثالث: أن يكون من ثمن عرض اشتراه بناض عنده للقنية , فهذا إن كان باعه بالنقد لم تجب عليه فيه الزكاة حتى يقبضه ويحول عليه الحول بعد القبض, وإن كان باعه بتأخير فقبضه بعد حول زكاة ساعة يقبضه.
الرابع: أن يكون الدين من كراء أو إجارة , فهذا إن كان قبضه بعد استيفاء السكنى والخدمة كان الحكم فيه على ما تقدم في القسم الثاني, وإن كان قبضه بعد استيفاء العمل كما إذا أجر نفسه ثلاث سنين بستين دينارا فيقبضها معجلة.
فقيل: يزكي إذا حال ما يجب له من الإجارة, وذلك عشرون دينارا .
وقيل : يزكي إذا حال الحول تسعة وثلاثين دينارا ونصف دينار.
وقيل: لا زكاة عليه في شيء من الستين حتى يمضي العام الثاني, فإذا مر زكى عشرين ؛ لأن ما ينوي بها من العمل دين عليه, فلا يسقط إلا بمرور العام شيئا بعد شيء, فوجب استئناف حول آخر بها منذ تم سقوط الدين عنها .
وأما الدين من الغصب ففيه في المذهب قولان:
أحدهما : وهو المشهور أنه يزكيه زكاة واحدة ساعة يقبضه كدين القراض.
الثاني : أنه يستقبل حولا مستأنفا من يوم قبضه كدين الفائدة , وقد قيل : إنه يزكيه للأعوام الماضية.
وأما دين القرض: فيزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من السنين.
وأما المدير فقيل : يقومه، وقيل : لا يقومه، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف فيمن له مالان, يدير أحدهما , ولا يدير الآخر؛ لأن المدير إذا أقرض من المال الذي يدير أخرجه بذلك عن الإدارة.
وأما دين التجارة : فلا اختلاف في أن حكمه حكم عروض التجارة يقومه المدير , ويزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من الأعوام, ولزكاة الدين لسنة واحدة أربعة شروط:
أن يكون أصله عينا بيده فيسلفها , أو عروض تجارة يبيعها بثمن معلوم لأجل.
وأن يقبض من المدين.
وأن يكون المقبوض عينا ذهبا أو فضة, ولو كان القابض له موهوبا له من رب الدين أو أحال ربه به ممن له عليه دين على المدين.
وأن يقبض نصابا كاملا ولو في مرات, كأن يقبض منه عشرة ثم عشرة فيزكيه عند قبض ما به التمام, أو يقبض بعض نصاب وعنده ما يكمل النصاب.
3 - قسم الشافعية الديون إلى ثلاثة أقسام:
غير لازم : كدين الكتابة, ولا زكاة فيه بلا خلاف عندهم.
ولازم : وهو ماشية , ولا زكاة فيه بلا خلاف ؛ لأن ما في الذمة لا توصف بأنها سائمة , والسوم شرط.
والثالث: أن يكون دراهم أو دنانير أو عروض تجارة وهو مستقر, ففيه قولان مشهوران.
القديم : لا تجب الزكاة في الدين بحال؛ لأنه غير معين.
والجديد الصحيح باتفاق الأصحاب: وجوب الزكاة في الدين على الجملة , وفيه تفصيل يرجع إليه ص : (65).
4 - قسم الحنابلة الدين إلى قسمين :
دين على معترف به باذل له, فعلى صاحبه زكاته, إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه فيؤدي لما مضى؛ لأنه دين ثابت في الذمة فلم يلزمه الإخراج قبل القبض , كما لو كان على معسر؛ ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة, وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به, وإنما يزكيه لما مضى ؛ لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به؛ فلزمته زكاته كسائر الأموال.
وقيل: عليه إخراج الزكاة في الحال وإن لم يقبضه؛ لأنه قادر على أخذه والتصرف فيه؛ فلزمه إخراج زكاته كالوديعة . ورد بالفرق, فإن الوديعة بمنزلة ما في يده؛ لأن المستودع نائب عنه في حفظها فيده كيده. وقيل: ليس في الدين زكاة؛ لأنه غير نام ؛ فلم تجب زكاته كعروض القنية.
الضرب الثاني: أن يكون على معسر أو جاحدا أو مماطل به , ففي
وجوبها روايتان:
إحداهما : لا تجب؛ لأن هذا المال في جميع الأحوال على حال واحد؛ فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها كسائر الأموال.
الثانية : يزكيه إذا قبضه لما مضى؛ لما روي عن علي رضي الله عنه في الدين المظنون , قال : إذا كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى .
وروي نحوه عن ابن عباس , رواهما أبو عبيد , ولأنه مملوك يجوز التصرف فيه؛ فوجبت زكاته لما مضى كالدين على مليء . ولا فرق بين كون الغريم يجحده في الظاهر دون الباطن أو فيهما. وظاهر كلام أحمد : لا فرق بين الحال والمؤجل؛ لأن البراءة تصح من المؤجل .
رابعا: هل الدين يمنع وجوب الزكاة؟
مما تقدم يتبين ما يلي:
1 - منع الدين للزكاة:
أـ يشترط الحنفية ومن يوافقهم : أن لا يكون عليه دين مطالب به من جهة العباد حالا أو مؤجلا , والحجة في ذلك أثر عثمان رضي الله عنه : ( هذا شهر زكاتكم , فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم ) . وفي رواية : ( فمن كان عليه دين فليقض دينه وليزك بقية ماله). قاله بمحضر من الصحابة ولم يعارض؛ فكان إجماعا.
وروى أصحاب مالك عن عمير بن عمران عن شجاع عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذ كان لرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه » وهذا نص: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم » .
ووجه الدلالة ظاهر، ولأن ملكه غير مستقر؛ لأنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء، ولأن المشغول بالحاجة الأصلية كالمعدوم.
ب- وقال مالك : الدين يمنع زكاة الناض فقط، إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع، والحجة عمومات أدلة وجوب الزكاة، كقوله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } (1) فعم ولم يخص من عليه دين ممن لا دين عليه في مال من الأموال، والعموم محتمل للخصوص، فخصص أهل العلم ذلك من عليه دين في المال العين بإجماع الصحابة على ذلك، بدليل أثر عثمان رضي الله عنه ص: (98).
ج- مذهب الشافعية : وجوب الزكاة، سواء كان المال باطنا أو ظاهرا، من جنس الدين أو غيره، وسواء دين الله ودين الآدمي، كالزكاة السابقة والكفارة والنذر ص: (104).
وهذا إحدى الروايات الثلاث في المذهب.
والحجة عمومات أدلة وجوب الزكاة، ولأنه مسلم ملك نصابا حولا فوجب عليه الزكاة كمن لا دين عليه. ويجاب عن الأول بأن العمومات خصصها أثر عثمان رضي الله عنه، وعن الثاني بأنه يخالف من لا دين عليه، فإنه غني يملك نصابا ص: 107 .
د- أما الحنابلة ومن يوافقهم: فإن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة رواية واحدة، والحجة لهذا القول ما سبق من أدلة الحنفية .
وأما الأموال الظاهرة فروي عن أحمد :
أن الدين يمنع الزكاة أيضا فيها؛ لما سبق من الأدلة.
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
والرواية الثانية: لا يمنع الزكاة فيها، لما سبق من الأدلة.
والفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة: أن تعلق الزكاة بالظاهرة آكد لظهورها وتعلق قلوب الفقراء بها.
وفي رواية ثالثة: لا يمنع الدين الزكاة في الأموال الظاهرة إلا في الزرع والثمار فيما استدانه للإنفاق عليها خاصة ص ( 107 ).
وأما دين الله كالكفارة ففيه وجهان:
أحدهما : يمنع الزكاة كدين الآدمي؛ لما سبق من الأدلة، ولأنه دين يجب قضاؤه، فهو كدين الآدمي، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : « دين الله أحق أن يقضى » (1) . ويناقش ذلك بالفرق، فإن دين الآدمي آكد، والمطالبة تتوجه به.
والآخر: لا يمنع؛ لأن الزكاة آكد لتعلقها بالعين، فهو كأرش الجناية ص: (58 ) وما بعدها.
2 - يمنع الدين الزكاة إذا كان يستغرق النصاب، أو ينقص ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب أو ما لا يستغنى عنه.
وإذا كان له مالان وأحدهما لا زكاة فيه، والآخر فيه الزكاة، كرجل عليه مائتا درهم وله مائتا درهم وعروض للقنية تساوي مائتين، فقال القاضي: يجعل الدين في مقابلة العروض، وهذا مذهب مالك وأبي عبيد .
قال أصحاب الشافعي : وهو مقتضى قوله، لأنه مالك لمائتين زائدة عن مبلغ دينه، فوجب عليه زكاتها، كما لو كان جميع ماله جنسا واحدا.
وظاهر كلام أحمد : أنه يجعل الدين في مقابلة ما يقضى منه، فإنه قال
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1852),صحيح مسلم الصيام (1148),سنن الترمذي الصوم (716),سنن النسائي الأيمان والنذور (3816),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3310),سنن ابن ماجه الصيام (1758),مسند أحمد بن حنبل (1/362),سنن الدارمي الصوم (1768).
في رجل عنده ألف وعليه ألف وله عروض بألف ، إن كانت العروض للتجارة زكاها ، وإن كانت لغير التجارة فلا شيء عليه .
وهذا مذهب أبي حنيفة ؛ لأن الدين يقضى من جنسه عند التشاح ، فجعل الدين في مقابلته أولى ، كما لو كان النصابان زكويين .
ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ما إذا كان العرض تتعلق به حاجته الأصلية ، وإن لم يكن فاض عن حاجته فلا يلزم صرفه لوفاء الدين ؛ لأن الحاجة أهم .
3 - بناء على قول من يقول : الدين يمنع وجوب الزكاة ، وأحاطت برجل ديون وحجر عليه القاضي ، فإذا أقر بوجوب الزكاة قبل الحجر فإن صدقه الغرماء ثبتت وأخذت ، وإن كذبوه فالقول قوله بيمينه ؛ لأنه أمين . وحينئذ هل تقدم الزكاة أم الدين أم يستويان ؟
فيه ثلاثة أقوال في اجتماع حق الله تعالى ، ودين الآدمي ، ومداركها اجتهادية .
وإذا أقر بالزكاة بعد الحجر ، فقيل : يقبل في الحال ويزاحم به الغرماء . وقيل : يثبت في ذمته ولا تثبت مزاحمته .
وفي ذلك تفاصيل ذكرت في الإعداد يمكن الرجوع إليها ، وقد تركناها اختصارا .
خامسا : التعزير :
اتفق الفقهاء على جواز التعزير بالضرب والسجن والنفي ونحوها من العقوبات البدنية عند وجود ما يقتضيها .
واختلفوا في جوازه بالعقوبات المالية :
فقال بعضهم: بالمنع؛ لأن العقوبات المالية من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام ولا يلائم تصرفات الشرع، وتأولوا ما ورد من أخذ عمر شطر مال خالد رضي الله عنهما بأنه أخذ ما رأى أن خالدا استفاده بالولاية. وأقر جماعة بأن التعزير بالمال قد كان أول الإسلام، ثم زعموا أنه نسخ بالإجماع على تركه.
واستشهدوا لذلك: بأن أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة حتى أخذها منهم، ولم ينقل عنه أنه زاد عليها، ولو كان لنقل، فدل ذلك على الإجماع على تركها. وستأتي مناقشة ذلك إن شاء الله.
وقال بعضهم: يجوز لولي الأمر التعزير بالعقوبات المالية.
واستدلوا على ذلك بوقائع كثيرة:
منها: ما كان تأديبا بها من النبي صلى الله عليه وسلم .
ومنها: ما كان من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، دون نكير من أحد من الصحابة رضي الله عنهم، حتى من نزلت به العقوبة.
وعلى هذا فدعوى المانعين أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد للشريعة به ولا يلائم تصرفات الشرع دعوى يكذبها الواقع الكثير.
وكذا ما زعموه من النسخ أو الإجماع على الترك باطل بوجود ذلك في تصرفات الخلفاء الراشدين على مشهد من الصحابة دون نكير، وبوجود الخلاف بعدهم في ذلك بين أئمة الفقهاء .
ورأى بعضهم أن التعزير بالمال في المال الذي وقعت فيه الإساءة وتوابعه بإتلافه أو مصادرته وحرمانه منه ونفع المساكين ونحوهم به، غير
أنهم اختلفوا هل يقتصر في التعزير على اليسير أو يعم القليل والكثير ؟
هذا ما تيسر إيراده ، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
قرار رقم 63 في 25\ 10\ 1398هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء المنعقد في مدينة الطائف في الفترة ما بين يوم 14\ 10\ 1398 هـ حتى نهاية يوم 25\ 10 \ 1398 هـ. قد أعاد النظر في اللائحة التنفيذية لجباية الزكاة وما أعد بشأنها من بحث علمي من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في هيئة كبار العلماء، وذلك بناء على ما ورد من المقام السامي إلى الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء الدعوة والإرشاد برقم 3\ ش\ 293 في 4\ 1\ 1397 هـ.
وبعد تداول الرأي والنظر في أقوال أهل العلم وأدلتهم ولعدم وجود أدلة شرعية تدل على وجوب قيام ولي الأمر بمطالبة الناس بزكوات أموالهم الباطنة ومحاسبتهم على ذلك، بل إن كلام أهل العلم يدل على خلاف ذلك، فأكثر العلماء يقول: إن زكاة الأموال الباطنة وهي النقود وعروض التجارة موكول أمر إخراجها لأصحاب الأموال وهم مصدقون في ذلك فلا يحاسبون ولا يتهمون بأنهم قاموا بإخفاء شيء منها، بل ذلك أمر بينهم وبين الله سبحانه، ولكن إذا طلبها ولي الأمر فدفعوها له برئت ذمتهم منها.
لما تقدم فإن مجلس هيئة كبار العلماء يرى بالأكثرية ما يلي:
1 - الاكتفاء بما نص عليه أهل العلم من ترك أمر محاسبة الناس على أموالهم أو مطالبتهم ببيانات عما يملكونه من نقود وعروض تجارة ، بل يؤخذ منهم ما دفعوه من الزكاة اتباعا لما درج عليه سلف الأمة في ذلك وما كان عليه العمل في عهد جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله، وما سبقه من عمل الدولة السعودية منذ نشأتها.
2 - إبقاء العمل على ما هو عليه في جباية زكاة الحبوب والثمار وأن
يوكل إلى لجنة فيها مندوب من المحكمة والإمارة وهيئة الأمر بالمعروف تتولى جبايتها وصرفها على مستحقيها ويبقى العمل في جباية زكاة الماشية على ما كان عليه ويعطون مكافأة على عملهم ولو من الزكاة.
3 - كل من تحقق لدى ولاة الأمر أنه لا يدفع الزكاة أو يجحد شيئا منها فإن ولي الأمر يجري ما يلزم نحو أخذها منه وتعزيره التعزير الشرعي جزاء ما ارتكب بعد ثبوت ذلك عليه.
4 - يوصي المجلس بإيجاد صندوق خاص يودع فيه ما يورد لصندوق الدولة من زكاة وتصرف منه بعد ورودها على مستحقيها بواسطة لجنة من أهل الثقة والأمانة في كل بلد.
ولا شك أن ولاة الأمر -وفقهم الله- إذا انتهجوا ما أوضح في هذا القرار فإن ذمتهم بريئة، وسوف يكون لذلك أثره الحميد وعواقبه الطيبة؛ لأن الخير والبركة في اتباع سلفنا الصالح من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. وبالله التوفيق.. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد بن علي الحركان
عبد الله بن منيع لي وجهة نظر ... عبد العزيز بن صالح غائب ... صالح بن غصون متوقف ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... سليمان بن عبيد
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد المجيد حسن
عبد الله بن قعود متوقف فيما عدا الفقرة الرابعة ... صالح بن لحيدان
"وجهة نظر"
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه وبعد:
فبعد الاطلاع على خطاب سمو نائب رئيس مجلس الوزراء رقم 3\ ش\ 293 وتاريخ 4\ 1\ 1397هـ وعلى مشروع اللائحة التنفيذية لجباية الزكاة المقدم لمجلس الوزراء لدراسته وبعد التأمل والدراسة ظهر لي أن هذه اللائحة ليست لائحة تنفيذية بالمعنى الاصطلاحي المعروف لدى خبراء الإدارة والتنظيم بحيث تكون خاصة بالأعمال الإدارية لجباية الزكاة وإنما تشتمل اللائحة على مواد تشريعية، ومنها المواد الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة، وعلى مواد تنفيذية إدارية.
وحيث إن المواد التشريعية في مشروع اللائحة ليست شاملة لأحكام الزكاة حتى يقال ببقائها للفائدة، وليست شاملة لأهم أحكام الزكاة حتى يقال بالاكتفاء بالأهم عن المهم، مع أن بعض ما تناولته موضع خلاف بين أهل العلم كما هو الحال في الديون على من تجب عليه الزكاة هل يسقط من الزكاة ما يقابلها من الأموال مطلقا أم أن ذلك خاص بالأموال الباطنة أو أنها لا تسقط من الزكاة شيئا، وكذلك الأمر بالنسبة للديون المملوكة للمكلف بالزكاة على مليء أو غيره هل يزكيها مطلقا، ومتى يزكيها، وهل تقابل بما يزيد عند المكلف بها عن حاجته من أموال القنية غير الأثمان.
وحيث إن الأمور التشريعية يرجع إليها في مصادرها كالحال بالنسبة لمسائل العبادات والمعاملات وما تقتضيه الخصومات من أحكام قضائية ومتى أشكل منها على الجهة المختصة بجبايتها ما يقتضي الأمر استجلاءه أمكن الرجوع إلى الجهة المختصة بالإفتاء.
وعليه فإنني أرى استبعاد كل ما يتعلق بالأمور التشريعية من اللائحة لما ذكر وليصدق عليها أنها لائحة تنفيذية لجباية الزكاة مفروض في جميع موادها أن
تكون إدارية محضة.
وحيث إن غالب المواد التنفيذية الإدارية في هذه اللائحة مبني على المواد التشريعية المذكورة فيها فإن بقاءها بعد استبعاد المواد التشريعية فيها لا يستقيم إلا بعد إعادة النظر فيها وصياغتها صياغة إدارية لا تنبني على ما استبعد منها. وتستند على الأسس التالية:
أ- إن لولي الأمر أن يطلب من الزكاة ما يرى المصلحة العامة تقتضي طلبه.
ب- الأصل في المسلم أنه مؤتمن على شئون دينه من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك.
ج- متى توفرت القرائن لاتهام من يتساهل أو يتلاعب بأداء الزكاة أو بعضها بأي طريق من طرق الاحتيال أو التهرب عن أدائها فإن للقضاء الفصل في عدوانه بما يقتضيه الوجه الشرعي. وللجهة المختصة بجبايتها بذل الجهد في تحصيل ما يدعم الادعاء.
د- تعيين الجهة المختصة بجباية الزكاة وإعطائها من الصلاحيات ما تستطيع به إنفاذ ما وكل إليها.
هـ- الرجوع في تقدير العقوبات الجزائية إلى القضاء المختص.
و- الأخذ بالأصل في أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء.
هذا ما ظهر لي، والله ولي التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عضو الهيئة
عبد الله بن سليمان بن منيع
24 \ 10 \ 1398 هـ
(6)
ملاحظة بعض التجار
على جباية الزكاة
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظة بعض التجار
على جباية الزكاة
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد :
فبناء على ما جاء في كتاب معالي رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء 3\ م\ 11256 وتاريخ 11\ 5\ 96 هـ. إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من الرغبة في دراسة ما لاحظه بعض التجار على جباية الزكاة الشرعية التي يدفعونها لمصلحة الزكاة والدخل، وكذا التأمينات الاجتماعية التي تستحصلها الدولة من غير السعوديين العاملين بالمملكة، وبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة العاشرة المنعقدة بالرياض آخر ربيع الأول وأول ربيع الآخر عام 1397 هـ من إعداد بحث في ذلك الموضوع أعدت اللجنة الدائمة فيه بحثا يتضمن ما يأتي:
أولا: حق ولي الأمر العام في جباية الزكاة .
ثانيا: مناقشة ما لاحظه التجار على ضوئه .
ثالثا: مناقشة أو دراسة ما لاحظه التجار على استحصال تأمينات اجتماعية من غير السعوديين الذين يعملون في المملكة .
وفيما يلي الكلام على ذلك، والله الموفق .
أولا-
حق ولي الأمر في الجباية
1 - الأموال الظاهرة بالنسبة لما تجب فيه الزكاة هي بهيمة الأنعام والحبوب والثمار، والأموال الباطنة هي النقدان وعروض التجارة، أما زكاة الفطر فقيل من الظاهرة وقيل من الباطنة.2 - يجب على ولي الأمر جباية الزكاة ممن امتنع من إخراجها، فإن أبى أن يعطيها لعمال الإمام أيضا وجب قتاله حتى تؤخذ منه، لحديث : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة » (1) الحديث، ولقتال أبي بكر رضي الله عنه من منعها مع تسليم الصحابة رضي الله عنهم ذلك له وقتالهم معه والمحافظة على حقوق مستحقيها وإقامة هذه الشعيرة التي هي من أعظم أركان الإسلام، ولإنكار المنكر.
3 - إذا طلب ولي الأمر دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى عماله وكان عادلا وجب على أرباب هذه الأموال دفعها إلى جباتها إجماعا، وإذا طلب دفع زكاة الأموال الباطنة فقيل يجب دفعها إلى عماله، لعموم آية { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } (2) الآية، ولعموم الأحاديث الواردة في ذلك، ولما في منعها بعد طلبها من شبهة الخروج عليهم المؤدي إلى الهرج والفساد، ولأنه طلب أمرا جائزا له فوجبت طاعته فيه، ولأنه يتيقن سقوط الفرض به بخلاف توزيعها من قبل رب المال بنفسه أو وكيله بعد طلبها منه، ولأن الإمام أعرف بالمستحقين وبالمصالح وبقدر الحاجات
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25),صحيح مسلم الإيمان (22).
(2) سورة التوبة الآية 103
وبمن أخذ من قبل، ولأنه يقصد لها، وقيل: يجوز لرب المال أن يفرقها بنفسه أو وكيله، ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقيها.
4 - إذا كان الإمام عادلا ولم يطلب زكاة الأموال الباطنة، فقيل: الأفضل أن يفرقها رب المال بنفسه، وقيل: الأفضل أن يسلمها لعمال الإمام وتعليل القولين ما تقدم في الفقرة الثالثة، والاختلاف بين ما ذكر في الفقرتين إنما هو في الوجوب والأفضلية بناء على وجود طلب من الإمام وعدمه.
5 - إذا طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وكان جائرا فقد قيل: يجب دفعها إليه؛ لعموم الأدلة ولدرء الفتنة على ما تقدم، وبذلك تبرأ ذمة دافعيها والإثم على من خان فيها من الإمام أو عماله، وقيل: لا يدفعها له، بل يحتال لإخفائها عنه، ثم يخرجها بنفسه أو وكيله الأمين ويضعها في مصارفها الشرعية، وإن طلب زكاة الأموال الباطنة ففي وجوب دفعها ومنعها خلاف.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه ينبغي ألا يدفعها له، ويجب توزيعها على مستحقيها، فإن أكره على أخذها منه في الأموال الظاهرة والباطنة أجزأته وبرئت منها ذمته، وإن لم يطلبها لم تدفع له، بل يجب على رب المال تفريقها في مصارفها الشرعية.
6 - ليس للإمام ولا لعماله تتبع الأموال الباطنة والتنقيب عنها، بل يتقبل من أربابها ما بينوه وتؤخذ منهم الزكاة على ما أقروا به، لأنهم مؤتمنون على أموالهم إلا إذا دلت الأمارات وقرائن الأحوال على خيانتهم وكتمانهم ما تجب فيه الزكاة من الأموال، فيقوم بالبحث والاستقصاء حتى يعرف الواقع ويأخذ بمقتضاه.
ثانيا:
مناقشة ما لاحظه التجار على ضوئه
.بناء على ما تقدم في بيان حق ولي الأمر العام العادل في جباية زكاة
الأموال الظاهرة والباطنة، وما جاء فيه من أنه ليس له ولا لعماله التنقيب عن أموال الزكاة الباطنة، بل يأخذ من أربابها زكاتها على ما أقروا به؛ لأنهم مؤتمنون على ذلك إلا إذا دلت الأمارات وقرائن الأحوال على خيانتهم وكتمانهم بعض ما تجب فيه الزكاة، فيقوم بالبحث والاستقصاء عنها حتى يتبين له الواقع ويأخذ الزكاة بمقتضاه.
وبناء على ما جاء في كتاب معالي وزير المالية والاقتصاد الوطني رقم (7296\ 95) وتاريخ 23\ 10\ 95 هـ إلى معالي رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء، وكتابه إليه أيضا رقم........ وتاريخ........ أنه لوحظ على بعض التجار عدم إخراج الزكاة وعلى بعض المؤسسات والشركات أنها لا تقدم حسابات نظامية يركن إليها في تحديد مقدار الزكاة الواجبة عليها بالضبط فاضطرت الجهة المختصة إلى اتباع طريقة لتحديد الأموال الخاضعة للزكاة عن طريق حصر حجم مستوردات تلك المؤسسات والشركات والاسترشاد بذلك قصدا إلى إيجاد قاعدة واحدة تطبق على الجميع وتزيل أسباب معاملة التجار بطرق مختلفة.
بناء على ما تقدم يمكن أن يقال: إن من واجب ولي الأمر في مثل هذه الأحوال جباية زكاة الأموال الباطنة واختيار أقوم الطرق وأقربها إلى تقدير الأموال التي تجب فيها الزكاة تحقيقا للعدل بين أرباب الأموال والمستحقين للزكاة.
وقد فعل ذلك ولي الأمر لوجود مقتضيه فاختار من طرق التقدير ما أشار به المختصون وترك بعض ما وجب من الزكاة إلى التجار ليوزعوه على المستحقين من الأقارب والجيران ومن يقصدهم لذلك، وهذا من حقه وتصرفاته شرعا، ومن وجد من التجار تعسفا من العمال فليرفع بيانا بذلك إلى ولي الأمر ليزيل شكاته .
ثالثا:
ملاحظات بعض التجار على تحصيل تأمينات اجتماعية من غير السعوديين الذين يعملون في المملكة
.إن ما ذكره التجار من الملاحظات في ذلك ينحصر في أربعة أمور:
الأول : أن ما تنفقه الدولة على الجباية أكثر مما تأخذه.
الثاني : أنه يؤخذ مبلغ 5% على الموظف و 8% على المؤسسات والشركات تأمينات اجتماعية وهو كثير.
الثالث : أن العمال غير السعوديين يشترطون عند تعاقد المؤسسات والشركات معهم ألا تخضع مرتباتهم لاستقطاع زكاة منها أو تأمينات اجتماعية فتقبل المؤسسات والشركات هذا الشرط لحاجتها إليهم، وتتحمل هذه الاستقطاعات عنهم، وهذا مما يعوق الإنتاج الصناعي، ويضعف القدرة على منافسة السلع المستوردة.
الرابع : أن الحكومة لا تتحمل مسئولية لغير السعودي ولا تعمل له شيئا؟ لأنه يغادر المملكة خلال سنة أو سنتين فلا يستطيع استرجاع ما دفعه، وهذه أحدثت بلبلة في البلد.
وبعد دراسة اللجنة لذلك كتبت ما يلي :
أولا : إن المقارنة بين ما تنفقه الدولة على جباية الزكاة وما تأخذه ومعرفة أيهما أكثر عملية حسابية تتعلق بأمر اقتصادي والنظر في مثل هذا إلى ولي الأمر العام فهو الذي ينظر في ذلك بنفسه أو بأجهزته المختصة، ويرتب على ذلك ما يراه مصلحة من الاستمرار في جباية الزكاة؛ إقامة لهذه الشعيرة ومحافظة عليها أو ترك إخراجها وتوزيعها على مستحقيها إلى أرباب الأموال مع الرقابة.
ثانيا : إن النظر في كثرة ما يستقطع من الموظف ومن المؤسسات
والشركات وقلته من حق ولي الأمر والأجهزة المختصة التي يسند إليها النظر في مثل هذا، وقد فعل، فقد قامت لجنة وزارية ببحث هذا الموضوع وانتهت بالتوصية بعدم تعديل ما يتعلق بخضوع العمال الأجانب لنظام التأمينات الاجتماعية وصدرت الموافقة السامية على هذه التوصية برقم 18693 وتاريخ 4\ 8\ 93، أما النظر في حل ما يستقطع أو تحريمه فإنه يرجع إلى مجلس الهيئة.
ثالثا : إن النظر في تأثير ما يستقطع من المؤسسة أو الشركة من أجل عمالها- سواء ما يخصها من النسبة وما يخص العامل الأجنبي- على الإنتاج وتعويقه إياه، وإضعافه القدرة على منافسة السلع المستوردة من الأمور الفنية الاقتصادية التي يرجع فيها ولي الأمر إلى المتخصصين في ذلك.
رابعا : إذا كان العمال الأجانب قد اشترطوا عند التعاقد معهم ألا تخضع مرتباتهم للاستقطاع فلهم شرطهم ويلزم الوفاء به من اشترط عليهم من أرباب المؤسسات أو الشركات، وإذا تم الوفاء لهم بهذا الشرط، فلا توجد منهم بلبلة، ولا يصح أن يقال: إن الحكومة لا تتحمل مسئولية لغير السعودي؛ لأنه لا يسترجع شيئا مما دفعه. وإنما ذلك دفاع من المؤسسات والشركات عن نفسها لا عن عاملها وشكاية منها لا منه. والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
(1)
نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر
هيئة كبار العلماءبالمملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد:
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض في الأيام الأخيرة من شهر ربيع الأول، والأولى من شهر ربيع الآخر عام 1397 هـ من دراسة البحث المعد في نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر في الدورة الحادية عشرة، وطلبه كلمة في ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا، وأخرى في ضابط المثلة الممنوعة شرعا، وثالثة في مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه.
تتميما للبحث كتبت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المسائل الثلاث ما يلي:
والله الموفق.
1 -
ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا
لما كان تمييز الإيثار المحمود شرعا من غيره يتوقف على تتبع النصوص التي وردت فيه من الكتاب والسنة وتدبرها مع الاستعانة بكلام العلماء السابقين في ذلك - كان لزاما علينا أن نستعرض جملة من الآيات والأحاديث في الإيثار، وجملة أخرى من كلام أهل العلم فيه، ثم نستخلص من ذلك المطلوب إن شاء الله فنقول:قال الله تعالى: (في سورة الحشر) { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (1) فأثنى جل شأنه على الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل غيرهم من المهاجرين، بحبهم من هاجر إليهم من المؤمنين، وبطهارة قلوبهم من الأحقاد، وسلامتها من الضغائن، وبطيب أنفسهم وكرمها وسماحتها؛ حيث لم يجدوا في دخيلتهم حرجا مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره من الأموال، وبإيثارهم المهاجرين على أنفسهم بما شرحته أحاديث الإخاء الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، بهذا وأمثاله أثنى الله عليهم وكتب لهم الفوز والفلاح.
وقال البخاري (2) : باب قوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } (3) الآية الخصاصة: فاقة، المفلحون: الفائزون بالخلود، الفلاح: البقاء، حي
__________
(1) سورة الحشر الآية 9
(2) [صحيح البخاري] كتاب التفسير (6\59، 60).
(3) سورة الحشر الآية 9
على الفلاح: عجل، وقال الحسن : حاجة: حسدا. حدثني يعقوب بن إبراهيم بن كثير، حدثنا أبو أسامة، حدثنا فضيل بن غزوان، حدثنا أبو حازم الأشجعي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله " فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت. ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد عجب الله عز وجل أو ضحك من فلان وفلانة" فأنزل الله عز وجل: » (2) .
وقال البخاري أيضا: باب قول الله عز وجل: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (3) حدثنا مسدد، حدثنا عبد الله بن داود عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه، « أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من يضم أو يضيف هذا؟" . فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ضحك الله الليلة أو عجب من
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4607),صحيح مسلم الأشربة (2054),سنن الترمذي تفسير القرآن (3304).
(2) سورة الحشر الآية 9 (1) { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }
(3) سورة الحشر الآية 9
فعالكما" ، فأنزل الله: » (2) (3) .
ففي قصة هذا الأنصاري وأسرته مع الضيف إيثار له بالطعام على نفسه وعلى أسرته مع شدة حاجتهم إليه، لكنه إيثار لا يقضي على أحد منهم، ولا يفوت عليه عضوا من أعضائه، بل يمكنهم استدراك ما فاتهم في مستقبل أمرهم إن شاء الله. وقد أثنى الله عليهم بذلك ثناء عاطرا وكتب لهم الأجر الجزيل جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم من الفعل الجميل.
وقال البخاري : باب إجابة دعاء من بر والديه (4) : حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، قال: أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر فمالوا إلى غار في الجبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها. فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه نأى بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3587),صحيح مسلم الأشربة (2054),سنن الترمذي تفسير القرآن (3304).
(2) سورة الحشر الآية 9 (1) { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
(3) [صحيح البخاري] (6\225\226).
(4) [صحيح البخاري] (7\77، 78).
الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء.... » (1) الحديث.
وقال البخاري : عن عائشة رضي الله عنها (2) . قالت: دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئا غير تمرة فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته، فقال: « من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار » (3) .
في الحديث الأول من هذين الحديثين إيثار الرجل والديه بالطعام على نفسه وسائر أسرته مع شدة حاجتهم إليه، وقد رضي الله عنه بذلك فاستجاب دعاءه حينما أصابته وصاحبيه شدة.
وفي الحديث الثاني إيثار المرأة ابنتيها على نفسها بالتمرة مع حاجتها إليها، وقد أعجب النبي صلى الله عليه وسلم منها ما فعلت، وأخبر بأن مثل ذلك يكون وقاية لمن فعل ابتغاء وجه الله من النار. وإيثار عائشة رضي الله عنها المرأة وابنتيها على نفسها ومن معها بالتمرة وليس عندها غيرها.
وقال البخاري (4) : باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: لما قدموا المدينة آخى رسول صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، قال لعبد الرحمن : إني أكثر الأنصار مالا فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5629),صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2743),مسند أحمد بن حنبل (2/116).
(2) [صحيح البخاري] (2\114، 115).
(3) صحيح البخاري الزكاة (1352),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2629),سنن الترمذي البر والصلة (1915),مسند أحمد بن حنبل (6/166).
(4) [صحيح البخاري] (4\222، 223).
فتزوجها. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن ثم تابع الغدو ثم جاء يوما وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "مهيم؟ " قال: تزوجت، قال: "كم سقت إليها؟ " قال: نواة من ذهب أو وزن نواة من ذهب - شك إبراهيم .
حدثنا قتيبة، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد : قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها، فقال عبد الرحمن : بارك الله لك في أهلك، فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئا من سمن وأقط، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه وضر من صفرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مهيم " قال: تزوجت امرأة من الأنصار فقال: "ما سقت فيها؟ " قال: وزن نواة من ذهب، أو نواة من ذهب، فقال: "أولم ولو بشاة » (1) .
في قصة الإخاء بين المهاجرين والأنصار إيثار سعد بن الربيع عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله وبإحدى زوجتيه، فقد أمره أن يقسم ماله بينهما، وأمره أن ينظر إلى أعجب زوجتيه إليه؛ ليطلقها فيتزوجها عبد الرحمن بعد انتهاء عدتها، وهذا الإيثار أعلى مما قبله، لكنه بما ينفع غيره ولا يضر بمن بذله ضررا فادحا، ومع ذلك يمكنه استدراك ما فاته.
وقال البخاري (2) : حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3722),صحيح مسلم النكاح (1427),سنن الترمذي البر والصلة (1933),سنن النسائي النكاح (3388),سنن أبو داود النكاح (2109),سنن ابن ماجه النكاح (1907),مسند أحمد بن حنبل (3/205),موطأ مالك النكاح (1157),سنن الدارمي النكاح (2204).
(2) [صحيح البخاري] (5\33، 34).
إسماعيل عن قيس قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول: "انثرها لأبي طلحة" قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة : بأبي أنت وأمي، لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة إما مرتين أو ثلاثا.
في هذا الحديث إيثار أبي طلحة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بالحياة والسلامة من المكاره فقد فداه بنفسه فقال: (نحري دون نحرك) وجوب عليه بحجفة له، وهذا إيثار أعلى مما قبله إيثار بالنفس، وذلك في ميدان الجهاد وقد أوجبه الله على المؤمنين، وكتب لمن قتل فيه الشهادة، ولمن أصيب فيه الأجر الجزيل. ثم هو إيثار واجب بالنفس والأعضاء لمن هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وفيه أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ووقاه بيده حتى أصيبت بشلل.
وروى مسلم (1) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه، « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد
__________
(1) [صحيح مسلم] رقم الحديث (1789).
يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. فلما رهقوه قال: "من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة"، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا فقال: "من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة" فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: "ما أنصفنا أصحابنا » (1) .
وروى البخاري [صحيح البخاري] (5\33). . عن سعيد بن المسيب أنه قال: قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: « لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بين أبويه كليهما - يريد: حين قال: " فداك أبي وأمي » (2) - وهو يقاتل.
وروى البخاري (3) أيضا عن علي رضي الله عنه قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك، فإني سمعته يقول يوم أحد : « يا سعد، ارم فداك أبي وأمي » (4) .
وقاتل عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا مصعب بن عمير وعلي بن أبي طالب وآخرون من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم حتى قضى بعضهم نحبه.
وفي الموضوع أحاديث وآثار اكتفينا عن إيرادها بما ذكرنا؛ لكونها في معناه.
مما تقدم يتبين: أن الإيثار المحمود شرعا يمكن أن يضبط بما أباح الشرع البذل في جنسه (5) . ، كالأموال ومنافع الأبدان وثمار الأفكار ونحو ذلك مما هو من حظوظ النفس ومتعها، أو أوجب بذل النفس فيه،
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1789),مسند أحمد بن حنبل (3/286).
(2) صحيح البخاري المغازي (3831),صحيح مسلم فضائل الصحابة (2412),سنن الترمذي الأدب (2830),سنن ابن ماجه المقدمة (130),مسند أحمد بن حنبل (1/186).
(3) [صحيح البخاري] (5\33).
(4) صحيح البخاري المغازي (3833),صحيح مسلم فضائل الصحابة (2411),سنن الترمذي الأدب (2829),سنن ابن ماجه المقدمة (129),مسند أحمد بن حنبل (1/92).
(5) أو حث عليه ورغب فيه.
كالجهاد في سبيل الله نصرة للدين وإقامة لحدوده وإحياء لمعالمه، ومع ذلك لا يسلم نفسه لعدوه، ولا يستسلم للأحداث، بل يستعد بما استطاع من قوة، ليحفظ نفسه وإخوانه، وليكون سيف الله المسلول على الأعداء، فإن قتل كان شهيدا، وإن رجع منتصرا سالما أو مصابا أجر وغنم ، فله الحسنيان أو إحداهما على كل حال.
أما الإيثار بما حرم الله عليه البذل في جنسه فلا يجوز، بل هو جريمة يعاقب عليها.
وقال ابن القيم : قال صاحب [ المنازل ] (1) :
فصل: ومن منازل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (2) منزلة الإيثار، قال الله تعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (3) فالإيثار ضد الشح؛ فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شيء شح عليه وبخل بإخراجه، فالبخل ثمرة الشح، والشح يأمر بالبخل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إياكم والشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا » (4) .
فالبخيل: من أجاب داعي الشح، والمؤثر: من أجاب داعي الجود. كذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء، وهو أفضل من سخاء
__________
(1) [مدارج السالكين على منازل السائرين] (2\291-304).
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة الحشر الآية 9
(4) سنن أبو داود الزكاة (1698),مسند أحمد بن حنبل (2/195).
البذل، قال عبد الله بن المبارك : سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل.
وهذا المنزل هو منزل الجود والسخاء والإحسان.
وسمي بمنزل (الإيثار)؛ لأنه أعلى مراتبه، فإن المراتب ثلاثة.
إحداها: أن لا ينغصه البذل ولا يصعب عليه فهو منزلة (السخاء).
الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقى له شيء. أو يبقي مثل ما أعطى فهو (الجود).
الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه وهو مرتبة (الإيثار) وعكسها (الأثرة) وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه. وهي المرتبة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم: « إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض » (1) ، والأنصار: هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (2) فوصفهم بأعلى مراتب السخاء وكان ذلك فيهم معروفا.
وكان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين. حتى أنه مرض مرة فاستبطأ إخوانه في العيادة. فسأل عنهم، فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة. ثم أمر مناديا ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل. فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه، لكثرة من عاده.
وقالوا له يوما: هل رأيت أسخى منك؟ قال: نعم، نزلنا بالبادية على
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3582),صحيح مسلم الزكاة (1059),سنن الترمذي المناقب (3901),مسند أحمد بن حنبل (3/167).
(2) سورة الحشر الآية 9
امرأة فحضر زوجها. فقالت: إنه نزل بك ضيفان. فجاء بناقة فنحرها وقال: شأنكم، فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها. فقلنا: ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير. فقال: إني لا أطعم ضيفاني البائت. فبقينا عنده يومين أو ثلاثة والسماء تمطر. وهو يفعل ذلك. فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه، ومضينا. فلما طلع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا. قفوا أيها الركب اللئام. أعطيتموني ثمن قراي؟ ثم إنه لحقنا وقال: لتأخذنه أو لأطاعننكم برمحي فأخذناه وانصرف.
فتأمل سر التقدير حيث قدر الحكيم الخبير، سبحانه، استئثار الناس على الأنصار بالدنيا -وهم أهل الإيثار- ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس. فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك -مع كونك من أهل الإيثار- فاعلم أنه لخير يراد بك. والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
و ( الجود ) عشر مراتب .
أحدها: الجود بالنفس. وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر:
يجود بالنفس، إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
فأطلق فيه ولم يفصل
ثم ذكر بقية مراتب الجود ثم قال: قال: (وهو على ثلاث درجات. الدرجة الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك دينا، ولا يقطع عليك طريقا، ولا يفسد عليك وقتا.
يعني: أن تقدمهم على نفسك في مصالحهم. مثل أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدين. ومثل أن تؤثرهم بمالك وتقعد كلا مضطرا مستشرفا للناس أو سائلا. وكذلك إيثارهم بكل ما يحرمه على المؤثر دينه فإنه سفه وعجز يذم المؤثر به عند الله وعند الناس.
وأما قوله: (ولا يقطع عليك طريقا) أي: لا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله. فتكون قد آثرته على الله وآثرت بنصيبك من الله مالا يستحق الإيثار. فيكون مثلك كمثل مسافر سائر على الطريق لقيه رجل فاستوقفه وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق. وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى، فإيثارهم عليه عين الغبن. وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره. وما أقل المؤثرين الله على غيره.
وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضا مثل أن يؤثر بوقته ويفرق قلبه في طلب خلفه. أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله. فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته، ويشتت خاطره فهذا أيضا إيثار غير محمود.
وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك على الفكر النافع واشتغال القلب بالله. ونظائر ذلك لا تخفى،
بل ذلك حال الخلق والغالب عليهم.
وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله، فلا تؤثر به أحدا. فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله. وأنت لا تعلم.
وتأمل أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرهم إيثارهم له ولا ينفعهم، وأي جهالة وسفه فوق هذا.
ومن هذا تكلم الفقهاء في الإيثار بالقرب وقالوا: إنه مكروه أو حرام كمن يؤثر بالصف الأول غيره ويتأخر هو أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة، أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة أو يؤثره بعلم يحرمه نفسه ويرفعه عليه فيفوز به دونه.
وتكلموا في إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بدفنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها.
وأجابوا عنه: بأن الميت ينقطع عمله بموته وبقربه. فلا يتصور في حقه الإيثار بالقرب بعد الموت ؛ إذ لا تقرب في حق الميت. وإنما هذا إيثار بمسكن شريف فاضل لمن هو أولى به منها، فالإيثار به قربة إلى الله عز وجل للمؤثر. والله أعلم. اهـ - المقصود منه ثم ذكر الدرجتين الأخيرتين وقد تركناهما لعدم الحاجة إليهما في الموضوع.
وذكر أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (1) . تحت عنوان:
المسألة الخامسة: جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه بثمانية أقسام: نذكر منها الرابع لصلته بالإيثار في الجملة، قال:
__________
(1) [الموافقات] (2\255- 263).
وأما الرابع: فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين: نظر من جهة إثبات الحظوظ، ونظر من جهة إسقاطها، فإن اعتبرنا الحظوظ فإن حق الجالب أو الدافع مقدم إن استضر غيره بذلك؛ لأن جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود، ولذلك أبيحت الميتة وغيرها من المحرمات الأكل، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد، والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها، وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه، وذلك لا يلزمه، بل قد يتعين عليه حق نفسه في الضروريات فلا يكن له خيرة في إسقاط حقه؛ لأنه من حقه على بينة ومن حق غيره على ظن أو شك وذلك في دفع الضرر واضح، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به، وقد سئل الداودي : هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل؟ قال: نعم، ولا يحل له إلا ذلك. قيل له: فإن وضعه السلطان على أهل بلده وأخذهم بمال معلوم يردونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم؟ قال: ذلك له ) إلى أن قال:
هذا كله مع اعتبار الحظوظ، وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان:
أحدهما: إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء، وهو
محمود جدا، وقد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال عليه الصلاة والسلام: « إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد فهم مني وأنا منهم » (1) ، وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه. وكأنه أخوه أو ابنه أو قريبه أو يتيمه أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا أو وجوبا وإنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد فهو على ذلك واحد منهم فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجاج لنفسه دون غيره ممن هو مثله، بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم، فقال عليه الصلاة والسلام: فهم مني وأنا منهم ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان في هذا المعنى الإمام الأعظم، وفي الشفقة الأب الأكبر، إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته .
وفي مسلم عن أبي سعيد قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له » (2) قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل، وفي الحديث أيضا: « أن في المال حقا سوى الزكاة » (3) ، ومشروعية الزكاة والإقراض والعرية والمنحة وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى، وجميعه جار على أصل مكارم الأخلاق، وهو لا يقضي استبدادا، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجمع أو أقل ولا يكون موقعا على نفسه ضررا
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2354),صحيح مسلم فضائل الصحابة (2500).
(2) صحيح مسلم اللقطة (1728),سنن أبو داود الزكاة (1663),مسند أحمد بن حنبل (3/34).
(3) سنن الترمذي الزكاة (660),سنن ابن ماجه الزكاة (1789),سنن الدارمي الزكاة (1637).
ناجزا وإنما هو متوقع أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله عليه الصلاة والسلام: « المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا » (1) ، وقوله: « المؤمنون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » (2) ، وقوله: « المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه » (3) ، وسائر ما في المعنى من الأحاديث، إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى وأسبابه، وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا عليهم على السواء كل أحد بما يليق به، كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدل لا يزيد ولا ينقص فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه أو أقل لخرج عن اعتداله وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة وترك الفرقة وهو كثير إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء وأشباهها مما يرجع إليها.
والوجه الثاني: الإيثار على النفس، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين إصابة لعين التوكل وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله وهو من محامد الأخلاق وزكيات الأعمال، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلقه المرضي، وقد كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس بالخير وأجود ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة وقالت له خديجة: إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق. وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (467),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585),سنن الترمذي البر والصلة (1928),سنن النسائي الزكاة (2560),سنن أبو داود الأدب (5131),مسند أحمد بن حنبل (4/405).
(2) صحيح البخاري الأدب (5665),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586),مسند أحمد بن حنبل (4/270).
(3) صحيح البخاري الإيمان (13),صحيح مسلم الإيمان (45),سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515),سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016),سنن ابن ماجه المقدمة (66),مسند أحمد بن حنبل (3/272),سنن الدارمي الرقاق (2740).
قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه.
وجاءه رجل فسأله فقال: « ما عندي شيء، ولكن ابتع علي، فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر رضي الله عنه: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف البشر في وجهه وقال: بهذا أمرت » ذكره الترمذي .
وقال أنس : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد، وهذا كثير. وهكذا كان الصحابة. وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } (1) وما جاء في الصحيح في قوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (2) وما روي عن عائشة وهو مذكور في باب الأسباب من كتاب الأحكام عند الكلام على مسألة العول على إسقاط الحظوظ، وهو ضربان:
إيثار بالملك من المال وبالزوجة بفراقها، لتحل للمؤثر، كما في حديث المؤاخاة المذكور في الصحيح.
وإيثار بالنفس، كما في الصحيح: أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله، يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت، وهو معلوم من فعله عليه الصلاة والسلام إذ كان في
__________
(1) سورة الإنسان الآية 8
(2) سورة الحشر الآية 9
غزوة أقرب الناس إلى العدو، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت، وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه وهو يقول: "لن تراعوا"، وهذا فعل من آثر بنفسه، وحديث علي بن أبي طالب في مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عزم الكفار على قتله مشهور، وفي المثل الشائع: والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها: الإيثار، ويدل على ذلك قول امرأة العزيز في يوسف عليه السلام: { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } (1) فآثرته بالبراءة على نفسها.
قال النووي : أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفس بخلاف القربات، فإن الحق فيها لله، وهذا مع ما قبله على مراتب والناس في ذلك مختلفون باختلاف أحوالهم في الاتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر جميع ماله ومن عمر النصف، ورد أبا لبابة وكعب بن مالك إلى الثلث، قال ابن العربي : لقصورهما عن درجتي أبي بكر وعمر، وهذا ما قال.
وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي فإن أخل بمقصد شرعي فلا يعد ذلك إسقاطا للحظ ولا هو محمود شرعا. أما أنه ليس بمحمود شرعا؛ فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر وإما لأمر
__________
(1) سورة يوسف الآية 51
آخر أو لغير شيء. فكونه لغير شيء عبث لا يقع من العقلاء، وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي؛ لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر، إذا لم يكن كذلك فهو مخالف له ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له، فثبت أنه لأمر ثالث وهو الحظ وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ. هذا تمام الكلام في القسم الرابع، ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ. انتهى المقصود منه.
2 -
ضابط المثلة الممنوعة
نذكر فيما يلي بيان معنى المثلة، وما تيسر من الآيات والأحاديث فيها مع كلام بعض العلماء عليها؛ لنستخلص من ذلك ما يجوز من المثلة وما يمتنع، فنقول:أولا: في [القاموس]: مثل: قام منتصبا كمثل بالضم مثولا.. وبفلان مثلا ومثلة بالضم نكل كمثل تمثيلا وهي المثلة بضم الثاء وسكونها ج مثولات ومثلات ). اهـ. المقصود منه.
وفي [ المفردات في غريب القرآن ] للراغب الأصفهاني :
والمثلة: نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع به غيره، وذلك كالنكال، وجمعه مثلات ومثلات وقد قرئ (من قبلهم المثلات) والمثلات بإسكان الثاء على التخفيف نحو عضد وعضد وقد أمثل السلطان فلانا إذا نكل به ). اهـ. المقصود منه.
ثانيا: وفي تفسير ابن جرير : قوله تعالى: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ } (1)
__________
(1) سورة الرعد الآية 6
يقول تعالى ذكره: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ } (1) يا محمد، مشركو قومك بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية فيقولون: { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } (2) وهم يعلمون ما حل بمن خلا قبلهم من الأمم التي عصيت ربها وكذبت رسلها من عقوبات الله وعظيم بلائه، فمن أمة مسخت قردة وأخرى خنازير، ومن بين أمة أهلكت بالرجفة وأخرى بالخسف وذلك هو المثلات التي قال الله جل ثناؤه: { وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ } (3) والمثلات: العقوبات المنكلات، والواحدة منها مثلة، بفتح الميم وضم الثاء ثم تجمع المثلات كما واحد الصدقات صدقة ثم تجمع صدقات، وذكر أن تميما من بين العرب تضم الميم والثاء جميعا من المثلات فالواحدة على لغتهم منها مثلة، ثم تجمع مثلات كغرفة وغرفات، والفعل منه مثلث به أمثل مثلا بفتح الميم وتسكين الثاء فإذا أردت أنك أقصصته من غيره قلت: أمثلته من صاحبه أمثله إمثالا وذلك إذا قصصته منه) اهـ.
وفي [تفسير الكشاف] للزمخشري : قوله تعالى: { وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ } (4) أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين فما بالهم لم يعتبروا بها فلا يستهزئوا، والمثلة العقوبة بوزن السمرة
__________
(1) سورة الرعد الآية 6
(2) سورة الأنفال الآية 32
(3) سورة الرعد الآية 6
(4) سورة الرعد الآية 6
والمثالة، لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، وجزاء سيئة سيئة مثلها. ويقال: أمثلت للرجل من صاحبه أقصصته منه، والمثال القصاص. ثم ذكر قراءات في المثلات، ولغات فيها أغنى عنها ما تقدم.
وروى البخاري عن مسلم عن قتادة عن أنس رضي الله عنه (1) أن ناسا من عكل وعرينة قدموا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فقالوا: يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم ، واستاقوا الذود، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم وأرجلهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم. قال قتادة : وبلغنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة.
وفي الصحيح عن بريدة بن الحصيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل أنه قال: « لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا.. » (2) .
وروى النسائي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تمثلوا بالبهائم » (3) .
__________
(1) باب قصة عكل وعرينة.
(2) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731),سنن الترمذي السير (1617),سنن أبو داود الجهاد (2613),سنن ابن ماجه الجهاد (2858),مسند أحمد بن حنبل (5/358),سنن الدارمي السير (2439).
(3) سنن النسائي الضحايا (4440).
وروى النسائي أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من إنسان يقتل عصفورة فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها" قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: "يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها يرمى به » (1) .
ثالثا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية (2) :
فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة، حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مثل ما فعلوا، والترك أفضل، كما قال الله تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } (3) { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ } (4)
قيل: إنها نزلت لما مثل لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا » أنزل الله هذه الآية- وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } (5) وقوله: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (6)
__________
(1) سنن النسائي الصيد والذبائح (4349),مسند أحمد بن حنبل (2/166).
(2) [مجمع الفتاوى] (28\314، 315).
(3) سورة النحل الآية 126
(4) سورة النحل الآية 127
(5) سورة الإسراء الآية 85
(6) سورة هود الآية 114
وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية- فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل نصبر".
وفي [صحيح مسلم] عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم يقول: « اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا » (1) ا هـ.
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731),سنن الترمذي السير (1617),سنن أبو داود الجهاد (2613),سنن ابن ماجه الجهاد (2858),مسند أحمد بن حنبل (5/358),سنن الدارمي السير (2439).
الخلاصة
أولا : المثلة : كل ما كان فيه تشويه للخلق من سمل عين أو فقئها أو بقر بطن أو قطع عضو وأمثال ذلك سواء كان ذلك قصاصا أم مجرد نكاية وعقوبة، شفاء لغل وحق أم عبثا ولهوا.
ثانيا : ما كان منها قصاصا فهو جائز وتركه أولى؛ لقوله تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } (1) وقوله: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } (2) الآيات.
وما كان منها في حي لمصلحته فهو جائز، وقد يجب، وقد يمنع حسب اختلاف الأحوال، ولمصلحة غيره، فهو محل نظر
__________
(1) سورة النحل الآية 126
(2) سورة الشورى الآية 40
واجتهاد، وما كان منها في ميت لمصلحته أو لحق غيره أو لمضطر فهو محل نظر واجتهاد، يعلم تفصيله مما تقدم في بحث (التشريع والقرنية)، وما كان منها عبثا ولهوا أو لمجرد شفاء غليل فهو محرم.
3 -
مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه
.سبق في الموضوع الأول من هذا البحث ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب تكريم المسلم ومن في حكمه حيا وميتا، والمحافظة على حرمته في نفسه وأعضائه وبشرته فلا يجوز الخروج عن مقتضى هذه الأدلة إلا بدليل يبيح لنا الاستثناء مما دلت عليه.
وسبق في الموضوع الثاني ما قرر العلماء من أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أعلاهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما، تقليلا للضرر وتخفيفا للمشقة والحرج، وإذا تعارضت مصلحة ومفسدة قدم الأرجح منهما وعند تساويهما يرجح جانب الخطر؛ تقديما لدرء المفسدة على جلب المصلحة.
وسبق في الموضوع الثالث ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم واقتضت شق بطنه أو جثته أو قطع عضو من أعضائه حيا أو ميتا وليس منه أخذ عين أو قرنيتها من إنسان لزرعها في إنسان آخر تحقيقا لمصلحته مع الإضرار بمن أخذت منه فعلى من يدعي جواز ذلك أن يأتي بدليل يرخص فيه؛ ليمكن استثناؤه من عموم الأدلة الدالة على حرمة المسلم ووجوب المحافظة على نفسه وأعضائه ووجوب مراعاة ذلك.
ونوردها نقلا عن الحنابلة من كتاب [المغني] له صلة بالموضوع.
قال أبو محمد بن قدامة رضي الله عنه: مسألة (1) . (قال): ومن اضطر فأصاب الميتة وخبزا لا يعرف مالكه أكل الميتة، وبهذا قال سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وقال مالك : إن كانوا يصدقونه أنه مضطر أكل من الزرع والثمر وشرب اللبن وإن خاف أن تقطع يده ولا يقبل منه أكل الميتة، ولأصحاب الشافعي وجهان أحدهما: يأكل الطعام، وهو قول عبد الله بن دينار؛ لأنه قادر على الطعام الحلال فلم يجز له أكل الميتة، كما لو بذله له صاحبه.
ولنا: أن أكل الميتة منصوص عليه ومال الآدمي مجتهد فيه والعدول إلى المنصوص عليه أولى، ولأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة وحقوق الآدمي مبنية على الشح والتضييق، ولأن حق الآدمي تلزمه غرامة وحق الله لا عوض له.
(فصل): إذا وجد المضطر من يطعمه ويسقيه لم يحل له الامتناع من الأكل والشرب ولا العدول إلى أكل الميتة إلا أن يخاف أن يسمه فيه أو يكون الطعام الذي يطعمه مما يضر ويخاف أن يهلكه أو يمرضه.
(فصل): فإن لم يجد المضطر شيئا لم يبح له أكل بعض أعضائه، وقال بعض أصحاب الشافعي : له ذلك؛ لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو، كما لو وقعت فيه الأكلة.
ولنا: أن أكله من نفسه ربما قتله فيكون قاتلا نفسه ولا يتيقن حصول
__________
(1) [المغني] (9\417).
البقاء من أكله، أما قطع الأكلة (1) فإنه يخاف الهلاك بذلك العضو فأبيح له إبعاده ودفع ضرره المتوجه منه بتركه كما أبيح قتل الصائل عليه ولم يبح له قتله ليأكله.
(فصل): وإن لم يجد إلا آدميا محقون الدم لم يبح له قتله إجماعا ولا إتلاف عضو منه مسلما كان أو كافرا، لأنه مثلة فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه وهذا لا خلاف فيه.
وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي: أن له قتله وأكله؛ لأن قتله مباح، وهكذا قال أصحاب الشافعي؛ لأنه لا حرمة له فهو بمنزلة السباع وإن وجده ميتا أبيح أكله؛ لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته وإن وجد معصوما ميتا لم يبح أكله في قول أصحابنا.
وقال الشافعي وبعض الحنفية : يباح وهو أولى، لأن حرمة الحي أعظم. وقال أبو بكر بن داود : أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء واحتج أصحابنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: « كسر عظم الميت ككسر عظم الحي » (2) واختار أبو الخطاب أن له أكله، وقال: لا حجة في الحديث هاهنا؛ لأن الأكل من اللحم لا من العظم والمراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها بدليل اختلافها في الضمان والقصاص ووجود صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت.
(مسألة): قال: (فإن لم يصب إلا طعاما لم يبعه مالكه أخذه قهرا ليحصي به نفسه وأعطاه ثمنه إلا أن يكون بصاحبه مثل ضرورته) وجملته أنه إذا
__________
(1) في القاموس: الإكلة: الحكة، كالأكال والأكلة كغراب وفرحة. اهـ. المقصود منه.
(2) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1617).
اضطر فلم يجد إلا طعاما لغيره نظرنا فإن كان صاحبه مضطرا إليه فهو أحق به ولم يجز لأحد أخذه منه؛ لأنه ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه غير حال الضرورة وإن أخذه منه أحد فمات لزمه ضمانه؛ لأنه قتله بغير حق. وإن لم يكن صاحبه مضطرا إليه لزمه بذله للمضطر؛ لأنه يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم فلزمه بذله له كما يلزمه بذل منافعه في إنجائه من الغرق والحريق، فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه؛ لأنه مستحق له دون مالكه فجاز له أخذه كغير ماله، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه، فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه، وإن آل أخذه إلى قتل صاحبه فهو هدر؛ لأنه ظالم بقتاله فأشبه الصائل إلا أن يمكن أخذه بشراء أو استرضاء فليس له المقاتلة عليه لإمكان الوصول إليه دونها فإن لم يبعه إلا بأكثر من ثمن مثله فذكر القاضي أن له قتاله، والأولى أن لا يجوز له ذلك لإمكان الوصول إليه بدونها، وإن اشتراه بأكثر من ثمن مثله لم يلزمه إلا ثمن مثله؛ لأنه صار مستحقا له بقيمته ويلزمه عوضه في كل موضع أخذه فإن كان معه في الحال وإلا لزمه في ذمته. ولا يباح للمضطر من مال أخيه إلا ما يباح من الميتة. اهـ. المقصود منه.
مجمل ما ذكره ابن قدامة رحمه الله في [المغني]:
1 - أبيح للمضطر ما كان محرما عليه من أكل زرع غيره أو ثمره أو شرب لبن أنعامه بلا إذنه إبقاء على نفسه أو أكل الميتة إبقاء على يده حتى لا تقطع فيما لو أكل من الثمر ولم يصدق في دعوى اضطراره، وفي هذا دلالة على وجوب حفظ النفس والعضو وتحريم بذلها لغيره عند هؤلاء.
2 - لا يحل لمضطر أن يمتنع عن طعام أو شراب بذل إليه بعوض أو بغير عوض، وفي هذا دلالة على أن بذلك نفسه أو عضو منها أو تفويت شيء من ذلك ليس إليه، بل يجب عليه المحافظة على ذلك ما استطاع.
3 - في أكل المضطر بعض أعضائه خلاف، قيل: يمنع خشية أن يفضي إلى قتله، وقيل: يجوز ارتكابا لأخف الضررين.
4 - ليس للمضطر أن يقتل محقون الدم مطلقا أو يقطع عضوا من أعضائه لسد حاجته أو حفظ نفسه إجماعا، وإن وجده ميتا ففي جواز أكله منه؛ إيثارا لحق الحي ومنعه منه محافظة على حرمة الميت- قولان.
5 - من اضطر إلى طعام ووجده عند مستغن عنه وجب عليه أخذه ولو بعوض، فإن أبى صاحبه وهو مضطر إليه أيضا وجب تركه له، وإن كان مستغنيا عنه وجب أخذه منه كرها ولو بقتال وفي وجوب العوض عليه خلاف، فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه، وإن قتل صاحب الطعام فهو هدر؛ لأنه ظالم وفي هذا دلالة على وجوب حفظ الإنسان نفسه وأعضاءه وإثمه بتفويت ذلك.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (62) وتاريخ 25\10\1398هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
ففي الدورة الثالثة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف في النصف الأخير من شهر شوال عام 1398 هـ - اطلع المجلس على بحث نقل القرنية من عين إنسان إلى آخر الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، بناء على اقتراح سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في كتابه رقم (4572\2\1\ د) واطلع على ما ذكره جماعة من المتخصصين في أمراض العيون وعلاجها عن نجاح هذه العملية، وأن النجاح يتراوح بين 50% و 95% تبعا لاختلاف الظروف والأحوال.
وبعد الدراسة والمناقشة، وتبادل وجهات النظر قرر المجلس بالأكثرية ما يلي:
أولا: جواز نقل قرنية عين من إنسان بعد التأكد من موته وزرعها في عين إنسان مسلم مضطر إليها وغلب على الظن نجاح عملية زرعها ما لم يمنع أولياؤه، وذلك بناء على قاعدة: تحقيق أعلى المصلحتين، وارتكاب أخف الضررين، وإيثار مصلحة الحي على مصلحة الميت فإنه يرجى للحي الإبصار بعد عدمه والانتفاع بذلك في نفسه ونفع الأمة به، ولا يفوت على الميت الذي أخذت قرنية عينه شيء، فإن عينه إلى الدمار والتحول إلى رفات، وليس في أخذ
قرنية عينه مثلة ظاهرة، فإن عينه قد أغمضت، وطبق جفناها أعلاهما على الأسفل.
ثانيا : جواز نقل قرنية سليمة من عين قرر طبيا نزعها من إنسان، لتوقع خطر عليه من بقائها، وزرعها في عين مسلم آخر مضطر إليها، فإن نزعها إنما كان محافظة على صحة صاحبها أصالة، ولا ضرر يلحقه من نقلها إلى غيره وفي زرعها في عين آخر منفعة له، فكان ذلك مقتضى الشرع، وموجب الإنسانية.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
محمد بن جبير أرى جواز النقل مطلقا ... عبد الله خياط ... سليمان بن عبيد ... راشد بن خنين ... عبد الله بن قعود متوقف في النقل من المسلم الميت فقط
عبد المجيد حسن أرى جواز النقل مطلقا ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد العزيز بن صالح غائب
رئيس الدورة محمد بن علي الحركان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز متوقف ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (65) وتاريخ 7\ 2\ 1399هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد..
ففي الدورة الثالثة الاستثنائية لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في المدة من 1\2\1399هـ إلى 6 منه اطلع المجلس على ما جاء في كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم (7815) في 28\8\1398 هـ. المبني على ما ورد إليه من المقام السامي لإجراء ما يلزم نحو ما اقترحه المدعو\ فتوح بن سليمان النجار من إنشاء بنك إسلامي؛ لحفظ الدم للإسعاف السريع لجرحى المسلمين وقبول ما يتبرع به الناس من دمائهم والاحتفاظ بكميات هائلة منه لإسعاف جرحى المسلمين.
وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه قرر المجلس بالأكثرية ما يلي:
أولا: يجوز أن يتبرع الإنسان من دمه بما لا يضره عند الحاجة إلى ذلك لإسعاف من يحتاجه من المسلمين.
ثانيا: يجوز إنشاء بنك إسلامي لقبول ما يتبرع به الناس من دمائهم وحفظ ذلك لإسعاف من يحتاج إليه من المسلمين، على أن لا يأخذ البنك مقابلا ماليا عن المرضى أو أولياء أمورهم عوضا عما يسعفهم به من
الدماء، وألا يتخذ ذلك وسيلة تجارية للكسب؛ لما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين.
والله الموفق، وصلى الله على محمد .
هيئة كبار العلماء
عبد الله بن خياط لم يحضر الدورة ... سليمان بن عبيد راشد بن خنين لسبق صدور قرار بجواز نقل الدم ولكون بنوك الدم موجودة في البنوك الإسلامية فإنه لم يظهر لي ما يدعو إصدار هذا القرار ... عبد الله بن غديان متوقف عن إصدار القرار ... عبد الله بن قعود متوقف في الفقرة الثانية والأولى سبق أن صدر فيها قرار
عبد الله بن محمد بن حميد لا داعي لإصدار قرار إذ أن السائل فرد من أفراد الناس وقد سبق أن صدر قرار بجواز نقل الدم عند الضرورة على أن لا يلحق بالمتبرع بدمه ضرر أيضا إذا أنا متوقف ... عبد العزيز بن صالح ... محمد بن جبير ... صالح بن غصون ... عبد الله بن منيع
رئيس الدورة ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد بن علي الحركان ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد المجيد بن حسن ... صالح بن لحيدان سبق أن صدر قرار بجواز نقل الدم وأما البنوك في المستشفيات فلا حاجة إلى إعداد قرار جديد بهذا المخصوص ولذا توقفت
قرار هيئة كبار العلماء
رقم (99) وتاريخ 6\ 11\1402هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته العشرين المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من الخامس والعشرين من شهر شوال حتى السادس من شهر ذي القعدة 1402هـ - بحث حكم نقل عضو من إنسان إلى آخر بناء على الأسئلة الواردة فيه إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وكان منها السؤال الوارد من الدكتور نزار فتيح المدير التنفيذي بالنيابة والمستشار والمشرف على أعمال الإدارة بمستشفى الملك فيصل التخصصي بكتابه المؤرخ في 15\8\ 1401 هـ، والسؤال الوارد من الشيخ عبد الملك بن محمود رئيس محكمة الاستئناف في نيجيريا المحالان إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء من سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بكتابيه رقم (1427) وتاريخ 16\6\1402 هـ، ورقم (590\ ب) وتاريخ 1\5\1402 هـ لعرضهما على المجلس. وقد رجع المجلس إلى قراره رقم (47) وتاريخ 20\8\1396 هـ الصادر في حكم تشريح جثة الإنسان الميت، وإلى قراره رقم (62) وتاريخ 25\10\1398 هـ الصادر في حكم نزع القرنية، وإلى قراره رقم (65) وتاريخ 7\2\1399 هـ الصادر في حكم التبرع بالدم وإنشاء بنك لحفظه، ثم استمع إلى البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء من قبل في حكم نقل دم أو عضو أو جزئه من إنسان إلى آخره.
وبعد المناقشة وتداول الآراء قرر المجلس بالإجماع:
جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان حي مسلم أو ذمي إلى نفسه إذا ادعت الحاجة إليه، وأمن الخطر في نزعه، وغلب على الظن نجاح زرعه. كما قرر بالأكثرية ما يلي:
أ- جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم إذا اضطر إلى ذلك، وأمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه.
2 - جواز تبرع الإنسان الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وآله وسلم.
هيئة كبار العلماء
حمد بن علي الحركان
سليمان بن عبيد راشد بن خنين أرى اشتراط إذن الإنسان المسلم قبل موته فيما ينقل من أعضائه بعد موته عبد الله بن غديان عبد الله بن قعود متوقف فيما عدا ما أجمع عليه المجلس عبد الله بن محمد بن حميد لم يحضر الدورة لمرضه عبد العزيز بن صالح لم يحضر الدورة لظروف خاصة به محمد بن جبير صالح بن غصون رئيس الدورة عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز متوقف عبد الله خياط إبراهيم بن محمد آل الشيخ عبد المجيد حسن صالح بن لحيدان
(2)
شارات الطيارينهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
شارات الطيارين
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وآله وصحبه وبعد:
فبناء على المحضر رقم 3 من محاضر مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الاستثنائية الثالثة المنعقدة فيما بين 1 إلى 6 من شهر صفر عام 1399هـ الآتي نصه:
موضوع شارات الطيارين الذي قدمه قائد جناح التعليم بكلية الملك فيصل الجوية بخطابه المؤرخ في 25\6\1398 هـ إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ومسألة تتويج شعارات وشارات أسراب الطائرات للقوات الجوية الملكية السعودية بآيات كريمة من القرآن الكريم، حيث ينتهي كل سرب إلى آية من الآيات التي تحث على الجهاد والشجاعة ونحو ذلك، وتلك الشعارات تلبس على ملابس الطيارين فوق الصدور، وتثبت على الطائرات وتحفر على المعدن
والخشب الجيد فتقدم هدايا لكبار الضيوف. فأحاله سماحة الرئيس العام إلى فضيلة الأمين العام لهيئة كبار العلماء برقم 1448\1 وتاريخ 29\6\1398 هـ لعرضه على المجلس.
وبعد أن استمع المجلس إلى الخطاب المذكور واطلع أعضاؤه على اللوحتين اللتين أرسلهما قائد جناح الكلية لهذا الغرض رأى:
أن يحال الموضوع إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء؛ ليعد فيه بحثا يشتمل على الحكم وتعليله مع نقل كلام أهل العلم في المسألة ثم يعرض في الدورة القادمة إن شاء الله.
وبناء على ذلك أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك شمل ما يأتي:
أولا: استعمال آيات القرآن في غير ما أنزلت من أجله.
ثانيا: مشابهة الكفار في جنس اتخاذ الشعارات وتقليدهم في ذلك.
ثالثا: امتهان آيات القرآن بحمل الجنب للشعار الذي كتبت فيه وقضاء حاجته به في حمام أو غيره وطرحه مع غيره من العدد في المخازن ورميه حين بلاه.
رابعا: قد يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذه عوذة للحفظ أو النصر.
وبالله التوفيق.
وفيما يلي ذكر ذلك:
أولا: استعمال آيات القرآن في غير ما أنزلت من أجله :
أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن حجة على العالمين ومنهاجا للناس أجمعين، أنزله ليكون دستور أمة ومنهاج حياة، دستور أمة يحكمها بأوامره
ونواهيه في جميع شئونها، ومنهاج حياة يحكم الفرد كذلك في عبادته ومعاملته وسلوكه، أنزله ليتعبد الناس بتلاوته، وليتدبروا معانيه فيعرفوا أحكامه ويأخذوا أنفسهم بالعمل بها، يحلون حلاله ويحرمون حرامه، يؤمنون بمتشابهه، ويتلونه حق تلاوته، وليكون موعظة وذكرى تلين به قلوبهم وتقشعر منه جلودهم، وشفاء وطهرة يشفي النفوس ويطهرها من أدران الشكوك وما ارتكبته من المعاصي والذنوب، وهدى ورحمة لمن فتح له قلبه أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال تعالى: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (1) وقال تعالى: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } (2) وقال: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } (3) الآية ، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } (4) وقال تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } (5) وقال تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ } (6)
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 51
(2) سورة المائدة الآية 49
(3) سورة طه الآية 123
(4) سورة يونس الآية 57
(5) سورة الإسراء الآية 82
(6) سورة الزمر الآية 23
وقال تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } (1) وقال تعالى: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ } (2)
ولم ينزله سبحانه وتعالى ليكتب في لوحة معدنية أو خشبية أو غيرها، ليعلق على الطائرات ونحوها، ولا ليكتب كذلك على ملابس الطيارين ونحوهم فوق الصدور، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الذي نزل عليه القرآن وهو بأحكامه أعرف وبمنزلته أعلم- أنه اتخذه أو آيات منه شارة على كتفه أو صدره، ولا من خلفائه الراشدين وأتباعهم بإحسان، ولو كان شيء اتخذه على النحو المذكور؛ لبينوه، وسابقوا إلى فعله، رضوان الله عليهم أجمعين.
فمن انتفع بالقرآن فيما أنزل من أجله فهو على بينة من ربه وهدى وبصيرة، ومن اتخذه على النحو المسئول عنه فقد انحرف بكتاب الله أو بآية أو بسورة منه عن جادة الهدى، وحاد عن الطريق السوي والصراط المستقيم، وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم قولا أو عملا، ولا عمل به الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولا أئمة الهدى في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم أنها خير القرون.
__________
(1) سورة ق الآية 37
(2) سورة العنكبوت الآية 49
ثانيا: مشابهة الكفار في جنس اتخاذ الشعارات وتقليدهم في ذلك :
إن تشبه إنسان بآخر أو جماعة بأخرى في الأزياء والملابس أو في الأفعال والأخلاق أو في الشعار والمعاملة والمظاهر- مما يدل على تأثره بمن تشبه به، وميله إليه؛ لذلك نهى الله تعالى في كتابه عن التشبه بالكافرين وحذر
النبي صلى الله عليه وسلم من مضاهاتهم في أقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم ومراسيمهم؛ خشية أن تنجذب نفسه إليهم وينجرف في تيارهم، وتتلاشى شخصيته فيهم، وذلك هو البلاء المبين.
أ- أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد ذكر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قاعدة عامة في التحذير من التشبه بالكافرين واستشهد لها بآيات من القرآن وأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وبين وجه دلالة ما ساق من النصوص على ثبوت تلك القاعدة وشمولها فقال رحمه الله:
فصل: في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع
على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم
لما كان الكلام في المسألة الخاصة قد يكون مندرجا في قاعدة عامة، بدأنا بذكر بعض ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة، سواء كان ذلك عاما في جميع أنواع المخالفات أو خاصا ببعضها، وسواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب.
ثم أتبعنا ذلك بما يدل على النهي عن مشابهتهم في أعيادهم خصوصا. وهنا نكتة -قد نبهت عليها في هذا الكتاب- وهي: أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم قد يكون، لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم مصلحة، وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم مصلحة، بمعنى: أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة، وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة
والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة " ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين من المهاجرين والأنصار في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا فيها مصلحة؛ لما يورث ذلك من محبتهم، وائتلاف قلوبنا بقلوبهم، وأن ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى... إلى غير ذلك من الفوائد .
كذلك قد نتضرر بمتابعتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها، وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة، لأن ذلك الفعل الذي يوافق العبد فيه أو يخالف متضمن للمصلحة أو المفسدة ولو لم يفعلوه، لكن عبر عن ذلك بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف، فتكون موافقتهم دليلا على المفسدة، ومخالفتهم دليلا على المصلحة .
واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة وعلى الأول من باب قياس العلة، وقد يجتمع الأمران. أعني: الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه، ومن نفس مشاركتهم فيه، وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما، فلا بد من التفطن لهذا المعنى، فإنه به يعرف معنى نهي الله لنا عن اتباعهم وموافقتهم مطلقا ومقيدا .
واعلم أن دلالة الكتاب على خصوص الأعمال وتفاصيلها إنما يقع بطريق الإجمال والعموم، أو الاستلزام، وإنما السنة هي التي تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه .
فنحن نذكر في آيات الكتاب: ما يدل على أصل هذه القاعدة في
الجملة، ثم نتبع ذلك الأحاديث المفسرة لمعاني ومقاصد الآيات بعدها.
الآيات الآمرة بمخالفة أهل الكتاب .
قال الله سبحانه: { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } (1) { وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } (2) { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } (3) { إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } (4) أخبر سبحانه: أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيا من بعضهم على بعض، ثم جعل محمدا صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمر شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته. وأهواؤهم: هي ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك، فهم يهوونه، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه؛ ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم، ويسرون به، ويودون أن لو بذلوا مالا عظيما ليحصل ذلك، ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها، وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره، فإن
__________
(1) سورة الجاثية الآية 16
(2) سورة الجاثية الآية 17
(3) سورة الجاثية الآية 18
(4) سورة الجاثية الآية 19
من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه .
النهي عن اتباع أهوائهم
وأي الأمرين كان حصل المقصود في الجملة، وإن كان الأول أظهر .
وفي هذا الباب قوله سبحانه: { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } (1) { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ } (2) فالضمير هو في أهوائهم يعود -والله أعلم- إلى ما تقدم ذكره، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعض ما أنزل إليه، فدخل في ذلك كل من أنكر شيئا من القرآن: من يهودي أو نصراني أو غيرهما، وقد قال تعالى: { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } (3) ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم، وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم، بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك .
ومن هذا أيضا قوله تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } (4) فانظر كيف قال في الخبر: " ملتهم " ، وقال في النهي: " أهواءهم " ؛ لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقا، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم
__________
(1) سورة الرعد الآية 36
(2) سورة الرعد الآية 37
(3) سورة البقرة الآية 120
(4) سورة البقرة الآية 120
في قليل أو كثير ، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه، كما تقدم .
ومن هذا الباب قوله سبحانه : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } (1) { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (2) { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } (3) { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (4) { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (5) { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (6) قال غير واحد من السلف: معناه: لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة فيقولوا: قد وافقونا في قبلتنا، فيوشك أن يوافقونا في ديننا، فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، إذ الحجة: اسم لكل ما يحتج به من حق وباطل { إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (7) وهم قريش، فإنهم يقولون: عادوا إلى قبلتنا، فيوشك أن يعودوا إلى ديننا .
__________
(1) سورة البقرة الآية 145
(2) سورة البقرة الآية 146
(3) سورة البقرة الآية 147
(4) سورة البقرة الآية 148
(5) سورة البقرة الآية 149
(6) سورة البقرة الآية 150
(7) سورة البقرة الآية 150
حكمة نسخ القبلة مخالفة للكافرين
فقد بين الله سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها مخالفة الناس الكافرين في قبلتهم، ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة، فإن الكافر إذا اتبع في شيء من أمره كان له في الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة .
وقال سبحانه: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } (1) وهم اليهود والنصارى الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر ( « أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة » (2) مع أن قوله: « لا تكن مثل فلان » (3) ، قد يعم مماثلته بطريق اللفظ أو المعنى، وإن لم يعم دل على أن جنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع، ودل على أنه كلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا- كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها، وهذه مصلحة جليلة .
وقال سبحانه لموسى وهارون: { فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } (4) وقال سبحانه: { وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } (5) وقال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } (6)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 105
(2) سنن الترمذي الإيمان (2640),سنن أبو داود السنة (4596),سنن ابن ماجه الفتن (3991),مسند أحمد بن حنبل (2/332).
(3) صحيح البخاري الجمعة (1101).
(4) سورة يونس الآية 89
(5) سورة الأعراف الآية 142
(6) سورة النساء الآية 115
إلى غير ذلك من الآيات .
وما هم عليه من الهدى والعمل هو من سبيل غير المؤمنين، بل من سبيل المفسدين والذين لا يعلمون، وما يقدر عدم اندراجه في العموم فالنهي ثابت عن جنسه فيكون مفارقة الجنس بالكلية أقرب إلى ترك المنهي عنه، ومقاربته في مظنة وقوع المنهي عنه .
صفات المؤمنين والمنافقين
قال سبحانه: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (1) { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } (2) ومتابعتهم في هديهم هي من اتباع ما يهوونه، أو مظنة لاتباع ما يهوونه، وتركها معونة على ترك ذلك، وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه .
واعلم أن في كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه- كثير مثل قوله لما ذكر ما فعله بأهل الكتاب من المثلات : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } (3) وقوله: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } (4)
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) سورة المائدة الآية 49
(3) سورة الحشر الآية 2
(4) سورة يوسف الآية 111
وأمثال ذلك. ومنه ما يدل على مقصودنا ، ومنه ما فيه إشارة وتتميم للمقصود .
ثم متى كان المقصود بيان أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا، فجميع الآيات دالة على ذلك، وإن كان المقصود أن مخالفتهم واجبة علينا فهذا إنما يدل عليه بعض الآيات دون بعض .
ونحن ذكرنا ما يدل على أن مخالفتهم مشروعة في الجملة، إذ كان هذا هو المقصود هنا .
وأما تمييز دلالة الوجوب، أو الواجب عن غيرها، وتمييز الواجب عن غيره، فليس هو المقصود هنا .
وسنذكر إن شاء الله : أن مشابهتهم في أعيادهم من الأمور المحرمة، فإنه هو المسألة المقصودة هنا بعينها، وسائر المسائل سواها إنما جلبها إلى هنا تقريرات القاعدة الكلية العظيمة المنفعة (1) وقال في موضع آخر: ما جاء من الأحاديث في التحذير من التشبه بالمغضوب عليهم والضالين :
ثم هذا الذي دل عليه الكتاب: من مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين، وذم من يفعل ذلك، دلت عليه أيضا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأويل الآية -على ذلك- أصحابه رضي الله عنهم .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لتأخذن كما
__________
(1) [اقتضاء الصراط المستقيم] لشيخ الإسلام ابن تيمية (1\82-90)، [بتحقيق د. ناصر بن عبد الكريم العقل - ط \ 1404 هـ.
أخذت الأمم من قبلكم: ذراعا بذراع، وشبرا بشبر، وباعا بباع، حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم الآية ، قالوا: يا رسول الله، كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب. قال: فهل الناس إلا هم » (2) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، في هذه الآية أنه قال: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا ؟
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: المنافقون الذين منكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: وكيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم، وهؤلاء أعلنوه .
وأما السنة: فجاءت الأخبار بمشابهتهم في الدنيا، وذم ذلك، والنهي عن ذلك، وكذلك في الدين (3) ثم ذكر ما يدل على ما ذكره، ورأينا الاقتصار على ما نقلناه؛ لحصول المقصود به .
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6888),سنن ابن ماجه الفتن (3994),مسند أحمد بن حنبل (2/327).
(2) سورة التوبة الآية 69 (1) { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً }
(3) [اقتضاء الصراط المستقيم] لشيخ الإسلام ابن تيمية (1\ 107، 108).
ب- قال الشاطبي رحمه الله: المسألة الحادية عشرة :
فإن الحديث الصحيح قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر،
وذراعا بذراع، حتى دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم . قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن ، زيادة إلى حديث الترمذي الغريب، فدل ضرب المثال في التعيين على أن الاتباع في أعيان أفعالهم .
وفي الصحيح عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خيبر ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم » (2) ، وصار حديث الفرق بهذا التفسير صادقا على أمثال البدع التي تقدمت لليهود والنصارى، وأن هذه الأمة تبتدع في دين الله مثل تلك البدع، وتزيد عليها بدعة لم تتقدمها واحدة من الطائفتين، ولكن هذه البدعة الزائدة إنما تعرف بعد معرفة البدع الأخر، وقد مر أن ذلك لا يعرف أو لا يسوغ التعريف به، وإن عرف فكذلك لا تتعين البدعة الزائدة، والله أعلم .
وفي الحديث أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بمأخذ الأمم والقرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع فقال رجل: يا رسول الله، كما فعلت فارس والروم. قال صلى الله عليه وسلم: وهل الناس إلا أولئك » (3) وهو بمعنى الأول، إلا أنه ليس فيه ضرب مثل، فقوله: « حتى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها » (4) يدل على أنها تأخذ
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2180),مسند أحمد بن حنبل (5/218).
(2) الصواب: حنين. (1)
(3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6888),سنن ابن ماجه الفتن (3994),مسند أحمد بن حنبل (2/367).
(4) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6888),سنن ابن ماجه الفتن (3994),مسند أحمد بن حنبل (2/367).