كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
المدين عن الوفاء، بخلاف المدين فهو لا يستطيع التأمين لصالح نفسه من خطر عدم الوفاء؛ لأن هذا التخلف من جانبه لا يصلح أن يكون محلا للتأمين بوصفه فعلا إراديا من جانبه، وإنما له أن يبرم تأمينا لصالح نفسه من خطر إعساره.
والكفيل يتدخل لضمان عملية هو غريب عنها وتتم دون تدخله، كما أنه لا يعتبر مؤمنا لا للدائن ولا للمدين، وتعهده غير مشروط بإعسار المدين ولا يقبض قسطا يحسب على أساس القسط الذي يتقاضاه المؤمن، بل يتقاضى من المدين ثمن الخدمة التي يقدمها له بتدخله.
كما أن الكفالة في جوهرها عقد ملزم لجانب واحد هو الكفيل، وهو عقد تابع، أما التأمين فهو ملزم للجانبين ويقوم استقلالا؛ لأن التزام المؤمن مستقل عن التزام المدين الذي يعطي التأمين إعساره، وسببه هو اقتضاء القسط، وموضوعه ليس تنفيذ التزام المدين، بل تعويض الضرر الناشئ عن عدم تنفيذ هذا الالتزام (1) .
ج- الضمانات التي يطلبها البنك :
التعامل بين البنك والعميل الذي يريد أن يجعل البنك كفيلا عنه أمام الغير في مبلغ ما- مثلا- قد يكون مبنيا على ثقة متبادلة بينهما فلا يحتاج البنك إلى ضمانات يقدمها العميل، وقد يكون العميل غير معروف لدى البنك أو أن البنك يعرفه، ولكنه لا يثق به إلا مطلق ثقة أو لا يثق به مطلقا، فتختلف حال البنك في طلب الضمان، فقد لا يطلب شيئا أصلا، وقد
__________
(1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (351، 352).
يطلب نقدا, وقد يطلب رهنا من الدرجة الأولى أو رهنا حيازيا أو ضمانا شخصيا، وفيما يلي تفصيل ذلك:
قال الدكتور محمد جمال الدين عوض : الضمانات التي يطلبها البنك قد تكون ضمانا نقديا يقدمه العميل إلى البنك، وقد تكون رهنا من الدرجة الأولى على مال يملكه، ولا يمكنه هو أن يقدمه إلى دائنه الذي يشترط كفالة مصرفية أو رهنا حيازيا على مستندات تكون في حيازة البنك، أو يقدمها العميل للبنك على سبيل الرهن، أو ضمانا شخصيا من مدير المؤسسة أو الشركة في صورة توقيع منه على ورقة تجارية, تتعهد بها المؤسسة أو الشركة طالبة الكفالة، ويلاحظ أن هذا الضمان
الأخير يعتمد على شخصية المدير. (1) .
__________
(1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية], ص (353).
الصورة الثانية: خطاب الضمان خطاب الضمان صورة من صور إقراض التوقيع على أمل أن البنك يسلم المبلغ الذي ضمنه لعميله عندما تدعو الحاجة إليه على حسب ما يتفقان عليه من الشروط، ويشمل الكلام على واقعه وحكمه في الفقه الإسلامي.
أما الكلام على واقعه: ففي بيان تعريفه، وأهميته، وأنواعه، وطبيعته ومدى التزام البنك، وشروطه، وغطائه، والعلاقات الناشئة بين أطراف الخطاب، وانقضاء التزام البنك، وما يأخذه البنك مقابل تقديمه خطاب الضمان.
وفيما يلي تفصيل ذلك:
أ- تعريفه :
قال الدكتور علي البارودي : هو أن يكفل البنك عميله في مواجهة الغير بخطاب يرسله إليه أو بعقد مستقل، أو بأن يوقع كضامن احتياطي له في ورقة تجارية أو بأي طريقة أخرى تتناسب مع العملية التي يضمنها البنك ويتقاضى عمولة في مقابل هذا الضمان (1) .
وعرفه حسن محمد كمال بقوله : خطابات الضمان المصرفية عبارة عن صكوك تصدرها البنوك بناء على طلب عملائها، وتتعهد فيها بأن تدفع إلى طرف ثالث يسمى المستفيد (على علاقة عمل مع العميل) مبلغا لا يتجاوز حدا معينا في حالة توافر شروط معينة (2) .
ب- أهميته :
قال الدكتور حسن محمد كمال : إن الهيئات والمؤسسات العامة تتطلب ممن يرغب في الاشتراك فيما تطرحه من مناقصات ومزايدات تقديم مبلغ معين أو نسبة معينة من قيمة العمليات كضمان لجدية العطاءات التي يتقدمون بها، وهناك حالات أخرى تتطلب تقديم ضمان كما يحصل في حالات إرسال المنسوجات إلى الخارج بطبعها وإعادتها إلى البلاد، وحالة اصطحاب المسافر إلى الخارج لمجوهراته، وحالة إرسال الآلات إلى الخارج لإصلاحها وإعادتها، ففي مثل هذه الحالات تتطلب مصلحة الجمارك إيداع ضمان مالي لديها لضمان استعادة ما سبق تصديره، ولما
__________
(1) [العقود وعمليات البنوك التجارية] (393- 1).
(2) [البنوك التجارية] (221- 1).
كان إيداع الضمان المالي يؤدي إلى حرمان المودع مدة طويلة من جزء كبير من رأس ماله إلى جانب ما يلاقيه من صعوبات لاسترداده؛ لذلك يفضل رجال الأعمال الالتجاء إلى البنوك ليحصلوا منها على خطابات ضمان يقدمونها إلى الجهات المختصة بدلا من الضمان المالي.
وفي حالة الاشتراك في المناقصات الدولية تقوم خطابات الضمان بدورها، إذ أنها توفر على مقدم الضمان القيام بإجراءات تحويل العملة واستردادها وتحميه مما قد يتعرض له من خسائر؛ نتيجة لاحتمال هبوط أسعار العملة عند استرداد الضمان (1) .
__________
(1) [البنوك التجارية] (221)، ويرجع إلى [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (357- 359- 1).
ج- أنواع خطابات الضمان :
تتنوع خطابات الضمان إلى ابتدائية ونهائية، وخطابات ضمان عن دفعات مقدمة، وخطابات ضمان أخرى، وفيما يلي بيان ذلك:
قال الدكتور حسن محمد كمال : تختلف خطابات الضمان باختلاف القرض الذي تعد من أجله، وفيما يلي أهم أنواع خطابات الضمان الشائعة الاستخدام:
(أ) خطابات ضمان ابتدائية :
وهي عبارة عن خطابات الضمان التي تقدم إلى الجهات أو الهيئات الحكومية كتأمينات مؤقتة أو ابتدائية بواقع 1% من مجموع قيمة العطاء في مقاولات الأعمال، 2% بالنسبة للعطاءات الأخرى، والغرض الرئيسي لهذا النوع من خطابات الضمان هو التثبت من كفاية المركز المالي لمقدم العطاء
وضمان جديته.
(ب) خطابات ضمان نهائية :
ويقدم هذا النوع من الخطابات بعد أن يتم اختيار الجهة أو الهيئة الحكومية لأفضل المناقصين للقيام بتنفيذ العملية أو المقاولة، وذلك كتأمين نهائي لضمان تنفيذ العقد المبرم، وتصدر البنوك هذا النوع بما يعادل 5% من مجموع قيمة العطاء في مقاولات الأعمال و 10% فيما عدا ذلك.
(ج) خطابات ضمان عن دفعات مقدمة :
ويقدم هذا النوع في خطابات الضمان في حالة الدفعات المقدمة التي يحصل عليها الموردون أو المقاولون من قيمة أوامر التوريد التي تصدر إليهم أو عقود المقاولات التي تبرم معهم، بحيث لا تصرف هذه الدفعات إلا مقابل خطابات ضمان عنها.
(د) خطابات ضمان أخرى :
وإلى جانب ما تقدم، تصدر البنوك أنواعا أخرى من خطابات الضمان منها: خطابات ضمان ملاحية، ويقدمها المستوردون لربان السفن عن البضائع التي لم ترد بعد مستندات الشحن الخاصة بها؛ لإمكان استلام هذه البضائع، خطابات ضمان يقدمها الأفراد المسافرون للخارج إلى مصلحة الهجرة والجوازات والجنسية لضمان نفقات العودة من الخارج، خطابات ضمان يقدمها الأفراد إلى مصلحة الجمارك عن خروج الأشياء الثمينة لضمان إعادتها مرة أخرى إلى البلاد (1) .
__________
(1) [البنوك التجارية] (222) وما بعدها.
د- طبيعة ومدى التزام البنك:
إن خطاب الضمان الذي يقدمه البنك يقوم مقام النقود تماما، وفيما يلي تفصيل ذلك:
قال الدكتور محمد جمال الدين عوض : لتحديد طبيعة ومدى التزام البنك يجب أن نشير إلى الوظيفة الاقتصادية المطلوبة من تدخله، فهو من هذه الناحية لا يضمن العميل في تنفيذ التزامه قبل الغير كما هو شأن الكفيل العادي، بل إن كفالة البنك هنا لها معنى أبعد ووظيفة أهم تبدو في أن خطاب الضمان يحل محل النقود تماما، والذي يطلب إلى من يتعاقد معه تقديم كفالة مصرفية يطلب أولا أن يعطيه تأمينا نقديا, ولا يقبل بدلا منه إلا كفالة مصرفية، وقد رأينا مثالا لذلك في لائحة المناقصات والمزايدات، فهي تشترط على المتعاقد معها إيداع تأمين نقدي أو كفالة مصرفية، فكأن من يطلب خطاب ضمان مصرفي إنما يريد أن يطمئن كما لو كانت لديه كفالة نقدية، ولذلك يجب أن تتوفر في التزام البنك على هذا النحو العناصر التي تمكن من أداء هذه الوظيفة, وهي حلول الخطاب محل النقود تماما كما يحل الشيك أو الورقة التجارية محل النقود والوفاء.
وهذه الوظيفة الملحوظة في خطاب الضمان بصورته الغالبة هي ما استقر عليه العمل كما يستخلص من العرف المصرفي ومما ورد في أحكام القضاء (1) .
__________
(1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (366، 367- 1).
هـ- شروط خطابات الضمان :
للضمان شروط من جهة تحديد المبلغ الذي يضمنه البنك ومقدار مدة الضمان، وأن قيمة خطاب الضمان لا تتعدى الحد المصرح به للبنك.
وفيما يلي بيان ذلك:
قال الدكتور محمد جمال الدين عوض :
1 - مبلغ الضمان: الأصل أن يحدد ضمان البنك بمبلغ معين:
ومع ذلك فمن المتصور أن يصدر الخطاب بغير تحديد مبلغ، بل يتعهد فيه البنك أن يضمن عميله في كل ما يسببه تصرفه من ضرر للغير، أي: المستفيد، وتتبع هذه الصورة على الخصوص في كفالة المرسل إليه الذي يسحب بضاعة من الجمرك قبل أن تصله سندات الشحن, فيشترط عليه الجمرك تقديم كفالة من البنك تضمن له كل ما قد يتحمله الجمرك بسبب تسليمه البضاعة، وتعهد البنك على هذا النحو صحيح؛ لأن محله وإن لم يكن محددا فهو قابل للتحديد، ولا يدفع البنك إلا الضرر الذي يثبت المستفيد وهو الجمرك أنه أصابه بسبب الواقعة التي ضمن البنك نتائجها.
2 - مدة الضمان: الأصل أن يصدر الخطاب لمدة محددة يحرص على تأكيدها باعتبارها مدة سريان الخطاب, وعلى اشتراط وصول المطالبة قبل تاريخ معين، وبيان أن ضمان البنك يسقط تلقائيا إذا لم تصل البنك مطالبة حتى التاريخ المحدد.
وإذا لم تحدد مدة اعتبر الضمان -كقاعدة- غير محددة المدة، فيجوز للبنك -وهو الملتزم- أن ينهيه في أي وقت بشرط إخطار العميل
قبله بوقت مناسب.. ومع ذلك إذا كانت العملية المضمونة مذكورة في الخطاب امتد الضمان إلى وقت انتهائها، وظل قائما مادامت قائمة متى كان هذا المعنى مفهوما من الخطاب، ويبدو ذلك -مثلا- إذا قدم الخطاب لضمان حسن سلوك شخص أجنبي دخل البلاد بضمان البنك، فيظل الضمان قائما ما دامت العملية قائمة أو ما دام الأجنبي حيا مقيما في المصر، ومعنى سريان الضمان خلال مدة معينة أو دون تحديد مدة أن البنك يلزم بالدفع فورا إذا طولب بالوفاء خلالها.
ويعتبر الموعد المذكور في الخطاب حدا أقصى لنفاذه بحيث يسقط التزام البنك بحلوله حتما وبلا حاجة إلى إخطار منه إلى المستفيد ولا اتخاذ إجراء آخر، ويحرص الخطاب عادة على بيان التزامه بالدفع إذا وصلته المطالبة في الميعاد، فلا يلزم إذا لم تسلم له في المدة ولو أرسلت إليه خلالها، ويترتب على ذلك أن المستفيد هو الذي يتحمل نتائج تأخير البريد، وعليه إذن أن يكون حريصا فلا ينتظر إلى آخر لحظة.
وهذا الحل يفرضه أن عميل البنك يسترد غطاء الخطاب من البنك في اليوم التالي فورا؛ لانتهاء الضمان، ومن العدل إبراء البنك من التزامه من هذه اللحظة؛ لأنه فقد ضمانه ضد العميل، فضلا على عدم إمكان القول بإلزامه بانتظار المطالبات التي لم تصل في آخر يوم، ولكنها قد تكون في طريقها إليه (1) .
__________
(1) [عمليات المصارف من الوجهة القانونية] للدكتور محمد جمال الدين عوض (362- 364- 1).
3 - الإقرار : قال عبد العزيز عامر : يجب النص في خطابات الضمان النهائية على أن قيمة خطاب الضمان لا تتعدى الحد المصرح به للبنك من وزارة الاقتصاد والتجارة، وذلك على صيغة إقرار من البنك، ويجوز للجهة المستفيدة رفض الخطاب إذا لم يحمل هذا الإقرار (1) .
__________
(1) [البنوك والائتمان]- عبد العزيز عامر (175).
و- الغطاء : يختلف الغطاء في الحالة التي يطلب فيها البنك غطاء من العميل يبقيه لديه: فقد يكون نقدا، وقد يكون أوراقا مالية، وقد يكون ما يطلبه يساوي القيمة التي تعهد بها ليدفعها بمقتضى خطاب الضمان، وقد تكون أقل من ذلك، وقد لا يطلب من العميل غطاء أصلا إذا كان الذي طلب خطاب الضمان من البنك أهلا لذلك بموجب اعتبارات يعلمها البنك.
وفيما يلي بيان أنواع الغطاء:
قال الدكتور حسن محمد كمال : غطاء خطابات الضمان يتخذ صورا منها:
أ- نقدية : وذلك بأن يقدم العميل مبلغا نقديا إلى البنك (غطاء) يعادل قيمة الضمان أو جزءا من القيمة، أو بأن يحجز البنك القيمة أو نسبة منها من الحساب الجاري للعميل، إذا كان من عملاء البنك, وترحل المبالغ المحجوزة إلى حساب خاص يسمى: احتياطي خطابات الضمان.
ب- أوراق مالية : وذلك بأن يقدم العميل أوراقا مالية مملوكة له، وتكون
قيمتهما التسليفية معادلة على الأقل لقيمة الضمان المطلوب أو أن يحجز البنك على هذه الأوراق إذا كانت مودعة لديه بصفة أمانة بناء على طلب العميل, بمعنى أن يمنعها من التداول طوال الفترة المحددة للضمان.
ج- مكشوفة : يقصد بخطابات الضمان المكشوفة، الخطابات التي يصدرها البنك بدون غطاء، وهذا الإجراء نادر، وتقتصر هذه الحالة عادة على العملاء في البنوك الكبرى, وعملاء البنك من الشركات الكبرى والأفراد ذوي المركز المالي المتين (1) .
__________
(1) [البنوك التجارية] (224)، ويرجع إلى كتاب [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (273، 274- 1).
ز- العلاقات الناشئة بين أطراف الخطاب : تنشأ علاقات ثلاث بين أطراف الخطاب كل واحدة منها متميزة عن الأخرى, وهي علاقة البنك بعميله، وعلاقة العميل بصاحب المشروع أو المتعامل معه وعلاقة البنك بالمستفيد وترتيبا على ذلك، ولا بد من التفرقة بين هذه العلاقات وبيان أن ضمان البنك لصالح المستفيد لا يعتبر عقدا بينه وبين المستفيد، وأن البنك يلتزم للمستفيد بصفته أصيلا، وأنه لا يجوز تداول خطاب الضمان، وأن البنك يدفع للمستفيد وليس لحامل الخطاب, والحكم في حالة ما إذا فقد الخطاب، وأن البنك لا يضمن تنفيذ التزام العميل قانونا، وأن ضمان البنك مرتبط اقتصاديا بالتزام العميل، وأن البنك ليس كفيلا والتزامه ليس تضامنيا.
وبيان النتائج المترتبة على استقلال التزام البنك الثابت في خطاب الضمان عن دين العميل قبل المستفيد، وأن البنك يرجع على العميل.
وفيما يلي بيان ذلك مختصرا من كلام الدكتور محمد جمال الدين عوض : قال : تمكين نظام خطاب الضمان بصورته الغالبة من أداء هذه الوظيفة المقصودة منه يقتضي التفرقة بين علاقة البنك بعميله، ويحكمها عقد الاعتماد بالكفالة أو الضمان، وعلاقة العميل بصاحب المشروع أو المتعامل معه أيا كان، ويحكمها عقد التوريد أو المقاولة. وعلاقة البنك بصاحب المشروع وهو المستفيد الذي صدر لصالحه خطاب الضمان، ويحكمها خطاب الضمان وحده, فإذا كان متفقا على إصدار خطاب بشروط معينة وصدر الخطاب بشروط أخرى كان الأساس في إلزام البنك هي الشروط التي صدر بها لا الشروط المتفق عليها بين العميل والمستفيد أو بين العميل والبنك.
فضمان البنك لصالح المستفيد لا يعتبر عقدا بينه وبين المستفيد؛ لأن الخطاب يصدر تنفيذا للعقد بين الآمر والبنك، وليس تنفيذا لعقد بين البنك والمستفيد من الخطاب، فلا يشترط لإلزام البنك أن يقبل المستفيد الخطاب، بل يلتزم البنك نهائيا بمجرد إصداره الخطاب ووصوله إلى علم المستفيد منه ما دام لم يرفضه، صحيح أن المستفيد في مطالبته البنك يلتزم الشروط الواردة بالخطاب، ولكن ليس لأنه طرف في عقد بينه وبين البنك، بل لأن هذه هي حدود التزام البنك المبينة في خطاب التزام البنك للمستفيد، فالبنك يلتزم بمجرد إصداره الخطاب, ولا يلتزم إذا لم يصدره ولو اتفق مع العميل على أن يضمنه قبل المستفيد؛ لأن هذا الاتفاق يظل
مقصورا على طرفيه دون أن يكون للمستفيد أن يتمسك به، ولكن يجب لالتزام البنك بالخطاب أن يصل إلى علم المستفيد، وإلا فللبنك حق الرجوع في إرادته قبل وصول الخطاب إلى علم المستفيد.
ولا يعتبر البنك -في التزامه بخطاب الضمان- نائبا عن عميله، بل هو يلتزم بصفته أصيلا؛ لأن النيابة لا تقوم في الضمان، بل يكون العميل والبنك ملتزمين قبل المستفيد، ولكن دين كل منهما مستقل عن دين الآخر.
والبنك إذ يصدر خطاب الضمان يتعهد بالوفاء لشخص معين هو المتعاقد مع عميل البنك، الذي صدر الخطاب بناء على طلبه، وهو ما يحرص الخطاب على إيضاحه بالنص على أن البنك يتعهد بالدفع إلى شخص آخر أو جهة معينة.
ويترتب على أن الخطاب شخصي أنه لا يجوز للمستفيد تظهيره إلى غيره خاصة، ولا يتضمن شرط الإذن، ولا يعتبر لذلك ورقة تجارية، ولا يجوز له أن يتنازل عنه لأي شخص آخر بأي طريقة -حتى ولا بالتبعية- لتنازله عن عقد المقاولة الأصلي؛ لأن شخصية المستفيد من الخطاب وأمانته محل اعتبار لدى عميل البنك.
ولا يجوز أن يدفع البنك قيمة خطاب الضمان إلا لشخص المستفيد أو وكيله.
وإذا فقد وجب على البنك أن يعطي المستفيد بدل فاقد أو يدفع له، وليس له أن يرفض بحجة عدم تقديم الخطاب مادامت شروط الدفع متوافرة، وبالعكس عليه أن يمتنع عن الدفع إذا لم يكن المطالب هو المستفيد ولو كان حاملا لخطاب الضمان، وللمستفيد وحده حق طلب
تنفيذ الخطاب، ولا يجوز لدائنيه أن يحجزوا على قيمته تحت يد البنك؛ لأن المطالبة بتنفيذه حق شخصي تقديري له، لا يجوز لدائنيه أن يستعملوه بدلا عنه أو يجبروه على استعماله.
ولا يضمن البنك حسن تنفيذ العميل؛ لالتزامه أمام دائنيه، بل هو يطلق تعهدا يمكن القول أنه تعهد مجرد عن ظروف التزام العميل أمام المستفيد، فهو يلتزم بدفع المبلغ المحدد في الخطاب أيا كان مقدار مديونية العميل ولو كان هذا المقدار أكبر أو أقل مما تعهد به البنك للمستفيد، وهو تعهد منقطع الصلة بكيفية تنفيذ العميل المدين التزامه، فلا يعتبر ما تعهد البنك بدفعه تعويضا للدائن المستفيد من عدم تنفيذ العميل التزامه أو إساءة هذا التنفيذ.
ويرتبط خطاب الضمان بالتزام العميل اقتصاديا, فهو يصدر خدمة لعلاقة العميل بدائنه، إذ يستهدف به العميل الحصول على ثقة هذا الدائن الذي لا يرضى بأي ضمان آخر سوى هذه الصورة من صور الضمان، ومع ذلك فالبنك ليس كفيلا والتزامه ليس تضامنيا.
ومما يترتب على نتائج استقلال البنك عن دين العميل قبل المستفيد أنه لا حاجة بالبنك إلى إخطار المدين (عميله) قبل أن يدفع للمستفيد، وليس للبنك التمسك على المستفيد بدفوع مستمدة من العلاقة بين المستفيد وعميل البنك، وليس للعميل أن يعارض في الوفاء للمستفيد بسبب مستمد من علاقته بهذا المستفيد.
وللبنك أن يرجع بما دفعه للمستفيد إلى عميله إذا كان هذا الوفاء تنفيذ
خطاب ضمان ، صدر صحيحا ومطابقا لتعليمات العميل الآمر (1) .
__________
(1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (358) وما بعدها.
ح- انقضاء التزام البنك : ينقضي التزام البنك بانقضاء المدة المحددة بينهما أو مرور مدة التقادم أو إعادة الخطاب إليه دون انقضاء المدة المقررة فيه (1) .
ط- العمولات : تعتبر عمولات خطابات الضمان دخلا لا بأس به بالنسبة للبنك، وهي محددة بموجب تعريفة اتحاد البنوك، وتستحق لفترات ربع سنوية، أي: كل ثلاثة شهور ومضاعفاتها، كما يجوز احتساب العمولة على الأرصدة الحالية من خطابات الضمان المتناقصة التي تكفل دفع أقساط دورية معينة (2) .
__________
(1) انظر [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] ص (374).
(2) [البنوك والائتمان] (175).
الصورة الثالثة: الاعتماد بالقبول
الاعتماد بالقبول صورة من صور إقراض التوقيع، وفيما يلي بيان وصف العملية، والصور المختلفة للالتجاء إلى القبول المصرفي، وأن الاعتماد بالقبول غير متجدد ومدى صحة الأوراق المقبولة، وخصم البنك للأوراق التي عليها قبوله والتزامات الطرفين في الاعتماد بالقبول:
1 - التعريف بعملية القبول المصرفي :
يقول الدكتور علي البارودي : مضمون هذه العملية: هو أن البنك يقبل كمبيالة يسحبها عليه العميل أو الطرف الآخر الذي يتعامل معه العميل، وبقبول البنك للكمبيالة تكتسب قوة ائتمانية كبيرة تجعل من
السهل تداولها أو خصمها لدى بنك آخر، فكأن البنك دون أن يخرج نقودا من خزانته، قد هيأ للعميل فرصة الحصول على المبالغ اللازمة له، كذلك يستطيع العميل أن يرسل هذه الكمبيالة إلى البائع فيطمئن إلى التعامل معه، إذ يلتزم البنك كأي مسحوب عليه قابل للورقة التجارية ويخضع لقانون الصرف (1) .
2 - الصور المختلفة للالتجاء إلى القبول المصرفي : الأسباب الداعية للالتجاء إلى القبول المصرفي متعددة، منها: تمويل العمليات التجارية في الداخل أو الخارج، ومنها: تحقيق اشتراك عدة بنوك في عملية ائتمان واحدة.
وفيما يلي بيان ذلك باختصار من كلام الدكتور علي البارودي :
أ- يكثر الالتجاء إلى القبول المصرفي لتمويل العمليات التجارية ذات الطابع الدولي، فالمستورد يلجأ إلى البنك، ليحصل على قبوله على كمبيالة يرسلها إلى البائع الأجنبي، كذلك إذا كان المصدر قد أمهل مدينه في الوفاء فإنه يستطيع أن يحصل على مبلغ فوري من البنك بأن يقدم له مستندات الصفقة ويحصل على قبوله في كمبيالة يخصمها في بنك آخر، وقد أخذ العمل في بعض البنوك الأوربية يشهد استعمال القبول في مجال التجارة الداخلية أيضا، ويتقاضى البنك عمولة مقابل إقراضه توقيعه، هذه العمولة غالبا ما تكون نسبة معينة من مبلغ الكمبيالة المقبولة، يراعي في تحديدها مقدار الخطر الذي يتعرض
__________
(1) [العقود وعمليات البنوك التجارية] (388- 1).
له، على أن الأمر لا يقتصر بالنسبة للبنك على مجرد التوقيع، إذ لا شك أنه يجب أن يحسب حساب الحالات التي لا تنتهي فيها العملية نهاية طبيعية، فيضطر إلى الدفع باعتباره المسئول الأول عن الوفاء بقيمة الكمبيالة دون أن يكون قد استلم شيئا من العميل؛ لذلك فهو يهتم بالضمانات.
ب- ويستخدم القبول أيضا لتحقيق اشتراك عدة بنوك في عملية ائتمان واحدة، يطلق عليها الائتمان الجماعي، وذلك عندما يرى البنك أن من الأنسب أن يشرك بنكا آخر في مخاطر العملية: إما لضخامة قيمتها، أو لازدياد احتمالات الخطر فيها، أو للأمرين معا (1)
3 - الاعتماد بالقبول لا يتجدد :
ولا يتجدد الاعتماد بالقبول، كما بين ذلك الدكتور محمد جمال الدين عوض بقوله: الاعتماد بالقبول بطبيعته غير متجدد؛ لأن استعماله يكون مرتبطا بتنفيذ عملية تجارية معينة، فلا يجوز للعميل الذي حصل على قبول البنك للأوراق المتفق عليها أن يطلب قبوله مرة أخرى على أوراق غيرها، وذلك ما لم يتفق بينهما على تجديد هذا الاعتماد (2) .
4 - مدى صحة الأوراق المقبولة : قد يقبل البنك الكمبيالة المسحوبة عليه دون أن يكون لديه مقابل وفائها، ومع ذلك فالورقة صحيحة ولا تعتبر
__________
(1) [العقود وعمليات البنوك التجارية] (389) وما بعدها.
(2) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (381- 1).
من أوراق المجاملة التي يقضى في القضاء ببطلانها؛ لأن البنك المسحوب عليه لا يقبلها لمجرد مجاملة الساحب، بل هو يقبلها ويقصد أن يدفع قيمتها للمستفيد منها ولو لم يصله مقابل الوفاء من عميله الساحب قبل حلول الأجل (1)
5 - خصم البنك للأوراق التي عليها قبوله :
ويقول: يمكن للبنك بمقتضى عقد جديد أن يخصم ورقة سبق له قبولها، وذلك متى قدمها للخصم عميله أو شخص آخر حامل لها (2) .
6 - التزامات الطرفين:
أما التزامات الطرفين في الاعتماد بالقبول فقد قال عنها: يتعهد البنك في علاقته بالمستفيد وبمقتضى العقد أن يقبل الكمبيالة المسحوبة عليه من العميل أو من شخص آخر يعينه العميل، ومتى توافرت الشروط المتفق عليها من حيث حدود المدة والمبلغ، فإذا قبل الورقة فقد نفذ تعهده، ولكنه بذلك يلتزم -صرفيا- أمام الحاملين بقبوله، فيكون لهؤلاء التمسك عليه بكل ما يقره لهم قانون الصرف, ولو كانوا يعلمون أن الورقة مسحوبة بناء على اعتماد مفتوح، ويكون لهم أن يتمسكوا عليه بقاعدة عدم الاحتجاج بالمدفوع غير الظاهرة في الورقة، وحتى لو أنهى الاعتماد بعد إطلاق الورقة في التداول، فإن ذلك لا يؤثر التزام البنك أمام الغير حسني النية.
__________
(1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (381- 1).
(2) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (381- 1)
أما العميل المستفيد فيلتزم بدفع العمولة المتفق عليها وبتقديم مقابل الوفاء للبنك قبل حلول الأجل؛ لأن الأصل أن العقد لا يلزم البنك بالوفاء بقيمة الورقة من خزينته، وهدفه الوحيد هو تسهيل تداول الورقة، فإن تأخر المستفيد واضطر البنك إلى الوفاء من ماله كان له دعوى باسترداد ما دفعه عن العميل وبتعويض عن تعطل المبلغ المدفوع.
والتزام العميل تقديم مقابل الوفاء قبل الأجل يجب تنفيذه فعلا، أي: نقدا، فإن كان له رصيد دائن في الحساب الجاري بينه وبين العميل كان للبنك أن يجري قيدا عكسيا في هذا الحساب بالمبلغ المستحق له، ولكن هذه رخصة اختيارية له والرأي على أن له أن يطلب تقديم المقابل نقدا (1)
__________
(1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (382، 383- 1).
تكييف الضمان المصرفي في الفقه الإسلامي وبيان حكمه
مما تقدم يتبين: أن المصرف قد يضمن العميل في جزء من المبلغ المستحق عليه أو ما يستحق عليه لدى طرف آخر، وقد يضمنه في جميع المبلغ، وقد يدفع المصرف عن العميل للمستفيد ما ضمنه عنه كله أو بعضه في حالة عجزه عنه، ويأخذ المصرف فائدة وعمولة على المبلغ الذي ضمنه بموجب اتفاق بين المصرف والعميل، وإذا دفع المصرف عن العميل للمستفيد فقد يعجز العميل عن التسديد في الوقت الذي يتفقان عليه، فيجعل المصرف نسبة معينة من الفائدة والعمولة مقابل التأخير عن كل شهر أو يوم -مثلا-، وقد يجعل العميل لدى المصرف غطاء كاملا أو جزئيا يحتفظ به المصرف؛ ليسدد منه ما يستحقه على العميل إذا عجز عنالدفع في الوقت المحدد للدفع، وقد يستغل المصرف هذا الغطاء وتكون أرباحه له.
وعلى هذا فإنه يكون عقد ضمان من المصرف لعميله في مقابل فائدة وعمولة فلا يجوز لأمور:
1 - أخذ المصرف مالا في مقابلة الضمان، والضمان من باب المعروف الذي يبذل ابتغاء الثواب من الله.
2 - أخذ فائدة في مقابلة ما دفعه من المال عن عميله فإنه يعتبر قرضا جر نفعا.
3 - ما قد ينتفع به من استغلال للغطاء. والغطاء هنا من باب الرهن، فكان انتفاع الضامن به محرما حيث لم يكن ظهرا يركب بنفقته أو ذا در يحلب بنفقته.
الرابع: الاعتمادات المستندية
الاعتمادات المستندية هي أصلح وسائل الدفع وأكثرها انتشارا في العمليات التجارية الخارجية ذلك أنه يتولد عنها ثقة لا حد لها، إذ هي مشتقة من الضمانات التي تنطوي عليها، والعلاقة في هذا النوع لا تقتصر على المصرف والعميل، كما في الاعتماد البسيط فهي تتناول شخصا ثالثا إذا كان الاعتماد المستندي غير مؤيد، ورابعا إذا كان الاعتماد المستندي مؤيدا.
ويشمل الكلام عليها: أولا:
بيان واقعها
.وثانيا: بيان حكمها في الفقه الإسلامي.
أولا: ويتضمن الكلام عليها من حيث واقعها: تعريفها، وأنواعها وطبيعتها، وأسباب أهميتها وتحليل العلاقات القانونية الناشئة عنها:
أ- تعريفها: عرف الدكتور حسن محمد كمال الاعتماد المستندي بقوله : هو عبارة عن تعهد كتابي يصدره البنك (وهو الذي يقوم بدور الوسيط والضامن في هذه العملية) بناء على طلب مستورد البضاعة، يتعهد بمقتضاه بقبول أو دفع قيمة الكمبيالة التي يسحبها مصدر البضاعة عند تقديمها مستوفاة للشروط المنصوص عليها في الاعتماد (1) .
__________
(1) [البنوك التجارية] ص (194).
ب- أنواعها: الاعتمادات المستندية تتخذ صورا متعددة مختلفة نتيجة لاختلاف صفاتها والغرض منها، فقد يكون اعتمادا قابلا للإلغاء أو غير قابل، وقد يكون مبلغ الاعتماد ثابتا، وقد يكون متغيرا أو متجددا على حسب اتفاق ذوي الشأن.
وفيما يلي بيان هذه الأنواع:
قال الدكتور محمد جمال الدين عوض : أولا: من حيث قوة تعهد البنك: ينقسم الاعتماد المستندي إلى اعتماد قابل للإلغاء واعتماد قطعي أو نهائي، ويقصد بالاعتماد القابل للإلغاء الاعتماد الذي يجوز للبنك أن يرجع فيه دون مسئولية عليه قبل الآمر أو المستفيد.
فلا يترتب على هذا الاعتماد أي التزام على البنك ولا أي حق للمستفيد؛ ولذلك يخطر البنك المستفيد بأنه فتح لصالحه اعتمادا في حدود مبلغ كذا، ولكنه يصرح أنه قابل للإلغاء في كل وقت، فهو لا يعد
المستفيد بشيء، بل يخطره بالتفاهم الذي حصل بينه وبين العميل.. وكذلك لا يعتبر الاتفاق بين البنك وعميله على هذا الإخطار اعتمادا بالمعنى الفني؛ لأن الاعتماد يفترض ثقة البنك في عميله الآمر، وهي ثقة غير متوفرة بدليل احتفاظ البنك بحق الرجوع فيه في كل وقت، ولا يلزم البنك إذا سحب الاعتماد أن يخطر المستفيد بذلك ولو سبق أن أخطره بفتحه، ومتى طلب العميل الآمر من البنك إنهاء اعتماده وجب عليه سحبه فورا؛ لأنه وكيل عن الآمر فضلا على أنه لم يلتزم أمام الغير بشيء.
ومع ذلك فكثيرا ما يلجأ إلى الاعتماد القابل للإلغاء؛ لأن مصاريفه أقل من مصاريف الاعتماد القطعي، ولأنه طالما كان مفتوحا، فالبنك ينفذه طبقا لما وعده في إخطاره، كما أن معظم البنوك وإن كان لا يلتزم قانونا بإخطار المستفيد بسحب الاعتماد إلا أنه يفعل ذلك دائما، ومتى نفذ البنك هذا الاعتماد ودفع للبائع نظير تلقيه المستندات استقرت أوضاع الأطراف، كما في حالة الاعتماد القطعي.
أما الاعتماد القطعي أو النهائي : فهو الذي لا يجوز للبنك أن يرجع فيه أو يلغيه، وذلك لأنه متى أخطر به المستفيد ترتب في ذمة البنك التزاما شخصيا مباشرا أمام المستفيد بتنفيذ ما جاء في خطاب الإخطار.
ثانيا: من حيث تدخل عدة بنوك في تنفيذه ينقسم إلى: 1 - الاعتماد المؤيد: والاعتماد غير المؤيد: قد يكون الاعتماد القطعي مؤيدا من بنك آخر غير البنك الذي فتح الاعتماد، إذ يغلب أن لا يقنع البائع باعتماد يفتحه المشتري لدى البنك في بلده، وبتولي بنك في بلد البائع إخطاره به بحيث يكون مجرد وسيط غير مسئول شخصيا، فيكون الاعتماد
قطعيا من البنك الذي فتحه، ولكنه غير مؤيد من البنك الوسيط الذي أخطر به المستفيد، بل يشترط أن يتعهد هذا البنك شخصيا أمامه بأن يؤيد فتح الاعتماد، فيكون الاعتماد هنا قطعيا ممن أصدره, ومؤيدا من بنك ثان، ويلاحظ أن الاعتماد غير النهائي لا يمكن أن يكون مؤيدا؛ لأن البنك الذي يفتحه لا يلتزم أمام المستفيد، فلا يتصور أن يلتزم البنك الوسيط شخصيا؛ لأنه مجرد وكيل عن الأول، وإذا التزم كان التزامه أصيلا، وليس تأييد الالتزام به وحده ولم يكن له رجوع على البنك الأول.
ثالثا: من حيث كيفية تنفيذه ينقسم إلى: اعتماد الوفاء، واعتماد الخصم، واعتماد القبول:
قد يتعهد البنك أن يدفع للبائع نقدا إذا قدم إليه المستندات المعنية، وقد يتعهد بخصم الكمبيالات التي يسحبها البائع على المشتري بشروط معينة، وقد تعهده على مجرد قبول هذه الكمبيالات دون خصمها، وقد ينفذ الاعتماد مرة واحدة، أي: دفعة واحدة، وقد ينفذ على دفعات، ولهذا الائتمان صورتان:
الصورة الأولى: هي حالة الاتفاق على أن يدفع البنك إلى البائع مبلغا على المكشوف، ويدفع البنك إلى البائع دفعة على الحساب، أي: إلى أن يقدم المستندات، وذلك نظير إيصال منه، ويتحلل هذا الاعتماد إلى اعتماد مستندي مضاف إليه اعتماد نقدي بطريق الخزينة.
الصورة الثانية: أن يتفق على أن ينفذ البنك تعهده جزئيا، متى قدم له البائع مستندات مؤقتة، أي: مستندات تدل على أنه بدأ في تنفيذ التزاماته،
ولكنها ليست هي المستندات النهائية المطلوبة للتنفيذ الكامل.
وقد يعين مبلغ الاعتماد لمرة واحدة خلال المدة المحددة، وقد يتفق على تجديده، وينص على أن للمستفيد حق استخدامه بصفة دورية متجددة، فيتجدد مثلا لمدة ستة شهور بمبلغ ألف جنيه شهريا يكون للمستفيد أن يسحبه كل شهر مرة، ويسمى ذلك: الاعتماد المتجدد، والأصل أن يكون الاعتماد مفتوحا لشخص معين هو البائع، وعندئذ لا يقبل من هذا البائع أن يحول حقه في الإفادة من الاعتماد إلى شخص آخر، وقد ينص في الاعتماد المفتوح على حق المستفيد منه أن ينقله إلى غيره، فيكون للمنقول إليه حق مباشر ضد البنك (1)
__________
(1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] للدكتور محمد جمال الدين عوض (394- 397)، ويرجع أيضا إلى [الاعتمادات المستندية] (7، 21، 68) وما بعدها، وكتاب [البنوك التجارية] لحسن محمد كمال (194)، وكتاب [العقود التجارية وعمليات المصارف] (578) وما بعدها، وكتاب [البنوك والائتمان] لعبد العزيز عامر (151) وما بعدها.
ج- طبيعتها:
محل الصعوبة في عملية الاعتماد المستندي هو تفسير التزام البنك في مواجهة البائع، ثم هو لا يستند إلى أي عقد أو اتفاق سابق بين البنك وبين البائع المستفيد؛ لذلك اختلفت الآراء في تشخيص طبيعته وكثر الأخذ والرد في ذلك.
وفيما يلي كلام للدكتور محمد جمال الدين عوض ذكر فيه جملة من الآراء ونقدها، وبين ما يختاره هو، ثم يليه نقد عام للدكتور علي
البارودي , وبيان الرأي الذي يختاره، ووجه اختياره.
قال الدكتور محمد جمال الدين عوض :
1 - عقد غير مسمى: فقيل: أولا: إن علاقة المشتري بالبنك هي عقد من نوع خاص غريب عن العقود المدنية وله أحكام خاصة، ومنها أنه ينشئ التزاما لصالح البائع يصبح مستقلا عن مصدره ولا غرابة في ذلك؛ لأن هذا العقد نشأ تطورا لخدمة حاجات التجارة.
وعيب هذه الفكرة أنها تقرر الواقع ولكنها لا تفسره.
2 - القبول المصرفي: ذهب البعض إلى أن البنك بإصداره خطاب الاعتماد إنما يقبل مقدما الكمبيالات التي يسحبها عليه البائع تنفيذا للاتفاق المبرم بينه وبين المشتري، ولكن يلاحظ أن هذا الوعد بالقبول لا يمكن أن يعتبر قبولا صرفيا، كما لا تصلح هذه النظرية لحالات تنفيذ الاعتماد بواسطة الدفع فورا، وحتى في الحالات التي يكون فيها تنفيذه بواسطة القبول يلاحظ أن القبول المصرفي يجب أن يكون غير معلق على شرط، في حين أن البنك في الاعتماد المستندي يتعهد بالقبول إذا قدم البائع المستندات المطلوبة، كما أن الحق في الاعتماد لا يقبل الانتقال ولا التداول، في حين أن التعهد الناشئ من القبول المصرفي ينتقل إلى كل حامل للكمبيالة.
3 - الكفالة: يأخذ رأي بفكرة اعتبار البنك كفيلا ضامنا للمشتري في التزامه أمام البائع، ويرتب على ذلك أنه لا يجوز للبنك أن يرجع في تعهده بحجة أن المشتري لم يدفع له أجره، وأن البنك لا يكون له بعد الوفاء للبائع، سوى الرجوع على المشتري، وأنه إذا تنازل المشتري
عن عقده إلى شخص آخر فإنه يصبح غريبا عن البنك، ويحل المشتري من الباطن محله، ولا يكون للبنك بعدئذ أن يرجع على المشتري الأصلي، وينحصر حقه في الرجوع على المشتري من الباطن.
ويعيب هذا التحليل أن فكرة الاعتماد المستندي تقوم على إنشاء التزام في ذمة البنك مستقل تماما عن عقد البيع وتنفيذه، فلا يتوقف وفاء البنك للبائع على تنفيذ البائع التزاماته الناشئة من عقد البيع، في حين أن التزام الكفيل التزام تابع فلا يقوم ولا يبقى إلا إذا نشأ التزام المدين الأصلي وظل قائما، مع أن أنصار هذا الرأي يلزمون البنك بالدفع أيا كان مصير عقد البيع، كما أن للكفيل ولو كان متضامنا أن يتمسك على الدائن بالدفوع التي للمدين ضد الدائن، ومعنى ذلك أن يكون للبنك أن يرفض الوفاء للبائع كلما استطاع أن يدفع مطالبته بدفع للمشتري ضد البائع وهو ما ينكره الفقه والقضاء.
4 - الاشتراط لمصلحة الغير: قيل إن المشتري يشترط في الاعتماد لصالح البائع، فيكون للأخير حق مباشر ضد هذا البنك يتأكد بقبوله خطاب الاعتماد، وعندئذ لا يستطيع المشتري ولا البنك الرجوع فيه.
ويعيب هذا التصوير أن التزام المتعهد في الاشتراط لمصلحة الغير مرتبط بعقد الاشتراط، فالمتعهد يلتزم التزاما جديدا لصالح المستفيد، ولكن هذا الالتزام ليس مستقلا عن علاقته بالمشترط، في حين أن البنك في الاعتماد القطعي يتعهد بالتزام جديد ومستقل عن التزامه قبل المشتري.
5 - الإنابة: اقتراح الأستاذ هامل : تفسير هذه العملية بفكرة الإنابة، فالمشتري دائن بمقتضى الاعتماد, ومدين بمقتضى عقد البيع وهو
المنيب، أما المناب فهو البنك وأما المناب لديه فهو البائع، والصعوبة هي في شخص المناب لديه؛ لأن الأصل أن المناب لا يلتزم إلا بقبول المناب لديه؛ لأن الإنابة عقد ثلاثي لأطرافه في حين أن الاعتماد يلزم البنك بمجرد وصول خطابه إلى البائع دون حاجة إلى قبوله.
والحقيقة: أن هذا القبول في رأي هامل موجود، ومستخلص ضمنا من مجرد طلبه من المشتري فتح الاعتماد، ومن عدم اعتراضه على البنك الذي اختاره المشتري، وتفسر الإنابة كون البنك نهائيا ومستقلا، ولكن الإنابة تظل ناقصة في علاقة البائع بالمشتري، إذ تظل علاقتهما المستمدة من عقد البيع قائمة وبمجرد قبول البائع الخطاب يمتنع على المشتري الرجوع في أمره، ويكون التزام البنك مستقلا عن البيع، فعليه أن يدفع للبائع ولو كانت البضاعة معينة، وللمشتري بعد ذلك أن يرجع على البائع.
ولا تلعب نهائية الالتزام دورها بين البنك والمشتري إلا متى نفذ البنك بدقة أوامر المشتري، ولا يكون للبنك الرجوع على المشتري إلا إذا كان قد نفذ التزاماته الناشئة عن عقد الاعتماد تنفيذا دقيقا، ولكن مع كل ذلك تقوم أمام هذه النظرية صعوبتان: الأولى: هي أنه في الإنابة تقوم وحدة الدين، بمعنى أنه بالرغم من استقلال التزام كل من المنيب والمناب فموضوعهما واحد وهو دين المنيب الذي يتعهد به المناب، في حين أنه في الاعتماد يكون التزام العميل هو دفع الثمن والتزام البنك دفع مبلغ نقدي ليس له هذا الوصف.
ويرد أنصار نظرية الكفالة على ذلك بقولهم: إن هذه الملاحظة فيها تشدد واضح؛ لأن الحقيقة هي أن التزام البنك والتزام المشتري دفع مبلغ (نقدي). والصعوبة الثانية هي: أن الإنابة لا تمنع المناب من التمسك على
المناب لديه بالدفوع التي للمنيب ضد المناب لديه.
وقد رفض الأخذ بهذه النظرية القضاء المصري في حكم حدث سنة 1961 م.
6 - تقابل الإرادات بطريق التوسط: قال بهذه الفكرة الأستاذ خان مال، وهي تتلخص في أنه حيث لا يلزم تعاصر الإرادتين أمكن أن يتم التعاقد بين شخصين، كل منهما يطلق رغبته في التعاقد بشروط معينة، فالبائع والبنك يتعاقدان هنا بواسطة المشتري، ويتم التعاقد عندما يفتح البنك الاعتماد، إذ يشترط البائع على المشتري تسوية الثمن بواسطة فتح الاعتماد والبنك يقبل هذا الإيجاب الذي يعلنه به المشتري.
وواضح ما في هذه النظرية من إرهاق لفكرة التعاقد، ومن تعرضها لكثير من الانتقادات الموجهة لغيرها من النظريات.
7 - الإرادة المنفردة : ويلاحظ الأستاذ أسكار : أن أيا من النظريات المقترحة لا يصلح لتغير الآثار المستقرة للاعتماد المستندي، وأنه وإن كان ولا بد من تقريب هذا النظام من شبيه له يعرفه القانون المدني فهو الإرادة المنفردة، ذلك أن مركز البنك كمركز الواعد بجائزة يتعهد كلاهما تعهدا مستقلا بأداء معين إذا نفذ شخص عملا معينا هو في الاعتماد تقديم المستندات، وهو في الوعد بجائزة العمل الذي تستحق به الجائزة.
وفي نظرنا هذه الفكرة أقرب الأسس إلى تفسير النظام تفسيرا صحيحا . . . (1) .
__________
(1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (459- 463)، ويرجع إلى كتاب [العقود التجارية وعمليات المصارف]، (581) وما بعدها، وكتاب [العقود وعمليات البنوك التجارية] (385) وما بعدها.
وقال الدكتور علي البارودي بعد أن ذكر ما قيل من أنه حوالة، أو كفالة أو الاشتراط لمصلحة الغير، أو الإنابة أو سند مصرفي ذو طبيعة خاصة، أو أن البنك يكون في مركز الوكيل بالعمالة الضامن، وبأن البنك يجمد مبلغا معينا لصالح البائع، فيصبح حائزا لحسابه وتحت تصرفه أيا كان مصير العملية. أو فكرة القبول المصرفي، أو الإرادة المنفردة، أو أنه عقد غير مسمى أنشأه العرف التجاري.
قال بعد ذلك: وإنما يمكن القول بصفة عامة أن أغلب هذه النظريات يفسر جانبا من جوانب التزام البنك دون جانب، وأغلبها يعجز عن تفسير التزام البنك الذي يعتبر نهائيا مستقلا دون حاجة إلى قبول صريح من جانب البائع الأجنبي، أو عن تفسير استقلاله التام عن عقد البيع وما ينشأ عنه من دفوعات خاصة، أو استقلاله عن إرادة المشتري العميل الذي لا يستطيع بعد ذلك أن يطلب الامتناع عن دفع الثمن للبائع لسبب أو لآخر، أو استقلاله عن إرادة البنك نفسه الذي لا يستطيع الرجوع في هذا الالتزام حتى ولو أفلس العميل المشتري، أو قام بما يبرر فسخ الاعتماد المفتوح.
ثم ذكر أن دور البنك المستقل هو دور الحكم أو المشرف على العملية بين الطرفين، وذكر في نهاية بحثه أنه يميل إلى القبول بأن التزام البنك يصدر عن إرادة منفردة، فهذا الرأي هو أقرب الآراء إلى الصحة (1)
__________
(1) [العقود وعمليات البنوك التجارية] (386، 387).
د- أسباب أهميتها :
للاعتمادات المستندية أهمية كبرى في التجارة الخارجية في مجال الاستيراد والتصدير، وفيما يلي ذكر أهم هذه الأسباب:
قال الأستاذ أمين ميخائيل :
1 - سهولة حصول المصدر على قيمة بضاعته بمجرد تسليمه إلى البنك في بلده المستندات الخاصة بهذه البضاعة والمنصوص عليها في الاعتماد المستندي المفتوح لصالحه، ومن المعروف أنه في الأوقات المشكوك فيها -أي: في الأزمات والحروب وأوقات انخفاض الأسعار- يخشى التجار من تسليم بضائعهم أو التنازل عن ملكيتها إلا بعد تأكدهم من قبض أثمانها.
فهم لذلك يجدون في الاعتمادات المستندية المفتوحة عن طريق البنوك التي لا تدعو سمعتها المالية إلى الشك خير ضمان لهم.. كما أن استبعاد خطر عدم الدفع لهم يجعلهم يبيعون بضاعتهم بأثمان مغرية. أضف إلى ذلك سرعة تداول رءوس الأموال المستثمرة في التجارة وعدم تجميدها لمدة طويلة.
2 - عادة لا يبذل المصدر للسلعة جهدا في الحصول على المعلومات والبيانات عن المركز المالي للمشتري لبضاعته، ما دام سيحصل على قيمة بضاعته بمجرد تسليمه للبنك المستندات المطلوبة.
3 - عندما يدفع المستورد ثمن البضاعة التي اشتراها فإنه يكون على ثقة تامة من أن البنك سيحصل له من البائع على كل المستندات التي يطلبها، والتي بمقتضاها تنتقل ملكية هذه البضاعة إليه بعد شحنها وتنازل البائع له عنها باستلامه قيمتها.
4 - أن أي نقص أو خطأ في مستندات الشحن يمكن تصحيحه أو استكماله في أقل وقت ممكن عندما يقوم البنك بفحص هذه المستندات بعد تسليمها إليه ليدفع قيمتها من الاعتماد المفتوح لديه.
5 - يقوم المستورد باستيفاء جميع الإجراءات التي تتطلبها الرقابة على الاستيراد والرقابة على النقد في بلده قبل أن يطلب من البنك الذي يتعامل معه في فتح الاعتماد المستندي، كما أن المصدر يتولى استيفاء جميع الإجراءات اللازمة، لتصدير بضاعته بمجرد أن يخطر بفتح الاعتماد المستندي اللازمة لصالحه (1) .
__________
(1) [الاعتمادات المستندية] المحاضرة التي ألقاها أمين ميخائيل عبد الملك بالقاهرة (17، 19 ) يونيو سنة 1957م.
تحليل العلاقات القانونية المتفرعة عن الاعتمادات المستندية
تقدم أن فتح الاعتماد البسيط ينشأ بين علاقتين: المصرف والعميل، وأن فتح الاعتماد المستندي ينشأ بين علاقات ثلاث: معطي الأمر، والبنك الذي يفتح الاعتماد استجابة للآمر الصادر إليه، والمستفيد من الاعتماد.وإذا تدخل بنك وسيط في العملية ليؤيد الاعتماد للمستفيد أضيف بذلك طرف آخر، فأطرافه ثلاثة إذا كان غير مؤيد، وأربعة إذا كان مؤيدا.
وفيما يلي كلام للدكتور أمين محمد بدر، حلل فيه العلاقات بين الأطراف إذا كان الاعتماد غير قطعي أو قابلا للإلغاء، ثم أتبع ذلك بتحليل العلاقات بالنسبة للاعتماد القطعي أو غير القابل للإلغاء، فبين العلاقة بين معطي الأمر والمستفيد، ثم العلاقة بين معطي الأمر والبنك الذي يفتح
الاعتماد ثم العلاقة بين البنك الذي فتح الاعتماد والمستفيد.
قال الدكتور أمين محمد بدر :
الاعتماد غير القطعي أو القابل للإلغاء :
في هذه الصورة لا يوجد اعتماد بالمعنى الحقيقي إلا في أضيق الحدود، ذلك أن البنك الذي يفتح الاعتماد يحتفظ لنفسه في كل وقت بالحق في إلغائه دون حاجة إلى إخطار المستفيد بأنه فتح لمصلحته بناء على طلب معطي الأمر اعتمادا قابلا للإلغاء.
وترتيبا على ذلك يستطيع البنك أن يرفض دفع ما يسحبه عليه المستفيد من كمبيالات تنفيذا للاعتماد ما لم يكن قد سبق لهذا البنك أن وقع على هذه الكمبيالات بالقبول، إذ يلتزم في هذه الحالة التزاما شخصيا مباشرا بدفع هذه الكمبيالات للحامل، وذلك تطبيقا لقواعد الأوراق التجارية، ومن ناحية أخرى يستطيع معطي الأمر إلغاء الاعتماد في كل وقت.
ومتى أعطي البنك أمرا بالإلغاء تعين على البنك تنفيذه، إذ أنه وكيل عن معطي الأمر، ومن واجب الوكيل أن ينفذ تعليمات الموكل على أن البنك لا يسأل عن التنفيذ أو الإلغاء إلا اعتبارا من الوقت الذي يصل فيه إلى علمه تطبيقا للمادة (91) من القانون المدني، التي نصت على أن التعبير عن الإرادة ينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على عكس ذلك.
وقد يحتاج البنك إلى الاتصال ببنك وسيط سبق له أن أنهى إليه فتح الاعتماد لمصلحة المستفيد حتى يكون هو الآخر على علم بواقعة الإلغاء, وفي هذه الحالة لا يحاسب البنك الذي فتح الاعتماد عن عدم تنفيذ أمر
الإلغاء إلا بعد مرور الوقت الكافي لإخطار البنك الجديد بالواقعة المذكورة، وإذا ألغى البنك الاعتماد بناء على طلب معطي الأمر فإنه لا يلزم البنك إخطار المستفيد، وأما إذا تم الإلغاء ابتداء من جانب البنك فقد ثار السؤال عن التزام البنك بإخطار المستفيد بإلغاء الاعتماد.
ولكن الرأي الغالب استقر على عدم وجود مثل هذا الالتزام؛ لأن كون الاعتماد غير قطعي يفيد بذاته إمكان إلغائه من جانب البنك دون إخطار سابق, على أن الحاصل -عملا- هو أن البنوك تحرص على إخطار المستفيد بواقعة الإلغاء، وأنها لا تقدم على الإلغاء إلا إذا توافرت لديها أسباب جدية مستمدة من إعسار معطي الأمر، أو إفلاسه أو عدم أهليته الطارئ.
وفضلا عن ذلك فقد استقر الرأي على أن البنك الذي يتلقى من معطي الأمر مقابل وفاء الكمبيالات التي يسحبها عليه المستفيد لا يجوز له أن يلغي الاعتماد غير القطعي وإلا كان متعسفا في استعمال حقه، ومسئولا عن تعويض الضرر الذي يصيب معطي الأمر أو المستفيد، نتيجة الإلغاء المذكور. والواقع أن هذا الغرض نادر، إذ تنعدم مصلحة البنك في الإلغاء في مثل هذه الصورة.
وكما أن الاعتماد غير القطعي يمكن أن يلغى بناء على طلب معطي الأمر، فإنه يتأثر بكل ما يطرأ على هذا الشخص من أمور مؤثرة في حالته القانونية أو في مقدرته المالية، فينقضي بوفائه وبشهر إفلاسه وبما يطرأ عليه من عدم أهلية.
2 - الاعتماد القطعي أو غير القابل للإلغاء :
ويأتي في العلاقات المتقدمة وهي:
أ- العلاقة بين معطي الأمر والمستفيد :
تخضع هذه العلاقة للشروط المتفق عليها بين الطرفين، فإذا أوجب العقد المذكور على المشتري مثلا فتح اعتماد قطعي لصالح البائع تعين على المشتري أن ينفذ هذا الالتزام وإلا كان مقصرا. ولا يشفع له في هذا التقصير أية صعوبة ترجع إلى الرقابة على التنفيذ التي قد تفرضها الدولة التي يتبعها، إذ كان يتعين عليه أن يقدر هذه الصعوبة مقدما, وأن يهيئ لها العلاج المناسب، أو أن يرفض ابتداء الالتزام قبل البائع بفتح الاعتماد المستندي قطعيا.
ب- العلاقة بين معطي الأمر والبنك الذي يفتح الاعتماد :
يلتزم معطي الأمر قبل البنك بأن يرد إليه المبالغ التي دفعها البنك؛ تنفيذا للاعتماد، وتتم تسوية هذا الالتزام عن طريق قيد المبالغ المذكورة في الجانب المدين من حساب معطي الأمر. وقد يحصل القيد المذكور على حسب الأحوال في الوقت الذي يتلقى فيه البنك الأمر بفتح الاعتماد القطعي، وقد يحصل في الوقت الذي يخطر فيه البنك المستفيد بوجود اعتماد قطعي لصالحه، وقد يحصل في الوقت الذي يقبل فيه البنك أن يدفع كمبيالة سحبها عليه المستفيد تنفيذا للاعتماد.
فلا توجد قاعدة في هذا الخصوص، بل يتوقف الأمر على اتفاق الطرفين وعلى مدى الثقة التي يستشعرها البنك فيمن أعطاه الأمر بفتح الاعتماد.
ومن ناحية أخرى يلتزم البنك الذي فتح الاعتماد بأن ينفذ بدقة التعليمات الصادرة إليه من معطي الأمر، وأهم التزام يقع على البنك في هذا الخصوص هو أن يقوم بالتحقيق من مطابقة مستندات الشحن للتعليمات المذكورة، ويعنينا أن نوضح أن التزام البنك في هذه الناحية إنما يرد على التحقق من مطابقة أوصاف البضاعة المبينة في مستندات الشحن بتلك المحددة في التعليمات الصادرة من معطي الأمر، بمعنى: أن البنك لا يلتزم بفحص البضائع ذاتها فحصا ماديا؛ للتحقق من مطابقتها للتعليمات، وعلى ذلك فإذا تحقق البنك من مطابقة الوثائق للتعليمات- تعين عليه أن يدفع قيمة الكمبيالة للحامل، وإلا كان مقصرا في تنفيذ التزامه، ولا يشفع للبنك في هذا الخصوص أن يتحقق من أن البضاعة الموجودة على السفينة غير مطابقة لطلبات المشتري.
والأصل أن البنك الذي فتح الاعتماد يجب أن يحتفظ بمستندات الشحن، ما دام لم يسترد من معطي الأمر ما دفعه نيابة عنه للمستفيد، ذلك أن البنك لا يستبقي حقه في رهن البضاعة رهنا حيازيا، إلا إذا ظل حائزا لمستندات الشحن التي تمثل البضاعة المذكورة، أو تمثل قيمتها في حالة الهلاك أو الضياع، على أن المشتري قد يكون في حاجة ملحة إلى إعادة بيع البضاعة وهي في طريقها إليه، حتى يستطيع من جانبه أن يوفي مطلوب البنك، وهو لا يستطيع إعادة بيع البضاعة على هذا الوجه، إلا إذا كانت مستندات شحنها بين يديه حتى يستطيع أن يتصرف فيها إلى المشتري الجديد.
وقد سعت البنوك إلى تقدير هذا الوضع فابتدعت صكوكا تمكن
المشتري من التصرف في البضاعة المرهونة للبنك، وفي الوقت نفسه تستبقي فيها البنوك حقها في الرهن. وقد ذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى ترك قانونية هذه الصكوك وأثرها في بقاء الرهن للبنوك أو في زواله، لتقدير المحاكم بحسب ظروف كل دعوى، على أن المسلم به في القانون الفرنسي, وكذلك الحال في القانون المصري هو أن تخلي البنك المرتهن عن مستندات الشحن -ولو تخليا مؤقتا- يستتبع زوال الرهن المقرر لصالحه، ذلك أن تنقل الحيازة من المدين الراهن إلى الدائن المرتهن، هو أمر يتصل بحماية الغير لحسن النية، ولا يتوقف على مجرد اتفاق الطرفين .....
وإذا استعان البنك الذي صدر إليه الأمر بفتح الاعتماد ببنك آخر في هذا الخصوص, وأخطأ البنك الوسيط في تنفيذ شروط الاعتماد فإن البنك الأصلي يبقى مسئولا عن هذا الخطأ قبل معطي الأمر ما لم يكن هذا الأخير قد رخص للبنك صراحة بالاستعانة بالبنك الوسيط، وهذا الحكم هو تطبيق للمادة (708) من القانون المدني في خصوص الوكالة، فقد نصت المادة المذكورة على أنه إذا أناب الوكيل عنه غيره في تنفيذ الوكالة دون أن يكون مرخصا له في ذلك كان مسئولا عن عمل النائب، كما لو كان هذا العمل قد صدر منه هو، ويكون الوكيل ونائبه في هذه الحالة متضامنين في المسئولية.
أما إذا رخص للوكيل إقامة نائب عنه دون أن يعين شخص النائب، فإن الوكيل لا يكون مسئولا إلا عن خطئه في اختيار نائبه أو عن خطئه فيما أصدره له من تعليمات، ويجوز في الحالتين السابقتين للموكل ولنائب
الوكيل أن يرجع كل منهما مباشرة على الآخر.
وعلى ذلك فإن من مصلحة البنك الذي يريد الاستعانة ببنك آخر في فتح الاعتماد أن يحصل من معطي الأمر على ترخيص له بإقامة غيره مقامه في فتح الاعتماد حتى لا يكون مسئولا عن أخطاء هذا الأخير. وأما إذا قنع بإنهاء واقعة الاستعانة ببنك آخر إلى معطي الأمر, فإن هذا العلم لا ينهض في نظر القضاء بديلا عن الإذن الصريح، ومن ثم لا يجدي البنك في التحلل من المسئولية عن أخطاء البنك الذي استعان به.
(ج) العلاقة بين البنك الذي فتح الاعتماد وبين المستفيد :
يرتب الاعتماد القطعي في ذمة البنك التزاما مباشرا لمصلحة المستفيد، بحيث يتعين على البنك أن يقبل أو أن يدفع ما يسحبه عليه المستفيد من كمبيالات، مادامت المستندات الموافقة لهذه الكمبيالات مطابقة لشروط فتح الاعتماد، وبعبارة أخرى: يرتب الاعتماد القطعي علاقة قانونية مباشرة بين البنك والمستفيد، بحيث يمتنع على البنك أن ينهي هذه العلاقة دون رضاء المستفيد، أيا كانت المبررات المستمدة من ظروف معاملاته مع معطي الأمر.
وعلى ذلك لا يستطيع البنك أن يلغي الاعتماد المذكور، لا من تلقاء نفسه, ولا بناء على تعليمات معطي الأمر، ذلك أن علاقة البنك بالمستفيد هي في الأصل علاقة مستقلة عن العلاقات التي تربط بين البنك ومعطي الأمر.
وثمة نتيجة أخرى تلزم عن قيام العلاقة المباشرة بين البنك والمستفيد وهي أنه يمتنع على البنك أن يحتج على المستفيد بالدفوع المستمدة من
العقد الأصلي الذي يربط بين معطي الأمر والمستفيد، وهو في الغالب عقد بيع كما بينا، إذ أن التمسك بهذه الدفوع يخص معطي الأمر وحده، ولكن لا شأن له بالتزام المباشر الذي ترتب للمستفيد في ذمة البنك الذي فتح الاعتماد.
وهذا الاستقلال بين العملية المصرفية والعملية التجارية من الناحية القانونية هو أمر مسلم؛ إذ بدونه تنهار قيمة الاعتماد المستندي القطعي.
وقد قدرت الغرفة التجارية الدولية أهمية هذه الحقيقة، فحرصت على تقريرها في المادة الأولى من مجموعة القواعد والعادات الموحدة في الاعتمادات المستندية، وتابعتها في هذا المسلك لجنة تعديل قانون التجارة الفرنسي في المشروع الذي أقرته في سنة 1951 . . . . (1)
وقد لخص الأستاذ مصطفى الزرقاء الطبيعة القانونية للاعتماد المستندي، ثم ذكر بعده موقف الفقه الإسلامي من العملية، فقال: الوصف القانوني للعملية هو اعتماد (مالي) يفتحه المصرف بناء على طلب شخص يسمى الآمر، لمصلحة عميل لهذا الآمر، ومضمون بحيازة مستندات ممثلة لبضاعة مستحقة للآمر لدى عميله المذكور، ويستوي أن يكون طريق التنفيذ بالوفاء أو - بقبول يفتحه.
يتضح من هذا التعريف أن فتح الاعتماد هو: عبارة عن عهدة مالية يلتزم
__________
(1) [الاعتمادات المستندية] (10- 16)، ويرجع أيضا إلى كتاب [العقود التجارية وعمليات المصارف] لأدوار عد (584- 603)، وكتاب [العقود وعمليات البنوك التجارية] للدكتور علي البارودي (378) وما بعدها، وكتاب [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] للدكتور محمد جمال الدين عوض (405) وما بعدها.
بها المصرف عن شخص لمصلحة آخر في صفقة تجارية، ولنضرب له مثالا يوضحه: تاجر في إنجلترا باع بضاعة لتاجر مصري، وقد لا تكون بينهما ثقة متبادلة أو تكون، ولكنهما يؤثران الحيطة، لا سيما والمستقبل غيب، وقد يحدث ما ليس في الحسبان، فيطلب البائع من المشتري توسيط مصرف يثق به، فيتعهد المصرف بتأدية الثمن المحدد للبضاعة إلى البائع تعهدا معلقا على تقديم البائع إلى المصرف الوثائق المستندية التالية:
1 - مستندات شحن البضاعة في الميعاد المتفق عليه.
2 - وثيقة تأمين تغطي جميع الأخطار المنصوص عليها في الاعتماد.
3 - القائمة والفاتورة، ولا بد أن يتطابق الوارد في الاعتماد مطابقة تامة دون اختصار أو اكتفاء بتعميم أو تخصيص.
فهذا التعهد من المصرف يسمى فتح اعتماد، ويختبر به البائع لكي يشحن البضاعة اعتمادا عليه.
والغالب أن يكلف المشتري بفتح الاعتماد مصرفيا في بلده (مصري في مثالنا) وهذا يرسل خطاب الاعتماد إلى مصرف في بلد البائع (إنجليزي في مثالنا) ليبلغ البائع باستعداده للتنفيذ نيابة عن المصرف المصري.
وقد يكون هذا المصرف الإنجليزي مكلفا بتأييد الاعتماد -وفقا لرغبة أخرى للبائع- بحيث يصبح المصرف الثاني مدينا أصليا للبائع بمجرد تبليغه فتح الاعتماد لديه، لا مجرد وكيل بالقبض عرضة للعزل في أي وقت، ويسمى الاعتماد حينئذ: اعتمادا مؤيدا، ولا يكون الاعتماد المؤيد إلا من قبيل الاعتمادات النهائية، أي: التي بمجرد تبليغها إلى المستفيد تصير غير قابلة للرجوع, ولو أفلس الآمر أو أمر بإلغاء الاعتماد أو ثبت بطلان البيع
ما لم تحكم محكمة بصحة الرجوع في هذا الاعتماد بسبب ما رغم أن الأصل عدم جواز الرجوع فيه.
أما الاعتمادات القابلة للإلغاء بحسب رغبة المصرف أو الآمر فهي -وإن كانت أقل تكاليف- قلما يعول عليها اليوم؛ لأنها لا تعطي البائع التأمين الكافي الذي يريده ولا تقبل التأييد.
وإذا قدم البائع المستندات المطلوبة ودفع له المصرف الثاني الثمن، ضم المصرف المذكور هذه المستندات إلى الورقة التجارية المثبتة دفعة الثمن للبائع (الإيصال)، وأرسل الوثائق كلها إلى المصرف الأول (المصري)، ليقوم بتأدية مبلغها مع المصاريف (ومنها العمولة) إلى المصرف الثاني في بلد البائع .
وللمصرف الأول (المصري) أيضا عمولته المتفق عليها، يستوفيها وسائر التوابع مع مبلغ الاعتماد من المشتري. فإن أبى المشتري الدفع كان للمصرف المصري حق بيع البضاعة؛ لأنها مرهونة بحقه، وقلما تكفي، وليس له حق الرجوع جبرا على البائع بحال، مهما تكن الأسباب؛ لأن العملية بطبيعتها تتضمن نزول المصرف فاتح الاعتماد عن حقوقه المصرفية تجاه البائع؛ ليطمئن هذا البائع إلى نهاية الوفاء، فإذا أخطأ المصرف فدفع المبلغ وكانت المستندات غير مطابقة فلا رجوع له على الآمر (المشتري)، كما لا رجوع له على المستفيد (البائع)؛ لأنه هو المقصر، وقد كانت لديه المهلة الكافية للتأكد من سلامة هذه الوثائق ومطابقتها، إلا إذا كان المصرف قد شرط الرجوع على المستفيد عند رفض الآمر المستندات
مثلا (1)
__________
(1) [الموسوعة الفقهية] نموذج (3) (الحوالة) ص (243، 244)، ومحاضرة أمين بدر (16- 24).
ثانيا: أما
موقف الفقه الإسلامي من هذه العملية
فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء : هذه المعاملة صحيحة إجمالا فيما يبدو من وجهة نظر الفقه الإسلامي، على أحد الأسس الآتية:الأساس الأول: توكيل ورهن، فيمكن تخريج هذه المعاملة على أنها تتضمن عقد وكالة بعوض في أداء دين (هو حق المستفيد على الآمر) وفي تسلم مستندات البضاعة قبل الأداء، فالتوكيل بالأداء مقيد بكونه بعد تسلم المستندات الصحيحة، والوكالة المقيدة يلتزم فيها قيدها، وهذا التوكيل يتضمن رهنا ضمنيا للبضاعة لدى الوكيل إلى أن يستوفي الثمن الذي وكل بأدائه من ماله، وهو رهن ضمني مستنده العرف وتثبته نصوص القوانين، وهذا التخريج الفقهي يفسر لنا أمورا مهمة في هذه المعاملة، وهي: 1 - نهائية الالتزام وعدم قبوله الرجعة من جانب الوكيل (وهو هنا المصرف الوسيط فاتح الاعتماد)؛ لأن الوكيل بأجر يجب عليه القيام بما وكل فيه ويجبر على ذلك، لا سيما أنه تعلق بالوكالة هنا حق الغير وهو البائع، كما أن عقد القرض -بمجرد انعقاده- لازم عند المالكية من جانب المقرض ليس له الرجوع فيه حتى ينتفع به المقترض على العادة في مثله.
والمقرر عرفا وقانونا في هذا الشأن أنه إذا أصر الموكل (في مسألة فتح الاعتماد) على الامتناع من الدفع بغير حق وتعذر الاستيفاء منه، كان للمصرف حق التصرف في البضاعة، ليستوفي حقه بأن يبيع منها بقدر
الحاجة ، وهذا سائغ عند فقهاء الشريعة دون رجوع إلى القاضي إذا كان عن شرط ، بل له ذلك عند الشافعية من غير تعذر الاستيفاء ، ما دام الخصم ممتنعا من دفع الحق الثابت عليه .
2 - عدم مسألة المصرف بعد قيامه بالدفع وفق شروط الاعتماد مهما تكن حال البيع نفسه ، إذ لا شأن للمصرف بذلك ، فإن الوكيل بالإقباض ليس وكيلا في عقد مالي ، فلا عهدة عليه كالرسول .
3 - نهائية الالتزام من جانب الآمر ( هو المشتري طالب فتح الاعتماد ) فيكون الاعتماد من هذه الناحية غير قابل للإلغاء على أساس أنه توكيل تعلق به حق الغير فيمتنع على الآمر الموكل الرجوع عنه .
ملاحظة : قد يرد على هذا الحل : أنه قاصر لا يفسر لنا كون المصرف يصبح مدينا أصليا للمستفيد حل محل الآمر ، فبرئت بذلك ذمة الآمر تجاه المستفيد ، كما هو الحكم المقرر قانونا .
وحينئذ يمكن إحلال الحوالة محل الوكالة في هذا التخريج ، فتعتبر معاملة الاعتماد المستندي حوالة على المصرف فاتح الاعتماد بأمر الآمر ، فيكون له عليه حق الرجوع بعد الأداء ، ويكون المستفيد البائع محالا قد قبل الحوالة بقبوله فتح الاعتماد لمصلحته ، ويبرأ تجاهه الآمر ، وهو هنا المشتري طالب فتح الاعتماد كما نوضحه في الأساس الثاني .
الأساس الثاني : وقد يسعنا أن نقول استنادا إلى وجهة نظر أخرى : أول حين ينص على نهائية الالتزام من طرفيه -أو يكون ذلك كالمنصوص- يكون الآمر إذا محيلا بدين المستفيد على المصرف الوسيط فاتح الاعتماد
ورضا الأطراف الثلاثة قائم ، وليست هذه حوالة معلقة على شرط ( تسليم المستندات ) ، بل حوالة مطلقة منجزة بدين مؤجل ، يحل عند تقديم هذه المستندات ، وقد قبلها المحال عليه ( المصرف الوسيط ) بأمر المحيل ، فيحق له الرجوع عليه ، وقد يدفع الآمر جانبا من مبلغ الاعتماد مقدما إلى المصرف ، ففي هذه الحال يكون طلب فتح الاعتماد توكيلا بالأداء إلى الدائن فيما قدمه الآمر ، وحوالة في الباقي .
ولا بأس فيها بالعمولة المصرفية ؛ لأنها منفصلة عن الحوالة فليست حوالة بأجر حتى يقال : إن ذلك يتنافى مع طبيعتها من كونها عقد إيفاء واستيفاء لا غير أو عقد إرفاق ، إنما هي أجرة مستحقة لأجير (هو المصرف) على الأعمال الكثيرة التي يقوم بها ، كما حررناه في بحث التحويل المصرفي (ر : ف \ 362) وقد يعترض على هذا الحل بأنه لا يطابق ما هو مقرر في التقنيات الحديثة من أنه لا علاقة للمصرف الذي أصدر الاعتماد بصحة البيع أو بطلانه ؛ ذلك لأن الحوالة -من الوجهة الشرعية الإسلامية- تبطل إذا تبين بطلان البيع الذي بنيت عليه. وإذا كان المحال عليه قد دفع إلى المحال فإنه يتخير بين الرجوع على القابض ، لفساد قبضه ، والرجوع على المحيل ، كما في الحوالة الصحيحة (ر : ف \ 257) .
وللرد على هذا الاعتراض يلزم توضيح الفارق بين نظرة الفقه الإسلامي إلى الحوالة وبين موقف التقنينات الحديثة في الاعتماد المستندي .
فالفقه الإسلامي يجعل بين الحوالة والبيع الذي أحيل فيه بالثمن أو عليه علاقة وثيقة، فإذا تبين بطلان البيع كان طبيعيا أن تبطل الحوالة المرتبطة به.
أما الاعتماد المستندي فينظر إليه القانونيون نظرة مستقلة تماما عن البيع الذي فتح الاعتماد تنفيذا له، لاختلاف أطرافه وأساسه القانوني، ولذلك كان طبيعيا عندهم ألا يتأثر الاعتماد ببطلان البيع.
على أن هذا الفارق نظري؛ إذ النتائج من الناحية العملية واحدة ، ففي الاعتماد المستندي يرجع المصرف على الآمر فاتح الاعتماد بالقيمة طالما أنه نفذ التزامه بتسليمه المستندات المطابقة لشروط فتح الاعتماد ، بصرف النظر عما إذا كان عقد البيع صحيحا أو باطلا .
وفي الفقه الإسلامي يرجع المحال عليه ( المصرف هنا ) بعد أداء القيمة إلى البائع ( المحال ) على الآمر فاتح الاعتماد ( المعتبر محيلا ) في كل الأحوال ، أي : سواء أكان البيع صحيحا أم باطلا ، كما أن للمصرف - بمقتضى مذهب الحنفية - الخيار في حالة تبين بطلان البيع بين الرجوع على المحيل وبين الرجوع على المحال القابض ( البائع في مثالنا ) ، فالنظر القانوني إنما قطع فقط طريق الرجوع على القابض ، وبذا يتبين أن النتائج العملية واحدة وإن اختلف الأساس النظري .
الأساس الثالث : إن البحث في الاعتبارين السابق شرحهما لتخريج الاعتماد المستندي على أساس من العقود التقليدية في كتب الفقه لا يعدو أن يكون محاولة لتصنيفه على أساس هذه العقود على أنه قد سبق أن بينا أن الأصل في المعاملات جواز استحداث ما يتلاءم مع الحاجات المتجددة المتنوعة طالما لم يصادم العقد المستحدث أصلا شرعيا .
وهذه التخريجات الثلاثة نقدمها على أساس تجريد الاعتماد المستندي مما ليس لازما قانونا له مما قد يكون فيه شبهة أو خلاف في وجهة النظر
الشرعية بين فقهاء العصر : كالتأمين على البضاعة ، إذ يجوز أن يفتح الاعتماد دون اشتراط وثيقة التأمين ضمن المستندات التي يلتزم المصرف بتسليمها ، فيمكن اعتباره بعد ذلك عقدا جديدا تدعو إليه مصلحة التجارة المشروعة (1) ا هـ .
__________
(1) [ الموسوعة الفقهية ] نموذج ( 3 ) ( الحوالة ) ص ( 244 - 246 ) .
الخلاصة
يندرج تحت عمليات الائتمان أنواع كثيرة من المعاملات المصرفية منها : الاعتمادات المصرفية . والاعتمادات المصرفية : هي ما يقدمه البنك للعميل أو لشخص يعينه العميل من أدوات الوفاء إما نقدا أو تعهدا بالوفاء ، على أن يأخذ البنك على ذلك فائدة أو عمولة يتفق عليها الطرفان وعلى ردها مع ما أخذه .ويشمل الاعتماد المصرفي : الإقراض ، وفتح الاعتماد البسيط ، والضمان ، والاعتماد المستندي والخصم . . وفيما يأتي الكلام على ما ينبني عليه الحكم من واقع كل منها ، ثم تكييفه في الفقه الإسلامي وبيان حكمه :
أولا : الإقراض أو القرض : هو عقد اختياري تجاري يسلم البنك بمقتضاه للعميل أو من يعينه العميل نقودا مباشرة أو يضعها تحت تصرفه ، ويتضمن تحديد سعر الفائدة وأجل الوفاء وبيان ما قد يشترط من ضمان .
تكييفه في الفقه الإسلامي :
مما تقدم يتبين أن عقد القرض يشتمل على معاوضة نقدية بين طرفين
لأجل مع زيادة في الوفاء ، ومع ذلك اتفق علماء القانون والاقتصاد على تسميته إقراضا ، ولا مشاحة في الاصطلاح ما دامت العبرة في تطبيق الأحكام بالحقائق .
أما في نظر فقهاء الشريعة الإسلامية : فقد يقال : إنه يسمى قرضا أيضا ، لكن يناقش بأن القرض عندهم أن يدفع شخص مبلغا لآخر على وجه الإرفاق المحض على أن يرد مثله إليه دون شرط زيادة أو جريان عرف بها ؛ ولهذا استثني من تحريم المعاوضة بين الربويين مع التأخير لأحدهما ، وما يدفعه البنك يقصد به استثمار ماله وتنميته أولا ، بدليل اشتراط الزيادة في الوفاء ، وأنه عقد تجاري يترتب عليه ما يترتب على عقود التجارة من الآثار ، فإن ترتب عليه إرفاق بالمقترض فبالمتبع .
وقد يقال : إنه عقد بيع ؛ لأنه يتضمن معاوضة مالية بين نقدين ، أحدهما عاجل ، والآخر آجل على وجه المغالبة والتنمية والاستثمار بدليل ما تقدم من أنه تجاري وأن الزيادة في الوفاء مشترطة فيه . وقد سمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المبادلة بين النقدين بيعا ، كان ذلك ناجزا أو لأجل ، اتفق نوع العوضين أو اختلف ، متساويا أو زاد أحدهما على الآخر ، غير أنه نهى عن النساء أو الزيادة في المعاوضة بينهما ، كما سيجيء ذلك في بيان الحكم .
حكمه في الفقه الإسلامي
إذا ثبت ما تقدم فهو بيع محرم ؛ لما فيه من ربا الفضل وربا النسيئة ، أما الأول فللزيادة التي يدفعها المقترض بناء على الشرط المتفق عليه مع المصرف ، وأما النساء فلتأجيل الوفاء بدين القرض .
وقد دل على تحريم ذلك القرآن ، وبينته السنة الصحيحة وأكدته . قال الله تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (1) الآيات ، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم : « الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد » (2) إلى غير ذلك من الأحاديث الثابتة .
وقد أجمعت الأمة على تحريم مثل ذلك الربا بنوعيه ، وما نقل عن ابن عباس من إباحة ربا الفضل فقد كان قبل أن يبلغه النص في تحريمه ، فلما بلغه الصحابة النص رجع في التحريم ، وثبت ذلك عنه بالنقل الصحيح . وعلى تقدير أن هذا العقد يسمى قرضا فهو محرم أيضا ؛ لأنه جر نفعا مشروطا ، قد أجمع فقهاء الإسلام على أن كل قرض جر نفعا مشروطا فهو ربا .
ثانيا فتح الاعتماد البسيط :
أ - تعريفه : هو عقد يلتزم المصرف بمقتضاه أن يضع تحت تصرف العميل أداة من أدوات الائتمان في حدود مبلغ معين لمدة يحق للعميل خلالها استخدامها ، ويبين فيه طرق استخدامه ، ويحدد فيه معدل الفائدة وقيمة العمولة التي يستحقها المصرف على ذلك .
ب - شروطه : يشترط لصحته رضا الطرفين وأهليتهما للتصرف ، وأن يكون ما فتح الاعتماد من أجله مشروعا ، فلا يصح لتأسيس محل خمر وإدارته مثلا .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4561).
ج - خواصه : ومن خواصه : أنه عقد تجاري بالنسبة للبنك ، فيثبت بجميع طرق الإثبات التي تثبت بها عقود التجارة أيا كانت قيمته ، ولا يكون تجاريا بالنسبة للعميل إلا إذا كان تاجرا وفتح الاعتماد لحاجات التجارة وإلا كان مدنيا فسرى عليه أحكام العقود المدنية ، ويعد عقد فتح الاعتماد من عقود الاعتبار الشخصي ، فلا يجوز لكل من طرفيه نقل التزاماته إلى غيره أثناء مدة تنفيذ العقد إلا برضا الطرفين أو باتفاق سابق صريح أو مفهوم ضمنا بينهما ، ويمكن أن يوكل كل منهما من يقوم بأداء التزاماته ، ولا يعتبر ذلك نقلا لها ، والغالب أن يكون فيه من الضمان ما يغطي المبلغ ، وللمصرف أن يطلب حقه في الضمان كلما زاد مبلغ الاعتماد أو نقص الغطاء .
د - طبيعته : قيل : إنه عقد قرض بات ، وقيل : عقد قرض معلق على استفادة العميل من الاعتماد المفتوح ، وقيل : عقد غير مسمى ، وقيل : وعد بالقرض ، ثم يصير قرضا باتا عند تسلم العميل المال تنفيذا للوعد المصرفي ، وقيل : إنه مركب من عقدين ، عقد قرض استحق به العميل التصرف في المبلغ ، وعقد إيداع من العميل لهذا المبلغ في نفس المصرف ، حيث لم يتسلمه العميل بالفعل ، بل قيد لحسابه فقط ، وهذا مبني على ما قصده العميل من فتح الاعتماد ، وهو الحصول على مبلغ تحت تصرفه ، وحفظه في مكان أمين لحين حاجته إليه ، ولم تسلم هذه الآراء من مناقشة علماء الاقتصاد ، ومهما يكن من اختلافهم في طبيعته فالعبرة بحقيقته في الفقه الإسلامي ، فإنها هي التي يترتب عليها حكمه في الإسلام .
هـ - كيفيته في الفقه الإسلامي :
قد يقول بعض فقهاء الإسلام : إنه قرض فقط أو وعد بقرض تبعه إيداع ، كما تقدم في بيان طبيعته عند علماء الاقتصاد ، لكن ما سبق في تعريفه يتنافى مع حقيقته في الفقه الإسلامي حيثما اشترط في العقد زيادة فائدة أو عمولة في الوفاء وقصد به المصرف تنمية رأس ماله واستثماره ، والقرض في عرف فقهاء الإسلام يقصد به الإرفاق والثواب من الله ، ويعطله اشتراط الزيادة في الوفاء ، إلى آخر ما تقدم في بيان حقيقة الإقراض عند فقهاء الإسلام .
وقد يرى بعضهم أنه عقد بيع ؛ لتضمنه معنى المعاوضة بين نقدين على وجه المغالبة وقصد التنمية والاستثمار بدليل اشتراط الزيادة أو العمولة في الوفاء ، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سماه بيعا ، كما في الأحاديث المتقدمة في تكييف الإقراض وبيان حكمه .
حكمه في الفقه الإسلامي :
إذا ثبت ذلك فهو من البيوع المحرمة ما دام في معاوضات ربوية ؛ لتحقق ربا الفضل والنسيئة فيه ، حيث كان الوفاء بالعرض مؤجلا مع اشتماله على زيادة الفائدة ، وعلى تقدير أن المقترض لم يدفع فائدة لعدم تسلمه شيئا من مبلغ الاعتماد فهي مدخول عليها بالاشتراط ، وهذا كاف في الحكم بتحريم العقد ، وقد سبقت أدلة التحريم في مبحث الاقتراض وخلاصته ، أما العمولة فإن اتخذت حيلة وستارا لأخذ الربا باسمها في الحالة التي لم يتسلم فيها العميل شيئا من مبلغ الاعتماد ، أو لزيادة الفائدة تحت ستارها
في حالة الاستسلام فهي محرمة ؛ لأن العبرة بحقائق الأشياء لا بأسمائها ، وإن كانت أجرة محضة لإجراءات وخدمات فقد يقال : إنها جائزة إلا إن روعي بناؤها على عقد فاسد من أجل اشتراط الفائدة فيه ، فربما قيل بسريان الفساد إليها ، وعلى تقدير أن عقد فتح الاعتماد يعتبر قرضا فهو محرم أيضا ؛ لكونه جر نفعا على فاتح الاعتماد ، وهو الفائدة أو العمولة .
ثالثا : الاعتماد بالضمان أو الائتمان الناشئ عن مجرد التوقيع أو إقراض المصرف توقيعه للعميل .
هذه العناوين وإن اختلفت فالمقصود منها واحد ، وهو ما يلتزم به البنك مثلا لمستفيد مما يبعث الثقة في نفسه بمن يريد أن يتعامل معه من كفالة أو خطاب ضمان أو اعتماد بالقبول للكمبيالة ليسهل خصمها والحصول على ما فيها من البنك بعد الخصم ، فالصور ثلاث : الكفالة ، وخطاب الضمان ، والاعتماد بالقبول .
وفيما يلي الكلام على واقع كل منها ، ثم بيان الحكم :
أ - الكفالة : وهي عقد يتعهد فيه شخص لآخر أن يفي له بما التزم به أمام ثالث إذا تخلف المكفول عن الوفاء على أن يقدم المكفول ضمانا نقديا أو رهنا للكفيل ، ويلتزم له أيضا بعمالة على الكفالة وفائدة بنسبة مئوية من المبلغ إن دفعه عنه المستفيد .
ب - الضمان البنكي أو خطاب الضمان : هو عقد يتعهد فيه مصرف لشخص أو جماعة بدفع مبلغ معين أو قابل للتعيين عن مقاول مثلا بمجرد طلب المستفيد من المصرف خلال مدة محددة ، وذلك من أجل قيام العميل بعمل أو التزامه بأمر لذلك الشخص أو الجماعة ،
على أن يدفع عمالة للمتعهد بالمبلغ ويضع تحت يده في الغالب ضمانا نقديا أو رهنا ليكون ذلك غطاء للمبلغ المتعهد بدفعه .
هذا ، ولا يضمن المصرف بهذا التعهد حسن تنفيذ العميل لالتزامه ولا مراقبة التنفيذ ، ولا يلزمه القيام بدلا من العميل بتنفيذ الالتزام ، ولا بسداد ما عليه من دين بخلاف الكفالة .
ج - الاعتماد بالقبول : هو أن يتعهد مصرف دفع مبلغ عن طريق توقيع بالقبول على كمبيالة مسحوبة عليه مقابل عمالة على التوقيع يدفعها العميل ، وبذلك تكسب الكمبيالة الثقة بها ويسهل تداولها وحصول العميل أو غيره على ما فيها بعد الخصم من المصرف الذي وقع عليها أو من غيره . وإذا تأخر العميل عن الدفع للمستفيد واضطر المصرف للوفاء كان له حق الرجوع على العميل بما دفعه عنه ، وبتعويض عن تعطيل المبلغ المدفوع .
الغرض من الاعتماد بالضمان بجميع صوره انتفاع المصرف أولا ، وإعانة العميل وطمأنينة المستفيد وتنشيط حركة العمل وتيسير وسائلها .
تكييفه في الفقه الإسلامي وحكمه
مما تقدم نرى :
أولا : أن هذه العملية اشتملت على ثلاثة أطراف ، المصرف ، وعميله ، والمستفيد ، وعلى عوضين : هما العمل ، والمبلغ ، وعلى غطاء في الغالب كاملا أو نسبة مئوية منه ، وعلى عمالة مقابل الالتزام بالدفع يدفعها العميل للمصرف وعلى فائدة أو تعويض عن تعطيل المبلغ الذي يدفعه
المصرف عند تخلف العميل .
ثانيا : أن المصرف ضامن لعميله لدى المستفيد بعمالة ، وقد يقال : إن ذلك محرم ؛ لأن الضمان غير متقوم فلا يقابل بمال ، بل يبذل على وجه المعروف والإرفاق ، ابتغاء مرضاة الله .
ثالثا : أن المصرف يأخذ فائدة من عميله إذا دفع المبلغ للمستفيد عند تخلف العميل عن الوفاء في الميعاد ، وقد تسمى هذه الفائدة تعويضا عن تعطيل المبلغ المدفوع . وهذا محرم .
رابعا : أن المصرف يستغل ما تحت يده في غطاء نقدي أو رهن عيني ، وقد يقال : إنه محرم ، لأنه إما أن يعتبر تتميما للعمالة على الضمان ، وإما أن يعتبر فائدة لما قد يدفعه المصرف أو لما يدفعه بالفعل عن العميل ، وذلك ما لم يكن ظهرا يركب بنفقته أو ذا در يحلب بنفقته .
رابعا : الاعتمادات المستندية :
1 - هي عقد مالي يلتزم بمقتضاه مصرف بدفع مبلغ معين لمستورد - يسمى : الآمر - بناء على طلبه لمصدر - هو صاحب البضاعة - عند وصول الوثائق المتعلقة بالبضاعة ، أو يلتزم بقبول أو بخصم الكمبيالة التي يسحبها البائع على المشتري ، في نظير أن يدفع المستورد للمصرف نسبة مئوية من مبلغ الاعتماد مقدما ، ويدفع له مؤخرا مع باقي الثمن مبلغا يكون عمالة مقابل خدمته وضمانه وفائدة لما دفعه المصرف عنه من الثمن ، وقد لا يدفع المستورد شيئا من الثمن مقدما ، فيكون الاعتماد مكشوفا .
2 - الغرض منه : سهولة حصول المصدر على ثمن بضاعته عند تسليمه
المستندات الخاصة بها إلى المصرف ، وتفاديه خطر تنازل المشتري عن ملكيتها ، واستفتاؤه عن الاستقصاء في الحصول على معلومات عن المشترى منه ، وثقة المشتري بالحصول على البضاعة التي اشتراها بسهولة ، واطمئنانه إلى صحة مستندات الشحن وغيرها أو استدراك ما قد يكون فيها من نقص أو خطأ بأسرع ما يمكن لقيام المصرف عنه بفحصها ، وتيسير تبادل المنافع ، وسرعة تداول رءوس الأموال المستثمرة في التجارة ، وتنشيط الحركة التجارية ، وتوفير السلع في الأسواق للمستهلكين ، وغير ذلك من المصالح .
3 - قد يكون الاعتماد المستندي قابلا للإلغاء بمعنى : أنه يجوز لكل من المصرف والآمر الرجوع فيه فليس عقدا نهائيا ولا قابلا لتأييده من بنك آخر ، وإنما هو عقد وكالة ، وقد يكون قطعيا نهائيا فلا يجوز لأحد من أطرافه الرجوع فيه ، وهذا قد يؤيد من بنك آخر ، فيكسب زيادة ثقة وقوة ائتمانية ، وتزيد أطرافه تبعا لعدد مرات التأييد ، وقد يكون غير مؤيد من بنك آخر اكتفاء بالثقة بالمصرف الذي فتح الاعتماد ، فتبقى أطرافه ثلاثة .
4 - يجب على المصرف دفع الثمن مع توابعه كاملا للمصدر عند وصول الفاتورة ووثائق الشحن والتأمين من المخاطر ، أما المشتري فإن دفع الثمن وما يتبعه من عمالة وفائدة للمصرف فيها ، وإن أبى تصرف المصرف في البضاعة ؛ لأنها رهن في حقه يستوفى منه ، فإن نقص عن حقه فليس له الرجوع على المائع - المستفيد - لتنازله عن حقوقه لدول حتى يطمئن على تمام الصفقة والوفاء إلا إذا كان قد شرط عليه ابتداء الرجوع عند رفض
المشتري تسليم البضاعة .
5 - ومن هذا يتبين أن فتح الاعتماد المستندي يشتمل على ما يلي :
أ - طالب فتح الاعتماد وهو المستورد ويسمى : الآمر .
ب - المصدر وهو البائع - المستفيد .
ج - وسيط بينهما وهو المصرف .
د - العوضين - الثمن والبضاعة .
هـ - مبلغ يدفعه المستورد زيادة على الثمن يعتبر أجرة للمصرف على خدماته وضمانه وفائدة لما دفعه عنه .
و - ما قد يدفعه المستورد من الثمن للمصرف مقدما .
6 - طبيعتها القانونية :
اختلف علماء القانون والاقتصاد في تحديد طبيعتها :
فقيل : إن علاقة البنك بالمشتري تعتبر عقدا بعيدا عن العقود المدنية ؛ لما له من أحكام خاصة ، منها : أنه ينشئ التزاما لصالح البائع مستقلا عن مصدره ، فكان عقدا غير مسمى .
وقيل : إنه عقد كفالة من المصرف للمشتري ، لالتزامه بما عليه أمام البائع .
وقيل : إنه عقد بين البنك والمشتري اشترط فيه المشتري أن يكون الاعتماد لصالح البائع فلا يجوز للمصرف ولا للمشتري الرجوع فيه ؛ لأن الحق فيه صار للبائع .
وقيل : إنه عقد إنابة ؛ لأن المشتري أناب المدين له بمقتضى الاعتماد ، ليقوم بسداد ما عليه للبائع من ثمن البضاعة .
وقيل : إنه تقابل إرادتين عن طريق وسيط فالبنك والبائع يتعاقدان هنا عن طريق المشتري ، ويتم التعاقد عندما يفتح الاعتماد .
وقيل : إنه وعد من البنك بأداء مبلغ معين للبائع إذا قدم المستندات اللازمة كالوعد بجائزة على عمل معين ، فهو من باب الإرادة المنفردة .
وقيل : إنه عقد وكالة من المستورد للمصرف ، وقيل : عقد حوالة من المستورد للبائع على المصرف بثمن البضاعة وتوابعه .
واختار الدكتور محمد جمال الدين عوض والدكتور علي البارودي القول : بأن التزام البنك يصدر عن إرادة منفردة .
وهذه الآراء لم يسلم أي واحد منها من مناقشة علماء القانون والاقتصاد ، ومهما يكن من اختلاف رأيهم في طبيعتها ومناقشة الأقوال في ذلك فالعبرة ببيان حقيقتها في الفقه الإسلامي ، فإن ذلك هو الأصل الذي يبنى عليه حكم علماء الإسلام فيها .
7 - حقيقتها في الفقه الإسلامي وحكمها :
خرجها بعض المعاصرين من علماء الفقه الإسلامي على أحد أسس ثلاثة :
الأول : أنها عقد وكالة يتضمن رهنا ضمنيا لبضاعة المشتري لدى الوكيل ، ليستوفي حقه منها إذا لم يسلمه الموكل . ثم نقده بأنه يتنافى مع كون المصرف بهذا العقد مدينا أصليا للمستفيد حل محل الآمر ، فبرئت بذلك ذمة الآمر تجاه المستفيد ، كما هو الحكم المقرر قانونا ، وإذن فلا يصح أن يعتبر وكيلا (1)
ويمكن أن يضاف إلى ذلك أن هذا يتنافى مع كون
__________
(1) ص ( 91 ، 92 ) من [ الإعداد ] .
العلاقة بين المصرف والمستفيد مستقلة عن العلاقة بين الآمر والمستفيد ، حيث إن عقد الوكالة يقضي بالارتباط بين العلاقتين .
الثاني : أنها عقد حوالة ، فالآمر وهو المشتري - محيل - والمستفيد وهو البائع - محال - والمصرف محال عليه ، ثم نفذ ذلك بأن ما تقرر في التقنيات الحديثة من أنه لا علاقة للمصرف الذي أصدر الاعتماد بصحة البيع أو بطلانه يتنافى مع الوجهة الإسلامية في الحكم ببطلان الحوالة ببطلان البيع الذي بنيت عليه .
ثم أجاب : بأن هذا الفرق بين الوجهتين نظري ، وأن النتيجة واحدة ، حيث إن المصرف إذا نفذ التزامه رجع على الآمر بالقيمة قانونا صح البيع أو بطل ، كما أن المحال عليه وهو المصرف يرجع بما دفعه للمحال وهو البائع على المحيل وهو المشتري في الفقه الإسلامي صح البيع أو بطل .
لكن قد يقال : إن الحوالة : نقل دين من ذمة إلى أخرى ، وليس هذا متحققا في مسألتنا ، وإنما فيها إنشاء دين في ذمة المصرف يلتزم به لشخص من أجل دين سينشأ له في ذمة من هو بصدد الشراء منه ؛ ولذا سمى بعض العلماء هذا وكالة على الاستيفاء لما سيجد من الدين ، وقد رد صاحب هذا التخريج جعل الاعتماد المستندي حوالة .
الثالث : أنها تعتبر عقدا مستحدثا في المعاملات دعت إليه الحاجة ، وهو جائز ما لم يصادم أصلا شرعيا . اهـ بتصرف .
وقد يقال : هذا تخريج سليم إذا لم يمكن تخريجها على عقد فقهي أو عقود فقهية باعتبارات مختلفة ، وما لم تثبت مصادمته لأدلة الشريعة .
وفيما يلي محاولات لتخريجه على عقود الفقه الإسلامي المعروفة ، ثم بيان حكمه :
في الاعتمادات المستندية ثلاث علاقات : علاقة بين المصرف والآمر وهو طالب فتح الاعتماد ، وعلاقة بين المصرف وبين المستفيد من فتح الاعتماد وهو البائع من أجل التزامه بدفع المبلغ له ، وعلاقة بين المستفيد والآمر من أجل صفقة البيع ، وبين هذه العلاقات في الحقيقة ارتباط وثيق من حيث منشؤها والداعي إلى وجودها ، فإن التزام البنك بالدفع للبائع المستفيد إنما كان بناء على طلب المشتري من البنك فتح الاعتماد ، وطلبه إنما كان لتحقيق رغبة البائع وإثبات جدية الصفقة واطمئنانه إلى وصول الثمن إليه بسهولة وسرعة ، وهذا الارتباط لا يزال قائما حتى النهاية ، بدليل أن الصفقة إذا تمت مستوفية للشروط ودفع المشتري الثمن وما يتبعه عند تسلم الوثائق للبائع عن طريق البنك أو بوجه آخر برئت ذمته وذمة البنك ، وإن أبى مع استيفاء الشروط استوفى البنك حقه من البضاعة وما قد يكون دفعه مقدما للبنك ، فإن نقص عن الوفاء بحقه رجع بالباقي له على المشتري في ذمته . وإن أثبت المصرف عدم استيفاء الوثائق للشروط حين وصولها إليه رجع البنك على البائع المستفيد ، فالصلة قائمة بين العلاقات الثلاث على هذا الوجه إلى النهاية ، وإنما وجد نوع خاص من انقطاع صلة البائع بالمشتري بخصوص الثمن وإلزام البنك وحده بالدفع للبائع محافظة على حقه ، ولإثبات جدية الصفقة ومنع التلاعب في المعاملات ، وهذا لم يقض على ما ذكر من العلاقات .
وعلى هذا يمكن أن يقال : إن في الاعتمادات المستندية عدة عقود
مرتبط بعضها ببعض ، عقد بيع بين البائع المستفيد والمشتري الذي طلب فتح الاعتماد تتوقف صحته على استيفاء شروط البيع ، وعقد ضمان التزم فيه البنك التزاما خاصا للبائع المستفيد بدفع مبلغ معين من أجل الصفقة عند وصول الوثائق اللازمة مستوفية للشروط ، وعقد وكالة من المشتري للمصرف بجعالة لقيامه عنه بإجراءات معينة تتعلق بالصفقة .
وفي اعتبار هذه العقود رعاية للجوانب المختلفة في الاعتماد المستندي ، وكل منها جائز في نفسه ولا مانع من تعددها لعدم التضارب بين خواصها وآثارها ، بل بعضها يخدم بعضا ، ويساعد على الإنجاز بسهولة في أقرب وقت ممكن ، غير أنها اقترن بها أمور منها :
أ - دفع المستورد فائدة للمصرف الوسيط ، لما دفعه عنه للمصدر من الثمن ، وهو ربا واضح .
ب - دفع مقابل التأمين على البضاعة من المخاطر أو التزام ذلك وقد يقال بتحريمه لما فيه من المقامرة وأكل المال بالباطل .
ج - دفع المستورد عمولة لضمان المصرف له وفي إباحتها نظر .
د - بيع المصرف البضاعة المشتراة قبل قبضها ، ليستوفي منها دينه على المشتري إذا امتنع من تسلمها ، وهذا محرم مطلقا أو إذا كانت البضاعة طعاما ؟ للأحاديث الواردة في ذلك .
هـ - دفع المستورد أجرة للمصرف مقابل ما يقوم به من خدمات وإجراءات تتعلق بالبضاعة وهو جائز إن لم يتخذ ستارا للربا ، وإلا امتنع .
فإن ثبت تحريم ما ذكر أو بعضه فالاعتمادات المستندية محرمة ؛ لما لابسها لا لذاتها ، وهل يعود ذلك التحريم على العقد بالفساد ، أو يبطل
الشرط الملابس للعقد ، ويمضي العقد هذا محل نظر وموضع اجتهاد اختلفت في مثله آراء الفقهاء الأصول .
هذا ما تيسر ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
التحويلات المصرفية
الحمد لله وحده . . وبعد :
سبق بحث ما يتعلق بعمليات الودائع والحسابات المختلفة وإيجار الخزائن الحديدية وعمليات الائتمان - الإقراض ، الاعتماد البسيط ، الاعتماد المستندي ، الضمان بأنواعه - وبقي البحث فيما يتعلق بعمليات ( التحويلات المصرفية والبريدية وعمليات تظهير الأوراق التجارية وخصمها وتحصيلها ) وقبل الدخول في البحث يحسن بنا التمهيد لذلك بتعداد أهم الأوراق التجارية وتعريف كل ورقة بذكر خصائصها وما يميزها عن غيرها . والله ولي التوفيق .
الأوراق التجارية
:
نظرا للتوسع العالمي في نطاق التجارة الدولية ، وحيث إن النقود القائمة أيا كان نوعها وكيفها وكمها عاجزة عن مسايرة التطور التجاري والحركات السريعة الضخمة في نطاق الصفق في الأسواق العالمية - فقد وجد رجال المال والأعمال أنفسهم في حاجة ملحة إلى ما يساير هذا التطور في نطاق التبادل المالي ، وذلك بإيجاد عملات مساعدة تكون عونا للتاجر في استيفاء حقوقه وسداد ما عليه من التزامات ولو لم يتم له تسويق بضاعته التي باعها أو اشتراها ، كما أنها تعفيه من الاحتفاظ بمبالغ نقدية يقابل بها حركاته التجارية الخالية من التوقيتات المعينة ، حيث يتضرر بتجميدها ، فكانت هذه المبررات مصدر ابتكار ما يسمى بالأوراق التجارية .
فالأوراق التجارية أوراق مالية لها صفة القبول والتداول في عالم التجارة ، وفي ذلك يقول الدكتور علي سلمان العيدي بعد أن استعرض المعنى العام للورقة التجارية ما نصه :
نخلص من ذلك أنه من أجل اعتبار السند ورقة تجارية لا بد أن يتجه الحق المالي فيه بذاته ، وأن يكون هذا الحق منصبا على مبلغ من النقود ، وأن يكون السند قابلا للتداول بسهولة ، وأن يجري استعماله كأداة للوفاء بدل النقود ، وأن يستحق الأداء بعد أجل قصير أو عند الاطلاع ، أي : ألا يكون طويل الأجل . وعلى ضوء ما قدمناه يمكننا تعريف الورقة التجارية بأنها سند محرر وفقا للشكل الذي رسمه القانون يمثل بذاته التزاما بأداء مبلغ من النقود قابل للتداول عن طريق التظهير أو التسليم ، ويستحق الأداء بعد أجل قصير أو عند الاطلاع ، ويستعمل كأداة للوفاء بدل النقود . اهـ (1) .
ونظرا إلى أن الأوراق التجارية تتفق مع الأوراق النقدية في تسهيل التعامل التجاري من حيث التداول والقبول ، بل إن بعضهم كان يطلق عليها على سبيل التجوز صفة النقد ، نظرا لذلك فإنه يتعين عقد مقارنة بين الورقة التجارية والورقة النقدية حتى تتضح حقيقة كل منهما ، فلا يلتبس الأمر بينهما ، وبالتالي يتجلى الأمر في صحة نسبة الأحكام الخاصة بالورقة النقدية إلى الورقة التجارية وعدم صحتها .
لئن قيل بوجود شبه بين الورقتين فإن بينهما تفاوتا واختلافا جوهريا
__________
(1) [ الأوراق التجارية في القانون العراقي ] ، ص ( 11 ، 12 ) .
يتضح فيما يلي :
1 - لا يجوز رفض الأوراق النقدية في تسوية الديون لما لها من قوة إبراء مطلق ، بينما يجوز للدائن رفض تسوية ديونه بأوراق تجارية ، حيث إنها لا تعتبر في الجملة إلزامية .
2 - ليس للأوراق النقدية مجال في خصم شيء منها عند القيام بتسوية الديون بها ، لكونها نقودا حقيقية تحمل الإبراء العام المطلق في حين أنه يجوز اشتراط خصم شيء من الورقة التجارية إذا كانت كمبيالة ، لتعجيل وفاء قيمتها في عرف التعامل المصرفي .
3 - الأوراق التجارية محدود زمن التعامل بها بمدة معينة فيها في حين أنه لا حد للتعامل بالأوراق النقدية ما لم تر جهة الإصدار إبدال غيرها بها .
4 - تصدر الأوراق النقدية من قبل جهة معينة يغلب عليها أن تكون حكومية أو للحكومة حق الإشراف عليها في حين أن الأوراق التجارية تصدر من جهات مختلفة ومن أفراد إلا أنه يشترط لمصدرها أن يكون ذا أهلية تجارية .
5 - تصدر الأوراق النقدية بصورة سلسلة لها وحدات مختلفة المبالغ مثل فئات الريال والخمسة والعشرة والخمسين والمائة في حين أنه لا يوجد مثل ذلك في الأوراق التجارية ، حيث تصدر بمبالغ مختلفة لا مجال لتوحيدها في فئات محددة ولا مجال لحصرها .
6 - الورقة النقدية نقد قائم بذاته تضيع قيمته بضياعها مهما كان لدى حاملها من طرق الإثبات في حين أن الورقة التجارية سند بدين تبقى
قيمته في حال ضياعه إذا أثبت محتواه مالكه (1) .
والأوراق التجارية ليست محصورة في أوراق معينة ؛ لأن الفكر التجاري مرن مرونة الحركة التجارية العالمية ، فهو مصنع يعطي للتجارة ما تحتاجه من أسباب القدرة على الحركة برا وبحرا وجوا وأثيرا ، إلا أن المراقبين من خبراء المال والاقتصاد يكادون يجمعون على أنه حتى الآن لم يخرج الفكر التجاري من الأوراق التجارية أهم من أوراق الكمبيالة والشيك والسند الإذني بدليل أن علماء الاقتصاد ورجال التنظيمات المالية والتجارية يكادون يقتصرون في بحوثهم عن الأوراق التجارية على هذه الأنواع الثلاثة .
وفيما يلي دراسة موجزة لها :
__________
(1) [ الأوراق التجارية في القانون العراقي ] للدكتور علي سلمان العيدي الجزء الأول ص ( 27 ) [ نظام الأوراق التجارية السعودي ] ، المواد ( 50 ، 51 ، 88 ) وغيرها من مواد النظام ما له تعلق بخصائص الورقة التجارية .
الكمبيالة (1)
الكمبيالة : أمر مكتوب وفقا لأوضاع معينة حددتها التنظيمات التجارية ، يتوجه بها شخص يسمى : الساحب إلى شخص آخر يسمى المسحوب عليه ، طالبا منه دفع مبلغ معين من النقود في تاريخ معين أو قابل
__________
(1) تعرف في القانونين السوري واللباني وفي مشروع الجامعة العربية باسم السفتجة أو سند السحب ، وفي القانونين المصري والليبي ونظام الأوراق التجارية السعودي باسم ( كمبيالة ) ، وتعرف في القانون العراقي باسم بوليصة . والسفتجة بمعناها العرفي المعاصر خلاف السفتجة المعروفة لدى فقهاء الشريعة الإسلامية ، حيث إنها بمعناها الشرعي أقرب ما تكون إلى التحويلات المصرفية . [ الموسوعة الفقهية الكويتية ] ، - ( الحوالة ) ص ( 235 ، 236 ) .
للتعيين لإذن شخص ثالث يسمى المستفيد أو لحامله .
وصورتها :
الرياض في - تاريخ تحرير الكمبيالة - المبلغ بالأرقام ريا لا سعوديا إلى السيد فلان بن فلان
في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ادفعوا بمقتضى هذه الكمبيالة لأمر السيد فلان المبلغ المرقوم أعلاه وقدره . . . . . . والقيمة وصلتنا بضاعة .
توقيع الساحب (1)
ومن ذلك يتضح أن للكمبيالة أركانا ثلاثة : ساحبا ، ومسحوبا عليه ، ومستفيدا ، وقد تكون هذه الأطراف الثلاثة أشخاصا طبيعة ، وقد تكون أشخاصا اعتبارية . ثم إن هناك ما يسمى بالكمبيالة المالية ، وهذا النوع من الكمبيالات يسمح بالاقتصار فيها على ركنين هما : الساحب ، والمسحوب عليه ، ويكون الساحب في هذا النوع هو المستفيد .
وإلى هذا يشير الدكتور علي البارودي فيقول :
وقد ينشئ البنك بنفسه الكمبيالة في معاملاته مع عملائه ، ويسمونها : الكمبيالة المالية تمييزا لها عن الكمبيالة العادية التي ينشئها التجار . فإذا أقرض البنك عميله مبلغا من النقود ، فإنه يسحب على هذا العميل كمبيالة فيقبلها العميل . . . إلى أن قال : فإذا شاء البنك أن يستوفي دينه قبل ميعاد الاستحقاق ، فإنه يستطيع أن يخصم هذه الكمبيالة بنك آخر أو في البنك
__________
(1) انظر [ الالتزام المصرفي في قوانين البلاد العربية ] ، للدكتور أمين بدر ص ( 21 ، 22 ) ، و [ محاضرات في النظم المصرفية ] ، ص ( 28 ) للدكتور محمد عبد الله العربي .
المركزي اهـ (1) .
ويجب أن تشتمل الكمبيالة على بيانات معينة حددتها التنظيمات في كل دولة ، ومن ذلك ما جاء في نظام الأوراق التجارية السعودي الصادر به المرسوم الملكي رقم ( 37 ) وتاريخ 11 \ 10 \ 1383 هـ فقد جاءت المادة ( 1 ) بالنص التالي :
المادة ( 1 ) - تشتمل الكمبيالة على البيانات الآتية :
أ - كلمة كمبيالة مكتوبة في متن الصك وباللغة التي كتبت بها .
ب - أمر غير معلق على شرط بوفاء مبلغ معين من النقود .
ج - اسم من يلزمه الوفاء المسحوب عليه .
د - ميعاد الاستحقاق .
هـ - مكان الوفاء .
و - اسم من يجب الوفاء له أو لأمره .
ز - تاريخ ومكان إنشاء الكمبيالة .
ح - توقيع من أنشأ الكمبيالة - الساحب - .
وذكرت المادة الثانية أن الورقة لا تعتبر كمبيالة حتى تستوفي البيانات المذكورة في المادة الأولى ، واستثنت من ذلك ما يلي :
أ - إذا خلت الكمبيالة من بيان ميعاد الاستحقاق اعتبرت مستحقة الوفاء لدى الاطلاع عليها .
ب - إذا خلت من بيان مكان الوفاء أو من بيان موطن المسحوب عليه اعتبر
__________
(1) [ العقود وعمليات البنوك التجارية ] ، ص ( 3 ) .
المكان المبين بجانب اسم المسحوب عليه مكان وفائها وموطنا للمسحوب عليه .
ج - إذا خلت من بيان مكان إنشائها اعتبرت منشأة في المكان المبين بجانب اسم الساحب . اهـ .
والغالب أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما يقابل قيمة الكمبيالة - مقابل الوفاء - وأن يكون الساحب مدينا للمستفيد بمثل ذلك ، ويذكر الأستاذان أمين بدر وعلي حسن يونس أن ذلك لا يلزم (1) .
ومع ذلك فقد نص نظام الأوراق التجارية السعودي على ضرورة أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما يكفي للوفاء ، فقد جاءت المادتان التاسعة والعشرون والثلاثون بالنص التالي :
المادة ( 29 ) - على ساحب الكمبيالة أو من سحب الكمبيالة له لحسابه أن يوجد لدى المسحوب عليه مقابل وفائها ، ولكن ذلك لا يعفي الساحب لحساب غيره من مسئوليته شخصيا قبل مظهريها وحامليها .
المادة ( 30 ) - يعتبر مقابل الوفاء موجودا إذا كان المسحوب عليه مدينا للساحب أو للأمر بالسحب في ميعاد استحقاق الكمبيالة بمبلغ معين من النقود واجب الأداء ومساوي على الأقل لمبلغ الكمبيالة . اهـ .
وساحب الكمبيالة بتوقيعه عليها ملتزما بدفع قيمتها لحاملها عند حلول أجل دفعها ، كما أن كل من وقع عليها بالقبول يعتبر متضامنا مع ساحبها في
__________
(1) انظر [ الالتزام المصرفي في قوانين البلاد العربية ] ، للدكتور أمين بدر ص ( 21 - 23 ) ، و [ الأوراق التجارية ] ، للدكتور علي حسن يونس ص ( 6 \ 297 ) .
الالتزام بدفعها إذا امتنع من ذلك المسحوب عليه ، ولا ينعقد التزام المسحوب عليه بدفعها إلا بتوقيعه عليها بالقبول وتسليمها لحاملها ، ولا يلزم المسحوب عليه أن يوقع عليها بالقبول ، بل يعتبر ذلك منه على سبيل الاختيار حتى لو كان مدينا للساحب (1) .
ومتى تم قبول المسحوب عليه الكمبيالة أصبحت أداة قابلة للتداول ، يستطيع المستفيد أن يصرف قيمتها حالا من المسحوب عليه أو من أي بنك بعد خصم العمولة وسعر الفائدة عن مدة الاستحقاق . ولتصوير وجه اعتبارها شبه عملة قابلة للتداول .
يقول الدكتور محمد عبد الله العربي ما نصه :
متى تم قبول المسحوب عليه للكمبيالة ، أي : أشر عليها بما يفيد قبوله للوفاء بها في ميعاد الاستحقاق أصبحت الكمبيالة أداة قابلة للتداول ؛ فيستطيع المستفيد أن يصرف قيمتها فورا من البنك المسحوب عليه أو من أي بنك آخر بعد خصم العمولة والفائدة عن مدة الاستحقاق . المهم أن الكمبيالة المقبولة تصبح عملة قابلة للتداول ، فهي تثبت مبلغا من عملة إحدى الدول قابلا للوفاء في تاريخ معين ، فلكل ذي مصلحة في سداد دين تجاري بعملة هذه الدولة أن يشتريها ويسدد بها دينه . اهـ (2) .
والقول بأن الكمبيالة عملة قابلة للتداول ليس على إطلاقه ، فليس للكمبيالة كل صفات النقد ، فهي ليست مبرئة إبراء تاما ، وليست قيمتها في
__________
(1) [ الموسوعة الفقهية الكويتية ] ، ( الحوالة ) ص ( 236 ) ، [ الأوراق التجارية ] ، للدكتور علي حسن يونس ص ( 244 ، 262 ، 390 ) ، [ الصكوك المصرفية ] ، للدكتور أمين بدر ص ( 22 ) .
(2) [ المعاملات المصرفية المعاصرة ورأي الإسلام فيها ] ، ص ( 29 ) .
ذاتها بحيث لو فقدت ضاعت قيمتها ، وإنما هي سند بدين متى ضاع ذلك السند صار لصاحبه حق إثباته بأي طريق من طرق الإثبات المعتبرة ، وإلى هذا تشير المادة السادسة عشرة من نظام الأوراق التجارية السعودي بما نصه :
وإذا فقد شخص حيازة كمبيالة نتيجة حادثة ما فلا يلزم حاملها بالتخلي عنها متى أثبت حقه فيها وفقا للأحكام السابقة ، إلا إذا كان حصل عليها بسوء نية أو ارتكب في سبيل الحصول عليها خطأ جسيما . اهـ .
خصائص الكمبيالة
مما تقدم نستطيع استظهار الخصائص التالية :أ - الكمبيالة ورقة تجارية تشبه النقد من حيث صلاحها للتداول والقبول .
ب - الغالب على الكمبيالة أن تشتمل على أطراف ثلاثة ساحب ومسحوب عليه ومستفيد ، إلا أنه يجوز اقتصارها على طرفين هما ساحب وهو المستفيد ومسحوب عليه ، كما هو الشأن في الكمبيالة المالية .
ج - لا يشترط لصحة الكمبيالة أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب ، وإنما يشترط لاعتبارها قبول المسحوب عليه وتوقيعه عليها بذلك .
د - لا يلزم المسحوب عليه قبول الكمبيالة إلا أنه متى قبلها ووقع عليها بذلك وسلمها لحاملها لزمه سدادها في وقتها المحدد له .
هـ - لا تعتبر الكمبيالة مبرئة إبراء تاما لذمة صاحبها ، وإنما تبقى مسئوليته حتى يتم سدادها .
و - يعتبر الموقعون عليها بالقبول مسئولين عن سداد قيمتها مسئولية تضامنية .
ز - لا تعتبر الكمبيالة ورقة تسقط قيمتها بفقدها ، وإنما هي سند بدين يثبت بإحدى طرق الإثبات المعتبرة .
ح - يشترط كثير من الأنظمة التجارية النص في سند الكمبيالة على وصول القيمة .
الوصف الشرعي للكمبيالة
ذهبت الموسوعة الفقهية الكويتية إلى القول : بأن الكمبيالة يعتبرها الفقه الإسلامي حوالة إذا كانت مسحوبة على مدين بقيمتها أما إذا لم يكن المسحوب عليه مدينا للساحب بقيمتها فجمهور أهل العلم يعتبرونها وكالة ؛ لأن من شروط الحوالة أن يكون المحال عليه مدينا بما يقابلها .أما الحنفية فحيث إنهم لا يشترطون مديونية المحال عليه للمحيل فإنهم يعتبرون الكمبيالة حوالة مطلقا ، إلا أنهم يشترطون لنفاذها قبول المسحوب عليه (1) .
__________
(1) [ الموسوعة الفقهية الكويتية ] ، ( الحوالة ) ص ( 236 ) .
الشيك :
الشيك : هو أمر مكتوب وفقا لأوضاع معينة حددتها الأنظمة يطلب به شخص يسمى : الساحب من شخص آخر يسمى : المسحوب عليه أن يدفع بمقتضاه أو بمجرد الاطلاع عليه مبلغا معينا من النقود للساحب أو لشخص معين أو لإذن شخص معين أو لحامله .
وصورته :
يذكر في هامش الشيك رقم الحساب الجاري واسم صاحبه .
المبلغ بالرقم هـ ريال الرياض في \ \ 13 هـ
مؤسسة النقد العربي السعودي
ادفعوا بموجب هذا الشيك لأمر السيد \ . . . . . . . . . . . أو لحامله مبلغ " يكتب بالحروف "
نمرة . . . . . . . . . .
إمضاء الساحب (1)
ويجب أن يشتمل الشيك على بيانات معينة حددتها كل دولة في أنظمتها وقد جاء النص عليها في نظام الأوراق التجارية السعودي بما يأتي :
المادة ( 91 ) يشتمل الشيك على البيانات الآتية :
أ - كلمة شيك مكتوبة في متن الصك باللغة التي كتب بها .
ب - أمر غير معلق على شرط بوفاء مبلغ معين من النقود .
ج - اسم من يلزمه الوفاء ( المسحوب عليه ) .
د - مكان الوفاء .
هـ - تاريخ ومكان إنشاء الشيك .
و - توقيع من أنشأ الشيك - الساحب - .
وقد نصت المادة الثانية والتسعون على سلب الصفة الشيكية من الشيك إذا خلا من البيانات المذكورة في المادة السابقة إلا في حالتين هما :
أ - إذا خلا الشيك من بيان مكان وفائه اعتبر مستحق الوفاء في المكان المبين بجانب اسم المسحوب عليه ، فإذا تعددت الأماكن المبينة بجانب اسم المسحوب عليه اعتبر الشيك مستحق الوفاء في أول مكان
__________
(1) [ الالتزام العرفي في قوانين البلاد العربية ] ، للدكتور أمين بدر ص ( 39 ) .
منها . وإذا خلا الشيك من هذه البيانات أو من أي بيان آخر اعتبر مستحق الوفاء في المكان الذي يقع فيه المحل الرئيسي للمسحوب عليه .
ب - إذا خلا الشيك من بيان مكان الإنشاء اعتبر منشأ في المكان المبين بجانب اسم الساحب . اهـ .
خصائص الشيك
مما تقدم نستطيع استظهار الخصائص التالية للشيك :أ - الشيك ورقة تجارية تشبه النقد من حيث صلاحه للتداول والقبول .
ب - الغالب على الشيك أن يشتمل على أطراف ثلاثة هي الساحب والمسحوب عليه والمستفيد . ويجوز اقتصاره على طرفين هما الساحب وهو المستفيد والمسحوب عليه ، وإلى هذا تشير المادة السادسة والتسعون من نظام الأوراق التجارية السعودي حيث تقول :
يجوز سحب الشيك لأمر الساحب نفسه ، ويجوز سحبه لحساب شخص آخر ، ولا يجوز سحبه على الساحب نفسه ما لم يكن مسحوبا بين فروع بنك يسيطر عليه مركز رئيسي واحد ، ويشترط ألا يكون الشيك مستحق الوفاء لحامله .
ج - يشترط لسحب الشيك أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما لا يقل عن قيمته ، ومع ذلك فيعتبر الشيك صحيحا ولو لم يكن المسحوب عليه مدينا للساحب ، إلا أنه يعتبر من ضمان الساحب نفسه ، فضلا عما في سحبه على غير مدين به من الإجرام الموجب للعقوبة . اهـ .
د - إذا كان المسحوب عليه غير مدين بمثل قيمته فلا يلزمه اعتماده .
هـ - لا يعتبر الشيك مبرئا صاحبه إبراء تاما من قيمته حتى يتم سداده .
و - لحامل الشيك الرجوع على الملتزمين مجتمعين أو منفردين إذا قدم في ميعاده النظامي ولم تدفع قيمته .
ز - لا يعتبر الشيك ورقة نقدية تضيع قيمتها بفقدها ، وإنما هو سند بدين يثبت بإحدى طرق الإثبات المعتبرة في حال ضياعه .
ح - لا يشترط لصحة الشيك النص على وصول قيمته للساحب كما هو الشأن في الكمبيالة .
ط - لا يعتبر لصحة الشيك ووجوب دفعه لدى الاطلاع رضا المسحوب عليه إلا إذا كان غير مدين للساحب بمثل قيمته .
ي - لا يعتبر لصحة الشيك انتفاء رصيده أو نقصانه لدى المسحوب عليه (1) .
__________
(1) انظر [ نظرات في أحكام الشيك في تشريعات البلاد العربية ] للدكتور محسن شفيق ص ( 32 ، 42 ) ، و [ الموسوعة الفقهية الكويتية ] ، ( الحوالة ) ص ( 237 ) ، و [ نظام الأوراق التجارية السعودي ] ومعه المذكرة التفسيرية له .
الفرق بين الشيك والكمبيالة
لا شك أن الشيك يشبه الكمبيالة في كثير من خصائصها ، كما أنه يختلف عنها في بعض خصائصه .وفيما تقدم لنا يتضح : أن الشيك يشبه الكمبيالة فيما يلي :
أ - افتراض وجود ثلاثة أطراف هي : الساحب والمسحوب عليه والمستفيد في الغالب .
ب - وجود علاقتين حقوقيتين : إحداهما : بين الساحب والمسحوب عليه ،
وهي الرصيد الدائن ، وهو ما يسمى بمقابل الوفاء . الثانية : بين الساحب والمستفيد ، وهي وصول قيمة الكمبيالة أو الشيك .
ج - قدرتهما على القيام بتسوية ما يرتبانه من علاقات قانونية بين المتعاملين بهما بعملية وفاء واحدة .
ويختلف الشيك عن الكمبيالة فيما يلي :
أ - إن الشيك يسحب عادة على مصرف ، ويندر أن يسحب على فرد عادي أو مؤسسة غير مصرفية ، في حين أن الكمبيالة تسحب على أي جهة أو فرد أهل للالتزام بها .
ب - إن الشيك واجب الدفع دائما لدى الاطلاع عليه ، ولا يجوز تأجيل دفعه ، بينما يغلب على الكمبيالة ألا تكون مستحقة الوفاء عند الاطلاع ، وإنما يجب وفاؤها بعد وقت يجري تعيينه فيها .
ج - يشترط لسحب الشيك أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما لا يقل عن قيمته ، فإن سحب شيك على غير مدين به اعتبر ذلك جريمة توجب العقوبة ، وتبقى للشيك قيمته المالية في ذمة ساحبه . وعليه فإنه لا يجوز للمسحوب عليه أن يؤشر على الشيك بالقبول ؛ لأنه طالما كان مستكملا لشروط اعتباره كان واجب الدفع على المسحوب عليه ، رضي ذلك أم سخط ، وإلى هذا تشير المادة ( 100 ) من نظام الأوراق التجارية السعودي ، حيث تقول :
لا يجوز للمسحوب عليه أن يوقع على شيك بالقبول ، وكل قبول مكتوب عليه يعتبر كأن لم يكن ، ومع ذلك يجوز للمسحوب عليه أن يؤشر على الشيك باعتماده ، وتفيد هذه العبارة وجود مقابل وفاء في تاريخ
التأشير ، ولا يجوز للمسحوب عليه رفض اعتماد الشيك إذا كان لديه مقابل وفاء يكفي لدفع قيمته ، ويعتبر توقيع المسحوب عليه على صدر الشيك بمثابة اعتماد . اهـ .
على أن كثيرا من علماء الاقتصاد يرون أن التفرقة بينهما عسيرة في حال ما إذا كان ساحب الكمبيالة دائنا للمسحوب عليه بقيمتها ، وكان النص فيها على الدفع حال الاطلاع ، وفي ذلك يقول الدكتور أمين بدر بعد أن استعرض الفروق بينهما وناقشها مناقشة أذابت كثيرا منها وقربت بعضها لمقابله ، قال ما نصه :
وبالاختصار فإن التمييز بين الشيك والكمبيالة قد يغدو في بعض الصور عسيرا . اهـ (1) .
وبمزيد من التأمل يمكن القول : إن الكمبيالة قد تكون على حال من الإجراء بحيث يصعب التمييز بينها وبين الشيك ، كأن يكون سحبها على مدين بها وأن تكون واجبة الدفع عند الاطلاع ، وأن يكون سحبها على مصرف ، وقد تختلف عن خصائص الشيك بالنسبة لنوع المسحوب عليه ووجود أجل معين لوجوب دفعها وانتفاء مديونية المسحوبة عليه بقيمتها ، وحيئذ يبدو الفرق بينهما واضحا جليا (2) .
ونظرا إلى أن الشيك قد تعترضه بعض المخاطر من ضياع أو سرقة أو - نحوهما فقد ابتدع النظام المصرفي ما يسمى بالشيك المسطر وذلك بوضع
__________
(1) [ الالتزام المصرفي في قوانين البلاد العربية ] ، ص ( 42 ) .
(2) [ الالتزام المصرفي ] ، ص ( 40 ، 41 ) ، [ الموسوعة الفقهية الكويتية ] ، ( الحوالة ) ص ( 237 ) ، [ نظام الأوراق التجارية السعودي ] ، .
خطين متوازيين على وجهه إشارة إلى تعيين أن يكون الوفاء بهذا الشيك لأحد البنوك لا لفرد أو شخص آخر فيكون على المستفيد منه أن يظهره لأحد البنوك ليتولى تحصيله لحسابه .
ويكون الشيك المسطر عاما إذا لم يرد بين الخطين إشارة أو وردت عبارة صاحب مصرف أو ما يعادلها . ويكون خاصا إذا كتب بين الخطين اسم صاحب مصرف بالذات ، وفي ذلك تقول المادة ( 112 ) من نظام الأوراق التجارية السعودي ما نصه :
لا يجوز للمسحوب عليه أن يوفي شيكا مسطرا تسطيرا عاما إلا إلى أحد عملائه أو إلى بنك ، ولا يجوز أن يوفي شيكا مسطرا تسطيرا خاصا إلا إلى البنك المكتوب اسمه فيما بين الخطين وإلى عميل هذا البنك إذا كان هذا الأخير هو المسحوب عليه ، ومع ذلك يجوز للبنك المكتوب اسمه بين الخطين أن يعهد إلى بنك آخر قبض قيمة الشيك . اهـ .
وهناك وسيلة أخرى لاتقاء مخاطر ضياع الشيك أو سرقته أو تزويره وهي اشتراط قيد قيمته في الحساب الجاري بدلا من دفعها بالنقود ، ويعترض لهذه الطريقة وجود حساب جاري لحامل الشيك لدى المسحوب عليه . وفي هذا تقول المادة ( 113 ) من نظام الأوراق التجارية السعودي ما نصه :
يجوز لساحب الشيك أو لحامله أن يشترط عدم وفائه نقدا بأن يضع عبارة للقيد في الحساب أو أية عبارة أخرى تفيد نفس المعنى . وفي هذه الحالة لا يكون للمسحوب عليه إلا تسوية قيمة الشيك بطريق قيود كتابية كالقيد في الحساب أو النقل المصرفي أو المقاصة ، وتقوم هذه القيود مقام
الوفاء ولا يعتد بشطب بيان ( للقيد في الحساب ) (1) .
وهناك ما يسمى بالشيك السياحي ، ويذكر الأستاذ محمد جمال الدين عوض : أن أول نشأته كانت عام 1891 م بسبب رحلة قام بها رئيس شركة أمريكان اكسبريس للسياحة إلى أوربا ، فصادفه فيها متاعب راجعة إلى كيفية حصوله على مال يقوم بشئون حياته في هذه الرحلة ، فابتكر نظام الشيكات السياحية حتى ذاع استعمالها ، فأصبحت البنوك تصدر شيكات سياحية قابلة للصرف لدى جميع البنوك الأخرى .
ويذكر الأستاذ محمد جمال الدين عوض : أن الصورة الغالبة للشيك هي أن يصدر الشيك بفئات نقدية معينة وعلى الصك مكان يوقع فيه العميل عند استلام الشيك ومكان آخر يوقع فيه عند قبض قيمته أمام البنك الذي يدفع هذه القيمة ليتحقق من تطابق التوقيعين ومن أن الذي يستوفي القيمة هو ذات المستفيد الذي استلم الشيك ممن أصدره ، وبعد الوفاء بقيمة الشيك السياحي تسوى العملية بين البنوك المشتركة في إصداره وتنفيذه بطريق المقاصة .
ويذكر الأستاذ محمد عوض : أن كثيرا من الشراح يستبعد الشيك السياحي من تعريف الشيك إذا تخلف بيان من البيانات اللازمة للشيك وهو أمر غالب ، حيث لا يتضمن تاريخ السحب ومكان الإصدار واسم المسحوب عليه ، كما ينكر عليه وصف السند الإذني أو السند لحامله ، كما
__________
(1) [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] ، للدكتور محمد عوض ص ( 54 - 56 ) ، [ نظام الأوراق التجارية السعودي ] ، [ نظرات في أحكام الشيك في تشريعات البلاد العربية ] ، للدكتور محسن شفيق ص ( 68 - 72 ) .
يعرفه القانون التجاري ، إذ هو لا يتضمن تعهد البنك بالدفع حتى ولو تضمن أمرا للمسحوب عليه ؛ لأن تعهد الساحب ضمنا بالوفاء عند تخلف المسحوب عليه لا يكفي لاعتبار الورقة سندا تجاريا صرفيا ، كما أن وظيفة الشيك السياحي تختلف عن وظيفة السند الإذني أو السند للحامل ؛ لأن الشيك السياحي يستهدف مجرد نقل النقود ولا يستخدم أداة للائتمان ، وهي الوظيفة الأساسية للسندات التجارية ، ومن هذا ندرك أن الشيك السياحي ورقة ابتكرها العرف وأقر حكمها بعيدا عن الأحكام التي وضعها التشريع للأوراق التي قد تشتبه بها . اهـ (1) .
__________
(1) [ عمليات البنوك من الوجهة القانونية ] ، ص ( 603 ، 604 ) .
الوصف الفقهي الإسلامي
مر بنا أن من خصائص الشيك : أنه ليس ورقة نقدية ، وإنما هو وثيقة بدين تقضي بإحالته من ذمة ساحبه إلى ذمة المسحوب عليه مع بقاء مسئولية ساحبه حتى سداده . وأنه ينبغي ألا يسحب إلا على من لديه مقابل وفائه ، وأنه لا يلزم لاعتباره شيكا قبول المسحوب عليه ، وهذه الخصائص هي خصائص الحوالة ، فإذا قيل : بأن الشيك حوالة كان لهذا القول وجاهته ولم يرد عليه إلا مسألة ضمان الساحب قيمة الشيك حتى يتم سداده ؛ لأن الحوالة نقل الدين من ذمة إلى ذمة بمعنى براءة ذمة المحيل من المدين إذا كانت الإحالة على مليء ، وقد أجابت الموسوعة الفقهية الكويتية عن هذا الاعتراض بأن الساحب يعتبر محيلا بمبلغ الشيك وضامنا سداده (1) .__________
(1) [ الموسوعة الفقهية الكويتية ] ، ( الحوالة ) ص ( 239 ، 240 ) .
وقد يقال : بأن الشيك يعتبر في حكم ورقة نقدية ، وفي ذلك تقول الموسوعة الفقهية الكويتية في معرض توجيه القول بأن تسلم الشيك من المصرف بمثابة تسلم قيمته ما نصه :
فإذا نظرنا إلى أن الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية ، وأنه يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيرا وتحويلا ، وأنها محمية في قوانين جميع الدول من حيث إن سحب الشيك على جهة ليس للساحب فيها رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعا ، إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكا بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس . اهـ (1) .
__________
(1) انظر ص ( 232 ) من [ الموسوعة الفقهية الكويتية ] ، ( الحوالة ) .
السند الإذني :
السند الإذني عبارة عن التزام مكتوب وفقا لأوضاع معينة حددتها الأنظمة ، يتضمن تعهد شخص معين يسمى : المحرر بدفع مبلغ معين من النقود في تاريخ معين أو قابل للتعيين لأمر أو لإذن شخصي يسمى : المستفيد .
وصورته :
اسم المدين
هـ ريال
في يوم كذا شهر كذا سنة كذا ندفع بموجب هذا السند الإذني إلى وتحت إذن السيد . . . . . . . ابن . . . . . . . . . . . . . . . . . المبلغ المرقوم أعلاه وقدره . . . . . . . . . . . . . . .
والقيمة وصلتنا والدفع والتقاضي في \ \
تحريرا في . . . \ . . . \ . . .
المقر بما فيه (1)
ويجب أن يشتمل السند الإذني على بيانات معينة جاء النص عليها في المادة السابعة والثمانين من نظام الأوراق التجارية السعودي حيث نصت على ما يلي :
يشتمل السند لأمر على البيانات الآتية :
أ - شرط الأمر أو عبارة سند الأمر مكتوبة في متن السند وباللغة التي كتب بها .
ب - تعهد غير معلق على شرط بوفاء مبلغ معين من النقود .
ج - ميعاد الاستحقاق .
د - مكان الوفاء .
هـ - اسم من يجب الوفاء له أو لأمره .
و - تاريخ إنشاء السند ومكان إنشائه .
ز - توقيع من أنشأ السند - المحرر - .
__________
(1) [ الالتزام المصرفي في قوانين البلاد العربية ] ، ص ( 31 ، 32 ) للدكتور أمين بدر .
كما أن السند الإذني لا يعتبر صحيحا إذا خلا من البيانات المذكورة في المادة ( 87 ) إلا في ثلاث حالات أبانتها المادة ( 88 ) من نظام الأوراق التجارية السعودي بما يلي :
المادة ( 88 ) السند الخالي من أحد البيانات المذكورة في المادة السابقة لا يعتبر سندا لأمر إلا في الأحوال الآتية :
أ - إذا خلا السند من ميعاد الاستحقاق اعتبر واجب الوفاء لدى الاطلاع عليه .
ب - إذا خلا بيان مكان الوفاء أو موطن المحرر اعتبر مكان إنشاء السند مكانا للوفاء ومكانا للمحرر .
ج - إذا خلا بيان مكان الإنشاء اعتبر منشأ في المكان المبين بجانب اسم المحرر .
وقد ذكر الدكتور محمد أمين بدر : أن السند الإذني يفترق عن الكمبيالة في : أنه لا يتضمن عند إنشائه إلا شخصين : المحرر : وهو المدين ، والمستفيد : وهو الدائن ، ويتفرع عن هذا الفارق الجوهري سلسلة من فوارق أخرى ، فلا محل في السند الإذني لمقابل الوفاء ، ولا مجال فيه للقبول ؛ لأن محرر السند ملتزم مقدما بدفع قيمته في ميعاد الاستحقاق (1) .
ويخضع السند الإذني للأحكام المتعلقة بالكمبيالة مما لا يتعارض وطبيعة السند الإذني . وقد جاءت المادة السابعة والسبعون من قانون جنيف الموحد توضح ذلك حيث تقول :
__________
(1) [ الالتزام المصرفي ] ، ص ( 32 ) .
القواعد المتعلقة بالكمبيالة فيما يختص بتظهيرها واستحقاقها ووفائها والرجوع بسبب عدم الوفاء والبروتستو وكمبيالة الرجوع والوفاء بالواسطة والصور والتغييرات والتقادم وأيام الأعياد الشبيهة بها واحتساب المواعيد وحظر المهلة القضائية تتبع في السند الإذني ما دامت هذه القواعد لا تتعارض مع ماهيته . اهـ .
وقد نقلت معظم البلاد العربية في قوانينها التجارية هذه المادة ضمن تقنينها أحكام السندات الإذنية (1) .
وهناك ما يسمى بالسند لحامله والسند على بياض ، ونظرا إلى أن قانون جنيف الموحد قد أهملهما من قائمة الأوراق التجارية ، وقد حذت معظم الدول بما في ذلك غالب البلاد العربية ومنها حكومتنا السنية حذو مؤتمر جنيف فأهملتهما من تشريعاتها التجارية ، ومن لم يهملهما فمشروعات تشريعه التجاري قد تجاهلتهما ، وعليه فقد لا يكون هناك حاجة . لذكرهما (2) .
__________
(1) [ الالتزام المصرفي ] ، للدكتور أمين بدر ص ( 35 ) .
(2) [ الالتزام المصرفي ] ، ص ( 35 - 39 ) .
خصائص السند الإذني
يتضح مما تقدم : أن السند الإذني يتميز بالخصائص الآتية :أ - السند الإذني ورقة تجارية تشبه الورقة النقدية من حيث صلاحه للقبول والتداول .
ب - السند الإذني يشكل علاقة حقوقية بين طرفين ، هما : الساحب
والمستفيد .
ج - لا يلزم لتحرير السند الإذني وجود مقابل وفاء .
د - لا يلزم لاعتبار السند الإذني قبول المحرر ، لأنه بتحريره إياه ملتزم بدفع قيمته في ميعاد الاستحقاق .
هـ - لا يعبتر السند الإذني ورقة نقدية بمعنى : أن قيمته في حال ضياعه تثبت بإحدى طرق الإثبات المعتبرة .
الوصف الإسلامي للسند الإذني
السند الإذني : عبارة عن وثيقة بدين مؤجل على مدين يغلب عليه أن يكون شخصا اعتباريا كدولة أو مصرف أو مؤسسة تجارية ذات سمعة حسنة . يحل أجله في وقت معين في الوثيقة نفسها ، ولهذا الدين فائدة ربوية يجري تعيين نسبتها في الوثيقة ، ويكون أجلها أجل أصلها ، ويكون موضع تداول في أسواق الأوراق التجارية حتى يتم سداده من محرره كالحال بالنسبة للكمبيالات .وقد قام الأستاذ محمد باقر الصدر بوصف السند الإذني من الوجهة الإسلامية فقال :
وأما من وجهة النظر الفقهية فيمكن تكييف تعاطي السندات على أساسين :
الأول : أن نفسر العملية على أساس عقد القرض ، فالجهة التي تصدر السند بقيمة اسمية نفرضها 1000 دينار ، وتبيع السند ب 950 دينارا مؤجلة إلى سنة ، هي في الواقع تمارس عملية اقتراض ، أي : أنها تقترض 950 دينارا من الشخص الذي يتقدم لشراء السند ، وتدفع إليه دينه في نهاية المدة
المقررة وتعتبر الزيادة المدفوعة وهي 50 دينارا في المثال الذي افترضناه فائدة ربوية على القرض .
الثاني : أن نفسر العملية على أساس عقد البيع والشراء بأجل ، فالجهة التي تصدر السند في المثال السابق لبيع 1000دينار مؤجلة الدفع إلى سنة ب 950 دينارا حاضرة - إلى أن قال - : والواقع أن تفسير العملية على أساس بيع ليس إلا مجرد تغطية لفظية للعملية التي لا يمكن إخفاء طبيعتها بوصفها قرضا مهما اتخذت من تعبير . . . إلى أن قال : فالعملية إذن عملية إقراض من البنك ، ولا تختلف من الناحية الفقهية عن إقراض البنك لأي عميل من عملائه الذين يتقدمون إليه بطلب قروض . والزيادة التي يحصل عليها البنك نتيجة للفرق بين القيمة الاسمية للسند وقيمته المدفوعة فعلا من قبل البنك هي ربا ، وحكمها حكم سائر الفوائد التي يتقاضاها البنك على قروضه اهـ (1) .
__________
(1) البنك اللاربوي في الإسلام ] ، ص ( 162 ، 163 ) .
التحويلات المصرفية والبريدية
من المعاملات المصرفية التحويلات : وتتم بأحد طريقين :أحدهما : أن يدفع شخص إلى مصرف ما مبلغا من المال ليحوله إلى شخص بعينه في بلد آخر ، فيحرر المصرف حوالة بذلك المبلغ إلى مصرف آخر أو فرع له في البلد المطلوب تحويل المبلغ إليه يأمره بدفع المبلغ إلى الشخص الذي عينه طالب التحويل ، فيتسلم دافع المبلغ سند التحويل ليقوم بتسليمه محتواه أو يرسله إلى الشخص الذي يريد تسليمه المبلغ
ليقبض قيمته ، وهذا ما يسمى بالتحويل المصرفي .
الثاني : أن يقوم المصرف بناء على رغبة دافع المبلغ بالكتابة أو الإبراق إلى المصرف الآخر بتسليم المبلغ إلى الشخص المعين دون أن يتسلم العميل حوالة محررة بذلك ، ويسمى هذا النوع بالتحويل البريدي .
وكما جمح التحويل من بلد إلى بلد فقد يكون في البلد نفسه بين مصرف وفروعه وبين حساب شخص في مصرف وحسابه في مصرف آخر . والغالب أن التحويل المصرفي والبريدي لا يتم إلا بعمولة يأخذها البنك في مقابل قيامه بهذه المهمة (1) .
__________
(1) [ الموسوعة الفقهية الكويتية ] ، [ الحوالة ) ص ( 228 ) .
الوصف الإسلامي للتحويلات المصرفية :
حاولت [ الموسوعة الفقهية الكويتية ] ، التعرف على
الوصف الإسلامي للتحويلات المصرفية
] ، فكتبت في ذلك بحثا مطولا ، ناقشت فيه القول بتخريجها على السفتجة المعروفة لدى فقهاء الشريعة ، فذكرت ما بينهما من تشابه وفروق ] ، كما ناقشت القول بتخريجها على القرض أو الوكالة ، ثم انتهت إلى القول : بأن التحويلات المصرفية عملية مركبة من معاملتين أو أكثر ، وهو عقد حديث بمعنى : أنه لم يجر العمل به على هذا الوجه المركب في العهود السابقة ، ولم يدل دليل على منعه ، فهو صحيح جائز شرعا من حيث أصله . اهـ (1) .ونظرا لنفاسة البحث وما فيه من مناقشة لتخريج التحويلات المصرفية
__________
(1) [ الموسوعة الفقهية ] ، ص ( 235 ) .
على بعض العقود المشابهة لها في الفقه الإسلامي ، فإن اللجنة ترى إيراده تحقيقا للفائدة . وفيما يلي نصه :
الوصف ( التكييف ) الفقهي الإسلامي :
سبق أن أشرنا في بحث ( السفتجة ) إلى وجه الشبه إجمالا بين السفتجة القديمة والتحويلات المصرفية الحديثة . ولبيان ذلك تفصيلا ينبغي التنبيه إلى أن السفتجة القديمة قد أجازها بعض الفقهاء ( على الرغم من الشرط الذي يستفيد به المقرض الأمان من خطر الطريق ، وهو شرط التوفية في بلد آخر ) . فهي وسيلة أجيزت لشدة الحاجة إليها ولم يحل دون جوازها اشتراط الوفاء في بلد آخر .
تلك وجوه الشبه أشرنا إليها إجمالا هناك ، لكن الناظر إلى هذه التحويلات الحديثة وإلى السفتجة القديمة يرى بينهما فرقا من جهات أربع :
الجهة الأولى : أن السفتجة القديمة لا بد أن تكون بين بلدين ، والتحويل المصرفي تارة يكون كذلك وتارة يكون بين مصرفين في بلد واحد .
الجهة الثانية : أن السفتجة القديمة قد يكون المقترض فيها مسافرا أو عازما على السفر ، فيوفي هو نفسه أو نائبه إلى المقرض أو إلى مأذونه . والتحويل المصرفي ليس فيه ذلك ، فالمصرف الأول وهو المقترض لا يوفي بنفسه إلا إذا كان المصرف الثاني الدافع فرعا للأول .
الجهة الثالثة : أن المفروض في السفتجة القديمة اتحاد جنس النقد المدفوع عند العقد والمؤدى عند الوفاء . فالآخذ في السفتجة إذا أخذ دنانير من نوع مخصوص وفاها كذلك ، وإذا أخذ دراهم من نوع مخصوص وفاها
كذلك ، فإنهم عرفوا السفتجة بأنها قرض ( وقد تتوافر معه فيها عناصر الحوالة ) فلو كانت التأدية بنوع آخر لما كانت قرضا ، لأن القرض لا بد فيه من رد المثل .
والتحويل المصرفي لا يقتصر على هذه الحالة ، فإن المصرف في أغلب الأحيان يأخذ نقودا من نوع ، ويكتب للمصرف الآخر أن يوفي من نوع آخر . وهذه المعاملة ليست قرضا محضا ، بل تشتمل أيضا على صرف أو شبهه على ما سيأتي :
الجهة الرابعة : أن الآخذ في السفتجة القديمة لا يتقاضى أجرا عادة ، اكتفاء بأنه سينتفع بالمال في سفره أو إقامته ، فيربح ما يغنيه عن اشتراط أجر لعمله . أما المصرف في التحويل المصرفي فيتقاضى أجرا يسمى : عمولة . وفيما يلي سنتناول بالبحث والتمحيص كل جهة من جهات الفرق الأربع هذه بين السفتجة الفقهية القديمة والتحويلات المصرفية الحديثة ، لنرى مقتضاها في الأحكام بالنظر الفقهي الإسلامي :
الفرق الأول : كون السفتجة لا تتم إلا بين بلدين ، والتحويل قد يتم بين مصرفين في البلد الواحد .
هذا الفرق لا تأثير له في الحكم الشرعي بالجواز ، فإن الذين أجازوا السفتجة بين بلدين يجب أن يجيزوا ما يشبهها بين مكانين في بلد واحد . بل هذه أقرب إلى الجواز ، لأن اشتراط الوفاء في بلد آخر كان هو العلة التي جعلت بعض الفقهاء يكرهون السفتجة أو يحرمونها . فإذا أجازها المحققون مع وجود هذه الشبهة فإجازتها مع قرب المكانين أولى ؛ لأن المقرض حينئذ لا يستفيد سقوط خطر الطريق ، فلا يتوهم أنه قرض جر
نفعا .
الفرق الثاني : كون السفتجة القديمة تشمل صورا مغايرة للتحويل المصرفي . هذا الفرق أيضا لا تأثير له ؛ لأن الذين أجازوا السفتجة لم يخصوا الجواز بهذه الصورة المغايرة ، فيكفي أن يكون التحويل موافقا للصور الأخرى من السفتجة . فالقائلون بجواز هذه الصورة ينبغي أن يقولوا بجواز التحويل الموافق لها .
الفرق الثالث : كون السفتجة تجري بنقد واحد ، أما التحويل المصرفي فقد يجري بنقد واحد ، وقد يكون بين جنسين من النقود .
هذه جهة فرق جديرة بعناية الباحث ؛ لأن لها تأثيرا ، وتحتاج إلى شيء من التحليل والتفصيل :
فالتحويل بين مصرفين في بلد واحد أو دولة واحدة إنما يكون بنقد الدولة غالبا فيكون كالسفتجة القديمة بعد اعتبار أن المصرف شخصية اعتبارية ، فما قيل في تطبيق السفتجة على المعاملات الشرعية المعروفة يقال في تطبيق هذا النوع من التحويل فهو قرض وتوكيل أو قرض وحوالة . والتحويل بين مصرفين في دولتين لا يمكن أن يكون بنوع واحد من النقد غالبا . فالذي يريد تحويل دنانير عن طريق مصرف في الكويت إلى مصرف في لبنان مثلا لا بد أن يطلب التحويل إلى ليرات لبنانية بسعر الصرف وقت التحويل .
وهذا يستدعي ثلاث خطوات ذات أحكام ، وسنشرحها فيما يلي مبينين وصفها الفقهي خطوة خطوة .
أولا : أن يتقدم إنسان للمصرف ويطلب تحويل النقود إلى مصرف آخر :
وهذا تمهيد لعقد التحويل ، ويبين فيه عادة مقدار النقود ، وهل يقصد تحويلها إلى نقود من جنسها أو من غير جنسها ؟ وبيان المصرف الذي يراد التحويل إليه ، وبيان الشخص الذي سيقبض البدل من المصرف الآخر أهو طالب التحويل أم غيره ؟
ثانيا : قيام الطالب بدفع النقود إلى موظف المصرف :
وهذا بعد سبق الطلب المبين يعتبر إيجاد للتحويل الذي يعد قرضا إن كان المقصود التوفية بمثلها من جنسه : فالدافع مقرض والآخذ مقترض من المصرف والدفع إيجاب ، والأخذ مع ما بعده قبول ، والمال المدفوع هو محل العقد ، وكذلك المثل الذي يلتزم به المقترض معطي الصك فإنه العوض .
فهذا القرض المستوفي لمقوماته عقد صحيح جائز شرعا حيث خلا من الموانع الشرعية . وما يتخيل مانعا وهو العمولة سيأتي الكلام عليه .
وأما إن كان المقصود التوفية بنقد من جنس آخر فهو صرف ، ومن شرائط صحة الصرف التقابض ولا تقابض في هذا الصرف ، فيلتحق بالربا لعدم التقابض ، هذا إذا اعتبرنا الأوراق النقدية نقودا وضعية . وأما إذا اعتبرت سندات على الجهة التي أصدرتها بالقيمة المذكورة فيها من الذهب ، فإن معاملة التحويل المذكورة بين جنس منه وجنس آخر تعتبر بيع دين بدين دون قبض أصلا في مجلس العقد ؛ لأن ما تم تسليمه من أحد الجانبين هو سند ( صك ) بمبلغه ، وليس نقدا ، فهل من حل ؟
فنقول جوابا عن ذلك :
1 - إننا نعتبر الأوراق النقدية المذكورة من قبيل النقود الوضعية لا من قبيل
الأسناد المعترف فيها باستحقاق قيمتها على الجهة التي أصدرتها من دولة أو مصرف إصدار ، وإن كانت هذه الصفة الأخيرة هي أصلها ومنطلق فكرة إحلال الأوراق النقدية المعروفة بين الناس باسم ( بنكنوت ) محل النقود الذهبية والفضية في التداول أخذا وعطاء ووفاء ؛ ذلك لأن صفة السندية فيها قد تنوسيت بين الناس في عرفهم العام ، وأصبحوا لا يرون في هذه الأوراق إلا نقودا مكفولة حلت محل الذهب في التداول تماما ، وانقطع نظر الناس إلى صفة السندية في أصلها انقطاعا مطلقا ، تلك الصفة التي كانت في الأصل حين ابتكار هذه الأوراق ، لإحداث الثقة بها بين الناس ؛ لينتقلوا في التعامل عن الذهب إليها حين يعلمون أن لها تغطية ذهبية في مركز الإصدار ، وأنها سند على ذلك المركز بقيمتها مستحق لحامله يستطيع قبضه ذهبا متى شاء .
هذا أصلها ، أما بعد أن ألفها الناس وسالت في الأسواق تداولا ووفاء من الدولة وعليها بين الناس ، ولمس المتعاملون بها مزيتها في الخفة وسهولة النقل ، فقد تنوسي - كما ذكرنا - فيها هذا الأصل السندي واكتسبت في نظر الجميع واعتبارهم وعرفهم صفة النقد المعدني وسيولته بلا فرق . فوجب لذلك اعتبارها بمثابة الفلوس الرائجة من المعادن غير الذهب والفضة ، تلك الفلوس التي اكتسبت صفة النقدية بالوضع والعرف والاصطلاح ، حتى إنها وإن لم تكن ذهبا أو فضة ، لتعتبر بحسب القيمة التي لها بمثابة أجزاء للوحدة النقدية الذهبية التي تسمى : دينارا ، أو ليرة ، أو جنيها ذهبيا ، بحسب اختلاف التسمية العرفية بين البلاد للوحدة من النقود المسكوكة الذهبية . هذا حال الفلوس الرائجة من المعادن المختلفة
غير الذهب والفضة بالنظر الشرعي ، وهو الصفة التي يجب إعطاؤها في نظرنا للأوراق النقدية ( البنكنوت ) . فتبديل جنس منها ، كالدينار الكويتي الورقي أو الليرة السورية أو اللبنانية مثلا بجنس آخر الجنيه المصري أو الاسترليني أو الدولار الأمريكي مثلا ، يعتبر مصارفة كالمصارفة بين الذهب والفضة والفلوس المعدنية الرائجة على سواء .
والقاعدة الفقهية في هذه المصارفة : أنه عند اختلاف الجنس يجوز التفاضل في المقدار بين العوضين ، ولكن يجب التقابض في المجلس من الجانبين ، منعا للربا المنصوص عليه في الحديث النبوي .
وبهذا التخريج يستبعد اعتبار عملية التحويل المصرفي بين جنسين من هذه الأوراق من قبيل بيع الدين بالدين ، وإنما هي مبادلة بين نقود ونقود فيها تحويل وصرف في وقت واحد .
2 - بناء على ما سبق نقول : إن اعتبار الأوراق النقدية كما ذكر ( نقودا وضعية اصطلاحية ) يقتضي في التحويل من جنس إلى جنس آخر منها أن يتم تقابض العوضين في مجلس التحويل ، نظرا لأن هذا التحويل بين جنسين من هذه النقود يتضمن مصارفة ، والصرف يشترط لصحته التقابض ، وهذا يقتضي أن يدفع طالب التحويل إلى المصرف الأوراق النقدية التي يحملها ، وأن يصرفها بالأوراق النقدية من الجنس الآخر المطلوب ، ويقبضها بالفعل من المصرف ، ثم يسلمها إليه قرضا ليوفيه في البلد الآخر من هذا الجنس الثاني ، أي : يجب حينئذ فك عملية التحويل بين جنسين مختلفين من هذه الأوراق إلى عمليتين : مصارفة أولا يقع فيها التقابض ، وسفتجة ثانيا يدفع فيها مبلغ من جنس ، ويستوفي نظيره من
الجنس نفسه في البلد الآخر .
هذا ما يستوجبه في الأصل عنصر المصارفة في عملية التحويل المصرفي بين جنسين ، ولكن هذه التجزئة العملية لا تقع فعلا بين طالب التحويل والمصرف الوسيط ، وإنما يدفع طالب التحويل إلى المصرف المبلغ المطلوب تحويله من نقود البلد الذي هو فيه . فيقوم المصرف بتسليمه إيصالا به مع صك ( شيك ) يتضمن حوالة على مصرف عميل في البلد الآخر بمبلغ يعادل هذا المبلغ من نقود البلد المطلوب التحويل إليه ، فيرسل طالب التحويل هذا الشيك إلى الشخص المحول باسمه ( والذي حرر الشيك لأمره ) ليقبضه هناك من المصرف المحول عليه .
فإذا نظرنا إلى أن الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية ، وأنها يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيرا وتحويلا ، وأنها محمية في قوانين جميع الدول - من حيث إن سحب الشيك على جهة ليس للساحب فيها رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعا - إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكا بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس ، أي : إن قبض ورقة الشيك كقبض مضمونه ، فيكون الصرف قد استوفى شريطته الشرعية في التقابض (1) .
__________
(1) هذا وفي بعض الأحيان يخلو التحويل عن هذه الخطوة فلا يدفع الطالب نقودا ، بل يطلب من المصرف تحويل مقدار من النقود فيعطيه الموظف صك التحويل ( الشيك ) بناء على أنه عميل وله في المصرف حساب جار ، وفي أغلب الأحيان يكون الحساب المذكور دائنا بالمصرف فيستوفي المصرف منه المبلغ المطلوب تحويله ، وأحيانا لا يكون الحساب دائنا أو لا يكون لطالب التحويل لدى المصرف حساب ، ولكنه يثق بطالب التحويل أنه سيدفع المبلغ فيما بعد ، وسيأتي حكم إعطاء الصك ( الشيك ) في حالتي الدفع مقدما وعدمه .
ثالثا : إعطاء المصرف لطالب التحويل صكا (شيكا) بالمبلغ المطلوب : فهذا الإعطاء إما أن يكون مسبوقا بإعطاء النقود أو غير مسبوق كما تقدم في الخطوة الثانية . وأيا ما كان فهو من تتمة قبول التحويل الذي هو عملية مركبة ، لكن لو لاحظناه على انفراد لكان له وصف شرعي يختلف بحسب سبقه بدفع النقود وعدم سبقه بذلك :
أ- فإن كان مسبوقا بإعطاء النقود التي اعتبرت مقترضة احتمل كونه حوالة أو وكالة : وتصوير الحوالة أن يقال : إن المصرف الذي أصبح مدينا بدين القرض قد أحال دائنه- الذي أعطى النقود وأصبح مقرضا- على المصرف الآخر ليدفع الدين الذي هو بدل القرض إلى ذلك الدائن أو إلى الشخص الذي عينه وكتب اسمه في الصك . وتصوير الوكالة أن يقال : إن المصرف الآخذ قد وكل المصرف الثاني في دفع المبلغ المذكور في الصك إلى من ذكر اسمه فيه ، سواء أكان هو الطالب أم الشخص الآخر الذي عينه . وهذا التوكيل مصرح في الصك بما يدل عليه ، وإنما سلم هذا الصك لطالب التحويل تمكينا له من استيفاء حقه .
وإن اعتبار ذلك وكالة بهذا التصوير الثاني هو الأقرب ، وعليه يكون وكالة جائزة شرعا ، وتكون عملية التحويل مركبة من قرض ووكالة إذا استوفى المحول بنفسه ، أو من قرض ووكالتين إذا كان المستوفي هو
الشخص الآخر الذي عينه المحول فهو وكيله في الاستيفاء .
وإنما قلنا : إن تقدير الوكالة هنا أقرب من تقدير الحوالة ، لأن الحوالة الشرعية ثمرتها براءة ذمة المحيل من الدين ، وليست للتحويل المصرفي هذه الثمرة ؛ لأن المصرف الآخذ يبقى مدينا بدين القرض ولا يبرأ منه إلا بتوفية المصرف الآخر . يضاف إلى ذلك أن المصرف الثاني قد يكون غير مدين للمصرف الأول ، فلا يصح أن يكون محالا عليه شرعا عند الجمهور (إلا على أساس الحوالة المطلقة عند الحنفية ومن معهم) وإن الوكالة خالية من هذين الإشكالين ، فالتخريج عليها يكون أولى وأرجح غير أنه قد يقال : إن الوكالة يجوز فيها رجوع الموكل ورجوع الوكيل ، وهذان الأمران ليسا من صفات التحويل المصرفي .
وجوابا على هذا الإيراد نقول : إن الوكالة هنا ليست عقدا منفردا معقودا بصورة مقصودة مباشرة ، وإنما حللنا إليها عقد التحويل الذي هو عقد مركب من إقراض وشرط ، وهذا الشرط ينحل إلى وكالة فهي وكالة مشروطة من جانب طالب التحويل ، فتكون وكالة تعلق بها حق الغير فلا يجوز رجوع الموكل فيها ولا الوكيل بعد القبول . ومن جهة أخرى يلحظ أيضا أن المصرف قد استوفى عمولة على هذه العملية فهي وكالة بأجر ، فلا يجوز الرجوع فيها .
ب- وإن لم يكن إعطاء الصك مسبوقا بدفع المبلغ المطلوب تحويله فلذلك حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون للطالب في المصرف حساب جار دائن .
1 - فإن كان المطلوب تحويل النقود إلى نقود من جنسها ، كدنانير كويتية إلى دنانير كويتية . فحينئذ يكون إعطاء الصك توكيلا من المصرف للطالب بقبض المبلغ في الصك ، ليستوفيه من الدين الذي له على المصرف وقد استغنى عن تقدير القرض ؛ لأن الدين السابق قام مقامه .
2 - وإن كان المطلوب التحويل إلى نقود من غير جنسها ، كدنانير كويتية إلى ليرات لبنانية أو غيرها كان طلب التحويل إيجاب مصارفة بين بعض النقود التي للطالب في حسابه الدائن لدى المصرف والمبلغ المطلوب من النقود الأخرى ، وكان تسليم الصك (الشيك) للطالب قبولا للمصارفة وتوكيلا من المصرف بالقبض قام مقام التقابض الواجب شرعا في مجلس عقد الصرف ؛ لأن هذا الصك (الشيك) عرفا في حكم النقد .
الحالة الثانية : ألا يكون للطالب في المصرف حساب دائن :
فإن كان يريد تحويل النقود إلى نقود من جنسها كان الطلب التماسا للتوكيل في القرض ، كأنه يقول للمصرف : ألتمس منك أن توكل المصرف الثاني في دفع مبلغ كذا إلي أو إلى فلان ليحتسب قرضا لك علي . وحينئذ يكون إعطاء الصك توكيلا للمصرف الثاني أن يدفع للشخص المعين في الصك المبلغ المبين مقداره فيه ، فإذا قام المصرف الثاني بالدفع إلى هذا الشخص صار هذا المصرف الثاني دائنا للمصرف الأول بالمبلغ ما لم يكن له- أي : للمصرف الأول- عنده حساب دائن ، ويصير المصرف الأول دائنا لطالب التحويل ما لم يكن قد قام بدفع المبلغ إليه قبل قيام المصرف الآخر بدفع ما في الصك .
وإن كان يريد تحويل النقود إلى نقود من غير جنسها- والمفروض أن طالب التحويل ليس له في المصرف حساب دائن ، ولم يدفع النقود في المجلس- فحينئذ يعد طلب التحويل التماسا للتوكيل بالقرض (كما سبق بيانه) أي : أن يقوم المصرف الأول بتوكيل المصرف الثاني في البلد الآخر بأن يدفع إلى الطالب (أو إلى من يعينه) المبلغ المطلوب من نقود ذلك البلد الآخر ، ليحتسب دينا على الطالب ، ويعتبر تسليم الصك إلى الطالب قبولا وتنفيذا للتوكيل بالإقراض ، فيصبح طالب التحويل مدينا للمصرف الأول بمبلغ الصك من نقود ذلك البلد متى تم قبضه هناك ، ثم حين يوفي للمصرف قيمته من نقود الجنس الآخر (النقود المحلية) يعتبر ذلك الوفاء مصارفة بين ما للمصرف في ذمته من النقود الأجنبية وما يوفيه الآن من النقود المحلية . ويتحقق بذلك شرط التقابض في بدلي الصرف ؛ لأن أحدهما في الذمة مقبوض ، والآخر يدفع الآن في مجلس الصرف .
الفرق الرابع والأخير بين السفتجة القديمة والتحويل المصرفي اليوم :
وهو أن المصرف يأخذ عمولة من طالب التحويل مع المبلغ المطلوب تحويله ولا يوجد هذا في عملية السفتجة القديمة التي تكلم عنها الفقهاء . فنقول في هذا الفرق : إن في هذه العمولة إشكالا بحسب الظاهر ، لا سيما إذا قلنا : إن العملية من قبيل القرض ، وقد نص بعض الفقهاء على أنه لا يجوز في القرض اشتراط يجر نفعا للمقترض ، كما لا يجوز اشتراط يجر نفعا للمقرض .
لكن شرط جر النفع للمقرض يعتبر ربا ، وشرط جر النفع للمقترض يعتبر
زيادة إرفاق من المقرض للمقترض ، فيكون وعدا حسنا " ولا يلزم تنفيذه اكتفاء بأصل الإرفاق .
على أن بعض الحنابلة (1) أجازوا في القرض اشتراط دفع المقترض أقل مما أخذ كما لو قال : أقرضك مائة دينار على أن تردها إلي تسعة وتسعين ، فيجوز ذلك ؛ لأنه زيادة إرفاق بالمقترض ، وقد التزمه المقرض فيلزمه ، وليس للإرفاق حد يجب الوقوف عنده ، ولا سيما أن هذا الشرط مضاد للربا ، ففي التزامه تأكيد التبري من الربا . فهذا القول عند الحنابلة جيد جدا ، ويسعف في تخريج العمولة عليه .
ثم إن بين المعاملات التي يقوم بها الأفراد والمعاملات التي تقوم بها المصارف فرقا شاسعا ، فالمقترض في السفتجة القديمة لا يقوم بعمل للمقرض ولا يتحمل مئونة ؛ لأنه إن كان مسافرا فهو مسافر لحاجة نفسه ، وغالبا ما يتجر في بلده أو في طريقه أو في البلد الذي يصل إليه ، وقد أصبح المال الذي اقترضه ملكا له ، فأرباحه كلها تخصه ، وما صنع شيئا للمقرض سوى كتابته الصك ، ثم توفية الدين له أو لصديقه مثلا .
أما المصرف الذي اعتبر مقترضا في عملية التحويل فيختلف عن المقترض في السفتجة ، فهو شخصية اعتبارية تجمع موظفين وعمالا يتقاضون رواتب شهرية غير مرتبطة بالعمل قلة وكثرة ، ويتخذ مقرا مجهزا بأثاث وأدوات وآلات كثيرة لاستقبال العملاء وقضاء حاجاتهم . ثم إن العملية ليست كتابة ورقة فحسب وإنما هي إجراءات كثيرة ، ذات كلفة
__________
(1) [الإنصاف] ، (5\ 133) .
مالية ، فلو لم يأخذ عمولة لما استطاع تغطية النفقات الطائلة التي ينفقها ، فاشتراط العمولة محقق للعدالة ومتفق مع أصل التشريع الإسلامي ، وليس هناك نص أو إجماع على منع مثل ذلك .
النتيجة
والنتيجة التي تستخلص من كل ما سبق من كلام عن التحويلات المصرفية اليوم هي : أن التحويل المصرفي أو البريدي عملية مركبة من معاملتين أو أكثر ، وهو عقد حديث ، بمعنى : أنه لم يجر العمل به على هذا الوجه المركب في العهود السابقة ، ولم يدل دليل على منعه ، فهو صحيح جائز شرعا من حيث أصله بقطع النظر عما يحيط به من مواد قانونية يجب لمعرفة حكمها استقصاؤها تفصيلا ودراستها للحكم فيها . اهـ (1) .__________
(1) [الموسوعة الفقهية الكويتية] ، (الحوالة) ص (229- 235) .
عمليات التظهير
الواقع أن للأوراق التجارية وظيفة أهلتها لأن تعطي التجارة الدولية قدرا ذا أثر محسوس في تيسير وتسهيل مشاكل التجارة وقدرتها على سرعة التحرك والمرونة وفق متطلبات الحياة ، فهي أداة للتداول مدة ما بين إنشائها وموعد وفائها .ويقول الدكتور أمين بدر في معرض تعداده القيم الذاتية للأوراق التجارية وتفضيلها على الحوالات المدنية ما نصه :
ونظرا لغلبة التداول على الورقة التجارية بدت الحوالة المدنية أسلوبا غير ملائم لانتقال الحق المصرفي ، إذ إن الحوالة تتطلب لنفاذها في حق
المدين والغير أوضاعا تنوء بها الحياة التجارية السريعة ، وهي بعد ذلك لا تقدم للحامل حماية كافية ، إذ تحمله خطر إعسار المدين ، إذ أن المحيل مسئول فقط عن وجود الحق لا عن الوفاء به ، وتجعل الحامل عرضة لكل أنواع المفاجآت . إذ يستطيع المدين الاحتجاج عليه بكل الدفوع التي يملك توجيهها للمحيل ، ولهذه الأسباب ابتدعت البيئة التجارية طرقا أخرى أبسط وأكمل لنقل الحقوق الثابتة في الأوراق التجارية ، وهذه الطرق هي التظهير (التجيير أو التدوير) بالنسبة للورقة الإذنية ، أي : الواجبة الدفع لإذن شخص معين والمناولة أو التسليم للورقة التي لحاملها . اهـ (1) وللتظهير أكثر من دافع فقد يكون من أجل نقل ملكية محتوى الورقة التجارية إلى المظهر إليه ، وقد يكون الغرض منه توكيل المظهر إليه بقبضه قيمتها أو رهنه إياها .
تعريف التظهير :
التظهير : بيان يكتبه حامل الورقة التجارية على ظهرها أو على وصلة مرفقة بها لينقل بمقتضاه بعض أو كل الحقوق التي ترتبها له الورقة إلى شخص آخر يسمى المظهر له (2) .
وينقسم التظهير ثلاثة أقسام : تظهير تام ، تظهير توكيلي ، تظهير تأميني .
أما التظهير التام : فهو أكثر التظهيرات شيوعا ، ويسمى التظهير الناقل للملكية ، وهو تظهير يرتب نقل ملكية حامل الورقة وكامل حقوقها الثابتة له
__________
(1) [لالتزام المصرفي] ، ص (55) .
(2) الموسوعة الفقهية الكويتية] ، (الحوالة) ص (238) ، [الالتزام المصرفي] ، للدكتور أمين بدر ص (55) ، [الأوراق التجارية في القانون العراقي] ، للدكتور علي العيدي ص (173) .
إلى المظهر إليه .
وله شروط أهمها : أن يكون المظهر ممن هو أهل للالتزام بالورقة التجارية ، وأن يكون له صفة معتبرة فيها ، وأن لا يكون التظهير معلقا على شرط ، وأن يكون كتابة على ذات الورقة نفسها أو على وصلة مرفقة بها ، وأن يذكر تاريخ التظهير وبيان وصول القيمة واسم المظهر إليه مصحوبا بعبارة ؟ لأمره أو لإذنه ، وتوقيع المظهر . وهناك شرط اشترطه بعضهم وهو أن يكون التظهير سابقا لميعاد الاستحقاق ، ووجه أصحاب هذا الرأي شرطهم بأن الورقة التجارية أداة معدة للتداول لفترة محددة بما بين إنشائها وميعاد وفائها ، أما بعد حلول أجل وفائها فقد انتهت حياتها كورقة تجارية قابلة للتداول ، وأصبحت مجرد سند بدين واجب الوفاء ، وقد كان هذا الشرط موضع نقاش في مؤتمر جنيف ، انتهى الأمر به إلى النص في قانونه الموحد بعدم اشتراط ذلك الشرط ، وقد أخذ بعدم اعتباره مجموعة من النظم العربية ، منها سوريا ، والعراق ، ولبنان ، وليبيا ، ومشروع الجامعة العربية .
وقد وجه الدكتور أمين بدر اشتراط أن يكون التظهير على ذات الورقة التجارية أو على وصلة منها بأن الورقة التجارية يجب أن تعلن عن نفسها مدى ما ترتبه من حقوق وما تفرضه من التزامات حتى يكون المتعاملون بها على بينة من أمرهم فلا يؤخذون بالمفاجأة (1) .
__________
(1) [الالتزام المصرفي في قوانين البلاد العربية] ، ص (56- 59) للدكتور أمين بدر ، [الأوراق التجارية في القانون العراقي] ، (1\ 185- 190) للدكتور علي العيدي .
آثار التظهير التام
يرتب التظهير التام آثارا حقوقية تتلخص فيما يلي :1 - نقل ملكية الورقة التجارية إلى المظهر إليه .
2 - اعتبار المظهر ضامنا وفاء الورقة التجارية مع الساحب أو المحرر ومع سائر الموقعين فيها ، وإن كانت الورقة التجارية موضوع التظهير كمبيالة ضمن المظهر قبولها من قبل المسحوب عليه ، فضلا عن ضمانه سدادها في ميعاد الاستحقاق .
3 - إذا كان المظهر إليه حسن النية فلا يجوز الاحتجاج عليه بأي دفع يمكن للمدين توجيهه إلى كل متعامل بالورقة التجارية ، وهذا ما يسمى بالتظهير من الدفوع ، والمقصود بحسن النية من لم يكن متواطأ مع المظهر وعالما بالدفوع التي يملك المدين توجيهها للمظهر أو غيره لقصد الإضرار بالمدين .
وقد وجه الدكتور أمين بدر فكرة تظهير المظهر إليه من الدفوع فقال :
وبيان ذلك : أن هذه الأوراق معدة للتداول السريع بين أشخاص متعددين وأماكن مختلفة ، فلو جاز للمدين والحال هذه أن يفاجئ الحامل بما يجهله من الدفوع أو أوجه الدفاع المستمدة من علاقة هذا المدين بأحد المتعاملين الآخرين لتعين على كل راغب في تملك الورقة التجارية أن يستقصي مقدما العلاقات القانونية التي تربط المدين بالمتعاملين السابقين ، وهو بحث مضن يكلفه وقتا ويقتضيه جهدا تنوء بهما الحياة التجارية السريعة ، وهو بعد ذلك بحث غير مأمون العاقبة ، ومن شأنه ترغيب الغير
عن التعامل بالورقة التجارية وتعطيل وظائفها الاقتصادية . اهـ (1) .
4 - تملك الحامل مقابل الوفاء الموجود لدى المسحوب عليه بحيث ينفرد به دون سائر الغرماء إذا أفلس الساحب (2) .
والتظهير التوكيلي تظهير يقصد به المظهر أن يكون المظهر إليه وكيلا له في تحصيل قيمة الورقة المظهرة ، ويشترط له النص صراحة على أن التظهير للتحصيل أو التوكيل أو للقبض أو ما يدل على ذلك ، حيث نصت المادة (18) من قانون جنيف الموحد على أنه إذا اشتمل التظهير على عبارة (القيمة للتحصيل) أو (القيمة للقبض) أو (بالتوكيل) أو أي بيان آخر يفيد التوكيل ، فللحامل مباشرة جميع الحقوق المترتبة على الكمبيالة ، إنما لا يجوز له تظهيرها إلا على سبيل التوكيل . اهـ .
أما إذا خلا التظهير مما يدل على أنه للتوكيل ، فإن قانون جنيف الموحد وكذلك القوانين الناقلة عنه تعتبر تظهيرا تاما ناقلا لكامل الملكية .
__________
(1) [الالتزام المصرفي] ، ص (61) .
(2) [الموسوعة الفقهية الكويتية] ، (الحوالة) ص (239) ، [الالتزام المصرفي ، للدكتور أمين بدر ص (58- 66) ، [الأوراق التجارية في القانون العراقي] ، ص (212- 257) للدكتور علي العيدي .
آثار التظهير التوكيلي
حيث إن التظهير التوكيلي تعتبر حقيقته وكالة فإن الآثار المترتبة على التظهير التام لا تثبت للتظهير التوكيلي ، وإنما يثبت له جميع الحقوق والأحكام المتعلقة بالوكالة ، فيلتزم المظهر إليه برعاية مصالح المظهر فيما يتعلق باستيفاء قيمة الورقة في ميعاد استحقاقها ، فإن اقتنع المدين بها عنالوفاء كان عليه واجب المطالبة بذلك ، كما أن للمدين حق الاحتجاج على المظهر بالدفوع التي يملك توجيهها إلى المظهر إليه ؟ لكونه وكيلا له في التحصيل ، ولا يجوز للمظهر إليه تظهيرا توكيليا أن يظهر الورقة التجارية إلا بمثل ذلك (1) .
__________
(1) [الالتزام المصرفي] ، ص (66- 70) للدكتور أمين بدر ، [الأوراق التجارية في القانون العراقي] ، ص (258- 266) للدكتور علي العيدي ، [الموسوعة الفقهية] ، ص (238) .
التظهير التأميني
قد لا يكون للمظهر بتظهيره الورقة التجارية قصد في نقل ملكيتها إلى المظهر إليه ولا توكيله في تحصيل قيمتها ، وإنما يقصد بذلك رهنها للمظهر إليه ضمانا لحق عليه قبل المظهر إليه ، ويسميه بعضهم الرهن التوثيقي .ويشترط للتظهير التأميني ما يشترط للتظهير التام ، وأن يذكر في التظهير أن القيمة رهن أو ضمان أو أي عبارة أخرى تدل على ذلك ، وإلى هذا تشير المادة التاسعة من قانون جنيف الموحد في أنه إذا اشتمل التظهير على عبارة (القيمة ضمان) أو (القيمة رهن) أو أي بيان آخر يفيد الرهن جاز لحامل الكمبيالة مباشرة جميع الحقوق المترتبة عليها . اهـ .
وكذلك نصت المادة السادسة والثمانون من قانون التجارة المصري في فقرتها الثانية على أن (الأوراق المتداول بيعها يثبت رهنها أيضا بتحويلها تحويلا مستوفيا للشرائط المقررة قانونا ومذكورا فيه أن تلك الأوراق سلمت بصفة رهن) اهـ .
آثار التظهير التأميني
نظرا إلى أن التظهير التأميني يشترط له ما يشترط للتظهير الكامل - ويقصد به ضمان حق المظهر إليه قبل المظهر- فقد أخذ آثارا خليطة من أحكام الرهن والملك المطلق ، فبالنسبة لآثار التظهير التأميني من حيث اعتباره رهنا فإن المظهر إليه ملتزم بحقوق ومستلزمات المطالبة بسدادها إذا حل ميعاد استحقاقها ، فإن قبضها بعد ذلك وبعد حلول أجل حقه أخذ من قيمتها ما يستحقه ورد الباقي إلى المظهر ، وإن قبضها قبل حلول أجل حقه استبقاها لديه حتى يحل أجل حقه ، واستوفى حقه منها ، وفي هذه الفترة يلتزم بالفوائد الربوية للمظهر مقابل حيازته قيمة الورقة .وقد اختلف رجال الاقتصاد والقانون : هل يحق للمظهر إليه نقل ملكية الورقة التجارية في سبيل تحصيل قيمتها ؟ فذهب بعضهم إلى أن طبيعة التظهير التأميني تمنع ذلك ، وذهب البعض الآخر إلى جوازه ؛ لأن مصلحة الطرفين قد تقتضي ذلك على أن تظهيره لا يتجاوز سلطته في ذلك ، بمعنى أن التظهير مهما تعدد فهو لا يعدو أن يكون تظهيرا توكيليا ، وقد اختار قانون جنيف الموحد الرأي القائل بجواز ذلك ، فقد نصت المادة 19 : على أن للمظهر إليه تأمينا أن يباشر جميع الحقوق على الورقة- ثم أضافت : فإن ظهرها عد التظهير حاصلا على وجه التوكيل . اهـ .
وأما بالنسبة لآثار التظهير الكامل الثابتة للمظهر إليه تظهيرا تأمينيا فتتضح من أنه يعتبر مالكا للورقة التجارية بحيث يستفيد من قاعدة التظهير من الدفوع ، بحيث لا يجوز للمدين بالورقة أن يحتج عليه بأي دفع يملك
توجيهه للمظهر (1) .
__________
(1) [الالتزام المصرفي في قوانين البلاد العربية] ، ص (70- 75) ، [الموسوعة الفقهية الكويتية] ، ص (238) ، [الأوراق التجارية في القانون العراقي] ، ص (267- 275)
الوصف الإسلامي للتظهير
: الواقع أن الموسوعة الفقهية الكويتية- قسم الحوالة- عالجت موضوع التظهير وقربت بينه وبين مواضيعه التي بحثها الفقهاء المسلمون في الحوالة والوكالة والرهن .ونظرا لقيمة البحث فقد استحسنت اللجنة نقله بكامله وفيما يلي نصه :
الوصف الفقهي الإسلامي للتظهير :
يلزم التفريق هنا بين حالتين :
1 - حالة الورقة التجارية (1) المحررة للأمر أو الإذن إذا فقدت صفتها التجارية وصارت سندا عاديا (2) ، أي : مجرد وثيقة بدين لحاملها على ساحبها أو محررها ، فأصبحت لا تقبل التظهير قانونا ، ففي هذه الحالة يكون تظهيرها لشخص آخر حوالة عادية بالمعنى الشرعي ، نظرا إلى
__________
(1) من المعروف أن الفقه الإسلامي لم يميز في الديون والأوراق والحوالات بين ما هو تجاري ومدني ، فهذا التمييز أحدثته القوانين الحديثة تحقيقا لسرعة الحركة التجارية ، وإن كانت أصول الشريعة قد نصت في آية المداينة على هذا التمييز ورتبت عليه فروقا من حيث الإثبات تسهيلا للتعامل ، ولكن الفقه لم يتطور بهذه النظرية التطور اللازم ، عبد القادر عودة في [التشريع الجنائي الإسلامي ] ، (1\ 58) .
(2) السند التجاري الإذني (لا الاسمي) هو الذي يقبل التظهير عند القانونيين ، أما غيره فلا يكفي تظهيره لتحويله عندهم ، بل لا بد من قبول المحال عليه أو تبليغه (علي حسن 102) والفقه الإسلامي لا يفرق هذه التفرقة ، فالتظهير كاف للحوالة بكل حال- ما دام هذا مقصود المتعاقدين بالتظهير- عند من لا يشترط قبول المحال عليه المدين وهم الأكثرون .
أن العبرة في العقود بما يدل على معانيها دون تقيد بعبارات خاصة ، هذا إذا كان المظهر إليه دائنا للمظهر ، فإن لم يكن دائنا فالتظهير توكيل له بتقاضي الدين على أن يتملكه قرضا .
2 - حالة الورقة التجارية المحتفظة بصفتها التجارية ، فإن تظهيرها لشخص آخر يكون حوالة بالمعنى الشرعي ، ولو شرط المظهر انتفاء ضمانه للدين المحال به أو لم تتوافر فيه شرائط التظهير قانونا .
ذلك أن المحيل غير ضامن أصلا للوفاء بهذا الدين شرعا في معظم مذاهب الفقه الإسلامي ، وأن ضمانه تلقائي لهذا الوفاء في مذاهب أخرى إنما هو عند التوي ، أي : العجز عن وصول المحال إلى حقه ، إما مطلقا ، وإما بأسباب معينة ، وليس هو بكل حال ضمانا على هذا النحو المطلق المقرر للتظهير القانوني في سند الأمر التجاري ، بحيث يكون للحامل الرجوع على المظهر لمجرد عدم الوفاء في ميعاد الاستحقاق ، دون أن يكلفه ذلك أكثر من إجراءات شكلية بسيطة ، وقد ينص في الورقة التجارية نفسها على شرط الرجوع دون حاجة إلى تلك الإجراءات الشكلية فيعفى حينئذ منها (هذا كله إذا كان المظهر إليه دائنا ، وإلا كان التظهير توكيلا كما مر قريبا .
أما مع التصريح بالضمان فإن المعاملة تكون كفالة ، وأن اشتراط تقديم الكفيل- المفهوم عرفا في هذا النوع من التعامل- مستقيم على أصول المالكية ، لكن عندهم لا يكون الرجوع على الأصيل- مع هذا الشرط- إلا بعد تعذر الاستيفاء من الكفيل ، لا بمجرد عدم الوفاء في ميعاد الاستحقاق إلا أن يعتبر ذلك أيضا كالمتشارط عليه ، وهو مقتضى الأوضاع المعمول
بها في هذه المعاملة ، فالعرف مغن حتى عن التصريح بالضمان .
ومن الواضح - وفق أصول فقهائنا- أن التظهير حوالة صحيحة بالقيود التي أسلفناها ، ولكن اشتراط قبول المحرر (الموقع) في سند الأمر ، أو المسحوب عليه في السفتجة والشيك يبدو محل نظر واختلاف ، فمن اشترط قبول المحال عليه- كالحنفية - يجعل رفض المحرر أو المسحوب عليه قبول الورقة التجارية حائلا دون صحة الحوالة نفسها لا دون مسئوليات الالتزام المصرفي فحسب ، ومن لم يشترط قبوله- كالشافعية - يحكم دونه بصحة الحوالة ولزومها ولا مزيد .
أما تتابع التظهيرات فمن قبيل تراكب الحوالات أو الوكالات أو الكفالات الذي هو من مسلمات الفقه الإسلامي ، وفقهاؤنا يوافقون على تقديم الحامل للورقة المظهرة إليه (المحال) على سائر الغرماء إلا إذا كان الدين في ذمة المحال عليه قد سقط تعلق الحوالة به ، فإن الحامل (المحال) حينئذ يكون أسوة الغرماء ، وهذا منصوص عليه- من بعض وجهات النظر- في حال موت المحيل حوالة مقيدة قبل الوفاء (ر : ف\ 274) ، أما التضامن بين الموقعين على الورقة التجارية فما دام ذلك قد أصبح عرفا سائدا فإن كل تظهير يكون ضمانا للمظهر إليه ، وفي الوقت نفسه توكيلا له من المظهر في أن يضمن الدين عنه للمظهر إليه التالي بحيث يكون كل مظهر ضامنا أصيلا ووكيلا في الضمان عن جميع الموقعين قبله على الورقة ، وهكذا توقيع الساحب ، هذا على رأي من لا يصححون الضمان قبل الوجوب وإلا فالمسألة أوضح من أن يتكلف لها مثل هذا .
هذا وقد يلاحظ أن توقيت الرجوع على الضمان لا يتفق مع الأصول
الفقهية في الحوالة ، لكن يجوز للحاكم التوقيت للمصلحة العامة (1) .
وأما التظهير من الدفوع فقد مثله بعضهم قائلا : وعلى ذلك إذا كان التزام الساحب تجاه المستفيد الأول قد نشأ باطلا أو قد انقضى ثم قام المستفيد بتظهير الشيك (أو الورقة التجارية أيا كانت) تظهيرا تاما إلى الحامل حسن النية وقام هذا بمطالبة الساحب فإنه يمتنع على الساحب أن يحاج الحامل ببطلان التزامه ، ولا ينازع أكثر فقهائنا في عدم صحة الدفع بانقضاء الالتزام مع تعلق حق ثالث (2) ، ولكنهم يصححون الدفع بأن الالتزام قد نشأ باطلا ؛ لأن الدين هنا لم يكن قائما فقط بخلافه في الحالة الأولى ، ومع صحة هذا الدفع شرعا في وجه الحامل حسن النية يجوز للحاكم أن يمنع سماع الدفع في حق الحامل مطلقا إذا كان في هذا المنع مصلحة عامة ، وقد قالوا : يجوز للحاكم أن يقيد القضاء ويعلقه بالشرط والإضافة والاستثناء ، ولا غرو فإنهم في التشريع التجاري المصري جعلوا للمدين التمسك بعدة دفوع كالتزوير وكشرط عدم الضمان في نص الورقة وكعدم استيفاء البيانات اللازمة لاعتبارها ورقة تجارية ، وكالمقاصة بين ديني المدين والحامل ، وكلها دفوع معتبرة شرعا ولفقهاء المذاهب نصوص تدعمها عدا الدفع باستيفاء البيانات اللازمة لتجارية الورقة ، وإن
__________
(1) يؤخذ هذا من قول صاحب [الدر المختار] ، : لو أمر السلطان بعدم سماع الدعوى بعد خمس عشرة سنة فسمعها القاضي لم ينفذ [الدر المختار بحاشية ابن عابدين] ، (4\ 342) .
(2) من الأمثلة التطبيقية الموضحة لذلك : أن المستفيد الأول إذا كان بائعا محالا بالثمن ثم سقط استحقاقه لرد السلعة بالعيب يكون للساحب حق الدفع بانقضاء التزامه تجاهه لاتجاه المستفيد الثاني أو أي مستفيد آخر انتقلت الورقة إليه بالتظهير لتعلق حق الغير .
كان لا ينوب عمن له الدفع إصالة غيره من سائر الموقعين إلا في حالة غيبة أو بطريق من طرق النيابة الشرعية .
على أن استثناء الدفع باستيفاء هذه البيانات إنما هو بالنظر لأصل الشرع ؛ لأن هذه البيانات اللازمة قانونا هي ترتيبات زمنية جديدة ليس لها ذكر في نصوص الشريعة أو الفقه ، ولكن لا يخفى أنه يجوز للحاكم أن يشترط في سماع الدعوى بصحة العقود تقييد هذه العقود بالكتابة على شكل خاص ، ويترتب عليه قبول الدفع بعدم استيفاء البيانات اللازمة لصحة الورقة . لكن هذا لا يجيز للإنسان فيما بينه وبين الله تعالى أن يأكل حق صاحبه الثابت ، وإن لم يحكم في القضاء له به ، وبالجملة فالحوالة بتظهير الورقة التجارية هي كأية حوالة أخرى ، وهذه الدفوع فيها هي دفوع مقبولة في النظر الإسلامي : فمبدأ التظهير هنا غير وارد بالنظر لأصل الشرع ، وإن كان مقبولا بالنظر إلى تقييد ولي الأمر .
ثم إن المواضع التي قلنا فيها : إن التظهير يعتبر حوالة شرعية إنما يكون التظهير فيها كذلك حينما يكون- المسحوب عليه مدينا للساحب ، فإن لم يكن مدينا له بالدين الذي تثبته الورقة التجارية (ويتصور هذا في السفتجة والشيك) فإن التظهير لا يمكن اعتباره عقد حوالة إلا عند من لا يشترط مديونية المحال عليه للمحيل من فقهائنا . وقد يكتفى بوجود عين للساحب لدى المسحوب عليه ، كالوديعة ، إن كان هذا هو الواقع ، وكان الوفاء مقيدا بتلك العين (برغم اشتراط القانونيين على الراجح أن يكون دين الورقة التجارية دينا نقديا)- ولكن لا بد عند فقهائنا هؤلاء حينئذ من قبول المحال عليه .
أما عند من يشترطون من الفقهاء مديونية المحال عليه فليس التظهير دون هذه المديونية- إلا تمهيدا لعقد كفالة لا تنعقد إلا بقبول الكفيل وهو المسحوب عليه هنا . اهـ- [الموسوعة الفقهية] ، ص (239- 241) .
تحصيل الأوراق التجارية
الواقع أن للأوراق التجارية أهمية كبرى في سبيل تيسير التجارة والقدرة بها على التحرك والضرب في الأسواق التجارية العالمية بصفقات كبيرة . وبالطبع فإن الافتراض قائم في أن غالب التجار يملكون مجموعة كبيرة من الأوراق التجارية ما بين شيك وسفتجة وسند . ونظرا إلى أن الورقة التجارية لها أحكام تقتضي الاهتمام بها والتقيد بأنظمتها وإلا ترتب على إهمالها ضياع حقوق تتعلق بها ويتضرر التاجر بضياعها . ونظرا إلى أن التاجر بحكم مشاغله في الأسواق التجارية وما يستلزم لذلك من قيود سجلات وخطابات ما بين إنشائية وجوابية واتصالات مباشرة وغير مباشرة فهو يجد نفسه في وقت يلح عليه بالبحث عمن يقوم بتحصيل قيم هذه الأوراق ، وحيث إن المصارف محصور نشاطها في العمليات المصرفية لذلك عمد التجار إلى تكليف البنوك التي يتعاملون معها بتحصيل قيم هذه الأوراق لهم عند حلول أجلها بعمولة يجري الاتفاق على تحديدها ، فيقوم التاجر بتظهير الورقة التجارية إلى البنك الذي يختاره تظهير توكيليا ، ويختلف مقدار العمولة التي طلبها البنك لقاء قيامه بالتحصيل تبعا لاختلاف قيمة الورقة التجارية وأجل وفائها ومحله وغير ذلك من الاعتبارات .ويعتبر رجال المال والاقتصاد التكليف بالتحصيل وكالة ترتب على
طرفيها التزامات وحقوق لأحدهما قبل الآخر . فمتى انعقدت الوكالة بالتحصيل بتظهيرها للبنك تظهيرا توكيليا كان على البنك واجب المطالبة بقيمة الورقة في موعدها المحدد لتسديدها وإخبار عميلة بجميع ما يطرأ على عملية التسديد مما قد يؤثر على حصوله في موعده المحدد ، فإن لم يفعل أو حصل منه تساهل في ذلك حتى أضاع حق صاحب الورقة التجارية في الرجوع على ضامني الورقة كان مسئولا عن ذلك بقدر ما يضيع على عميله صاحب الورقة ، وما يتحمله من المصاريف في سبيل التداعي والمرافعة . فإذا استحصل البنك قيمة الورقة كان عليه أن يرسل المبلغ المستحصل إلى صاحبه . وعلى مالك الورقة أن يدفع للبنك عمولته التي جرى الاتفاق عليها بينهما مع المصاريف المتعلقة بالتحصيل ، وإذا أفلس البنك والورقة التجارية لم تستحصل بعد حيث لا تزال في حوزة البنك ، فإن لمالكها حق التقدم بالمطالبة بإعادتها إليه .
أما إن كان قد تسلم قيمتها ثم أفلس فتعتبر دينا لمالكها عليه ، ويكون صاحب الورقة أسوة الغرماء .
وقد يتساهل البنك مع عميله فيسلفه قيمة الورقة قبل استحصاله قيمتها ، فإذا أفلس العميل فإن على البنك أن يرد الورقة إلى هيئة التصفية ، ويكون دينه أسوة الغرماء ، وتفاديا لمثل ذلك فإن للبنك في حال طلب عميله إقراضه القيمة حتى حلول أجل استحقاق الورقة أن يطلب من عميله تظهيره الورقة تظهيرا كاملا ، بحيث تنتقل كامل ملكيتها إليه أو أن يظهرها العميل إليه تظهيرا تأمينيا لتكون قيمتها رهنا له في حقه ، وفي هذه الأحوال يعتبر حق البنك مقدما على غيره من الغرماء : إما باعتباره مالكا لقيمة الورقة
التجارية أو مرتهنا إياها (1) .
__________
(1) العقود التجارية وعمليات المصارف ، ص (550- 553) أدوار عيد . [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] ، ص (590- 596) للدكتور محمد عوض . [ العقود وعمليات البنوك التجارية ، ص (401 ، 402) للدكتور علي البارودي .
التكييف الفقهي الإسلامي لعمليات التحصيل
مر بنا أن من لازم التحصيل أن يقوم مالك الورقة التجارية بتظهيرها للمصرف الذي يكلفه بتحصيلها إذا كانت واجبة الدفع كالشيك أو مؤجلا دفعها إلى وقت معين كالسند والكمبيالة تظهيرا توكيليا ، وأنه في حال إفلاس المصرف والورقة التجارية لم تستحصل قيمتها بعد فإن على المصرف أن يعيد الورقة إلى صاحبها ، وإذا تسلم البنك قيمتها ثم أفلس اعتبرت القيمة دينا عليه ، ويكون مالكها الدائن أسوة الغرماء . كما مر بنا أن رجال المال والاقتصاد لا يختلفون على أنفسهم بأن عملية التحصيل تعتبر عقد وكالة يترتب عليه كل ما تستلزمه الوكالة من حقوق وواجبات . وحيث إن خصائص التحصيل تكاد تجتمع مع خصائص الوكالة ، لذلك يمكن القول بأن التكليف بالتحصيل يعتبر وكالة ، والعمولة عليه تعتبر أجرة على الوكالة ، وفي حال ما إذا كان البنك قد أسلف عميله مالك الورقة التجارية على اعتبار سداد القرض من قيمة الورقة بعد تحصيلها وأن عميله ظهرها له تظهيرا كاملا ، فيمكن القول بأن عملية التحصيل في هذه الحال ليست كعملية التحصيل في حال تظهير الورقة تظهيرا توكيليا ، وإنما يعتبر التظهير عليها حوالة لها جميع الحقوق الثابتة للتظهيرات الكاملة ، ويعتبر المظهر بحكم بقاء مسئوليته عن التسديد ضامنا للبنك تسديد قيمة الورقة منالمسحوبة عليه ، وقد سبق إيراد ما ذكرته الموسوعة الفقهية الكويتية من الوصف الفقهي لعمليات التظهير الكامل . أما إن كان التظهير عليها تظهر تأمينيا فلا يختلف الأمر بالنسبة لاعتبار البنك وكيلا لعميله في تحصيل قيمة الورقة التجارية ، وتعتبر الورقة رهنا للبنك فيما أسلفه للعميل له حق التقديم على الغرماء في حال الإفلاس بقدر قيمة الورقة ، وما زاد عليها كان البنك فيه أسوة الغرماء .
عمليات الخصم :
الخصم عملية من العمليات المصرفية له طابع الائتمان من حيث البنك يعجل لعميله مالا حالا في نظير تملكه مالا أكثر منه غير حال ثقة باسترداد ذلك المال المؤجل في وقته المحدد .
وللخصم مزايا كثيرة أهمها : تمكن حامل الورقة من قبض قيمتها قبل حلول أجلها ، كما أنه يتمكن من استعمالها في تسوية معاملاته التجارية في حين أن البنك يستطيع عن طريق مزاولة
عمليات الخصم
أن يجتذب مجموعة كبيرة من العملاء يزاول معهم غالب عملياته المصرفية ، وقد يجد البنك مصرفا آخر يخصم له ما يخصمه لغيره بأجرة أقل مما أخذها على الغير إلى غير ذلك من فوائد الخصم .وقد اختلف علماء الاقتصاد والتجارة في تعريف الخصم لاختلافهم في ترتيب الآثار المتعلقة به .
ولعل أشمل تعريف له ما نقله الدكتور محمد جمال الدين عوض عن الأستاذ فان مال ، حيث عرفه بأنه :
عقد به يقدم شخص- هو غالبا بنك- نقدا لمالك حق نقدي لم يحل قيمة
هذا الحق بعد خصم مبلغ يعوضه عن حرمانه من نقوده عن المدة الباقية حتى حلول الأجل ، على أنه إذا لم يدفع الحق كان على مقدم الورقة أن يرد للبنك المبلغ الذي عجله إليه مضافا إليه المبالغ التي اقتطعت ، وأن على الخاصم أن يطالب بوفاء الحق عند حلول أجله . وإلا سقط حقه في الرجوع على مقدم الورقة للخصم إلا إذا أثبت أن عدم وفاء الحق ليس نتيجة تأخره في المطالبة أو أن هذا التأخير ليس منسوبا إليه . اهـ (1) .
وغني عن البيان أن أهم ما يقصده البنك من عمليات الخصم هي الحصول على أجوره وفوائده .
ويذكر الأستاذ علي البارودي : أن أجر البنك يتكون من ثلاثة عناصر :
الأول : مقدار الفوائد المستحقة عن قيمة الورقة التجارية في الفترة من ميعاد عملية الخصم وميعاد الاستحقاق ، وتسمى هذه الفائدة سعر الخصم ويتراوح بين الصعود والهبوط تبعا للظروف الاقتصادية المختلفة . ولا يجوز على أي حال أن يتجاوز سعر الخصم الحد الأقصى للفائدة الاتفاقية 7% .
العنصر الثاني : هو العمولة التي يتقاضاها عن العملية ويقدرها حسب قيمة الكمبيالة المخصوصة والأجل الباقي حتى ميعاد الاستحقاق وقدر المخاطرة التي يتعرض لها البنك .
أما العنصر الثالث : فهو مصاريف التحصيل ، وتختلف باختلاف مكان الوفاء أو مكان المسحوب عليه . اهـ . (2) .
__________
(1) انظر [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] ، ص (468 ، 469) .
(2) انظر [العقود وعمليات البنوك التجارية] ، ص (397) .
وقد اختلف علماء الاقتصاد في التكييف القانوني لعملية الخصم : فذهب بعضهم إلى القول بأن الخصم عبارة عن قرض مضمون بقيمة الورقة التجارية . ورد هذا القول بأن التظهير الواجب لعملية الخصم ينبغي أن يكون تظهيرا كاملا ناقلا للملكية ، ولو كان على سبيل الضمان لكان التظهير تظهيرا تأمينيا . وذهب البعض الآخر إلى أن عملية الخصم عبارة عن بيع العميل ورقته التجارية بأقل من قيمتها مقابل تعجيل البنك المشتري دفع قيمتها وتظهيرها له تظهيرا كاملا . ولعل هذا الرأي أقرب إلى واقع الأمر ، وإلى نحو هذا يشير الأستاذ محمد جمال الدين عوض فيقول : فالخصم أساسا قريب جدا من فكرة الشراء . أي : تبادل قيمتين ، فالعميل يتملك النقود والبنك يتملك الورقة ، وليس في ذلك خلاف . اهـ (1) .
وذهب الأستاذان علي البارودي وأدوار عيد إلى القول : بأن عملية الخصم لا تعدو أن تكون تظهيرا ناقلا للملكية بحكم شروطه وآثاره وقواعد قانون الصرف ، وأنه لا حاجة إلى بيان سبب التظهير هل هو حوالة أو قرض ؛ لأنه يكفي أن يكون السبب موجودا وهو أن القيمة وصلت ، وأن تكون بيانات التظهير الناقل للملكية كاملة .
__________
(1) انظر [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] ص (476) .
الوصف الفقهي الإسلامي لعمليات الخصم
لئن وجد الخلاف في تكييف طبيعة عملية الخصم قانونيا : هل هو قرض أو حوالة بحق أو بيع ؟ فإن الجميع متفقون على أن نتيجة الخصم هو تملك الخاصم لكامل قيمة الورقة التجارية بعد تظهيرها له تظهيرا كاملا .وعلى أي الحال فإن المسحوب عليه لا يخلو إما أن يكون هو القائم بعملية الخصم أو لا ، فإن كان هو القائم بعملية الخصم فيمكن القول بأن الخصم يعتبر من قبيل الصلح عن المؤجل ببعضه حالا .
وقد اختلف الفقهاء في حكمه :
فذهب بعضهم إلى أن ذلك غير جائز ، لأن الصلح في معنى البيع فكأنه باع عشرة بثمانية مثلا ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التفاضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة ، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منهما غائبا بناجز » (1) متفق عليه .
وقال ابن حجر على حديث ابن أبي حدرد في باب الصلح بالدين والعين : قال ابن بطال : اتفق العلماء على أنه إن صالح غريمه عن دراهم بدراهم أقل منها جاز إذا حل الأجل ، فإذا لم يحل الأجل لم يجز أن يحط عنه شيئا قبل أن يقبضه مكانه . اهـ (2) .
وذهب بعض أهل العلم : إلى جواز ذلك لما فيه من الإسراع ببراءة الذمة . قال في الاختيارات الفقهية : ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالا ، وهو رواية عن أحمد ، وحكي قولا للشافعي . اهـ (3) .
وسئل الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن الصلح عن
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2067,2068),صحيح مسلم المساقاة (1584),سنن الترمذي البيوع (1241),سنن النسائي البيوع (4565,4581),مسند أحمد بن حنبل (3/51).
(2) [فتح الباري] ، (5\ 311) .
(3) [الاختيارات الفقهية] ، ص (134) .
المؤجل ببعضه حالا ؟
فأجاب : وأما الصلح عن المؤجل ببعضه حالا فالذي يظهر لي الصحة . وأجاب أيضا : إذا كان لرجل على آخر عشرة أريل مثلا ، وأراد أن يعجل له بخمسة ويترك الباقي ، ففيه خلاف مشهور بين العلماء ، قال في الإنصاف : ولو صالح عن المؤجل ببعضه حالا لم يصح ، هذا هو المذهب ، نقله الجماعة عن أحمد ، وعليه جماهير الأصحاب ، وفي الإرشاد والمبهج رواية يصح ، واختاره الشيخ تقي الدين لبراءة الذمة هنا ، وكدين الكتابة جزم به الأصحاب في دين الكتابة ، ونقله ابن منصور ، انتهى . والذي يترجح عندي هو القول الأخير ، وهو الذي اختاره الشيخ تقي الدين قدس الله روحه . اهـ .
وسئل بعضهم : عمن له ريالان عند رجل نسيئة وأخذ ريالا ونصفا ؟ فأجاب : الأئمة الأربعة لا يجوزونه ، وأفتى لنا عيال الشيخ بالجواز ، وهو الذي نعمل به الآن . اهـ (1) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي إجابة على سؤال عن ذلك :
الصحيح جواز الصلح عن الدين المؤجل ببعضه حالا ؛ لأن فيه إسراع براءة الذمة ولا محذور فيه ، وقصة بني النضير تدل عليه ، وكثيرا ما تدعو الحاجة إليه . اهـ (2) .
أما إذا كان الخاصم غير المسحوب عليه فلا نعلم خلافا بين أهل العلم
__________
(1) [الدرر السنية] ، (5\ 138) .
(2) [الفتاوى السعدية] ، ص (336) .
في منع ذلك واعتباره من صريح الربا ، لأنه من قبيل بيع دراهم بدراهم أقل منها ، فضلا عن أنه لم يتم التقابض بين طرفي العقد في مجلسه .
وللأستاذ محمد باقر الصدر رأي في وصف عملية الخصم نستحسن إيراده إكمالا للفائدة، فهو يقول :
وواضح أن عملية خصم الورقة التجارية هي في الواقع تقديم قرض من البنك إلى المستفيد لتلك الكمبيالة مثلا مع تحويل المستفيد البنك الدائن على محرر الكمبيالة ، وهذا التحويل من الحوالة على مدين . وهناك عنصر ثالث إلى جانب القرض والتحويل ، وهو تعهد المستفيد الذي خصم الورقة لدى البنك بوفاء محرر الورقة عند حلول أجلها ، فبحكم القرض يصبح المستفيد مالكا للمبلغ الذي خصم البنك به الكمبيالة ، وبحكم الحوالة يصبح البنك دائنا لمحرر تلك الكمبيالة ، وبحكم تعهد المستفيد بالوفاء يحق للبنك أن يطالب بتسديد قيمة الكمبيالة إذا تخلف محررها عن ذلك عند حلول موعدها ، وبحكم كون المحرر مدينا للبنك نتيجة للتحويل يتقاضى البنك منه فوائد على تأخير الدفع عن موعده المحدد ، وعلى هذا الأساس يصبح ما يقتطعه البنك الخاصم للكمبيالة من قيمة الكمبيالة لقاء الأجل الباقي لموعد حلول الدفع ممثلا للفائدة التي يتقاضاها على تقديم القرض إلى المستفيد الطالب للخصم وهو محرم ؛ لأنه ربا . وأما ما يقتطعه كعمولة لقاء الخدمة أو لقاء تحصيل المبلغ إذا كان يدفع في مكان آخر فهو جائز ؛ لأن العمولة لقاء الخدمة هي أجرة كتابة الدين التي تقدم أن بإمكان البنك أن يتقاضاها في كل قرض يقدمه ، وأما العمولة لقاء تحصيل المبلغ في مكان آخر فهو من حق البنك أيضا . - إلى أن قال- : وهناك اتجاه فقهي
إلى تكييف عملية خصم الكمبيالة على أساس البيع ، وذلك بافتراض أن المستفيد الذي تقدم إلى البنك طالبا خصم الورقة يبيع الدين الذي تمثله الورقة وهو مثلا مائة دينار- بخمسة وتسعين دينارا حاضرة ، فيملك البنك بموجب هذا البيع الدين الذي كان المستفيد يملكه في ذمة محرر الكمبيالة لقاء الثمن الذي يدفعه فعلا إليه ، فيكون من بيع الدين بأقل منه . . . إلى آخر ما ذكره (1) .
وبعد فإن المسائل الجديرة من المجلس بإبداء رأيه الشرعي نحوها تتلخص فيما يلي :
1 - الإيداع بفائدة .
2 - الإيداع بلا فائدة .
3 - أخذ العمولة على الإيداع .
4 - أخذ العمولة على إيداع الوثائق والمستندات من حيث فتح الملف بذلك ، ومن حيث حفظها ، ومن حيث قيام البنك بلازم الوثائق من بيع وتحصيل أرباح ونحو ذلك .
5 - مسألة استئجار الخزائن الحديدية : هل يعتبر ذلك إجارة أو وديعة أو وديعة مضمونة ؟ وبالنسبة لأخذ العمولة على ذلك هل تعتبر أجرة للخزانة أو للحفظ أو على كل منهما ؟
6 - أخذ الفائدة وإعطاؤها على القروض .
7 - أخذ العمولة على فتح الاعتماد البسيط .
__________
(1) [البنك اللاربوي في الإسلام] ص (156- 160) .
8 - أخذ العمولة والفائدة على الضمانات المصرفية- خطابات الضمان - .
9 - أخذ العمولة على الاعتماد المستندي .
10 - الأوراق التجارية، تظهيرها، تحصيلها ، خصمها . وأخذ العمولات على ذلك .
هذا ما تيسر إعداده، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه .
حرر في 16\ 7\ 1396 هـ .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
(6)
الفوائد الربويةهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
الفوائد الربوية
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . . وبعد :
بناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء من الموافقة على بحث الفوائد الربوية ، وأن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء تعد ما تيسر من كلام أهل العلم في ذلك ، وأنه يعرض في دورة قادمة- فقد جمعت اللجنة جملة من النقول في حكم الفوائد الربوية بين المسلمين ، وبين المسلم والحربي .
وهذه النقول نقول عن بعض المفسرين على قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (1) وهم : ابن جرير والقرطبي وابن كثير ، ثم كلام بعض شراح الحديث على حديث : « إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا » (2) .
ثم نقول عن بعض الفقهاء في مصرف الأموال المحرمة ، والتي جهل
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) صحيح مسلم الزكاة (1015),سنن الترمذي تفسير القرآن (2989),مسند أحمد بن حنبل (2/328),سنن الدارمي الرقاق (2717).
أربابها ، ثم حكم الفوائد الربوية بين المسلم والحربي .
وفيما يلي ذكر ذلك :
أولا : من أقوال بعض المفسرين على قوله تعالى :
{ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (1) الآية :
1 - قال ابن جرير في [تفسيره] : يعني جل ثناؤه بذلك : إن تبتم فتركتم أكل الربا وأنبتم إلى الله عز وجل { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (2) من الديون التي لكم على الناس دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربا منكم ، كما حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (3) والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية ، فأما الربح والفضل فليس لهم ، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا .
حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك قال : وضع الله الربا وجعل لهم رؤوس أموالهم .
حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (4) قال : ما كان لهم من دين فجعل لهم أن يأخذوا رؤوس أموالهم ولا يزدادوا عليه شيئا .
حدثني موسى بن هارون : قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (5) الذي أسلفتم وسقط الربا .
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة ذكر لنا : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح : « ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله ، وأول ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب » (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) سورة البقرة الآية 279
(6) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : « إن كل ربا موضوع ، وأول ربا يوضع ربا العباس » (1) .
القول في تأويل قوله : { لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (2) يعني بقوله : { لَا تُظْلَمُونَ } (3) بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غرمائكم منهم دون أرباحها التي زدتموها ربا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم ، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذه ، أو لم يكن لكم قبل { وَلَا تُظْلَمُونَ } (4) يقول : ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الربا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل يبخسكم حقا لكم عليه فيمنعكموه ؛ لأن ما زاد على رؤوس أموالكم لم يكن حقا لكم عليه ، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم ، وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول وغيره من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك : حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ } (5) فتنقصون .
وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (6) قال : لا تنقصون من أموالكم ، ولا تأخذون باطلا لا يحل لكم (7) .
2 - وقال القرطبي في [تفسيره] : روى أبو داود عن سليمان بن عمرو
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 272
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) سورة البقرة الآية 279
(6) سورة البقرة الآية 279
(7) [تفسير الطبري] (3\ 72) ، المتوفى سنة 310 هـ .
عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع : « ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ، لكم رؤوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون » (1) وذكر الحديث ، فردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم ، وقال لهم : { لَا تُظْلَمُونَ } (2) في أخذ الربا ، { وَلَا تُظْلَمُونَ } (3) في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم .
ويحتمل أن يكون { وَلَا تُظْلَمُونَ } (4) في مطل ؛ لأن مطل الغني ظلم ، فالمعنى : أنه يكون القضاء مع وضع الربا ، وهكذا سنة الصلح ، وهذا أشبه شيء بالصلح ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار إلى كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر ، فقال كعب : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للآخر : « قم فاقضه » (5) فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1693),صحيح مسلم الحج (1218),سنن الترمذي الحج (856),سنن النسائي مناسك الحج (2763),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074),مسند أحمد بن حنبل (3/321),موطأ مالك الحج (836),سنن الدارمي المناسك (1850).
(2) سورة البقرة الآية 272
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) صحيح البخاري الصلاة (445),صحيح مسلم المساقاة (1558),سنن النسائي آداب القضاة (5408),سنن أبو داود الأقضية (3595),سنن ابن ماجه الأحكام (2429),سنن الدارمي البيوع (2587).
وقال القرطبي أيضا في تفسير هذه الآية : تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه ، وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه ، فاستدل بعض العلماء بذلك على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد ، كما إذا اشترى مسلم صيدا ثم أحرم المشتري أو البائع قبل القبض بطل البيع ؛ لأنه طرأ عليه قبل القبض ما أوجب تحريم العقد ، كما أبطل الله تعالى ما لم يقبض ؛ لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض ، ولو كان مقبوضا لم يؤثر .
هذا مذهب أبي حنيفة ، وهو قول لأصحاب الشافعي ، ويستدل به على أن هلاك المبيع قبل القبض في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد ، خلافا لبعض السلف ، ويروى هذا الخلاف عن أحمد ، وهذا إنما يتمشى على قول من يقول : إن العقد في الربا كان في الأصل منعقدا ، وإنما بطل بالإسلام الطارئ قبل القبض .
وأما من منع انعقاد الربا في الأصل لم يكن هذا الكلام صحيحا ، وذلك أن الربا كان محرما في الأديان ، والذي فعلوه في الجاهلية كان عادة المشركين ، وأن ما قبضوه منه كان بمثابة أموال وصلت إليهم بالغصب والسلب ، فلا يتعرض له .
فعلى هذا لا يصح الاستشهاد على ما ذكروه من المسائل ، واشتمال شرائع الأنبياء قبلنا على تحريم الربا مشهور مذكور في كتاب الله تعالى ، كما حكي عن اليهود في قوله تعالى : { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } (1) وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا : { أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } (2) فعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به . نعم ، يفهم من هذا أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ إن كانت معقودة على فساد (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 161
(2) سورة هود الآية 87
(3) [الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي (3\ 365 ، 366) ، المتوفى سنة 671 هـ .
3 - وقال ابن كثير في [تفسيره] : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ (1) } أي : بأخذ الزيادة { وَلَا تُظْلَمُونَ } (2) أي : بوضع رؤوس الأموال أيضا ، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن شبيب بن غرقدة المبارقي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال : « ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع عنكم كله ، لكم رؤوس أموالكم
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 279
لا تظلمون ولا تظلمون ، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله » (1) ، كذا وجده سليمان بن الأحوص .
وقد قال ابن مردويه : حدثنا الشافعي حدثنا معاذ بن المثنى أخبرنا أبو الأحوص ، حدثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ، فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون » (2) ، وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن عمرو هو ابن خارجة فذكره (3) .
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
(3) [تفسير ابن كثير] (1\331) المتوفى سنة 774 هـ .
ثانيا : من أقوال بعض شراح الحديث :
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : الآية . وقال : ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك ؟ » (3) رواه مسلم .
ومما جاء في شرح هذا الحديث :
وأما الصدقة بالمال الحرام فغير مقبولة ، كما في [صحيح مسلم] عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1015),سنن الترمذي تفسير القرآن (2989),مسند أحمد بن حنبل (2/328),سنن الدارمي الرقاق (2717).
(2) سورة المؤمنون الآية 51 (1) { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا }
(3) سورة البقرة الآية 172 (2) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }
صدقة من غلول » (1) .
وفي [الصحيحين ] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما تصدق أحد بصدقة من طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، إلا أخذها الرحمن بيمينه » (2) وذكر الحديث .
وفي [مسند الإمام أحمد] رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يكتسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيتقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث » (3) .
ويروى من حديث دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من كسب مالا حراما فتصدق به لم يكن له فيه أجر ، وكمان إصره عليه » خرجه ابن حبان في [صحيحه] ، ورواه بعضهم موقوفا على أبي هريرة .
وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أصاب مالا من مأثم فوصل به رحمه ، أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع الله ذلك جميعا ثم قذف به في نار جهنم » .
وروي عن أبي الدرداء ويزيد بن ميسرة أنهما جعلا مثل من أصاب مالا من غير حله فتصدق به ، مثل من أخذ مال يتيم وكسا به أرملة .
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن كان على عمل فكان يظلم ويأخذ الحرام ثم تاب فهو يحج ويعتق ويتصدق منه ؟ فقال : إن الخبيث لا يكفر الخبيث .
__________
(1) سنن النسائي الطهارة (139),سنن أبو داود الطهارة (59),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (271),مسند أحمد بن حنبل (5/74),سنن الدارمي الطهارة (686).
(2) صحيح مسلم الزكاة (1014),سنن الترمذي الزكاة (661),سنن النسائي الزكاة (2525),سنن ابن ماجه الزكاة (1842),مسند أحمد بن حنبل (2/538),موطأ مالك الجامع (1874),سنن الدارمي الزكاة (1675).
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/387).
وكذا قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن الخبيث لا يكفر الخبيث ، ولكن الطيب يكفر الخبيث .
وقال الحسن : أيها المتصدق على المسكين ترحمه ، ارحم من قد ظلمت .
واعلم أن الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين :
أحدهما : أن يتصدق به الخائن أو الغاصب ونحوهما عن نفسه ، فهذا هو المراد من هذه الأحاديث أنه لا يتقبل منه : يعني : أنه لا يؤجر عليه ، بل يأثم بتصرفه في مال غيره بغير إذنه ، ولا يحصل للمالك بذلك أجر لعدم قصده ونيته . كذا قاله جماعة من العلماء منهم ابن عقيل من أصحابنا .
وفي كتاب عبد الرزاق من رواية زيد بن الأخنس الخزاعي : أنه سأل سعيد بن المسيب قال : وجدت لقطة أفأتصدق بها ؟ قال : لا تؤجر أنت ولا صاحبها . ولعل مراده إذا تصدق بها قبل تعريفها الواجب ، ولو أخذ السلطان أو بعض نوابه من بيت المال ما لا يستحقه فتصدق منه ، أو أعتق ، أو بنى به مسجدا أو غيره مما ينتفع به الناس- فالمنقول عن ابن عمر أنه كالغاصب إذا تصدق بما غصبه . كذلك قيل لعبد الله بن عامر أمير البصرة وكان الناس قد اجتمعوا عنده في حال موته وهم يثنون عليه ببره وإحسانه وابن عمر ساكت ، فطلب منه أن يتكلم ، فروى له حديثا « لا يقبل الله صدقة من غلول » (1) ثم قال له : وكنت على البصرة .
وقال أسد بن موسى في كتاب الورع : حديث الفضيل بن عياض عن منصور عن تميم بن مسلمة قال : قال ابن عامر لعبد الله بن عمر : أرأيت هذا العقاب التي نسهلها والعيون التي نفجرها ألنا فيها أجر ؟ فقال ابن عمر : أما
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (224),سنن الترمذي الطهارة (1),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (272),مسند أحمد بن حنبل (2/73).
علمت أن خبيثا لا يكفر خبيثا قط ؟
حدثنا عبد الرحمن بن زياد عن أبي مليح عن ميمون بن مهران قال : قال ابن عمر لابن عامر وقد سأله عن العتق ، فقال : مثلك مثل رجل سرق إبل حاج ثم جاهد بها في سبيل الله فانظر هل يقبل منه ؟
وقد كان طائفة من أهل التشديد في الورع كطاوس ووهيب بن الورد يتوقون الانتفاع بما أحدثه مثل هؤلاء الملوك . وأما الإمام أحمد رحمه الله فإنه رخص فيما فعلوه من المنافع العامة ؛ كالمساجد والقناطر والمصانع ، فإن هذه ينفق عليها من مال الفيء ، اللهم إلا أن يتيقن أنهم فعلوا شيئا من ذلك بمال حرام ؛ كالمكوس والغصوب ونحوهما ، فحينئذ يتوقى الانتفاع بما عمل بالمال الحرام .
ولعل ابن عمر رضي الله عنهما إنما أنكر عليهم أخذهم لأموال بيت المال لأنفسهم ، ودعواهم أن ما فعلوه منها بعد ذلك فهو صدقة منهم ، فإن هذا شبيه بالمغصوب . وعلى مثل هذا يحمل إنكار من أنكر من العلماء على الملوك بنيان المساجد .
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله : رأيت بعض المتقدمين سئل عمن كسب حلالا أو حراما من السلاطين والأمراء ثم بنى الأربطة والمساجد هل له ثواب ؟ فأفتى بما يوجب طيب قلب المنفق وأن له في إنفاق مالا يملكه نوع سمسرة ؛ لأنه لا يعرف أعيان المغصوبين فيرد عليهم .
قال : فقلت : واعجبا من متصدرين للفتوى لا يعرفون أصول الشريعة ، ينبغي أن ينظر في حال هذا المنفق أولا ، فإن كان سلطانا فما يخرج من بيت المال فقد عرفت وجوه مصارفه ، فكيف يمنع مستحقيه ويشغله بما لا يفيد
من بناء مدرسة أو رباط ؟ وإن كان من الأمراء أو نواب السلاطين فيجب أن يرد ما يجب رده إلى بيت المال ، وإن كان حراما أو غصبا فكل شيء يصرف فيه حرام ، والواجب رده على من أخذ منه أو ورثته ، فإن لم يعرف رده إلى بيت المال يصرف في المصالح وفي الصدقة ولم يحظ آخذه بغير الإثم . انتهى .
وإنما كلامه في السلاطين الذين عهدهم في وقته الذين يمنعون المستحقين من الفيء حقوقهم ، ويتصرفون فيه لأنفسهم تصرف الملاك ببناء ما ينسبونه إليهم من المدارس والأربطة ونحوهما مما قد لا يحتاج إليه ويخص به قوما دون قوم ، فأما لو فرض إمام عادل يعطي الناس حقوقهم من الفيء ثم يبني لهم منه ما يحتاجون إليه من مسجد أو مدرسة أو مارستان ونحو ذلك كان ذلك جائزا ، ولو كان بعض من يأخذ المال لنفسه من بيت المال بنى بما أخذ منه بناء محتاجا إليه في حال ، فيجوز البناء فيه من بيت المال ؛ لكنه ينسبه إلى نفسه ، فقد يتخرج على الخلاف في الغاصب إذا رد المال إلى المغصوب منه على وجه الصدقة والهبة هل يبرأ بذلك أم لا ؟ وهذا كله إذا بنى على قدر الحاجة من غير سرف ولا زخرفة .
وقد أمر عمر بن عبد العزيز بترميم مسجد البصرة من بيت المال ، ونهاهم أن يتجاوزوا ما تصدع منه ، وقال : إني لم أجد للبنيان في مال الله حقا .
وروي عنه أنه قال : لا حاجة للمسلمين فيما أضر بيت مالهم .
واعلم أن من العلماء من جعل تصرف الغاصب ونحوه في مال غيره موقوفا على إجازة مالكه ، فإن أجاز تصرفه فيه جاز ، وقد حكى بعض
أصحابنا رواية عن أحمد أنه من أخرج زكاته من مال مغصوب ثم أجازه المالك جاز وسقطت عنه الزكاة .
وكذلك خرج ابن أبي الدنيا رواية عن أحمد أنه إذا أعتق عبد غيره عن نفسه ملتزما ضمانه في ماله ثم أجازه المالك جاز ونفذ عتقه ، وهو خلاف نص أحمد .
وحكى عن الحنفية أنه لو غصب شاة فذبحها لمتعته وقرانه ثم أجازها المالك أجزأت عنه .
الوجه الثاني من تصرفات الغاصب في المال المغصوب : أن يتصدق به عن صاحبه إذا عجز عن رده إليه أو إلى ورثته ، فهذا جائز عند أكثر العلماء : منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم .
قال ابن عبد البر : ذهب الزهري ومالك والثوري والأوزاعي والليث إلى أن الغال إذا تفرق أهل العسكر ولم يصل إليهم أنه يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي ، روي ذلك عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري ، وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه ، قال : قد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها ، وجعلوه إذا جاء مخيرا بين الأجر والضمان ، وكذلك المغصوب . انتهى .
وروي عن مالك بن دينار قال : سألت عطاء بن أبي رباح عمن عنده مال حرام ولا يعرف أربابه ويريد الخروج منه ؟ قال : يتصدق به ولا أقول : إن ذلك يجزئ عنه .
قال مالك : كان هذا القول من عطاء أحب إلي من زنة ذهب .
وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئا مغصوبا : يرده إليهم ، فإن لم يقدر عليهم يتصدق به كله ولا يأخذ رأس ماله ، وكذا قال فيمن باع شيئا ممن تكره معاملته لشبهة ماله قال : يتصدق بالثمن ، وخالفه ابن المبارك ، وقال : يتصدق بالربح خاصة . وقال أحمد : يتصدق بالربح .
وكذا قال فيمن ورث مالا من أبيه ، وكان أبوه يبيع ممن تكره معاملته : أنه يتصدق منه بمقدار الربح ويأخذ الباقي . وقد روي عن طائفة من الصحابة نحو ذلك ، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه .
والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام أنها تحفظ ولا يتصدق بها حتى يظهر مستحقها .
وكان الفضيل بن عياض يرى أن من عنده مال حرام لا يعرف أربابه أنه يتلفه ويلقيه في البحر ولا يتصدق به ، وقال : لا يتقرب إلى الله إلا بالطيب ، والصحيح الصدقة به ؛ لأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه ، وإرصاده أبدا تعريض له للإتلاف واستيلاء الظلمة عليه ، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقربا منه بالخبيث ، وإنما هي صدقة عن مالكه ؟ ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا (1) .
__________
(1) [جامع العلوم والحكم] ص (85 ، 86- 90) .
ثالثا : النقول عن الفقهاء :
1 - قال محمد بن أحمد بن رشد :
(فصل) فإن فات البيع فليس له إلا رأس ماله ، قبض الربا أو لم يقبضه ،
فإن كان قبضه رده إلى صاحبه ، وكذلك من أربى ثم تاب فليس إلا رأس ماله وما قبض من الربا وجب عليه أن يرده إلى من قبضه منه ، فإن لم يعلمه تصدق به عنه ، لقول الله عز وجل : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } (1) الآية ، وأما من أسلم وله ربا فإن كان قبضه فهو له ؛ لقول الله عز وجل : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (2) ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أسلم على شيء فهو له » .
وأما إن كان الربا لم يقبضه فلا يحل له أن يأخذه وهو موضوع عن الذي هو عليه ، ولا خلاف في هذا أعلمه ؟ لقول الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (3)
نزلت هذه الآية في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم ، وكانوا قد اقتضوا بعضه منهم وبقي بعضه فعفا الله لهم عما كانوا اقتضوه ، وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه .
وقيل : نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا يسلفان في الربا فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله الآية بتحريم اقتضاء ما كان لهما من الربا .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع : « ألا إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأولى ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب » (4) (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) صحيح مسلم الحج (1218),سنن أبو داود المناسك (1905),سنن ابن ماجه المناسك (3074).
(5) [المقدمات] ، لابن رشد (3\ 23) .
2 - قال الغزالي : إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه - فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله ، فإن كان ميتا وجب دفعه إلى وارثه ، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة ؛ كالقناطر والربط والمساجد ، ومصالح طريق مكة ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه ، وإلا فليتصدق به على فقير أو فقراء .
وينبغي أن يتولى ذلك القاضي إن كان عفيفا ، فإن لم يكن عفيفا لم يجز التسليم إليه ، فإن سلمه إليه صار المسلم ضامنا ، بل ينبغي أن يحكم رجلا من أهل البلد دينا عالما ، فإن التحكيم أولى من الانفراد ، فإن عجز عن ذلك تولاه بنفسه ، فإن المقصود هو الصرف إلى هذه الجهة ، وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حراما على الفقير ، بل يكون حلالا طيبا ، وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرا ؛ لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم ، بل هم أولى من يتصدق عليه ، وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته ؛ لأنه أيضا فقير .
وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب ، وهو كما قالوه ، ونقله الغزالي أيضا عن معاوية بن أبي سفيان وغيره من السلف ، عن أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي ، وغيرهما من أهل الورع ؛ لأنه لا جوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر ، فلم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين ، والله سبحانه وتعالى أعلم (1) .
__________
(1) [المجموع شرح المهذب] (9\343) . وقد فصل الغزالي الكلام على هذا الموضوع في باب كيفية خروج التائب عن المظالم المالية فذكر كيفية التمييز والإخراج والمصرف ، وذلك في كتابه [الإحياء] (1\113- 119) .
3 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد كلام سبق في بيان حكم الربا : وهذا المربي لا يستحق في ذمم الناس إلا ما أعطاهم أو نظيره ، فأما الزيادات فلا يستحق شيئا منها ، لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل فإنه يعفى عنه ، وأما ما بقي له في الذمم فهو ساقط ؛ لقوله تعالى : { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } (1) (2) .
وقال أيضا : قول القائل لغيره : أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا حرام . وكذا إذا حل الدين عليه وكان معسرا فإنه يجب إنظاره ، ولا يجوز إلزامه بالقلب عليه ، باتفاق المسلمين ، وبكل حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هي معاملة فاسدة ربوية .
والواجب رد المال المقبوض فيها إن كان باقيا ، وإن كان فانيا رد مثله ، ولا يستحق الدافع أكثر من ذلك ، وعلى ولي الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية وعقوبة من يفعلها ، ورد الناس فيها إلى رءوس أموالهم دون الزيادات فإن هذا من الربا الذي حرمه الله ورسوله .
وقد قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (3) { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (4) { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (5) (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) [مجموع الفتاوى] (29\437) .
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) سورة البقرة الآية 280
(6) [مجموع الفتاوى] (29\437 ، 438) .
وسئل رحمه الله : عن رجل مراب خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله ، فهل يكون المال حلالا للولد بالميراث . أم لا ؟
فأجاب : أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه ، إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن ، وإلا تصدق به ، والباقي لا يحرم عليه لكن القدر المشتبه يستحب له تركه إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء جاز للوارث الانتفاع به ، وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما جعل ذلك نصفين .
وسئل : عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام ؟
فأجاب : يخرج قدر الحرام بالميزان فيدفعه إلى صاحبه ، وقدر الحلال له ، وإن لم يعرفه وتعذرت معرفته تصدق به عنه .
وسئل رحمه الله : عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالا كثيرا ، وقد تابت وحجت إلى بيت الله تعالى ، وهي محافظة على طاعة الله ، فهل المال الذي اكتسبته من حل وغيره ، إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه ؟
فأجاب : المال المكسوب إن كانت عين ، أو منفعة مباحة في نفسها وإنما حرمت بالقصد ، مثل : من يبيع عنبا لمن يتخذه خمرا أو من يستأجر لعصر الخمر ، أو حملها- فهذا يفعله بالعوض ، لكن لا يطيب له أكله . وأما إن كانت العين أو المنفعة محرمة كمهر البغي ، وثمن الخمر ، فهنا لا يقضى له به قبل القبض ، ولو أعطاه إياه لم يحكم برده ، فإن هذا معونة لهم على المعاصي إذا جمع لهم بين العوض والمعوض .
ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما ، لكن يصرف في مصالح
المسلمين ، فإن تابت هذه البغي وهذا الخمار ، وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم ، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسج والغزل أعطي ما يكون له رأس مال ، وإن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به ، ولم يردوا (1) عوض القرض كان أحسن .
وأما إذا تصدق به لاعتقاده أنه يحل عليه أن يتصدق به ، فهذا يثاب على ذاك ، وأما إن تصدق به كما يتصدق المالك بملكه ، فهذا لا يقبله الله- إن الله لا يقبل إلا الطيب- فهذا خبيث ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « مهر البغي خبيث » (2) (3) .
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله : عن الأموال التي يجهل مستحقها مطلقا أو مبهما :
فإن هذه عامة النفع ، لأن الناس قد يحصل في أيديهم أموال يعلمون أنها محرمة لحق الغير ؛ إما لكونها قبضت ظلما ، كالغصب وأنواعه من الجنايات ، والسرقة ، والغلول . وإما لكونها قبضت بعقد فاسد من ربا ، أو ميسر ، ولا يعلم عين المستحق لها ، وقد يعلم أن المستحق أحد رجلين ولا يعلم عينه ، كالميراث الذي يعلم أنه لإحدى الزوجين الباقية دون المطلقة ، والعين التي يتداعاها اثنان فيقر بها ذو اليد لأحدهما .
فمذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ومالك وعامة السلف : إعطاء هذه الأموال لأولى الناس بها .
__________
(1) قوله : (ولم يردوا) كذا في الأصل ، ولعل (لم) زائدة .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1568),سنن الترمذي البيوع (1275),سنن النسائي الصيد والذبائح (4294),سنن أبو داود البيوع (3421),مسند أحمد بن حنبل (3/464),سنن الدارمي البيوع (2621).
(3) [مجموع الفتاوى] (29\307- 309) .
ومذهب الشافعي : أنها تحفظ مطلقا ، ولا تنفق بحال ، فيقول فيما جهل مالكه من المغصوب ، والعواري ، والودائع : أنها تحفظ حتى يظهر أصحابها ، كسائر الأموال الضائعة .
ويقول في العين التي عرفت لأحد رجلين : يوقف الأمر حتى يصطلحا .
ومذهب أحمد وأبي حنيفة فيما جهل مالكه : أنه يصرف عن أصحابه في المصالح ، كالصدقة على الفقراء ، وفيما استبهم مالكه القرعة عند أحمد ، والقسمة عند أبي حنيفة ، ويتفرع على هذه القاعدة ألف من المسائل النافعة الواقعة .
وبهذا يحصل الجواب عما فرضه أبو المعالي في كتابه [الغياثي] ، وتبعه من تبعه إذا طبق الحرام الأرض ولم يبق سبيل إلى الحلال ، فإنه يباح للناس قدر الحاجة من المطاعم ، والملابس ، والمساكن ، والحاجة أوسع من الضرورة ، وذكر أن ذلك يتصور إذا استولت الظلمة من الملوك على الأموال بغير حق ، وبثتها في الناس وإن زمانه قريب من هذا التقدير ، فكيف بما بعده من الأزمان ؟ !
وهذا الذي قاله فرض محال ، لا يتصور لما ذكرته من هذه (القاعدة الشرعية) فإن المحرمات قسمان :
محرم لعينه ، كالنجاسات : من الدم والميتة .
ومحرم لحق الغير ، وهو ما جنسه مباح من المطاعم ، والمساكن ، والملابس ، والمراكب ، والنقود ، وغير ذلك .
وتحريم هذه جميعها يعود إلى الظلم ، فإنها إنما تحرم لسببين :
(أحدهما) : قبضها بغير طيب نفس صاحبها ، ولا إذن الشارع . وهذا هو الظلم المحض ، كالسرقة والخيانة ، والغصب الظاهر ، وهذا أشهر الأنواع بالتحريم .
(الثاني) : قبضها بغير إذن الشارع ، وإن أذن صاحبها ، وهي العقود والقبوض المحرمة ، كالربا ، والميسر ونحو ذلك .
والواجب على من حصلت بيده ردها إلى مستحقها ، فإذا تعذر ذلك فالمجهول كالمعدوم ، وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في اللقطة : « فإن وجدت صاحبها فارددها إليه ، وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء » (1) .
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن اللقطة التي عرف أنها ملك لمعصوم ، وقد خرجت عنه بلا رضاه ، إذا لم يوجد فقد آتاها الله لمن سلطه عليها بالالتقاط الشرعي .
وكذلك اتفق المسلمون على أنه من مات ولا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين ، مع أنه لا بد في غالب الخلق أن يكون له عصبة بعيد ، لكن جهلت عينه ، ولم ترج معرفته .
فجعل كالمعدوم وهذا ظاهر .
وله دليلان قياسيان قطعيان ، كما ذكرنا من السنة والإجماع ، فإن ما لا يعلم بحال ، أو لا يقدر عليه بحال ، هو في حقنا بمنزلة المعدوم ، فلا نكلف إلا بما نعلمه ونقدر عليه .
وكما أنه لا فرق في حقنا بين فعل لم نؤمر به ، وبين فعل أمرنا به جملة عند فوت العلم أو القدرة- كما في حق المجنون والعاجز- كذلك لا فرق في حقنا بين مال لا مالك له ، أمرنا بإيصاله إليه ، وبين ما أمرنا بإيصاله إلى
__________
(1) سنن أبو داود اللقطة (1709),سنن ابن ماجه الأحكام (2505),مسند أحمد بن حنبل (4/162).
مالكه جملة إذا فات العلم به أو القدرة عليه . والأموال كالأعمال سواء . وهذا النوع إنما حرم ، لتعلق حق الغير به ، فإذا كان الغير معدوما أو مجهولا بالكلية أو معجوزا عنه بالكلية سقط حق تعلقه به مطلقا ، كما يسقط تعلق حقه به إذا رجي العلم به ، أو القدرة عليه ، إلى حين العلم والقدرة كما في اللقطة سواء ، كما نبه عليه صلى الله عليه وسلم بقوله : « فإن جاء صاحبها وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء » (1) .
فإنه لو عدم المالك انتقل الملك عنه بالاتفاق ، فكذلك إذا عدم العلم به إعداما مستقرا ، وإذا عجز عن الإيصال إليه إعجازا مستقرا .
فالإعدام ظاهر ، والإعجاز مثل الأموال التي قبضها الملوك- كالمكوس وغيرها- من أصحابها ، وقد تيقن أنه لا يمكننا إعادتها إلى أصحابها ، فإنفاقها في مصالح أصحابها من الجهاد عنهم أولى من بقائها بأيدي الظلمة يأكلونها ، وإذا أنفقت كانت لمن يأخذها بالحق مباحة ، كما أنها على من يأكلها بالباطل محرمة .
والدليل الثاني : (القياس)- مع ما ذكرناه من السنة والإجماع- أن هذه الأموال لا تخلو ؛ إما أن تحبس ، وإما أن تتلف ، وإما أن تنفق .
فأما إتلافها فإفساد لها { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } (2) وهو إضاعة لها والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إضاعة المال ، وإن كان في مذهب أحمد ومالك تجويز العقوبات المالية : تارة بالأخذ ، وتارة بالإتلاف ، كما يقوله أحمد في متاع الغال ، وكما يقوله أحمد ومن يقوله من المالكية في أوعية الخمر ، ومحل الخمار ، وغير ذلك .
فإن العقوبة بإتلاف بعض الأموال أحيانا ، كالعقوبة بإتلاف بعض
__________
(1) سنن أبو داود اللقطة (1709),سنن ابن ماجه الأحكام (2505),مسند أحمد بن حنبل (4/267).
(2) سورة البقرة الآية 205
النفوس أحيانا. وهذا يجوز إذا كان فيه من التنكيل على الجريمة من المصلحة ما شرع له ذلك، كما في إتلاف النفس والطرف، وكما أن قتل النفس يحرم إلا بنفس أو فساد، كما قال تعالى: { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ } (1)
وقالت الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } (2) فكذلك إتلاف المال، إنما يباح قصاصا، أو لإفساد مالكه، كما أبحنا من إتلاف البناء والغراس لأهل الحرب مثل ما يفعلون بنا بغير خلاف، وجوزنا لإفساد مالكه ما جوزنا.
ولهذا لم أعلم أحدا من الناس قال: إن الأموال المحترمة المجهولة المالك تتلف، وإنما يحكى ذلك عن بعض الغالطين من المتورعة: أنه ألقى شيئا من ماله في البحر، أو أنه تركه في البر ونحو ذلك. فهؤلاء تجد منهم حسن القصد وصدق الورع، لا صواب العمل.
وأما حبسها دائما أبدا إلى غير غاية منتظرة، بل مع العلم أنه لا يرجى معرفة صاحبها، ولا القدرة على إيصالها إليه، فهذا مثل إتلافها، فإن الإتلاف إنما حرم لتعطيلها عن انتفاع الآدميين بها، وهذا تعطيل أيضا، بل هو أشد منه من وجهين:
(أحدهما): أنه تعذيب للنفوس بإبقاء ما يحتاجون إليه من غير انتفاع به.
(الثاني): أن العادة جارية بأن مثل هذه الأمور لابد أن يستولي عليها
__________
(1) سورة المائدة الآية 32
(2) سورة البقرة الآية 30
أحد من الظلمة بعد هذا إذا لم ينفقها أهل العدل والحق، فيكون حبسها إعانة للظلمة، وتسليما في الحقيقة إلى الظلمة، فيكون منعها أهل الحق، وأعطاها أهل الباطل، ولا فرق بين القصد وعدمه في هذا، فإن من وضع إنسانا بمسبعة فقد قتله، ومن ألقى اللحم بين السباع فقد أكله، ومن حبس الأموال العظيمة لمن يستولي عليها من الظلمة فقد أعطاهموها، فإذا كان إتلافها حراما، وحبسها أشد من إتلافها- تعين إنفاقها، وليس لها مصرف معين، فتصرف في جميع جهات البر والقرب التي يتقرب بها إلى الله؛ لأن الله خلق الخلق لعبادته، وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته، فتصرف في سبيل الله. والله أعلم.
وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله -: عن رجل له حق في بيت المال، إما لمنفعة في الجهاد أو لولايته، فأحيل ببعض حقه على بعض المظالم؟
فأجاب: لا تستخرج أنت هذا، ولا تعن على استخراجه، فإن ذلك ظلم، لكن اطلب حقك من المال المحصل عندهم، وإن كان مجموعا من هذه الجهة وغيرها؛ لأن ما اجتمع في بيت المال ولم يرد إلى أصحابه فصرفه في مصالح أصحابه والمسلمين أولى من صرفه فيما لا ينفع أصحابه أو فيما يضره- وقد كتبت نظير هذه المسألة في غير هذا الموضع- وأيضا فإنه يصير مختلطا، فلا يبقى محكوما بتحريمه بعينه مع كون الصرف إلى مثل هذا واجبا على المسلمين.
فإن الولاة يظلمون تارة في استخراج الأموال، وتارة في صرفها، فلا تحل إعانتهم على الظلم في الاستخراج، ولا أخذ الإنسان ما لا يستحقه.
وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد من الاستخراج والصرف فلمسائل
الاجتهاد، وأما ما لا يسوغ فيه اجتهاد من الأخذ والإعطاء فلا يعاونون.
لكن إذا كان المصروف إليه مستحقا بمقدار المأخوذ، جاز أخذه من كل مال يجوز صرفه كالمال المجهول مالكه إذا وجب صرفه، فإن امتنعوا من إعادته إلى مستحقه فهل الأولى إقراره بأيدي الظلمة، أو السعي في صرفه في مصالح أصحابه والمسلمين، إذا كان الساعي في ذلك ممن يكره أصل أخذه، ولم يعن على أخذه، بل سعى في منع أخذه؟ فهذه مسألة حسنة ينبغي التفطن لها، وإلا دخل الإنسان في فعل المحرمات، أو في ترك الواجبات، فإن الإعانة على الظلم من فعل المحرمات.
وإذا لم تمكن الواجبات إلا بالصرف المذكور، كان تركه من ترك الواجبات، وإذا لم يمكن إلا إقراره بيد الظالم أو صرفه في المصالح، كان النهي عن صرفه في المصالح إعانة على زيادة الظلم التي هي إقراره بيد الظالم، فكما يجب إزالة الظلم يجب تقليله عند العجز عن إزالته بالكلية، فهذا أصل عظيم، والله أعلم. وأصل آخر وهو أن الشبهات ينبغي صرفها في الأبعد عن المنفعة فالأبعد، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في كسب الحجام بأن يطعمه الرقيق، والناضح، فالأقرب ما دخل في الطعام والشراب ونحوه، ثم ما ولي الظاهر من اللباس، ثم ما ستر مع الانفصال من البناء ثم ما عرض من الركوب ونحوه. فهكذا ترتيب الانتفاع بالرزق، وكذلك أصحابنا يفعلون (1)
__________
(1) [مجموع الفتاوى (28\ 592- 599).
4 - قال ابن القيم :
فإن قيل: فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته، ثم تابت: هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه، أم يطيب لها، أم تتصدق به؟
قلنا: هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهي: أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضا صاحبه، ولا استوفى عوضه: رد عليه، فإن تعذر رده عليه، قضى به دينا يعلمه عليه. فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته. فإن تعذر ذلك تصدق به عنه.
فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة كان له، وإن أبى إلا أن يأخذه من حسنات القابض استوفي منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها. كما ثبت عن الصحابة. وإن كان المقبوض برضا الدافع، وقد استوفى عوضه المحرم، كمن عاوض على خمر، أو خنزير، أو على زنى، أو فاحشة: فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره، واستوفى عوضه المحرم.
فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض عنه: فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسيرا لأصحاب المعاصي، وماذا يريد الزاني وصاحب الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله؟ فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغ القول به، وهو يتضمن الجمع بين الظلم، والفاحشة، والغدر، ومن أقبح القبح: أن يستوفي عوضه من المزني بها، ثم يرجع فيما أعطاها قهرا، وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء، فلا تأتي به شريعة، ولكن لا يطيب للقابض أكله، بل هو خبيث،
كما حكم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن خبثه لخبث مكسبه، لا لظلم من أخذ منه، فطريق التخلص منه وتمام التوبة: بالصدقة به، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي، فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه، عينا كان أو منفعة، ولا يلزم الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بخبث كسب الحجام، ولا يجب رده على دافعه.
فإن قيل: فالدافع ماله في مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوز دفعه، بل حجر عليه فيه الشارع، فلم يقع قبضه موقعه، بل وجود هذا القبض كعدمه، فيجب رده على مالكه، كما لو تبرع المريض لوارثه بشيء، أو لأجنبي بزيادة على الثلث، أو تبرع المحجور عليه بفلس أو سفه، أو تبرع المضطر إلى قوته بذلك، ونحو ذلك. وسر المسألة أنه محجور عليه شرعا في هذا الدفع فيجب رده.
قيل: هذا قياس فاسد؛ لأن الدفع في هذه الصور تبرع محض لم يعاوض عليه، والشارع قد منعه منه؛ لتعلق حق غيره به، أو حق نفسه المقدمة على غيره، وأما فيما نحن فيه: فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة أو استهلاك عين محرمة، فقد قبض عوضا محرما، وأقبض مالا محرما، فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه، وبذل فيه ما لا يجوز بذله، فالقابض قبض مالا محرما والدافع استوفى عوضا محرما، وقضية العدل تراد العوضين لكن قد تعذر رد أحدهما، فلا يوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه، نعم لو كان الخمر قائما بعينه لم يستهلكه، أو دفع إليها المال ولم يفجر بها: وجب رد المال في الصورتين قطعا، كما في سائر العقود
الباطلة، إذا لم يتصل بها القبض.
فإن قيل: وأي تأثير لهذا القبض المحرم، حتى جعل له حرمة، ومعلوم أن قبض مالا يجوز قبضه بمنزلة عدمه، إذ الممنوع شرعا كالممنوع حسا، فقابض المال قبضه بغير حق، فعليه أن يرده إلى دافعه؟
قيل: والدافع قبض العين واستوفى المنفعة بغير حق، كلاهما قد اشتركا في دفع ما ليس لهما دفعه وقبض ما ليس لهما قبضه، وكلاهما عاص لله، فكيف يخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه، ويفوت على الآخر العوض والمعوض؟
فإن قيل: هو فوت المنفعة على نفسه باختياره.
قيل: والآخر فوت العوض على نفسه باختياره، فلا فرق بينهما، وهذا واضح بحمد الله.
وقد توقف شيخنا في وجوب رد عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله والصدقة به، في كتاب [اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم]، وقال: الزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، فاستوفوا العوض المحرم، والتحريم الذي فيه ليس لحقهم، وإنما هو لحق الله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين رد الآخر، فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال، وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته وأخذ عوضها جميعا منه، بخلاف ما إذا كان العوض خمرا أو ميتة، فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها، فإنها لو كانت باقية لأتلفناها عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه، بحيث
يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر، أعني: من صرف القوة التي عمل بها.
ثم أورد شيخنا على نفسه سؤالا، فقال: فيقال على هذا: فينبغي أن يقضى لهم بها إذا طالبوا بقبضها.
وأجاب عنه بأن قال: قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها، كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض، ولو أسلموا بعد القبض لم يحكم بالرد، ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة؛ لأنه كان معتقدا لتحريمها، بخلاف الكافر، وذلك لأنه إذا طلب الأجرة فقلنا له: أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل يحرم، فلا يقضى لك بالأجرة، فإذا قبضها وقال الدافع: هذا المال اقضوا لي برده، فإنه اقتضاه عن منفعة محرمة، قلنا له: دفعته معاوضة رضيت بها، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ فاردد إليه ما أخذت، إذا كان له في بقائه معه منفعة، فهذا محتمل، قال: وإن كان ظاهر القياس ردها؛ لأنها مقبوضة بعقد فاسد، انتهى.
وقد نص أحمد في رواية أبي النضر فيمن حمل خمرا أو خنزيرا، أو ميتة لنصراني: أكره أكل كرائه، ولكن يقضي للحمال بالكراء، وإذا كان لمسلم فهو أشد كراهة.
فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق:
إحداها: إجراؤه على ظاهره، وأن المسألة رواية واحدة، قال ابن أبي موسى : وكره أحمد أن يؤاجر المسلم نفسه لحمل ميتة، أو خنزير لنصراني، فإن فعل قضى له بالكراء، وهل يطيب له أم لا؟ على وجهين: أوجههما: أنه لا يطيب له ويتصدق به، وكذا ذكر أبو الحسن الآمدي،
قال: إذا أجر نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة كره، نص عليه، وهذه كراهة تحريم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن حاملها. إذا ثبت ذلك فيقضى له بالكراء، وغير ممتنع أن يقضي له بالكراء، وإن كان محرما، كإجارة الحجام. انتهى. فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح.
الطريقة الثانية: تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها، وجعل المسألة رواية واحدة؛ وهي: أن هذه الإجارة لا تصح. وهذه طريقة القاضي في المجرد، وهي طريقة ضعيفة، وقد رجع عنها في كتبه المتأخرة، فإنه صنف المجرد قديما.
الطريقة الثالثة: تخرج هذه المسألة على روايتين:
إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحة، يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة.
والثانية: لا تصح الإجارة، ولا يستحق بها أجرة، وإن عمل. وهذا على قياس قوله في الخمر: (لا يجوز إمساكها، وتجب إراقتها) قال في رواية أبي طالب : إذا أسلم وله خمر أو خنازير : تصب الخمر، وتسرح الخنازير قد حرما عليه، وإن قتلها فلا بأس، فقد نص أحمد أنه لا يجوز إمساكها؛ لأنه قد نص في رواية ابن منصور : أنه يكره أن يؤجر نفسه لنظارة كرم لنصراني؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر، فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر، وهذه طريقة القاضي في تعليقه، وعليها أكثر أصحابه، والمنصور عندهم الرواية المخرجة، وهي عدم الصحة، وأنه لا يستحق له أجرة، ولا يقضى له بها، وهي
مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد، وهذا إذا استأجره لحملها إلى بيته للشرب، أو لأكل الخنزير، أو مطلقا، فأما إذا استأجره لحملها ليريقها، أو لينقل الميتة إلى الصحراء، لئلا يتأذى بها: فإن الإجارة تجوز حينئذ، لأنه عمل مباح، لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة: لم تصح، واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه: رده على صاحبه، هذا قول شيخنا، وهو مذهب مالك . والظاهر: أنه مذهب الشافعي .
وأما أبو حنيفة فمذهبه كالرواية الأولى: أنه تصح الإجارة، ويقضى له بالأجرة، ومأخذه في ذلك: أن الحمل إن كان مطلقا لم يكن المستحق نفس حمل الخمر، فذكره وعدم ذكره سواء.
وله أن يحمل شيئا آخر غيره. كخل وزيت، وهكذا قال فيما لو أجره داره أو حانوته ليتخذها كنيسة، أو ليبيع فيها الخمر.
قال أبو بكر الرازي : لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيها الخمر أو لا يشترط، وهو يحلم أنه يبيع فيه الخمر: أن الإجارة تصح؛ لأنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء، وإن شرط ذلك؛ لأن له أن لا يبيع فيه الخمر ذلك، ولا يتخذ الدار كنيسة، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة، فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وتركها سواء. كما لو اكترى دارا لينام فيها أو يسكنها، فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك، وكذا يقول فيما إذا استأجر رجلا ليحمل خمرا أو ميتة أو خنزيرا: أنه يصح؛ لأنه لا يتعين حمل الخمر، بل لو حمل بدله عصيرا استحق الأجرة.
فهذا التقييد عندهم لغو، بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده
جائزة، وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها، كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا، ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة، قال: لأن السلاح معمول للقتال، لا يصلح لغيره.
وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى، وقالوا: ليس المقيد كالمطلق، بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة، فتكون هي المقابلة بالعوض وهي منفعة محرمة، وإن كان للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها، وألزموه فيما لو اكترى دارا ليتخذها مسجدا: فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة، بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة، وهي لا تستحق بعقد إجارة، ونازعه أصحاب أحمد ومالك في المقدمة الثانية وقالوا: إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم، حرمت الإجارة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( « لعن عاصر الخمر ومعتصرها » (1) والعاصر إنما يعصر عصيرا، لكن لما علم أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا فيعصره له: استحق اللعنة، قالوا: وأيضا فإن في هذا معاونة على نفس ما يسخط الله ويغضبه، ويلعن فاعله، فأصول الشرع وقواعده تقتضي تحريمه، وبطلان العقد عليه، وسيأتي مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الفتنة وما يترتب من العقوبة.
قال شيخنا: والأشبه طريقة ابن أبي موسى، يعني: أنه يقضى له بالأجرة، وإن كانت المنفعة محرمة، ولكن لا يطيب له أكلها. قال: فإنها أقرب إلى مقصود أحمد، وأقرب إلى القياس، وذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - « لعن عاصر الخمر ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه » (2) فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضا، وهي ليست محرمة في نفسها، وإنما
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1295),سنن ابن ماجه الأشربة (3381).
(2) سنن الترمذي البيوع (1295),سنن ابن ماجه الأشربة (3381).
حرمت بقصد المعتصر والمستحمل، فهو كما لو باع عنبا عصيرا لمن يتخذه خمرا، وفات العصير والخمر في يدي المشتري: فإن مال الباع لا يذهب مجانا، بل يقضى له بعوضه.
كذلك هاهنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانا، بل يعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهة المؤجر، فإنه لو حملها للإراقة أو لإخراجها إلى الصحراء خشية التأذي بها - جاز.
ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه، لا لحق المستأجر والمشتري، بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة فإن نفس هذا العمل محرم، لأجل قصد المستأجر، فهو كما لو باع ميتة أو خمرا فإنه لا يقضى له بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمة، وكذلك لا يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة.
قال شيخنا: ومثل هذه الإجارة: الجعالة، يعني: الإجارة على حمل الخمر، والميتة لا توصف بالصحة مطلقا ولا بالفساد مطلقا، بل يقال: صحيحة بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى أنه يجب عليه العوض، وفاسدة بالنسبة إلى الأجير بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة؛ ولهذا في الشريعة نظائر، قال: ولا ينافي هذا نص أحمد على كراهة نظارة كرم النصراني، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه، ثم نقضي له بكرائه، قال: ولو لم يفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه، فإذا لم يعطوه شيئا، ووجب أن يرد عليهم ما أخذه منهم: كان ذلك أعظم
العون لهم وليسوا بأهل أن يعاونوا على ذلك، بخلاف من أسلم إليهم عملا لا قيمة له بحال، يعني: كالزانية، والمغني، والنائحة، فإن هؤلاء لا يقضى لهم بأجرة، ولو قبضوا منهم المال، فهل يلزمهم رده عليهم، أم يتصدقون به؟ فقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك، وبينا أن الصواب: أنه لا يلزمهم رده، ولا يطيب لهم أكله. والله الموفق للصواب (1)
__________
(1) [زاد المعاد في هدي خير العباد] (4\ 251) وما بعدها.
5 - وجاء في [
فتاوى المنار
]:أخذ الربا من المصارف الأجنبية .
ج 1: إن الربا المحرم قطعا لا يحل إلا لضرورة يضطر صاحبها إليه اضطرارا كالاضطرار إلى أكل الميتة ولحم الخنزير، فهل الربح المسئول عنه كله من الربا القطعي؟ وهل دفع الضرائب الإجبارية من الضرورات الاضطرارية التي تبيحه؟.
المشهور: أن الربح الذي تعطيه المصارف لأصحاب الأموال هو حصص من الربح العام الذي تستغله منها. وهو أنواع: أقلها ما هو من الربا الذي عرفه الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف .
وقد سئل عن الربا الذي لا شك فيه .
فقال: هو أنه كأن يكون للرجل على الرجل دين مؤجل، فإذا جاء الأجل ولم يكن عنده ما يقضي به زاده في المال وزاده صاحبه في الأجل، وهذا بعض ربح المصارف المالية وليس منه ما تأخذه ولا ما تعطيه لأصحاب سهامها ولا للمودعين لأموالهم فيها، وأما كونه بعض مالها
المحرم في الإسلام فمثله كثير من أموال الناس، وللعبرة في مثله بصفة أخذه لا بأصله، ولا سيما في هذا العصر قلما يوجد فيه كسب يلتزم فيه الشرع في بلاد الإسلام، فما القول في بلاد الإفرنج ومستعمراتهم؟
فمن اعتقد مع هذا كله أنه من الربا المحرم لا يجوز له أخذه لأجل أن يدفعه في الضرائب المحرمة من باب دفع الفاسد بالفاسد؛ لأنه ليس ثمة ضرورة تبيح له ذلك. ومن اعتقد أنه من غير الربا الشرعي القطعي لم يحرم عليه، فإن التحريم هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازما، واشترط الحنفية وجمهور السلف أن يكون بنص قطعي، بل قال أبو يوسف : إنه لا يقال في شيء أنه حرام إلا إذا كان بينا في كتاب الله بغير تفسير، ومن كان عنده شبهة فيه دون التحريم كان دفعه في ضرائب الظلم الإجبارية أولى من دفع الأموال التي لا شبهة فيها. وقد بينا حكم الشبهات من قبل في مباحث الربا والمعاملات المالية التي تصدر في كتاب مستقل .
وجاء أيضا أخذ الربا من البنوك لإنفاقه على الفقراء .
ج 2: من المعلوم من الدين بالضرورة أن الربا القطعي لا يجوز أخذه لأجل التصدق به؛ لأنه من التقرب إلى الله بما حرمه الله، فإن هذا تناقض بديهي البطلان، ولكن لاستغلال المال في الشركات المالية من المصارف وغيرها أعمالا ليست من الحرام القطعي قد بيناها من قبل، وسيكون كتابنا الذي وعدنا بإكماله خير مفصل لها إن شاء الله تعالى.
وجاء في [فتاوى المنار]،:
أكل الحرام كالربا والقمار وإرثه والعقاب عليه:
ومنه رجل جمع مالا من طرق غير مشروعة كربا وقمار ولعب بالبورصة
(ما يسمونها بالكونتراتات) وغير ذلك هل يجوز الأكل عنده؟ وإذا مات وترك أولادا يعلمون بحال أشغاله فهل يكون المال حلالا للأولاد بالميراث أم لا؟ وإذا مات رجل وعليه ديون ومظالم لأناس ولم تسامحه أربابها في الحياة الدنيا فما حكمه يوم القيامه؟ وهل يعذب في قبره بسبب ذلك أم عذابه في الأخرة؟ وإذا سامحه أرباب الديون والمظالم في الدنيا فهل يرفع عنه العذاب؟ وهل يجوز سامحته في ذلك يوم القيامة أم لا؟ تفضلوا بالجواب ولكم من الله عظيم الأجر والثواب.
ج: من علم أن مال زيد من الناس حرام كله لم يجز له أن يأكل من طعامه ولا أن يعامله بهذا المال، ولكن قلما يوجد أحد جميع ماله حرام. ومن ترك لأولاده مالا يعلمون أنه مغصوب أو مسروق مثلا ويعرفون أصحابه، فالواجب عليهم رده إليهم، وأما مالا يعرف له مالك والمأخوذ بالعقود الفاسدة شرعا كالربا والمضاربات فيملكونه، وإن كان في الفقهاء من يقول بأنها لا تفيد الملك للمتعاقدين بها، فهذا لا يسري إلى من تنتقل إليه منهم بسبب شرعي صحيح كالإرث، ولا سيما إذا كان مختلطا بغيره غير متميز، فعلى هذا لا يأثم ورثة هذا الميت بأخذ ما تركه لهم إذا لم يقتدوا به في أكل الحرام، والله تعالى يأخذ من حسنات من مات وعليه حقوق للناس أو يحمله من سيئاتهم يوم القيامة إلا أن يحلوه منها، وتقدم في تفسير هذا الجزء حديث صحيح في ذلك، وإذا عفا أصحاب الحقوق عنه فعفو الله تعالى عن حقه بمخالفة شرعه أرجى، فهو مرجو غير مقطوع به، ويجوز أن يعذبه عليها في الآخرة ولم ير أنها سبب لعذاب
القبر (1)
وجاء في [فتاوى المنار]:
رجل من تجار المسلمين القاطنين بكلكته تأتي له حوالات نقدية من الجهات على البنك، وأصحاب البنك المذكور قوم من النصارى الإرباويين فيبقيها في البنك ويأخذ منها بقدر الحاجة فقط بلا شرط بينه وبين أصحاب البنك، فإذا مضى على النقدية أو بعضها ستة أشهر يحسبون له زيادة عن الأصل روبيتين في المائة في السنة، فيكون في الستة أشهر روبية في المائة، وذلك لأنهم- أي: أصحاب البنك- ينتفعون ببقاء الدراهم عندهم نحو اثنتي عشرة روبية أو أكثر في المائة سنويا، وللعملة في البنك عادة على الرجل المذكور في السنة يأخذونها منه بقشيشا، فهل والحالة هذه يباح للرجل المذكور ما يأخذه من أرباب البنك باختيارهم من غير شرط معهم كما تقدم، أم لا؟ أفيدونا سيدي، فإن المسألة واقعة حال لازلتم (2)
ج: من أعطى إنسانا باختياره مالا أو عرضا لا يستحقه عليه فأخذه كان حلالا بإجماع، ما لم يكن هناك غش أو نحوه من الأمور التي تنافي أن يكون المعطي قد أعطى برضاه واختياره، ومن هذه الأمور ما قد يكون معروفا للآخذ، ومنها ما يكون شبهة، ومن ذلك موضوع السؤال، فإنه لم يسأل عنه إلا وهو عند أصحاب الواقعة محل الشبهة، هل هو من الربا أم لا؟ ولو جزموا بأحد الوجهين لم يسألوا.
__________
(1) [ فتاوي المنار] (4\591)
(2) [فتاوي المنار] (2\594)
أما الربا فقد عرفه الحنفية الذين يقلدهم أكثر أهل الهند بأنه: الفضل الخالي عن العوض المشروط في البيع، كما في حواشي [فتح القدير] وغيرها. فقولهم: (المشروط في البيع) يخرج منه واقعة الحال المسئول عنها، إذ لا شرط فيها.
وفي [شرح المنهاج]، للشمس الرملي الشافعي : أن الربا شرعا: عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما، وقوله: (أو مع تأخير) معناه: أو عقد مع تأخير كما في [حاشية الشبراملسي ] عليه، ولا عقد في الواقعة المسئول عنها، ويشبه مسألة الحوالة مسألة الوديعة التي تقع كثيرا، فإن بعض البنوك قد تزيد للمودع شيئا على ماله المودع فيها، وما قد يقع منه بلا شرط فهو يشبه الواقعة إلا أن يقال: إن الوديعة أشبه بالقرض أو الدين منها بالأمانة؛ لأن أهل البنك يتصرفون بالمال ويردون غيره والعرف يقوم مقام العقد في ذلك.
وقد صرح غير واحد من الفقهاء بأن كل قرض جر نفعا للمقرض فهو ربا، ورووا في ذلك حديثا.
وأقول: إن ما جرى عليه العرف في معاملة البنوك على ما نعلم أن ما يوضع فيها أمانة يجوز لصاحبه أن يسترده كله أو بعضه متى شاء، وما يؤخذ على أنه دين ليس لصاحبه أن يسترده إلا بعد انتهاء الأجل، أو يأخذ ما يطلب من المال بربا أكثر من الربا الذي يأخذه هو من البنك وإن كان ما طلبه جزءا من ماله.
مثال ذلك: أن من أعطى البنك ألفا على أن له في المائة ثلاثا في السنة ثم
طلب قبل انقضاء السنة خمسمائة، فإن البنك يعطيه إياها على أن له ستا في المائة أو أكثر أو أقل قليلا، وكل ذلك يجري بعقود مكتوبة، أما الودائع فيعطى البنك بها وصلا للمودع ومنها ما لا يزيده على ما أودع شيئا فيبقى وجه الشبهة في الواقعة المسئول عنها وفيما يشبهها أنها من قبيل القرض الذي جر نفعا، وهي ضعيفة في الحوالة قوية في الوديعة. على أن الفقهاء لا سيما الحنفية قد شددوا في ذلك ويعدون كل ما يؤخذ بلا مقابل ربا، فمن اعتقد ذلك حرم عليه الأخذ.
وإذا رجعنا إلى الدليل رأينا أن حديث: « كل دين جر نفعا... » إلخ ضعيف كما سيأتي عن [نيل الأوطار]، بل قال الفيروزآبادي : إنه موضوع، ولكن في الباب أحاديث أخرى وآثارا تفيد في إنارة المسألة.
قال في [منتقى الأخبار]،: عن أبي هريرة قال: « كان لرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سن من الإبل فجاءه يتقاضاه فقال: "أعطوه "، فطلبوا سنه، فلم يجدوا إلا سنا فوقها، فقال: "أعطوه " فقال: أوفيتني أوفاك الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن خيركم أحسنكم قضاء » (1) .
وعن جابر قال: « أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي عليه دين فقضاني وزادني » (2) متفق عليهما .
وعن أنس، وسئل: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى له أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك » (3) رواه ابن ماجه .
وعن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - « إذا أقرض فلا يأخذ هدية » رواه البخاري في [تاريخه].
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2182),صحيح مسلم المساقاة (1601),سنن الترمذي البيوع (1316),سنن النسائي البيوع (4618),سنن ابن ماجه الأحكام (2423),مسند أحمد بن حنبل (2/393).
(2) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2264).
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2432).
وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام، فقال لي: (إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت- القت: بالفتح هو الجاف من النبات المعروف، وهو رطب بالفصفصة بكسر الفائين، وهي القضب- فلا تأخذه فإنه ربا) رواه البخاري في [صحيحه].
أقول: أثر عبد الله بن سلام لا يحتج بمثله الجمهور الذين يحصرون أدلة الشرع في الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
ومن الغريب قوله بفشو الربا في المدينة، والظاهر: أنه قال بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخراج اليهود منها.
وقال الشوكاني في شرح هذه الأحاديث ما نصه: حديث أنس في إسناده يحيى بن أبي إسحاق الهنائي وهو مجهول، وفي إسناده أيضا عتبة بن حميد الضبي وقد ضعفه أحمد، والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف.
قوله: (سن) أي: جمل له سن معين.
وفي حديث أبي هريرة دليل على جواز المطالبة بالدين إذا حل أجله .
وفيه أيضا دليل على حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وتواضعه وإنصافه .
وقد وقع في بعض ألفاظ الصحيح: أن الرجل أغلظ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم به أصحابه فقال: « دعوه فإن لصاحب الحق مقالا » (1) كما تقدم.
وفيه دليل على جواز قرض الحيوان وقد تقدم الخلاف في ذلك.
وفيه جواز رد ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد، وبه قال الجمهور، وعن المالكية إن كانت الزيادة بالعدد لم
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2183),صحيح مسلم المساقاة (1601).
يجز، وإن كانت بالوصف جازت، ويرد عليهم حديث جابر المذكور في الباب، فإنه صرح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - زاده والظاهر أن الزيادة كانت في العدد، وقد ثبت في رواية للبخاري أن الزيادة كانت قيراطا.
وأما إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد فتحرم اتفاقا، ولا يلزم من جواز الزيادة في القضاء على مقدار الدين جواز الهدية ونحوها قبل القضاء؛ لأنها بمنزلة الرشوة فلا تحل، كما يدل على ذلك حديثا أنس المذكوران في الباب، وأثر عبد الله بن سلام (قد علمت أن حديث أنس ضعيف، وأثر ابن سلام لا يحتج به الجمهور، إلا أن يقال: إن له حكم المرفوع، وفيه نظر على أن النهي فيه قد يكون للورع).
والحاصل: أن الهدية والعارية ونحوهما إذا كانت لأجل التنفيس في أجل الدين أو لأجل رشوة صاحب الدين أو لأجل أن يكون لصاحب الدين منفعة في مقابل دينه فذلك محرم؛ لأنه إما نوع من الربا أو رشوة، وإن كان ذلك لأجل عادة جارية بين المقرض والمستقرض قبل التداين فلا بأس، وإن لم يكن ذلك لغرض أصلا: فالظاهر المنع؛ لإطلاق النهي عن ذلك.
وأما الزيادة على مقدار الدين عند القضاء بغير شرط ولا إضمار : فالظاهر الجواز من غير فرق بين الزيادة في الصفة والمقدار والقليل والكثير؛ لحديث أبي هريرة وأبي رافع والعرباض وجابر، بل هو مستحب.
قال المحاملي وغيره من الشافعية : يستحب للمستقرض أن يرد أجود مما أخذ للحديث الصحيح في ذلك؛ يعني: قوله: « إن خيركم أحسنكم قضاء » (1) .
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2183),صحيح مسلم المساقاة (1601),سنن الترمذي البيوع (1316),سنن النسائي البيوع (4618),سنن ابن ماجه الأحكام (2423),مسند أحمد بن حنبل (2/456).
ومما يدل على عدم حل القرض الذي يجر إلى المقرض نفعا ما أخرجه البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ: كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا ، ورواه في [السنن الكبرى] عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم، ورواه الحارث بن أبي أسامة من حديث علي - رضي الله عنه - بلفظ: « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قرض جر منفعة) » ، وفي رواية: « كل قرض جر منفعة فهو ربا » ، وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك، قال عمر بن زيد في [المغني]: لم يصح فيه شيء، ووهم إمام الحرمين والغزالي فقالا: إنه صح، ولا خبرة لهما بهذا الفن. اهـ. المراد منه ومعظمه منقول من [فتح الباري].
وأما الربا الذي نهى عنه الكتاب العزيز بالنص الصريح فهو ربا النسيئة المضاعف.
وقد ذكرنا كيفيته وبينا حكمته بالتفصيل في تفسير آياته من أواخر سورة البقرة. وتحريمه ليس تعبديا كما يقول من يرى ذلك من الفقهاء، بل هو معلل بقوله عز وجل: { لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (1) وبقوله: واتقوا الله بعد قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } (2) فإن هذا من القسوة ومنع المعروف عند الحاجة المنافي للتقوى.
والمراد بهذا الربا المعروف: ما كان عليه الناس في الجاهلية، وهو كما قال الإمامان مالك وأحمد وغيرهما: أن يكون للرجل على الرجل دين مؤجل- من قرض أو ثمن- فيقول له عند الأجل: إما أن تقضي وإما أن تربي، فيزيد له لحاجته كلما طلب. وليس منه في شيء ما تقدم في السؤال
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة آل عمران الآية 130
وهو أن يستعمل إنسان مال آخر مودعا عنده برضاه ثم يعطيه برضاه عند القضاء أو في آخر السنة جزءا مما ربح برضاه واختياره من غير شرط ولا عقد.
هذا ما عن لنا في هذه المسألة، مع صرف النظر عن حكم دار الحرب وما أحلوه فيها من العقود الفاسدة ونحوها، وأطالت الخوض فيه الجرائد الهندية من زمن ليس بعيد، ولا تنس في هذا المقام ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في العقود الفاسدة في المعاملات، وأن ما اشترط في صحتها إنما اشترط لأجل أن يكون العقد لازما ونافذا عند الحاكم لا لأجل التقرب إلى الله تعالى، فالعقد الذي لا يجيزه الشرع كعقد الربا لا ينفذه الحاكم الشرعي ولا يلزم الوفاء به، بل ولا يحل اشتراطه وجعله حقا يطالب به.
وهذا لا يمنع الناس منعا دينيا أن يتصرفوا في أموالهم برضاهم في غير الفواحش والمنكرات المحرمة لذاتها، وعندي أن ما زاده النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب الدين على دينه من هذا القبيل، وقد سبق لنا في [المنار]، كلام في هذا المبحث (1) .
__________
(1) [ فتاوى المنار] (2\596)
رابعا: أقوال الفقهاء في حكم جريان الربا بين المسلم والحربي :
1 - قال ابن عابدين : وأما شرائط جريان الربا :
(فمنها): أن يكون البدلان معصومين، فإن كان أحدهما غير معصوم ولا يتحقق الربا عندنا، وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط ويتحقق الربا، وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل مسلم دار الحرب تاجرا فباع حربيا
درهما بدرهمين أو غير ذلك هن سائر البيوع الفاسدة في حكم الإسلام أنه يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف لا يجوز، وعلى هذا الخلاف: المسلم الأسير في دار الحرب أو الحربي الذي أسلم هناك ولم يهاجر إلينا فبايع أحدا من أهل الحرب (وجه) قال أبو يوسف : إن حرمة الربا كما هي ثابتة في حق المسلمين فهي ثابتة في حق الكفار؛ لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من الأقوال، فاشتراطه في البيع يوجب فساده، كما إذا بايع المسلم الحربي المستأمن في دار الإسلام. (ولهما) أن مال الحربي ليس بمعصوم، بل هو مباح في نفسه، إلا أن المسلم المستأمن منع من تملكه من غير رضاه؛ لما فيه من الغدر والخيانة فإذا بذله باختياره ورضاه فقد زال هذا المعنى، فكان الأخذ استيلاء على مال مباح غير مملوك، وأنه مشروع مفيد للملك، كالاستيلاء على الحطب والحشيش، وبه تبين أن العقد هنا ليس بتملك، بل هو تحصيل شرط التملك وهو الرضا؛ لأن ملك الحربي لا يزول بدونه، وما لم يزل يملكه لا يقع الأخذ تملكا لكنه إذا زال، فالملك للمسلم يثبت بالأخذ والاستيلاء لا بالعقد، فلا يتحقق الربا؛ لأن الربا اسم لفضل يستفاد بالعقد خلاف المسلم إذا باع حربيا دخل الإسلام بأمان؛ لأنه استفاد العصمة بدخوله دار الإسلام بأمان، والمال المعصوم لا يكون محلا للاستيلاء، فتعين التملك فيه بالعقد، وشرط الربا في العقد مفسد، وكذلك الذمي إذا دخل دار الحرب فباع حربيا درهما بدرهمين أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في الإسلام فهو على هذا الخلاف الذي ذكرناه؛ لأن ما جاز من بيوع المسلمين جاز من بيوع أهل الذمة، وما يبطل أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل أو يفسد من بيوعهم
إلا الخمر والخنزير.
إلى أن قال: وأما إسلام المتبايعين فليس بشرط لجريان الربا فيجري الربا بين أهل الذمة وبين المسلم والذمي؛ لأن حرمة الربا ثابتة في حقهم، لأن الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات إن لم يكونوا مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا، قال الله تعالى: { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } (1) وروي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى مجوس هجر : « إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله » وهذا في نهاية الوعيد فيدل على نهاية الحرمة (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 161
(2) [ بدائع الصنائع] (5\192 ، 193).
2 - قال محمد بن أحمد بن رشد :
(فصل) وفي هذا يدل على إجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب، على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف؛ لأن مكة كانت دار حرب وكان بها العباس بن عبد المطلب مسلما، إما من قبل بدر على ما ذكره أبو إسحاق من أنه اعتذر إلى النبي - عليه السلام - لما أسر يوم بدر وأمره أن يفتدي، فقال له: إني كنت مسلما ولم أخرج لقتالكم إلا كرها، فقال له النبي - عليه الصلاة والسلام -: « أما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك » (1) أو من قبل فتح خيبر إن لم يصح ما ذكره أبو إسحاق على ما دل عليه حديث الحجاج بن علاط من إقراره للنبي - عليه الصلاة والسلام - بالرسالة وتصديقه ما وعده الله به، وقد كان الربا يوم فتح خيبر محرما، على ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بقلادة وهو بخيبر من غنائمها فيها ذهب وخرز فأمر بالذهب الذي في القلادة فنزع
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/353).
وبيع وحده وقال: « الذهب بالذهب وزنا بوزن » (1) ، فلما لم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان من رباه بعد إسلامه، إما من قبل بدر، وإما من قبل فتح خيبر إلى أن ذهبت الجاهلية بفتح مكة وإنما وضع منه ما كان قائما بما لم يقبض دل ذلك على إجازته إذا حكم له بحكم ما كان من الربا قبل تحريمه وبحكم الربا بين أهل الذمة والحربيين إذا أسلموا، وبحديث الحجاج بن علاط الذي دل على أن العباس كان مسلما حين فتح خيبر، وهو ما روى أنس بن مالك، أنه قال للنبي - عليه الصلاة والسلام - حين فتح خيبر : إن لي بمكة أهلا وقد أردت أن أتيمم فإن أذنت لي أن أقول: فعلت، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وأتى مكة وأشاع بها أن أصحاب محمد قد استبيحوا، وأني جئت لآخذ مالي فابتاع من غنائمهم ففرح بذلك المشركون واختفى من كان بها من المسلمين، فأرسل العباس بن عبد المطلب غلامه إلى الحجاج يقول له: ويحك ما جئت به فما وعد الله به رسوله خير مما جئت به، فقال له: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له: ليخل لي بيتا فإن الخبر على ما يسره، فلما أتاه الغلام بذلك قام إليه فقبل ما بين عينيه ثم أتاه الحجاج بن علاط فخلا به في بعض بيوته وأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فتحت عليه خيبر وجرت فيه سهام المسلمين واصطفى رسول الله منها صفية لنفسه، وإن رسول الله أباح له أن يقول ما شاء ليستخرج ماله، وسأله أن يكتم ذلك عليه ثلاثا حتى يخرج، ففعل، فلما أخبر بذلك بعد خروجه فرح المسلمون ورجع ما كان بهم من المقت على المشركين، والحمد لله رب العالمين. نقلت الحديث بالمعنى واختصرت منه الحديث لطوله. وبالله التوفيق.
واحتج الطحاوي لإجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب بحديث
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1588).
النبي - عليه السلام -: « أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية... » (1) الحديث، وإنما اختلف أهل العلم فيمن أسلم وله ثمن خمر أو خنزير لم يقبضه. فقال أشهب المخزومي : هو له حلال، بمنزلة ما لو كان قبضه. وقال ابن دينار وابن أبي حازم : يسقط الثمن عن الذي هو عليه كالربا وأكثر قول أصحابنا على قول أشهب المخزومي (2) .
__________
(1) موطأ مالك الأقضية (1465).
(2) [ المقدمات] لابن رشد .(3\28) وما بعدها
3 - جاء في [المجموع شرح المهذب]: (فرع) الربا يجري في دار الحرب جريانه في دار الإسلام، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وعن أبي حنيفة أن الربا في دار الحرب إنما يجري بين المسلمين المهاجرين، فأما بين الحربيين وبين المسلمين لم يهاجرا أو أحدهما فلا ربا، وقال: إن الذميين إذا تعاقدا عقد الربا في دار الإسلام فسخ عليهما، فالاعتبار عنده بالدار وعندنا الاعتبار بالعاقد، فإذا أربى الذي في بلاد الإسلام مع الذمي لم يفسخ، كذا قال القفال في [شرح التلخيص]، قال: وهكذا سائر البياعات الفاسدة، والله أعلم.
واحتج أبو حنيفة - رضي الله عنه - بحديث مكحول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب » ، وبأن أموال أهل الحرب مباحة للمسلم بغير عقد، فالعقد أولى، ودليلنا: عموم الأدلة المحرمة للربا، فلأن كل ما كان حراما في دار الإسلام كان حراما في دار الشرك، كسائر الفواحش والمعاصي؛ ولأنه عقد فاسد فلا تستباح به العقود عليه كالنكاح.
(قلت): وهذا الاستدلال إن كان أبو حنيفة يوافق على فساده في دار الحرب فلا دليل عنده، وأما حديث مكحول فمرسل إن صح الإسناد إلى مكحول، ثم هو محتمل لأن يكون نهيا فيكون المقصود به تحريم الربا بين المسلم والحربي كما بين المسلمين، واعتضد هذا الاحتمال بالعمومين، وأما استباحة أموالهم إذا دخل إليهم بأمان فممنوعة، فكذا بعقد فاسد، ولو فرض ارتفاع الأمان لم يصح الاستدلال؛ لأن الحربي إذا دخل دار الإسلام يستباح ماله بغير عقد ولا يستباح بعقد فاسد، ثم ليس كل ما استبيح بغير عقد استبيح بعقد فاسد، كالفروج تستباح بالسبي، ولا تستباح بالعقد الفاسد.
ومما استدلوا به على أنه لا ربا في دار الحرب: أن العباس بن عبد المطلب كان مسلما قبل فتح مكة، فإن الحجاج بن علاط لما قدم مكة عند فتح خيبر واجتمع به في القصة الطويلة المشهورة دل كلام العباس على أنه مسلم حينئذ، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الفتح: « وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب » (1) ، فدخل في ذلك الربا الذي من بعد إسلامه إلى فتح مكة، فلو كان الربا الذي بين المسلم والحربي موضوعا لكان ربا العباس موضوعا يوم أسلم.
(والجواب) أن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه فيكفي حمل اللفظ عليه، وليس ثم دليل على أنه بعد إسلامه استمر على الربا ولو سلم استمراره عليه؛ لأنه قد لا يكون عالما بتحريمه، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ (2) .
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
(2) [ شرح المهذب] (11\158)
4 - قال ابن قدامة :
(فصل): ويحرم الربا في دار الحرب كتحريمه في دار الإسلام. وبه قال مالك والأوزاعي وأبو يوسف والشافعي وإسحاق. وقال أبو حنيفة : لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب، وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب: لا ربا بينهما. لما روى مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: « لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب » (1) ، ولأن أموالهم مباحة وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحا.
ولنا قول الله تعالى: { وَحَرَّمَ الرِّبَا } (2) وقوله: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (3) وقال تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (4) وعموم الأخبار يقتضي تحريم التفاضل، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: « من زاد أو ازداد فقد أربى » (5) عام، وكذلك سائر الأحاديث؛ ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب، كالربا بين المسلمين، وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة. وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول، لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به وهو مع ذلك
__________
(1) الحديث مرسل غريب، وهو يحتج بمرسل الثقة. والأصل في هذا عنده أن مال الحربي مباح الأصل، فالوسيلة لأخذه برضاه لا تخرجه عن أصل، بخلاف مال المستأمن والذمي. قالوا: ولذلك أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - للصديق أكل القادر من بعض مشركي مكة لما راهنه على غلب الروم للفرس. وصرح بعضهم بأن المباح: أن يأخذ المسلم مال الحربي دون العكس.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4561),سنن أبو داود البيوع (3349),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579).
مرسل محتمل.
ويحتمل أن المراد بقوله: لا ربا النهي عن الربا (1) ، كقوله: { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } (2) وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام فإن ماله مباح إلا فيما حظره الأمان، ويمكن حمله بين المسلمين على هيئة التفاضل، وهو محرم بالإجماع فكذا هاهنا (3) .
__________
(1) ممنوع خبر (لا) في الحديث
(2) سورة البقرة الآية 197
(3) [المغني] (4\ 45، 46). وقد ذكر ابن حزم كلاما مختصرا في ذلك [ المحلى] (8\ 514)
5 - جاء في [
فتاوى المنار
]:أموال أهل الحرب:
من صاحب الإمضاء مدير جريدة الوفاق- بيتبزرغ- جاوا: محمد بن محمد سعيد الفتة .
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده. ما قول السيد البار بالمسلمين والرشيد الحريص على أحكام رب العالمين في فتوى بعض العلماء: بحل أموال أهل الحرب فيما عدا السرقة والخيانة ونحوهما مما كان برضاهم وعقودهم، فهل هو حل لنا مهما يكن أصله حتى الربا الصريح؟
أليست هذه الفتوى وأمثالها الضربة القاضية على جميع ما حرمه الله، والتعدي على الحدود، التي لم يستثن منها اضطرارا ولا عذرا لفاعل؟ كالشرك والكفر بغير إكراه والقتل العمد وفي القصاص (كذا) والسرقة والربا
ونحو ذلك، لا كالخمر والميتة والدم ونحوها للمضطر، وتأجيل بعض العبادات لعذر كما بينه الشارع مع بقاء الحرمة والحكم والقضاء والكفارة إلا في الخطأ والنسيان، عدا ما استثناه منهما كما هو الحق المنصوص به في كتاب الله والمؤيد بالتواتر والحق المهيمن بالإجماع والتواطئ.. أفتونا بما أمر الله به أن يوصل.
ج- أصل الشريعة الإسلامية أن أموال أهل الحرب مباحة لمن غلب عليها وأحرزها بأي صفة كان الإحراز، إلا أن الفقهاء خصصوا هذا العموم بما ورد في الشريعة من التشديد في تحريم الخيانة، فقالوا: إن المسلم لا يكون خائنا في حال من الأحوال، فإذا ائتمنه أي إنسان وإن كان حربيا على مال وجب عليه حفظ الأمانة وحرمت عليه الخيانة، فإذا كان الأصل في مال الحربي أنه غنيمة لمن غنمه بالقهر أو بالحيلة أو بكل وسيلة ما عدا الخيانة أفلا يكون حله أولى إذا أخذه المسلم برضاه، ولو بصورة العقود الباطلة في دار الإسلام بين المسلمين والخاضعين لحكمهم من غيرهم؟ إنه لم يظهر له أدنى وجه لقياس حل سائر المحرمات كالكفر والخمر والميتة وهي من المحرمات لذاتها في دار الإسلام ودار الحرب على مال الحربيين المباح في أصل الشريعة، إذ الأصل في القياس أن يلحق الشيء بمثله في علة الحكم لا بضده هذا وإن الربا الذي حرمه الله تعالى في دار الإسلام وكذا في دار الحرب بين المسلمين إن وجدوا فيها هو نوع من أنواع أكل المال المحترم بالباطل، وأخذ المال من صاحبه برضاه واختياره: ليس من أكله بالباطل، والمضطر إلى أخذ المال بالربا لا يعطي الزيادة برضاه واختياره، والشرع لم يجعل له حقا بأخذها فكانت حراما؛ لأنها من قبيل
الغصب على كونها بدون مقابل. ولذلك عللت في نص القرآن بأنها ظلم إذ قال تعالى: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (1) وظلم الحربي غير محرم؛ لأنه جزاء على ظلمه، فإنه لا يكون إلا أشد ظلما من المسلم؛ لأنه يخون والمسلم لا يخون، ولأن المسلم يمنعه دينه من أعمال في الحرب ومع أهل الحرب لا يمنع الكافر دينه منها، كقتل غير المقاتلين والتمثيل بالقتلى وغير ذلك، مما هو معروف في الإسلام ونرى غير المسلمين يرتكبونه حتى في البلاد التي جعلوها تحت حكمهم لا المحاربة لهم فقط، والمسلمون يساوون غيرهم ممن يدخل تحت حكمهم بأنفسهم على أن المسلم في دار الإسلام يجوز له أن يقضي دائنه دينه بأفضل مما أخذه منه، إذا كان بمحض اختياره، وقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان اقترض منه بعيرا بسن فوق سن بعيره، كما في [الصحيحين]، ولو كان ذلك مشروطا لكان ربا. قال أبو هريرة كما في [ البخاري]: إن رجلا تقاضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال: « دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا واشتروا له بعيرا فأعطوه إياه » (2) فقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه، فقال: « اشتروه فأعطوه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاء » (3) .
وما رواه الحارث عن علي : « كل قرض جر منفعة فهو ربا » فسنده ضعيف، بل قالوا: إنه ساقط؛ فإن رواية سوار بن مصعب متروك، يروي المنكرات، بل اتهم برواية الموضوعات.
لولا كتاب خاص شرح لنا فيه صديقنا السائل سبب سؤاله لما فهمنا قوله فيه أن تلك الفتوى ضربة قاضية على جميع ما حرمه الله تعالى.
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) صحيح البخاري الوكالة (2183),صحيح مسلم المساقاة (1601).
(3) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2260),صحيح مسلم المساقاة (1601),سنن الترمذي البيوع (1316),سنن النسائي البيوع (4618),سنن ابن ماجه الأحكام (2423),مسند أحمد بن حنبل (2/456).
فقد كتب إلينا أن بعض المستمسكين بحبل الدين في جاوه قد استنكروا الفتوى المسئول عنها؛ لأنهم فهموا منها أن استحلال الربا في دار الحرب يفضي إلى استحلال سائر المعاصي؛ كالزنا واللواط والقتل وغير ذلك فيها أو مطلقا.
وهذا سوء فهم منهم، فإن الفتوى ليست في استحلال الربا مطلقا كما تقدم. ولا يخفى على أحد منهم أن حرمة سفك الدم بغير حق أشد من حرمة أخذ المال بغير حق، فهل يقيسون إذا إباحة قتل المحارب على إباحة قتل المسالم من مسلم وذمي ومعاهد؟ ولدار الحرب أحكام أخرى تخالف أحكام دار الإسلام منها: عدم إقامة الحدود فيها.
ونقول لهم من جهة أخرى: إذا أقام المسلم في غير دار الإسلام فهل يدعون أن الله تعالى يأمره بأن يدفع إلى أهلها كل ما يوجبه عليه قانون حكومتها من مال الربا وغيره، ولا مندوحة له عن ذلك، ويحرم عليه أن يأخذ منهم ما يعطونه إياه بحكم ذلك القانون من ربا وغيره برضاهم واختيارهم؟ أعني: هل يعتقدون أن الله تعالى يوجب على المسلم أن يكون عليه الغرم من حيث يكون لغيره الغنم، أي: يوجب عليه أن يكون مظلوما مغبونا؟
إن تحريم الربا من الأحكام المعلولة المعنى لا من التعبديات، وما حرم الله تعالى شيئا إلا لضرورة على عباده الخاضعين لشرعه، وقد علل تحريم الربا في نص القرآن بأنه ظلم من حيث إنه استغلال لضرورة الفقير الذي لا يجد قوته أو ضرورته إلا بالاقتراض. والقرآن إنما حرم الربا الذي كان معهودا بين الناس في الجاهلية، وهو الربا المضاعف كما تراه في [تفسير
ابن جرير ] وغيره من كتب التفسير المأثور، ومنه قول ابن زيد ( زيد أحد علماء الصحابة الأعلام وابنه من رواة التفسير المأثور): إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن: يكون للرجل على الرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: تقضيني أو تزيدني، فإذا كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض (أي: في السنة الثانية) يجعلها ابنة لبون (أي: في السنة الثالثة) ثم حقة (أي: ابنة السنة الرابعة) ثم جذعة (في الخامسة) ثم رباعيا (وهو ما ألقى رباعيته ويكون في السنة السادسة) ثم هكذا إلى فوق، وفي العين (أي: الذهب والفضة) يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه، اهـ من تفسير آية آل عمران. وضرر هذا عظيم، وهو قسوة تحرمها الآن جميع القوانين، ثم أوجب القرآن على التائب منه أخذ رأس المال فقط.
وذكر ابن حجر المكي في [الزواجر]: أن ربا الجاهلية كان الإنساء فيه بالشهور، وهو الذي يسمى في عرف المحدثين بربا النسيئة، وفيه ورد حديث « لا ربا إلا في النسيئة » (1) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أسامة بن زيد مرفوعا، ورواه مسلم عن ابن عباس عنه بلفظ: « إنما الربا في النسيئة » (2) ، وما صح من النهي عن ربا الفضل في الحديث فلسد الذريعة، كما نص عليه المحققون.
وإننا قد فصلنا القول في مسألة الربا في التفسير وغيره من قبل، فلا نعود إليها هنا، وإنما غرضنا بيان أن تلك الفتوى ليس فيها خطر على التوحيد ولا
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2069),سنن ابن ماجه التجارات (2257).
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596),سنن النسائي البيوع (4581),سنن ابن ماجه التجارات (2257),مسند أحمد بن حنبل (5/200).
تقتضي تحليل شيء من المحرمات، ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعملن بها (1) .
__________
(1) [فتاوى محمد رشيد رضا] (6\ 1974- 1978).
6 - وجاء في [
فتاوى محمد رشيد رضا
]: س (1): إن الربا انتشر في أرض جاوا في هذه الأيام انتشارا لا عهد لنا به، حتى إن بعض الأساتذة الذين كانوا في مقدمة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمقاومين للربا خرجوا من المدارس وأصبحوا اليوم في مقدمة المرابين، فإذا سألناهم عن الدافع إلى هذا أجابوا بلسان واحد: بأن صاحب [المنار] أفتى بجواز الربا على الإفرنج، وإذا رأينا أحدا يرابي على الوطنيين، أجابنا: بأن موظفي الحكومة لا دينيين، وأننا في دار حرب. وقد أفتى صاحب [المنار]، بجواز الربا في دار الحرب، فهل لما أشيع عن مناركم من صحة؟ إذا قلتم: نعم فستقفل الحوانيت ويقف دولاب تجارة العرب بجاوا ويتوجهون إلى الربا اعتمادا على فتواكم. فما رأي فضيلتكم؟ أرجو الجواب في أول عدد من مناركم ليحق الحق ويزهق الباطل و إن الباطل كان زهوقاأخذ الربا من الإفرنج في دار الحرب :
ج: إن ما تعنونه من إفتائي بحل أخذ الربا على الإفرنج في دار الحرب ليس كما ذكرتم أو نقلتم، وإنما هو جواب عن سؤال ورد على [المنار] من مدير جريدة [الوفاق]، (بيتبزرغ- جاوه) ونشر في ج 8 مجلد 28 الذي صدر في ربيع الآخر سنة 1346 هـ في فتوى بعض العلماء بحل أموال الحرب فيما عدا السرقة والخيانة ونحوهما، مما كان برضاهم وعقودهم، فهل هو
حل لنا مهما يكن أصله، حتى الربا الصريح؟.
هذا موضوع الاستفتاء، والمستفتي فيه منكر له أشد الإنكار، كما هو مبين بنص كلامه في السؤال، إذ جعل هذه الفتوى خطرا على التوحيد ومقتضية لتحليل جميع المحرمات، وقد بينا في جوابه أصل الشريعة في إباحة أموال الحرب بإجماع المسلمين، وما قيد العلماء به عموما، ولم يخالفنا أحد في ذلك. فراجعوا فتوانا في (ص 575 من مجلد [المنار] 28) فإن بقي في أنفسكم شبهة فبينوه لنا. وقد كتبنا في آخره أن تلك الفتوى لا خطر فيها على التوحيد، ولا تقتضي تحليل شيء من المحرمات. ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعملن بها، ا هـ.
وجملة القول: أنني ما أفتيت في شيء انفردت به في هذا الموضوع، وأن الذين ذكرتم أنهم يستحلون أخذ الربا من المسلمين بدعوى أنهم لا دينيين، أي: كفار تعطيل وإباحة، لا يمكنهم أن يدعوا أن صاحب المنار أفتى بتكفيرهم ولا بأخذ الربا منهم، ولا جعله حرفة للمسلمين، وإنما يتبعون أهواءهم. على أننا سنصدر إن شاء الله تعالى في هذا العام كتابنا في مباحث الربا والمعاملات المالية العصرية التي نشرناها في مجلدات [المنار] بعد تلك الفتوى، فانتظروا، فالمسألة ليست من البداهة بحيث يحررها المرابون والتجار، وخطر الاستدانة من الإفرنج بالربا أضعاف ما تتصورون من عكسه، بل هو الذي جعل المسلمين أفقر الشعوب (1) .
__________
(1) [فتاوى محمد رضا] (6\2583 - 2585).
الخلاصة
مما تقدم يتبين ما يلي :أولا: من المعلوم أن الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وأنه لا يجوز للمسلم أن يقدم عليه وهو يعلم أنه ربا، وأن الربا المتحصل له وهو لا يعلم الحكم، بل أقدم على التعامل ظنا منه أنه يجوز ثم قبض الربا واستهلكه أنه لا إثم عليه ولا يجب عليه بذله.
وأما الربا الذي قبضه وهو يعلم أنه ربا فهو آثم وعليه أن يرده لصاحبه إن عرفه، لعموم قوله تعالى: { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } (1)
وإن كان لا يعلم صاحبه، أو يعلمه ولكن تعذر عليه حصوله وحصول من يقوم مقامه شرعا- فإنه يتصدق به، أو يصرفه في المصالح العامة، ومن أخذه من المتصدق به فهو حلال له (2) .
ثانيا: الفوائد الربوية التي لم تقبض، بل هي باقية في البنوك يتولى الإمام قبضها وصرفها في المصالح العامة؛ لأنه إما أن يقال بإبقائها لأصحاب البنوك أو بإحراقها أو بأخذها وصرفها في المصالح العامة والأول لا يصح؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وأن الثاني لا يصح؛ لأنه إفساد، والله لا يحب الفساد، وتعين الثالث (3) .
ثالثا: اختلف في حكم جريان الربا بين المسلم والحربي :
فذهب أبو حنيفة ومن وافقه إلى جوازه، لقصة العباس وحديث مكحول : « لا ربا بين مسلم وحربي » ، وحديث: « أي دار قسمت في
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) انظر النقول (2- 9) وما بعدها
(3) انظر النقول (13) وما بعدها
الجاهليه فهي على قسم الجاهلية » (1) ، ولأن مال الحربي مباح للمسلم بدون عقد فبالعقود أولى.
ونوقشت قصة العباس : بأن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه، فيكفي حمل اللفظ عليه بتحريمه، فأراد - صلى الله عليه وسلم - إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ.
ونوقش حديث مكحول : بأنه مرسل.
وحديث كهذا لا ينبغي أن يكون معارضا للقرآن والسنة والإجماع.
ولو قدرت صحته فيحتمل أن المراد بقوله: « لا ربا » (2) النهي عن الربا، كقوله تعالى: { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } (3)
ونوقش القياس بالمنع ولو فرض ارتفاع الأمان لم يصح الاستدلال؛ لأن الحربي إذا دخل دار الإسلام يستباح ماله بغير عقد ولا يستباح بعقد فاسد. ثم ليس كل ما يستباح بغير عقد يستباح بعقد فاسد، كالفروج تستباح بالسبي ولا تستباح بالعقد الفاسد.
وذهب مالك والإمام أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والأوزاعي والشافعي وإسحاق ومن وافقهم من الفقهاء: إلى أن حكم الربا بين المسلم والحربي كحكمه بين المسلم والمسلم.
ومن الحجة لذلك قوله تعالى: { وَحَرَّمَ الرِّبَا } (4) وقوله: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } (5) إلى غير ذلك من الأدلة.
ولعموم الأخبار المقتضية لتحريم التفاضل، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « من زاد أو ازداد فقد أربى » (6) ، ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار
__________
(1) موطأ مالك الأقضية (1465).
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (3087),سنن ابن ماجه المناسك (3055).
(3) سورة البقرة الآية 197
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 275
(6) صحيح مسلم المساقاة (1587),سنن الترمذي البيوع (1240),سنن النسائي البيوع (4561),سنن أبو داود البيوع (3349),مسند أحمد بن حنبل (5/314),سنن الدارمي البيوع (2579).
الحرب، كالربا بين المسلمين (1) .
وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) انظر النقول من (27- 34).
(7)
المواشي السائبة
على الطرق العامة
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
المواشي السائبة على الطرق العامة
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، وبعد :
فبالإشارة إلى ما جاء في المحضر رقم (1) وتاريخ 11\ 8\ 1396 هـ من محاضر جلسات هيئة كبار العلماء في دورتها التاسعة المنعقدة في شهر شعبان ابتداء من 11 \8 \1396 هـ بخصوص رغبة المجلس من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء إعداد بحث مختصر لموضوع المواشي السائبة المهملة من قبل أهلها - بالإشارة إلى ذلك أعدت اللجنة الدائمة في ذلك البحث التالي مستمدة من الله العون والتوفيق.
لعل موضوع المواشي السائبة لا يخرج عن الصور الآتية:
الأولى: مواش ذات قيمة مالية ولها سوق نافقة، ويغلب على الظن أن لها ملاكا.
الثانية: مواش لا قيمة لها ويغلب على الظن تخلي ملاكها عنها، وهذه إما أن تكون مما يباح أكله فالغالب أن أصحابها قد تخلوا عنها؛ لعدم
الاستفادة منها إما لمرضها أو لكبرها أو نحو ذلك.
الثالثة: أن تكون مما لا يباح أكله كالحمير، وقد تخلى عنها ملاكها، ويمكن الانتفاع بها ركوبا ونقلا ونحو ذلك.
الرابعة : أن تكون من الصورة الثالثة إلا أنه لا يمكن الانتفاع بها؛ لمرضها أو كبرها أو عرجها أو نحو ذلك.
فهذه أربع صور :
أما الصورة الأولى: فنظرا إلى أن تركها سائبة على جانبي الطرق العامة مهددة أمن الطريق يعتبر ضررا بالغا وخطرا على الأموال والأنفس، وحيث إن الشريعة الإسلامية تعنى بتحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم وتتخذ في سبيل هذا الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك، فترتكب أدنى المفسدتين لتفويت كبراهما، وتؤثر مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد في حال التعارض، وتؤثر درء المفاسد على جلب المصالح، لذلك كله فإن لولي الأمر أن يأمر باحتجاز هذه المواشي وبيعها في المزاد العلني بعد التعرف على صفاتها، فإن جاء صاحبها أعطي ما يبقى من قيمتها بعد خصم مصاريف الاحتجاز والعلف والنقل والبيع إلا أن يرى ولي الأمر معاقبته على إهمالها وتركها مهددة أمن الطريق، فله أن يصادر قيمتها عليه عقوبة له. وإن لم يتقدم لها مالك أدخلت قيمتها في بيت المال، وهذا كله بعد إعلام المواطنين بضرورة حماية جوانب الطرق من مواشيهم وإخطارهم بعواقب المخالفة، وذلك في وسائل الإعلام المختلفة من إذاعة وصحافة وتلفزة.
الصورة الثانية: حيث إن مثل هذه المواشي المباح ذبحها للآكل يغلب
على الظن الرغبة عن أكلها؛ لمرضها أو كبرها أو نحو ذلك من أسباب التخلي عنها، وبالتالي انتفاء قيمتها المالية أو تفاهتها، وحيث إن تركها سائبة على جوانب الطرق العامة فيه تعريض لأمن الطريق وخطر على الأنفس والأموال، فإن لولي الأمر أن يأمر بذبحها وإطعامها من يرغب في أكلها من الفقراء أو حيوانات أخرى.
الصورة الثالثة : حيوانات لا تؤكل ويمكن الانتفاع بها ركوبا ونقلا ونحو ذلك.
فهذا النوع من الحيوان إن وجد من يأخذه للتملك على شرط إبعادها عن جوانب الطرق بحيث يؤمن شرها ويتفادى خطرها أعطيها وبذلك ينتهي إشكالها.
وإن أمكن نقلها إلى جهات، أهلها بحاجة إليها فكذلك، وإن لم يتيسر شيء من ذلك وبقي إشكالها على حالة مهددة أمن الطريق موفرة أسباب الدعس، والصدم والحوادث، وما يتبع ذلك في الغالب من إتلاف الأنفس والأموال، وبذل جهات الاختصاص جهودا مكثفة في الإسعاف والتحقيق وفصل الخصومات، فهذه الصورة قد يكون النظر في حكمها متفقا مع النظر في حكم الصورة الرابعة.
ويتلخص النظر فيهما فيما يلي :
أن النظر في مآل هذه الحيوانات السائبة على جوانب الطرق العامة قد لا يتجاوز أمرين:
أحدهما: القول بذبحها وإطعامها حيوانات أخرى:
ويعلل ذلك بما يلي:
الأول انتفاء ماليتها بانتفاء الانتفاع بها وحرمة أكلها على الناس.
الثاني: ثبوت أذيتها والضرر اللاحق من توافرها في الطرق وعلى جوانبها بما تسببه من الصدم والدعس والحوادث وتلف ما يتلف من ذلك من الأموال والأنفس.
وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها وارتكاب أدنى المفسدتين لتفادي أشدهما، ولا شك أن مفسدة ذبحها إن وجدت فهي قليلة مغمورة في جنب مصالح الخلاص منها ودرء مفاسدها.
الثالث: إن جمعها والإبقاء عليها فيه تحميل لبيت المال للإنفاق عليها، وفي ذلك مضرة حيث إن النفقة عليها من بيت المال أو غيره خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق أي مصلحة حاضرة ولا منتظرة، ومما لاشك فيه أن بيت المال مرصود لمصالح المسلمين في الحاضر والمستقبل، وأنه لا يجوز الصرف منه فيما لا فائدة للمسلمين منه.
الرابع: جواز ذبح المأكول لحمه مما تعافه الأنفس في الغالب لمرضه أو كبره أو نحو ذلك لإراحته أو للخلاص من مشقة النفقة عليه ورعايته . فإذا جاز ذبح ذلك لغير الأكل فقد لا يكون فارق مؤثر بينه وبين ما لا يؤكل لحمه مما لا فائدة في بقائه إذا كان في ذبحه جلب مصلحة أو دفع مضرة.
الخامس : ما جاءت به النصوص وقال به أهل العلم من جواز قتل ما منه الأذى كالخمس الفواسق والهر المؤذي وغير ذلك من الحيوانات والحشرات المؤذية، قال العلامة ابن مفلح - رحمه الله - ما نصه:
ويكره قتل النمل إلا من أذية شديدة، فإنه يجوز قتلهن وقتل القمل بغير النار ويكره قتلهما بالنار، ويكره قتل الضفادع، ذكر ذلك في [المستوعب]، قال في [الغنية] كذلك، وأنه لا يجوز سقي حيوان مؤذ - إلى أن قال: ومال صاحب النظم إلى أنه يحرم إحراق كل ذي روح، وأنه يجوز إحراق ما يؤذي بلا كراهة إذا لم يزل ضرره دون مشقة غالبة إلا بالنار .
وقال: إنه سئل عما ترجح عند الشيخ شمس الدين صاحب الشرح فقال: ما هو ببعيد واستدل صاحب الشرح بالخبر الذي في [الصحيحين] أو في [صحيح البخاري] « أن نبيا من الأنبياء نزل على قرية نمل فآذته نملة فأحرق القرية فأوحى الله تعالى إليه: فهلا نملة واحدة » (1) ... إلى أن قال: وقال في [المستوعب في محظورات الإحرام]: فأما النمل وكل ما لا يضر ولا ينفع كالخنافس والجعلان والديدان والذباب والنمل غير التي تلسع. فقال أحمد - رحمه الله -: إذا آذته- يعني: هذه الأشياء- قتلها، ويكره قتلها من غير أذية فإن فعل فلا شيء عليه.. إلى أن قال: عن إبراهيم النخعي قال: إذا آذاك النمل فاقتله. ورأى أبو العالية نملا على بساط فقتلهن. وعن طاوس قال: إنا لنفرق النمل بالماء، يعني: إذا آذتنا. روى ذلك ابن أبي شيبة في [مصنفه].
وسئل الشيخ تقي الدين : هل يجوز إحراق بيوت النمل بالنار؟ فقال: يدفع ضرره بغير التحريق.
وذكر في [المغني] في مسألة قتل الكلب أن ما لا مضرة فيه لا يباح قتله واستدل بالنهي عن قتل الكلاب فدل كلامه هذا على التسوية وأنه إن أبيح قتل ما لا مضرة فيه من غير الكلاب أبيح قتل الكلاب وهو ظاهر كلام
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3141),صحيح مسلم السلام (2241),سنن النسائي الصيد والذبائح (4359),سنن أبو داود الأدب (5265),سنن ابن ماجه الصيد (3225),مسند أحمد بن حنبل (2/449).
جماعة وهو متجه.
وعلى هذا يحمل تخصيص جواز قتل الكلب العقور والأسود البهيم؛ لأنه لم يبح قتل ما لا مضرة فيه... إلى أن قال: وعلى قولنا يمنع قتلها، أنها إذا آذت بكثرة نجاستها وأكلها ما غفل عنه الناس جاز قتلها على ما يأتي:
نص أحمد في النمل بقتله إذا آذاه مع أن الشارع نهى عن قتلها فما جاز في أحدهما جاز في الآخر ... إلى أن قال: فأما ما فيه منفعة من وجه ومضرة من وجه كالبازي والصقر والشاهين والباشق فإنه يخير في قتلها على ما ذكره في [المستوعب]، وكذا في الفصول لما استوت حالتاه استوى الحال في قتله وتركه فمضرته في اصطياده لطيور الناس ومنفعته كونه يصطاد للناس قال: وكذا الفهد وكل كلب معلم للصيد ... إلى أن قال: ويحرم قتل الهر، وجزم بعضهم يكره. وإن ملكت حرم.
وكذا جزم به صاحب [النظم] وإن كره فقط فقتل الكلب أولى ويجوز قتلها بأكلها لحما أو غيره نحوه قال صاحب [النظم] (بلا كراهة) وفي الفصول (حين أكله)؛ لأنه لا يردعه إلا الدفع في حال صياله والقتل شرع في حق الآدمي وإن فارق الفعل ليرتدع الجنس.
وفي [الترغيب] لا يجوز إلا إذا لم يندفع إلا به.
وقال صاحب [النظم]: وكذا لو كان يتبول على الأمتعة أو يكسر الآنية ويخطف الأشياء غالبا لا قليلا لمضرته .. اهـ (1)
__________
(1) [الآداب الشرعية]، (3\ 369 - 374)
الأمر الثاني: القول بعدم إباحة ذبحها على أي حال كانت ميؤوسا منها .
واستدل لذلك بما يلي:
روى مسلم في [صحيحه]: عن جابر بن عبد الله قال: « أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها لتقتله، ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين، فإنه شيطان » (1) ، وروى مسلم أيضا عن عبد الله بن المغفل قال: « أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب؟! ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، » (2) فإذا كان هذا في الكلاب التي لا ينتفع بها، بل قد يكون ضررها محققا كتنجيسها للشوارع ونحوها. فكيف بالحمر بحجة أنه لا ينتفع بها؟
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: « سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل » (3) . متفق عليه .
وعنه: « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا » (4) . متفق عليه .
وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا » (5) رواه مسلم .
وقال النووي : قال العلماء: صبر البهائم أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه- وهو معنى « لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا » (6) - أي: لا تتخذوا الحيوان الحي غرضا ترمون إليه كالغرض من الجلود وغيرها، وهذا النهي للتحريم، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في رواية ابن عمر التي بعد هذه: « لعن الله من فعل هذا » (7) ، ولأنه تعذيب للحيوان وإتلاف لنفسه وتضييع لماليته وتفويت لذكاته إن كان مذكى ولمنفعته إن لم يكن مذكى.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1572),سنن أبو داود الصيد (2846),مسند أحمد بن حنبل (3/333).
(2) صحيح مسلم الطهارة (280),سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1486),سنن النسائي الصيد والذبائح (4280),سنن أبو داود الطهارة (74),مسند أحمد بن حنبل (4/85).
(3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5195),مسند أحمد بن حنبل (2/94),سنن الدارمي الأضاحي (1973).
(4) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1958),مسند أحمد بن حنبل (2/86).
(5) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1957).
(6) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1957).
(7) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1958),مسند أحمد بن حنبل (2/141).
وعن جابر « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليه حمار وقد وسم في وجهه قال: لعن الله الذي وسمه » (1) رواه مسلم.
فهذه الأحاديث ونظائرها دالة على تحريم قتل كل ذي روح لاتخاذها غرضا . فكيف بقتل الحمر بدون غرض لذلك؟ ودعوى إيذائها وعدم الانتفاع بها ليس مبررا في قتلها كالكلاب حيث لا ينتفع بها والميؤوس منه ؛ لمرضه وعجزه لا أذى فيه.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: « أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه: أفي إن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح » (2) .
وفي بعض الأحاديث: « فهلا نملة واحدة » (3) أخرجه مسلم.
وأخرج أيضا عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض » (4) .
قال النووي : فيه وجوب نفقة الحيوان على مالكه، وفي الحديث دليل لتحريم قتل الهرة وتحريم حبسها بغير طعام أو شراب.
قال الشيخ أحمد بن محمد الصاوي المالكي في حاشيته على [الشرح الصغير]: ودخل في الدابة الواجبة نفقتها هرة عمياء فتجب نفقتها على من انقطعت عنده حيث لم تقدر على الانصراف فإن قدرت عليه لم تجب؛ لأن له طردها.
وخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد اندلع لسانه من
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2117),سنن أبو داود الجهاد (2564).
(2) صحيح البخاري بدء الخلق (3141),صحيح مسلم السلام (2241),سنن النسائي الصيد والذبائح (4358),سنن أبو داود الأدب (5266),سنن ابن ماجه الصيد (3225),مسند أحمد بن حنبل (2/403).
(3) صحيح البخاري بدء الخلق (3141),صحيح مسلم السلام (2241),سنن النسائي الصيد والذبائح (4359),سنن أبو داود الأدب (5265),مسند أحمد بن حنبل (2/449).
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3295),صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2242),سنن الدارمي الرقاق (2814).