كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
يتبين ذلك من كلمته وكلمة تلميذه ابن القيم فيما يلي ، مع زيادة تفصيل في أنواع الذرائع :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (1) ( الوجه الرابع والعشرون ) : إن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم ؛ بأن حرمها ونهى عنها .
والذريعة : ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء . لكن صارت في عرف الفقهاء : عبارة عما أفضت إلى فعل محرم . ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة ؛ ولهذا قيل : الذريعة : الفعل الذي ظاهره أنه مباح ، وهو وسيلة إلى فعل المحرم .
أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا ؛ كإفضاء شرب الخمر إلى السكر ، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه ، أو كان الشيء نفسه فسادا كالقتل والظلم فهذا ليس من هذا الباب . فإنا نعلم أنما حرمت الأشياء لكونها في نفسها فسادا بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه ، أو لكونها مفضية إلى فساد بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة وهي مفضية إلى ضرر أكثر منه فتحرم ، فإن كان ذلك الفساد فعلا محظورا سميت ذريعة . وإلا سميت سببا ومقتضيا ، ونحو ذلك من الأسماء المشهورة .
ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا ، وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي لكن الطبع متقاض لإفضائها . وأما إن كانت إنما تفضي أحيانا فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا
__________
(1) [ الفتاوى الكبرى] ( 3\256 ) وما بعدها .
الإفضاء القليل وإلا حرمها أيضا . ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها . ومنها ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم فهذا القسم الثاني يجامع الحيل بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة وقد لا يقترن ، كما أن الحيل قد تكون بالذرائع وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع فصارت الأقسام ( ثلاثة ) :
الأول : ما هو ذريعة وهو مما يحتال به ، كالجمع بين البيع والسلف وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى . وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ وكقرض بني آدم .
الثاني : ما هو ذريعة لا يحتال بها كسب الأوثان فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى ، وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى أن يسب والده ، وإن كان هذان لا يقصدهما مؤمن .
الثالث : ما يحتال به من المباحات في الأصل ، كبيع النصاب في أثناء الحول فرارا من الزكاة ، وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة .
والغرض من هذا أن الذرائع حرمها الشارع ، وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم ، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع .
وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا ؛ لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا ، فيصير ذريعة فيسد هذا الباب ؛ لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ، ويقول القائل : لم أقصد به ذلك ، ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى ،
ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه ، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه .
وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر ، لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس ، وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة ، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه ، وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة .
أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر ، فنذكر منها ما حضر :
فالأول : قوله سبحانه وتعالى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1) حرم سب الآلهة مع أنه عبادة ؛ لكونه ذريعة إلى سبهم لله سبحانه وتعالى ؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم .
الثاني : ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « من الكبائر شتم الرجل والديه . قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه » (2) ، متفق عليه . ولفظ البخاري : « إن من أكبر الكبائر : أن يلعن الرجل والديه . قالوا : يا رسول الله ، كيف يلعن الرجل
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216).
والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه » (1) ، فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما وإن لم يقصده ، وبين هذا والذي قبله فرق ؛ لأن سب آباء الناس هنا حرام ، لكن قد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر الكبائر ، لكونه شتما لوالديه ، لما فيه من العقوق ، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره .
الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة ، لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقتل أصحابه ؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ، وممن لم يدخل فيه ، وهذا النفور حرام .
الرابع : أن الله سبحانه حرم الخمر ؛ لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل ، وهذا في الأصل ليس من هذا الباب . ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتخليل وجعلها نجسة ؛ لئلا تقضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها . ثم إنه قد نهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث ، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها ، حسما لمادة ذلك . وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف . وبين أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة ، فقال : « لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه » يعني صلى الله عليه وسلم : أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا .
الخامس : أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية ، حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير .
السادس : أنه نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك ،
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216).
ونهى عن تكبير القبور وتشريفها وأمر بتسويتها . ونهى عن الصلاة إليها وعندها ، وعن إيقاد المصابيح عليها ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا . وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصد ، بل قصد خلافه سدا للذريعة .
السابع : أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها ، وكان من حكمة ذلك : أنهما وقت سجود الكفار للشمس ، ففي ذلك تشبيه بهم مشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه ، فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس أو أخذ بعض أحوال عابديها .
الثامن : أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة : مثل قوله : « إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم » (1) ، و « إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم » (2) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء : « لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع » (3) ، وقال في موضع : « لا تشبهوا بالأعاجم » ، وقال فيما رواه الترمذي : « ليس منا من تشبه بغيرنا » (4) ، حتى قال حذيفة بن اليمان : من تشبه بقوم فهو منهم ؛ وما ذلك إلا لأن المشابهة في بعض الهدي الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب ، وذلك يجر إلى فساد عريض .
التاسع : أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها ، وقال : « إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم » حتى لو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها كما رضيت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج أختها درة لم يجز ذلك ، وإنما زعمتا أنهما لا
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309).
(2) سنن أبو داود الصلاة (652).
(3) صحيح مسلم الصيام (1134),سنن أبو داود الصوم (2445),مسند أحمد بن حنبل (1/236),سنن الدارمي الصوم (1759).
(4) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695).
تتباغضان بذلك ؛ لأن الطباع تتغير فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة . وكذلك حرم نكاح أكثر من أربع ؛ لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم ، وإن زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المئونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن ، وقد بين العلة الأولى بقوله تعالى { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } (1) وهذا نص في اعتبار الذريعة .
العاشر : أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا ، حتى حرم ذلك في عدة الوفاة ، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة ، فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك .
الحادي عشر : أن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة ، وفي حال الإحرام ؛ حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين ، ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين .
الثاني عشر : أن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به ، مثل اشتراط إعلانه إما بالشهادة أو ترك الكتمان أو بهما . ومثل اشتراط الولي فيه . ومنع المرأة أن تليه . وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة .
وكان أصل ذلك في قوله تعالى : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } (2) و { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } (3) وإنما ذلك ؛
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) سورة النساء الآية 24
(3) سورة النساء الآية 25
لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش . ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ، ومن الموارثة زائدة على مجرد مقصود الاستمتاع ، فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم كما جعل بينهما في قوله تعالى : { نَسَبًا وَصِهْرًا } (1) وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح وتبين أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه .
الثالث عشر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع ، وهو حديث صحيح ، ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح ؛ وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى ، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين ، وهذا هو معنى الربا .
ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مد عجوة ، قال : إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار ، ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر ، يقصد بذلك أن هذا ذريعة إلى الربا ، وهذه علة صحيحة في مسألة مد عجوة ، لكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة ، وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول - صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 54
والعلة المتقدمة بعينها موجودة فيها ، فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له ؟ !
الرابع عشر : أن الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطأ على الربا وما ذاك إلا سدا للذريعة .
الخامس عشر : أنه تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض إلا أن يحسبها له ، أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض . وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا . وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية ومنع الشافع قبول الهدية ، فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية .
السادس عشر : أن السنة مضت بأنه ليس لقاتل من الميراث شيء إما القاتل عمدا كما قال مالك ، والقاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما . أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة . أو القاتل بغير حق أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد ، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده ، فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا ؛ وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر .
السابع عشر : أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت ، حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان ؛ لأن الطلاق ذريعة ، وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف ، مأخذ الشارع في ذلك أن المورث أوجب تعلق
حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية ، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين .
الثامن عشر : أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك ، لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء .
التاسع عشر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إقامة الحدود بدار الحروب ، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار .
العشرون : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه ، ونهى عن صوم يوم الشك إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو ، وإما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه من الخلاف المشهور ، وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه ، وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم وهو يوم العيد .
وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم تمييزا لوقت العبادة من غيره ، لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي ، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة ، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها ، وعن غيرها فكره للإمام أن يتطوع في مكانه وأن يستديم استقبال القبلة ، وندب المأموم إلى هذا التمييز ، ومن جملة فوائد ذلك سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض .
الحادي والعشرون : أنه - صلى الله عليه وسلم - كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله
سبحانه ، وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا ؛ قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه .
الثاني والعشرون : أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( راعنا ) مع قصدهم الصالح ؛ لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه - صلى الله عليه وسلم - ، ولئلا يتشبه بهم ، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا .
الثالث والعشرون : أنه أوجب الشفعة لما فيه من رفع الشركة ، وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة سدا لهذه المفسدة بحسب الإمكان .
الرابع والعشرون : أن الله سبحانه أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحي إليه بالباطن ، وأمره أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق ، وألا يقبل شهادة ظنين في قرابة وإن وثق بتقواه ؛ حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء ؛ لينضبط طريق الحكم ، فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فيه من الجهل والظلم ما لا يزول بحسم هذه المادة ، وإن أفضت في آحاد الصور إلى الحكم بغير الحق ، فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك ، وإن كان قد يقع بهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير .
الخامس والعشرون : أن الله سبحانه منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان بمكة من الجهر بالقرآن ، حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به .
السادس والعشرون : أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود ؛ سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجر, وإن كان العقوبات من جنس الشر, ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك , فإنه اكتفى قيه بالتعزير, ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة , وإن تاب العاصي عند ذلك , وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها ؛ لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
السابع والعشرون : أنه - صلى الله عليه وسلم - سن الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى ، وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم , ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة وصلاة ذات البين وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات لا يكاد ينضبط , وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال , وزجر عن ذرائع الفرقة وهي من الأفعال أيضا .
الثامن والعشرون : أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وكراهة إفراد يوم الجمعة , وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار ، وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا , لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار ، وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع .
التاسع والعشرون : أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت
تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها , لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكفار معاملة المسلم .
الثلاثون : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره ويصبغ نعله الذي قلده بدمه ويخلي بينه وبين الناس , ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته .
قالوا : وسبب ذلك أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها ؛ مما يؤذيها لحصول غرضه بعطبها دون المحل كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء . فإذا أيس من حصوله غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إبلاغها المحل وأحسم لمادة هذا الفساد , وهذا من ألطف سد الذرائع .
والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط , ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم , إذا الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول لا يحتج بها , ولم يذكر الحيل التي يقصد بها الحرام كاحيتال اليهود ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما ، وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع , فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع , وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا .
ثم هذه الأحكام في بعضها حكم آخر غير ما ذكرناه من الذرائع ، وإنما قصدنا أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها , فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم أو بأن لا يقصد به , يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك
مصلحة توجب حله أو وجوبه , فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما, وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله , وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه , وهذا بين لمن تأمله . والله الهادي إلى سواء الصراط .
وقد اتبع ابن القيم شيخه ابن تيمية رحمهما الله في إثبات قاعدة سد الذرائع بأدلة الاستقراء من الكتاب والسنة , فقال رحمه الله .
"
فصل
" (1)
في سد الذرائع
لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها, فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها .
ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها ، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود ، وكلاهما مقصود قصد الوسائل , فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها ؛ تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له, ومنعا أن يقرب حماه . ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به .
وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء , بل سياسته ملوك الدنيا تأبى ذلك ، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم
__________
(1) [إعلام الموقعين] ( 3\ 175-183 ) .
أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضا ، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده . وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه . وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه . فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها . والذريعة : ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء .
ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ليزول الالتباس فيه ، فنقول : الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان :
أحدهما : أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر . وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية . والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش ونحو ذلك . فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها .
الثاني : أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب . فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه .
فالأول : كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل ، أو يعقد البيع قاصدا به الربا ، أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك . والثاني : كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم أو يصلي بين يدي القبر لله . ونحو ذلك .
ثم هذا القسم من الذراع نوعان :
أحدهما : أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته .
والثاني : أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته .
فهاهنا أربعة أقسام :
الأولى : وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة .
الثاني : وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة .
الثالث : وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها .
الرابع : وسيلة موضوعة للمباح ، وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها . فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم . ومثال الثالث : الصلاة في أوقات النهي ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم . وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها . وأمثال ذلك . ومثال الرابع : النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها (1) : يطبها . ويعاملها . وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ونحو ذلك .
فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة . وجاء بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة .
بقي النظر في القسمين الوسط : هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما ؟ فنقول :
الدلالة على المنع من وجوه :
__________
(1) قوله : يطؤها ، كذا في الأصل ، والصواب
الوجه الأول : قوله تعالى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1) فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين - مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم - لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى . وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم ، وهذا كالتنبيه ، بل كالتصريح على المنع من الجائز ، لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز .
الوجه الثاني : قوله تعالى : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } (2) فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن .
الوجه الثالث : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } (3) الآية .
أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة ، لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة . ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها ، وإن أمكن في تركه هذه المفسدة ؛ لندورها وقلة الإفضاء إليها فجعلت كالمقدمة (4) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة النور الآية 58
(4) كذا بالأصل ، وصوابه : كالمعدوم .
الوجه الرابع : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا } (1) نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة - مع قصدهم بها الخير - لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم ، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقصدون بها السب ، يقصدون فاعلا من الرعونة فنهي المسلمون عن قولها سدا لذريعة المشابهة ، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبها بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون .
الوجه الخامس : قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } (2) { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (3) فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه ؛ لئلا يكون إغلاظ القول له مع أنه حقيق به ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة فنهاهما عن الجائز ، لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى .
الوجه السادس : أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح ، لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإغضاء واحتمال الضيم ، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة .
الوجه السابع : أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة ؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها .
__________
(1) سورة البقرة الآية 104
(2) سورة طه الآية 43
(3) سورة طه الآية 44
الوجه الثامن : ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « من الكبائر شتم الرجل والديه . قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه » (1) متفق عليه . ولفظ البخاري : « إن من أكبر الكبائر : أن يلعن الرجل والديه ، قيل : يا رسول الله ، كيف يلعن الرجل والديه ؟! قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه » (2) ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده .
الوجه التاسع : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين - مع كونه مصلحة - لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه ، وقولهم : إن محمدا يقتل أصحابه ، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه ، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل .
الوجه العاشر : أن الله تعالى حرم الخمر ؛ لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل ، وهذا ليس مما نحن فيه . لكن حرم القطرة الواحدة منها . وحرم إمساكها للتخليل ونجسها ، لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة ، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب . ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين وعن شرب العصير بعد ثلاث . وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به ؛ حسما لمادة قربان المسكر ، وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - بالعلة في تحريم القليل ، فقال : « لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه » .
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216).
(2) صحيح البخاري الأدب (5628),صحيح مسلم الإيمان (90),سنن الترمذي البر والصلة (1902),سنن أبو داود الأدب (5141),مسند أحمد بن حنبل (2/216).
الوجه الحادي عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين ؛ سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع .
الوجه الثاني عشر : أن الله تعالى أمر بغض البصر - وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله - سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور .
الوجه الثالث عشر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك ، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد وعن الصلاة إليها وعندها وعن إيقاد المصابيح عليها ، وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا ، وعن شد الرحال إليها ، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها ، وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده ، بل قصد خلافه سدا للذريعة .
الوجه الرابع عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود المشركين للشمس ، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سدا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد مع بعد هذه الذريعة فكيف بالذرائع القريبة ؟ .
الوجه الخامس عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة كقوله : « إن اليهود والنصارى لا يصبغون ، فخالفوهم » (1) ، وقوله : « إن اليهود لا يصلون في نعالهم ، فخالفوهم » (2) ، وقوله : في عاشوراء : « خالفوا اليهود ، صوموا يوما قبله ويوما بعده » ، وقوله : « لا
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3275),صحيح مسلم اللباس والزينة (2103),سنن النسائي الزينة (5071),سنن أبو داود الترجل (4203),سنن ابن ماجه اللباس (3621),مسند أحمد بن حنبل (2/309).
(2) سنن أبو داود الصلاة (652).
تشبهوا بالأعاجم » ، وروى الترمذي عنه : « ليس منا من تشبه بغيرنا » (1) ، وروى الإمام أحمد عنه : « من تشبه بقوم فهو منهم » (2) ، وسر ذلك أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل .
الوجه السادس عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها ، وقال : « إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم » حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز ؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة ، كما علل به النبي - صلى الله عليه وسلم .
الوجه السابع عشر : أنه حرم نكاح أكثر من أربع ؛ لأن ذلك ذريعة إلى الجور . وقيل : العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المؤنة المفضية إلى أكل الحرام . وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع ، وأباح الأربع - وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن - لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة .
الوجه الثامن عشر : أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا . حتى حرم ذلك في عدة الوفاة ، وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة ، فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها .
الوجه التاسع عشر : أن الله تعالى حرم عقد النكاح في حال العدة وفي الإحرام وإن تأخر الوطء إلى وقت الحل ؛ لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء ولا ينتقض هذا بالصيام ؛ فإن زمنه قريب جدا ، فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل .
الوجه العشرون : أن الشارع حرم الطيب على المحرم ؛ لكونه من
__________
(1) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695).
(2) سنن أبو داود اللباس (4031).
أسباب دواعي الوطء ، فتحريمه من باب سد الذريعة .
هذا فقد استمر رحمه الله في ذكر أدلة المنع حتى أوصلها تسعة وتسعين دليلا . ) .
ثم قال : وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف ، فإنه أمر ونهي ، والأمر نوعان : أحدهما : مقصود لنفسه ، والثاني : وسيلة إلى المقصود ، والنهي نوعان : أحدهما : ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه ، والثاني : ما يكون وسيلة إلى المفسدة ، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين . اهـ .
2 -
الأسباب المادية والأسباب الروحية
الأسباب نوعان : مادية عادية ، وروحية .فالمادية العادية : هي التي عرف كونها سبب باب التجارب وتكرار نشوء أشياء عن أخرى ، فحكم بأنها مسببة عنها عادة بتقدير الله لا بنفسها استقلالا . مثل : حرث الأرض وسقيها وزرعها وغرسها طلبا للحبوب والثمار ، وكالأدوية من حبوب وشراب ونحوهما لعلاج الأمراض ، وليس منها الحلقة المسئول عنها ، فإنها ليست سببا عاديا ؛ لعدم ثبوت ما يدعى أن بها مادة تصلح لعلاج الروماتزم .
والناس في هذه الأسباب ثلاث طوائف : فمنهم : من غلا في إثباتها وتأثيرها ، فزعم أنها يترتب عليها مسبباتها بطبيعتها استقلالا ، وهذا شرك في الربوبية ، ومنهم : من ألغاها ولم يعتبر لها شأنا في ترتيب مسبباتها عليها أصلا ، وهذا مخالف لمقتضى العقل ولأدلة الشرع ، ومنهم : من اعتبرها أسبابا عادية ينشأ عنها مسبباتها بتقدير من الله . فإذا وجد السبب
التام وانتفت الموانع ترتب عليه مسببه بإذن الله وتقديره لا استقلالا ، وهذا هو الحق الذي شهدت له الأدلة وعليه أهل السنة والجماعة .
أما الأسباب الروحية فمصدر معرفتها الشرع ؛ كالرقى ، والأذكار الشرعية ، واللجوء إلى الله وصدق التوكل عليه ، والدعاء لتفريج كربة وشفاء مرض ، وغير ذلك من الشدائد . فهذه قد وردت الأدلة باعتبارها أسبابا لجلب نفع ودفع ضر ، وليس منها الحلقة المسئول عنها ، فإنها لم يدل دليل على اعتبارها شرعا ، ولا ثبت في مجاري العادات اعتبارها سببا عاديا ، وعلى هذا يقال : إن لبسها رجاء الشفاء من مرض نوع من الشرك .
وفيما يلي نقول عن بعض العلماء في ذلك :
قال ابن القيم رحمه الله (1) :
ونحن نقول : إن هاهنا أمرا آخر نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم ، وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم ، فإن ما عندهم من العلم بالطب : منهم من يقول : هو قياس ، ومنهم من يقول : هو تجربة ، ومنهم من يقول هو إلهامات ، ومنامات وحدس صائب ، ومنهم من يقول : أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذوات السموم ، تعمد إلى السراج فتلغ في الزيت تتداوى به ، وكما رئيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض وقد غشيت أبصارها تأتي إلى ورق الرازيانح فتمر عيونها عليها ، وكما عهد من الطير الذي
__________
(1) [زاد المعاد] ( 3\ 139\ 143 ) .
يحقن بماء البحر عند انحباس طبعه ، وأمثال ذلك مما ذكر في مبادئ الطب وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره ، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء ، بل هاهنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء ، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية ، والروحانية وقوة القلب ، واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه ، والانطراح والانكسار بين يديه والتذلل له ، والصدقة والدعاء ، والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق ، وإغاثة الملهوف ، والتفريج عن المكروب ، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه .
وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية ، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة الأدوية الطرقية عند الأطباء ، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجا عنها ، ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب العالمين وخالق الداء والدواء ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعاينها القلب البعيد منه المعرض عنه ، وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره ، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به ، وحبها له ، وتنعمها بذكره ، وانصراف قواها كلها إليه وجمعها عليه واستعانتها به وتوكلها عليه أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية ، وأن
توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأعظمهم حجابا وأكثفهم نفسا وأبعدهم عن الله ، وعن حقيقة الإنسانية ، وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ الذي رقي بها فقام حتى كأن ما به قلبة ، فهذان نوعان من الطب النبوي ، ونحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة ، ومبلغ علومنا القاصرة ومعارفنا المتلاشية جدا ، وبضاعتنا المزجاة ، ولكنا نستوهب من بيده الخير كله ، ونستمد من فضله ، فإنه العزيز الوهاب .
( فصل ) روى مسلم في [صحيحه] من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل » (1) ، وفي [ الصحيحين ] عن عطاء عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء » (2) ، وفي [مسند الإمام أحمد ] و[السنن] من حديث زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال : « كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءت الأعراب فقالوا : يا رسول الله ، أنتداوى ؟ فقال : " نعم يا عباد الله تداووا ، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد " قالوا : ما هو ؟ قال : " الهرم » (3) ، وفي لفظ : « إن الله لم ينزل داء إلا وضع له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله » (4) ، وفي [ المسند] من حديث ابن مسعود يرفعه : « إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه ، وجهله من جهله » (5) ، وفي [المسند] و[السنن] عن أبي خزامة قال : « قلت : يا رسول الله ، أرأيت رقى نسترقيها ، وداوء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال : " هي من قدر الله » (6) .
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2204),مسند أحمد بن حنبل (3/335).
(2) صحيح البخاري الطب (5354),سنن ابن ماجه الطب (3439).
(3) سنن الترمذي الطب (2038),سنن أبو داود الطب (3855),سنن ابن ماجه الطب (3436),مسند أحمد بن حنبل (4/278).
(4) سنن ابن ماجه الطب (3438),مسند أحمد بن حنبل (1/443).
(5) سنن ابن ماجه الطب (3438),مسند أحمد بن حنبل (1/443).
(6) سنن الترمذي القدر (2148),سنن ابن ماجه الطب (3437).
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات ، وإبطال قول من أنكرها ، ويجوز أن يكون قوله : « لكل داء دواء » (1) على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها ، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ، ولكن طوى علمها عن البشر ولم يجعل لهم إليه سبيلا ؛ لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله ، ولهذا علق النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفاء على مصادفة الدواء للداء ، فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضد ، وكل داء له ضد ، من الدواء به يعالج . فعلق النبي - صلى الله عليه وسلم - البرء بموافقة الداء للدواء ، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده ، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية أو زاد في الكمية على ما ينبغي نقله إلى داء آخر ، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته ، وكان العلاج قاصرا ومتى لم يقع المداوي على الدواء (2) لم يحصل الشفاء ، ومتى لم يكن الزمان صالحا لذلك الدواء لم ينفع ، ومتى كان البدن غير قابل له أو القوة عاجزة عن حمله أو ثم مانع يمنع من تأثيره لم يحصل البرء ، لعدم المصادفة ، ومتى تمت المصادفة ، حصل البرء بإذن الله ولا بد ، وهذا أحسن المحملين في الحديث . والثاني : أن يكون من العام المراد به الخاص لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه ، وهذا يستعمل في كل لسان ، ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء ، فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء ، وهذا كقوله تعالى
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2204),مسند أحمد بن حنبل (3/335).
(2) أو لم يقع الدواء على الداء .
في الريح التي سلطها على قوم عاد : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } (1) أي : كل شيء يقبل التدمير ، ومن شأن الريح أن تدمره ، ونظائره كثيرة ، ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ومقاومة بعضها لبعض ، ودفع بعضها ببعض ، وتسليط بعضها على بعض ، تبين له كمال قدرة الرب تعالى ، وحكمته وإتقانه ما صنعه وتفرده بالربوبية والوحدانية والقهر ، وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه ، كما أنه الغني بذاته ، وكلما سواه محتاج بذاته ، وفي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل ، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل ، فإن تركها عجزا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلا ، ولا توكله عجزا ، وفيها رد على من أنكر التداوي وقال : إن كان الشفاء قد قدر فالتداوي لا يفيد ، وإن لم يكن قد قدر فكذلك ، وأيضا فإن المرض حصل بقدر الله وقدر الله لا يدفع ولا يرد ، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما أفاضل الصحابة فأعلم بالله وبحكمته وصفاته من أن يوردوا
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 25
مثل هذا ، وقد أجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما شفى وكفى ، فقال : هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله ، فما خرج شيء عن قدره ، بل يرد قدره بقدره ، وهذا الرد من قدره فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما ، وهذا كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها ، وكرد قدر العدو بالجهاد ، وكل من قدر الله : الدافع والمدفوع والدفع ، ويقال لمورد هذا السؤال : هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببا من الأسباب التي تجلب بها منفعة أو تدفع بها مضرة ؛ لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا لم يكن بد من وقوعهما ، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما وفي ذلك خراب الدين والدنيا وفساد العالم ، وهذا لا يقوله إلا دافع للحق معاند له ، فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه كالمشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا } (1) والذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا } (2) فهذا قالوه دفعا لحجة الله عليهم بالرسل ، وجواب هذا السائل أن يقال : بقي قسم ثالث لم تذكره ، وهو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب ، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب ، وإلا فلا ، فإن قال : إن كان قدر لي السبب فعلته وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله ، قيل له : فهل تقبل هذا الاحتجاج من عبدك وولدك وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته فلا تلم من عصاك وأخذ مالك وضربك وقذف عرضك وضيع حقوقك ،
__________
(1) سورة الأنعام الآية 148
(2) سورة النحل الآية 35
وإن لم تقبله فكيف يكون مقبولا منك في دفع حقوق الله عليك ؟
وقال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله (1) : ولنقدم قبل الشروع في المطلوب ( مقدمة كلامية ) مسلمة في هذا الموضع :
وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا ، وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا . وليس هذا موضع ذلك . وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام ، وزعم الرازي : أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة ، كما أن أفعاله كذلك ، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد ، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين . ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية أثبت ذلك على أن العلل بمعنى : العلامات المعرفة للأحكام خاصة ، ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة . والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره ، فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل وهو الأصل : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (2) { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (3) وقال في أصل الخلقة : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (4) { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (5)
__________
(1) [الموافقات] ( 2\6 ، 7 ) .
(2) سورة النساء الآية 165
(3) سورة الأنبياء الآية 107
(4) سورة هود الآية 7
(5) سورة الذاريات الآية 56
{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (1)
وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى ، كقوله بعد آية الوضوء : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } (2) وقال في الصيام : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (3) وفي الصلاة : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } (4) وقال في القبلة : { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } (5) وفي الجهاد : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } (6) وفي القصاص : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } (7) وفي التقرير على التوحيد : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } (8) والمقصود التنبيه .
وإذا دل الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم
__________
(1) سورة الملك الآية 2
(2) سورة المائدة الآية 6
(3) سورة البقرة الآية 183
(4) سورة العنكبوت الآية 45
(5) سورة البقرة الآية 150
(6) سورة الحج الآية 39
(7) سورة البقرة الآية 179
(8) سورة الأعراف الآية 172
فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة . ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد فلنجر على مقتضاه ، ويبقى البحث في كون ذلك واجبا أو غير واجب موكولا إلى علمه .
وقال القرطبي رحمه الله (1) : واختلف العلماء في حقيقة التوكل : فسئل عنه سهل بن عبد الله ، فقال : قال فرقة : الرضا بالضمان وقطع الطمع من المخلوقين . وقال قوم : التوكل : ترك الأسباب والركون إلى مسبب الأسباب . فإذا شغله السبب عن المسبب زال عنه اسم التوكل . قال سهل : من قال : إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الله عز وجل يقول : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا } (2) فالغنيمة : اكتساب . وقال تعالى : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } (3) فهذا عمل . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله يحب العبد المحترف » (4) .
وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرضون على السرية .
وقال غيره : وهذا قول عامة الفقهاء ، وأن التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض ، واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب ، وتحرز من عدو ، وإعداد الأسلحة
__________
(1) [تفسير القرطبي] ( 4\ 189 ، 190 ) .
(2) سورة الأنفال الآية 69
(3) سورة الأنفال الآية 12
(4) ذكر السيوطي في [الجامع الصغير] : أن هذا الحديث رواه الطبراني في [الكبير] والبيهقي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ورمز له برموز الضعف .
واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة . وإلى هذا ذهب محققو الصوفية ، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب ، فإنها لا تجلب نفعا ولا ضرا ، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل منه وبمشيئته ، ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم .
ثم المتوكلون على حالين :
الأول : حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه ولا يتعاطاه إلا بحكم الأمر .
الثاني : حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب أحيانا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية والبراهين القطعية والأذواق الحالية ، فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين ، ويلحقه بدرجات العارفين .
وجاء في [شرح العقيدة الطحاوية] : ومما ينبغي أن يعلم ما قاله طائفة من العلماء وهو : أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل ، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع . ومعنى التوكل والرجاء يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع .
وبيان ذلك : أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه ، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا ؛ لأنه ليس بمستقل ولا بد له من شركاء وأضداد مع هذا كله . فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر .
3 -
نصوص وآثار جزئية في موضوع البحث ونقول عن العلماء في ذلك
ما سبق بيانه في الأمر الأول والثاني تقعيد كلي عام يندرج فيه موضوع البحث ونحوه ، أما الأمر الثالث ففيه أدلة جزئية من السنة النبوية ، وآثار عن الصحابة هي نص في الموضوع ، ونقول عن العلماء في حكم ذلك نذكرها فيما يلي :قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على حديث أبي بشير الأنصاري - رضي الله عنه - في قطع القلادة (1) والوتر : قال ابن الجوزي : وفي المراد بالأوتار ثلاثة أقوال :
أحدهما : أنهم كانوا يقلدون الإبل أوتار القسي لئلا تصيبها العين بزعمهم فأمروا بقطعها إعلاما بأن الأوتار لا ترد من أمر الله شيئا ، وهذا قول مالك .
( قلت ) : وقع ذلك متصلا بالحديث من كلامه في [الموطأ] وعند مسلم وأبي داود وغيرهما ، قال مالك : أرى أن ذلك من أجل العين ، ويؤيده حديث عقبة بن عامر رفعه : « من علق تميمة فلا أتم الله له » (2) أخرجه أبو داود أيضا ، والتميمة : ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك ، وقال ابن عبد البر : إذا اعتقد الذي قلدها أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر ، وذلك لا يجوز اعتقاده .
ثانيها : النهي عن ذلك لئلا تختنق الدابة عن محمد بن الحسن
__________
(1) [فتح الباري] ( 6\106 ، 107 ) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/154).
صاحب أبي حنيفة وكلام أبي عبيدة يرجحه، فإنه قال: نهي عن ذلك؛ لأن الدواب تتأذى بذلك ويضيق عليها نفسها ورعيها، وربما تعلقت بشجرة فاختنقت أو تعوقت عن السير.
ثالثها : أنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس حكاه الخطابي، وعليه يدل تبويب البخاري، وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أم حبيبة أم المؤمنين مرفوعا: « لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس » (1) أخرجه النسائي من حديث أم سلمة أيضا، والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، فقد أخرجه الدارقطني من طريق عثمان بن عمر المذكور بلفظ: « لا تبقين قلادة من وتر ولا جرس في عنق بعير إلا قطع » (2) .
(قلت): ولا فرق بين الإبل وغيرها في ذلك إلا على القول الثالث فلم تجر العادة بتعليق الأجراس في رقاب الخيل، وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي وهب الحساني رفعه: « اربطوا الخيل وقلدوها، ولا تقلدوها الأوتار » (3) فدل على أن لا اختصاص للإبل، فلعل التقييد بها في الترجمة للغالب، وقد حمل النضر بن شميل الأوتار في هذا الحديث على معنى الثأر، فقال: معناه: لا تطلبوا بها ذحول الجاهلية، قال القرطبي : وهو تأويل بعيد، وقال النووي : ضعيف، وإلى نحو قول النضر جنح وكيع، فقال: المعنى لا تركبوا الخيل في الفتن، فإن من ركبها لم يسلم أن يتعلق به وتر يطلب به.
والدليل على أن المراد بالأوتار جمع الوتر بالتحريك لا الوتر بالإسكان: ما رواه أبو داود أيضا من حديث رويفع بن ثابت : « من عقد لحيته أو تقلد وترا فإن محمدا بريء منه » (4) ، فإنه عند الرواة أجمع بفتح المثناة. انتهى.
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2554),مسند أحمد بن حنبل (6/327),سنن الدارمي الاستئذان (2675).
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843),صحيح مسلم اللباس والزينة (2115),سنن أبو داود الجهاد (2552),مسند أحمد بن حنبل (5/216),موطأ مالك الجامع (1745).
(3) سنن النسائي الخيل (3565),سنن أبو داود الجهاد (2553),مسند أحمد بن حنبل (4/345).
(4) سنن النسائي الزينة (5067),سنن أبو داود الطهارة (36),مسند أحمد بن حنبل (4/109).
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1) : باب (من الشرك: لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه ) وقول الله تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } (2)
عن عمران بن حصين رضي الله عنه: « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، فقال: انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا » (3) رواه أحمد بسند لا بأس به.
وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: « من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له » (4) ، وفي رواية: « من تعلق تميمة فقد أشرك » (5) .
ولابن أبي حاتم عن حذيفة : أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (6)
فيه مسائل:
الأولى : التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.
الثانية : أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح، فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
الثالثة : أنه لم يعذر بالجهالة.
__________
(1) [فتح المجيد] ص (116- 133)، باستثناء الشرح الذي في ص (119).
(2) سورة الزمر الآية 38
(3) سنن ابن ماجه الطب (3531),مسند أحمد بن حنبل (4/445).
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/154).
(5) مسند أحمد بن حنبل (4/156).
(6) سورة يوسف الآية 106
الرابعة : أنها لا تنفع في العاجلة، بل تضر لقوله: « لا تزيدك إلا وهنا » (1) .
الخامسة : الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
السادسة : التصريح بأن من تعلق شيئا وكل إليه.
السابعة : التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك.
الثامنة : أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك.
التاسعة : تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
العاشرة : أن تعليق الودع عن العين من ذلك.
الحادية عشرة : الدعاء على من تعلق تميمة: أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له، أي: ترك الله له.
قال حفيده عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: قوله: (باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو في دفعه).
رفعه: إزالته بعد نزوله، ودفعه: منعه قبل نزوله.
قال: وقول الله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } (2)
قال ابن كثير : أي: لا تستطيع شيئا من الأمر، { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } (3) أي: الله كافي من توكل عليه { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } (4) كما
__________
(1) سنن ابن ماجه الطب (3531),مسند أحمد بن حنبل (4/445).
(2) سورة الزمر الآية 38
(3) سورة الزمر الآية 38
(4) سورة الزمر الآية 38
قال هود عليه السلام حين قال له قومه: { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } (1) { مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ } (2) { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (3) قال مقاتل في معنى الآية: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا، أي: لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها.
وإنما كانوا يدعونها على معنى: أنها وسائط وشفعاء عند الله، لا على أنهم يكشفون الضر، ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده، كما قال تعالى: { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } (4) { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } (5)
قلت: فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وأن ذلك شرك بالله.
وفي الآية بيان أن الله تعالى وسم أهل الشرك بدعوة غير الله، والرغبة إليه من دون الله، والتوحيد ضد ذلك. وهو: أن لا يدعو إلا الله، ولا يرغب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وكذا جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شيء لغير الله، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، كما تقدم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن عمران بن حصين : « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة،
__________
(1) سورة هود الآية 54
(2) سورة هود الآية 55
(3) سورة هود الآية 56
(4) سورة النحل الآية 53
(5) سورة النحل الآية 54
قال: انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا » (1) رواه أحمد بسند لا بأس به.
قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا المبارك عن الحسن قال: أخبرني عمران بن حصين : « أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة- قال: أراها من صفر- فقال: ويحك، ما هذه؟ قال: من الواهنة، قال: أما إنها لا تزيدك إلا وهنا، انبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا » (2) ، ورواه ابن حبان في [صحيحه] ، فقال: « فإنك إن مت وكلت إليها » ، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي .
وقال الحاكم : أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران، وقوله في الإسناد: أخبرني عمران، يدل على ذلك.
قوله: (عن عمران بن حصين ) أي: ابن عبيد بن خلف الخزاعي، أبو نجيد- بنون وجيم مصغر- صحابي ابن صحابي، أسلم عام خيبر، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة .
قوله: (رأى رجلا)، وفي رواية الحاكم : « دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر، فقال: ما هذه؟ » الحديث. فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث.
قوله: (ما هذه؟) يحتمل أن الاستفهام للاستفصال عن سبب لبسها، ويحتمل أن يكون للإنكار، وهو أظهر.
قوله: (من الواهنة) قال أبو السعادات : الواهنة: عرق يأخذ في المنكب، وفي اليد كلها، فيرقى منها، وقيل: هو مرض يأخذ في
__________
(1) سنن ابن ماجه الطب (3531),مسند أحمد بن حنبل (4/445).
(2) سنن ابن ماجه الطب (3531),مسند أحمد بن حنبل (4/445).
العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء، وإنما نهي عنها لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار المقاصد.
قوله: « انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا » (1) ، النزع: هو الجذب بقوة، أخبر أنها لا تنفعه، بل تضره، وتزيده ضعفا، وكذلك كل أمر نهي عنه، فإنه لا ينفع غالبا، وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه.
قوله: « فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا » (2) لأنه شرك، والفلاح: هو الفوز والظفر والسعادة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وله عن عقبة بن عامر مرفوعا : « من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له » (3) ، وفي رواية: « من تعلق تميمة فقد أشرك » (4) .
الحديث الأول: رواه الإمام أحمد، كما قال المصنف، ورواه أيضا أبو يعلى، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي .
قوله: (وفي رواية) أي: من حديث آخر رواه أحمد فقال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي منصور، عن دخين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط، فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا؟! فقال: إن عليه تميمة ، فأدخل يده فقطعها، فبايعه، وقال: من تعلق تميمة فقد أشرك » (5) ، ورواه الحاكم بنحوه، ورواته ثقات .
قوله: (عن عقبة بن عامر ) صحابي مشهور، فقيه فاضل، ولي إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين، ومات قريبا من الستين.
__________
(1) سنن ابن ماجه الطب (3531),مسند أحمد بن حنبل (4/445).
(2) سنن ابن ماجه الطب (3531),مسند أحمد بن حنبل (4/445).
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/154).
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/156).
(5) مسند أحمد بن حنبل (4/156).
قوله: « من تعلق تميمة » (1) ، أي: علقها متعلقا بها قلبه في طلب خير أو دفع شر.
قال المنذري : خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وهذا جهل وضلالة، إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى.
وقال أبو السعادات: التمائم: جمع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم، يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام.
قوله: « فلا أتم الله له » (2) دعاء عليه.
قوله: « ومن تعلق ودعة » (3) بفتح الواو وسكون المهملة، قال في [مسند الفردوس] الودع: شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين.
قوله: « فلا ودع الله له » (4) بتخفيف الدال: أي: لا جعله في دعة وسكون، قال أبو السعادات : وهذا دعاء عليه.
قوله: وفي رواية: « من تعلق تميمة فقد أشرك » (5) .
قال أبو السعادات : إنما جعلها شركا؛ لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: ولابن أبي حاتم عن حذيفة : أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (6)
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن إشكاب، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيرا، فقطعه أو
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/154).
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/154).
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/154).
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/154).
(5) مسند أحمد بن حنبل (4/156).
(6) سورة يوسف الآية 106
انتزعه، ثم قال: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (1)
وابن أبي حاتم : هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي الحافظ ، صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما، مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.
و حذيفة : هو ابن اليمان : واسم اليمان: حسيل- بمهملتين مصغرا- ويقال: حسل- بكسر ثم سكون- العبسي- بالموحدة- حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين، ويقال له: صاحب السر، وأبوه أيضا صحابي، مات حذيفة في أول خلافة علي رضي الله عنه، سنة ست وثلاثين.
قوله: (رأى رجلا في يده خيط من الحمى) أي: عن الحمى، وكان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى، وروى وكيع عن حذيفة : أنه دخل على مريض يعوده، فلمس عضده، فإذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه، فقطعه، وقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك، وفيه: إنكار مثل هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله تعالى ورسوله مع عدم الاعتماد عليها، وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك، مما تعلقه الجهال- فهو شرك، يجب إنكاره وإزالته بالقول والفعل، وإن لم يأذن فيه صاحبه.
قوله: وتلا قوله: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (2)
__________
(1) سورة يوسف الآية 106
(2) سورة يوسف الآية 106
استدل حذيفة رضي الله عنه بالآية على أن هذا شرك، ففيه: صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزله الله في الشرك الأكبر، لشمول الآية له، ودخوله في مسمى الشرك، وتقدم معنى هذه الآية عن ابن عباس وغيره في كلام شيخ الإسلام وغيره، والله أعلم.
وفي هذه الآثار عن الصحابة: ما يبين كمال علمهم بالتوحيد وما ينافيه، أو ينافي كماله .
وقال الشيخ رحمه الله في باب (ما جاء في الرقى والتمائم): في الصحيح، عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه: « أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولا: أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر- أو قلادة - إلا قطعت » (1) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » (2) رواه أحمد وأبو داود.
" التمائم " : شيء يعلق على الأولاد من العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
و" الرقى " : هي التي تسمى: العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة.
و" التولة " : شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا: « من تعلق شيئا وكل إليه » (3) رواه أحمد والترمذي .
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843),صحيح مسلم اللباس والزينة (2115),سنن أبو داود الجهاد (2552),مسند أحمد بن حنبل (5/216),موطأ مالك الجامع (1745).
(2) سنن أبو داود الطب (3883),سنن ابن ماجه الطب (3530),مسند أحمد بن حنبل (1/381).
(3) سنن الترمذي الطب (2072).
وروى أحمد عن رويفع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس: أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم- فإن محمدا بريء منه » (1) .
وعن سعيد بن جبير قال: " من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة" رواه وكيع .
وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن.
فيه مسائل:
الأولى : تفسير الرقى والتمائم.
الثانية : تفسير التولة.
الثالثة : أن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء.
الرابعة : أن الرقية بالكلام الحق من العين، والحمة ليس من ذلك.
الخامسة : أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء: هل هي من ذلك أم لا؟
السادسة : أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك.
السابعة : الوعيد الشديد على من علق وترا.
الثامنة : فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
التاسعة : أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده: أصحاب عبد الله بن مسعود.
وقال حفيده رحمه الله: قوله: (باب ما جاء في الرقى والتمائم).
أي: من النهي، وما ورد عن السلف في ذلك.
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5067),سنن أبو داود الطهارة (36),مسند أحمد بن حنبل (4/109).
قال المصنف رحمه الله تعالى: (في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري : « أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولا: أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر - أو قلادة - إلا قطعت » (1) .
هذا الحديث في [الصحيحين].
قوله: (عن أبي بشير ) بفتح أوله وكسر المعجمة، قيل: اسمه قيس بن عبيد قاله ابن سعد، وقال ابن عبد البر : لا يوقف له على اسم صحيح، وهو صحابي، شهد الخندق، ومات بعد الستين، ويقال: إنه جاوز المائة.
قوله: (في بعض أسفاره) قال الحافظ: لم أقف على تعيينه.
قوله: (فأرسل رسولا) هو زيد بن حارثة روى ذلك الحارث بن أبي أسامة في [مسنده]، قاله الحافظ.
قوله: « أن لا يبقين » (2) بالمثناة التحتية والقاف المفتوحتين، و[قلادة] مرفوع على أنه فاعل، و[الوتر] بفتحتين واحد أوتار القوس، وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره، وقلدوا به الدواب؛ اعتقادا منهم أنه يدفع عن الدابة العين.
قوله: « أو قلادة إلا قطعت » (3) معناه: أن الرواي شك، هل قال شيخه: قلادة من وتر، أو قال: قلادة وأطلق ولم يقيده؟ ويؤيد الأول ما روي عن مالك : أنه سئل عن القلادة؟ فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر.
ولأبي داود : « ولا قلادة » (4) بغير شك.
قال البغوي في [شرح السنة]: تأول مالك أمره عليه الصلاة والسلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين، وذلك أنهم كانوا يشدون تلك
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843),صحيح مسلم اللباس والزينة (2115),سنن أبو داود الجهاد (2552),مسند أحمد بن حنبل (5/216),موطأ مالك الجامع (1745).
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843),صحيح مسلم اللباس والزينة (2115),سنن أبو داود الجهاد (2552),مسند أحمد بن حنبل (5/216),موطأ مالك الجامع (1745).
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843),صحيح مسلم اللباس والزينة (2115),سنن أبو داود الجهاد (2552),مسند أحمد بن حنبل (5/216),موطأ مالك الجامع (1745).
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843),صحيح مسلم اللباس والزينة (2115),سنن أبو داود الجهاد (2552),مسند أحمد بن حنبل (5/216),موطأ مالك الجامع (1745).
الأوتار والتمائم والقلائد، ويعلقون عليها العوذ، يظنون أنها تعصمهم من الآفات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا.
قال أبو عبيد : كانوا يقلدون الإبل الأوتار؛ لئلا تصيبها العين، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإزالتها؛ إعلاما لهم بأن الأوتار لا ترد شيئا، وكذا قال ابن الجوزي وغيره.
وقال الحافظ: ويؤيده حديث عقبة بن عامر، رفعه « من تعلق تميمة فلا أتم الله له » (1) رواه أبو داود : وهي: ما علق من القلائد خشية العين، ونحو ذلك، انتهى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » (2) رواه أحمد وأبو داود .
وفيه قصة، ولفظ أبي داود : عن زينب - امرأة عبد الله بن مسعود - قالت: « إن عبد الله رأى في عنقي خيطا، فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه، قالت: فأخذه ثم قطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقى سكنت، فقال عبد الله : إنما ذاك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقى كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما » (3) ، ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/154).
(2) سنن أبو داود الطب (3883),سنن ابن ماجه الطب (3530),مسند أحمد بن حنبل (1/381).
(3) سنن أبو داود الطب (3883),سنن ابن ماجه الطب (3530),مسند أحمد بن حنبل (1/381).
قوله: « إن الرقى » (1) قال المصنف: (هي التي تسمى: العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة)، يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركا هي التي يستعان فيها بغير الله، وأما إذا لم يذكر فيها إلا أسماء الله وصفاته وآياته، والمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا حسن: جائز، أو مستحب.
قوله: (فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة) كما تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد، وكذا رخص في الرقى من غيرها، كما في [ صحيح مسلم ] عن عوف بن مالك: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: « اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا » (2) ، وفي الباب أحاديث كثيرة.
قال الخطابي : وكان عليه السلام قد رقى ورقي، وأمر بها وأجازها، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة أو مأمور بها، وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله شرك.
قلت: من ذلك: ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم، وبنحو هذا ذكر الخطابي .
وقال شيخ الإسلام: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به، فضلا عن أن يدعو به، ولو عرف معناه لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارا فليس من دين الإسلام.
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3883),سنن ابن ماجه الطب (3530),مسند أحمد بن حنبل (1/381).
(2) صحيح مسلم السلام (2200),سنن أبو داود الطب (3886).
وقال السيوطي : وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي وما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى.
قوله: " والتمائم " قال المصنف: (شيء يعلق على الأولاد من العين) وقال الخلخالي : " التمائم " : جمع تميمة، وهي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين، وهذا منهي عنه لأنه لا دافع إلا الله، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وبأسمائه وصفاته.
قال المصنف: (لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود ).
اعلم أن العلماء- من الصحابة والتابعين فمن بعدهم - اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته: فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو ظاهر ما روي عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية، وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك.
وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وبه قال ابن مسعود وابن عباس، وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم، وبه قال جماعة من التابعين، منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه.
قلت: هذا هو الصحيح؛ لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل.
الأول : عموم النهي، ولا مخصص للعموم، الثاني : سد الذريعة،
فإذا يقضي إلى تعليق ما ليس كذلك، الثالث : أنه إذا علق فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك.
وتأمل هذه الأحاديث، وما كان عليه السلف رضي الله عنهم: يتبين لك بذلك غربة الإسلام، خصوصا إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة: من تعظيم القبور، واتخاذ المساجد عليها، والإقبال إليها بالقلب والوجه، وصرف جل الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات - التي هي حق الله تعالى - إليها من دونه، كما قال تعالى: { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ } (1) { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (2)
ونظائرها في القرآن أكثر من أن تحصر.
قوله: « التولة شرك » قال المصنف: (هي شيء يصنعونه، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته).
وبهذا فسرها ابن مسعود راوي الحديث، كما في [صحيح ابن حبان] والحاكم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها، فما التولة؟ قال: شيء تصنعه النساء يتحببن به إلى أزواجهن).
قال الحافظ: التولة - بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا - شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، والله أعلم.
وكان من الشرك لما يراد به دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى.
__________
(1) سورة يونس الآية 106
(2) سورة يونس الآية 107
قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا « من تعلق شيئا وكل إليه » (1) رواه أحمد والترمذي، ورواه أبو داود والحاكم .
وعبد الله بن عكيم : هو بضم المهملة مصغرا، ويكنى: أبا معبد الجهني الكوفي قال البخاري : أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف له سماع صحيح، وكذا قال أبو حاتم، قال الخطيب : سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة وكان ثقة، وذكر ابن سعد عن غيره: أنه مات في ولاية الحجاج .
قوله: « من تعلق شيئا وكل إليه » (2) ، التعلق يكون بالقلب، ويكون بالفعل، ويكون بهما، « وكل إليه » أي: وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه، فمن تعلق بالله وأنزل حوائجه به والتجأ إليه وفوض أمره إليه كفاه، وقرب إليه كل بعيد، ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك وكله الله إلى ذلك وخذله، وهذا معروف بالنصوص والتجارب، قال تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (3)
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا أبو سعيد المؤدب، حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: « لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت، فقلت: حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: يا داود، أما وعزتي وعظمتي،
__________
(1) سنن الترمذي الطب (2072).
(2) سنن الترمذي الطب (2072).
(3) سورة الطلاق الآية 3
لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له من بينهن مخرجا، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته: إلا قطعت أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك. »
قال المصنف رحمه الله تعالى: وروى الإمام أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس: أن من عقد لحيته، أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم - فإن محمدا بريء منه » (1) .
الحديث رواه الإمام أحمد، عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب، كلاهما عن ابن لهيعة، وفيه قصة اختصرها المصنف، وهذا لفظ الحسن : حدثنا ابن لهيعة، حدثنا عياش بن عباس، عن شييم بن بيتان قال: حدثنا رويفع بن ثابت قال: « كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم، وله النصف، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش، وللآخر القدح، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . الحديث » (2) ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان، حدثني المفضل، حدثنا عياش بن عباس : أن شييم بن بيتان أخبره: أنه سمع شيبان القتباني . . . الحديث، ابن لهيعة فيه مقال، وفي الإسناد الثاني: شيبان القتباني، قيل فيه: مجهول، وبقية رجالهما ثقات.
قوله: « لعل الحياة ستطول بك » (3) فيه علم من أعلام النبوة، فإن رويفعا طالت حياته إلى سنة ست وخمسين، فمات ببرقة من أعمال مصر أميرا
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5067),سنن أبو داود الطهارة (36),مسند أحمد بن حنبل (4/109).
(2) سنن النسائي الزينة (5067),سنن أبو داود الطهارة (36),مسند أحمد بن حنبل (4/108).
(3) سنن النسائي الزينة (5067),سنن أبو داود الطهارة (36),مسند أحمد بن حنبل (4/109).
عليها، وهو من الأنصار، وقيل: مات سنة ثلاث وخمسين.
قوله: « فأخبر الناس » (1) دليل على وجوب إخبار الناس، وليس هذا مختصا برويفع، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به، فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية، قاله أبو زرعة في [شرح سنن أبي داود ].
قوله: « أن من عقد لحيته » (2) بكسر اللام لا غير، والجمع: لحى بالكسر والضم، قاله الجوهري .
قال الخطابي : أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين:
أحدهما : ما كانوا يفعلونه في الحرب، كانوا يعقدون لحاهم، وذلك من زي بعض الأعاجم، يفتلونها ويعقدونها، قال أبو السعادات: تكبرا وعجبا.
ثانيهما : أن معناه: معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التأنيث.
قال أبو زرعة بن العراقي : والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة، كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع، وفيه: « أن من عقد لحيته في الصلاة » (3) .
قلت: وهذه الرواية لا تدل على تخصيصه في الصلاة، بل تدل على أن فعله في الصلاة أشد من فعله خارجها.
قوله: « أو تقلد وترا » (4) أي: جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته، وفي رواية محمد بن الربيع : « أو تقلد وترا » (5) - يريد: تميمة.
فإذا كان هذا فيمن تقلد وترا، فكيف بمن تعلق بالأموات، وسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، الذي جاء النهي عنه وتغليظه في
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5067),سنن أبو داود الطهارة (36),مسند أحمد بن حنبل (4/109).
(2) سنن النسائي الزينة (5067),سنن أبو داود الطهارة (36),مسند أحمد بن حنبل (4/109).
(3) سنن النسائي الزينة (5067),سنن أبو داود الطهارة (36),مسند أحمد بن حنبل (4/109).
(4) سنن النسائي الزينة (5067),سنن أبو داود الطهارة (36),مسند أحمد بن حنبل (4/109).
(5) سنن النسائي الزينة (5067),سنن أبو داود الطهارة (36),مسند أحمد بن حنبل (4/109).
الآيات المحكمات؟!
قوله: « أو استنجى برجيع دابة أو عظم- فإن محمدا بريء منه » (1) قال النووي : أي: بريء من فعله، وهذا خلاف الظاهر، والنووي كثيرا ما يتأول الأحاديث بصرفها عن ظاهرها، فيغفر الله تعالى له، بل هو بريء من الفاعل وفعله.
وفي [ صحيح مسلم ] عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: « لا تستنجوا بالروث ولا العظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن » (2) ، وعليه لا يجزئ الاستنجاء بهما، كما هو ظاهر مذهب أحمد؛ لما روى ابن خزيمة والدارقطني عن أبي هريرة : « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: إنهما لا يطهران .
» قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة، رواه وكيع .
هذا عند أهل العلم له حكم الرفع؛ لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي، ويكون هذا مرسلا؛ لأن سعيدا تابعي، وفيه: فضل قطع التمائم؛ لأنها شرك.
ووكيع : هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي، ثقة إمام، صاحب تصانيف، منها [الجامع] وغيره، روى عنه الإمام أحمد وطبقته، مات سنة سبع وتسعين ومائة.
قوله: وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن.
وإبراهيم : هو الإمام إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي، يكنى: أبا عمران، ثقة من كبار الفقهاء، قال المزي : دخل على عائشة، ولم يثبت
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5067),سنن أبو داود الطهارة (36),مسند أحمد بن حنبل (4/109).
(2) صحيح مسلم الصلاة (450),سنن الترمذي الطهارة (18),مسند أحمد بن حنبل (1/459).
له سماع منها، مات سنة ست وتسعين، وله خمسون سنة أو نحوها.
قوله: (كانوا يكرهون التمائم) إلى آخره، مراده بذلك: أصحاب عبد الله بن مسعود؛ كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد، وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خثيم وسويد بن غفلة وغيرهم، وهم من سادات التابعين وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية أقوالهم، كما بين ذلك الحفاظ كالعراقي وغيره.
وقال الشيخ محمد صديق حسن رحمه الله (1) : فصل في شرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلايا ودفعها، ومعنى رفع الشيء: إزالته بعد نزوله، ومعنى دفع الشيء: منعه قبل نزوله.
عن عمران بن حصين رضي الله عنه، « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة، » (2) وفي رواية الحاكم : « دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة من صفر، » فالمبهم في هذه الرواية هو: عمران راوي الحديث.
قال: « ما هذه؟ » يحتمل أن يكون الاستفهام للاستفصال عن سبب لبسها أو يكون للإنكار وهو أظهر، قال: من الواهنة: قال أبو السعادات : (الواهنة): عرق يأخذ بالمنكب وفي اليد كلها فيرقى منها، وقيل: مرض يأخذ في العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء.
قال: « انزعها » (3) نهي عنه؛ لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار المقاصد، والنزع: هو الجذب بقوة.
« فإنها لا تزيدك إلا وهنا » (4) ، أخبر أنها لا تنفعك، بل تضرك وتزيدك
__________
(1) [الدين الخالص] (2\ 130- 134).
(2) سنن ابن ماجه الطب (3531),مسند أحمد بن حنبل (4/445).
(3) سنن ابن ماجه الطب (3531),مسند أحمد بن حنبل (4/445).
(4) سنن ابن ماجه الطب (3531),مسند أحمد بن حنبل (4/445).
ضعفا، وكذلك كل أمر نهى عنه إنه لا ينفع غالبا وإن نفع بعضه في اعتقاده الكاذب فضرره أكبر من نفعه. « فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا » (1) ؛ لأنه شرك استعان صاحبه بغير الله تعالى، و (الفلاح): هو الفوز والظفر والسعادة.
وفي هذا شاهد لكلام الصحابة إن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر وأنه لم يعذره بالجهالة، وفيه الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك، رواه أحمد بسند لا بأس به.
وله رضي الله عنه عن عقبة بن عامر مرفوعا: « من تعلق تميمة » (2) ، أي: علقها متعلقا بها في قلبه في طلب خير أو شر وضير.
قال المنذري : خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وهذا جهل وضلال، إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى.
وقال أبو السعادات : التمائم: جمع تميمة وهي خرزة كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام، « فلا أتم الله له » (3) ، دعاء عليه، « ومن تعلق ودعة » (4) بفتح الواو وسكون المهملة، قال في [مسند الفردوس]: الودع: شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين، « فلا ودع الله له » (5) بتخفيف الدال، أي: لا جعله في دعة وسكون.
قال أبو السعادات : هذا دعاء عليه، وروى هذا الحديث أيضا أبو يعلى والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي ، وفي رواية لأحمد « من تعلق تميمة فقد أشرك » (6) ، وهذا أصرح من الأول، ورواه الحاكم أيضا بنحوه ورواته ثقات.
__________
(1) سنن ابن ماجه الطب (3531),مسند أحمد بن حنبل (4/445).
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/154).
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/154).
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/154).
(5) مسند أحمد بن حنبل (4/154).
(6) مسند أحمد بن حنبل (4/156).
قال ابن الأثير : إنما جعلها شركا؛ لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه.
قال: ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (1)
وفي لفظ: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه أو انتزعه ثم قال: { وَمَا يُؤْمِنُ } (2) إلخ.
كان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى، واستدل حذيفة بالآية على أن هذا شرك.
وفيه صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزل الله تبارك في الشرك الأكبر؛ لشمول الآية له، ولدخوله في مسمى الشرك.
وفي رواية عن حذيفة بلفظ: أنه دخل على مريض فلمس عضده فإذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه، فقطعه وقال: لو مت وهي عليك ما صليت عليك .
وفي إنكار مثل هذا وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله ورسوله مع عدم الاعتماد عليها.
وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهلة البطلة- فهو شرك، يجب إنكاره وإزالته بالقول وبالفعل وإن لم يأذن فيه صاحبه.
__________
(1) سورة يوسف الآية 106
(2) سورة يوسف الآية 106
وفي هذه الآثار عن الصحابة ما يبين كمال علمهم بالتوحيد وبما ينافيه من أنواع الشرك أو ينافي كماله.
وقال في فصل في رد شرك الرقى والتمائم :
عن أبي بشير الأنصاري « أنه كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره، » (1) قال الحافظ ابن حجر : لم أقف على تعيينه، « فأرسل رسولا » : هو زيد بن حارثة، رواه الحارث بن أبي أسامة في [مسنده]، كما قال الحافظ: « أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر » (2) - بفتحتين واحد أوتار القوس، وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره وقلدوا به الدواب، اعتقادا منهم أنه يدفع عن الدابة العين- « أو قلادة إلا قطعت » (3) رواه الشيخان في [الصحيحين].
والشك فيه من الراوي، هل قال شيخه: قلادة من وتر، أو قال: قلادة وأطلق ولم يقيد، ويؤيد الأول ما روي عن مالك : أنه سئل عن القلادة، فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر.
ولأبي داود " قلادة " بغير شك.
قال البغوي في [شرح السنة] : تأول مالك أمره عليه السلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين، وذلك أنهم كانوا يشدون تلك الأوتار والتمائم والقلائد ويعلقون عليها العوذ ويظنون أنها تعصمهم من الآفات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها، وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا.
وقال أبو عبيد : كانوا يقلدون الإبل الأوتار لئلا تصيبها العين، فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإزالتها إعلاما لهم بأن الأوتار لا ترد شيئا، وكذا قال ابن الجوزي وغيره.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843),صحيح مسلم اللباس والزينة (2115),سنن أبو داود الجهاد (2552),مسند أحمد بن حنبل (5/216),موطأ مالك الجامع (1745).
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843),صحيح مسلم اللباس والزينة (2115),سنن أبو داود الجهاد (2552),مسند أحمد بن حنبل (5/216),موطأ مالك الجامع (1745).
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843),صحيح مسلم اللباس والزينة (2115),سنن أبو داود الجهاد (2552),مسند أحمد بن حنبل (5/216),موطأ مالك الجامع (1745).
قال الحافظ: ويؤيده حديث عقبة المتقدم وهي ما علق من القلائد وخشية العين ونحو ذلك. اهـ.
وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » (1) رواه أحمد وأبو داود وفيه قصة.
ولفظ أبي داود عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود : أن عبد الله رأى في عنقي خيطا فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه، قالت: فأخذه ثم قطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول... إلخ.
فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقى سكنت، فقال عبد الله : إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقى كف عنها.
إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: « أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما » (2) ، رواه أيضا ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي . سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز : عن حكم استعمال الأسورة المغناطيسية؟
فأجاب حفظه الله : والذي أرى في هذه المسألة: هو ترك الأسورة المذكورة، وعدم استعمالها؛ سدا لذريعة الشرك، وحسما لمادة الفتنة بها والميل إليها، وتعلق النفوس بها، ورغبة في توجيه المسلم بقلبه إلى الله سبحانه؛ ثقة به واعتمادا عليه، واكتفاء بالأسباب المشروعة المعلومة
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3883),سنن ابن ماجه الطب (3530),مسند أحمد بن حنبل (1/381).
(2) صحيح البخاري الطب (5418),صحيح مسلم السلام (2191),سنن ابن ماجه الطب (3520),مسند أحمد بن حنبل (6/45).
إباحتها بلا شك، وفيما أباح الله ويسر لعباده غنية عما حرم عليهم، وعما اشتبه أمره.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه » (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (2) .
ولا ريب أن تعليق الأسورة المذكورة يشبه ما تفعله الجاهلية في سابق الزمان، فهو إما من الأمور المحرمة الشركية أو من وسائلها، وأقل ما يقال فيه: أنه من المشتبهات، فالأولى بالمسلم والأحوط له: أن يترفع بنفسه عن ذلك، وأن يكتفي بالعلاج الواضح الإباحة البعيد عن الشبهة، هذا ما ظهر لي ولجماعة من المشايخ والمدرسين.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما فيه رضاه، وأن يمن علينا جميعا بالفقه في دينه، والسلامة مما يخالف شرعه، إنه على كل شيء قدير، والله يحفظكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (3) .
هذا ما تيسر جمعه، والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52),صحيح مسلم المساقاة (1599),سنن الترمذي البيوع (1205),سنن النسائي البيوع (4453),سنن أبو داود البيوع (3329),سنن ابن ماجه الفتن (3984),مسند أحمد بن حنبل (4/270),سنن الدارمي البيوع (2531).
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518),سنن النسائي الأشربة (5711),مسند أحمد بن حنبل (1/200),سنن الدارمي البيوع (2532).
(3) نشر في (مجلة الجامعة الإسلامية)- السنة الثالثة، ص 139 شوال عام 1392 هـ، وفي كتاب [مجموع فتاوى ومقاولات متنوعة] (1\ 206).
(4)
حكم استعمال المياه النجسة
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم استعمال المياه النجسةإعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
بناء على ما تقرر في الدورة الثانية لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض في النصف الثاني من ربيع الأول سنة 1396 هـ من إعداد بحث في [حكم استعمال المياه النجسة بعد استحالتها وزوال أعراض النجاسة عنها]- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على: تمهيد في بيان معنى الاستحالة، وإيضاح هذا المعنى بكلام أهل العلم في حكم استحالة النجس إلى طاهر بالإحراق أو غيره، وهل تطهر الخمر بالاستحالة؟ ثم بيان كلام أهل العلم في حكم استعمال المياه المتنجسة بعد استحالتها وزوال أعراض النجاسة عنها.
وبالله التوفيق.
أولا:
التمهيد
:(أ) معنى الاستحالة: لغة: جاء في معنى حال:
كل شيء تغير عن الاستواء إلى العوج، فقد حال في معنى واستحال وهو مستحيل (1) .
ومعناها اصطلاحا: انقلاب حقيقة إلى حقيقة أخرى (2) .
ب- استحالة النجس إلى حقيقة أخرى بالإحراق أو غيره هل تكسبه الطهارة؟:
اختلف أهل العلم في ذلك:
فذهب قوم إلى القول بالطهارة:
وممن قال بذلك: أبو حنيفة ومحمد وأكثر الحنفية والمالكية، وسواء عندهم ما هو نجس لعينه وما هو نجس لمعنى فيه، ووافقهم الشافعية في النجس لمعنى فيه كجلد الميتة، وأما الحنابلة فمنهم من يقول بالطهارة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الظاهرية .
وفيما يلي ذكر نصوصهم في ذلك وأدلتهم مع المناقشة:
جاء في [البحر الرائق]: من الأمور التي يكون بها التطهير انقلاب العين... ومضى إلى أن قال: وإن كان في غيره- أي: الخسر- كالخنزير والميتة تقع في المملحة فتصير ملحا يؤكل والسرجين والعذرة تحترق فتصير رمادا تطهر عند محمد (3) وقال أيضا: وضم إلى محمد أبا حنيفة في [المحيط]، وكثير من المشايخ اختاروا قول محمد، وفي
__________
(1) [لسان العرب] (14\ 197).
(2) [رد المحتار] (1\ 291).
(3) [البحر الرائق]: (1\ 239)
[الخلاصة] وعليه الفتوى، وفي [فتح القدير]: أنه المختار (1) .
والمالكية يذهبون إلى أن ما استحال إلى صلاح فهو طاهر، وأن ما استحال إلى فساد كان نجسا، جاء في [الشرح الكبير] و[حاشية الدسوقي] عليه: من الطاهر لبن الآدمي ولو كافرا لاستحالته إلى الصلاح (2) .
ثم جاء في موضع آخر: إذا تغير القيء وهو الخارج من الطعام بعد استقراره في المعدة كان نجسا وعلة نجاسته الاستحالة إلى فساد، فإن لم يتغير كان طاهرا (3) .
واعتبر المالكية كذلك: أن المسك طاهر، ففي [الحطاب]: الحكم بطهارة المسك؛ لأنها استحالة عن جميع صفات الدم، وخرجت عن اسمه إلى صفات وإلى اسم يختص به، وطهرت بذلك، كما يستحيل الدم وسائر ما يتغذى به الحيوان من النجاسات إلى اللحم فيكون طاهرا، انتهى (4) .
وفرق الشافعية بين ما هو نجس لعينه وما هو نجس لمعنى فيه، فأما الأشياء النجسة لمعنى فيها فإنها طاهرة، قال في [المهذب] : ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا شيئان:
__________
(1) [البحر الرائق]: (1\ 239) .
(2) [الشرح الكبير] مع [حاشية الدسوقي] ص (50).
(3) المرجع السابق (1\ 57).
(4) [مواهب الجليل] (1\ 97).
أحدهما: جلد الميتة إذا دبغ، والثاني: الخمر (1)
وقال ابن قدامة : ويتخرج أن تطهر النجاسات كلها بالاستحالة (2) .
وقال المرداوي : وعنه بل تطهر وهي مخرجة من الخمرة إذا انقلبت بنفسها، خرجها المجد واختار الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق، فحيوان متولد من نجاسة كدود الجروح والقروح وصراصير الكنيف طاهر نص عليه (3) انتهى المقصود.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وتنازعوا فيما إذا صارت النجاسة ملحا في الملاحة أو صارت رمادا أو صارت- الميتة والدم والصديد- ترابا كتراب المقبرة فهذا فيه خلاف، وبعد ذكره للخلاف قال: والصواب أن ذلك كله طاهر، إذا لم يبق شيء من النجاسة، لا طعمها ولا لونها ولا ريحها (4)
وقال ابن حزم : إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم وانتقل إلى اسم آخر وارد على حلال طاهر فليس هو ذلك النجس ولا ذلك الحرام، بل قد صار شيئا آخر ذا حكم آخر (5) .
وقال أيضا: إذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رمادا أو ترابا فكل ذلك طاهر (6) .
__________
(1) [المهذب]: (1\ 48).
(2) [المغني] ومعه [الشرح] (1\ 59).
(3) [الإنصاف] (1\ 5، 31) وما بعده.
(4) [مجموع الفتاوى] (21\ 481).
(5) [المحلى] (1\ 138).
(6) [المحلى] (1\ 128)، ويرجع أيضا إلى (1\ 118، 137 ، 162) من [المحلى]
واستدل لذلك بالكتاب والسنة والاستقراء والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } (1)
وجه الدلالة: أن هذه الأشياء بعد استحالتها وزوال أوصاف النجاسة عنها صارت طيبة فهي طاهرة، وقد يعارض ذلك: بأن القول بأنها طيبة وهو محل النزاع، ولا يصح الاستدلال بمحل الخلاف.
وقد يجاب عن ذلك: بأن العبرة بالواقع لا بالدعوى وواقعها أنها طيبة فيسلم الدليل.
وأما السنة: فما ورد من الأدلة في طهارة المسك وجلود الميتة مأكولة اللحم بعد الدبغ ونحو ذلك من الأدلة.
وأما الاستقراء: فقد ذكره شيخ الإسلام، فقال بعد كلام سبق: الاستقراء دلنا أن كل ما بدأ الله بتحويله وتبديله من جنس إلى جنس مثل جعل الخمر خلا والدم منيا، والعلقة مضغة، ولحم الجلالة الخبيث طيبا وكذلك بيضها ولبنها والزرع المستسقى بالنجس إذا سقي بالماء الطاهر وغير ذلك فإنه يزول حكم التنجس ويزول حقيقة النجس واسمه التابع للحقيقة، وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه، فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض فإن الله يحولها من حال إلى حال، ويبدلها خلقا بعد خلق ولا التفات إلى موادها وعناصرها، وأما ما استحال بسبب كسب الإنسان كإحراق الروث حتى يصير رمادا ووضع الخنزير في الملاحة حتى يصير ملحا، ففيه خلاف مشهور، وللقول بالتطهير اتجاه
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
انتهى المقصود (1) .
وقد سبق أنه يختار القول بالطهارة.
وأما المعنى: فقد جاء في [فتح القدير] أنه المختار؛ لأن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة، وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها، فكيف بالكل؟! فإن الملح غير العظم واللحم، فإذا صار ملحا ترتب حكم الملح عليه (2) ، انتهى المقصود.
القول الثاني: إن استحالة النجس وزوال أعراض النجاسة عنه وتبدلها بأوصاف طيبة لا تصيره طاهرا.
وممن قال بهذا القول: أبو يوسف، وهو أحد القولين في مذهب مالك، وهو قول الشافعي فيما كان نجسا نجاسة عينية، وإحدى الروايتين في مذهب أحمد وهي المقدمة.
جاء في [فتح القدير]: أن أبا يوسف يرى أن الأشياء النجسة لا تطهر بانقلاب عينها، وفي [التجنيس] اختار قول أبي يوسف كذا قال: خشبة أصابها بول فاحترقت ودفع رمادها في بئر يفسد الماء، وكذلك رماد العذرة والحمار إذا مات في مملحة لا يؤكل الملح، هذا قول أبي يوسف (3) ، انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهو أحد قولي أصحاب
__________
(1) [الفتاوى المصرية] (2\ 122).
(2) [البحر الرائق] (1\ 239)، وقد بسط ذلك ابن حزم في [المحلى] (1\ 137, 162) منه (1\ 118) منه أيضا.
(3) [فتح القدير] (1\ 139).
مالك (1)
وقال الشيرازي : ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا شيئان: أحدهما: جلد الميتة إذا دبغ.
والثاني: الخمر.
ثم قال صاحب [المهذب]: وإن حرق العذرة والسرجين حتى صار رمادا لم تطهر (2)
وقال ابن قدامة : ظاهر المذهب: أنه لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا الخمر إذا انقلبت بنفسها خلا، وما عداه لا يطهر كالنجاسات إذا احترقت فصارت رمادا، والخنزير إذا وقع في الملاحة وصار ملحا، والدخان الصاعد من وقود النجاسة (3) .
وقال المرداوي على قول ابن قدامة : ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة، قال: هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب ونصروه (4)
واستدل لهذا القول بما ذكره أبو يوسف من أن الرماد أجزاء تلك النجاسة فتبقى النجاسة من وجه فالتحقت بالنجس من كل وجه احتياطا (5) .
وما ذكره الشيرازي بقوله: لأن نجاستها- أي: العذرة والسرجين-
__________
(1) [المجموع] (21\ 72).
(2) [المهذب] (1\ 10).
(3) [المغني] مع شرحه (1\ 59).
(4) [الإنصاف] (1\ 318).
(5) [فتح القدير] (2\ 139).
لعينهما (1) .
وأما ابن قدامة فقد استدل لذلك: بأنها نجاسة لم تحصل بالاستحالة فلم تطهر كالدم إذا صار قيحا وصديدا (2)
ج- هل تطهر الخمر بالاستحالة؟:
اتفق أهل العلم- فيما نعلم- على أن الخمر إذا تخللت بنفسها فإنها تكون طاهرة.
قال شيخ الإسلام: اتفقوا على أن الخمر إذا انقلبت بفعل الله بدون قصد صاحبها وصارت خلا أنها تطهر (3)
وأما إذا خللت فقد اختلف العلماء في ذلك:
فمنهم من يقول بطهارتها، ومنهم من يقول بنجاستها.
وممن قال بأنها طاهرة: الحنفية والمالكية وابن حزم ومن وافقهم.
جاء في [بداية المبتدي] وشرحها [الهداية]: وإذا تخللت الخمر حلت، سواء صارت خلا بنفسها أو بشيء يطرح فيها ولا يكره تخليلها (4)
وفي [الحطاب]: ولو تخللت الخمر بإلقاء شيء فيها؛ كالخل والملح والماء ونحوه يطهر الخل وما ألقي فيه (5) .
__________
(1) [المهذب] (1\ 48).
(2) [المغني] ومعه الشرح (1\ 744).
(3) [مجموع الفتاوى] (21\ 475) وما بعدها.
(4) [البداية] وشرحها (4\ 113)
(5) [مواهب الجليل] (1\ 98).
وقال ابن حزم : إذا تخللت الخمر وخللت فالخل حلال (1) .
واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى:
أما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم : « نعم الإدام الخل » (2) رواه مسلم والأربعة من حديث جابر .
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم عم ولم يخص.
وعورض هذا الاستدلال بحديث أنس، « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلا؟ قال: لا » (3) أخرجه مسلم، وعن أنس « أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا؟ قال: أهرقها قال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: لا . » (4)
ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث: بحمل الحديث الأول على الخمر إذا تخللت بنفسها والخل الذي لم يكن أصله خمرا، وحمل الثاني على ما إذا خللت بفعل فاعل قصدا.
وعلى هذا فلا دلالة في الحديث الأول على طهارة الخمر إذا خللت قصدا .
وأما الدليل من جهة المعنى:
فقد جاء في [البداية] وشرحها: إنه بالتحليل يزول الوصف المفسد، وتثبت صفة الصلاح من حيث تسكين الصفراء وكسر الشهوة والتغذي به والإصلاح مباح، وكذا الصالح للمصالح اعتبارا بالمتخلل بنفسه وبالدباغ والأقرياب لإعدام الفساد فأشبه الإراقة والتخليل؛ وذلك لما فيه
__________
(1) [المحلى] (1\ 124).
(2) صحيح مسلم الأشربة (2052),سنن الترمذي الأطعمة (1839),سنن أبو داود الأطعمة (3820),مسند أحمد بن حنبل (3/371),سنن الدارمي الأطعمة (2048).
(3) صحيح مسلم الأشربة (1983),سنن الترمذي البيوع (1294),سنن أبو داود الأشربة (3675),مسند أحمد بن حنبل (3/260),سنن الدارمي الأشربة (2115).
(4) صحيح مسلم الأشربة (1983),سنن الترمذي البيوع (1293),سنن أبو داود الأشربة (3675),مسند أحمد بن حنبل (3/119),سنن الدارمي الأشربة (2115).
من احترام حال يصير حلالا في الثاني فيختاره من ابتلي به.
وقد يجاب عن ذلك: بأنه دليل اجتهادي في مقابل نص، ولا اجتهاد مع النص، والنص هو حديث أنس الذي رواه مسلم: « سئل عن الخمر تتخذ خلا؟ قال: لا » (1) الحديث وقد سبق (2) .
القول الثاني: أن الخمر إذا خللت لا تكون طاهرة.
وممن قال بهذا: الشافعية والحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .
قد جاء في [المهذب]: وإن خللت بخل أو ملح لم تطهر (3) .
وقال ابن قدامة : (وإن خللت لم تطهر).
وقال المرداوي تعليقا على ذلك: اعلم أن الخمرة يحرم تخليلها على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب (4) .
وقال شيخ الإسلام: والصحيح أنه إذا قصد تخليلها لا تطهر بحال (5) .
واستدل لهذا القول بالسنة والأثر والمعنى.
أما السنة:
فما رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة عن أنس رضي الله عنه، « أن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا؟ فقال: أهرقها
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (1983),سنن الترمذي البيوع (1294),سنن أبو داود الأشربة (3675),مسند أحمد بن حنبل (3/260),سنن الدارمي الأشربة (2115).
(2) [البداية] وشرحها (4\ 113).
(3) [المهذب] (1\ 48).
(4) [الإنصاف] (1\ 318).
(5) [المجموع] (21\ 481).
فقال: أفلا أخللها؟ قال: لا . » (1)
وجه الدلالة: أنه نهاه عن التخليل فدل على أنه لا يجوز.
وأجاب الطحاوي عن ذلك فقال: إنه محمول على التغليظ والتشديد؛ لأنه كان في ابتداء الإسلام، كما ورد ذلك في سؤر الكلب بدليل أنه ورد في بعض طرقه الأمر بكسر الدنان وتقطيع الزقاق، رواه الطبراني في [معجمه]: حدثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدد، ثنا معتمر، ثنا ليث عن يحيى بن عباد عن أنس عن أبي طلحة قال: « قلت: يا رسول الله، إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري، فقال: أهرق الخمر وكسر الدنان » (2) انتهى.
ورواه الدارقطني أيضا، وروى أحمد في [مسنده]: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن حمزة بن حبيب عن ابن عمر رضي الله عنه: « أن النبي صلى الله عليه وسلم شق زقاق الخمر بيده في أسواق المدينة، » وقد تقدم بتمامه في أحاديث تحريم الخمر، وهذا صريح في التغليظ؛ لأن فيه إتلاف مال الغير، وقد كان يمكن إراقة الدنان والزقاق وتطهيرها، ولكن قصد بإتلافها التشديد ليكون أبلغ في الردع، انتهى بواسطة الزيلعي (3) .
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن حمله على التغليظ على خلاف الظاهر، فيحتاج إلى دليل يدل عليه ذلك، فإن وجد وإلا فالأصل بقاء دلالة الحديث على التحريم (4) ، كما سبق.
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (1983),سنن الترمذي البيوع (1294),سنن أبو داود الأشربة (3675),مسند أحمد بن حنبل (3/119),سنن الدارمي الأشربة (2115).
(2) سنن الترمذي البيوع (1293),سنن أبو داود الأشربة (3675),مسند أحمد بن حنبل (3/119).
(3) [نصب الراية] (4\ 311).
(4) [نصب الراية] (4\ 311).
وأما الأثر: فقول عمر رضي الله عنه: لا تأكلوا خل خمر إلا خمرا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشتري من خل خمر أهل الذمة إذا ما لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها، انتهى، استدل به شيخ الإسلام، وذكر أنه صحيح (1)
وأما المعنى: فقال شيخ الإسلام: إن اقتناء الخمر محرم، فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرما، والفعل المحرم لا يكون سببا للحل والإباحة (2)
__________
(1) [الفتاوى] (21\ 484).
(2) [الفتاوى] (21\ 486).
ثانيا:
استحالة المياه المتنجسة بسبب اختلاف أسبابها
:استحالة المياه المتنجسة قد تكون بصب ماء طهور عليها أو نزح بعضه أو زوال التغير بنفسه، وقد تكون برمي تراب ونحوه فيها، وقد تكون بسقي النباتات بها وشرب الحيوانات إياها، وقد تكون بتبخيره وتقطيره مثلا.
وفيما يلي الكلام على كل نوع:
ا-
استحالة المياه المتنجسة بصب ماء طهور عليها أو نزح بعضه أو زوال التغير بنفسه
نذكر فيما يلي طريقة كل مذهب إجمالا ثم نتبعها بالتفصيل نظرا لاختلافهم من حيث الجملة في طريقة التطهير:فالحنفية: يرون: أن نزح مقدار من ماء البئر المتنجس مطهر لما بقي
من الماء لكن يختلف مقدار ما ينزح لتحصل به الطهارة للباقي باختلاف نوع النجاسة واختلاف أحوالها.
وأما المالكية : فإذا زال تغيره بمكاثرة ما لمادة فيه أو يإدخال ماء آخر طهر، وإن زال بنفسه ففي [الإرشاد]: الظاهر عوده إلى أصله، وقيل: إن زال بالنقص المجرد فقولان أيضا.
وأما الشافعية : فإنهم يقسمون الماء ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون أكثر من القلتين، والثاني: أن يكون قلتين، والثالث: أن يكون دون القلتين.
فإن كان أكثر من قلتين فإنه يطهر بطرق ثلاثة: إضافة ماء إليه يزول به التغير وهذا متفق عليه، أو بأخذ بعضه حتى يزول التغير بشرط أن يكون الباقي بعد الأخذ قلتين وهذا بلا خلاف أيضا، أو بزوال التغير بنفسه، بطلوع الشمس والريح أو بدور الزمان، وهذا هو المذهب.
وإن كان قلتين طهر بجميع ما ذكر إلا بأخذ بعضه فإنه لا يطهر محل اتفاق.
وإن كان دون القلتين وكاثره بماء حتى بلغ قلتين طهر بلا خلاف عندهم.
وأما الحنابلة: فهم كالشافعية في تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام، فإن كان أكثر من قلتين وهو غير متغير بالنجاسة طهر بالمكاثرة فقط، وإن كان متغيرا بها طهر بالمكاثرة، وبنزح كثير يزول معه التغير ويبقى بعد ذلك قلتان فصاعدا، وبزوال التغير بمكثه.
وإن كان قلتين وهو متغير بالنجاسة طهر بالمكاثرة فقط، وإن كان
متغيرا بها طهر بالمكاثرة المذكورة إذا أزالت التغاير أو بتركه حتى يزول تغيره بطول مكثه.
وإن كان دون القلتين وهو متغير طهر بالمكاثرة بقلتين طاهرتين يزول بهما التغير، وإن لم يكن متغيرا طهر بمجرد المكاثرة.
أما طريقتهم تفصيلا فهي ما يلي:
أ-
طريقة الحنفية
جاء في [بداية المبتدي] وشرحها: وإذا وقعت في البئر نجاسة نزحت وكذا نزح ما فيها طهارة لها بإجماع السلف، ومسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس، وإن ماتت فيها فأرة أو عصفورة أو صعوة أو سودانية أو سام أبرص- نزح منها ما بين عشرين دلوا إلى ثلاثين بحسب كبر الدلو وصغرها، يعني: بعد إخراج الفأرة، لحديث أنس رضي الله عنه أنه قال: في الفأرة: إذا ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها نزح منها عشرون دلوا، والعصفورة ونحوها تعادل الفأرة في الجثة فأخذت حكمها، والعشرون بطريق الإيجاب والثلاثون بطريق الاستحباب، فإن ماتت فيها حمامة ونحوها كالدجاجة والسنور: نزح ما بين أربعين دلوا إلى ستين.وفي [الجامع الصغير]: أربعون أو خمسون، وهو الأظهر لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال في الدجاجة: إذا ماتت في البئر نزح منها أربعون دلوا، وهذا لبيان الإيجاب، والخمسون بطريق الاستحباب، ثم المعتبر في كل بئر دلوها الذي يستقى به منها، وقيل: دلو يسع فيها صاع ولو نزح منها بدلو عظيم مرة مقدار عشرين دلوا جاز؛
لحصول المقصود.
وإن ماتت فيها شاة أو كلب أو آدمي نزح جميع ما فيها من الماء؛ لأن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما أفتيا بنزح الماء كله حين مات زنجي في بئر زمزم، فإن انتفخ الحيوان فيها أو تفسخ نزح جميع ما فيها صغر الحيوان أو كبر لانتشار البلة في أجزاء الماء.
وإن كانت البئر معينا لا يمكن نزحها أخرجوا مقدار ما كان فيها من الماء، وطريقة معرفته: أن تحفر حفرة مثل موضع الماء من البئر ويصب فيها ما ينزح منها إلى أن تمتلئ أو ترسل فيها قصبة ويجعل لمبلغ الماء علامة ثم ينزح منها عشر دلاء مثلا، ثم تعاد القصبة فينظر كم انتقص فينزح لكل قدر منها عشر دلاء، وهذان عند أبي يوسف رحمه الله، وعند محمد رحمه الله، نزح مئتي دلو إلى ثلثمائة، فكأنه بنى قوله على ما شاهد في بلده.
وعند أبي حنيفة رحمه الله في [الجامع الصغير] في مثله ينزح حتى يغلبهم الماء، ولم يقدر القلة بشيء كما هو دأبه، وقيل: يؤخذ بقول رجلين لهما بصارة في أمر الماء، وهذا تشبه بالفقه (1) .
__________
(1) [البداية] وشرحها (1\ 21، 22)، ويرجع لـ [المبسوط] (1\90)، و[كنز الدقائق] وشرحه [تبيين الحقائق] (1\ 28)، و[ملتقى الأبحر] وشرحه [مجمع الأنهر] (1\ 33)، و[بدائع الصنائع] (1\ 84)، و[المختار] (1\ 35)، و[الفرائد السنية] وشرحها [الفوائد السمية] كلاهما للكواكبي (1\35).
ب-
طريقة المالكية
قال الشيخ خليل : وإن زال تغير النجس لا بكثرة مطلق فأستحسنالطهورية وعدمها أرجح.
وقد شرح الحطاب ذلك فقال: يعني: أن الماء إذا تغير بالنجاسة ثم زال تغيره فلا يخلو؛ إما أن يكون بمكاثرة ماء مطلق خالطه، أم لا:
فالأول: طهور باتفاق، قاله في [التوضيح]، وذلك كالبئر ينزح منها حتى يزول التغير وكالصهريج يتغير بميتة فيترك حتى يكثر ماؤه بمطر ونحوه، وقد جهل أبو محمد بعضهم في قوله في ماجل قليل الماء وقعت فيه فأرة يطيق حتى يكثر ماؤه ثم يشرب، قال: فإن فعل شرب وتجهيله في تأخير طرحه.
الثاني: إما أن يكون بإلقاء شيء فيه غير الماء ولم يذكره المصنف، وسيأتي حكمه، أو من نفسه فلا شيء ومنه ما إذا نزع من الماء الذي لا مادة له بعضه فزال تغيره فذكر المصنف تبعا لابن الحاجب وابن شاس وابن بشير وغيرهم في طهوريته قولين: استحسن بعض الشيوخ القول بالطهورية، ورجح ابن يونس عدم الطهورية فاعترض عليه ابن غازي فيما ذكره عن ابن يونس، وفي [التوضيح] بأنه لم يوجد في كلامه إلا الكلام على حكم زوال النجاسة إذا زال عينها بالماء المضاف وسيأتي.
وذكر ابن مرزوق في شرحه على المختصر نحو ذلك، وقال ما معناه: إن المصنف حمل كلام ابن يونس على نفس ما نحن فيه فهو وهم، وإن أراد أن يقيسه عليه فبعيد، وقد رأيت كلام ابن مرزوق شرح المفصلين الأولين من المختصر، وفيه نحو ما ذكره ابن غازي، وقال ابن غازي : لم يعرفه ذلك الإمام، ابن عرفة من نقل ابن يونس ولا غيره ممن قبل ابن بشير فقال: وقول ابن بشير في طهورية النجس يزول تغيره بلا نزح قولان
لا أعرفه، فبقي وجدان القولين معا في المذهب، وإن كان لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود، ولا يلتفت لما حكى أبو زيد القابسي من رد بعضهم على ابن عرفة بقول ابن يونس لا أن الراد مقلد لخليل في نقله، كالشارح نعم أغفل ابن عرفة ما ذكره ابن رشد في رسم القسمة من سماع عيسى، وذكر بعض كلام ابن رشد، ولنأت بأكثر مما يتضح به المقصود.
قال: وسئل ابن وهب عن الجب من ماء السماء تموت فيه الدابة، وننشق والماء كثير لم يتغير منه إلا ما كان قريبا منها، فلما أخرجت وحرك الماء ذهبت الرائحة هل يتوضأ به ويشرب؟
قال: إذا خرجت الميتة فلينزح منه حتى يذهب دسمها والرائحة واللون إن كان به لون إذا كان الماء كثيرا على ما وصفت طاب إذا فعل ذلك به.
قال ابن القاسم: الأخير فيه ولم أسمع مالكا رخص فيه قط، ابن رشد قول ابن وهب وهو الصحيح على أصل مذهب مالك الذي رواه المدنيون عنه: أن الماء لا ينجسه إلا ما غير أحد أوصافه على ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في بئر بضاعة.
وقد روى ابن وهب وابن أبي أويس عن مالك في جباب تحفر بالمغرب فتسقط فيها الميتة فمتغير لون الماء وريحه ثم يطيب بعد ذلك: أنه لا بأس به، انتهى، فظهر وجود القولين: أحدهما: قول ابن القاسم فيما نزح بعضه فأحرى إذا لم ينزح منه شيء؛ لأنه لما لم يعتبر ذهاب التغير مع النزح كان عدم اعتباره مع عدم النزح أولى، بناء على أن المعتبر
مخالطة المغير فيجب بقاء حكمه وإن زال التغير، والثاني: رواية ابن وهب وابن أبي أويس وقد صححه ابن رشد، وهو الذي ارتضاه صاحب الطراز وشيخه أبو بكر الطرطوشي بضم الطاءين وبينهما راء، قال الطراز: ولقد عاينت في صهريج دار الشيخ أبي بكر هرا قد انتفخ وتزلع وتغير منه ريح الماء وطعمه ولونه فنزع الهر وترك الصهريج حتى ينزح فأقام شهرا ثم رفع منه الماء فإذا هو سالم الأوصاف، فشرب ذلك الماء في داره، وفيها ما يزيد على سبعين من أهل العلم وطلبته ولم ينزح منه دلو. انتهى.
ولعل المصنف أشار إليهما بالاستحسان، ثم إن كليهما فيما لا مادة له أو لم ينزح منه شيء فماله مادة أو نزح بعضه أولى بالطهورية، وانظر ما الذي أنكره ابن عرفة هل القول بالطهورية، أو القول بعدمها؟ وليس في كلامه ما يدل على ذلك صريحا غير أن المتبادر من كلامه إنما هو إنكار القول بالطهورية، كما يفهم ذلك من كلام ابن ناجي في [شرح المدونة] في الكلام على من توضأ من ماء مات فيه دابة، وكذا ذكر ابن الفاكهاني في [شرح الرسالة] القولين وشبهة من عدم الطهورية، ونصه: وأما إن كان المخالط نجسا فإن غير أحد أوصاف الماء فلا خلاف في نجاسته قليلا كان أو كثيرا ما دام متغيرا، فإن زال تغيره بعد فقولان:
أحدهما: إنه كالبول فلا ينتقل حكمه، وهو المشهور.
والثاني: أنه يرجع إلى أصله من الطهارة أو التطهير، وكذلك إن أزيل بعض الماء وسلمت أوصافه فقولان، انتهى.
تنبيهات:
وبعد أن ذكر حكم الماء المتغير بطاهر قال: الثاني: إن زال تغيره
بمخالطة ماء مطلق قليل فظاهر كلام المصنف فيه قولان:
وقال البساطي في شرحه: ولو جعل المصنف محل النزاع إذا زال التغير بنفسه سلم من المطالبة بالنقل فيما إذا زال بقليل المطلق.
وقال في [المغني] بعد أن ذكر الخلاف فيما زال تغيره بنفسه: وألحق الشيخ خليل في مختصره به إذا زال التغير بمطلق يسير وهو في عهدته، انتهى.
قلت: وكلام ابن الإمام يقتضي ثبوت الخلاف فيه، فإنه قال: إذا كاثره الطهور حتى غلب عليه وزال به التغير، فالأظهر نفي الخلاف فيه إن انتهى إلى ما لو رفع فيه جملة هذا التغير كان كثيرا، أو ثبوته إن انتهى إلى ما لو وقع فيه كان قليلا.
وقد أطلق بعض من تكلم على هذه المسألة القول بطهوريته عند ذهاب التغير بالتكاثر ولا ينفى؛ لأن هذا الماء لما تغير لنجاسة كان نجسا فطروء ماء عليه كطروئه عليه فيجب لذلك أن يراعى كثرته وقلته، انتهى المقصود (1)
وقال ابن المواق على قول خليل : وإن زال تغير النجس لا بكثرة مطلق فأستحسن الطهورية، وعدمها أرجح ( قال ابن عرفة : قول ابن بشير في طهوريته النجس يزول تغيره بلا نزح قولان لا أعرفه.
والذي ينبغي أن تكون به الفتوى، هو قول مالك في رواية ابن وهب وابن أبي أويس عنه في جباب تحفر بالمغرب فتسقط فيها الميتة فتغير
__________
(1) [مواهب الجليل شرح مختصر خليل] (1\ 84) وما بعدها.
لونه وريحه لم يطيب الماء بعد ذلك أنه لا بأس به ). انتهى، فترك نقل هذه الرواية ونقل غيرها قصور (1)
__________
(1) [التاج والإكليل شرح مختصر خليل] (1\ 84).
ج-
طريقة الشافعية
قال الشيرازي : إذا أراد تطهير الماء النجس نظر، فإن كانت نجاسته بالتغير وهو أكثر من قلتين طهر بأن يزول التغير بنفسه، وبأن يضاف إليه ماء آخر، وبأن يؤخذ بعضه؛ لأن النجاسة بالتغير وقد زال.وقال النووي شرحا لذلك: إذا زال تغير الماء النجس وهو أكثر من قلتين نظر؛ إن زال بإضافة ماء آخر إليه طهر بلا خلاف، سواء كان الماء المضاف طاهرا أو نجسا قليلا أو كثيرا، وسواء صب الماء عليه أو نبع عليه، وإن زال بنفسه- أي: بأن لم يحدث فيه شيئا، بل زال تغيره بطلوع الشمس أو الريح أو مرور الزمان- طهر أيضا على المذهب، وبه قطع الجمهور.
وحكى المتولي عن أبي سعيد الإصطخري : أنه لا يطهر؛ لأنه شيء نجس فلا يطهر بنفسه، وهذا ليس بشيء؛ لأن سبب النجاسة التغير، فإذا زال طهر لقوله صلى الله عليه وسلم: « إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس » (1) ، وإن زال بأخذ بعضه طهر بلا خلاف، بشرط أن يكون الباقي بعد الأخذ قلتين، فإن بقي دونهما لم يطهر بلا خلاف، ويتصور زوال تغيره بأخذ بعضه بأن يكون كثيرا لا يدخله الريح، فإذا نقص دخلته وقصرته، وكذا الشمس فيطيب (2) .
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (67),سنن أبو داود الطهارة (63),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517),مسند أحمد بن حنبل (2/107),سنن الدارمي الطهارة (731).
(2) [المجموع شرح المهذب] (1\ 183) وما بعدها.
وقال الشيرازي أيضا: وإن كان قلتين طهر بجميع ما ذكرناه إلا بأخذ بعضه، فإن لم يطهر؛ لأنه نقص عن القلتين وفيه نجاسة.
وعلق النووي عليه فقال: هذا الذي قاله متفق عليه.
وقال الشيرازي أيضا: وإن كانت نجاسته بالقلة بأن يكون دون القلتين طهر بأن يضاف إليه ماء حتى يبلغ قلتين ويطهر بالمكاثرة، وإن لم يبلغ قلتين طهر كالأرض النجسة طرح عليها ماء حتى غمر النجاسة، ومن أصحابنا من قال: لا يطهر؛ لأنه دون القلتين وفيه نجاسة، والأول: أصح؛ لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه، وههنا ورد الماء عليها فلم ينجس إذ لو نجس لم يطهر الثوب إذا صب عليه الماء.
وعلق النووي على ذلك فقال: أما المسألة الأولى: وهي إذا كاثره فبلغ قلتين فيصير طاهرا مطهرا بلا خلاف، سواء كان الذي أورده عليه طاهرا أو نجسا قليلا أو كثيرا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث... » (1) .
وأما المسألة الثانية: وهي إذا كوثر بالماء ولم يبلغ قلتين فهل يطهر، فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف.
وذكر دليلهما وهما مشهوران، لكن الأصح عند المصنف وسائر العراقيين : أنه يطهر، وبه قطع منهم شيخهم أبو حامد، وهو قول ابن سريج، والصحيح عند الخراسانيين : لا يطهر، وبه قطع منه القاضي حسين .
وقال إمام الحرمين: وإن صح عند ابن سريج قوله بالطهارة فهو من هفواته، إذ لا معنى لغسل الماء من غير أن يبلغ قلتين، قال: فلا يتمارى
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (67),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517),سنن الدارمي الطهارة (731).
في فساده، وكذا صحح البغوي والرافعي عن الطهارة، وهو الأصح (1) .
__________
(1) [المجموع شرح المهذب] (1\188)
د-
طريقة الحنابلة
قال عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة :في تطهير الماء النجس : هو ثلاثة أقسام:
القسم الأولى: أحدها: ما دون القلتين فتطهيره بالمكاثرة بقلتين طاهرتين: إما أن يصب فيه، أو ينبع فيه فيزول بها تغيره إن كان متغيرا، وإن لم يكن متغيرا طهر بمجرد المكاثرة؛ لأن القلتين لا تحمل الخبث ولا تنجس إلا بالتغير؛ ولذلك لو ورد عليها ماء نجس لم ينجسها مالم يتغير به، فكذلك إذا كانت واردة، ومن ضرورة الحكم بطهارتهما طهارة ما اختلطتا به.
القسم الثاني: أن يكون وفق القلتين: فلا يخلو من أن يكون غير متغير بالنجاسة فيطهر بالمكاثرة المذكورة لا غير، الثاني: أن يكون متغيرا فيطهر بأحد أمرين: بالمكاثرة المذكورة إذا أزالت التغير، وبتركه حتى يزول تغيره بطول مكثه.
القسم الثالث: الزائد عن القلتين فله حالان:
أحدهما: أن يكون نجسا بغير التغير فلا طريق إلى تطهيره بغير المكاثرة.
الثاني: أن يكون متغيرا بالنجاسة فتطهيره بأحد أمور ثلاثة: المكاثرة، أو زوال تغيره بمكثه، وأن ينزح منه ما يزول به التغير، ويبقى بعد ذلك
قلتان فصاعدا ، فإنه إن بقي ما دون القلتين قبل زوال تغيره لم يبق التغير علة تنجيسه ؛ لأنه تنجس بدونه ، فلا يزول التنجيس بزواله ؛ ولذلك طهر الكثير بالنزح وطول المكث ولم يطهر القليل ، فإن الكثير لما كانت علة تنجيسه التغير زال تنجيسه بزوال علته ، كالخمرة إذا انقلبت خلا والقليل علة تنجيسه الملاقاة لا التغير فلم يؤثر زوال التنجيس ، انتهى . (1)
ولشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كلام في قاعدة التطهير للمياه وعدم الفرق بين المياه والمائع . والجواب على شبهة من فرق بينهما - قال :
إذا عرف أصل هذه المسألة فالحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها كالخمر لما كان الموجب لتحريمها ونجاستها هي الشدة فإذا زالت بفعل الله تعالى طهرت بخلاف ما إذا زالت بقصد الآدمي على الصحيح ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا تأكلوا خل خمر إلا خمرا بدأ الله بفسادها ، ولا جناح على مسلم أن يشتري من خل خمر من أهل الذمة إذا لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها ؛ وذلك لأن اقتناء الخمر محرم ، فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرما ، والفعل المحرم لا يكون سببا للحل والإباحة .
وأما إذا اقتناها لشربها واستعمالها خمرا فهو لا يريد تخليلها ، وإذا جعلها الله خلا كان معاقبة له بنقيض قصده فلا يكون في حلها وطهارتها مفسدة .
__________
(1) [ المغني ] ( 1\ 35 ) الطبعة الثالثة - طبعة دار المنار سنة 1367 ، ويرجع إلى [ الكافي ] ( 1\ 13 ) ويرجع إلى [ الفروع ] ( 1\ 88 ) ، [ والإنصاف ] ( 1\ 63 ) وما بعدها .
وأما سائر النجاسات فيجوز التعمد لإفسادها ؛ لأن إفسادها ليس بمحرم كما لا يحد شاربها ؛ لأن النفوس لا يخاف عليها بمقاربتها المحظور كما يخاف من مقاربة الخمر ؛ ولهذا جوز الجمهور أن تدبغ جلود الميتة ، وجوزوا أيضا إحالة النجاسة بالنار وغيرها . والماء لنجاسته سببان : ( أحدهما ) : متفق عليه ، والآخر مختلف فيه ، فالمتفق عليه : التغير بالنجاسة ، فمتى كان الموجب لنجاسته التغير فزال التغير كان طاهرا كالثوب المضمخ بالدم إذا غسل عاد طاهرا ( والثاني ) : القلة ، فإذا كان الماء قليلا ووقعت فيه نجاسة ففي نجاسته قولان للعلماء : فمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه : أنه ينجس ما دون القلتين ، وأحمد في الرواية المشهورة عنه : يستثني البول والعذرة المائية ، فيجعل ما أمكن نزحه نجسا بوقوع ذلك فيه ، ومذهب أبي حنيفة : ينجس ما وصلت إليه الحركة ، ومذهب أهل المدينة وأحمد في الرواية الثالثة : أنه لا ينجس ولو لم يبلغ قلتين .
واختار هذا القول بعض الشافعية كالروياني .
وقد نصر هذه الرواية بعض أصحاب الشافعي ، كما نصر الأول طائفة كثيرة من أصحاب أحمد ، لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا : إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة ولم يحدوا ذلك بقلتين .
وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول : فهؤلاء لا ينجسون شيئا إلا بالتغير ، ومن سوى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد ، وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد قال في المائعات كذلك كما قاله الزهري وغيره ، فهؤلاء لا ينجسون شيئا من المائعات إلا بالتغير ، كما ذكره البخاري في
[ صحيحه ] ، لكن على المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء . وكذلك في المائعات إذا سويت به .
فنقول : إذا وقع في المائع القليل نجاسة فصب عليه مائع كثير فيكون الجميع طاهرا إذا لم يكن متغيرا ، وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين وصار الجميع كثيرا فوق القلتين ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد :
( أحدهما ) : وهو مذهب الشافعي في الماء : أن الجميع طاهر .
( والوجه الثاني ) : أنه لا يكون طاهرا حتى يكون المضاف كثيرا والمكاثرة المعتبرة أن يصب الطاهر على النجس ، ولو صب النجس على الطاهر الكثير كان كما لو صب الماء النجس على ماء كثير طاهر أيضا ، وذلك مطهر له إذا لم يكن متغيرا ، وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة وكان الجميع كثيرا فوق القلتين كان كالماء القليل إذا ضم إلى القليل .
وفي ذلك الوجهان المتقدمان ، وهذا القول الذي ذكرناه في المائعات كالماء هو الأظهر في الدلالة ، بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجس الأشربة والأطعمة ؛ ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الماء القليل ، كما جاء في الحديث ، ولم يأمر مالك بإراقته من الأطعمة والأشربة واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك ؛ وذلك لأن الماء لا ثمن له في العادة بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم ، فإن في نجاستها من المشقة والحرج ما لا يخفى على الناس ، وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب ، فإذا لم ينجسوا الماء الكثير للحرج فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة والحرج في ذلك أشق ؟ !
ولعل المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو من نجاسة .
( فإن قيل ) : الماء يدفع النجاسة عن غيره فعن نفسه أولى وأحرى بخلاف المائعات .
( قيل ) : الجواب من وجوه :
( أحدها ) : أن الماء إنما دفعها عن غيره ؛ لأنه يزيلها عن ذلك المحل وتنتقل معه فلا يبقى على المحل نجاسة ، وأما إذا سقطت فيه فإنما كان طاهرا لاستحالتها فيه ، لا لكونه أزالها عن نفسه ؛ ولهذا يقول أصحاب أبي حنيفة : إن المائعات كالماء في الإزالة ، وهي كالماء في التنجيس ، فإذا كانت كذلك لم يلزم من كون الماء يزيلها إذا زال معها أن يزيلها إذا كانت فيه .
ونظير الماء الذي فيه النجاسة الغسالة المنفصلة عن المحل وتلك نجسة قبل طهارة المحل .
وفيها بعد طهارة المحل ثلاثة أوجه : هل هي طاهرة أو مطهرة أو نجسة .
وأبو حنيفة نظر إلى هذا المعنى فقال : الماء ينجس بوقوعها فيه وإن كان يزيلها عن غيره ، كما ذكرناه .
فإذا كانت النصوص وقول الجمهور على أنها لا تنجس بمجرد الوقوع مع الكثرة ، كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « الماء طهور لا ينجسه شيء » (1) ، وقوله : « إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث » (2) ، فإنه إذا كان طهورا يطهر به غيره ، علم أنه لا ينجس بالملاقاة ، إذ لو نجس بها لكان إذا صب على النجاسة ينجس بملاقاتها ، فحينئذ لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ، لكن إن بقيت عين النجاسة حرمت وإن استحالت زالت ، فدل ذلك
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (66),سنن النسائي المياه (326),سنن أبو داود الطهارة (66),مسند أحمد بن حنبل (3/86).
(2) سنن الترمذي الطهارة (67),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517),سنن الدارمي الطهارة (731).
على أن استحالة النجاسة بملاقاته لها فيه لا ينجس وإن لم تكن قد زالت عن المحل فإن من قال : إنه يدفعها عن نفسه كما يزيلها عن غيره فقد خالف المشاهدة . وهذا المعنى يوجد في سائر الأشربة من المائعات وغيرها .
الوجه الثاني : أن يقال : غاية هذا أنه يقتضي أن يمكن إزالة النجاسة بالمائع ، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد ، كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره ، وأحمد جعله لازما لمن قال : إن المائع لا ينجس بملاقاة النجاسة ؛ وهذا لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره ، كما ذكروه في الماء فيلزم جواز إزالة النجاسات بكل مائع طاهر مزيل للعين قلاع للأثر على هذا القول .
وهذا هو القياس ، فنقول به على هذا التقدير ، وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره ؛ لكون الإحالة أقوى من الإزالة ، فيلزم من قال : إنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات أن تكون المائعات كالماء ، فإذا كان الصحيح في الماء : أنه لا ينجس إلا بالتغير إما مطلقا ، وإما مع الكثرة ، فكذلك الصواب في المائعات .
وفي الجملة التسوية بين الماء والمائعات ممكن على التقديرين ، وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات وفي مسألة ملاقاتها للمائعات : الماء وغير الماء .
ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها والمعاني الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية - تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال ، فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة
وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول وموجب القياس ، ومن كان فقيها خبيرا بمأخذ الأحكام الشرعية وأزال عنه الهوى تبين له ذلك ، ولكن إذا كان في استعمالها فساد فإنه ينهى عن ذلك ، كما كان ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها ، والإبل التي يحج عليها ، والبقر التي يحرث عليها ، ونحو ذلك ؛ لما في ذلك من الحاجة إليها لا لأجل الخبث .
كما ثبت في الصحيح « عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في بعض أسفاره مع الصحابة فنفدت أزوادهم ، فاستأذنوه في نحر ظهورهم ، فأذن لهم ، ثم أتى عمر رضي الله عنه فسأله أن يجمع الأزواد فيدعو الله بالبركة فيها ويبقي الظهر ، ففعل ذلك » (1) .
فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب ، لا لأن الإبل محرمة ؛ فلهذا ينهى عما يحتاج إليه من الأطعمة والأشربة عن إزالة النجاسة بها كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن ، وعلف دواب الإنس والجن ، ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها ، بل لحرمتها ، فالقول في المائعات كالقول في الجامدات .
( الوجه الثالث ) : أن يقال : إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء وتغير الماء بالنجاسات أسرع من تغير المائعات ، فإذا كان الماء لا ينجس بما يقع فيه من النجاسة لاستحالتها إلى طبيعته فالمائعات أولى وأحرى .
( الوجه الرابع ) : أن النجاسة إذا لم يكن لها في الماء والمائع طعم ولا
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2352),صحيح مسلم اللقطة (1729).
لون ولا ريح فلا نسلم بأن يقال بنجاسته أصلا ، كما في الخمر المنقلبة أو أبلغ وطرد ذلك في جميع صور الاستحالة .
فإن الجمهور على أن المستحيل من النجاسات طاهر ، كما هو المعروف عن الحنفية والظاهرية وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد ووجه في مذهب الشافعي .
( الوجه الخامس ) : إن دفع المائعات للنجاسة عن نفسها كدفع الماء لا يختص بالماء ، بل هذا الحكم ثابت في التراب وغيره .
فإن العلماء اختلفوا في النجاسة إذا أصابت الأرض وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة هل تطهر الأرض ؟ على قولين :
أحدهما : تطهر : وهو مذهب أبي حنيفة ، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد ، وهو الصحيح في الدليل .
فإنه قد ثبت عن ابن عمر أنه قال : كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك ، وفي [ السنن ] أنه قال : « إذا أتى أحدكم المسجد لينظر في نعليه ، فإن كان بهما أذى فليدلكهما بالتراب ، فإن التراب لهما طهور » (1) .
وكان الصحابة - كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره - يخوضون في الوحل ثم يدخلون فيصلون بالناس ولا يغسلون أقدامهم . وأوكد من هذا « قوله صلى الله عليه وسلم في ذيول النساء إذا أصابت أرضا طاهرة بعد أرض خبيثة : " فتلك بتلك " ، وقال : " يطهره ما بعده » (2) .
وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره ، وقد نص عليه أحمد
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (650),مسند أحمد بن حنبل (3/20),سنن الدارمي الصلاة (1378).
(2) سنن الترمذي الطهارة (143),سنن أبو داود الطهارة (383),سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (531),مسند أحمد بن حنبل (6/290),موطأ مالك الطهارة (47),سنن الدارمي الطهارة (742).
في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها كريم (1) بن يعقوب الجوزجاني ، وهي من أجل المسائل ؛ وهذا لأن الذيول تتكرر ملاقاتها للنجاسة فصارت كأسفل الخف وكمحل الاستنجاء .
فإذا كان الشارع قد جعل الجامدات تزيل النجاسة عن غيرها لأجل الحاجة كما في الاستنجاء بالأحجار وجعل الجامد طهورا - علم أن ذلك وصف لا يختص بالماء (2) . وإذا كانت الجامدات لا تنجس بما استحال إليها من النجاسة فالمائعات أولى وأحرى ؛ لأن إحالتها أشد وأسرع .
__________
(1) في نسخة إبراهيم .
(2) [ المجموع ] ( 21\503 ) وما بعدها .
2 -
الاستحالة برمي تراب ونحوه فيها
اختلف أهل العلم في ذلك :فمنهم من قال بعدم الطهارة .
ومنهم من قال بالطهارة .
وفيما يلي ذكر القولين مع الأدلة والمناقشة :
أما القائلون : بأنه لا يطهر : فبعض الشافعية وبعض الحنابلة ومن وافقهم من أهل العلم .
قال الشيرازي : وإن طرح فيه تراب أو جص فزال التغير ففيه قولان .
وقال النووي في [ شرح المهذب ] : وصحح الأكثرون : أنه لا يطهر وهو المختار . وقيد النووي صورة المسألة بأن يكون بكدر ولا تغير له أما إذا صفا فلا يبقى خلاف ، بل إن كان التغير موجودا فنجس قطعا وإلا
فطاهر قطعا ، صرح به المتولي وغيره ، ولا فرق بين أن يكون التغير بالطعم أو اللون أو الرائحة ، ففي الجميع قولان (1) .
وقال ابن قدامة : وإن كوثر بماء يسير أو بغير الماء فأزال التغير لم يطهر .
قال في [ المبدع ] تعليقا على ذلك : أي طهور أو بغير الماء كالتراب والخل ونحوهما لا مسك فأزال التغير لم يطهر على المذهب (2) ، وقال المرداوي : اعلم أن الماء النجس تارة يكون كثيرا وتارة يكون يسيرا ، فإن كان كثيرا وكوثر بماء يسير أو بغير الماء لم يطهر على الصحيح من المذهب ، وعليه جماهير الأصحاب ، انتهى المقصود (3) .
واستدل لهذا : بأنه كما أنه لا يطهر إذا طرح فيه كافور أو مسك فزالت رائحة النجاسة فلا يطهر هنا ، ونوقش بأنه قياس مع الفارق ؛ لأن الكافور يجوز أن تكون الرائحة باقية فيه دائما لم تظهر لغلبة رائحة الكافور والمسك ، ذكر ذلك الشيرازي في [ المهذب ] .
واستدل أيضا : بأنه وقع الشك في زوال التغير ، وإذا وقع الشك في سبب الإباحة ، لم تثبت الإباحة ، كما لو رأى شاة مذبوحة في موضع فيه مسلمون ومجوس ، وشك هل ذبحها المجوسي أو المسلم لا تباح ، ذكر ذلك النووي في بشرح المهذب ] ، وبأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره من باب أولى ، ذكره في [ المبدع ] .
__________
(1) [ المهذب ] وشرحه ( 1\ 185 ) .
(2) [ الإنصاف ] ( 1\ 66 ) .
(3) [ المبدع ] ( 1\ 63 ) وما بعدها .
وبأنه يستر النجاسة ، قاله ابن عقيل نقله عنه صاحب المبدع .
القول الثاني : أنه طاهر : وهذا قول المالكية إذا لم تظهر فيه أوصاف الملقى ، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد .
جاء في [ مواهب الجليل ] : وأما إذا زال التغير بإلقاء تراب فيه أو طين ، فقال في [ الطراز ] : إن لم يظهر فيه لون الطين ولا ريحه ولا طعمه وجب أن يطهر . انتهى (1) .
وقال الشيرازي : وقال - أي : الشافعي - في حرملة يطهر ، وهو الأرجح (2) .
وعلق النووي على ذلك فقال : اختلف المصنفون في الأصح من القولين ، فصحح المصنف هنا ، وفي التنبيه ، وشيخه القاضي أبو الطيب وأبو العباس الجرجاني والشاشي وغيرهم الطهارة ، وهو اختيار المزني والقاضي أبي حامد (3) .
وقال ابن قدامة : ويتخرج أن يطهر (4) .
وعلق على ذلك صاحب [ المبدع ] فقال : وقاله بعض أصحابنا (5) .
واستدل لذلك : بأن علة النجاسة زالت وهي التغير ، أشبه ما لو زال بالمكاثرة (6) ، وبأنه لو زال بطول المكث طهر ، فأولى أن يطهر ، إذا كان
__________
(1) [ مواهب الجليل ] ( 1\ 85 ) .
(2) [ المهذب ] ومعه [ المجموع ] ( 1\ 185 ) .
(3) [ المجموع ] ومعه [ المهذب ] ( 1\ 185 ) .
(4) [ المقنع ] وعليه [ المبدع ] ( 1\ 63 ) .
(5) [ المبدع ] ومعه [ المقنع ] ( 1\ 63 ) .
(6) [ المبدع ] ( 1\ 63 ) .
يطهر بمخالطته لما دون القلتين (1) .
__________
(1) [ الإنصاف ] ( 1\ 66 ) .
3 -
الاستحالة بسقي النباتات بها وشرب الحيوانات إياها
أما الاستحالة بسقي النبات بها فقد تكلم أهل العلم في حكم ذلك : فمنهم من قال : إن هذه الزروع طاهرة مباحة ، ومنهم من قال : إنها نجسة محرمة .وممن قال بطهارتها : أبو حنيفة ، وبعض المالكية ، والشافعي ، وهو قول في مذهب أحمد قال ابن المواق على قول خليل : ( وزرع بنجس ) ابن يونس : القمح النجس يزرع فينبت هو طاهر ، وكذلك الماء النجس يسقى به شجر أو بقل ، فالثمرة والبقلة طاهرتان (1) .
وقال ابن قدامة : قال ابن عقيل : يحتمل أن يكره ذلك ولا يحرم ولا يحكم بتنجيسها . . . وهذا قول أكثر الفقهاء منهم : أبو حنيفة ، والشافعي (2) .
واستدل لهذا بالأثر والمعنى :
أما الأثر : فهو أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يدمل أرضه بالعذرة ويقول : مكتل عرة مكتل بر .
قال ابن قدامة : والعرة : عذرة الناس ، استدل بهذا الأثر ابن قدامة (3) .
وأما المعنى : فإن النجاسة تستحيل في باطنها فتطهر بالاستحالة كالدم
__________
(1) ابن المواق على متن خليل ( 1\ 97 ) ومعه [ مواهب الجليل ] .
(2) [ المغني ] ومعه [ الشرح ] ( 11\ 72 ، 73 ) .
(3) [ المغني ] ومعه [ الشرح ] ( 11\ 72 ، 73 ) .
يستحيل في أعضاء الحيوان ويصير لبنا (1) .
القول الثاني : إنها لا تطهر : وهو المقدم عند الحنابلة ، وبه قال من وافقهم من أهل العلم .
قال ابن قدامة : وتحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات وسمدت بها (2) .
وقال المرداوي على قول ابن قدامة : ( وما سقي بالماء النجس من الزروع والثمر محرم ) قال : وينجس بذلك ، وهو المذهب نص عليه ، وعليه جماهير الأصحاب (3) .
وقيد ذلك [ بالمغني ] فقال : فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات كالجلالة ، إذا حبست وأطعمت الطاهرات (4) .
واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى .
أما السنة : فما ذكره ابن قدامة في [ المغني ] ، قال : وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونشترط عليهم ألا يدملوها بعذرة الناس .
وأما المعنى : فإنها تتغذى بالنجاسات وتترقى فيها أجزاؤها والاستحالة لا تطهر (5) .
__________
(1) [ المغني ] ومعه [ الشرح ] ( 11\ 72 ، 73 ) .
(2) [ الإنصاف ] ( 2\ 10 ، 367 ) .
(3) [ المغني ] ومعه الشرح ( 11\ 72 ، 73 ) .
(4) [ المغني ] ومعه الشرح ( 11\ 72 ، 73 ) .
(5) [ المغني ] ومعه الشرح ( 11\ 72 ، 73 ) .
وأما شرب الحيوانات إياها ، فإننا نذكر كلام العلماء وأدلتهم في حكم لحوم الجلالة وألبانها مع المناقشة :
ومن أوسع ما جاء في ذلك : ما ذكره ابن قدامة - رحمه الله - قال : قال أحمد : أكره لحوم الجلالة وألبانها . قال القاضي في [ المجرد ] : هي التي تأكل القذر ، فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها وفي بيضها روايتان ، وإن كان يكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها ، وتحديد الجلالة بكونه أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد ، ولا هو ظاهر كلامه ، لكن يمكن تحديده بما يكون كثيرا في مأكولها ويعفى عن اليسير .
وقال الليث : إنما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها إلا الرجيع . وقال ابن موسى : في الجلالة روايتان : إحداهما : أنها محرمة : والثانية : أنها مكروهة غير محرمة ، وهذا قول الشافعي ، وكره أبو حنيفة لحومها والعمل عليها حتى تحبس ، ورخص الحسن في لحومها وألبانها ؛ لأن الحيوانات لا تنجس بأكل النجاسات بدليل أن شارب الخمر لا يحكم بتنجس أعضائه ، والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجسا ولو نجس لما طهر بالإسلام ولا الاغتسال ، ولو نجست الجلالة لما طهرت بالحبس .
ولنا ما روى ابن عمر قال : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها » (1) رواه أبو داود ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلالة ، وأن يؤكل لحمها ولا يحمل عليها إلا الأدم ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة » رواه الخلال
__________
(1) سنن الترمذي الأطعمة (1824),سنن أبو داود الأطعمة (3785),سنن ابن ماجه الذبائح (3189).
بإسناده ، ولأن لحمها يتولد من النجاسة فيكون نجسا كرماد النجاسة .
وأما شارب الخمر فليس ذلك أكثر غذائه ، وإنما يتغذى الطاهرات وكذلك الكافر في الغالب ، وتزول الكراهة بحبسها اتفاقا .
واختلف في قدره :
فروي عن أحمد أنها تحبس ثلاثا ، سواء أكانت طائرا أو بهيمة ، وكان ابن عمر إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا ، وهذا قول أبي ثور ؛ لأن ما طهر حيوانا طهر الآخر كالذي نجس ظاهره . والأخرى تحبس الدجاجة ثلاثا ، والبعير والبقرة ونحوهما يحبس أربعين ، وهذا قول عطاء في الناقة والبقرة ؛ لحديث عبد الله بن عمرو ، ولأنهما أعظم جسما وبقاء علفهما فيهما أكثر من بقائه في الدجاجة والحيوان الصغير (1) .
ومن هذا تبين : أن القول بطهارة النجاسات والمياه بالاستحالة في الحيوانات والنباتات إلى لحم وعظم ولبن وغير ذلك - هو قول أكثر الفقهاء ، لتغيرها من فساد إلى صلاح وتبدل حقيقتها الخبيثة إلى حقيقة أخرى يشملها وصف الطيب في قوله تعالى : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ } (2) وقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } (3) فكان ما تولد عنها بالاستحالة طاهرا حلالا أكله وشربه .
__________
(1) [ المغني ] ومعه الشرح ( 11\ 66 ) ، ويرجع إلى [ الإنصاف ] ( 10\ 366 ) ، [ وشرح المفردات ] ص ( 312 ) .
(2) سورة الأعراف الآية 157
(3) سورة المائدة الآية 4
4 -
حكم استعمال مياه المجاري بعد استحالتها وزوال أعراض النجاسة منها
مما تقدم يتبين : أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال تغيرهبصب ماء طهور فيه باتفاق ، أو بطول مكث ، أو تأثير الشمس ومرور الرياح عليه ، أو برمي تراب ونحوه فيه على الراجح عند الفقهاء ؛ لزوال الحكم بزوال علته .
وعلى هذا : فإذا كانت مياه المجاري المتنجسة - وهي بلا شك كثيرة - تتخلص بالطرق الفنية الحديثة مما طرأ عليها من النجاسات ، فإنه يمكن حينئذ أن يحكم بطهارتها لزوال علة تنجسها ، وهي تغير لونها أو طعمها أو ريحها بالنجاسة ، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما وبذلك تعود هذه المياه إلى أصلها ، وهو الطهورية ويجوز استعماله في الشرب ونحوه وفي إزالة الأحداث والأخباث وتحصل بها الطهارة من الأحداث والأخباث ، إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع استعمالها فيما ذكر محافظة على النفس ، وتفاديا للضرر ، لا لنجاستها ولكن لو استعملها في إزالة الأحداث أو الأخباث صحت الطهارة .
وينبغي للمسلمين أن يستغنوا عن ذلك ويجتنبوه اكتفاء بالمياه الأخرى ما وجدوا إلى ذلك سبيلا ؛ احتياطا للصحة ، واتقاء للضرر ، وتنزها عما تستقذره النفوس وتنفر منه الطباع والفطر السليمة .
هذا ما تيسر ، وبالله التوفيق ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
قرار رقم ( 64 ) في 25 \ 10 \ 1398هـ
الحمد لله وحده ، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
ففي الدورة الثالثة عشرة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الآخر من شهر شوال 1398 هـ بمدينة الطائف ، وبناء على رغبة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في إحالة موضوع الاستفتاء الوارد إلى الرابطة من رئيس تحرير جريدة ( مسلم نيوز ) الصادرة بكيب تون إلى هيئة كبار العلماء ؛ لإعداد بحث في الموضوع ، وتقرير ما تراه الهيئة نحوه ، والمتضمن الإفادة بأن المسلمين في تلك الجهة يواجهون مشكلة كبيرة بسبب ما أقدم عليه مجلس مشروع التحقيقات العالمية والصناعية الذي يعمل على إنتاج ماء للشرب النقي من مياه المجاري ، وأنهم يسألون عن حكم استعمال هذه المياه بعد تنقيتها للوضوء .
بناء على ذلك فقد اطلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ، كما اطلع المجلس على خطاب معالي وزير الزراعة والمياه رقم ( 1\ 1299 ) وتاريخ 30 \ 5 \ 1398 هـ وبعد البحث والمداولة والمناقشة قرر المجلس ما يلي :
بناء على ما ذكره أهل العلم من أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال تغيره بنفسه ، أو بإضافة ماء طهور إليه أو زال تغيره بطول مكث ، أو تأثير الشمس ومرور الرياح عليه ، أو نحو ذلك لزوال الحكم بزوال علته .
وحيث إن المياه المتنجسة يمكن التخلص من نجاستها بعدة وسائل ، وحيث إن تنقيتها وتخليصها مما طرأ عليها من النجاسات ، بواسطة
الطرق الفنية الحديثة لأعمال التنقية يعتبر من أحسن وسائل الترشيح والتطهير حيث يبذل الكثير من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات ، كما يشهد بذلك ويقرره الخبراء المختصون بذلك ممن لا يتطرق الشك إليهم في عملهم وخبرتهم وتجاربهم .
لذلك فإن المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة بحيث تعود إلى خلقتها الأولى لا يرى فيها تغير بنجاسة من طعم ولا لون ولا ريح ، ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث ، وتحصل الطهارة بها منها ، كما يجوز شربها إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع ذلك ؛ محافظة على النفس ، وتفاديا للضرر لا لنجاستها .
والمجلس إذ يقرر ذلك يستحسن الاستغناء عنها في استعمالها للشرب متى وجد إلى ذلك سبيل ؛ احتياطا للصحة ، واتقاء للضرر ، وتنزها عما تستقذره النفوس وتنفر منه الطباع .
والله الموفق . وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة :
محمد بن علي الحركان
عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... عبد الرزاق عفيفي
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان
( 5 )
جباية الزكاةهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
جباية الزكاة
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فبناء على ما تقرر في الدورة العاشرة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض ، في آخر ربيع الأول وأول ربيع الثاني - عام 1397 هـ ، من إدراج موضوع جباية الزكاة ، واللائحة التنفيذية للجباية ، الوارد من المقام السامي برفق خطابه رقم 3 \ ش \ 293 وتاريخ 4 \ 1 \ 1397 هـ ، وأن اللجنة تعد في ذلك بحثا يعرض على الهيئة في الدورة الحادية عشرة - كتبت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية بحثا مختصرا مشتملا على العناصر الآتية :
1 - حق ولي الأمر في تولي جباية الزكاة من الأموال الباطنة .
2 - النظر في زكاة عروض التجارة .
3 - زكاة الديون التي للإنسان على غيره .
4 - الديون التي على الإنسان هل تمنع وجوب الزكاة ؟
5 - التعزير بالمال .
وفيما يلي الكلام على هذه العناصر تباعا ، والله الموفق .
أولا :
حق ولي الأمر في تولي جباية الزكاة من الأموال الباطنة
قد يكون الإمام عادلا ، وقد يكون جائرا ، وقد يكون جوره في توزيعها ، وقد يكون في سائر عمله ، وفي كل ذلك قد يطلبها ، وقد يدفعها صاحبها إليه بدون طلب .وفيما يلي نقول مختصرة عن فقهاء الإسلام في ذلك مع ما ذكروه من الأدلة والمناقشة .
1 -
النقول من كتب الحنفية
أ - قال الكاساني : وأما المال الباطن الذي يكون في المصر فقد قال عامة مشايخنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طالب بزكاته وأبو بكر وعمر طالبا وعثمان طالب زمانا ولما كثرت أموال الناس ورأى أن في تتبعها حرجا على الأمة وفي تفتيشها ضررا بأرباب الأموال فوض الأداء إلى أربابها .وذكر إمام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي - رحمه الله - وقال : لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في مطالبة المسلمين بزكاة الورق وأموال التجارة ، ولكن الناس يعطون ذلك ، ومنهم من يحمل إلى الأئمة فيقبلون منه ذلك ، ولا يسألون أحدا عن مبلغ ماله ، ولا يطالبونه بذلك إلا ما كان من توجيه عمر رضي الله عنه العشار إلى الأطراف ، وكان ذلك منه عندنا - والله أعلم - عمن بعد داره وشق عليه أن يحول صدقته إليه ، وقد جعل في كل طرف من الأطراف عاشرا لتجار أهل الحرب والذمة ، وأمر أن يأخذوا من تجار المسلمين ما يدفعونه إليه ، وكان ذلك من عمر تخفيفا على المسلمين ، إلا أن على الإمام مطالبة أرباب الأموال
العين وأموال التجارة بأداء الزكاة إليهم سوى المواشي والأنعام ، وأن مطالبة ذلك إلى الأئمة إلا أن يأتي أحدهم إلى الإمام بشيء من ذلك فيقبله ، ولا يتعدى عما جرت به العادة والسنة إلى غيره ، انتهى المقصود (1) .
ب - قال الزيلعي : وأما أخذ الصدقات فإلى الإمام ، كذا كان من أيامه عليه الصلاة والسلام وفي زمن أبي بكر وعمر ، وفوض عثمان إلى أربابها في الأموال الباطنة إذا لم يمر بها على العاشر ، فبقي ما وراءه على الأصل ، وروي أن عمر أراد أن يستعمل أنس بن مالك على هذا العمل ، فقال له : « أتستعملني على المكس من عملك ؟ فقال : أفلا ترضى أن أقلدك ما قلدنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم » (2) .
__________
(1) [ بدائع الصنائع ] ( 2\ 3635 ) ، ويرجع أيضا إلى [ حاشية ابن عابدين ] ( 2\ 5 ) .
(2) [ تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ] ( 1\ 282 ) .
2 -
النقول من كتب المالكية
أ - جاء في [ المدونة ] : وقال مالك : إذا كان الإمام يعدل لم يسع الرجل أن يفرق زكاة ماله الناض ولا غير ذلك ، ولكن يدفع زكاة الناض إلى الإمام ويدفعه الإمام ، انتهى المقصود (1) .ب - قال ابن المواق : وأما عدم إجزاء الزكاة إن طاع لدفعها لجائر . فقال ابن العربي : هل يجوز أن يحتجز من زكاته عن الوالي ما يعطى للمحتاج ؟
__________
(1) [ المدونة ] ( 1\ 244 - 2 ) ، [ التاج والإكليل لمختصر خليل ] ومعه [ مواهب الجليل ] ( 2\ 356 ) ، ويرجع إلى [ مواهب الجليل ] نفسه .
قولان : وبالجواز أقول ؛ لأنه قادر على استخراج حق مسلم من يد غاصب فوجب عليه شرعا .
اللخمي : إذا كان الإمام غير عدل ومكنه صاحبه منها مع القدرة على إخفائها عنه لم تجزه ووجب إعادتها ، انتهى .
ونحو هذا عبارة التونسي . ابن رشد : الأصح قوله في [ المدونة ] وأحد قوليه في سماع عيسى وقول ابن وهب وأصبغ : أن ما يأخذه الولاة من الصدقات تجزئ وإن لم يضعوها موضعها ؛ لأن دفعها إليهم واجب لما في منعنا من الخروج عليهم المؤدي إلى الهرج والفساد ، فإذا وجب أن تدفع إليهم وجب أن تجزئ (1) . انتهى المقصود .
ج - قال القرطبي : وإذا كان الإمام يعدل في الأخذ والصرف لم يسغ للمالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناض ولا في غيره ، وقد قيل : إن زكاة الناض على أربابه .
وقال ابن الماجشون : ذلك إذا كان الصرف للفقراء والمساكين خاصة ، فإن احتيج إلى صرفها لغيرهما من الأصناف فلا يفرق عليهم إلا الإمام . انتهى (2) .
د - وقال القرطبي على قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } (3) اختلف في هذه الصدقة المأمور بها :
فقيل : هي صدقة الفرض .
__________
(1) [ المدونة ] ( 1\ 244 - 2 ) ، [ التاج والإكليل لمختصر خليل ] ومعه [ مواهب الجليل ] ( 2\ 356 ) ، ويرجع إلى [ مواهب الجليل ] نفسه وإلى حاشية الدسوقي 5021 .
(2) [ الجامع لأحكام القرآن ] للقرطبي ( 8\ 177 ) .
(3) سورة التوبة الآية 103
قاله جويبر عن ابن عباس ، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري .
وقيل : هو مخصوص بمن نزلت فيه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم ، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء ؛ ولهذا قال مالك : إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث ؛ متمسكا بحديث أبي لبابة .
وعلى القول الأول فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه ، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته ، وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق ، وقالوا : إنه كان يعطينا عوضا منها : التطهير والتزكية والصلاة علينا ، وقد عدمناها من غيره .
ونظم في ذلك شاعرهم فقال :
أطعنا رسول الله ما كان بيننا ... فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر
وإن الذي سألوكم فمنعتم ... لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر
سنمنعهم ما دام فينا بقية ... كرام على الضراء في العسر واليسر
وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة ، وفي حقهم قال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة .
قال ابن العربي : أما قولهم : إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين ؛ فإن الخطاب في القرآن لم يرد بابا واحدا ، ولكن اختلف موارده : فمنها
خطاب توجه إلى جميع الأمة كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ } (1) وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } (2) ونحوه .
ومنها : خطاب خص به ولم يشركه فيه غيره لفظا ولا معنى ، كقوله : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } (3) وقوله : { خَالِصَةً لَكَ } (4) ومنها : خطاب خص به لفظا وشركه جميع الأمة معنى وفعلا ، كقوله : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } (5) الآية . وقوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } (6) وقوله : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ } (7) فكل من دلكت عليه الشمس مخاطب بالصلاة .
وكذلك كل من قرأ القرآن مخاطب بالاستعاذة ، وكذلك كل من خاف يقيم الصلاة ( بتلك الصفة ) .
ومن هذا القبيل قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } (8) وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } (9)
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سورة البقرة الآية 183
(3) سورة الإسراء الآية 79
(4) سورة الأحزاب الآية 50
(5) سورة الإسراء الآية 78
(6) سورة النحل الآية 98
(7) سورة النساء الآية 102
(8) سورة التوبة الآية 103
(9) سورة الأحزاب الآية 1
و { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } (1) (2) .
وقال أيضا في تفسير قول تعالى : { وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } (3) هذا نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها ، وأن الحق له جل وعز ، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة ، فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده ، والله عز وجل حي لا يموت ، وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } (4) ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلم (5) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) [ الجامع لأحكام القرآن ] ( 8\244 , 245 )
(3) سورة التوبة الآية 104
(4) سورة التوبة الآية 103
(5) [ الجامع لأحكام القرآن ] ( 8\251 ) .
3 -
النقول من كتب الشافعية
أ - جاء في [ الأم ] تحت عنوان : ( باب جماع قسم المال من الوالي ورب المال ) :قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : وجميع ما أخذ من مسلم من صدقة فطر وخمس ركاز وزكاة معدن وصدقة ماشية وزكاة مال وعشر زرع وأي أصناف الصدقات أخذ من مسلم - فقسمه واحد على الآية التي في براءة { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } (1) الآية . لا يختلف ، وسواء قليلة وكثيرة على ما وصفت ، فإذا قسمه الوالي ففيه سهم العاملين منه ساقط ؛ لأنه لا عامل عليه يأخذه فيكون له أجره فيه والعاملون فيه عدم ، فإن قال رب المال : فأنا إلى أخذه من نفسي وجمعه وقسمه فآخذ أجر
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
مثلي قيل : إنه لا يقال لك : عامل نفسك ، ولا يجوز لك إذا كانت الزكاة فرضا عليك أن يعود إليك منها شيء ، فإن أديت ما كان عليك أن تؤديه وإلا كنت عاصيا لو منعته ، فإن قال : فإن وليتها غيري قيل : إذا كنت لا تكون عاملا على غيرك لم يكن غيرك عاملا إذا استعملته أنت ولا يكون وكيلك فيها إلا في معناك أو أقل ؛ لأن عليك تفريقها فإذا تحقق منك فليس لك الانتقاص منها لما تحققت بقيامه بها ، قال : ولا أحب لأحد من الناس يولي زكاة ماله غيره ؛ لأن المحاسب بها المسئول عنها هو فهو أولى بالاجتهاد في وضعها مواضعها من غيره ، وأنه على يقين من فعل نفسه في أدائها ، وفي شك من فعل غيره ، لا يدري أداها عنه أو لم يؤدها ، فإن قال : أخاف حبائي فهو يخاف من غيره مثل ما يخاف من نفسه ، ويستيقن فعل نفسه في الأداء ويشك في فعل غيره . انتهى (1) .
ب - قال الشيرازي : ويجوز لرب المال أن يفرق زكاة الأموال الباطنة بنفسه وهو الذهب والفضة وعروض التجارة والركاز ، لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال في المحرم : هذا شهر زكاتكم ، فمن كان عنده دين فليقض دينه ثم ليزك بقية ماله ، ويجوز أن يوكل من يفرق ؛ لأنه حق مال جاز أن يوكل في أدائه كدين الآدميين ، ويجوز أن تدفع إلى الإمام ؛ لأنه نائب عن الفقراء ، فجاز الدفع إليه كولي اليتيم .
وفي الأفضل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الأفضل أن يفرق بنفسه وهو ظاهر النص ؛ لأنه على بينة من
__________
(1) [ الأم ] ( 2\66 ) .
أدائه وليس على ثقة من أداء غيره .
الثاني : أن الأفضل أن يدفع إلى الإمام عادلا كان أو جائزا ؛ لما روي « أن المغيرة بن شعبة قال لمولى له وهو على أمواله بالطائف : كيف تصنع في صدقة مالي ؟ قال : منها ما أتصدق به ، ومنها ما أدفع إلى السلطان ، فقال : وفيم أنت من ذلك ؟ فقال : إنهم يشترون بها الأرض ويتزوجون بها النساء ، فقال : ادفعها إليهم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ندفعها إليهم » ، ولأنه أعرف بالفقراء وقدر حاجاتهم ، ومن أصحابنا من قال : إن كان عادلا فالدفع إليه أفضل ، وإن كان جائرا فتفرقته بنفسه أفضل ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « فمن سألها على وجهها فليعطها ، ومن سأل فوقه فلا يعطه » (1) ، ولأنه على ثقة من أدائه إلى العادل وليس على ثقة من أدائه إلى الجائر ؛ لأنه ربما صرفها في شهواته (2) .
ج - وقال النووي : الأثر المذكور عن عثمان صحيح رواه البيهقي في [ سننه الكبير ] في كتاب الزكاة في باب الدين مع الصدقة بإسناد صحيح عن الزهري عن السائب بن يزيد الصحابي : أنه سمع عثمان بن عفان خطيبا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( هذا شهر زكاتكم ، فمن كان منكم عليه دين فليقض دينه حتى تخلص أموالكم فتؤدوا منها الزكاة ) .
قال البيهقي : ورواه البخاري في [ الصحيح ] عن أبي اليمان عن شعيب ، وينكر على البيهقي هذا القول ؛ لأن البخاري لم يذكره في [ صحيحه ] ، هكذا . وإنما ذكر عن السائب بن يزيد أنه سمع عثمان بن
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1386),سنن النسائي الزكاة (2455),سنن أبو داود الزكاة (1567),مسند أحمد بن حنبل (1/12).
(2) [ المهذب ] وعليه [ المجموع ] ( 6\161 ) .
عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزد على هذا ذكره في كتاب الاعتصام في ذكر المنبر . وكذا ذكره الحميدي في [ الجمع بين الصحيحين ] عن البخاري كما ذكرته ، ومقصود البخاري به إثبات المنبر ، وكأن البيهقي أراد أن البخاري روى أصله لا كله . والله أعلم .
وأما حديث المغيرة فرواه البيهقي في [ السنن الكبير ] بإسناد فيه ضعف يسير ، وسمى في روايته مولى المغيرة ، فقال : هو هنيد - يعني : بضم الهاء - وهو هنيد الثقفي مولى المغيرة .
وأما الحديث الآخر : فمن سئلها على حقها فهو صحيح في [ صحيح البخاري ] لكن المصنف غيره هنا وفي أول باب صدقة الإبل : وقد سبق بيانه هناك ، وقد جاءت أحاديث وآثار في هذا المعنى منها : عن جرير بن عبد الله قال : « جاء أناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن أناسا من المصدقين يأتوننا فيظلموننا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرضوا مصدقيكم » (1) رواه مسلم في [ صحيحه ] .
وعن أنس رضي الله عنه : « أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله ؟ ! ، فقال : " نعم ، إن أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله ، ولك أجرها وإثمها على من بدلها » (2) رواه الإمام أحمد بن حنبل في [ مسنده ] .
وعن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال : اجتمع عندي نفقة فيها صدقة - يعني : بلغت نصاب الزكاة - فسألت سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري أن أقسمها أو أدفعها إلى السلطان ، فأمروني جميعا أن أدفعها إلى السلطان ما اختلف علي منهم أحد ، وفي رواية
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (989),سنن الترمذي الزكاة (647),سنن النسائي الزكاة (2460),سنن أبو داود الزكاة (1589),سنن الدارمي الزكاة (1670).
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/136).
فقلت لهم : هذا السلطان يفعل ما ترون ، فأدفع إليهم زكاتي ؟ فقالوا كلهم : نعم ، فادفعها ، رواهما الإمام سعيد بن منصور في [ سننه ] .
وعن جابر بن عتيك الصحابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « سيأتيكم ركب مبغضون ، فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون ، فإن عدلوا فلأنفسهم ، وإن ظلموا فعليها ، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم وليدعوا لكم » (1) رواه أبو داود ، والبيهقي وقال : إسناده مختلف .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( ادفعوا صدقاتكم إلى من ولاه الله أمركم ، فمن بر فلنفسه ومن أثم فعليها ) رواه البيهقي بإسناد صحيح أو حسن ، وعن قزعة مولى زياد بن أبيه أن ابن عمر قال : ادفعوها إليهم وان شربوا بها الخمر . رواه البيهقي بإسناد صحيح أو حسن .
قال البيهقي : وروينا في هذا عن جابر بن عبد الله وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم ، ومما جاء في تفريقها بنفسه ما رواه البيهقي بإسناد عن أبي سعيد المقبري واسمه كيسان قال : جئت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمائتي درهم ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، هذه زكاة مالي ، قال : وقد عتقت ؟ قلت : نعم ، قال : اذهب بها أنت فاقسمها ، والله أعلم .
وأما قول المصنف : لأنه حق مال فاحتراز من الصلاة ونحوها . ( وقوله ) : لأنه مال للإمام فيه حق المطالبة احتراز من دين الآدمي .
( أما ) أحكام الفصل ففيه مسائل :
( إحداها ) : قال الشافعي والأصحاب - رحمهم الله تعالى - : للمالك أن يفرق زكاة ماله الباطن بنفسه . وهذا لا خلاف فيه ، ونقل أصحابنا فيه
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1588).
إجماع المسلمين ، والأموال الباطنة هي الذهب الفضة والركاز وعروض التجارة وزكاة الفطر ، وفي زكاة الفطر وجه أنها من الأموال الظاهرة ، حكاه صاحب [ البيان ] وجماعة ، ونقله صاحب [ الحاوي ] عن الأصحاب ، ثم اختار لنفسه أنها باطنة ، وهذا هو المذهب وبه قطع جمهور الأصحاب منهم القاضي أبو الطيب والمحاملي في كتابيه وصاحب الشامل والبغوي وخلائق وهو ظاهر نص الشافعي . وهو المشهور وبه قطع الجمهور ، ذكر أكثرهم المسألة في باب زكاة الفطر .
قال أصحابنا : وإنما كانت عروض التجارة من الأموال الباطنة وإن كانت ظاهرة ؛ لكونها لا تعرف أنها للتجارة أم لا فإن العروض لا تصير للتجارة إلا بشروط سبقت في بابها . والله أعلم .
الثانية : له أن يوكل في صرف الزكاة التي له تفريقها بنفسه ، فإن شاء وكل في الدفع إلى الإمام والساعي ، وإن شاء في التفرقة على الأصناف ، وكلاهما جائز بلا خلاف ، وإنما جاز التوكيل في ذلك مع أنها عبادة ؛ لأنه تشبه قضاء الديون ، ولأنه قد تدعو الحاجة إلى الوكالة لغيبة المال وغير ذلك .
الثالثة : له صرفها إلى الإمام والساعي ، فإن كان الإمام عادلا أجزأه الدفع إليه بالإجماع وإن كان جائرا أجزأه على المذهب الصحيح المشهور ، ونص عليه الشافعي وقطع به الجمهور ، وفيه الوجه السابق عن الحناطي والماوردي (1) .
__________
(1) يريد بالوجه السابق ما ذكره عنهما أنه لا يجوز الدفع إلى الجائر مطلقا ، وهذا ذكره بالنسبة للأموال الظاهرة ( 6\ 114 ) .
الرابعة : في بيان الأفضل ، قال أصحابنا : تفريقه بنفسه أفضل من التوكيل بلا خلاف ؛ لأنه على ثقة من تفريقه بخلاف الوكيل وعلى تقدير خيانة الوكيل لا يسقط الفرض عن المالك ؛ لأن يده كيده ، فما لم يصل المال إلى المستحقين لا تبرأ ذمة المالك بخلاف دفعها إلى الإمام ، فإنه بمجرد قبضه تسقط الزكاة عن المالك .
قال الماوردي وغيره : وكذا الدفع إلى الإمام أفضل من التوكيل لما ذكرناه ، وأما التفريق بنفسه والدفع إلى الإمام ففي الأفضل منهما تفصيل :
قال أصحابنا : إن كانت الأموال باطنة والإمام عادل ففيه وجهان :
أصحهما عند الجمهور : الدفع إلى الإمام أفضل للأحاديث السابقة ، ولأنه يتيقن سقوط الفرض به بخلاف تفريقه بنفسه فقد يصادف غير مستحق ، ولأن الإمام أعرف بالمستحقين وبالمصالح وقدر الحاجات وبمن أخذ قبل هذه المرة من غيره ؛ ولأنه يقصد لها ، وهذا الوجه قول ابن سريج وأبي إسحاق .
قال المحاملي في [ المجموع والتجريد ] : هو قول عامة أصحابنا وهذا المذهب ، وكذا قاله آخرون .
قال الرافعي : هذا هو الأصح عند الجمهور من العراقيين وغيرهم ، وبه قطع الصيدلاني وغيره .
والثاني : تفريقها بنفسه أفضل ، وبه قطع البغوي ، قال المصنف : وهو ظاهر النص يعني : قول الشافعي في [ المختصر ] : وأحب أن يتولى الرجل قسمها بنفسه ليكون على يقين من أدائها عنه . هذا نصه وهو ظاهر
فيما قاله المصنف . وتأوله الأكثرون القائلون بالأول على أن المراد أنه أولى من الوكيل لا من الدفع إلى الإمام وتعليله يؤيد هذا التأويل ؛ لأن أداءها عنه يحصل بيقين بمجرد الدفع إلى الإمام وإن جار فيها لا إلى الوكيل .
أما إذا كان الإمام جائرا فوجهان حكاهما المصنف والأصحاب :
أحدهما : الدفع إليه أفضل لما سبق ، وأصحهما التفريق بنفسه أفضل ليحصل مقصود الزكاة هكذا صححه الرافعي والمحققون . . .
فرع : قال الرافعي حكاية عن الأصحاب : لو طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وجب التسليم إليه بلا خلاف . وأما الأموال الباطنة فقال الماوردي : ليس للولاة نظر في زكاتها ، بل أصحاب الأموال أحق بتفرقتها ، فإن بذلوها طوعا قبلها الإمام منهم ، فإن علم الإمام من رجل أنه لا يؤديها بنفسه فهل له أن يقول : إما أن تفرقها بنفسك وإما أن تدفعها إلي لأفرقها . فيه وجهان يجريان في النذور والكفارات .
قلت : أصحهما : له المطالبة ، بل الصواب أنه يلزمه المطالبة ، كما يلزمه إزالة المنكرات (1) .
__________
(1) [ المهذب والمجموع ] ( 6\161 ) وما بعدها .
4 -
النقول من كتب الحنابلة
أ - قال الخرقي : ولا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية إلا أن يأخذها الإمام قهرا .ب - وقال ابن قدامة : مقتضى كلام الخرقي : أن الإنسان متى دفع زكاته طوعا لم تجزئه إلا بنية ، سواء دفعها إلى الإمام أو غيره ، وإن أخذها الإمام منه قهرا أجزأت من غير نية ؛ لأن تعذر النية في حقه أسقط
وجوبها عنه كالصغير والمجنون ، وقال القاضي : متى أخذها الإمام أجزأت من غير نية ، سواء أخذها طوعا أو كرها ، وهذا قول للشافعي ؛ لأن أخذ الإمام بمنزلة القسم بين الشركاء ، فلم يحتج إلى نية ، ولأن للإمام ولاية في أخذها ، ولذلك يأخذها من الممتنع اتفاقا ولو لم يجزئه لما أخذها أو لأخذها ثانيا وثالثا حتى ينفد ماله ؛ لأن أخذها إن كان لإجزائها فلا يحصل الإجزاء بدون النية ، وإن كان لوجوبها فالوجوب باق بعد أخذها .
واختار أبو الخطاب وابن عقيل : أنها لا تجزئ فيما بينه وبين الله تعالى إلا بنية رب المال ؛ لأن الإمام إما وكيله وإما وكيل الفقراء ، أو وكيلهما معا ، وأي ذلك كان فلا تجزئ نيته عن نية رب المال ، ولأن الزكاة عبادة تجب لها النية فلا تجزئ عمن وجبت عليه بغير نية إن كان من أهل النية كالصلاة ، وإنما أخذت منه مع عدم الإجزاء حراسة للعلم الظاهر كالصلاة ، يجبر عليها ليأتي بصورتها ولو صلى بغير نية لم تجزئه عند الله تعالى .
قال ابن عقيل : ومعنى قول الفقهاء : يجزئ عنه : أي في الظاهر ، بمعنى : أنه لا يطالب بأدائها ثانيا كما قلنا في الإسلام ، فإن المرتد يطالب بالشهادة ، فمتى أتى بها حكم بإسلامه ظاهرا ، ومتى لم يكن معتقدا صحة ما يلفظ به لم يصح إسلامه باطنا .
قال : وقول أصحابنا لا تقبل توبة الزنديق معناه لا يسقط عنه القتل الذي توجه (1) عليه ؛ لعدم علمنا بحقيقة توبته ؛ لأن أكثر ما فيه أنه أظهر إيمانه وقد كان دهره يظهر إيمانه ويستر كفره ، فأما عند الله عز وجل فإنها
__________
(1) هكذا في الأصل , ولعلها : توجب عليها
تصح إذا علم منه حقيقة الإنابة وصدق التوبة واعتقاد الحق ، ومن نصر قول الخرقي قال : إن للإمام ولاية على الممتنع فقامت نيته مقام نيته كولي اليتيم والمجنون ، وفارق الصلاة ، فإن النيابة فيها لا تصح فلا بد من نية فاعلها ، وقوله : لا يخلو من كونه وكيلا له أو وكيلا للفقراء أولهما .
قلنا : بل هو وال على المالك ، وأما إلحاق الزكاة بالقسمة فغير صحيح ، فإن القسمة ليست عبادة ، ولا يعتبر لها نية بخلاف الزكاة .
( فصل ) يستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه ، ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها ، سواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة ، قال الإمام أحمد : أعجب إلي أن يخرجها ، وإن دفعها إلى السلطان فهو جائز ، وقال : الحسن ومكحول وسعيد بن جبير ، وميمون بن مهران : يضعها رب المال في موضعها .
وقال الثوري : احلف لهم وأكذبهم ولا تعطهم شيئا إذا لم يضعوها مواضعها . وقال : لا تعطهم ، وقال عطاء : أعطهم إذا وضعوها مواضعها . فمفهومه : أنه لا يعطيهم إذا لم يكونوا كذلك .
وقال الشعبي وأبو جعفر : إن رأيت الولاة لا يعدلون فضعها في أهل الحاجة من أهلها .
وقال إبراهيم : ضعوها في مواضعها ، فإن أخذها السلطان أجزأك .
وقال سعيد : أنبأنا أبو عوانة عن مهاجر أبي الحسن قال : أتيت أبا وائل وأبا بردة بالزكاة ، وهما على بيت المال فأخذاها ، ثم جئت مرة أخرى فرأيت أبا وائل وحده ، فقال لي : ردها فضعها مواضعها .
وقد روي عن أحمد أنه قال : أما صدقة الأرض فيعجبني دفعها إلى
السلطان ، وأما زكاة الأموال كالمواشي فلا بأس أن يضعها في الفقراء والمساكين .
فظاهر هذا أنه استحب دفع العشر خاصة إلى الأئمة ؛ وذلك لأن العشر قد ذهب قوم إلى أنه مؤونة الأرض فهو كالخراج يتولاه الأئمة بخلاف سائر الزكاة والذي رأيت في [ الجامع ] قال : أما صدقة الفطر فيعجبني دفعها إلى السلطان ، ثم قال أبو عبد الله : قيل لابن عمر : إنهم يقلدون بها الكلاب ويشربون بها الخمور ، قال : ادفعوها إليهم .
وقال ابن أبي موسى وأبو الخطاب : دفع الزكاة إلى الإمام العادل أفضل ، وهو قول أصحاب الشافعي ، وممن قال يدفعها إلى الإمام : الشعبي ومحمد بن علي وأبو رزين والأوزاعي ؛ لأن الإمام أعلم بمصارفها ودفعها إليه يبرئه ظاهرا وباطنا ، ودفعها إلى الفقير لا يبرئه باطنا ؛ لاحتمال أن يكون غير مستحق لها ، ولأنه يخرج من الخلاف وتزول عنه التهمة ، وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى من جاءه من سعاة ابن الزبير أو نجدة الحروري .
وقد روي عن سهيل بن أبي صالح قال : أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت : عندي مال وأريد أن أخرج زكاته ، وهؤلاء القوم على ما ترى فما تأمرني ؟ قال : ادفعها إليهم ، فأتيت ابن عمر فقال مثل ذلك ، فأتيت أبا هريرة فقال مثل ذلك ، وأتيت أبا سعيد فقال مثل ذلك ، ويروى نحوه عن عائشة رضي الله عنها . وقال مالك وأبو حنيفة وأبو عبيد : لا يفرق
الأموال الظاهرة إلا الإمام ؛ لقول الله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } (1) ولأن أبا بكر طالبهم بالزكاة وقاتلهم عليها ، وقال : لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها ، ووافقه الصحابة على هذا ، ولأن ما للإمام قبضه بحكم الولاية لا يجوز دفعه إلى المولى عليه كولي اليتيم . وللشافعي قولان كالمذهبين .
ولنا على جواز دفعها بنفسه أنه دفع الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه ، فأجزأه كما لو دفع الدين إلى غريمه وكزكاة الأموال الباطنة ، ولأنه أحد نوعي الزكاة فأشبه النوع الآخر ، والآية تدل على أن للإمام أخذها ولا خلاف فيه ، ومطالبة أبي بكر لهم بها ؛ لكونهم لم يؤدوها إلى أهلها ولو أدوها إلى أهلها لم يقاتلهم عليها ؛ لأن ذلك مختلف في إجزائه فلا تجوز المقاتلة من أجله ، وإنما يطالب الإمام بحكم الولاية والنيابة عن مستحقيها ، فإذا دفعها إليهم جاز ؛ لأنهم أهل رشد فجاز الدفع إليهم بخلاف اليتيم .
وأما وجه فضيلة دفعها بنفسه فلأنه إيصال الحق إلى مستحقه مع توفير أجر العمالة وصيانة حقهم عن خطر الخيانة ومباشرة تفريج كربة مستحقها وإغنائه بها مع إعطائها للأولى بها من محاويج أقاربه وذوي رحمه وصلة رحمه بها ، فكان أفضل كما لو لم يكن آخذها من أهل العدل .
فإن قيل : فالكلام في الإمام العادل إذ الخيانة مأمونة في حقه ، قلنا : الإمام لا يتولى ذلك بنفسه ، وإنما يفوضه إلى سعاته ولا تؤمن منهم
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
الخيانة ، ثم ربما لا يصل إلى المستحق الذي قد علمه المالك من أهله وجيرانه شيء منها وهم أحق الناس بصلته وصدقته ومواساته . وقولهم : إن أخذ الإمام يبرئه ظاهرا وباطنا ، قلنا : يبطل هذا بدفعها إلى غير العادل ، فإنه يبرئه أيضا ، وقد سلموا أنه ليس بأفضل ثم إن البراءة الظاهرة تكفي ، وقولهم : إنه تزول به التهمة ، قلنا : متى أظهرها زالت التهمة ، سواء أخرجها بنفسه أو دفعها للإمام ، ولا يختلف المذهب إن دفعها إلى الإمام ، سواء كان عادلا أو غير عادل ، وسواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة ، ويبرأ بدفعها ، سواء تلفت في يد الإمام أو لم تتلف ، أو صرفها في مصارفها ، أو لم يصرفها لما ذكرنا عن الصحابة رضي الله عنهم ، ولأن الإمام نائب عنهم شرعا فبرئ بدفعها إليه كولي اليتيم إذا قبضها له ، ولا يختلف المذهب أيضا في أن صاحب المال يجوز أن يفرقها بنفسه .
( فصل ) إذا أخذ الخوارج والبغاة الزكاة أجزأت عن صاحبها ، وحكى ابن المنذر عن أحمد والشافعي وأبي ثور في الخوارج : أنه يجزئ ، وكذلك كل من أخذها من السلاطين أجزأت عن صاحبها ، سواء عدل فيها أو جار وسواء أخذها قهرا أو دفعها إليه اختيارا ، قال أبو صالح : سألت سعد بن أبي وقاص وابن عمر وجابرا وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة : فقلت : هذا السلطان يصنع ما ترون أفأدفع إليهم زكاتي ؟ فقالوا كلهم : نعم . وقال إبراهيم : يجزئ عنك ما أخذ منك العشارون ، وعن سلمة بن الأكوع أنه دفع صدقته إلى نجدة ، وعن ابن عمر أنه سئل عن مصدق ابن الزبير ومصدق نجدة فقال : إلى أيهما دفعت أجزأ عنك ،
وبهذا قال أصحاب الرأي فيما غلبوا عليه ، وقالوا : إذا مر على الخوارج فعشروه لا يجزئ عن زكاته ، وقال أبو عبيد في الخوارج يأخذون الزكاة : على من أخذوا منه الإعادة ؛ لأنهم ليسوا بأئمة ، فأشبهوا قطاع الطريق .
ولنا قول الصحابة من غير خلاف في عصرهم علمناه ، فيكون إجماعا ، ولأنه دفعها إلى أهل الولاية فأشبه دفعها إلى أهل البغي (1) .
ج - قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
أما ما يأخذه ولاة المسلمين من العشر ، وزكاة الماشية والتجارة وغير ذلك فإنه يسقط ذلك عن صاحبه .
إذا كان الإمام عادلا يصرفه في مصارفه الشرعية باتفاق العلماء ، فإن كان ظالما لا يصرفه في مصارفه الشرعية فينبغي لصاحبه أن لا يدفع الزكاة إليه ، بل يصرفها هو إلى مستحقيها . فإن أكره على دفعها إلى الظالم بحيث لو لم يدفعها إليه لحصل له ضرر فإنها تجزئه في هذه الصورة عند أكثر العلماء .
وهم في هذه الحال ظلموا مستحقيها كولي اليتيم وناظر الوقف إذا قبضوا ماله وصرفوه في غير مصارفه (2) .
د - قال ابن قدامة : ويستحب للإنسان تفرقة زكاته بنفسه .
هـ - وقال المرداوي على ذلك : سواء كانت زكاة مال أو فطرة ، نص عليه ، قال بعض الأصحاب منهم ابن حمدان - يشترط أمانته قال في
__________
(1) [ المغني ] ومعه [ الشرح الكبير ] ( 1\506 ) وما بعدها .
(2) [ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ] ( 25\81 ) .
الفروع : وهو مراد غيره ، أي : من حيث الجملة . انتهى .
و - قال ابن قدامة : ( وله دفعها إلى الساعي وإلى الإمام أيضا ) .
ز - وقال المرداوي على ذلك : وهذا المذهب في ذلك كله مطلقا ، وعليه أكثر الأصحاب ، وهو من المفردات . قال ناظمها :
زكاته يخرج في الأيام ... بنفسه أولى من الإمام
وقيل : يجب دفعها إلى الإمام إذا طلبها وفاقا للأئمة الثلاثة .
وعنه يستحب أن يدفع إليه العشر ، ويتولى هو تفريق الباقي .
وقال أبو الخطاب : دفعها إلى الإمام العادل أفضل . واختاره ابن أبي موسى ؛ للخروج من الخلاف وزوال التهمة .
وعنه : دفع الفطرة إليه أفضل : نقله المروذي ، كما تقدم في آخر باب الفطرة .
وقيل : يجب دفع زكاة المال الظاهر إلى الإمام ولا يجزئ دونه .
فوائد :
الأولى : يجوز دفع زكاته إلى الإمام الفاسق ، على الصحيح من المذهب ، وقال القاضي في [ الأحكام السلطانية ] : يحرم عليه دفعها إن وضعها في غير أهلها ، ويجب كتمها إذن عنه ، واختاره في [ الحاوي ] .
قلت : وهو الصواب .
ويأتي في باب قتال أهل البغي : أنه يجزئ دفع الزكاة إلى الخوارج والبغاة ، نص عليه في الخوارج .
الثانية : يجوز للإمام طلب الزكاة من المال الظاهر والباطن على
الصحيح من المذهب إن وضعها في أهلها .
وقال القاضي في [ الأحكام السلطانية ] : لا نظر له في زكاة المال الباطن إلا أن يبذل له ، وقال ابن تميم فيها : تجب فيه الزكاة .
قال القاضي : إذا مر المضارب أو المؤذن له بالمال على عاشر المسلمين أخذ منه الزكاة ، قال : وقيل : لا تؤخذ منه حتى يحضر المالك .
الثالثة : لو طلبها الإمام لم يجب دفعها إليه ، وليس له أن يقاتله على ذلك إذا لم يمنع إخراجها بالكلية نص عليه ، وجزم به ابن شهاب وغيره وقدمه في [ الفروع ] و [ مختصر ابن تميم ] وهو من المفردات .
وقيل : يجب عليه دفعها إذا طلبها إليه ولا يقاتل لأجله ؛ لأنه مختلف فيه جزم به المجد في شرحه . قال في [ الفروع ] : وصححه غير واحد في الخلاف .
قلت : صححه في [ الرعايتين ] ، و [ الحاويين ] .
وقيل : لا يجب دفع الباطنة بطلبه ، قال ابن تميم وجها واحدا .
وقال الشيخ تقي الدين : من جوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوزه هنا ، ومن لم يجوزه إلا على ترك طاعة الله ورسوله : لم يجوزه (1) .
ح - قال ابن مفلح :
يجوز لمن وجبت عليه الزكاة تفرقتها بنفسه ( وش ) ؛ لقول الله تعالى :
__________
(1) [ الإنصاف ] ( 3\191 ) .
{ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ } (1) الآية ، وكالدين ، ولأن القابض رشيد قبض ما يستحقه والإمام وكيله ونائبه فجاز الدفع إليه كالموكل ، ويحمل ما خالف ذلك على الجواز ، أو أن الإمام أخذها أو على من لا يعرف مصارفها أو على من تركها جحودا أو بخلا ، وقيل : يجب دفع زكاة المال الظاهر إلى الإمام ، ولا يجزئ دونه ( وهـ م ) وزاد : وزكاة المال الباطن .
قال أبو حنيفة : وأموال التجار التي تسافر بها كالظاهرة ، فيأخذ العاشر زكاتها إن بلغت نصابا للحاجة إلى حمايتها من قطاع الطريق ، إلا أن يكون مما يسرع إليه الفساد كالفاكهة فلا تعشر ؛ لأن قطاع الطريق لا يقصدونه غالبا إلا اليسير منه للأكل ، وعند أبي يوسف ومحمد : يعشر أيضا .
وله دفع الزكاة إلى إمام فاسق ( وهـ ) قال أحمد - رحمه الله تعالى - : الصحابة رضي الله عنهم يأمرون بدفعها وقد علموا فيما ينفقونها .
وفي [ الأحكام السلطانية ] : يحرم إن وضعها في غير أهلها ، ويجب كتمها عنه إذن ( وم ش ) وتجزئ مطلقا ( م ش ) : لما رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه عن أبي هريرة مرفوعا : إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك .
ولأحمد عن أنس مرفوعا : « إذا أديتها إلى رسولي فقد برأت منها إلى الله ورسوله فلك أجرها وإثمها على من بدلها » (2) ، وللإمام طلب الزكاة من
__________
(1) سورة البقرة الآية 271
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/136).
المال الظاهر والباطن إن وضعها في أهلها ( و ) ، ولو من بلد غلب عليه الخوارج فلم يؤد أهله الزكاة ثم غلب عليهم الإمام ( هـ ) ؛ لأنهم وقت الوجوب ليسوا تحت حمايته وفي الأحكام السلطانية لا نظر له في زكاة الباطن إلا أن تبذل وذكر ابن تميم فيما تجب فيها الزكاة : قال القاضي : إذا مر المضارب أو المأذون له بالمال على عاشر المسلمين أخذ منه الزكاة ، قال : وقيل : لا تؤخذ منه حتى يحضر المالك ، وإذا طلب الزكاة لم يجب دفعها إليه .
وليس له أن يقاتل على ذلك إذا لم يمنع إخراجها بالكلية نص عليه وجزم به ابن شهاب وغيره .
قال في [ الخلاف ] : نص عليه في رواية أحمد بن سعيد في صدقة الماشية والعين : إذا أبى الناس أن يعطوها الإمام قاتلهم عليها إلا أن يقولوا : نحن نخرجها وقيل : ويجب دفعها إليه إذا طالبها ( و ) ولا يقاتل لأجله ؛ لأنه مختلف فيه ، جزم به في [ منتهى الغاية ] وجمع به بين الأدلة وصححه غير واحد .
قال في [ الخلاف ] : لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد كالحكم بشفعة الجوار على من لا يراها ، وقيل : لا يجب دفع الباطن بطلبه ، وقال بعضهم : وجها واحدا ، وذكر شيخنا : أن من أداها لم تجز مقاتلته ، للخلاف في إجزائها ، ثم ذكر نص أحمد فيمن قال : أنا أؤديها ولا أعطيها للإمام ، لم يكن له قتاله ، ثم قال : من جوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوزه ، ومن لم يجوزه إلا على ترك طاعة الله ورسوله لم يجوزه .
ويستحب تفرقة زكاته بنفسه ، قال بعضهم : مع أمانته ، وهو مراد
غيره ، أي : من حيث الجملة ، نص عليه ، وقال أيضا : أحب إلي أن يقسمها هو . وقيل : دفعها إلى إمام عادل أفضل للخروج من الخلاف ، وزوال التهمة ، واختاره ابن أبي موسى وأبو الخطاب ( وش ) وقاله ( هـ م ) حيث جاز الدفع بنفسه ، وعنه : دفع الظاهر أفضل ، وعنه : يختص بالعشر ، وعنه : بصدقة الفطر ، ونقله المروذي ، ويجوز الدفع إلى الخوارج والبغاة ، نص عليه في الخوارج : إذا غلبوا على بلد وأخذوا منه العشر وقع موقعه .
وقال القاضي في موضع : هذا محمول على أنهم خرجوا بتأويل وقال في موضع آخر : إنما يجزئ أخذهم إذا نصبوا لهم إماما ، وظاهر كلامه في موضع من [ الأحكام السلطانية ] : لا يجزئ الدفع إليهم اختيارا ، وعنه : التوقف فيما أخذه الخوارج من الزكاة ، وقال القاضي : وقد قيل : تجوز الصلاة خلف الأئمة الفساق ، ولا يجوز دفع عشر وصدقة إليهم ولا إقامة حد . وعن أحمد نحوه .
والظاهر : أن المراد بجواز الدفع الإجزاء ؛ لأنه لا يجوز (1) الدفع إليهم في المنصوص ، وإن أجزأ في المنصوص ، وهل للإمام طلب النذر والكفارة ؟ على وجهين : ( م 6 ) أحدهما : له ذلك ، نص عليه في كفارة الظهار ، وقال الحنفية : إذا أخذ الخوارج زكاة السائمة ، فقيل : تجزئ ؛ لأن الإمام لم يحمهم ، والجباية بالحماية ، وقيل : لا ؛ لأن مصرفها
__________
(1) في الطبعة الأولى : إلا أنه لا يجوز
للفقراء ولا يصرفونها إليهم ، ولهم قول ثالث : إن نوى التصدق عليهم أجزأ ، وكذلك الدفع إلى كل جائر (1) ؛ لأنهم - بما عليهم من التبعات - فقراء (2) .
وقد بسط القرضاوي الكلام على هذه المسألة في كتابه [ فقه الزكاة ] ، فمن أراد المزيد من الكلام فعليه الرجوع إلى الكتاب المذكور .
__________
(1) كلمة ( جائر ) لا توجد في مخطوط الأزهر ولا مخطوط الدار .
(2) [ الفروع ] ( 2\556 ) .
ثانيا :
النظر في زكاة عروض التجارة
جمهور أهل العلم يرى : أنها واجبة ؛ لثبوت الأدلة .والذين قالوا بوجوبها ، منهم من أوجبها في كل حول ، ومنهم من فرق بين المال الذي يدار والذي لا يدار ، فأوجبها في كل حول في الأول ، وأوجبها في حول واحد بعد البيع .
وفيما يلي ما تيسر من نصوص فقهاء الإسلام وأدلتهم وما تيسر من مناقشة بعضهم لبعض . ومن أهل العلم من لا يرى وجوب الزكاة فيها أصلا ؛ لعدم الدليل .
1 -
النقل عن الحنفية
أ - قال الكاساني : وأما أموال التجارة فتقدير النصاب فيها بقيمتها من الدنانير والدراهم ، فلا شيء فيها ما لم تبلغ قيمتها مائتي درهم ، أو عشرين مثقالا من ذهب ، فتجب فيها الزكاة ، وهذا قول عامة العلماء .وقال أصحاب الظواهر : لا زكاة فيها أصلا .
وقال مالك : إذا نضت زكاها لحول واحد .
وجه قول أصحاب الظواهر : أن وجوب الزكاة إنما عرف بالنص ، والنص ورد بوجوبها في الدراهم ، والدنانير ، والسوائم ، فلو وجبت بالقياس عليها والقياس ليس بحجة خصوصا في باب المقادير .
( ولنا ) ما روي عن سمرة بن جندب أنه قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإخراج الزكاة من الرقيق الذي كنا نعده للبيع » ، وروي عن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « في البر صدقة » ، وقال صلى الله عليه وسلم : « هاتوا ربع عشر أموالكم » (1) .
فإن قيل : الحديث ورد في نصاب الدراهم ؛ لأنه قال في آخره : « من كل أربعين درهما درهم » (2) .
فالجواب : أن أول الحديث عام وخصوص آخره لا يوجب سلب عموم أوله ، أو نحمل قوله : من كل أربعين درهم على القيمة ، أي : من كل أربعين درهما من قيمتها درهم .
وقال صلى الله عليه وسلم : « وأدوا زكاة أموالكم » (3) من غير فصل بين مال ومال ، إلا ما خص بدليل ، ولأن مال التجارة مال نام فاضل عن الحاجة الأصلية ، فيكون مال الزكاة كالسوائم ، وقد خرج الجواب عن قولهم : إن وجوب الزكاة عرف بالنص ؛ لأنا قد روينا بالنص في الباب على أن أصل الوجوب عرف بالعقل ، وهو شكر لنعمة الله ، وشكر نعمة القدرة في إعانة العاجز ، إلا أن مقدار الواجب عرف بالسنة ، وما ذكره مالك غير سديد ؛ لأنه وجد سبب وجوب الزكاة وشرطه في كل حول ؛ فلا معنى لتخصيص الحول الأول بالوجوب فيه ، كالسوائم والدراهم والدنانير ، وسواء كان مال التجارة عروضا ، أو عقارا ، أو شيئا مما يكال أو يوزن ؛
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1572),سنن ابن ماجه الزكاة (1790),مسند أحمد بن حنبل (1/92),سنن الدارمي الزكاة (1629).
(2) سنن الترمذي الزكاة (620),سنن النسائي الزكاة (2477),سنن أبو داود الزكاة (1572),سنن ابن ماجه الزكاة (1790),مسند أحمد بن حنبل (1/92),سنن الدارمي الزكاة (1629).
(3) سنن الترمذي الجمعة (616),مسند أحمد بن حنبل (5/251).
لأن الوجوب في أموال التجار تعلق بالمعنى ، وهو المالية والقيمة ، وهذه الأموال كلها في هذا المعنى جنس واحد ، وكذا يضم بعضها أموال التجارة إلى البعض في تكميل النصاب ؛ لما قلنا .
وإذا كان تقدير النصاب من أموال التجارة بقيمتها من الذهب والفضة ، وهو أن تبلغ قيمتها مقدار نصاب من الذهب والفضة ، فلا بد من التقويم حتى يعرف مقدار النصاب ، ثم بماذا تقوم ؟
ذكر القدوري في شرحه [ مختصر الكرخي ] : أن يقوم بأوفى القيمتين من الدراهم والدنانير ، حتى أنها إذا بلغت بالتقويم بالدراهم نصابا ، ولم تبلغ بالدنانير قومت بما تبلغ به النصاب . وكذا روي عن أبي حنيفة في الأمالي أنه يقومها بأنفع النقدين للفقراء .
وعن أبي يوسف أنه يقومها بما اشتراها به ، فإن اشتراها بالدراهم قومها بالدراهم ، وإن اشتراها بالدنانير قومها بالدنانير ، وإن اشتراها بغيرهما من العروض أو لم يكن اشتراها بأن كان وهب له فقبله ينوي به التجارة قومها بالنقد الغالب في ذلك الموضع وعند محمد يقومها بالنقد الغالب على كل حال .
وذكر في كتاب الزكاة : أنه يقومها يوم حال الحول إن شاء بالدراهم , وإن شاء بالدنانير .
وجه قول محمد : أن التقويم في حق الله تعالى يعتبر بالتقويم في حق العباد ، ثم إذا وقعت الحاجة إلى تقويم شيء من حقوق العباد ، كالمغصوب ، والمستهلك ، يقوم بالنقد الغالب في البلدة ، كذا هذا .
وجه قول أبي يوسف : أن المشترى بدل ، وحكم البدل يعتبر بأصله ،
فإذا كان مشترى بأحد النقدين . فتقويمه بما هو أصله أولى .
وجه رواية كتاب الزكاة : أن وجوب الزكاة في عروض التجارة باعتبار ماليتها دون أعيانها ، والتقويم لمعرفة مقدار المالية ، والنقدان في ذلك سيان ، فكان الخيار إلى صاحب المال يقومه بأيهما شاء . ألا ترى أن في السوائم عند الكثرة وهي ما إذا بلغت مائتين ، الخيار إلى صاحب المال ، إن شاء أدى أربع حقاق ، وإن شاء خمس بنات لبون ، فكذا هذا .
وجه قول أبي حنيفة : أن الدراهم والدنانير وإن كانا في الثمنية والتقويم بهما سواء ، لكنا رجحنا أحدهما بمرجح ، وهو النظر للفقراء ، والأخذ بالاحتياط أولى .
ألا ترى أنه لو كان بالتقويم بأحدهما يتم النصاب والآخر لا ، فإنه يقوم بما يتم به النصاب ؛ نظرا للفقراء واحتياطا ، كذا هذا . ومشايخنا حلوا رواية كتاب الزكاة على ما إذا كان لا يتفاوت النفع في حق الفقراء بالتقويم بأيهما كان ، جمعا بين الروايتين ، وكيفما كان ينبغي أن يقوم بأدنى ما ينطلق عليه اسم الدراهم أو الدنانير ، وهي التي يكون الغالب فيها الذهب والفضة . وعلى هذا إذا كان مع عروض التجارة ذهب وفضة ، فإنه يضمهما إلى العروض ، ويقومه جملة ؛ لأن معنى التجارة يشمل الكل . لكن عند أبي حنيفة يضم باعتبار القيمة ، إن شاء قوم العروض وضمها إلى الذهب والفضة ، وإن شاء قوم الذهب والفضة وضم قيمتهما إلى قيمة أعيان التجارة ، وعندهما يضم باعتبار الإجزاء فتقوم العروض ، فيضم قيمتها إلى ما عنده من الذهب والفضة ، فإن بلغت الجملة نصابا تجب الزكاة وإلا فلا ، ولا يقوم الذهب والفضة
عندهما أصلا في باب الزكاة على ما مر .
( فصل ) : وأما صفة هذا النصاب فهي : أن يكون معدا للتجارة ، وهو أن يمسكها للتجارة ، وذلك بنية التجارة مقارنة لعمل التجارة ؛ لما ذكرنا فيما تقدم ، بخلاف الذهب والفضة فإنه لا يحتاج فيهما إلى نية التجارة ؛ لأنها معدة للتجارة بأصل الخلقة فلا حاجة إلى إعداد العبد ، ويوجد الإعداد منه دلالة على ما مر (1) .
ب - قال الكاساني في الكلام على الشرائط التي ترجع إلى المال :
ومنها : كون المال ناميا ؛ لأن معنى الزكاة وهو النماء لا يحصل إلا من المال النامي ، ولسنا نعني به حقيقة النماء ؛ لأن ذلك غير معتبر ، وإنما نعني به كون المال معدا للاستنماء بالتجارة أو بالإسامة ؛ لأن الإسامة سبب لحصول الدر والنسل والسمن ، والتجارة سبب لحصول الربح ، فيقام السبب مقام المسبب ، وتعلق الحكم به ، كالسفر مع المشقة ، والنكاح مع الوطء ، والنوم مع الحدث ، ونحو ذلك .
وإن شئت قلت : ومنها : كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية ؛ لأن به يتحقق الغنا ومعنى النعمة ، وهو : التنعم ، وبه يحصل الأداء عن طيب النفس ، إذ المال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون صاحبه غنيا عنه ، ولا يكون نعمة ، إذ التنعم لا يحصل بالقدر المحتاج إليه حاجة أصلية ؛ لأنه من ضرورات حاجة البقاء وقوام البدن ، فكان شكره شكر نعمة البدن ولا يحصل الأداء عن طيب نفس فلا يقع الأداء بالجهة المأمور بها ؛
__________
(1) [ بدائع الصنائع ] ( 2\20 , 21 ) .
لقوله صلى الله عليه وسلم : « وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم » (1) فلا تقع زكاة ، إذ حقيقة الحاجة أمر باطن لا يوقف عليه ، فلا يعرف الفضل عن الحاجة ؛ فيقام دليل الفضل عن الحاجة مقامه ، وهو الإعداد للإسامة والتجارة ، وهذا قول عامة العلماء .
وقال مالك : هذا ليس بشرط لوجوب الزكاة ، وتجب الزكاة في كل مال ، سواء كان ناميا فاضلا عن الحاجة الأصلية أو لا ؛ كثياب البذلة والمهنة والعلوفة والحمولة والعمولة من المواشي وعبيد الخدمة والمسكن والمراكب وكسوة الأهل وطعامهم ، وما يتجمل به من آنية أو لؤلؤ أو فرش ومتاع لم ينو به التجارة ونحو ذلك .
واحتج بعمومات الزكاة من غير فصل بين مال ومال ، نحو قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } (2) وقوله عز وجل : { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } (3) { لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } (4) وقوله تعالى: { وَآتُوا الزَّكَاةَ } (5) وغير ذلك ؛ ولأنها وجبت شكرا لنعمة المال ، ومعنى النعمة في هذه الأموال أتم وأقرب ؛ لأنها متعلق البقاء فكانت أدعى إلى الشكر .
ولنا : أن معنى النماء والفضل عن الحاجة الأصلية لا بد منه لوجوب الزكاة ؛ لما ذكرنا من الدلائل ، ولا يتحقق ذلك في هذه الأموال ، وبه تبين أن المراد من العمومات الأموال النامية الفاضلة عن الحوائج الأصلية . وقد خرج الجواب عن قوله : إنها نعمة ؛ لما ذكرنا أن معنى
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (616),مسند أحمد بن حنبل (5/251).
(2) سورة التوبة الآية 103
(3) سورة المعارج الآية 24
(4) سورة المعارج الآية 25
(5) سورة البقرة الآية 43
النعمة فيها يرجع إلى البدن ؛ لأنها تدفع الحاجة الضرورية وهي حاجة دفع الهلاك عن البدن ؛ فكانت تابعة لنعمة البدن ، فكان شكرها شكر نعمة البدن ، وهي العبادات البدنية من الصلاة والصوم وغير ذلك .
وقوله تعالى : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } (1) دليلنا ؛ لأن الزكاة عبارة عن النماء ، وذلك من المال النامي على التفسير الذي ذكرناه ، وهو أن يكون معدا للاستنماء ، وذلك بالإعداد للإسامة في المواشي والتجارة في أموال التجارة ، إلا أن الإعداد للتجارة في الأثمان المطلقة من الذهب والفضة ثابت بأصل الخلقة ؛ لأنها لا تصلح للانتفاع بأعيانها في دفع الحوائج الأصلية ، فلا حاجة إلى الإعداد من العبد للتجارة بالنية ، إذ النية للتعيين وهي متعينة للتجارة بأصل الخلقة ، فلا حاجة إلى التعيين بالنية ، فتجب الزكاة فيها ، نوى التجارة ، أو لم ينو أصلا ، أو نوى النفقة .
وأما فيما سوى الأثمان من العروض فإنما يكون الإعداد فيها للتجارة بالنية ؛ لأنها كما تصلح للتجارة تصلح للانتفاع بأعيانها ، بل المقصود الأصلي منها ذلك ، فلا بد من التعيين للتجارة وذلك بالنية ، وكذا في المواشي لا بد فيها من نية الإسامة ؛ لأنها كما تصلح للدر والنسل تصلح للحمل والركوب واللحم فلا بد من النية ، ثم نية التجارة الإسامة لا تعتبر ما لم تتصل بفعل التجارة والإسامة ؛ لأن مجرد النية لا عبرة به في الأحكام ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الله عفا عن أمتي ما تحدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا به أو يفعلوا » (2) ثم نية التجارة قد تكون صريحا وقد تكون دلالة .
أما الصريح فهو أن ينوي عند عقد التجارة أن يكون المملوك به للتجارة ، بأن اشترى سلعة ونوى أن تكون للتجارة عند الشراء فتصير
__________
(1) سورة البقرة الآية 43
(2) صحيح البخاري الطلاق (4968),صحيح مسلم الإيمان (127),سنن الترمذي الطلاق (1183),سنن النسائي الطلاق (3433),سنن أبو داود الطلاق (2209),سنن ابن ماجه الطلاق (2044),مسند أحمد بن حنبل (2/491).
للتجارة ، سواء كان الثمن الذي اشتراها به من الأثمان المطلقة ، أو من عروض التجارة ، أو مال البذلة والمهنة ، أو أجر داره بعرض بنية التجارة فيصير ذلك مال التجارة ، لوجود صريح نية التجارة مقارنا لعقد التجارة .
أما الشراء فلا شك أنه تجارة وكذلك الإجارة ؛ لأنها معاوضة المال بالمال وهو نفس التجارة ؛ ولهذا ملك المأذون بالتجارة الإجارة ، والنية المقارنة للفعل معتبرة .
ولو اشترى عينا من الأعيان ونوى أن تكون للبذلة والمهنة دون التجارة لا تكون للتجارة ، سواء كان الثمن من مال التجارة أو من غير مال التجارة ؛ لأن الشراء بمال التجارة إن كان دلالة التجارة فقد وجد صريح نية الابتذال ، ولا تعتبر الدلالة مع الصريح بخلافها .
ولو ملك عروضا بغير عقد أصلا ، بأن ورثها ونوى التجارة لم تكن للتجارة ؛ لأن النية تجردت عن العمل أصلا ؛ فضلا عن عمل التجارة ؛ لأن الموروث يدخل في ملكه من غير صنعه . ولو ملكها بعقد ليس مبادلة أصلا ، كالهبة والوصية والصدقة ، أو بعقد هو مبادلة مال بغير مال ؛ كالمهر وبدل الخلع والصلح عن دم العبد وبدل العتق ، ونوى التجارة ، يكون للتجارة عند أبي يوسف ، وعند محمد لا يكون للتجارة ، كذا ذكر الكرخي ، وذكر القاضي الشهيد الاختلاف على القلب ، فقال في قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف : لا يكون للتجارة ، وفي قول محمد : يكون للتجارة .
وجه قول من قال : إنه لا يكون للتجارة : أن النية لم تقارن عملا هو تجارة ، وهي مبادلة المال بالمال ، فكان الحاصل مجرد النية ؛ فلا تعتبر . ووجه القول الآخر : أن التجارة عقد اكتساب المال ، وما لا يدخل في
ملكه إلا بقبوله فهو حاصل بكسبه ، فكانت نيته مقارنة لفعله ، فأشبه قرانها بالشراء والإجارة .
والقول الأول : أصح ؛ لأن التجارة كسب المال ببذل ما هو مال ، والقبول اكتساب المال بغير بدل أصلا ، فلم تكن من باب التجارة ، فلم تكن النية مقارنة عمل التجارة .
ولو استقرض عروضا ونوى أن تكون للتجارة اختلف المشايخ فيه : قال بعضهم : يصير للتجارة ؛ لأن القرض ينقلب معاوضة المال بالمال في العاقبة ، وإليه أشار في [ الجامع ] : أن من كان له مائتا درهم لا مال له غيرها ، فاستقرض قبل حولان الحول بيوم من رجل خمسة [ أقفزة لغير التجارة ] ، ولم تستهلك الأقفزة حتى حال الحول - لا زكاة عليه في المائتين ، ويصرف الدين إلى مال الزكاة دون الجنس الذي ليس بمال الزكاة . فقوله : ( استقرض لغير التجارة ) دليل : أنه لو استقرض للتجارة يصير للتجارة .
وقال بعضهم : لا يصير للتجارة وإن نوى ؛ لأن القرض إعارة ، وهو تبرع لا تجارة ، فلم توجد نية التجارة مقارنة للتجارة ؛ فلا تعتبر .
ولو اشترى عروضا للبذلة والمهنة ، ثم نوى أن تكون للتجارة بعد ذلك ، لا تصير للتجارة ما لم يبعها ، فيكون بدلها للتجارة .
فرق بين هذا وبين ما إذا كان له مال التجارة ، فنوى أن يكون للبذلة ، حيث يخرج من أن يكون للتجارة وإن لم يستعمله ؛ لأن النية لا تعتبر ما لم تتصل بالفعل ، وهو ليس بفاعل فعل التجارة ، فقد عزبت النية عن فعل التجارة ، فلا تعتبر للحال ، بخلاف ما إذا نوى الابتذال ؛ لأنه نوى
ترك التجارة ، وهو تارك لها في الحال ، فاقترنت النية بعمل هو ترك التجارة ؛ فاعتبرت ونظير الفصلين : السفر مع الإقامة ، وهو أن المقيم إذا نوى السفر لا يصير مسافرا ما لم يخرج عن عمران المصر ، والمسافر إذا نوى الإقامة في مكان صالح للإقامة يصير مقيما للحال .
ونظيرهما من غير هذا الجنس : الكافر إذا نوى أن يسلم بعد شهر لا يصير مسلما للحال ، والمسلم إذا قصد أن يكفر بعد سنين - والعياذ بالله - فهو كافر للحال .
ولو أنه اشترى بهذه العروض التي اشتراها للابتذال بعد ذلك عروضا أخر تصير بدلها للتجارة بتلك النية السابقة ، وكذلك في الفصول التي ذكرنا أنه نوى للتجارة في الوصية والقرض ومبادلة مال بما ليس بمال إذا اشترى بتلك العروض عروضا أخر صارت للتجارة؛ لأن النية قد وجدت حقيقة إلا أنها لم تعمل للحال ؛ لأنها لم تصادف عمل التجارة ، فإذا وجدت التجارة بعد ذلك عملت النية السابقة عملها، فيصير المال للتجارة ؛ لوجود نية التجارة مع التجارة ، وأما الدلالة فيه أن يشتري عينا من الأعيان بعرض التجارة ، أو يؤاجر داره التي للتجارة بعرض من العروض ، فيصير للتجارة وإن لم ينو التجارة صريحا ؛ لأنه لما اشترى بمال التجارة فالظاهر أنه نوى به التجارة .
وأما الشراء بغير مال التجارة فلا يشكل .
وأما إجارة الدار فلأن بدل منافع عين معدة للتجارة كبدل عين معدة للتجارة في أنه للتجارة ، كذا ذكر في كتاب الزكاة من الأصل ، وذكر في الجامع ما يدل على أنه لا يكون للتجارة إلا بالنية صريحا فإنه قال : وإن
كانت الأجرة جارية تساوي ألف درهم ، وكانت عند المستأجر للتجارة ، فأجر المؤجر داره بها ، وهو يريد التجارة شرط النية عند الإجارة لتصير الجارية للتجارة ، ولم يذكر أن الدار للتجارة أو لغير التجارة ، فهذا يدل على أن النية شرط ليصير بدل منافع الدار المستأجرة للتجارة .
وإن كانت الدار معدة للتجارة فكان في المسألة روايتان ، ومشايخ بلخ كانوا يصححون رواية الجامع ، ويقولون : إن العين إن كانت للتجارة لكن قد يقصد ببدل منافعها المنفعة فيؤاجر الدابة لينفق عليها والدار للعمارة فلا تصير للتجارة مع التردد إلا بالنية .
وأما إذا اشترى عروضا بالدراهم أو الدنانير أو بما يكال أو يوزن موصوفا في الذمة فإنها لا تكون للتجارة ما لم ينو التجارة عند الشراء ، وإن كانت الدراهم والدنانير أثمانا ، والموصوف في الذمة من المكيل والموزون أثمان عند الناس ؛ ولأنها كما جعلت ثمنا لمال التجارة ، جعلت ثمنا لشراء ما يحتاج إليه للابتذال والقوت ، فلا يتعين الشراء به للتجارة مع الاحتمال .
وعلى هذا لو اشترى المضارب بمال المضاربة عبيدا ثم اشترى لهم كسوة وطعاما للنفقة كان الكل للتجارة وتجب الزكاة في الكل ؛ لأن نفقة عبيد المضاربة من مال المضاربة ، فطلق تصرفه ينصرف إلى ما يملك دون ما لا يملك حتى لا يصير خائنا وعاصيا عملا بدينه وعقله ، إن نص على النفقة .
وبمثله المالك إذا اشترى عبيدا للتجارة ، ثم اشترى لهم ثيابا للكسوة وطعاما للنفقة فإنه لا يكون للتجارة ؛ لأن المالك كما يملك الشراء
للتجارة يملك الشراء للنفقة والبذلة ، وله أن ينفق من مال التجارة وغير مال التجارة ، فلا يتعين للتجارة إلا بدليل زائد .
وأما الأجراء الذين يعملون للناس نحو الصباغين والقصارين والدباغين إذا اشتروا الصبغ والصابون والدهن ونحو ذلك مما يحتاج إليه في عملهم ونووا عند الشراء أن ذلك للاستعمال في عملهم ، هل يصير ذلك مال التجارة ؟ روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف الصباغ إذا اشترى العصفر والزعفران ليصبغ ثياب الناس فعليه فيه الزكاة .
والحاصل : أن هذا على وجهين : إن كان شيئا يبقى أثره في المعمول فيه ، كالصبغ والزعفران والشحم الذي يدبغ به الجلد ، فإنه يكون مال التجارة ؛ لأن الأجر يكون مقابلة ذلك الأثر ، وذلك الأثر مال قائم ، فإنه من أجزاء الصبغ والشحم ، لكنه لطيف فيكون هذا تجارة .
وإن كان شيئا لا يبقى أثره في المعمول فيه مثل : الصابون والأشنان والقلي والكبريت فلا يكون مال التجارة ؛ لأن عينها تتلف ولم ينتقل أثرها إلى الثوب المغسول حتى يكون له حصة من العوض ، بل البياض أصلي للثوب يظهر عند زوال الدرن ، فما يأخذ من العوض يكون بدل عمله لا بدل هذه الآلات فلم يكن مال التجارة .
وأما آلات الصناع وظروف أمتعة التجارة لا تكون مال التجارة ؛ لأنها لا تباع مع الأمتعة عادة .
وقالوا في نخاس الدواب : إذا اشترى المقاود والجلال والبراذع : إنه إن كان يباع مع الدواب عادة يكون للتجارة ؛ لأنها معدة لها ، وإن كان لا
يباع ولكن تمسك وتحفظ بها الدواب فهي من آلات الصناع فلا يكون مال التجارة إذا لم ينو التجارة عند شرائها .
وقال أصحابنا في عبد التجارة قتله عبد خطأ فدفع به : إن الثاني للتجارة, لأنه عوض مال التجارة ، وكذا إذا فدى بالدية من العروض والحيوان . وأما إذا قتله عمدا فصالح المولى من الدية على العبد القاتل أو على شيء من العروض لا يكون مال التجارة, لأنه عوض القصاص لا عوض العبد المقتول ، والقصاص ليس بمال . والله أعلم (1) .
__________
(1) [بدائع الصنائع] (2 \ 11) وما بعدها.
2 -
النقل عن المالكية
أ- جاء في [المدونة] تحت ترجمة : (في زكاة تجار المسلمين ) :(قلت) : أكان مالك يرى أن يؤخذ من تجارة المسلمين إذا تجروا الزكاة؟ فقال : نعم .
(قلت) : أفي بلادهم أم إذا خرجوا من بلادهم؟ (فقال) : في بلادهم عنده وغير بلادهم سواء ، من كان عنده مال تجب فيه الزكاة زكاه . (قلت) : فيسألهم إذا أخذ منهم الزكاة هذا الذي يأخذ عما في بيوتهم من ناضهم فيأخذ زكاته مما في أيديهم .
(فقال) : ما سمعت من مالك في هذا شيئا ، وأرى إن كان الوالي عدلا أن يسألهم عن ذلك ، وقد فعل ذلك أبو بكر الصديق .
(قلت) : أفيسأل عن زكاة أموالهم الناض إذا لم يتجروا؟ (فقال) : نعم ، إذا كان عدلا وقد فعل ذلك أبو بكر الصديق ، كان يقول للرجل إذا
أعطاه عطاءه : هل عندك من مال قد وجبت عليك فيه الزكاة .
فإن قال : نعم ، أخذ من عطائه زكاة ذلك المال ، وإن قال : لا ، أسلم إليه عطاءه . ولا أرى أن يبعث في ذلك أحدا ، وإنما ذلك إلى أمانة الناس ، إلا أن يعلم أحد أن لا يؤدي فتؤخذ منه . ألا ترى أن عثمان بن عفان كان يقول : هذا شهر زكاتكم .
(قلت) : ما قول مالك أين ينصب هؤلاء الذين يأخذون العشور من أهل الذمة والزكاة من تجار المسلمين .
(فقال) : لم أسمع منه فيه شيئا ، ولكني رأيته فيما يتكلم به أنه لا يعجبه أن ينصب لهذه المكوس أحد .
(قال) ابن القاسم : وأخبرني يعقوب بن عبد الرحمن من بني القارة حليف لبني زهرة عن أبيه : أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامل المدينة أن يضع المكس ، فإنه ليس المكس ولكنه البخس ، قال الله تعالى : { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } (1) ومن أتاك بصدقته فاقبلها منه ، ومن لم يأتك بها فالله حسيبه والسلام .
(قلت) : أليس إنما تؤخذ من تجار المسلمين في قول مالك الزكاة في كل سنة مرة ، وإن تجروا من بلد إلى بلد وهم خلاف أهل الذمة في هذا . (فقال) نعم . (قال) : ومن تجر ومن لم يتجر فإنما عليه الزكاة في كل سنة مرة .
(قلت) : أرأيت لو أن رجلا خرج من مصر بتجارة إلى المدينة أيقوم عليه ما في يديه فتؤخذ منه الزكاة . (فقال) : لا يقوم عليه ، ولكن إذا باع أدى الزكاة .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 85
(قال) : ولا يقوم على أحد المسلمين .
(قلت) : وهذا قول مالك . قال : نعم .
(قلت) : وأهل الذمة لا يقوم عليهم أيضا ، فإذا باعوا أخذ منهم العشر . فقال : نعم . (قلت) : وهذا قول مالك . قال : نعم . (قلت) : أرأيت لو أن رجلا من المسلمين قدم بتجارة ، فقال : هذا الذي معي مضاربة أو بضاعة أو علي دين أو لم يحل على ما عندي الحول أيصدق ولا يحلف في قول مالك ؟ قال : نعم ، يصدق ولا يحلف (1) .
وجاء في [المدونة] تحت عنوان : ( زكاة السلع ) :
(قال) : وقال مالك : إذا كان الرجل إنما يشتري النوع الواحد من التجارة أو الأنواع وليس ممن يدير ماله في التجارة ، فاشترى سلعة أو سلعا كثيرة يريد بيعها فبارت عليه ومضى الحول فلا زكاة عليه فيها ، وإن مضى لذلك أحوال حتى يبيع ، فإذا باع زكى زكاة واحدة . وإنما مثل هذا مثل الرجل يشتري الحنطة في زمان الحصاد فيريد البيع في غير زمان الحصاد ليربح فتبور عليه فيحبسها فلا زكاة عليه فيها .
(وقال) علي بن زياد : قال مالك : الأمر عندنا في الرجل يكون له عند الناس من الدين ما تجب فيه الزكاة فيغيب عنه سنين ثم يقبضه ، أنه ليس عليه فيه إذا قبضه إلا زكاة واحدة .
(قال) : والدليل على ذلك أنه ليس على الرجل في الدين يغيب عنه سنين ثم يقبضه أنه ليس عليه إلا زكاة واحدة ، وفي العروض يبتاعها
__________
(1) [المدونة] (1 \ 239)
للتجارة فيمسكها سنين ثم يبيعها أنه ليس عليه إلا زكاة واحدة ، أنه لو وجب على رب الدين أن يخرج زكاته قبل أن يقبضه لم يجب عليه أن يخرج في صدقة ذلك الدين إلا دينا يقطع به لمن يلي ذلك على الغرماء يتبعهم به ، إن قبض كان له وإن تلف كان منه ؛ من أجل أن السنة أن تخرج صدقة كل مال منه ولا على رب العرض أن يخرج في صدقته إلا عرضا ؛ لأن السنة أن تخرج صدقة كل مال منه ، (وإنما قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الزكاة في العين والحرث والماشية » ، فليس في العروض شيء حتى تصير عينا .
(قلت) : أرأيت لو أن رجلا كانت عنده دابة للتجارة فاستهلكها رجل فضمن قيمتها فأخذ منه رب الدابة سلعة بقيمتها التي وجبت له ، أيكون عليه في قيمة هذه السلعة التي للتجارة الزكاة ؟ (فقال) : إن كان نوى بالسلعة التي أخذ التجارة زكى ثمنها ساعة بيعها إن كان الحول قد حال على أصل هذا المال من يوم زكى أصل هذا المال وهو ثمن الدابة المستهلكة ، وإن كان حين أخذ السلعة بقيمة الدابة المستهلكة لم ينو بها التجارة ونوى بها القنية فلا شيء عليه فيها .
(قال) : وإن باعها حتى يحول الحول على ثمنها من يوم باعها ، وإن كان أخذ في قيمة الدابة المستهلكة دنانير أو دراهم وقد حال الحول على الأصل ، زكى الدنانير والدراهم ساعة يقبضها ، وإن لم يكن حال الحول ثم اشترى بتلك الدنانير والدراهم سلعة ، فإن نوى بها التجارة فهي للتجارة ، وإن نوى بها حين اشتراها القنية فهي على القنية لا زكاة عليه في ثمنها إذا باعها حتى يحول على ثمنها الحول .
(قلت) : وهذا قول مالك .
(فقال) : قول مالك في البيع مثل هذا ، ورأيت أنا هذه المسألة في الاستهلاك مثل قول مالك في البيع .
(قلت) : فلو أن رجلا كانت عنده سلعة للتجارة فباعها بعدما حال عليها الحول بمائة دينار .
(فقال) : إذا قبض المائة زكاها مكانه .
(قلت) : فإن أخذ بالمائة قبل قبضها ثوبا قيمته عشرة دنانير ، (فقال) لا شيء عليه في الثوب حتى يبيعه .
(قلت) : فإن باع الثوب بعشرة دنانير . قال : لا شيء عليه فيها وقد سقطت الزكاة عنه ، إلا أن يكون له مال قد جرت فيه الزكاة إذا أضافه كان فيهما الزكاة .
(قلت) : فإن باعها بعشرين دينارا . فقال : يزكي ، يخرج ربع عشرها نصف دينار .
(قلت) : وهذا قول مالك . قال : نعم .
(قلت) : أرأيت عبدا اشتراه رجل للتجارة فكاتبه فمكث عنده سنين يؤدي فاقتضى منه مالا ثم عجز فرجع رقيقا فباعه مكانه ، أيؤدي من ثمنه زكاة التجارة أم هو لما رجع إليه رقيقا صار فائدة .
(فقال) : إذا عجز ورجع رقيقا رجع على الأصل فكان للتجارة ولا تنقض الكتابة ما كان ابتاعه له؟ لأن ملكه لم يزل عليه ، وإنما مثل ذلك عندي مثل ما لو أنه باع عبدا له من رجل فأفلس المشتري فأخذ عبده ، أو أخذ عبدا من غريمه في دينه فإنه يرجع على الأصل ويكون للتجارة كما
كان .
(قال) : وكذلك لو أن رجلا اشترى دارا للتجارة فأجرها سنين ثم باعها بعد ذلك فإنها ترجع إلى الأصل ويزكيها على التجارة ساعة يبيع .
(قلت) : أرأيت الرجل يتكارى الأرض للتجارة ويشتري الحنطة فيزرعها يريد بذلك التجارة .
(قال) : قال مالك في هذا : إذا اكترى الرجل الأرض واشترى حنطة فزرعها يريد بذلك التجارة فإذا حصد زرعه أخرج منه العشر إن كان مما يجب فيه العشر ، أو نصف العشر إن كان مما يجب فيه نصف العشر .
(فإن مكثت) الحنطة عنده بعدما حصده وأخرج منه زكاة حصاده حولا ثم باعه فعليه الزكاة يوم باعه ، وإن كان باعه قبل الحول فلا زكاة عليه فيه حتى يحول الحول عليه من يوم أدى زكاة حصاده .
(قال) : وإن كان تكارى الأرض وزرعها بطعامه فحصده وأدى زكاته حين حصده ورفع طعامه فأكل منه وفضلت منه فضلة فباعها كانت فائدة ويستقبل بها حولا من يوم قبض الثمن في يديه .
(قال) : وإن كانت الأرض له فزرعها للتجارة فإنه إذا رفع زرعه وحصده زكاه مكانه ولم يكن عليه إذا باع في ثمنه زكاة حتى يحول عليه الحول من يوم قبض ثمنه .
(قلت) : أرأيت من اكترى أرضا للتجارة فاشترى حنطة وهو ممن يدير التجارة فزرع الأرض أيكون عليه عشر ما أخرجت الأرض؟ فقال : نعم .
(قلت) : فإن هو أخرج عشر ما أخرجت الأرض فحال عليه الحول
أيزكي زكاة التجارة وهو ممن لا يدير ماله في التجارة؟
(فقال) : لا ، حتى يبيع الحنطة بعد الحول فإذا باع زكى الثمن مكانه .
(قلت) : فمن أين تحتسب السنة ، أمن يوم اشترى الحنطة للتجارة واكترى الأرض ، أو من يوم أدى زكاة الزرع؟
(فقال) : من يوم أدى زكاة الزرع .
(قلت) : فإن هو باع الحنطة من قبل أن يحول عليها الحول من يوم أدى زكاة عشر ما أخرجت الأرض .
(فقال) : ينتظر به حتى تأتي السنة من يوم أخرج العشر .
(قلت) : فإن كان هذا يدير ماله في التجارة .
(فقال) : إذا رفع زرعه زكى العشر ويستقبل من يوم زكى الزرع سنة كاملة ، فإذا جاءت السنة فإن كان له مال سوى هذا الناض ناض في سنته هذه زكى هذه الحنطة وإن لم يبعها ، وهذا مخالف للذي لا يدير ماله؟ لأن الذي يدير ماله هذه الحنطة في يده للتجارة وعنده مال ناض غير هذه الحنطة ، فلما حال الحول على هذه الحنطة لم يكن له بد من أن يقوم هذه الحنطة .
(قلت) : أرأيت لو أن رجلا اشترى عروضا للتجارة فبدا له فجعل ذلك لجمال بيته واقتناه أتسقط عنه زكاة التجارة؟ . فقال : نعم .
(قلت) : وهذا قول مالك؟ قال : نعم .
قال ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال : إن بار عليه العرض ولم يخلص إليه ماله فليس عليه صدقة حتى يخلص إليه ، وإنما فيه إذا خلص العرض والدين صار عينا ناضا صدقة واحدة .
(وقال) عطاء بن أبي رباح ويحيى بن سعيد مثل قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن (1) .
وجاء في [المدونة] تحت عنوان : (في زكاة الذي يدير ماله ) : (قال) : وقال مالك : إن كان رجل يدير ماله في التجارة ، فكلما باع
اشترى ، مثل الحناطين والبزازين والزياتين ومثل التجار الذين يجهزون الأمتعة وغيرها إلى البلدان .
(قال) : فليجعلوا لزكاتهم من السنة شهرا ، فإذا جاء ذلك الشهر قوموا ما عندهم مما هو للتجارة وما في أيديهم من الناض فزكوا ذلك كله .
(قال) : فقلت لمالك : فإن كان له دين على الناس؟ (قال) : يزكيه مع ما يزكي من تجارته يوم يزكي تجارته إن كان دينا يرتجى اقتضاؤه .
(قال) : فقلت له : فإن جاءه عام آخر ولم يقتضه .
(فقال) : يزكي أيضا . ومعنى قوله في ذلك : أن العروض والدين سواء ؛ لأن العروض لو بارت عليه وهو ممن يقوم - يريد : يدير التجارة - زكى العرض السنة الثانية ، فالدين والعرض في هذا سواء ؛ فلو لم يكن على الدين شيء في السنة الثانية لم يكن على العرض في السنة الثانية شيء ؛ لأنه لا زكاة في عرض على من لا يدير التجارة حتى يبيع ، ولا في دين حتى يقبض ، فلما كان الذي يدير التجارات الذي لا يشتري إلا باع يزكي عروضه التي عنده ، فكذلك يزكي دينه الذي يرتجي قضاءه .
(قال) : وقال : مالك : إذا كان الرجل يدير ماله في التجارة فجاء يومه
__________
(1) [المدونة] (1 \ 214) وما بعدها
الذي يقوم فيه وله دين من عروض أو غير ذلك على الناس لا يرجوه .
(فقال) : إذا كان لا يرجوه لم يقومه وإنما يقوم ما يرتجيه من ذلك .
(قال) مالك : ويقوم الرجل الحائط إذا اشتراه للتجارة إذا كان ممن يدير ماله .
(قال) ابن القاسم : ولا يقوم الثمر ؛ لأن الثمر فيه زكاة فلا يقومه مع ما يقوم من ماله .
(قال) سحنون : ولأنه غلة بمنزلة خراج الدار وكسب العبد وإن اشترى رقابها للتجارة ، وبمنزلة غلة الغنم ما يكون من صوفها ولبنها وسمنها وإن كان رقابها للتجارة أو للقنية .
(قلت) : أرأيت رجلا كان يدير ماله للتجارة ولا ينض له شيء فاشترى بجميع ما عنده حنطة ، فلما جاء شهره الذي يقوم فيه كان جميع ماله الذي يتجر فيه حنطة ، فقال : أنا أؤدي إلى المساكين ربع عشر هذه الحنطة كيلا ولا أقوم .
(فقال) لي مالك : إذا كان الرجل يدير ماله في التجارة ولا ينض له شيء إنما يبيع العرض بالعرض ، فهذا لا يقوم ، ولا شيء عليه ، ولا زكاة ولا تقويم حتى ينض له بعض ماله .
(قال) : وقال مالك : من باع بالعرض والعين فذلك الذي يقوم .
(قال) سحنون : وكذلك روى ابن وهب عن مالك في الذي لا ينض له شيء إنما يبيع العرض بالعرض .
(قلت) : أرأيت إن كان يدير ماله للتجارة فحالت عليه أحوال لا ينض له منه شيئا ثم إنه باع منها بدرهم واحد ناض .
(فقال) : إذا نض مما في يديه من العروض بعد الحول وإن كان درهما واحدا ، فقد وجبت فيه الزكاة ويقوم العرض مكانه حين نض هذا الدرهم فيزكيه كله ، ويستقبل الزكاة من ذي قبل .
(قلت) : فإن أتت السنة من ذي قبل وليس عنده من الناض شيء ، وماله كله في العرض وقد كان في وسط السنة وفي أولها وفي آخرها قد كان ينض له ، إلا أنه لما حال الحول ذلك اليوم لم يكن عنده من الناض شيء فكان جميع ما في يديه عرضا .
(قال) : يقوم ويزكي ؛ لأن هذا قد كان يبيع في سنته بالعين والعرض .
(قلت) : فإن هو باع من ذي قبل بالعرض ولم ينض له شيء حتى أتى الحول وجميع ما عنده عرض أيقوم . فقال : لا يقوم ؛ لأن هذا لم ينض له شيء في سنته هذه ، وإنما كان رجل يبيع العرض بالعرض فلا تقويم عليه ، ولا زكاة حتى ينض له مما في يديه شيء من يوم زكى إلى أن يحول الحول من ذي قبل .
(قلت) : فإن باع بعد الحول فنض له وإن درهم واحد زكاه؟ قال : نعم . (قلت) : ويكون هذا اليوم الذي زكى فيه وقته ، ويستقبل حولا من ذي قبل ويلغي الوقت الأول .
(فقال) : نعم ؛ لأن مالكا قال لي : لا يقوم على من يبيع العرض بالعرض ولا ينض له شيء .
(قال) ابن وهب عن الليث بن سعد وعمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه حماس : أنه كان يبيع الجلود
والقرون ، فإذا فرغ منها اشترى مثلها ، فلا يجتمع عنده أبدا ما تجب فيه الزكاة ، فمر به عمر بن الخطاب وعليه جلود يحملها للبيع ، فقال له : زك مالك يا حماس ، فقال : ما عندي شيء تجب فيه الزكاة ، فقال : قوم مالك ، فقوم ما عنده ثم أدى زكاته .
قال سحنون : قال عمرو بن الحارث وقال يحيى بن سعيد : إنما هذا الذي يدير ماله ، فلو أنه كان لا يقوم ماله لم يزك أبدا ، وأما الذي تكسد سلعته فلا زكاة عليه .
قال سحنون : يعني حتى يبيع ، وقال : قال ذلك مالك بن أنس رضي الله عنهما (1) .
ب - قال ابن رشد - الجد - تحت ترجمة : ( في افتراق حكم الأموال في الزكاة ) : والأموال في الزكاة تنقسم على ثلاثة أقسام : قسم الأغلب فيه إنما يراد لطلب الفضل والنماء فيه لا للاقتناء ، وهو العين من المذهب والورق وأتبارهما والمواشي وآنية الذهب والفضة وكل ما لا يجوز اتخاذه منها ، فهذا تجب فيه الزكاة ، اشتراه أو ورثه أو تصدق به عليه ، نوى به التجارة أو القنية أو ما نوى به . وقسم ثان الأغلب منه إنما يراد للاقتناء لا لطلب الفضل والنماء ، وهي العروض كلها ، الدور والأرضون والثياب والطعام والحيوان الذي تجب في رقابه الزكاة ، فهذا يفرق فيه بين الشراء والفائدة ، فما أفاده من ذلك بهبة أو ميراث ، أو بما أشبه ذلك من وجوه الفوائد فلا زكاة عليه فيه ، نوى به التجارة أو القنية حتى يبيعه
__________
(1) [المدونة] (1 \ 217) وما بعدها
ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه ، وما اشترى من ذلك فهو على ما نوى فيه ، إن أراد به القنية فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه ويستقبل به حولا من يوم باعه ، وإن أراد به التجارة كان للتجارة وزكاه عن سنة التجارة . واختلف ابن القاسم وأشهب إذا اشتراه للتجارة ثم نوى به القنية هل يرجع إلى حكمها بالنية أم لا؟ فقال ابن القاسم : يرجع إلى القنية ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه وقبض ثمنه إن باعه ، ورواه عن مالك . وقال أشهب : لا يرجع إلى القنية بالنية وهو على ما اشتراه عليه من نية التجارة ، فإن باعه زكاه ساعة باعه وقبض ثمنه إن كان الحول قد حال على أصل الثمن ، ورواه عن مالك . ولم يختلفا أنه إذا اشتراه للقنية أو أفاده بميراث أو غيره ثم نوى به التجارة ، أنه لا ينتقل إليها بالنية واختلفا أيضا إذا اشتراه للوجهين جميعا ، فغلب ابن القاسم القنية على أصله فيما اشتراه للتجارة أنه يرجع إلى القنية بالنية ؛ لأنها الأصل ، وغلب أشهب التجارة على أصله أن القنية والتجارة أصلان لا يرجع أحدهما إلى صاحبه بالنية ، فلما اجتمعا كان الحكم للذي أوجب الزكاة احتياطا كالبينتين إذا أثبتت إحداهما الحكم ونفته الأخرى ، وكقول مالك فيمن له أهل بمكة وأهل ببعض الآفاق أنه متمتع . وقسم ثالث يراد للوجهين جميعا ، للاقتناء وطلب النماء ، وهو حلي الذهب والفضة ، فهذا لا يفرق فيه بين الفائدة والشراء ، وهو في الوجهين معا على ما نوى ، إن أراد به التجارة زكاه ، وإن أراد به الاقتناء ليلبسه أهله وجواريه ، أو هي إن كانت امرأة فلا زكاة عليها فيه .
واختلف فيما يتخذ منه للكراء هل يخرج بذلك عن حكم الاقتناء وتجب فيه الزكاة أم لا ؟ على قولين : وقال أيضا تحت ترجمته : (في افتراق حكم التجارة في الزكاة) : والتاجر ينقسم إلى قسمين : مدير ، وغير مدير . فالمدير : هو الذي يكثر بيعه وشراؤه ولا يقدر أن يضبط أحواله ، فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة يقوم فيه ما عنده من العروض ويحصي ما له من الديون التي يرتجى قبضها فيزكي ذلك مع ما عنده من الناض ، وأما غير المدير : وهو المحتكر الذي يشتري السلع ويتربص بها النفاق ، فهذا لا زكاة عليه فيما اشترى من السلع حتى يبيعها وإن أقامت عنده أحوالا (1) . ج- قال ابن رشد- الحفيد - : والنصاب في العروض على مذهب القائلين بذلك إنما هو فيما اتخذ منها للبيع خاصة على ما يقدر قبل ، والنصاب فيها على مذهبهم هو النصاب في العين ، إذ كانت هذه هي قيم المتلفات ورؤوس الأموال ، وكذلك الحول في العروض عند الذين أوجبوا الزكاة في العروض ، فإن مالكا قال : إذا باع العروض زكاه لسنة واحدة كالحال في الدين ، وذلك عنده في التاجر الذي تنضبط له أوقات شراء عروضه . وأما الذين لا ينضبط لهم وقت ما يبيعونه ولا يشترونه ، وهم الذين يخصون باسم المدير ، فحكم هؤلاء عند مالك إذا حال عليهم الحول من يوم ابتداء تجارتهم أن يقوم ما بيده من العروض ثم يضم إلى ذلك ما بيده
__________
(1) [المقدمات] مع [المدونة] (1\ 123) وما بعدها
من العين ، وما له من الدين الذي يرتجى قبضه إن لم يكن عليه دين مثله ، وذلك بخلاف قوله في دين غير المدير ، فإذا بلغ ما اجتمع عنده من ذلك نصابا أدى زكاته ، وسواء نض له في عامه شيء من العين أو لم ينض ، بلغ نصابا أو لم يبلغ نصابا ، وهذه رواية ابن الماجشون عن مالك . وروى ابن القاسم عنه : إذا لم يكن له ناض وكان يتجر بالعروض لم يكن عليه في العروض شيء ، فمنهم من لم يشترط وجود الناض عنده ، ومنهم من شرطه ، والذي شرطه منهم من اعتبر فيه النصاب ، ومنهم من لم يعتبر ذلك . وقال المزني : زكاة العروض تكون من أعيانها لا من أثمانها . وقال الجمهور- الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم- : المدير وغير المدير حكمه واحد ، وأنه من اشترى عرضا للتجارة فحال عليه الحول قومه وزكاه .
وقال قوم : بل يزكي ثمنه الذي ابتاعه به لا قيمته . وإنما لم يوجب الجمهور على المدير شيئا ؛ لأن الحول إنما يشترط في عين المال لا في نوعه .
وأما مالك فشبه النوع ههنا بالعين لئلا تسقط الزكاة رأسا عن المدير ، وهذا هو بأن يكون شرعا زائدا أشبه منه بأن يكون شرعا مستنبطا من شرع ثابت ، ومثل هذا هو الذي يعرفونه بالقياس المرسل ، وهو الذي لا يستند إلى أصل منصوص عليه في الشرع ، إلا ما يعقل من المصلحة الشرعية فيه .
ومالك رحمه الله يعتبر المصالح وإن لم يستند إلى أصول منصوص عليها (1) . د- جاء في [أقرب المسالك على مذهب الإمام مالك ] و[الشرح الصغير] ، له : ( وإنما يزكي عرض تجارة ) لا قنية ، فلا زكاة فيه إلا إذا باعه بعين أو ماشية ، فيستقبل بثمنه حولا من قبضه ، كما تقدم في الفائدة .
وقوله : (عرض) أي : عوض ، فيشمل قيمة عروض المدير وثمن عروض المحتكر حيث باعها بشروط خمسة :
أشار لأولها بقوله : (إن كان لا زكاة في عينه) كالثياب والرقيق ، وأما ما في عينه زكاة كنصاب ماشية أو حلي أو حرث فلا يقوم على مدير ، ولا يزكي ثمنه محتكر ، بل يستقبل بثمنه من يوم قبضه ، إلا إذا قرب الحول وباعه فرارا من الزكاة فيؤخذ بزكاة المبدل كما تقدم .
ولثانيها بقوله : (وملك) العرض (بشراء) لا إن ورثه ، أو وهب له ، أو أخذه في خلع أو أخذته صداقا ونحو ذلك من الفوائد . وقولنا (بشراء) أحسن من قوله (بمعاوضة) ؛ لأنه يشمل الصداق والخلع فيحتاج إلى تقييده بقولنا : مالية ؛ لإخراجهما . وشمل هذا الشرط والذي قبله الحب المشترى للتجارة ، فإنه لا زكاة في عينه . وعلم بذلك أن المراد بالعرض ما يشمل المثليات .
ولثالثها بقوله : (بنية تجر) أي : إن ملك بشراء مع نية تجر مجردة حال الشراء (أو مع نية غلته) بأن ينوي عند شرائه للتجارة أن يكريه إلى أن
__________
(1) [بداية المجتهد] (1\ 245)
يجد ربحا ، (أو مع) نية (قنية) بأن ينوي عند الشراء ركوبه أو سكناه أو حملا عليه إلى أن يجد فيه ربحا فيبيعه (لا) إن ملكه (بلا نية) أصلا (أو نية قنية) فقط ، (أو) نية (غلة) فقط ، (أو هما) ، أي : بنية القنية والغلة معا ، فلا زكاة .
ولرابعها بقوله : (وكان ثمنه) الذي اشترى به ذلك العرض (عينا أو عرضا كذلك) أي : ملك بشراء ، سواء كان عرض تجارة أو قنية ، كمن عنده عرض مقتنى اشتراه بعين ، ثم باعه بعرض نوى به التجارة ، فيزكي ثمنه إذا باعه لحوله من وقت اشترائه . بخلاف ما لو كان عنده عرض ملك بلا عوض كهبة وميراث فيستقبل بالثمن .
ولخامسها بقوله : (وبيع منه) أي : من العرض وأولى بيعه كله (بعين) نصابا فأكثر في المحتكر أو أقل . (ولو درهما في المدير) . فإن توفرت هذه الشروط زكى (كالدين) أي : كزكاة الدين المتقدمة ، أي : لسنة من أصله إن قبض ثمنه عينا نصابا فأكثر كمل بنفسه ، ولو قبضه في مرات أو مع فائدة تم حولها ، أو معدن . وهذا (إن رصد) ربه (به) أي : بالعرض المذكور (الأسواق) أي : ارتفاع الأثمان ، وهو المسمى بالمحتكر ، فقوله : (كالدين) خاص بالمحتكر ، والشروط الخمسة المتقدمة عامة فيه وفي المدير ، فكأنه قال : إن توفرت الشروط زكاه كزكاة الدين إن كان محتكرا شأنه يرصد الأسواق . (وإلا) يرصد الأسواق بأن كان مديرا وهو الذي يبيع بالسعر الواقع كيف كان ويخلف ما باعه بغيره ؛ كأرباب الحوانيت والطوافين بالسلع (زكى عينه) التي عنده (ودينه) أي : عدده (النقد) الذي أصله عرض (الحال)
أي : الذي حل أجله أو كان حالا أصالة (المرجو) خلاصه ولو لم يقبضه بالفعل ، وما تقدم في زكاة الدين- من أنه إنما يزكى بعد قبضه مع بقية الشروط- ففي غير المدير أو في المدير إذا كان أصله قرضا ، كما تقدمت الإشارة إليه ، وكما سيأتي قريبا إن شاء الله . (وإلا) يكن نقدا حالا- بأن كان عرضا أو مؤجلا- مرجوا فيهما ، فالنفي راجع لقوله النقد الحال فقط بدليل ما بعده . ومرادنا بالعرض : ما يشمل طعام السلم (قومه) على نفسه قيمة عدل (كل عام) وزكى القيمة ؛ لأن الموضوع أنه مرجو فهو في المدير في قوة المقبوض (كسلعه) أي : المدير ، أي : كما يقوم كل عام سلعه التي للتجارة (ولو بارت) سنين إذ بوارها بضم الباء ، أي : كسادها لا ينقلها لاحتكار ولا قنية ، وأما البوار بفتح الباء ، فمعناه : الهلاك (1) . (لا إن لم يرجه) بأن كان على معدم أو ظالم لا تأخذه الأحكام فلا يقومه فإن قبضه زكاه لعام واحد كالعين الضائعة والمغصوبة (أو كان) أي : ولا إن كان دينه الذي على المدين (قرضا) أي : كان أصله سلفا - ولو مرجوا- فلا يقومه على نفسه ليزكيه لعدم النماء فيه فهو خارج عن حكم التجارة (فإن قبضه زكاه لعام) واحد . وإن أقام عند المدين سنين إلا أن يؤخره فرارا من الزكاة فلكل عام مضى . (وحوله) أي : والمدير الذي يقوم فيه سلعه لزكاتها مع عينه ودينه الحال المرجو (حول أصله) أي : المال الذي اشترى به السلع ؛ فيكون
__________
(1) وقوله : بوار بالضم ، كذا في الأصل ، وفي [القاموس] الفتح فقط .
ابتداء الحول من يوم ملك الأصل أو زكاه . ولو تأخرت الإدارة عنه ، كما لو ملك نصابا أو زكاه في المحرم ثم أداوه في رجب ، أي : شرع في التجارة على وجه الإدارة في رجب فحوله إلى محرم ، وقيل : حوله وسط بين حول الأصل ووقت الإدارة كربيع الثاني . (ولا تقوم الأواني) التي توضع فيها سلع التجارة كالزلع ، (والآلات)؟ كالمنوال والمنشار والقدوم والمحراث (وبهيمة العمل) من حمل وحرث وغيرهما ؛ لبقاء عينها فأشبهت القنية .
(وإن اجتمع) لشخص (احتكار) في عرض (وإدارة) في آخر (وتساويا أو احتكر الأكثر) وأدار في الأقل (فكل) من العرضين (على حكمه) في الزكاة (وإلا) بأن أدار أكثر سلعه واحتكر الأقل (فالجميع للإدارة) وبطل حكم الاحتكار (1) .
__________
(1) [أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك] ، وشرحه [الشرح الصغير] (1\ 636) وما بعدها ، ومن المناسب الرجوع إلى [أضواء البيان] تفسير سورة التوبة ص (457) .
3 -
النقل عن الشافعية
أ- جاء في [الأم] تحت ترجمة (باب زكاة التجارة ) : (أخبرنا) الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا سفيان بن عيينة قال : حدثنا يحيى بن سعيد بن عبد الله بن أبي سلمة عن أبي عمرو بن حماس : أن أباه قال : مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عنقي آدمة أحملها ، فقال عمر : (ألا تؤدي زكاتك يا حماس ؟ ) فقلت : يا أمير المؤمنين ، مالي غير هذه التي على ظهري واهبة في القرظ ، فقال : (ذاك مال فضع) فوضعتهابين يديه ، فحسبها فوجدها قد وجبت فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة . (أخبرنا) الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا سفيان قال حدثنا ابن عجلان عن أبي الزناد عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه مثله ، أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا الثقة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال : ( ليس في العرض زكاة إلا أن يراد به التجارة ) . أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن رزيق (1) بن حكيم : أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه : (أن انظر من مر بك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم من التجارات من كل أربعين دينارا دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى تبلغ عشرين دينارا ، فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئا) . (قال الشافعي ) : ويعد له حتى يحول عليه الحول فيأخذ ، ولا يأخذ منهم حتى يعلموا أن الحول قد حال على ما يأخذ منه . (قال الشافعي ) : ونوافقه في قوله : فإن نقصت ثلث دينار فدعها . ونخالفه في أنها إذا نقصت عن عشرين دينارا أقل من حبة لم نأخذ منها شيئا ؛ لأن الصدقة إذا كانت محدودة بأن لا يؤخذ إلا من عشرين دينارا ، فالعلم يحيط أنها لا يؤخذ من أقل من عشرين دينارا بشيء ما كان الشيء . (قال الشافعي ) : وبهذا كله نأخذ ، وهو قول أكثر من حفظت عنه وذكر لي عنه من أهل العلم بالبلدان .
__________
(1) ويقال : زريق ، ثقة من السادسة ، وأبوه بالتكبير والتصغير ، كذا في التقريب .
(قال الشافعي ) : والعروض التي لم تشتر للتجارة من الأموال ليس فيها زكاة بأنفسها ، فمن كانت له دور أو حمامات لغلة أو غيرها أو ثياب كثرت أو قلت ، أو رقيق كثر أو قل فلا زكاة فيها ، وكذلك لا زكاة في غلاتها حتى يحول عليها الحول في يدي مالكها ، وكذلك كتابة المكاتب وغيره لا زكاة فيها إلا بالحول له ، وكذلك كل مال ما كان ليس بماشية ولا حرث ولا ذهب ولا فضة يحتاج إليه ، أو يستغني عنه ، أو يستغل ما له غلة منه ، أو يدخره ولا يريد بشيء منه التجارة فلا زكاة عليه في شيء منه بقيمة ، ولا في غلته ولا في ثمنه لو باعه إلا أن يبيعه أو يستغله ذهبا أو ورقا ، فإذا حال على ما نض بيده من ثمنه حول زكاه ، وكذلك غلته إذا كانت مما يزكى من سائمة إبل أو بقر أو غنم أو ذهب أو فضة ، فإن أكرى شيئا منه بحنطة أو زرع مما فيه زكاة فلا زكاة عليه فيه ، حال عليه الحول أو لم يحل ؛ لأنه لم يزرعه فتجب عليه فيه الزكاة ، وإنما أمر الله عز وجل أن يؤتى حقه يوم حصاده ، وهذا دلالة على أنه إنما جعل الزكاة على الزرع .
(قال الربيع ) : قال أبو يعقوب : وزكاة الزرع على بائعه؟ لأنه لا يجوز بيع الزرع في قول من يجيز بيع الزرع إلا بعد أن يبيض .
(قال أبو محمد الربيع ) : وجواب الشافعي فيه على قول من يجيز بيعه ، فأما هو فكان لا يرى بيعه في سنبله إلا أن يثبت فيه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيتبع .
(قال الشافعي ) : ولا اختلاف بين أحد علمته أن من أدى عشر أرضه ثم حبس طعامها أحوالا لم يكن عليه فيه زكاة .
(قال الشافعي ) : ومن ملك شيئا من هذه العروض بميراث أو هبة أو وصية أو أي وجوه الملك ملكها به إلا الشراء ، أو كان متربصا يريد به البيع ، فحالت عليه أحوال فلا زكاة عليه فيه ؛ لأنه ليس بمشترى للتجارة .
(قال الشافعي ) : ومن اشترى من العروض شيئا مما وصفت أو غيره مما لا تجب فيه الزكاة بعينه بذهب أو ورق أو عرض ، أو بأي وجوه الشراء الصحيح كان أحصى يوم ملكه ملكا صحيحا ، فإذا حال عليه الحول من يوم ملكه وهو عرض في يده للتجارة فعليه أن يقومه بالأغلب من نقد بلده ، دنانير كانت أو دراهم ، ثم يخرج زكاته من المال الذي قومه به .
(قال الشافعي ) : وهكذا إن باع عرضا منه بعرض اشتراه للتجارة قوم العرض الثاني بحوله يوم ملك العرض الأول للتجارة ، ثم أخرج الزكاة من قيمته ، وسواء غبن فيما اشتراه منه أو غبن عامة إلا أن يغبن بالمحاباة وجاهلا به ؛ لأنه بعينه لا اختلاف فيما تجب عليه الزكاة منه . (قال الشافعي ) : وإذا اشترى العرض بنقد تجب فيه الزكاة أو عرض تجب في قيمته الزكاة حسب ما أقام المال في يده ويوم اشترى العرض ، كأن المال أو العرض الذي اشترى به العرض للتجارة أقام في يده ستة أشهر ، ثم اشترى به عرضا للتجارة فأقام في يده ستة أشهر فقد حال الحول على المالين معا ، الذي كان أحدهما مقام الآخر ، وكانت الزكاة واجبة فيهما معا ، فيقوم العرض الذي في يده فيخرج منه زكاته .
(قال الشافعي ) : فإن كان في يده عرض لم يشتره ، أو عرض اشتراه
لغير تجارة ثم اشترى به عرضا للتجارة لم يحسب ما أقام العرض الذي اشترى به العرض الآخر ، وحسب من يوم اشترى العرض الآخر ، فإذا حال الحول من يوم اشتراه زكاه ؛ لأن العرض الأول ليس مما تجب فيه الزكاة بحال .
(قال الشافعي ) : ولو اشترى عرضا للتجارة بدنانير أو بدراهم أو شيء تجب فيه الصدقة من الماشية ، وكان أفاد ما اشترى به ذلك العرض من يومه لم يقوم العرض حتى يحول الحول يوم أفاد ثمن العرض ثم يزكيه بعد الحول .
(قال الشافعي ) : ولو أقام هذا العرض في يده ستة أشهر ، ثم باعه بدراهم أو دنانير فأقامت في يده ستة أشهر زكاه ، وكانت كدنانير أو دراهم أقامت في يده ستة أشهر ؛ لأنه لا يجب في العرض زكاة إلا بشرائه على نية التجارة ؛ فكان حكمه حكم الذهب والورق التي حال عليها الحول في يده .
(قال الشافعي ) : ولو كانت في يده مائتا درهم ستة أشهر ، ثم اشترى بها عرضا فأقام في يده حتى يحول عليه حول من يوم ملك المائتي درهم التي حولها فيه لتجارة عرضا ، أو باعه بعرض لتجارة فحال عليه الحول من يوم ملك المائتي درهم ، أو من يوم زكى المائتي درهم قومه بدراهم ثم زكاه لا يقومه بدنانير إذا اشتراه بدراهم ، وإن كانت الدنانير الأغلب من نقد البلد ، وإنما يقومه بالأغلب إذا اشتراه بعرض للتجارة .
(قال الشافعي ) : ولو اشتراه بدراهم ثم باعه بدنانير قبل أن يحول الحول عليه من يوم ملك الدراهم التي صرفها فيه ، أو من يوم زكاه فعليه
الزكاة من يوم ملك الدراهم التي اشتراه بها إذا كانت مما تجب فيه الزكاة ، وذلك أن الزكاة تجوز في العرض بعينه فبأي شيء بيع العرض ففيه الزكاة ، وقوم الدنانير التي باعه بها دراهم ثم أخذ زكاة الدراهم ، ألا ترى أنه يباع بعرض فيقوم فتؤخذ منه الزكاة ويبقى عرضا فيقوم فتؤخذ منه الزكاة ، فإذا بيع بدنانير زكيت الدنانير بقيمة الدراهم .
(قال الربيع ) : وفيه قول آخر : أن البائع إذا اشترى السلعة بدراهم فباعها بدنانير ، فالبيع جائز ولا يقومها بدراهم ولا يخرج لها زكاة من قبل أن في الدنانير بأعيانها زكاة ، فقد تحولت الدراهم دنانير فلا زكاة فيها .
وأصل قول الشافعي : أنه لو باع بدراهم قد حال عليها الحول إلا يوم بدنانير لم يكن عليه في الدنانير زكاة حتى يبتدئ لها حولا كاملا ، كما لو باع بقرا أو غنما بإبل قد حال الحول على ما باع إلا يوم استقبل حولا بما اشترى إذا كانت سائمة .
(قال الشافعي ) : ولو اشترى عرضا لا ينوي بشرائه التجارة فحال عليه الحول أو لم يحل ثم نوى به التجارة لم يكن عليه فيه زكاة بحال حتى يبيعه ويحول على ثمنه الحول ؛ لأنه إذا اشتراه لا يريد به التجارة كان كما ملك بغير شراء لا زكاة فيه .
(قال الشافعي ) : ولو اشترى عرضا يريد به التجارة فلم يحل عليه حول من يوم اشتراه حتى نوى به أن يقتنيه ولا يتخذه لتجارة ، لم يكن عليه فيه زكاة كان أحب إلي لو زكاه ، وإنما يبين أن عليه زكاته إذا اشتراه يريد به التجارة ، ولم تنصرف نيته عن إرادة التجارة به ، فأما إذا انصرفت نيته عن إرادة التجارة فلا أعلمه أن عليه فيه زكاة .
وهذا مخالف لماشية سائمة أراد علفها فلا ينصرف عن السائمة حتى يعلفها . فأما نية القنية والتجارة فسواء ، لا فرق بينهما إلا بنية المالك .
(قال الشافعي ) : ولو كان لا يملك إلا أقل من مائتي درهم أو عشرين مثقالا ، فاشترى بها عرضا للتجارة ، فباع العرض بعدما حال عليه الحول أو عنده أو قبله بما تجب فيه الزكاة - زكى العرض من يوم ملك العرض لا يوم ملك الدراهم ؛ لأنه لم يكن في الدراهم زكاة لو حال عليها الحول وهي بحالها .
(قال الشافعي ) : ولو كانت الدنانير أو الدراهم التي لا يملك غيرها التي اشترى بها العرض أقامت في يده أشهرا لم يحسب مقامها في يده ؛ لأنها كانت في يده لا تجب فيها الزكاة ، وحسب للعرض حول من يوم ملكه ، وإنما صدقنا العرض من يوم ملكه أن الزكاة وجبت فيه بنفسه بنية شرائه للتجارة إذا حال الحول من يوم ملكه ، وهو مما تجب فيه الزكاة ؛ لأني كما وصفت من أن الزكاة صارت فيه نفسه ولا أنظر فيه إلى قيمته في أول السنة ولا في وسطها ؛ لأنه إنما تجب فيه الزكاة إذا كانت قيمته يوم تحل الزكاة مما تجب فيه الزكاة ، وهو في هذا يخالف الذهب والفضة . ألا ترى أنه لو اشترى عرضا بعشرين دينارا وكانت قيمته يوم يحول الحول أقل من عشرين سقطت فيه الزكاة ؛ لأن هذا بين أن الزكاة تحولت فيه وفي ثمنه إذا بيع لا فيما اشترى به .
(قال الشافعي ) : وسواء فيما اشتراه لتجارة كل ما عدا الأعيان التي فيها الزكاة بأنفسها من رقيق وغيرهم ؛ فلو اشترى رقيقا لتجارة فجاء عليهم الفطر وهم عنده - زكى عنهم زكاة الفطر إذا كانوا مسلمين وزكاة
التجارة بحولهم ، وإن كانوا مشركين زكى عنهم التجارة وليست عليه فيهم زكاة الفطر .
(قال) : وليس في شيء اشتري لتجارة زكاة الفطر غير الرقيق المسلمين ، وزكاته غير زكاة التجارة . ألا ترى أن زكاة الفطر على عدد الأحرار الذين ليسوا بمال ، وإنما هي طهور لمن لزمه اسم الإيمان .
(قال الشافعي ) : ولو اشترى دراهم بدنانير أو بعرض أو دنانير بدراهم أو بعرض يريد بها التجارة فلا زكاة فيما اشترى منها إلا بعدما يحول عليه الحول من يوم ملكه ، كأنه ملك مائة دينار أحد عشر شهرا ثم اشترى بها مائة دينار أو ألف درهم . فلا زكاة في الدنانير الآخرة ولا الدراهم ، حتى يحول عليها الحول من يوم ملكها ؛ لأن الزكاة فيها بأنفسها .
(قال الشافعي ) : وهكذا إذا اشترى سائمة من إبل أو بقر أو غنم بدنانير أو دراهم أو غنم أو إبل أو بقر ، فلا زكاة فيما اشترى منها حتى يحول عليها الحول في يده من يوم ملكه ، اشتراه بمثله أو غيره مما فيه الزكاة . ولا زكاة فيما أقام في يده ما اشتراه ما شاء أن يقيم ؛ لأن الزكاة فيه بنفسه لا بنية للتجارة ولا غيرها .
(قال الشافعي ) : وإذا اشترى السائمة لتجارة زكاها زكاة السائمة لا زكاة التجارة ، وإذا ملك السائمة بميراث أو هبة أو غيره زكاها بحولها زكاة السائمة ، وهذا خلاف التجارات .
(قال الشافعي ) : وإذا اشترى نخلا وأرضا للتجارة زكاها زكاة النخل والزرع ، وإذا اشترى أرضا فيها غراس غير نخل أو كرم أو زرع غير حنطة (قال أبو يعقوب والربيع ) : وغير ما فيها الركاز لتجارة زكاها زكاة
التجارة ؛ لأن هذا مما ليس فيه بنفسه زكاة وإنما يزكى زكاة التجارة .
(قال الشافعي ) : ومن قال : لا زكاة في الحلي ولا في الماشية غير السائمة ، فإذا اشترى واحدا من هذين للتجارة ففيه الزكاة ، كما يكون في العروض التي تشترى للتجارة (1) .
ب - قال الشيرازي : تجب الزكاة في عروض التجارة لما روى أبو ذر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « في الإبل صدقتها ، وفي البقر صدقتها ، وفي البز صدقته » (2) ، ولأن التجارة يطلب بها نماء المال فتعلقت بها الزكاة كالسوم في الماشية .
ج - وقال النووي على ذلك : هذا الحديث رواه الدارقطني في [سننه] والحاكم أبو عبد الله في [المستدرك] والبيهقي بأسانيدهم ، ذكره الحاكم بإسنادين ، ثم قال : هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم .
(قوله) : « وفي البز صدقته » هو بفتح الباء وبالزاي ، هكذا رواه جميع الرواة ، وصرح بالزاي الدارقطني والبيهقي ، ونصوص الشافعي - رضي الله عنه - القديمة والجديدة متظاهرة على وجوب زكاة التجارة .
قال أصحابنا : (قال الشافعي - رضي الله عنه - في القديم : اختلف الناس في زكاة التجارة :
فقال بعضهم : لا زكاة فيها ، وقال بعضهم : فيها الزكاة ، وهذا أحب إلينا) . هذا نصه .
__________
(1) [الأم] (2 \ 39) وما بعدها
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/179).
فقال القاضي أبو الطيب وآخرون : هذا ترديد قول ، فمنهم من قال في القديم : قولان في وجوبها ، ومنهم من لم يثبت هذا القديم ، واتفق القاضي أبو الطيب وكل من حكى هذا القديم على أنه الصحيح في القديم أنها تجب ، كما نص عليه في الجديد ، والمشهور للأصحاب الاتفاق على أن مذهب الشافعي ( رض ) وجوبها ، وليس في هذا المنقول عن القديم إثبات قول بعدم وجوبها ، وإنما أخبر عن اختلاف الناس ، وبين أن مذهبه الوجوب بقوله : وهذا أحب إلي ، والصواب الجزم بالوجوب ، وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم أجمعين .
قال ابن المنذر : أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة ، قال : رويناه عن عمر بن الخطاب وابن عباس والفقهاء السبعة : سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، وخارجة بن زيد ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وسليمان بن يسار ، والحسن البصري ، وطاوس ، وجابر بن زيد ، وميمون بن مهران ، والنخعي ومالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، والنعمان وأصحابه ، وأحمد وإسحاق ، وأبي ثور ، وأبي عبيد .
وحكى أصحابنا عن داود وغيره من أهل الظاهر أنهم قالوا : لا تجب . وقال ربيعة ومالك : لا زكاة في عروض التجارة ما لم تنض وتصير دراهم أو دنانير ، فإذا نضت لزمه زكاة عام واحد .
واحتجوا : بالحديث الصحيح : « ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة » (1) وهو في [الصحيحين] ، وقد سبق بيانه ، وبما جاء عن ابن
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2469).
عباس أنه قال : لا زكاة في العروض .
واحتج أصحابنا بحديث أبي ذر المذكور ، وهو صحيح كما سبق ، وعن سمرة قال : ( أما بعد : « فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع » (1) رواه أبو داود في أول كتاب الزكاة ، وفي إسناده جماعة لا أعرف حالهم ، ولكن لم يضعفه أبو داود ، وقد قدمنا أن ما لم يضعفه فهو حسن عنده .
وعن حماس - بكسر الحاء المهملة وتخفيف الميم وآخره سين مهملة - وكان يبيع الأدم قال : ( قال لي عمر بن الخطاب : يا حماس ، أد زكاة مالك ، فقلت : ما لي مال ، إنما أبيع الأدم ، قال : قومه ، ثم أد زكاته ، ففعلت) رواه الشافعي وسعيد بن منصور الحافظ في [مسنده] والبيهقي .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة ) رواه البيهقي بإسناده عن أحمد بن حنبل بإسناده الصحيح .
وأما الجواب عن حديث : « ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة » (2) : فهو محمول على ما ليس للتجارة ، ومعناه : لا زكاة في عينه بخلاف الأنعام ، وهذا التأويل متعين للجمع بين الأحاديث ، وأما قول ابن عباس فهو ضعيف الإسناد ضعفه الشافعي رضي الله عنه والبيهقي وغيرهما ، قال البيهقي : ولو صح لكان محمولا على عرض ليس للتجارة ليجمع بينه وبين الأحاديث والآثار السالفة ، ولما روى ابن المنذر عنه من وجوب زكاة التجارة كما سبق (3)
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1562).
(2) سنن النسائي الزكاة (2469).
(3) [المهذب] ، و [المجموع] (6 \ 43) .
د - قال الشيرازي : ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين : (أحدهما) : أن يملكه بعقد فيه عوض كالبيع والإجارة والنكاح والخلع . (والثاني) : أن ينوي عند العقد أنه تملكه للتجارة ، وأما إذا ملكه بإرث أو وصية أو هبة من غير شرط الثواب فلا تصير للتجارة بالنية ، وإن ملكه بالبيع والإجارة ولم ينو عند العقد أنه للتجارة لم يصر للتجارة .
وقال الكرابيسي من أصحابنا : إذا ملك عرضا ثم نوى أنه للتجارة صار للتجارة ، كما إذا كان عنده متاع للتجارة ثم نوى القنية صار للقنية بالنية والمذهب الأول ؛ لأنه ما لم يكن للزكاة من أصله لم يصر للزكاة بمجرد النية كالمعلوفة إذا نوى إسامتها ، ويفارق إذا نوى القنية بمال التجارة ؛ لأن القنية هي الإمساك بنية القنية ، وقد وجد الإمساك والنية ، والتجارة هي التصرف بنية التجارة ، وقد وجدت النية ولم يوجد التصرف فلم يصر للتجارة .
هـ- قال النووي : (الشرح) قوله : من أصله ، احتراز من حلي الذهب والفضة إذا قلنا : لا زكاة فيه ، فنوى استعماله في حرام أو نوى كنزه واقتناه فإنه يجب فيه الزكاة كما سبق ؛ لأن أصله الزكاة .
قال أصحابنا : مال التجارة هو كل ما قصد الاتجار فيه عند تملكه بمعاوضة محضة . وتفصيل هذه القيود : أن مجرد نية التجارة يصير به المال للتجارة . فلو كان له عرض قنية ملكه بشراء أو غيره فجعله للتجارة لم يصر للتجارة ، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور ، وقال الكرابيسي : يصير للتجارة ، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن راهويه ، وقد ذكر المصنف دليل الوجهين .
أما إذا اقترنت نية التجارة بالشراء ، فإن المشترى يصير للتجارة ويدخل في الحول بنفس الشراء ، سواء اشتراه بعرض أو نقد أو دين حال أو مؤجل ، وإذا صار للتجارة استمر حكمها ، ولا يحتاج في كل معاملة إلى نية أخرى بلا خلاف ، بل النية مستصحبة كافية ، وفي معنى الشراء ما لو صالح عن دين له في ذمة إنسان على عوض بنية التجارة فإنه يصير للتجارة بلا خلاف ، سواء كان الدين قرضا أو ثمن مبيع أو ضمان متلف ، وهكذا الاتهاب بشرط الثواب إذا نوى به التجارة صار للتجارة . صرح به البغوي وغيره .
وأما الهبة بلا ثواب والاحتطاب والاحتشاش والاصطياد فليست من أسباب التجارة ولا أثر لاقتران النية بها ، ولا يصير العرض للتجارة بلا خلاف ، لفوات الشرط ، وهو المعاوضة ، وهكذا الرد بالعيب والاسترداد . فلو باع عرض قنية بعرض قنية ثم وجد بما أخذه عيبا فرده واسترد الأول على قصد التجارة ، أو وجد صاحبه بما أخذ عيبا فرده فقصد المردود عليلا بأخذه للتجارة- لم يصر للتجارة .
ولو كان عنده ثوب قنية فاشترى به عبدا للتجارة ثم رد عليه الثوب بالعيب انقطع حول التجارة ولا يكون الثوب للتجارة ، بخلاف ما لو كان الثوب للتجارة أيضا فإنه يبقى حكم التجارة فيه ، كما لو باع عرض التجارة واشترى بثمنه عرضا آخر ، وكذا لو تبايع التاجران ثم تعاملا - يستمر حكم التجارة في المالين .
ولو كان عنده ثوب تجارة فباعه بعبد للقنية ، فرد عليه الثوب بالعيب لم يعد إلى حكم التجارة ؛ لأن قصد القنية حول التجارة ، وليس الرد
والاسترداد من التجارة ، كما لو قصد القنية بمال التجارة الذي عنده فإنه يصير قنية بالاتفاق . فلو نوى بعد ذلك جعله للتجارة لا يؤثر حتى تقترن النية بتجارة جديدة . ولو خالع وقصد بعرض الخلع التجارة في حال المخالعة ، أو زوج أمته أو تزوجت الحرة ونويا حال العقد التجارة في الصد اق ، فطريقان :
( أصحهما ) : - وبه قطع المصنف وجماهير العراقيين - يكون مال تجارة ، وينعقد الحول من حينئذ ؛ لأنها معاوضة ثبتت فيها الشفعة كالبيع .
(والثاني) : وهو مشهور في طريقة الخراسانيين ، وذكر بعض العراقيين ، فيه وجهان : (أصحهما) : هذا ، (والثاني) : لا يكون للتجارة؟ لأنهما ليسا من عقود التجارات والمعاوضات المحضة ، وطرد الخراسانيون الوجهين في المال المصالح به عن الدم ، والذي أجر به نفسه أو ماله إذا نوى بهما التجارة ، وفيما إذا كان يصرفه في المنافع بأن كان يستأجر المستغلات ويؤجرها للتجارة ، فالمذهب في الجميع مصيره للتجارة . هذا كله فيما يصير به العرض للتجارة ، ثم إذا صار للتجارة ونوى به القنية صار للقنية وانقطع حكم التجارة بلا خلاف ؟ لما ذكره المصنف رحمه الله تعالى (1) .
__________
(1) [المهذب] ، و [المجموع] (6 \ 45) وما بعدها .
4 -
النقل عن الحنابلة
أ - قال الخرقي : ( والعروض إذا كانت لتجارة قومها إذا حال عليهاالحول وزكاها ) .
ب- وقال ابن قدامة في شرح ذلك : العروض : جمع عرض ، وهو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه ، من النبات والحيوان والعقار وسائر المال . فمن ملك عرضا للتجارة فحال عليه حول ، وهو نصاب قومه في آخر الحول ، فما بلغ أخرج زكاته ، وهو ربع عشر قيمته . ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في اعتبار الحول .
وقد دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول » (1) .
إذا ثبت هذا فإن الزكاة تجب فيه في كل حول .
وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي .
وقال مالك : لا يزكيه إلا لحول واحد ، إلا أن يكون مدبرا ؛ لأن الحول الثاني لم يكن المال عينا في أحد طرفيه ، فلم تجب فيه الزكاة كالحول الأول إذا لم يكن في أوله عينا . ولنا : أنه مال تجب الزكاة فيه في الحول الأول لم ينقص عن النصاب ، ولم تتبدل صفته فوجبت زكاته في الحول الثاني ، كما لو نص في أوله . ولا نسلم أنه إذا لم يكن في أوله عينا لا تجب الزكاة فيه ، وإذا اشترى عرضا للتجارة تعرض للقنية جرى في حول الزكاة من حين اشتراه . (فصل) : ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين : أحدهما : أن يملكه بفعله ؛ كالبيع والنكاح والخلع وقبول الهبة والوصية والغنيمة واكتساب المباحات ؛ لأن ما لا يثبت له حكم الزكاة
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (632).
بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد النية كالصوم ، ولا فرق بين أن يملكه بعوض أو بغير عوض . ذكر ذلك أبو الخطاب وابن عقيل ؛ لأنه ملكه بفعله أشبه الموروث . والثاني : أن ينوي عند تملكه أنه للتجارة ، فإن لم ينو عند تملكه أنه للتجارة لم يصر للتجارة ، وإن نواه بعد ذلك ، وإن ملكه بإرث ، وقصد أنه للتجارة لم يصر للتجارة ؛ لأن الأصل القنية ، والتجارة عارض ، فلم يصر إليها بمجرد النية ، كما لو نوى الحاضر السفر ، لم يثبت له حكم بدون الفعل . وعن أحمد رواية أخرى أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية ؛ لقول سمرة : « أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع » (1) ، فعلى هذا لا يعتبر أن يملكه بفعله ، ولا أن يكون في مقابلة عوض ، بل متى نوى به التجارة صار للتجارة (2) وقال ابن قدامة : تجب الزكاة في قيمة عروض التجارة في قول أكثر أهل العلم .
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول . روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس .
وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاوس والنخعي والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وإسحاق وأصحاب الرأي .
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1562).
(2) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (2 \ 623) .
وحكي عن مالك وداود : أنه لا زكاة فيها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق » (1) .
ولنا : ما روى أبو داود بإسناده عن سمرة بن جندب قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم « يأمرنا أن نخرج مما نعده للبيع » (2) ، وروى الدارقطني عن أبي ذر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « في الإبل صدقتها ، وفي الغنم صدقتها ، وفي البز صدقته » (3) قال : بالزاي ، ولا خلاف أنها لا تجب في عينه ، وثبت أنها في قيمته .
وعن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال : ( أمرني عمر ، فقال : أد زكاة مالك . فقلت : مالي مال إلا جعاب وأدم ، فقال : قومها ثم أد زكاتها) رواه الإمام أحمد وأبو عبيد .
وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر ، فيكون إجماعا . وخبرهم المراد به : زكاة العين لا زكاة القيمة ، بدليل ما ذكرنا ، على أن خبرهم عام وخبرنا خاص فيجب تقديمه (4) . ج - قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما العروض التي للتجارة ففيها الزكاة .
وقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول . روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس ، وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاوس والنخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (620),سنن النسائي الزكاة (2477),سنن أبو داود الزكاة (1574),سنن ابن ماجه الزكاة (1790),مسند أحمد بن حنبل (1/132),سنن الدارمي الزكاة (1629).
(2) سنن أبو داود الزكاة (1562).
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/179).
(4) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (2 \ 622)
عبيد . وحكي عن مالك وداود : لا زكاة فيها . وفي سنن أبي داود ، عن سمرة قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم « يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع » (1) وروي عن حماس قال : (مر بي عمر فقال : أد زكاة مالك ، فقلت : ما لي إلا جعاب وأدم ، فقال : قومها ثم أد زكاتها) ، واشتهرت القصة بلا منكر فهي إجماع .
وأما مالك ، فمذهبه : أن التجار على قسمين : متربص ومدير . فالمتربص : وهو الذي يشتري السلع ينتظر بها الأسواق ، فربما أقامت السلع عنده سنين- فهذا عنده لا زكاة عليه ، إلا أن يبيع السلعة فيزكيها لعام واحد .
وحجته : أن الزكاة شرعت في الأموال النامية ، فإذا زكى السلعة كل عام - وقد تكون كاسدة - نقصت عن شرائها فيتضرر . فإذا زكيت عند البيع ، فإن كانت ربحت فالربح كان كامنا فيها . فيخرج زكاته ولا يزكي حتى يبيع بنصاب ، ثم يزكي بعد ذلك ما يبيعه من كثير وقليل .
وأما المدير : وهو الذي يبيع السلع في أثناء الحول ، فلا يستقر بيده سلعة ، فهذا يزكي في السنة الجميع ، يجعل لنفسه شهرا معلوما يحسب ما بيده من السلع والعين ، والدين الذي على المليء الثقة ، ويزكي الجميع . هذا إذا كان ينض في يده في أثناء السنة ، ولو درهم ، فإن لم يكن يبيع بعين أصلا ، فلا زكاة عليه عنده (2)
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1562).
(2) [مجموع الفتاوى] (25 \ 15 ، 16) .
د - قال ابن مفلح : وهي واجبة ، واحتج الأصحاب - رحمهم الله - بما روي عن جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب ، حدثني حبيب بن سليمان ابن سمرة عن أبيه سليمان بن سمرة قال : ( أما بعد ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان « يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع » (1) رواه أبو داود .
وروي أيضا بهذا السند نحو ستة أخبار ، منها : ( من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله ) . ومنها : (من كتم غالا فإنه مثله) وهذا الإسناد لا ينهض مثله لشغل الذمة ؛ لعدم شهرة رجاله ومعرفة عدالتهم ، وحبيب تفرد عنه جعفر ووثقه ابن حبان . وقال ابن حزم : جعفر وحبيب مجهولان . وقال الحافظ عبد الحق : حبيب ضعيف وليس جعفر ممن يعتمد عليه . وقال ابن القطان : ما من هؤلاء من يعرف حاله (2) وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم . وأفرد الحافظ عبد الغني المقدسي بقوله : إسناده مقارب عن أبي ذر مرفوعا : « وفي البز (3) صدقة » رواه أحمد ، ورواه الحاكم عن طريقين ، وصحح إسنادهما ، وأنه على شرطهما ، ورواه الدارقطني وعنده قاله بالزاي .
وذكر بعضهم : أن جميع الرواة رووه بالزاي ، وفي صحة هذا الخبر نظر ، ويدل على ضعفهما أن أحمد إنما احتج بقول عمر رضي الله عنه
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1562).
(2) في الطبعة الأولى : وقال ابن القطان : (هو ممن لا يعرف حاله) والتصويب من المخطوطين .
(3) في الطبعة الأولى : ومخطوط الدار (البر) وانظر ما يأتي عن روايته بالزاي وقد أثبتنا ما في مخطوط الأزهر .
لحماس (1) : أد زكاة مالك ، فقال : ما لي إلا جعاب وأدم . قال : قومها ثم أد زكاتها . رواه أحمد : ثنا يحيى بن سعيد ، ثنا عبد الله بن أبي سلمة ، عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه .
ورواه ( سعيد ، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني أبو عمرو ابن حماس أن أباه أخبره) .
ورواه أبو عبيد وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهما وهو مشهور .
وسأل الميموني أبا عبد الله عن قول ابن عباس في الذي يحول عنده المتاع للتجارة ، قال : يزكيه بالثمن الذي اشتراه فقلت : ما أحسنه! فقال : أحسن منه حديث : (قومه) ، وروى ابن أبي شيبة : ثنا أبو أسامة ، ثنا عبيد الله عن نافع (2) عن ابن عمر قال : يعمل في العروض زكاة إلا عرضا (3) في تجارة .
ورواه سعيد بمعناه في طريق آخر ، وهذا صحيح عن ابن عمر ، وأما ( أبو عمرو ) (4) عن أبيه ، فحماس لا تعرف عدالته ، واحتج صاحب [المحرر] بأنه إجماع متقدم ، واعتمد على قول ابن المنذر ، وإنما قال : أجمع عامة أهل العلم على أن في العروض التي تراد للتجارة الزكاة . وذكر الشافعي في القديم : أن الناس اختلفوا في ذلك : فقال بعضهم :
__________
(1) في مخطوط الأزهر (خماس) ، وكذلك في جميع ما ورد ، لكن صحة اسمه بالحاء المهملة ، كما في [الإصابة] حرف الحاء القسم الثاني ، وأشار إلى حديثه هذا المذكور هنا .
(2) في الطبعة الأولى : ( عبيد الله عن عبد الله عن نافع ) ، والتصويب من المخطوطين .
(3) في مخطوط الأزهر : إلا عرض .
(4) أبو عمرو : زيادة منا .
لا زكاة ، وقال بعضهم : تجب . قال : وهو أحب إلينا ، ومن أصحابه (1) من أثبت له قولا في القديم لا تجب ، وحكى أحمد هذا عن مالك وهو قول داود ، واحتج بظواهر العفو عن صدقة الخيل والرقيق والحمر ، ولأن الأصل عدم الوجوب .
ويتوجه هنا ما سبق في زكاة العسل ، وقد يتوجه تخريج من نية الأضحية مع الشراء لا تصير (2) أضحية فلم تؤثر النية مع الفعل في نقل حكم الأصل .
وفرق القاضي من وجهين :
أحدهما : أنه يمكن أن ينوي بها أضحية بعد حصول الملك فهذا لم يصح مع الملك ، وهنا لا تصح نية التجارة بعد حصول الملك ، فلهذا صح أن ينوي مع الملك .
والثاني : أن الشراء يملك به ، ونية الأضحية سبب يزيل الملك فلم يقع الملك ، وسبب زواله بمعنى واحد ، والزكاة لا تزيل الملك ولا هي سبب في إزالته والشراء يملك به ؛ فلهذا صح أن ينوى بها الزكاة حين الشراء ، كذا قال وفيهما نظر (3) وقال ابن مفلح : ومن طولب بالزكاة فادعى أداءها أو بقاء الحول أو نقص النصاب أو زوال ملكه أو تجدده قريبا أو أن ما بيده لغيره ، أو أنه
__________
(1) في الطبعة الأولى : ومن أصحابنا .
(2) في الطبعة الأولى : (مع الشرط ألا يصير) والتصويب من المخطوطين ، وسيأتي قوله : (والثاني : أن الشراء يملك به) .
(3) [الفروع] (2 \ 502) .
منفرد أو مختلط أو نحو ذلك - قبل قوله (و) بلا يمين ، نص عليه ، قاله بعضهم ، وظاهر كلامه لا يشرع . نقل حنبل : لا يسأل المتصدق عن شيء ولا يبحث ، إنما يأخذ ما أصابه مجتمعا .
قال في [عيون المسائل] : ظاهر قوله : ( لا يستحلف الناس على صدقاتهم) لا يجب ولا يستحب ؛ لأنها عبادة مؤتمن عليها ، كالصلاة والكفارة بخلاف الوصية للفقراء بمال ، ويأتي ما يتعلق بهذا في آخر باب الدعاوى .
وقال ابن حامد : يستحلف في الزكاة في ذلك كله ويتوجه احتمال إن اتهم (وم) .
وفي [الأحكام السلطانية] : إن رأى العامل أن يستحلفه فعل ، وإن نكل لم يقض عليه بنكوله ، وقيل : بلى ، وكذلك الحكم في من مر بعاشر وادعى أنه عشره آخر .
قال أحمد رحمه الله : إذا أخذ منه المصدق كتب له براءة ، فإذا جاء آخر أخرج إليه براءته .
قال القاضي : وإنما قال ذلك لنفي التهمة عنه . وهل يلزمه الكتابة ؟ يأتي فيمن سأل الحاكم أن يكتب له ما ثبت عنده ، وإن ادعى التلف بجائحة فسبق في زكاة الثمر ، وإن أقر بقدر زكاته ولم يذكر قدر ماله صدق ، والمراد وفي اليمين الخلاف (1)
__________
(1) [الفروع] (2 \ 546) ، ويرجع إلى [الإنصاف] (3 \ 190) .
ثالثا
الديون التي للإنسان على غيره هل تجب فيها الزكاة
؟قد يكون الدين على مليء ، وقد يكون على معسر ومن في حكمه ، وقد يكون لازما أو غير لازم ، وإذا كان لازما فقد يكون ماشية أو دراهم ودنانير وعروض تجارة . . . إلى غير ذلك من التفاصيل التي يكشفها ما يأتي من النصوص عن فقهاء الإسلام ، مع ذكر مستندهم وما ذكروه من المناقشات :
1 -
النقل عن الحنفية
قال الكاساني في الكلام على الشرائط التي ترجع إلى المال :ومنها : الملك المطلق ، وهو : أن يكون مملوكا له رقبة ويدا ، وهذا قول أصحابنا الثلاثة .
وقال زفر : اليد ليست بشرط .
وهو قول الشافعي ، فلا تجب الزكاة في المال الضمار عندنا خلافا لهما ، وتفسير مال الضمار : هو كل مال غير مقدور الانتفاع به مع قيام الأصل الملك ، كالعبد الآبق ، والضال ، والمال المفقود ، والمال الساقط في البحر ، والمال الذي أخذه السلطان مصادرة ، والدين المجحود إذا لم يكن للمالك بينة وحال الحول ثم صار له بينة بأن أقر عند الناس ، والمال المدفون في الصحراء إذا خفي على المالك مكانه ، فإن كان مدفونا في البيت تجب فيه الزكاة بالإجماع ، وفي المدفون في الكرم والدار الكبيرة اختلاف المشايخ احتجا بعمومات الزكاة من غير فصل ، ولأن وجوب الزكاة يعتمد الملك دون اليد بدليل ابن السبيل ، فإنه تجب الزكاة في ماله ، وإن كانت يده فائتة لقيام ملكه ، وتجب الزكاة في الدين
مع عدم القبض ، وتجب في المدفون في البيت ، فثبت أن الزكاة وظيفة الملك ، والملك موجود ، فتجب الزكاة فيه ، إلا أنه لا يخاطب بالأداء للحال ؛ لعجزه عن الأداء لبعد يده عنه ، وهذا لا ينفي الوجوب كما في ابن السبيل .
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه موقوفا عليه ، ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا زكاة في مال الضمار » ، وهو المال الذي لا ينتفع به مع قيام الملك - مأخوذ من البعير الضامر الذي لا ينتفع به لشدة هزاله مع كونه حيا- وهذه الأموال غير منتفع بها في حق المالك لعدم وصول يده إليها ؛ فكانت ضمارا ، ولأن المال إذا لم يكن مقدور الانتفاع به في حق المالك لا يكون المالك به غنيا ، ولا زكاة على غير الغني بالحديث الذي روينا ، ومال ابن السبيل مقدور الانتفاع به في حقه بيد نائبه ، وكذا المدفون في البيت ؛ لأنه يمكنه الوصول إليه بالنبش ، بخلاف المفازة ؛ لأن نبش كل الصحراء غير مقدور له ، وكذا الدين المقر به إذا كان المقر مليا فهو ممكن الوصول إليه ، وأما الدين المجحود فإن لم يكن له بينة فهو على الاختلاف ، وإن كان له بينة اختلف المشايخ فيه .
قال بعضهم : تجب الزكاة فيه؟ لأنه يمكن الوصول إليه بالبينة ، فإذا لم يقم البينة فقد ضيع القدرة فلم يعذر .
وقال بعضهم : لا تجب ؛ لأن الشاهد قد يفسق إلا إذا كان القاضي عالما بالدين ؛ لأنه يقضي بعلمه فكان مقدور الانتفاع به ، وإن كان المديون يقر في السر ويجحد في العلانية فلا زكاة فيه ، كذا روي عن أبي يوسف ؛ لأنه لا ينتفع بإقراره في السر ، فكان بمنزلة الجاحد سرا
وعلانية ، وإن كان المديون مقرا بالدين لكنه مفلس ، فإن لم يكن مقضيا عليه بالإفلاس تجب الزكاة فيه في قولهم جميعا .
وقال الحسن بن زياد : لا زكاة فيه ؛ لأن الدين على المعسر غير منتفع به فكان ضمارا . والصحيح قولهم ؛ لأن المفلس قادر على الكسب والاستقراض مع أن الإفلاس محتمل الزوال ساعة فساعة إذ المال غاد ورائح وإن كان مقضيا عليه بالإفلاس فكذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف . وقال محمد : لا زكاة فيه .
فمحمد مر على أصله ؛ لأن التفليس عنده يتحقق وأنه يوجب زيادة عجز ؛ لأنه يسد عليه باب التصرف ؛ لأن الناس لا يعاملونه ، بخلاف الذي لم يقض عليه بالإفلاس ، وأبو حنيفة مر على أصله ؛ لأن الإفلاس عنده لا يتحقق في حال الحياة والقضاء به باطل ، وأبو يوسف وإن كان يرى التفليس ، لكن المفلس قادر في الجملة بواسطة الاكتساب ، فصار الدين مقدور الانتفاع في الجملة ، فكان أثر التفليس في تأخير المطالبة إلى وقت اليسار ، فكان كالدين المؤجل ، فتجب الزكاة فيه . ولو دفع إلى إنسان وديعة ثم نسي المودع ، فإن كان المدفوع إليه من معارفه فعليه الزكاة فيما مضى إذا تذكر ؛ لأن نسيان المعروف نادر ، فكان طريق الوصول قائما ، وإن كان ممن لا يعرفه فلا زكاة عليه فيما مضى ، لتعذر الوصول إليه .
ولا زكاة في دين الكتابة والدية على العاقلة ؛ لأن دين الكتابة ليس بدين حقيقة ؛ لأنه لا يجب للمولى على عبده دين ؛ فلهذا لم تصح الكفالة به ، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، إذ هو ملك المولى من
وجه ، وملك المكاتب من وجه ؛ لأن المكاتب في اكتسابه كالحر ، فلم يكن بدل الكتابة ملك المولى مطلقا ، بل كان ناقصا ، وكذا الدية على العاقلة ، ملك ولي القتيل فيها متزلزل ، بدليل أنه لو مات واحد من العاقلة سقط ما عليه ، فلم يكن ملكا مطلقا ، ووجوب الزكاة وظيفة الملك المطلق .
وعلى هذا يخرج قول أبي حنيفة في الدين الذي وجب للإنسان لا بدلا عن شيء رأسا ؛ كالميراث الدين ، والوصية بالدين ، أو وجب بدلا عما ليس بمال أصلا ، كالمهر للمرأة على الزوج ، وبدل الخلع للزوج على المرأة ، والصلح ، عن دم العمد : أنه لا تجب الزكاة فيه .
وجملة الكلام في الديون : أنها على ثلاث مراتب في قول أبي حنيفة :
دين قوي ، ودين ضعيف ، ودين وسط .
كذا قال عامة مشايخنا .
أما القوي : فهو الذي وجب بدلا عن مال التجارة ، كثمن عرض التجارة من ثياب التجارة وعبيد التجارة أو غلة مال التجارة ، ولا خلاف في وجوب الزكاة فيه ، إلا أنه لا يخاطب بأداء شيء من زكاة ما مضى ما لم يقبض أربعين درهما ، فكلما قبض أربعين درهما ، أدى درهما واحدا ، وعند أبي يوسف ومحمد كلما قبض شيئا يؤدي زكاته قل المقبوض أو كثر .
وأما الدين الضعيف : فهو الذي وجب له بدلا عن شيء وجب له بغير صنعه كالميراث ، أو بصنعه كالوصية ، أو وجب بدلا عما ليس بمال كالمهر وبدل الخلع والصلح عن القصاص وبدل الكتابة ، ولا زكاة فيه ما
لم يقبض كله ويحول عليه الحول بعد القبض ، وأما الدين الوسط : فما وجب له بدلا عن مال ليس للتجارة كثمن عبد الخدمة وثمن ثياب البذلة والمهنة ، وفيه روايتان عنه ، ذكر في الأصل أنه تجب فيه الزكاة قبل القبض ، لكن لا يخاطب بالأداء ما لم يقبض مائتي درهم ، فإذا قبض مائتي درهم زكى لما مضى .
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة : أنه لا زكاة فيه حتى يقبض المائتين ويحول عليه الحول من وقت القبض وهو أصح الروايتين عنه .
وقال أبو يوسف ومحمد : الديون كلها سواء ، وكلها قوية تجب الزكاة فيها قبل القبض ، إلا الدية على العاقلة ومال الكتابة فإنه لا تجب الزكاة فيها أصلا ما لم تقبض ويحول عليها الحول . وجه قولهما : أن ما سوى بدل الكتابة والدية على العاقلة ملك صاحب الدين ملكا مطلقا رقبة ويدا لتمكنه من القبض بقبض بدله وهو العين ؟ فتجب فيه الزكاة كسائر الأعيان المملوكة ملكا مطلقا ، إلا أنه لا يخاطب بالأداء للحال ؛ لأنه ليس في يده حقيقة ، فإذا حصل في يده يخاطب بأداء الزكاة قدر المقبوض ، كما هو مذهبهما في العين فيما زاد على النصاب ، بخلاف الدية وبدل الكتابة ؛ لأن ذلك ليس بملك مطلق ، بل هو ملك ناقص على ما بينا . والله أعلم .
ولأبي حنيفة وجهان :
أحدهما : أن الدين ليس بمال ، بل هو فعل واجب ، وهو فعل تمليك المال وتسليمه إلى صاحب الدين ، والزكاة إنما تجب في المال ، فإذا لم
يكن مالا لا تجب فيه الزكاة ، ودليل كون الدين فعلا من وجوه ذكرناها في الكفالة بالدين عن ميت مفلس في [الخلافيات] كان ينبغي أن لا تجب الزكاة في دين ما لم يقبض ويحول عليه الحول ، إلا أن ما وجب له بدلا عن مال التجارة أعطي له حكم المال ؟ لأن بدل الشيء قائم مقامه كأنه هو ، فصار كأن المبدل قائم في يده وأنه مال التجارة وقد حال عليه الحول في يده .
والثاني : إن كان الدين مالا مملوكا أيضا لكنه مال لا يحتمل القبض ؛ لأنه ليس بمال حقيقة ، بل هو مال حكمي في الذمة وما في الذمة لا يمكن قبضه فلم يكن مالا مملوكا رقبة ويدا ، فلا تجب الزكاة فيه كمال الضمار ، فقياس هذا أن لا تجب الزكاة في الديون كلها ، لنقصان الملك بفوات اليد ، إلا أن الدين الذي هو بدل مال التجارة التحق بالعين في احتمال القبض ؛ لكونه بدل مال التجارة ، قابل للقبض ، والبدل يقام مقام المبدل ، والمبدل عين قائمة قابلة للقبض ، فكذا ما يقوم مقامه ، وهذا المعنى لا يوجد فيما ليس ببدل رأسا ، ولا فيما هو بدل عما ليس بمال ، وكذا في بدل مال ليس للتجارة على الرواية الصحيحة أنه لا تجب فيه الزكاة ما لم يقبض قدر النصاب ويحول عليه الحول بعد القبض ؛ لأن الثمن بدل مال ليس للتجارة فيقوم مقام المبدل ، ولو كان المبدل قائما في يده حقيقة لا تجب الزكاة فيه ، فكذا في بدله ، بخلاف بدل مال التجارة .
وأما الكلام في إخراج زكاة قدر المقبوض من الدين الذي تجب فيه الزكاة على نحو الكلام في المال العين إذا كان زائدا على قدر النصاب وحال عليه الحول : فعند أبي حنيفة لا شيء في الزيادة هناك ما لم يكن
أربعين درهما فهاهنا أيضا لا يخرج شيئا من زكاة المقبوض ما لم يبلغ المقبوض أربعين درهما ، فيخرج من كل أربعين درهما يقبضها درهما ، وعندهما يخرج قدر ما قبض قل المقبوض أو كثر ، كما في المال العين إذا كان زائدا على النصاب ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .
وذكر الكرخي أن هذا إذا لم يكن له مال سوى الدين ، فأما إذا كان له مال سوى الدين فما قبض منه فهو بمنزلة المستفاد ، فيضم إلى ما عنده ، والله أعلم (1) .
__________
(1) [بدائع الصنائع] (2\9) .
2 -
النقل عن المالكيةأ- جاء في [المدونة] تحت عنوان : ( زكاة القرض وجميع الدين ) :
(قلت) : أرأيت لو أني أقرضت رجلا مائة دينار وقد وجبت علي زكاتها ولم أخرج زكاتها حتى أقرضتها فمكثت عند الذي أقرضتها إياه سنتين ثم ردها ماذا يجب علي من زكاتها .
(فقال) : زكاة عامين وهي الزكاة التي كانت وجبت عليك وزكاة عام بعد ذلك أيضا ، وهو قول مالك .
(قلت) : أرأيت دينا لي على رجل ، أقرضته مائة دينار فأقام الدين عليه أعواما فاقتضيت منه دينارا واحدا أترى لي أن أزكي هذا الدينار . فقال : لا .
(قلت) : فإن اقتضيت منه عشرين دينارا .
(فقال) : تزكي نصف دينار .
(قلت) : فإن اقتضيت دينارا بعد العشرين دينارا .
(فقال) : تزكي من الدينار ربع عشره .
(قلت) : فإن كان قد أتلف العشرين كلها ثم اقتضى دينارا بعد ما أتلفها .
(فقال) : نعم ، يزكيه وإن كان أتلف العشرين ؛ لأنه لما اقتضى العشرين صار مالا تجب فيه الزكاة فما اقتضى بعد هذا فهو مضاف إلى العشرين ، وإن كانت العشرون قد تلفت .
(قلت) : ولم لا يزكي إذا اقتضى ما دون العشرين .
(فقال) : لأنا لا ندري لعله لا يقتضي غير هذا الدينار ، والزكاة لا تكون في أقل من عشرين دينارا .
(قلت) : أليس يرجع هذا الدينار إليه على ملكه الأول وقد حال عليه الحول فلم لا يزكيه .
(فقال) : لأن الرجل لو كانت عنده مائة دينار فمضى لها حول لم يفرط في زكاتها حتى ضاعت كلها إلا تسعة عشر دينارا لم يكن عليه فيها زكاة ؛ لأنها قد رجع إلى ما لا زكاة فيه ، فكذلك هذا الدين حين اقتضى منه دينارا ؛ قلنا له : لا زكاة عليك حتى تقبض ما تجب فيه الزكاة ؛ لأنا لا ندري لعلك لا تقتضي غيره فتزكي عن مال لا تجب فيه الزكاة ، وإن اقتضى ما تجب فيه الزكاة زكاه ثم يزكي ما اقتضى من الدين من قليل أو كثير .
(قلت) : أرأيت إن كانت عنده عشرون دينارا أو له مائة دينار دين على الناس أيزكي العشرين إن كان الدين قد حال عليه الحول ولم يحل على العشرين الحول ؟ فقال : لا .
(قلت) : فإن اقتضى من الدين أقل من عشرين دينارا أيزكيه مكانه ؟
قال : لا .
(قلت) : لم ؟
(قال) : لأن العشرين التي عنده ليست من الدين وهي فائدة لم يحل عليها الحول .
(قلت) : فإن حال الحول على العشرين التي عنده وقد كان اقتضى من الدين أقل من عشرين دينارا .
(فقال) : يزكي العشرين الدينار الآن وما اقتضى من الدين جميعا .
(قلت) : فإن كان عنده العشرون ولم يقتض من الدين شيئا حتى حال الحول على العشرين ثم اقتضى من الدين دينارا واحدا أيزكي الدينار الذي اقتضى ؟ فقال : نعم .
(قلت) : فإن تلفت العشرون بعد الحول فاقتضى بعدها دينارا أيزكيه ؟
قال : نعم .
(قلت) : وما الفرق بين ما اقتضى من الدين وبين الفائدة ، جعلت ما اقتضى من الدين تجب فيه الزكاة يزكي كل ما اقتضى بعد ذلك ، وإن كان الذي اقتضى أولا قد تلف ، وجعلته في الفائدة إن تلفت قبل أن يحول عليها الحول ثم اقتضى من الدين شيئا لم يزكه إلا أن يكون قد اقتضى من الدين ما تجب فيه الزكاة .
(فقال) : لأن الفائدة ليست من الدين إنما تحسب الفائدة عليه من يوم ملكها وما اقتضى من الدين يحسب عليه من يوم ملكه ، وقد كان ملكه لهذا الدين قبل سنة فهذا فرق ما بينهما .
(قلت) : وهذا قول مالك ؟ قال : نعم .
(قال) ابن القاسم : ولو أن رجلا كانت له مائة دينار فأقامت في يديه ستة أشهر ثم أخذ منها خمسين دينارا فابتاع بها سلعة فباعها بثمن إلى أجل- فإن بقيت الخمسون حتى يحول عليها الحول زكاها ، ثم ما اقتضى بعد ذلك من ثمن تلك السلعة من قليل أو كثير زكاه ، وإن كانت الخمسون قد تلفت قبل أن يحول عليها الحول وتجب فيها الزكاة فلا زكاة عليه فيما اقتضى حتى يبلغ ما اقتضى عشرين دينارا ، فإن بقيت الخمسون في يديه حتى يزكيها ثم أنفقها بعد ذلك فأقام دهرا ثم اقتضى من الدين دينارا فصاعدا فإنه يزكيه ؛ لأن هذا الدينار من أصل مال قد وجبت فيه الزكاة وهي الخمسون التي حال عليها فزكاها فالدين على أصل تلك الخمسين ؟ لأنه حين وجبت الزكاة في الخمسين صار أصل الدين وأصل الخمسين واحدا في وجوب الزكاة ، ويفترقان في أحوالهما ، فإنما مثل ذلك مثل الرجل يبيع السلعة بمائة دينار ولا مال له غيرها فتقيم سنة في يدي المشتري ثم يقتضي منها عشرين دينارا فيخرج منها نصف دينار ثم يستهلكها ثم يقتضي بعد ذلك من ذلك الدين شيئا- فما اقتضى من قليل أو كثير فعليه فيه الزكاة ؛ لأن أصله كان واحدا .
(قال) : وكل مال كان أصله واحدا أقرضت بعضه أو ابتعت ببعضه سلعة فبعتها بدين وتبقي بعض المال عندك وفيما أبقيت ما تجب فيه الزكاة فلم تتلفه حتى زكيته فهو والمال الذي أقرضت أو ابتعت به سلعة فبعت السلعة بدين فهو أصل واحد يعمل فيه كما يعمل فيه لو ابتيع به كله ، فإذا اقتضى مما ابتيع به كله عشرين دينارا وجب فيه نصف دينار وما