كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
وقال الشافعي بعد سياقه لهذين الأثرين ولكلام محمد بن الحسن :
كل من قتل في حرابة أو صحراء أو مصر أو مكابرة أو قتل غيلة على مال أو غيره أو قتل ثائرة - فالقصاص والعفو إلى الأولياء، وليس إلى السلطان من ذلك شيء، إلا الأدب إذا عفا الولي (1) .
وأما المعنى : فقال ابن قدامة : إنه قتيل في غير المحاربة، فكان أمره إلى وليه كسائر القتل (2) .
المذهب الثاني : أنه لا يجوز العفو في قتل الغيلة، وإذا عفا الأولياء قتله السلطان، وممن قال بهذا القول: مالك ومن وافقه على ذلك، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أخذ سماحة مفتي الديار السعودية رحمه الله بهذا القول.
وفيما يلي ذكر طائفة من النقول في ذلك عن بعض أهل العلم نذكر بعدها الأدلة :
قال الشافعي : وقال أهل المدينة : إذا قتله قتل غيلة من غير ثائرة ولا عداوة فإنه يقتل، وليس لولاة المقتول أن يعفوا عنه، وذلك إلى السلطان يقتل فيه القاتل (3)
وقال ابن حجر : وألحقه مالك بالمحارب فإن الأمر فيه إلى السلطان، وليس للأولياء العفو عنه، وهذا على أصله في أن حد المحارب القتل إذا
__________
(1) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب [الأم]، (7\299)
(2) [المغني]، (7\ 649)
(3) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب [الأم] (7\ 299).
رآه الإمام (1)
وقال ابن القاسم : ( قتل الغيلة أيضا من الحرابة، مثل: أن يغتال رجل صبيا فيخدعه حتى يدخله موضعا فيأخذ ما معه، فهو كالحرابة ) (2)
وقال سحنون : ( قلت- أي: لابن القاسم -: أرأيت إن قتل رجل وليا لي قتل غيلة، فصالحته على الدية، أيجوز هذا في قول مالك ؟ قال: لا، إنما ذلك إلى السلطان، ليس لك ها هنا شيء، وترد ما أخذت منه، ويحكم عليه السلطان بحكم المحارب، فيقتله السلطان بضرب عنقه، أو يصلبه إن أحب حيا فيقتله مصلوبا. قلت: وهذا قول مالك . قال: أما في القتل فكذلك قال لي مالك وفي الصلب، وأما في الصلح فإنه لا يجوز، وهو رأي؛ لأن مالكا قال: ليس لولاة الدم فيه قيام بالدم مثل العمد، وإنما ذلك إلى الإمام يرى فيه رأيه، يقتله على ما يرى من أشنع ذلك ) (3) .
وقال أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا النغراوي المالكي على قول ابن أبي زيد : (لا عفو فيه)- قال: لا للأولياء، ولا للسلطان، ولا للمقتول أيضا، ولو بعد إنفاذ مقاتله، ولو كان المقتول كافرا والقاتل حرا مسلما (4) .
وقال الشيخ علي الصعيدي العدوي في [شرح الرسالة] على قوله:
__________
(1) [ فتح الباري ] (12\210)
(2) [تبصرة الحكام في أصول الأقضية والأحكام]، لابن فرحون المالكي بهامش [فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك] لمحمد عليش (2\ 243) طبعة المكتبة التجارية الكبرى، وقد جاء بعد ذلك في ص (247) من [تبصرة الحكام]، ما نصه: ولا يراعى في القتل بالحرابة تكافؤ الدماء، فيقتل المسلم بالذمي، والحر بالعبد؛ لأنه ليس بقتل قصاص وإنما هو حق الله تعالى. اهـ.
(3) [المدونة]، (16\ 230) طبعة مطبعة السعادة بمصر تحت عنوان (ما جاء في رجل قتل رجلا غيلة فصالحه ولي المقتول على ماله)
(4) [كفاية الطالب شرح رسالة ابن أبي زيد]، (2\ 229)
(وقتل الغيلة لا عفو فيه)- قال: لا للمقتول، ولا للأولياء، ولا للسلطان، ظاهر كلامه: ولو كان المقتول كافرا، وهو كذلك في [ المدونة ] (1) .
وقال به أحمد بن جزي (2) وأحمد الدردير (3) ، وأحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي المعروف بزروق (4) ونقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه لا يصح العفو في قتل الغيلة؛ لتعذر الاحتراز كالقتل (5)
__________
(1) [شرح رسالة ابن أبي زيد]، لزروق (2\ 299)
(2) [قوانين الأحكام]، ص (375)
(3) [شرح مختصر خليل] (4\211) ومعه [حاشية الدسوقي].
(4) [شرح مختصر خليل ] (4\ 211) ومعه [حاشية الدسوقي]
(5) [ الفروع ] (5\69).
وقال ابن القيم : قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا، فلا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة، قال أيضا: وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد، اختاره شيخنا وأفتى به (1)
وأما سماحة مفتي الديار السعودية رحمه الله فقد كتب في قضية امرأة قتلت زوجها غيلة خطابا إلى إمارة منطقة الرياض بعدد (365) وتاريخ 21\6\1379هـ جاء فيه ما نصه:
إنه بناء على اعترافها، وكون قتلها للرجل غيلة فإنه يتحتم قتلها، وحيث الحال ما ذكره فإنه لا يلتفت إلى ما أبداه الأولياء ووكيل الأم، بل لا بد من قتلها شرعا؛ لأجل حق الله، ثم ساق كلام شيخ الإسلام وابن القيم السابق.
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى:
__________
(1) [ زاد المعاد] (3\79)
أما الكتاب: فقوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا } (1)
قال ابن القاسم : وقتل الغيلة من الحرابة (2) وهو قول مالك (3) .
وقد أجاب ابن حزم عن ذلك فقال : وجدنا أن الله تعالى قد حد الحرابة: { أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } (4) فلا تخلو هذه الآية أن تكون على الترتيب أو التخيير، فإن كانت على الترتيب فالمالكيون لا يقولون بهذا، وإن كانت على التخيير- وهو قولهم- فليس في الآية ما يدعونه من أن قاتل الحرابة والغيلة لا خيار فيه لولي القتيل، فخرج قولهم: أن يكون له متعلق أو سبب يصح فبطل ما قالوه (5) .
وأما السنة : فمن ذلك ما يلي:
أ- ما أخرجه البخاري ومسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: « لما قدم رهط من عرينة وعكل على النبي صلى الله عليه وسلم اجتووا المدينة، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها ففعلوا، فلما صحوا عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم، واستاقوا الإبل، وحاربوا الله ورسوله، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فأخذوا، فقطع
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) [ تبصرة الحكام ] (2\243)
(3) [المدونة]، (16\230)، و[المنتقى]، (7\117)، و[مواهب الجليل]، (6\233)، و[جامع البيان في تفسير القرآن]، لابن جرير (5، 6\ 210)، و[أحكام القرآن] لابن العربي (1\ 247)، و[تفسير ابن كثيرٍ]، (2\54)
(4) سورة المائدة الآية 33
(5) [ المحلي ] (10\520)
أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم وألقاهم في الشمس حتى ماتوا » (1) .
قال ابن القيم : وهذا الحديث- أيضا- يدل على أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا، فلا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة (2) .
وقد أجاب ابن حزم عن الاستدلال بهذا الحديث بعد جوابه عن حديث اليهودي الذي رض رأس الجارية بين حجرين- فقال: وأما حديث العرنيين فلا حجة لهم فيه أيضا لما ذكرنا في هذا الخبر، سواء بسواء، من أنه ليس فيه أنه عليه الصلاة والسلام لم يشاور أولياء الرعاة إن كان لهم أولياء، ولا أنه قال لا خيار في هذا لولي المقتول، فإذا ليس فيه شيء من هذا، فلا حجة لهم ولا لنا بهذا الخبر في هذه المسألة خاصة، فوجب علينا طلب حكمها بموضع آخر.
ثم هذا الخبر حجة عليهم؛ لما روينا من طريق مسلم، نا يحيى بن يحيى التميمي، نا هشيم عن عبد العزيز بن صهيب وحميد، عن أنس : أن أناسا من عرينة قدموا، وذكر الحديث، وفيه: أنهم قتلوا الرعاة وارتدوا عن الإسلام- وساقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبعث في آثارهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا.
قال أبو محمد : فهؤلاء ارتدوا عن الإسلام، والمالكيون هم على خلاف هذا الحكم من وجوه ثلاثة:
أحدها : أنه لا يقتل المرتد عنده، ولا عندنا هذه القتلة أصلا.
والثاني : لا يقتص عندهم من المرتد، وإنما هو عندهم القتل أو الترك إن تاب.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2855),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671),سنن الترمذي الأطعمة (1845),سنن النسائي تحريم الدم (4025),سنن أبو داود الحدود (4364),سنن ابن ماجه الحدود (2578),مسند أحمد بن حنبل (3/186).
(2) [زاد المعاد] (3\79)
والثالث : أنهم يقولون باستتابة المرتد، وليس في هذا الحديث ذكر استتابته البتة، فعاد حجة عليهم، ومخالفا لقولهم في هذه المسألة وغيرها (1) .
وذكر جوابا آخر بقوله: قد يمكن أن يكونوا غرباء لا ولي لهم (2)
ب- ما ثبت في الصحيحين، عن أنس بن مالك : « أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها أو حلي فأخذ واعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين » (3) .
قال ابن القيم في أثناء الكلام على فقه هذا الحديث- قال: وإن قتل الغيلة لا يشترط فيه إذن الولي؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدفعه إلى أوليائها، ولم يقل : إن شئتم فاقتلوه، وإن شئتم فاعفوا عنه، بل قتله حتما.
وأورد رحمه الله اعتراضا، وأجاب عنه، فقال: ومن قال: إنه فعل ذلك لنقض العهد لم يصح، فإن ناقض العهد لا يرض رأسه بالحجارة، بل يقتل بالسيف (4)
وقد يقال : إن هذا الحديث يدل على قتل الرجل بالمرأة قصاصا .
وأجاب عن ذلك الأبي فقال : في الاحتجاج به على ذلك ضعف؛ لأن قتله لها إنما كان غيلة، وقتل الغيلة حرابة (5) .
وقد أجاب ابن حزم أيضا عن الاحتجاج بهذا الحديث فقال: أما حديث اليهودي الذي رضخ رأس الجارية على أوضاحها فليس فيه أن رسول الله
__________
(1) [المحلى] (10\520)
(2) [ المحلى ] (10\521)
(3) صحيح البخاري الخصومات (2282),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672),سنن الترمذي الديات (1394),سنن النسائي القسامة (4779),سنن أبو داود الديات (4529),سنن ابن ماجه الديات (2666),مسند أحمد بن حنبل (3/203),سنن الدارمي الديات (2355).
(4) [ زاد المعاد] (2\200)
(5) [إكمال أكمل المعلم شرح صحيح مسلم ] (4\413, 414)
صلى الله عليه وسلم لم يشاور وليها، ولا أنه شاوره، ولا أنه قال : أختار لولي المقتول في الغيلة أو الحرابة، فإذا لم يقل ذلك عليه الصلاة والسلام فلا يحل لمسلم أن ينسب ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكذب عليه، ويقول عليه ما لم يقل، فكيف وهذا الخبر حجة عليهم، فإنهم لا يختلفون في أن قاتل الغيلة أو الحرابة لا يجوز البتة أن يقتل رضخا في الرأس بالحجارة وحدها، وهذا لا يقوله أحد من الناس، فصح يقينا إذ قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم رضخا بالحجارة أنه إنما قتله قودا بالحجارة، وإذا قتله قودا بها فحكم قتل القود: أن يكون بالخيار في ذلك، أو العفو للولي. وإذ ذلك كذلك بلا شك، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين.. » (1) إلى آخره، فنحن على يقين من أن فرضا على كل أحد أن يضم هذا الحكم إلى هذا الخبر، وليس سكوت الرواة عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وليها يسقط ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتل من تخيير وليه، بل بلا شك في أنه عليه الصلاة والسلام لم يخالف ما أمر به. ولا يخلو هذا مما ذكرنا من قبول الزيادة المروية في سائر النصوص أصلا. ولو كان هذا الفعل تخصيصا أو نسخا؛ لبينه عليه الصلاة والسلام، فبطل تعلقهم به (2) .
وذكر جوابا آخر بقوله: قد يكون للأنصارية ولي صغير لا خيار له فاختار النبي صلى الله عليه وسلم القود. لو صح أنه عليه الصلاة والسلام لم يخير الولي فكيف وهو لا يصح أبدا؟! (3)
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1406),سنن أبو داود الديات (4504).
(2) [ المحلى] (10\520)
(3) [ المحلى ] (10\521)
ج- ما رواه البيهقي بسنده إلى الواقدي، وسنده عند الواقدي : حدثني اليمان بن معن، عن أبي وجزة في ذكر من قتل بأحد من المسلمين ، قال: « مجذر بن زياد قتله الحارث بن سويد غيلة، وكان من قصة مجذر بن زياد أنه قتل سويد بن الصامت في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد بن الصامت، فشهدا بدرا، فجعل الحارث يطلب مجذرا؛ ليقتله بأبيه، فلم يقدر عليه يومئذ ، فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة، أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم خرج إلى حمراء الأسد، فلما رجع أتاه جبريل عليه السلام فأخبره: أن الحارث بن سويد قتل مجذر بن زياد غيلة، وأمره بقتله، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء، فلما رآه دعا عويم بن ساعدة فقال: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بالمجذر بن زياد، فإنه قتله يوم أحد غيلة، فأخذه عويم، فقال الحارث : دعني أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى عليه عويم ، فجابذه يريد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يركب- إلى أن قال : - حتى إذا استوعب كلامه قال: قدمه يا عويم، فاضرب عنقه ، فضرب عنقه » (1) .
وقد اعترض على الاستدلال بهذا الحديث بقول الشافعي : ولو كان حديثه- أي: حديث مجذر هذا- مما يثبت قلنا به، فإن ثبت فهو كما قالوا، ولا أعرفه إلى يومي هذا (2) .
__________
(1) [السنن الكبرى]، (8\57) وقد بسطت القصة في [مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم] للواقدي ص (234- 236)
(2) [ السنن الكبرى] (8\56)
وقول البيهقي : إنما بلغنا قصة مجذر بن زياد من حديث الواقدي منقطعا وهو ضعيف (1) .
وأما الآثار : فمن ذلك ما يلي :
أ- ما روى مالك عن يحيى بن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال عمر : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا (2)
وقد ذكره البخاري من طريق آخر، فقال: قال لي ابن بشار : حدثنا يحيى بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن غلاما قتل غيلة، فقال عمر : لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به (3)
ب- ما رواه ابن حزم قال: وذكروا ما حدثناه أحمد بن عمر، نا الحسين بن يعقوب، نا سعيد بن فلحون، نا يوسف بن يحيى المعافري، نا عبد الملك بن حبيب، عن مطرف، عن ابن أبي ذئب، عن مسلم بن جندب الهذلي : أن عبد الله بن عامر كتب إلى عثمان بن عفان : أن رجلا من المسلمين عدا على دهقان فقتله على ماله، فكتب إليه عثمان أن اقتله به، فإن هذا قتل غيلة على الحرابة.
ج- وبه- أي: بالسند السابق- إلى عبد الملك بن حبيب، عن مطرف، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن : أن رجلا مسلما في زمان أبان بن عثمان
__________
(1) [ السنن الكبرى] (8\57)
(2) [الموطأ]، رواية يحيى بن يحيى الليثي بشرح الباجي (7\ 115)
(3) [صحيح البخاري]، ومعه [فتح الباري]، (12\ 191)، ويرجع أيضا إلى [السنن الكبرى]، للبيهقي (8\41)، و [المصنف]، لعبد الرزاق (9\ 476- 479) .
بن عفان قتل نبطيا بذي حميت على مال معه، فرأيت أبان بن عثمان أمر بالمسلم فقتل بالنبطي؛ لقتله إياه غيلة، فرأيته حتى ضرب عنقه.
د- وعن عبد الملك بن حبيب، عن مطرف بن أبي الزناد، عن أبيه أنه شهد أبان بن عثمان إذ قتل مسلما بنصراني قتله غيلة.
وقد أجاب ابن حزم عن أثر عثمان بقوله : وأما الرواية عن عثمان فضعيفة جدا؛ لأنها عن عبد الملك بن حبيب، وهو ساقط الرواية جدا، ثم عن مسلم بن جندب، ولم يدرك عثمان، وأيضا فلا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكم قصة خالفوا فيها عثمان رضي الله عنه بأصح من هذا السند؛ كقضائه في ثلث الدية فيمن ضرب آخر حتى سلح، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، ومن المحال أن يكون ما لم يصح عنه حجة في إباحة الدماء، ولا يكون ما صح عنه حجة في غير ذلك (1)
وأما المعنى : فإن قتل الغيلة حق لله. وكل حق تعلق به حق الله تعالى فلا عفو فيه، كالزكاة وغيرها (2) ؛ لأنه يتعذر الاحتراز منه، كالقتل مكابرة (3) .
وقد تبين مما تقدم أن أثر الخلاف بين الفريقين: قبول العفو من أولياء الدم بناء على القول بأنه يقتل قصاصا، وعدم قبول العفو بناء على القول بأنه يقتل حدا.
__________
(1) [ المحلى] (10\521)
(2) [شرح الرسالة]، لابن أبي زيد القيرواني لزروق (2\ 229)
(3) [ الفروع] (5\669)
الخلاصة
قتل الغيلة :تطلق الغيلة لغة : على أخذ الشيء من حيث لا يدري، فهي متضمنة معنى الختل والغرة والخداع والخفاء، وهي اسم هيئة من الغول بمعنى: الاغتيال والإهلاك، يقال: غاله يغوله، إذا أخذه من حيث لم يدر، ومن ذلك سمي السيف الدقيق مغولا، لأنه يستتر بقراب حتى لا يدرى ما فيه، وسميت المفازة المتباعدة الأطراف غولا، لأنها تغتال من مر بها، وتطلق لغة أيضا على رضاع الولد المرأة الحامل أو التي جامعها زوجها مثلا.
والقتل غيلة: في اللغة : هو القتل على غرة، أو مع ختل وخداع، يقال: قتله غيلة إذا ختله وخدعه فقتله من حيث لا يعلم.
أما عند الفقهاء : فقد اختلف رأيهم فيه: فمنهم من خصه بالقتل خفية لأخذ المال، ومنهم من قال: هو قتل شخص لأخذ ما معه من مال أو زوجة أو أخت ونحو ذلك، ومنهم من توسع فيه، فقال: إنه القتل على وجه التحيل والخديعة، أو على وجه القصد الذي لا يحتمل معه الخطأ، ويمكن أن يقال: إن هذا الأخير هو مذهب مالك وأصحابه، وما نقل عنهم من التعبير بالقتل على مال محمول على التمثيل لا الحصر، بدليل تعميمهم في كثير من عباراتهم، وتصريح ابن القاسم بجعل القتل على مال مثالا للقتل غيلة (1) ، وإدخالهم القتل على وجه القصد الذي لا يحتمل معه الخطأ في
__________
(1) السطر الأول من ص 25 من [ الإعداد]
قتل الغيلة، كقتل المدلجي ولده؛ ولذا أوجب فيه مالك قتل الوالدين لولدهما؛ لكونه قتل غيلة عندهم وإن لم يكن على مال. وأما من اشترط من المالكية في قتل الغيلة : أن يكون على مال فهو بعض المتأخرين (1) , ومقتضى استدلال ابن تيمية التعميم، حيث علل ذلك بقوله: لتعذر الاحتراز كالقتل مكابرة، فيمكن أن يحمل ما نقل عنه من ذكر المال ونحوه على التمثيل.
وكذا تسمية العلماء ما جاء في أثر عمر من قتل الجماعة للغلام خشية أن يفضحهم قتل غيلة. ولم يكن ذلك على مال ولا لأخذ شيء من الغلام، وقد استدل المالكية بهذا الأثر على مطلوبهم من أن من قتل غيره غيلة يقتل حدا، ولم ينكر من خالفهم أنه غيلة، وإنما تأولوا الأثر بما يتفق مع ما ذهبوا إليه من أن قتلهم كان قصاصا.
هذا ومهما يكن من الاختلاف في ضابط قتل الغيلة فلا أثر له بالنسبة لمن لم يفرق بين أنواع القتل العمد العدوان في إيجابها القصاص دون الحد، وقبول عفو أولياء الدم في ذلك، إنما يظهر أثر الاختلاف في ضابط قتل الغيلة بالنسبة لمن فرق بين جزاء من قتل غيلة ومن قتل عمدا غير غيلة، فقد يكون قتل غيلة تترتب عليه آثاره عند بعضهم ما لا يكون غيلة عند آخرين فلا تترتب عليه آثاره.
__________
(1) ص 17 من [الإعداد]
الخلاف بين الفقهاء فيما يوجبه قتل الغيلة
اختلف الفقهاء فيما يوجبه قتل الغيلة: فقال الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية: إنه يوجب القتل قصاصا كسائر أنواع القتل عمدا عدوانا،وعليه يكون الحق في قتل الجاني لأولياء الدم من ورثة القتيل أو عصبته، فيجب تنفيذه إن اتفقوا على ذلك، ويسقط بعفوهم أو عفو بعضهم، وقال أبو الزناد ومالك وابن تيمية وابن القيم ومن وافقهم: إنه يوجب قتل الجاني حدا لا قودا، فيتولى تنفيذه السلطان أو نائبه، ولا يسقط بعفو أحد، لا السلطان ولا غيره.
استدل من قال: إنه يقتل قصاصا بالكتاب والسنة والإجماع والقياس:
أما الكتاب : فعموم قوله تعالى: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } (1) قالوا: جعل الله سبحانه الحق في الدم لأولياء القتيل من ورثة أو عصبة دون غيرهم، وعمم في ذلك فلم يخص قتلا دون قتل، والأصل بقاء النص على عمومه حتى يرد ما يصلح لتخصيصه.
وأيضا عموم قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } (2)
فحكم تعالى في عموم القتلى بوجوب القصاص إلا ما خصه الدليل، فأوجب فيه الدية أو لم يوجب فيه شيئا، كما عمم تعالى في العفو بقوله: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } (3) فلم يخص به قتلا دون قتل، فوجب تعميمه في كل قتل عمد عدوان، غيلة كان
__________
(1) سورة الإسراء الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 178
(3) سورة البقرة الآية 178
أم غير غيلة.
ونوقش الاستدلال بالآيتين : بأنهما وإن كان ظاهرهما العموم إلا أنه قد ورد ما يصلح لتخصيص عمومهما، وسيأتي مناقشة المخصص عند الاستدلال به للقول الثاني.
ونوقش الاستدلال بالآية الثانية : بأنها نزلت في مقاصة بين قتلى بالفعل في حرب فتنة بين المسلمين، فمن بقي له قتلى بعد المقاصة أخذ ديتهم، وليست في القصاص من جان معين لقتيله، ممن اختار تفسيرها بذلك ابن تيمية رحمه الله.
وأما السنة : فعموم قوله صلى الله عليه وسلم: « من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: إما أن يأخذوا العقل، أو أن يقتلوا » (1) ، فجعل عليه الصلاة والسلام الخيرة لأهل القتيل بين العقل والقصاص في كل قتل، غيلة كان أم غير غيلة.
وأما الإجماع : فما رواه أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل قد قتل عمدا فأمر بقتله بعد عفو بعض الأولياء، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: كانت لهم النفس فلما عفا هذا أحيا النفس، فلا يستطيع أن يأخذ حقه حتى يأخذ غيره، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل الدية عليه في ماله، وترفع حصة الذي عفا، فقال عمر : وأنا أرى ذلك، فأجاز عمر وابن مسعود العفو من أحد الأولياء، ولم يسألا: أقتل غيلة كان ذلك أم غيره، ولم يعرف لهما في ذلك مخالف، فكان إجماعا.
ونوقش : بأنه منقطع، لأن إبراهيم- هو ابن يزيد النخعي ولد سنة 50 هـ،
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1406),سنن أبو داود الديات (4504).
وعمر مات سنة 23 هـ وعليه فما ادعي من الإجماع غير صحيح؛ لأنه سكوتي لا قولي ولا عملي، والسكوتي هنا فرع ثبوت القضية وهي لم تثبت، ويمكن أن يناقش أيضا: بأن عدم الاستفسار بناء على أن الأصل عموم القصاص في كل قتل عمد عدوان.
وأيضا ما روى عبد الرزاق عن سماك بن الفضل : أن عروة كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل خنق صبيا على أوضاح له حتى قتله فوجدوه والحبل في يده، فاعترف بذلك، فكتب: أن ادفعوه لأولياء الصبي، فإن شاءوا قتلوه. ولم يسأل عمر عن صفة القتل أهو غيلة أم لا؟ ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعا.
ونوقش : بأن فيه عنعنة عبد الرزاق بن همام وهو مدلس.
ونوقش الأثران : بأن كلا منهما واقعة عين لا عموم لها، ودعوى ترك السؤال مجرد احتمال لا دليل عليه، إذ ليس في كل من الأثرين ثبوت السؤال ولا نفيه، ومع تساوي الاحتمالين يسقط الاستدلال.
أما القياس : فقالوا فيه: إنه قتل في غير حرابة، فكان كسائر أنواع القتل في إيجاب القصاص وقبول العفو؛ لعدم الفارق.
ونوقش : بوجود الفارق، بأنه من الحرابة أو كالحرابة، ويتبين ذلك مما يأتي في الاستدلال للقول الثاني إن شاء الله.
واستدل من قال : إن قتل الغيلة يقتل فيه الجاني حدا لا قودا فلا يسقط بالعفو من السلطان أو غيره بالكتاب والسنة والإجماع والقياس:
أما الكتاب : فإن قتل الغيلة نوع من الحرابة ، فوجب به القتل حدا لا قودا؛ لقوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا } (1) الآية .
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
ونوقش : بمنع كونه نوعا من الحرابة.
وأما السنة: أ- ما ثبت أن جارية وجدت قد رض رأسها بين حجرين، فسألوها : من صنع هذا بك؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكروا يهوديا، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضوا رأسه بالحجارة.
قالوا : قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل اليهودي، ولم يجعل ذلك إلى أولياء الجارية، ولو كان القتل قصاصا لكان الحق لأوليائها، ولم يضرب عنهم صفحا، فدل ذلك على أنه قتله حدا لا قودا.
ب- ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل العرنيين الذين قتلوا الرعاة قتل حرابة وغيلة، ولم ينقل أنه جعل لأولياء الرعاة الخيار، ولو كان قتله إياهم قصاصا لشاورهم وطلب رأيهم، فدل على أنه قتلهم حدا لا قودا.
وبذلك يتبين أن قتل الغيلة له حكم خاص يختلف عن حكم سائر القتل العمد العدوان.
ونوقش الاستدلال بالحديثين : بأن عدم نقل مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم أولياء الجارية والرعاة لا يدل على عدم المشاورة ولا على ثبوتها، فلا يصح أن يخصص هذان الحديثان أدلة عموم القصاص بالقتل العمد العدوان، ثم إن العرنيين جمعوا بين جريمة القتل والسرقة والتمثيل أو الردة فقتلوا حدا، ولا يلزم منه أن يقتل حدا كل من لم يحصل منه إلا القتل وحده وإن كان غيلة. ثم مراعاة المماثلة في تنفيذ العقوبة دليل على أن قتل اليهودي
بالجارية كان قصاصا.
ج- مما رواه الواقدي قال : حدثني اليمان بن معن، عن أبي وجزة قال: دفن ثلاثة نفر يوم أحد في قبر: النعمان بن مالك، ومجذر بن زياد وعبدة بن الحسحاس، ثم ذكر قصة قتل مجذر بن زياد، وفيها: أن الحارث بن سويد قتل مجذر بن زياد يوم أحد غيلة بأبيه سويد بن الصامت الذي قتله مجذر بن زياد في الجاهلية غدرا، وكان ذلك مما هيج وقعة بعاث، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحارث قتل مجذرا غيلة، وأمره بقتله، فلما جاء الحارث بن سويد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عويم بن ساعدة أن يضرب عنقه بقتله مجذرا غيلة، وبنو مجذر حضور عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستشر أحدا منهم. قال المستدلون بالقصة: دل ذلك على أن القاتل غيلة يقتل حدا لا قودا، ولا عفو فيه لأولياء الدم ولا للسلطان.
ونوقش : بأن الواقدي مختلف فيه، فوثقه جماعة، وضعفه آخرون، بل رماه جماعة بالكذب في الحديث ووضعه، منهم أحمد بن حنبل والنسائي، وأيضا في سنده اليمان بن معن وهو مجهول، وأيضا في سنده انقطاع (1) .
وعلى ذلك لا تقوم به حجة، ولا يصلح لتخصيص عموم أدلة القول الأول.
وأما الآثار : فمنها أولا : ما ثبت أن عمر رضي الله عنه أمر بقتل جماعة اشتركوا في قتل غلام غيلة بصنعاء وقال: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم
__________
(1) يرجع إلى الصحفة ( 31) من [ الإعدد]
به، وفي رواية: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا، فهذا حكم الخليفة الراشد في قتل الغيلة، ولم ينقل أنه استشار أحدا من أولياء الدم، ولو كان لهم حق العفو لرد الأمر إليهم، وطلب رأيهم، ولم ينقل أن أحدا من الصحابة أنكر عليه فكان إجماعا.
ونوقش : بأنه لا يلزم من عدم النقل عدم الاستشارة. ولا عدم وجود من ينكر، فلا يتم الاستدلال بالأثر على إسقاط حق أولياء الدم في العفو، ولا على ثبوت الإجماع. وتأول ابن قدامة قول عمر : لأقدتهم به) على معنى: لأمكنت الولي من استيفاء القود منهم.
ثانيا : ما روي أن عبد الله بن عامر كتب إلى عثمان بن عفان أن رجلا من المسلمين عدا على دهقان فقتله على ماله. فكتب إليه عثمان أن اقتله به، فإن هذا قتل غيلة.
ورد بأن في سنده عبد الملك بن حبيب الأندلسي، وهو ضعيف، وفي سنده أيضا مسلم بن جندب الهذلي، ولم يدرك عثمان، فكان الأثر منقطعا.
ثالثا : ما روي أن رجلا مسلما في زمن أبان بن عثمان أمر بالمسلم فقتل بالنبطي؛ لقتله إياه غيلة، فرأيته حتى ضربت عنقه، ولم ينقل أنه استشار أولياء الدم، ولا أن أحدا أنكر عليه فكان إجماعا.
ورد بأن في سنده عبد الملك بن حبيب، وهو ضعيف، كما أن فيه ما تقدم من مناقشة الاستدلال بأمر عمر .
وأما القياس : فإن القتل غيلة لما كان في الغالب عن ختل وخداع وأخذ على غرة- تعذر التحفظ منه، فكان كالقتل حرابة ومكابرة في أن عقوبة كل
منهما من الحدود لا القود والقصاص. وأيضا في ذلك سد لذريعة الفساد والفوضى في الدماء، والقضاء على الاحتيال والخديعة وسائر طرق الاغتيال، وبذلك يخصص عموم النص في وجوب القتل قصاصا، فيحمل على ما عدا قتل الغيلة.
وهنا إيراد على كلا الفريقين، وهو أن ما ادعاه كل منهما من الإجماع على ما أورده من القضايا في الآثار مردود بأنه مجرد سكوت ممن بلغه ذلك عند المعارضة في حكم صدر من ولي الأمر العام أو نائبه في قضايا أعيان من المسائل الاجتهادية، ومثل ذلك يتعين حمله على الموافقة، فقد يكون من سمع ذلك أو بلغه من العلماء مخالفا فيه، لكنه لم ينكر؛ لما تقرر عند العلماء من أن حكم الحاكم في واقعة عين اجتهادية يرفع الخلاف ويجب إمضاؤه، وعلى هذا لا تصح دعاوى الإجماع فيما تقدم ذكره في الآثار من الأحكام، ولهذا أمثلة كثيرة: منها: قضاء عمر في المشركة أولا بحرمان الأشقاء؛ لاستغراق الفروض كل التركة، وقضاؤه في مثلها ثانيا بتشريك الأشقاء مع الإخوة من الأم في سهمهم، ولم يكن سكوت الصحابة عن حكمه الأول إجماعا؛ وكذا لم يكن سكوتهم عن حكمه الثاني إجماعا، ولذا استمر الخلاف بين العلماء حتى اليوم في حكم هذه المسألة، فمنهم من رأى الصواب في حكمه الأول، ومنهم من رأى الصواب في حكمه الثاني.
ومن ذلك ما ورد في المدونة، في مسألة الغيلة من أن سحنونا قال لابن القاسم : أرأيت من قتل قتل غيلة، ورفع إلى قاض من القضاة فرأى ألا يقتله، وأن يمكن أولياء المقتول منه. ففعل، فعفوا عنه، ثم استقضى غيره
فرفع إليه ، أفترى أن يقتله القاضي الثاني أم لا يقتله؛ لأنه قد حكم به قاض قبله في قول مالك، قال:
(لا أرى أن يقتله؛ لأنه مما اختلف الناس فيه) اهـ (1) .
فهذا ابن القاسم مع كونه يرى أن عقوبة القاتل غيلة من باب الحدود لا القصاص- منع أن يحكم قاض بحد من قتل غيلة بعد أن حكم قبله قاض يخالفه في الرأي بقبول العفو.
فكيف يصح مع ذلك وأمثاله دعوى الإجماع بمجرد السكوت على حكم في قضايا الأعيان؟!
هذا ما تيسر، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) [المدونة]، (16\ 104) تحت عنوان: الذين يسقون السيكران
قرار رقم (38) وتاريخ 11\ 8\ 1395 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة (السادسة) لهيئة كبار العلماء، بأن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الغيلة، وقد أعدته وأدرج في جدول أعمال الهيئة في الدورة السابعة المنعقدة في الطائف من 2\8\ 1395 هـ إلى 11\8\ 1395 هـ.
وقد عرض البحث على الهيئة، وبعد قراءته في المجلس ومناقشة المجلس لكلام أهل العلم في تعريف الغيلة في اللغة وعند الفقهاء، وما ذكر من المذاهب والأدلة والمناقشة في عقوبة القاتل قتل غيلة هل هو القصاص أو الحد؟ وتداول الرأي، وحيث إن أهل العلم ذكروا أن قتل الغيلة ما كان عمدا عدوانا على وجه الحيلة والخداع، أو على وجه يأمن معه المقتول من غائلة القاتل، سواء كان على مال أو لانتهاك عرض، أو خوف فضيحة وإفشاء سرها، أو نحو ذلك، كأن يخدع إنسان شخصا حتى يأمن منه ويأخذه إلى مكان لا يراه فيه أحد، ثم يقتله، وكأن يأخذ مال رجل بالقهر ثم يقتله؛ خوفا من أن يطالبه بما أخذ، وكأن يقتله لأخذ زوجته أو ابنته، وكأن تقتل الزوجة زوجها في مخدعه أو منامه- مثلا- للتخلص منه، أو العكس ونحو ذلك.
لذا قرر المجلس بالإجماع- ما عدا الشيخ صالح بن غصون - أن القاتل قتل غيلة يقتل حدا لا قصاصا، فلا يقبل ولا يصح فيه العفو من أحد.
والأصل في ذلك الكتاب والسنة والأثر والمعنى:
أما الكتاب : فقوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا } (1) الآية .
وقتل الغيلة نوع من الحرابة فوجب قتله حدا لا قودا.
وأما السنة : فما ثبت في [الصحيحين]، عن النبي صلى الله عليه وسلم , أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها أو حلي فأخذ واعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين.
فأمر صلى الله عليه وسلم بقتل اليهودي، ولم يرد الأمر إلى أولياء الجارية، ولو كان القتل قصاصا لرد الأمر إليهم؛ لأنهم أهل الحق، فدل أن قتله حدا لا قودا.
وأما الأثر : فما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا.
فهذا حكم الخليفة الراشد في قتل الغيلة، ولا نعلم نقلا يدل على أنه رد الأمر إلى الأولياء، ولو كان الحق لهم لرد الأمر إليهم على أنه يقتل حدا لا قودا.
وأما المعنى : فإن قتل الغيلة حق لله، وكل حق يتعلق به حق الله تعالى فلا عفو فيه لأحد، كالزكاة وغيرها، ولأنه يتعذر الاحتراز منه كالقتل مكابرة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
وبالله التوفيق , وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وآله وصحبه.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة السابعة
عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن باز
عبد المجيد حسن ... عبد العزيز صالح ... محمد الحركان
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد ... صالح بن غصون
عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... ( له وجهة نظر )
محمد بن جبير ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع
وجهة نظر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه وبعد:
فبناء على إدراج موضوع قتل الغيلة في جدول أعمال الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء، وبعد الاطلاع على البحث المعد من قبل اللجنة الدائمة ومناقشة المجلس للموضوع- أرى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا، وأنه لا يجوز العفو فيه، غير أنه لم يظهر لي أن ما يحدث من قتل بسبب خصومة أو عداوة أو ثائرة- يعتبر قتل غيلة، وقد نص على ذلك غير واحد من علماء المالكية في كتبهم.
كما وإن شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر قتل الغيلة، قال بعده ما نصه: ( بخلاف من يقتل شخصا لغرض خاص مثل خصومة بينهما، فإن هذا حق لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا باتفاق المسلمين ). اهـ. ص: 310- 311 ج 28 من [المجموع].
وله كلام في هذا الموضع ص 316، 317 من المجلد المذكور، جاء في آخره: (واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان- كقتلة عثمان وقاتل علي رضي الله عنهما- هل هم كالمحاربين فيقتلون حدا، أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم؛ على قولين في مذهب أحمد وغيره؛ لأن في قتله فسادا عاما ). اهـ. وهذا واضح أنه رحمه الله لم يعتبر قتل الإمام علي رضي الله عنه غيلة، رغم أنه قتل عمدا على سبيل الخفية، كما هو معلوم.
هذا ما تبين لي. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
صالح بن علي بن غصون
عضو هيئة كبار العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
توحيد الأذان
بالمسجد النبوي
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
توحيد الأذان بالمسجد النبوي
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: فبناء على ما ورد من المقام السامي برقم 4\2\28079 وتاريخ 23\11\1396هـ المبني على اقتراح سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من إحالة موضوع توحيد الأذان بالمسجد النبوي إلى هيئة كبار العلماء, وأنه تقرر إدراجه ضمن جدول أعمال الدورة العاشرة - فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يتضمن ما يأتي:
1 - بيان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين في تعدد المؤذنين في المسجد الواحد للوقت الواحد.
2 - أقوال فقهاء الإسلام في ذلك.
3 - حكمة مشروعية الأذان.
أولا: بيان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين
في تعدد المؤذنين في المسجد الواحد للوقت الواحد
أ - هديه صلى الله عليه وسلم في عدد المؤذنين لغير صلاة الفجر والجمعة :
1 - قال البخاري: باب بدء الأذان وساق بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: « ذكروا النار والناقوس فذكروا اليهود والنصارى , فأمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة » (1) (2) .
2 - قال البخاري في [صحيحه]: باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد , وساق بسنده عن مالك بن الحويرث : « أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي, فأقمنا عنده عشرين ليلة, وكان رحيما رفيقا, فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال: ارجعوا فكونوا فيهم, وعلموهم وصلوا, فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم, وليؤمكم أكبركم » (3) (4) .
قال ابن حجر معلقا على الترجمة: كأنه يشير إلى ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح: أن ابن عمر كان يؤذن للصبح في السفر أذانين, وهذا مصير منه إلى التسوية بين الحضور والسفر.
وظاهر حديث الباب أن الأذان في السفر لا يتكرر؛ لأنه لم يفرق بين الصبح وغيرها, والتعليل في حديث ابن مسعود يؤيده.
وعلى هذا فلا مفهوم لقوله: مؤذن واحد في السفر؛ لأن الحضر أيضا لا يؤذن فيه إلا واحد, ولو احتيج إلى تعددهم لتباعد أقطار البلد أذن كل
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (578),صحيح مسلم الصلاة (378).
(2) [صحيح البخاري] (1\150).
(3) صحيح البخاري الأذان (602),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (674),سنن النسائي الأذان (635),سنن الدارمي الصلاة (1253).
(4) [صحيح البخاري] (154, 155).
واحد في جهة, ولا يؤذنون جميعا (1) انتهى المقصود.
3 - روى البخاري أيضا: عن مالك بن الحويرث قال: « أتى رجلان النبي صلى الله عليه وسلم يريدان السفر, فقال النبي: إذا أنتما خرجتما فأذنا, ثم أقيما, ثم ليؤمكما أكبركما » (2) (3) .
وقد علق ابن حجر على قوله: "فأذنا", قال: قال أبو الحسن بن القصار : أراد به الفضل, وإلا فأذان الواحد يجزئ, وكأنه فهم منه أنه أمرهما أن يؤذنا جميعا كما هو ظاهر اللفظ, فإن أراد أنهما يؤذنان معا فليس ذلك بمراد.
وقد قدمنا النقل عن السلف بخلافه, وإن أراد أن كل واحد منهما يؤذن على حدة ففيه نظر, فإن أذان الواحد يكفي الجماعة.
نعم, يستحب لكل أحد إجابة المؤذن, فالأولى حمل الأمر على أن أحدهما يؤذن والآخر يجيب, وقد تقدم له توجيه في آخر الباب الذي قبله, وأن الحامل على صرفه عن ظاهره قوله فيه: « فليؤذن لكم أحدكم » (4) (5) وللطبراني من طريق حماد بين سلمة عن خالد الحذاء في هذا الحديث: « إذا كنت مع صاحبك فأذن وأقم, وليؤمكم أكبركما » . انتهى المقصود.
4 - روى البخاري في [صحيحه ] بسنده: عن أبي هريرة رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم
__________
(1) [فتح الباري] (2\110).
(2) صحيح البخاري الأذان (604),سنن الترمذي الصلاة (205),سنن أبو داود الصلاة (589).
(3) [صحيح البخاري] (1\ 155).
(4) صحيح البخاري الأذان (602),صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (674),سنن النسائي الأذان (635),مسند أحمد بن حنبل (5/53),سنن الدارمي الصلاة (1253).
(5) [صحيح البخاري] (1\113).
يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا » (1) . الحديث. (2) .
قال ابن حجر : واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد, وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد في مقابلة أكثر من واحد, ولأن الاستهام على الأذان يتوجه من جهة التولية من الإمام؛ لما فيه من المزية, وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا: الترامي بالسهام, وأنه أخرج مخرج المبالغة, واستأنس بحديث لفظه: « لتجالدوا عليه بالسيوف » (3) .
لكن الذي فهمه البخاري منه أولى؛ ولذلك استشهد له بقصة سعد , ويدل عليه رواية لمسلم : « لكانت قرعة » (4) (5) انتهى.
والقصة التي أشار إليها ابن حجر هي ما أشار إليها البخاري في باب: باب الاستهام في الأذان, قال: (ويذكر أن أقواما ما اختلفوا في الأذان, فأقرع بينهم سعد ) (6) .
قال ابن حجر : أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريق أبي عبيد , كلاهما عن هشيم عن عبد الله بن شبرمة قال: تشاح الناس في الأذان بالقادسية , فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص , فأقرع بينهم, وهذا منقطع, وقد وصله سيف بن عمر في [الفتوح], والطبري من طريقه عنه عن عبد الله بن شبرمة عن شقيق - وهو أبو وائل - قال: افتتحنا القادسية صدر النهار فتراجعنا وقد أصيب المؤذن, فذكره, وزاد : فخرجت القرعة
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (590),صحيح مسلم الصلاة (437),سنن الترمذي الصلاة (225),سنن النسائي الأذان (671),سنن أبو داود الأدب (5245),سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (797),مسند أحمد بن حنبل (2/303),موطأ مالك النداء للصلاة (295).
(2) [صحيح البخاري] (1\152).
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/29).
(4) صحيح مسلم الصلاة (439),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (998).
(5) [فتح الباري] (2\97).
(6) [صحيح البخاري] (1\152).
لرجل منهم فأذن (1) . انتهى.
__________
(1) [فتح الباري] ( 2\ 96 ).
ب-
هديه صلى الله عليه وسلم في عدد المؤذنين للفجر
قال البخاري في [صحيحه ]: باب الأذان قبل الفجر , وساق بسنده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يمنعن أحكم - أو أحدا منكم - أذان بلال من سحوره, فإنه يؤذن - أو ينادي - بليل: ليرجع قائمكم, ولينبه نائمكم, وليس أن يقول الفجر أو الصبح , وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا. وقال زهير بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى, ثم مدهما عن يمينه وشماله » (1) (2) .وساق بسنده أيضا عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن بلالا يؤذن بليل, فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم » (3) (4) .
وقال ابن حجر : ( قال القاسم : لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا, وفي هذا تقيد لما أطلقه في الروايات الأخرى من قوله: « إن بلالا يؤذن بليل » (5) ولا يقال: إنه مرسل؛ لأن القاسم تابعي, فلم يدرك القصة المذكورة؛ لأنه ثبت عند النسائي من رواية حفص بن غياث , وعند الطحاوي من رواية يحيى القطان كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة فذكر الحديث قالت: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا , وعلى هذا: فمعنى قوله في رواية البخاري : قال القاسم : أي في روايته عن عائشة , وقد وقع عند مسلم في رواية ابن نمير عن عبيد الله بن
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (596),صحيح مسلم الصيام (1093),سنن النسائي الصيام (2170).
(2) [صحيح البخاري] (1\ 153).
(3) صحيح البخاري الأذان (597),صحيح مسلم الصيام (1092),سنن الترمذي الصلاة (203),سنن النسائي الأذان (638),مسند أحمد بن حنبل (2/57),موطأ مالك النداء للصلاة (164),سنن الدارمي الصلاة (1190).
(4) [صحيح البخاري ] ( 1\ 153, 154 ).
(5) صحيح البخاري الأذان (597),صحيح مسلم الصيام (1092),سنن الترمذي الصلاة (203),سنن النسائي الأذان (638),مسند أحمد بن حنبل (2/57),موطأ مالك النداء للصلاة (164),سنن الدارمي الصلاة (1190).
عمر عن نافع بن عمر مثل هذه الزيادة, وفيها نظر أوضحته في كتاب المدرج, وثبتت الزيادة أيضا في حديث أنيسة الذي تقدمت الإشارة إليه ) (1) . انتهى المقصود.
__________
(1) [فتح الباري] (2\105).
ج-
هديه صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين في عدد المؤذنين للجمعة
1 - قال البخاري في [صحيحه]: باب الأذان يوم الجمعة , وساق بسنده عن السائب بن يزيد قال: « كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان عثمان رضي الله عنه - وكثر الناس - زاد النداء الثالث على الزوراء » .وقال ابن حجر على قوله: « كان النداء يوم الجمعة » (1) : (في رواية أبي عامر عن ابن أبي ذئب عند ابن خزيمة : كان ابتداء النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة, وله في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب : « كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة, » (2) قال ابن خزيمة : قوله (أذانين) يريد: الأذان, والإقامة, يعني: تغليبا, أو لاشتراكهما في الإعلام) .
وقال أيضا على قوله: « إذا جلس الإمام على المنبر » (3) : (في رواية أبي عامر المذكورة : « إذا خرج الإمام, وإذا أقيمت الصلاة » (4) , وكذا للبيهقي من طريق ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب . وكذا في رواية الماجشون الآتية عن الزهري , ولفظه: « وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام » (5) , يعني: على المنبر, وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن الماجشون بدون
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (870).
(2) صحيح البخاري الجمعة (874),سنن الترمذي الجمعة (516),سنن النسائي الجمعة (1392),سنن أبو داود الصلاة (1087),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1135),مسند أحمد بن حنبل (3/450).
(3) صحيح البخاري الجمعة (870),سنن النسائي الجمعة (1392),سنن أبو داود الصلاة (1087),مسند أحمد بن حنبل (3/449).
(4) سنن الترمذي الجمعة (516).
(5) صحيح البخاري الجمعة (871),سنن النسائي الجمعة (1393).
قوله: يعني, وللنسائي من رواية سليمان التيمي عن الزهري : « كان بلال يؤذن إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر, فإذا نزل أقام » (1) .
وقال أيضا على قوله : (وكثر الناس) أي: بالمدينة , وصرح به في رواية الماجشون , وظاهره: أن عثمان أمر بذلك في ابتداء خلافته, لكن في رواية أبي ضمرة عن يونس عند أبي نعيم في المستخرج أن ذلك كان بعد مضي مدة من خلافته. (2) .
وقال أيضا على قوله: « زاد النداء الثالث » (3) : (في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب : فأمر عثمان بالأذان الأول, ونحوه للشافعي من هذا الوجه, ولا منافاة بينهما؛ لأنه باعتبار كونه مزيدا يسمى: ثالثا, وباعتبار كونه جعل مقدما على الأذان والإقامة يسمى: أولا, ولفظ رواية عقيل الآتية بعد بابين: أن التأذين بالثاني أمر به عثمان , وتسميته ثانيا أيضا: متوجه بالنظر إلى الأذان الحقيقي لا الإقامة. (4) .
وقال أيضا على قوله: (على الزوراء ): (بفتح الزاي وسكون الواو وبعدها راء ممدوة, وقوله: قال أبو عبد الله هو المصنف, في رواية أبي ذر وحده, وما فسر به الزوراء هو المعتمد, وجزم ابن بطال بأنه حجر كبير عند باب المسجد, وفيه نظر؛ لما في رواية ابن إسحاق عن الزهري عند ابن خزيمة وابن ماجه بلفظ: زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها: الزوراء , وفي روايته عند الطبراني : فأمر بالنداء الأول على دار له يقال لها:
__________
(1) سنن النسائي الجمعة (1394).
(2) [فتح الباري] (2\393, 394).
(3) صحيح البخاري الجمعة (870),سنن الترمذي الجمعة (516).
(4) [فتح الباري] (2\394).
الزوراء , فكان يؤذن له عليها فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الأول, فإذا نزل أقام الصلاة, وفي رواية من هذا الوجه: فأذن بالزوراء قبل خروجه؛ ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت, ونحوه في مرسل مكحول المتقدم (1) .
وفي [صحيح مسلم ] من حديث أنس « أن نبي الله وأصحابه كانوا بالزوراء , قال: والزوراء بالمدينة عند السوق » (2) الحديث: زاد أبو عامر عن ابن أبي ذئب : « فثبت ذلك حتى الساعة » , وسيأتي نحوه قريبا من رواية يونس بلفظ: « فثبت الأمر كذلك » , والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك؛ لكونه خليفة مطاع الأمر, لكن ذكر الفاكهاني : أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج , وبالبصرة زياد , وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة.
وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة, فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار, ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم , وكل ما لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم يسمى: بدعة, لكن منها ما يكون حسنا ومنها ما يكون بخلاف ذلك.
وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات, فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب, وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله ) (3) .
__________
(1) [فتح الباري] (3\394).
(2) صحيح مسلم الفضائل (2279).
(3) [فتح الباري] (2\394).
وقال الحافظ ابن حجر أيضا: تنبيهان:
الأول : ورد ما يخالف هذا الخبر أن عمر هو الذي زاد الأذان, ففي تفسير جويبر عن الضحاك من زيادة الراوي عن برد بن سنان عن مكحول عن معاذ : أن عمر أمر مؤذنين أن يؤذنا للناس الجمعة خارجا من المسجد حتى يسمع الناس, وأمر أن يؤذن بين يديه, كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر, ثم قال عمر: نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين. انتهى.
وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ , ولا يثبت ؛ لأن معاذا كان خرج من المدينة إلى الشام في أول ما غزوا الشام؛ واستمر إلى أن مات بالشام في طاعون عمواس , وقد تواردت الروايات أن عثمان هو الذي زاده فهو المعتمد, ثم وجدت لهذا الأثر ما يقويه , فقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى : أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان , فقال عطاء : كلا, إنما كان يدعو الناس دعاء, ولا يؤذن غير أذان واحد. انتهى. وعطاء لم يدرك عثمان , فرواية من أثبت ذلك عنه مقدمة على إنكاره.
ويمكن الجمع بأن الذي ذكره عطاء هو الذي كان في زمن عمر , واستمر على عهد عثمان ثم رأى أن يجعله أذانا, وأن يكون على مكان عال, ففعل ذلك, فنسب إليه؛ لكونه بألفاظ الأذان, وترك ما كان فعله عمر؛ لكونه مجرد إعلام.
الثاني: تواردت الشراح على أن معنى قوله: (الأذان الثالث) أن الأولين: الأذان والإقامة , لكن نقل الداودي : أن الأذان أولا كان في سفل المسجد, فلما كان عثمان جعل من يؤذن على الزوراء , فلما كان هشام -
يعني: ابن عبد الملك - جعل من يؤذن بين يديه, فصاروا ثلاثة, فسمي فعل عثمان ثالثا لذلك. انتهى
وهذا الذي ذكره يغني ذكره عن تكلف رده, فليس له فيما قاله سلف, ثم هو خلاف الظاهر, فتسمية ما أمر به عثمان ثالثا يستدعي سبق اثنين قبله. وهشام إنما كان بعد عثمان بثمانين سنة (1) . انتهى . وقال ابن حجر أيضا في أثناء سرد الفوائد المستنبطة من الحديث قال: وعلى ترك تأذين اثنين معا . انتهى (2) .
2 - قال البخاري: باب المؤذن الواحد يوم الجمعة , وساق بسنده عن السائب بن يزيد , « أن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان رضي الله عنه - حين كثر أهل المدينة - ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد, وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام, يعني على المنبر » (3) (4) .
وقال ابن حجر : ( وهو ظاهر في إرادة نفي تأذين اثنين معا والمراد: أن الذي كان يؤذن هو الذي كان يقيم. قال الإسماعيلي : لعل قوله: "مؤذن" يريد به التأذين, فعبر عنه بلفظ: المؤذن لدلالته عليه, انتهى.
وما أدري ما الحامل له على هذا التأويل , فإن المؤذن الراتب هو بلال , وأما أبو محذورة وسعد القرظ فكان كل منهما بمسجده الذي رتب فيه, وأما ابن أم مكتوم فلم يرد أنه كان يؤذن إلا في الصبح, كما تقدم في الأذان, فلعل الإسماعيلي استشعر إيراد هؤلاء فقال ما قال, ويمكن أن يكون
__________
(1) [فتح الباري] (2\394, 395).
(2) [فتح الباري] (2\335).
(3) صحيح البخاري الجمعة (871).
(4) [صحيح الباري] (1\219).
المراد بقوله: مؤذن واحد, أي في الجمعة فلا ترد الصبح مثلا, وعرف بهذا الرد على ما ذكر ابن حبيب « أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رقي المنبر وجلس أذن المؤذنون وكانوا ثلاثة, واحدا بعد واحد, فإذا فرغ الثالث قام فخطب » , فإنه دعوى تحتاج لدليل, ولم يرد ذلك صريحا من طريق متصلة يثبت مثلها, ثم وجدته في مختصر البويطي عن الشافعي (1) . انتهى كلام ابن حجر .
3 - قال البخاري في باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت : « فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله . . . . » (2) (3) إلخ .
ولم يعلق الحافظ رحمه الله هنا على قوله: « وسكت المؤذنون » شيئا, ولم يذكر مسلم في روايته لهذا الحديث - أي: حديث الرجم - قوله: « وسكت المؤذنون » , لكن الحافظ ذكر ذلك في [الدراية] بلفظ الإفراد, وهكذا الزيلعي في [نصب الراية] كما يأتي.
4 - قال الزيلعي تعليقا على قول [صاحب الهداية]: « فإذا صعد الإمام المنبر جلس, وأذن المؤذن » (4) بين يدي المنبر, بذلك جرى التوارث, ولم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الأذان.
قلت: أخرجه الجماعة - إلا مسلما - عن السائب بن يزيد قال: « كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر , فلما كان زمن عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على
__________
(1) [فتح الباري] (2\395, 396).
(2) صحيح البخاري الحدود (6442).
(3) [صحيح البخاري] جزء من حديث طويل (8\26).
(4) وفي نسخة: المؤذنون.
الزوراء » (1) . انتهى.
وفي رواية للبخاري : « النداء الثاني » , وزاد ابن ماجه : « على دار في السوق يقال لها: الزوراء » (2) . وفي لفظ للبخاري : « إن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان حين كثر أهل المدينة , ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد, وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر » (3) . انتهى.
وروى إسحاق بن راهويه في [مسنده ] بلفظ: « كان النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأبي بكر وعمر وعامة خلافة عثمان , فلما كثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء » (4) . انتهى.
وقال النووي : إنما جعل ثالثا؛ لأن الإقامة تسمى: أذانا, كما جاء في الصحيح: بين كل أذانين صلاة (5) . انتهى.
وأخرج البخاري في [صحيحه] في باب رجم الحبلى , عن ابن عباس قال: « جلس عمر يوم الجمعة على المنبر, فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله تعالى » (6) , وذكر الحديث (7) انتهى.
5 - وجاء في [الدراية]: وللبخاري عن ابن عباس : « جلس عمر يوم الجمعة على المنبر فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله » (8) , فذكر الحديث.
6 - وجاء فيها أيضا: وروى إسحاق بإسناد جيد عن السائب بن يزيد :
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (870).
(2) صحيح البخاري الجمعة (874),سنن الترمذي الجمعة (516),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1135).
(3) صحيح البخاري الجمعة (871).
(4) صحيح البخاري الجمعة (870),سنن الترمذي الجمعة (516),سنن أبو داود الصلاة (1087).
(5) [نصب الراية] (2\204, 205).
(6) مسند أحمد بن حنبل (1/56).
(7) [صحيح البخاري] جزء من حديث طويل (8\ 26).
(8) مسند أحمد بن حنبل (1/56).
« كنا نصلي في زمن عمر يوم الجمعة فإذا جلس على المنبر قطعنا الصلاة, إذا سكت المؤذن خطب ولم يتكلم أحد » . انتهى المقصود (1) .
7 - وجاء فيها أيضا: ولأبي داود في المراسيل عن ابن شهاب : « بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبدأ فيجلس على المنبر, فإذا سكت المؤذن قام فخطب » (2) .
__________
(1) [الدراية] (1\217).
(2) [الدراية] (1\215).
ثانيا: نقول عن فقهاء الإسلام في تعدد المؤذنين في المسجد الواحد
للوقت الواحد
اكتفينا بذكر نقول عن الفقهاء في ذلك:
1 - قال ابن عابدين : ذكر السيوطي أن أول من أحدث أذان اثنين معا بنو أمية . اهـ. قال الرملي في حاشية البحر: ولم أر نصا صريحا في جماعة الأذان المسمى في ديارنا بأذان الجوق, هل هو بدعة حسنة أو سيئة؟ , وذكره الشافعية بين يدي الخطيب, واختلفوا في استحبابه وكراهته.
وأما الأذان الأول فقد صرح في النهاية بأنه المتوارث, حيث قال في شرح قوله: " وإذا أذن المؤذنون الأذان الأول ترك الناس البيع " ذكر المؤذنين بلفظ الجمع؛ إخراجا للكلام مخرج العادة, فإن المتوارث فيه اجتماعهم لتبلغ أصواتهم إلى أطراف المصر الجامع. اهـ. ففيه دليل على أنه غير مكروه؛ لأن المتوارث لا يكون مكروها, وكذلك نقول في الأذان بين يدي الخطيب, فيكون بدعة حسنة إذ ما رآه المؤمنون حسنا فهو حسن. اهـ.
ملخصا.
أقول: وقد ذكر سيدي عبد الغني المسألة كذلك أخذا من كلام النهاية المذكور, ثم قال: ولا خصوصية للجمعة, إذ الفروض الخمسة تحتاج للإعلام (1) . انتهى.
2 - قال الباجي : وقال ابن حبيب : « كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد رقى المنبر فجلس فأذن المؤذنون على المنار واحدا بعد واحد, فخطب, قال: ثم أمر عثمان لما كثر الناس أن يؤذن عند الزوال بالزوراء , وهو موضع السوق؛ ليرتفع منها الناس, فإذا خرج وجلس على المنبر أذن المؤذنون على المنار , ثم إن هشام بن عبد الملك في إمارته نقل الأذان الذي في الزوراء فجعله مؤذنا واحدا يؤذن عند الزوال على المنار , فإذا خرج هشام وجلس على المنبر أذن المؤذنون بين يديه, فإذا فرغوا خطب, قال ابن حبيب : وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع » (2) . انتهى.
3 - قال ابن حجر نقلا عن الشافعي : (وقال الشافعي في [الأم]: وأحب أن يؤذن مؤذن بعد مؤذن, ولا يؤذن جماعة معا, وإن كان المسجد كبيرا, فلا بأس أن يؤذن في كل جهة منه مؤذن يسمع من يليه في وقت واحد) (3) . انتهى.
4 - قال النووي : إذا كان للمسجد مؤذنان فأكثر أذنوا واحدا بعد واحد, كما صح عن بلال وابن أم مكتوم , ولأنه أبلغ في الإعلام, فإن تنازعوا في
__________
(1) [حاشية ابن عابدين] (1\390) ط دار الفكر.
(2) [المننتقى] (1\134).
(3) # [فتح الباري] (2\210).
الابتداء أقرع, فإن ضاق الوقت والمسجد كبير أذنوا في أقطاره كل واحد في قطر؛ ليسمع أهل تلك الناحية, وإن كان صغيرا أذنوا معا إذا لم يؤد إلى تهويش.
قال صاحب [الحاوي] وغيره: ويقفون جميعا عليه كلمة كلمة, فإن أدى على تهويش أذن واحد فقط, فإن تنازعوا أقرع, قال الشيخ أبو حامد والقاضي حسين وغيره: فإن أذنوا جميعا واختلفت أصواتهم لم يجز؛ لأن فيه تهويشا على الناس, ومتى أذن واحد بعد واحد لم يتأخر بعضهم عن بعض؛ لئلا يذهب أول الوقت, ولئلا يظن من سمع الأخير أن هذا أول الوقت. قال الشافعي في [الأم] : ولا أحب للإمام إذا أذن المؤذن الأول أن يبطئ بالصلاة ليفرغ من بعده, بل يخرج ويقطع من بعده الأذان بخروج الإمام) (1) . انتهى.
5 - قال أحمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقي الشهير بابن النحاس : ومنها: - أي: من البدع - ما اعتاده المؤذنون اليوم من الأذان جماعة على نسق واحد, وقد قال الغزالي : إن ذلك منكر مكروه يجب تغييره. انتهى.
وقال ابن الحجاج : لم يعرف عن أحد جوازه. انتهى.
قلت: ويحتمل أن يقال: إذا دعت إلى ذلك ضرورة, مثل: أن يكثر الناس, أو يستمع العمران ولا يبلغهم صوت واحد, وإن اجتمعت الأصوات وقطعت جرم الهواء أسرع وأبعد - فلا بأس, وكذلك إذا كثر الناس يوم الجمعة والعيد ولا يبلغ آخرهم أذان الواحد - فلا بأس
__________
(1) [المجموع شرح المهذب] (.3\131, 132).
بالاجتماع, بشرط أن لا يخل اجتماعهم باللفظ المشروع ) (1) انتهى.
وفي كتاب [السنن والمبتدعات]: ( والأذان جماعة على وتيرة واحدة بدعة ) (2) .
6 - قال ابن الحاج : والسنة المتقدمة في الأذان: أن يؤذن واحد بعد واحد, فإن كان المؤذنون جماعة فيؤذنون واحدا بعد واحد في الصلوات الخمس التي أوقاتها ممتدة, فيؤذنون في الظهر من العشرة إلى الخمسة عشر, وفي العصر من الثلاثة إلى الخمسة, وفي العشاء كذلك, والصبح يؤذنون لها على المشهور من سدس الليل الآخر إلى طلوع الفجر, في كل ذلك يؤذن واحد بعد واحد, والمغرب لا يؤذن لها إلا واحد ليس إلا ) (3) . انتهى.
7 - وقال ابن الحاج أيضا: فصل في الأذان جماعة : فإن كثر المؤذنون فزادوا على عدد ما ذكر, وكانوا يبتغون بذلك الثواب, وخافوا أن يفوتهم الوقت, ولم يسعهم الجميع إن أذنوا واحدا بعد واحد, فمن سبق منهم كان أولى, فإن استووا فيه فإنهم يؤذنون الجميع.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: ومن شرط ذلك: أن يكون كل واحد منهم يؤذن لنفسه من غير أن يمشي على صوت غيره, وكذلك الحكم في مذهب الشافعي رحمه الله تعالى.
قال الشيخ الإمام النووي رحمه الله في كتاب [الروضة] له: باب
__________
(1) [تنبيه عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أفعال الهالكين] (ص 41).
(2) [ السنن والمبتدعات ] ص (41).
(3) [المدخل] (2\247).
الأذان. من كلام الرافعي رحمه الله: فإذا ترتب للأذان اثنان فصاعدا, فالمستحب أن لا يتراسلوا, بل إن اتسع الوقت ترتبوا فيه, فإن تنازعوا في الابتداء أقرع بينهم, وإن ضاق الوقت , فإن كان المسجد كبيرا أذنوا متفرقين في أقطاره, وإن كان صغيرا وقفوا معا وأذنوا, وهذا إن لم يؤد اختلاف الأصوات إلى تشويش, فإن أدى إليه لم يؤذن إلا واحد, فإن تنازعوا أقرع بينهم . اهـ.
وأذانهم جماعة على صوت واحد من البدع المكروهة المخالفة لسنة الماضين, والاتباع في الأذان وغيره متعين, وفي الأذان آكد؛ لأنه من أكبر أعلام الدين, ألا ترى « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يغزو قوما أمهل حتى يدخل وقت الصلاة, فإن سمع الأذان تركهم, وإن لم يسمعه أغار عليهم؛ » (1) ولأن في الأذان جماعة جملة مفاسد منها:
الأول: منها مخالفة السنة.
الثاني: من كان منهم صيتا حسن الصوت - وهو المطلوب في الأذان - خفي أمره فلا يسمع.
الثالث: أن الغالب في الجماعة إذا أذنوا على صوت واحد لا يفهم السامع ما يقولون, والمراد بالأذان إنما هو نداء الناس إلى الصلاة فذهبت فائدة معنى قوله : ( حي على الصلاة, حي على الفلاح, الصلاة خير من النوم).
الرابع: أن بعضهم يمشي على صوت بعض, والمراد بالأذان أن يرفع الإنسان به صوته مهما أمكنه, وذلك لا يمكنه في الجماعة كما تقدم.
الخامس: أن الغالب على بعضهم أنه لا يأتي بالأذان كله؛ لأنه لا بد أن
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (585),مسند أحمد بن حنبل (3/206).
يتنفس في أثنائه, فيجد غيره قد سبقه بشيء منه, فيحتاج أن يمشي على صوت من تقدمه, فيترك ما فاته من ذلك ويوافقهم فيما هم فيه.
السادس: أنه قد مضت عادة المؤذن على السنة أنه إذا أراد أن يؤذن عمل الحس؛ من تنحنح, أو كلام ما, من حيث إنه يشعر به أنه يريد أن يؤذن, ثم بعد ذلك يشرع في الأذان, هذا وهو مؤذن واحد فكيف بالجماعة؟!
وما ذاك إلا خيفة أن يؤذن ومن حوله على غفلة, فقد يحصل بسببه لبعضهم رجفة, فإذا كان هذا في حق المؤذن الواحد فما بالك بجماعة يرفعون أصواتهم على بغتة, وقد تكون حامل فتأخذها الرجفة بذلك فتسقط, وترتجف بذلك الأولاد الصغار, وكذلك كل من ليس له عقل ثابت, وتشويشهم كثير قل أن ينحصر.
وقد تقدم أن أول من أحدث الأذان جماعة هشام بن عبد الملك , فجعل المؤذنين الثلاثة الذين كانوا يؤذنون واحدا بعد واحد على المنار في عهد رسول لله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم - يؤذنون بين يديه جميعا إذا صعد الإمام على المنبر. وأخذ الأذان الذي زاده عثمان بن عفان رضي الله عنه لما أن كثر الناس, وكان ذلك مؤذنا واحدا- فجعله على المنار , فهذا الذي أحدثه هشام بن عبد الملك , ولم يزد على الثلاثة الذين كانوا فيمن قبله يؤذنون واحدا بعد واحد شيئا, ثم أحدثوا في هذا الزمان على الثلاثة جمعا كثيرا, كما هو مشاهد. وكذلك زادوا عل المؤذن الواحد على المنار فجعلوهم جماعة, وفعلهم ذلك لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون ذلك منهم ابتغاء الثواب, فالثواب لا يكون إلا بالاتباع لا بالابتداع, وإن كان لأخذ الجامكية, فالجامكية لا تصرف في بدعة, كما
أنه يكره الوقف عليها ابتداء, وبالجملة فكل ما خالف الشرع فمفاسده لا تنحصر في الغالب (1) .
8 - قال ابن قدامة : ( فصل: ولا يستحب الزيادة على مؤذنين؛ لأن الذي حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان له مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم , إلا أن تدعو الحاجة إلى الزيادة عليهما فيجوز, فقد روي عن عثمان رضي الله عنه أنه كان له أربعة مؤذنين, وإن دعت الحاجة إلى أكثر منه كان مشروعا , وإذا كان أكثر من واحد وكان الواحد يسمع الناس, فالمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد؛ لأن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم كان أحدهما يؤذن بعد الآخر.
وإن كان الإعلام لا يحصل بواحد أذنوا على حسب ما يحتاج إليه, أما أن يؤذن كل واحد في منارة أو ناحية, أو دفعة واحدة في موضع واحد. قال أحمد : إن أذن عدة في منارة فلا بأس, وإن خافوا من تأذين واحد بعد الآخر فوات أول الوقت, أذنوا جميعا دفعة واحدة ) (2) .
__________
(1) [المدخل] لابن الحاج (2\247 - 249).
(2) [المغني] (1\ 378).
ثالثا: الحكمة
الحكمة العامة لمشروعية الأذان : الإعلام بدخول الوقت, وأما الحكمة الخاصة في الأذان الأول للفجر: فالإعلام بقرب وقت الفجر, حتى أن المتهجد إذا سمعه أنهى ما بقي من صلاته وارتاح حتى يذهب إلى صلاة الفجر نشيطا, وفيه إيقاظ النائم حتى يتأهب لصلاة الفجر مبكرا.
وأما الحكمة الخاصة للأذان الأول يوم الجمعة فهي: الإعلام بدخول
الوقت لصلاة الجمعة, ففيه تنبيه الغافلين والمشتغلين بمعايشهم.
وأما الحكمة الخاصة للأذان الثاني الذي بين يدي الخطيب فهي: الإعلام بقرب شروع الخطيب في الخطبة؛ لينصت الناس ويتركوا الكلام.
هذا ما تيسر ذكره وبالله التوفيق, وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
قرار رقم (54) وتاريخ 4\4\1397هـ
الحمد لله , والصلاة والسلام على رسوله, وآله وصحبه وبعد:
ففي الدورة العاشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في شهر ربيع الأول عام 1397هـ اطلع المجلس على ما ورد من المقام السامي برقم 4\ ب \ 28079 وتاريخ 23\11\96 هـ بخصوص توحيد الأذان في المسجد النبوي .
وبعد البحث والمناقشة وتداول الرأي قرر المجلس بأكثرية الأصوات أنه يتعين توحيد الأذان في المسجد النبوي , كما هو الحال في المسجد الحرام؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم , ومحافظة على ما كان عليه العمل في عهده صلى الله عليه وسلم , وفي عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من عدم وجود أكثر من مؤذن في آن واحد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولأنه لا يصار إلى التعدد إلا عند الحاجة إلى ذلك كما ذكره أهل العلم, وليس هناك حاجة؛ لوجود مكبر الصوت.
وصلى الله على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة العاشرة
عبد الرزاق عفيفي
عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد الله خياط
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
عبد الله بن قعود ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع
(
وجهة نظر
)تابع قرار رقم (54)
قد جرى في الدورة العاشرة في مجلس هيئة كبار العلماء المعقودة بمقر الهيئة بالرياض برئاسة فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي , جرى بحث توحيد الأذان في المسجد النبوي الشريف . وقد أدلى المجتمعون بآرائهم بعد أن تلي البحث المعد لذلك من إدارة البحوث. والغريب في الأمر أن البحث الذي قدم كله يدل على جواز تعدد الأذان, والبعض يقول بمشروعيته, ومع هذا حصل الاختلاف في الآراء ولكن هكذا الشأن حينما تعرض الآراء في مجلس ما. { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (1)
أما رأينا نحن الموقعين أدناه كل من: محمد العلي الحركان الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي وعضو هيئة كبار العلماء, وعبد الله خياط إمام وخطيب المسجد الحرام وعضو هيئة كبار العلماء, وعبد العزيز بن صالح رئيس محاكم منطقة المدينة المنورة وإمام وخطيب المسجد النبوي الشريف وعضو هيئة كبار العلماء.
رأينا في ذلك هو كما يلي:
1 - معنى الأذان : هو الإعلام بدخول الوقت, وهو مشروع, ويحصل الإعلام منه بقدر الحاجة. وحيث إنه مشروع فإن تعداده في مسجد واحد
__________
(1) سورة النساء الآية 82
أمر غير مؤثر في مشروعيته . ويحصل الإعلام بمؤذن واحد, ولكن لو زاد على مؤذن فأكثر فإنه لم يجد دليل على منعه إطلاقا, وإذا فإن رأينا هو جواز تعداد الأذان في المسجد النبوي الشريف؛ وذلك للأدلة الآتية:
قال النووي في [شرح مسلم ] على حديث عبد الله بن عمر : « كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان » (1) قال: وفي هذا الحديث استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد . . . . . إلى أن قال: (قال أصحابنا: فإذا احتاج إلى أكثر من مؤذنين اتخذ ثلاثة وأربعة فأكثر حسب الحاجة, وقد اتخذ عثمان رضي الله عنه أربعة للحاجة عند كثرة الناس . . إلى أن قال رحمه الله: فإن كان المسجد كبيرا أذنوا متفرقين في أقطاره, وإن كان ضيقا وقفوا معا وأذنوا, وهذا إذا لم يؤد اختلاف الأصوات إلى تهويش (2) .
قال في [فتح الباري] على حديث مالك بن الحويرث : ولو احتيج إلى تعددهم -أي: في الحضر- لتباعد أقطار البلد أذن كل واحد في جهة, ولا يؤذنون جميعا . . . . وقال الشافعي في [الأم]: ( وأحب أن يؤذن مؤذن بعد مؤذن, ولا يؤذن جماعة معا, وإن كان مسجد كبير فلا بأس أن يؤذن في كل جهة منه مؤذن يسمع من يليه في وقت واحد ) (3) . اهـ .
ونص الشافعي في [الأم]. قال: ( فلا بأس أن يؤذن في كل منارة له مؤذن فيسمع من يليه في وقت واحد ) (4) . وقال صاحب [الفتح]: وعن أبي حبيب « أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رقى المنبر وجلس أذن المؤذنون وكانوا ثلاثة واحدا بعد واحد, فإذا
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (380).
(2) [صحيح مسلم بشرح النووي] (4\108).
(3) [فتح الباري] (2\110) حديث رقم (628).
(4) [الأم] (1\72).
فرغ الثالث قام فخطب » , ثم قال: فإنه دعوى تحتاج إلى دليل, ولم يرد ذلك صريحا من طريق متصلة يثبت مثلها ) إلى أن قال: (ثم وجدته في مختصر البويطي عن الشافعي ) (1) . اهـ. وذكر النووي في [المجموع على المهذب] نحو ما ذكره في [شرح مسلم ] وزاد: جواز زيادة المؤذنين إلى ثمانية في المسجد الواحد . . . . . قال صاحب [الحاوي] وغيره: (ويقفون جميعا عليه كلمة كلمة . . إلى أن قال: ( وقال الشافعي في البويطي : النداء يوم الجمعة: هو الذي يكون والإمام على المنبر يكون المؤذنون يستفتحون الأذان فوق المنارة جملة, حينما يجلس الإمام على المنبر ليسمع الناس فيأتون إلى المسجد, فإذا فرغوا خطب الإمام ) (2) . اهـ.
وفي [صحيح البخاري] في باب رجم الحبلى من الزنا : (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « فجلس عمر رضي الله عنه على المنبر يوم الجمعة , فلما سكت المؤذنون قان فأثنى على الله » (3) . . . ) الحديث . والاستدلال منه, قوله: « فلما سكت المؤذنون » (4) (5) .
- وقال الباجي في [شرح الموطأ] على حديث بلال : ( ويدل هذا الحديث على جواز اتخاذ مؤذنين في مسجد يؤذنان لصلاة واحدة, وروى علي بن زياد عن مالك : لا بأس أن يؤذن للقوم في السفر والحرس والمركب ثلاثة مؤذنين وأربعة, ولا بأس أن يتخذ في المسجد أربعة
__________
(1) [فتح الباري] (2\395, 396), رقم الحديث (913).
(2) [المجموع شرح المهذب] للنووي (3\119, 120).
(3) صحيح البخاري الحدود (6442).
(4) صحيح البخاري الحدود (6442).
(5) [فتح الباري] (12\144), رقم الحديث (6830).
مؤذنين وخمسة. قال ابن حبيب : ولا بأس فيما اتسع وقته من الصلوات؛ كالصبح والظهر والعشاء أن يؤذن خمسة إلى عشرة واحد بعد واحد ) (1) . اهـ.
- قال في [المغني]: ( فصل: ولا يستحب الزيادة على مؤذنين) وساق حديث بلال , ثم قال: (إلا أن تدعو الحاجة إلى الزيادة عليهما فيجوز , فقد روي عن عثمان رضي عنه, أنه كان له أربعة مؤذنين, وإن دعت الحاجة إلى أكثر منهم كان مشروعا) . . إلى أن قال: (وإن كان الإعلام لا يحصل بواحد أذنوا على حسب ما يحتاج إليه؛ إما أن يؤذن كل واحد في منارة, أو ناحية, أو دفعة واحدة في موضع واحد. قال أحمد : إن أذن عدة في منارة فلا بأس, وإن خافوا من تأذين واحد بعد الآخر فوات الوقت - أذنوا جميعا دفعة واحدة ) (2) اهـ.
ومن هذه النصوص التي جرى سردها أعلاه يعلم: أن تعدد الأذان في مسجد واحد ورد عن الصحابة منهم - عمر وعثمان - وورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره الشافعي , وقالت به الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة حتى إنه نقل أيضا عن الإمام أحمد , كما أن ابن حزم ذكر ذلك.
والغريب في الأمر أن من ضمن الآراء التي بحثت في المجلس أن تعداد الأذان في المسجد النبوي يثير الاستغراب والتساؤل, ونحن لا ندري هل الذي يثير الاستغراب والتساؤل هو العمل بشيء معمول به منذ عهد
__________
(1) [المنتقى شرح موطأ الإمام مالك] للإمام الباجي (1\141).
(2) [المغني] لابن قدامة (2\89).
الصحابة حتى الآن ولم ينكره أحد, بل عليه الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة . ومضى عليه العمل قرون متعددة في المسجد النبوي الشريف , ولم ينكر على الرغم من توفر العلم في المدينة منذ القدم , وعلماء المدينة هم الذين دائما يحتج بأقوالهم. هل العمل على هذا الوضع هو الذي يثير الاستغراب والتساؤل أم الذي يثير التساؤل والاستغراب هو ترك عمل معمول به ودرج الناس عليه وألفه الناس, وفيه مظهر وروعة لهذه الشعيرة؟! أليس ترك هذا أو العدول إلى رأي آخر بعد العمل به في قرون متعددة, أليس هذا هو الذي يثير التساؤل والاستغراب والتشويش. وليس فعله منكر ولا بدعة؟!
الذي نراه ترك العمل في المسجد النبوي الشريف على ما كان عليه الآن, فالمسجد حساس, وكل عمل يعمل فيه عكس ما كان مألوفا فيه له عوامله الخاصة في الاستثارة والاستغراب, ولا ينبغي فعل شيء من ذلك إلا إذا كان هناك منكر تجب إزالته. أما تعداد الأذان فليس منكرا, ولو كان منكرا -والخير كثير في من مضى- لأنكروه.
هذا هو رأينا, والله الموفق للصواب. 4 \4\ 1397 هـ.
عضو هيئة كبار العلماء ... عضو هيئة كبار العلماء ... عضو هيئة كبار العلماء
عبد العزيز بن صالح ... عبد الله خياط ... محمد العلي الحركان
(2)
التأمينهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
التأمين
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه, وبعد:
فبناء على ما تقرر من إدراج موضوع (التأمين) في جدول أعمال الدورة الرابعة, بناء على المادة (7) من سير أعمال هيئة كبار العلماء - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في التأمين يتضمن أمرين: الأول: تعريفه وبيان أسسه وأنواعه وأركانه وخصائص عقده وأنواع وثائقه وما على ذلك مما يتوقف على معرفته الحكم عليه بالإباحة أو المنع.
الثاني: ذكر اختلاف الباحثين في حكمه, وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة, وبالله التوفيق ومنه نستمد العون.
الأمر الأول: تعريفه وبيان أسسه وأنواعه وأركانه وخصائص عقدة وأنواع وثائقه:
1 - تعريف التأمين في اللغة وفي الاصطلاح :
التأمين: في اللغة: من مادة أمن يأمن أمنا, إذا وثق وركن إليه فهو آمن, وأمنه تأمينا, إذا جعله في الأمن, وفرس أمين القوي, وناقة أمون قوية
مأمون فتورها, واستأمن الحربي استجار وطلب الأمان, وبيت آمن ذو أمن, قال تعالى: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } (1) وفي [المنجد] يقال: أمن على ماله عند فلان تأمينا, أي: جعله في ضمانه .
وأما في الاصطلاح: فقد اختلفت تعاريف التأمين لدى بعض الباحثين: فآثر القانون المصري المدني التعريف التالي للتأمين فجاءت المادة بهذا النص:
التأمين: عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا, أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين في العقد, وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن.
ويرى الأستاذ جمال الحكيم في كتابه [عقود التأمين] من الناحيتين التأمينية والقانونية: أنه بالرغم من أن هذا التعريف كان خلاصة ما انتهت إليه مجموعة لجان إلا أنه لم ينج من نقد علماء القانون, وبالرغم من خبرتهم في إعطاء تعريف دقيق للتأمين إلا أنهم قد انتهوا أخيرا إلى التعريف الذي انتهى إليه وارتضاه الأستاذ هيمار , وهو ما يلي:
التأمين عملية بها يحصل شخص يسمى المؤمن له على تعهد لصالحه أو لصالح غيره بأن يدفع له آخر هو المؤمن عوضا ماليا في حالة تحقق خطر معين, وذلك في نظير مقابل مالي هو القسط. وتنبني هذه
__________
(1) سورة البقرة الآية 126
العملية على تحمل المؤمن تبعة مجموعة من المخاطر بإجراء المقاصة بينها وفقا لقوانين الإحصاء.
ويقول الأستاذ جمال الحكيم : إن هذه التعاريف كلها لا تجمع بين الجانب الفني وجانب علاقة ما بين المؤمن له والمؤمن، وأن التعريف الجامع المانع يكون على النحو التالي:
التأمين: عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال, أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية يؤديها المؤمن له للمؤمن, ويتحمل بمقتضاه المؤمن تبعة مجموعة من المخاطر بإجراء المقاصة بينها وفقا لقوانين الإحصاء.
ويقول الأستاذ مصطفى الزرقاء : في كتابه [عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه]: بأن علماء القانون يفرقون بين نظام التأمين باعتباره فكرة وطريقة ذات أثر اقتصادي واجتماعي ترتكز على نظرية عامة ذات قواعد فنية وبين عقد التأمين باعتباره تصرفا قانونيا ينشئ حقوقا بين طرفين متعاقدين وتطبيقا عمليا لنظام التأمين.
فيمكن تعريف نظام التأمين بأنه: نظام تعاقدي يقوم على أساس المعاوضة غايته التعاون على ترميم أضرار المخاطر الطارئة بواسطة هيئات منظمة تزاول عقوده بصورة فنية قائمة على أسس وقواعد إحصائية. أما عقد التأمين فقد عرفه القانون المدني السوري والقانون المدني المصري بالتعريف الآتي مع تحوير في الصياغة:
عقد بين طرفين أحدهما يسمى: المؤمن، والثاني: المؤمن له، ويلتزم فيه المؤمن بأن يؤدي إلى المؤمن لمصلحته مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع حادث أو تحقق خطر مبين في العقد، وذلك في مقابل قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له إلى المؤمن . ا هـ.
وعلى أي حال فمهما وجد الاختلاف بين العلماء في تعريف التأمين فإن الاتفاق واقع بينهم على العناصر الأساسية لعقد التأمين من وجود الإيجاب والقبول من المؤمن له والمؤمن واتجاه التأمين إلى عين يقع عليها التأمين، وأن يقوم المؤمن له بدفع مبلغ من المال دفعة واحدة أو على أقساط يتم الاتفاق عليها للمؤمن، وأن يقوم المؤمن بضمان ما يقع على العين المؤمن عليها إذا تعرضت لما يتلفها أو جزءا منها.
2 -
النشأة التاريخية لفكرة التأمين
لقد مرت فكرة التأمين منذ عهد قديم بأطوار عدة وأحوال مختلفة، فيرى بعض الباحثين أن فكرة التأمين كانت موجودة ومعمولا بها في القرن العاشر قبل الميلاد، فقد صدر أول نظام يتعلق بالخسارة العامة في رودس عام 916 قبل الميلاد حيث قضى بتوزيع الضرر الناشئ من إلقاء جزء من شحنة السفينة في البحر؛ لتخفيف حمولتها على أصحاب البضائع المشحونة فيها.ويرى فريق آخر من العلماء: أن الإمبراطورية الرومانية كانت أول من ابتدع فكرة التأمين، حيث ألزمت تجار الأسلحة بإرسال أسلحتهم بحرا؛ لتزويد قوات الإمبراطورية بها على أن تقوم الدولة بضمان خسارة
التاجر إذا فقدت أسلحته بسبب الأخطار البحرية أو بفعل العدو.
ويكاد المؤرخون يجمعون على أن التأمين البحري هو أسبق أنواع التأمين ظهورا، حيث كان أول تطبيق عملي له بشكل تجاري كان في القرن الثاني عشر الميلادي؛ حيث جرى على عهد تجار مناطق البحر الأبيض المتوسط ممارسة هذا النوع من التأمين. ويذكر المؤرخ ( فيللاني ) الذي عاش في القرن الرابع عشر من الميلاد: أن التأمين على المنقولات بحرا بقصد التعويض عن الخسارة التي تنتج من ضياعها في البحار- ظهر في لمبارديا سنة 182 م بواسطة جماعة اللومبارد، ثم انتقل بواسطة هذه الجماعة إلى إنجلترا وإلى غيرها من الأقاليم الأوربية، وصدرت الأوامر الحكومية لتنظيم هذا النوع من التأمين، ثم نشأ بعده التأمين ضد الحريق، وقد كان موجودا في إنجلترا قبل القرن السابع عشر الميلادي على شكل نقابات تعاونية، كانت تعطي إعانة لأعضائها في حال احتراق أملاكهم، وفي منتصف القرن السابع عشر أخذ التأمين ضد الحريق طابعا تجاريا صدرت به نظم إدارية تختلف باختلاف أوضاع البلدان.
أما التأمين على الحياة، فيقال: بأن أول وثيقة للتأمين عليها صدرت سنة 1583 م في إنجلترا، ومع ذلك فقد كان وجوده محددا جدا, ولم يتخذ قالبا نظاميا معتبرا إلا في سنة 1774 م، وقد كان للثورة الصناعية وما صاحبها من ظهور طبقة متوسطة أثر كبير في الإقبال على التأمين على الحياة واتساع نطاق انتشاره.
وفي القرن التاسع عشر بعد أن عمت الثورة الصناعية البلدان الأوربية وتبع ذلك تطور الآلة وانتشارها- ظهرت فكرة التأمين ضد الحوادث؛ نظرا
لما كانت تسببه الآلات المتحركة من حوادث القتل، وتعطيل المنافع البدنية، فتأسس في إنجلترا سنة 1848 م أول مكتب للتأمين ضد الحوادث التي يتعرض لها المسافرون بالسكة الحديدية، وكانت بطاقات التأمين تباع مع بطاقات السفر، ثم تطورت الفكرة حتى شملت التأمين ضد الحوادث الشخصية وكافة الأمراض.
وبالتوسع في الأخذ بفكرة التأمين ظهر ما يسمى بـ: التأمين ضد خيانة الأمانة، وبـ: التأمين ضد الضمانات القضائية مما هو خاص بالمسئوليات المالية على الأوصياء الذين يعينون بقرارات قضائية على القصار والأوقاف والمعتوهين ونحوهم، وبالتأمين ضد التضمينات الحكومية من جراء خيانة بعض الموظفين، وبالتأمين ضد حوادث السيارات والطائرات.
أما تأريخ دخول التأمين على البلدان الإسلامية فإن كثيرا من علماء المسلمين ممن كتب في هذا الموضوع يرى أن دخوله على البلاد الإسلامية كان قريبا جدا، بدليل أن فقهاء المسلمين حتى القرن الثالث عشر الهجري لم يبحثوا هذا الموضوع مع أنهم بحثوا كل ما هو محيط بهم في شئون حياتهم العامة من عبادات ومعاملات وأحوال شخصية.
ويقال: بأن أول من كتب فيه من علماء المسلمين هو ابن عابدين، وذلك حينما قوي الاتصال التجاري بين الشرق والغرب بعد النهضة الصناعية، واضطر الوكلاء التجاريون الأجانب المقيمون في البلدان الإسلامية لعقد صفقات الاستيراد - إلى التأمين على نقل البضائع المجلوبة من بلادهم.
3 -
أقسام التأمين
:للتأمين عدة تقسيمات لاعتبارات مختلفة:
أ- فينقسم من حيث شكله إلى قسمين: تأمين تعاوني، أو ما يسمى بـ: (التأمين التبادلي)، وتأمين تجاري، أو ما يسمى بـ: (التأمين بقسط ثابت).
ف
التأمين التعاوني
: يقوم به عدة أشخاص يتعرضون لنوع من المخاطر، وذلك عن طريق اكتتابهم بمبالغ نقدية على سبيل الاشتراك، تخصص هذه المبالغ لأداء التعويض المستحق لمن يصيبه منهم الضرر، فإن لم تف الأقساط المجموعة طولب الأعضاء باشتراك إضافي لتغطية العجز، وإن زادت عما صرف من تعويض كان للأعضاء حق استرداد هذه الزيادة، وكل واحد من أعضاء هذه الجمعية يعتبر مؤمنا ومؤمنا له، وتدار هذه الجمعية بواسطة بعض أعضائها، ويتضح من تصوير هذا النوع من التأمين أنه أشبه بجمعية تعاونية تضامنية لا تهدف إلى الربح، وإنما الغرض منها درء الخسائر التي تلحق بعض الأعضاء بتعاقدهم على توزيعها بينهم على الوضع المذكور.أما
التأمين التجاري
: أو ما يسمى بـ: (التأمين بقسط ثابت) فهو الذي تنصرف إليه كلمة التأمين عند إطلاقها، فالمؤمن له يلتزم بدفع قسط دوري محدد إلى المؤمن -شركة التأمين- في مقابلة تعهد المؤمن بتعويضه عند تحقق الخطر المؤمن منه، ويتميز هذا النوع عن سابقه باستقلال المؤمن عن المؤمن له حيث إن المؤمن هو الذي يستفيد من الربح إذا زادت الأقساط الدورية عن مبالغ التعويض المستحق دفعها للمؤمن لهم. كما أنالمؤمن هو وحده المتضرر بالخسارة في حال نقص الأقساط الدورية عن مبالغ التعويض المستحق دفعها.
فالتأمين التجاري: يكون المؤمن له غير المؤمن الذي ليس له هدف إلا الربح، وبهذا يتضح الفرق بينه وبين سابقه، ذلك أن التأمين التبادلي أو التأمين التعاوني لا يسعى أصحابه إلى الربح، وإنما غايتهم التعاون على تحمل المخاطر، وكل واحد من أعضائه يعتبر مؤمنا له ومؤمنا، أما التأمين التجاري فالتعاون فيه يأتي بطريق غير مباشر وغير مقصود أيضا.
وهناك من الكتاب من يذهب في تحليله عملية التأمين التجاري إلى أن التعاون بين المؤمن له والمؤمن هو الفكرة الأساسية للتأمين، ذلك أن المؤمن لا يعتمد في دفع مبالغ التأمين على رأس ماله، وإنما سنده في ذلك الأقساط الدورية التي يجمعها من المؤمن لهم. فالمؤمن لهم هم في الواقع المؤمنون لأنفسهم، وتتلخص وظيفة المؤمن في تنظيم هذا التعاون، وتوزيع المخاطر على المؤمن لهم.
ب- وينقسم التأمين من حيث موضوعه إلى قسمين:
أحدهما: تجاري، ويشتمل على التأمين البحري والنهري والبري والجوي.
فالتأمين البحري: ويقصد به: التأمين من المخاطر التي تحدث للسفن أو لحمولتها، وهذا النوع يعتبر أقدم أنواع التأمين.
والتأمين النهري: هو التأمين من مخاطر النقل في مياه الأنهار والترع العامة.
والتأمين الجوي: هو التأمين من مخاطر الجو التي تتعرض لها
الطائرات أو حمولاتها.
وأما التأمين البري: فهو التأمين ضد الحوادث العامة فيما عدا حوادث البحر والجو.
القسم الثاني:
تأمين الأضرار والأشخاص
.فتأمين الأضرار يتناول المخاطر التي تؤثر في ذمة المؤمن له؛ لتعويضه عن الخسارة التي تلحقه بسببها، وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما: تأمين من المسئولية: وذلك بضمان المؤمن له ضد الرجوع الذي قد يتعرض له من جانب الغير بسبب ما أصابهم من أضرار يسأل عن التعويض عنها كحوادث السيارات والعمل.
الثاني: التأمين على الأموال: وذلك بتعويض المؤمن له عن الخسارة التي قد تلحقه في ماله من سرقة أو حريق أو موت حيوان أو فيضانات أو آفات زراعية أو غير ذلك من أسباب الأضرار والمخاطر.
أما تأمين الأشخاص: فيتناول أنواع التأمين المتعلقة بشخص المؤمن، وذلك بتعويض المؤمن له أو وارثه عن الضرر الذي أصابه في جسمه سواء كان موتا أو عاهة أو مرضا أو شيخوخة بما يتناسب مع مقدار الإصابة التي حلت به.
ويشمل هذا النوع: التأمين على الحياة والتأمين من الحوادث الجسمية.
أما التأمين على الحياة فله صور متعددة أهمها ما يلي:
أ- التأمين للوفاة: وهو عقد يتعهد المؤمن بمقتضاه بأن يدفع للمؤمن له مبلغا معينا عند وفاة المؤمن عليه، وذلك لقاء أقساط دورية أو دفعة واحدة
تدفع له, وقد يكون الاتفاق على أن يدفع المؤمن المبلغ في أي وقت مات فيه المؤمن عليه. ويسمى هذا النوع بـ: (التأمين العمري).
وقد يكون الاتفاق على أن يدفع المؤمن المبلغ إذا مات المؤمن على حياته خلال مدة يتم الاتفاق على تحديدها، فإن مات المؤمن على حياته بعد انقضاء المدة برئت ذمة المؤمن، ولا حق للمؤمن له في الأقساط التي دفعها للمؤمن لقاء التأمين.
ب- التأمين للبقاء: وهو عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يدفع للمؤمن له مبلغا من المال إذا امتدت حياة المؤمن له إلى تاريخ معين, فإن مات قبل ذلك التاريخ برئت ذمة المؤمن بحيث لا يستحق المؤمن له شيئا من المبلغ، كما أن الأقساط التي دفعها للمؤمن تعتبر من حق المؤمن نفسه وليس للمؤمن له منها شيء.
ج- التأمين المختلط البسيط: وهو من أكثر أنواع التأمين على الحياة انتشارا وشيوعا، وهو: عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه بأداء مبلغ معين في تأريخ معين للمؤمن له نفسه إذا امتدت حياته إلى ذلك التأريخ, فإن مات قبل ذلك التأريخ فيدفع المؤمن المبلغ المتفق على دفعه إلى المستفيد المعين، أو إلى ورثة المؤمن له، وذلك لقاء دفع المؤمن له للمؤمن مجموعة أقساط دورية يتم الاتفاق على تعيينها وتعيين مقدارها، وفي بعض أنواع التأمين المختلط يتعهد المؤمن بأن يدفع مبلغ التأمين المتفق عليه في حال وفاة المؤمن عليه خلال الفترة المحددة، وأن يضاعف هذا المبلغ إذا بقي حيا بعد انتهاء الفترة وهذا ما يسمى بـ: (التأمين المختلط المضاعف).
أما التأمين من الحوادث الجسمية : فهو عقد يتعهد المؤمن بمقتضاه أن
يدفع للمؤمن له مبلغا من المال معينا في حالة إصابته أثناء المدة المتفق على التأمين عليها بحادثة جسمانية أو إلى المستفيد المعين، أو ورثة المؤمن له في حال وفاته، وذلك لقاء دفع المؤمن له للمؤمن أقساطا دورية يتم الاتفاق على تعيينها وتعيين مقدارها.
ج- وينقسم التأمين من حيث العموم والخصوص إلى:
تأمين فردي وتأمين اجتماعي.
فالتأمين الفردي : هو الذي يكون فيه المؤمن له طرفا مباشرا في العقد حيث يتولى نفسه مباشرة العقد ليؤمن على نفسه من خطر معين لمصلحته الشخصية.
أما التأمين الاجتماعي : فيقوم على فكرة التضامن الاجتماعي لتأمين الأفراد الذين يعتمدون في معاشهم على كسب أيديهم من بعض الأخطار التي قد يتعرضون لها، فتعجزهم عن العمل؛ كالمرض والشيخوخة والبطالة والعجز، ويكون في الغالب إجباريا، ويشترك في دفع القسط مع العامل صاحب العمل والدولة، وتتحمل الدولة دائما أكبر نسبة من أجزاء القسط المدفوع إلى المؤمن، وهذا النوع من التأمين يعتبر مظهرا من مظاهر السياسة العامة للدولة فهي التي تخطط برامجه وتحدد نطاقه؛ ضمانا لمصالح الطبقات المختلفة في المجتمع، ورفع مستواها، وقد تكون الدولة الطرف المؤمن، ومن صور هذا النوع التأمينات التقاعدية والاجتماعية والصحية وغيرها من أنواع التأمينات العامة.
4 -
وظائف التأمين
:يكثر الباحثون من القول بأن للتأمين وظيفة أساسية تتلخص في وقاية
الفرد والمجتمع من آثار المخاطر المختلفة، وذلك بتوزيعها في دائرة أوسع نطاقا من دائرة حدوثها، فهو ضمان للفرد يدفعه إلى العمل، ويبعث في نفسه الثقة والاطمئنان، ويقيه من الخوف الذي يساوره في وقوع حوادث قد تؤثر على اتجاهه أو تشل نشاطه، وضمان للمجتمع من أن تتعرض مشاريعه الإنمائية والاجتماعية لأخطار تهز كيانه وتوقف نشاطه.
ويقولون بأنه يمكن أن تتلخص وظائف التأمين فيما يأتي:
أولا: يعتبر أحد عوامل الإنماء الصناعي؛ لما يقدمه من ضمان لأصحاب رؤوس الأموال عما تتعرض له أموالهم من مخاطر عندما يقومون بتوظيفها في مشاريع صناعية.
ثانيا: يعتبر أحد عوامل اتساع نطاق التجارة، حيث إن تأمين التاجر على بضائعه المستوردة يمنحه الثقة والضمان لمخاطر نقلها برا وبحرا وجوا، وبالتالي يعطيه القدرة على توسيع دائرة تجارته فتزداد بذلك الحركة التجارية تصديرا وتوريدا.
ثالثا: كما يعتبر أحد العوامل ذات الأهمية في نشوء البيوت المالية التي لها خدماتها في الميدان الاقتصادي بما تقدمه من قبول الودائع وفتح الاعتمادات وتمويل المشاريع المختلفة، وما إلى ذلك من أعمالها المصرفية، فبتأمينها على أعمالها التجارية تستطيع أن تضاعف من نشاطها، وأن توسع دائرة أعمالها وبالتالي تزداد مراكزها المالية قوة وثباتا.
رابعا: يعتبر أحد العوامل الواقية للمجتمع من عوامل التصدع والانهيار، حيث إن التأمين بتدخله لرفع الخطر عن كاهل صاحب أي مشروع
تجاري أو صناعي ما، فإنما يهيئ له الإقدام على إعادة بناء مشروعه المتضرر، أو بناء مشروع آخر على أنقاض المشروع الأول، وفي هذا حماية للمجتمع من أن تتعرض مشاريعه الإنمائية لهزات عنيفة تؤدي به إلى التدهور والانهيار.
خامسا: يساعد على تكوين رؤوس الأموال، وذلك حينما تتجمع نسبة كبيرة في أيدي شركات التأمين تضطر نتيجة لتكدسها لديها إلى توظيفها في مشاريع تجارية وصناعية وعمرانية، وفي توظيفها في ذلك إتاحة فرصة لتشغيل عدد كبير من الأيدي العاملة، كما أن في ذلك زيادة للنقد المتداول في البلاد.
سادسا: كما يعتبر أحد عوامل الادخار: ذلك أن المؤمن على حياته مثلا يدفع مقابل تأمينه أقساطا ضئيلة تكون مدخرا للمؤمن له لدى صندوق المؤمن؛ حيث تدفع له بعد فترة من الزمن يتم الاتفاق عليها في عقد التأمين، فإن توفي المؤمن له قبل ذلك كان لورثته حق الحصول على مبلغ التأمين.
سابعا: يعتبر أيضا عاملا من العوامل المحققة للضمان الاجتماعي؛ ذلك أن التأمين الاجتماعي يهيئ للفرد ضمانات كثيرة ومتعددة يواجه بها أخطارا قد تصيبه في بيته أو في عمله أو أثناء سفره، وفي ذلك ضمان للفرد من أن يقع عبئا ثقيلا على الدولة، وضمان للمجتمع من أن يتعثر أفراده فتنشل الحركة العامة له ويصاب بالتدهور والانهيار.
وإلى جانب آخر هذه الوظائف التي تنتج من التأمين يرى كثير من
الكتاب أن التأمين لا يخلو من أضرار أهمها: استخفاف المؤمن لهم بالحفاظ على أموالهم وأشخاصهم من التعرض للمصائب، بل قد يتجاوزون ذلك إلى افتعال الحوادث فيؤدي الأمر إلى كثرة الحوادث وتفاقمها، وفي ذلك ضرر بالغ على الأفراد بحكم الاستخفاف بحقوقهم، كاستخفاف السائقين المؤمن لهم على أنفسهم وعلى سياراتهم بقوانين السير وأنظمته، وما ينتج عن ذلك من تعريض أفراد المجتمع للأضرار دهسا وصدما.
كما أن في ذلك ضررا بالغا على المجتمع في تحمل أكبر نسبة ممكنة من التعويض عن الحوادث المفتعلة أو التي لم تبذل الأسباب لتفاديها.
ويجيب على هذا الإيراد الأستاذ بهاء بهيج شكري : في كتابه [ النظرية العامة للتأمين]: بأن هذا التخوف والأضرار مبالغ فيه، وعلى فرض وقوعه فينبغي أن لا يكون محل اعتبار بجانب الفوائد العظيمة التي يجنيها المجتمع من التأمين فضلا عن أن القواعد العامة التي تحكم التأمين قد عالجت هذا الجانب حيث أوجبت على المؤمن له أن يبذل جهده في الأخذ بالأسباب التي تدرأ المصائب، وأن يحرص على المحافظة على أمواله بالدرجة التي يحرص فيها لو كانت غير مؤمن عليها. فإذا ثبت للمؤمن تساهل في الاحتياط على دفع الأضرار كان له حق الدفع بذلك قضائيا؛ ليحكم له بعدم دفعه التعويض المتفق على دفعه.
5 -
أسس التأمين الفني
:يرى كثير من علماء القانون أن التأمين يقوم على فكرة التعاون بين المشتركين فيه، سواء كان على أساس التأمين التبادلي أم على أساس
التأمين بقسط ثابت...- التأمين التجاري - إذ يفترض فيه قيام مجموعة من الأفراد يشتركون لهدف معين هو اتقاء المخاطر المتوقعة عليهم بتقبلهم تحمل ما قد يقع منها موزعا بينهم؛ لإذابة عبء الخطر وتفتيت آثاره على من يكون محلا له منهم، وذلك بقيام كل منهم بدفع مبلغ من المال يتفق مع نسبة الخطر الذي يخشى وقوعه عليه إلى صندوق هيئة التأمين أو شركة من شركات التأمين؛ لتقوم تلك الهيئة أو الشركة بجمع هذه الأموال وتكوين رصيد تغطي منه الأضرار التي تقع على الأفراد المشتركين فيه، وبهذا يكون كل فرد قد ساهم في تخفيف المصاب بتحمله قسطا من التعويض عنه، ويجري تحديد القسط الواجب دفعه إلى صندوق هيئة التأمين لمجموعة اعتبارات. وطبقا لقواعد الإحصاء.
مما تقدم يتضح أن التأمين يستند على الأسس التالية:
أ- قيام تعاون بين مجموعة من الأفراد المهددين بالخطر تحت إشراف هيئة منها أو تحت إدارة شركة من شركات التأمين تقوم بتفتيت ذلك الخطر وتوزيعه بين جميعهم ، ليخفف عبء ثقله على الفرد.
ب- المقاصة بين المخاطر حيث تتولى هيئة التأمين تنظيم عملية توزيع الأخطار بين الأفراد المشتركين فيه بطرق فنية تعتمد على قواعد الإحصاء.
ج- تعتبر قواعد الإحصاء أساسا فنيا لتقدير قسط التأمين ومبلغ التأمين وتوزيع الأخطار بين المشتركين, ذلك أن التأمين يقوم على أساس حساب الاحتمالات -أي معرفة فرص تحقق الخطر- وحساب ذلك أصبح ممكنا بحكم تقدم فن الإحصاء، فقد أثبت الإحصاء أن الاحتمالات والمصادفة تخضعان لقانون الاستكثار الذي مؤداه أن الملاحظة التي تعمل على عدد
كبير من الحالات تؤدي غالبا إلى نتائج واحدة، وأن هذه النتائج تكون دائما متقاربة كلما وردت الملاحظة على عدد كبير جدا من الحالات.
ويشترط لتطبيق قانون الاستكثار شرطان:
أحدهما: أن الإحصاء يجب أن يمتد على نطاق واسع في الزمان والمكان بحيث لا يتجمع وقوع الأخطار في وقت واحد؛ كالزلازل والحروب والاضطرابات.
الثاني: أنه يجب أن تكون الأخطار متناسقة من حيث طبيعتها وقيمتها.
6 -
أركان التأمين
وعناصره
تمهيد: كثيرا ما يختلف علماء الفقه الإسلامي وعلماء القانون عند الكلام على ما يسمى: ركنا للشيء أو شرطا فيه أو عنصرا له؛ لاعتبارات تختلف فيها أنظارهم، ومن هذا ما وقع من الاختلاف بين من كتبوا في التأمين، فمنهم من رأى أن أركانه ثلاثة هي: التراضي بين المؤمن والمؤمن له، ومحل التأمين، والسبب الباعث على التأمين، ومنهم من رأى أن أركانه هي عناصره، وقال بأنها أربعة هي:الخطر، والأقساط، ومبلغ التأمين، -عهدة المؤمن- والمصلحة التأمينية.
ورعاية للجانبين وإتماما للفائدة رأت اللجنة أن تشرح أركانه على كل من الاعتبارين، وبالاطلاع والمقارنة يظهر ما بينهما من التداخل ولكل اصطلاحه ولا مشاحة فيه.
أ- أركان التأمين:
يرى بعض علماء القانون أن عقد التأمين كغيره من العقود اللازمة يعتمد
على أركان ثلاثة هي :
التراضي بين المتعاقدين ، محل العقد ، السبب الذي يقوم عليه العقد . . فالتراضي : اتفاق إرادتين أو أكثر اتفاقا تترتب عليه حقوق معينة بشرط أن تكون الإرادة صادرة ممن هو أهل للإلزام والالتزام ، فلا أثر لإرادة عديم الأهلية كالصغير والمجنون والسفيه والمحجور عليه لحظ غيره فيما إذا كان محل العقد أمواله الواقعة تحت الحجر ، وبشرط أن تكون الإرادة خالية عما يؤثر على صحتها ؛ كعقود الغرر والغبن والغلط وغيرها .
أما محل العقد: فقد اختلف الكتاب في تعيينه: فذهب بعضهم إلى القول بأن محل التأمين هو الخطر المؤمن منه، وذهب البعض الآخر إلى أن محل التأمين يتكون من ثلاثة عناصر هي : الخطر ، وقسط التأمين ، والتعويض .
وذهب فريق ثالث : إلى أن محل التأمين هو المصلحة التأمينية ، وهي المصلحة الاقتصادية التي تربط المؤمن له بالشيء المؤمن عليه.
وقد ذهب إلى هذا الرأي مجموعة من الكتاب ، وبه أخذ القانون المصري حيث نصت المادة ( 749 ) على ما يلي : يكون محلا للتأمين كل مصلحة اقتصادية مشروعة تعود على الشخص من عدم وقوع خطر معين . وهناك رأي رابع يتلخص في أن محل التأمين هو كل شيء مشروع ينتفع المؤمن له بسلامته ويتضرر بضرره ، وقد أخذ بهذا الرأي القانون العراقي .
ويشترط ل محل العقد أن يكون موجودا وقت التعاقد أو ممكن الوجود في المستقبل خلال فترة نفاذ العقد ، وأن يكون معينا وذلك بذكر خصائصه وأوصافه التي يتميز بها عن غيره فيكون بذلك معلوما ، وأن يكون مشروعا
بحيث يمكن التعامل به فلا يجوز التأمين على أموال مسروقة أو مغصوبة أو على بيوت دعارة أو أثاثها ، وأن يكون محل التأمين محلا لاحتمال وقوع الخطر عليه وقت عقد التأمين ، فلا يجوز مثلا التأمين على بضاعة في البحر قد تلفت ، ولا على بضاعة في البحر قد وصلت وأدخلت مخازن أهلها .
أما الركن الثالث من أركان عقد التأمين : فهو السبب الذي يحمل كلا من طرفي عقد التأمين -المؤمن والمؤمن له- إلى إبرام عقد التأمين بينهما والالتزام بالآثار الحقوقية المترتبة عليه . فإذا انتفى السبب الذي يقوم عليه التزام المؤمن له للمؤمن بدفع القسط الدوري لقاء التزام المؤمن بدفع تعويض عن الضرر اللاحق به في محل التأمين بأن لم يكن هناك خطر يخشى منه على الشيء المراد تأمينه ، أو لم يكن لطالب التأمين مصلحة تأمينية في ذلك الشيء بطل عقد التأمين ؛ لانعدام سبب الالتزام ، وبهذا جاء القانون المدني العراقي حيث نصت المادة ( 132 ) منه على ما يأتي : يكون العقد باطلا إذا التزم المتعاقد دون سبب أو لسبب ممنوع قانونا أو مخالف للنظام العام والآداب.
ب-
عناصر عقد التأمين
أو أركانه:يرى بعض علماء القانون: أن عقود التأمين يجب أن تشتمل على أربعة عناصر إذا تخلف أحدها اعتبر التأمين باطلا بطلانا أصليا ، تلك العناصر هي : الخطر والقسط ومبلغ التأمين والمصلحة التأمينية.
أ- أما الخطر فإن الغاية من التأمين هي ابتغاء مصلحة اقتصادية تقي خطرا معينا يخشى وقوعه كأخطار الحريق والسرقة والإصابات وغيرها. وبعض الكتاب يرى أن التأمين لا يكون دائما ضد الأخطار والكوارث فقد
يكون الحادث المؤمن منه حادثا سعيدا ؛ كإنجاب الأولاد وتزويجهم والتأمين على الحياة وغير ذلك؛ ولهذا يميل بعضهم إلى القول بأن الغاية من التأمين توقي ضائقة اقتصادية بابتغاء مصلحة اقتصادية تقيها.
ويجب أن يكون الخطر المؤمن ضده معينا تعيينا دقيقا يتضح به نوعه وحده ؛ ليعرف به المؤمن حدود التزامه ، ويعرف المؤمن له الحال التي يستطيع فيها الرجوع على المؤمن عند حدوث الخطر لطلب التعويض .
ويشترط لعنصر الخطر في التأمين الشروط التالية:
1 - أن يكون وقوع الخطر احتماليا ، وبهذا جاءت المادة ( 782 ) من القانون المدني المصري بما نصه : يقع عقد التأمين باطلا إذا تبين أن الخطر المؤمن عنه كان قد زال ، أو كان قد تحقق في الوقت الذي تم فيه العقد .
2 - أن لا يكون وقوعه إراديا محضا ؛ لما في ذلك من انتفاء ركن احتمال وقوع الخطر ؛ لأن وقوعه بالإرادة المحضة متعلق بإرادة أحد طرفي العقد .
3 - أن لا يكون الخطر مخالفا للنظام العام أو الآداب ، وبهذا جاءت المادة ( 749 ) من القانون المدني المصري حيث نصت على أن يكون محلا للتأمين كل مصلحة اقتصادية مشروعة ، فلا يجوز التأمين على الأخطار المترتبة على أعمال التهريب ، أو الاتجار في المخدرات ، أو على الأماكن التي تدار للدعارة أو المقامرة إلى غير ذلك من أنواع المصالح غير المشروعة التي تخل بالنظام العام والآداب .
ب- وأما القسط في عقد التأمين فهو المقابل الذي يستحصله المؤمن من المؤمن له ؛ ليتحمل مسئولية الخطر المؤمن منه ، ولقسط التأمين أهمية
كبرى في قدرة هيئات التأمين على مواجهة التزاماتها ، ولكل خطر قسطه المحدد له ، ويخضع تحديد القسط لعدة قواعد فنية أهمها : قاعدة نسبة القسط إلى الخطر ، وقاعدة حجم المخاطر المتشابهة على محل التأمين وللإحصاءات الدولية المنتظمة التي تقوم بها هيئات التأمين في أنحاء العالم على أنواع المخاطر ، وفي الغالب تختلف فئات تحديد القسط بالنسبة للخطر الواحد تبعا لاختلاف الظروف والملابسات والمكان الذي يقع فيه محل التأمين .
ولمبلغ التأمين أثر في تحديد القسط ، فكلما كان المبلغ كثيرا كان القسط أكثر ، وكلما كان قليلا كان القسط أنقص .
ج- أما مبلغ التأمين فهو المال الذي يتعهد المؤمن بدفعه إلى المؤمن له عند حدوث الخطر المؤمن عنه ، ويكون مبلغ التأمين الواجب دفعه من المؤمن نقودا سواء دفعها إلى المؤمن له مباشرة أو دفعها لغيره في مقابلة إصلاح محل التأمين كالسيارة المصدومة أو استبدال غيره به كالبضائع التالفة ، وللمؤمن له حق طلب قيمة الإصلاح أو التالف ؛ ليقوم بنفسه بإصلاح ما أمن عليه أو استبدل غيره به أو الاحتفاظ بالقيمة دون إصلاح أو استبدال بشرط براءة ذمة المؤمن من عهدة ذلك .
د- أما المصلحة التأمينية فتعتبر أساسا لمشروعية التأمين وعنصرا مهما في عقده ، وقد نصت مجموعة من القوانين العربية والغربية على اعتبار عقد التأمين باطلا إذا لم يكن للمؤمن له مصلحة في التأمين ، وقد حددها بعضهم بقوله : هي علاقة مشروعة تربط طالب التأمين بمحل العقد من شأنها أن تجعله يتضرر فعلا من وقوع الحادث المؤمن منه وينتفع من عدم
وقوعه ، كعلاقة المالك بملكه ، والمرتهن برهنه ، والوديع بالوديعة ، والمستعير بالعارية ، والوصي بأموال الموصى عليه ، والشريك بالحصة المشاعة ، فلكل واحد من هؤلاء مصلحة تأمينية بالمال الذي تحت يده بخلاف علاقة زيد من الناس بملك عمرو ، فليس له فيه مصلحة تأمينية تعطيه حق التأمين عليه .
ويشترط لاعتبار المصلحة التأمينية أن تكون مالية فلا عبرة بالمصلحة الأدبية ، كتأمين الصديق على حياة صديقه ، أو تأمين الأخ على أموال أخيه ، وأن تكون مشروعة ، فلا صحة لتأمين السارق على ما سرق ، والغاصب على ما غصب ، وكالتأمين على بيوت الدعارة ، ومخاطر التهريب ، والاتجار في المخدرات ، ويذكر علماء القانون أن اعتبار المصلحة التأمينية عنصرا أساسيا لعقد التأمين ومدى مشروعيته يعطي عقد التأمين صفة تخرجه من عقود المقامرة والرهان . وإلى هذا تشير المادة الرابعة من قانون التأمين البحري الإنجليزي إلى أن أي عقد للتأمين البحري لا يكون فيه طالب التأمين في موقف يجعله يتضرر بتضرر المال المراد تأمينه وينتفع بسلامته يعتبر عقدا للمقامرة والرهان .
وكذا نص قانون التأمين على الحياة الإنجليزي على ما يأتي :
يقع باطلا كل تأمين يجري من قبل شخص أو أشخاص على حياة أي شخص أو أشخاص إذا كان الشخص أو الأشخاص الذين نظمت وثيقة التأمين لمصلحتهم لا يملكون مصلحة تأمينية في إجراء التأمين المذكور.
7 -
خصائص عقد التأمين
لعقد التأمين مجموعة خصائص :إحداها : أنه عقد من عقود التراضي ، باعتبار أن الإيجاب والقبول صدرا من إرادتين ، كل إرادة منهما أهل للإلزام والالتزام ، ويعتبر عقدا مقتضيا للإلزام والالتزام بمجرد صدور الإيجاب والقبول من طرفيه سواء كان ذلك شفاها أو كتابة ، ويرى بعضهم أن العقد لا يكون ساري المفعول حتى يكون مسجلا ، وبعضهم يرى : أن عقد التأمين يبدأ نفاذه من استلام أول قسط من المؤمن له .
الثانية : أنه عقد احتمالي ؛ لأن خسارة أو ربح كل من طرفي العقد غير معروفة وقت العقد ، إذ إن ذلك متوقف على تحقق أو تخلف الخطر المؤمن عنه فعند تحققه أو تخلفه يتعين الرابح منهما والخاسر ، وهذا خاص في العلاقة الحقوقية القائمة بين طرفي العقد ، أما المؤمن فحيث إنه يتعامل مع مجموعة كبيرة من طالبي التأمين فخسارته مع أحدهم تتحملها أرباحه مع الآخرين .
ولهذا الجانب اتجه بعض الكتاب إلى أن عقد التأمين يعتبر احتماليا بالنسبة إلى المؤمن له إذ هو الطرف الوحيد الذي يتجه إليه احتمال الربح أو الخسارة ، أما المؤمن فإن خسارته محمولة بأرباحه مع الآخرين فلا وجه لاحتمال خسارته ، وهناك من الكتاب من يرى أن الطرف الذي يعتبر العقد احتماليا بالنسبة له هو المؤمن إذ هو الوحيد الذي يتحمل الخسارة ويحصل على الربح ، أما المؤمن له فهو خاسر على كل حال ؛ لأنه إن انتفى الخطر المؤمن عليه خسر قسط التأمين ، وإن تحقق الخطر أعطي مقابله وخسر القسط فهو خاسر لقسط التأمين على أي حال ، ويتجه جمهور علماء القانون إلى أن عقد التأمين عقد احتمالي للطرفين
بالنسبة للعلاقة القانونية بينهما .
الثالثة : أنه عقد مستمر حيث إنه لا يتم الوفاء بالالتزام المترتب عليه بصفة فورية ، وإنما يستغرق الوفاء بهذه الالتزامات مدة من الزمن هي مدة نفاذ ذلك العقد ، ويظهر أثر اتصافه بالاستمرار فيما إذا طرأ على محل العقد ما يستحيل به الطرفين تنفيذ مقتضيات العقد كما لو هلك محل التأمين بسبب لا يمت إلى الخطر المؤمن عنه بصلة ، فإن العقد لا ينفسخ بأثر رجعي ، وإنما يبطل من تأريخ هلاك محل التأمين بحيث يستحق المؤمن الأقساط المدفوعة عن الفترة السابقة لهلاكه .
الرابعة : أنه عقد إذعان حيث يتولى أحد طرفيه وضع الشروط التي يريدها ويعرضها على الطرف الآخر ، فإن قبلها دون مناقشة أو تعديل أو إضافة أو حذف مضى العقد بينهما بقبوله ، وإلا فلا . ويصف الدكتور محمد علي عرفة موقف شركات التأمين مع طالبي التأمين فيقول ما معناه : إن المؤمن لهم يضطرون إلى توقيع وثيقة مطبوعة دون أية مناقشة لشروطها ، فلا تترك لهم الحرية إلا في اختيار التأمين من عدمه ، فمن شاء أن يؤمن فليوقع على ما فرضه المؤمن من شروط . إلا أن عامل المنافسة بين شركات التأمين لعب دورا مهما في حمل شركات التأمين على التقليل من الشروط التعسفية ووضع شروط أكثر ملاءمة لمصالح المؤمن لهم .
ويترتب على اعتبار عقد التأمين من عقود الإذعان أمران :
أحدهما : أن للمحكمة الحق في إبطال أي شرط تعسفي لا يتفق
مع قواعد العدالة .
الثاني : أن كل غموض أو شك في نصوص العقد يفسر لصالح المؤمن له .
الخامسة : عقد معاوضة من حيث إن كل واحد من طرفيه يأخذ مقابلا لما يعطي . ذلك أن المؤمن له يحصل من المؤمن مقابل دفعه أقساط التأمين على التعهد بتحمل مسئولية الخطر على محل التأمين ، ويأخذ المؤمن لقاء تعهده بذلك قسطا تأمينيا ، وبهذا يتضح انتفاء صفة التبرع في عقود التأمين .
السادسة : عقد ملزم للجانبين حيث إنه ينشئ التزامات متقابلة في ذمة كل طرف من طرفيه قبل الآخر ، وتنشأ هذه الالتزامات على رأي بعضهم من اللحظة التي يتم فيها العقد بتحقق ركنيه الإيجاب والقبول ، فيلتزم المؤمن له بتسديد قسط التأمين إلى المؤمن . كما يلتزم بإشعاره بالمعلومات التي تطرأ على محل التأمين خلال فترة العقد ، وبإعلان الحادث عند وقوعه . أما المؤمن فيأخذ التزامه شكلا سلبيا حتى يقع الخطر ، فيأخذ الجانب الإيجابي بقيامه بالتعويض اللازم للمؤمن له ، وبهذا يتضح أن التزام المؤمن له بدفع القسط التزام محقق ، وأن دفع المؤمن التعويض الملتزم به احتمالي .
السابعة : عقد مسمى . ذلك أن العقود تنقسم قسمين : عقود مسماة ، وعقود غير مسماة ، أما العقود المسماة : فهي التي تخضع للأحكام العامة من حيث انعقادها ، وللقواعد التي تقررها
الأحكام الواردة في القانون المحلي فيما يتعلق بالأمور التفصيلية ، وعقود التأمين من العقود المسماة .
وأما العقود غير المسماة : فهي التي لا تندرج تحت أي نوع من أنواع العقود المسماة في القانون المحلي ؛ لذلك فهي تخضع للأحكام النظرية العامة للالتزام وللشروط التي اتفق عليها الطرفان إذا لم تتعارض مع النظام العام والآداب .
الثامنة : هو عقد من عقود حسن النية : ذلك أن حسن النية يعتبر صفة لازمة لكل عقد من عقود التراضي ، بمعنى أن كل طرف من المتعاقدين يجب أن يقف مع الطرف الآخر موقفا أساسه الإخلاص والأمانة والصدق . وعقد التأمين أكثر العقود احتياجا لحسن النية ؛ لأنه يفترض في المؤمن جهله بما يتعلق بمحل التأمين ومقدار استهدافه الخطر ، إذ هو يعتمد في تقديره للخطر على المعلومات التي يقدمها له المؤمن له باعتباره الجهة الوحيدة التي تعرف الشيء الكثير عن محل التأمين ، كما يفترض في المؤمن له جهله بالأصول الفنية للتأمين ، إلى غير ذلك مما يتطلب بإلحاح توافر حسن النية بين المتعاقدين .
التاسعة : التأمين : عقد مدني تجاري : ذلك أن أعمال التأمين في الغالب تمارس من قبل مؤسسات تجارية ، فالتأمين بالنسبة للمؤمنين عملية تجارية محضة يهدف أصحابها إلى الربح ، أما بالنسبة إلى المؤمن لهم فقد يكون تصرفهم تجاريا ، كالتأمين على المستودعات التجارية والبضائع المنقولة ونحو ذلك ، وقد يكون
مدنيا كالتأمين على الحياة أو عن حوادث الاحتراق والسرقة بالنسبة إلى بيوتهم مثلا .
وإذا كان التأمين بقسط محدود لا يثير أي إشكال بالنسبة إلى اعتباره تأمينا تجاريا فهل التأمين التبادلي -التعاوني- يعتبر تأمينا تجاريا ؟
الواقع أن هذا التساؤل كان موضوع بحث مجموعة من رجال القانون ، فاتجه غالبهم إلى القول بأن التأمين التبادلي ليس تأمينا تجاريا ، وإنما هو إجراء تعاوني لا يهدف إلى الربح ، وإنما يهدف إلى تبديد الأخطار وتوزيعها بين أكبر عدد ممكن ، وذهب بعضهم إلى اعتباره عملا تجاريا ؛ باعتباره يؤدي إلى تجنب الخسائر .
8 -
حق الحلول
يقصد بحق الحلول حق رجوع المؤمن على الذي أحدث الضرر بتعمده أو خطئه ، وذلك بعد دفعه للمؤمن له مبلغ التأمين . لقد أخذت مجموعة من شركات التأمين بهذا المبدأ وأقرته بعض القوانين المدنية فقد جاء في المادة -771- من القانون المدني المصري ما نصه : يحل المؤمن قانونا بما دفعه من تعويض في الحريق في الدعاوي التي تكون للمؤمن له قبل من تسبب بفعله في الضرر الذي نجمت عنه مسئولية المؤمن ، ما لم يكن من أحدث الضرر قريبا أو صهرا للمؤمن له ممن يكونون معه في معيشة واحدة أو شخصا يكون المؤمن له مسئولا عن أفعاله . اهـ .ويذكر العلماء في ذلك أن المؤمن لا يحل محل المؤمن له في حق المطالبة بالتعويض عن التسبب إلا في حدود مبلغ التأمين الذي دفعه للمؤمن له ، وبعد أن يثبت أنه دفع مبلغ التأمين بالفعل ، ويكون للمؤمن له
حق المطالبة بالباقي إن كان التعويض عن التسبب أكثر من مبلغ التأمين ، وإذا أصبح الحلول متعذرا بفعل المؤمن له كأن يتنازل المؤمن له عن حقه في مطالبة المتسبب بقيمة التعويض ، فإن ذمة المؤمن تبرأ من مسئولية التأمين براءة تامة أو جزئية حسب الأحوال .
9 -
مبدأ السبب القريب أو السبب المباشر
يقصد بالسبب القريب : السبب المباشر الذي أدى إلى وقوع الخطر المؤمن عنه ، أو الحلقة الأولى التي سمحت بتتابع سلسلة من الحوادث أدت إلى وقوع الخطر المؤمن عنه ، وبالتالي وقوع الخسارة ، وذلك بدون تدخل أي مؤثر خارجي مستقل ، ويمثلون لذلك بالمثالين الآتيين :أ- رجل أمن منزله ضد الحرائق العادية ، ومعلوم أن الحرائق التي يكون سببها الزلزال لا تدخل ضمن الحرائق العادية فشب حريق بسبب الزلزال في بيت ثم انتقل إلى آخر ، ثم انتقل الحريق إلى بيت ذلك الرجل فهذه الحرائق لا تدخل ضمن نطاق التأمين ، إذ إن السبب القريب في كل حالة هو الزلزال وهو غير داخل في نطاق التأمين .
ب- رجل أمن منزله ضد الحريق فشبت النار فيه وتلف مجموعة من أثاثه من الماء المستخدم لإطفائه ومن إلقائه من النوافذ للاضطرار ، فالخسائر الناجمة عن تلف هذه الأشياء تدخل ضمن نطاق التأمين حيث إن السبب القريب لتلفها هو الحريق المؤمن عن أخطاره ، وهذا المبدأ يعطي المؤمن الحق في الدفع به قضائيا عند التهرب من الوفاء بالالتزام بدفع مبلغ التأمين للمؤمن له .
ويذكر الأستاذ أحمد جاد عبد الرحمن في كتابه [التأمين] : أن تطبيق هذا
المبدأ صعب جدا من الوجهة العملية ، ويتضح ذلك من كثرة عدد القضايا التي نشأت عن تطبيق هذا المبدأ ، كما أن حيثيات الأحكام في هذه القضايا ليست واضحة أو شافية .
10 - وثيقة التأمين أو ما يسمى بـ( بوليصة التأمين ) :
عرف القانون المصري وثيقة التأمين بما جاء في المادة ( 747 ) من القانون المدني بأنها : ( عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال ، أو إيرادا مرتبا ، أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد ، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن ) .
وقد جرت العادة حسب مقتضيات الحال أن عدة إجراءات تسبق إعداد وثيقة التأمين كصحيفة طلب التأمين من المؤمن له وإجابته على ما يرغب المؤمن الحصول عليه من المعلومات عن محل التأمين لكي يتمكن من تحديد درجة الخطر وتقرير قبول أو رفض التأمين وتقرير القسط الملائم لاحتمال وقوعه ، وتعيين مبلغ التأمين في حال قبول التأمين ، وقد لا يقتنع المؤمن بالمعلومات التي يقدمها طالب التأمين فيجري تحرياته الخاصة عن محل التأمين ومدى قابليته للخطر المراد التأمين عنه .
كما يجري تحرياته عن طالب التأمين من حيث سمعته وأخلاقه وعاداته ومركزه المالي والاجتماعي إلى غير ذلك من التحقق والتحري مما يعتبره علماء القانون عملا ذا قيمة يقوم به المؤمن لمصلحته . فإذا اقتنع المؤمن بجدوى ارتباطه مع طالب التأمين بعقد التأمين قرر قبوله التأمين ، واعتبر
طلب التأمين من طالبه إيجابا ، وبتحقق الإيجاب والقبول يتم العقد وتسوى بينهما ، وثيقته مشتملة على ما يأتي :
أ- أسماء المتعاقدين ومحل إقامتهما واسم المستفيد إن كان معينا .
ب- محل التأمين ، بحيث تتضمن الوثيقة وصفا كاملا له بذكر نوعه وجنسه ومحل خزنه إن كان مالا ، ومحل ونوع عمله إن كان شخصا .
ج- وصف الخطر المؤمن منه وصفا دقيقا تنتفي به الجهالة .
د- مقدار سعر التأمين الذي يمكن أن يحتسب قسط التأمين على ضوئه .
هـ- مقدار القسط الدوري وتعيين وقته وطريق سداده .
و- المبلغ المؤمن به ، ويسمى : رأس مال بوليصة التأمين .
ز- مدة العقد ، وذلك بتحديد مدة نفاذ العقد بذكر تاريخ ابتدائه وتاريخ انتهائه .
ح- الشروط الخاصة بالعقد والمتعلقة بمصالح طرفيه .
ط- توقيع طرفي العقد المؤمن والمؤمن له وتأريخ التوقيع .
11 -
أنواع وثيقة التأمين
لوثائق التأمين تقسيمات عدة باعتبارات مختلفة :أحدها : من حيث مدة سريان العقد ، والثاني : من حيث نطاق ضمان العقد ، والثالث : من حيث قيمة التأمين .
أما تقسيم وثيقة التأمين من حيث مدة سريان العقد : فهي تنقسم إلى : وثيقة زمنية تتحدد فيها مدة سريان العقد ، وتنقسم هذه المدة الزمنية إلى ثلاثة أقسام ، وثيقة سنوية وتقضي باعتبار نفاذ سريان العقد لمدة سنة كاملة ، ويمكن باتفاق الطرفين تجديدها عند الانتهاء ، ووثيقة لفترة قصيرة ، وهي
الوثيقة التي تكون فترة نفاذها أقل من سنة ويكون قسط التأمين لهذه الوثيقة متناسبا مع قصر هذه المدة محسوبا على أساس القسط السنوي مع إضافة 5% من مقدار الفرق بين القسط السنوي الكامل والنسبة التي تصيب فترة سريان الوثيقة ، ويسمى هذا بقسط الفترة القصيرة ، ووثيقة لفترة طويلة ، وهي الوثيقة التي تحدد مدة سريانها بأكثر من سنة ، ويدفع قسط التأمين لكامل المدة عند إنشاء العقد ، وإلى وثيقة سفرية ، وهي التي يتوقف أمد نفاذها على المدة التي تكمل فيها واسطة النقل سفرتها .
وأما تقسيم وثيقة التأمين من حيث نطاق ضمان العقد فتنقسم إلى :
وثيقة اعتيادية : وهي التي تضمن مالا معينا من خطر معين ، وهذه الوثيقة من أكثر وثائق التأمين شيوعا ، وإلى وثيقة عائمة ، وهي وثيقة تصدر متضمنة شروطا عامة للتأمين ؛ لتغطية شحنات متعددة خلال فترة غير محدودة وبمبلغ تأمين إجمالي ، وبموجب هذه الوثيقة يلتزم المؤمن له بتسديد قسط التأمين بنسبة المبلغ الإجمالي مقدما ، ثم يرصد مبلغ كل شحنة من المبلغ الإجمالي للتأمين إلى أن يتم استهلاكه ، ويكون المبلغ الإجمالي خاضعا للتسوية عند انتهاء عمليات الشحن .
وإلى وثيقة عامة : وهي التي تصدر بتأمين أخطار متعددة يخشى حدوثها على أموال مختلفة ويستوفى بمقتضاها قسط تأمين إجمالي يشمل كافة الأخطار المؤمن منها . وتنقسم وثيقة التأمين من حيث قيمة التأمين إلى وثيقة محدودة القيمة ، وهي : وثيقة تحدد فيها قيمة التأمين باتفاق المؤمن والمؤمن له على أساس قيمة محل التأمين وقت العقد ، وتكون هذه القيمة أساسا يقاس عليه مبلغ التعويض عند الخطر ، وإلى وثيقة غير محدودة
القيمة ، وهي التي لا يجري فيها تحديد قيمة التأمين على أساس قيمة المحل ، فإن زادت قيمة محل التأمين على مبلغ التأمين فليس للمؤمن له حق المطالبة بمقابل هذه الزيادة عند تحقق الخطر ، وإن قلت هذه القيمة عن مبلغ التأمين صار للمؤمن له حق المطالبة برد نسبة معينة من قسط التأمين ، تحسب على أساس الفرق بين مبلغ التأمين وقيمة محل التأمين .
12 -
المشاركة في التأمين
يقصد بالمشاركة في التأمين : اشتراك مجموعة المؤمنين في توزيع الخسائر بينهم عند قيامهم بالتأمين على محل واحد يزيد مجموع مبالغ التأمين منهم عن القيمة الحقيقية لذلك المحل ، وذلك كأن يستصدر شخص ما مجموعة وثائق تأمين متعددة على محل واحد ضد خطر معين ولمصلحة تأمينية ، بحيث يتجاوز مجموع مبالغ هذه التأمينات الحد الذي يسمح به مبدأ التعويض الحقيقي فإن لمجموع المؤمنين الحق في تطبيق مبدأ المشاركة ، وذلك بتوزيع الخسارة بينهم كل بنسبة مبلغ التأمين الذي التزم به . كما أن للمؤمن له الحق في الرجوع عليهم بمطالبتهم بإعادة نسبة من قسط التأمين حسب معادلة رياضية معروفة تحكم ذلك .ويشترط لتطبيق مبدأ المشاركة الشروط التالية :
أ- أن يقوم نفس الشخص بالتأمين على محل التأمين لدى مؤمنين متعددين .
ب- أن تشترك وثائق التأمين في تغطية نفس الأخطار .
ج- أن تحمي هذه الوثائق مصلحة تأمينية معينة .
د- أن تكون مبالغ التأمين في هذه الوثائق منشئة حالة تأمين زائد عن قيمة
محل التأمين .
هـ- أن تكون هذه الوثائق سارية المفعول وقت تحقق الخطر .
ويؤكد علماء القانون أن فكرة المشاركة مستمدة من مبدأ القول بأنه ( لا يجوز أن يكون التأمين بأي حال من الأحوال مصدر ربح للمؤمن له ، وإنما الغرض الوحيد منه هو تعويض المؤمن له عن الأضرار المادية التي لحقت الأشياء المؤمن عليها بحسب قيمتها الحقيقية وقت تحقق الخطر ) .
13 -
التأمين الاقتراني وإعادة التأمين
لا شك أن اختلاف الأخطار التي يجمعها المؤمن في ضمانه من حيث طبيعتها وقيمتها يؤدي إلى وجود فروق كبيرة تهدد نشاط المؤمن في حال زيادتها عن متوسط ما قدرت به التعريفة ، ولكي يواجه المؤمن هذه الاحتمالات الخطرة فإن أمامه طريقين يمكنه بهما أو بأحدهما أن يحقق تناسقا بين الأخطار الواقعة في ضمانه :أحدهما : التأمين الاقتراني .
والثاني : إعادة التأمين .
أما التأمين الاقتراني : فيتلخص في أن يحتفظ المؤمن لنفسه بقدر من الخطر الاحتمالي بما يتناسب مع قدرته التحملية ، ثم يعرض القدر الزائد على مؤمنين آخرين كل منهم يتقبل جزءا من الخطر في حدود إمكانياته ، فإذا تحقق الخطر قام المؤمنون جميعا بمواجهة كل بقدر حصته منه ، ويعتبر كل واحد من المؤمنين في حدود حصته من التأمين مرتبطا تعاقديا مع المؤمن له من غير أن يكون للآخرين ارتباط بهذه الحصة .
ونظرا لرفض مجموعة كبيرة من المؤمن لهم التأمين الاقتراني ؛ لعدم
التضامن بين المؤمنين فضلا عن الصعوبة في تحقق رضا المؤمن له عن كل شركة من شركات التأمين الاقتراني ، وعن مساوئ تعدد الإدارات وبالتالي تأخر البت في إعطاء المؤمن له التعويض اللازم ، نتيجة لاختلاف النظر والنشاط في التحقيق والتثبت عن صحة الالتزام ، كل ذلك جعل التأمين الاقتراني غير مرغوب فيه كوسيلة من وسائل التنسيق بين الأخطار .
أما إعادة التأمين فهي : اتفاق قائم يتم بموجب عقد يقع إبرامه بين هيئتين من هيئات التأمين تسمى الأولى منهما : معطية ، والثانية : معيدة التأمين ، تحيل الشركة المعطية بمقتضاه حصصا من الأخطار التي تتقبلها في معاملتها الخاصة إلى معيد التأمين الذي يتعهد بقبولها حسب شروط العقد .
ويتضح من هذه العملية أنها تعتبر عقد تأمين جديد قائم بذاته لا علاقة للمؤمن له الأول به ، ذلك أن المؤمن وهو المعطي يعتبر في هذه العملية مؤمنا له ، ومعيد التأمين يعتبر مؤمنا ، ودرك المؤمن له الأول على المؤمن الذي هو مؤمن له في عقد إعادة التأمين . وحيث إن عقد إعادة التأمين يعتبر في الواقع عقدا من عقود التأمين الاعتيادية ، فإنه يتمتع بنفس الخصائص التي يتميز بها عقد التأمين الاعتيادي .
ويمتاز إعادة التأمين بقدرته على توزيع المخاطر على أوسع نطاق ممكن ، وعلى تحقيق التوازن بين المخاطر مع سلامته من المساوئ التي تتمثل في التأمين الاقتراني ، ولهذا يحرص الكتاب دائما على تسميته بالعمود الفقري لكل شركة تأمين ؛ لأن له أهمية كبرى في أسواق التأمين العالمية ، إذ ما من شركة تأمين مهما كان مركزها المالي إلا وهي آخذة
بنصيبها منه .
14 -
تنوع نظريات التأمين تبعا للاعتبارات التي بنيت عليها
للتأمين جوانب اقتصادية ومدنية وفنية ، ولكل جانب من هذه الجوانب الثلاثة اتجاه نظري خاص .أ- فللتأمين من الجانب الاقتصادي نظريتان :
إحداهما : نظرية التأمين للحاجة عاجلا أو آجلا ، ذلك أن المرء قد يكون محتاجا احتياجا عاجلا لازما لإشباع متطلبات مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه وما إلى ذلك من شئون حياته العاجلة ، وقد يكون احتياجه آجلا كحاجته إلى تأمين استعداده للظروف المحتمل وقوعها مستقبلا ، فتغطية حاجته عاجلا أو آجلا واستعداده للطوارئ التي قد يرتب وقوعها خسائر كبيرة هو الباعث على التأمين .
الثانية : نظرية التأمين للأمن . ذلك أن المرء وإن كانت حاجته متوفرة لديه إلا أن قلقا نفسيا ، يساوره حينما يعرف أن هذه الأمور محل للأخطار المتوقع حصولها عليها مستقبلا ، لذلك يجد نفسه مدفوعة إلى التأمين على هذه الأشياء طلبا للراحة النفسية والأمن والاطمئنان إلى سلامتها ودوامها طيلة حاجته إليها .
ب- وللتأمين من الجانب المدني نظريتان :
إحداهما : نظرية التأمين عن الضرر ، ذلك أن التأمين ضمان للتعويض عن الأخطار التي تترتب على وقوعها أضرار مادية . فطالب التأمين يطلبه ؛ لأنه يرى فيه إنقاذا من أضرار لا قبل له بتحملها .
الثانية : نظرية التأمين في مقابل . ذلك أن المؤمن له يدفع للمؤمن قسطا
دوريا في مقابلة التزام المؤمن بدفع تعويض عن الضرر الواقع على محل التأمين في حدود ما تم عليه الاتفاق وشمله العقد ، فالتأمين بهذا عملية تقابل : قسط يدفع في مقابلة تعويض عند وقوع الحدث المؤمن عنه يدفع . .
ج- أما الجانب الفني فللتأمين نظريتان :
إحداهما : المقاصة المنظمة ، وذلك على أساس أن الأخطار التي يتعرض لها المؤمن لهم توزع عليهم عن طريق المقاصة .
الثانية : نظرية المقاولة المنظمة فنيا . هذه النظرية تتلخص في أن التأمين ليس عقدا بين فردين عاديين ، وإنما هو عقد بين فرد وهيئة منظمة تنظيما فنيا يجري تعاملها على أساس قواعد الإحصاء التي تعطي نسبة تقريبية لوقوع الأخطار ، ويجري على ضوء النتائج الإحصائية مدى الدخول مع طالب التأمين في اتفاق تأميني ثم تقدير القسط وسعره ومبلغ التأمين في حال الاقتناع بجدوى ذلك .
مما تقدم نستطيع استخلاص الحقائق التالية :
أ- التأمين عقد إلزامي ليس من باب الإعانات ولا التبرعات .
ب- يغلب على عمليات التأمين القصد التجاري ، وإن وجد فيه التعاون فالغالب أنه جاء بطريق الاستلزام لا بطريق القصد .
ج- ليس للمؤمن في جميع صوره مجهود في اتقاء المخاطر ، وإنما مجهوده محصور في استقصاء المعلومات عن احتمال وقوع الخطر بواسطة قانون الاستكثار وغير ذلك من الملابسات والظروف ، وعن الحال الاجتماعية والأخلاقية الذي يكون عليها المؤمن له حيث إن
عقود التأمين يفترض فيها توافر حسن النية لدى الطرفين .
د- التأمين وإن كان بالنسبة للمؤمن يعتبر في الغالب عملا تجاريا واسعا ، فهو بالنسبة للمؤمن له ليس عملا تجاريا وإنما هو إجراء مدني يقصد به الوقاية من كوارث يستطيع به المؤمن له درء خسائرها عليه .
هـ- التأمين بالنسبة للمؤمن التزام احتمالي معلق قيامه على وقوع الخطر المؤمن عنه ، حيث إن الخطر المؤمن عنه يحتمل وقوعه فيجري الالتزام بدفع مبلغ التأمين ، ويحتمل ألا يقع فتبرأ ذمة المؤمن مما التزم به من تعويض ، وأما بالنسبة للمؤمن له فالتزامه بدفع الأقساط التزام منجز ليس للاحتمال فيه مجال .
و- يعتبر المؤمن له في عقد التأمين مشتريا الأمان عن الخطر الذي أمن عليه كل فترة دورية ( شهرية أو سنوية أو مدة معينة ) بما يدفعه قسطا تأمينيا لها .
ز- ليس للمؤمن له تأمينا تجاريا حق في استرجاع الأقساط التي دفعها أو شيئا منها في حال انقضاء المدة التي دفع عليها التأمين دون وقوع الحادث .
ح- ليس للمؤمن له تأمينا تجاريا حق في الأرباح التي يستحصلها المؤمن من المؤمن لهم .
ط- ليس للمؤمن حق في اقتطاع جزء من مبلغ التعويض عند وقوع الخطر على محل التأمين عند استكمال قيام التزامه بدفع كامل مبلغ التأمين .
ي- المؤمن لا يقدم على عملية التأمين إقداما عشوائيا ، وإنما يعقد التأمين بعد إجرائه الدراسات الإحصائية التي تعطيه نتائج تقريبية في ربح
الصفقة .
ك- لا يصح التأمين على خطر ليس للمؤمن له مصلحة في عدم وقوعه ، ولا التأمين على خطر قد وقع أو مستحيل الوقوع ، ولا التأمين على أخطار ما يكون احترافه مخلا بالنظام العام والآداب .
الخلاصة
: وجملة القول : أن الكلام في التأمين ينحصر في مقامين : بيان حقيقة التأمين وما يتعلق بها ، وبيان حكمه .أما المقام الأول فيتضمن ما يأتي :
1 - التأمين :
لغة : بعث الأمن والطمأنينة في النفس ، والأمن ضد الخوف .
واصطلاحا : يعرف على أنه تصرف بين المؤمن والمستأمن بأنه عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال ، أو إيرادا مرتبا ، أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين في العقد ، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن .
ويعرف باعتباره فكرة لها أثر اقتصادي واجتماعي بأنه نظام تقوم به هيئة منظمة على أساس المعاوضة أو التعاون ، وتديره بصورة فنية قائمة على أساس ونظريات وقواعد إحصائية فتوزع بمقتضاه الحوادث والأخطار ، وترمم به الأضرار .
2 - فكرة التأمين من حيث هو : نشأت قبل الميلاد بزمن ، وأخذت على مر الأيام أشكالا عدة وصورا متنوعة تختلف كثيرا عن التأمين في العصر الحاضر ، فمثلا ظهر في إلقاء بعض حمولة سفينة ؛ ليخف عبؤها وتسلم
مع باقي حمولتها ، ثم ظهر في إلزام الحكومة الرومانية تجار الأسلحة بإرسال ما لديهم من أسلحة إلى القوات بحرا على أن يضمنوا لهم ما تلف منها بحرا أو بيد العدو ، وما زال التأمين يظهر في أشكال حتى انتهى إلى أنواعه وصوره الحاضرة ، ويذكر أن أقدمها التأمين البحري ، وقد وضعت النظم حسب مقتضيات البلاد التي انتشر فيها ، ولم يدخل في البلاد الإسلامية إلا في وقت متأخر بدليل أنه لم يكتب في حكمه أحد من علماء المسلمين المتقدمين ، ويقال : إن أول من كتب فيه ابن عابدين من فقهاء الحنفية .
3 - للتأمين عدة تقسيمات باعتبارت مختلفة :
أ- فينقسم من حيث شكله والغرض منه إلى :
تأمين تعاوني -تبادلي- وهو : أن يشترك جماعة بمبالغ تخصص لتعويض من يصببه الضرر منهم ، وإن عجزت الأقساط عن التعويض دفع الأعضاء أقساطا إضافية لتغطية العجز ، وإن زادت فللأعضاء حق استرداد الزيادة ، ويقوم على إدارتها جماعة من المشتركين والغرض من هذا النوع التعاون في تحمل الخسائر لا الربح .
وإلى تأمين تجاري -تأمين بقسط ثابت- وقد سبق تعريفه في فقرة ( 1 ) ، والغرض منه أصالة الربح وتختص به شركة التأمين التي تقوم بإدارته مستقلة عن الأعضاء المشتركين .
ب- وينقسم من حيث موضوعه إلى : تأمين تجاري ، ويشمل التأمين البحري والنهري والتأمين الجوي والتأمين البري ، وإلى تأمين على الأشخاص ، ويقوم المؤمن بتعويض المؤمن له أو وارثه عن الضرر الذي
أصابه في جسمه سواء كان موتا أم عاهة أم مرضا أم شيخوخة . وإلى تأمين من الأضرار ويتناول التأمين من المسئولية بضمان المؤمن كل ما يرجع فيه على المؤمن له من الأضرار التي أصاب بها غيره كحوادث السيارات والعمل . كما يتناول التأمين على الأموال بتعويض المؤمن له عن الخسارة التي تصيبه في ماله من سرقة أو حريق أو موت حيوان أو تلف زرع أو سيارة ونحو ذلك .
4 - للتأمين وظائف :
منها : أنه من عوامل إنماء الصناعة والتجارة بضمانه لرؤوس أموالهما وتعويض التجار والصناع عما يصيبهم فيما يصدرون ويستوردون . . . إلخ .
ومنها : أنه أحد العوامل في إقامة البنوك والمصارف التي لها خدماتها في المرافق الكثيرة للحكومات والأمم .
ومنها : أنه يساعد على تكوين رؤوس الأموال للشركة والمستأمنين ولتكوين رؤوس الأموال أثر بالغ في نماء الاقتصاد وسد الحاجات ، وقد أجمل بعض من كتب في التأمين وظائفه في الأمان والائتمان وتكوين رؤوس الأموال .
5 - أسس التأمين الفني :
يقوم التأمين الفني على ثلاثة أمور :
أ- التعاون بين المستأمنين تحت إشراف المؤمن وتنظيمه ، وهذا يحقق أمرين :
أولا : تجزئة المخاطر بتوزيع نتائجها على عدد كثير من المستأمنين
حيث تدفع مما تحصل من الأقساط التي دفعوها دون شعور منهم بعبء ثقيل .
ثانيا : كفالة الأمان للمؤمن بتوفر عدد كثير من المشتركين ، وللمستأمن لثقته بقدرة الشركة على الوفاء بعد تكوين الرصيد .
ب- المقاصة بين المخاطر بتنظيم توزيعها بين المستأمنين توزيعا عادلا ، ويتوقف ذلك على المتشابه بين المخاطر ، وأن تكون عددا كثيرا لا نادرا ، وأن لا تقع في زمن واحد ، وأن تتحد في موضوعها وقيمتها .
ج- جدول الإحصاء :
تعتبر قواعد الإحصاء أساسا لقبول التأمين وتقدير قسطه وتقدير مبلغ التأمين وغير هذا مما يتوقف على الإحصاء .
6 - أركان التأمين وعناصره :
يرى جماعة ممن كتب في التأمين الفرق بين عناصر التأمين وأركانه ، فجعلوا أركانه ثلاثة : التراضي بين المتعاقدين ، ومحل التأمين ، والسبب الباعث للمتعاقدين على إبرام عقد التأمين ، وعند الشرح يفسرون محل التأمين بالخطر أو بثلاثة أمور : الخطر ، والقسط ، ومبلغ التأمين ، ويفسرون السبب بالمصلحة التأمينية ، وهؤلاء يرون أن عناصر التأمين هي : الخطر والقسط ، ومبلغ التأمين ، والمصلحة التأمينية . ويرى جماعة آخرون منهم أن أركان التأمين وعناصره شيء واحد ، وهي : الخطر المؤمن منه ، والأقساط التي يدفعها المستأمن ومبلغ التأمين ، والمصلحة التأمينية . وبالمقارنة يتبين ما بين الرأيين من تداخل والثاني منها هو الظاهر .
7 - خصائص عقد التأمين :
لعقد التأمين خصائص هي :
أولا : أنه من عقود التراضي ، فيعتبر فيه الإيجاب والقبول ، ويخضع للقواعد العامة التي تحكم سائر العقود الرضائية .
ثانيا : أنه عقد احتمالي ؛ لأن كلا من المتعاقدين لا يعرف وقت العقد مدى كسبه أو خسارته ؛ حيث إنه تابع لأمر غير محقق الحصول ، أو غير معروف وقت حصوله ؛ ولذا قيل : إنه من عقود الغرر ، وإن نظم المؤمن عملياته وبناها على الإحصاء .
ثالثا : أنه عقد مستمر لاستمرار المستأمن في سداد الأقساط واستمرار عهدة المؤمن إلى السداد .
رابعا : أنه عقد إذعان ، لإذعان المستأمن إلى قبول الشروط التي وضعها المؤمن دون مناقشة أو تعديل ؛ ولذا حمى المسئولون المستأمن في تنظيم عقد التأمين فأبطلوا الشروط التعسفية ، وفسروا ما كان غامضا في العقد لمصلحة المستأمن .
خامسا : أنه عقد معاوضة ، لالتزام المؤمن بمبلغ التأمين مقابل الأقساط التي يدفعها المستأمن .
سادسا : أنه عقد ملزم للمتعاقدين ، حيث ينشأ عنه التزامات متقابلة لكل منهما .
سابعا : أنه من العقود المسماة التي تخضع للأحكام والقواعد المقررة في قانون المحاكم بخلاف العقود غير المسماة في القانون المحلي ، فإنها تخضع للنظرية العامة للالتزام وللشروط التي اتفق عليها الطرفان .
ثامنا : أنه من عقود حسن النية ، لإذعان المستأمن للشروط دون مناقشة ، ولعدم معرفة المؤمن بحال المستأمن تفصيلا ؛ ولذا يجب ألا يخفي كل من الطرفين عن الآخر شيئا من الأمور الجوهرية .
تاسعا : أنه عقد تجاري يقصد المؤمن به الربح ، وأما بالنسبة للمستأمن فهو تجاري إن تعلق بشئون تجارته .
عاشرا : أنه عقد يؤخذ فيه بالسبب القريب في التسبب كتلف أمتعة من إلقائها حين الحريق أو تهدم بنيان من إطفاء الحريق بالماء ، ولا يؤخذ فيه بالسبب البعيد ؛ كالزلازل والبراكين . . .
8 - حلول المؤمن لمحل المستأمن :
يحل المؤمن محل المستأمن بما دفع من تعويض عن الحريق ونحوه في الدعاوى التي للمستأمن قبل من تسبب في ضرره ، ويكون ذلك في حدود المبلغ الذي دفعه المؤمن للمستأمن ما لم يكن من أحدث الضرر قريبا للمستأمن أو صهرا له يعيش معه أو يكون تابعا للمستأمن مسئولا عنه ، وإذا تعذر الحلول بتنازل المستأمن عن مطالبة المتسبب برئت ذمة المؤمن من مسئولية التأمين براءة تامة أو جزئية حسب الأحوال .
9 - وثيقة التأمين أو بوليصة التأمين :
هي : عقد بين المؤمن والمستأمن يبرم بعد اتخاذ إجراءات بينهما من المؤمن لمصلحته ؛ لإثبات حق كل منهما ، وتشتمل على ما يلي :
أ- أسماء المتعاقدين ومحل إقامتهما واسم المستفيد إن كان معينا .
ب- وصف محل التأمين وصفا كاملا يتضمن بيان نوعه وجنسه ومحل خزنه إن كان مالا ومحل ونوع عمله إن كان شخصا .
ج- وصف الخطر المؤمن منه وصفا دقيقا تنتفي معه الجهالة .
د- مقدار سعر التأمين الذي يمكن أن يحتسب قسط التأمين على ضوئه .
هـ- مقدار القسط الدوري وتعيين وقته ، وطريق سداده .
و- بيان مدة العقد وتحديد نفاذه بذكر تأريخ ابتدائه وتأريخ انتهائه .
ز- المبلغ المؤمن به ، ويسمى : رأسمال بوليصة التأمين .
ح- الشروط الخاصة بالعقد المتعلقة بمصالح طرفيه .
ط- توقيع طرفي العقد المؤمن والمؤمن له وتأريخ التوقيع .
ولوثائق التأمين تقسيمات عدة باعتبارات مختلفة .
أ- ف تنقسم باعتبار مدة سريان العقد إلى وثيقة سنوية ، وإلى وثيقة لفترة قصيرة -أي دون السنة- وإلى وثيقة لفترة طويلة ، أي أطول من سنة إلى وثيقة سفرية ، وهي التي يتوقف أمد نفاذها على المدة التي يكمل فيها النقل ، ولقصر المدة وطولها تأثير في إضافة زيادة إلى القسط وعدم الإضافة ، وفي تعجيل دفع كامل القسط وعدم تعجيله .
ب- وتنقسم من حيث نطاق ضمان العقد إلى وثيقة اعتيادية ، وهي التي تضمن شيئا معينا من خطر معين ، وهي أكثر الوثائق شيوعا ، وإلى وثيقة عائمة ، وهي التي تتضمن شروطا عامة لتغطية شحنات متعددة لمدة غير محدودة بمبلغ تأمين إجمالي وبموجبها يلتزم المستأمن بدفع قسط التأمين بنسبة المبلغ الإجمالي مقدما ، ويكون قابلا للتسوية عند انتهاء عمليات الشحن ، وإلى وثيقة عامة وهي التي تصدر بالتأمين من أخطار متعددة يخشى حدوثها على أموال مختلفة ، ولذا يستوفى بموجبها قسط تأمين إجمالي يشمل كافة الأخطار المؤمن منها .
ج- وتنقسم من حيث قيمة التأمين إلى وثيقة محدودة ، وهي التي حددت فيها قيمة التأمين بالنسبة لقيمة محل التأمين وقمت العقد ، وإلى وثيقة غير محدودة ، وهي التي لم يجر فيها تحديد قيمة التأمين بالنسبة لقيمة المحل ، فإن زادت قيمة محل التأمين على مبلغ التأمين فليس للمستأمن حق المطالبة بمقابل هذه الزيادة عند تحقق الخطر ، وإن نقصت قيمة المحل عن مبلغ التأمين كان للمستأمن المطالبة برد نسبة معينة من قسط التأمين تحسب على أساس الفرق بين مبلغ التأمين وقيمة محل التأمين .
10 - المشاركة في التأمين :
قد يؤمن شخص على شيء معين ضد خطر معين عند عدد من شركات التأمين ، وتتجاوز جملة مبالغ التأمين القيمة الحقيقية لمحل التأمين ، فيكون لمجموع شركات التأمين حق توزيع الخسارة بينهم حال الخطر على محل التأمين ، كل منهم بنسبة مبلغ التأمين الذي التزم به ؛ منعا للمؤمن له من أن يتخذ التأمين طريقا تجاريا للربح ، كما أن للمؤمن له الحق في مطالبتهم بإعادة نسبة من قسط التأمين حسب نظام معروف يحكم بينهم في ذلك .
ويشترط لتطبيق مبدأ المشاركة في التأمين ما يأتي :
أ- أن يقوم نفس الشخص بالتأمين على محل معين لدى مؤمنين عدة .
ب- أن تشترك وثائق التأمين في تغطية نفس الأخطار .
ج- أن تحمي هذه الوثائق مصلحة تأمينية معينة .
د- أن تكون مبالغ التأمين في هذه الوثائق زائدة عن قيمة المحل .
هـ- أن تكون هذه الوثائق سارية المفعول وقت تحقق الخطر .
11 - التأمين الاقتراني وإعادة التأمين :
قد تختلف الأخطار التي جمعها المؤمن في طبيعتها وقيمتها فتعرضه لشدة الخطر ، ولذا يحتاج إلى تنسيقها ؛ ليخفف عن نفسه ، فيلجأ إلى التأمين الاقتراني أو إعادة التأمين ، ويتبين الفرق بينهما مما يأتي :
أ- التأمين الاقتراني : أن يحتفظ المؤمن لنفسه بجملة من التأمينات المتناسقة في حدود قدرته ويعرض ما بقي على مؤمنين آخرين ، وعند تحقق الخطر يقوم كل من المؤمنين بما التزم به في حدود حصته مرتبطا بالمؤمن له مستقلا عن غيره من المؤمنين .
ب- إعادة التأمين : هي عقد يبرم بين هيئتين من هيئات التأمين تسمى الأولى معطية ، والثانية معيدة ، فتحيل الأولى بمقتضى العقد حصصا من الأخطار التي لديها إلى الثانية التي تتعهد بقبولها حسب شروط العقد ، وتعتبر إعادة التأمين توثيقا للتأمين الأول ، وكفالة له فقط .
ونظرا لعدم التضامن بين المؤمنين في التأمين الاقتراني واختلاف إدارات شركات التأمين في نشاطها ووفائها ، وتأخر دفع التعويض للمؤمن له نتيجة لذلك ، ونظرا إلى زيادة الثقة في إعادة التأمين وتعجيل دفع التعويض لوحدة المسئول أمام المؤمن له وهو المؤمن الأول رغب المستأمنون في الشركات التي تلجأ في التنسيق إلى إعادة التأمين دون التي تلجأ إلى التأمين الاقتراني .
12 - نظريات التأمين :
تتنوع نظريات التأمين تبعا للأسس التي بنيت عليها اقتصادية ، أو فقهية ، أو فنية .
أ- فللتأمين نظريتان من الناحية الاقتصادية : إحداهما : التأمين للحاجة ، والباعث على ذلك حاجة الإنسان إلى إشباع رغبته من متطلبات الحياة أو إزالة ضرورته الواقعة أو المتوقعة . والثانية : التأمين للأمن ، والباعث عليه خوف وقوع خطر على نفسه أو أملاكه فيؤمن ؛ ليطمئن قلبه .
ب- وللتأمين من الناحية المدنية -وقد تسمى : الفقهية- نظريتان :
الأولى : التأمين عن الضرر ، والباعث عليه الرغبة في الحصول على التعويض عن الضرر ، الذي يصيبه عند وقوعه .
والثانية : التأمين في مقابل ، بناء على أن التأمين عقد مبادلة بين الأقساط الدورية ومبلغ التأمين .
ج- وللتأمين من الناحية الفنية نظريتان : الأولى : المقاصة المنظمة ؛ لتوزيع الأخطار على المستأمنين على ضوء أسس فنية ، والثانية : نظرية المقاولة فنيا ، بناء على أن كلا من مؤسسي شركات التأمين محترف ، فكل مؤسسي شركة يديرون مقاولة على نظم معروفة ، ويقومون بمقاصة على قواعد معلومة لديهم .
والله الموفق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وسلم .
الثاني : ذكر اختلاف الباحثين في حكمه ، وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة :
اختلف الباحثون من الفقهاء في حكم عقد التأمين التجاري :
فمنهم : من منعه مطلقا ، ومنهم : من أجازه مطلقا ، ومنهم : من فصل في ذلك ، وفيما يلي ذكر ما قيل في ذلك من الأدلة والمناقشة :
ذكر كلام المانعينا- قال الباجي : ومن دفع إلى رجل داره على أن ينفق عليه حياته . روى ابن المواز عن أشهب : لا أحب ذلك ، ولا أفسخه إن وقع ، وقال أصبغ : هو حرام ؛ لأن حياته مجهولة ويفسخ ، وقال ابن القاسم عن مالك : لا يجوز إذا قال : لا ينفق عليه حياته (1) .
2 - قال ابن عابدين : وسئلت في رمضان سنة أربعين ومائتين وألف عما إذا جرت العادة بين التجار أنهم يستأجرون مركبا من مراكب أهل الحرب ؛ لحمل بضائعهم وتجاراتهم ، ويدفعون للمراكبي الحربي الأجرة المشروطة ، وتارة يدفعون له مبلغا زائدا على الأجرة لحفظ البضاعة ، بشرط ضمان ما يأخذه أهل الحرب منها ، وأنه إن أخذوا منه شيئا فهو ضامن لصاحبها جميع قيمة ذلك ، فاستأجر رجل من التجار رجلا حربيا كذلك ودفع له مبلغا تراضيا عليه ، على أنه إن أخذ أهل الحرب منه شيئا من تلك البضاعة يكون ضامنا لجميع ما يأخذونه ، فسافر بمركبه ، فأخذه منه
__________
(1) [ المنتقى ] ( 5\41 ) .
بعض القطاع في البحر من أهل الحرب ، فهل يلزمه ضمان ما التزم حفظه وضمانه بالعوض أم لا ؟
فأجبت : الذي يظهر من كلامهم عدم لزوم الضمان ؛ لأن ذلك المراكبي أجير مشترك ، والخلاف في ضمان الأجير المشترك مشهور ، والمذهب : أنه لا يضمن ما هلك في يده ، وإن شرط عليه الضمان فيما في يده كما في [التنوير] ، ثم إذا هلك ما بيده بلا صنع منه ولا يمكنه دفعه والاحتزاز عنه ؛ كالحرق والغرق وخروج قطاع الطريق والمكابرين لا يضمن بالاتفاق ، لكنه في مسألتنا لما أخذ أجرة على الحفظ بشرط الضمان صار بمنزلة المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة ، فإنها إذا هلكت يضمن ، والفرق بينه وبين الأجير المشترك : أن المعقود عليه في الإجارة هو العمل ، والحفظ واجب عليه تبعا ، أما المودع بأجرة فإن الحفظ واجب عليه مقصود ببدل ؛ فلذا ضمن ، كما صرح بذلك الإمام فخر الدين الزيلعي في باب ضمان الأجير ، وهنا لما أخذ البدل بمقابلة الحفظ الذي كان واجبا عليه تبعا صار الحفظ واجبا عليه قصدا بالبدل فيضمن ، لكن يبقى النظر في أنه هل يضمن مطلقا أو فيما يمكن الاحتراز عنه ، والذي يظهر الثاني ؛ لاتفاقهم في الأجير المشترك على عدم ضمانه فيما لا يمكن الاحتراز عنه ، فالظاهر أن المودع بأجر كذلك ؛ لأن الموت والحريق ونحوهما مما لا يمكن ضمانه والتعهد بدفعه ، وقد صرحوا بأن إغارة القطاع المكابرين مما لا يمكن الاحتراز عنه ، فلا يضمن في صورتها ، حيث كان أخذ البضاعة من القطاع المكابرين الذين لا يمكن مدافعتهم ، لكن ذكر في [التنوير] قبيل باب كفالة الرجلين ، قال لآخر : اسلك هذا الطريق فإنه آمن ، فسلك وأخذ ماله لم
يضمن ، ولو قال : إن كان مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن ، ضمن ، وعلله في [الدر المختار] عن [الدرر] بأنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصا . انتهى . أي : بخلاف المسألة الأولى فإنه لا يضمن ؛ لأنه لم يصرح بقوله : فأنا ضامن ، وهذا إذا كان المال مع صاحبه ، وفي صورتنا المال مع الأجير وقد ضمن للمستأجر صفة السلامة نصا فيقتضي ضمانه بالأولى ، وإن لم يمكن الاحتراز لكن الظاهر أن مسألة التغرير المذكورة مشروطة بما إذا كان الضامن عالما بخطر الطريق ؛ ليتحقق كونه غارا وإلا فلا تغرير .
وسياق المسألة في [جامع الفصولين] في فصل الضمانات يدل على ما قلنا ، فإنه نقل عن فتاوى ظهير الدين ، قال له : اسلك هذا الطريق فإنه آمن ، فسلك ، فأخذه اللصوص لا يضمن ، ولو قال لو مخوفا : وأخذ مالك فأنا ضامن ، والمسألة بحالها ضمن ، فصار الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعارضة ، أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور فصار كقول الطحان لرب البر : اجعله في الدلو ، فجعله فيه ، فذهب من النقب إلى الماء ، وكان الطحان عالما به - يضمن إذ غره في ضمن العقد ، وهو يقتضي السلامة . انتهى ، وحاصله : أن الغار يضمن إذا صرح بالضمان أو كان التغرير في ضمن عقد المعاوضة ، وإن لم يصرح بالضمان ، كما في مسألة الطحان ، وقد صرح فيها بكون الطحان عالما بالنقب ، وما ذاك إلا ليتحقق كونه غارا كما يشير إليه تسميته بذلك ؛ لأن من لا علم له بذلك لا يسمى : غارا ، فلو لم يكن العلم شرطا في الضمان لكان حقه أن يعبر عنه بالآمر لا بالغار .
ويؤيد ذلك أيضا أنه في [جامع الفصولين] نقل بعد ذلك عن
[المحيط] : أن ما ذكره من الجواب في قوله : فإن أخذ مالك فأنا ضامن مخالف لما ذكره القدوري : إن من قال لغيره : من غصبك من الناس ، أو من بايعت من الناس فأنا ضامن لذلك -فهو باطل . انتهى .
فأجاب عنه في [نور العين] بقوله : يقول الحقير لا مخالفة أصلا ، والقياس مع الفارق ؛ لأن عدم الضمان في مسألة القدوري من جهة عدم التغرير فيها ، بخلاف ما نحن فيه فافترقا .
والعجب من غفلة مثل صاحب [ المحيط] ، مع ماله من فضل وذكاء البحر المحيط انتهى .
فقد أفاد أنه لا بد من التغرير ، وذلك بكونه عالما بخطر الطريق ، كما قلناه ، ففي مسألتنا : إن كان صاحب المركب غر المستأجر بأن كان عالما بالخطر يكون ضامنا ، وإلا فلا ، هذا ما ظهر لي ، والله تعالى أعلم .
لكن ينبغي تقييد المسألة بما إذا كان صاحب المال غير عالم بخطر الطريق ؛ لأنه إذا كان عالما لا يكون مغرورا ، لما في [القاموس] غره غرا وغرورا وغرة بالكسر ، فهو : مغرور وغرير : خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر هو ، وفي المغرب : الغرة بالكسر الغفلة ، ومنه أتاهم الجيش وهم غارون ، أي : غافلون ، وفي الحديث ( نهى عن بيع الغرور ) والخطر الذي لا يدري أيكون أم لا ، كبيع السمك في الماء ، والطير في الهواء ، فقد ظهر أن العالم بما قصد غيره أن يغره به لا يكون مغرورا ، أرأيت صاحب البر لو كان عالما بنقب الدلو وأمره الطحان بوضعه فيه هل يكون مغرورا ، بل هو مفرط مضيع لماله ، لا أثر لقول الطحان معه .
ففي مسألتنا لا بد أن يكون الأجير عالما بخطر الطريق والمستأجر غير
عالم به فيضمن ، وإن كان الأجير غير عالم أو المستأجر عالما فلا ضمان على الأجير لعدم تحقق التغرير ، والله تعالى أعلم (1) .
__________
(1) [مجموعة رسائل ابن عابدين] رسالة الأجوبة المحققة في أسئلة متفرقة ( 2\ 175- 177 ) .
3 - وقال الشيخ محمد بخيت المطيعي : ورد علينا خطاب من بعض العلماء المقيمين بالأناضول بالروملي الشرقي بولاية سلانيك العثمانية ، إلى أن قال : ( ورد خطابكم تذكرون به أن المسلم يضع ماله تحت ضمانة أهل قومبانية السوكرتاه أصحابها مسلمون وذميون أو مستأمنون ويدفع لهم نظير ذلك مبلغا من الدراهم حتى إذا هلك ماله الذي وضعه تحت ضمانهم يضمنونه له بمبلغ مقرر بينهم من الدراهم ، وتستفهمون عما إذا كان له شرعا أن يضمنهم ماله المذكور إذا هلك بحرق ونحوه أم لا يكون له ذلك ، وعما إذا كان يحل له ما أخذه من الدراهم إذا ضمنوا له ما هلك من ماله أم لا يحل له ذلك ، وعما إذا كان يشترط في حل ما يأخذه من الدراهم بدلا من ماله الهالك أن يكون كل من العقد وأخذ الدراهم المذكورة في غير دار الإسلام ، فإذا هلك الموضوع تحت الضمان كان لصاحبه أن يأخذ الدراهم المقررة بدلا من ماله الهالك ويتسلمها في دار الإسلام من وكيلهم الذمي أو المستأمن فيها ، وعما إذا كان يحل لأحد الشركاء أن يعقد ذلك بغير دار الإسلام وأن يأخذ بدل ماله الهالك أيضا في غير دار الإسلام ثم يعود بما أخذه إلى دار الإسلام أو يبعث به إلى شريكه أو وكيله بها أم لا يحل له ذلك أيضا .
وقلتم : إن ذلك مما عمت به البلوى في الديار التي أنتم بها الآن ، وأنكم راجعتم ما لديكم من كتب المذهب فلم تقفوا على شيء تطمئنون به
في حكم ذلك .
وأجاب : أن المقرر شرعا أن ضمان الأموال إما أن يكون بطريق الكفالة ، أو بطريق التعدي والإتلاف .
أما الضمان بطريق عقد الكفالة فليس متحققا هنا قطعا ؛ لأن شرطه أن يكون المكفول به دينا صحيحا لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء ، أو عينا مضمونة بنفسها بأن يجب على المكفول عنه تسليمها بعينها للمكفول له ، فإن هلكت ضمن له مثلها في المثليات وقيمتها في القيميات ، وذلك لمغصوب والمبيع بيعا فاسدا ، ثم أورد أمثلة أخرى ، ثم قال : وعلى ذلك لا بد من كفيل يجب عليه الضمان ، ومن مكفول له يجب تسليمه للمكفول له ، وبدون ذلك لا يتحقق عقد الكفالة ، ولا شبهة أنها لا تنطبق على العقد المذكور ؛ فإن المال الذي جعله صاحبه تحت ضمان أهل القومبانية لم يخرج عن يده ، ولا يجب عليه تسليمه لأحد غيره ؛ فلم يكن دينا عليه أداؤه ، ولا عينا مضمونة عليه بنفسها يجب عليه تسليم عينها قائمة أو مثلها أو قيمتها هالكة ، فأهل القومبانية لو ضمنوا يضمنون مالا للمالك وهو لم يزل تحت يده يتصرف فيه كيف يشاء ، فلا يكون شرعا من ضمان الكفالة ) .
وقال : في الضمان بالتعدي أو الإتلاف ( فهذا الضمان إنما يكون على المتعدي ؛ كالغاصب إذا هلك مغصوبه ، أو على المتلف ؛ كالشريك الموسر إذا أعتق نصيبه في عبد مشترك ، وأتلف بالعتق نصيب الشريك الآخر ، وأهل القومبانية لم يتعد واحد منهم على ذلك المال ، ولم يتلفه ولم يتعرض له بأدنى ضرر ، بل إن المال هلك بالقضاء والقدر ، ولو فرض وجود متعد أو متلف فالضمان عليه دون غيره ؛ فلا وجه حينئذ لضمان أهل
القومبانية من هذا الطريق أيضا ) .
إذا علم ما تقدم كان هذا العقد هو عبارة عن أن الإنسان يلتزم بدفع مقدار معين من الدراهم لأهل تلك القومبانية في نظير التزامهم أن يدفعوا له في حياته أو لورثته بعد موته مقدارا معينا من الدراهم إذا هلك ذلك الإنسان نفسه ، وهو ما يسمونه : ( سوكرتاه الحياة والنفس ) ، أو إذا أهلك المال الذي وضعه تحت ضمانهم ، وهو ما يسمونه سكرتاه الأموال مع كون المال المذكور باقيا تحت يد مالكه وفي تصرفه ، ولم يدخل تحت يد أحد من أهل القومبانية بوجه من الوجوه فيكون هذا العقد عقد التزام لما لا يلزم شرعا . . . إلى أن قال : ( والعقد المذكور لا يصح أن يكون سببا شرعيا لوجوب الضمان ، ولا يجوز أن يكون عقد المضاربة كما فهمه بعض العصريين ؛ لأن عقد المضاربة يلزم فيه أن يكون المال من جانب المضارب والربح على ما شرطا ، والعقد المذكور ليس كذلك ؛ لأن أهل القومبانية يأخذون المال على أن يكون لهم يعملون فيه لأنفسهم فيكون عقدا فاسدا شرعا ؛ وذلك لأنه معلق على خطر تارة يقع وتارة لا يقع فهو قمار معنى ) .
وقد صرح في [شرح السير الكبير] : ( بأن حكم الحربي المستأمن في دار الإسلام حكم أهل الذمة ) ، قال : ( وعلى هذا لا يحل أخذ ماله بعقد فاسد ، كما لا يحل أخذ مال الذمي به ، وقد صرحوا في معتبرات المذهب بأن المسلم المستأمن في غير دار الإسلام يحل له أن يأخذ مالهم برضاهم ولو بربا أو قمار ؛ لأن المحرم هو الغدر والخيانة فما أخذه برضاهم وليس فيه غدر ولا خيانة يكون حلالا على أي وجه أخذه ، وقد صرحوا أيضا بأن دار الإسلام محل إجراء الأحكام الشرعية دون غير دار الإسلام ، وإنه لا يحل
لمسلم في دار الإسلام أن يعقد مع المستأمن الذي فيها ، وليس منها إلا ما يحل من العقود مع المسلمين ) .
ثم قال : وعلى ذلك إما أن تكون مباشرة العقد في دار الإسلام وأخذ بدل الهالك فيها أيضا ففي هذه الصورة لا يحل لمسلم أخذ ذلك البدل ولا يطيب له ، بل إن قبضه ملكه ملكا خبيثا ، وإما أن تكون مباشرة العقد في غير دار الإسلام وأخذ بدل الهالك في غيرها أيضا ففي هذه الصورة يحل له ما أخذه من البدل ويطيب له ؛ لأنه إنما أخذه برضاهم في دارهم بدون غدر ولا خيانة ، وإما أن تكون مباشرة العقد في غير دار الإسلام ولكن أخذ بدل المال ، الهالك في دار الإسلام ففي هذه الصورة لا يحل أخذ ذلك البدل ؛ لما علمت أنه لا يحل لمسلم أن يأخذ في دار المسلم من مال المستأمن فيها ، وليس منها إلا ما يلزم ذلك المستأمن شرعا ، وهذا المال لم يلزمه شرعا ، وإما أن تكون مباشرة العقد بدار الإسلام ، ولكن أخذ بدل المال الهالك كان بغيرها ، وفي هذه الصورة يحرم مباشرة العقد والإقدام عليه في دار الإسلام ؛ لأن العقود الفاسدة منهي عن مباشرتها شرعا ، ولكن مع ذلك يحل أخذ بدل المال الهالك متى كان الأخذ بغير دار الإسلام وبرضاهم .
فالحاصل : أن المدار في حل أخذ بدل المال الهالك منهم على أن يكون ما أخذ من مالهم وفي بلادهم وبرضاهم لا يضر في ذلك كون الأخذ -مبنيا على سبب فاسد شرعا ، (1) .
__________
(1) [أسبوع الفقه الإسلامي] 423- 426 ، ويرجع أيضا إلى ص (12) من بحث التأمينات في المؤتمر السابع بمجمع البحوث الإسلامية بمصر .
4 - لقد ورد سؤال إلى الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- عن التأمين هذا نصه : رجل يضمن محل تجارته من الحريق في إحدى شركات الضمان ( السيكورتاه) على مبلغ معين من المال ، وقدر الله واحترق ذلك المحل ، فهل يجوز له شرعا مطالبة شركات الضمان بهذا المبلغ ويكون حلالا أم لا ؟ وهل كل أنواع الضمانات ضد الحريق والحياة والغرق والسرقة شرعية يجوز عملها أم لا ؟
فأجاب بقوله : كل ما في السؤال الأول فهو من المعاملات المالية غير المشروعة في الإسلام فلم يرد بها نص من الشارع ، ولم يقرها بالاجتهاد إمام عادل ، وإنما هي من العقود الحادثة عند أولي المدنية المادية في هذا العصر ، ومن التزمها في غير دار الإسلام والعدل لزمته شاء أم أبى ، وإنما هو مخير في أخذ ما ثبت له دون ما ثبت عليه ، وللمؤمن في غير دار الإسلام أن يأكل مال أهلها بعقودهم ورضاهم ؛ فهو لا يكلف معهم التزام أحكام دار الإسلام التي يلتزمونها ، ولكن عليه أن يحاسب نفسه على إضاعة ماله باختياره فيما له مندوحة عنه (1) .
5 - وأجاب أيضا عن التأمين على الحياة فقال : لم يذكر السائل كيفية هذا الضمان ولا عقده ، والمشهور أن هذه العقود التي تشبه الميسر ( القمار ) في كون الذي يعطي المال لشركة الضمان لا يعطيها إياه في مقابلة عمل تعمله له أو منفعة تسديها إليه ، وإنما يرجو بذلك أن تأخذ ورثته منها أكثر مما أعطى إن هو مات قبل المدة المعينة ، وجمهور الفقهاء يصرحون بأن
__________
(1) [ فتاوى المنار] ( 4\1640, 1641 ) .
مثل هذا العقد باطل ومحرم ؛ لما فيه من إضاعة المال الواجب حفظه وعدم بذله إلا فيما فيه منفعة دينية أو دنيوية معلومة أو مظنونة ، وليس كل العقود التي يحكم الفقهاء ببطلانها محرمة دينا ، فإنهم قد يشترطون شروطا اجتهادية لا يحكم قاضيهم ، ولا ينفذ أميرهم الحكم إلا إذا تحققت في العقد ، وإن لم يكن في ترك الشروط منها مخالفة لأمر الله ورسوله ، وقد صرخ بعض الفقهاء بحل جميع العقود والشروط التي يتعاقد الناس عليها ويشترطونها إذا لم تكن مخالفة للكتاب والسنة الصحيحة ، وهذا هو الصواب (1) .
__________
(1) [ فتاوى المنار] ( 3\964 ) .
6 - وقال إبراهيم الجبالي : وأما شركات التأمين على الأموال والأرواح فقد تغلغل الميل إليها في نفوس الكثير من الناس ، خصوصا من المستنيرين إلى حد يصعب معه اقتلاعه من عقولهم ، وأقوى حجة لهم في تبريرها أن يقول لك أحدهم : إني أدفع القليل ؛ ليطمئن قلبي على الكثير فأنا رابح الطمأنينة حال السلامة والعوض إذا ما طرأ ما أخشاه ، والشركة رابحة المال الذي تأخذه مني ومن سواي فكلا الطرفين مستفيد .
ونقول له : أليس أمرك دائرا بين أن تدفع بلا مقابل وذاك إذا قدرت لك بسلامة المال أو تأخذ مالا حق لك فيه وترزأ غيرك ممن دفع وهو لم يجن عليك فيما إذا عطب مالك ؟ أو ليس الأمر على كلا التقديرين أن هناك دفعا وغرما من أحد الجانبين بدون مقابل من الجانب الآخر ؟ فإنه لا قيمة لما دفعه المؤمن بالنسبة لما يأخذه على فرض عطبه ، كما أن طمأنينته عليه التي
زعم أنه استفادها في حالة سلامة ماله لا دخل لشركة التأمين فيما إذا لم تكن حارسة عليه ، ولا تستطيع أن تقف في وجه المقادير وتصاريف الزمان .
وأما التأمين على الحياة : فهو أبعد عن العقل السليم ، وأوجب للدهشة والاستغراب ، فما كانت الشركة لتطيل له عمرا ، وما كانت لتبعد عنه قدرا ، ولكنها التعللات بالأماني ، وما أشبهها بشئون الدجالين والمشعوذين ، سيقول لك قائلهم نفس المقالة الأولى أو قريبا منها ، سيقول : إني متى دفعت ولو قسطا واحدا فإذا فاجأتني المنية استحق ورئتي ما أمنت به على حياتي ، فكان لهم بذلك عزاء وسلوة عن فقدي ، وإذا بقيت المدة المضروبة لي استرجعت كل ما دفعت بأرباحه ، فأنا مستفيد على كلتا الحالتين ، وللشركة فائدتها أيضا ، وهي : التصرف في تلك الأموال مما يجتمع لها مني ومن غيري ، فيتكون لها رأس مال عظيم تستغله فيما ترى من المشروعات التجارية ، ومفاجآت العطب قليلة ؛ فغرمها نادر لا يؤثر فيها ؛ لأن كل امرئ حريص على حياته وماله ، محافظ عليهما جهد استطاعته ، وكل واحد يعمل لمصلحتها من حيث يعمل لمصلحه نفسه ، فكلا الطرفين مستفيد .
ونقول له : ليكن كل ما تقول ، فما خرجت عن أنها معاملة فيها غرم أحد الطرفين حتما بلا مقابل ، وما كانت العدالة إلا في المعاوضة ، وأن يكون من كل طرف عوض يعادل ما استفاده ، وأن يكون بين العوضين مناسبة تحقق المعادلة ولو التقريبية حتى تستقيم روح العدالة ، فأما وأحد الطرفين غارم حتما بلا غنم ، أو غانم حتما بلا غرم فلا عدالة ، بل هي المقامرة والميسر ، غير أنه لبس ثوبا لماعا ، وجاء من قوم أوليناهم ثقتنا العمياء
وأخذنا منهم كل ما قالوه بالتقليد الأعمى ، وما منشأ ذلك إلا أن جماعة منهم بهروا الناس بقوة استخدامهم للمادة واستنباطهم لقوى الطبيعة مما لا نغمطهم حقهم فيه ، فكان لمجتمعهم في النفوس عزة الغلبة فأسلم الناس القياد لهم شأن كل غالب مع كل مغلوب ، وإلا فمتى وزنت تلك التصرفات بميزان العقل السليم والنقد النزيه وجد ضررها أكبر من نفعها ، وهكذا شأن أغلب المضار المنهي عنها لمصلحة المجتمع تجد ضررها أكبر من نفعها ، فلا تكاد ترى شيئا تمخض للضرر بدون وجه نفع ، وتمخض للنفع بدون وجه ضرر حتى إن الخمر والميسر وهما ما هما في الضرر لم يخلوا عن نفع ما ، ولكنه ضئيل إذا قيس بكبير ضررهما ، كما قال جل شأنه : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } (1) وشأن التشريع الصحيح أن يعتمد على الموازنة بين النفع والضرر ، فما غلب نفعه أحله وما غلب ضرره حرمه ، والله عليم حكيم (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 219
(2) [ مجلة الأزهر ] ( 1\367 ) وما بعدها .
7 - وقال الشيخ عبد الرحمن تاج بعد عرضه لصورة التأمين : إن عقود التأمين على الصورة التي قدمناها ليس لها مسوغ من الوجهة الشرعية الإسلامية حتى في الحالة التي لا يشترط فيها على الشركة - أي : عقد التأمين على الحياة - دفع فوائد ربوية مع أصل مبلغ التأمين المتفق عليه لصاحب العقد على فرض بقائه حيا إلى نهاية المدة المعينة ، فإن العقد ذاته
فاسد مشتمل على شروط فاسدة وعلى طريقة يستباح بها أكل أموال الناس بالباطل ، ومثل ذلك يقال في حكم التأمين على الأموال (1) .
__________
(1) من بحث له طبع بمجمع البحوث الإسلامية للمؤتمر السابع .
أدلة المانعين مطلقا
أ- التأمين : عقد من عقود الغرر ، وعقود الغرر ممنوعة .وقبل ذكر كلام المحدثين في الاستدلال بهذا الدليل ومناقشتهم نذكر
معنى الغرر لغة واصطلاحا
، وأقسامه ، وبيان ما يكون من أقسامه سببا في تحريم العقد وما لا يكون :معنى الغرر : لغة واصطلاحا :
لما ذكر أحمد بن فارس بن زكريا : أن الغرر له أصول ثلاثة صحيحة وذكر منها : النقصان ، قال : ومن الباب : بيع الغرر ، وهو الخطر الذي لا يدري أيكون أم لا ؟ كبيع العبد الآبق والطائر في الهواء فهذا ناقص لا يتم البيع فيه أبدا (1) .
ونقل ابن منظور عن أبي زيد : والغرر الخطر ، « ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر » (2) ، وهو مثل بيع السمك في الماء والطير في الهواء ، والتغرير حمل النفس على الغرر ، وقد غرر بنفسه تغريرا وتغرة كما يقال : حلل تحليلا وتحلة وعلل تعليلا وتعلة ، وقيل : بيع الغرر المنهي عنه ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول . يقال : إياك وبيع الغرر ، قال : بيع الغرر أن يكون على غير عهدة ولا ثقة ، قال الأزهري : ويدخل في بيع الغرر البيوع
__________
(1) [معجم مقاييس اللغة] ( 4\380, 381 ) .
(2) صحيح مسلم البيوع (1513),سنن الترمذي البيوع (1230),سنن النسائي البيوع (4518),سنن أبو داود البيوع (3376),سنن ابن ماجه التجارات (2194),مسند أحمد بن حنبل (2/439),سنن الدارمي البيوع (2563).
المجهولة التي لا يحيط كنهها المتبايعان حتى تكون معلومة ، وفي حديث مطرف إن لي نفسا واحدة وإني أكره أن أغرر بها ، أي : أحملها على غير ثقة ، قال : وبه سمي الشيطان غرورا ؛ لأنه يحمل الإنسان على محابه ووراء ذلك ما يسؤه كفانا الله فتنته ، وفي حديث الدعاء وتعاطي ما نهيت عنه تغريرا ، أي : مخاطرة وغفلة عن عاقبة أمره ، وفي الحديث : لأن أغتر بهذه الآية ، يريد قوله تعالى : { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } (1) وقوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا } (2) المعنى : أن أخاطر بتركي مقتضى الأمر بالأولى أحب إلي من أن أخاطر بالدخول تحت الآية الأخرى (3) .
وقال ابن الأثير : الغرر ماله ظاهر تؤثره ، وباطن تكرهه ، فظاهره يغر المشتري ، وباطنه مجهول (4) .
وأما كلام الفقهاء : فقد قال السمرقندي في أثناء الكلام على أنواع البيوع الفاسدة قال : ومنها : أن يكون في المبيع وفي ثمنه غرر ، مثل : بيع السمك في الماء وهو لا يقدر على تسلميه بدون الاصطياد والحيلة ، وبيع الطير في الهواء ، أو بيع مال الغير على أن يشتريه فيسلمه إليه ؛ لأنه باع ما ليس بمملوك له للحال ، وفي ثبوته غرر وخطر (5) .
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة النساء الآية 93
(3) [ لسان العرب ] ( 6\317 ) , ويرجع أيضا إلى [ القاموس] ( 2\99 ) وما بعدها .
(4) [ جامع الأصول ] ( 1\527, 528 ) .
(5) [ تحفة الفقهاء] ( 2\66, 67 ) .
وأما المذهب المالكي : فإن القرافي رحمه الله ذكر بحثا في الفرق بين الجهالة والغرر من حيث الحقيقة والأثر ، نصه ما يلي :
اعلم أن العلماء قد يتوسعون في هاتين العبارتين ، فيستعملون إحداهما موضع الأخرى ، وأصل الغرر هو الذي لا يدرى هل يحصل أم لا ؟ كالطير في الهواء والسمك في الماء ، وأما ما علم حصوله وجهلت صفته فهو المجهول كبيعه ما في كمه فهو يحصل قطعا لكن لا يدرى أي شيء هو .
فالغرر والمجهول كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه ، وأخص من وجه ، فيوجد كل واحد منهما مع الآخر وبدونه ، أما وجود الغرر بدون الجهالة فكشراء العبد الآبق المعلوم قبل الإباق لا جهالة فيه وهو غرر ؛ لأنه لا يدري هل يحصل أم لا ، والجهالة بدون الغرر كشراء حجر يراه لا يدري أزجاج هو أم ياقوت مشاهدته تقتضي القطع بحصوله فلا غرر ، وعدم معرفته تقتضي الجهالة به .
وأما اجتماع الغرر والجهالة فكالعبد الآبق المجهول الصفة قبل الإباق .
ثم الغرر والجهالة يقعان في سبعة أشياء في الوجود كالآبق قبل الإباق ، والحصول إن علم الوجود كالطير في الهواء ، وفي الجنس كالسلعة لم يسمها ، وفي النوع كعبد لم يسمه ، وفي المقدار كالبيع إلى مبلغ رمي الحصاة ، وفي التعيين كثوب من ثوبين مختلفين ، وفي البقاء كالثمار قبل بدو صلاحها فهذه سبعة موارد للغرر والجهالة ، ثم الغرر والجهالة ثلاثة أقسام : كثير ممتنع إجماعا ، كالطير في الهواء ، وقليل جائز إجماعا ، كأساس الدار وقطن الجبة ، ومتوسط اختلف فيه ، هل يلحق بالأول أو الثاني ؛ فلارتفاعه عن القليل ألحق بالكثير ، ولانحطاطه عن الكثير ألحق
بالقليل ، وهذا هو سبب اختلاف العلماء في فروع الغرر والجهالة . اهـ (1) .
وقال محمد بن علي بن حسين : بعد ذكره للأقسام السبعة المتقدمة ، وبقي الجهل بالأجل إن كان هناك أجل ، والجهل بالصفة فهذه تسعة موارد للغرر من جهة الجهالة (2) .
وقال القرافي : الفرق الرابع والعشرون بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر ، وقاعدة ما لا يؤثر فيه ذلك من التصرفات .
وردت الأحاديث الصحيحة في نهيه عليه السلام عن بيع الغرر ، وعن بيع المجهول ، واختلف العلماء بعد ذلك : فمنهم من عممه في التصرفات - وهو الشافعي - فمنع من الجهالة في الهبة والصدقة والإبراء والخلع والصلح وغير ذلك . ومنهم من فصل - وهو مالك - بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة ، وهو باب المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال ، وما يقصد به تحصيلها ، وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو ما لا يقصد لذلك ، وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام : طرفان ، وواسطة ، فالطرفان : أحدهما : معاوضة صرفة ، فيجتنب فيه ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة ، كما تقدم إن الجهالات ثلاثة أقسام ، فكذلك الغرر والمشقة . وثانيهما : ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال ، كالصدقة والهبة والإبراء ، فإن هذه التصرفات لا يقصد بها تنمية المال ، بل
__________
(1) [ الفروق ] ( 3\265, 266 ) .
(2) [ تهذيب الفروق] ( 3\271 ) .
إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه فإنه لم يبذل شيئا بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المال المبذول في مقابلته فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه ، أما الإحسان الصرف فلا ضرر فيه فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإحسان التوسعة فيه بكل طريق ، بالمعلوم والمجهول ، فإن ذلك أيسر ؛ لكثرة وقوعه قطعا ، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله ، فإذا وهب له عبده الآبق جاز أن يجده فيحصل له ما ينتفع به ، ولا ضرر عليه إن لم يجده ؛ لأنه لم يبذل شيئا ، وهذا فقه جميل ، ثم إن الأحاديث لم يرد فيها ما يعم هذه الأقسام حتى نقول يلزم منه مخالفة منصوص صاحب الشرع ، بل إنما وردت في البيع ونحوه ، وأما الواسطة بين الطرفين فهو النكاح . . . إلخ (1) .
وقال محمد بن علي بن حسين مبينا أقسام الجهالة والغرر ما نصه :
وذلك أن الغرر والجهالة كما يؤخذ مما مر ثلاثة أقسام ، وقسم أبو الوليد الغرر إلى ثلاثة أقسام : كثير وقليل ومتوسط ، وجعل الكثير عبارة عن القسمين الأولين في هذا التقسيم فقال في بداية المجتهد : الفقهاء متفقون على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز ، وأن القليل يجوز ويختلفون في أشياء من أنواع الغرر ؛ لترددها بين الغرر الكثير والقليل . اهـ (2) .
وأما المذهب الشافعي : فقد قال النووي : وأما النهي عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع ؛ ولهذا قدمه مسلم ، ويدخل في مسائل
__________
(1) [ الفروق ] ( 1\15 ) .
(2) [ تهذيب الفروق] ( 1\170 ) .
كثيرة غير منحصرة ، كبيع الآبق والمعدوم والمجهول ، وما لا يقدر على تسليمه ، وما لم يتم ملك البائع عليه ، وبيع السمك في الماء الكثير ، واللبن في الضرع ، وبيع الحمل في البطن ، وبيع بعض الصبرة مبهما ، وبيع ثوب من أثواب وشاة من شياه ، ونظائر ذلك ، وكل هذا بيع باطل ؛ لأنه غرر من غير حاجة ، وقد يحتمل بعض الغرر بيعا إذا دعت إليه الحاجة ، كالجهل بأساس الدار ، وكما إذا باع الشاة الحامل والتي في ضرعها لبن فإنه يصح البيع ؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار ؛ ولأن الحاجة تدعو إليه ، فإنه لا يمكن رؤيته ، وكذا القول في حمل الشاة ولبنها ، وكذلك أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير ، منها أنهم أجمعوا على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز ، وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة ونحو ذلك شهرا مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يوما وقد يكون تسعة وعشرين ، وأجمعوا على جواز دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وفي قدر مكثهم ، وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض مع جهالة قدر المشروب واختلاف عادة الشاربين وعكس هذا ، وأجمعوا على بطلان بيع الأجنة في البطون والطير في الهواء . قال العلماء : مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده ما ذكرناه ، وهو : أنه إن دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة ، وكان الغرر حقيرا جاز البيع وإلا فلا ، وما وقع في بعض مسائل الباب من اختلاف العلماء في صحة البيع فيها وفساده ، كبيع الغائبة مبني على هذه القاعدة ، فبعضهم يرى : أن الغرر حقير ، فيجعله كالمعدوم فيصح البيع ، وبعضهم يراه ليس بحقير فيبطل البيع ،
والله أعلم (1) .
قال الخطابي على هذا الحديث : قال الشيخ : أصل الغرر : هو ما طوي عنك علمه ، وخفي عليك باطنه وسره ، وهو مأخوذ من قولك : طويت الثوب على غره ، أي : على كسره الأول ، وكل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم ، ومعجوزا عنه غير مقدور عليه فهو غرر ، وذلك مثل : أن يبيعه سمكا في الماء أو طيرا في الهواء أو لؤلؤة في البحر أو عبدا آبقا أو جملا شاردا أو ثوبا في جراب ، لم يره ولم ينشره أو طعاما في بيت لم يفتحه ، أو ولد بهيمة لم يولد ، أو ثمر شجرة لم تثمر ، ونحوها من الأمور التي لا تعلم ، ولا يدرى هل تكون أم لا ؟ فإن البيع مفسوخ فيها . وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه البيوع ؛ تحصينا للأموال أن تضيع ، وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها ، وأبواب الغرر كثيرة ، وجماعها : ما دخل في المقصود منه الجهل (2) .
وأما الغرر عند الحنابلة : فقد قال موسى الحجاوي : الخامس - أي : شروط البيع - أن يكون مقدورا على تسليمه ، فلا يصح بيع آبق علم مكانه أو جهل ولو لقادر على تحصيله ، وكذا جمل شارد ، وفرس غائر ، ونحوهما ، ولا نحل ولا طير في الهواء ، يألف الطير الرجوع أو لا ، ولا سمك في لجة ماء (3) .
__________
(1) [ شرح النووي على مسلم] ( 10\156, 157 ) .
(2) [مختصر شرح وتهذيب أبي داود] ( 5\47, 489 .
(3) [ الإقناع] ( 2\64 ) .
وأما كلام بعض الفقهاء المعاصرين :
فقال الصديق محمد الأمين الضرير : عقد التأمين من العقود الاحتمالية عند جمهرة رجال القانون ؛ لأن المستأمن من لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ ، فقد يدفع قسطا واحدا ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم المؤمن به ، وقد لا تقع الكارثة مطلقا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئا ماديا ، وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي أو يأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده ، وإن كان يستطيع إلى حد كبير ت التأمين في مثل هذه الأحوال لدفع مبالغ أكثر مما كانت تتوقع ، والعقد الاحتمالي هو عقد الغرر ، وقد ورد في الحديث الصحيح النهي عن بيع الغرر ، وقاس الفقهاء عقود المعاوضات المالية على البيع . وعقد التأمين من عقود المعاوضات المالية فيؤثر فيه الغرر كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات .
وقد قسم الفقهاء الغرر بالنسبة لتأثيره في عقود المعاوضات المالية ثلاثة أقسام :
1 - غرر كثير ، وهذا يؤثر في عقود المعاوضات فيفسدها إجماعا ، كبيع الطير في الهواء إلا ما دعت الضرورة إليه عادة .
2 - غرر يسير ، وهذا لا تأثير له إجماعا ، كقطن الجبة وأساس الدار .
3 - غرر متوسط ، وهذا مختلف فيه ، فبعض الفقهاء يلحقه باليسير ،
وبعضهم يلحقه بالكثير.
والغرر في التأمين ليس يسيرا قطعا؛ فهو إما من الغرر الكثير أو المتوسط، وأرجح أنه من الغرر الكثير؛ لأن من أركان عقد التأمين التي لا يوجد بدونها (الخطر)، والخطر هو حادثة محتملة لا تتوقف على إرادة أحد الطرفين، والتأمين لا يجوز إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، فالغرر عنصر ملازم لعقد التأمين، ومن الخصائص التي يتميز بها. وهذا يجعله من الغرر المنهي عنه.
يقول الباجي في [المنتقى]: نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر يقتضي فساده، ومعنى بيع الغرر والله أعلم: ما كثر فيه الغرر وغلب عليه حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر، فهذا الذي لا خلاف في المنع منه .
وهذا الضابط ينطبق على عقد التأمين، وقد أورد الباجي في أثناء كلامه عن بيع الغرر مسألة توافق صورة من صور التأمين على الحياة تعرف في اصطلاح علماء القانون: (بالتأمين لحال البقاء براتب عمري وهو: أن يتعهد المؤمن بدفع إيراد لمدى الحياة نظير مبلغ متجمد يدفعه له المستأمن). يقول الباجي : (ومن دفع إلى رجل داره على أن ينفق عليه حياته)، روى ابن المواز عن أشهب : لا أحب ذلك ولا أفسخه إن وقع. وقال أصبغ : هو حرام؛ لأن حياته مجهولة ويفسخ.
وقال ابن القاسم : عن مالك : لا يجوز إذا قال: على أن ينفق عليه حياته، قال الصديق محمد الضرير : فهذه الصورة من صور التأمين غير جائزة عند هؤلاء الفقهاء؛ لما فيها من غرر، ويفسخ العقد إن وقع إلا عند
أشهب فإنه لا يفسخ العقد مع منعه له ابتداء (1) .
وقد أجاب الأستاذ مصطفى الزرقاء عن كون عقد التأمين فيه غرر بقوله:
إن الغرر في اللغة العربية هو: الخطر، والمراد به في هذا المقام الشرعي أن يكون أصل البيع الذي شرع طريقا لمعاوضة محدودة النتائج والبدلين، قائما على مخاطرة أشبه بالقمار والرهان بحيث تكون نتائجه ليست معاوضة محققة للطرفين، بل ربحا لواحد وخسارة لآخر بحسب المصادفة.
وبالنظر فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البيوع تطبيقا لما نهى من الغرر يتضح لنا المقصود من الغرر في الحديث النبوي.
فقد نهى النبي عليه السلام تطبيقا لذلك عن بيع المضامين، وهي: ما سوف ينتج من أصلاب فحول الإبل الأصيلة من أولاد.
ونهى عن بيع الملاقيح، وهي ما ستنتجه إناث الإبل الأصيلة من نتاج. ونهى أيضا عن ضربة القانص، وهي: بيع ما ستخرجه شبكة الصياد البحري من السمك، أو ما يقع في شبك الصياد البري من حيوان أو طير... ونهى أيضا عن بيع ضربة الغائص، وهي: ما سيخرجه الغواص من لؤلؤ في غوصته المقبلة، ونهى أيضا عن بيع الثمار على الأشجار في بداية انعقادها قبل أن يبدو صلاحها وتأمن العاهة، وقال للسائل عنها: « أرأيت لو منع الله الثمرة فبما يستحل أحدكم مال أخيه » (2) .
تلك المناهي النبوية تطبيق للنهي عن الغرر، وهي كما يرى من طبيعة
__________
(1) [ أسبوع الفقه الإسلامي] (ص461) وما بعدها
(2) صحيح البخاري البيوع (2087),صحيح مسلم المساقاة (1555),سنن النسائي البيوع (4526),موطأ مالك البيوع (1304).
واحدة تدل على نوع المقصود، وقد قرر الفقهاء بناء على هذا النظر: عدم انعقاد بيع الأشياء غير مقدورة التسليم، أي: التي لا يستطيع البائع فيها التنفيذ العيني بتسليم المبيع ذاته، ولو كانت معيبة بذاتها لا جهالة فيها عند العقد، كبيع طير في الهواء أو سمكة في الماء لا يمكن أخذها إلا بصيد؛ لأن صيدها غير موثوق بإمكانه فيكون ذلك غررا، وإذا نظرنا أيضا إلى أن عنصر المغامرة والاحتمال والمخاطرة في حدوده الطبيعية قلما تخلو منه أعمال الإنسان وتصرفاته المشروعة باتفاق المذاهب.
فالتجارة والزراعة والكفالة وسائر الأعمال والتصرفات التي يبتغى من ورائها مكاسب حيوية هي معرضة للأخطار، وفاعلها مقدم على قدر من الغرر، والمغامرة لا تخلو منه طبيعة الأشياء، إذا نظر ذلك وتأملنا في أنواع التصرفات التي خصها النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي تطبيقا للنهي عن الغرر، ومنها ما قد علل النبي عليه السلام نفسه نهيه عنه بالغرر- أدركنا أن الغرر المنهي عنه هو نوع فاحش متجاوز لحدود الطبيعة، بحيث يجعل العقد كالقمار المحض، اعتمادا على الحظ المجرد في خسارة واحد وربح آخر دون مقابل، فلا يصلح أن يكون أساسا يعتمد عليه في تصرفات اقتصادية، كما في الأمثلة المتقدمة؛ لأنها ترتكز على أسس موهومة.
فإذا طبقنا هذا المقياس على نظام التأمين وعقده وجدنا الفرق كبيرا، فعقد التأمين فيه معاوضة محققة النتيجة فور عقده حتى إني لأنتقد على القانونيين عده من العقود الاحتمالية دون تحفظ، فالتأمين فيه عنصر احتمالي بالنسبة إلى المؤمن فقط حيث يؤدي التعويض إلى المستأمن إن وقع الخطر المؤمن عنه، فإن لم يقع لا يؤدي شيئا على أن هذا الاحتمال
أيضا إنما هو بالنسبة إلى كل عقد تأمين على حدة، لا بالنسبة إلى مجموع العقود التي يجريها المؤمن، ولا بالنسبة إلى نظام التأمين في ذاته؛ لأن النظام وكذا مجموع العقود يرتكزان على أساس إحصائي ينفي عنصر الاحتمال حتى بالنسبة للمؤمن عادة.
أما بالنسبة إلى المستأمن فإن الاحتمال فيه معدوم؛ ذلك لأن المعاوضة الحقيقية في التأمين بأقساط إنما هي بين القسط الذي يدفعه المستأمن وبين الأمان الذي يحصل عليه، وهذا الأمان حاصل للمستأمن بمجرد العقد دون توقف على الخطر المؤمن منه بعد ذلك؛ لأنه بهذا الأمان الذي حصل عليه واطمأن إليه لم يبق بالنسبة إليه فرق بين وقوع الخطر وعدمه فإنه إن لم يقع الخطر ظلت أمواله وحقوقه ومصالحه سليمة، وإن وقع الخطر عليها أحياها التعويض، فوقوع الخطر وعدمه بالنسبة إليه سيان بعد عقد التأمين، وهذا ثمرة الأمان والاطمئنان الذي منحه إياها المؤمن نتيجة للعقد في مقابل القسط، وهنا المعاوضة الحقيقية على أن عنصر الاحتمال قد قبله الفقهاء في الكفالة ولو عظم، فقد نصوا على أن الإنسان لو قال لآخر: تعامل مع فلان وما يثبت لك عليه من حقوق فأنا كفيل به صحت الكفالة هكذا رغم الاحتمال في وجود الدين في المستقبل وجهالة مقداره.
وصرحوا بصحة تعليقها على الخطر المحض في الشرط الملائم، كما لو قال الشخص لدائن: إن أفلس مدينك فلان أو مات في هذا الشهر مثلا أو إن سافر فأنا كفيله- فإن الكفالة تنعقد صحيحة، ويلتزم بموجبها إن وقع الشرط.
فعلى فرض وجود غرر في عقد التأمين ليس هو من الغرر الممنوع
شرعا، بل من النوع المقبول، فإن قيل: إن الأمان ليس مالا يقابل بعوض، قلنا: إن الأمان أعظم ثمرات الحياة، وهو الذي امتن الله به على قريش بقوله: { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ } (1) { الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } (2) وإن الإنسان يسعى ويكد ويكدح ويبذل أغلى الأثمان من ماله وراحته في سبيل الحصول على الأمان والاطمئنان لنفسه ولأسرته ولحقوقهم ولمستقبلهم، فأي دليل في الشرع يثبت أنه لا يجوز الحصول عليه لقاء مقابل؛ هذا تحكم في شرع الله.
وإننا نجد في بعض العقود القديمة المتفق بين جميع المذاهب الفقهية على شرعيتها ما يشهد لجواز بذل المال بطريق التعاقد بغية الاطمئنان والأمان على الأموال ذلك هو عقد الاستئجار على الحراسة (3) .
وأجاب الأستاذ أبو زهرة عن ذلك فقال: ولقد قرر المانعون لعقد التأمين غير التعاوني أن فيه غررا، فمحل العقد فيه غير ثابت، وغير محقق الوجود، فيكون كبيع ما تخرجه شبكة الصائد، وكبيع ما يكون في بطن الحيوان، ووجه المشابهة: أن المبيع في هذه الصور غير معلوم محله وغير مؤكد الوجود، بل الوجود فيه احتمالي، وكذلك التأمين غير التعاوني محل العقد غير ثابت، فما هو محل العقد؟ أهو المدفوع من المستأمن، أم المدفوع من الشركة المؤمنة، أم هما معا باعتبار أن ذلك العقد من الصرف، ولا يكون مخرجا إلا على ذلك النحو، ولا شك أن ما يدفعه المستأمن غير
__________
(1) سورة قريش الآية 3
(2) سورة قريش الآية 4
(3) [ أسبوع الفقه الإسلامي] (ص 401) وما بعدها
متعين فقد يكون قليلا وقد يكون كثيرا، وقد يكون كل ما نص عليه في الاتفاق وما تدفعه الشركة قد يكون قليلا، وقد يكون كثيرا، وفي الكثير لا تدفع شيئا، بل ترد ما أخذت مضافا إليه بعض ما كسبت فهل يكون كل ذلك خاليا من الغرر.
ويقرر الأستاذ: أن التفاوت في المبادلات لا يمنع الصحة، ونقول: إنه لا تفاوت هنا فقط، إنما هو الاحتمال وعدم التعيين، والاختلاف في قيم الأبدال في المعاوضات العادية لا احتمال فيها، وحيث كان الاحتمال فهو الغرر والقمار فليس ثمة بدل يتعين قليلا أو كثيرا ؛ ولذلك قرر فقهاء القانون المدني أن عقد التأمين عقد محله احتمالي، ولا مانع عندهم من جوازه، ولكن الأستاذ الجليل مصطفى الزرقاء يقول: لا غرر مطلقا، بل لا احتمال في محل العقد، فإن كل العقد هو الأمان (1) .
__________
(1) [ أسبوع الفقه الإسلامي] (ص 520) وما بعدها
ب-
عقود التأمين فيها جهالة توجب التحريم
.وقبل ذكر كلام المحدثين في الاستدلال بذلك والمناقشة نذكر كلام الفقهاء في المصادر التي رجع إليها المانعون في استدلالهم على تحريم التأمين.
لقد وردت أدلة في حكم بيع المجهول نذكر منها ما فيه كفاية، ثم نذكر كلام الفقهاء في حكم بيع المجهول.
أما الأدلة فمنها: ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين، وعن بيعتين،
نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذاك، والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه وينبذ الآخر ثوبه ويكون ذلك بيعهما عن غير نظر ولا تراض » (1) الحديث، هذه رواية البخاري ومسلم إلا أن اللفظ للبخاري .
قال ابن الأثير : الملامسة والمنابذة قد مر تفسيرهما في الحديث ونزيدها هنا بيانا. قال: هو: أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يلمس المبيع من وراء ثوب ولا ينظر إليه ثم يقع البيع عليه، وهذا هو بيع الغرر والمجهول.
وأما المنابذة فهي: أن يقول أحد المتبايعين للآخر: إذا نبذت إلي الثوب ونبذته إليك فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع.
وقال الفقهاء نحو ذلك في الملامسة والمنابذة، وهذا لفظهم.
قالوا: الملامسة: أن يقول: مهما لمست ثوبي فهو مبيع منك، وهو باطل؛ لأنه تعليق وعدول عن الصيغة الشرعية، وقيل معناه: أن يجعل اللمس بالليل في ظلمة قاطعا للخيار، ويرجع ذلك إلى تعليق اللزوم وهو غير نافذ، قالوا: والمنابذة في معنى الملامسة، وقيل: معناه: أن يتنابذ السلع، وتكون معاطاة فلا ينعقد بها البيع عند الشافعي رحمه الله (2)
ومنها: ما رواه البخاري ومسلم و مالك وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « نهى عن بيع حبل الحبلة » (3) وكان بيعا يبتاعه أهل
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5482).
(2) [ جامع الأصول] (1\524, 525) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2036),صحيح مسلم البيوع (1514),سنن الترمذي البيوع (1229),سنن النسائي البيوع (4625),سنن أبو داود البيوع (3380),سنن ابن ماجه التجارات (2197),مسند أحمد بن حنبل (2/76),موطأ مالك البيوع (1357).
الجاهلية، وكان الرجل يبتاع لحم الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها هذه رواية [الموطأ]، وفي رواية البخاري ومسلم قال: « كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك » (1) ، وفي أخرى للبخاري نحوه وقال: ثم تنتج التي في بطنها، وفي أخرى له قال: « كانوا يبتاعون الجزور إلى حبل الحبلة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه » (2) ، ثم فسره نافع : أن تنتج الناقة ما في بطنها.
قال ابن الأثير : حبل الحبلة: مصدر سمي به المحمول كما سمي بالحمل، وإنما أدخلت عليه التاء للأشعار بمعنى الأنوثة فيه، وذلك أن معناه: أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أن يكون أنثى، وإنما نهى عنه؛ لأنه غرر، والحبل الأول: يراد به ما في بطن النوق، والثاني: حبل الذي في بطن النوق (3)
وأما معنى المجهول في اللغة والاصطلاح: فقال أحمد بن فارس بن زكريا في مادة (جهل) الجيم والهاء واللام أصلان: أحدهما خلاف العلم... فالأول الجهل نقيض العلم، ويقال للمفازة التي لا علم بها: مجهل (4)
وقال الفيروزآبادي : (جهله) كسمعه، جهلا وجهالة ضد علمه (5)
وقال أيضا: والجهل نقيض العلم، جهله يجهله جهلا وجهالة وجهل
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3630),صحيح مسلم البيوع (1514),سنن النسائي البيوع (4625).
(2) صحيح البخاري السلم (2137).
(3) [ جامع الأصول] ( 1 \489 , 490) .
(4) [ معجم مقاييس اللغة] (1\489) .
(5) [القاموس] (3\342) .
عليه أظهر الجهل كتجاهل وهو جاهل..
والجهل على ثلاثة أضرب:
الأول: خلو النفس من العلم هذا هو الأصل، وقد جعل بعض المتكلمين الجهل معنى مقتضيا للأفعال الخارجة عن النظام كما جعل العلم معنى مقتضيا للأفعال الجارية على النظام.
الثاني: اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه.
الثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا كمن ترك الصلاة عمدا، وعلى ذلك قوله تعالى: { قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } (1) سورة البقرة , الآية 67 , فجعل فعل الهزو جهلا (2)
وقال ابن منظور في مادة (جهل): الجهل نقيض العلم، وقد جهله فلان جهلا وجهالة، وجهل عليه وتجاهل أظهر الجهل، عن سيبويه.
والمعروف في كلام العرب جهلت الشيء إذا لم تعرفه (3) انتهى المقصود.
وأما كلام الفقهاء: فقد ذكر السمرقندي من البيوع الفاسدة هذا النوع فقال: منها: أن يكون المبيع مجهولا أو الثمن مجهولا جهالة توجب المنازعة؛ لأنها مانعة عن التسليم والتسلم وبدونهما يكون البيع فاسدا؛ لأنه لا يفيد مقصوده، بيانه إذا اشترى شاة من قطيع أو اشترى أحد الأشياء
__________
(1) سورة البقرة الآية 67
(2) [ بصائر ذوي التمييز ](2\405, 406) .
(3) [ لسان العرب] ( 13\ 136، 137)
الأربعة بكذا على أنه بالخيار بين أن يأخذ واحدا منها ويرد الباقي أو اشترى أحد الأشياء الثلاثة أو أحد الشيئين ولم يذكر فيه الخيار، فأما إذا ذكر الثلاثة أو الاثنين وشرط الخيار لنفسه بين أن يأخذ واحدا ويرد الباقي فهذا جائز استحسانا اعتبارا بشرط الخيار ثلاثة أيام.
وهل يشترط فيه ذكر مدة خيار الشرط، اختلف المشايخ فيه، والأصح أنه لا يشترط، وكذا إذا باع العبد بمائة شاة من هذا القطيع ونحوه لا يجوز لجهالة الثمن.
فأما الجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة فلا تمنع الجواز، فإنه إذا باع قفيزا من صبرة معينة بدراهم أو باع هذا العدل من الثياب بكذا ولا يعرف عددها، أو باع هذه الصبرة بكذا ولا يعرف عددها أو باع هذه الصبرة بكذا ولا يعرف عدد القفزان جاز لما ذكرنا، وعلى هذا: إذا اشترى شيئا لم يره بأن اشترى فرسا مجللا أو جارية منتقبة أو كرى حنطة في هذا البيت أو عبدا تركيا في هذا البيت فإنه يجوز إذا وجد كذلك وللمشتري الخيار، وعند الشافعي فاسد، ولو باع هذا العبد بقيمته فهو فاسد؛ لأن القيمة تعرف بالحزر والظن، وكذا لو اشترى عدل زطي أو جراب هروي بقيمته؛ لما قلنا، ولو اشترى بحكم البائع أو المشتري أو بحكم فلان فهو فاسد؛ لأن الثمن مجهول، وكذلك لو اشترى شيئا بألف درهم إلا دينارا أو بمائة دينار إلا درهما؛ لأن معناه: إلا قدر قيمة الدينار، وهذه جهالة مفضية إلى المنازعة.
ولو باع وقال: هو بالنسيئة كذا وبالنقد كذا فهو فاسد؛ لأن الثمن مجهول، وكذا لو قال: بعت إلى أجل كذا أو كذا فهو فاسد؛ لأن الأجل
مجهول، ولو باع إلى الحصاد والدياس أو إلى رجوع الحاج وقدومهم فالبيع فاسد؛ لما ذكرنا، ولو باع عدل زطي برأس مال أو برقمه ولا يعلم المشتري رقمه ولا رأس ماله فهو فاسد؛ لأن الثمن مجهول ... (1)
وقال القرافي : الفرق الثامن والمائتان بين قاعدة ما يمنع فيه الجهالة وبين قاعدة ما يشترط فيه الجهالة، بحيث لو فقدت فيه الجهالة فسد:
أما ما تفسده الجهالة فهو البياعات، كما تقدم، وكثير من الإجارات، ومن الإجارات قسم لا يجوز تعيين الزمان فيه، بل يترك مجهولا، وهو الأعمال في الأعيان كخياطة الثياب ونحوها لا يجوز أن يعين زمان الخياطة بأن يقول له اليوم مثلا فتفسد؛ لأن ذلك يوجب الغرر بتوقع تعذر العمل في ذلك اليوم، بل مصلحته ونفي الغرر عنه أن يبقى مطلقا، وكذلك الجعالة لا يجوز أن يكون العمل فيها محدودا معلوما؛ لأن ذلك يوجب الغرر في العمل، بأن لا يجبر الآبق في ذلك الوقت، ولا بذلك السفر المعلوم، بل نفي الغرر عن الجعالة بحصول الجهالة فيها، والجهالة في هذين القسمين شرط إن كانت في غيرهما مانعا.
وهاهنا قاعدة شرعية تعرف بجمع الفرق، وهي أن يكون المعنى المناسب يناسب الإثبات والنفي أو يناسب الضدين ويترتبان عليه في الشريعة وهو قليل في الفقه فإن الوصف إذا ناسب حكما نافى ضده، أما اقتضاؤه لهما فبعيد، كما تقدم بيانه في الجعالات والإجارات، ومن ذلك أيضا الحجر يقتضي رد التصرفات، وإطلاق التصرفات في حالة الحياة؛
__________
(1) [ تحفة الفقهاء](2\62) وما بعدها .
صونا لمال المحجور عليه على مصالحه، وتنفذ وصاياه؛ صونا لماله على مصالحه؛ لأنا لو رددنا الوصايا لحصل المال للوارث ولم ينتفع به المحجور عليه فصار المال على المصالح يقتضي تنفيذ التصرفات ورد التصرفات وكذلك القرابة توجب البر بدفع المال وتوجب المنع من دفع المال إذا كان زكاة فيحرموا إياها وتعطى لغيرهم بسبب القرابة، وكذلك أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب برهم بسد خلاتهم بالمال، ويحرم دفع المال إليهم إذا كان زكاة فصار قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب في دفع المال ومنع المال باعتبار مالين ونسبتين؛ وكذلك كل معنى يوجب مصلحة أو يفسده، ويوجب نقيضها في محل آخر وباعتبار نسبة أخرى فإنه يوجب الضدين وهو ضابط جميع الفرق، وسمي بذلك؛ لأنه يجمع المفرقات وهي الأضداد فكذلك الجهالة توجب الإخلال بمصالح العقود في البياعات وأكثر أنواع الإجارات فكانت مانعة، ووجودها يوجب تحصيل مصلحة عقد الجعالة حتى يبقى المجعول له على طلبه فيجبر الآبق فلا يذهب عمله المتقدم مجانا، فإنا إذا قيدنا عليه العمل وقدرناه معلوما فإذا فعل ذلك العمل المعلوم ولم يجد الآبق ذهب عمله مجانا فضاعت مصلحة العقد (1)
وقال الغزالي في كلامه على شروط البيع: قال: (الخامس: العلم) وليكن المبيع معلوم العين والقدر والصفة .
أما العين: فالجهل به مبطل، ونعني به أنه لو قال: بعت منك عبدا من
__________
(1) [ الفروق] (4\12, 13) .
العبيد أو شاة من القطيع بطل. ولو قال: بعت صاعا من هذه الصبرة- وكانت معلومة الصيعان- صح ونزل على الإشاعة، وإن كانت مجهولة الصيعان لم يصح على اختيار القفال؛ لتعذر الإشاعة، ووجود الإبهام، وإبهام ممر الأرض المبيعة؛ كإبهام نفس المبيع، وبيع بيت من دار دون حق الممر جائز على الأصح.
أما القدر: فالجهل به فيما في الذمة ثمنا أو مثمنا مبطل، كقوله: بعت بزنة هذه الصنجة، ولو قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم صح. وإن كانت مجهولة الصيعان؛ لأن تفصيل الثمن معلوم وإن لم يعلم جملته والغرر ينتفي به فإن كان معينا فالوزن غير مشروط، بل يكفي عيان صبرة الحنطة والدراهم فإن كان تحتها دكة تمنع تخمين القدر فيخرج على قولي بيع الغائب لاستواء الغرر، وقطع بعض المحققين بالبطلان لعسر إثبات الخيار مع جريان الرؤية.
أما الصفة: ففي اشتراط معرفتها بالعيان قولان اختار المزني الاشتراط وأبطل البيع ما لم يره، ولعله أصح القولين. (1)
وقال ابن قدامة في التمثيل لمفهوم الشرط السادس من شروط البيع (الجهالة) قال:
ولا يجوز بيع الحمل في البطن، واللبن في الضرع، والمسك في الفأر، والنوى في التمر، ولا الصوف على الظهر، وعنه يجوز بشرط جزه في الحال، ولا يجوز بيع الملامسة، وهو أن يقول: بعتك ثوبي هذا على
__________
(1) [ الوجيز ](1\81) .
أنك متى لمسته فهو عليك بكذا، أو يقول: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا، ولا بيع المنابذة وهو أن يقول: أي ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا ... (1) إلخ ما ذكره من الأمثلة.
وقد أجاب الأستاذ الزرقاء عن هذا الدليل فقال:
إن فقهاء الحنفية كانوا في قضية الجهالات التي تصاحب العقود عباقرة في تحليلهم الدقيق لطبيعة الجهالة وتمييزهم في آثارها بحسب أنواعها، فهم لا يحكمون ببطلان العقد وإفساده متى داخلته الجهالة مطلقا دون تمييز كما يفعل سواهم، بل يميزون بين جهالة تؤدي إلى مشكلة تمنع تنفيذ العقد، وجهالة لا تأثير لها في التنفيذ، فالنوع الأول: وهو الجهالة التي تمنع التنفيذ هو الذي يمنع صحة العقود، كما لو قال شخص لآخر: (بعتك شيئا وأجرتك شيئا بكذا) ولم يعين الشيء أو عينه ولكن لم يعين الثمن أو الأجرة وقبل الآخر العقد بهذه الجهالة، وكذا لو باع شاة من قطيع تتفاوت آحاده فهذا كله وأمثاله لا يصح؛ لأن هذه الجهالة تتساوى معها حجج الفريقين ويقع القاضي في مشكلة منها تمنع التنفيذ؟ لأن البائع والمؤجر يريدان تسليم الأدنى وأخذ الأعلى بحجة عدم التعيين، والمشتري والمستأجر يريدان أخذ الأعلى وإعطاء الأدنى بحجة عدم التعيين ذاتها أيضا، فالجهالة حجة متساوية للطرفين فتمنع التنفيذ، فتمنع صحة العقد.
أما الجهالة التي لا تؤدي إلى هذه النتيجة فلا تؤثر في العقد مهما عظمت كما لو صالح شخص آخر على جميع الحقوق التي له عليه كافة ولا يعرفان
__________
(1) [المقنع](2\13، 14)
مقدارها وأنواعها لقاء بدل معين فإن الصلح يصح وتسقط الحقوق؛ ذلك لأن الجهالة فيها غير مانعة؛ لأن الحقوق في سقوطها لا تحتاج إلى تنفيذ بخلاف بدل الصلح؛ لأنه يحتاج إلى تنفيذ فيجب معلوميته، وبخلاف ما لو صالحه على بعض حقوقه دون بيان هذا البعض فإن الصلح لا يصح؛ لأن الحقوق غير المصالح عنها باقية تحتاج إلى تنفيذ فيجب معرفتها.
هذه نظرية الحنفية في قضية الجهالة المصاحبة تكوين العقد، وعليها بنوا صحة الوكالة العامة خلافا للشافعية، كما بنوا صحة الكفالة بما سيثبت من الحقوق كما سبقت الإشارة إليه، وينطبق هذا المبدأ على أقساط التأمين على الحياة نجد أن الجهالة فيها هي من النوع غير المانع كما هو واضح؛ لأن مبلغ كل قسط عند حلول ميعاده هو مبلغ معلوم، أما كمية الأقساط فهي التي فيها الجهالة، وهي لا تمنع التنفيذ ما دام المؤمن قد تعهد بأن يدفع التعويض المتفق على دفعه عند وفاة المؤمن له إلى أسرته مثلا في أي وقت حصلت الوفاة ضمن المدة المحددة بالعقد، ومهما بلغ عدد الأقساط قلة أو كثرة، وذلك نظير ما قال الحنفية من صحة بيع محتويات صندوق مغلق دون معرفة أنواعها وكمياتها، فإنهم يرون أن هذه الجهالة رغم فحشها لا تمنع تنفيذ العقد وفقا لما اتفق عليه الطرفان؛ لأن البائع التزم بإرادته التنازل عن هذا المبيع مهما بلغ لقاء الثمن المعين، والمشتري قد قبله مهما بلغ أيضا، فكل منهما يمكن إلزامه بإرادته الواضحة (1)
__________
(1) [أسبوع الفقه الإسلامي]، ص (406 ، 407) .
ج: قالوا: عقود التأمين من القمار، والقمار ممنوع، فتكون عقود التأمين ممنوعة:
وقبل ذكر كلام المحدثين في هذا الدليل نذكر ما يستدل به من القرآن على تحريم القمار وبيان معناه، وأنه من الميسر الذي دلت النصوص على تحريمه.
أما ما يستدل به على تحريم القمار، فقوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } (1) الآية، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (2)
وأما معناه وبيان أنه من الميسر الذي دلت النصوص على تحريمه: فقال ابن منظور في مادة (قمر): وقامر الرجل مقامرة وقمارا راهنه وهو التفاخر، والقمار والمقامرة وتقامروا: لعبوا القمار. وقميرك: الذي يقامرك، عن ابن جني، وجمعه أقمار عنه أيضا، وهو شاذ كنصير وأنصار، وقد قمره يقمره قمرا، وفي حديث أبي هريرة من قال: تعال أقامرك، فليتصدق بقدر ما أراد أن يجعله خطرا في القمار. الجوهري : قمرت الرجل أقمره بالكسر إذا لاعبته فيه فغلبته وقامرته فقمرته أقمره بالضم قمرا إذا فاخرته فيه فغلبته، وتقمر الرجل غلب من يقامره (3) .
وقال ابن جرير : وأما الميسر فإنها المفعل من قول القائل: يسر لي هذا
__________
(1) سورة البقرة الآية 219
(2) سورة المائدة الآية 90
(3) [لسان العرب] (6\ 427)
الأمر إذا وجب لي فهو ييسر لي يسرا وميسرا، والياسر: الواجب بقداح أوجبت ذلك أو مباحة أو غير ذلك ثم قيل للمقامر، ياسر ويسر، كما قال الشاعر:
فبت كأنني يسر غبين ... بعدما اختلج القداحا
وكما قال النابغة :
أو ياسر ذهب القداح بعرفي ... أسف بآكله الصديق مخلع
يعني بالياسر: المقامر، وقيل للمقامر: ميسر، وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك ثم ساق رحمه الله جملة من الآثار عن مجاهد ومحمد بن سيرين وغيرهما: أن القمار من الميسر (1)
وقال القرطبي : الرابعة: قوله تعالى: { وَالْمَيْسِرِ } (2) والميسر: قمار العرب بالأزلام، قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله فنزلت الآية. وقال مجاهد ومحمد بن سيرين والحسن وابن المسيب وعطاء وقتادة ومعاوية بن صالح وطاووس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس أيضا: كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق على ما يأتي. وقال مالك : الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار ما يتخاطر الناس عليه، قال علي بن أبي طالب : الشطرنج ميسر العجم، وكل ما قومر
__________
(1) [تفسير] ابن جرير، (2\ 208) .
(2) سورة البقرة الآية 219
به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء (1)
وقال ابن كثير : وقال موسى بن عقبة عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: الميسر هو القمار، وقال الضحاك : عن ابن عباس قال: الميسر هو القمار، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة، وقال مالك : عن داود بن الحصين إنه سمع سعيد بن المسيب يقول: كان ميسر العرب في الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين (2)
وفيما يلي كلام المحدثين في الاستدلال على تحريم التأمين؛ لكونه قمارا :
قال الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية في رسالته (السوكرتاه): عقد التأمين عقد فاسد شرعا؛ وذلك لأنه معلق على خطر تارة يقع وتارة لا يقع فهو قمار معنى، ص 24.
ويقول الشيخ أحمد إبراهيم في التأمين على الحياة: أما إذا مات المؤمن له قبل إيفاء جميع الأقساط وقد يموت بعد دفع قسط واحد فقط، وقد يكون الباقي مبلغا عظيما جدا؛ لأن مبلغ التأمين على الحياة موكول تقديره إلى طرفي العقد على ما هو معلوم فإذا أدت الشركة المبلغ المتفق عليه كاملا لورثته أو لمن جعل له المؤمن ولاية قبض ما التزمت به الشركة بعد موته ففي مقابل أي شيء دفعت الشركة هذا المبلغ؟ أليس هذا مخاطرة
__________
(1) [تفسير القرطبي] (3\ 52، 53) .
(2) [تفسير ابن كثير] (2\ 91، 92) .
ومقامرة، وإذا لم يكن هذا من صميم المقامرة ففي أي شيء تكون المقامرة إذن، على أن المقامرة حاصلة أيضا من ناحية أخرى فإن المؤمن له بعد أن يوفي جميع ما التزمه من الأقساط يكون له كذا، وإن مات قبل أن يوفيها كلها يكون لورثته كذا أليس هذا قمارا ومخاطرة حيث لا علم له ولا للشركة بما سيكون من الأمر على التعيين؟! (1) .
المناقشات لهذا الدليل:
المناقشة الأولى: لمصطفى الزرقاء :
قال: إن القمار لعب بالحظوظ ومقتلة للأخلاق العملية والفعالية الإنسانية، وقد وصفه القرآن الكريم بأنه حبالة من حبائل الشيطان ووسيلة من وسائله يوقع بها بين الناس- وهم المقامرون لاعبو الميسر- العداوة والبغضاء ويلهيهم بها عن ذكر الله وعن الصلاة، فأين القمار الذي هو من أعظم الآفات الخلقية والأدواء الاجتماعية وشلل للقدرة المنتجة في الإنسان في كل نواحي النتاج العلمي والاقتصادي- أين هذا من نظام يقوم على أساس ترميم الكوارث الواقعة على الإنسان في نفسه أو ماله في مجال نشاطه العملي وذلك بطريق التعاون على تجزئة الكوارث وتفتيتها ثم توزيعها وتشتيتها.
ثم إن عقد التأمين يعطي المستأمن طمأنينة وأمانا من نتائج الأخطار الجائحة التي لولا التأمين من نتائجها إذا وقعت فإنها قد تذهب بكل ثروته أو قدرته فتكون حالقة ماحقة. فأين هذا الأمان والاطمئنان لأحد المقامرين
__________
(1) [أسبوع الفقه الإسلامي]، ص (459)
في ألعاب القمار التي هي بذاتها الكارثة الحالقة فهل يسوغ تشبيه الشيء بضده وإلحاقه بنقيضه؟
ومن جهة ثالثة عقد التأمين من قبيل المعاوضة وهذه المعاوضة مفيدة فائدة محققة للطرفين، ففيها من حيث النتائج النهائية ربح اكتسابي للمؤمن وفيها أمان للمستأمن من قبل تحقق الخطر وتعويضه بعد تحقيقه فأين هذه المعاوضة في القمار، وما هي الفائدة التي عادت على الخاسر فيه من ربح الفائز؟
فالقمار ليس عامل التحريم الشرعي فيه عاملا اقتصاديا فقط حتى يوازن المانعون بينه وبين التأمين من حيث العوض المالي والعنصر الاحتمالي فقط، وإنما العامل في تحريم القمار شرعا هو عامل خلقي واجتماعي في الدرجة الأولى كما أشار إليه القرآن نفسه (1)
وأجاب الأستاذ أبو زهرة على مناقشة الأستاذ مصطفى الزرقاء : لقد أثار بعض العلماء شبهة في عقد التأمين غير التعاوني، وهو: أن فيه قمارا وكسبا بالباطل، فالشخص قد يدفع عشرين فيكسب مائة، وقد يدفع مائة ويسترد مائة، وأن الشركة قد تخسر مائتين وقد تكسب من مستأمن واحد ألفا، وأن ما يأخذه المستأمن أو ورثته أخذ بغير حق ولا شيء في عقد التأمين يعد محقق الأخذ والعطاء، وأنه بهذا إن لم يكن مقامرا ففيه معنى القمار أو شبهته، ولكن الأستاذ مصطفى ينفي هذا التشابه نفيا باتا؛ لأن القمار لعب وهذا جد، ولأن القمار يؤدي إلى البغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة،
__________
(1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (398، 399) .
وهذا ليس فيه شيء من ذلك، ويرده بأن هذا عقد فيه التزامات متبادلة وليس القمار فيه هذا المعنى.
وبالحق إن الذين شبهوه بالقمار قد لاحظوا عنصر المخاطرة وعدم التناسق بين المكسب والخسارة وعدم التقابل العادل في حال الكسب، وادعاء أن القمار دائما لعب غريب؛ لأن العرب كانوا يستقسمون بالأزلام فيحكمونها في القسمة ويعتبرون القسمة بها عادلة، وقد نهى الله عنها في قوله تعالى: { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ } (1) واعتبر ذلك في المحرمات مع الخمر إذ قال سبحانه: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } (2) وهذا بلا ريب من أنواع القمار فليس كل قمار لعبا.
وأما الفرق الثاني: وهو: أن عقود التأمين ليس فيها صد عن ذكر الله وعن الصلاة، وليس فيها إيغار للحقد والحسد والبغضاء، فنقول: إن هذه حكم وأوصاف مناسبة، وليست علة يسير معها الحكم طردا أو عكسا، بحيث يكون التحريم إن وجدت، ويكون الحل إن لم تكن، ومن الذين يشربون الخمر من تبدو مودتهم وعطفهم فهل يمنع التحريم بالنسبة لهم.
وأن كون عقد التأمين عقد معاوضة لا يمنع منه معنى القمار، بل إننا نقول: إنه غير متعين أن يكون عقد معاوضة؛ لأن البدلين غير ثابتين، ولا يوجد محل عقد متعين يكون أحد البدلين، بل هو غير متعين، وأي
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 90
معاوضة بين من يدفع عشرين: فيأخذ مائتين، ثم أليس هذا ربا، هذا ما نراه فيما قرره الأستاذ مزيلا للشبهة، بل نرى أن مع القمار ربا مؤكدا في حال ما إذا مات المستأمن قبل المدة؛ لأنه يدفع نقدا قليلا ويأخذ بدله نقدا كثيرا، وهذا بلا ريب ربا أو معاملة لم يحلها أحد من الأئمة . ا هـ (1)
وقد علق الأستاذ مصطفى الزرقاء على ذلك فقال: كرر الأستاذ أبو زهرة ما يقال من أن التأمين على الحياة ينطوي على عملية قمار، وأوضح ذلك بأن العقود تقوم عادة على المساواة بين ما يؤخذ وما يعطى. أما في التأمين على الحياة فإن التعويض الذي يؤخذ من شركة التأمين حال الوفاة يكون أعظم كثيرا من مجموع الأقساط المدفوعة، فهذا التفاوت في العوضين يجعل التأمين على الحياة من قبيل القمار.
وجوابنا على ذلك: أقول: إن المساواة في الأبدال ليست واجبة فقها إلا في حالتين.
الحالة الأولى : ضمان المتلفات فهذه يجب فيها التعادل المطلق بقدر الإمكان ففي الأموال المثلية يضمن الشيء بمثله؛ لأن المثل يخلف الأصل صورة ومعنى، وفي القيميات يضمن الشيء بقيمته وهي سعره الذي يساويه في السوق بين الناس؛ لأن القيمة عند عدم المثل تعتبر خلفا للأصل معنى، وإن لم تخلفه صورة، كما هو معروف في علم أصول الفقه.
الحالة الثانية: عقود المعاوضات في الأموال الربوية إذا قوبلت بجنسها كالقرض والصرف.
__________
(1) [عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه] .
وفقهاؤنا يقسمون الأشياء التي يتناولها الضمان إلى نوعين: أشياء مضمونة بذواتها كالمتلفات وهذه يجب فيها التساوي فيضمن الشيء منها بمثله أو قيمته، وأشياء مضمونة بغيرها كالمبيع في عقد البيع فالمبيع مضمون على المشتري بالثمن لا بالقيمة، والثمن هو العوض المتفق عليه بالتراضي في عقد البيع سواء أكان قليلا أم كثيرا، فللإنسان أن يبيع الشيء النفيس الثمين بالثمن البخس وبالعكس؛ لأن الأساس في التقويم هنا إنما هو الإرادة، هذا مع ملاحظة أن البيع لا ينطوي على أية فكرة تعاونية، بل هو معاوضة تجارية بحتة، ومع ذلك جاز فيه شرعا هذا التفاوت بين العوضين في القيمة ما دام الأساس في التقويم فيه إنما هو الإرادة. فعقد التأمين على الحياة كذلك أساس الالتزام فيه بتقدير التعويض إنما هو الإرادة، وليس كضمان المتلفات، فلا يجب فيه التعادل ولا سيما أنه عقد من نوع جديد قائم على أساس ونظام تسايرت واندمجت فيه فكرتا المعاونة والمعاوضة، فهو أولى من البيع بقبول التفاوت وعدم التساوي فيه بين ما يؤخذ وما يعطى فأين هذا من القمار (1)
قد يقال: إن تعليق الأستاذ مصطفى الزرقاء على كلام الأستاذ أبي زهرة رحمه الله يحمل رده في طيه، فإنه ذكر لوجوب المساواة بين البدلين في المعاوضات حالتين، وذكر أن الثانية منهما عقود المعاوضات الربوية إذا قوبلت بجنسها، ومن المعروف أن العوضين في عقود التأمين- حسب واقعه- من الأموال الربوية فوجب أن يتساويا عند وحدة الجنس، وأن
__________
(1) [عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه]، ص (104- 106) ؟
تكون المعاوضة يدا بيد، ولم يتحقق ذلك في عقود التأمين، بل تفاوت العوضان، وعجل أحدهما وأخر الآخر فلزم أن تكون عقود التأمين ربوية مع ما فيها من الخطر والمقامرة.
ويمكن أن يجاب عن شبهة وجود الربا في عمليات التأمين : بأن عمليات التأمين ليست نقودا بنقود، وإنما هي بيع وشراء، فالمؤمن له يشتري الأمان من المؤمن بما يدفعه له من أقساط، والمؤمن يعطيه الأمان فإذا وقع ما يخل بالأمان اتجه الضمان على ذلك فدفع المؤمن للمؤمن له ما يقابل ما ضمنه له من أمان عجز عن تحقيقه له.
ونوقش ذلك: بأن المعاوضة في التأمين تقع بين ما يدفعه المؤمن له من الأقساط مقدما ومبلغ التأمين الذي تعهد المؤمن بدفعه للمؤمن له أو عنه أو للمستفيد، ثم نشأ عن ذلك ما سمي أمانا، وليس فيه بيع ولا شراء لأمان.
المناقشة الثانية: للصديق محمد الأمين الضرير :
قال: والواقع أنه ليس من اليسير اعتبار التأمين من القمار فإن القمار في الأصل هو الرهان على اللعب بشيء من الآلات المعدة له، ومنه الميسر الذي حرمه الله في القرآن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (1) يقول أبو حيان في [تفسيره]: الميسر: قمار أهل الجاهلية، فقد كان عرب الجاهلية يطلقون لفظة الميسر غالبا على المقامرة بالأقداح لاقتسام الجزور، فكلمة القمار في الأصل أعم من كلمة الميسر، ولكن الفقهاء أطلقوا الميسر على جميع
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
ضروب القمار .
وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء : كل شيء فيه خطر- وهو ما يأخذه الغالب في النضال والرهان ونحوهما- فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز.
وذكر صاحب [البحر الزخار] ضابطا للقمار عند كلامه على السبق هو: أن يكون كل من المتسابقين غانما أو غارما نحو- إن سبقتني فلك عشرة وإلا فهي لي عليك-.
والقانون يحرم المقامرة في حين أنه يجيز عقد التأمين ولا يعتبره من القمار.
ويفرق شراح القانون بين التأمين والمقامرة بأن التأمين يقوم على التعاون بين المستأمنين، ذلك التعاون الذي يؤدي إلى توزيع بين أكبر عدد ممكن من الأفراد بدلا من أن يقع عبء الكارثة على فرد واحد.
ويؤدي أيضا إلى كفالة الأمان للمستأمن والمؤمن معا، فالمستأمن واثق من الحصول على ما التزم المؤمن بأدائه، والمؤمن واثق أيضا من وفاء ما التزم به؛ لأن التعويض سيدفع من الرصيد المشترك الذي تعاون المستأمنون على جمعه لا من مال المؤمن الخاص، وهذا الأمان هو الغاية الأساسية التي يسعى إليها كل مستأمن. فالشخص الذي يؤمن على حياته أو يؤمن على ماله ضد الحريق مثلا إنما يفعل ذلك بغرض التحصين عن خطر محتمل لا يقوى على تحمله وحده، وهذه المعاني غير موجودة في المقامرة، فإن المقامر لا يتحصن من خطر، وإنما يوقع نفسه في الخطر، وهو عرضة لأن يفقد ماله جريا وراء ربح غير محقق بطبيعته موكول للحظ.
وعلى هذا فلست أرى ما يبرر قياس التأمين على المقامرة قياسا صحيحا، فالتأمين جد والمقامرة لعب، والتأمين يعتمد على أسس علمية، والمقامرة تعتمد على الحظ، وفي التأمين ابتعاد عن المخاطر وكفالة للأمان واحتياط للمستقبل، وفي المقامرة خلق للمخاطر وابتعاد عن الأمان وتعرض لمتاعب المستقبل فكيف يستويان؟ (1)
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بما يأتي:
أولا: ما ذكره من أن الميسر أخص من القمار، وأن الفقهاء هم الذين أطلقوا الميسر على جميع ضروب القمار مردود بما تقدم من المنقول عن الصحابة والتابعين من أن كل قمار ميسر، وأن الميسر القمار كله... إلخ.
ثانيا: ما ذكره من أن القانون يحرم المقامرة في حين أنه يجيز عقد التأمين ولا يعتبره قمارا، وأن شراح القانون يفرقون بين التأمين والمقامرة... إلخ- مردود بأن رجال القانون والتأمين ليسوا مرجعا في بيان الأحكام الشرعية، ومجرد تسميتهم التأمين تعاونا لا يكسبه معنى التعاون شرعا، بل يرجع في ذلك إلى واقع نظام التأمين وعقوده وتلحق بقاعدتها، ونظيرها عند فقهاء الشريعة اسما وحكما، وبالرجوع إلى واقعه يتبين أنها من العقود المالية التجارية.
ثالثا: ما ذكره من الفروق بين القمار والتأمين تقدم جوابه في كلام الأستاذ أبي زهرة .
__________
(1) [الأسبوع]، ص (459- 461) .
المناقشة الثالثة: للأستاذ أحمد محمد دانش .
قال: هذا الاعتراض لا يقول به إلا من يجهل التأمين جهلا تاما، فالتأمين لا يسمى تأمينا إذا لم يتم بين فردين، والتأمين قائم أساسا على نظرية الأعداد الكبيرة أو على نظرية التعاون بين أفراد كثيرين، والأصل في التأمين أن لا يربح المتعاقد من عملية التأمين، ولكنه يحفظ بها ماله على نفسه.
كل هذه الأسس تتعارض تماما مع الأسس التي يقوم عليها الميسر أو المقامرة ففي الميسر يخلق الإنسان الفرصة التي يتحقق بها المكسب أو الخسارة خلقا، فهو مثلا يقذف بلية أو كرة في صحن دائري مرقم، والرقم الذي تقف عليه الكرة هو الرقم الكاسب وباقي الأرقام تعتبر خاسرة، ويدخل المقامر فيضع بعض ماله على رقم من هذه الأرقام معتمدا على الصدفة أو الحظ، فإن وقفت الكرة على الرقم الذي اختاره، كسب وإلا فهو من الخاسرين، ويأتي بمجموعة من الورق المرقم متحد في الشكل مختلف في اللون والرقم كورق (الكوتشينة) ويقامر ببعض ماله على الورقة التي يسحبها من هذه المجموعة ذات لون معين أو رقم محدد فإن جاء اللون الذي عينه أو الرقم الذي حدده فقد كسب وإلا فهو من الخاسرين، هذا هو أساس المقامرة أن تخلق الصدفة خلقا وأن تعرض نفسك ومالك لحكم هذه الصدفة التي تخلقها، ورائدك أن تخلق ربحا وأنت في الغالب من الخاسرين، والميسر كما ترى فيه منفعة، ولكن فيه إثم وإثمه أكبر من نفعه، وهو رجس من عمل الشيطان يجب اجتنابه والبعد عنه. أما التأمين فعلى العكس من ذلك، إذ إن الضرر الذي نخشاه واقع لا محالة،
فالمشاهد مثلا أنه ما من سنة مرت بدون خسارة لحقت بعض الناس من حريق منازلهم أو محاصيلهم أو متاجرهم، والذي لا نعلمه؛ لأنه في ضمير الغيب هو من الذي يصيبه الضرر، فإن تركت الأمور تجري في أعنتها بدون أن تعقلها، فإنك سوف لا تبيتن خالي البال، أما إن عقلتها وذلك بتعاونك مع زملائك من أصحاب المنازل والمحاصيل والمتاجر، وسلحت نفسك بعقد التأمين فتوكل على الله فسوف لا يصيبك الضرر حتى ولو حل بالمنزل الذي تملكه أو المتجر الذي تديره، فعقد التأمين لا يمنع ولا يرد القضاء، ولكنه يحقق اللطف وهو الوسيلة التي يتحقق بها الإنسان من استجابة دعائه عندما يدعو: (اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه) والرجل الذي يكسب عيشه بنفسه وكده واجتهاده، يرى أنه لو مات فإنه يترك وراءه ذرية ضعافا، وأن الخير فيما قاله الرسول صلوات الله عليه: « إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس » (1) ، والسبيل إلى ذلك هو الادخار عن طريق التأمين؛ لأن الادخار وحده قد لا يكفي إذا كان حبل الأجل قصيرا لتكوين المال اللازم لوقايتهم شر السؤال، وإنما الذي يكفي هو الادخار مع التعاون بين القادرين. وعقد التأمين على الحياة هو العقد الوحيد الذي يجمع بين هاتين الصفتين، وهو ليس قمارا إذا أخذ الورثة المبلغ المؤمن قبل انتهاء المدة وإنما هو تعاون، والشخص لا يقامر بحياته؛ ليأخذ ورثته المبلغ المؤمن، ولكنه في الحقيقة يدخر قرشا قرشا لو امتد به الأجل كما رأينا في المثل الذي ضربناه سابقا.
ثم هو يتعاون مع زملائه بمبلغ آخر يكفي إذا ما ضم إلى ما يدفعه الآخرون؛ لتكملة ما تركه الذين سبق إليهم حكم القدر.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3721),صحيح مسلم الوصية (1628),سنن الترمذي الوصايا (2116),سنن النسائي الوصايا (3628),سنن أبو داود الوصايا (2864),سنن ابن ماجه الوصايا (2708),موطأ مالك الأقضية (1495),سنن الدارمي الوصايا (3196).
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بما يأتي:
أولا: إن تحريم عقود التأمين مبني على أنها عقود معاوضة تجارية فيها مخاطرة لا على مجرد تسميتها عقود تأمين، ولا على قلة عدد الأطراف المتعاقدين أو كثرتهم، وقيام التأمين أساسا على نظرية الأعداد الكبيرة والأفراد الكثيرة، وأن لا يربح المتعاقد من عملية التأمين، بل يراعى أن يكون الربح أصالة لشركات التأمين، وقيام التأمين على هذا من التعسف في وضع نظامه، والاحتياط بالشروط للاستئثار باتخاذه طريقا للتجارة والربح دون المؤمن له، وهذا الاحتياط لا يدفع ما في عقود التأمين من المخاطرة والمقامرة، بل جمع إلى ذلك آفة أخلاقية هي الأثرة الممقوتة في المعاوضات المالية.
ثانيا: ما ذكر في المناقشة من أن في التأمين تعاونا على بعث الطمأنينة وتحمل الأخطار مردود بأن القصد الأول في عقود التأمين إلى المعاوضة التجارية للكسب، وقد يتم التعاون تبعا، وليس كل عقود المعاوضة تضمنت منفعة أو تعاونا مشروعة، بل قد يكون فيها من الخطر والإثم ما يطغى على ما فيها من التعاون والنفع، كما في عقود التأمين.
ثالثا: ما ذكر في المناقشة من أمثلة للقمار إنما هو بيان لأنواع منه، وليس الميسر والقمار قاصرا على ذلك، بل يعم كل ما فيه مخاطرة.
رابعا: ما ذكر في المناقشة من الحث على الاحتياط لمن قد يخلفه من بعده من ورثة ضعفاء، والاستدلال على هذا بحديث « إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس » (1) فهو مما جاءت به الشريعة، ولا نزاع فيه بين المسلمين ، ولكن ينبغي له أن يجتهد لهم في ما ينفعهم به
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3721),صحيح مسلم الوصية (1628),سنن الترمذي الوصايا (2116),سنن النسائي الوصايا (3628),سنن أبو داود الوصايا (2864),سنن ابن ماجه الوصايا (2708),موطأ مالك الأقضية (1495),سنن الدارمي الوصايا (3196).
في حياته وبعد مماته من طريق مشروعة، وليس منها التأمين المعروف، وطرق الكسب الحلال كثيرة متنوعة لا يحتاج الإنسان معها إلى الارتكاس في عقود التأمين.
المناقشة الرابعة: للشيخ الحجوي :
قال: وأما من زعم من علماء الوقت أن ضمان المال (السكرتاه) من الميسر والقمار المحرم بنص القرآن فهو خروج عن محل الاستنباط المعقول فإن في المعنى المراد من لفظ الميسر اختلافا بين أهل العلم حتى قال ابن العربي في [الأحكام]، في سورة البقرة: ما كنا نشتغل به بعد أن حرمه الله تعالى، فما حرم الله فعله وجهلناه حمدنا الله تعالى عليه وشكرناه . ا هـ (عدد 63 ج1) (1) ، وإذا كان ابن العربي يجهله ولم يحقق ما هو، كان مجملا والمجمل لا تقوم به حجة كما هو مقرر في الأصول.
كيف نلحق الضمان بأمر مجهول وهو الميسر، وقد حكى ابن الجصاص وغيره أقوالا في [تفسيره] فسقط الاستدلال بآية الميسر، ولم يقم له بها حجة لا لإجمالها على أن القمار أو الخطار أو الميسر الذي هو محرم بإجماع ولا يختلف فيه اثنان هو أن ينزل هذا مائة وهذا مائة ويلعبان لعبا فمن غلب أخذ جميع المائتين كما عند الزرقاء في [شرح الموطأ]، عدد [326 ج 2] ، ومثله للحافظ في [فتح الباري]، فانظره، ومن ذلك خطار أبي بكر مع أبي بن خلف، لما نزل قوله تعالى: { الم } (2) { غُلِبَتِ الرُّومُ } (3) { فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } (4)
__________
(1) [أحكام القرآن]، لابن العربي (1\ 150)، ط دار المعرفة.
(2) سورة الروم الآية 1
(3) سورة الروم الآية 2
(4) سورة الروم الآية 3
وكان ذلك قبل تحريمه، انظر [الكشاف]، وحديثه في الترمذي حسن صحيح غريب بألفاظ مختلفة، وما أبعد هذه الصورة من صورة الضمان بعد السماء من الأرض والفروق بينهما أظهر من أن تبين فكيف تقاس إحداهما على الأخرى. انتهى (1)
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة: بأنه ليس كل اختلاف في تفسير آية أو حديث يقتضي الإجمال في ذلك فقد يكون اختلاف تنوع أو اختلافا في التعبير، وما ذكر في تفسير الآية من الأقوال بعضه من الاختلاف في التعبير، وبعضه من اختلاف التنوع فلا يوجب إجمالا في الآية، وعلى هذا يكون الاستدلال بالآية قائما. ومعنى جهل ابن العربي للميسر عدم معرفته باللعب به عمليا؛ لقوله: (ما كنا نشتغل به بعد أن حرمه الله) لا عدم معرفته بتفسيره وبيان معناه لغة وشرعا.
د- قالوا: التأمين يتضمن ربا النساء والفضل وكل منهما ممنوع .
وبيانه: أن ما تدفعه شركة التأمين للمستأمن أو لورثته عند حصول الخطر المحدد في العقد له ثلاث حالات- إما أن يكون أقل أو أكثر مما دفعه المستأمن أو يكون مساويا له، وفي كل ذلك يكون دفع الشركة لصاحب الحق واقعا بعد دفعه أقساط التأمين بفترة هي في الحقيقة مجهولة النهاية عند العقد ، فهو ربا فضل من جهة ما إذا دفعت الشركة للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه لها، ونسيئة بالنظر إلى أن وقت الدفع مؤجل، فهو في الحقيقة بيع دراهم بدراهم مثلا إلى أجل فتبين أن في حالة التساوي
__________
(1) [الفكر السامي]، ص (311) وما بعدها.
يكون فيه ربا النساء وفي حالة الزيادة يكون فيه ربا الفضل والنساء، وكل منهما محرم بانفراده فكيف إذا اجتمعا؟!
هذا من جهة، ومن جهة أخرى شركات التأمين تستثمر احتياطي أموالها بطريق الربا، وأن المستأمن في التأمين على الحياة إذا بقي حيا بعد انقضاء المدة المحددة بالعقد يسترد الأقساط التي دفعها مع فائدة التأمين، وهذا محرم شرعا (1)
وأجاب الأستاذ الزرقاء عن ذلك قائلا: إننا إنما نتكلم في التأمين من حيث هو نظام قانوني ولا نتكلم فيما تقوم به الشركات من أعمال وعقود أخرى مشروعة أو ممنوعة كما أن أخذ المستأمن في التأمين على الحياة فائدة ربوية علاوة على مبلغ الأقساط التي يستفيدها إذا ظل حيا بعد المدة في العقد ليس من ضرورة التأمين على الحياة ولوازمه من حيث كونه نظاما تأمينيا، بل هذا شرط يشرط في العقد يمكن الحكم عليه وحده دون الحكم على نظام التأمين في ذاته، وهنا يجب الانتباه إلى نقطة عظيمة الأهمية في هذا البحث وهي أننا إذا وجدنا أن قواعد الشريعة ونصوصها لا تقتضي منع التأمين فإنما نحكم بصحته من حيث كونه نظاما يؤدي بمقتضى فكرته الأصلية وطريقته الفنية إلى مصلحة مشروعة ولا نحكم شرعا بصحة كل شرط يشرطه العاقدان فيه ربا، ولو سوغه القانون.
وحكمنا بالمشروعية على النظام في ذاته ليس معناه إقرار جميع الأساليب التعاملية والاقتصادية التي تلجأ إليها شركات التأمين، ولا إقرار
__________
(1) [أسبوع الفقه الإسلامي]، ص (406- 420)، و[عقد التأمين]، ص (5، 52). .
جميع ما يتعارف بعض الناس في بعض الدول أو الأماكن من التأمين فيه، بل إن نظام التأمين في ذاته إذا كان صحيحا شرعا فإن كل شرط يشرطه في عقده بعد ذلك، وكل أسلوب تتعامل به شركات التأمين هو أمر منفصل عن الحكم بصحة النظام في ذاته وخاضع لمقاييس الشريعة في الشروط العقدية والمحل العقدي، فقد يحكم على عقد التأمين بعدم صحة شرط غير مقبول شرعا ورد فيه كما أباحت الشريعة البيع والإجارة وسائر العقود المشروعة في ذاتها، وفي الوقت نفسه يمنع فيها بعض شروط يشرطها العاقدان منافية لقواعد الشريعة، وقد تبطل الشروط هذه العقود، وليس معنى ذلك أن العقد في ذاته غير مشروع، ففي بعض الدول اليوم تقوم شركات التأمين على تأمين الأشخاص المرشحين للانتخابات العامة من فشلهم في تلك الانتخابات للكراسي النيابية أو البلدية ونحوها، وقواعد الشريعة تأبى مثل هذا الموضوع وليس من ضرورة قبول نظام التأمين شرعا قبول مثل هذه الحالات (1)
وجواب آخر: على أي أساس يبنى هذا الاعتراض؟ الواقع من الأمر أن قسط التأمين على الحياة يتكون من جزأين:
أ- جزء يغطي الضرر المادي الذي يقع على الورثة عند وفاة عائلهم وهذا الجزء أو هذا النوع من التغطية صورة طبق الأصل لما سبق شرحه من أنواع التأمين الأخرى- أي: أنه للتعاون بين الأعضاء وهو مباح كما سبق لنا القول.
__________
(1) [رجل التأمين]، ص (297) وما بعدها .
2 - والجزء الثاني يدخر ويتجمع باستمرار مدة العقد لكي يسلم للعضو إذا كان على قيد الحياة في آخر مدة التعاقد، فإذا لم يستمر هذا الجزء، وهو ممكن طبعا ورأينا حبسه في الخزائن حتى يحين موعد تسليمه، فإن عملية التأمين تصبح عملية ادخار محض مضافا إليها عملية تعاون، وأعتقد أنه لا اعتراض مطلقا لأحد على ذلك؛ لأنه ليس هناك استثمار أو فائدة أو ربا أو شبه الربا، وبذلك يكون العقد على هذه الصورة مباحا وحلالا. انتهى المقصود (1) .
ويمكن أن يناقش جواب الأستاذ مصطفى الزرقاء بما يأتي:
أولا- أنه تسليم بتحريم عقود التأمين التي اشترط فيها الربا.
ثانيا- أنه على تقدير الدخول على إسقاط شرط نسبة ربوية على مبلغ التأمين لا يمكن التخلص مما في التأمين من ربا النساء في أي حال، ولا من ربا الفضل عند تفاوت العوضين؛ لأن تأجيل مبلغ التأمين أو عوض الخطر أصيل في التعاقد، وتماثل العوضين مشكوك فيه للجهالة بما يؤول إليه الأمر في المستقبل، والشك في التماثل كتحقق التفاضل، فيتبين أنه لا يتأتى التخلص من الربا في عقود التأمين إلا بالقضاء على التأمين المعروف واجتثاثه من أصوله.
ويمكن أن يناقش الجواب الآخر: بأن تكون قسط التأمين من جزأين جزء يغطي الضرر والآخر يدخر لا أثر له في الحكم بحل أو بحرمة، فإن الحكم بذلك مبني على ما في عقود التأمين من ربا الفضل والنساء، لا على
__________
(1) [أسبوع الفقه الإسلامي]، ص (406).
تجزئة المبلغ وتوزيعه إلى جهات نفع أو ضر، فمآلها وتوظيفها بعد استحقاقها أو الحصول عليها له حكم آخر.
هـ- قالوا: التأمين من قبيل الرهان، والرهان ممنوع شرعا إلا في صور معينة مستثناة ليس منها عقد التأمين.
وفيما يلي بيان معنى الرهان، ودليل حكمه شرعا، ثم كلام بعض العلماء على الأدلة، ثم بيان وجه كون التأمين رهانا مع مناقشة ذلك .
أما معنى الرهان : فقال فيه ابن منظور نقلا عن ابن الأعرابي : والرهان والمراهنة: المخاطرة، وقد راهنه، وهم يتراهنون وأرهنوا بينهم خطرا بدلوا منه ما يرضى به القوم بالغا ما بلغ فيكون لهم سبقا، وراهنت فلانا على كذا مراهنة: خاطرته.
وأما دليل حكم الرهان من الشرع : ففي [المسند] لأحمد من حديث أنس رضي الله عنه أنه قيل له: « أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال: نعم، والله لقد راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له يقال له: سبحة، فسبق الناس، فبش لذلك وأعجبه » (1) .
وقد راهن الصديق رضي الله عنه المشركين، وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له، فروى الترمذي في [جامعه] في حديث سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله تعالى: { الم } (2) { غُلِبَتِ الرُّومُ } (3) { فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } (4)
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/256),سنن الدارمي الجهاد (2430).
(2) سورة الروم الآية 1
(3) سورة الروم الآية 2
(4) سورة الروم الآية 3
قال: « كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم؛ لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذكروه لأبي بكر رضي الله عنه فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إنهم سيغلبون . فذكروه لهم، فقالوا: اجعلوا بيننا وبينك أجلا، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجل خمس سنين، فلم يظهروا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا جعلت إلى دون العشر"- قال سعيد : والبضع: ما دون العشر- قال: ثم ظهرت الروم بعد، قال فذلك قوله: قال سفيان : سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر » (6) . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
وفي [جامعه] أيضا عن نيار بن مكرم الأسلمي، قال: « لما نزلت: إلى قوله: وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم؛ لأنهم وإياهم أهل كتاب، وفي ذلك قوله تعالى: وكانت قريش تحب ظهور فارس؛ لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب، ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة فقال ناس من قريش لأبي بكر : فذلك بيننا وبينكم بزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3193).
(2) سورة الروم الآية 1 (1) { الم }
(3) سورة الروم الآية 2 (2) { غُلِبَتِ الرُّومُ }
(4) سورة الروم الآية 3 (3) { فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ }
(5) سورة الروم الآية 4 (4) { فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ }
(6) سورة الروم الآية 5 (5) { بِنَصْرِ اللَّهِ }
(7) سنن الترمذي تفسير القرآن (3194).
(8) سورة الروم الآية 1 (7) { الم }
(9) سورة الروم الآية 2 (8) { غُلِبَتِ الرُّومُ }
(10) سورة الروم الآية 4 (9) { بِضْعِ سِنِينَ }
(11) سورة الروم الآية 4 (10) { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ }
(12) سورة الروم الآية 5 (11) { بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }
(13) سورة الروم الآية 1 (12) { الم }
(14) سورة الروم الآية 2 (13) { غُلِبَتِ الرُّومُ }
(15) سورة الروم الآية 3 (14) { فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ }
سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى، قال: وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون، وتواضعوا الرهان، وقالوا لأبي بكر : كم نجعل البضع؟- وهو ثلاث سنين إلى تسع سنين- فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه، قال: فسموا بينهم ست سنين، قال: فمضت الست سنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست سنين؛ لأنه قال: قال: وأسلم عند ذلك ناس كثير، » (2) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
وفي [الجامع] أيضا من حديث ابن عباس : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مناحبته: " ألا أخفضت ". وفي لفظ: " ألا احتطت، فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع » (3) رواه من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس .
قال ابن القيم : وقوله في الحديث (مناحبته) فالمناحبة: المخاطرة، وهي المراهنة من النحب، وهو النذر، وكلاهما مناحب، هذا بالعقد، وهذا بالنذر، وقوله: "ألا أخفضت "؟ يجوز أن يكون من الخفض وهو الدعة، والمعنى: هلا نفست المدة فكنت في خفض من أمرك ودعة، ويجوز أن يكون من الخفض الذي هو من الانخفاض أي: هلا استنزلتم إلى أكثر مما اتفقتم عليه. وقوله في اللفظ الآخر: "هلا احتطت " هو من الاحتياط أي: هلا أخذت بالأحوط، وجعلت الأجل أقصى ما ينتهي إليه البضع، فإن النص لا يتعداه.
وقوله: (وذلك قبل تحريم الرهان) من كلام بعض الرواة، ليس من كلام أبي بكر ولا النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة الروم الآية 4 (15) { فِي بِضْعِ سِنِينَ }
(2) سورة الروم الآية 4 (1) { فِي بِضْعِ سِنِينَ }
(3) سنن الترمذي تفسير القرآن (3191).
وقال ابن القيم أيضا : وقد اختلف أهل العلم في إحكام هدا الحديث ونسخه على قولين: فادعت طائفة نسخه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر والقمار، قالوا: ففي الحديث دلالة على ذلك، وهو قوله: وذلك قبل تحريم الرهان قالوا: ويدل على نسخه ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل » (1) . والسبق: بفتح السين والباء، وهو الخطر الذي وقع عليه الرهان، وإلى هذا القول ذهب أصحاب مالك والشافعي وأحمد . وادعت طائفة أنه محكم غير منسوخ، وأنه ليس مع مدعي نسخه حجة يتعين المصير إليها. قالوا: والرهان لم يحرم جملة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم راهن في تسبيق الخيل، كما تقدم، وإنما الرهان المحرم الرهان على الباطل الذي لا منفعة فيه في الدين. وأما الرهان على ما فيه ظهور أعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، كما راهن عليه الصديق فهو من أحق الحق، وهو أولى بالجواز من الرهان على النصال وسباق الخيل والإبل أدنى من هذا في الدين وأقوى؛ لأن الدين قام بالحجة والبرهان وبالسيف، والقصد الأول إقامته بالحجة، والسيف منفذ.
قالوا: وإذا كان الشارع قد أباح الرهان في الرمي والمسابقة بالخيل والإبل؛ لما في ذلك من التحريض على تعلم الفروسية وإعداد القوة للجهاد، فجواز ذلك في المسابقة والمباردة إلى العلم والحجة الذي به تفتح القلوب ويعز الإسلام وتظهر أعلامه أولى وأحرى، وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية، قال أرباب هذا القول: والقمار المحرم هو أكل المال بالباطل فكيف يلحق به أكله بالحق، قالوا:
__________
(1) سنن الترمذي الجهاد (1700),سنن أبو داود الجهاد (2574).
والصديق لم يقامر قط في جاهلية ولا إسلام ولا أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قمار فضلا عن أن يأذن فيه وهذا تقرير قول الفريقين (1) .
وقال ابن العربي في أثناء الكلام على فقه حديث مراهنة أبي بكر للمشركين قال: إن الله حرم أكل المال بالباطل ومنه المناحبة على رهن، وقد كان ذلك يجري في صدر الإسلام كما كان يجري سائر الأحكام قبل بيان وجود الحلال والحرام حتى أنزل الله الآيات وفصل ذلك كله تفصيلا ولم يبق من ذلك شيء يستعمل إلا في سباق الخيل ونحوه تحريضا على الجهاد وتحضيضا به على التأهب للأعداء والاستعداد المبين في بحث الجهاد (2) .
وأما بيان كون التأمين رهانا فإن كلا من التأمين والرهان معلق على خطر تارة يقع وتارة لا يقع، وقد أجاب الأستاذ مصطفى الزرقاء على ذلك فقال: والجواب على هذه الشبهة قد أصبح واضحا من الجواب عن الشبهة السابقة- يشير بذلك- إلى الجواب عن قياس التأمين على القمار، فالمراهن معتمد على المصادفات والحظوظ كالمقامر وقد يضيع في التلهي به أوقاته ويقتل فعاليته ونشاطه كالمقامر.
وأبرز المفارقات بين التأمين والرهان : أن الرهان ليس فيه أية صلة بترميم أضرار الأخطار العارضة على النشاط الاقتصادي المنتج من ميدان الحياة الإنسانية لا بطريق التعاون على تفتيت تلك الأضرار وتشتيتها ولا
__________
(1) [لفروسية] (5، 6).
(2) [عارضة الأحوذي] (12\ 68)، تفسير سورة الروم
بطريق تحمل فردي غير تعاوني، ولا يعطي أحدا من المتراهنين أي أمان أو طمأنينة، كما هو الأثر المباشر في عقد التأمين، وفي هذا ما يكفي لهدم هذه الشبهة (1) .
ونوقش هذا الجواب: بأنه قد أصبح واضحا أيضا من الجواب عن مناقشة الاستدلال على تحريم التأمين بقياسه على القمار، وأيضا فالمتعاقدان في التأمين يعتمدان على المصادفات والحظوظ، وغاية ما يحتاط به من إحصاء وتنسيق ومقاصة ونحوها أن يخفف قدر الخطر شيئا ما، لكن لا يزال الخطر فاحشا بالنسبة للمتعاقدين، فإن شركات التأمين وإن احتاطت بعملياتها الفنية للكسب فالخطر لا يزال يساورها بشدة بالنسبة لكل مستأمن وحده، بل لا يزال يساورها بالنسبة لمجموع المستأمنين وإن كان أقل من سابقه، فلم يخرج التأمين بذلك عن شبهه الوثيق بالقمار، ثم ليس كل ما كان نافعا ومساعدا على ترميم الأخطار ودفع الأضرار يكون جائزا حتى يغلب نفعه ضره، وخيره شره، وهيهات أن يتحقق ذلك في التأمين.
__________
(1) [عقد التأمين]، ص (41) وما بعدها.
و- قالوا: التأمين من أكل أموال الناس بالباطل، وأكل المال الباطل ممنوع .
وفيما يلي دليل حكم أكل المال بالباطل، وبيان معناه ووجه اشتمال عقد التأمين على أكل أموال الناس بالباطل.
أما دليل الحكم : فقوله تعالى: { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 188
الآية. وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (1)
وأما معناه: فقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز أكل مال الغير بالباطل واختلفوا في تفسيره، ففسره أحمد بن فارس بذهاب الشيء (2) ، وذكر معنى ذلك الفيروزآبادي (3) .
وقال ابن جرير في تفسير آية النساء: لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه من الربا والقمار وغير ذلك من الأمور التي نهاكم الله عنها، ورجح هذا القول (4) .
وقال أبو حيان في تفسير آية البقرة : { بِالْبَاطِلِ } (5) قال الزجاج: بالظلم، وقال غيره: بالجهة التي لا تكون مشروعة فيدخل في ذلك الغصب والنهب والقمار وحلوان الكاهن والخيانة والرشا وما يأخذه المنجمون وكل ما لم يأذن في أخذه الشرع (6)
وقال في تفسير آية النساء : والباطل هو كل طريق لم تبحه الشريعة فيدخل فيه السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا وأثمان البياعات الفاسدة.
وقد اختلف السلف في تفسير قوله : { بِالْبَاطِلِ } (7)
فقال ابن عباس والحسن: هو أن يأكله بغير عوض، وعلى هذا التفسير
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) [معجم مقاييس اللغة] (1\ 258).
(3) [القاموس المحيط]، (3\ 324)، ويرجع أيضا إلى [اللسان]، (13\ 59).
(4) [تفسير ابن جرير]، (5\ 20).
(5) سورة النساء الآية 29
(6) [البحر المحيط] (2 \ 56 ).
(7) سورة النساء الآية 29
قال ابن عباس : هي منسوخة ؛ إذ يجوز أكل المال بغير عوض إذا كان هبة أو صدقة أو تمليكا أو إرثا أو نحو ذلك مما أباحت الشريعة أخذه بغير عوض، وقال السدي : هو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم وغير ذلك مما لم يبح الله تعالى أكل المال به، وعلى هذا تكون الآية محكمة، وهو قول ابن مسعود والجمهور، وقال بعضهم: الآية مجملة؛ لأن معنى قوله: { بِالْبَاطِلِ } (1) بطريق غير مشروع، ولما لم تكن هذه الطريق المشروعة مذكورة هنا على التفصيل صارت الآية مجملة (2)
ويمكن أن يقال في وجه اشتمال عقد التأمين على أكل أموال الناس بالباطل : أن ما يدفعه المستأمن مبلغ محدود وقد يأخذ أقل منه أو أكثر أو مثله أو لا يأخذ شيئا، ففي حالة ما إذا لم يأخذ المستأمن شيئا، أو أخذ أقل مما دفع فبأي حق تستحق الشركة ما أخذته بدون مقابل شرعي، وبأي وجه يستحق ورثة المستأمن أو المستفيد مبلغ التأمين إذا توفي قبل أن يدفع كامل الأقساط.
وقد يستدل لدخول أخذه على ما وصف في عموم أكل المال بالباطل ما ثبت في [صحيح مسلم ] وغيره من طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته عاهة فلا يحل لك أن تأخذ شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟ » (3) .
كما يدل لدخوله في عموم الآية ما تقدم من أدلة التحريم .
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) البحر المحيط، (3\ 23).
(3) صحيح مسلم المساقاة (1554),سنن النسائي البيوع (4528),سنن أبو داود البيوع (3470),سنن ابن ماجه التجارات (2219),سنن الدارمي البيوع (2556).
الرأي الثاني: الجواز مطلقا:
نذكر فيما يلي كلام طائفة ممن قالوا بالجواز مطلقا أو نسب إليهم القول بذلك، ثم نتبعه بأدلتهم مع المناقشة.
أولا- ما نقل عن بعضهم من القول بالجواز :
1 - سئل الشيخ محمد عبده عن رجل يريد أن يتعاقد مع جماعة على أن يدفع لهم مالا من ماله الخاص على أقساط متساوية؛ ليعملوا فيه بالتجارة، واشترط معهم أنه إذا قام بما ذكره، وانتهى الاتفاق بانتهاء الأقساط المعينة، وكانوا قد عملوا في ذلك المال، وكان حيا فيأخذ ما يكون له من المال مع ما يخصه من الأرباح، وإذا مات في أثناء تلك المدة فيكون لورثته أو لمن يكون له حق الولاية في ماله أن يأخذ المبلغ، تعلق مورثهم مع الأرباح فهل مثل هذا التعاقد الذي يكون- مفيدا لأربابه بما ينتجه لهم من الربح جائزا شرعا؟
الجواب: إنه لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة على الصفة المذكورة كان ذلك جائزا شرعا، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط والعمل في المال وحصول الربح أن يأخذ لو كان حيا ما يكون له من المال مع ما خصه من الربح، وكذا يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته، أو من له ولاية التصرف في ماله بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال مع ما أنتجه من الربح (1)
لقد نقلت اللجنة هذه الفتوى وجوابها نظرا إلى أن شركات التأمين تحتج
__________
(1) [مجلة نور الإسلام] سابقا، وهي [مجلة الأزهر] الآن (1\ 679).
بها على الجواز، وبمطالعتها يتبين أنها ليست في موضوع التأمين.
2 - وقال الحجوي : كأنها- يريد عقود التأمين- عندي جمعية اكتتابية خيرية لإعانة المنكوبين بنظام والتزام تأخذ من مائة ألف رجل شيئا قليلا ما تعوض به نكبة رجل مثلا واستنباطها من قاعدة القليل في الكثير كثير لذلك يبقى لها ما يقوم بأجرة قيامها على ذلك وربما ربحت أرباحا عظيمة إذا قلت نكبات المضمونين فيها (1) .
__________
(1) [الفكر السامي]، ص (307).
3- وقال عبد الرحمن عيسى : يجوز شرعا التأمين لدى شركات التأمين ضد أخطار الملكية وضد أخطار المسئولية المدنية، وكذلك التأمين على الحياة وضد سائر الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة، ويجوز في غير الصناعات والمهن الخطرة إذا كان تأمينا مختلطا (1)
__________
(1) [أسبوع الفقه الإسلامي]، ص (479).
4 - وقال محمد يوسف موسى : إن التأمين بكل أنواعه ضرب من ضروب التعاون التي تفيد المجتمع، والتأمين على الحياة يفيد المؤمن كما يفيد الشركة التي تقوم بالتأمين أيضا، وأرى شرعا أنه لا بأس إذا خلا من الربا بمعنى أن المؤمن عليه إذا عاش المدة المنصوص عليها في عقد التأمين استرد ما دفعه فقط دون زيادة، أما إذا لم يعش المدة المذكورة حق لورثته أن يأخذوا قيمة التأمين- أي: التعويض- وهذا حلال شرعا (1) .
__________
(1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ص (382).
5 - وقال مصطفى الزرقاء : الشرع الإسلامي لم يحصر الناس في الأنواع المعروفة قبلا من العقود، بل للناس أن يبتكروا أنواعا جديدة
تدعوهم حاجتهم الزمنية إليها بعد أن تستوفي الشرائط العامة المشار إليها (1)
وقال أيضا: لا يوجد مانع من قواعد الشريعة الإسلامية يمنع جواز نظام التأمين في ذاته وبهذا يثبت حله شرعا (2)
6 - وقال عبد الوهاب خلاف : بجواز عقد التأمين على الحياة، وأنه عقد مضاربة، وسيأتي توجيهه لهذا الدليل وبيان رأيه في كون عقد التأمين صار عقد مضاربة (3)
7 - ومن القائلين بالجواز الأستاذ طه السنوسي، وسيأتي رأيه مفصلا ضمن استدلاله بولاء الموالاة على جواز عقد التأمين.
__________
(1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ص (388).
(2) [أسبوع الفقه الإسلامي] ص (409).
(3) [أسبوع الفقه الإسلامي] ص (454).
ثانيا-
أدلة من أجازوا التأمين مطلقا مع المناقشة
: وأمام كل دليل استدل به الفقهاء المعاصرون على الجواز نذكر كلام العلماء السابقين في المصادر التي اعتمد عليها الفقهاء المعاصرون في استدلالهم على الجواز.أ-
قياس عقد التأمين على ولاء الموالاة
فيما يلي كلام المفسرين وغيرهم على آية ولاء الموالاة، ثم كلام الفقهاء المعاصرين في هذا الدليل.قال أبو جعفر النحاس : باب ذكر الآية السابقة، قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (1) (2) فمن أصح ما روي في
__________
(1) سورة النساء الآية 33
(2) سورة النساء، الآية 33.
هذه الآية إسنادا وأجله قائلا ما حدثناه أحمد بن شعيب قال: أخبرني هارون بن عبد الله قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثني إدريس بن يزيد , قال: حدثنا طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس « في قوله تعالى: فإنه كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرثون الأنصار دون رحم، للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم حتى نزلت الآية: قال: نسختها قال: من النصر والنصح والرفادة يوصى له وهو لا يرث، » (4) قال أبو عبد الرحمن : إسناده صحيح.
قال أبو جعفر : فحمل هذا الحديث وأدخل في المسند على أن الآية ناسخة، وليس الأمر عندي كذلك، والذي يجب أن يحمل عليه الحديث أن يكون { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } (5) ناسخا لما كانوا يفعلونه، وأن يكون { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } (6) غير ناسخ ولا منسوخ، ولكن فسره ابن عباس وسنبين العلة في ذلك عند آخر هذا الباب، ولكن ممن قال: إن الآية منسوخة سعيد بن المسيب كما حدثنا جعفر بن مجاشع قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال: حدثنا داود بن رشيد قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا مروان بن أبي الهذيل : أنه سمع الزهري يقول: أخبرني سعيد في قول الله تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } (7) قال: الحلفاء في الجاهلية، والذين كانوا يتبنون فكانوا يتوارثون على ذلك حتى نزلت: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (8) فنزع الله ميراثهم وأثبت لهم الوصية.
وقال الشعبي : كانوا يتوارثون حتى أزيل ذلك، وممن قال : إنها منسوخة: الحسن، وقتادة، كما قرأ علي عبد الله بن أحمد بن عبد السلام
__________
(1) صحيح البخاري الحوالات (2170),سنن أبو داود الفرائض (2922).
(2) سورة النساء الآية 33 (1) { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ }
(3) سورة النساء الآية 33 (2) { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ }
(4) سورة النساء الآية 33 (3) { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ }
(5) سورة النساء الآية 33
(6) سورة النساء الآية 33
(7) سورة النساء الآية 33
(8) سورة النساء الآية 33
عن أبي الأزهر قال: حدثنا روح عن أشعب عن الحسن { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (1) قال: كان الرجل يعاقد الرجل على أنهما إذا مات أحدهما ورثه الآخر فنسختها آية المواريث، وقال قتادة : كان يقول: ترثني وأرثك، وتعقل عني وأعقل عنك فنسختها: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } (2)
وقال الضحاك : كانوا يتحالفون فيتعاقدون على النصرة والوراثة، فإذا مات أحدهم قبل صاحبه كان له مثل نصيب أبيه فنسخ ذلك بالمواريث، ومثل هذا أيضا مروي عن ابن عباس مشروحا، كما حدثنا بكر بن سهل قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: وقول الله تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (3) كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات قبل صاحبه ورثه الآخر، فأنزل الله { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } (4) قال: هو أن يوصي له بوصية فهي جائزة من ثلث مال الميت فذلك المعروف، وممن قال : إنها محكمة مجاهد وسعيد بن جبير، كما قرأ علي إبراهيم بن موسى الحوريني عن يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا وكيع بن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (5) قال: من العقل والمشورة والرفادة، وقال سعيد بن جبير : فآتوهم نصيبهم من العون والنصرة.
__________
(1) سورة النساء الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 6
(3) سورة النساء الآية 33
(4) سورة الأحزاب الآية 6
(5) سورة النساء الآية 33
قال أبو جعفر : وهذا أولى مما قيل في الآية إنها محكمة لعلتين: إحداهما: أنه إنما يجعل النسخ على ما لا يصح المعنى إلا به وما كان منافيا، فأما ما صح معناه وهو متلو فبعيد من الناسخ والمنسوخ.
والعلة الأخرى: الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الإسناد، كما حدثنا أحمد بن شعيب قال: أنبأنا عبد الرحمن بن محمد قال: حدثنا إسحاق الأزرق عن زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن إبراهيم عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة » (1) . فبين بهذا الحديث أن الحلف غير منسوخ، وبين الحديث الأول وقول مجاهد وسعيد بن جبير أنه في النصر والنصيحة والعون والرفد، ويكون ما في الحديث الأول من قول ابن عباس نسختها يعني { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ } (2) ؛ لأن الناس يتوارثون في الجاهلية بالتبني وتوارثوا في الإسلام بالإخاء ثم نسخ هذا كله فرائض الله بالمواريث (3)
وقال الجصاص : باب ولاء الموالاة: قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (4) وروى طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (5) قال: كان المهاجر يرث الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى الله بينهم، فلما نزلت: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } (6) نسخت، ثم قرأ: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (7)
__________
(1) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530),سنن أبو داود الفرائض (2925),مسند أحمد بن حنبل (4/83).
(2) سورة النساء الآية 33
(3) [الناسخ والمنسوخ]، ص (107- 109) المكتبة العلامة بجوار الأزهر 1357 هـ .
(4) سورة النساء الآية 33
(5) سورة النساء الآية 33
(6) سورة النساء الآية 33
(7) سورة النساء الآية 33
قال: من النصر والرفادة، ويوصي له، وقد ذهب الميراث، وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (1) قال: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله تعالى: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } (2) يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا لهم وصية، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، فذلك المعروف.
وروى أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (3) قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية، فيموت فيرثه، فعاقد أبو بكر رجلا فمات فورثه، وقال سعيد بن المسيب : هذا في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم، فأنزل الله فيهم أن يجعل لهم من الوصية، ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة.
قال أبو بكر : قد ثبت بما قدمنا من قول السلف أن ذلك كان حكما ثابتا في الإسلام، وهو الميراث بالمعاقدة والموالاة، ثم قال قائلون: إنه منسوخ بقوله: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } (4) وقال آخرون: ليس بمنسوخ من الأصل، ولكنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة، فنسخ ميراثهم في حال وجود القرابات وهو باق لهم إذا فقد الأقرباء على الأصل الذي كان عليه.
واختلف الفقهاء في ميراث موالي الموالاة :
فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر : من أسلم على يدي رجل
__________
(1) سورة النساء الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 6
(3) سورة النساء الآية 33
(4) سورة الأحزاب الآية 6
ووالاه وعاقده، ثم مات ولا وارث له غيره فميراثه له.
وقال مالك وابن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي : ميراثه للمسلمين، وقال يحيى بن سعيد: إذا جاء من أرض العدو فأسلم على يده فإن ولاءه لمن والاه، ومن أسلم من أهل الذمة على يدي رجل من المسلمين, فولاؤه للمسلمين عامة، وقال الليث بن سعد : من أسلم على يدي رجل فقد والاه وميراثه للذي أسلم على يده إذا لم يدع وارثا غيره.
وقال أبو بكر : الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده على الوجه الذي ذهب إليه أصحابنا؛ لأنه كان حكما ثابتا في أول الإسلام وحكم الله به في نص التنزيل، ثم قال: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } (1) فجعل ذوي الأرحام أولى من المعاقدين الموالي ، فمتى فقد ذوو الأرحام وجب ميراثهم بقضية الآية إذ كانت إنما نقلت ما كان لهم إلى ذوي الأرحام إذا وجدوا ، فإذا لم يوجدوا فليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخها فهي ثابتة الحكم مستعملة على ما تقتضيه من إثبات الميراث عند فقد ذوي الأرحام، وقد ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم بثبوت هذا الحكم وبقائه عند عدم ذوي الأرحام وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار الدمشقي قال: حدثنا يحيى بن حمزة عن عبد العزيز بن عمر (2) قال: سمعت عبد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة بن ذؤيب « عن تميم الداري أنه قال: يا رسول الله، ما السنة في الرجل يسلم؟
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 6
(2) صدوق يخطئ.
على يدي الرجل من المسلمين؟ قال: "هو أولى الناس بمحياه ومماته » (1) ، فقوله: "هو أولى الناس بمماته "، يقتضي أن يكون أولاهم بميراثه إذ ليس بعد الموت بينهما ولاية إلا في الميراث، وهو في معنى قوله تعالى: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } (2) يعني: ورثة، وقد روي نحو قول أصحابنا في ذلك عن عمر وابن مسعود والحسن وإبراهيم، وروى معمر عن الزهري أنه سئل عن رجل أسلم فوالى رجلا هل بذلك بأس؟ قال: لا بأس به، قد أجاز ذلك عمر بن الخطاب، وروى قتادة عن سعيد بن المسيب قال: من أسلم على يدي قوم ضمنوا جرائره وحل لهم ميراثه، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : إذا أسلم الكافر على يدي رجل مسلم بأرض العدو أو بأرض المسلمين فميراثه للذي أسلم على يديه، وقد روى أبو عاصم النبيل عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: « كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل بطن عقوله، وقال: " لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم » (3) .
وقد حوى هذا الخبر معنيين:
أحدهما: جواز الموالاة ؛ لأنه قال: "إلا بإذنهم" فأجاز الموالاة بإذنهم .
والثاني : أن له أن يتحول بولاية إلى غيره إلا أنه كره إلا بإذن الأولين، ولا يجوز أن يكون مراده - عليه السلام - في ذلك إلا في ولاء الموالاة؛ لأنه لا خلاف أن ولاء العتاقة لا يصح النقل عنه وقال - صلى الله عليه وسلم - : « الولاء لحمة كلحمة النسب » (4) .
فإن احتج محتج بما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن بشر وابن نمير وأبو أسامة
__________
(1) سنن الترمذي الفرائض (2112),سنن أبو داود الفرائض (2918),سنن ابن ماجه الفرائض (2752),مسند أحمد بن حنبل (4/103),سنن الدارمي الفرائض (3033).
(2) سورة النساء الآية 33
(3) صحيح مسلم العتق (1507),سنن النسائي القسامة (4829),مسند أحمد بن حنبل (3/342).
(4) سنن الدارمي الفرائض (3159).
عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة » (1) .
قال: فهذا يوجب بطلان حلف الإسلام ومنع التوارث به.
قيل له : يحتمل أن يريد به نفي الحلف في الإسلام على الوجه الذي كانوا يتحالفون عليه في الجاهلية؛ وذلك لأن حلف الجاهلية كان على أن يعاقده فيقول: هدمي هدمك، ودمي دمك وترثني وأرثك، وكان في هذا الحلف أشياء قد حظرها الإسلام وهو أنه كان يشرط أن يحامي عليه ويبذل دمه دونه ويهدم ما يهدمه فينصره على الحق والباطل، وقد أبطلت الشريعة هذا الحلف وأوجبت معونة المظلوم على الظالم حتى ينتصف منه، وأن لا يلتفت إلى قرابة ولا غيرها، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا } (2) فأمر الله تعالى بالعدل والقسط في الأجانب والأقارب، وأمر بالتسوية بين الجميع في حكم الله تعالى فأبطل ما كان عليه أمر الجاهلية من معونة القريب والحليف على غيره ظالما كان أو مظلوما وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما فكيف أنصره إذا كان ظالما؟! قال: أن ترده عن الظلم، فذلك معونة منك له » (3) ، وكان في حلف الجاهلية أن يرثه الحليف دون أقربائه فنفى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: « لا حلف في
__________
(1) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530),سنن أبو داود الفرائض (2925),مسند أحمد بن حنبل (4/83).
(2) سورة النساء الآية 135
(3) صحيح البخاري الإكراه (6552),سنن الترمذي الفتن (2255),مسند أحمد بن حنبل (3/99).
الإسلام » (1) التحالف على النصرة والمحاماة من غير نظر في دين أو حكم، وأمر باتباع أحكام الشريعة دون ما يعقده الحليف على نفسه، ونفى أيضا أن يكون الحليف أولى بالميراث من الأقارب فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : « لا حلف في الإسلام » (2) .
وأما قوله: « وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة » (3) ، فإنه يحتمل أن الإسلام قد زاد شدة وتغليظا في المنع منه وإبطاله فكأنه قال: إذا لم يجز الحلف في الإسلام مع ما فيه من تناصر المسلمين وتعاونهم فحلف الجاهلية أبعد من ذلك. انتهى المقصود (4) .
وقال أبو بكر ابن العربي : المسألة الرابعة: قوله تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } (5)
اختلف الناس فيه وابن عباس، فتارة قال: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر فأنزل الله تعالى: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } (6) يعني: تؤتوهم من الوصية جميلا وإحسانا في الثلث المأذون فيه، وتارة قال: كان المهاجرون لما قدموا المدينة حالف النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم فكان الأنصاري يرث المهاجري، والمهاجري يرث الأنصاري فنزلت هذه الآية، ثم انقطع ذلك فلا تواخي بين أحد اليوم.
وقال ابن المسيب : نزلت في الذين كانوا يتبنون الأبناء فرد الله الميراث إلى ذوي الأرحام والعصبة وجعل لهم نصيبا في الوصية.
__________
(1) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530),سنن أبو داود الفرائض (2925),مسند أحمد بن حنبل (4/83).
(2) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530),سنن أبو داود الفرائض (2925),مسند أحمد بن حنبل (4/83).
(3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530),سنن أبو داود الفرائض (2925),مسند أحمد بن حنبل (4/83).
(4) [أحكام القرآن]، (2\ 225- 228) طبع بالمطبعة البهية بمصر سنة 1347 هـ
(5) سورة النساء الآية 33
(6) سورة الأحزاب الآية 6
وقد أحكم ذلك ابن عباس في الصحيح بيانا بما رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برهانا، قال البخاري عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في الصحيح، « قال: ورثة، والذين عقدت أيمانكم فكان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما نزلت نسخت. ثم قال: من النصرة والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له، » (4) وهذه غاية ليس لها مطلب (5) . وقال القرطبي بعد ذكره لرواية البخاري عن ابن عباس المتقدمة قال: قال أبو الحسن بن بطال : وقع في جميع النسخ { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } (6) قال: نسختها { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } (7)
والصواب أن الآية الناسخة { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } (8) والمنسوخة { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } (9) وكذا رواه الطبري في روايته. وروي عن جمهور السلف أن الآية الناسخة لقوله: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } (10) قوله تعالى في الأنفال: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } (11) وروي هذا عن ابن عباس وقتادة والحسن البصري وهو الذي انتبه أبو عبيد في كتاب [الناسخ والمنسوخ]، له.
وفيها قول آخر : رواه الزهري عن سعيد بن المسيب قال: أمر الله عز وجل الذين تبنوا غير أبنائهم في الجاهلية وورثوا في الإسلام أن يجعل لهم
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4304),سنن أبو داود الفرائض (2922).
(2) سورة النساء الآية 33 (1) { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ }
(3) سورة النساء الآية 33 (2) { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ }
(4) سورة النساء الآية 33 (3) { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ }
(5) [أحكام القرآن]، (1\ 414، 415)، الطبعة الأولى الحلبية، سنة 1376هـ.
(6) سورة النساء الآية 33
(7) سورة النساء الآية 33
(8) سورة النساء الآية 33
(9) سورة النساء الآية 33
(10) سورة النساء الآية 33
(11) سورة الأحزاب الآية 6
نصيبا في الوصية ورد الميراث إلى ذوي الرحم والعصبة.
وقالت طائفة: قوله تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } (1) محكم وليس بمنسوخ، وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك, ذكره الطبري عن ابن عباس { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (2) من النصرة والنصيحة والرفادة، ويوصي لهم, وقد ذهب الميراث, وهو قول مجاهد والسدي . قلت: واختاره النحاس، ورواه سعيد بن جبير، ولا يصح النسخ فإن الجمع ممكن كما بينه ابن عباس فيما ذكره الطبري، ورواه البخاري عنه في كتاب التفسير (3) .
وقال أيضا: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } (4) يعني: بالحلف، عن قتادة، وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك. فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ثم نسخ (5) .
وقال ابن حجر على قوله: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } (6) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة. وهكذا حملها ابن عباس على من آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، وحملها غيرهم على أعم من ذلك، فأسند الطبري عنه قال: كان الرجل يحالف
__________
(1) سورة النساء الآية 33
(2) سورة النساء الآية 33
(3) [تفسير القرطبي]، (5\ 165، 166).
(4) سورة النساء الآية 33
(5) [تفسير القرطبي]، (5\ 166)، طبع مطبعة دار الكتب المصرية، سنة 1356 هـ.
(6) سورة النساء الآية 33
الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر فنسخ ذلك، ومن طريق سعيد بن جبير قال: كان الرجل يعاقد الرجل فيرثه، وعاقد أبو بكر مولى فورثه.
وقال أيضا على قوله: فلما نزلت { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } (1) نسخت. هكذا وقع في هذه الرواية أن ناسخ ميراث الحليف هذه الآية. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان الرجل يعاقد الرجل فإذا مات ورثه الآخر فأنزل الله عز وجل { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } (2) يقول: إلا أن توصوا لأوليائكم الذين عاقدتم.
ومن طريق قتادة : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول: دمي دمك وترثني وأرثك فلما جاء الإسلام أمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس ثم نسخ بالميراث فقال: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } (3) ومن طرق شتى عن جماعة من العلماء كذلك، وهذا هو المعتمد.
ويحتمل أن يكون النسخ وقع مرتين. الأولى حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة فنزلت { وَلِكُلٍّ } (4) وهي آية الباب فصاروا جميعا يرثون وعلى هذا يتنزل حديث ابن عباس ثم نسخ ذلك آية الأحزاب، وخص الميراث بالعصبة وبقي للمعاقد النصر والإرفاد ونحوهما، وعلى هذا يتنزل بقية الآثار، وقد تعرض له ابن عباس في حديثه أيضا لكن لم يذكر الناسخ الثاني ولا بد منه. والله أعلم.
وقال أيضا على قوله : ثم قال: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } (5) من
__________
(1) سورة النساء الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 6
(3) سورة الأحزاب الآية 6
(4) سورة النساء الآية 33
(5) سورة النساء الآية 33
النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له: كذا وقع فيه وسقط منه شيء بينه الطبري في روايته عن أبي كريب عن أبي أسامة بهذا الإسناد ولفظه، ثم قال: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (1) من النصر إلخ، فقوله من النصر يتعلق بآتوهم لا بعقدت ولا بأيمانكم وهو وجه الكلام. انتهى المقصود (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما (المؤاخاة) فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة، كما آخى بين سلمان الفارسي وبين أبي الدرداء، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة، حتى أنزل الله تعالى { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } (3) فصاروا يتوارثون بالقرابة، وفي ذلك أنزل الله تعالى { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (4) وهذا هو المحالفة.
واختلف العلماء هل التوارث بمثل ذلك عند عدم القرابة والولاء محكم أو منسوخ على قولين:
أحدهما : أن ذلك منسوخ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، ولما ثبت في [صحيح مسلم ] عنه أنه قال: « لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة » (5) .
والثاني : أن ذلك محكم وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى (6) .
__________
(1) سورة النساء الآية 33
(2) [فتح الباري] (8\ 247- 249) طبع المطبعة السلفية.
(3) سورة الأحزاب الآية 6
(4) سورة النساء الآية 33
(5) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530),سنن أبو داود الفرائض (2925),مسند أحمد بن حنبل (4/83).
(6) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] (11\ 99، 100)، ويرجع أيضا إلى (35\ 92- 98).
وأما كلام الفقهاء المعاصرين في هذا الدليل:
فقال الأستاذ طه السنوسي :
ولاء الموالاة في التشريع الإسلامي هو عبارة عن رابطة قانونية بين شخصين بمقتضاها يتعاقدان على أن يعقل أولهما وهو (مولى الموالاة) عن الآخر وهو (المعقول عنه) إذا جنى أن يدفع الدية في مقابل ميراثه منه إذا توفي غير مخلف وارثا قط. وقد اختلف في صحة هذا العقد ونفاذه من حيث كونه سببا من أسباب الميراث ويمكن إجمال وجهات النظر في هذا الصدد في رأيين، قال: أولهما بصحته وجوازه واعتباره سببا للإرث، وقال: ثانيهما ببطلانه ورفضه سببا له.
الرأي القائل بالرفض والبطلان : قال بهذا الرأي جمهور الفقهاء، ومنهم الشافعي و مالك و أحمد وأسانيده تتلخص في أربعة:
أولها : ورد نص صريح في القرآن المصدر الأول للتشريع الإسلامي هو قوله تعالى: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } (1) بمقتضاه يكون ذو القرابات بعضهم أولى ببعض في الإرث من التوارث بسبب عقد الموالاة ذلك العقد الذي عرف في الجاهلية.
وثانيها: ورود نص ثابت في الحديث المصدر الثاني للتشريع، بمقتضاه « الولاء لمن أعتق » (2) وهو يحصر الولاء في نوع واحد هو ولاء العتاقة، وعلى ذلك يعتبر باطلا كل ولاء سواه.
وثالثها: أن عقد الموالاة فيه في الواقع وصية بجميع المال، والوصية بجميع المال ممن لا وارث له غير جائزة عند الشافعي؛ لأن وارث من لا وارث له هو جماعة المسلمين ولا يستطيع المورث أن يبطل حق هذه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 6
(2) صحيح البخاري الزكاة (1422),سنن الترمذي البيوع (1256),سنن أبو داود العتق (3929).
الجماعة، تفريعا على عدم إبطال حق ورثته في حالة ما إذا كان له ورثة بالوصية بجميع ماله.
ورابعها: قول الشافعي : إن الملك بطريق الوراثة لا يثبت ابتداء، وإنما يثبت على سبيل الخلافة، وأن أسباب الإرث معلومة شرعا لكن عقد الموالاة ليس منها.
الرأي القائل بالجواز والصحة :
وقد قال به عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم -، وقال به كذلك أبو حنيفة وأصحابه، وهو الرأي الصحيح، والراجح والذي أميل إليه، وأسانيده تتلخص في خمسة:
أولها : وجود هذا الولاء باعتباره سببا للإرث في الجاهلية، وإقرار الإسلام له حين جاء، وذلك بنص صريح في المصدر الأول للتشريع هو قوله تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (1) ومقتضاها أنه يجب أن تعطوا حلفاءكم الذين تعاقدتم وإياهم على النصرة والميراث - نصيبهم منه؛ لأن ذلك المقتضي للعقد، ولا يرد على ذلك بوجود نص صريح آخر في المصدر نفسه بمقتضاه يكون ذوو القرابات بعضهم أولى ببعض في الإرث من التوارث بسبب عقد الموالاة؛ لأن هذا النص الأخير ليس نصا على الأولوية في الميراث، ثم إنه لا يتعارض مع النص الأول، وذلك لأن حق الإرث المقرر لمولى الموالاة لا يثبت له إلا عند عدم وجود (أولي الأرحام) فمرتبته في الإرث متأخرة عن مرتبة
__________
(1) سورة النساء الآية 33
هؤلاء، بل وعن مرتبة مولى العتاقة وعصبته، وما دام ليس بين النصوص التشريعية من تعارض ما فالواجب إعمال كل فيما يخصه.
وثانيها: أن الحديث القائل بأن « الولاء لمن أعتق » (1) ليس الحصر فيه حقيقيا، بل إضافيا، أي: أن الولاء لمن أعتق لا لغيره ممن كان أجنبيا لقصة بريرة وفيه: « الولاء لمن أعتق » (2) ولهذا لا يكون هذا الحديث نافيا استحقاق الإرث بسبب ولاء الموالاة، جاء في حديث تميم الداري - رضي الله عنه -، أنه سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: « إن الرجل ليأتيني فيسلم على يدي ويواليني فقال الرسول: هو أخوك ومولاك فأنت أحق به محياه ومماته » والمقصود محياه تحمل عقل الجريمة عنه، ومماته في الإرث منه.
وثالثها: أن ولاء الموالاة متصل بالوصية بجميع المال وهي صحيحة ممن لا وارث له؛ لأن من لا وارث له يصرف ماله إلى بيت مال المسلمين ، ومن حيث إن الموصى له هو أحد هؤلاء المسلمين يشركهم في دين الله، ومن حيث إنه قد ترجح بإيجاب الموصى له فمن أجل ذلك هو أولى من هذا البيت، وكذلك الأمر بالنسبة لمن عاقده مولى الموالاة عقد الموالاة. [43\ المبسوط]
ورابعها : أنه فيما يتعلق بخلافة الوارث الموروث في ماله، الظاهر أن الإنسان في شأن هذه الخلافة إنما يؤثر قرابته على الأجانب، ومن أجل ذلك اقتضت حكمة التشريع الحنيف أن يقدم الأقرب على الأبعد فيها؛ لأن الموروث نفسه يفعل ذلك ويريده في أغلب الأحوال.
والمسألة لا تخلو من فرضين:
الأول: أن يكون أحد من قرابته وفي هذه الحالة يوجد النظر من الشرع
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1422),سنن الترمذي البيوع (1256),سنن أبو داود العتق (3929).
(2) صحيح البخاري الزكاة (1422),سنن الترمذي البيوع (1256),سنن أبو داود العتق (3929).
له ويقع الاستغناء عن نظره لنفسه.
والثاني: أن لا يكون أحد من قرابته، وهنا تقع الحاجة إلى نظره لنفسه فإذا نظر إليها وعقد عقد الموالاة مع شخص ما، اعتبر ذلك منه تصرفا صحيحا في خالص حقه على سبيل النظر منه لنفسه.
وخامسها: أن عدم الدليل المقول به في شأن إثبات بين الوارث والموروث بطريق العقد عن قصد فيه نظر؛ لأن إثبات هذه الخلافة بالعقد قصدا مشروع بالاتفاق وذلك في عقد النكاح، إذ المعروف أن الزوجة التي أساسها العقد وتوافق الإرادتين هي سبب للميراث، ومن أجل هذا ينتفي القول بعدم الدليل في إثبات الخلافة عن طريق عقد الموالاة (1) .
وقال أيضا: يعرف التأمين بوجه عام: بأنه عملية يحصل بها أحد الطرفين وهو المستأمن أو المؤمن له على تعهد لمصلحته أو لمصلحة غيره في نظر مقابل مال، ويتعهد فيها الطرف الآخر وهو المؤمن بدفع عوض مالي في حالة تحقق خطر معين، أي: بتحميله تبعية مجموعة من المخاطر.
ولعقد التأمين أركان أربعة :
أولها : الخطر، ويشترط فيه أن يكون حادثا احتماليا مستقبلا، وليس إراديا محضا.
وثانيها : المقابل المالي الذي يحصل عليه المؤمن من المستأمن؛ ليتحمل الأول تبعة الخطر المؤمن منه، وهنا يبدو أن عقد التأمين معاوضة تنشئ التزامات متقابلة في ذمة الطرفين.
__________
(1) [مجلة الأزهر] (25\ 223) وما بعدها.
وثالثها : العوض المالي الذي يلتزم المؤمن دفعه عند تحققه.
ورابعها : المصلحة في التأمين أو المصلحة القابلة للتأمين... وقد أسلفت التكييف القانوني لعقد الموالاة في التشريع الإسلامي.
ومنه يتضح أن أركانه تتفق إلى حد كبير وأركان عقد التأمين في صورة التأمين على المسئولية في التشريع الحديث، فهو أولا عقد بين طرفين: أولهما: (مولى الموالاة) يقابل المؤمن وهو شركة التأمين.
وثانيهما: (المعقول عنه) وهو المستأمن أو المؤمن له وهو يتضمن ثانيا عنصر (العوض المالي) الذي يلتزم المؤمن (وهو مولى الموالاة) دفعه عند تحقق الخطر المؤمن منه، وهو يتمثل في الدية أو التعويض عن الجريمة التي ينتج عنها الضرر للغير المستحق له كما هو الحال في المسئولية الناشئة عن الأضرار الناشئة من ارتكاب جريمة تترتب عليها الغرامة المالية، وهو يتضمن ثالثا (عنصر المقابل المالي) الذي يحصل عليه (مولى الموالاة المؤمن) مقابل تحمله تبعة الخطر وهو يتمثل في (مال الشركة المورثة) إذا توفي عنه (المعقول عنه المستأمن) غير مخلف وارثا مطلقا باستثناء الحالة التي يوجد فيها مع مولى الموالاة أحد من الزوجين، فيكون ما يتبقى من مال التركة بعد فرض هذا الزوج حقا مستحقا لهذا المولى المؤمن، أما شرط المصلحة في التأمين فمفهوم كما سلف أنه من مستلزمات صورة التأمين على المسئولية، وهي الصورة التي ينطبق عقد ولاء الموالاة عليها (1) . . انتهى المقصود من كلام السنوسي .
__________
(1) [مجلة الأزهر] (25\ 303) وما بعدها
وقد اعترض على هذا القياس بما يأتي :
أولا: نلاحظ على تشبيهه ولاء الموالاة بعقود التأمين التي تعقد بين المستأمن بأن هناك عنصرا معنويا يقوم عليه ولاء الموالاة وهو مفقود في عقد التأمين، ولهذا العنصر المعنوي من عظيم الأهمية ما يجعل ولاء الموالاة غير عقد التأمين، أن الولاء في الإسلام- من حيث هو- صلة ولحمة كصلة القرابة ولحمتها ومولى القوم منهم، وكبار أئمة الإسلام الذين يتصلون ببعض القبائل بصلة الولاء يفتخرون بهذه الصلة حتى بعد زوالها؛ لأنهم يعتبرونها قرابة كقرابة الدم ولحمة كلحمة الرحم وهذا المعنى الأدبي موجود في ولاء الموالاة؛ لأنه ولاء على كل حال، والولاء نصرة وفيه كل ما في معاني التبني والإخاء والقرابة، والرجلان اللذان يتعاقدان عقد الموالاة يترابطان برباط القرابة والتناصر الأدبي حتى يكون ذلك هو الأصل في هذا التعاقد، ثم تكون نتائجه المالية من ثمرات ذلك.
أما عقود التأمين فلا حظ فيها لهذا العنصر المعنوي، وإنما هي تعاقد بين مصالح مالية محضة، للمخاطرة دخل كبير فيها، وما ينتظره المتعاقد عقد الولاء من معونة صاحبه له في الحياة وأعبائها الأدبية والمادية لا ينتظره المتعاقدان عقد تأمين إلا فيما نص عليه العقد من نتائج مالية محدودة لا مطمع في غيرها؛ لأنها في سبيل غير سبيل عقد الموالاة (1)
وأجاب الأستاذ الزرقاء عن ذلك : بأن الشبه الذي رأيناه بين عقد الموالاة وعقد التأمين ليس هو بين الموالاة والتأمين على الحياة، وإنما هو
__________
(1) [مجلة الأزهر] (2\ 307) (تعليق). .
بين الموالاة والتأمين من المسئولية كما أوضحناه وأوضحه الأستاذ طه السنوسي الذي نقلنا أيضا رأيه وبحثه بمقتضى عقد الموالاة يتحمل المولى المسئولية المدنية، أي: الضمان المالي الذي يترتب على المولى نتيجة لجناية الخطأ الصادرة منه، وذلك بسبب العقد (عقد الموالاة) رغم أن المولى المتعاقد لم يجن شيئا، وفي مقابل هذا التحمل (الاحتمالي غير المحقق) يستفيد الموالي الإرث من المولى إن مات عن غير وارث (وهو أيضا عوض احتمالي غير محقق) فكذلك التأمين من المسئولية- وهو من أهم فروع نظام التأمين- كالتأمين من المسئولية في حوادث السيارة مثلا حيث يكون المالك والسائق مسئولين ماليا بما تلحقه السيارة بالغير من أضرار في حوادثها التي هي من جنايات الخطأ، ذلك أن الحوادث التي تقع من السيارة مثلا لا يقتصر ضررها على السيارة نفسها، بل قد تصيب الغير بأضرار بالغة في النفس والمال تترتب عليها التزامات مالية بالدية أو بالتعويض هي التي تسمى: المسئولية، فالتأمين من حوادث السيارة قد يكون لما يصيبها هي من ضرر فتلتزم شركة التأمين بإصلاحه، وقد يكون لما يترتب على صاحبها من مسئولية مالية تجاه الغير إن ألحقت ضررا بالغير وهذا من قبيل ما يسمى: التأمين من المسئولية. وهو كما يرى محكم الشبه بنظام الموالاة الذي استدللنا به، حيث يتحمل فيه الموالي عن المولى ما يلحق ذلك المولى من ضمان مالي نتيجة لما يقع منه من جنايات الخطأ في مقابل أن الموالي يرثه إذا مات من غير وارث، فأي صلة أقوى من هذه الصلة، وهذا الشبه المحكم بين الموضوعين.
والتأمين من المسئولية لا ينحصر في حوادث السيارات كما هو معلوم،
بل هو فرع واسع جدا في نظام التأمين يمكن أن يجري فيه التأمين على جميع أنواع المسئوليات المدنية سوى مسئولية الشخص عن فعله العمد . . (1)
ثانيا: اعترض بأن قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة قياس مع الفارق المؤثر، وبيانه من وجوه.
الأول : روى مسلم في [صحيحه] عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: « كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسر المسلمون رجلا من بني عقيل وأصابوا معه العضباء فأتى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الوثاق فقال: يا محمد، فأتاه فقال: "ما شأنك "؟ فقال: بم أخذتني وأخذت سابلة الحجاج، فقال إعظاما لذلك: " أخذت بجريرة حلفائك ثقيف " ثم انصرف فناداه: يا محمد يا محمد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقيقا فرجع إليه فقال: "ما شأنك؟ " فقال: إني مسلم، قال: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح » (2) الحديث.
فهل المستأمن حينما يتعاقد مع شركات التأمين يكون عضوا فيما ستفيد من فوائدها ويتحمل خسارتها ويؤخذ بجريرتها كما أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجريرة حلفائه، الواقع أن هذا غير صحيح.
الوجه الثاني: أن شركة التأمين ضامنة ومتحملة لمسئولية المستأمن عند وقوعه في الخطأ، والمستأمن ليس عليه سوى دفع القسط مهما عظم الخطر على شركات التأمين، وهذا بخلاف عقد الموالاة في الإسلام فكل
__________
(1) [أسبوع الفقه الإسلامي]، ص (541، 542). .
(2) صحيح مسلم النذر (1641),سنن أبو داود الأيمان والنذور (3316),مسند أحمد بن حنبل (4/434).