كتاب : أبحاث هيئة كبار العلماء
المؤلف : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
واضح بحمد الله .
وأيضا : فإن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم وإنما انتفعوا بثمنه ، فيلزم من وقف مع تنظر العقود والألفاظ دون مقاصدها وحقائقها : أن لا يحرم ذلك ؛ لأن الله تعالى لم ينص على تحريم الثمن وإنما حرم عليهم نفس الشحم ، ولما لعنهم على استحلالهم الثمن . وإن لم ينص على تحريمه - دل على أن الواجب النظر إلى المقصود ، وإن اختلفت الوسائل إليه وأن ذلك يوجب أن لا يقصد الانتفاع بالعين ولا ببدلها .
ونظير هذا : أن يقال : لا تقرب مال اليتيم فتبيعه وتأكل عوضه ، وأن يقال : لا تشرب الخمر فتغير اسمه وتشربه ، وأن يقال : لا تزن بهذه المرأة فتعقد عليها عقد إجارة وتقول إنما أستوفي منافعها وأمثال ذلك .
قالوا : ولهذا الأصل- وهو تحريم الحيل المتضمنة إباحة ما حرم الله أو إسقاط ما أوجبه الله عليه- أكثر من مائة دليل ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له مع أنه أتى بصورة عقد النكاح الصحيح لما كان مقصوده التحليل لا حقيقة النكاح .
وقد ثبت عن الصحابة أنهم سموه زانيا ولم ينظروا إلى صورة العقد .
الدليل الثاني على تحريم العينة : ما رواه أحمد في مسنده : حدثنا أسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة ، واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم » (1) رواه أبو داود بإسناد صحيح إلى حيوة بن شريح المصري عن إسحاق أبي عبد الرحمن الخراساني ، أن
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462),مسند أحمد بن حنبل (2/28).
عطاء الخراساني حدثه : أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : فذكره ، وهذان إسنادان حسنان يشد أحدهما الآخر.
فأما رجال الأول فأئمة مشاهير ، وإنما يخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر .
والإسناد الثاني : يبين أن للحديث أصلا محفوظا عن ابن عمر ، فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور وحيوة كذلك . وأما إسحاق أبو عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حيوة والليث ويحيى بن أيوب وغيرهم .
وله طريق ثالث : رواه السري بن سهل حدثنا عبد الله بن رشيد ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن ليث عن عطاء عن ابن عمر قال : لقد أتى علينا زمان وما منا رجل يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، » (1) حتى يتوبوا ويرجعوا إلى دينهم وهذا يبين أن للحديث أصلا وأنه محفوظ .
الدليل الثالث : ما تقدم من حديث أنس « أنه سئل عن العينة ؟ فقال : إن الله لا يخدع ، هذا مما حرم الله ورسوله » وتقدم أن هذا اللفظ في حكم المرفوع.
الدليل الرابع : ما تقدم من حديث ابن عباس وقوله : « هذا مما حرم الله ورسوله » .
الدليل الخامس : ما رواه الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن أبي إسحاق عن العالية ، ورواه حرب من حديث إسرائيل حدثني
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462),مسند أحمد بن حنبل (2/28).
أبو إسحاق عن جدته العالية ، يعني : جدة إسرائيل : فإنها امرأة أبي إسحاق قالت : (دخلت على عائشة في نسوة فقالت : مما حاجتكن ؟ فكان أول من سألها أم محبة ، فقالت : يا أم المؤمنين ، هل تعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت : نعم . قالت : فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء . وأنه أراد أن يبيعها فابتعتها بستمائة درهم نقدا . فأقبلت عليها وهي غضبى فقالت : بئسما شريت ، وبئسما اشتريت ، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب . وأفحمت صاحبتنا فلم تتكلم طويلا ، ثم إنه سهل عنها ، فقالت : يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي ؟ فتلت عليها: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } (1)
فلولا أن عند أم المؤمنين علما لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا بالاجتهاد ، ولا سيما إن كانت قد قصدت أن العمل يحبط بالردة ، وأن استحلال الربا أكفر ، وهذا منه ولكن زيدا معذور ؛ لأنه لم يعلم أن هذا محرم ؛ ولهذا قالت : (أبلغيه) . ويحتمل أن تكون قد قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئا .
وعلى التقديرين : فجزم أم المؤمنين بهذا دليل على أنه لا يسوغ فيه الاجتهاد ، ولو كانت هذه من مسائل الاجتهاد والنزاع بين الصحابة لم تطلق عائشة ذلك على زيد . فإن الحسنات لا تبطل بمسائل الاجتهاد .
ولا يقال : فزيد من الصحابة وقد خالفها ؛ لأن زيدا لم يقل : هذا
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
حلال، بل فعله وفعل المجتهد لا يدل قوله على الصحيح لاحتمال سهو، أو غفلة، أو تأويل، أو رجوع ونحوه، وكثيرا ما يفعل الرجل الشيء ولا يعلم مفسدته، فإذا نبه له انتبه، ولا سيما أم ولده، فإنها دخلت على الرجوع إلى رأس مالها، وهذا يدل على الرجوع عن ذلك العقد ولم ينقل عن زيد أنه أصر على ذلك.
فإن قيل: لا نسلم ثبوت الحديث فإن أم ولد زيد مجهولة.
قلنا: أم ولده لم ترو الحديث وإنما كانت هي صاحبة القصة، وأما العالية فهي امرأة أبي إسحاق السبيعي وهي من التابعيات، وقد دخلت على عائشة وروى عنها أبو إسحاق وهو أعلم بها، وفي الحديث قصة وسياق يدل على أنه محفوظ، وأن العالية لم تختلق هذه القصة ولم تضعها، بل يغلب على الظن غلبة قوية صدقها فيها وحفظهما لها؛ ولهذا رواها عنها زوجها ميمون ولم ينهها ولا سيما عند من يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له، والكذب لم يكن فاشيا في التابعين فشوه فيمن بعدهم، وكثير منهم كان يروي عن أمه وامرأته ما يخبرهن به أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتج به.
فهذه أربعة أحاديث تبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم العينة:
حديث ابن عمر الذي فيه تغليظ العينة:
وحديث أنس وابن عباس : أنها مما حرم الله ورسوله.
وحديث عائشة هذا والمرسل منها له ما يوافقه، وقد عمل به بعض الصحابة والسلف وهذه حجة باتفاق الفقهاء.
الدليل السادس : ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا » (1) .
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3461).
وللعلماء في تفسيره قولان :
أحدهما : أن يقول: بعتك بعشرة نقدا أو عشرين نسيئة، وهذا هو الذي رواه أحمد عن سماك ففسره في حديث ابن مسعود قال: « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة » (1) قال سماك : الرجل يبيع البيع فيقول هو علي نساء بكذا وبنقد بكذا.
وهذا التفسير ضعيف فإنه لا يدخل الربا في هذه الصورة ولا (صفقتين) هنا، وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين.
والتفسير الثاني: أن يقول: أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالة وهذا معنى الحديث الذي لا معنى له غيره وهو مطابق لقوله: « فله أوكسهما أو الربا » (2) فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما وهو مطابق لصفقتين في صفقة، فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها، ولا يستحق إلا رأس ماله وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى إلا الأكثر كان قد أخذ الربا.
فتدبر مطابقة هذا التفسير لألفاظه صلى الله عليه وسلم ، وانطباقه عليها.
ومما يشهد لهذا التفسير: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم « أنه نهى عن بيعتين في بيعة » (3) و « عن سلف وبيع » (4) فجمعه بين هذين العقدين في النهي؛ لأن كلا منهما يئول إلى الربا؛ لأنهما في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا.
ومما يدل على تحريم العينة : حديث ابن مسعود يرفعه: « لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له » (5) .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/398).
(2) سنن أبو داود البيوع (3461).
(3) سنن الترمذي البيوع (1309),مسند أحمد بن حنبل (2/71).
(4) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),مسند أحمد بن حنبل (2/205),سنن الدارمي البيوع (2560).
(5) صحيح مسلم المساقاة (1597),سنن الترمذي البيوع (1206),سنن أبو داود البيوع (3333),سنن ابن ماجه التجارات (2277),مسند أحمد بن حنبل (1/465),سنن الدارمي البيوع (2535).
ومعلوم أن الشاهدين والكاتب إنما يكتب ويشهد على عقد صورته جائزة الكتابة والشهادة لا يشهد بمجرد الربا ولا يكتبه، ولهذا أقرنه بالمحلل والمحلل له حيث أظهر صورة النكاح، ولا نكاح كما أظهر الكاتب والشاهد أنه صورة البيع ولا بيع.
وتأمل كيف لعن في الحديث الشاهدين والكاتب والآكل والموكل، فلعن المعقود له والمعين له على ذلك العقد ولعن المحلل والمحلل له، فالمحلل له: هو الذي يعقد التحليل لأجله، والمحلل: هو المعين له بإظهار صورة العقد، كما أن المرابي: هو المعان على أكل الربا بإظهار صورة العقد المكتوب المشهود به.
فصلوات الله على من أوتي جوامع الكلم.
الدليل السابع: ما صح عن ابن عباس أنه قال: (إذا استقمت بنقد فبعت بنقد فلا بأس، وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا خير فيه تلك ورق بورق) رواه سعيد وغيره.
ومعنى كلامه: أنك إذا قومت السلعة بنقد ثم بعتها بنسيئة كان مقصود المشتري شراء دراهم معجلة بدراهم مؤجلة وإذا قومتها بنقد ثم بعتها به فلا بأس؛ فإن ذلك بيع المقصود منها السلعة لا الربا.
الدليل الثامن : ما رواه ابن بطة عن الأوزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع » (يعني: العينة).
وهذا- وإن كان مرسلا- فهو صالح للاعتضاد به ولا سيما وقد تقدم من المرفوع ما يؤكده.
ويشهد له أيضا: قوله صلى الله عليه وسلم : « ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير
اسمها » (1) .
وقوله أيضا فيما رواه إبراهيم الحربي من حديث أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أول دينكم نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض يستحل فيه الحر والحرير » (2) ، والحر: بكسر الحاء وتخفيف الراء: هو: الفرج، فهذا إخبار عن استحلال المحارم ولكنه بتغيير أسمائها وإظهارها في صورة تجعل وسيلة إلى استباحتها وهي الربا والخمر والزنا فيسمى كل منها بغير اسمها، ويستباح بالاسم الذي سمي به، وقد وقعت الثلاثة.
وفي قول عائشة : (بئسما شريت، وبئسما اشتريت) دليل على بطلان العقدين معا، وهذا هو الصحيح من المذهب؛ لأن الثاني عقد ربا والأول وسيلة إليه.
وفيه قول آخر في المذهب : أن العقد الأول صحيح؛ لأنه تم بأركانه وشروطه، فطريان الثاني عليه لا يبطله، وهذا ضعيف، فإنه لم يكن مقصودا لذاته وإنما جعله وسيلة إلى الربا، فهو طريق إلى المحرم فكيف يحكم بصحته؟ وهذا القول لا يليق بقواعد المذهب.
فإن قيل: فما تقولون فيمن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة؟
قلنا: قد نص أحمد في رواية حرب على أنه لا يجوز إلا أن تتغير السلعة؛ لأن هذا يتخذ وسيلة إلى الربا، فهو كمسألة العينة سواء، وهي عكسها صورة، وفي الصورتين قد ترتب في ذمته دراهم مؤجلة بأقل منها نقدا، لكن في إحدى الصورتين: البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى: المشتري هو الذي اشتغلت ذمته فلا فرق بينهما.
__________
(1) سنن أبو داود الأشربة (3688),سنن ابن ماجه الفتن (4020),مسند أحمد بن حنبل (5/342).
(2) سنن الدارمي الأشربة (2101).
وقال بعض أصحابنا: يحتمل أن تجوز الصورة الثانية إذا لم يكن ذلك حيلة ولا مواطأة، بل وقع اتفاقا.
وفرق بينها وبين الصورة الأولى بفرقين:
أحدهما : أن النص ورد فيها فيبقى ما عداها على أصل الجواز.
والثاني : أن التوسل إلى الربا بتلك الصورة أكثر من التوسل بهذه.
والفرقان ضعيفان: أما الأول: فليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تتقيد به نصوص مطلقة على تحريم العينة.
والعينة فعلة من العين النقد قال الشاعر:
أندان، أم نعتان، أم ينبري لنا ... فتى مثل نصل السيف ميزت مضاربه؟
قال الجوزجاني : أنا أظن أن العينة إنما اشتقت من حاجة الرجل إلى العين من الذهب والورق فيشتري السلعة ويبيعها بالعين التي احتاج إليها وليست به إلى السلعة حاجة.
وأما الفرق الثاني: فكذلك؛ لأن المعتبر في هذا الباب هو الذريعة، ولو اعتبر فيه الفرق من الاتفاق والقصد لزم طرد ذلك في الصورة الأولى وأنتم لا تعتبرونه.
فإن قيل: فما تقولون إذا لم تعد السلعة إليه، بل رجعت إلى ثالث هل تسمون ذلك عينة؟
قيل: هذه مسألة التورق؛ لأن المقصود منها الورق، وقد نص أحمد في رواية أبي داود على أنها من العينة، وأطلق عليها اسمها.
وقد اختلف السلف في كراهيتها، فكان عمر بن عبد العزيز يكرهها، وكان يقول: (التورق أخية الربا) ورخص فيها إياس بن معاوية .
وعن أحمد فيها روايتان منصوصتان، وعلل الكراهة في إحداهما بأنه بيع مضطر، وقد روى أبو داود عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم « نهى عن بيع المضطر، » (1) وفي [المسند] عن علي قال: (سيأتي على الناس زمان يعض المؤمن على ما في يده ولم يؤمر بذلك، قال الله تعالى: { وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } (2) ويبايع المضطرون، وقد « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر » (3) وذكر الحديث.
فـ أحمد رحمه الله تعالى أشار إلى أن العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نقد؛ لأن الموسر يضن عليه بالقرض فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم يبيعها، فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة، وإن باعها من غيره فهي التورق، ومقصوده في الموضعين: الثمن، فقد حصل في ذمته ثمن مؤجل مقابل لثمن حال أنقص منه ولا معنى للربا إلا هذا لكنه ربا بسلم لم يحصل له مقصوده إلا بمشقة ولو لم يقصده كان ربا بسهولة.
وللعينة صورة رابعة- وهي أخت صورها- وهي: أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة، ونص أحمد على كراهة ذلك فقال: العينة أن يكون عنده المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة فإن باع بنسيئة ونقد فلا بأس.
وقال أيضا: أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة فلا يبيع بنقد.
قال ابن عقيل : إنما كره ذلك لمضارعته الربا، فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة غالبا.
وعلله شيخنا ابن تيمية رضي الله عنه بأنه يدخل في بيع المضطر فإن
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3382),مسند أحمد بن حنبل (1/116).
(2) سورة البقرة الآية 237
(3) سنن أبو داود البيوع (3382),مسند أحمد بن حنبل (1/116).
غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه، فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة، وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجرا من التجار.
وللعينة صورة خامسة :- وهي أقبح صورها وأشدها تحريما- وهي: أن المترابيين يتوطآن على الربا، ثم يعمدان إلى الرجل عنده متاع فيشتريه منه المحتاج ثم يبيعه للمربي بثمن حال ويقبضه منه ثم يبيعه إياه المربي بثمن مؤجل وهو ما اتفقنا عليه ثم يعيد المتاع إلى ربه ويعطيه شيئا، وهذه تسمى: الثلاثية؛ لأنها بين ثلاثة، وإذا كانت السلعة بينهما خاصة فهي الثنائية، وفي الثلاثية: قد أدخلا بينهما محللا يزعمان أنه يحلل لهما ما حرم الله من الربا، وهو كمحلل النكاح فهذا محلل الربا، وذلك محلل الفروج، والله تعالى لا تخفى عليه خافية، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله عن رجل عليه دين لرجل يحتاج إلى بضاعة أو حيوان ينتفع به أو يتاجر فيه، فيطلبه من إنسان دينا فلم يكن عنده، هل للمطلوب أن يشتريه ثم يبيعه له بثمن إلى أجل؟ وهل له أن يوكله في شرائه ثم يبيعه له بعد ذلك بربح اتفقا عليه قبل الشراء؟
فأجاب : من كان له عليه دين فإن كان موسرا وجب عليه أن يوفيه، وإن كان معسرا وجب إنظاره، ولا يجوز قلبه عليه بمعاملة ولا غيرها، وأما البيع إلى أجل ابتداء فإن كان مقصود المشتري الانتفاع بالسلعة أو التجارة فيها جاز إذا كان على الوجه المباح، وأما إذا كان مقصوده الدراهم فيشتريها بمائة مؤجلة ويبيعها في السوق بسبعين حالة فهذا مذموم منهي عنه في أظهر
قولي العلماء، وهذا يسمى: التورق، قال أبو عمر ابن عبد البر : (التورق أخية الربا) (1) .
__________
(1) [الدرر السنية] (4\ 17، 18)
وسئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن حكم التورق.
فأجاب فيما يلي:
من محمد بن إبراهيم
إلى المكرم أحمد علي الروضان سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
وصل كتابك الذي تستفتي فيه عما يتعامل به بعض الناس إذا احتاج إلى نقود، وذهب إلى التاجر ليستدين منه وباع عليه أكياس سكر وغيرها نسيئة بثمن يزيد على ثمنها نقدا فيأخذ المحتاج السكر ويبيعه بالنقص عما اشتراه به من التاجر ليقضي حاجته، وتسأل هل هذا التعامل حرام أم حلال وهل يعتبر من الربا في شيء؟
والجواب : هذه المسألة تسمى مسألة التورق والمشهور من المذهب جوازها، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : إذا لم يكن للمشتري حاجة إلى السلعة، بل حاجته إلى الذهب والورق فيشتري السلعة ليبيعها بالعين التي احتاج إليها، فإن أعاد السلعة إلى البائع فهو الذي لا يشك في تحريمه، وإن باعها لغيره بيعا تاما ولم تعد إلى الأول بحال فقد اختلف السلف في كراهته ويسمونه: التورق، وكان عمر بن عبد العزيز يكرهه ويقول: (التورق أخية الربا)، وإياس بن معاوية يرخص فيه، وعن الإمام أحمد روايتان.
والمشهور: الجواز، وهو الصواب، قال في [مطالب أولي النهى]: ولو احتاج إنسان لنقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر كمائة وخمسين مثلا ليتوسع بثمنه- فلا بأس بذلك نص عليه، وهي مسألة التورق، وقال في [الاختيارات]: قال أبو طالب : قيل للإمام أحمد : إن ربح الرجل في العشرة خمسة يكره ذلك؟ قال: إذا كان أجله إلى سنة أو بقدر الربح فلا بأس، وقال جعفر بن محمد : سمعت أبا عبد الله- يعني: أحمد بن حنبل - يقول: بيع النسيئة إذا كان مقاربا فلا بأس به، وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل؛ لأنه يشبه بيع المضطر وهذا يعم بيع المرابحة والمساومة، والله أعلم.
مفتي البلاد السعودية
في 12\ 5\ 1386 هـ.
وسئل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن حكم البيع إلى أجل وبيع التورق والعينة والقرض بالفائدة؟
فأجاب وفقه الله:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، أما بعد:
فقد سئلت عن حكم بيع كيس السكر ونحوه بمبلغ مائة وخمسين ريالا إلى أجل وهو يساوي مبلغ مائة ريال نقدا؟
والجواب عن ذلك : أن هذه المعاملة لا بأس بها؛ لأن بيع النقد غير بيع التأجيل، ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة، وهو كالإجماع منهم على جوازها، وقد شذ بعض أهل العلم، فمنع الزيادة
لأجل الأجل، وظن ذلك من الربا، وهو قول لا وجه له، وليس من الربا في شيء؛ لأن التاجر حين باع السلعة إلى أجل إنما وافق على التأجيل أجل انتفاعه بالزيادة، والمشتري إنما رضي بالزيادة من أجل المهلة وعجزه عن تسليم الثمن نقدا، فكلاهما منتفع بهذه المعاملة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يجهز جيشا فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل، ثم هذه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } (1) الآية ، وهذه المعاملة من المداينات الجائزة الداخلة في الآية المذكورة، وهي من جنس معاملة بيع فإن البائع في السلم يبيع من ذمته حبوبا أو غيرها مما يصلح السلم فيه بثمن حاضر أقل من الثمن الذي يباع به المسلم فيه وقت السلم؛ لكون المسلم فيه مؤجلا والثمن معجلا فهو عكس المسألة المسئول عنها.
وهو جائز بالإجماع وهو مثل البيع إلى أجل في المعنى، والحاجة إليه ماسة؛ كالحاجة إلى المسلم، والزيادة في السلم مثل: الزيادة في البيع إلى أجل سببها فيهما تأخير تسليم المبلغ في مسألة السلم وتأخير تسليم الثمن في مسألة البيع إلى أجل، لكن إذا كان مقصود المشتري لكيس السكر ونحوه بيعه والانتفاع بثمنه وليس مقصوده الانتفاع بالسلعة نفسها، فهذه المعاملة تسمى: مسألة (التورق) ويسميها بعض العامة: (الوعدة).
وقد اختلف العلماء في جوازها على قولين :
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
أحدهما : أنها ممنوعة أو مكروهة؛ لأن المقصود منها شراء دراهم بدراهم وإنما السلعة المبيعة واسطة غير مقصودة.
والقول الثاني للعلماء : جواز هذه المعاملة لمسيس الحاجة إليها؛ لأنه ليس كل أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا، ولدخولها في عموم قوله سبحانه: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } (1) وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } (2) ولأن الأصل في الشرع حل جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه، ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة.
وأما تعليل من منعها أو كرهها لكون المقصود منها هو النقد فليس ذلك موجبا لتحريمها ولا لكراهتها؛ لأن مقصود التجار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل، والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك، وإنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة.
فإن ذلك يتخذ حيلة على الربا، وصورة ذلك: أن يشتري شخص سلعة من آخر بثمن في الذمة ثم يبيعها عليه بثمن أقل ينقده إياه فهذا ممنوع شرعا؛ لما فيه من الحيلة على الربا، وتسمى هذه المسألة: مسألة العينة، وقد ورد فيها من حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهما ما يدل على منعها.
أما مسألة التورق التي يسميها بعض الناس: (الوعدة) فهي معاملة أخرى ليست من جنس مسألة العينة؛ لأن المشتري فيها اشترى السلعة من
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 282
شخص إلى أجل وباعها من آخر نقدا من أجل حاجته للنقد وليس في ذلك حيلة على الربا؛ لأن المشتري غير البائع، ولكن كثيرا من الناس في هذه المعاملة لا يعملون بما يقتضيه الشرع في هذه المعاملة، فبعضهم يبيع ما لا يملك، ثم يشتري السلعة بعد ذلك ويسلمها للمشتري، وبعضهم إذا اشتراها يبيعها وهي في محل البائع قبل أن يقبضها القبض الشرعي، وكلا الأمرين غير جائز؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام : « لا تبع ما ليس عندك » (1) ، وقال عليه الصلاة والسلام: « لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك » (2) ، وقال صلى الله عليه وسلم: « من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه » (3) ، قال ابن عمر رضي الله عنهما: « كنا نشتري الطعام جزافا فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينهانا أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا » (4) ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أيضا: « أنه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم » (5) .
ومن هذه الأحاديث وما جاء في معناها يتضح لطالب الحق أنه لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة ليست في ملكه ثم يذهب فيشتريها، بل الواجب تأخير بيعها حتى يشتريها ويحوزها إلى ملكه، ويتضح أيضا أن ما يفعله كثير من الناس من بيع السلع وهي في محل البائع قبل نقلها إلى ملك المشتري أو إلى السوق- أمر لا يجوز؛ لما فيه من مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولما فيه من التلاعب بالمعاملات وعدم التقيد فيها بالشرع المطهر، وفي ذلك من الفساد والشرور والعواقب الوخيمة ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، نسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق للتمسك بشرعه والحذر مما يخالفه.
أما الزيادة التي تكون بها المعاملة من المعاملات الربوية فهي التي تبذل
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232),سنن النسائي البيوع (4613),سنن أبو داود البيوع (3503),سنن ابن ماجه التجارات (2188),مسند أحمد بن حنبل (3/402).
(2) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),مسند أحمد بن حنبل (2/179),سنن الدارمي البيوع (2560).
(3) صحيح مسلم البيوع (1526),مسند أحمد بن حنبل (2/111),سنن الدارمي البيوع (2559).
(4) صحيح مسلم البيوع (1526),سنن النسائي البيوع (4606),سنن ابن ماجه التجارات (2229),مسند أحمد بن حنبل (2/142),موطأ مالك البيوع (1337).
(5) سنن أبو داود البيوع (3499).
لدائن بعد حلول الأجل ليمهل المدين وينظره، فهذه الزيادة هي التي كان يفعلها أهل الجاهلية.
ويقولون للمدين قولهم المشهور: إما أن تقضي وإما أن تربي، فمنع الإسلام ذلك وأنزل الله فيه قوله سبحانه: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } (1) وأجمع العلماء على تحريم هذه الزيادة وعلى تحريم كل معاملة يتوسل بها إلى تحليل هذه الزيادة، مثل: أن يقول الدائن للمدين: اشتر مني سلعة من سكر أو غيره إلى أجل ثم بعها بالنقد وأوفني حقي الأول، فإن هذه المعاملة حيلة ظاهرة على استحلال الزيادة الربوية التي تعاطاها أهل الجاهلية لكن بطريق آخر غير طريقهم.
فالواجب تركها، والحذر منها وإنظار المدين المعسر حتى يسهل الله له القضاء، كما أن الواجب على المدين المعسر أن يتقي الله ويعمل الأسباب الممكنة المباحة لتحصيل ما يقضي به الدين ويبرئ به ذمته من حق ومن الدائنين.
وإذا تساهل في ذلك ولم يجتهد في أسباب قضاء ما عليه من الحقوق فهو ظالم لأهل الحق غير مؤد للأمانة فهو في حكم الغني المماطل، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « مطل الغني ظلم » (2) ، وقال عليه والسلام: « لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته » (3) ، والله المستعان.
ومن المعاملات الربوية أيضا ما يفعله بعض البنوك وبعض التجار من الزيادة في القرض إما مطلقا وإما في كل سنة شيئا معلوما .
فالأول : مثل أن يقرضه ألفا على أن يرد إليه ألفا ومائة أو يسكنه داره أو دكانه أو يعيره سيارته أو دابته مدة معلومة أو ما أشبه ذلك من الزيادات.
__________
(1) سورة البقرة الآية 280
(2) صحيح البخاري الحوالات (2166),صحيح مسلم المساقاة (1564),سنن الترمذي البيوع (1308),سنن النسائي البيوع (4691),سنن أبو داود البيوع (3345),سنن ابن ماجه الأحكام (2403),مسند أحمد بن حنبل (2/380),موطأ مالك البيوع (1379),سنن الدارمي البيوع (2586).
(3) سنن النسائي البيوع (4689),سنن أبو داود الأقضية (3628),سنن ابن ماجه الأحكام (2427),مسند أحمد بن حنبل (4/388).
وأما الثاني : فهو أن يجعل له كل سنة أوكل شهر ربحا معلوما في مقابل استعماله المال الذي دفعه إليه المقرض سواء دفعه باسم القرض أم باسم الأمانة، فإنه متى قبضه باسم الأمانة للتصرف فيه كان قرضا مضمونا، ولا يجوز أن يدفع إلى صاحبه شيئا من الربح إلا أن يتفق هو والبنك أو التاجر على استعمال ذلك المال على وجه المضاربة بجزء مشاع معلوم من الربح لأحدهما والباقي للآخر، وهذا العقد يسمى أيضا: القراض، وهو جائز بالإجماع؛ لأنهما قد اشتركا في الربح والخسران، والمال الأساسي في هذا العقد في حكم الأمانة في يد العامل إذا تلف من غير تعد ولا تفريط لم يضمنه، وليس له عن عمله إلا الجزء المشاع المعلوم من الربح المتفق عليه في العقد.
وبهذا تتضح المعاملة الشرعية والمعاملة الربوية.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
مجمل ما ذكر من النقول في العينة والتورق
1 - تطلق العينة ويراد بها بيع إنسان من آخر سلعة لأجل بمائة ريال مثلا، ثم شراؤه إياها منه نقدا بأقل من ذلك، وهي بهذا المعنى من أبرز أنواع البيوع في التحايل على الربا وأظهرها في استغلال حاجة المضطرين.وسميت عينة؛ لأن المقصد منها الحصول على العين، وهو النقد، دون قصد حقيقة البيع وتملك السلعة، وقيل: هي فعلة من العون؛ لأن البائع يستعين بالمشتري على تحصيل مقاصده، وقيل: من العناء، وهو تجشم المشقة.
2 - قال بتحريم العينة بهذا المعنى جمهور العلماء لأدلة:
أ- منها: أنها ذريعة قريبة إلى الربا، فكانت حراما، وقد أوضح هذا ابن القيم بوجوه نقلت في الأعداد.
ب- ومنها: ما رواه الإمام أحمد في [المسند] من طريق عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعين... » (1) الحديث، ورواه أبو داود في سننه من طريق عطاء الخراساني أن نافعا حدثه عن ابن عمر رضي الله عنهما فذكره .
ج- ومنها: ما ذكرته عائشة رضي الله عنها في قصة زيد بن أرقم وأم ولده، ورجوع أم ولده عن أخذ الزيادة من زيد، ولم ينقل أن زيدا رد على عائشة قولها رضي الله عنهم، ومثل هذا الإنكار من عائشة لا يكون إلا عن توقيف.
د- ومنها: قول أنس رضي الله عنه حينما سئل عن العينة: (إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله)، وقول ابن عباس لما سئل عن حريرة بيعت بدراهم، ثم اشتراها من باعها بأقل: (دراهم بدراهم بينهما حريرة، هذا مما حرم الله ورسوله)، ومثل هذا القول من أنس وابن عباس رضي الله عنهم له حكم المرفوع.
هـ- ومنها: ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا » (2) ، فإنه ينطبق على العينة بالمعنى المتقدم، كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمة الله عليهما.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462),مسند أحمد بن حنبل (2/28).
(2) سنن أبو داود البيوع (3461).
وقال الشافعي : يجوز بيع العينة بالمعنى المتقدم، ولم يثبت الأحاديث الواردة في النهي عنها، وتأول حديث عائشة رضي الله عنها بحمله على البيع إلى العطاء وهو أجل مجهول، وقال: إن هذه السلعة كسائر مالي، فلم لا أبيع ملكي بما شئت وشاء المشتري؟ وقال: إن قول عائشة عارضه عمل زيد .
ورد طعنه في حديث عائشة رضي الله عنها بأن العالية بنت سبيع معروفة برواية ابنها يونس وزوجها أبي إسحاق عنها وتوثيق العجلي لها، ورد تأويله حديثها بأنها ترى جواز البيع إلى العطاء، وردت معارضته قولها بعمل زيد رضي الله عنهما بأنه لم يعرف عنه إنكار قولها أو الإصرار على بقائه على العمل بالعينة، ورد قياسه بأنه قياس مع الفارق، ومنقوض بمعارضته لقاعدة سد الذرائع، ولأحاديث النهي عن العينة.
3 - وتطلق العينة أيضا على ما إذا تواطأ المترابيان على الربا ثم عمدا إلى رجل عنده متاع فيشتريه منه المحتاج، ثم يبيعه للمربي بثمن حال ويقبضه منه، ثم يبيعه إياه المربي بثمن أكثر مؤجل وهو ما اتفقا عليه ثم يعيد المتاع إلى ربه ويعطيه شيئا وهذه تسمى الثلاثية؛ لأنها بين ثلاثة، وذكر ابن القيم رحمه الله: أن هذه الصورة أقبح صور العينة وأشدها تحريما وأنها في البيع شبيهة بصورة المحلل في النكاح.
4 - قال ابن القيم رحمه الله فيما إذا باع إنسان سلعة بنقد ثم اشتراها ممن باعها له أولا بأكثر منه إلى أجل: إن هذه الصورة شبيهة بالعينة في المقصد؛ لأنه قد ترتب في ذمة كل منهما دراهم مؤجلة بأقل منها نقدا لكن في إحدى الصورتين البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى المشتري هو الذي اشتغلت ذمته فلا فرق بينهما في الحكم،
وذكر أن الإمام أحمد رحمه الله نص في رواية حرب أن هذه الصورة لا تجوز، وذكر عن بعض الأصحاب احتمال جواز الصورة الثانية، ونقل عنهم الفرق بين الصورتين ثم رده، وقال: ليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تتقيد به نصوص مطلقة على تحريم العينة.
5 - ذكر ابن القيم أن من صور العينة ما إذا اضطر الإنسان إلى مال فاشترى سلعة؛ ليبيعها حتى يحصل على المال الذي يسد به حاجته، وقال: قد نص أحمد في رواية أبي داود على أنها من العينة، وأطلق عليها اسمها، وذكر أيضا أن هذه الصورة تسمى التورق؛ لأن المقصود منها الورق لسد حاجته، وسبقه إلى ذلك ابن تيمية وتبعهما فيه الشيخ عبد الله بن محمد ابن عبد الوهاب، ورجحوا تحريمها، سواء سميت تورقا أم عينة.
6 - من صور العينة عند بعضهم أن يكون عند الرجل أمتعة لا يبيعها إلا نسيئة قصدا للزيادة في الربح، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على كراهة ذلك، أما إذا كان يبيع بنقد ونسيئة فلا بأس.
7 - أطلق التورق على ما ذكر في الفقرة الخامسة، ومقتضى تعليل تسميته تورقا: بأنه بيع يقصد منه الورق لا تملك السلعة ولا الحاجة إلى استهلاكها، أنه يطلق على كل صور العينة.
8 - الغالب في العينة والتورق أن يكون عقدهما بين موسر ومحتاج أو مضطر، وقد ورد النهي عن استغلال المضطر في البيع، وقد يكون عقدهما أحيانا بين موسرين حرصا من المغبون فيهما على زيادة رأس ماله؛ ليتسع نطاق تصرفه في التجارة ونحوها مثلا.
2 - بيع دين السلم :
آراء الفقهاء في حكم بيع دين السلم مع التوجيه والمناقشة:
أ- قال صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع] رحمه الله (1) :
(فصل) وأما بيان ما يجوز من التصرف في المسلم فيه وما لا يجوز، فنقول وبالله التوفيق: لا يجوز استبدال المسلم فيه قبل قبضه، بأن يأخذ رب السلم مكانه من غير جنسه؛ لما ذكرنا أن المسلم فيه وإن كان دينا فهو مبيع، ولا يجوز بيع المبيع المنقول قبل القبض، ويجوز الإبراء عنه؛ لأن قبضه ليس بمستحق على رب السلم، وكان هو بالإبراء متصرفا في خالص حقه بالإسقاط فله ذلك بخلاف الإبراء عن رأس المال؛ لأنه مستحق القبض حقا للشرع فلا يملك إسقاطه بنفسه بالإبراء على ما ذكرنا .
__________
(1) [بدائع الصنائع] (7\3178).
ب- قال ابن رشد رحمه الله في [بداية المجتهد ونهاية المقتصد] (1) :
مسألة اختلاف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه، فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا، وهم القائلون: بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق، وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ومن أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره » (2) .
__________
(1) [بدائع المجتهد] (2\155).
(2) سنن أبو داود البيوع (3468),سنن ابن ماجه التجارات (2283).
وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين:
أحدهما: إذا كان المسلم فيه طعاما، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترط في بيعه القبض هو: الطعام، على ما جاء عليه النص في الحديث.
والثاني: إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله قبل أن يكون المسلم فيه عرضا، والثمن عرضا مخالفا له، فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك العرض الذي هو الثمن، وذلك أن هذا يدخله إما سلف أو زيادة إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم، وإما ضمان وسلف إن كان مثله أو أقل، وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر، لا من جنسه ولا من غير جنسه، فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز؛ لأنه يحمله على العوض وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من الطعام المسلم فيه طعاما من صفته، وإن كان أقل جودة؛ لأنه عنده من باب البدل في الدنانير والإحسان: مثل: أن يكون له عليه قمح فيأخذ بمكيلته شعيرا، وهذا كله من شرطه عند مالك أن لا يتأخر القبض؛ لأنه يدخله الدين بالدين، وإن كان رأس مال السلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه جاز ما لم يكن أكثر منه، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة إذا كان مثله أو أقل، وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم.
وأما بيع السلم من غير المسلم إليه، فيجوز بكل شيء يجوز به التبايع ما لم يكن طعاما؛ لأنه يدخله ببيع الطعام قبل قبضه، وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا
يدخلها زيادة ولا نقصان فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع ودخلها ما يدخل البيوع، أعني: أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال، مثل: أن يتذرع إلى بيع وسلف، أو إلى وضع وتعجل، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه، مثال ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الأجل، فأقاله على إن أخذ البعض وأقال من البعض، فإنه لا يجوز عنده، فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف، وذلك جائز عند الشافعي وأبي حنيفة؛ لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع.
ج- قال صاحب [المجموع شرح المهذب] (1) قال المصنف رحمه الله:
(فصل ) يجوز فسخ عقد السلم بالإقالة، لأن الحق لهما فجاز لهما الرضا بإسقاطه، فإذا فسخا أو انفسخ بانقطاع الثمرة في أحد القولين أو بالفسخ في القول الآخر رجع المسلم إلى رأس المال، فإن كان باقيا وجب رده، وإن كان تالفا ثبت بدله في ذمة المسلم إليه، فإن أراد أن يسلمه في شيء آخر لم يجز؛ لأنه بيع دين بدين، وإن أراد أن يشتري به عينا نظرت، فإن كان تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير لم يجز أن يتفرقا قبل القبض، كما لو أراد أن يبيع أحدهما بالآخر عينا بعين، وإن لم تجمعهما علة واحدة في الربا؛ كالدراهم بالحنطة والثوب بالثوب ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز أن يتفرقا من غير قبض، كما يجوز إذا باع أحدهما
__________
(1) [المجموع] (12\119- 161).
بالآخر عينا بعين أن يتفرقا من غير قبض.
والثاني: لا يجوز؛ لأن المبيع في الذمة فلا يجوز أن يتفرقا قبل قبض عوضه كالمسلم فيه، والله تعالى أعلم.
الشرح: الأحكام: الإقالة فسخ وليست ببيع على المشهور من المذهب، سواء كان قبل القبض أو بعده، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، لأنه يقول: هي بيع في حق غير المتعاقدين، فثبتت بها الشفعة، قال أبو يوسف رحمه الله: إن كان قبل القبض فهي فسخ، وإن كان بعد القبض فهي بيع، وقال مالك رحمه الله: هي بيع بكل حال.
وحكى القاضي أبو الطيب : أنه قول قديم للشافعي رحمه الله، وأما أبو حامد فحكاه وجها لبعض أصحابنا.
دليلنا: أن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان فسخا كالرد بالعيب، إذا ثبت هذا فإن سلم رجل إلى غيره شيئا في شيء ثم تقابلا في عقد السلم صح، وقد وافقنا مالك رحمه الله على ذلك، وهذا من أوضح دليل على أن الإقالة فسخ، لأنها لو كانت بيعا لما صح في المسلم فيه قبل القبض، كما لا يصح بيعه، وإن أقاله في بعض المسلم فيه صح في القدر الذي أقاله، وقال ابن أبي ليلى : يكون إقالة في الجميع، وقال ربيعة و مالك : لا يصح، دليلنا: أن الإقالة مندوب إليها، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: « من أقال نادما في بيع أقاله الله نفسه يوم القيامة » (1) ، وما جاز في جميع المبيع جاز في بعضه كالإبراء والإنظار، وإن أقاله بأكثر من الثمن أو أقل منه إلى جنس آخر لم تصح الإقالة، وقال أبو حنيفة : تصح الإقالة، ويجب رد الثمن المسمى في العقد.
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2199).
دليلنا: أن المسلم والمشتري لم يسقط حقه من المبيع إلا بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الإقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الإقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط أن يبيعه سيارته بألف.
(فرع) وإن ضمن ضامن عن المسلم إليه المسلم فيه ثم إن الضامن صالح المسلم عما في ذمة المسلم إليه بمثل رأس مال المسلم- لم يصح الصلح؛ لأن الضامن لا يملك المسلم فيه فيعوض عنه، فأما إذا أكد المسلم إليه بمثل رأس مال السلم، قال أبو العباس : صح الصلح وكان إقالة؛ لأن الإقالة هي أن يشتري ما دفع ويعطي ما أخذ، وهذا مثله.
(فرع) وإذا انفسخ عقد السلم بالفسخ أو الانفساخ سقط المسلم فيه عن ذمة المسلم إليه، ورجع المسلم إلى رأس مال السلم، فإن كان باقيا أخذه، وإن كان تالفا رجع إلى مثله إن كان له مثل، وإن كان لا مثل له رجع إلى قيمته، وإن أراد أن يسلم في شيء آخر لم يجز؛ لأنه بيع دين بدين، وإن أراد أن يأخذ ما هو من جنسه جاز أن يأخذ مثله، ولم يجز أن يأخذ أكثر منه ولا أقل منه، ولا يصح أن يتفرقا قبل قبضه، وإن أراد أن يأخذ عنه من غير جنسه إلا أنه لا يصح أن يتفرقا قبل قبضه كما قلنا في البيع، وإن أراد أن يأخذ منه عوضا ليس من أموال الربا؛ كالثياب والدواب، أو كان رأس المال من غير أموال الربا صح ذلك أيضا.
وهل يشترط فيه القبض قبل التفرق؟
فيه وجهان:
أحدهما: أنه يشترط ذلك، فلا يفترقان والعوض المعوض في ضمان واحد.
والثاني: لا يشترط ذلك، كما لو اشترى أحدهما بالآخر، وإن اختلفا في قدر رأس مال السلم فالقول قول المسلم إليه مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به، وإن اختلفا في قدر المسلم فيه أو الأجل أو في قدره تحالفا، وإن اتفقا على الأجل واختلفا في انقضائه وادعى المسلم انقضاء الأجل وادعى المسلم إليه بقاءه- فالقول قول المسلم إليه مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤه، والله أعلم.
د- قال صاحب [المغني] رحمه الله (1) :
مسألة- قال: ( وبيع المسلم فيه من بائعه أو من غيره قبل قبضه فاسد، وكذلك الشركة فيه والتولية والحوالة به طعاما كان أو غيره ) أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن؛ ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه.
وأما الشركة فيه والتولية فلا تجوز أيضا؛ لأنهما بيع على ما ذكرنا من قبل، وبهذا قال أكثر أهل العلم، وحكي عن مالك جواز الشركة والتولية؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وأرخص في الشركة والتولية » .
ولنا: أنها معاوضة في المسلم فيه قبل القبض، فلم تجز كما لو كانت
__________
(1) [المغني] (4\301- 303).
بلفظ البيع، ولأنهما نوعا بيع فلم يجوزا في المسلم قبل قبضه كالنوع الآخر، والخبر لا نعرفه، وهو حجة لنا، لأنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه والشركة والتولية بيع، فيدخلان في النهي، ويحمل قوله: ( « وأرخص في الشركة والتولية) » على أنه أرخص فيهما في الجملة لا في هذا الموضع.
وأما الإقالة: فإنها فسخ وليست بيعا.
وأما الحوالة به فغير جائزة؛ لأن الحوالة إنما تجوز على دين مستقر والسلم بعرض الفسخ فليس بمستقر، ولأنه نقل للملك في المسلم فيه على غير وجه الفسخ فلم يجز كالبيع، ومعنى الحوالة به أن يكون لرجل طعام من سلم وعليه مثله من قرض أو سلم آخر أو بيع فيحيل بما عليه من الطعام على الذي له عنده السلم فلا يجوز، وإن أحال المسلم إليه المسلم بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا؛ لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه فلم يجز كالبيع.
وأما بيع المسلم فيه من بائعه فهو أن يأخذ غير ما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه، فهذا حرام سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما سواء كان العرض مثل المسلم فيه في القيمة أو أقل أو أكثر، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل، فرضي المسلم بأخذ الشعير مكان البر- جاز، ولم يجز أكثر من ذلك، وهذا يحمل على الرواية التي فيها أن البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه.
وقال مالك : يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه يتعجله ولا يؤخره، إلا الطعام.
قال ابن المنذر : وقد ثبت أن ابن عباس قال: (إذا أسلم في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه ولا تربح مرتين) رواه سعيد في سننه .
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: « من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره » (1) رواه أبو داود وابن ماجه، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع، فلم يجز كبيعه من غيره، فأما إن أعطاه من جنس ما أسلم فيه خيرا منه أو دونه في الصفات- جاز، لأن ذلك ليس ببيع، إنما هو قضاء للحق مع تفضل من أحدهما.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3468),سنن ابن ماجه التجارات (2283).
قال ابن القيم رحمه الله في [تهذيب السنن] على حديث « من أسلف في شيء فلا يصرفه في غيره » (1) (2) : اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث وهو جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه وللمسألة صورتان:
إحداهما: أن يعاوض عن المسلم فيه مع بقاء عقد السلم، فيكون قد باع دين السلم قبل قبضه.
والصورة الثانية: أن ينفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فهل يجوز أن يصرف الثمن في عوض آخر غير المسلم فيه؟
فأما المسألة الأولى: فمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد - في المشهور عنه- أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه لا لمن هو في ذمته ولا لغيره.
وحكى بعض أصحابنا ذلك إجماعا، وليس بإجماع فمذهب مالك جوازه، وقد نص عليه أحمد في غير موضع، وجوز أن يأخذ عوضه عرضا بقدر قيمة دين السلم وقت الاعتياض ولا يربح فيه.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3468),سنن ابن ماجه التجارات (2283).
(2) (3\111- 118).
وطائفة من أصحابنا خصت هذه الرواية بالحنطة والشعير فقط، كما قال في المستوعب: ومن أسلم في شيء لم يجز أن يأخذ من غير جنسه بحال في إحدى الروايتين، والأخرى: يجوز أن يأخذ ما دون الحنطة من الحبوب؛ كالشعير ونحوه بمقدار كيل الحنطة لا أكثر منها ولا بقيمتها، نص عليه في رواية أبي طالب : إذا أسلفت في كر حنطة فأخذت شعيرا فلا بأس وهو دون حقك، ولا يأخذ مكان الشعير حنطة .
وطائفة ثالثة من أصحابنا: جعلت المسألة رواية واحدة، وأن هذا النص بناء على قوله في الحنطة والشعير أنهما جنس واحدة، وهي طريقة صاحب المغني.
وطائفة رابعة من أصحابنا: حكوا رواية مطلقة في المكيل والموزون وغيره، ونصوص أحمد تدل على صحة هذه الطريقة، وهي طريقة أبي حفص الطبري وغيره.
قال القاضي: نقلت من خط أبي حفص في مجموعه: فإن كان ما أسلم فيما يكال أو يوزن فأخذ من غير نوعه مثل كيله مما هو دونه في الجودة- جاز، وكذلك إن أخذ بثمنه مما لا يكال ولا يوزن كيف شاء.
ونقل أبو القاسم عن أحمد، قلت لأبي عبد الله : إذا لم يجد ما أسلم فيه ووجد غيره من جنسه أيأخذه؟ قال: نعم، إذا كان دون الشيء الذي له، كما لو أسلم في قفيز حنطة موصلي فقال: آخذ مكانه شلبيا. أو قفيز شعير فكيلته واحدة لا يزداد، وإن كان فوقه فلا يأخذ، وذكر حديث ابن عباس الذي رواه طاوس عنه (إذا أسلمت في شيء فجاء الأجل فلم تجد الذي أسلمت فيه فخذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين).
ونقل أحمد بن أصرم : سئل أحمد عن رجل أسلم في طعام إلى أجل، فإذا حل الأجل يشتري منه عقارا أو دارا؟ فقال: نعم، يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن.
وقال حرب : سألت أحمد فقلت: رجل أسلم إلى رجل دراهم في بر فلما حل الأجل لم يكن عنده بر؟ فقال: قوم الشعير بالدراهم فخذ من الشعير فقال: لا يأخذ منه الشعير إلا مثل كيل البر أو أنقص، قلت: إذا كان البر عشرة أجربة يأخذ الشعير عشرة أجربة؟ قال: نعم.
إذا عرف هذا فاحتج المانعون بوجوه:
أحدها: الحديث.
والثاني: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه.
والثالث: نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن وهذا غير مضمون عليه؛ لأنه في ذمة المسلم إليه.
والرابع: أن هذا المبيع مضمون له على المسلم إليه، فلو جوزنا بيعه صار مضمونا عليه للمشتري فيتولى في المبيع ضمانان.
الخامس: أن هذا إجماع كما تقدم.
هذا جملة ما احتجوا به.
قال المجوزون بالصواب: جواز هذا العقد والكلام معكم في مقامين: أحدهما: في الاستدلال على جوازه.
والثاني: في الجواب عما استدللتم به على المنع.
فأما الأول: فنقول: قال ابن المنذر : ثبت عن ابن عباس أنه قال: (إذا أسلفت في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت وإلا فخذ عوضا أنقص منه
ولا تربح مرتين) رواه شعبة .
فهذا قول صحابي، وهو حجة، ما لم يخالف.
قالوا: وأيضا فلو امتنعت المعاوضة عليه لكان ذلك لأجل كونه مبيعا لم يتصل به القبض وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال: « أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم واخذ الدنانير؟ فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء » (1) ، فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه.
فما الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين السلم بغيره؟
قالوا: وقد نص أحمد على جواز بيع الدين لمن هو في ذمته ولغيره وإن كان أكثر أصحابنا لا يحكون عنه جوازه لغير من هو في ذمته، فقد نص عليه في مواضع حكاه شيخنا أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله- عنه.
والذين منعوا جواز بيعه لمن هو في ذمته قاسوه على السلم، وقالوا: لأنه دين، فلا يجوز بيعه كدين السلم، وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت في حديث ابن عمر جوازه.
والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه فقد ذكرنا عن ابن عباس جوازه، و مالك يجوز بيعه من غير المستلف.
والذين فرقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر والقياس التسوية بينهما.
وأما المقام الثاني: فقالوا: أما الحديث: فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: ضعفه كما تقدم.
والثاني: أن المراد به أن لا يصرف المسلم فيه إلى سلم آخر أو يبيعه
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1242),سنن النسائي البيوع (4582),سنن أبو داود البيوع (3354),سنن ابن ماجه التجارات (2262),مسند أحمد بن حنبل (2/83),سنن الدارمي البيوع (2581).
بمعين مؤجل؛ لأنه حينئذ يصير بيع دين بدين، وهو منهي عنه، وأما بيعه بعوض حاضر من غير ربح فلا محذور فيه، كما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر .
فالذي نهي عنه من ذلك: هو من جنس ما نهي عنه من بيع الكالئ بالكالئ، والذي يجوز منه هو من جنس ما أذن فيه من بيع النقد لمن هو في ذمته بغيره من غير ربح.
وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه: فهذا إنما هو في المعين أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه لا حدوث ملك له، فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة. فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عوضا أو غيره أسقط ما في ذمته، فكان كالمستوفى دينه؛ لأن بدله يقوم مقامه، ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال.
والبيع المعروف: هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهذا لم يملك شيئا، بل سقط الدين من ذمته؛ ولهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بمثلها فإنه بيع.
ففي الأعيان إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين غير جنسها يسمى بيعا، وفي الدين إذا وفاها بجنسها لم يكن بيعا، فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعا، بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة ولو حلف ليقضينه حقه غدا فأعطاه عنه عوضا بر في أصح الوجهين.
وجواب آخر: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أريد به بيعه من غير
بائعه، وأما بيعه من البائع ففيه قولان معروفان.
وذلك لأن العلة في المنع إن كانت توالي الضمانين اطرد المنع في البائع وغيره، وإن كانت عدم تمام الاستيلاء، وأن البائع لم تنقطع علقه عن المبيع، بحيث ينقطع طمعه في الفسخ ولا يتمكن من الامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه- لم يطرد النهي في بيعه من بائعه قبل قبضه لانتفاء هذه العلة في حقه، وهذه العلة أظهر، وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة، ولا تتنافى بين كون العين الواحدة مضمونة له من وجه وعليه من وجه آخر، فهي مضمونة له وعليه باعتبارين، وأي محذور في هذا كمنافع الإجارة؟ فإن المستأجر له أن يؤجر ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه وكالثمار بعد بدو صلاحها، له أن يبيعها على الشجر وإن أصابتها جائحة رجع على البائع فهي مضمونة له وعليه، ونظائره كثيرة.
وأيضا: فبيعه من بائعه شبيه بالإقالة وهي جائزة قبل القبض على الصحة، وأيضا فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع، وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين.
فعلم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان، فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز كما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقا بخلاف الإقالة في الأعيان.
ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه، واحتج عليه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، وقال: أحسب كل شيء بمنزلة الطعام، ومع هذا فقد ثبت عنه: أنه جوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون
وغيرهما؛ لأن البيع هنا من البائع للبائع الذي هو في ذمته، فهو يقبضه من نفسه لنفسه، بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط عنه ما في ذمته، فتبرأ ذمته وبراءة الذمم مطلوبة في نظر الشرع؛ لما في شغلها من المفسدة، فكيف يصح قياس هذا على بيع شيء غير مقبوض لأجنبي لم يتحصل بعد ولم تنقطع علق بائعه عنه؟
وأيضا: فإنه لو سلم المسلم فيه ثم أعاده إليه جاز، فأي فائدة في أخذه منه ثم إعادته إليه؟ وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقة لم تحصل بها فائدة؟ ومن هنا يعرف فضل علم الصحابة وفقههم على كل من بعدهم.
قالوا: وأما استدلالكم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن: فنحن نقول بموجبه، وأنه لا يربح فيه، كما قال ابن عباس : خذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين.
فنحن إنما نجوز له أن يعاوض عنه بسعر يومه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر في بيع النقود في الذمة: « لا بأس إذا أخذتم بسعر يومها » (1) ، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوز الاعتياض عن الثمن بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وقد نص أحمد على هذا الأصل في بدل العوض وغيره من الديون: أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وكذلك قال مالك : يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه، كما قال ابن عباس، لكن مالك يستثني الطعام خاصة؛ لأن من أصله: أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز، بخلاف غيره.
وأما أحمد : فإنه فرق بين أن يعتاض عنه بعوض أو حيوان أو نحوه دون
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4582),سنن أبو داود البيوع (3354),مسند أحمد بن حنبل (2/139),سنن الدارمي البيوع (2581).
أن يعتاض بمكيل أو موزون، فإن كان بعوض ونحوه جوزه بسعر يومه، كما قال ابن عباس و مالك ، وإن اعتاض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون فإنه منعه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض إذا كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين، ولكن جوزه إذا أخذ بقدره مما هو دونه كالشعير عن الحنطة نظرا منه إلى أن هذا استيفاء لا معاوضة كما لا يستوفى الجيد عن الرديء، ففي العوض جوز المعاوضة إذ لا يشترط هناك تقابض، وفي المكيل والموزون منع المعاوضة لأجل التقابض وجوز أخذ قدر حقه أو دونه؛ لأنه استيفاء، وهذا من دقيق فقهه رضي الله عنه.
قالوا: وأما قولكم: إن هذا الدين مضمون له، فلو جوزنا بيعه لزم توالي الضمانين فهو دليل باطل من وجهين:
أحدهما: أنه لا توالي ضمانين هنا أصلا، فإن الدين كان مضمونا له في ذمة المسلم إليه، فإذا باعه إياه لم يصر مضمونا عليه بحال، لأنه مقبوض في ذمة المسلم إليه، فمن أي وجه يكون مضمونا على البائع، بل لو باعه لغيره لكان مضمونا له على المسلم إليه ومضمونا عليه للمشتري، وحينئذ يتوالى ضمانان.
الجواب الثاني: أنه لا محذور في توالي الضمانين، وليس بوصف مستلزم لمفسدة يحرم العقد لأجلها، وأين الشاهد من أصول الشرع لتأثير هذا الوصف وأي حكم علق الشارع فساده على توالي الضمانين؟ وما كان من الأوصاف هكذا فهو طردي لا تأثير له.
وقد قدمنا ذكر الضرر التي فيها توالي الضمانين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز المعاوضة عن ثمن المبيع في الذمة ولا فرق بينه وبين دين السلم.
قالوا: وأيضا فالمبيع إذا أتلف قبل التمكن من قبضه كان على البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري فإذا كان هذا المشتري قد باعه فعليه أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني، فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان الآخر، فلا محذور في ذلك.
وشاهده: المنافع في الإجارة والثمرة قبل القطع ، فإنه قد ثبت في السنة الصحيحة التي لا معارض لها: وضع الثمن عن المشتري إذا أصابتها جائحة، ومع هذا يجوز التصرف فيها، ولو تلفت لصارت مضمونة عليه بالثمن الذي أخذه، كما هي مضمونة له بالثمن الذي دفعه.
قالوا: وأما قولكم: إن المنع منه إجماع فكيف يصح دعوى الإجماع مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس وعالم المدينة مالك بن أنس ؟
فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة كما تقدم، والواجب عند التنازع: الرد إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فصل) وأما المسألة الثانية: وهي إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها فهل يجوز أن يأخذ عن دين السلم عوضا من غير جنسه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز ذلك حتى يقبضه ثم يصرفه فيما شاء، وهذا اختيار الشريف أبي جعفر وهو مذهب أبي حنيفة .
والثاني: يجوز أخذ العوض عنه، وهو اختيار القاضي أبي يعلى وشيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب الشافعي، وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون من القرض وغيره.
وأيضا: فهذا مال رجع إليه بفسخ العقد فجاز أخذ العوض عنه كالثمن
في المبيع.
وأيضا: فحديث ابن عمر في المعاوضة عما في الذمة صريح في الجواز.
واحتج المانعون بقوله صلى الله عليه وسلم: « من أسلم في شيء فلا يصرف إلى غيره » (1) .
قالوا: ولأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم تجز المعاوضة عليه قبل قبضه وحيازته كالمسلم فيه.
قال المجوزون: أما استدلالكم بالحديث: فقد تقدم ضعفه، ولو صح لم يتناول محل النزاع؛ لأنه لم يصرف المسلم فيه في غيره، وإنما عاوض عن دين السلم بغيره فأين المسلم فيه من رأس مال السلم؟
وأما قياسكم المنع على نفس المسلم فيه: فالكلام فيه أيضا، وقد تقدم: أنه لا نص يقتضي المنع منه ولا إجماع ولا قياس.
ثم لو قدر تسليمه لكان الفرق بين المسلم فيه ورأس مال السلم واضحا، فإن المسلم فيه مضمون بنفس العقد، والثمن إنما يضمن بعد فسخ العقد فكيف يلحق أحدهما بالآخر؟ فثبت أنه لا نص في المنع ولا إجماع ولا قياس.
فإذا عرف هذا ف حكم رأس المال بعد الفسخ حكم سائر الديون لا يجوز أن تجعل سلما في شيء آخر لوجهين:
أحدهما: أنه بيع دين بدين.
والثاني: أنه من ضمان المسلم إليه فإذا جعله سلما في شيء آخر ربح في وذلك ربح ما لم يضمن، ويجوز فيه ما يجوز في دين القرض وأثمان المبيعات إذا قسمت فإذا أخذ فيه أحد النقدين عن الآخر وجب قبض
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3468),سنن ابن ماجه التجارات (2283).
العوض في المجلس؛ لأنه صرف بسعر يومه، لأنه غير مضمون عليه، وإن عاوض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون من غير جنسه كقطن بحرير أو كتان وجب قبض عوضه في مجلس التعويض وإن بيع بغير مكيل أو موزون؛ كالعقار والحيوان فهل يشترط القبض في مجلس التعويض؟
فيه وجهان:
أصحهما: لا يشترط، وهو منصوص أحمد .
والثاني: يشترط.
ومأخذ القولين: أن تأخير قبض العوض يشبه بيع الدين بالدين فيمنع منه، ومأخذ الجواز- وهو الصحيح- أن النسائين ما لا يجمعهما علة الربا كالحيوان بالموزون جائز للاتفاق على جواز سلم النقدين في ذلك، والله أعلم.
ونظير هذه المسألة: إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلا بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلا آخر من غير الجنس مما يمتنع ربا النساء بينهما فهل يجوز ذلك؟
فيه قولان:
أحدهما: المنع، وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس، وهو مذهب مالك وإسحاق .
والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وابن المنذر، وبه قال جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب [المغني] وشيخنا.
والأول: اختيار عامة الأصحاب.
والصحيح: الجواز؛ لما تقدم.
قال عبد الله بن زيد : قدمت على علي بن حسين، فقلت له: إني أجذ نخلي وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل، فيقدمون بالحنطة وقد حل الأجل فيوقفونها بالسوق، فأبتاع منهم وأقاصهم؟ قال: لا بأس بذلك، إذا لم يكن منك على رأي، يعني: إذا لم يكن حيلة مقصودة.
فهذا شراء للطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول فصح؛ لأنه لا يتضمن ربا بنسيئة ولا تفاضل.
والذين يمنعون ذلك يجوزون أن يشتري منه الطعام بدراهم ويسلمها إليه ثم يأخذها منه وفاء أو نسيئة منه بدراهم في ذمته ثم يقاصه بها، ومعلوم أن شراءه الطعام منه بالدراهم التي له في ذمته أيسر من هذا وأقل كلفة، والله أعلم.
قال محمد بن إسماعيل الصنعاني في [سبل السلام]:
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم « نهى عن بيع الكالئ بالكالئ » يعني: الدين بالدين، رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف، ورواه الحاكم والدارقطني من دون تفسير، لكن في إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، قال أحمد : لا تحل الرواية عندي عنه، ولا أعرف هذا الحديث لغيره، وصحفه الحاكم فقال: موسى بن عتبة، فصححه على شرط مسلم، وتعجب البيهقي من تصحيفه على الحاكم، قال أحمد : ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس أنه لا يجوز بيع دين بدين، وظاهر الحديث أن تفسيره بذلك مرفوع، والكالئ من كلاء الدين كلوا فهو كالئ إذا تأخر، وكلأته إذا أنسأته، وقد لا يهمز تخفيفا، قال في النهاية: هو أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به فيقول:
بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض والحديث دل على تحريم ذلك وإذا وقع كان باطلا.
3 - بيعتان في بيعة :
آراء الفقهاء في حكم البيعتين في بيعة مع التوجيه والمناقشة:
قال النووي رحمه الله في [المجموع شرح المهذب] (1) :
قال المصنف رحمه الله:
فإن قال: بعتك بألف مثقال ذهبا وفضة، فالبيع باطل؛ لأنه لم يبين القدر من كل واحد منهما فكان باطلا، وإن قال: بعتك بألف نقدا أو بألفين نسيئة: فالبيع باطل، لأنه لم يعقد على ثمن بعينه، فهو كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين.
(الشرح) هاتان المسألتان كما قالهما باتفاق الأصحاب، وهما داخلتان في النهي عن بيع الغرر، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة » (2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأنس، وفسر الشافعي وغيره من العلماء البيعتين في بيعة تفسيرين:
أحدهما: أن يقول: بعتك هذا بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة.
والثاني: أن يقول: بعتك بمائة مثلا على أن تبيعني دارك بكذا وكذا.
وقد ذكر المصنف التفسيرين في الفصل الذي بعد هذا، وذكرهما أيضا في التنبيه وذكرهما الأصحاب وغيرهم، والأول أشهر وعلى التقديرين البيع
__________
(1) [المجموع] (9\372).
(2) سنن الترمذي البيوع (1231),سنن النسائي البيوع (4632),سنن أبو داود البيوع (3461),مسند أحمد بن حنبل (2/432).
باطل بالإجماع.
(وأما) الحديث الذي في [ سنن أبي داود ] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا » (1) ، فقال الخطابي وغيره: يحتمل أن يكون ذلك في قصة بعينها، كأن أسلف دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فحل الأجل فطالبه فقال: بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين، فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيرد إلى أوكسهما وهو الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل فسخ الأول كانا قد دخلا في الربا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فرع) في مذاهب العلماء فيمن باع بألف مثقال ذهب وفضة، مذهبنا أنه بيع باطل، وقال أبو حنيفة : يصح ويكون الثمن نصفين، واحتج أصحابنا بالقياس على ما لو باعه بألف بعضه ذهب وبعضه فضة فإنه لا يصح.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3461).
ب- قال عبد الله بن قدامة رحمه الله في [المغني] (1) :
مسألة: قال: وإذا قال: بعتك بكذا على أن آخذ منك الدينار بكذا، لم ينعقد البيع، وكذلك إن باعه بذهب على أن يأخذ منه دراهم بصرف ذكراه، وجملته: أن البيع بهذه الصفة باطل؛ لأنه شرط في العقد أن يصارفه بالثمن الذي وقع العقد به، والمصارفة عقد بيع فيكون بيعتان في بيعة، قال أحمد هذا معناه، وقد روى أبو هريرة قال: « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة » (2) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وروى أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا كل ما كان في معنى هذا مثل أن
__________
(1) [المغني] (4\233- 235).
(2) سنن الترمذي البيوع (1231),سنن النسائي البيوع (4632),سنن أبو داود البيوع (3461),مسند أحمد بن حنبل (2/432).
يقول: بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا، أو على أن تبيعني دارك، أو على أن أؤجرك أو على أن تؤجرني كذا، أو على أن تزوجني ابنتك أو على أن أزوجك ابنتي ونحو هذا، فهذا كله لا يصح، قال ابن مسعود : الصفقتان في صفقة ربا، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء، وجوزه مالك وقال: لا ألتفت إلى اللفظ الفاسد، إذا كان معلوما حلالا، فكأنه باع السلعة بالدراهم التي ذكر أنه يأخذها بالدنانير.
ولنا: الخبر، وأن النهي يقتضى الفساد، ولأن العقد لا يجب بالشرط؛ لكونه لا يثبت في الذمة فيسقط فيفسد العقد؛ لأن البائع لم يرض به إلا بذلك الشرط، فإذا فات فات الرضا به، ولأنه شرط عقدا في عقد فلم يصح كنكاح الشغار، وقوله: لا ألتفت إلى اللفظ، لا يصح؛ لأن البيع هو اللفظ، فإذا كان فاسدا فكيف يكون صحيحا، ويتخرج أن يصح البيع ويفسد الشرط بناء على ما لو شرط ما ينافي مقتضى العقد كما سبق، والله أعلم.
(فصل) وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر: وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقدا أو بخمسة عشر نسيئة، أو بعشرة مكسرة أو تسعة صحاحا، هكذا فسره مالك والثوري وإسحاق وهو أيضا باطل، وهو قول الجمهور؛ لأنه لم يجزم له ببيع واحد فأشبه ما لو قال: بعتك هذا أو هذا؛ ولأن الثمن مجهول فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول؛ ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم، فلم يصح كما لو قال: بعتك أحد عبيدي، وقد روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا فيذهب على أحدهما، وهذا محمول على أنه
جرى بينهما بعد ما يجري في العقد، فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا فقال خذه، أو قد رضيت ونحو ذلك، فيكون هذا عقدا كافيا وإن لم يوجد ما يقوم مقام الإيجاب أو يدل عليه لم يصح؛ لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابا؛ لما ذكرنا، وقد روي عن أحمد فيمن قال: إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم: أنه يصح، فيحتمل أن يلحق به هذا البيع فيخرج وجها في الصحة، ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث إن العقد ثم يمكن أن يصح؛ لكونه جعالة يحتمل فيه الجهالة بخلاف البيع، ولأن العمل الذي يستحق به الأجرة لا يمكن وقوعه إلا على إحدى الصفقتين فتتعين الأجرة المسماة عوضا له، فلا يفضي إلى التنازع، وههنا بخلافه.
(فصل) لو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه أو شرط المشتري ذلك عليه، فهو محرم والبيع باطل، وهذا مذهب مالك والشافعي، ولا أعلم فيه خلافا إلا أن مالكا قال: إن ترك مشترط السلف صح البيع.
ولنا: ما روى عبد الله بن عمرو « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، وعن بيع ما لم يقبض، وعن بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف » (1) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي لفظ: « لا يحل بيع وسلف » (2) ، ولأنه اشترط عقدا في عقد، ففسد كبيعتين في بيعة، ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله فتصير الزيادة في الثمن عوضا عن القرض وربحا له، وذلك ربا محرم ففسد، كما لو صرح به، ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحا كما لو باع درهما بدرهمين ثم ترك أحدهما .
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232),سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن ابن ماجه التجارات (2188),مسند أحمد بن حنبل (2/175),سنن الدارمي البيوع (2560).
(2) سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504).
(فصل)
ج- قال محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في [نيل الأوطار].
(باب بيعتين في بيعة ) (1) : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا » (2) رواه أبو داود، وفي لفظ: « نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة » (3) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، وعن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: « نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة » (4) قال سماك : هو الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنسأ بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا) رواه أحمد .
حديث أبي هريرة باللفظ الأول في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد، قال المنذري : والمشهور عنه من رواية الدراوردي ومحمد بن عبد الله الأنصاري أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، انتهى .
وهو باللفظ الثاني عند من ذكره المصنف، وأخرجه أيضا الشافعي و مالك في بلاغاته، وحديث ابن مسعود أورده الحافظ في [التلخيص] وسكت عنه، وقال في [مجمع الزوائد]: رجال أحمد ثقات، وأخرجه أيضا البزار والطبراني في [الكبير] و[الأوسط]، وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني وابن عبد البر قوله: من باع بيعتين فسره سماك بما رواه المصنف عن أحمد عنه، وقد وافقه على مثل ذلك الشافعي فقال: بأن يقول: بعتك بألف نقدا أو ألفين إلى سنة فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا، ونقل ابن الرفعة عن القاضي أن المسألة مفروضة على أنه قبل على الإيهام
__________
(1) [نيل الأوطار] (5\248، 249)
(2) سنن أبو داود البيوع (3461).
(3) سنن الترمذي البيوع (1231),سنن النسائي البيوع (4632),سنن أبو داود البيوع (3461),مسند أحمد بن حنبل (2/432).
(4) مسند أحمد بن حنبل (1/398).
أما لو قال: قبلت بألف نقدا أو بألفين بالنسيئة صح ذلك، وقد فسر الشافعي في تفسير آخر فقال: هو أن يقول بعتك ذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا، أي: إذا وجب لك عندي وجب لي عندك، وهذا يصلح تفسيرا للرواية الأخرى من حديث أبي هريرة لا للأولى فإن قوله: فله أوكسهما يدل على أنه باع الشيء الواحد بيعتين ببيعة بأقل وبيعة بأكثر.
وقيل في تفسير ذلك: هو أن يسلفه دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين فصار ذلك بيعتين في بيعة؛ لأن البيع الثاني قد دخل على الأول فيرد إليه أوكسهما وهو الأول كذا في شرح السنن لابن رسلان، قوله: « فله أوكسهما » (1) أي: أنقصها، قال الخطابي : لا أعلم أحدا قال بظاهر الحديث وصحح البيع بأوكس الثمنين إلا ما حكي عن الأوزاعي وهو مذهب فاسد، انتهى.
ولا يخفى أن ما قاله هو ظاهر الحديث؛ لأن الحكم له بالأوكس يستلزم صحة البيع به: قوله: « أو الربا » (2) يعني: أو يكون قد دخل هو وصاحبه في الربا المحرم إذا لم يأخذ الأوكس، بل أخذ الأكثر وذلك ظاهر في التفسير الذي ذكره ابن رسلان، وأما في التفسير الذي ذكره أحمد عن سماك وذكره الشافعي ففيه متمسك، من قال: يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، وقد ذهب إلى ذلك زين العابدين علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى .
وقالت الشافعية والحنفية وزيد بن علي والمؤيد بالله والجمهور: إنه يجوز؛ لعموم الأدلة القاضية بجوازه وهو الظاهر؛ لأن ذلك المتمسك هو
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3461).
(2) سنن أبو داود البيوع (3461).
الرواية الأولى من حديث أبي هريرة، وقد عرفت ما في راويها من المقال ومع ذلك فالمشهور عنه اللفظ الذي رواه غيره وهو النهي عن بيعتين في بيعة، ولا نتيجة فيه على المطلوب، ولو سلمنا أن تلك الرواية التي تفرد بها ذلك الراوي صالحة للاحتجاج- لكان احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع كما سلف عن ابن رسلان قادحا في الاستدلال بها على التنازع فيه، على أن غاية ما فيها الدلالة على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصورة وهي أن يقول: نقدا بكذا ونسيئة بكذا إلا إذا قال من أول الأمر نسيئة بكذا فقط وكان أكثر من سعر يومه مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة ولا يدل الحديث على ذلك فالدليل أخص من الدعوى، وقد جمعنا رسالة في هذه المسألة وسميناها: شفاء الغلل في حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل، وحققناها تحقيقا لم نسبق إليه، والعلة في تحريم بيعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين، والتعليق بالشرط المستقبل في صورة بيع هذا على أن يبيع منه ذاك، ولزوم الربا في صورة القفيز الحنطة: قوله: (أو صفقتين في صفقة) أي: بيعتين في بيعة.
د- قال صاحب [نصب الراية- رحمه الله في- أحاديث الهداية]:
الحديث الثالث عشر: روي ( « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صفقتين في صفقة » (1) ، قلت: رواه أحمد في [مسنده] حدثنا حسن، وأبو النضر، وأسود بن عامر، قالوا: ثنا شريك عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال: « نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، » (2) قال أسود : قال شريك : قال سماك : هو أن يبيع الرجل بيعا فيقول: هو نقدا بكذا، ونسيئة بكذا، انتهى.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/398).
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/398).
ورواه البزار في [مسنده]، عن أسود بن عامر به ورواه الطبراني في [معجمه الأوسط] ، حدثنا أحمد بن القاسم حدثنا عبد الملك بن عبد ربه الطائي حدثنا ابن السماك بن حرب عن أبيه مرفوعا: « لا تحل صفقتان في صفقة، » انتهى.
ورواه العقيلي في [ضعفائه]، من حديث عمرو بن عثمان بن أبي صفوان الثقفي حدثنا سفيان عن سماك به مرفوعا: « الصفقة في الصفتين ربا، » انتهى، وأعله بعمرو بن عثمان هذا، وقال: لا يتابع على رفعه، والموقوف أولى، ثم أخرجه من طريق أبي نعيم : حدثنا سفيان به موقوفا، وهكذا رواه الطبراني في [معجمه الكبير] من طريق أبي نعيم به موقوفا، وكذلك رواه أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان به موقوفا، قال أبو عبيد : ومعنى (صفقتان في صفقة): أن يقول الرجل للرجل: أبيعك هذا نقدا بكذا ونسيئة بكذا، ويفترقان عليه، انتهى.
وكذلك رواه ابن حبان في [صحيحه]، في النوع الثامن والعشرين من القسم الأول من حدثنا شعبة عن سماك به موقوفا، الصفقة في الصفقتين ربا، وأعاده في النوع التاسع والمائة من القسم الثاني كذلك، بلفظ: لا تحل صفقتان في صفقة. ا هـ.
حديث آخر: أخرجه الترمذي والنسائي عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم « نهى عن بيعتين في بيعة » (1) . انتهى، قال الترمذي : حديث حسن صحيح، قال: وفسره بعض أهل العلم: أن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقدا بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231),سنن النسائي البيوع (4632),سنن أبو داود البيوع (3461),مسند أحمد بن حنبل (2/432).
كانت العقدة على أحدهما، وقال الشافعي : معناه أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا، على أن تبيعني غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري، انتهى، والمصنف فسره بأن يقول: أبيعك عبدي هذا على أن تخدمني شهرا، أو داري هذه على أن أسكنها شهرا، قال: فإن الخدمة والسكنى إن كان يقابلها شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، وإلا فهو إعارة في بيع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع صفقتين.. الحديث، والحديث في [الموطأ]، بلاغ، قال أبو مصعب : أخبرنا مالك أنه بلغه « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة » (1) ) ا.هـ.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231),سنن النسائي البيوع (4632),سنن أبو داود البيوع (3461),مسند أحمد بن حنبل (2/432).
4 - بيع المضطر :
أ- جاء في [سنن أبي داود] (1) :
عن شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي بن أبي طالب - أو قال: قال علي سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك، قال الله تعالى: { وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } (2) ويبايع المضطرون، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك، في إسناده رجل مجهول.
قال الشيخ: بيع المضطر يكون من وجهين:
أحدهما: أن يضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه فهذا فاسد لا ينعقد، والوجه الآخر أن يضطر إلى البيع لدين يركبه أو مؤونة ترهقه فيبيع
__________
(1) [ سنن أبي داود](3\74)
(2) سورة البقرة الآية 237
ما في يده بالوكس من أجل الضرورة، لهذا سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يبايع على هذا الوجه، وأن لا يفتات عليه بماله، ولكن يعان ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة حتى يكون له في ذلك بلاغ، فإن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه جاز في الحكم ولم يفسخ.
وفي إسناد الحديث رجل مجهول لا ندري من هو إلا أن عامة أهل العلم قد كرهوا البيع على هذا الوجه.
قال الشيخ: أصل الغرر: هو ما طوي عنك علمه وخفي عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك: طويت الثوب على غره، أي على كسره الأول، وكل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم، ومعجوزا عنه غير مقدور عليه فهو غرر وذلك: مثل أن يبيعه سمكا في الماء، أو طيرا في الهواء، أو لؤلؤة في البحر، أو عبدا آبقا، أو جملا شاردا، أو ثوبا في جراب لم يره ولم ينشره، أو طعاما في بيت لم يفتحه أو ولد بهيمة لم يولد، أو ثمر شجرة لم تثمر في نحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدرى هل تكون أم لا؛ فإن البيع مفسوخ فيها.
وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه البيوع تحصينا للأموال أن تضيع، وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها.
ب- قال ابن مفلح في البيع: وله شروط (1) :
أحدها: الرضا، فإن أكره بحق صح، وإن أكره على وزن مال فباع ملكه كره الشراء، ويصح على الأصح، وهو مع المضطر، ونقل حرب تحريمه
__________
(1) [ الفروع] (4\5)
وكراهته وفسره في روايته فقال: يجيئك محتاج فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين، ولأبي داود عن محمد بن عيسى عن هشيم عن صالح بن عامر، كذا قال محمد، قال: حدثنا شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي، أو قال: قال علي : « نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك » (1) .
صالح لا يعرف، تفرد عنه هشيم، والشيخ لا يعرف أيضا، ولأبي يعلى الموصلي في [مسنده]: حدثنا روح بن حاتم، حدثنا هشيم، عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه: « إلا أن بيع المضطرين حرام. » (2)
الكوثر ضعيف بإجماع، قال أحمد : أحاديثه بواطيل، ليس بشيء، وقال ابن هبيرة: رأيت بخط ابن عقيل : حكي عن كسرى أن بعض عماله أراد أن يجري نهرا فكتب إليه أنه لا يجري إلا في بيت لعجوز فأمر أن يشتري منها فضوعف لها الثمن فلم تقبل، فكتب كسرى أن خذوا بيتها فإن المصالح الكليات تغفر فيها المفاسد الجزئيات، قال ابن عقيل : وجدت هذا صحيحا، فإن الله وهو الغاية في العدل يبعث المطر والشمس، فإن كان الحكيم القادر لم يراع نوادر المضار؛ لعموم المصالح فغيره أولى.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3382),مسند أحمد بن حنبل (1/116).
(2) سنن أبو داود البيوع (3382),مسند أحمد بن حنبل (1/116).
ج- قال ابن القيم رحمه الله بصدد حديثه عن اعتبار القصود في العقود (1) :
الصورة السابعة: إذا اشترى أو استأجر مكرها لم يصح، وإن كان في الظاهر قد حصل صورة العقد لعدم قصده وإرادته فدل على أن القصد روح
__________
(1) [ إعلام الموقعين] (4\106)
العقد ومصححه ومبطله فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ فإن الألفاظ مقصودة لغيرها ومقاصد العقود هي التي تراد لأجلها، فإذا ألغيت واعتبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها كان هذا إلغاء لما يجب اعتباره لما قد يسوغ إلغاؤه، وكيف يقدم اعتبار اللفظ الذي قد ظهر كل الظهور أن المراد خلافه؟ بل قد يقطع بذلك على المعنى الذي قد ظهر، بل قد يتيقن أنه المراد، تقدم بعض الكلام في بيع المضطر في الحديث عن العينة والتورق.
5 - بيع الإنسان ما لم يقبض وبيعه ما ليس عنده وذكر آراء الفقهاء في ذلك:
أ- قال صاحب [بدائع الصنائع وترتيب الشرائع] رحمه الله بصدد كلامه عن شروط صحة البيع:
ومنها: القبض في بيع المشترى المنقول فلا يصح بيعه قبل القبض لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض (1672) والنهي يوجب فساد المنهي؛ ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه؛ لأنه إذا هلك المعقود عليه قبل القبض يبطل البيع الأول فينفسخ الثاني؛ لأنه بناه على الأول، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر (1673) وسواء باعه من غير بائعه؛ لأن النهي مطلق لا يوجب الفصل بين البيع من غير بائعه وبيع البيع من بائعه، وكذا معنى الغرر لا يفصل بينهما فلا يصح الثاني والأول على حاله، ولا يجوز إشراكه وتوليته؛ لأن كل ذلك بيع. ا.هـ المقصود منه (1) .
__________
(1) [ بدائع الصنائع] (7\3097، 3098)
ب- قال ابن رشد رحمه الله في [بداية المجتهد ونهاية المقتصد] (1) :
وأما بيع الطعام قبل قبضه فإن العلماء مجمعون على منع ذلك إلا ما يحكى عن عثمان البتي، وإنما أجمع العلماء على ذلك لثبوت النهي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه » (2) واختلف من هذه المسألة في ثلاثة مواضع:
أحدها: فيما يشترط فيه القبض من المبيعات.
والثاني: في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط.
والثالثة: في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا، ففيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: فيما يشترط فيه القبض من المبيعات.
وأما بيع ما سوى الطعام قبل القبض فلا خلاف في مذهب مالك في إجازته، وأما الطعام الربوي فلا خلاف في مذهبه أن القبض شرط في بيعه، وأما غير الربوي من الطعام فعنه في ذلك روايتان:
إحداهما: المنع وهي الأشهر، وبها قال أحمد وأبو ثور إلا أنهما اشترطا مع الطعام الكيل والوزن.
والرواية الأخرى: الجواز.
وأما أبو حنيفة فالقبض عنده شرط في كل مبيع ماعدا المبيعات التي لا
__________
(1) (2\108 - 111)
(2) صحيح البخاري البيوع (2026),صحيح مسلم البيوع (1526),سنن النسائي البيوع (4596),سنن أبو داود البيوع (3492),سنن ابن ماجه التجارات (2226),موطأ مالك البيوع (1335),سنن الدارمي البيوع (2559).
تنقل ولا تحول من الدور والعقار، وأما الشافعي فإن القبض عنده شرط في كل مبيع ، وبه قال الثوري ، وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس وقال أبو عبيد وإسحاق ، وكل شيء لا يكال ولا يوزن فلا بأس ببيعه قبل قبضه، فاشتراط هؤلاء القبض في المكيل والموزون، وبه قال ابن حبيب وعبد العزيز بن أبي سلمة وربيعة ، وزاد هؤلاء مع الكيل والوزن المعدود.
فيحصل في اشتراط القبض سبعة أقوال: الأول: في الطعام الربوي فقط .
الثاني : في الطعام بإطلاق .
الثالث : في الطعام المكيل والموزون.
الرابع : في كل شيء ينقل .
الخامس : في كل شيء .
السادس : في المكيل والموزون .
السابع: في المكيل والموزون المعدود.
أما عمدة مالك في منعه ما عدا المنصوص عليه فدليل الخطاب في الحديث المتقدم، وأما عمدة الشافعي في تعميم كل بيع فعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحل بيع وسلف ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك » (1) ، وهذا من باب بيع ما لم يضمن، وهذا مبني على مذهبه من أن القبض شرط في دخول المبيع في ضمان المشتري، واحتج أيضا بحديث حكيم بن حزام قال: « قلت يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها ما يحرم؟. فقال : يا ابن أخي ، إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه » (2) ، وقال أبو عمر : حديث حكيم بن جزام رواه يحيى بن أبي كثير عن يوسف بن ماهك أن
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4611),سنن أبو داود البيوع (3504).
(2) سنن النسائي البيوع (4603),مسند أحمد بن حنبل (3/402).
عبد الله بن عصمة حدثه أن حكيم بن حزام قال: ويوسف بن ماهك وعبد الله بن عصمة لا أعرف لهما جرحة إلا أنه لم يرو عنهما إلا رجل واحد فقط، وذلك في الحقيقة ليس بجرحة وإن كرهه جماعة من المحدثين، ومن طريق المعنى أن بيع ما لم يقبض يتطرق منه إلى الربا، وإنما استثنى أبو حنيفة ما حول وينقل صده مما لا ينقل؛ لأن ما ينقل القبض عنده فيه هي التخلية، وأما من اعتبر الكيل والوزن فلاتفاقهم أن المكيل والموزون لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن وقد نهي عن بيع ما لم يضمن.
الفصل الثاني : في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط.
وأما ما يعتبر ذلك فيه مما لا يعتبر، فإن العقود تنقسم أولا إلى قسمين: وقسم يكون بغير معاوضة، كالهبات والصدقات، والذي يكون بمعاوضة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: يختص بقصد المغابنة والمكايسة وهي البيوع والإجارات والمهور والصلح والمال المضمون بالتعدي وغيره.
والقسم الثاني: لا يختص بقصد المغابنة وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض.
والقسم الثالث: فهو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعا، أعني: على قصد المغابنة وعلى قصد الرفق، كالشركة والإقالة والتولية، وتحصيل أقوال العلماء في هذه الأقسام، أما ما كان بيعا وبعوض فلا خلاف في اشتراط القبض فيه، وذلك في الشيء الذي يشترط فيه القبض واحد من
العلماء . وأما ما كان خالصا للرفق ، أعني : القرض ، فلا خلاف أيضا أن القبض ليس شرطا في بيعه . أعني : أنه يجوز للرجل أن يبيع القرض قبل أن يقبضه ، واستثنى أبو حنيفة مما يكون بعوض المهر والخلع فقال : يجوز بيعهما قبل القبض ، وأما العقود التي تتردد بين قصد الرفق والمغابنة ، وهي التولية والشركة والإقالة ، فإذا وقعت على وجه الرفق من غير أن تكون الإقالة أو التولية بزيادة أو نقصان ، فلا خلاف أعلمه في هذا المذهب أن ذلك جائز قبل القبض وبعده .
وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تجوز الشركة ولا التولية قبل القبض ، وتجوز الإقالة عندهما ؛ لأنها قبل القبض فسخ بيع لا بيع ، فعمدة من اشترط القبض في جميع المعاوضات أنها في معنى البيع المنهي عنه ، وإنما استثنى مالك من ذلك التولية والإقالة والشركة ، للأثر والمعنى .
وأما الأثر فما رواه من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من « ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من شركة أو تولية أو إقالة » ، وأما من طريق المعنى فإن هذه إنما يراد بها الرفق لا المغابنة إذا لم تدخلها زيادة ولا نقصان ، وإنما استثنى من ذلك أبو حنيفة الصداق والخلع والجعل ؛ لأن العوض في ذلك ليس بينا إذا لم يكن عينا .
الفصل الثالث : في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا :
وأما اشتراط القبض فيما بيع من الطعام جزافا ، فإن مالكا رخص فيه وأجازه ، وبه قال الأوزاعي ، ولم يجز ذلك أبو حنيفة والشافعي ، وحجتهما عموم الحديث المتضمن للنهي عن بيع الطعام قبل قبضه ؛ لأن الذريعة موجودة في الجزاف وغير الجزاف ، ومن الحجة لهما ما روي عن ابن عمر أنه قال : « كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام جزافا ، فبعث
إلينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه » (1) قال أبو عمر : وإن كان مالك لم يرو عن نافع في هذا الحديث ذكر الجزاف فقد روته جماعة ، وجوده عبيد الله بن عمر وغيره ، وهو مقدم في حفظ حديث نافع ، وعمدة المالكية أن الجزاف ليس فيه حق توفية ، فهو عندهم من ضمان المشتري بنفس العقد ، وهذا من باب تخصيص العموم بالقياس المظنون العلة ، وقد يدخل في هذا الباب إجماع العلماء على منع بيع الرجل شيئا لا يملكه ، وهو المسمى : عينة عند من يرى نقله (2) من باب الذريعة إلى الربا ، وأما من رأى منعه من جهة أنه قد لا يمكنه نقله فهو داخل في بيوع الغرر ، وصورة التذرع منه إلى الربا المنهي عنه أن يقول رجل لرجل : أعطني عشرة دنانير على أن أدفع لك إلى مدة كذا ضعفا ، فيقول له : هذا لا يصلح ، ولكن أبيع منك سلعة كذا لسلعة يسميها ليست عنده بهذا العدد ، ثم يعمد هو فيشتري تلك السلعة فيقبضها له بعد أن كمل البيع بينهما ، وتلك السلعة قيمتها قريب مما كان سأله أن يعطيه من الدراهم قرضا فيرد عليه ضعفها ، وفي المذهب : في هذا تفصيل ليس هذا موضع ذكره ، ولا خلاف في هذه الصورة التي ذكرنا أنها غير جائزة في المذهب ، أعني : إذا تقارا على الثمن الذي يأخذ به السلعة قبل شرائها ، وأما الدين بالدين ، فأجمع المسلمون على منعه ، واختلفوا في مسائل هل هي منه أم ليست منه؟ مثل ما كان ابن القاسم لا يجيز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه تمرا قد بدا صلاحه ، ولا سكنى دار ولا جارية تتواضع ، ويراه
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2017),صحيح مسلم البيوع (1527),سنن النسائي البيوع (4605),سنن أبو داود البيوع (3493),سنن ابن ماجه التجارات (2229),مسند أحمد بن حنبل (1/56),موطأ مالك البيوع (1337).
(2) لعله : فصله
من باب الدين بالدين ، وكان أشهب يجيز ذلك ويقول : ليس هذا من باب الدين بالدين وإنما الدين بالدين ما لم يشرع في أخذ شيء منه ، وهو القياس عند كثير من المالكيين ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ، ومما أجازه مالك في هذا الباب خالفه فيه جمهور العلماء ما قاله في المدونة من أن الناس كانوا يبيعون اللحم بسعر معلوم والثمن إلى العطاء، فيأخذ المبتاع كل يوم وزنا معلوما ، قال : ولم ير الناس بذلك بأسا ، وكذلك كل شيء ما يبتاع في الأسواق ، وروى ابن القاسم أن ذلك لا يجوز إلا فيما خشي عليه الفساد من الفواكه إذا أخذ جميعه ، أما القمح وشبهه فلا ، فهذا هي أصول هذا الباب ، وهذا الباب كله إنما حرم في الشرع لمكان الغبن الذي يكون طوعا وعن علم .
ج ـ قال صاحب [ المجموع شرح المهذب] (1) ( فرع ) في مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض ، وقد ذكرنا أن مذهبنا بطلانه مطلقا سواء كان الطعام أو غيره ، وبه قال ابن عباس ثبت ذلك عنه ومحمد بن الحسن ، قال ابن المنذر ، أجمع العلماء على أن من اشترى طعاما فليس له بيعه حتى يقبضه ، قال : واختلفوا في غير الطعام على أربعة مذاهب :
أحدها : لا يجوز بيع شيء قبل قبضه ، سواء جميع المبيعات ، كما في الطعام ، قاله الشافعي ومحمد بن الحسن .
والثاني : يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه ، إلا المكيل والموزون ، قاله
__________
(1) [ المجموع ] (9 \295 ـ 303)
عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق .
والثالث : لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا الدور والأرض ، قاله أبو حنيفة وأبو يوسف .
والرابع : يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المأكول والمشروب ، قاله مالك وأبو ثور ، قال ابن المنذر : وهو أصح المذاهب ، لحديث النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى .
واحتج لمالك وموافقيه بحديث ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه » (1) رواه البخاري ومسلم ، وعنه قال : « لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون جزافا ، يعني : الطعام ، فضربوا أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم » (2) رواه البخاري ومسلم ، وعن ابن عباس قال : ( أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض ) قال ابن عباس ثبت ذلك عنه قال ابن عباس : ( وأحسب كل شيء مثله ) رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه » (3) ، قال ابن عباس : وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله » (4) رواه مسلم ، وفي رواية قال : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى » (5) ، وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه » (6) رواه مسلم ، قالوا : فالتنصيص في هذه الأحاديث يدل أن غيره بخلافه ، قالوا : وقياسا على ما ملكه بإرث أو وصية . وعلى إعتاقه وإجارته قبل قبضه ، وعلى بيع الثمر قبل قبضه .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2026),صحيح مسلم البيوع (1526),سنن النسائي البيوع (4596),سنن أبو داود البيوع (3492),سنن ابن ماجه التجارات (2226),موطأ مالك البيوع (1335),سنن الدارمي البيوع (2559).
(2) صحيح البخاري البيوع (2030),صحيح مسلم البيوع (1527),سنن النسائي البيوع (4606),مسند أحمد بن حنبل (2/7).
(3) صحيح البخاري البيوع (2026),صحيح مسلم البيوع (1526),سنن النسائي البيوع (4596),سنن أبو داود البيوع (3492),سنن ابن ماجه التجارات (2226),موطأ مالك البيوع (1335),سنن الدارمي البيوع (2559).
(4) صحيح مسلم البيوع (1528),مسند أحمد بن حنبل (2/337).
(5) صحيح مسلم البيوع (1528),مسند أحمد بن حنبل (2/349).
(6) صحيح مسلم البيوع (1529),مسند أحمد بن حنبل (3/327).
واحتج أصحابنا بحديث حكيم بن حزام ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تبع ما لم تقبضه » وهو حديث حسن ، كما سبق بيانه في أول هذا الفصل . وبحديث زيد بن ثابت : أن النبي صلى الله عليه وسلم « نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم » (1) رواه أبو داود بإسناد صحيح إلا أنه من رواية محمد بن إسحاق بن يسار عن أبي الزناد ، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به وهو مدلس ، وقد قال : عن أبي الزناد ، والمدلس إذا قال : "عن" لا يحتج به . لكن لم يضعف أبو داود هذا الحديث ، وقد سبق أن ما لم يضعفه فهو حجة عنده فلعله اعتضد عنده أو ثبت عنده بسماع ابن إسحاق له من أبي الزناد وبالقياس على الطعام .
والجواب عن احتجاجهم بأحاديث النهي عن بيع الطعام من وجهين : أحدهما أن هذا استدلال بداخل الخطاب والتنبيه مقدم عليه ، فإنه إذا نهى عن بيع الطعام مع كثرة الحاجة إليه فغيره أولى .
والثاني : أن النطق الخاص مقدم عليه وهو حديث حكيم وحديث زيد .
وأما قياسهم على العتق ففيه خلاف سبق ، فإن سلمناه فالفرق أن العتق له قوة وسراية ، ولأن العتق إتلاف للمالية والإتلاف قبض .
والجواب عن قياسهم على الثمن أن فيه قولين ، فإن سلمناه فالفرق أنه في الذمة مستقر لا يتصور تلفه ، ونظير المبيع إنما هو الثمن والمعين ولا يجوز بيعه قبل القبض ، وأما بيع الميراث والموصى به فجوابه أن الملك فيهما مستقر بخلاف المبيع . والله أعلم .
واحتج لأبي حنيفة بإطلاق النصوص ، ولأنه لا يتصور تلف العقار بخلاف غيره . واحتج أصحابنا بما سبق في الاحتجاج على مالك . وأجابوا
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3499).
عن النصوص بأنها مخصوصة بما ذكرناه .
وأما قولهم : لا يتصور تلفه . فينتقض بالجديد الكثير . والله سبحانه وتعالى أعلم .
قال المصنف رحمه الله :
وأما الديون فينظر فيها ، فإن كان الملك عليها مستقرا كغرامة المتلف وبدل القرض ، جاز بيعه ممن عليه قبل القبض ؛ لأن ملكه مستقر عليه . فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض وهل يجوز من غيره ؟
فيه وجهان :
أحدهما : يجوز ؛ لأن ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة .
والثاني : لا يجوز ؛ لأنه لا يقدر على تسليمه إليه ؛ لأنه ربما منعه أو جحده وذلك غرر لا حاجة به إليه فلم يجز ، والأول أظهر ؛ لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود . وإن كان الدين غير مستقر نظرت فإن كان مسلما فيه لم يجز بيعه ، لما روي أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن رجل أسلف في حلل دقاق فلم يجد تلك الحلل فقال : آخذ منك مقام كل حلة من الدقاق حلتين من الجل فكرهه ابن عباس ، وقال :
خذ برأس المال علفا أو غنما ، ولأن الملك في المسلم فيه غير مستقر ؛ لأنه ربما تعذر فانفسخ البيع فيه فلم يجز بيعه كالبيع قبل القبض .
وإن كان ثمنا في بيع ففيه قولان ، قال في الصرف : يجوز بيعه قبل القبض ، لما روى ابن عمر قال : « كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير ، فآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا بأس ما لم
تتفرقا وبينكما شيء » (1) ، ولأنه لا يخشى انفساخ العقد فيه بالهلاك فصار كالبيع بعد القبض .
وروى المزني في [ جامعه الكبير ] ، أنه لا يجوز ؛ لأن ملكه غير مستقر عليه ؛ لأنه قد ينفسخ البيع فيه بتلف المبيع أو بالرد بالعيب ، فلم يجز بيعه كالمبيع قبل القبض وفي بيع نجوم المكاتب قبل القبض طريقان :
أحدهما : أنه على قولين بناء على القولين في بيع رقبته .
والثاني : أنه لا يصح ذلك قولا واحدا ، وهو المنصوص في المختصر ؛ لأنه لا يملكه ملكا مستقرا فلم يصح بيعه كالمسلم فيه .
الشرح : حديث ابن عمر صحيح ، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وآخرون بأسانيد صحيحة عن سماك بن حرب عن سعيد بن عمر بلفظه هذا ، قال الترمذي وغيره : لم يرفعه غير سماك ، وذكره البيهقي في معرفة السنن والآثار إن أكثر الرواة وقفوه على ابن عمر (قلت) : وهذا لا يقدح في رفعه وقد قدمنا مرات أن الحديث إذا رواه بعضهم مرسلا وبعضهم متصلا وبعضهم موقوفا مرفوعا كان محكوما بوصله ورفعه على المذهب الصحيح الذي قاله الفقهاء والأصوليون ومحققو المحدثين من المتقدمين والمتأخرين .
بالبقيع هو بالباء الموحدة وإنما قيدته ؛ لأني رأيت من يصحفه .
قوله : السلم في حلل : هو جمع حلة بضم الحاء وهي ثوبان ، ولا يكون إلا ثوبان كذا قاله أهل اللغة . والمدق بكسر الدال ، والجل بكسر الجيم وهو الغليظ .
وقوله : من غير حاجة إليه يحترز من أساس الدار فإنه يصح بيعه وهو
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4582),سنن أبو داود البيوع (3354),سنن ابن ماجه التجارات (2262),مسند أحمد بن حنبل (2/139),سنن الدارمي البيوع (2581).
غرر للحاجة ، وهذا الاحتراز يكرره المصنف في كتاب البيوع كثيرا .
أما الأحكام فقد لخصها الرافعي أحسن تلخيص ، وهذا مختصر كلامه قال : الدين في الذمة ثلاثة أضرب : مثمن وثمن وغيرهما ، وفي حقيقة الثمن ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ما ألصق به الباء كقولك : بعت كذا بكذا والأول مثمن . والثاني ثمن ، وهذا قول القفال .
والثاني : أنه النقد مطلقا والمثمن ما يقابله على الوجهين .
أصحهما : أن الثمن النقد والمثمن ما يقابله ، فإن لم يكن في العقد نقد أو كان العوضان نقدين فالثمن ما ألصقت به الباء . والمثمن ما يقابله ، فلو باع أحد النقدين بالآخر فلا مثمن فيه على الوجه الثاني ، ولو باع عرضا بعرض فعلى الوجه الثاني لا ثمن فيه ، وإنما هو مبادلة ، ولو قال : بعتك هذه الدراهم بهذا العبد ، فعلى الوجه الأول العبد ثمن والدراهم مثمن ، وعلى الوجه الثاني والثالث في صحة هذا العقد وجهان كالسلم في الدراهم والدنانير (الأصح) الصحة في الموضعين . فإن صححناه فالعبد مثمن .
ولو قال : بعتك هذا الثوب بهذا العبد ووصفه صح العقد .
( فإن قلنا ) : الثمن ما ألصق به الباء فالعبد ثمن ، ولا يجب تسليم الثوب في المجلس وإلا ففي وجوب تسليم الثوب وجهان ؛ لأنه ليس فيه لفظ السلم لكن فيه معناه . فإذا عرف عدنا إلى بيان الأضرب الثلاثة .
الضرب الأول : المثمن ، وهو المسلم فيه فلا يجوز بيعه ولا الاستبدال عنه ، وهل تجوز الحوالة به ؟ بأن يحيل المسلم إليه المسلم بحقه على من له عليه دين قرض ، أو إتلاف ، أو الحوالة عليه بأن يحيل المسلم من له عليه
دين قرض أو إتلاف على المسلم إليه . فيه ثلاثة أوجه :
أصحهما : لا .
والثاني : نعم .
والثالث : لا يجوز عليه ويجوز به . هكذا حكوا الثالث ، وعكسه الغزالي في الوسيط فقال : يجوز عليه لا به ولا أظن نقله ثابتا .
الضرب الثاني : الثمن فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة ففي الاستبدال عنها طريقان :
أحدهما : القطع بالجواز قاله القاضي أبو حامد وابن القطان .
وأشهرهما : على قولين :
أصحهما : وهو الجديد جوازه .
والقديم : منعه ، ولو باع في الذمة بغير الدراهم والدنانير ، فإن قلنا الثمن ما ألصقت به الباء صح الاستبدال عنه كالنقدين ، وادعى البغوي أنه المذهب وإلا فلا ؛ لأن ما نثبت في الذمة فثمنا لم يجز الاستبدال عنه ، وأما الأجرة فكالثمن ، وأما الصداق وبدل الخلع فكذلك إن قلنا إنهما مضمونان ضمان العقد وإلا فهما كبدل الإتلاف .
التفريع : إن منعنا الاستبدال عن الدراهم فذلك إذا استبدل عنها عرضا فلو استبدل نوعا منها بنوع أو استبدل الدراهم عن الدنانير فوجهان لاستوائهما في الجواز ، وإن جوزنا الاستبدال فلا فرق بين بدل وبدل ثم ينظر إن استبدل ما يوافقهما في علة الربا كدنانير عن دراهم اشترط قبض البدل في المجلس . وكذا إن استبدل عن الحنطة المبيعة شعيرا إن جوزنا ذلك .
وفي اشتراط تعيين البدل عند العقد وجهان :
أحدهما : يشترط وإلا فهو بيع دين بدين .
وأصحهما : لا يشترط كما لو تصارفا في الذمة ثم عينا وتقابضا في المجلس ، وإن استبدل ما ليس موافقا لها في علة الربا ؟ كالطعام والثياب عن الدراهم نظر إن عين البدل في الاستبدال جاز ، وفي اشتراط قبضه في المجلس وجهان ، صحح الغزالي وجماعة الاشتراط وهو ظاهر نصه في المختصر ، وصحح الإمام والبغوي عدمه .
قلت : هذا الثاني أصح وصححه الرافعي في المحرر ، وإن لم يعين ، بل وصف في الذمة فعلى الوجهين السابقين وإن جوزناه اشترط التعيين في المجلس وفي اشتراط القبض الوجهان .
الضرب الثالث : ما ليس ثمنا ولا مثمنا كدين القرض والإتلاف فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف ، كما لو كان له في يد غيره مال بغصب أو عارية ، فإنه يجوز بيعه له .
ثم الكلام في اعتبار التعيين والقبض على ما سبق . وذكر صاحب الشامل أن القرض إنما يستبدل عنه إذا تلف ، فإن بقي في يده فلا ، ولم يفرق الجمهور بينهما ، ولا يجوز استبدال المؤجل عن الحال - ويجوز عكسه - وهذا الذي ذكرنا كله في الاستبدال وهو بيع الدين ممن هو عليه . فأما بيعه لغيره كمن له على رجل مائة فاشترى من آخر عبدا بتلك المائة ففي صحته قولان مشهوران :
أصحهما : لا يصح ، لعدم القدرة على التسليم .
والثاني : يصح بشرط أن يقبض مشتري الدين الدين ممن هو عليه ، وأن يقبض بائع الدين العوض في المجلس فإن تفرقا قبل قبض أحدهما بطل العقد . ولو كان له دين على إنسان ولآخر مثله على ذلك الإنسان فباع
أحدهما ما له عليه بما لصاحبه له لم يصح سواء اتفق الجنس ، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ . هذا آخر كلام الرافعي .
قلت : قد صحح المصنف هنا ، وفي التنبيه جواز بيع الدين لغير من هو عليه وصحح الرافعي في الشرح والمحرر أنه لا يجوز .
فرع : قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في آخر باب بيع الطعام قبل أن يستوفى : إذا باع طعاما بثمن مؤجل فحل الأجل فأخذ بالثمن طعاما جاز عندنا ، قال الشافعي : وقال مالك : لا يجوز ؛ لأنه يصير في معنى بيع طعام بطعام مؤجل ، دليلنا : أنه إنما يأخذ منه الطعام بالثمن الذي له عليه لا بالطعام وهذا الذي جزم به أبو حامد تفريعا على الصحيح وهو الاستبدال عن الثمن ، وقد صرح بهذا جماعة منهم القاضي أبو الطيب في تعليقه ، قال صاحب البيان : قال الصيمري والصيدلاني : فلو أراد أن يأخذ ثمن الدين المؤجل عوضا من نقد وعرض قبل حلوله لم يصح .
أما تقديم الدين نفسه فيجوز ؛ لأنه لا يملك المطالبة به قبل الحلول فكأنه أخذ العوض عما لا يستحقه . والله سبحانه وتعالى أعلم .
قال المصنف رحمه الله :
( والقبض فيما ينقل النقل ، لما روى زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم » (1) ، وفيما لا ينقل كالعقار والثمر قبل أوان الجذاذ التخلية ؛ لأن القبض ورد به الشرع وأطلقه فحمل على العرف ، والعرف فيما ينقل النقل وفيما لا ينقل التخلية) .
الشرح : أما حديث زيد فسبق بيانه قريبا في فرع مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض وفي التجار لغتان - كسر التاء مع تخفيف الجيم ، وضمها
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3499).
مع التشديد - والجذاذ - بفتح الجيم وكسرها - .
أما الأحكام : فقال أصحابنا : الرجوع في القبض إلى العرف وهو ثلاثة
أقسام :
أحدها : العقار والثمر على الشجرة فقبضه بالتخلية .
والثاني : ما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيتان ونحوها فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به سواء نقل إلى ملك المشتري أو موات أو شارع أو مسجد أو غيره . وفيه قول حكاه الخراسانيون : أنه يكفي فيه التخلية وهو مذهب أبي حنيفة .
والثالث : ما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والمنديل والثوب والإناء الخفيف والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول بلا خلاف ، صرح بذلك الشيخ أبو حامد في تعليقه والقاضي أبو الطيب والمحاملي والماوردي والمصنف في التنبيه والبغوي وخلائق لا يحصون ، وينكر على المصنف كونه أهمله هنا مع شهرته ومع ذكره له في التنبيه . والله تعالى أعلم .
وقد فحص الرافعي - رحمه الله - كلام الأصحاب وجمع متصرفه مختصرا وأنا أنقل مختصره وأضم إليه ما أهمله إن شاء الله تعالى ، قال رحمه الله : القول الجملي فيه أن الرجوع فيما يكون قبضا إلى العادة وتختلف بحسب اختلاف المال .
وأما تفصيله فنقول : المال إما أن يباع من غير اعتبار تقدير فيه ، وإما مع اعتبار فيه فهما نوعان :
الأول : ما لا يعتبر فيه تقدير إما لعدم إمكانه وإما مع إمكانه ، فينظر إن كان المبيع مما لا ينقل ، كالأرض والدار فقبضه بالتخلية بينه وبين
المشتري ، ويمكنه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه ، ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه ، ويشترط كونه فارغا من أمتعة البائع فلو باع دارا فيها أمتعة للبائع توقف التسليم على تفريغها ، وكذا لو باع سفينة مشحونة بالقماش . وحكى الرافعي بعد هذا وجها شاذا ضعيفا عند ذكر بيع الدار المذروعة أنه لا يصح بيع الدار المشحونة بالأقمشة ، وادعى إمام الحرمين أنه ظاهر المذهب .
ولو جمع البائع متاعه في بيت من الدار وخلى بين المشتري وبين الدار حصل القبض فيما عدا ذلك البيت ، كذا قاله الأصحاب ، وكذا نقله المتولي عن الأصحاب . وفي اشتراط حضور البائع عند المبيع في حال الإقباض ثلاثة أوجه :
أحدها : يشترط . فإن حضرا عنده فقال البائع للمشتري : دونك هذا ولا مانع ، حصل القبض وإلا فلا .
والثاني : يشترط حضور المشتري دون البائع .
وأصحها لا يشترط حضور واحد منهما ؛ لأن ذلك يشق ، فعلى هذا هل يشترط زمان إمكان المضي ؟ فيه وجهان :
أصحهما : نعم ، وبه قطع المتولي وغيره ، وفي معنى الأرض الشجر الثابت والثمرة المبيعة على الشجر قبل أوان الجذاذ ، والله سبحانه أعلم . وأما إذا كان المبيع من المنقولات فالمذهب والمشهور أنه لا تكفي التخلية ، بل يشترط النقل والتحويل ، وفي قول رواه حرملة تكفي التخلية لنقل الضمان إلى المشتري ، ولا تكفي لجواز تصرفه ، فعلى المذهب إن كان المبيع عبدا يأمره بالانتقال من موضعه ، وإن كان دابة ساقها أو قادها
( قلت ) : قال صاحب البيان : لو أمر العبد بعمل لم ينتقل فيه عن موضعه ، أو ركب البهيمة ولم تنقل عن موضعها فالذي يقتضيه المذهب أنه لا يكون قبضا كما لا يكون غصبا ، قال : ولو وطئ الجارية فليس قبضا على الصحيح من الوجهين ، وبهذا قطع الجمهور ، وهذا الذي ذكره في الغصب فيه خلاف نذكره في الغصب إن شاء الله تعالى .
قال الرافعي : إذا كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع كموات ومسجد وشارع أو في موضع يختص بالمشتري فالتحويل إلى مكان منه كاف في حصول القبض ، وإن كان في بقعة مخصوصة بالبائع فالنقل من زاوية منه إلى زاوية ، أو من بيت من داره إلى بيت بغير إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف ويكفي لدخوله في ضمانه ، وإن نقل بإذنه حصل القبض وكأنه استعار ما نقل إليه .
ولو اشترى الدار مع أمتعة فيها صفقة واحدة ، فخلى البائع بينهما وبينه حصل القبض في الدار ، وفي الأمتعة وجهان :
أصحهما : يشترط نقلهما ؛ لأنها منقولة كما لو أفردت .
والثاني : يحصل فيها القبض تبعا ، وبه قطع الماوردي وزاد فقال : لو اشترى صبرة ولم ينقلها حتى اشترى الأرض التي عليها الصبرة وخلى البائع بينه وبينها حصل القبض في الصبرة .
قلت : قال الماوردي : ولو استأجر الأرض من البائع فوجهان :
أصحهما : أنه ليس قبضا للأمتعة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
قال الرافعي : ولو لم يتفقا على القبض فجاء البائع بالمبيع فامتنع المشتري من قبضه أجبره الحاكم عليه فإن أصر أمر الحاكم من يقبضه كما
لو كان غائبا ، قال : ولو جاء البائع بالمبيع فقال المشتري : ضعه فوضعه بين يديه حصل القبض فإن وضعه بين يديه ولم يقل المشتري شيئا أو قال : لا أريده فوجهان :
أحدهما : لا يحصل القبض كما لا يحصل الإيداع .
وأصحهما : يحصل لوجوب التسليم ، كما لو وضع المغصوب بين يدي المالك فإنه يبرأ من الضمان ، فعلى هذا للمشتري التصرف فيه ، ولو تلف فمن ضمانه لكن لو خرج مستحقا ولم يجر إلا وضعه فليس للمستحق مطالبة المشتري بالضمان ؛ لأن هذا القدر لا يكفي لضمان الغصب .
قال ابن قدامة رحمه الله في [المغني] (1) :
فصل : وقبض كل شيء بحسبه ، فإن كان مكيلا أو موزونا بيع كيلا أو وزنا فقبضه بكيله ووزنه ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : التخلية في ذلك قبض . وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز ؛ لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل فكان قبضا له كالعقار .
ولنا : ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا بعت فكل ، وإذا ابتعت فاكتل » رواه البخاري ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه « نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان » (2) ، صاع البائع وصاع المشتري ، رواه ابن ماجه ، وهذا فيما بيع كيلا ، وإن بيع جزافا فقبضه نقله ؛ لأن ابن عمر قال : « كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى
__________
(1) [المغني] (4 \100- 105) .
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2228).
يحولوه » (1) ، وفي لفظ : « كنا نبتاع الطعام جزافا فبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه » (2) ، وفي لفظ : « كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله » (3) ، رواهن مسلم .
وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيما بيع بالكيل ، وقد دل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا سميت الكيل فكل » (4) رواه الأثرم .
وإن كان المبيع دراهم أو دنانير فقبضها باليد ، وإن كان ثيابا فقبضها نقلها ، وإن كان حيوانا فقبضه تمشيته من مكانه ، وإن كان مما لا ينقل ويحول فقبضه التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه ، وقد ذكره الخرقي في باب الرهن فقال : إن كان مما ينقل فقبضه أخذه إياه من راهنه منقولا ، وإن كان مما لا ينقل فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه لا حائل دونه ، ولأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق ، والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا . إلى أن قال :
مسألة قال : ( ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه ) .
قد ذكرنا الذي يحتاج إلى قبض والخلاف فيه ، وكل ما يحتاج إلى قبض إذا اشتراه لم يجز بيعه حتى يقبضه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه » متفق عليه ، ولأنه من ضمان بائعه فلم يجز بيعه كالسلم ، ولم أعلم بين أهل العلم خلافا إلا ما حكي عن البتي أنه قال : لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه ، وقال ابن عبد البر : وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام ، وأظنه لم يبلغه هذا الحديث ، ومثل هذا لا
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6460),صحيح مسلم البيوع (1527),سنن النسائي البيوع (4606),سنن ابن ماجه التجارات (2229),مسند أحمد بن حنبل (2/7),موطأ مالك البيوع (1337).
(2) صحيح مسلم البيوع (1527),سنن النسائي البيوع (4605),سنن أبو داود البيوع (3493),مسند أحمد بن حنبل (1/56),موطأ مالك البيوع (1337).
(3) صحيح مسلم البيوع (1526),سنن ابن ماجه التجارات (2229),مسند أحمد بن حنبل (2/142).
(4) سنن ابن ماجه التجارات (2230),مسند أحمد بن حنبل (1/75).
يلتفت إليه ، وأما غير ذلك فيجوز بيعه قبل قبضه في أظهر الروايتين ، ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والحكم وحماد والأوزاعي وإسحاق ، وعن أحمد رواية أخرى لا يجوز بيع شيء قبل قبضه اختارها ابن عقيل ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي ، إلا أن أبا حنيفة أجاز بيع العقار قبل قبضه ، واحتجوا بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه ، وبما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم « نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم » (1) ، وروى ابن ماجه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم « نهى عن شراء الصدقات حتى تقبض » (2) ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم « لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة قال : انههم عن بيع ما لم يقبضوه وعن ربح ما لم يضمنوه » ، ولأنه لم يتم الملك عليه فلم يجز بيعه كغير المتعين أو كالمكيل والموزون .
ولنا : ما روى ابن عمر قال : « كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير ونبيعها بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء » (3) . وهذا تصرف في الثمن قبل قبضه وهو أحد العوضين ، وروى ابن عمر أنه « كان على بعير صعب - يعني لعمر - فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : "بعنيه " فقال : هو لك يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هو لك يا عبد الله بن عمر ، فاصنع به ما شئت » (4) ، وهذا ظاهره التصرف في المبيع بالهبة قبل قبضه ، واشترى من جابر جمله ، ونقده ثمنه ، ثم وهبه إياه قبل قبضه ، ولأنه أحد نوعي المعقود عليه فجاز التصرف فيه قبل قبضه ، كالمنافع في الإجارة ، فإنه يجوز له إجارة العين المستأجرة قبل قبض المنافع ، ولأنه مبيع لا يتعلق به حق توفية ، فصح
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3499).
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2196),مسند أحمد بن حنبل (3/42).
(3) سنن النسائي البيوع (4582),سنن أبو داود البيوع (3354),مسند أحمد بن حنبل (2/139),سنن الدارمي البيوع (2581).
(4) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2469).
بيعه ، كالمال في يد مودعه أو مضاربه . فأما أحاديثهم فقد قيل : لم يصح منها إلا حديث الطعام وهو حجة لنا بمفهومه فإن تخصيصه الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على إباحة ذلك فيما سواه . وقولهم : لم يتم الملك عليه ممنوع فإن السبب المقتضي للملك متحقق وأكثر ما فيه تخلف القبض ، واليد ليست شرطا في صحة البيع بدليل جواز بيع المحال المودع والموروث والتصرف في الصداق وعوض الخلع عند أبي حنيفة .
( فصل ) وما لا يجوز بيعه قبل قبضه لا يجوز بيعه لبائعه ، لعموم الخبر فيه ، قال القاضي : لو ابتاع شيئا مما يحتاج إلى قبض فلقيه ببلد آخر لم يكن له مطالبته ولا أخذ بدله وإن تراضيا ؛ لأنه مبيع لم يقبض ، فإن كان مما لا يحتاج إلى قبض جاز أخذ البدل عنه وإن كان في سلم لم يجز أخذ البدل عنه ؛ لأنه أيضا لا يجوز بيعه .
فصل : وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه كالذي ذكرنا ، والأجرة وبدل الصلح إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود ، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه جاز التصرف فيه قبل قبضه كعوض الخلع والعتق على مال وبدل الصلح عن دم العمد وأرش الجناية وقيمة المتلف؛ لأن المطلق للتصرف الملك وقد وجد لكن ما يتوهم فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه لم يجز بناء عقد آخر عليه تحرزا من الغرر ، وما لا يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع فجاز العقد عليه ، وهذا قول أبي حنيفة ، والمهر كذلك عند القاضي وهو قول أبي حنيفة ؛ لأن العقد لا ينفسخ بهلاكه .
وقال الشافعي : لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه ، ووافقه أبو الخطاب في غير المتعين ؛ لأنه يخشى رجوعه بانتقاص سببه
بالردة قبل الدخول ، أو انفساخه بسبب من جهة المرأة أو نصفه بالطلاق أو انفساخه بسبب من غير جهتها ، وكذلك قال الشافعي في عوض الخلع ، وهذا التعليل باطل بما بعد القبض فإن قبضه لا يمنع الرجوع فيه قبل الدخول ، وأما ما ملك بإرث أو وصية أو غنيمة ، وتعين ملكه فيه فإنه يجوز له التصرف فيه بالبيع وغيره قبل قبضه ؟ لأنه غير مضمون بعقد معاوضة فهو كالمبيع المقبوض ، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا أعلم عن غيرهم خلافهم .
وإن كان لإنسان في يد غيره وديعة أو عارية أو مضاربة أو جعله وكيلا فيه - جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره ؛ لأنه عين مال مقدور على تسليمها لا يخشى انفساخ الملك فيها فجاز بيعها كالتي في يده ، وإن كان غصبا جاز بيعه ممن هو في يده ؛ لأنه مقبوض معه فأشبه بيع العارية ممن هي في يده ، وأما بيعه لغيره فإن كان عاجزا عن استنقاذه أو ظن أنه عاجز لم يصح شراؤه له ؛ لأنه معجوز عن تسليمه إليه فأشبه بيع الآبق والشارد ، وإن ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو في يده صح البيع لإمكان قبضه ، فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والإمضاء ؛ لأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه ويثبت له الفسخ للعجز عن القبض فأشبه ما لو باعه فرسا فشردت قبل تسليمها ، أو غائبا بالصفة فعجز عن تسليمه .
قال ابن حجر في [ فتح الباري ] رحمه الله (1) : باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك ، حدثنا علي بن عبد الله
__________
(1) [ فتح الباري ] (4\ 349 - 351) .
حدثنا سفيان قال : الذي حفظناه من عمرو بن دينار سمع طاوسا يقول : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض ، قال ابن عباس : ولا أحسب كل شيء إلا مثله . حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه » ، زاد إسماعيل : فلا يبعه حتى يقبضه .
( قوله : باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك ) لم يذكر في حديثي الباب بيع ما ليس عندك ، وكأنه لم يثبت على شرطه فاستنبطه من النهي عن البيع قبل القبض ، ووجه الاستدلال منه بطريق الأولى .
وحديث النهي عن بيع ما ليس عندك أخرجه أصحاب السنن من حديث حكيم بن حزام بلفظ : قلت : « يا رسول الله ، يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق ؟ فقال : لا تبع ما ليس عندك » (1) ، وأخرجه الترمذي مختصرا ولفظه : « نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندي » (2) ، قال ابن المنذر : وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يقول أبيعك عبدا أو دارا معينة وهي غائبة ، فيشبه بيع الغرر ، لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها .
ثانيهما : أن يقول هذه الدار بكذا ، على أن أشتريها لك من صاحبها أو على أن يسلمها لك صاحبها . اهـ .
وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني . قوله : (حدثنا سفيان) هو ابن عيينة ، وقوله : (الذي حفظناه من عمرو ) كأن سفيان يشير إلى أن في رواية غير عمرو بن دينار عن طاوس زيادة على ما حدثهم به عمرو بن دينار عنه ،
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232),سنن النسائي البيوع (4613),سنن أبو داود البيوع (3503),مسند أحمد بن حنبل (3/434).
(2) سنن الترمذي البيوع (1233).
كسؤال طاوس من ابن عباس عن سبب النهي ، وجوابه وغير ذلك . قوله : عن ابن عباس : ( أما الذي نهى عنه إلخ . . . ) أي : وأما الذي لم أحفظ نهيه فما سوى ذلك . قوله : ( فهو الطعام أن يباع حتى يقبض) في رواية مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس : من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه ، قال مسعر : وأظنه قال : أو علفا وهو بفتح المهملة واللام والفاء . (قوله : قال ابن عباس : لا أحسب كل شيء إلا مثله) ولمسلم من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه : وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام ، وهذا من تفقه ابن عباس ، ومال ابن المنذر إلى اختصاص ذلك بالطعام واحتج باتفاقهم على أن من اشترى عبدا فأعتقه قبل قبضه أن عتقه جائز ، قال : فالبيع كذلك ، وتعقب بالفارق وهو تشوف الشارع إلى العتق ، وقول طاوس في الباب قبله قلت لابن عباس : كيف ذاك ؟ قال : ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ ، معناه : أنه استفهم عن سبب هذا النهي ، فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدراهم ، ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم قال طاوس : قلت لابن عباس : لم؟ قال : ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ ، أي : فإذا اشترى طعاما بمائة دينار مثلا ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارا وقبضها والطعام في يد البائع فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارا ، وعلى هذا التفسير لا يختص النهي بالطعام ، ولذلك قال ابن عباس : لا أحسب كل شيء إلا مثله ، ويؤيده حديث زيد بن ثابت : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث
تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم » (1) ، أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان ، قال القرطبي : هذه الأحاديث حجة على عثمان الليثي حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه ، وقد أخذ بظاهرها مالك فحمل الطعام على عمومه ، وألحق بالشراء جميع المعاوضات ، وألحق الشافعي وابن حبيب وسحنون بالطعام كل ما فيه حق توفية ، وزاد أبو حنيفة والشافعي فعدياه إلى كل مشترى ، إلا أن أبا حنيفة استثنى العقار وما لا ينقل ، واحتج الشافعي بحديث عبد الله بن عمر ، وقال : « نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن » (2) أخرجه الترمذي .
( قلت ) : وفي معناه حديث حكيم بن حزام المذكور في صدر الترجمة ، وفي صفة القبض عن الشافعي تفصيل : فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول ، وما لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية ، وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به ، وفيه قول أنه يكفي فيه التخلية . قوله عقب حديث ابن عمر : زاد إسماعيل فلا يبعه حتى يقبضه يعني : أن إسماعيل بن أبي أويس روى الحديث المذكور عن مالك بسنده بلفظ : حتى يقبضه بدل قوله : حتى يستوفيه ، وقد وصله البيهقي من طريق إسماعيل كذلك ، وقال الإسماعيلي : وافق إسماعيل على هذا اللفظ ابن وهب وابن مهدي والشافعي وقتيبة .
(قلت) : وقول البخاري : زاد إسماعيل ، يريد الزيادة في المعنى ؛ لأن في قوله : حتى يقبضه زيادة في المعنى على قوله : حتى يستوفيه ؛ لأنه قد يستوفيه بالكيل بأن يكيله البائع ولا يقبضه للمشتري ، بل يحبسه عنده
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3499).
(2) سنن الترمذي البيوع (1234),سنن أبو داود البيوع (3504),سنن ابن ماجه التجارات (2188),مسند أحمد بن حنبل (2/175),سنن الدارمي البيوع (2560).
لينقده الثمن مثلا ، وعرف بهذا جواب من اعترضه من الشراح فقال : ليس في هذه الرواية زيادة ، وجواب من حمل الزيادة على مجرد اللفظ فقال : معناه : زاد لفظا آخر ، وهو يقبضه وإن كان هو بمعنى يستوفيه ، ويعرف من ذلك أن اختيار البخاري أن استيفاء المبيع المنقول من البائع وتبقيته في منزل البائع لا يكون قبضا شرعيا حتى ينقله المشتري إلى مكان لا اختصاص للبائع به ، كما تقدم نقله عن الشافعي ، وهذا هو النكتة في تعقيب المصنف له بالترجمة الآتية :
باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله ، والأدب في ذلك .
حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب قال :
أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : « لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون جزافا - يعني : الطعام - يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤوه إلى رحالهم » (1) . . .
( قوله : باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله والأدب في ذلك ) .
أي : تعزير من يبيعه قبل أن يؤويه إلى رحله ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك وهو ظاهر فيما ترجم له ، وبه قال الجمهور ، لكنهم لم يخصوه بالجزاف ولا قيدوه بالإيواء إلى الرحال . أما الأول : فلما ثبت من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه ، فدخل فيه المكيل ، وورد التنصيص على المكيل من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا أخرجه أبو داود ، وأما الثاني : فلأن الإيواء إلى الرحال خرج مخرج الغالب ، وفي بعض طرق مسلم عن ابن
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2030),صحيح مسلم البيوع (1527),سنن النسائي البيوع (4608),سنن أبو داود البيوع (3498),مسند أحمد بن حنبل (2/40).
عمر : « كنا نبتاع الطعام فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه » (1) ، وفرق مالك في المشهور عنه بين الجزاف والمكيل : فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه وبه قال الأوزاعي وإسحاق ، واحتج لهم بأن الجزاف مرئي فتكفي فيه التخلية ، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون .
وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا « من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه » (2) ، ورواه أبو داود والنسائي بلفظ : « نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه » (3) ، والدارقطني من حديث جابر : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع والمشتري » (4) ، ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة بإسناد حسن ، وفي ذلك دلالة على اشتراط القبض في المكيل بالكيل ، وفي الموزون بالوزن ، فمن اشترى شيئا مكايلة أو موازنة فقبضه جزافا فقبضه فاسد ، وكذا لو اشترى مكايلة فقبضه موازنة وبالعكس ، ومن اشترى مكايلة وقبضه ثم باعه لغيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا ، وبذلك كله قال الجمهور ، وقال عطاء : يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا ، وقيل : إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول ، والأحاديث المذكورة ترد عليه ، وفي الحديث مشروعية تأديب من يتعاطى العقود الفاسدة ، وإقامة الإمام على الناس من يراعي أحوالهم في ذلك . والله أعلم .
وقوله : "جزافا" مثلثة الجيم والكسر أفصح ، وفي هذا الحديث جواز بيع الصبرة جزافا ، سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم ، وعن مالك التفرقة
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/113),موطأ مالك البيوع (1337).
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/111).
(3) سنن النسائي البيوع (4604),سنن أبو داود البيوع (3495).
(4) سنن ابن ماجه التجارات (2228).
فلو علم لم يصح ، وقال ابن قدامة : يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل البائع والمشتري قدرها ، فإن اشتراها جزافا ففي بيعها قبل نقلها روايتان عن أحمد ، ونقلها : قبضها (1) .
__________
(1) [المغني] (4 \ 277 - 279) .
يمكن القضاء على بيع التجار الذين يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين بالأمور التالية :
أولا : التوعية الشاملة : يقوم العلماء بتبيين أنواع البيوع المحرمة ، ويحذرون الناس من التعامل بها ، لما فيها من غضب الله وسخطه ، ولما يترتب عليها من أخطار على الأمة وخاصة المحتاجين ، وما ينشأ عنها من أضرار اجتماعية ومالية ، من توليد الضغائن والأحقاد ، وتقطيع أواصر المحبة والإخاء ، وتكبيل من صاروا فريسة للتحايل في البيوع وسائر المعاملات والتلاعب فيها بكثرة الديون وتراكمها على الضعفاء ، وشغل القضاة وسائر ولاة الأمور بالخصومات .
ويكون ذلك بإلقاء الخطب والدروس بالمساجد والمحاضرات في النوادي والتلفزيون والإذاعة والمجتمعات العامة وبنشر المقالات في الصحف والمجلات ، فإن لذلك التأثير البين إن شاء الله على ذوي القلوب الحية والنفوس الطيبة ، وبه يخف الجشع والاحتيال لأكل الأموال بالباطل .
ثانيا : ينصح الجمهور بالاقتصاد في النفقات فلا يتوسعون في وسائل الترف وينصح من عنده رأس مال يتجر فيه ألا يدخل في مداينات أو
معاملات محرمة ؛ ليوسع بها في رأس ماله وليستغن بما آتاه الله وما أباحه له من طرق الاتجار والكسب الحلال عما حرمه الله عليه ، شكرا لنعمة الله عليه ، عسى أن يزيده سبحانه وتعالى من فضله .
ثالثا : الأخذ على يد المتلاعبين في المعاملات : يقوم ولاة الأمور بمراقبة الأسواق العامة والمحلات التجارية ، لمعرفة ما يجري فيها من المعاملات المحرمة ويأخذون على يد من حصل منه ذلك فيعزرونه بما يردعه من حبس أو ضرب أو غرامات مالية أو بمصادرة العوض في المعاملة المحرمة إلى أمثال هذا مما يرونه زاجرا للمسيء ولأمثاله الذين لم يستجيبوا للتوعية والإرشاد ولم تؤثر فيهم الدروس والمواعظ فلم يعبؤوا بالتحذير ولم يبالوا بالوعيد وصارم الجزاء .
وهذا مما يقضي على جشعهم أو يقلله إن شاء الله ويجعلهم على حذر مستمر من الاستغلال السيئ والكسب المحرم .
رابعا : توجيه الزراع إلى بنك التسليف الزراعي ، ليتعاملوا معه فيأخذوا منه ما يحتاجونه لمزارعهم من الآلات الزراعية وغيرها بأسعار معتدلة تدفع على أقساط مناسبة دون ربا أو إرهاق أو استغلال للظروف .
خامسا : توجيه من يريد بناء مسكن له أو يريد التوسع في بناء مساكن للإسهام في حل أزمة المساكن ولينتفع بذلك - إلى بنك التنمية والاستثمار العقاري ليقدم إليه من المال ما يستعين به في إقامة ما يريد من بناء ثم يسدد ما أخذ أقساطا لا يشق عليه الوفاء بها مواعيدها دون أن يتقاضى البنك على ذلك منه ربا .
سادسا : إرشاد من يحتاج إلى قرض لشئون أخرى يحتاجها في حياته أن
يتقدم إلى البنك الإسلامي أو أحد الأفراد الأغنياء بإبداء حاجته ، ليعطيه قرضا بلا ربا يسد به حاجته .
هذا ما تيسر إعداده وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد ، وآله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
قرار رقم (3 \ 11) في 16 \ 10 \ 1397هـ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ، وبعد : فقد اطلع مجلس هيئة كبار العلماء على ما جاء في الأمر السامي رقم (30891) في 20 \ 12 \ 1396 هـ من الرغبة في دراسة مجلس هيئة كبار العلماء المعاملات التي يستغلها بعض التجار في المداينات لحصولهم على مكاسب مالية بطريق ملتوية لا تتفق ومبدأ المعاملات الشرعية في البيع والاقتراض ، والنظر فيما إذا كان بالإمكان إيجاد بديل للحد من جشع هؤلاء واستغلالهم للمحتاجين من الناس ، واطلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة في أنواع من البيوع التي يستغلها بعض الناس استغلالا سيئا يخرج بها عما شرعه الله ، وبعد الدراسة وتداول الرأي قرر المجلس ما يلي :
أولا : العينة : ومعناها : أن يبيع إنسان لآخر شيئا بثمن مؤجل ويسلمه إليه ثم يشتريه منه بائعه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقدا ، وقد اتفق المجلس على تحريمها بهذا المعنى ، لما رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أنفع أنها قالت : (دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم على عائشة رضي الله عنها فقالت أم ولد زيد بن أرقم : إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة درهم ، فقالت لها : بئسما شريت وبئسما اشتريت ، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب) ، فإن الظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم عليه إلا بتوقيف
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجرى ذلك مجرى روايتها عنه ، ولأنه ذريعة إلى الربا ، فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع خمسمائة بألف إلى أجل معلوم ، ولما رواه الإمام أحمد في [مسنده] من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم ذلا فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم » (1) ، ورواه أبو داود في [سننه] ، من طريق عطاء الخراساني أن نافعا حدثه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : فذكر الحديث . ورواه السري بن سهل من طريق ثالث عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما ، ولأن ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن حريرة بيعت إلى أجل ثم اشتريت بأقل قال : دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة ، ولأن أنس بن مالك رضي الله عنه لما سئل عن العينة قال : ( إن الله لا يخدع ، هذا مما حرم الله ورسوله ) ، ولأن العينة بالمعنى المتقدم بيعتان في بيعة فكانت محرمة ، لما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا » (2) ، ويلتحق بذلك بيع المشتري ما اشتراه لمن باعه إياه حالا أو مؤجلا قبل أن يقبضه منه بأكثر من ثمنه ، لما تقدم ، ولما فيه من ربح ما لم يضمن ، ولما فيه من بيع الدين بالدين إذا كان مؤجلا .
ثانيا : التورق : وله صور : منها أن يطلب إنسان من آخر ألف ريال مثلا إلى أجل فيقول له : المطلوب منه : العشرة باثني عشرة ، أو بخمسة عشر ريالا ، ويتواطآن على ذلك ثم يجريان بيعا صوريا يحقق بيع النقود بالسعر المتواطأ عليه ، وهذا محرم ؛ لأن المقصود منه بيع ريالات نقدا بأكثر منها
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462),مسند أحمد بن حنبل (2/28).
(2) سنن أبو داود البيوع (3461).
إلى أجل ، والعقود تعتبر بمقاصدها ، لحديث : « إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى » (1) ، فكان هذا عين الربا مع زيادة المخادعة والاحتيال .
ومنها : أن يحتاج إنسان إلى نقود للاستهلاك أو للتوسع بها في تجارته مثلا ، فيشتري من آخر سلعة إلى أجل بأكثر من سعر مثلها حالا ، ليبيعها بعد قبضها على غير من اشتراها منه فهذه لا ربا فيها ، ولا يصدق فيها أنها بيعتان في بيعة فهي جائزة ، لعموم قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } (2) ولما صح من الأحاديث في جواز البيع لأجل وبيع السلم ، لكن إذا انتهز البائع فرصة حاجة المشتري فشق عليه في زيادة الثمن كثيرا كان ذلك مخالفا لسماحة الإسلام ومنافيا لواجب الأخوة والتراحم بين المسلمين ولمكارم الأخلاق ، وكان مدعاة إلى التقاطع والتدابر وتوليد الأحقاد ، ولهذا خطره وأثره السيئ في فساد المجتمع ، وقد ثبت في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « رحم الله امرءا سمحا إذا باع ، سمحا إذا اشترى ، سمحا إذا قضى ، سمحا إذا اقتضى » (3) رواه البخاري وابن ماجه .
ثالثا : يمكن القضاء على جشع من يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين بالأمور الآتية :
1 - التوعية الشاملة : يقوم العلماء بتبيين أنواع البيوع المحرمة ويحذرون الناس من التعامل بها ، لما فيها من التعرض لغضب الله
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1),صحيح مسلم الإمارة (1907),سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647),سنن النسائي الطهارة (75),سنن أبو داود الطلاق (2201),سنن ابن ماجه الزهد (4227),مسند أحمد بن حنبل (1/43).
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) صحيح البخاري البيوع (1970),سنن ابن ماجه التجارات (2203).
وسخطه ، ولما يترتب عليها من أخطار على الأمة وخاصة المحتاجين وما ينشأ عنها من أضرار اجتماعية ومالية من توليد الضغائن والأحقاد وتقطيع أواصر المحبة والإخاء وتكبيل من صاروا فريسة للتحايل في البيوع وسائر المعاملات ، والتلاعب فيها بكثرة الديون وتراكمها على الضعفاء وشغل القضاة وولاة الأمور بالخصومات ، ويكون ذلك بإلقاء الخطب والدروس بالمساجد والمحاضرات في النوادي والتلفزيون والإذاعة والمجتمعات العامة وبنشر المقالات في الصحف والمجلات ، فإن لذلك التأثير البين إن شاء الله على ذوي القلوب الحية والنفوس الطيبة ، وبه يخف الجشع والاحتيال لأكل الأموال بالباطل .
2 - ينصح الجمهور بالاقتصاد في النفقات فلا يتوسعوا في وسائل الترف ، وينصح من عنده رأس مال يتجر فيه ألا يدخل في مداينات أو معاملات محرمة ليتوسع بها في رأس ماله ، وليستغن بما آتاه الله وما أباحه له من طرق الاتجار والكسب الحلال عما حرمه الله عليه ، شكرا لنعمة الله عليه ، عسى أن يزيده الله سبحانه وتعالى من فضله .
3 - الأخذ على يد المتلاعبين في المعاملات : يقوم ولاة الأمور بمراقبة الأسواق العامة والمحلات التجارية لمعرفة ما يجري فيها من المعاملات المحرمة . . ويأخذون على يد من حصل منه ذلك فيعزرونه بما يردعه من حبس أو ضرب أو غرامات مالية أو بمصادرة العوض في المعاملة المحرمة إلى أمثال هذا مما يرونه زاجرا للمسيء ولأمثاله الذين لم يستجيبوا للتوعية والإرشاد ، ولم تؤثر فيهم الدروس والمواعظ فلم يعبؤوا بالتحذير ، ولم يبالوا بالوعيد والجزاء ، وهذا مما يقضي على جشعهم أو
يقلله إن شاء الله ، ويجعلهم على حذر مستمر من الاستغلال السيئ والكسب المحرم .
4 - توجيه الزراع إلى بنك التسليف الزراعي ، ليتعاملوا معه فيأخذوا منه ما يحتاجونه لمزارعهم من الآلات الزراعية وغيرها بأسعار معتدلة تدفع على أقساط مناسبة دون ربا أو إرهاق أو استغلال للظروف .
5 - توجيه من يريد بناء مسكن له أو من يريد التوسع في بناء مساكن للإسهام في حل أزمة المساكن ، ولينتفع بذلك - إلى صندوق التنمية والاستثمار العقاري ليقدم إليه من المال ما يستعين به في إقامة ما يريد من بناء ثم يسدد ما أخذه أقساطا لا يشق عليه الوفاء بها في مواعيدها دون أن يتقاضى الصندوق على ذلك منه ربا .
6 - إرشاد من يحتاج إلى قرض لشئون أخرى يحتاجها في حياته أن يتقدم إلى البنك الإسلامي أو أحد الأفراد الأغنياء بإبداء حاجته ليعطيه قرضا بلا ربا يسد به حاجته .
والله ولي التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
هيئة كبار العلماء
. .
رئيس الدورة الحادية عشرة
عبد الله خياط
عبد المجيد حسن ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن صالح
سليمان بن عبيد ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
راشد بن خنين ... عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن غديان
عبد الله بن منيع ... محمد الحركان ... صالح بن لحيدان
عبد الله بن قعود ... صالح بن غصون ... محمد بن جبير
(4)
كيفية الإمساك والإفطار في
رمضان وضبط أوقات الصلاة
في بعض البلدان
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
كيفية الإمساك والإفطار في رمضان
وضبط أوقات الصلاة في بعض البلدان
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ، وبعد :
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الرسالة الواردة من معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بالمملكة بتاريخ 16 / 1 / 1398 هـ إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد والتي يذكر فيها أنه تلقى كتابا من رئيس رابطة الجمعيات الإسلامية في مدينة (مالمو) بالسويد يفيد بأن الدول الإسكندنافية يطول نهارها صيفا ويقصر شتاء ، نظرا لوضعها الجغرافي ، كما أن المناطق الشمالية منها لا تغيب عنها الشمس إطلاقا في الصيف وعكسه في الشتاء ، ويسأل المسلمون فيها عن كيفية الإمساك والإفطار في رمضان ، وكذلك كيفية ضبط أوقات الصلاة في هذه البلدان ويرجو إصدار فتوى في ذلك ؟
وبناء على ما اقترحه سماحة الرئيس العام من عرض هذا الموضوع على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية عشرة ، لما له من صفة العموم
وما رآه من إعداد اللجنة الدائمة بحثا في ذلك - ذكرت اللجنة نقولا عن الفقهاء تتضمن آراءهم في الموضوع ، مع استدلال كل منهم لما ذهب إليه ، لينظره المجلس ، ويتخذ ما يراه حول هذا الموضوع .
وفيما يلي
ذكر النقول مع الأدلة
، والله الموفق :قال الكمال بن الهمام في [فتح القدير] (1) : ( ومن لا يوجد عندهم وقت العشاء ، كما قيل يطلع الفجر قبل غيبوبة الشفق عندهم أفتى البقالي بعدم الوجوب عليهم لعدم السبب ، وهو مختار صاحب [الكنز] ، كما يسقط غسل اليدين من الوضوء عن مقطوعهما من المرفقين ، وأنكره الحلواني ثم وافقه ، وأفتى الإمام البرهاني الكبير بوجوبها . ولا يرتاب متأمل في ثبوت الفرق بين عدم محل الغرض وبين عدم سببه الجعلي الذي جعل علامة على الوجوب الخفي الثابت في نفس الأمر وجواز تعدد المعرفات للشيء ، فانتفاء الوقت انتفاء للمعرف وانتفاء الدليل على الشيء لا يستلزم انتفاءه ، لجواز دليل آخر . وقد وجد وهو ما تواطأت عليه أخبار الإسراء من فرض الله الصلاة خمسا بعد ما أمروا أولا بخمسين ثم استقر الأمر على الخمس شرعا عاما لأهل الآفاق ، لا تفصيل فيه بين أهل قطر وقطر ، وما روي : « ذكر الدجال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قلنا : ما لبثه في الأرض؟ قال : "أربعون يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم " فقيل : يا رسول الله ، اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم ،
__________
(1) [فتح القدير] (1 \ 156) .
قال : لا ، اقدروا له » (1) رواه مسلم (2) ، فقد أوجب فيه ثلاثمائة عصر قبل صيرورة الظل مثلا أو مثلين وقس عليه ، فاستفدنا أن الواجب في نفس الأمر خمس على العموم ، غير أن توزيعها على تلك الأوقات عند وجودها فلا يسقط بعدمها الوجوب- وكذا قال صلى الله عليه وسلم : « خمس صلوات كتبهن الله على العباد » (3) ، ومن أفتى بوجوب العشاء يجب على قوله الوتر) اهـ . كلام الكمال بن الهمام .
__________
(1) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937),سنن أبو داود الملاحم (4321),سنن ابن ماجه الفتن (4075),مسند أحمد بن حنبل (4/182).
(2) رواه مسلم برقم 2937 .
(3) سنن النسائي الصلاة (461),سنن أبو داود الصلاة (1420),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1401),مسند أحمد بن حنبل (5/322),موطأ مالك النداء للصلاة (270),سنن الدارمي الصلاة (1577).
وقال الزيلعي في شرحه على [الكنز] (1) :
( من لم يجد وقت العشاء والوتر بأن كان في بلد يطلع الفجر فيه ، كما تغرب الشمس أو قبل أن تغيب الشفق لم يجبا عليه ، لعدم السبب وهو الوقت ، وذكر المرغيناني : أن الشيخ برهان الدين الكبير أفتى بأن عليه صلاة العشاء ، ثم إنه لا ينوي القضاء في الصحيح ، لفقد وقت الأداء ، وفيه نظر ؛ لأن الوجوب بدون السبب لا يعقل ، وكذا إذا لم ينو القضاء يكون أداء ضرورة ، وهو فرض الوقت ، ولم يقل به أحد ، إذ لا يبقى وقت العشاء بعد طلوع الفجر إجماعا) اهـ .
وكتب الشلبي في حواشيه على [شرح الزيلعي ] قوله . (بأن كان في بلد يطلع الفجر فيه . . إلخ) ، قال العيني : (ويذكر أن بعض أهل بلغار لا يجدون في كل سنة وقت العشاء أربعين ليلة ، فإن الشمس كما تغرب من ناحية المغرب يظهر الفجر من المشرق) ا هـ .
__________
(1) رواه مسلم (1 ظ \81) .
قوله : ( أفتى بأن عليه صلاة العشاء . . إلخ ) وردت هذه الفتوى من بلغار على شمس الأئمة الحلواني ، فأفتى بقضاء العشاء ، ثم وردت بخوارزم على الشيخ الكبير سيف السنة البقالي ، فأفتى بعدم الوجوب ، فبلغ جوابه الحلواني فأرسل من يسأله في عامته بجامع خوارزم : ما تقول فيمن أسقط من الصلوات الخمس واحدة يكفر؟ فأحس به الشيخ فقال : ما تقول فيمن قطع يداه من المرفقين أو رجلاه من الكعبين كم فرائض وضوئه؟ قال : ثلاث لفوات محل الرابع ، قال : وكذلك الصلاة الخامسة ، فبلغ الحلواني جوابه فاستحسنه ووافقه فيه (اهـ) . من [المجتبى] . قال العلامة كمال الدين بن الهمام رحمه الله تعالى : ولا يرتاب متأمل في ثبوت الفرق بين عدم محل الغرض وبين عدم سببه الجعلي الذي جعل علامة على الوجوب الخفي الثابت في نفس الأمر . . إلخ .
وقال العلامة ابن عابدين في حواشيه على [الدر المختار] (1) : لم أر من تعرض عندنا دع صومهم فيما إذا كان يطلع الفجر عندهم كما تغيب الشمس أو بعده بزمان لا يقدر فيه الصائم على أكل ما يقيم بنيته ، ولا يمكن أن يقال لوجوب موالاة الصوم عليهم ؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك ، فإن قلنا : بوجوب الصوم يلزم القول بالتقدير ، وهل يقدر ليلهم بأقرب البلاد إليهم كما قال الشافعية " أم يقدر لهم بما يسع الأكل والشرب ، أم يجب عليهم القضاء فقط دون الأداء؟ كل محتمل فليتأمل ، ولا يمكن القول هنا بعدم الوجوب أصلا كالعشاء عند القائل به فيها ؛ لأن علة عدم الوجوب فيها عند
__________
(1) (1 \339) .
القائل به عدم السبب ، وفي الصوم قد وجد السبب ، وهو شهود جزء من الشهر ، وطلوع فجر كل يوم ، هذا ما ظهر لي ، والله أعلم .
وقال في [ إمداد الفتاح ] : وكذلك يقدر لجميع الآجال ، كالصوم والزكاة والحج والعدة وآجال البيع والسلم والإجارة ، وينظر ابتداء اليوم فيقدر كل فصل من الفصول الأربعة بحسب ما يكون كل يوم من الزيادة والنقص كذا في كتب الشافعية ، ونحن نقول بمثله إذ أصل التقدير مقول ، إجماعا في الصلوات اهـ . نقله عنه ابن عابدين في (1) .
__________
(1) (1 \ 338)
قال الشيخ محمد عرفة الدسوقي في أوقات الصلاة (1) : ما ذكره المصنف من أن مبدأ المختار للظهر من زوال الشمس إلى هنا كله بالنسبة لغير زمن الدجال ، وأما في زمنه فيقدر للظهر وغيرها بالنسبة لغير زمانه ، ثم إن بعض البلاد السنة فيها يوم وليلة ، وحينئذ فيقدرون لكل صلاة كزمن الدجال ، وفي بعض البلاد الليل من المغرب للعشاء ، فيخرج الفجر وقت العشاء ، فعند الحنفية تسقط عنهم العشاء ، وعند الشافعية يقدرون بأقرب البلاد إليهم ، ولا نص عندنا ، ولكن استظهر بعضهم الرجوع في ذلك لمذهب الشافعي ، كذا قرر شيخنا .
__________
(1) [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير] (1 \ 156) .
وقال الشيخ أحمد الدردير في [شرحه الكبير على مختصر خليل] : وإن التبست عليه الشهور فلم يعرف رمضان من غيره . عرف الأهلة أم لا ( وظن شهرا ، أنه رمضان (صامه وإلا) يظهر ، بل تساوت عنده الاحتمالات (تخير) شهرا وصامه ، فإن فعل ما طلب منه فله أحوال أربعة ، أشار لأولها
بقوله : (وأجزأ ما بعده) أي : إن تبين أن ما صامه في صورتي الظن والتخيير هو ما بعد رمضان أجزأ ويكون قضاء عنه ، وثابت نية الأداء عن القضاء ويعتبر في الإجزاء مساواتهما (بالعدد) ، فإن تبين أن ما صامه شوال وكان هو ورمضان كاملين أو ناقصين قضى يوما عن يوم العيد ، وإن كان الكامل رمضان فقط قضى يومين وبالعكس لا قضاء ، وإن تبين أن ما صامه ذو الحجة فإنه لا يعتد بالعيد وأيام التشريق ، ولثانيها وثالثها بقوله : (لا) إن تبين أن ما صامه (قبله) ولو تعددت السنون (أو بقي على شكله) في صومه لظن أو تخيير فلا يجزئ فيهما ، وقال ابن الماجشون وأشهب وسحنون : يجزئه في البقاء على الشك ؛ لأن فرضه الاجتهاد ، وقد فعل ما يجب عليه فهو على الجواز حتى ينكشف خلافه ، ورجحه ابن يونس ، ولرابعها بقوله : (وفي) الإجزاء عند (مصادفته) في صومه تخييرا ، وهو المعتمد وعدمه (تردد) فإن صادفه في صومه ظنا فجزم اللخمي بالإجزاء من غير تردد) (1) .
__________
(1) (1\476) .
وقال الحطاب في [مواهب الجليل على مختصر خليل ] (1) : الخامس : ورد في [ صحيح مسلم ] « أن مدة الدجال أربعون يوما ، وإن فيها يوما كسنة ، ويوما كشهر ، ويوما كجمعة ، وسائر أيامه كأيامنا ، فقال الصحابة رضي الله عنهم : يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال : لا ، اقدروا له قدره » (2) ، قال القاضي عياض : في هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع ، قال : ولو وكلنا إلى
__________
(1) (1 \388 ) .
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937),سنن الترمذي الفتن (2240),سنن أبو داود الملاحم (4321),سنن ابن ماجه الفتن (4075),مسند أحمد بن حنبل (4/182).
اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام ، ونقله عنه النووي وقبله ، وقال بعده : ومعنى : " اقدروا له قدره " أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم فصلوا الظهر ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر فصلوا العصر فإذا مضى بعدها قدر ما يكون بينها وبين المغرب فصلوا المغرب ، وكذا العشاء والصبح ، وهكذا إلى أن ينقضي ذلك اليوم ، وقد وقع فيه صلوات سنة كلها فرائض مؤداة في وقتها .
وأما اليوم الثاني الذي كشهر والثالث الذي كجمعة ، فقياس اليوم الأول أن يقدر لهما كاليوم الأول على ما ذكرنا ، والله تعالى أعلم ، انتهى . ومثل ذلك الأيام الذي تحجب الشمس فيها عن الطلوع عند إرادة الله سبحانه وتعالى طلوعها من مغربها ، ذكره ابن فرحون في الألغاز ، وقال : هذا الحكم نص عليه الشارع قلت : ومثله ما ذكره القرافي في [كتاب اليواقيت] عن الشافعية في قطر يطلع فيه الفجر قبل غروب الشفق قال : فكيف يصنع بالعشاء ، وهل تصلى الصبح قبل مغيب الشفق ، وهل يحكم على العشاء بالقضاء ، فذكر عن إمام الحرمين أنه قال : لا تصلى العشاء حتى يغيب الشفق ولا تكون قضاء لبقاء وقتها ويتحرى بصلاة الصبح فجرمن يليهم من البلاد ولا يعتبر الفجر الذي لهم ، انتهى باختصار ، وكأنه ارتضاه) . السادس : قال القرافي في [كتاب اليواقيت] : مسألة من نوادر أحكام الأوقات إذا زالت الشمس ببلد من بلاد المشرق وفيها ولي فطار إلى بلد من بلاد المغرب فوجد الشمس كما طلعت ، فقال بعض العلماء : إنه مخاطب بزوال البلد الذي يوقع فيها الصلاة ؛ لأنه صار من أهلها . انتهى .
(قلت) : وانظر على هذا لو صلى الظهر في البلد الذي زالت عليه فيه الشمس ثم جاء إلى البلد الآخر ، والظاهر أنه لا يطالب بإعادة الصلاة ؛ لأنه كان مخاطبا بزوال البلد الذي أوقع فيها الصلاة وسقط عنه الوجوب بإيقاعها فيه ولم يكلف الله بصلاة في يوم واحد مرتين فانظره .
وقال أيضا : (ومن لا تمكنه رؤية ولا غيرها - كأسير - كمل الشهور) ابن بشير .
لا شك أن الأسير إذا كان مطلقا أنه يبني على الرؤية أو العدد وإن كان في مهواة لا يمكنه التوصل إلى الرؤية بنى على العدد فأكمل كل شهر ثلاثين يوما (وإن التبست وظن شهرا صامه) ابن بشير ، إن التبست عليه الشهور اجتهد وبنى على ظنه (وإلا تحرى) ابن عبدون وابن القاسم وعبد الملك وأشهب .
إن أشكل رمضان على أسير أو تاجر ببلد حرب تحراه ، اللخمي صام أي شهر أحب (وأجزأ ما بعده) من المدونة إن التبست الشهور على أسير أو تاجر أو غيره في أرض العدو فصام شهرا ينوي به رمضان ، فإن كان قبله لم يجزه ، وإن كان بعده أجزأه ، وإن لم يدر أصام قبله أو بعده فكذلك يجزئه حتى ينكشف أنه صام قبله قاله أشهب وعبد الملك وسحنون ، وقال ابن القاسم : يعيد إذ لا يزول فرض بغير يقين ( ابن يونس، وقول أشهب أبين ؛ لأنه صار فرضه إلى الاجتهاد ، وهو قد اجتهد وصام ، فهو على الجواز حتى ينكشف خلافه أصله من اجتهد في يوم غيم وصلى فلم يدر أصلى قبل الوقت أو بعده (بالعدد) من النكت من كتاب [أحكام القران] لابن عبد الحكم إذا صام شوالا فليقض يوم الفطر إن كان رمضان الذي أفطره مثل
عدد شوال الذي صامه من الأيام ، وإن كان شوال الذي صامه ثلاثين يوما ورمضان تسعة وعشرين يوما فلا شيء عليه ، وليس عليه قضاء يوم الفطر ؛ لأنه قد صام تسعة وعشرين يوما وليس عليه إلا عدة الأيام ( التي أفطر ) (لا قبله) تقدم نص المدونة إن كان قبله لم يجزئه ( أو بقي على شكه ) تقدم قول ابن القاسم قبل قوله بالعدد ( وفي مصادفته تردد ) ابن رشد إذا صام على التحري ثم خرج وعلم أنه أصابه بتحريه فلا يجزئه على مذهب ابن القاسم ، ويجزئه على مذهب أشهب وسحنون ( ابن عرفة ) ولم أجد ما ذكره عن ابن القاسم وأخذه من سماع عيسى بعيد ، وما ذكر اللخمي إلا الإجزاء خاصة ، وساقه كأنه المذهب ولم يعزه .
قال الشيرازي في [المهذب] (1) : وإن اشتبهت الشهور على أسير لزمه أن يتحرى ويصوم ، كما يلزمه أن يتحرى في وقت الصلاة وفي القبلة . فإن تحرى وصام فوافق الشهر أو ما بعده أجزأه ، فإن وافق شهرا بالهلال ناقصا وشهر رمضان الذي صامه الناس تاها ففيه وجهان :
أحدهما : يجزئه . وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله تعالى ؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين ، ولهذا لو نذر صوم شهر فصام شهرا ناقصا بالأهلة أجزأه .
والثاني : أنه يجب عليه صوم يوم ، وهو اختيار شيخنا القاضي أبي الطيب ، وهو الصحيح عندي ؛ لأنه فاته صوم ثلاثين وقد صام تسعة
__________
(1) [المجموع شرح المهذب] (6 \ 239- 242)
وعشرين يوما فلزمه صوم يوم .
وإن وافق صومه شهرا قبل رمضان . قال الشافعي : لا يجزئه . ولو قال قائل : يجزئه كان مذهبنا . قال أبو إسحاق المروزي : لا يجزئه ، قولا واحدا . وقال سائر أصحابنا فيه قولان :
أحدهما : يجزئه ؛ لأنه عبادة تفعل في السنة مرة . فجاز أن يسقط فرضها بالفعل قبل الوقت عند الخطأ ، كالوقوف بعرفة إذا أخطأ الناس ووقفوا قبل يوم عرفة .
والثاني : لا يجزئه ، وهو الصحيح ؛ لأنه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء . فلم يعتد له بما فعله . كما لو تحرى في وقت الصلاة قبل الوقت .
قال النووي : قوله : ( عبادة تفعل في السنة مرة ) احتراز من الخطأ في الصلاة قبل الوقت ، والاحتراز في قوله تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء سبق بيانه في استقبال القبلة . وهذا الذي قاسه على الوقوف بعرفة قبل يوم عرفة تفريع على الضعيف من الوجهين ، وهو أنه يجزئهم وبه قطع المصنف ، والأصح : أنه لا يجزئهم ، كما سنوضحه في بابه إن شاء الله تعالى .
أما أحكام هذا الفصل : فقال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى :
إذا اشتبه رمضان على أسير أو محبوس في مطمورة أو غيرهما وجب عليه الاجتهاد ، لما ذكره المصنف ، فإن صام بغير اجتهاد ووافق رمضان لم يجزئه بلا خلاف . كما قلنا فيمن اشتبهت عليه القبلة فصلى إلى جهة بغير اجتهاد ووافق ، أو اشتبه عليه وقت الصلاة فصلى بلا اجتهاد ووافق فإنه لا
يجزئه بلا خلاف ، ويلزمه الإعادة في الصوم وغيره بلا خلاف ، وإن اجتهد وصام فله أربعة أحوال :
( أحدها ) : أن يستمر الإشكال ولا يعلم أنه صادف رمضان أو تقدم أو تأخر ، فهذا يجزئه بلا خلاف ، ولا إعادة عليه ، وعلله الماوردي وغيره بأن الظاهر من الاجتهاد الإصابة .
( الحال الثاني ) : أن يوافق صومه رمضان فيجزئه بلا خلاف عندنا . قال الماوردي : وبه قال العلماء كافة إلا الحسن بن صالح فقال : عليه الإعادة ؛ لأنه صام شاكا في الشهر ، قال : ودليلنا إجماع السلف قبله ، وقياسا على من اجتهد في القبلة ووافقها ، وأما الشك فإنما يضر إذا لم يعتضد باجتهاد بدليل القبلة .
(الحال الثالث) : أن يوافق صومه ما بعد رمضان ، فيجزئه بلا خلاف ، نص عليه الشافعي رضي الله عنه ، واتفق عليه الأصحاب رحمهم الله تعالى ؛ لأنه صام بنية رمضان بعد وجوبه ، ولا يجيء فيه الخلاف في اشتراط نية القضاء المذكور في الصلاة ، وفرق الأصحاب بأن هذا موضع ضرورة ، ولكن هل يكون هذا الصوم قضاء أم أداء ؟
فيه وجهان مشهوران عند الخراسانيين وغيرهم . وحكاهما جماعة منهم قولين :
(أصحهما) : قضاء ؛ لأنه خارج وقته ، وهذا شأن القضاء .
( والثاني ) : أداء للضرورة ، قال أصحابنا : ويتفرع على الوجهين ما إذا كان ذلك الشهر ناقصا وكان رمضان تاما . وقد ذكر المصنف فيه الوجهين .
قال أصحابنا : إن قلنا : قضاء لزمه صوم يوم آخر ، وإن قلنا : أداء فلا يلزمه ،
كما لو كان رمضان ناقصا ( والأصح ) : أنه يلزمه ، وهذا هو مقتضى التفريع على القضاء والأداء . وصرح بتصحيحه القاضي أبو الطيب والمصنف ، والأكثرون ، وقطع به الماوردي .
ولو كان بالعكس فصام شهرا تاما وكان رمضان ناقصا ، فإن قلنا : قضاء فله إفطار اليوم الأخير وهو الأصح وإلا فلا . ولو كان الشهر الذي صامه ورمضان تامين أو ناقصين أجزأه بلا خلاف . هذا كله إذا وافق غير شوال وذي الحجة . فإن وافق شوالا حصل منه تسعة وعشرون يوما إن كمل ، وثمانية وعشرون يوما إن نقص ؛ لأن صوم العيد لا يصح . فإن جعلناه قضاء وكان رمضان ناقصا فلا شيء عليه إن تم شوال . ويقضي يوما إن نقص بدل العيد . وإن كان رمضان تاما قضى يوما إن تم شوال وإلا فيومين ، وإن جعلناه أداء لزمه قضاء يوم على كل تقدير بدل يوم العيد وإن وافق ذا الحجة حصل منه ستة وعشرون يوما إن تم ، وخمسة وعشرون يوما إن نقص ؛ لأن فيه أربعة أيام لا يصح صومها : العيد ، وأيام التشريق ، فإن جعلناه قضاء وكان رمضان ناقصا قضى ثلاثة أيام إن تم ذو الحجة وإلا فأربعة أيام ، وإن كان رمضان تاما قضى أربعة إن تم ذو الحجة فخمسة ، وإن جعلناه أداء قضى أربعة أيام بكل حال . هكذا ذكر الأصحاب وهو تفريع على المذهب أن أيام التشريق لا يصح صومها . فإن صححناها لغير المتمتع فذو الحجة كشوال كما سبق .
(الحال الرابع) : أن يصادف صومه ما قبل رمضان ، فينظر إن أدرك رمضان بعد بيان الحال لزمه صومه بلا خلاف ، لتمكنه منه في وقته . وإن لم يبن الحال إلا بعد مضي رمضان فطريقان مشهوران ذكرهما المصنف
بدليلهما : (أحدهما) : القطع بوجوب القضاء ، وأصحهما وأشهرهما فيه قولان : ( أصحهما ) : وجوب القضاء (والثاني) : لا قضاء ، قال الخراسانيون : هذا الخلاف مبني على أنه إذا صادف ما بعد رمضان هل هو أداء أم قضاء؟ إن قلنا : أداء للضرورة أجزأه هنا ولا قضاء ؛ لأنه كما جعل أداء بعد وقته للضرورة كذا قبله . وإن قلنا : قضاء لم يجزئه ؛ لأن القضاء لا يكون قبل دخول الوقت . والصحيح : أنه قضاء ، فالصحيح وجوب القضاء هنا . وهذا البناء إنما يصح على طريقة من جعل الخلاف في القضاء والأداء قولين .
وأما من حكاه وجهين فلا يصح بناء قولين على وجهين ، ولو صام شهرا ثم بان له الحال! في بعض رمضان لزمه صيام ما أدركه من رمضان بلا خلاف . وفي قضاء الماضي منه طريقان : (أحدهما) : القطع بوجوبه . وأصحهما وأشهرهما أنه على الطريقين فيما إذا بان له بعد مضي جميع رمضان . والله أعلم .
(فرع) إذا صام الأسير ونحوه بالاجتهاد فصادف صومه الليل دون النهار لزمه القضاء بلا خلاف ؛ لأنه ليس وقتا للصوم ، فوجب القضاء كيوم العيد ، وممن نقل الاتفاق عليه البندنيجي .
( فرع ) ذكر المصنف في قياسه أنه لو تحرى في وقت الصلاة فصلى قبل الوقت أنه يلزمه الإعادة - يعني : قولا واحدا - ولا يكون فيه الخلاف الذي في الصوم إذا صادف ما قبل رمضان . وهذا على طريقته وطريقة من وافقه من العراقيين . وإلا فالصحيح : أن الخلاف جار في الصلاة أيضا وقد سبق بيانه في باب مواقيت الصلاة ، وفي باب الشك في نجاسة الماء . وذكرنا
هناك أن منهم من طرد الخلاف في المجتهد في الأواني إذا تيقن أنه توضأ بالماء النجس وصلى ، هل تلزمه إعادة الصلاة ؟ ويقرب منه الخلاف في تيقن الخطأ في القبلة . وفي الصلاة بنجاسة جاهلا أو ناسيا ، أو نسي الماء في رحله وتيمم ، أو نسي ترتيب الوضوء ، أو نسي الفاتحة في الصلاة ، أو صلوا صلاة شدة الخوف لسواد رأوه فبان أنه ليس عدوا أو بان بينهم خندق ، أو دفع الزكاة إلى من ظاهره الفقر من سهم الفقراء فبان غنيا ، أو أحج عن نفسه لكونه معضوبا فبرأ ، أو غلطوا ووقفوا بعرفات في اليوم الثامن .
وفي كل هذه الصور خلاف بعضه كبعض ، وبعضه مرتب على بعض ، أو أقوى من بعض . والصحيح في الجميع : أنه لا يجزئه ، وكل هذه المسائل مقررة في مواضعها مبسوطة ، وقد سبقت مجموعة أيضا في باب طهارة البدن ، والله أعلم .
( فرع ) قد ذكرنا أن الأسير ونحوه إذا اشتبهت عليه الشهور يتحرى ويصوم بما يظهر بالعلامة أنه رمضان . فلو تحرى فلم يظهر له شيء قال ابن الصباغ : قال الشيخ أبو حامد : يلزمه أن يصوم على سبيل التخمين . ويلزمه القضاء كالمصلي إذا لم تظهر له القبلة بالاجتهاد فإنه يصلي ويقضي .
قال ابن الصباغ : هذا عندي غير صحيح ؛ لأن من لم يعلم دخول رمضان بيقين ولا ظن لا يلزمه الصيام ، كمن شك في وقت الصلاة ، فإنه لا يلزمه أن يصلي ، هذا كلام ابن الصباغ .
وذكر المتولي في المسألة وجهين :
(أحدهما) : قول الشيخ أبي حامد .
( والثاني ) : قال وهو الصحيح : لا يؤمر بالصوم ؛ لأنه لم يعلم دخول الوقت ، ولا ظنه فلم يؤمر به . كمن شك في دخول وقت الصلاة بخلاف القبلة . فإنه تحقق دخول وقت الصلاة ، وإنما عجز عن شرطها فأمر بالصلاة بحسب الإمكان لحرمة الوقت ، وهذا الذي قاله ابن الصباغ والمتولي هو الصواب ، وهو متعين ، ولعل الشيخ أبا حامد أراد إذا علم أو ظن أن رمضان قد جاء أو مضى ولم يعلم ولا ظن عينه ، لكنه لو كان هذا لكان يصوم ولا يقضي ؛ لأنه يقع صومه في رمضان أو بعده . والله أعلم . ا هـ .
وقال النووي في [روضة الطالبين] (1) :
أما الساكنون بناحية تقصر لياليهم ولا يغيب عنهم الشفق فيصلون العشاء إذا مضى من الزمان قدر ما يغيب في أقرب البلاد إليهم . ا هـ .
__________
(1) (1 \ 182)
وفي [المغني] لابن قدامة (1) :
( مسألة) : قال : وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير ، فإن صام شهرا يريد به شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه ، وإن وافق ما قبله لم يجزئه .
وجملته : أن من كان محبوسا أو مطمورا أو في بعض النواحي النائية عن الأمصار لا يمكنه تعرف الأشهر بالخبر فاشتبهت ، عليه الأشهر ، فإنه يتحرى ويجتهد ، فإذا غلب على ظنه عن أمارة تقوم في نفسه دخول شهر رمضان صامه ولا يخلو من أربعة أحوال :
أ -
__________
(1) (3 \ 96)
أحدها: أن لا يتكشف له الحال، فإن صومه صحيح ويجزئه؛ لأنه أدى فرضه باجتهاد، فأجزأه، كما لو صلى في يوم الغيم بالاجتهاد.
الثاني: أن ينكشف له أنه وافق الشهر أو ما بعده فإنه يجزئه في قول عامة الفقهاء، وحكي عن الحسن بن صالح أنه لا يجزئه في هاتين الحالتين؛ لأنه صامه على الشك فلم يجزئه كما لو صام يوم الشك فبان من رمضان وليس بصحيح؛ لأنه أدى فرضه بالاجتهاد في محله، فإذا أصاب أو لم يعلم الحال أجزأه كالقبلة إذا اشتبهت، أو الصلاة في يوم الغيم إذا اشتبه وقتها وفارق يوم الشك فإنه ليس بمحل الاجتهاد، فإن الشرع أمر بالصوم عند أمارة عينها فما لم توجد لم يجز الصوم.
الحال الثالث: وافق قبل الشهر فلا يجزئه في قول عامة الفقهاء، وقال بعض الشافعية : يجزئه في أحد الوجهين، كما لو اشتبه يوم عرفة فوقفوا قبله.
ولنا: أنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلم يجزئه كالصلاة في يوم الغيم، وأما الحج فلا نسلمه إلا فيما إذا أخطأ الناس كلهم لعظم المشقة عليهم، وإن وقع ذلك لنفر منهم لم يجزئهم؛ ولأن ذلك لا يؤمن مثله في القضاء بخلاف الصوم.
الحال الرابع: أن يوافق بعضه رمضان دون بعض فما وافق رمضان أو بعده أجزأه، وما وافق قبله لم يجزئه.
(فصل) وإذا وافق صومه بعد الشهر اعتبر أن يكون ما صامه بعدة أيام شهره الذي فاته، سواء وافق ما بين هلالين أو لم يوافق، وسواء كان الشهران تامين أو ناقصين، ولا يجزئه أقل من ذلك. وقال القاضي: ظاهر
كلام الخرقي أنه إذا وافق شهرا بين هلالين أجزأه، سواء كان الشهران تامين أو ناقصين أو أحدهما تاما والآخر ناقصا. وليس بصحيح فإن الله تعالى قال: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (1)
ولأنه فاته شهر رمضان فوجب أن يكون صيامه بعدة ما فاته؛ كالمريض والمسافر، وليس في كلام الخرقي تعرض لهذا التفصيل، فلا يجوز حمل كلامه على ما يخالف الكتاب والصواب، فإن قيل: أليس إذا نذر صوم شهر يجزئه ما بين هلالين، قلنا: الإطلاق يحمل على ما تناوله الاسم. والاسم يتناول ما بين الهلالين، وهاهنا يجب قضاء ما ترك، فيجب أن يراعي فيه عدة المتروك، كما أن من نذر صلاة أجزأه ركعتان، ولو ترك صلاة وجب قضاؤها بعدة ركعاتها، كذلك هنا الواجب بعدة ما فاته من الأيام، سواء كان ما صامه بين هلالين أو من شهرين، فإن دخل في صيامه يوم عيد لم يعتد به، وإن وافق أيام التشريق، فهل يعتد بها؟ على روايتين بناء على صحة صومها عن الفرض.
(فصل) وإن لم يغلب على ظن الأسير دخول رمضان فصام لم يجزئه وإن وافق الشهر؛ لأنه صامه على الشك فلم يجزئه، كما لو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فهو فرضي، وإن غلب على ظنه من غير أمارة فقال القاضي: عليه الصيام، ويقضي إذا عرف الشهر، كالذي خفيت عليه دلائل القبلة، ويصلي على حسب حاله ويعيد، وذكر أبو بكر فيمن خفيت عليه دلائل القبلة هل يعيد؟ على وجهين كذلك يخرج على قوله هاهنا. وظاهر
__________
(1) سورة البقرة الآية 184
كلام الخرقي أنه يتحرى، فمتى غلب على ظنه دخول الشهر صح صومه، وإن لم يبن على دليل؛ لأنه ليس في وسعه معرفة الدليل، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وقد ذكرنا مثل هذا في القبلة.
قال ابن حزم في [المحلى] (1) :
( مسألة) والأسير في دار الحرب إن عرف رمضان لزمه صيامه إن كان مقيما؛ لأنه مخاطب بصومه في القرآن، فإن سوفر به أفطر ولا بد؛ لأنه على سفر، وعليه قضاؤه؛ لما ذكرنا قبل، فإن لم يعرف الشهر وأشكل عليه سقط عنه صيامه ولزمته أيام أخر إن كان مسافرا وإلا فلا، وقال قوم: يتحرى شهرا يجزئه، وقال آخرون: إن وافق شهرا قبل رمضان لم يجزئه، وإن وافق شهرا بعد رمضان أجزأه؛ لأنه يكون قضاء عن رمضان .
قال علي: أما تحري شهر فيجزئه أو يجعله قضاء فحكم لم يأت به قرآن ولا سنة صحيحة ولا رواية سقيمة ولا إجماع ولا قول صاحب، وما كان هكذا فهو دعوى فاسدة لا برهان على صحتها، فإن قالوا: قسناه على من جهل القبلة، قلنا: هذا باطل؛ لأن الله تعالى لم يوجب التحري على من جهل القبلة، بل من جهلها فقط سقط عنه فرضها فيصلي كيف شاء، فإن قالوا: قسناه على من خفي عليه وقت الصلاة، قلنا: وهذا باطل أيضا؛ لأنه لا تجزئه صلاة إلا حتى يوقن بدخول وقتها.
قال أبو محمد : وبرهان صحة قولنا قول الله تعالى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (2)
__________
(1) [المحلى] (6\261،262)
(2) سورة البقرة الآية 185
فلم يوجب الله تعالى صيامه إلا على من شهده، وبالضرورة ندري أن من جهل وقته فلم يشهده، قال الله عز وجل: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (1) وقال تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (2)
فمن لم يكن في وسعه معرفة دخول رمضان فلم يكلفه الله تعالى صيامه بنص القرآن، ومن سقط عنه صوم الشهر فلا قضاء عليه؛ لأنه صوم غير ما أمر الله تعالى به.
فإن صح عنده بعد ذلك أنه كان فيه مريضا أو مسافرا فعليه ما افترض الله تعالى على المريض فيه، والمسافر فيه، وهو عدة من أيام أخر فيقضي الأيام التي سافر والتي مرض فقط ولا بد، وإن لم يوقن بأنه مرض فيه أو سافر فلا شيء عليه، وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة الحج الآية 78
قال الشيخ حسنين مخلوف في [الفتاوى]: صيام رمضان في شمال أوروبا :
( السؤال والجواب) تلقى فضيلة المفتي استفتاء من أعضاء البعثات المصرية عن حكم الشريعة الغراء في صيام رمضان للمسلمين المقيمين في شمال أوروبا حيث تبلغ مدة الصوم فيه 19 ساعة، وقد تزيد إلى 22 ساعة أو أكثر . فأرسل فضيلته إليهم بالطائرة الفتوى الآتي نصها ومهد فيها بما يحبب إليهم الصلاة والصوم خوفا عليهم من الافتتان في هذه البلاد:
إن التشريع الإسلامي في العبادات قد بني على توثيق الصلات بين العبد
وربه وحسن قيام العباد بحق الله تعالى الذي أفاض عليهم نعمة الوجود ومن عليهم بالفضل والجود والخير والإحسان: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا } (1)
فهي تربية وتهذيب ونظام وإصلاح يرقى بالفرد والمجتمع إلى مراقي السعادة والفلاح، ورأسها وعمادها الصلاة، وهي مناجاة بالقلب واللسان بين العبد ومولاه يشهد فيها العبد افتقاره لخالقه وإحسان الخالق إليه استغنائه عنه، ولعلم عن يقين أن الأمر كله لله، وأن لا معبود بحق سواه، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
من أهمها الصيام، وهو رياضة روحية تعد النفوس البشرية للسمو إلى معارج الكمال والتحليق في أجواء العلم والعرفان، وتعودها الصبر والثبات والقوة والعزة، وتصفيها من الشوائب المادية والعوائق الجسمية، وتبغض إليها المآثم والمنكرات، وتحبب إليها الفضائل والمكرمات. وقد بني تشريع الصوم كما بني التشريع الإسلامي عامة على السماحة والتيسير، والطاقة والرفق بالناس، فلم يكن فيه إعنات ولا إرهاق، ولم يكن فيه حرج لا عسر، قال تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (2)
وقال في الصوم: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (3)
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 34
(2) سورة الحج الآية 78
(3) سورة البقرة الآية 185
وقال عليه الصلاة والسلام: « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » (1) ، وفي الحديث الصحيح: « سددوا وقاربوا » (2) .
هذه السماحة وهذا اليسر قد ظهرا جليا في فريضة الصوم في الترخيص بالفطر للمسافر، ولو كان صحيحا؛ لما يلازم السفر غالبا من المشقات والمتاعب ، وللمريض لضعف احتماله وحاجته إلى الغذاء والدواء حتى لا تتفاقم علته أو يبطئ برؤه، ولمن ماثلهما في الضرورة والاحتياج إلى الفطر؛ كالحامل التي تخاف على نفسها أو جنينها المرض أو الضعف، والمرضع التي تخشى ذلك على نفسها أو رضيعها والطاعن في السن الذي لا يقدر على الصوم .
فأباح الإسلام لهؤلاء فطر رمضان، على أن يقضي كل من المسافر والمريض والحامل والمرضع ما أفطره في أيام أخر خالية من هذه الأعذار، وعلى أن يخرج الشيخ الفاني فدية الصوم عن كل يوم أفطره حسبما بين في الفقه.
والصوم الشرعي يبتدئ من طلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس كل يوم، فتختلف مدته باختلاف عروض البلاد، وكيفما كانت المدة، فإن مجرد طولها لا يعد عذرا شرعيا يبيح الفطر, وإنما يباح الفطر إذا غلب على ظن الإنسان بأمارة ظهرت أو تجربة وقعت, أو بإخبار طبيب حاذق أن
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6858),صحيح مسلم الحج (1337),سنن النسائي مناسك الحج (2619),سنن ابن ماجه المقدمة (2),مسند أحمد بن حنبل (2/508).
(2) صحيح البخاري الرقاق (6099),صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2818),مسند أحمد بن حنبل (6/125).
صومه هذه المدة يفضي إلى مرضه أو إلى إعياء شديد يضره، كما صرح به أئمة الحنفية فيكون حكم المريض الذي يخشى التلف، أو أن يزيد مرضه أو يبطئ شفاؤه إذا صام.
هذا هو المبدأ العام في رخصة الفطر، وفي التيسير على المكلفين، وكل امرئ بصير بنفسه عليم بحقيقة أمره يعرف مكانها من حل الفطر وحرمته.
فإذا كان صومه المدة الطويلة يؤدي إلى إصابته بمرض أو ضعف أو إعياء يقينا أو في غالب الظن بإحدى الوسائل العلمية التي أومأنا إليها حل له الترخص بالفطر، وإذا كان لا يؤدي إلى ذلك حرم عليه الفطر، والناس في ذلك مختلفون ولكل حالة حكمها، والله يعلم السر وأخفى.
وقال أيضا: صوم رمضان في الأقطار التي لا تطلع فيها الشمس أشهرا أو يطول النهار فيها كثيرا .
السؤال: تقيم كريمتي وزوجها الآن في ألمانيا، وقد كتبت إلي تستفهم عن الواجب عليها وعلى المسلمين هناك في شهر رمضان بالنسبة إلى الصيام حيث تقول: إن الشمس تستمر طالعة 20 ساعة، وتختفي أربع ساعات، فهل يلزمهم الصيام قبل طلوع الشمس بساعة ونصف وهو وقت طلوع الفجر وعلى ذلك فيصومون إحدى وعشرين ساعة ونصفا ويفطرون ساعتين ونصفا أم ماذا؟ وما حكم الصلاة أيضا في هذه البلاد وكذلك في البلاد التي تستمر فيها الشمس طالعة نحو ستة أشهر وتغيب نحو ستة أشهر .
هذا ما نريد الاستفهام عنه فلعلنا نظفر في وقت قريب بما يزيل العقبات
عن المقيمين في تلك البلاد ببيان حكم الله تعالى؛ تيسيرا عليهم وتبيانا لسماحة الدين؟
الجواب: اطلعنا على هذا السؤال ونفيد بأنه فيما يختص بالبلاد التي تغيب فيها الشمس ستة أشهر أو نحو ذلك.
اختلف الفقهاء في وجوب الصلاة على المقيمين بها وعدم وجوبها:
فقال بعضهم: لا تجب عليهم الصلاة؛ لعدم وجود السبب وهو الوقت. وقال بعضهم: تجب عليهم الصلاة، وعليهم أن يقدروا لها أوقاتها بالقياس على أقرب البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم، والقول الأخير: قول الشافعية، وهو قول مصحح عند الحنفية، وهو الذي اخترناه للفتوى؛ مراعاة لحكمة تشريع الصلاة.
وفيما يختص بصوم أهل هذه البلاد فإنه واجب عليهم، وعليهم أن يتحروا عن دخول شهر رمضان وعن مدة الصيام فيه بالقياس على أقرب البلاد التي شهد أهلها الشهر، وعرفوا وقت الإمساك والإفطار فيه، وهو كذلك مذهب الشافعية الذي اخترناه للفتوى.
وأما البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم إلا أن مدة طلوعها تبلغ نحو عشرين ساعة، فبالنسبة للصلاة يجب عليهم أداؤها في أوقاتها؛ لتميزها تميزا ظاهرا. وبالنسبة للصوم يجب عليهم الصوم في رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس هناك، إلا إذا أدى الصوم إلى الضرر بالصائم وخاف من طول مدة الصوم الهلاك أو المرض الشديد فحينئذ يرخص له الفطر، ولا يعتبر في ذلك مجرد الوهم والخيال، وإنما المعتبر غلبة الظن بواسطة الأمارات أو التجربة أو إخبار الطبيب الحاذق بأن الصوم
يفضي إلى الهلاك أو المرض الشديد أو زيادة المرض أو بطء البرء، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فلكل شخص حالة خاصة.
وعلى من أفطر في كل هذه الأحوال قضاء ما أفطره بعد زوال العذر الذي رخص له من أجله الفطر. والله تعالى أعلم.
والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
القرار رقم (61) وتاريخ 12\4\1398هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية عشرة المنعقدة بالرياض في الأيام الأولى من شهر ربيع الآخر عام 1398 هـ كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة رقم (555) وتاريخ 16\1\1398هـ المتضمن ما جاء في خطاب رئيس رابطة الجمعيات الإسلامية في مدينة ( مالمو ) بالسويد الذي يفيد فيه بأن الدول الإسكندنافية يطول فيها النهار في الصيف ويقصر في الشتاء؛ نظرا لوضعها الجغرافي، كما أن المناطق الشمالية منها لا تغيب عنها الشمس إطلاقا في الصيف، وعكسه في الشتاء، ويسأل المسلمون فيها عن كيفية الإفطار والإمساك في رمضان، وكذلك كيفية ضبط أوقات الصلوات في هذه البلدان.
ويرجو معاليه إصدار فتوى في ذلك؛ ليزودهم بها (اهـ).
وعرض على المجلس أيضا ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ونقول أخرى عن الفقهاء في الموضوع، وبعد الاطلاع والدراسة والمناقشة قرر المجلس ما يلي:
أولا: من كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس إلا أن نهارها يطول جدا في الصيف ويقصر في الشتاء - وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعا؛ لعموم قوله تعالى: { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } (1)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 78
وقوله تعالى : { إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } (1)
ولما ثبت عن بريدة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم « أن رجلا سأله عن وقت الصلاة، فقال له: صل معنا هذين يعني: اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمر فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال: "أين السائل عن وقت الصلاة؟" فقال الرجل: أنا يا رسول الله قال: "وقت صلاتكم بين ما رأيتم » (2) رواه البخاري ومسلم .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان » (3) أخرجه مسلم في [صحيحه] .
__________
(1) سورة النساء الآية 103
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (613),سنن النسائي المواقيت (519),سنن ابن ماجه الصلاة (667),مسند أحمد بن حنبل (5/349).
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (612),مسند أحمد بن حنبل (2/210).
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في تحديد أوقات الصلوات الخمس قولا وفعلا، ولم تفرق بين طول النهار وقصره وطول الليل وقصره ما دامت أوقات الصلوات متمايزة بالعلامات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم، وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان، فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم، ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل، وكان مجموع زمانهما أربعا وعشرين ساعة، ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوها في ليلهم فقط، وإن كان قصيرا، فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد، وقد قال الله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } (1)
ومن عجز عن إتمام صوم يوم لطوله أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى إهلاكه أو مرضه مرضا شديدا، أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطء برئه أفطر ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء، قال تعالى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (2) وقال الله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 187
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة البقرة الآية 286
وقال: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (1)
ثانيا: من كان يقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفا ولا تطلع فيها الشمس شتاء أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها ستة أشهر مثلا - وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة، وأن يقدروا لها أوقاتها ويحددوها معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها من بعض؛ لما ثبت في حديث الإسراء والمعراج من « أن الله تعالى فرض على هذه الأمة خمسين صلاة كل يوم وليلة فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه التخفيف حتى قال: (يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة . .) » (2) إلى آخره.
ولما ثبت من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة" فقال: هل علي غيرهن؟ قال: "لا إلا أن تطوع » (3) .." الحديث.
ولما ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: « نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد, أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك قال: صدق، إلى أن قال:
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) صحيح البخاري بدء الخلق (3035),صحيح مسلم الإيمان (162),مسند أحمد بن حنبل (3/149).
(3) صحيح البخاري الإيمان (46),صحيح مسلم الإيمان (11),سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5028),سنن أبو داود الصلاة (391),مسند أحمد بن حنبل (1/162),موطأ مالك النداء للصلاة (425),سنن الدارمي الصلاة (1578).
وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: صدق، قال فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا، قال: نعم.. » (1) الحديث.
وثبت « أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه عن المسيح الدجال فقالوا: ما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، فقيل: يا رسول الله، اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له » (2) ، فلم يعتبر اليوم الذي كسنة يوما واحدا يكفي فيه خمس صلوات، بل أوجب فيه خمس صلوات في كل أربع وعشرين ساعة، وأمرهم أن يوزعوها على أوقاتها اعتبارا بالأبعاد الزمنية التي بين أوقاتها في اليوم العادي في بلادهم.
فيجب على المسلمين في البلاد المسئول عن تحديد أوقات الصلوات فيها أن يحددوا أوقات صلاتهم معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم يتمايز فيها الليل من النهار وتعرف فيها أوقات الصلوات الخمس بعلاماتها الشرعية في كل أربع وعشرين ساعة.
وكذلك يجب عليهم صيام شهر رمضان، وعليهم أن يقدروا لصيامهم فيحددوا بدء شهر رمضان ونهايته وبدء الإمساك والإفطار في كل يوم منه ببدء الشهر ونهايته وبطلوع فجر كل يوم وغروب شمسه في أقرب بلاد إليهم يتميز فيها الليل من النهار، ويكون مجموعهما أربعا وعشرين ساعة؛ لما تقدم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن المسيح الدجال وإرشاده أصحابه فيه عن كيفية تحديد أوقات الصلوات فيه، إذ لا فارق في ذلك بين الصوم الصلاة.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (63),صحيح مسلم الإيمان (12),سنن الترمذي الزكاة (619),سنن النسائي الصيام (2091),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1402),مسند أحمد بن حنبل (3/168),سنن الدارمي الطهارة (650).
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937),سنن الترمذي الفتن (2240),سنن أبو داود الملاحم (4321),سنن ابن ماجه الفتن (4075),مسند أحمد بن حنبل (4/182).
والله ولي التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد العزيز بن صالح
عبد الله خياط ... عبد الله بن حميد ... عبد العزيز بن باز
عبد المجيد حسن ... محمد الحركان ... عبد الرزاق عفيفي
محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... راشد بن خنين
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين . . . أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد امتن على عباده في كتابه الكريم حيث يقول عز وجل: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (1)
والمعنى: أن الله سبحانه يذكر عباده بأول خلقهم وبدايته حين ولدوا وهم لا يعلمون شيئا, ولا يدركون بحواسهم لا المرئي ولا المسموع, ولا تعقل قلوبهم شيئا, ثم إنه سبحانه يمن على عباده بهذه الآلات السمع والبصر والفؤاد, التي هي أصول آلات الإدراك, فبالسمع يدرك المسموعات, وبالبصر يدرك المرئيات وبالقلب يعقل ما رأى وما سمع, بل وما لم يسمع مما يحس به, ثم إنه سبحانه لما بين لعباده عظيم منته ونعمته عليهم ختم الآية بقوله: { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (2) أي: أن الله سبحانه إنما خلق هذه الآلات لكم لتقوموا بحق الله فيها من الشكر, وهذا كقوله سبحانه: { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } (3)
وشكر الله على هذه النعم وغيرها من النعم إنما يكون باستعمالها في طاعته سبحانه, وما يقرب إلى مرضاته, وإن أعظم ما استعملت فيه هذه
__________
(1) سورة النحل الآية 78
(2) سورة النحل الآية 78
(3) سورة الملك الآية 23
الآلات هو طلب العلم, وقد أشار الله عز وجل إلى ذلك في الآية الكريمة حيث قال: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا } (1)
إذن فاستعمال تلك الحواس في طلب العلم الشرعي هو من أعظم الأمور التي بها يكون شكر الله على إنعامه علينا بهذه النعم؛ ذلك أنا لا نستطيع عبادة الله حق العبادة ولا القيام بحقه علينا إلا بالعلم بما أراده منا مما أخبرنا به في كتابه, أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد نوه الله سبحانه وتعالى بمكانة هذا العلم الشرعي ومكانة أهله في كثير من آي الكتاب العزيز, حتى إن أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قوله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } (2) { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } (3) { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } (4) { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } (5) { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } (6)
فأخبر سبحانه عن نفسه بأنه علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم؛ امتنانا منه على عباده.
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ( وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم, فشرفه وكرمه بالعلم, وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة, والعلم تارة يكون في الأذهان, وتارة يكون في اللسان, وتارة يكون في الكتابة بالبنان: ذهني ولفظي ورسمي, والرسمي يستلزمها من غير عكس, فلهذا قال: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } (7) { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } (8) { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } (9) ) اهـ. (10) .
__________
(1) سورة النحل الآية 78
(2) سورة العلق الآية 1
(3) سورة العلق الآية 2
(4) سورة العلق الآية 3
(5) سورة العلق الآية 4
(6) سورة العلق الآية 5
(7) سورة العلق الآية 3
(8) سورة العلق الآية 4
(9) سورة العلق الآية 5
(10) [تفسير ابن كثير] (4\ 529) ط: مكتبة الرياض الحديثة.
من هنا تبين أن الكتابة من أهم وسائل العلم, تحصيلا, وتعليما, بل الكتابة هي الجامعة لوسائل العلم من كونه ذهنيا ولفظيا ويجمعهما كونه رسميا, أي مكتوبا.
وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فاتخذ للوحي كتبة من الصحابة عرفوا بأنهم كتاب الوحي, وقال مرة: « اكتبوا لأبي شاه ، وقال : وقد أشار إلى فيه صلى الله عليه وسلم: اكتب, فوالذي نفسي بيده لا يخرج منه إلا حق » (1) .
ولم يزل العلماء يكتبون العلم والحديث, ويتدارسونه بينهم, حتى أضحت الكتابة من سيما أهل العلم, وحتى صار ضبط الكتاب عندهم أقوى وأوثق من ضبط الصدر, وهكذا دون العلم بدءا بالقرآن الكريم وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وحتى آخر العلوم تدوينا ، فدون الفقه وأصوله والنحو والإعراب واللغة والتأريخ والسير والملاحم, وغيرهم ذلك كثير من العلوم الشرعية أو العلوم المساندة التي يستفيد منها طالب العلم الشرعي, حتى وصل إلينا في هذا العصر ثروة عظيمة من كتب أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في دراسة العلم وتحقيق مسائله.
ولما حبا الله هذه البلاد المباركة بجميع من العلماء الأجلاء الأفاضل الذين نحسبهم ولا نزكيهم على الله من خيرة علماء السنة في هذا العصر- قام ولاة الأمر وفقهم الله لرضاه بوضع هيئة لكبار العلماء في هذا البلد يجتمع فيه مجموعة من العلماء الكبار -علماء وديانة- يبحثون فيما يردهم من المسائل, وما يستجد من النوازل, ويتدارسونه من خلال جلساتهم, ويتداولون الرأي فيه؛ ليخرجوا بقرار يرون أنه الحق الموافق لشرع الله عز وجل.
__________
(1) سنن أبو داود العلم (3646),مسند أحمد بن حنبل (2/162),سنن الدارمي المقدمة (484).
وقد كانت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء, هي المكلفة بإعداد البحوث العلمية الخاصة بالمسائل التي ستدرس في كل جلسة, وقد قامت بواجبها, فجمعت على مر السنين بحوثا متنوعة في العقيدة والفقه والنوازل, قيدت فيها كلام كثير من أهل العلم المعتبرين في فنونهم, وجمعتها على أحسن نظام, فتكون لديها عبر السنين مجموعة من البحوث النافعة المفيدة.
وقد رأينا أن من المصلحة نشر هذه البحوث, والحال أنها كما سبق بحوث مفيدة مليئة بالعلم الشرعي, فتوجهت النية لطبعها, وها نحن الآن نضع بين يدي طلاب العلم الجزءين: الخامس والسادس من أبحاث هيئة كبار العلماء.
نسأل الله الكريم أن ينفع بها قارئها وكاتبها ودارسها, وأن يجزي من ساهم في إعدادها وطبعها ونشرها خير الجزاء.
كما أسأله سبحانه وتعالى: أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه, وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا, وأن يجعل ما علمنا حجة لنا يوم لقاه, وأن يبلغنا به عنده الرضوان, إنه سبحانه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
(1)
بحث في حكم اقتطاع جزء من المقبرة
لمصلحة عامة كتوسعة طريق ونحوه
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
بحث في حكم اقتطاع جزء من المقبرة
لمصلحة عامة كتوسعة طريق ونحوه
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد تقرر لدى أهل العلم النهي عن نبش قبر المسلم الذي لا يعلم أنه بلي وصار رميما إلا لحاجة, واستندوا في ذلك إلى أمرين:
أحدهما: أن الميت إذا وضع في قبره فقد تبوأه وسبق إليه, فهو حبس عليه ليس لأحد التعرض له ولا التصرف فيه.
قال في [المنتهى] وشرحه: (ولا يباح نبش قبر مسلم مع بقاء رمته إلا لضرورة, كأنه دفن في ملك غيره بلا إذنه أو كفن بغصب, أو بلغ مال غيره بلا إذنه, ويبقى كالذهب ونحوه وطلبه ربه وتعذر غرمه. اهـ).
وقال في [الإقناع] وشرحه: (ولا ينبش قبر ميت باق لميت آخر, أي: يحرم ذلك؛ لما فيه من هتك حرمته).
وقال النووي في [المجموع]: ( وأما نبش القبر فلا يجوز لغير سبب شرعي باتفاق الأصحاب, ويجوز للأسباب الشرعية كنحو ما سبق. ومختصره: أنه يجوز نبش القبر إذا بلي الميت وصار ترابا, وحينئذ يجوز دفن غيره فيه, ويجوز زرع تلك الأرض وبناؤها وسائر وجوه الانتفاع والتصرف فيها باتفاق الأصحاب, وهذا كله إذا لم يبق للميت أثر من عظم أو غيره . اهـ).
وقال السرخسي في [المبسوط]: ( وإن دفن قبل الصلاة عليه صلي على القبر, وأنه لا يخرج من القبر؛ لأنه قد سلم إلى الله تعالى وخرج من أيديهم, وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « القبر أول منازل الآخرة » (1) اهـ).
وجاء في [شرح أقرب المسالك] للشيخ أحمد الدردير ما نصه: ( والقبر حبس على الميت لا ينبش, أي: يحرم نبشه مادام الميت فيه إلا لضرورة شرعية . اهـ).
وجاء في [التاج والإكليل على مختصر خليل ] للمواق ما نصه: ( سئل الإمام مالك بن أنس عن الرجل يشتري الدار فيجد فيها قبرا قد كان البائع دفنه. أجاب بقوله: أرى أن يرد المبيع؛ لأن موضع القبر لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به كأنه حبس, وأفتى بعض شيوخ ابن عرفة كما في المصدر المذكور بعض أهل الخير بنى دارا له فوجد في بقعة منها عظام آدمي أفتاه بأن موضع تلك العظام حبس لا ينتفع به ولا بهواه فتركه برحة . اهـ).
الثاني: ما يؤدي إليه النبش من كسر عظام الميت وقد جاء النهي عن ذلك من حديث: « كسر عظم الميت ككسره حيا » (2) , وهو حديث ثابت جاء مرفوعا وموقوفا.
__________
(1) سنن الترمذي الزهد (2308),سنن ابن ماجه الزهد (4267).
(2) سنن أبو داود الجنائز (3207),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616),مسند أحمد بن حنبل (6/105).
أما الرواية المرفوعة فهي عند عبد الرزاق في [مصنفه], وأبي داود وابن ماجه في [سننهما] وابن حبان في [صحيحه] بأسانيدهم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كسر عظم الميت ككسره حيا » (1) , وقد ترجم له عبد الرزاق بقوله: ( باب كسر عظم الميت ), ثم أورد الحديث بإسناده. وترجم له أبو داود بقوله: (باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان), ثم أورد الحديث بإسناده.
وترجم له ابن ماجه بقوله: ( باب في النهي عن كسر عظام الميت ), ثم أورد الحديث بإسناده. وترجم له الحافظ الهيثمي في [موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ] بقوله: (باب فيمن آذى ميتا) وساق الحديث بإسناده.
وقد استدل الإمام البغوي بهذه الرواية المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم نبش قبر المسلم لغير حاجة, فقال في [شرح السنة]: ولا يجوز نبش قبور المسلمين لغير حاجة, روت عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كسر عظم الميت ككسره حيا » (2) اهـ.
وأما الرواية الموقوفة فذكرها الإمام مالك في [الموطأ] في ( ما جاء في الاختفاء ) بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: ( كسر عظم المسلم ميتا ككسره وهو حي) تعني: في الإثم. وذكرها الإمام الشافعي في [الأم] في باب (ما يكون بعد الدفن) عن الإمام مالك: أنه بلغه أن عائشة رضي الله عنها قالت: (كسر عظم المسلم ميتا ككسره وهو حي).
أما إذا كان ثم غرض شرعي لنبش الميت من قبره فقد أجاز ذلك بعض أهل العلم, واستدلوا على جوازه: بوقائع عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تقضي بجواز إخراج الميت من قبره لمصلحة ومن ذلك تحويل قبر
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3207),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616),مسند أحمد بن حنبل (6/105).
(2) سنن أبو داود الجنائز (3207),سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616),مسند أحمد بن حنبل (6/105).
طلحة بن عبيد الله , وقضية معاوية لما أجرى العين التي مرت بقبور شهداء أحد , وقضية تحويل جابر قبر أبيه عبد الله .
ففي [مصنف عبد الرزاق ], و [مصنف ابن أبي شيبة ], و [طبقات ابن سعد ], وفي [الاستيعاب] لابن عبد البر : أن بعض أهل طلحة بن عبيد الله رآه في المنام يقول: ألا تريحونني من هذا الماء, فإني قد غرقت ثلاث مرات يقولها, فنبشوه من قبره أخضر كأنه السلق, فنزفوا عنه الماء, ثم استخرجوه, فإذا ما يلي الأرض من لحيته ووجهه قد أكلته الأرض ، فاشتروا دارا من دور أبي بكرة فدفنوه فيها.
وفي [ مسند الإمام أحمد ] رحمه الله قال: حدثنا عفان , حدثنا أبو عوانة , حدثنا الأسود بن قيس عن نبيح العنزي , عن جابر بن عبد الله قال: « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى المشركين ليقاتلهم, وقال أبي عبد الله : يا جابر , لا عليك أن تكون في نظاري أهل المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا, فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي, قال: فبينما أنا في النظارين إذ جاءت عمتي بأبي وخالي وعادلتهما على ناضح, فدخلت بهما المدينة؛ لتدفنهما في مقابرنا إذ لحق رجل ينادي: ألا إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت, فرجعنا بهما, فدفناهما حيث قتلا, فبينما أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال: يا جابر بن عبد الله , والله لقد أثار أباك عمال معاوية , فبدأ فخرج طائفة منه فأثبته فوجدته على النحو الذي دفنته لم يتغير إلا ما لم يدع القتل أو القتيل فواريته » (1) . . . إلى آخر الحديث, ورجاله رجال الصحيح إلا نبيحا العنزي وهو ثقة, كما في [ وفاء الوفا بأخبار دار
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/398),سنن الدارمي المقدمة (45).
المصطفى].
وقال ابن إسحاق في [المغازي]: حدثني أبي عن أشياخ من الأنصار قال: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء انفجرت العين عليهم فجئنا فأخرجناهما يعني- عمرا وعبد الله - وعليهما بردتان قد غطي بهما وجوههما وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنيان تثنيا كأنهما دفنا بالأمس . قال الحافظ ابن حجر في [فتح الباري]: له شاهد بإسناد صحيح عند ابن سعد من طريق أبي الزبير عن جابر . اهـ.
ويعني ابن حجر رحمه الله بالشاهد: ما رواه ابن سعد في طبقاته قال: أخبرنا عمرو بن الهيثم أبو قطن، قال: أخبرنا هشام الدستوائي عن أبي الزبير عن جابر قال: صرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية العين فأخرجناهم بعد أربعين سنة لينة أجسادهم تتثنى أطرافهم. اهـ.
وقال عبد الرزاق في [مصنفه] في كتاب الجنائز وفي كتاب الجهاد: عن ابن عيينة عن أبي الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لما أراد معاوية أن يجري الكظامة (1) قال: من كان له قتيل فليأت قتيله، يعني: قتلى أحد ، قال: فأخرجهم رطابا يتثنون. قال: فأصابت المسحاة رجل رجل منهم فانفطرت دما، قال أبو سعيد : لا ينكر بعد هذا منكر أبدا . اهـ.
وعند ابن الجوزي في [صفوة الصفوة] عن جابر قال: لما أراد معاوية أن يجري عينه التي بأحد كتبوا إليه أنا لا نستطيع أن نجريها إلا على قبور الشهداء ، فكتب : انبشوهم، قال: فرأيتهم يحملون كأنهم قوم نيام ، وأصابت
__________
(1) قناة الماء في باطن الأرض.
المسحاة رجل حمزة فانبعثت دما. وعنه قال: لما كتب معاوية إلى عامله بالمدينة أن يجري عينا إلى أحد، فكتب إليه عامله: إنها لا تجري إلا على قبور الشهداء، قال: فكتب إليه: أن أنفذها، قال الراوي عن جابر : فسمعت جابر بن عبد الله يقول: فرأيتهم يخرجون على رقاب الرجال كأنهم رجال نوم حتى أصابت المسحاة قدم حمزة فانبعثت دما .
وفي ]موطأ الإمام مالك [، رضي الله عنه في ( الدفن في قبر واحد من ضرورة) عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه: أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين ثم السلميين كانا قد حفر السيل قبرهما، وكان قبرهما مما يلي السيل، وكانا في قبر واحد، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة، قال ابن عبد البر : لم يختلف الرواة في قطعه وحصل معناه من وجوه صحاح.
وقال ابن سعد في [طبقاته] (1) : أخبرنا الوليد بن مسلم قال: حدثني الأوزاعي عن الزهري عن جابر بن عبد الله : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج لدفن شهداء أحد قال: زملوهم بجراحهم، فإني أنا الشهيد عليهم، ما من مسلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة يسيل دما، اللون لون الزعفران والريح ريح المسك ، قال جابر : وكفن أبي في نمرة واحدة، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: أي هؤلاء كان أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى الرجل، قال:
__________
(1) [الطبقات] لابن سعد (3\ 562).
"قدموه في اللحد قبل صاحبه " قالوا: وكان عبد الله بن عمرو بن حرام أول قتيل قتل من المسلمين يوم أحد، قتله سفيان بن عبد شمس أبو أبي الأعور السلمي، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهزيمة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادفنوا عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبر واحد ؛ لما كان بينهما من الصفاء، وقال: ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد ، قال: وكان عبد الله بن عمرو رجلا أحمر، أصلع، ليس بالطويل، وكان عمرو بن الجموح رجلا طويلا مفرقا، فدفنا في قبر واحد، وكان قبرهما مما يلي السيل، فدخله السيل فحفر عنهما وعليهما نمرتان، وعبد الله قد أصابه جرح في وجهه، فيده على جرحه فأميطت يده عن جرحه فانبعث الدم ، فردت يده إلى مكانها فسكن الدم، قال جابر : فرأيت أبي في حفرته كأنه نائم وما تغير من حاله قليل ولا كثير ، فقيل له: فرأيت أكفانه؟ قال: إنما كفن في نمرة، خمر بها وجهه وجعل على رجليه الحرمل، فوجدنا النمرة كما هي والحرمل على رجليه على هيئته، وبين ذلك ست وأربعون سنة، فشاورهم جابر في أن يطيب بمسك فأبى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا تحدثوا فيهم شيئا، وحول من ذلك المكان إلى مكان آخر، وذلك أن القناة كانت تمر عليهما وأخرجوا رطبا يتثنون » . اهـ.
وفي [صحيح البخاري ] في (باب: هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟) بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما حضر أحد دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن علي دينا فاقض واستوص بأخواتك خيرا. فأصبحنا فكان أول قتيل ودفن معه آخر
في قبر ، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر ، فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه.
وذكره أبو داود في [سننه] في (باب تحويل الميت من موضعه للأمر يحدث)، والنسائي في [المجتبى] في (باب إخراج الميت من القبر بعد أن يدفن فيه)، وابن سعد في [طبقاته]، وأورده المجد ابن تيمية في [المنتقى] في (باب ما جاء في الميت ينقل أو ينبش لغرض صحيح).
ذكر بعض من
أقوال أهل العلم في حكم تحويل الميت من قبره إلى آخر لغرض صحيح
:ذكر أبو يعلى في [الأحكام السلطانية] عن الإمام أحمد في رواية أبي طالب في الميت يخرج من قبره إلى غيره (إن كان من شيء يؤذيه، قد حول طلحة ) وفي رواية المروذي في قوم دفنوا في بساتين، ومواضع ردية فقال: قد نبش معاذ امرأته، وكانت قد كفنت في خلقان، فكفنها ولم ير بأسا أن يحولها.
وجاء في الجزء الرابع والعشرين (ص 303) من [فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ]: لا ينبش الميت من قبره إلا لحاجة، مثل: أن يكون المدفن الأول فيه ما يؤذي الميت فينقل إلى غيره، كما نقل بعض الصحابة في مثل ذلك .
وقال الحطاب في [مواهب الجليل على مختصر خليل]، على قول خليل : ( والقبر حبس، لا يمشى عليه، ولا ينبش إلا أن يشح رب كفن غصبه ). قال الحطاب : وكذلك إذا احتيج للمقبرة لمصالح المسلمين كما فعل سيدنا معاوية رضي الله عنه في شهداء أحد ، عن جابر رضي الله عنه
وذكر الأثر، وقال المواق في كتابه [التاج والإكليل على مختصر خليل ]: انظر في حديث لمالك عن أبي الرجال من التمهيد أنه يجوز النبش لعذر وأن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخرج أباه من قبره ودفنه بغير ذلك الموضع وكذلك فعل معاوية بمحضر الصحابة ولم ينكروه عليه. اهـ. (1) .
ثم نقل المواق عن ابن عرفة أن معاوية رضي الله عنه إنما فعل ذلك لمصلحة عامة حاجية، كبيع الحبس لتوسيع جامع الخطبة. اهـ.
وقال الباجي في [المنتقى على الموطأ]- في معرض كلامه على رواية مالك : حفر السيل قبر عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح : ولا بأس بحفر القبر وإخراج الميت منه، إن كان ذلك لوجه مصلحة، ولم يكن في ذلك إضرار، وليس من هذا الباب نبش القبور، فإن ذلك لوجه الضرر أو لغير منفعة . اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في [الفتح]: في حديث جابر دلالة على جواز الإخراج لأمر يتعلق بالحي، لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه وقد بين ذلك جابر بقوله: فلم تطب نفسي، وذكر الحافظ أن ترجمة البخاري لأحاديث جابر التي ذكرها بقوله: (باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟) إشارة منه إلى الرد على من منع إخراج الميت من قبره مطلقا، أو لسبب دون سبب، كمن خص الجواز بما لو دفن بغير غسل أو بغير صلاة . اهـ.
__________
(1) في رواية عبد الرزاق قضية إجراء العين على قبور الشهداء كلام لأبي سعيد يرد على هذا، وهو قوله: لا ينكر بعد هذا منكرا أبدا، اللهم إلا أن يمون الإنكار من أبي سعيد متوجها إلى الحفارين حينما أصابت المسحاة رجل حمزة.
وقال العيني في [عمدة القاري] على ترجمة البخاري المشار إليها: وفي الحديث الثاني والثالث- يعني: الروايتين اللتين ذكرهما عن جابر - إخراجه أيضا لعلة، وهي: تطييب قلب جابر . ثم قرر العيني : أن الإخراج لذلك إخراج لمصلحة الحي.
وقال صاحب [عون المعبود] في شرحه لحديث جابر عند أبي داود : فيه دلالة على جواز الإخراج لأمر متعلق بالحي؛ لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه وقد بين ذلك جابر بقوله: (فكان في نفسي من ذلك حاجة).
وقال البغوي في [شرح السنة] بعد تحريمه نبش قبور المسلمين لغير حاجة قال: فإن وقعت الحاجة فقد روي عن جابر قال: دفن مع أبي رجل وكان في نفسي من ذلك حاجة فأخرجته بعد ستة أشهر.
وقال في موضع آخر: ويكره نقل الميت من بلد إلى بلد آخر وأن ينقل عن مكانه بعدما دفن لغير حاجة ثم أورد قصة تحويل جابر أباه من قبره إلى مكان آخر دليلا على جواز التحويل إذا كان ثم حاجة.
ومما تقدم يتضح: أن القائلين بالمنع من نبش قبور الموتى قد عللوا ذلك: بأن قبر الميت حبس عليه ومنزل له وأن في نبشه إهانة وامتهانا له واعتداء عليه وعلى حقه، إذ يبعد نبشه قبل بلاه دون كسر عظم أو أكثر من عظامه، وقد ورد النهي عن كسر عظم الميت، وإنه ككسر عظمه حيا، كما يظهر تقدم من أهم مبررات القول ينبش قبر الميت لحاجة تتلخص فيما تعود مصلحته على الميت، كما هو الحال في تحويل قبر طلحة ونبش معاذ زوجته من قبرها، أو على الحي، كتحويل جابر لأبيه من قبره إلى مكان
آخر، أو على المصلحة العامة، كنبش قبور شهداء أحد ممن مر بهم مجرى العين التي أمر بها معاوية .
وبعد فيبقى النظر فيما يأتي:
1 - هل أمر معاوية- على فرض ثبوته- بإجراء العين على قبور شهداء أحد وتنفيذ ذلك بمحضر من الصحابة يصلح أن يكون سندا في جواز نبش القبور للمصلحة العامة مع قول أبي سعيد في رواية عبد الرزاق حينما أصابت المسحاة رجل رجل من الشهداء: لا ينكر بعد هذا منكرا أبدا.
ومع ما تشعر به كتابة عامل معاوية إليه من أنه لا يتمكن من إجراء العين إلا على قبور الشهداء من أن المعهود لدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استنكار نبش القبور.
2 - هل تحويل جابر لوالده عن قبره إلى مكان آخر؛ ليطيب خاطره يصلح أن يكون مستندا في نقل الميت من قبره لمصلحة الحي، لا سيما أن فعله معارض بأن والده دفن مع عمرو بن الجموح في قبر واحد بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على مرأى منه؟
3 - هل من المتعين توسعة شارع الملك فيصل بنبش جزء من هذه المقبرة أم يمكن الاستغناء عن التوسعة بأمر آخر؟
4 - النظر في تطبيق ما صح لدى أصحاب الفضيلة أعضاء هيئة كبار العلماء من ذلك على مسألتنا هذه.
وقبل أن تختم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثها هذا توصي بتزويد كل عضو من أعضاء هيئة كبار العلماء بما يأتي:
1 ) صورة من فتوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله الصادرة
عنه بتاريخ 10\ 2\ 1376 هـ.
2 ) صورة من فتوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عدد (1022\ ط) في 10\ 5\ 1388 هـ، بخصوص: منع وزارة المواصلات من أن تمر خط المدينة تبوك بمقبرتين من مقابر تلك الجهات.
3 ) صورة فتوى من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله بعدد (2881\ 1) في 20\9\ 1388 هـ، بخصوص: القبور التي تعرض لها مشروع الري والصرف في الأحساء .
4 ) صورة من قرار اللجنة التي كلفت من قبل سمو نائب وزير الداخلية للكشف على الجزء الذي يستفتى في اقتطاعه من المقبرة الواقعة شرق شارع الملك فيصل؛ توسعة للشارع المذكور.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
(2)
غلة الأوقاف المنقطعة جهاتها
أو الفائض من غلاتها على مصارفها
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
غلة الأوقاف المنقطعة جهاتها
أو الفائض من غلاتها على مصارفها
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما تقرر من بحث مسألة غلة الأوقاف المنقطعة جهاتها أو الفائض من غلالها على مصارفها في الدورة الرابعة لهيئة كبار العلماء، وبناء على المادة (7) من لائحة سير العمل لدى الهيئة- فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يشتمل على بيان مصرف غلة الوقف المنقطع حقيقة أو حكما، ومصرف الفائض من ريع الأوقاف.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم .
أ-
مذهب الحنفية
1 - قال إبراهيم الحلبي وعبد الرحمن بن شيخ محمد بن سليمان ، المعروف بداماه (1) : (وشرط لتمامه) أي: لتمام الوقف بعدما لزم بأحد الأمور المذكورة عنده (ذكر مصرف مؤبد) مثل أن يقول: علي كذا وكذا،__________
(1) [ملتقى الأبحر وشرحه مجمع الأنهر] (1\742، 743).
ثم على فقراء المسلمين، (وعند أبي يوسف يصح بدونه) أي بدون ذكر مصرف مؤبد؛ لأن الوقف إزالة الملك لله تعالى، وذا يقضي التأبيد، ولمحمد أن الوقف تصدق بالمنفعة، وذا يحتمل أن يكون مؤقتا ومؤبدا، فلابد من التنصيص (وإذا انقطع) المصرف (صرف إلى الفقراء) ولا يعود إلى ملكه إن كان حيا، وإلى ورثته إن كان ميتا، فعلم من هذا أن التأبيد شرط البتة إلا عند أبي يوسف لا يشترط ذكره، وعند محمد يشترط، لكن صاحب الهداية نقله بصيغة التمريض، فقال: قيل: التأبيد شرط بالإجماع إلا عند أبي يوسف، فإنه لا يشترط ذكر التأبيد.
وفي [البحر]: والحاصل: أن عند أبي يوسف في التأبيد روايتين: في رواية: لابد منه، وذكره ليس بشرط، وفي رواية: ليس بشرط ويفرع على روايتين ما لو وقف على إنسان بعينه، أو عليه وعلى أولاده، أو على قرابته وهم يحصون، أو على أمهات أولاده فمات الموقوف عليه، فعلى الأول: يعود إلى ورثة الواقف، وعليه الفتوى، كما في [الفتح] وغيره، وعلى الثاني: يصرف إلى الفقراء وإن لم يسمهم، وهذا الصحيح عنده.
واختلفوا في حد ما لا يحصى: روي عن محمد عشرة، وعن أبي يوسف مائة، وهو المأخوذ عند البعض، وقيل: أربعون، وقيل: ثمانون. والفتوى: أنه يفوض إلى رأي الحاكم.
2 - قال إبراهيم الحلبي ومحمد علاء الدين الحصكفي (1) : (و) اعلم أنه (شرط لتمامه ذكر مصرف مؤبد) عندهما (وعند أبي يوسف يصح
__________
(1) [ملتقى الأبحر وشرحه مجمع الأنهر] (1\ 742).
بدونه، وإذا ا!نقطع صرف إلى الفقراء) وهذا بيان لشرائطه الخاصة فجعلاه كالصدقة، وجعله أبو يوسف كالإعتاق، واختلف الترجيح. والإفتاء والأخذ بقول أبي يوسف أحوط وأسهل، كما في [المنح عن البحر]، وبه يفتى، كما في [الدرر]، وصدر الشريعة، وفي [فتح القدير]: أنه أوجه عند المحققين، والخلاف في ذكر التأبيد، وأما في نفس التأبيد فشرط بالإجماع حتى لو وقته بشهر مثلا بطل بالاتفاق، كما في [الدرر]، و[الغرر]، و[التنوير]، وغيرها، وعليه فلو وقف على رجل بعينه جاز، وعاد بعد موته لورثة الواقف، وعليه الفتوى، وقيل: للفقراء، وهي رواية البرامكة، فليحفظ.
3 - قال عمر حلمي أفندي (1) : المسألة (78): لا يشترط ذكر الموقوف عليه ولا تعيينه، فلو وقف شيئا ولم يبين الموقوف عليه يصح وقفه وتصرف غلته إلى الفقراء.
المسألة (80): لا يشترط وجود الموقوف عليه حال الوقف، مثلا: لو وقف داره وشرط غلتها على ما سيحدث له من الأولاد صح وقفه، ويستحق غلته بالشرط المذكور أولاده الذين يولدون له بعد الوقف، وكذا لو هيأ موضعا ليبني فيه مكانا خيريا، كمعبد، ومكتب، وقبل أن يبني المكان الخيري في موضعه وقف بعض أملاكه وشرط غلتها للمكان المذكور- يصح وقفه، وتعود غلته إلى المكان المذكور حينما يبنى بعد.
وتصرف غلة الوقف للفقراء إلى أن يولد للواقف أولاد في الصورة
__________
(1) [إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف] ص (43).
الأولى، وإلى أن يبنى المكان المذكور في الصورة الثانية.. وهذا الوقف الذي لا يوجد فيه المشروط له ابتداء يقال له ولأمثاله: منقطع الأول.
المسألة (81): الوقف الذي يوجد فيه المشروط له ابتداء ثم ينقطع وينقرض يقال له: منقطع الآخر.. مثلا: شرط غلة وقفه لذريته فتصرف بعده ذريته بغلة الوقف مدة ثم انقرضت ولم تعقب أولادا فذلك الوقف يقال له: منقطع الآخر.
المسألة (82): الوقف الذي يوجد فيه المشروط له ابتداء ثم ينقطع ثم يظهر يقال له: منقطع الوسط.. مثلا: شرط الواقف غلة وقفه لذكور ذريته فتصرفوا بعده بغلة الوقف ثم ماتوا ولم يعقبوا غير الإناث فانقطع المشروط له، ثم بعد مدة تولد من الإناث أولاد ذكور، فيطلق على الوقف منقطع الوسط.
وغلة الوقف المنقطع بجميع أنواعه تصرف إلى المشروط لهم حين وجودهم وإلى الفقراء حين فقدهم وانقطاعهم.
المسألة (172): وقف قديم لم يعلم في جهة صرف غلته شرط واقف ولا تعامل قديم فتصرف الغلة برأي الحاكم إلى الفقراء والمحتاجين (1) .
4 - وقال ابن عابدين (2) : قال في [الخانية]: ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على من يحدث لي من الولد وليس له ولد يصح، فإذا أدركت الغلة تقسم على الفقراء، وإن حدث له ولد بعد القسمة تصرف الغلة التي توجد
__________
(1) [إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف] ص (113).
(2) [حاشية ابن عابدين] (4\ 430، 431).
بعد ذلك إلى هذا الولد؛ لأن قوله: صدقة موقوفة، وقف على الفقراء، وذكر الولد الحادث للاستثناء، كأنه قال: إلا إن حدث لي ولد فغلتها له ما بقي. اهـ. ومنه ما في [الخانية]: وقف على ولديه ثم على أولادهما أبدا ما تناسلوا.
قال ابن الفضل : إذا مات أحدهما عن ولد يصرف نصف الغلة إلى الباقي والنصف إلى الفقراء، فإذا مات الآخر يصرف الجميع إلى أولاد الواقف؛ لأن مراعاة شرط الواقف لازم، والواقف إنما جعل أولاد الأولاد بعد انقراض البطن الأول، فإذا مات أحدهما يصرف النصف إلى الفقراء. اهـ.
تنبيه: علم من هذا أن منقطع الأول ومنقطع الوسط يصرف إلى الفقراء، ووقع في الخيرية خلافه؛ حيث قال في تعليل جواب ما نصه: للانقطاع الذي صرحوا به بأنه يصرف إلى الأقرب للواقف؛ لأنه أقرب لفرضه على الأصح. اهـ.
وهذا سبق قلم فإن ما ذكره مذهب الشافعي، فقد قال نفسه في محل آخر من الخيرية: والمنقطع الوسط فيه خلاف، قيل: يصرف إلى المساكين، وهو المشهور عندنا، والمتظافر على ألسنة علمائنا، ثم قال بعد أسطر في جواب سؤال آخر: وفي منقطع الوسط الأصح صرفه إلى الفقراء، وأما مذهب الشافعي : فالمشهور أنه يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف. ا هـ.
5 - وقال الكاساني في معرض ذكره شروط صحة الوقف (1) : ومنها :
__________
(1) [بدائع الصنائع ] (6\220)
أن يجعل آخره بجهة لا تنقطع أبدا عند أبي حنيفة ومحمد، فإن لم يذكر ذلك لم يصح عندهما، وعند أبي يوسف ذكر هذا ليس بشرط، بل يصح وإن سمى جهة تنقطع، ويكون بعدها للفقراء وإن لم يسمهم. وجه قول أبي يوسف : أنه ثبت الوقف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، ولم يثبت عنهم هذا الشرط ذكرا وتسمية، ولأن قصد الواقف أن يكون آخره للفقراء وإن لم يسمهم، وهو الظاهر من حاله، فكان تسمية هذا الشرط ثابتا دلالة، والثابت دلالة كالثابت نصا . اهـ.
6 - وقال ابن نجيم في [الأشباه والنظائر]: لا يشترط لصحة الوقف على شيء وجود ذلك الشيء وقته، فلو وقف على أولاد زيد ولا ولد له صح وتصرف الغلة إلى الفقراء إلى أن يوجد له ولد . اهـ.
7 - وقال ابن أبي بكر الطرابلسي الحنفي (1) : ولو جعل أرضه صدقة موقوفة لله عز وجل أبدا على زيد وعمرو ولدي بكر ومن مات منهما عن ولد انتقل نصيبه إليه، وإن مات من غير وارث كان نصيبه مردودا إلى الباقي منهما جاز الوقف، فلو مات أحدهما ولم يترك سوى أخيه لا يرد إليه نصيبه، بل يكون للمساكين؛ لموته عن وارث. ولو لم يكن أحدهما ممن يرث الآخر ومات أحدهما عن غير وارث انتقل نصيبه إلى الآخر . اهـ.
__________
(1) كتاب [الإسعاف في أحكام الأوقاف] ص (126).
8 - وقال هلال الرأي (1) : قلت: أرأيت رجلا قال: أرضي صدقة موقوفة لله تعالى أبدا على عبد الله وزيد؟ قال: فالغلة بينهما نصفان، قلت:
__________
(1) [أحكام الأوقاف] ص (273).
أرأيت إن مات أحدهما؟ قال: فللباقي منهما نصف الغلة، وما بقي فللفقراء والمساكين، قلت: وكذلك لو سمى جماعة فمات بعضهم، قال: نعم، قلت: أرأيت إذا قال: أرضي صدقة موقوفة، لعبد الله من غلاتها مائة درهم، ولعمرو مائتان فزادت الغلة؟ قال: يعطى كل واحد منهما ما سمي له، وما فضل بعد ذلك فهو للفقراء والمساكين، قلت: ولم قلت ذلك؟ قال: لأنه لما قال: صدقة موقوفة، لعبد الله من غلاتها مائة درهم في كل سنة، ولزيد مائتان، قائمة لهما ما سمي لهما خاصة، وليس لهما مما بقي شيء، ولا يشبه هذا الباب الأول إذا قال: صدقة موقوفة لزيد وعمرو ولزيد مائة درهم وعمرو مائتا درهم، هذا يكون ما بقي من الغلة بينهما؛ لأنه قال في أول كلامه: صدقة موقوفة لعبد الله وزيد، فجعل الغلة لهما جميعا، ثم قال: لزيد منها كذا ولعبد الله منها كذا، فما بقي بعد ذلك يكون نصفين؛ لقوله في أول كلامه: صدقة موقوفة لعبد الله وزيد، وأما إذا قال: صدقة موقوفة لعبد الله منها مائة درهم ولزيد منها مائتا درهم فلم يجعلها لهما جميعا ثم يفصل ما لكل واحد منهما فلذلك كان ما بقي للفقراء.
وأما في الباب الأول فقد جعلها لهما جميعا في أول الكلام ثم فصل ما لكل واحد منهما فصار ما بقي منها بينهما نصفين. ألا ترى أن رجلا لو قال: قد أوصيت بثلث مالي لعبد الله وزيد، لعبد الله منه مائة درهم ولزيد مائتا درهم، وكان الثلث خمسمائة أعطينا زيدا مائتين وأعطينا عبد الله مائة وما بقي بينهما نصفان، وهذا قول أصحابنا في الوصية، والوقف على قياسه. ولو قال: أوصيت لزيد بمائة درهم من ثلث مالي ولعمرو بمائتي
درهم، فكان الثلث خمسمائة درهم أعطيت كل واحد منهما ما سمي له وما بقي بعد ذلك من الثلث فهو للورثة، وكذلك الوقف وهما سواء، وإنما يختلف الوصية الوقف في باب واحد، كل ما كان في الثلث لا وجه له فمرجعه إلى الورثة، وكل ما كان لا وجه له في الوقف فمرجعه إلى الفقراء والمساكين؛ لقوله في أول كلامه: صدقة موقوفة. اهـ.
9 - وقال في موضع آخر (1) : أرأيت إذا قال: أرضي صدقة موقوفة، لعبد الله منها كذا ولزيد كذا ولعمرو كذا، حتى سمى جماعة كثيرة، فقصرت الغلة عن هذه الأرزاق؟ قال: تقسط الغلة بينهم على ذلك، قلت: أرأيت إن زادت الغلة على ذلك؟ قال: تكون الزيادة للفقراء، ثم قال بعد ذلك (2) : قلت: أرأيت إذا قال: أرضي صدقة موقوفة فما أخرج الله من غلاتها أعطي منه ما كان فقيرا من قرابتي في كل سنة ما يكفيه في طعامه وشرابه وكسوته بالمعروف فقصرت الغلة لفقراء القرابة كيف تقسم بينهم؟
قال: يضرب لكل واحد منهم ما سمي له من غلات هذه الصدقة، ويقسط بينهم على ذلك. قلت: أرأيت إن كان في غلاتها فضل عما سمي لهم؟ قال: يكون ذلك الفضل للفقراء والمساكين. قلت: ولم قلت ذلك؟ قال: لأنه لم يجعل للقرابة من الغلة إلا النفقات، فما فضل عنهم كان ذلك الفضل للفقراء. اهـ.
وقال الخصاف (3) : (باب) الرجل يجعل أرضه وقفا على رجل بعينه
__________
(1) انظر [أحكام الأوقاف] ص (281).
(2) انظر [أحكام الأوقاف] ص (281).
(3) انظر [أحكام الأوقاف]، ص (90، 91).
وعلى ولده وولد ولده، ثم على المساكين من بعدهم، أو يقفها على قوم بأعيانهم ويجعل آخرها للمساكين وما يدخل في ذلك. قلت: أرأيت رجلا جعل أرضه صدقة موقوفة لله أبدا على فلان وفلان وفلانة وفلانة أبدا ما عاشوا، فمن مات منهم وله ولد لصلبه فنصيبه بينهم على قدر مواريثهم عنه، ومن مات منهم ولا ولد له لصلبه فإن كان له ولد ولد، أو ولد ولد ولد، أو نسل كان له نصيبه ثم من بعدهم على المساكين، قال: هذا وقف جائز على ما شرطه الواقف، قلت: فإن مات واحد منهم ولم يترك ولدا لصلبه كان نصيبه لولد ولده وولد ولد ولده ومن سفل منهم، قال: تقسم الغلة بين أولئك الذين سماهم في كتاب وقفه على عددهم، فما أصاب الميت قسم بين جميع ولد ولده من سفل منهم، ومن كان فوق ذلك على عددهم، قلت: وكذلك إن كان قال: وعلى أن من مات من أولادهم ونسلهم كان نصيبه من غلة هذه الصدقة وسبيله سبيل ما اشترطه في ولده لصلبه وولد ولده وأولادهم على ما سمى ووصف في هذا الكتاب، قال: نعم، قلت: وكذلك إن قال: وكل من مات من أهل هذه الصدقة وترك وارثا من ولد أو ولد ولد أو إخوة أو أخوات كان نصيبه من غلة هذه الصدقة لمن كان يرثه من هؤلاء على قدر مواريثهم عنه، وقال أيضا: ومن مات منهم ولم يترك وارثا من ولد ولا ولد ولد ولا إخوة ولا أخوات ولا غيرهم كان نصيبه من ذلك لفقراء قرابته- يعني: الواقف- وللمساكين أبدا.
قال: الوقف جائز على ما سمى وشرط من ذلك. قلت: فإن مات بعضهم وترك ابنة وإخوة وأخوات، قال: يكون نصيبه من غلة هذه الصدقة، لابنته النصف من ذلك، وما بقي فهو لإخوته وأخواته على قدر
مواريثهم منه.
قلت: فإن مات بعضهم، ولم يترك وارثا من ولد ولا ولد ولد ولا إخوة ولا أخوات، وترك عصبة يرثونه، ما حال نصيبه؟ قال: يرجع ذلك إلى المساكين، ولا يكون ذلك لفقراء قرابته. قلت: ولم كان هذا هكذا؟
قال: من قبل أنه شرط أن يرد نصيب من مات منهم ولم يدع وارثا من ولد، ولا ولد ولد، ولا إخوة، ولا أخوات، ولا غيرهم، إلى فقراء قرابته والمساكين، فلما مات هذا وترك عصبة لم يكن لفقراء قرابته والمساكين من نصيبه شيء؛ لأن نصيبه إنما يكون لفقراء قرابته إذا لم يدع وارثا من ولد، ولا ولد ولد، ولا إخوة، ولا أخوات، ولا غيرهم، وقد وجدنا هذا الميت ترك وارثا وهو عصبة؛ فلذلك لم يكن لفقراء قرابته شيء من نصيبه.
قلت: فلم جعلت ذلك للمساكين؟ قال: من قبل أن أصل الوقف إنما يطلب به ما عند الله تعالى، وأصله للمساكين، فإن كان الواقف شرط أن يقدم من قد سماه في أول الوقف قد قال: هذا ما تصدق به فلان بن فلان تصدق بجميع ضيعته الكذا صدقة موقوفة لله عز وجل أبدا، فهذا إنما هو للمساكين، ولكن اشتراطه أن تجري الغلة على فلان وفلان وفلانة وفلانة على ما سمى بعد هؤلاء، ثم جعل آخر ذلك للمساكين، فقد جعل أول الوقف وآخره للمساكين، وكلما بطل منهم واحد رجع نصيبه من ذلك إلى المساكين، ألا ترى أن رجلا لو قال: قد جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله عز وجل أبدا على فلان بن فلان وفلان بن فلان ومن بعدهما على المساكين، فمن مات منهما ولم يترك ولدا كان نصيبه من ذلك للباقي منهما، فمات أحدهما وترك ولدا، قال: يرجع نصيبه إلى المساكين ولا
يكون ذلك للباقي منهما من قبل أن الواقف إنما اشترط أن يرجع نصيب الذي يموت منهما إلى الباقي إذا لم يترك الميت وارثا فهذا قد ترك وارثا وهو ولده، قلت: فلم لا تجعل نصيب الميت منهما لولده؟ قال: من قبل أن الواقف لم يجعل ذلك لولد الميت، إنما قال: من مات منهما ولم يترك وارثا كان ذلك للباقي منهما فلهذه العلة لم يكن للباقي ولا لولد الميت من ذلك شيء. اهـ.
10 - قال عمر حلمي أفندي (1) : الفصل الرابع: في جواز صرف مال وقف على وقف آخر أو عدم جوازه.
المسألة (343): لا يجوز صرف غلة وقف مشروطة لجهة على نفقات وقف آخر مشروط لجهة أخرى وإن كان الواقف واحدا، فلو فعل المتولي ذلك يضمن ما صرفه. مثلا: بنى مكتبين ووقفهما، ووقف لكل واحد منهما عقارا على حدته، فلا تصرف غلة عقار أحدهما على حاجات الآخر.
المسألة (344): وقفان اتحد واقفهما وجهاتهما، طرأ على غلة أحدهما ضعف جاز أن يصرف على حاجته من فضل غلة الوقف الآخر.
مثلا: وقف عقارا شرط غلته على تعمير مكتب بناه ووقفه ووقف عقارا آخر شرط غلته لوظائف معلمي مكتبه، ثم بعد زمان طرأ على غلة العقار المشروطة لوظائف المعلمين ضعف فصارت لا تقوم بكفايتها، فيجوز أن يصرف على الوظائف من فضلة غلة العقار المشروطة لنفقات التعمير.
__________
(1) [إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف] ص (269).
المسألة (345): يجوز صرف واردات وقف خرب واستغني عنه على وقف آخر برأي الحاكم على حاجات أقرب وقف إليه من نوعه قليل الدخل. مثلا: بنى في محلة مكتبا ووقفه وقفا لازما، ثم بمرور الأيام خرب المكتب كله واستغنى عنه أهل المحلة لتشتتهم فتصرف وارداته برأي الحاكم على حاجات أقرب مكتب إليه موقوف قليل الواردات، ولا يجوز صرف واردات الوقف المستغنى عنه على وقف ليس من نوعه.
مثلا: لا تصرف واردات مستشفى وقف وخرب واستغني عنه على مكتب، ولا واردات مكتب خرب واستغني عنه على مستشفى.
المسألة (347): قرية تفرق أهلها وتشتت شملهم فبقي مسجدها معطلا مستغنى عنه، وفي قربها قرية ليس فيها مسجد، فلأهل القرية الثانية أن ينقضوا ذلك المسجد وينقلوا أنقاضه ويعمروها معبدا في قريتهم، وتصرف واردات المسجد المنهدم برأي الحاكم على حاجات المسجد الثاني، وليس لورثة واقف المسجد المنهدم أن يطلبوا وارداته لأنفسهم ويمنعوا صرفها على المسجد الجديد.
وكذا لو وقف مبلغا من النقود على حاجات مسجد وقفه في قرية، ثم تشتت شمل أهل القرية، وخرب المسجد وتعطل، فأراد متوليه أن يصرف ربح النقود برأي الحاكم على حاجات مسجد آخر قليل الواردات في أقرب قرية من موضع المسجد المذكور، فليمس للورثة أن يمنعوه عن ذلك ويجعلوا النقود ميراثا بينهم لخراب المسجد الموقوفة عليه واستغنائه عنها.
المسألة (369): فضلة الوقف المشروطة لبعض الأشخاص يدخر منها نقود احتياطية لتعمير الوقف. مثلا: وقف فيه مصارف معينة شرطت
فضلتها لأولاد الواقف فللمتولي أن يدخر منها مقدارا كافيا من النقود الاحتياطية؛ ليصرفها على تعمير الوقف حينما تمس الحاجة إلى التعمير، وإن كانت العقارات غير محتاجة للتعمير في الحالة الحاضرة (1) .
مما تقدم من النقول يتلخص ما يأتي:
1 - يشترط لتمام الوقف بعد لزومه ذكر مصرف مؤبد عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الوقف تصدق بالمنفعة، وهو محتمل للتوقيت والتأبيد فاشترط له ذكر التأبيد، وقال أبو يوسف : لا يشترط ذلك؛ لأن الوقف إزالة ملك الواقف لله تعالى، وهو يقتضي التأبيد، ولأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ذكر التأبيد وتسميته، ولأن القصد بالوقف القربة والإحسان، والفقراء أهل ذلك وإن لم يكن ثم تسمية، وعلى الأول إذا عين مصرفا غير مؤبد يعود الوقف بعد الانقراض إلى الورثة؛ لعدم صحته وقفا عندهما، وعلى الثاني يعود الوقف إلى المساكين، وهو الأوجه، وبه الفتوى.
2 - الوقف المنقطع الابتداء أو الوسط أو الآخر صحيح على المفتى به، وغلته بجميع أنواعه تصرف إلى المشروط لهم حين وجودهم، وعند انقراضهم إلى الفقراء.
3 - كل وقف لم يعلم من واقفه جهة صرف غلته، ولا يعلم تعامل قديم عن جهة صرفها تصرف برأي الحاكم إلى الفقراء والمحتاجين.
4 - لا يجوز صرف غلة مشروطة لوقف على وظائف وقف آخر
__________
(1) [إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف] ص (287).
يختلف عنه في الجهة، وإن كان الواقف واحدا، ومن فعل ذلك ضمن ما صرف، ويجوز صرف غلة مشروطة لوقف على حاجة وقف آخر إن اتحدت جهتهما واتحد الواقف عليهما.
5 - يجوز صرف واردات وقف خرب واستغني عنه على حاجات أقرب وقف إليه من نوعه لا يكفيه وقفه، ويكون هذا برأي الحاكم، وليس للواقف أو ورثته المنع من ذلك، ولا يجوز ذلك إذا اختلف النوع، كمستشفى ومسجد.
6 - يدخر من يتولى الوقف نقودا احتياطية من فضل غلة الوقف المشروطة لبعض الأشخاص؛ ليعمر بها الوقف عند الحاجة، وإن لم يكن ثم حاجة في الحال.
7 - من وقف على ولديه ثم على أولادهما أبدا ما تناسلوا، ثم مات أحدهما عن ولد صرف نصف الغلة إلى الباقي منهما، والنصف الآخر إلى الفقراء، فإذا مات الآخر صرف الجميع إلى أولاد أولاد الواقف؛ عملا بشرطه، حيث جعل أولاد الأولاد بعد انقراض البطن الأول.
8 - من جعل أرضه صدقة موقوفة على زيد وعمرو ولدي بكر، ومن مات منهما عن ولد انتقل نصيبه إليه، وان مات عن غير وارث كان نصيبه لمن بقي منهما جاز الوقف، فإذا مات أحدهما ولم يترك سوى أخيه كان نصيبه للمساكين دون أخيه لموته عن وارث، وإن مات أحدهما عن غير وارث ولم يكن أحدهما ممن يرث الآخر انتقل نصيبه إلى الآخر.
9 - من قال: أرضي صدقة موقوفة لله تعالى أبدا على عبد الله وزيد أو جماعة معينين فهي بينهم بالسوية، فإن مات أحدهم فنصيبه للمساكين،
ومن قال: أرضي صدقة موقوفة، لفلان من غلتها مائة ولفلان من غلتها مائة مثلا، فلكل ما سمى له وما بقي فللفقراء والمساكين، حيث لم يجعلها جميعا لهما، بل سمى لكل منهما شيئا فيها بخلاف التي قبلها فقد جعلها جميعا لهما فافترقتا، وكذا الحال في الوصية غير أنهما تختلفان في أمر هو أن كل ما كان في الثلث لا وجه له فمرجعه إلى الورثة، وكل ما كان في الوقف لا وجه له فمرجعه للفقراء.
10 -ومن قال: أرضي صدقة موقوفة، وسمى لكل من الموقوف عليهم منها شيئا معينا، أو قال: يعطى كل منهم من غلتها ما يكفيه بالمعروف صح الوقف، وأعطي كل منهم ما جعل له إن وسعتهم وصرف الزائد عنهم للفقراء. وإن قصرت عنهم الغلة قسمت بينهم بنسبة ما سمي لكل منهم، وإنما ردت الزيادة للفقراء؛ لأنه لم يجعل لهم إلا ما سمى لهم، أو قدر كفايتهم بالمعروف .
ب-
مذهب المالكية
أ- قال ابن القاسم : (1) . وقد سئل مالك عن رجل أوصى بوصية فأوصى فيها بأمور، وكان فيما أوصى به أن قال: داري حبس، ولم يجعل لها مخرجا، ولم يدر أكان ذلك منه نسيانا أو جهل الشهود أن يذكروه ذلك؟فقال مالك : أراها حبسا في الفقراء والمساكين.
فقيل له: فإنها بالإسكندرية، وجل ما يحبس الناس بها في سبيل الله.
قال: ينظر ذلك ويجتهد فيه فيما يرى الوالي، وأرجو أن يكو به سعة في
__________
(1) [المدونة] (4\341\342).
ذلك إن شاء الله. اهـ.
2 - وقال خليل (1) : ولا يشترط تنجيز ... ولا تعيين مصرف، وصرف في غالب، وإلا فالفقراء، قال ابن المواق : قال عياض : أما لفظة الحبس المبهم، كقوله: داري حبس، فلا خلاف أنها وقف مؤبد ولا ترجع ملكا، وتصرف عند مالك في الفقراء والمساكين، وإن كان في الموضع عرف للوجوه التي توضع فيها الأحباس وتجعل لها حملت عليه. اهـ.
3 - روى ابن وهب (2) : عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد أنه قال: من حبس دارا أو تصدق بها قال: الحبس والصدقة عندنا بمنزلة واحدة، قال: فإن كان صاحب ذلك الذي حبس تلك الدار لم يسم شيئا فإنها لا تباع ولا توهب وليسكنها الأقرب فالأقرب منه.
قال سحنون : وقال بعض رجال مالك : كل حبس أو صدقة كانت عن مجهول من يأتي فهو الحبس الموقوف، مثل أن يقول: على ولدي ولم يسمهم، فهذا مجهول، ألا ترى أنه من حدث من ولده بعد هذا القول يدخل فيه، وكذلك لو قال: على ولدي وعلى من يحدث لي بعدهم فهذه أيضا على مجهول من يأتي، وإذا سمى فإنما هم قوم بأعيانهم، وقد فسرنا ذلك. وقال ربيعة : والصدقة الموقوفة التي تباع إن شاء صاحبها إذا تصدق الرجل على الرجلين أو الثلاثة أو أكثر من ذلك إذا سماهم بأسمائهم.
قال سحنون: ومعناه: ما عاشوا، ولم يذكر عقبا، فهذه الموقوفة التي
__________
(1) التاج والإكليل على مختصر خليل، (6\ 32).
(2) [لمدونة] (4\ 343).
يبيعها صاحبها إن شاء إذا رجعت إليه.
قلت لابن القاسم: أرأيت الرجل يقول: داري هذه حبس على فلان وعلى عقبه من بعده، ولم يقل: صدقة، أتكون حبسا كما يقول: صدقة؟ قال: أصل قوله الذي رأيته يذهب إليه أنه إذا قال: حبس، ولم يقل: صدقة، فهي حبس إذا كانت على غير قوم بأعيانهم.
قال سحنون : وإذا كانت على قوم بأعيانهم فقد اختلف قوله فيها، وقد كان يقول: إذا قال: حبسا على قوم بأعيانهم، ولم يقل: صدقة، أو قال: حبسا، ولم يقل: لا تباع ولا توهب، فهذه ترجع إلى الذي حبسها إن كان حيا، أو إلى ورثته الذين يرثونه، فتكون مالا لهم. وقد قال!: لا ترجع إليه، ولكنها تكون محبسة بمنزلة الذي يقول: لا تباع.
وأما إن قال: حبسا لا تباع، أو قال: حبسا، أو قال: حبسا صدقة، وإن كانوا قوما بأعيانهم، فهذه الموقوفة التي ترجع بعد موت المحبسة عليه إلى أقرب الناس بالمحبس، ولا ترجع إلى المحبس وإن كان حيا.
قال سحنون : وهو الذي يقوله أكثر الرواة عن مالك، وعليه يعتمدون، ولم يختلف قوله في هذا قط أنه إذا قال: حبس صدقة، أو قال: حبس لا تباع، وإن كانوا قوما بأعيانهم، إنما الموقوفة التي ترجع إلى أقرب الناس بالمحبس إن كان ميتا أو كان حيا، ولا ترجع إلى المحبس على حال ( ابن وهب ) عن مخرمة بن بكير، عن أبيه قال: يقال: لو أن رجلا حبس حبسا على أحد، ثم لم يقل: لك ولعقبك من بعدك، فإنها ترجع إليه، فإن مات قبل الذي حبس عليهم الحبس ثم ماتوا كلهم أهل الحبس فإنها ترجع ميراثا بين ورثة الرجل الذي حبس على كتاب الله.
عن ابن وهب عن يونس عن ربيعة أنه قال: من حبس داره على ولده وولد غيره فجعلها حبسا فهي حبس عليهم يسكنونها على قدر مرافقهم، وإن انقرضوا أخذها ولاته دون ولاة من كان منهم مع ولده إذا كانوا ولدا أو ولد ولد أو غيرهم.
قال سحنون : وأخبرني ابن وهب، عن يونس بن يزيد أنه سأل أبا الزناد عن رجل حبس على رجل وولده حبسا ما عاشوا، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، قال أبو الزناد : فهي على ما وضعها عليه ما بقي منهم أحد، فإن انقرضوا صارت إلى ولاة الذي حبس وتصدق. قال ربيعة ويحيى وابن شهاب : إن الحبس إذا رجع إنما يرجع إلى ولاة الذي حبس وتصدق.
4 - قال (1) ابن المواق على قول خليل : (إلا كعلى عشرة حياتهم فيملكه بعدهم): اللخمي إن قال: حبس على هؤلاء النفر وضرب أجلا أو قال: حياتهم رجع ملكا اتفاقا. واختلف إن لم يسم أجلا ولا حياة. وقال أبو عمر : من حبس على رجل بعينه، ولم يقل: على ولده، ولا جعل له مرجعا، فاختلف فيه، قول مالك، قال أصحابه المدنيون : يصرف لربه، وقال المصريون : يرجع لأقرب الناس حبسا.
5 - قال محمد بن جزي الغرناطي المالكي (2) : الفصل الرابع في مصرف الحبس بعد انقراض المحبس عليهم وذلك على ثلاثة أقسام:
الأول: حبس على قوم معينين، فإن ذكر لفظ الصدقة والتحريم لم
__________
(1) [التاج والإكليل، (6\ 30).
(2) [قوانين الأحكام الشرعية] ص (402).
ترجع إليه أبدا، وإن لم يذكرهما، فإذا انقرضوا فاختلف قول مالك، فقال أولا: ترجع إلى المحبس أو إلى ورثته، ثم قال: لا ترجع إليه، ولكن لأقرب الناس إليه.
الثاني: حبس على محصورين غير معينين، كأولاد فلان وأعقابهم.
الثالث: حبس على غير محصورين ولا معينين، كالمساكين، فلا يرجع إليه باتفاق، ويرجع إلى أقرب الناس إليه إن كان لم يعين له مصرفا، فإن عين مصرفا لم تعد إلى غيره.
6 - قال ابن المواق على قول خليل (1) : (وصدقة لفلان فله): قال عياض : إن قال: مكان هو حبس أو وقف هي صدقة، فإن عينها لشخص معين فهي ملك له، وإن قال: داري حبس على فلان وعين شخصا فاختلف فيه قول مالك، هل يكون مؤبدا لا يرجع ملكا، فإن مات فلان رجعت حبسا لأقرب الناس بالمحبس على سنة مراجع الأحباس، فإن لم يكن له قرابة رجعت للفقراء والمساكين. والقول الآخر: أنها ترجع بعد موت المحبس عليه ملكا للمحبس أو ورثته إن مات كالعمرى . اهـ.
7 - وقال عبد الله بن عبد الله بن سلمون الكناني (2) : وروى ابن المواز عن أشهب فيمن وهب هبة لرجل على أن لا يهب ولا يبيع، أن ذلك حبس عليه وعلى عقبه، فإن انقرض عقبه رجع حبسا على أقرب الناس للمحبس يوم يرجع إليه.
__________
(1) [التاج والإكليل] (6\32).
(2) كتاب [العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام] (2\ 101)، حاشية على [تبصرة الحكام].
8 - وقال أيضا (1) : ويجوز التحبيس على الحمل وعلى من يولد من الولد، وفي جواز بيعه قبل يأسه قولان. وقال ابن الماجشون : يحكم بتحبيسه، ويخرج إلى يد ثقة، فيصح الحوز وتوقف غلته، فإن ولد له كان لهم، وإلا فلأقرب الناس إليه. ومن حبس على قوم بأعيانهم ولم يذكر المرجع إلا أنه حبس عليهم فانقرض المحبس عليهم، فروى أن ذلك يرجع إلى المحبس ملكا أو إلى ورثته إن لم يكن حيا، وروى غيره أنه يرجع إليه أو إلى أقرب الناس إليه حبسا، فإن لم يكن له قرابة فإلى المساكين.
فإن أتى بما يقتضي التأبيد، مثل أن يقول: حبسا مؤبدا على فلان، وإن لم يذكر عقبه، أو ذكر العقب، فهو حبس مؤبد لا يرجع ملكا أبدا باتفاق.
وإذا رجع الحبس إليه بانقراض المحبس عليه فهو يجعله في الذي يراه من سبل الخير، والقرابة الذين يرجع إليهم الحبس هم عصبته من الرجال ومن النساء من لو كان رجلا كان عصبته، ولا يرجع إلى زوجته، ولا إلى جدة لأم باتفاق. وقيل: لا مدخل للنساء كلهن أصلا. اهـ.
9 - قال ابن القاسم (2) : وقال مالك في الرجل يحبس الحبس على رجل وعقبه أو عليه وعلى ولده وولد ولده، أو يقول رجل: هذه الدار حبس على ولدي ولم يجعل له مرجعا بعدهم فانقرضوا- أن هذا الحبس موقوف لا يباع ولا يوهب، ويرجع إلى أولى الناس بالمحبس يكون حبسا عليه.
__________
(1) [كتاب العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام] (2\103).
(2) [المدونة] (4\ 343).
قال ابن القاسم : قال مالك : إذا تصدق الرجل بداره على رجل وولده ما عاشوا ولا يذكر لهم مرجعا إلا صدقة هكذا لا شرط فيها، فيهلك الرجل وولده؟ قال: أرى أن ترجح حبسا على أقاربه في ا لمساكين ولا تورث.
10 - قال الحطاب نقلا عن ابن رشد (1) : قال في [المقدمات]: وللتحبيس ثلاثة ألفاظ... وإن تصدق بذلك على غير معين إلا أنهم محصورون، مثل أن يقول: داري صدقة على فلان وعقبه، هل ترجع بعد انقراض العقب مرجع الأحباس على أقرب الناس بالمحبس أو تكون لآخر العقب ملكا مطلقا؟ على قولين: روى أشهب عن مالك : أنها تكون لآخر العقب ملكا مطلقا، وحكى ابن عبدوس : أنها ترجع مرجع الأحباس، وهو قول مالك وبعض رجاله في [المدونة]، وقد قيل في المسألة قول ثالث: أن ذلك إعمار، وترجع بعد انقراض العقب إلى المصدق ملكا . اهـ.
__________
(1) [مواهب الجليل شرح مختصر خليل] (6\28).
11 - قال محمد بن يوسف العبدري - الشهير بابن المواق - على قول خليل : ورجع إن انقطع لأقرب فقراء عصبة المحبس وامرأة لو رجلت عصبت، قال ابن الحاجب (1) : إذا لم يتأبد رجع بعد انقطاع جهته ملكا لمالكه أو وارثه، وإذا تأبد رجع إلى عصبة المحبس من الفقراء، ثم للفقراء.
ابن عرفة : في الهبات منها لو قال: حبس عليك وعلى عقبك، قال مع
__________
(1) [التاج والإكليل لمختصر خليل] وهو على هامش [مواهب الجليل] للحطاب (6\ 29).
ذلك: صدقة، أولا، فإنها ترجع بعد انقراضهم لأولى الناس بالمحبس يوم المرجع من ولده أو عصبته ذكورهم وإناثهم سواء يدخلون في ذلك حبسا، ولو لم تكن إلا ابنة واحدة كانت لها حبسا لا يرجع إلى المحبس ولو كان حيا، وهي لذوي الحاجة من أهل المرجع دون الأغنياء، فإن كانوا كلهم أغنياء فهي لأقرب الناس بهم من الفقراء.
ونصها عند ابن يونس : قال مالك : من قال: هذه الدار حبس على فلان وعقبه، أو عليه وعلى ولده وولد ولده، أو قال: حبس على ولدي ولم يجعل لها مرجعا فهي موقوفة لا تباع ولا توهب، وترجع بعد انقراضهم حبسا على أولى الناس بالمحبس يوم الرجع وإن كان المحبس.
فقيل لابن المواز : من أقرب الناس بالمحبس الذي يرجع إليهم الحبس بعد انقراض من حبس عليهم؟ فقال: قال مالك : على الأقرب من العصبة، ومن النساء من لو كانت رجلا كانت عصبة للمحبس، فيكون ذلك عليهم حبسا، قال مالك : ولا يدخل في ذلك ولد البنات ذكرا أو أنثى ولا بنو الأخوات ولا زوج ولا زوجة. قال ابن القاسم : وإنما يدخل من النساء مثل العمات، والجدات وبنات الأخ والأخوات أنفسهن شقائق كن أم لأب، ولا يدخل في ذلك الإخوة والأخوات لأم.
محمد: واختلف في الأم فقال ابن القاسم : تدخل في مرجع الحبس، قلت: فإن كان ثم من سميت من النساء، وثم عصبة معهن والنساء أقرب؟ قال ابن القاسم : قال مالك : يدخلون كلهم إلا أن لا يكون سعة فليبدأ بإناث ذكور ولده على العصبة ثم الأقرب فالأقرب ممن سميت، وكذلك العصبة الرجال يبدأ بالأقرب فالأقرب... إلخ، وإذا لم يكن إلا النساء كان لهن
على قدر الحاجة إلا أن يفضل عنهن.
محمد : أحسن ما سمعت أن ينظر إلى حبسه أول ما حبس فإن كان إنما أراد المسكنة وأهل الحاجة جعل مرجعه كذلك على من يرجع، فإن كانوا أغنياء لم يعطوا منها، وإن كان إنما أراد مع ذلك القرابة وأثرتهم رجع عليهم وأوثر أهل الحاجة إن كان فيهم أغنياء. قاله مالك . اهـ.
محمد: فإن لم يكن فيهم فقير ردت إليهم إذا استووا في الغنى وكان أولاهم فيها الأقرب فالأقرب والذكر والأنثى فيه سواء في المرجع، فإن اشترط أن للذكر مثل حظ الأنثيين فلا شرط له؛ لأنه لم يتصدق عليهم، ألا ترى أنه لو لم يكن أقعد به يوم المرجع إلا أخت أو بنت الابن ذلك لها وحدها، وكذلك إذا كان معها ذكر كان بينهما شطران. اهـ.
12 - وقال الحطاب على قول خليل : (ورجع إن انقطع لأقرب فقراء عصبة المحبس) (1) قال: فإن كان أهل المرجع أغنياء، فقيل: يرجع إلى أولى الناس بهم، وقيل: يرجع إلى الفقراء والمساكين. انتهى من وشائق الجزيري . وقال في التوضيح ما يقتضي أن المشهور أنه يرجع إلى الفقراء.
13 - قال خليل (2) : ولا قبول مستحقة إلا المعين الأهل، فإن رد فكالمنقطع، قال ابن المواق على قول خليل : (فإن رد فكالمنقطع)، ابن الحاجب لا يشترط قبول الموقوف عليه إلا إن كان معينا وأهلا، فإذا رد بذلك فقيل: يرجع ملكا، وقيل: يكون لغيره، وذلك من نص ابن رشد إن
__________
(1) [مواهب الجليل] (6\29، 30).
(2) [التاج والإكليل] (6\32، 33).
حبسه عليه بعينه فأبى أن ينفي ورجع إلى صاحبه وإلا دفع لغيره، وللشيخ من أمر بشيء لسائل فلم يقبله دفع لغيره، وقال مالك : من جمع له ثمن كفن ثم كفنه رجل من عنده رد ما جمع لأهله. قال ابن رشد : هذا موافق للمدونة إن فضلت للمكاتب فضلة ردت على الذين أعانوه.
انظر نحو هذا في أول نوازل ابن سهل فيمن طاع بمال لأسير فهرب ذلك الأسير وأتى قومه بلا فداء، قال بعضهم: ذلك كالذي أخرج كسرة لمسكين فلم يجده، وقال ابن زرب : بل يرد إلى صاحبه، كما في سماع أصبغ في الجنائز: أن مالكا قال في قوم جمعوا دراهم يكفنون بها ميتا فكفنه رجل من عنده: إن الدراهم ترد إلى أهلها. وقال ابن القاسم : وفي سماع عبد الملك فيمن أوصى بدنانير لتنفق في بناء دار محبسة فاستحقت: أن الدنانير ترد إلى الورثة. اهـ.
14 - وقال ابن المواق أيضا على قول خليل : (وعلى اثنين وبعدهما على الفقراء نصيب من مات لهم) (1) ، قال ابن الحاجب : لو حبس على زيد وعمرو ثم على الفقراء فمات أحدهما- فحصته للفقراء، وإن كانت غلة، وإن كانت كركوب دابة وشبهه فروايتان.
ابن عرفة : يؤخذان من قول مالك فيها: من حبس حائطا على قوم معينين فكانوا يلونه ويسقونه فمات أحدهم قبل طيب الثمرة فجميعها لبقية أصحابه وإن لم يلوا عملها، وإنما تقسم عليهم الغلة فنصيب الميت لرب النخل، ثم رجع مالك إلى رد ذلك لمن بقي، وبهذا أخذ ابن القاسم .
__________
(1) [التاج والإكليل لمختصر خليل] (6\30).
ابن عرفة : ففي نقل حظ معين من طبقة بموته لمن بقي فيها أو لمن بعدها قولان: بالأول أفتى ابن الحاج، وبالثاني أفتى ابن رشد، وألف كل منهما على صاحبه . اهـ.
15 - قال عبد الله بن عبد الله بن سلمون الكناني (1) : ولا تصرف غلات الأحباس بعضها إلى بعض فيما يحتاج إليه عند ابن القاسم، وقال غيره: يجوز صرف ذلك إلى المساجد التي لا أحباس لها، وذلك فيما فضل عما يحتاج إليه، وعلى القول الأول أكثر الرواة، وقال أصبغ وابن الماجشون في العتبية: إن الأحباس كلها إذا كانت لله تعالى جاز أن ينفق بعضها في بعض، والسلف كذلك، فمن أجاز صرف ذلك أجاز السلف، ومن لم يجزه منعه.
وكتب شجرة إلى سحنون في مسجدين أو ثغرين متقاربين من المرابطات: وضع في هذا سلاح وفي هذا سلاح ينتفع به المرابطون فيحتاج أهل أحد الموضعين إلى ما في الآخر؛ لينتفعوا به، ويصرفوه:- أن كل موضع أولى بما فيه. وسئل ابن رشد في مسجد جامع تهدمت بلاطة داره وليس في مستقلات أملاكه ما يبنى منه بعد نفقات وقيده وأجرة أئمته وخدمته، وعندنا مساجد قد فضل من غلاتها كثير فهل ترى أن تبنى البلاطات من فضلات هذه المساجد أو أن تؤخذ على السلف إلى أن ترد من غلات المسجد الجامع، فقال: ما كان من المساجد لا يفضل من غلات أحباسها إلا يسير فلا يجوز أن يؤخذ منه شيء لبنيان الجامع؛ مخافة أن تقل
__________
(1) [العقد المنظم للحكام] (2\106) وما بعدها.
الغلة فيما يستقبل فلا تقوم بما يحتاج إليه، وما كان منها يفضل من غلاتها كثير حتى يؤمن احتياج المسجد إليها فيما يستقبل فجائز أن يبنى ما انهدم من الجامع بما إذا لم يكن في غلات أحباسه ما يبنى به ما انهدم منه على ما أجازه من تقدم من العلماء.
وسئل أيضا في مسجد له غلة واسعة هل تستنفذ غلته في أجرة إمامه وحصره وزيت وقيده، ولا يوفر منها شيء، أو يوفر من غلته وتوقف؟ وهل يبتاع بها أصل ملك يكون حبيسا؟
فقال: لا يجوز أن تستنفذ غلة أحباس الجامع في أجرة إمامه وقومته وحصره وزيت وقيده، والواجب فيما فضل من غلته بعد أجرة إمامه المفروضة له بالاجتهاد، وبعد أجرة قومته وما يحتاج إليه من حصر وزيت بالسداد في ذلك دون سرف- أن توقف لما يحتاج إليه من نوابيه، ولما خشي من انتقاص غلته، وإن كان في الفاضل منها ما يبتاع به أصل ملك يكون كسبيل سائر أحباسه فذلك صوابه، ووجه من وجوه النظر.
16 - قال ابن المواق على قول خليل : (وفي كقنطرة لم يرج عودها في مثلها ولا وقف لها) (1)
ابن عرفة شبه المصرف مثله إن تعذر، قال ابن المكوى : من حبس أرضا على مسجد فخرب وذهب أهله يجتهد القاضي في حبسه بما يراه... ولأصبغ عن ابن القاسم في مقبرة عفت لا بأس ببنيانها مسجدا، وكلما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه على بعض.
__________
(1) [التاج والإكليل] (6\31، 32).
ومن نوازل البرزلي : بل الفتيلة من قنديل المسجد وأخذ زينته لا يجوز، ولو كان ذلك لمسجد آخر لجرى على الخلاف بين الأندلسيين والقرويين في صرف الأحباس بعضها في بعض، وعلى الجواز العمل اليوم، مثل صرف أحباس جامع الزيتونة لجامع الموحدين، وأخذ حصره السنة بعد السنة وزيته كذلك.
وسئل ابن علاق عن حبس على طلاب العلم للغرباء أنه إن لم يوجد غرباء دفع لغير الغرباء، قال: ويشهد لهذا فتيا سحنون في فضل الزيت على المسجد أنه يؤخذ منه في مسجد آخر، وفتيا ابن دحون في حبس على حصن تغلب عليه يدفع في حصن آخر، قال: وما كان لله واستغني عنه فجائز أن يستعمل في غير ذلك الوجه ما هو لله، ومنها فتيا ابن رشد في فضل غلات مسجد زائدة على حاجته أن يبنى بها مسجد تهدم. وقال عياض : إن جعل حبسه على وجه معين غير محصور، كقوله حبس في السبيل أو في وقيد مسجد كذا، أو إصلاح قنطرة كذا، فحكمه حكم الحبس المبهم يوقف على التأبيد ولا يرجع ملكا، فإن تعذر ذلك الوجه بجلاء البلد أو فساد موضع القنطرة حتى يعلم أنه لا يمكن أن يبنى وقف إن طمع بعود إلى حاله أو صرف في مثله. اهـ.
مما تقدم من النقول يتلخص ما يأتي:
1 - لا يشترط في صحة الوقف التأبيد ولا تعيين المصرف ولا الموقوف عليه، فيصح الوقف المنقطع أولا ووسطا وآخرا. والوقف الذي لم يذكر له مصرف أو ذكر ونسي أو جهل، فمن قال: حبست كذا من العقار أو المنقول، أو قال: وقفته، صح وقفه، وكان مؤبدا، ثم إن كان ببلد
الوقف عرف بوضع الأوقاف في مصرف معروف عمل به، وإلا فمصرفه الفقراء والمساكين، ومن حبس على غير معين مثل: حبست أو وقفت داري مثلا على ولدي أو على ولدي وولد ولدي ولم يسم أحدا أو على زيد وعقبه ولم يذكر مرجعا فهي حبس مؤبد، وترجع بعد انقراضهم وقفا على أقرب فقراء عصبة المحبس يوم رجوع الوقف إليهم من الرجال، ومن النساء من لو قدرت ذكرا لكانت عاصبا، ويستوي الذكر والأنثى في الاستحقاق، ولو قال الواقف: للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنهم استحقوه وقفا عند الانقراض بحكم الشرع لا بسبب إنشاء الواقف، وعلى ذلك لا تدخل الجدة من الأم ولا الإخوة والأخوات من الأم ولا الخالة... إلخ.
وتدخل العمة والأم وبنت الأخ وبنت الابن... إلخ. وقيل: لا يدخل النساء في هذا أصلا، فإن كانوا كلهم أغنياء أو لم يوجدوا رجع إلى أقرب فقراء عصبتهم، فإن لم يوجدوا رجع إلى الفقراء. وقيل: ترد إليهم إذا استووا في الغنى وكان أولاهم فيها الأقرب فالأقرب، وإن لم يستووا في الغنى فلأدناهم غنى.
ولا يدخل الواقف في ذلك ولو كان فقيرا، ولا يدخل أيضا مواليه ولو فقراء. أما إن حبس شيئا على معين أو قوم بأعيانهم وسماهم بأسمائهم، فإن قال: حبس صدقة، أو قال: حبس لا يباع ولا يوهب، أو قال: وعقبهم، فهو وقف مؤبد مرجعه عند الانقراض مرجع الوقف على غير المعين، وإن لم يقل: صدقة، ولا قال: لا تباع ولا توهب، ولا ذكر عقبا ولا مرجعا، فمعناه: أنه لهم مدة حياتهم فيكون إعمارا. وعلى ذلك يرجع بعد انقراضهم إلى المحبس إن كان حيا، وإلا فلورثته ملكا لا وقفا. وقيل:
يرجع إلى أقرب فقراء عصبة المحبس كالذي قبله.
2 - من وقف على زيد وعمرو مثلا وبعدهما على الفقراء فنصيب من مات منهما للفقراء لا للحي منهما، سواء قال حياتهما أم لا، احتياطا لجانب الفقراء. ومن وقف على قوم محصورين حياتهم أو حياة الواقف أو حياة زيد مثلا أو ذكر أجلا انتقل نصيب من مات منهم للحي من أصحابه ولو واحدا، احتياطا لجانب الموقوف عليهم؛ ليستمر الوقف عليهم حياتهم.
فإذا انقرضوا جميعا رجع الحبس ملكا لواقفه، أو لوارثه إن كان قد مات، فإن لم يقل حياتهم، ولم يذكر أجلا رجع مراجع الأحباس على الأصح.
3 - من وقف حائطا على معينين فمات أحدهم قبل طيب الثمرة فنصيبه لأصحابه على كل حال، وهو الذي رجع إليه مالك.
4 - من وقف على أولاده ثم أولاد أولاده حجب كل فرد في الطبقة العليا فرعه فقط دون فرع غيره إلا إن جرى عرف بخلافه.
5 - من وقف على من سيولد صح الوقف، وتوقف الغلة إلى أن يوجد فيعطاها، فإن حصل مانع من وجوده كموت أو يأس رجعت الغلة للمالك إن كان حيا، وإلا فلورثته، وفي جواز بيع الواقف ذلك قبل اليأس قولان.
6 - يجب على من تولى الوقف أن يدخر من فاضل غلته ما ينفقه على الموقوف عليه عند الحاجة، وإن كان في فاضل الغلة ما يمكن أن يشترى به شيء للوقف اشتراه وضمه للأصل.
7 - لا تصرف غلات الأحباس بعضها إلى بعض، وقيل: يجوز صرف
فضل غلات حبس إلى حبس آخر لا أحباس له، أو له أحباس لا تكفيه.
8 - ما حبس على منفعة عامة كقنطرة ومدرسة ومسجد فخرب الموقوف عليه - فإن رجي عوده ادخرت غلة الوقف، لتصرف في ترميمه وإصلاحه أو في إعادته وإنشائه من جديد، وإن لم يرج عود الموقوف عليه صرفت في مثله حقيقة، كغلة مسجد في مسجد آخر، وإن لم يمكن صرفت في مثله نوعا بأن تصرف في قرية أخرى.
ج-
مذهب الشافعية
1 - قال الشيرازي (1) :وإن وقف وقفا متصل الابتداء منقطع الانتهاء بأن وقف على رجل بعينه ولم يزد عليه، أو على رجل بعينه ثم على عقبه ولم يزد عليه ففيه قولان:
أحدهما: أن الوقف باطل؛ لأن القصد بالوقف أن يتصل الثواب على الدوام، وهذا لا يوجد في هذا؛ لأنه قد يموت الرجل وينقطع عقبه.
والثاني: أنه يصح، ويصرف بعد انقراض الموقوف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأن مقتضى الوقف الثواب على التأبيد فحمل فيما سماه على ما شرطه، وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد، ويقدم المسمى على غيره، فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأنه من أعظم جهات الثواب، والدليل عليه: قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا صدقة وذو رحم محتاج » (2) ، وروى سليمان بن عامر عن
__________
(1) [المهذب، (1\441، 442).
(2) قال الهيثمي في [مجمع الزوائد]: وفيه عبد الله بن عامر الأسلمي، وهو ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بالمتروك، أما بقية رجاله فثقات.
النبي صلى الله عليه وسلم قال: « صدقتك على المساكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة » (1) ،- هذا الحديث أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، وحسنه الترمذي - وهل يختص به فقراؤهم، أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء فيه قولان:
أحدهما: يختص به الفقراء؛ لأن مصرف الصدقات إلى الفقراء.
والثاني: يشترك فيه الفقراء والأغنياء؛ لأن في الوقف الغني والفقير سواء، وإن وقف وقفا منقطع الابتداء متصل الانتهاء بأن وقف على عبد ثم على الفقراء أو على رجل غير معين ثم على الفقراء - ففيه طريقان:
من أصحابنا من قال: يبطل قولا واحدا؛ لأن الأول باطل. والثاني فرع لأصل باطل فكان باطلا، ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: أنه باطل؛ لما ذكرناه
والثاني: أنه يصح؛ لأنه لما بطل الأول صار كأن لم يكن وصار الثاني أصلا، فإذا قلنا: إنه يصح فإن كان الأول لا يمكن اعتبار انقراضه كرجل غير معين صرف إلى من بعده وهم الفقراء؛ لأنه لا يمكن اعتبار انقراضه فسقط حكمه.
وإن كان يمكن اعتبار انقراضه كالعبد ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ينقل في الحال إلى من بعده؛ لأن الذي وقف عليه في الابتداء لم يسمح الوقف عليه، فصار كالمعدوم.
والثاني: وهو المنصوص أنه للواقف، ثم لوارثه إلى أن ينقرض الموقوف عليه، ثم يجعل لمن بعده، لأنه لم يوجد شرط الانتقال إلى الفقراء على حكمه.
والثالث: أن يكون لأقرباء الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه، ثم
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2582),سنن ابن ماجه الزكاة (1844),مسند أحمد بن حنبل (4/214),سنن الدارمي الزكاة (1680).
يجعل للفقراء؛ لأنه لا يمكن تركه على الواقف؛ لأنه أزال الملك فيه، ولا يمكن أن يجعل للفقراء؛ لأنه لم يوجد شرط الانتقال إليهم فكان أقرباء الواقف أحق. وهل يختص به فقراؤهم أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء؟ على ما ذكرنا من القولين.
وقال أيضا: فصل: وإن وقف وقفا مطلقا ولم يذكر سبيله ففيه قولان:
أحدهما: أن الوقف باطل؛ لأنه تمليك فلا يصح مطلقا، كما لو قال: بعت داري ووهبت مالي.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة فصح مطلقا كالأضحية، فعلى هذا يكون حكمه حكم الوقف المتصل الابتداء المنقطع الانتهاء وقد بيناه . اهـ.
2 - وقال محمد بن محمد أبو حامد الغزالي في أثناء الكلام على الركن الرابع (1) :
وفي الوقف المنقطع آخره قولان. كما لو وقف على أولاده ولم يذكر من يصرف إليه بعدهم. فإن قلنا بالصحة فقولان في أنه هل يعود ملكا إلى الواقف أو إلى تركته بعد انقراضهم. فإن قلنا: لا يعود، فيصرف إلى أهم الخيرات. وقيل: إنه لأقرب الناس إليه، وقيل: إنه للمساكين، (و) وقيل: إنه للمصالح إذ أهم الخيرات أعمها. ولو قال: وقفت على من سيولد من أولادي فهو منقطع الأول فقولان كمنقطع الآخر. وقيل: يبطل قطعا؛ لأنه لا مقر له في الحال. وإن صححنا، فإذا وقف على عبده أو على وارثه وهو مريض ثم بعده على المساكين فهو منقطع الأول. ولو اقتصر
__________
(1) [الوجيز] (1\148).
على قوله: وقفت، لم يصح (م) على الأظهر. وقيل يصح ثم يصرف إلى أهم الخيرات كما ذكرنا في منقطع الآخر. ولو وقف على شخصين وبعدهما على المساكين فمات أحدهما فنصيبه لصاحبه أو للمساكين فيه وجهان، فلو رد البطن الثاني وقلنا: يرتد برده فقد صار منقطع الوسط ففي مصرفه ما ذكرناه، وقيل: إنه يصرف إلى الجهة العامة المذكورة بعد انقراضهم في شرط الوقف. وقيل: يصرف إلى البطن الثالث ويجعل الذين ردوا كالمعدومين.
3 - قال النووي (1) : الشرط الرابع: بيان المصرف، فلو قال: وقفت هذا واقتصر عليه، فقولان، وقيل: وجهان، أظهرهما عند الأكثرين: بطلان الوقف، كقوله: بعت داري بعشرة أو وهبتها، ولم يقل لمن، ولأنه لو قال: وقفت على جماعة، لم يصح لجهاله المصرف. فإذا لم يذكر المصرف فأولى أن لا يصح.
والثاني: يصح، وإليه ميل الشيخ أبي حامد، واختاره صاحب [المهذب]، والروياني، كما لو نذر هديا أو صدقة ولم يبين المصرف، وكما لو قال: أوصيت بثلثي فإنه يصح ويصرف إلى المساكين، وهذا إن كان متفقا عليه فالفرق مشكل.
قلت: الفرق: أن غالب الوصايا للمساكين، فحمل المطلق عليه، بخلاف الوقف، ولأن الوصية مبنية على المساهلة، فتصح بالمجهول والنجس وغير ذلك بخلاف الوقف. والله أعلم. فإن صححنا ففي مصرفه
__________
(1) [روضة الطالبين] (5\331، 332).
الخلاف في منقطع الآخر إذا صححناه، وعن ابن سريج، يصرفه الناظر فيما يراه من البر، كعمارة المساجد والقناطر، وسد الثغور وتجهيز الموتى وغيرها.
4 - وقال النووي (1) : إذا وقف وقفا منقطع الآخر، بأن قال: وقفت على أولادي، أو قال: وقفت على زيد ثم على عقبه ولم يزد، ففي صحته ثلاثة أقوال:
أظهرها عند الأكثرين: الصحة، منهم القضاة: أبو حامد، والطبري، والروياني، وهو نصه في [المختصر].
والثاني: البطلان وصححه المسعودي والإمام.
والثالث: إن كان الموقوف عقارا فباطل، وإن كان حيوانا صح؛ لأن مصيره إلى الهلاك، وربما هلك قبل الموقوف عليه، فإن صححنا فإذا انقرض المذكور فقولان:
أحدهما: يرتفع الوقف ويعود ملكا للواقف، أو إلى ورثته إن كان مات، وأظهرهما: يبقى وقفا، وفي مصرفه أوجه: أصحها: وهو نصه في [المختصر] يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف يوم انقراض المذكور، والثاني: إلى المساكين، والثالث: إلى المصالح العامة مصارف خمس الخمس، والرابع: إلى مستحقي الزكاة. فإن قلنا: إلى أقرب الناس إلى الواقف، فيعتبر قرب الرحم، أم استحقاق الإرث؟ وجهان: أصحهما الأول، فيقدم ابن البنت على ابن العم ؛ لأن المعتبر صلة الرحم.
وإذا اجتمع جماعة، فالقول في الأقرب كما سيأتي في الوصية للأقرب، وهل يختص بفقراء الأقارب، أم يشاركهم أغنياؤهم؟ قولان:
__________
(1) [روضة الطالبين] (5\326).
أظهرهما الاختصاص، وهل هو على سبيل الوجوب أم الاستحباب؟ وجهان.
وإن قلنا: يصرف إلى المساكين ففي تقديم جيران الواقف وجهان: أصحهما: المنع؛ لأنا لو قدمنا بالجوار، لقدمنا بالقرابة بطريق الأولى.
5 - وقال أيضا (1) : فرع: قال: وقفت هذا على زيد شهرا، على أن يعود إلى ملكي بعد الشهر فباطل على المشهور. وفي قول يصح، فعلى هذا، هل يعود ملكا بعد الشهر، أم يكون كالمنقطع حتى يصرف بعد الشهر إلى أقرب الناس إلى الواقف، قولان حكاهما البغوي .
6 - وقال أيضا (2) : الشرط الثاني: التنجيز، فلو قال: وقفت على من سيولد لي أو على مسجد سيبنى، ثم على الفقراء، أو قال: على ولدي ثم على الفقراء، ولا ولد له، فهذا وقف منقطع الأول، وفيه طريقان: أحدهما: القطع بالبطلان، والثاني: على القولين في منقطع الآخر، والمذهب هنا: البطلان، وهو نصه في [المختصر] فإن صححنا نظر، إن لم يمكن انتظار من ذكره كقوله: وقفت على ولدي ولا ولد له، أو على مجهول، أو ميت، ثم على الفقراء فهو في الحال مصروف إلى الفقراء، وذكر الأول لغو، وإن أمكن إما بانقراضه كالوقف على عبد، ثم على الفقراء، وإما بحصوله كولد سيولد له فوجهان:
أحدهما: تصرف الغلة إلى الواقف حتى ينقرض الأول، وعلى هذا
__________
(1) [روضة الطالبين] (5\327).
(2) [روضة الطالبين] (5\327).
ففي ثبوت الوقف في الحال وجهان، والثاني: وهو الأصح تنقطع الغلة عن الواقف، وعلى هذا أوجه: أصحها: تصرف في الحال إلى أقرب الناس إلى الواقف، فإذا انقرض المذكور أولا صرف إلى المذكور بعده، وعلى هذا فالقول في اشتراط الفقر وسائر التفاريع على ما سبق، والثاني: يصرف إلى المذكورين بعده في الحال، والثالث: أنه للمصالح العامة. اهـ.
7 - وقال في أثناء الكلام على صور الانقطاع- قال (1) : الثالثة: متصل الطرفين منقطع الوسط، بأن وقف على أولاده ثم رجل مجهول، ثم الفقراء، فإن صححنا منقطع الآخر فهذا أولى، وإلا فوجهان: أصحهما: الصحة، ويصرف عند توسط الانقطاع إلى أقرب الناس إلى الواقف وإلى المساكين أو المصالح أو الجهة العامة المذكورة آخرا، فيه الخلاف السابق. الرابعة: أن ينقطع الطرفان دون الوسط، بأن وقف على رجل مجهول ثم على أولاده فقط، فإن أبطلنا منقطع الأول فهذا أولى، وإلا فالأصح بطلانه أيضا، فإن صححنا ففي من يصرف إليه الخلاف السابق.
8 - وقال في الكلام على اتباع شروط الواقف - قال (2) : ثم الوجهان فيما إذا قال: على أصحاب الحديث، فإذا انقرضوا فعلى عامة المسلمين، أما إذا لم يتعرض للانقراض ففيه خلاف، قلت: يعني: اختلفوا في صحة الوقف لاحتمال انقراض هذه الطائفة، والأصح أو الصحيح: الصحة . اهـ.
9 - وقال أيضا في الكلام على مسائل تتعلق بالباب الأول (3) - قال:
__________
(1) روضة الطالبين (5\328).
(2) روضة الطالبين (5\330).
(3) روضة الطالبين (5\332- 333).
الأولى: وقف على رجلين، ثم على المساكين، فمات أحدهما، ففي نصيبه وجهان: أصحهما وهو نصه في حرملة: يصرف إلى صاحبه.
والثاني: إلى المساكين، والقياس: أن لا يصرف إلى صاحبه ولا إلى المساكين، بل صار الوقف في نصيب الميت منقطع الوسط.
قلت: معناه: يكون صرفه مصرف منقطع الوسط؛ لأنه يجيء خلاف في صحة الوقف. والله أعلم.
10 - وقال أيضا: الثانية: وقف على شخصين ولم يذكر من يصرف إليه بعدهما وصححنا الوقف فمات أحدهما فنصيبه للآخر، أم حكمه حكم نصيبهما إذا ماتا؟ فيه وجهان:
الثالثة: وقف على بطون، فرد البطن الثاني، وقلنا: يرتد بردهم فهذا وقف منقطع الوسط، وسبق بيانه، وفيه قول أو وجه: أنه يصرف إلى البطن الثالث.
11 - وقال أيضا: السادسة: قال: جعلت داري هذه خانقاه للغزاة، لم تصر وقفا بذلك، ولو قال: تصدقت بها صدقة محرمة ليصرف من غلتها كل شهر إلى فلان كذا، ولم يزد عليه، ففي صحة هذا الوقف وجهان. فإن صح، ففي الفاضل عن المقدار أوجه: أحدها: الصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، والثاني: إلى المساكين، والثالث: تكون ملكا للواقف.
12 - قال النووي والرملي في الكلام على شروط الواقف (1) : ولا أثر
__________
(1) [المنهاج] وشرحه [نهاية المحتاج] (5\373) وما بعدها، و[شرح المحلى على المنهاج] (3\102) لقليوبي وعميرة.
لتأقيت الاستحقاق، كعلى زيد سنة، ثم على الفقراء، أو إلا أن يولد لي ولد، كما نقله البلقيني عن الخوارزمي وجزم به ابن الصباغ، وجرى عليه في الأنوار، ولا للتأقيت الضمني في منقطع الآخر المذكور في قوله: (ولو قال: وقفت على أولادي أو على زيد ثم نسله) أو نحوهما مما لا يدوم ولم يزد على ذلك ( فالأظهر: صحة الوقف)؛ لأن مقصوده القربة والدوام، فإذا بين مصرفه ابتداء سهل إدامته على سبيل الخير (فإذا انقرض المذكور) أو لم تعرف أرباب الوقف (فالأظهر أنه يبقى وقفا)؛ لأن وضع الوقف الدوام، كالعتق، ولأنه صرفه عنه فلا يعود، كما لو نذر هديا إلى مكة فرده فقراؤها.
والثاني: يرتفع الوقف ويعود ملكا للواقف أو إلى ورثته إن كان مات؛ لأن بقاء الوقف بلا مصرف متعذر وإثبات مصرف لم يذكره الواقف بعيد فتعين ارتفاعه (و) الأظهر: (أن مصرفه أقرب الناس) رحما، لا إرثا؛ فيقدم وجوبا ابن بنت على ابن عم.
ويؤخذ منه صحة ما أفتى به العراقي : أن المراد بما في كتب الأوقاف ثم الأقرب إلى الواقف أو المتوفى قرب الدرجة والرحم لا قرب الإرث والعصوبة فلا ترجيح بهما في مستويين في القرب من حيث الرحم والدرجة، ومن ثم قال: لم يرجح عم على خالة، بل هما مستويان، ويعتبر فيهم الفقر، ولا يفضل الذكر على غيره فيما يظهر (إلى الواقف) بنفسه (يوم انقراض المذكور) لأن الصدقة على الأقارب أفضل القربات، فإذا تعذر الرد للواقف تعين أقربهم إليه؛ لأن الأقارب مما حث الشرع عليهم في جنس الوقف لخبر طلحة : (أرى أن تجعلها في الأقربين) وبه فارق عدم
تعيينهم في نحو الزكاة على أن لهذه مصرفا عينه الشارع بخلاف الوقف، ولو فقدت أقاربه أو كانوا كلهم أغنياء صرف الريع لمصالح المسلمين، كما نص عليه البويطي في الأولى، أو إلى الفقراء والمساكين على ما قاله سليم الرازي وابن الصباغ والمتولي وغيرهم، أو قال: ليصرف من غلته لفلان كذا وسكت عن باقيها فكذلك، وصرح في الأنوار بعدم اختصاصه بفقراء بلد الوقف بخلاف الزكاة.
أما الإمام إذا وقف منقطع الآخر فيصرف للمصالح لا لأقاربه، كما أفاده الزركشي وهو ظاهر (ولو كان الوقف منقطع الأول كوقفته على من سيولد لي) أو على مسجد سيبنى ثم على الفقراء مثلا (فالمذهب بطلانه) لتعذر الصرف إليه حالا ومن بعده فرعه.
والطريق الثاني فيه قولان: أحدهما: الصحة، وصححه المصنف في [تصحيح التنبيه] ولو لم يذكر بعد الأول مصرفا بطل قطعا؛ لأنه منقطع الأول والآخر، ولو قال: وقفت على أولادي ومن سيولد لي على ما أفصله، ففصله على الموجودين وجعل نصيب من مات منهم بلا عقب لمن سيولد له صح، ولا يؤثر فيه قوله: وقفت على أولادي ومن سيولد لي؛ لأن التفصيل بعده بيان له (أو) كان الوقف (منقطع الوسط) بالتحريك كوقفته على أولادي ثم) على (رجل) مبهم، وبه يعلم أنه لا يضر تردد في صفة أو شرط أو مصرف دلت قرينة قبله أو بعده على تعينه، إذ لا يتحقق الانقطاع إلا مع الإبهام من كل وجه، (ثم الفقراء، فالمذهب صحته)؛ لوجود المصرف حالا ومالا، ومصرفه عند الانقطاع كمصرف منقطع الآخر، لكن محله إن عرف أمد انقطاعه، فإن لم يعرف كرجل صرف بعد
موت الأول لمن بعد المتوسط كالفقراء، كما أفاده ابن المقري، وإطلاق الشارح ككثير محمول على ذلك (ولو اقتصر على) قوله: (وقفت) كذا ولم يذكر مصرفا أو ذكر مصرفا متعذرا كوقفت كذا على جماعة (فالأظهر بطلانه) وإن قال لله؛ لأن الوقف يقتضي تمليك المنافع، فإذا لم يعين متملكا بطل كالبيع، ولأن جهالة المصرف كعلى من شئت ولم يعينه عند الوقف أو من شاء الله يبطله فعدمه بالأولى، وإنما صح أوصيت بثلثي ولم يذكر مصرفا حيث يصرف للمساكين؛ لأن الغالب الوصايا لهم، فحمل الإطلاق عليه، ولأنها أوسع لصحتها بالمجهول والنجس، وما بحثه الأذرعي من أنه لو نوى المصرف وأعترف به صح، مردود.
كما قاله الغزي بأنه لو قال: طالق ونوى زوجته لم يصح، لأن النية إنما تؤثر مع لفظ يحتملها، ولا لفظ هنا يدل على المصرف أصلا، ويؤخذ منه أنه لو قال في جماعة أو واحد: نويت معينا لا يصح، قيل: وهو متجه.
13 - قال النووي والمحلى (1) : (ولو قال: وقفت على أولادي أو على زيد ثم نسله ولم يزد فالأظهر: صحة الوقف) ويسمى: منقطع الآخر، والثاني: بطلانه لانقطاعه، والثالث: إن كان الموقوف حيوانا صح الوقف؟ إذ مصير الحيوان إلى الهلاك فقد يهلك قبل الموقوف عليه بخلاف العقار (فإذا انقرض المذكور) بناء على الصحة (فالأظهر: أنه يبقى وقفا) والثاني: يعود ملكا للواقف أو ورثته إن مات، (و) الأظهر على الأول (أن مصرفه أقرب الناس إلى الواقف يوم انقراض المذكور) لما فيه من صلة
__________
(1) قليوبي وعميرة ومعهما [المحلى على المنهاج] (3\102)
الرحم ويختص بفقراء قرابة الرحم فيقدم ابن البنت على ابن العم، والثاني: مصرفه للمساكين، والثالث: المصالح العامة مصارف خمس الخمس (ولو كان الوقف منقطع الأول كوقفته على من سيولد لي) ثم الفقراء (فالمذهب بطلانه) لانقطاع أوله، والطريق الثاني فيه قولان: أحدهما: الصحة، ويصرف في الصورة المذكورة في الحال إلى أقرب الناس إلى الواقف على ما تقدم بيانه، وقيل: إلى المذكورين بعد الأول.
ومن صوره وقفت على ولدي، ثم على الفقراء، ولا ولد له فيصرف على القول بالصحة في الحال إلى الفقراء، وذكر الأول لغو، (أو) كان الوقف (منقطع الوسط، كوقفت على أولادي، ثم رجل، ثم الفقراء، فالمذهب صحته) وقيل: لا يصح بناء على عدم الصحة في منقطع الآخر، وعلى الصحة يصرف بعد الأول فيه مصرف منقطع الآخر على الخلاف المتقدم فيه (ولو اقتصر على وقفت) كذا (فالأظهر بطلانه) لعدم ذكر مصرفه، والثاني: يصح، ويصرف مصرف منقطع الآخر على الخلاف المتقدم فيه.
14 - وقال قليوبي على قول النووي : (أقرب الناس) قال (1) : (قوله: أقرب الناس... إلخ) إلا إن كان الواقف الإمام فيصرف لمصالح المسلمين وجوبا إن كانت أهم وإلا خير بينهما ومثل ذلك وقف جهلت أربابه.
15 - وقال أيضا على قول المحلى: (فيقدم) قال (2) : (قوله: فيقدم)
__________
(1) قليوبي وعميرة ومعهما [المحلى على المنهاج] (3\102).
(2) قليوبي وعميرة ومعهما [المحلى على المنهاج] (3\102).
أي: وجوبا ولا يفضل ذكر على أنثى، ويستوي خال وعمة لاستوائهما قربا.
16 - وقال قليوبي أيضا (1) : (قوله: والثاني مصرفه المساكين.. إلخ) حمل على ما إذا فقد الأقارب أو كانوا كلهم أغنياء.
17 - وقال أيضا (2) : (قوله: المصالح العامة) حمل على كونه الأهم، أو فقد من قبله ولا يختص بفقراء بلد الواقف أو الوقف بخلاف الزكاة.
(فرع) لو قال الواقف: يصرف من ريعه لفلان كذا وسكت عن باقيه فحكم ذلك الباقي ما ذكر، قال عميرة (3) : (قول الشارح: المساكين) هل المراد مساكين بلد الواقف أو الوقف؛ الظاهر: الثاني نظرا إلى اعتبارهم في الزكاة فقراء بلد المال.
تنبيه: منقطع الأول فيه تعليق ضمني، كما أن منقطع الآخر فيه تأقيت ضمني.
18 - وقال الرملي على قول النووي : (ولو وقف على شخصين) كهذين (ثم الفقراء) مثلا (فمات أحدهما، فالأصح المنصوص: أن نصيبه يصرف إلى الآخر)؛ لأن شرط الانتقال إلى الفقراء انقراضهما جميعا ولم يوجدوا إذا امتنع الصرف إليهم، فالصرف لمن ذكره الواقف أولى، والثاني: يصرف إلى الفقراء كما يصرف إليهم إذا ماتا، ومحل الخلاف ما لم يفصل وإلا بأن قال: وقفت على كل منهما نصف هذا، فهما وقفان كما
__________
(1) قليوبي وعميرة (3\102).
(2) قليوبي وعميرة (3\102)
(3) قليوبي وعميرة (3\102)
ذكره السبكي، فلا يكون نصيب الميت منهما للآخر، بل الأقرب انتقاله للفقراء إن قال: ثم على الفقراء، فإن قال: ثم من بعدهما على الفقراء فالأقرب انتقاله للأقرب إلى الواقف، ولو وقف عليهما وسكت عمن يصرف له بعدهما فهل نصيبه للآخر منهما أو لأقرباء الواقف؟ وجهان: أوجههما كما أفاده الشيخ: الأول، وصححه الأذرعي، ولو رد أحدهما أو بان ميتا فالقياس على الأصح صرفه للآخر، ولو وقف على زيد ثم عمرو ثم بكر ثم الفقراء، فمات عمرو قبل زيد، ثم مات زيد، قال الماوردي والروياني : لا شيء لبكر، وينتقل الوقف من زيد إلى الفقراء؛ لأنه رتبه بعد عمرو، وعمرو بموته أولا لم يستحق شيئا، فلم يجز أن يتملك بكر عنه شيئا، وقال القاضي في فتاويه: الأظهر: أن يصرف إلى بكر؛ لأن استحقاق الفقراء مشروط بانقراضه، كما لو وقف على ولده ثم ولد ولده ثم الفقراء، فمات ولد الولد ثم الولد، يرجع للفقراء، ويوافقه فتوى البغوي في مسألة حاصلها: أنه إذا مات واحد من ذرية الواقف في وقف الترتيب قبل استحقاقه للوقف لحجبه بمن فوقه يشارك ولده من بعده عند استحقاقه. قال الزركشي : وهذا هو الأقرب.
ولو وقف على أولاده فإذا انقرض أولادهم فعلى الفقراء، فالأوجه - كما صححه الشيخ أبو حامد - أنه منقطع الوسط؛ لأن أولاد الأولاد لم يشرط لهم شيئا وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم، واختار ابن أبي عصرون دخولهم وجعل ذكرهم قرينة على استحقاقهم، واختاره الأذرعي .
19 - قال النووي والمحلى (1) : (ولو وقف على شخصين) معينين (ثم الفقراء فمات أحدهما فالأصح المنصوص: أن نصيبه يصرف إلى الآخر) لأنه أقرب إلى غرض الواقف، والثاني: يصرف إلى الفقراء كنصيبهما إذا ماتا، قال في المحرر: كالشرح والقياس أن يجعل الوقف في نصيبه منقطع الوسط، قال في الروضة: معناه يكون مصرفه مصرف منقطع الوسط لا أنه يجيء خلاف في صحة الوقف. انتهى، ويوافق البحث حكاية وجه بعده بالصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف.
20 - قال قليوبي (2) : (قوله: على شخصين) أي: ولم يفصل وإلا كأن قال: لهذا نصفه ولذاك نصفه فهما وقفان، ثم إن كان قال: ثم الفقراء، صرف نصيب الميت لهم، وإن كان قال: ثم من بعدهما للفقراء كان للآخر.
21 - وقال النووي والمحلى (3) (ولو انهدم مسجد وتعذرت إعادته لم يبع بحال) لإمكان الصلاة فيه في الحال.
22 - قال قليوبي : قوله: ولو انهدم مسجد، أي: وتعذرت الصلاة فيه لخراب ما حوله مثلا.
23 - وقال قليوبي أيضا: (قوله: وتعذرت إعادته) أي: بنقضه، ثم إن رجي عوده حفظ نقضه وجوبا، ولو بنقله إلى محل آخر إن خيف عليه لو بقي، وللحاكم هدمه ونقل نقضه إلى محل أمين إن خيف على أخذه لو لم
__________
(1) [المنهاج ]وشرحه [للمحلى]، ومعهما قليوبي وعميرة (3\103)
(2) قليوبي وعميرة (3\103).
(3) [المنهاج] وشرح [المحلى] عليه, ومعهما قليوبي وعميرة: (3\108)
يهدم، فإن لم يرج عوده بني به مسجد آخر، لا نحو مدرسة، وكونه بقربه أولى فإن تعذر المسجد بني به غيره، وأما غلته التي ليست لأرباب الوظائف وحصره وقناديله فكنقضه، وإلا فهي لأربابها، وإن تعذرت لعدم تقصيرهم كمدرس لم تحضر طلبته.
24 - ومن هامش كتاب [طبقات الشافعية الكبرى]، قوله (1) : قال الأزهري في كتابه [الزاهر في شرح غريب ألفاظ المختصر]، في أواخر باب قسم الصدقات ما نصه:
ومما يدل على تقديم الأقارب أيضا أن الأصحاب قالوا: إذا صححنا الوقف المنقطع الآخر وانقرض الموقوف عليه فالأظهر: أنه يبقى وقفا، وفي مصرفه أوجه: أصحها: إلى أقرب الناس إلى الواقف، والثاني: إلى المساكين، والثالث: إلى المصارف العامة، مصارف خمس الخمس، والرابع: إلى مستحقي الزكاة.
قالوا: وإن قلنا بالثاني، وهو الصرف إلى المساكين، ففي تقديم جيران الواقف وجهان: أصحهما: المنع، قالوا: لأنا لو قدمنا بالجوار لقدمنا بالقرابة بطريق أولى، فهذا يرشد إلى أن تقديم القرابة على الجوار أمر مفروغ منه.
بخلاف إمام لم يحضر من يصلي معه فلا يستحق إلا إن صلى في البقعة وحده؛ لأن عليه فعل الصلاة فيه وكونه إماما، فإذا تعذر أحدهما بقي الآخر، وهذا في مسجد تمكن فيه تلك الوظائف، وإلا كمسجد محاه
__________
(1) [طبقات الشافعية الكبرى] لعبد الوهاب السبكي (3\65, 68)
البحر مثلا وصار داخل اللجة فينبغي نقل وظائفه، أي: مع بقائها مع أربابها لما ينقل إليه نقضه.
تنبيه: علم مما ذكر أنه يقدم حفظ غلته لرجاء عوده، فإن تعذر صرفت إلى أقرب المساجد إن احتيج إليها، وإلا صرفت لأقرب الناس إلى الواقف إن وجدوا وإلا فللفقراء، وعلى ذلك يحمل ما في كلامهم من التناقض.
تنبيه: لو زاد ريع ما وقف على المسجد لمصالحه أو مطلقا ادخر لعمارته، وله شراء شيء به مما فيه زيادة غلته، ولو زاد ريع ما وقف لعمارته لم يشتر منه شيء، ويقدم عمارة عقاره على عمارته وعلى المستحقين، وإن لم يشترطه الواقف كذا في العباب. ويجب على ناظر الوقف ادخار شيء مما زاد من غلته لعمارته وشراء عقار بباقيه، وأفتى بعض المتأخرين بجواز الاتجار فيه إن كان من وقف مسجد وإلا فلا.
مما تقدم من النقول يتلخص ما يأتي:
1 - قيل: يشترط في صحة الوقف اتصاله ودوامه، لأن المقصود منه اتصال الثواب على الدوام، وعليه يكون الوقف المنقطع الابتداء أو الوسط أو الآخر باطلا، فيرجع إلى الواقف إن كان حيا وإلى ورثته إن كان قد مات، وقيل: لا يشترط ذلك، فيصح الوقف المنقطع بجميع أنواعه، واختلف في مرجعه حين الانقطاع.
أما منقطع الآخر فقيل: يعود بعد انقراض الموقوف عليهم إلى الواقف إن كان حيا، لا فلورثته، وقيل: لأهم أبواب الخيرات وأعمها، وقيل: للمساكين، وقيل: لمستحقي الزكاة، وقيل: لأقرب الناس إلى الواقف رحما لا إرثا ولا عصوبة؛ لأن صلتهم أعظم جهات البر ثوابا، للآثار
الواردة في ذلك؛ فيقدم وجوبا ابن بنت على عم، وتستوي الخالة والعم، ويستوي الذكر والأنثى، وهل يختص به فقراؤهم؟
قال النووي : وهو الأظهر؛ لأنهم موضع الصدقات، وأولى بالمعروف والإحسان أو يشترك معهم الأغنياء؛ لأنه عاد إليهم وقفا، والوقف يصلح أن يكون على الأغنياء كما يصلح أن يكون على الفقراء.
وإن كان منقطع الابتداء، كوقفت كذا على رجل، أو من سيولد لي، ثم على الفقراء صرف إلى من بعد المجهول؛ لأنه لا يمكن اعتبار انقراضه، فسقط حكمه، أما إن أمكن اعتبار انقراضه، مثل: وقفت على عبدي، ثم الفقراء ففي مصرفه خلاف، قيل: يصرف إلى من بعده حيث لم يصح الوقف عليه فكان لغوا، وقيل: يرجع إلى الواقف إن كان حيا وإلا فلورثته إلى أن ينقرض الموقوف عليه؛ لأنه لم يوجد شرط انتقاله إلى من بعده، وقيل: يرجع إلى أقارب الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه؛ لأنه قد زال ملك الواقف عنه بالوقف، ولم يوجد شرط انتقاله إلى من بعده، فكان أقرباء الواقف أحق به؛ لما ورد في ذلك من الآثار، وهل يختص به فقراؤهم أو يشترك معهم الأغنياء؟ فيه الخلاف السابق، وقيل: يصرف في المصالح العامة حتى ينقرض الموقوف عليه، وإن كان منقطع الوسط ففي مصرفه زمن الانقطاع على تقدير صحته الخلاف السابق.
2 - يشترط في الوقف بيان المصرف؛ لأنه تمليك المنافع فأشبه البيع والهبة، وقيل: لا يشترط بيانه، لأنه تبرع وإحسان، فأشبه الصدقة والهدي والضحية والوصية، وعلى الأول يكون الوقف باطلا إن لم يبين المصرف ويعود إلى الواقف أو ورثته، وعلى الثاني يكون في مصرفه الخلاف السابق
في الوقف المنقطع الآخر، وقيل: يصرفه ناظر الوقف فيما يراه من وجوه البر.
3 - من وقف على رجلين مثلا وعينهما ثم على المساكين فمات أحدهما ففي مرجع نصيبه وجهان:
أصحهما: أنه يصرف إلى الباقي منهما، حيث لم يوجد شرط نقله إلى المساكين، والثاني: أنه يصرف للمساكين. والقياس أنه لا يصرف للباقي منهما ولا للمساكين، بل حكمه حكم الوقف المنقطع الوسط، وقد تقدم بيانه، هذا ما لم يفصل، بأن يقول: وقفت على كل منهما، وإلا انتقل نصيب من مات للفقراء؛ لأن الوقف على كل مستقل، أو يقول: ثم من بعدهما إلى الفقراء، وإلا عاد نصيب من مات للباقي منهما، فإن لم يذكر مصرفا بعد من عينهما أو عينهم، فهل نصيب من مات منهم لمن بقي أو حكمه حكم نصيبهما إذا ماتا؟ فيه وجهان: أوجههما الأول.
4 - من وقف على بطون فرد البطن الثاني فعلى تقدير صحة الرد يكون منقطع الوسط، وقد تقدم بيان لخلاف في مصرفه، وقيل: ينتقل إلى البطن الثالث؛ لأن المراد في حكم المعدوم.
5 - من قال: تصدقت بداري -مثلا- صدقة محرمة ليصرف من غلتها كل شهر إلى فلان كذا، ففي صحة هذا الوقف وجهان، وعلى تقدير الصحة ففي مصرف الفاضل أوجه: الأول: أن يصرف لأقرب الناس إلى الواقف؛ لما تقدم، الثاني: يصرف للمساكين، الثالث: يكون ملكا للواقف.
6 - إذا زاد ريع ما وقف على المسجد لمصالحه أو مطلقا وجب على