الكتاب : حياة الحيوان الكبرى
المؤلف : الدميري
ورواه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضاً بمعناه. ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشربوا اللبن بالماء، فإن رجلا كان فيمن قبلكم يبيع اللبن ويشوبه بالماء، فاشترى قرداً وركب البحر حتى إذا لجج فيه ألهم الله القرد صرة الدنانير، فأخذ وصعد الدقل ففتح الصرة، وصاحبها ينظر إليه فأخذ ديناراً فرمى به في البحر وديناراً في السفينة، حتى قسمها نصفين، فألقى ثمن الماء في البحر وثمن اللبن في السفينة " . قال: ومر أبو هريرة رضي الله تعالى عنه بإنسان يحمل لبناً وقد خلطه بالماء، فقال له أبو هريرة: كيف بك يوم القيامة، حيث يقال لك خلص الماء من اللبن؟ وقد تقدم في باب الهمزة، في لفظ الأسود السالخ حديث يتعلق بهذا والله تعالى أعلم.
فائدة أخرى: روى الحاكم، في المستدرك عن الأصم، عن الربيع عن الشافعي، عن يحيى بن سليم عن ابن جريج، عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما، وهو يقرأ في المصحف، قبل أن يذهب بصره، ويبكي، فقلت له: ما يبكيك جعلني الله فداك؟ فقال: هذه الآية " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر " الآية . ثم قال: أتعرف أيلة؟ قلت: وما أيلة؟ قال: قرية كان بها أناس من اليهود، حرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم في يوم سبتهم شرعاً بيضاً سماناً كأمثال المخاض، فإذا كان غير يوم السبت، لا يجدونها ولا يدركونها إلا بمشقة ومؤنة، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتاً يوم السبت، فربطه إلى وتد في الساحل، وتركه في الماء، حتى إذا كان الغد أخذه فأكله ففعل ذلك أهل بيت منهم، فأخذوا وشووا، فوجد جيرانهم ريح الشواء، ففعلوا كفعلهم، وكثر ذلك فيهم فافترقوا فرقاً: فرقة أكلت، وفرقة نهت، وفرقة قالت: لم تعظون قوماً الله مهلكهم؟! فقالت الفرقة التي نهت: إنا نحذركم غضب الله وعقابه، أن يصيبكم بخسف أو قذف، أو بعض ما عنده من العذاب، والله ما نساكنكم في مكان أنتم فيه، وخرجوا من السور ثم غدوا عليه من الغد، فضربوا باب السور فلم يجبهم أحد فتسور إنسان منهم السور، فقال: قردة والله لها أذناب تتعاوى، ثم نزل ففتح الباب، ودخل الناس عليهم فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولم تعرف الإنس أنسابها من القردة! قال: فيأتي القرد إلى نسيبه وقريبه فيحتك به ويلصق إليه، فيقول الإنسي: أنت فلان؟ فيشير برأسه أن نعم، ويبكي وتأتي القردة إلى نسيبها وقريبها الإنسي، فيقول: أنت فلانة فتشير برأسها أن نعم وتبكي. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فاسمع الله يقول : " أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون " فلا أدري ما فعلت الفرقة الثالثة، فكم قد رأينا من منكر ولم ننه عنه.
قال عكرمة: فقلت: ما ترى، جعلني الله فداك أنهم قد أنكروا وكرهوا، حين قالوا: لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً؟ فأعجبه قولي ذلك، وأمر لي ببردين غليظين، فكسانيهما. ثم قال: هذا صحيح الإسناد. وأيلة بين مدين والطور على شاطئ البحر. وقال الزهري: القرية طبرية.
وفي معالم التنزيل، قال عكرمة: فقلت له: جعلني الله فداك، ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه، وقالوا: لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً؟ وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم. فأعجبه قولي ورضي به، وأمر لي ببردين غليظين، فكسانيهما وقال: نجت الساكتة.
وفي المستدرك أيضاً: عن مسلم الزنجي، عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " رأيت في منامي كأن بني الحكم بن أبي العاص، ينزون على منبري، كما تنزو القردة " . فما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى مات. ثم قال: صحيح الإسناد على شرط مسلم. وروى الطبراني، في معجمه الأوسط، من حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في آخر الزمان تأتي المرأة فتجد زوجها قد مسخ قرداً لأنه لا يؤمن بالقدر " .
فائدة أخرى: اختلف العلماء في الممسوخ هل يعقب أم لا؟ على قولين أحدهما نعم، وهو قول الزجاج والقاضي أبي بكر بن العربي المالكي، وقال الجمهور: لا يكون ذلك. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لم يعش ممسوخ قط أكثر من ثلاثة أيام، ولا يأكل ولا يشرب. واحتج الأولون بقوله صلى الله عليه وسلم: " فقدت أمة من بني إسرائيل، لا أدري ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربها، وإذا وضع لها ألبان غيرها شربتها " . أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وبحديث الضب الذي رواه مسلم عن أبي سعيد وجابر قالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بضب فأبى أن يأكله، وقال: " لا أدري لعله من القرود التي مسخت " . قال أبو بكر بن العربي المالكي: وفي البخاري عن عمر بن ميمون، أنه قال: رأينا في الجاهلية قردة قد زنت، فرجموها ورجمتها معهم. ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط من بعضها. والجواب عن ذلك أن الحميدي، في الجمع بين الصحيحين، قال: حكى أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الأزدي في الصحيحين حكاية من رواية حصين عنه، قال: رأيت في الجاهلية قردة قد زنت، اجتمع عليها قردة فرجموها ورجمتها معهم. كذا حكاه أبو مسعود، ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاري.
فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها، مذكوراً في كتاب أيام الجاهلية، وليس في رواية الفربري أصلا شيء من هذا الخبر في القردة، ولعلها من المقحمات في كتاب البخاري، والذي قاله البخاري في التاريخ الكبير، قال: قال لي نعيم بن حماد: أخبرنا هشيم، عن أبي المليح وحصين عن عمرو بن ميمون الأزدي، قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة، فرجموها ورجمتها معهم. وليس فيه قد زنت، فلئن صحت هذه الرواية، فإنما أخرجها البخاري عليلا على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية، ولم يبال بظنه الذي ظنه، وذكر أبو عمر بن عبد البر، في الاستيعاب، عن عمرو بن ميمون، وقال: إنه معدود من التابعين من الكوفيين، قال: وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية بين القردة، إن صح ذلك، لأن رواته مجهولون.
وذكر البخاري، عن نعيم عن هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون الأزدي مختصراً، قال: " رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها " . فذكره، ثم قال: والقصة بطولها تدور على عبد الملك بن مسلم، عن عيسى بن حطان، وليسا ممن يحتج بها. وهذا عند جماعة من أهل العلم منكر إضافة الزنا إلى غير مكلف، وإقامة الحدود على البهائم. ولو صح، لكانوا من الجن، لأن العبادات والتكليفات في الجن والإنس دون غيرهما.
وعمرو بن ميمون المذكور، خرج له أصحاب الكتب الستة، وحج ستين حجة توفي في سنة سبع وخمسين. وكان من الذين إذا روا ذكر الله تعالى. وأما حديث الضب والفأر فكان ذلك قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لم يجعل للممسوخ نسلا، فلما أوحى إليه، زال عنه ذلك المتخوف، وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ، فعند ذلك أخبرنا بقوله صلى الله عليه وسلم، لمن سأله عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله لم يهلك قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك " . وهذا نص صريح، رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه. وقد أخرجه مسلم في كتاب القدر، وثبتت النصوص بأكل الضب بحضرته صلى الله عليه وسلم، وعلى مائدته فلم ينكره. فدل ذلك على صحة ما قلناه.
وعن مجاهد في تفسير آية المسخ، في بني إسرائيل: إنما مسخت قلوبهم فقط، وردت أفهامهم كأفهام القردة. وهذا قول تفرد به عن جميع المسلمين.
الحكم: أكل القرد حرام عندنا. وبه قال عكرمة وعطاء ومجاهد والحسن وابن حبيب من المالكية. وقال مالك وجمهور أصحابه: ليس بحرام. وأما بيعه فيجوز، لأنه يقبل التعليم فيمسك الشمعة، ويحفظ الأمتعة. وقال ابن عبد البر، في أوائل التمهيد: لا أعلم بين علماء المسلمين خلافاً في أن القرد لا يؤكل، ولا يجوز بيعه، لأنه مما لا منفعة فيه. وما علمت أحداً رخص في أكله. والكلب والفيل وذو الناب كله عندي مثله. والحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في قول غيره. وما يحتاج القرد ومثله إلى النهي عنه، لأنه يبهي عن نفسه بزجر الطباع والنفوس لنا عنه، ولم يبلغنا عن العرب ولا عن غيرهم أكله. وروي عن الشعبي، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم، " نهى عن لحم القرد " لأنه سبع فيدخل في عموم الخبر.
الأمثال: منها قوله:
واسجد لقرد السوء في زمانه ... وداره ما دمت في سلطانه
وقالوا: أزق من قرد وأحكى من قرد، لأنه يحكي الإنسان في أفعاله سوى المنطق قال أبو الطيب:
يرومون شأوي في الكلام وإنما ... يحاكي الفتى فيها خلا المنطق القرد
وقالوا: أقبح من قرد وأولع من قرد. لأنه إذا رأى الإنسان، تولع بفعل شيء أخذ بفعله مثله.
الخواص: قال الجاحظ: لحم القرد شبيه لحم الكلب، بل هو شر وأخبث. قال ابن السويدي: إذا علق سنه على إنسان لم يغلبه النوم ولا الفزع بالليل، وأكل لحمه يمنع من الجذام، وجلده إذا علق على شجرة دفع عنها ضرر البرد، وإذا اتخذ من جلده غربال وغربل به الزرشة وزرعت فإنها تسلم من آفات الجراد، وإذا سقي إنسان من دم قرد وهو حار خرس من وقته، وإذا رأى القرد طعاماً مسموماً خاف وصاح، وإذا جعل شعره تحت رأس نائم رأى أهوالا تفزعه.
التعبير: القرد في المنام رجل فيه كل عيب مخالف، لأن الله تعالى نهاه فلم ينته فمسخه، ومن رأى قرداً يقاتله وغلب القرد فإن الرائي يمرض ويبرأ، فإن غلبه القرد فلا يرجى برؤه، ومن رأى أنه أكل لحم قرد فإنه يعالج داء لا يرجى برؤه منه، وقالت النصارى: من أكل لحم قرد لبس جديداً، ومن وهب قرداً في منامه انتصر على عدوه، ومن رأى قرداً عضه خاصم إنساناً، ومن رأى قرداً في فراشه فإنه يهودياً يفجر بامرأته، وكذلك إذا أكل على مائدته، والقرد رجل زالت نعمته لكبيرة ارتكبها، ومن نكح قرداً ارتكب فاحشة، أو خاصم إنساناً، وقال ارطاميدورس: القرد رجل مكار خداع، ويمد على مرض المريض، وما يحدث من القمر، لأن القرد من حيوان القمر. وقال جاماسب: من صاد قرداً انتفع من جهة السحرة والكهنة، والله تعالى أعلم.
القردوح: الضخم من القردان، قاله ابن سيده.
القرش: بكسر القاف، وإسكان الراء المهملة، وبالشين المعجمة في آخره دابة عظيمة من دواب البحر، تمنع السفن من السير في البحر وتدفع السفينة، فتقلبها وتضربها فتكسرها. قال الزمخشري: سمعت بعض التجار بمكة، ونحن قعود عند باب بني شيبة، وهو يصف لي القرش، فقال: هو مدور الخلقة، وعظمه كما من مقامنا هذا إلى الكعبة. ومن شأنه أن يتعرض للسفن الكبار فلا يرده شيء إلا أن يأخذ أهلها المشاعل فيمر على وجهه مثل البرق، ولا يهاب شيئاً إلا النار، وبه سميت قريش قريشاً قال الشاعر:
وقريش هي التي تسكن البح ... ر بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولاتت ... رك فيه لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا
الخموش الخدوش، وكلا كميشاً أي سريعاً، وقال ابن سيده: قريش دابة في البحر لا تدع دابة إلا أكلتها. فجميع الدواب تخافها، ثم أنشد البيت الأول، وقال المطرزي: ير سيدة الدواب البحرية. وأشدها، وكذلك قريش سادات الناس، وحكى أبو الخطاب بن دحية، في تسمية قريش، وفي أول من تسمى به عشرين قولا.
فائدة أجنبية: قريش بن مالك بن النضر بن كنانة جد النبي صلى الله عليه وسلم، هو الذي تنسب إليه قريش، ومن ولده بدر بن قريش الذي سميت به بدر بدراً وأم النضر برة بنت مر بن أد بن طابخة، تزوجها كنانة بعد موت أبيه خزيمة، فولدت له النضر على ما كانت الجاهلية تفعله، إذا مات الرجل خلفه على زوجته بعده أكبر بنيه من غيرها.
كذا قاله السهيلي رحمه الله تعالى، تبعاً للزبير بن بكار. قال: ولذلك قال الله عز وجل: " ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، أي من تحليل ذلك قبل الإسلام. وفائدة الاستثناء هنا لئلا يعاب نسب النبي صلى الله عليه وسلم وليعلم أنه صلى الله عليه وسلم، لم يكن في أجداده نكاح سفاح. ألا ترى أنه لم يقل في شيء نهى عنه في القرآن نحو: " ولا تقربوا الزنا " " ولا تقتلوا النفس " ولا في شيء من المعاصي التي نهى عنها، إلا ما قد سلف إلا في هذه الآية. وفي الجمع بين الأختين، فإن الجمع بينهما كان مباحاً في شرع من قبلنا، وقد جمع يعقوب عليه الصلاة والسلام بين الأختين وهما راحيل وليا، فقوله تعالى: " إلا ما قد سلف " التفات إلى هذا المعنى. قال: وهذه النكتة من الإمام أبي بكر بن العربي، قال الحافظ قطب الدين عبد الكريم: ولما وقفت على هذا، أقمت مفكراً مدة لكون أن برة المذكورة كانت زوجاً لخزيمة، فخلف عليها كنانة بن خزيمة، فجاء له منها النضر بن كنانة وإن هذا وقع في نسب النبي صلى الله عليه وسلم وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما ولدني من سفاج أهل الجاهلية لشيء، إنما ولدت من نكاح كنكاح الإسلام " إلى أن رأيت أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قال، في كتاب له سماه بكتاب الأصنام: وخلف كنانة بن خزيمة على زوجة أبيه، بعد وفاته، وهي برة بنت أد بن طابخة، جد كنانة بن خزيمة، ولم تلد لكنانة ولداً ذكراً ولا أنثى، ولكن كانت ابنة أخيها برة بنت مرة بن أد بن طابخة تحت كنانة بن خزيمة، فولدت له النضر بن كنانة.
قال: وإنما غلط كثير من الناس، لما سمعوا أن كنانة خلفه على زوجة أبيه لاتفاق اسمهما، وتقارب نسبهما، وهذا الذي عليه مشايخنا وأهل العلم والنسب. قال: ومعاذ الله أن يكون أصاب نسب النبي صلى الله عليه وسلم نكاح مقت، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " ما زلت أخرج من نكاح كنكاح الإسلام حتى خرجت من بين أبي وأمي " . ثم قال: ومن اعتقد غير هذا فقد كفر وشك في هذا الخبر. قال: والحمد لله الذي نزهه عن كل وصم، وطهره تطهيراً انتهى.
قلت: وهذا أرجو به الفوز للجاحظ في منقلبه، وأن يتجاوز الله عنه ما سطره في كتبه، وأشرت إلى ذلك في أول كتاب السير من المنظومة بقولي:
محمد خير جميع الخلق ... جاء من الحق لنا بالحق
دعوة إبراهيم الخليل ... بشارة المسيح في التنزيل
الطيب الأصول والفروع ... الطاهر المحتد والينبوع
آباؤه قد طهرت أنساباً ... وشرفت بين الورى أحسابا
نكاحهم مثل نكاح الإسلام ... كذا رواه النجباء الأعلام
ومن أبى أوشك في هذا كفر ... وذنبه بما جناه ما اغتفر
نقل ذا الحافظ قطب الدين ... عن صاحب البيان والتبيين
الحكم: أفتى شيخنا الشيخ جمال الدين الأسنوي رحمه الله تعالى بحل أكل القرش، وبه صرح الشيخ محب الدين الطبري شارح التنبيه، في الكلام على التمساح، ثم استشكل به تحريم التمساح، وهذا يدل على أنه لا خلاف فيه.
وفي نهاية ابن الأثير التصريح بحله، لكن قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنه يأكل ولا يؤكل، ولعل مراده أنه يأكل الحيوانات البحرية، ولا يستطيع أحد منها أن يأكله. والقرش يوجد ببحر القلزم الذي غرق فيه فرعون، وهو عند عقبة الحاج، كما تقدم في باب السين المهملة، في الكلام على السقنقور، وإطلاق الجمهور ونص الإمام الشافعي والقرآن العزيز يدل على جواز أكل القرش، لأنه من السمك، ومما لا يعيش إلا في الماء. وقد ذكر النووي، في شرح المهذب، أن الصحيح أن كل ما في البحر حلال، ويحمل ما استثناه الأصحاب على ما يعيش في غير الماء.
التعبير: رؤيته في المنام تحل على علو الهمة والشرف في النسب، فإنه يعلو ولا يعلى عليه والله تعالى أعلم.
القرقس: بكسر القافين، البعوض، قال الأصحاب: يستحب قتل المؤذيات للمحرم وغيره، كالحية والعقرب والخنزير والكلب العقور والغراب والحدأة والذئب والأسد والنمر والدب والنسر والعقاب والبرغوث والبق والزنبور والقراد والحلمة والقرقس وما أشبهها.
القرشام والقرشوم والقراشم: القراد الضخم.
القرعبلانة: دويبة عريضة محبنطئة الظهر والبطن، وأصله قرعبل فزيدت فيه ثلاث أحرف.
لأن الاسم لا يكون على أكثر من خمسة أحرف وتصغيره قريعبة قاله الجوهري.
القرعوش: القراد الغليظ.
القرقف: كهدهد طير صغير.
القرقفنة: بالنون المشددة، كذا ضبطه في العباب، روى الدينوري في المجالسة، وابن الأثير، من حديث وهب، " إذا كان الرجل لا ينكر عمل السوء على أهله، طار طائر يقال له القرقفنة، فيقع على مشريق بابه، فيمكث هناك أربعين يوماً، فإن أنكر طار وذهب، وإن لم ينكر مسح بجناحيه على عينيه فصار قندعاً ديوثاً، فلو رأى الرجال مع امرأته، لم ير ذلك قبيحاً. فذلك القناع الديوث الذي لا ينظر الله تعالى إليه " .
قال إبراهيم الحربي: مشريق الباب مدخل الشمس، والقناع الديوث الذليل الذي لا يغار ولا يفهم، وذكره الهروي بمعناه.
القرلي: بضم القاف وكسرها وفتحها ملاعب ظله، وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في باب الميم. قال الجواليقي: هو فارسي معرب، وقال الميداني: إنه طائر صغير الجرم، حديد البصر، سريع الاختطاف، لا يرى إلا فرقاً على وجه الماء على جانب كطيران الحدأة، يهوي بإحدى عينيه إلى قعر الماء طمعاً، ويرفع الأخرى إلى الهواء حذراً، فإن أبصر في الماء ما يستقل بحمله من المك أو غيره، انقض عليه كالسهم المرسل، فأخرجه من قعر الماء، وإن أبصر في الهواء جارحاً مر في الأرض، ومن أسجاع ابنة الخس: كن حذراً كالقرلى، إن رأى خيراً تدلى، أو رأى شراً تولى، وقال حمرة: قد خالف رواة النسب هذا التفسير، فقالوا: إن قرلى اسم رجل من العرب، كان لا يتخلف عن طعام أحد، ولا يترك موضع طعم إلا قصد إليه، وإن صادف في طريق قد سلكه خصومة، ترك ذلك الطريق ولم يمر به، فذلك قالوا فيه: أطمع من قرلى فهذا ما حكاه النسابون، في تفسير هذا المثل، ثم قال: وأنا أقول: إنه خليق أن يكون هذا الرجل تثبه بهذا الطائر وتسمى باسمه قال الشاعر:
يا من جفاني وملا ... نسيت أهلا وسهلا
ومات مرحب لما ... رأيت ما لي قلا
إني أظنك تحكى ... بما فعلت القرلى
الحكم: يحل أكله لأنه من طير الماء.
الأمثال: قالوا: أخطف وأطمع من قرلى وأحذر وأحزم من قرلى.
القرمل: ولد البختى والقرامل الإبل ذوات السنامين. وفي الحديث: تردى قرمل لبعض الأنصار على رأسه في بئر فلم يقدروا على نحره فسألوه صلى الله عليه وسلم: فقال: " حرقوه ثم قطعوا أعضاءه " . وأما قولهم في المثل: دليل عاذ بقرملة في شجرة ضعيفة لا شوك لها. قال جرير:
كأن الفرزدق إذ يعوذ بخاله ... مثل الذليل يعود تحت القرمل
يضرب لمن استعان بضعيف لا نصرة له، لأن القرملة شجرة على ساق لا تكن ولا تظل.
القرميد: الأروية.
القرمود: بفتح القاف ذكر الوعول حكاه ابن سيده.
القرنبى: مقصور، دويبة طويلة الرجلين مثل الخنفساء، أو أعظم منها بيسير. وقال الميداني، في قولهم ألزق من القرنبى: إنها الجعل، وقال في موضع آخر: مثل الخنفس منقطة الظهر طويلة القوائم. وفي أدب الكاتب أنها أكبر من الخنفساء، قال الأخطل يصف جارية وبعلها:
ألا يا عباد الله قلبي متيم ... بأحسن من صلى وأقبحهم بعلا
ينام إذا نامت على عكناتها ... ويلثم فاها كالسلافة أو أحلى
يدب إلى أحشائها كل ليلة ... عبيب القرنبى بات يعلو نقا سهلا
قال الجاحظ: إنها تقتات الروث وتطلبه كما يطلبه الجعل.
الأمثال: قالوا: القرنبى في عين أمها حسناء. وقالوا: ألزق من قرنبى لأن كل من بات بالصحراء، وكل عن قام إلى الغائط تتبعه لأنها نوع من الجعل قال الشاعر:
ولا أطرق الجارات بالليل قابعاً ... قبوع القرنبى أخلفته مجاحرة
القرهب: كثعلب، الثور المسن، قاله الجوهري رحمه الله تعالى وغيره.
القزر: بكسر القاف وبالزاي نوع من السباع، قال الحطيئة، لما حبسه عمر رضي الله تعالى عنه:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرح ... خمص الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... القى إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت لها الآثر
فامنن على صبية بالرمل مسكنهم ... بين الأباطح يغشاها بها القزر
أهلي فداؤك كم بيني وبينهم ... من عرض دوية ما يفنى بها الخبر
القرم: الفحل الكريم من الإبل الذي يترك من الركوب والعمل، ويودع القحة، والجمع قروم، والقرم من الرجال السيد العظيم، المجرب للأمور، وعلى المثل من ذلك قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
عطف صفة على صفة، لشيء واحد، كقولك: جاءني الظريف والعاقل، وأنت تريد شخصاً واحداً، روى مسلم والنسائي وأبو داود، من حديث ابن شهاب، أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب وقالا: لو بعثنا هذين الغلامين عبد المطلب بن ربيعة والفضل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلماه فأمرهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدي الناس وأصابا مما أصاب الناس، فبينما هما في ذلك، إذ جاء علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فوقف عليهما فذكرا له ذلك، فقال: لا تفعلا، فوالله ما هو بفاعل. وألقى علي رداءه ثم اضطجع عليه وقال: أنا أبو حسن القرم، والله لا أبرح من مكاني حتى يرجع إليكما ابناكما، فلما رجعا قالا: ذهبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله أنت أبر الناس، وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح، وقد جئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات، فنؤدي إليك ما يؤدي الناس، ونصيب ما يصيبون. فسكت صلى الله عليه وسلم طويلا، ثم قال: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس، ادعوا محمئة بن جزء ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب " . قالا: فجاآه، فقال لمحمئة: " أنكح الفضل ابنتك " فأنكحه، وقال لنوفل بن الحارث: " أنكح عبد المطلب ابنتك " . فأنكحه. وقال لمحمئة: " أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا " . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الأخماس انتهى.
ملخصاً قوله أنا أبو حسن القرم، هو بتنوين حسن، والقرم مرفوع، قال ذلك لأجل الذي كان عنده من علم ذلك. وكان رضي الله تعالى عنه يقول هذه الكلمة عند الأخذ في بيان قضية تشكل على غيره، وهو يعرفها. ولذلك جرى كلامه هذا مجرى المثل، حتى قالوا: " قضية ولا أبا حسن لها " ، أي هذه قضية مشكلة وليس هناك من يبينها، كما كان يفعل أبو الحسن رضي الله تعالى عنه، الذي هو علي بن أبي طالب.
القرة: بالضم الضفدعة قاله الجوهري رحمه الله تعالى.
القسورة: الأسد، قال الله تعالى: " كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة " . روى البزار بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه قال: القسورة الأسد، قال الشاعر:
مضمر يحذره الأبطال ... كأنه القسورة الرئبال
وروى ابن طبرزذ، بإسناده إلى الحكم بن عبد الله بن خطاب عن الزهري عن أبي واقد، قال: لما نزل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الجابية، أتاه رجل من بني تغلب، يقال له روح بن حبيب بأسد في تابوت، حتى وضعه بين يديه، فقال رضي الله تعالى عنه: أكسرتم له ناباً أو مخلباً. قالوا: لا. قال: الحمد لله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما صيد مصيد إلا بنقص في تسبيحه " . يا قسورة اعبد الله، ثم خلى سبيله.
وقد تقدم في باب الغين المعجمة، أنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مثل ذلك في الغراب. وقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما في القسورة: هو بلسان العرب الأسد، وبلسان الحبشة القسورة، وبلسان فارس سير، وبلسان النبط أرنا. وقيل القسورة فعولة من القسر، وهو القهر، سمي الأسد بذلك لأنه يقهر السباع، وقال ابن جبير: القسورة رجال القنص، وقيل القسورة الرجال الشداد، وقال ثعلب: القسورة سواد أول الليل خاصة لا آخره، والمعنى فرت من ظلمة الليل ولا شيء أشد نفاراً من حمر الوحش. واللفظة مأخوذة من القسر الذي هو الغلبة والقهر.
القشعمان: كالعقربان والثعلبان، النسر، قال الشاعر:
تركت أباك قد أطلى ومالت ... عليه القشعمان من النسور
يقال أطلى الرجل أي مالت عنقه للموت أو لغيره.
القشبة: القردة قاله الجوهري رحمه الله تعالى، وقال الأصمعي: هي الصغيرة من أولادها.
الأمثال: قالوا: أكيس من قشبة. يضرب مثلا للصغار خاصة.
القصيرى: مقصوراً مصغراً ضرب من الأفاعي.
القط: السنور والأنثى قطة، والجمع قطاط وقططة. قال ابن دريد: لا أحسبها عربية صحيحة. قلت: وهو محجوج بقوله صلى الله عليه وسلم: " عرضت على جهنم فرأيت فيها المرأة الحميرية صاحبة القط الذي ربطته فلم تطعمه ولم تسرحه " . كذا رواه الربيع الجيزي فيمن ورد مصر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
ولما أتصلت ميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد بن معاوية بمعاوية، وكانت ذات جمال باهر، وحسن غامر، أعجب بها معاوية رضي الله تعالى عنه، وهيأ لها قصراً مشرفاً على الغوطة، وزينه بأنواع الزخارف، ووضع فيه من أواني الفضة والذهب ما يضاهيه، ونقل إليه من الديباج الرومي الملون والموشى ما هو لائق به، ثم أسكنها، مع وصائف لها، كأمثال الحور العين، فلبست يوماً أفخر ثيابها، وتزينت وتطيبت بما أعد لها، من الحلي والجوهر، الذي لا يوجد مثله، ثم جلست في روشنها، وحولها الوصائف، فنظرت إلى الغوطة وأشجارها، وسمعت تجاوب الطير في أوكارها، وشمت نسيم الأزهار وروائح الرياحين والنوار، فتذكرت نجداً، وحنت إلى أترابها وأناسها، وتذكرت مسقط رأسها، فبكت وتنهدت فقالت لها بعض حظاياها: ما يبكيك وأنت في ملك يضاهي ملك بلقيس؟ فتنفست الصعداء، ثم أنشدت:
لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف
وأكل كسيرة في كسر بيتي ... أحب إلي من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فج ... أحب إلي منه نقر الدفوف
وكلب ينبح الطراق دوني ... أحب إلي من قط ألوف
وبكر يتبع الأظعان صعب ... أحب إلي من بغل زفوف
وخرق من بني عمي نحيف ... أحب إلي من علج عنوف
فلما دخل معاوية، عرفته الحظية بما قالت، وقيل: إنه سمعها، وهي تنشد ذلك، فقال: ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عنوفاً، هي طالق ثلاثاً، مروها فلتأخذ جميع ما في القصر، فهو لها ثم سيرها إلى أهلها بنجد. وكانت حاملا بيزيد فولدته بالبادية، وأرضعته سنتين ثم أخذه معاوية رضي الله تعالى عنه منها بعد ذلك. والأرواح جمع ريح قال ذو الرمة:
إذا هبت الأرواح من نحو جانب ... به أهل حبي هاج قلبي هبوبها
هوى تذرف العينان منه وإنما ... هوى كل نفس حيث حل حبيبها
فقد أباع وأحسن، فمن قال: هبت الأرياح فقد أخطأ ووهم، والصواب هبت الأرواح، كما قال ذو الرمة. وقد تقدم عن ميسون، والعلة في ذلك أن أصل ريح روح، لاشتقاقها من الروح. وروي هذا الخبر على غير هذا الوجه، فأوردته لتحصل منه الفائدة. وهو: قيل: لما اتصلت ميسون بنت بحدل بمعاوية، ونقلها من البدو إلى الشام، كانت تكثر الحنين إلى أناسها، والتذكر لمسقط رأسها فاستمع عليها معاوية ذات يوم، وهي تنشد الأبيات المتقدمة، فلما سمع معاوية الأبيات، قال: ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عنوفاً، هي طالق.
وحكى ابن خلكان وغيره، في ترجمة الإمام أبي الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي، أنه كان يوماً على سطح جامع مصر يأكل شيئاً، وعنده بعض أصحابه، فحضرهم قط، فرموا له لقمة، فأخذها في فيه وغاب عنهم، ثم عاد إليهم فرموا له لقمة ثانية، فأخذها وذهب ثم عاد، فرموا له شيئاً فأخذه وذهب ثم عاد، ففعل ذلك مراراً كثيرة، وهم يرمون له وهو يأخذ ويغيب ثم يعود من فوره، فتعجبوا منه فتبعوه فإذا هو يأخذ ذلك الطعام، ويدخل به إلى خربة، فيها شبه البيت الخراب، وفي سطح ذلك البيت قط أعمى، فإذا هو يضع الطعام بين يديه، فتعجبوا من ذلك. فقال الشيخ ابن بابشاذ: إذا كان هذا حيواناً أخرس، قد سخر الله له هذا القط، وهو يقوم بكفايته ولم يحرمه الرزق، فكيف يضيع مثلي؟ ثم قطع الشيخ علائقه، وترك خدمة السلطان ولزم بيته وترك جميع أشغاله توكلا على الله تعالى، إلى أن مات في شهر رجب سنة تسع وستين وأربعمائة. وبابشاذ كلمة أعجمية يتضمن معناها الفرح والسرور.
وحكمه: تقدم بعضه في باب السين المهملة، في لفظ السنور، وسيأتي إن شاء الله تعالى، بعضه في باب الهاء، في لفظ الهر.
وتعبيره: سيأتي إن شاء الله تعالى، أيضاً في باب الهاء.
القطا: طائر معروف، واحده قطاط، والجمع قطوات وقطيات، وممن ذكر أن القطا من الحمام الرافعي في كتاب الحج والأطعمة، ومن أهل اللغة ابن قتيبة، وأنشد قول النابغة الذبياني:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد
قال الأصمعي: هذه زرقاء اليمامة نظرت إلى قطا. قال البطليوسي، في الشرح: وليس في بيت النابغة دليل على أنه أراد بالحمام القطا، وإنما علم ذلك بالخبر المروي عن زرقاء اليمامة، أنها نظرت إلى قطا فقالت:
يا ليت ذا القطا لنا ... ومثل نصفه معه
إلى قطاة أهلنا ... إذا لنا قطا مائه
قال: وقوله واحكم كحكم فتاة الحي، أي أصب في أمرك كإصابة فتاة الحي، فهو من الحكم الذي يراد به الحكمة لا من الحكم الذي يراد به القضاء، قال الله تعالى: " ولما بلغ أشده أتيناه حكماً وعلماً " أي حكمة. قال: وكان الأصمعي يروي شراع بالشين المعجمة، يريد الذي شرع في الماء. وروى غيره سراع بالسين المهملة، والثمد الماء القليل انتهى. وكانت عدة الحمام الذي رأته ستاً وستين فتمنت، أن يكون لها هذا الحمام، ومثل نصفه وهو ثلاثة وثلاثون، ومجموع ذلك تسع وتسعون، فإذا ضم إلى حمامتها كان مائة. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك، في باب الحاء المهملة في الحمام. ويقال للقطاة: أم ثلاث، لأنها أكثر ما تبيض ثلاث بيضات قال الشاعر:
وأم ثلاث إن شببن عققنها ... وإن متن كان الصبر منها على نصب
يقول: إن شئت فراخها فارقتها، فكان ذلك عقوقاً لها، وإن متن لم تصبر إلا وهي حزينة قلقة. والنصب: التعب والبلاء، ويقال للقطا والحمام وأنواعها أمهات الجوازل، والجوازل فراخها الواحد جوزل قال ذو الرمة:
سوى ما أصاب الذئب منه وسربه ... أطافت به من أمهات الجوازل
وقد تقدم قريب من هذا في باب الجيم. وسميت القطا بحكاية صوتها فإنها تقول ذلك، ولذلك تصفها العرب بالصدق، قال الكميت في وصفها:
لا تكذب القول إن قالت القطا صدقت ... إذ كل في نسبة لا بد ينتحل
وأنشد أبو عمر بن عبد البر في التمهيد، قول الشاعر. قال المبرد: وأظنه توبة بن الحمير:
كأن القلب حين يقال يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة غرها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
فلا في الليل نالت ما ترجى ... ولا في الصبح كان لها براح
ثم قال: وقوله: غرها قد تصحف عليه، فقال: غرها من الغرور، وليس كذلك، إنما هو عزها أي غلبها، كما قالت العرب من عز بز ومن غلب سلب. وغلق الجناح بالغين المعجمة من قولهم: لا يغلق الرهن على راهنه وقد تصحف بالعين المهملة انتهى.
نكتة: ذكر الحريري في الدرة، أن ليلى الأخيلية، وهي المذكورة في الشعر كانت تتكلم بلغة بهراء، وذلك أنهم يكسرون حرف المضارعة، فيقولون أنت تعلم، وأنها استأذنت على عبد الملك بن مروان وبحضرته الشعبي، فقال له: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في أن أضحكك منها؟ فقال: افعل. فلما استقر بها المجلس، قال لها الشعبي: يا ليلى ما بال قومك لا يكتنون؟ فقالت له: ويحك أما نكتني؟ بكسر حرف المضارعة، فقال لها: لا والله، لو فعلت لاغتسلت! فخجلت من ذلك، واستغرق عبد الملك في الضحك. وفي غير رواية ابن هشام، في أبيات هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهم:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
مشى القطا النواتق
كما ذكره الزبير بن بكار، وقاله السهيلي في الروض الأنف، والمراد بالطارق النجم تريد أن أبانا نجم في شرفه وعلوه، قال الله تعالى: " والسماء والطارق " يعني النجم يطرق ليلا ويخفى نهاراً. قال الثعلبي: أنشد أبو القاسم الحسن بن محمد المفسر، قال: أنشدني أبو الحسن الكازروني، قال: أنشدني ابن الرومي:
يا راقد الليل مسروراً بأوله ... إن الحوادث قد تطرقن أسحارا
لا تفرحن بليل طاب أوله ... فرب آخر ليل أجج النارا
ثم فسره تعالى بأنه النجم الثاقب أي المضيء. قال أبو زيد: كانت العرب تسمي الثريا النجم الثاقب، وقيل: هو زحل سمي به لارتفاعه، وروى ابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: الطارق نجم في السماء السابعة، لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء، هبط وكان معها، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد، والنواتق الكثيرات الأولاد، كأنها ترمي بالأولاد رمياً والنتق الرمي والنفض والحركة، والقطا نوعان: كدري وجرني، وزاد الجوهري نوعاً ثالثاً وهو الغطاط، فالكدري غبر اللون رقش البطون والظهور صفر الحلوق قصار الأذناب، وهي ألطف من الجونية، والجونية سود بطون الأجنحة والقوادم، وظهرها أغبر أرقط تعلوه صفرة، وهي أكبر من الكدري تعدل جونية بكدريتين، وإنما سميت الجونية لأنها لا تفصح بصوتها إذا صوتت، وإنما تغرغر بصوت في حلقها. والكدرية فصيحة تنادي باسمها. ولا تضع القطاة بيضها، إلا أفراداً، وفي طبعها أنها إذا أرادت الماء ارتفعت من أفاحيصها أسراباً لا متفرقة عند طلوع الفجر، فتقطع إلى حين طلوع الشمس مسيرة سبع مراحل، فحينئذ تقع على الماء، فتشرب نهلا، والنهل شرب الإبل والغنم أول مرة فإذا شربت، أقامت حول الماء متشاغلة، إلى مقدار ساعتين أو ثلاث ثم تعود إلى الماء ثانية، وهذا يبعد ما حكاه الواحدي المفسر في شرحه لديوان أبي الطيب المتنبي في قوله:
وإذا المكارم والصوارم والقنا ... وبنات أعوج كل شيء يجمع
إن أعوج فحل كريم كان لبني هلال بن عامر، وإنه قيل لصاحبه: ما رأيت من شدة عدوه؟ فقال: ضللت في بادية وأنا راكبه، فرأيت صب قطا يقصد الماء، فتبعته وأنا أغض من لجامه، حتى توافينا الماء دفعة واحدة. قلت: وهذا أغرب شيء يكون، فإن القطا شديد الطيران، وإذا قصدت الماء اشتد طيرانها أكثر، ثم ما كفاه حتى قال: وأنا أغض من لجامه، ولولا ذلك لكان سبق القطا.
وتوصف القطا بالهداية، والعرب تضرب بها المثل في ذلك، لأنها تبيض في القفر، وتسقي أولادها من البعد في الليل والنهار، فتجيء في الليلة المظلمة، وفي حواصلها الماء، فإذا صارت حيال أولادها، صاحت: قطا قطا فلم تخط بلا علم ولا إشارة ولا شجرة، فسبحان من هداها لذلك قال الشاعر:
والناس أهدى في القبيح من القطا ... وأضل في الحسنى من الغربان
وقال أبو زياد الكلابي: إن القطا تطلب الماء من مسيرة عشرين ليلة، وفوقها ودونها والجونية منها، تخرج إلى الماء قبل الكدرية قال عنترة:
وأنت التي كلفتني دلج السرى ... وجون القطا بالجلهتين جثوم
وقال الشاعر في وصفها:
أما القطاة فإني سوف أنعتها ... نعتاً يوافق معنى بعض ما فيها
سكاء مخضوبة في ريشها طرف ... سود قوادمها صهب خوافيها
وقال مزاحم العقيلي في القطاة وفرخها:
فلما دعته بالقطاة أجابها ... بمثل الذي قالت له لم تبدل
وأنشد ياقوت في معجم البلدان لأبي العباس الصيمري:
كم مريض قد عاش من بعد يأس ... بعد موت الطبيب والعواد
قد يصاد القطا فينجو سليماً ... ويحل القضاء بالصياد
ذكر أنه كان بين أبي الفضل المعروف بابن القطا الشاعر المشهور بالبغدادي، وبين الحيص بيص التميمي الشاعر مناظرات، منها أنهما حضرا على سماط الوزير، فأخذ أبو الفضل قطاة مشوية وقدمها إلى الحيص بيص، فقال الحيص بيص للوزير: يا مولاي هذا الرجل يؤذيني، قال: كيف؟ قال: يشير إلى قول الشاعر:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت
أرى الليل يجلوه النهار ولا أرى ... جلال المخازي عن تميم تجلت
ولو أن برغوثاً على ظهر قملة ... يكر على صفي تميم لولت
ولأبي الفضل نوادر منها: أنه قعد يوماً يأكل مع زوجته طعاماً فقال لها: اكشفي رأسك. ففعلت، فقرأ سورة الإخلاص، فقالت: ما الخبر؟ فقال: إذا كشفت المرأة رأسها لم تحضر الملائكة، وإذا قرئت سورة الإخلاص هربت الشياطين، وأنا أكره الزحمة على المائدة.
فائدة: العرب تصف القطا بحسن المشي لتقارب خطاها، ومشيها يشبه مشي النساء الخفرات بمشيتهن. ومن أحسن ما رأيت في ذلك قول هند بنت عتبة يوم أحد في غير رواية ابن هشام:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
مشي القطا النواتق
إلى آخر الرجز كما رواه الزبير بن بكار كما سبق. قال السهيلي، في الروض: يقال: إنهال تمثلت بهذا الرجز وإنه لهند بنت طارق بن فياض الأودية، قالته في حرب الفرس لإياد، فعلى هذا يكون إنشاده بنات طارق بالنصب على الاختصاص. كما قال:
نحن بني ضبة أصحاب الجمل.
وإن كانت أرادت النجم، فبنات مرفوع لأنه خبر مبتدأ، أي نحن شريفات رفيعات كالنجوم. قال: وهذا التأويل عندي بعيد لأن طارقاً وصف للنجم لطروقه، فلو أرادته لقالت: نحن بنات الطارق. إلا أني رأيت الزبير بن بكار قال، في كتاب أنساب قريش: حدثني يحيى بن عبد الملك الهرمزي، قال: جلست ليلة وراء الضحاك بن عثمان الجذامي، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا متقنع، فذكر الضحاك وأصحابه قول هند يوم أحد نحن بنات طارق، ثم قالوا: ما طارق؟ فقلت: النجم فالتفت الضحاك وقال: يا أبا زكريا كيف ذلك؟ فقلت: قال الله تعالى: " والسماء والطارق، وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب " كأنها قالت: نحن بنات النجم، فقال: أحسنت انتهى. ومرادها بالقطا النواتق الكثيرات الأولاد، قال الجوهري: نتقت المرأة إذا كثر ولدها، فهي ناتق ومنتاق. ومن هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً وأرضى باليسير " .
وحكمها: حل الأكل بالإجماع، وعد الرافعي والأصحاب، في كتاب الحج، القطا من الحمام فأوجبوا على المحرم إذا قتل الواحدة، شاة وإن كان لا مثل لها من النعم. قال الشيخ محب الدين الطبري: وكذلك عدها من الحمام الجوهري والمشهور خلافه.
الأمثال: قالوا: أنسب من قطاة. وهو من النسبة، وذلك أنها إذا صوتت فإنها تنتسب، لأنها تصوت باسم نفسها فتقول: قطا قطا. وقالوا: أصدق من القطاة وأقصر من إبهام القطاة. وقالوا: لو ترك القطا ليلا لنام. وسببه أن عمرو بن امامة نزل على قوم عن مراد فطرقوه ليلا فأثاروا القطا من أماكنها فرأتها امرأة طائرة، فنبهت زوجها فقال: إنما هذه القطا، فقالت: لو ترك القطا ليلا لنام. يضرب لمن حمل على مكروه من غير إرادته. وقيل: قالته امرأة يقال لها حذام لما رأت القطا طار ليلا قالت:
ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ... فلو ترك القطا ليلا لنام
فلم يلتفتوا إلى قولها وأخلدوا إلى مضاجعهم. فقام فيهم رجل وقال:
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام
فنفر القوم وارتحلوا والتجؤوا إلى واد قريب منهم، فاعتصموا به حتى أصبحوا وامتنعوا من عدوهم. يضرب هذا البيت لمن ظهر منه الصدق. وحذام مبني على الكسر مثل أمس. وقالوا: بيض القطا يحضنه الأجدل وقد تقدم. وقالوا: ليس قطا مثل قطى، أي ليس الأكابر مثل الأصاغر.
الخواص: إذا أحرقت عظام القطا، وأخذ من رمادها وأغلي بالزيت الحار، وطلي به رأس الأقرع وموضع داء الثعلب أنبت الشعر. وقال ابن زهر: إنه جربه. ولحمها عسر الهضم رديء الغذاء، وإذا أخذ رأسها ويبس وصرفي خرقة كتان جديدة، وعلق على فخذ امرأة وهي نائمة أخبرت بجميع ما في نفسها، وبما فعلته فإن خلطت في الكلام فارم به عنها، لئلا تتوسوس، وإذا شق بطن قطاتين ذكر وأنثى وطبخ بطنهما وأخذ دسمهما وجعل في قارورة ودهن به إنسان، وهو لا يعلم أحب الداهن حباً شديداً.
خاتمة: روى ابن حبان وغيره من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه، وابن ماجه من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله تعالى له في الجنة بيتاً " . وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من بنى لله مسجداً، بنى الله له بيتاً في الجنة مثله " . مفحص القطاة بفتح الميم موضعها الذي تجثم فيه، وتبيض كأنها تفحص عنه الزاب، أي تكشفه، والفحص البحث والكشف، وخصصت القطاة بهذا لأنها لا تبيض في شجر ولا على رأس جبل، إنما تجعل مجثمها على بسيط الأرض دون سائر الطيور، فلذلك شبه به المسجد، ولأنها توصف بالصدق كما تقدم. فكأنه أشار بذلك إلى الإخلاص في بنائه، كما قال سيدي الشيخ، العارف بالله تعالى، أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى: خالص العبودية الاندماج في طي الأحكام من غير شهوة ولا إرادة، وهذا شأن هذا الطائر. وقيل: إنما شبه بذلك لأن أفحوصها يشبه محراب المسجد في استدارته وتكوينه، وقيل: خرج ذلك مخرج الترغيب بالقليل عن الكثير، كما خرج التحذير بالقليل عن الكثير قوله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده " . ولأن الشارع يضرب المثل في الشيء بما لا يكاد يقع كقوله صلى الله عليه وسلم: " ولو سرقت فاطمة بنت محمد " . وهي رضوان الله عليها لا يتوهم منها سرقة. وكقوله صلى الله عليه وسلم: " اسمعوا وأطيعوا ولو عبداً حبشياً " . يعني فأطيعوه، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الأئمة من قريش " . وقيل: المراد طاعة من ولاه الإمام عليكم وإن كان عبداً حبشياً.
التعبير: القطا في المنام يدل على الصدق والفصاحة والألفة والأنس، وربما دلت القطاة على امرأة معجبة بنفسها، وهي ذات جمال غير الفة والله تعالى أعلم.
القطا: بتشديد الطاء، قال القزويني: سمكة عظيمة ذكروا أن عظم ضلعها يتخذ منه قنطرة يعبر الناس عليها وشحمه إذا طلي به البرص يزول.
القطامي: الصقر تضم قافه وتفتح وهو من أعظم الطيور التي يصاد بها وهو عزيز الوجود. قطرب: طائر يجول الليل كله لا ينام، وقالوا: أجول من قطرب وأسهر من قطرب. وقطرب لقب محمد بن المستنير النحوي صاحب المثلث وغيره، كان من أهل العربية، وكان حريصاً على الاشتغال والتعلم، فكان يبكر إلى سيبويه قبل حضور أحد من التلامذة، فقال له يوماً: ما أنت إلا قطرب ليل! فبقي عليه هذا اللقب. توفي سنة ست ومائتين.
والقطرب والقطروب، قال ابن سيده: إنه الذكر من السعالي، وقيل: هما صغار الجن، وقيل: القطارب صغار الكلاب واحدها قطرب، والقطرب دويبة لا تستريح نهارها سعياً. وقال الإمام محمد بن ظفر: القطرب حيوان يكون بالصعيد من أرض مصر، يظهر للمنفرد من الناس، فربما صده عن نفسه إذا كان شجاعاً، وإلا لم ينته حتى ينكحه، فإذا نكحه هلك. وهم إذا رأوا من ظهر له القطرب قالوا: أمنكوح أم مروع؟ فإن قال: منكوح أيسوا من حياته، وإن قال: مروع عالجوه. قال: وقد رأيت أهل مصر يلهجون بذكره انتهى.
والقطرب الفأر والذئب الأمعط والسفيه ونوع من الماليخوليا وفي الحديث " لا يلقين أحدكم جيفة ليل قطرب نهار " . وهذا من كلام ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. رواه عنه آدم بن أبي إياس العسقلاني في كتاب الثواب، موقوفاً عليه. وقيل: مرفوعاً وقالوا في معناه: إن القطرب لا يستريح في النهار، والمراد لا ينامن أحدكم الليل كله كأنه جيفة، ثم يكون بالنهار كأنه قطرب، لكثرة جولانه وطوفانه في أمر دنياه، فإذا أمسى، كان كالا تعباً، فينام ليله كله حتى يصبح كالجيفة لا يتحرك.
القشعبان: كمهرجان دويبة كالخنفساء قاله في العباب.
القعود: من الإبل ما اتخذه الراعي للركوب وحمل الزاد، والجمع أقعدة وقعد وقعدان وقعائد، وقيل: القعود القلوص، وقيل البكر قبل أن يثني ثم هو جمل والقعود الفصيل.
القعيد: بفتح القاف الجراد الذي لم يستو جناحاه، والقعيد من الوحش الذي يأتيك من ورائك وهو خلاف النطيح.
القعقع: كفلفل طائر أبلق ضخم من طير الماء طويل المنقار قاله الجوهري رحمه الله تعالى.
زاد ابن سيده: وفيه بياض وسواد.
القلو: بالكسر الحمار الخفيف في السير.
القلقاني: طائر كالفاختة. قاله الجوهري وغيره.
القلوص: من النوق الشابة، وهي بمنزلة الجارية من النساء، وجمعها قلص وقلائص مثل قدوم وقدائم قال الراجز:
متى تقول القلص الرواسما ... يحملن أم قاسم وقاسما
نصب القلص كما ينصب بالظن وهي لغة سليم ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
أما الرحيل فدون بعد غد ... فمتى تقول الدار تجمعنا
وقال العدوي: القلوص أول ما يركب من إناث الإبل إلى أن تثني، فإذا أثنت فهي ناقة وقد تقدم في باب العين المهملة في الكلام على العير قول سالم بن دارة:
لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
روى ابن المبارك، في الزهد والرقائق، عن القاسم مولى معاوية، قال: أقبل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على قلوص له صعب، فسلم فجعل كلما دنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله: نفر به القلوص، وجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم وقصه فقتله. فقيل: يا رسول الله إن الأعرابي قتله قلوصه، حين صرعه. فقال صلى الله عليه وسلم: " نعم وأفواهكم ملأى من دمه " . كذا رواه ابن المبارك مرسلا، وهو في الإحياء في الآفة العاشرة من آفات اللسان.
وفي سنن أبي داوود عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث مرسلا، أن النبي صلى الله عليه وسلم " اشترى ببضعة وعشرين قلوصاً حلة فأهداها إلى ذي يزن " .
وفي كامل ابن عدي، في ترجمة عمارة بن زادان الصيدلاني، عن ثابت عن أنس بن مالك أن ذا يزن أهدى النبي صلى الله عليه وسلم حلة، قومت بعشرين بعيراً، فلبسها صلى الله عليه وسلم ثم كساها عمر رضي الله تعالى عنه، ثم قال: " إياك أن تخدع عنها " . وروى الحاكم عن أبي الزبير عن جابر، قال: " استأجرت خلية رضي الله تعالى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرتين إلى جرش، كل سفرة بقلوص " . ثم قال: صحيح الإسناد.
والمعروف من ذلك ما في طبقات ابن سعد. قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، قال له أبو طالب: أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد علينا الزمان، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخلية بنت خوليد تبعث رجالا من قومك في عيرها، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها، لأسرعت إليك. وبلغ ذلك خديجة، فأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم وقالت: أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك. وفي رواية أن أبا طالب أتاها، فقال لها: هل لك أن تستأجري محمداً، فقد بلغنا أنك استأجرت فلاناً ببكرين، ولسنا نرضى لمحمد دون أربع بكرات. فقالت خديجة رضي الله عنها: لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألت لحبيب قريب! فقال أبو طالب: هذا رزق ساقه الله إليك.
فخرج صلى الله عليه وسلم مع غلامها ميسرة، وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدموا بصرى من الشام، فنزلا في ظل شجرة فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي. قال السهيلي: يريد ما نزل تحتها هذه الساعة إلا نبي، ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي، لبعد العهد بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قبل ذلك. والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل إلا أن تصح رواية من قال في هذا الحديث: لم ينزل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام. فتكون الشجرة على هذا مخصوصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وذكر أبو عمر بن عبد البر أن نسطوراً رآه، وقد أظلته غمامة، فقال: هذا نبي، وهو آخر الأنبياء. ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته، فوقع بينه وبين رجل تلاح، فقال: احلف باللات والعزى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما حلفت بها قط وإني لأمر بهما فأعرض عنهما " . فقال الرجل: القول قولك. وكان ميسرة، إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس! وكان الله تعالى قد ألقى عليه المحبة من ميسرة رضي الله عنه، فكان كأنه عبد له، وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر خديجة رضي الله تعالى عنها بالربح، ثم قدم ميسرة رضي الله عنه فأخبرها بذلك، وبما شاهده من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما قاله الراهب. فأضعفت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمت له. وقد تقدم للقلوص ذكر في لفظ الفلو في قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يربي الصدقة للمتصدق كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه " . والقلوص أيضاً الأنثى من النعام.
القليب: كالسكين، الذئب وكذلك القلوب كالخنوص قال الشاعر:
أيا أمنا أبكى على أم واهب ... أكيلة قلوب بإحدى المذانب
القمري: طائر مشهور، كنيته أبو زكرى وأبو طلحة، وهو حسن الصوت والأنثى قمرية والذكر ساق حر، والجمع قماري غير مصروف. قال ابن السمعاني في الأنساب: القمرة بلدة تشبه الجص لبياضها وأظنها بمصر، منها الحجاج بن سليمان بن أفلح القمري مصري روى عن مالك بن أنس والليث بن سعد وغيرهما، مات فجأة سنة ثمان وتسعين ومائة.
وروى عنه محمد بن سلمة المرادي وغيره. قال: والقمري طائر منسوب إلى هذه البلدة. هكذا ذكره صاحب المجمل. وقال ابن سيده: القمري طائر صغير من الحمام والأنثى قمرية وجمعها قماري وقمر. انتهى.
وكان عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضى الله تعالى عنهما، لما طلق زوجته عاتكة بنت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ينشد:
أعاتك لا أنساك ما ذر شارق ... وما ناح قمري الحمام المطوق
ولم أر مثلي طلق اليوم مثلها ... ولا مثلها من غير جرم يطلق
أعاتك قلبي كل يوم وليلة ... إليك بما تخفي النفوس معلق
لها خلق جزل ورأي ومنصب ... وخلق سوي في الحياة ومنطق
فرق له أبوه وأمره أن يراجعها. والقصة في ذلك حسنة طويلة جداً، مذكورة في الاستيعاب والتمهيد وغيرهما.
وقال القزويني: إذا ماتت ذكور القماري لم تتزاوج إناثها بعدها، وتنوح عليها إلى أن تموت، ومن العجب أن بيض القماري يجعل تحت الفواخت، وبيض الفواخت تحت القماري. وذكر أن الهوام تهرب من صوت القماري. روى أبو المظفر بن السمعاني عن والده، قال: أنشدنا سعيد بن المبارك النحوي لنفسه:
أرى الفضل مناح التأخر أهله ... وجهل الفتى يسعى له في التقدم
كذاك أرى الخفاش ينجيه قبحه ... ويحتبس القمري حسن الترنم
فائدة: كان الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه جالساً بين يدي الإمام مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه، فجاء رجل فقال لمالك: إني رجل أبيع القماري، وإني بعت في يومي هذا قمرياً فرده علي المشتري، وقال: قمريك لا يصيح، فحلفت له بالطلاق أنه لا يهدأ من الصياح، فقال له الإمام مالك: طلقت زوجتك ولا سبيل لك عليها! وكان الإمام الشافعي يومئذ ابن أربع عشرة سنة، فقال لذلك الرجل: أيما أكثر: صياح قمريك أم سكوته؟ فقال: لا بل صياحه، فقال: لا طلاق عليك. فعلم بذلك الإمام مالك، فقال: يا غلام من أين لك هذا؟ فقال: لأنك حدثتني عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة أن فاطمة بنت قيس قالت: يا رسول الله إن أبا جهم ومعاوية خطباني، فقال صلى الله عليه وسلم: " أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " . وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا جهم كان يأكل وينام ويستريح، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا يضع عصاه " على المجاز، والعرب تجعل أغلب الفعلين كمداومته، ولما كان صياح قمري هذا أكثر من سكوته، جعلته كصياحه دائماً. فتعجب الإمام رضي الله تعالى عنه من احتجاجه، وقال له: أفت فقد آن لك أن تفتي فأفتى من ذلك السن.
غريبة: ذكر ابن خلكان وابن الأثير، في تاريخهما، أن بعض الملوك بقلاع الهند، أهدى للسلطان محمود بن سبكتكين هدايا كثيرة من جملتها طائر على هيئة القمري، من خاصيته أنه إذا حضر الطعام وفيه سم دمعت عيناه وجرى منهما ماء وتحجر، فإذا حك ووضع على الجراحات الواسعة يختمها. ذكر ذلك ابن الأثير في حوادث سنة أربع وعشرين وأربعمائة، وذكره ابن خلكان، في ترجمة السلطان المذكور. ثم ذكر ابن خلكان في ترجمته، عن إمام الحرمين عبد الملك بن الشيخ أبي محمد عبد الله الجويني، أن السلطان المذكور كان حنفي المذهب، وكان مولعاً بعلم الحديث، وكان يسمع عنده الحديث، وكان يسأل عن معناه، فيجد أكثره موافقاً لمذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فجمع فقهاء المذهبين، والتمس منهما الكلام في ترجيح أحد المذهبين، فوقع الاتفاق على أن يصلى بين يديه ركعتين على مذهب الإمام الشافعي، ثم على مذهب الإمام أبي حنيفة ركعتان، فنيظر السلطان إلى ذلك، ويختار الأحسن.
فصلى القفال المروزي بطهارة سابغة، وشرائط معتبرة من الطهارة، والسترة، واستقبال القبلة، وأتى بالأركان والهيآت، والسنن والأبعاض والآداب، على وجه الكمال، وكانت صلاة لا يجوز الشافعي دونها.
ثم صلى ركعتين على ما يجوز أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، فلبس جلد كلب كان مدبوغاً، ولطخ بعضه بالنجاسة، وتوضأ بنبيذ التمر، وكان ذلك في صميم الصيف، فاجتمع عليه الذباب والبعوض وكان وضوؤه منكساً منعكساً، ثم استقبل القبلة، وأحرم بالصلاة من غير نية في الوضوء، وكبر بالفارسية، ثم قرأ بها دو برك سبز ثم نقر كنقرات الديك، من غير فصل بينها، ومن غير طمأنينة، وتشهد وضرط في آخرهما، وخرج من غير نية السلام، وقال: أيها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة! فقال السلطان: لو لم تكن هذه صلاة أبي حنيفة لقتلتك، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوزها ذو دين، فأنكرت الحنفية أن تكون هذه الصلاة جائزة عند أبي حنيفة، فطلب القفال كتب أبي حنيفة، فأمر السلطان بإحضارها، وأمر نصرانياً أن يقرأ كتب المذهبين جميعاً، فوجدت الصلاة التي صلاها القفال جائزة عند أبي حنيفة، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة، وتمسك بمذهب الشافعي رضي الله عنهما. وتوفي السلطان بغزنة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. وتفسير دو برك سبز ورقتان خضراوتان، وهو معنى قوله تعالى: " مدهامتان " قلت: وقد ذكر أنه أتى بالسنن والأبعاض والآداب والهيآت، فقوله: لا يجوز الشافعي دونها غير مستقيم، والمشهور أنه أتى بما لا تصح الصلاة إلا به.
وحكمه: حل الأكل بالإجماع، كالحمام لأنه نوع منه كما تقدم.
التعبير: القمرية في المنام امرأة دينة، وقيل: القمري رجل قارئ لقصائد الشعر طيب الحنجرة. وقالت اليهود: من رأى قمرياً أو بلبلا، أو ما أشبه ذلك، نال خيراً، وإن كان له مسافر قدم عليه، وإن كان في غم فرج الله تعالى عنه، وإن كانت له حاجة بعيدة قربت، ومن رأى هذه الأشياء، في زمن الربيع، قضيت حاجته، وإن رآها في غير زمن الربيع تأخرت حاجته إلى زمن الربيع. وتدل رؤيتها للحامل، على وضع ذكر. والله تعالى أعلم.
القمعة: بالتحريك ذباب يركب الإبل والظباء إذا اشتد الحر، يقال: الحمار يقمع أي يحرك رأسه. وقال الجاحظ: هو ضرب من ذباب الكلاب، قال في الكفاية: القمع ذباب أزرق عظيم.
القمعوط والقمعوطة: دويبة حكاه ابن سيده.
القمل: معروف واحدته قملة. ويقال لها أيضاً قمال. قاله ابن سيده، والقمل جمع قملة، وقد قمل رأسه قملا، وكنية القملة أم عقبة، وأم طلحة ويقال للذكر أبو عقبة، والجمع بنات عقبة وبنات الدروز والدروز الخياطة، سميت بذلك لملازمتها إياها. وقملة الزرع دويبة تطير كالجراد في خلقة الحلم، وجمعها قمل، قاله الجوهري. والقمل المعروف يتولد من العرق والوسخ إذا أصاب ثوباً أو بدناً أو ريشاً أو شعراً، حتى يصير المكان عفناً، وقال الجاحظ: ربما كان الإنسان قمل الطباع، وإن تنظف وتعطر وبدل الثياب، كما عرض لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه، حتى استأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في لبس الحرير، " فأذن لهما فيه " ولولا أنهما كانا في حد الضرورة، لما أذن لهما فيه، مع ما قد جاء في ذلك من التشديد. فلما كان في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه رأى على بعض بني المغيرة من أخواله قميص حرير، فعلاه بالدرة فقال المغيري: أو ليس عبد الرحمن بن عوف لبس الحرير؟ قال عمر رضي الله تعالى عنه: وأنت مثل عبد الرحمن بن عوف لا أم لك؟ قال: ومن طبع القمل أنه يكون في شعر الرأس الأحمر أحمر؟ رفي الشعر الأسود أسود، وفي الشعر الأبيض أبيض، ومتى تغير الشعر تغير إلى لونه. قال: وهو من الحيران الذي إناثه أكبر من ذكوره، وقيل: إن ذكوره الصيبان، وقيل: الصيبان بيضه، كما تقدم في باب الصاد المهملة.
روى الحاكم، في أوائل المستدرك، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، أنه قال: يا رسول الله من أشد الناس بلاء؟ قال صلى الله عليه وسلم: " الأنبياء " . قال: ثم من؟ قال عليه الصلاة والسلام: " العلماء " . قال: ثم من؟ قال عليه الصلاة والسلام: " الصالحون كان أحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله، ويبتلى أحدهم بالفقر حتى لا يجد إلا العباءة يلبسها، ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء " . ثم قال: صحيح الإسناد على شرط مسلم.
والقمل يسرع إلى الدجاج والحمام ويعرض للقردة. وأما قملة النسر، فهي التي تكون في بلاد الجبل، وتسمى بالفارسية دره، وهي إذا عضت قتلت، وهي أعظم من القمل، وإنما سميت قملة النسر لأنها تخرج منه.
فائدة: اختلف العلماء في القمل المرسل على بني إسرائيل، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو السوس الذي يخرج من الحنطة. وقال مجاهد والسدي والكلبي رضي الله تعالى عنهم: هو الجراد الطيار الذي له أجنحة. وقيل: الدبا، وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له. وقال عكرمة رضي الله تعالى عنه: بنات الجراد، وقال أبو عبيد: هو الحمنان، وهو ضرب من القراد. وقال أبو زيد: البراغيث. وقال الحسن وسعيد بن جبير: دواب سود صغار. وقال عطاء الخراساني رضي الله تعالى عنه: هو القمل المعروف بإسكان الميم.
روي أن موسى عليه الصلاة والسلام، مشى بعصاه إلى كثيب أعفر مهيل بقرية من قرى مصر تدعى عين شمس، فضربه بعصاه، فانتشر كله قملا في مصر، فتتبع ما بقي من حروثهم وأشجارهم ونباتهم، فأكله ولحس الأرض، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيعضه، وكان أحدهم يأكل الطعام، فيمتلئ قملا، فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من ذلك القمل، فإنه أخذ بشعورهم وأبشارهم، وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزم عيونهم وجلودهم، كأنه الجدري فمنعهم النوم والقرار فصرخوا وصاحوا إلى موسى عليه السلام: إنا نتوب فادع لنا ربك يكشف عنا هذا البلاء، فدعا لهم موسى عليه السلام، فرفع الله القمل عنهم بعدما أقام عليهم سبعة أيام، من السبت إلى السبت. والقمل هو أحد الآيات الخمس، قال الله تعالى: " فأرسلنا الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات يتبع بعضها بعضاً " وتفصيلها أن كل عذاب يمتد أسبوعاً، وبين كل عذابين شهر. قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق رضي الله تعالى عنهم، في تفسير هذه الآية: لما آمنت السحرة، ورجع فرعون مغلوباً، أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر، فتابع الله عليهم الآيات وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات.
فلما أتاهم موسى بالآيات الأربع: اليد والعصا والسنين ونقص الثمرات، أبوا أن يؤمنوا وأصروا على كفرهم. فدعا عليهم موسى عليه الصلاة والسلام فقال: رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغا وعتا، وإن قومه قد نقضوا عهدك، رب فخذهم بعقوبة تجعلها لهم ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية وعبرة، فبعث الله عليهم الطوفان، وهو الماء أرسل الله عليهم السماء، وكانت بيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة ومختلطة، فامتلأت بيوت القبط، حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، من جلس منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة. وركد الماء على أراضيهم، لا يقدرون على حرث ولا غيره من الأعمال أسبوعاً من السبت إلى السبت، وقال مجاهد وعطاء رضي الله تعالى عنهما: الطوفان الموت. وقال وهب: الطوفان الطاعون بلغة اليمن، وقال أبو قلابة: الطوفان الجدري، وهو أول ما عذب به، فبقي في الأرض.
قال نحاة الكوفة: الطوفان مصدر لا يجمع كالرجحان والنقصان، وقال أهل البصرة: هو جمع واحده طوفانة.
فقالوا لموسى عليه السلام: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا البلاء، فلئن كشف عنا هذا البلاء، لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان، وأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته لهم قبل ذلك من الكلأ والزرع والثمر، وأخصبت بلادهم، فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصباً، فلم يؤمنوا وأقاموا شهراً في عافية. فبعث الله تعالى عليهم الجراد، فأكل عامة زرعهم وثمارهم وأوراق الشجر، حتى أكل الأبواب وسقوف البيوت، والخشب والثيات والأمتعة، ومسامير الأبواب من الحديد، حتى وقعت دورهم، وابتلوا بالجوع، فكانوا لا يشبعون، ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء، فعجوا وضجوا إلى موسى عليه السلام، وسألوه رفع ذلك عنهم، فدعا له فكشف الله عنهم الجراد، بعدما أقام أسبوعاً من السبت إلى السبت.
روي أن موسى عليه السلام برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجعت الجراد من حيث جاءت. فأقاموا مصرين على كفرهم شهراً في عافية، ثم بعث الله تعالى عليهم القمل، وقد تقدم ذكره، فعجوا وضجوا، وسألوا رفع ذلك عنهم، وقالوا: إنا نتوب، فدعا موسى عليه الصلاة والسلام ربه أن يرفع ذلك القمل فرفع الله تعالى عنهم القمل بعدما أقام عليهم أسبوعاً، من السبت إلى السبت، فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم، فأقاموا شهراً في عافية، فبعث الله عليهم الضفادع، فامتلأت منها بيوتهم وأفنيتهم، وكانت تدخل في فرشهم وبين ثيابهم، وأطعمتهم وآنيتهم، فلا يكشف أحد منهم طعاماً ولا إناء إلا وجد فيه الضفادع، وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى ذقنه، و كم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه. وكانت تلقي نفسها في القدر وهي تغلي، فتفسد طعامهم، وتطفئ نيرانهم، ولا يعجنون عجيناً إلا انشدخت فيه، وإذا اضطجع أحدهم تركبه الضفادع، حتى تكون عليه ركاماً، حتى لا يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر. فلقوا منها أذى شديداً، فضجوا وصرخوا، وصاحوا وسألوا موسى عليه السلام، فقالوا: ادع لنا ربك يكشفها عنا، فدعا ربه فرفع الله تعالى عنهم الضفادع، بعدما أقامت عليهم أسبوعاً من السبت إلى السبت، فأقاموا شهراً في عافية، ثم نقضوا العهود وعادوا لكفرهم، فأرسل الله تعالى عليهم الدم، فسال النيل عليهم دماً، وصارت مياههم دماً، فما يستقون من الآبار إلا دماً عبيطاً أحمر، فشكوا إلى فرعون، فقالوا: ليس لنا شراب، فقال: إنه قد سحركم.
وكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي على الإناء الواحد، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء، وما يلي القبطي دماً، حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل، حين جهدهم العطش، فتقول: اسقيني من مائك، فتصب لها من قربتها فيعود في الإناء دماً، حتى كانت تقول: اجعليه في فيك ثم مجيه في فمي، فتأخذ في فيها ماء، فإذا مجته في فيها صار دماً، وإن فرعون اعتراه العطش حتى إنه اضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة، فإذا مضغها، يصير ماؤها في فيه ملحاً أجاجاً، فمكثوا كذلك أسبوعاً من السبت إلى السبت لا يشربون إلا الدم. وقال زيد بن أسلم: الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف فأتوا موسى عليه السلام، وقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا لهم فرفع عنهم الدم، فلم يؤمنوا. فذلك قوله عز وجل: " فلما كشفنا عنهم الرجز " وهو ما ذكره الله من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وقال ابن جبير: الرجز الطاعون، وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس حتى مات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد.
روينا عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، أنه سمع أباه يسأل أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله في الطاعون شيئاً؟ فقال أسامة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل أو على من قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض قوم فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " .
فسألوا موسى عليه السلام فدعا ربه فكشفه عنهم، فتمادوا في كفرهم وطغيانهم إلى أن أغرق الله تعالى فرعون وملأه في اليم وقد تقدم ذكر غرقه، في باب الحاء المهملة، في لفظ الحصان.
قال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر: كان ملك فرعون أربعمائة سنة، وعاش ستمائة وعشرين سنة، لا يرى مكروهاً، ولو حصل له في تلك المدة جوع يوم، أو حمى ليلة، أو وجع ساعة، لما ادعى الربوبية قط.
وقد ظفرت بهذه القصة مختصرة، فأوردتها عقب هذا، لتحصل الفائدة، وهو أن موسى عليه السلام مشى بعصاه إلى كثيب أعفر مهيل، فضربه فانتشر كله قملا في مصر، ثم إنهم قالوا: ادع لنا ربك في كشف هذا عنا فدعا فكشف عنهم، فرجعوا إلى طغيانهم، فبعث الله عليهم الضفادع، فكانت تدخل في فرشهم وبين ثيابهم، وإذا هم الرجل أن يتكلم دخلت الضفادع في فيه وتلقي نفسها في القدر، وهي تغلي. فقالوا: ادع لنا ربك يكشفها فكشف عنهم، فرجعوا إلى كفرهم، فبعث الله تعالى عليهم الدم، فرجع ماؤهم الذي كانوا يشربونه دماً، فكان الرجل منهم إذا استقى من البئر وارتفع إليه الدلو عاد دماً. وقيل: سلط الله تعالى عليهم الرعاف.
فائدة أخرى: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تقصع القملة بالنواة " أي تقتل، والقصع الدلك بالظفر وإنما خص النوى لأنهم كانوا يأكلونه عند الضرورة، وقيل: لأن النواة كانت مخلوقة من فضلة طينة آدم عليه الصلاة والسلام. وفي الحديث: " أكرموا النخلة فإنها عمتكم " . وفي حديث آخر " نعمت العمة لكم النخلة " . وقيل: لأن النوى قوت الدواب، وقال الجوهري في الحديث: إنه نهى عن قصع الرطبة، وهو عصرها لتقشر.
الحكم: يحرم أكل القمل بالإجماع، وإذا ظهر على بدن المحرم أو ثيابه لم يكره له تنحيته، فإن قتله لم يلزمه شيء لكن يكره أن يفلي رأسه أو لحيته، فإن فعل وأخرج منهما قملة فقتلها تصدق ولو بلقمة. قال الأكثرون: هذا التصدق مستحب، وقيل: واجب لما فيه من إزالة الأذى عن الرأس واللحية، وليس هذا التصدق فداء للقمل، حتى يدل ذلك على حل الأكل، وإنما التصدق في مقابلة الترفه الحاصل للمحرم. وأفاد الترمذي الحكيم أنه إذا وجد الجالس على الخلاء قملة، لا يقتلها بل يدفنها. فقد روي أنه من قتل قملة وهو على رأس خلائه بات معه في شعاره شيطان فينسيه ذكر الله أربعين صباحاً. وقيل: من قتل قملة على رأس خلائه لن يكفي الهم ما عاش. وفي فتاوى قاضي خان، لا بأس بطرح القملة حية والأدب أن يقتلها.
فرع: يجوز لبس الثوب الحرير لدفع القمل، لأنه لا يقمل بالخاصية، ولذلك رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في لبسه لذلك، كما تقدم. رواه الشيخان والأصح أنه لا يختص بالسفر، وفي وجه اختاره الشيخ أبو محمد الجويني وابن الصلاح يختص به، لأن الرواية مقيمة بذلك. وقال مالك: لا يجوز لبسه مطلقاً لأن وقائع الأحوال عنده لا تعم وهو وجه بعيد عندنا.
فرع: إذا رأى المصلي في ثوبه قملة، أو برغوثاً؟ قال الشيخ أبو حامد: الأولى أن يتغافل عنها فإن لقاها بيده أو أمسكها حتى يفرغ فلا بأس، فإن قتلها في الصلاة عفي عن دمها دون جلدها، وإن قتلها وتعلق جلدها بظفره أو بثوبه بطلت صلاته. قال: ولا بأس بقتلها في الصلاة كما لا بأس بقتل الحية والعقرب، فإن ألقى القملة بيده فلا بأس. قال القمولي: وينبغي أن يختص جواز إلقائها بغير المسجد، والذي قاله صحيح متعين لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليصرها في ثوبه حتى يخرج من المسجد " . رواه أحمد في مسنده، بإسناد صحيح. وفي المسند أيضاً عن شيخ من أهل مكة من قريش، قال: وجد رجل في ثوبه قملة، فأخذها ليطرحها في المسجد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تفعل ردها في ثوبك حتى تخرج من المسجد " . وإسناده أيضاً صحيح. وقال البيهقي: إنه مرسل حسن. ثم روى عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه رأى قملة، على ثوب رجل في المسجد، فأخذها فدفنها في الحصا، ثم قال " ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً " قال: ويذكر نحو هذا عن مجاهد.
وعن ابن المسيب أنه يدفنها كالنخامة قال: وروينا عن مالك بن عامر، أنه قال: رأيت معاذ بن جبل رضى الله تعالى عنه يقتل البراغيث والقمل في الصلاة، وفي رواية رأيت معاذاً يقتل القمل في الصلاة ولكن لا يعبث.
وروى البزار والطبراني في معجمه الأوسط، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليدفنها " . وقال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: وأما القملة والبرغوث فأكثر أصحابنا يقولون: لا يؤكل طعام مات فيه شيء منهما لأنهما نجسان، وهما من الحيوان الذي عيشه من دم حيوان، لا عيش لهما غير الدم، ولهما دم فهما نجسان. وكان سليمان بن سالم القاضي الكندي من أهل إفريقية يقول: إن ماتت القملة في ماء طرح ولا يشرب، وإن وقعت في عقيق، ولم تخرج في الغربال، لم يؤكل الخبز، وإن ماتت في شيء جامد طرحت وما حولها كالفأرة. وقال غيره من أصحابنا وغيرهم: إن القملة كالنباب سواء، وقال في التمهيد أيضاً: ذكر نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يقتل القمل في الصلاة أو قتل القمل في الصلاة " . قال نعيم: هذا أول حديث سمعته من ابن المبارك.
الأمثال: قالت العرب: غل قمل يضرب للمرأة السيئة الخلق. قال ابن سيده في الحديث: " النساء غل قمل " يقذفها الله في عنق من يشاء ثم لا يخرجها إلا هو، وهذا بعض أثر. وفي الفائق في آخر باب الهاء مع الباء، أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: النساء ثلاث هينة لينة عفيفة مسلمة، تعين أهلها على العيش، ولا تعين العيش على أهلها، وأخرى وعاء للولد، وأخرى غل قمل يضعه الله في عنق من يشاء، ويكفه عمن يشاء. والرجال ثلاثة: رجل ذو رأي وعقل، ورجل إذا حز به أمر أتى ذا رأي فاستشاره، ورجل حائر بائر لا يأتمر رشيداً، ولا يطيع مرشداً. وقال الأصمعي: كانوا يغلون الأسير بالقيد وعليه الوبر فإذا طال الغل عليه قمل فيلقى منه جهداً. يضرب لكل من يلقى في شدة، قال: وهذا هو السبب في قول حاتم الطائي: " لو غير ذات سوار لطمتني " ، وذلك أنه مر ببلاد نميرة في بعض الأشهر الحرم، فناداه أسير لهم: يا أبا سفانة أكلني الإسار والقمل، فقال: ويحك أسأت إذ نوهت باسمي في غير بلاد قومي، فساوم القوم به ثم قال: أطلقوه واجعلوا يدي في الغل مكانه ففعلوا، فجاءته امرأة ببعير لتفديه، فقام فنحره فلطمته، فقال: لو غير ذات سوار لطمتني، يعني أني لا أقتص من النساء فعرف ففدى نفسه.
الخواص: قال الجاحظ: القمل يعتري ثياب غير المجذومين، قال ابن الجوزي: والحكمة في ذلك أنه لما تولع الجذام بأطرافهم صعب عليهم الحك، فمنع الله عنهم ذلك لطفاً بهم، كما أنه منع عن الأخرس السمع لطفاً به، وإذا ألقيت القملة وهي حية أورثت النسيان. كذا رواه ابن عدي في كامله، في ترجمة أبي عبد الله الحكم بن عبد الله الأيلي، أنه روى بإسناد صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ست خصال تورث النسيان: أكل سؤر الفأر، القاء القملة وهي حية، والبول في الماء الراكد، وقطع القطار، ومضغ العلك، وأكل التفاح الحامض، وبضد ذلك اللبان الذكر " وأشار إلى ذلك الجاحظ بقوله: وفي الحديث أن أكل التفاح الحامض، وسؤر الفأر، ونبذ القملة يورث النسيان.
قال: وفي حديث آخر " إن النبي يلقي القملة لا يكفى الهم " . وقيل: إن قراءة ألواح القبور، والمشي بين المرأتين والنظر إلى المصلوب، وأكل الكزبرة الخضراء، وأكل الخبز الحار يورث النسيان، وأكل الحلوى وشرب العسل، وأكل الخبز البارد، يورث الذكاء، والعامة تزعم أن لبس النعال السود يورث النسيان.
وإذا أردت أن تعلم هل المرأة حامل بذكر أم أنثى؟ فخذ قملة واحلب عليها من لبنها في كف إنسان، فإن خرجت القملة من اللبن في حامل بجارية، وإن لم تخرج في حامل بذكر! وإن احتبس على إنسان بوله فخذ قملة من قمل بدنه، واجعلها في إحليله فإنه يبول من وقته. وإن غسلت المرأة أصول شعرها بماء السلق منع القمل. ودهن القرطم إذا دهن به إنسان مات قمله، وإن غسل البدن بخل وماء البحر قتل القمل، وإذا مسح الرأس والبدن بزئبق مقتول بدهن سمسم منع القمل من الرأس والثياب.
التعبير: القمل في المنام على وجوه: فإذا كان في قميص جديد فإنه مال وهو للسلطان جند وأعوان، وللوالي زيادة في ماله. ومن رأى القمل في ثوب خلق، فهو دين يخشى زيادته، والقمل على الأرض قوم ضعاف، فإن دب إلى جانب إنسان فإنه يخالطهم، ومن رأى القمل وكرهه فإنه يرى أعداء ولا يقدرون له على مضرة، ومن رأى أنه قرصه القمل، فإن قوماً ضعفاء يرمونه بكلام، ومن حكه القمل، فلا بد أن يطالب بدين. والقملة تعبر بامرأة، لأن ابن سيرين أتاه رجل، فقال: رأيت كأن إنساناً أخذ من كمي قملة فألقاها. فقال ابن سيرين: تطلق زوجتك على يده، فكان كذلك. ومن رأى قملة طارت من صدره فإن أجيره أو غلامه أو ولده قد هرب، والقمل الكثير مرض أو حبس، لأنها أكثر ما تحدث على هؤلاء القوم. وربما دلت رؤية القمل على العيال. وتعبر رؤية القمل للملك بجيشه وأعوانه وللوزير بشرطته، وللقاضي بالمتوصلين إليه. ومن رأى أنه رمى قملة، فإنه مخالف لسنة من السنن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن رمي القمل " ومن أكل قملة فإنه يغتاب إنساناً فإن وجد لها دماً، فإنه يغتاب رجلا ذا مال. والقمل يعي بأقوام يمشون بالنميمة بين الأقرباء، وقتل القمل في المنام قهر الأعداء. وقال جاماست: من التقط القمل فإنه يكذب عليه كذب فاحش والله أعلم.
القمقام: صغار القردان، وضرب من القمل شديد التشبث بأصول الشعر، الواحدة قمقامة، وتسميه العامة الطبوع وقد تقدم.
الأمثال: قالت العرب: قمقامة حكت بجنب البازل. البازل من الإبل ما دخل في السنة التاسعة كما تقدم، وهو أقواها يضرب للضعيف الذليل يحتك بالقوي العزيز.
قندر: قال القزويني: هو حيوان بري بحري يكون في الأنهار العظام، يتخذ في البر إلى جانب البحر بيتاً له بابان، يأكل لحم السمك. وخصيته تسمى الجندبادستر، وقد تقدم في باب الجيم، الكلام على ذلك.
القندس: قال ابن دحية: إنه كلب الماء، وفسر به حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، الذي رواه الجماعة، غير النسائي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تقاتلون بين يدي الساعة قوماً نعالهم الشعر " . وفي رواية: أيلبسون الشعر، ويمشون في الشعر، وجوههم كالمجان المطرقة، حمر الوجوه، صغار الأعين ذلف الأنوف " . قال ابن دحية: قوله يلبسون الشعر، إشارة إلى الشرابيش التي يدار عليها بالقندس، والقندس كلب الماء وهو من ذوات الشعر كالمعز، وذوات الصوف الضأن، وذوات الوبر والإبل انتهى. وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في باب الكاف حكم الكلب المائي. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: بحثنا عن القندس فلم يتبين لنا أنه مأكول أو غيره، فينبغي أن يتورع عن الصلاة فيه، ولنا وجهان فيما أشكل من الحيوان فلم يعلم أنه مأكول أو غيره.
القنعاب: كسنجاب العظيم من الوعول السمين.
القنفذ: بالذال المعجمة وبضم الفاء وفتحها البري منه، كنيته أبو سفيان وأبو الشوك، والأنثى أم دلدل، والجمع القنافذ. ويقال لها: العساعس لكثرة ترددها بالليل، ويقال للقنفذ: أنقد وهو صنفان قنفذ يكون بأرض مصر قدر الفار، ودلدل يكون بأرض الشام والعراق في قدر الكلب القلطي، والفرق بينهما كالفرق بين الجرذ والفأر.
قالوا: إن القنفذ، إذا جاع يصعد الكرم منكساً، فيقطع العناقيد ويرمي بها، ثم ينزل فيأكل منها ما أطاق، فإن كان له فراخ تمرغ في الباقي ليشتبك في شوكه ويذهب به إلى أولاده وهو لا يظهر إلا ليلا قال الشاعر:
قنافذ هداجون حول بيوتهم ... بما كان إياهم عطية عودا
وهو مولع بأكل الأفاعي ولا يتألم لها، وإذا لدغته الحية أكل السعتر البري، فيبرأ وله خمسة أسنان في فيه، والبرية منها تستفد قائمة وظهر الذكر لاصق ببطن الأنثى.
وروى الطبراني في معجمه الكبير والحافظ بن منير الحلبي وغيرهما، عن قتادة بن النعمان، قال: كانت ليلة شديدة الظلمة والمطر، فقلت: لو أني اغتنمت الليلة شهود العتمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلت، فلما رآني قال صلى الله عليه وسلم: " قتادة " . قلت: لبيك يا رسول الله، ثم قلت: علمت أن شاهد الصلاة هذه الليلة قليل، فأحببت أن أشهدها معك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا انصرفت فائتني " . فلما فرغت من الصلاة أتيت إليه فأعطاني عرجوناً كان في يده، وقال: " هذا يضيء أمامك عشراً ومن خلفك عشراً " . ثم قال صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد خلفك في أهلك، فاذهب بهذا العرجون فاستضئ به حتى تأتي بيتك فتجده في زاوية البيت فاضربه بالعرجون " . قال: فخرجت من المسجد، فأضاء العرجون مثل الشمعة نوراً، فاستضأت به وأتيت أهلي فوجدتهم قد رقدوا، فنظرت إلى الزاوية فإذا فيها قنفذ، فلم أزل أضربه بالعرجون حتى خرج. ورواه الإمام أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح.
فائدة: روى البيهقي، في أواخر دلائل النبوة، عن أبي دجانة واسمه سماك بن خرشة قال: شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أني نمت في فراشي، فسمعت صريراً كصرير الرحى ودوياً كدوي النحل، ولمعاً كلمع البرق، فرفعت رأسي فإذا أنا بظل أسود يعلو ويطول في صحن داري فمسست جلده، فإذا هو كجلد القنفذ فرمى في وجهي مثل شرر النار. فقال صلى الله عليه وسلم: " عامر دارك يا أبا دجانة " . ثم طلب صلى الله عليه وسلم دواة وقرطاساً، وأمر علياً رضي الله تعالى عنه أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول رب العالمين إلى من يطرق الدار من العمار والزوار، إلا طارقاً يطرق بخير أما بعد فإن لنا ولكم في الحق سعة فإن كنت عاشقاً مولعاً، أو فاجراً مقتحماً، فهذا كتاب الله ينطق علينا وعليكم بالحق، إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون، ورسلنا يكتبون ما تمكرون، اتركوا صاحب كتابي هذا وانطلقوا إلى عبدة الأصنام، وإلى من يزعم أن مع الله إلها آخر، لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون حم لا ينصرون حم عسق تفرق أعداء الله وبلغت حجة الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فسيكفيهم الله وهو السميع العليم.
قال أبو دجانة رضي الله عنه: فأخذت الكتاب، وأدرجته وحملته إلى داري وجعلته تحت رأسي فبت ليلتي، فما انتبهت إلا من صراخ صارخ يقول: يا أبا دجانة أحرقتنا بهذه الكلمات فبحق صاحبك إلا ما رفعت عنا هذه الكلمات، فلا عود لنا في دارك ولا في جوارك ولا في موضع يكون فيه هذا الكتاب، قال أبو دجانة: فقلت: والله لا أرفعه حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو دجانة: فلقد طالت علي ليلتي بما سمعت، من أنين الجن وصراخهم وبكائهم، حتى أصبحت فغدوت فصليت الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بما سمعت من الجن ليلتي، وما قلت لهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا دجانة ارفع عن القوم، فوالذي بعثني بالحق نبياً إنهم ليجدون ألم العذاب إلى يوم القيامة. قال البيهقي: وقد ورد في حرز أبي دجانة رضي الله عنه حديث طويل، غير هذا موضوع، لا تحل روايته. وهذا الذي رواه البيهقي، رواه الديلمي الحافظ في كتاب الإنابة، والقرطبي في كتاب التذكار في أفضل الأذكار.
الحكم: قال الشافعي: يحل أكل القنفذ لأن العرب تستطيبه، وقد أفتى ابن عمر بإباحته وقال أبو حنيفة والإمام أحمد: لا يحل لما روى أبو داود وحده أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سئل عنه، فقرأ: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً، الآية فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: ذكر القنفذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " خبيث من الخبائث " . فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: إن كان قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فهو كما قال. قلت: والجواب أن رواته مجهولون. قال البيهقي: ولم يرو إلا من وجه واحد ضعيف لا يجوز الاحتجاج به. وما روي عن سعيد بن جبير، أنه قال: جاءت أم حفيد رضي الله تعالى عنها بقنفذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعته بين يديه، فنحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأكله فهو مرسل. وقد روي مسنداً وليس فيه ذكر القنفذ. وقيل: أراد أنه خبيث الفعل دون اللحم، لما فيه من إخفاء رأسه عند التعرض لذبحه، وابداء شوكه عند أخذه، وسئل مالك عنه، فقال: لا أدري. وقال القفال: إن صح الخبر فهو حرام، وإلا رجعنا إلى العرب هل تستطيبه أم لا. وقال الرافعي: يقال إن له كرشاً ككرش الشاة.
الأمثال: قالوا: أسرى من قنفذ وقالوا: ذهبوا إسراء قنفذ، يعني ذهبوا ليلا، لأن القنفذ يسري في الليل كثيراً وقد تقدم هذا في باب الهمزة في لفظ أنقد.
الخواص: مرارة البري منه، إذا طلي بها موضع الشعر المنتوف، لا ينبت فيه شعر أبداً. وإذا اكتحل بها أزالت البياض من العين، وإذا خلطت بشيء من الكبريت وطلي بها البهق أزالته وإن ضرب من مرارته نفع من الجذام والسل والزحير، وإن خلطت بدهن ورد وقطر في أذن من به صمم قديم أبرأه إذا داوم عليه أياماً، ولحمه إذا أكل نفع من السل والجذام والبرص والتشنج ووجع الكلى، وإن مسح بشحمه ودمه وبراثنه المعقود عن النساء حله، وطحاله يسقى لمن به وجع الطحال، بشراب العسل فإنه يبرئه، وكليته تجفف ويسقى منها وزن درهم، مسحوقاً بماء الحمص الأسود، من به عسر البول فيبرأه سريعاً. وإن قتل قنفذ، وقطع رأسه بسيف لم يقتل به إنسان، وعلق على المجنون والمصروع والمختل أبرأه. وان قطع طرف رجله اليمنى وهو حي وعلقت على صاحب الحمى الحارة والباردة، من غير أن يعلم ما هو، مربوطاً في خرقة كتان، أبرأه. وعينه اليمنى تغلى بشيرج، وتجعل في إناء نحاس، فمن اكتحل به لم يخف عليه شيء في الليل، بل يراه كأنه نهار، وشطار العيارين يفعلون ذلك. وعينه اليسرى تغلى بزيت وترفع في قارورة، فإذا أردت أن تنوم إنساناً فخذ منه بطرف الميل، وادنه إلى أنفه، فإنه ينام من ساعته. وأظفار يده اليمنى يبخر بها المحموم، فتذهب حماه. وطحاله إذا شوي وأكله من به وجع الطحال أبرأه، والأول أسرع وهو ما تقدم. ومرارته تعجن بسمن عتيق، وتتحمل بها المرأة في قبلها، فإنها تلقي ما في جوفها. ودمه يطلى به على عضة الكلب، يسكن ألمها، ولحمه المملح ينفع من داء الفيل والجذام، وهو جيد لمن يبول في فراشه. وجميع أصناف القنافذ بيضها أصفر جداً لا يؤكل، وإذا أخذ بول القنفذ وسقي بشراب لمن أعياه مرضه ثلاثة أيام أبرأه. وإن علق قلبه على من به حمى الربع أبرأه، وإذا طلي المجذوم بشحمه نفعه.
وأما رؤيته في المنام فإنه يدل على المكر والخداع والتجسس، والاحتقار والشر، وضيق القلب وسرعة الغضب وقلة الرحمة، وربما يدل على فتنة يشهر فيها السلاح، والله تعالى أعلم.
القنفذ البحري: قال القزويني: مقدمه يشبه مقدم القنفذ البري، ومؤخره يشبه السمك، طيب اللحم جداً. قال ابن زهر: وشالج به عسر البول، وريشه لين يشبه الشعر.
القنفشة: دويبة معروفة عند أهل البادية حكاه ابن سيده.
القهبى: بالفتح اليعقوب وقيل: العنكبوت.
القهيبة: طائر يكون بتهامة فيه بياض وخضرة، وهو نوع من الحجل، قاله ابن سيده أيضاً.
القوافر: الضفادع، وقد تقدم ما فيها في باب الضاد المعجمة.
القواع: بضم القاف الذكر من الأرانب.
القوب: الفرخ، ومنه قولهم في المثل تخلصت قائبة من قوب فالقائبة قشر البيضة، قال الكميت:
لهن وللمشيب ومن علاها ... من الأمثال قائبة وقوب
وقال أعرابي من بني أسد لتاجر استخفره: إذا بلغت بك مكان كذا وكذا فبرئت قائبة من قوب أي أنا بريء من خفارتك.
قوبع: بضم القاف وفتح الباء الموحدة، طائر أسود أبيض الذنب يكثر تحريك ذنبه. تقدم في آخر باب العين المهملة.
القوثع: بفتح الثاء المثلثة الظليم، وقد تقدم في باب الظاء المعجمة.
القوق: بالضم طائر مائي طويل العنق قاله في العباب.
قوقيس: قال القزويني: إنه طائر بأرض الهند، من شأنه أنه عند التزاوج يجمع حطباً كثيراً في عشه، ولا يزال الذكر منه يحك منقاره بمنقار الأنثى، حتى تأجج النار من حكهما في ذلك الحطب، وتشتعل ويحترقان فيها، فإذا سقط المطر على ذلك الرماد تولد منه دود، ثم تنبت له أجنحة ثم يصير طيراً، ثم يفعل كفعل الأول من الحك والاحتراق.
قوقي: بضم القاف الأولى وكسر الثانية، صنف من السمك عجيب جداً، على رأسه شوكة قوية، يضرب بها. حكى الملاحون أن هذه السمكة، إذا جاعت رمت نفسها إلى شيء من الحيوان فيبتلعها، ثم إنها تضرب بشوكتها أحشاءه حتى تهلكه. وربما تخرج من شق بطنه تتغذى منه هي وغيرها، وإذا قصدها قاصد في الماء، تضربه بالشوكة فيهلك، ولعلها تضرب السفينة بالشوكة فتخرقها، وتغرق أهلها وتأكل منهم، والملاحون يعرفون ذلك فيجعلون على السفينة جلد تلك السمكة، فإن شوكتها لا تعمل فيه كذا قاله القزوني.
قيد الأوابد: الفرس الجواد، قيل له ذلك لأنه يمنع الوحش الفوات لسرعته، والأوابد الوحوش. قال امرؤ القيس:
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
قيق: بكسر أوله طائر على قدر اليمامة، وأهل الشام يسمونه أبا زريق، وهو ألوف للناس فيه قبول للتعلم وسرعة إدراك لما يعلم. وقد تقدم في باب الزاي.
أم قشعم: بفتح القاف النسر والعنكبوت والضبع واللبوة والمنية والداهية والحرب والدنيا أيضاً. قال زهير:
فشد ولم ينظر بيوتاً كثيرة ... إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
قيل: أراد أحد هذه الأشياء وقال آخر:
فخر صريعاً لليدين وللفم ... إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
أبو قير: طائر معروف، قاله ابن الأثير وغيره، وقد تقدم.
أم قيس: هي بقرة بني إسرائيل، وقد تقدم ذكرها في باب الباء، وفي باب العين المهملة في العجل.
باب الكاف
الكاسر: العقاب، يقال له كسر الطائر يكسر كسراً وكسوراً، إذا ضم جناحيه يريد الوقوع وعقاب كاسر. قال الشاعر:كأنه بعد كلال الزاجر ... ومسحه مر عقاب كاسر
ويعدى فيقال: كسر جناحيه، قال ابن سيده.
كاسر العظام: المكلفة وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الميم.
الكبش: فحل الضأن في أي سن كان، وقيل: إذا أثنى، وقيل: إذا أربع، والجمع أكبش وكباش.
روى الجماعة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر كبشين أملحين أقرنين فسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما.
وروى أبو داود وابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوأين فلما وجههما قال: " إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً " . إلى قوله: " وأنا من المسلمين اللهم منك وإليك عن محمد وأمته بسم الله والله أكبر " . ثم ذبح. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. قوله: أملحين الأملح الني بياضه أكثر من سواده، وقيل: هو النقي البياض.
وفي الحديث الآخر، في صحيح مسلم: " يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد " .
ومعناه أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود. ونقل عن أصحاب الحديث، أن معنى كونه ينظر في سواد ويبرك في سواد وبطأ في سواد أن ذلك يكون في ظل نفسه لسمنه.
وروى ابن سعد في طبقاته أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي له ترس، فيه تمثال كبش، فوضع يده عليه فأذهب الله ذلك التمثال. وفي رواية أنه كان له صلى الله عليه وسلم ترس، وفيه تمثال كبش. وفي رواية تمثال عقاب فكره النبي صلى الله عليه وسلم مكانه، فأصبح وقد أذهبه الله تعالى.
وفي سنن أبي داود وابن ماجه، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء قل للذين يتفقهون لغير الدين، ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، وبلبسون للناس صوف الكباش، وقلوبهم كقلوب الذئاب، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، إياي يخادعون وبي يستهزؤون، لأتيحن لهم فتنة تدع الحكيم حيران " .
وروى البيهقي، في الشعب، عن عمر رضي الله تعالى عنه، قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمي مقبلاً وعليه إهاب كبش، قد تنطق به، فقال: " أنظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلة اشتريت بمائتي درهم، فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون " انتهى.
وفي الصحيحين، عن خباب بن الأرت قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله عز وجل، فوقع أجرنا على الله فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم نجد له ما نكفنه به إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه خرج رأسه. فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الأذخر.
ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها أي يجتنبها. وهو إشارة إلى ما فتح الله عليهم من الدنيا، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والكبش هو الذبح العظيم الذي فدى الله به إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وإنما سمي عظيماً لأنه رعى في الجنة أربعين عاماً، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال: وهو الكبش الذي قربه هابيل فتقبل منه. قال: ولو تمت تلك الذبيحة لصارت سنة ولذبح الناس أبناءهم، واستشهد أبو حنيفة رحمه الله تعالى بهذه القصة، على أن من نذر ذبح ولده، يلزمه ذبح شاة. ومنع الجمهور ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا نذر في معصية الله ولا نذر لابن آدم فيما لا يملك " .
وقد اختلف العلماء في الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق عليهما الصلاة والسلام، فذهب قوم إلى أنه إسحاق منهم عمر وعلي وابن مسعود والعباس وكعب وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء والزهري والسدي، قالوا: كانت هذه القصة بالشام. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: أري إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح إسحاق في المنام، فسار به مسيرة شهر، في روحة واحدة، حتى أتى به المنحر في منى، فلما أمره الله تعالى بذبح الكبش ذبحه، وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة، طويت لهما الأودية والجبال. واحتجوا أيضاً بقوله تبارك وتعالى: " فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي، قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك " . قالوا: وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى ما قال في سورة هود " فبشرناها بإسحاق " . وممن ذهب إلى أنه إسحاق شيخ التفسير محمد بن جرير الطبري رحمة الله عليه وروي عن مالك.
وقالت فرقة: الذبيح إسماعيل، واحتجوا بأن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق، بعد الفراغ من قصة الذبيح. فقال: " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة منه؟ قال محمد بن كعب القرظي: سأل عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه رجلاً من علماء يهود، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل. ثم قال: يا أمير المؤمنين إن يهود لتعلم ذلك، ولكنهم يحسدونكم يا معشر العرب، على أن يكون أبوكم الذي أمر الله تعالى بذبحه، ويزعمون أنه إسحاق أبوهم، ومن الدليل عليه أن قرني الكبش، كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت، واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج. قال الشعبي رحمه الله: رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: والذي نفسي بيده، لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة قد وخش. يعني قد يبس. وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال: يا أصمعي أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه.
وقال محمد بن إسحاق: كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل، حمل على البراق فيغدو من الشام ويقيل بمكة، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام، حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي، وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته، أمر في المنام أن يذبحه، وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روى في نفسه، أي فكر أمن الله هذا أم من الشيطان. فمن ثم سمي يوم التروية. فلما أمسى رأى ما رأى في المنام ثانياً، فلما أصبح عرف أنه من الله تعالى، فمن ثم سمي يوم عرفة، فهم بنحر ابنه ففداه الله تعالى بالكبش.
وروى البيهقي، في البعث والنشور، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما فدى إسحاق بالكبش قال الله عز وجل: إن لك دعوة مستجابة. فقال له إبراهيم: تعجل دعوتك لا يدخل الشيطان فيها شيئاً. قال إسحاق: اللهم من لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئاً فاغفر له " . وكنية جماعة من الصحابيات رضي الله تعالى عنهن أم كبشة، منهن أم كبشة بنت معد يكرب عمة الأشعث بن قيس.
روى الدار قطني عن معاوية بن حديج، بحاء مهملة مضمومة ودال مهملة مفتوحة وبالجيم في آخره، أن أم كبشة هذه سألت النبي صلى الله عليه وسلم أنها آلت أن تطوف بالبيت الحرام حبواً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوفي على رجليك سبعين: سبعاً عن يديك وسبعاً عن رجليك " . قلت والحكم المذكور غريب لم أر من صرح به من الفقهاء، فلذلك ذكرته هنا، وإن لم يكن له تعلق بالكتاب، ثم رأيته بعد ذلك في آخر باب النذر من المحرر لمجد الدين بن تيمية من الحنابلة فقال: ومن نذر أن يطوف على أربع لزمه أن يطوف طواف نص عليه. يعني الإمام أحمد، ثم رأيته في تاريخ مكة لأبي الوليد الأزرقي، مروياً من حديث عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن امرأة نذرت أن تطوف على أربع قال: تطوف عن يديها سبعاً وعن رجليها سبعاً.
فائدة: روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث أي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جيء بالموت، كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة النار ثم يذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت " . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر " . وفي رواية الترمذي: فيقال هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت. فيضجع فيذبح، فلولا أن الله تعالى قضى لأهل الجنة بالحياة والبقاء لماتوا فرحاً، ولولا أن الله تعالى قضى لأهل النار بالحياة والبقاء لماتوا ترحاً. وإنما جيء بالموت على هيئة كبش، لما جاء أن ملك الموت عليه السلام أتى آدم عليه الصلاة والسلام في صورة كبش أملح قد نشر من أجنحته أربعمائة جناح.
قال ابن عباس والكلبي ومقاتل في قوله تعالى: " الذي خلق الموت والحياة " ، خلقهما جسمين، جعل الموت في هيئة كبش أملح لا يمر على شيء، ولا يجد ريحه شيء إلا مات. والحياة على هيئة فرس أنثى بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يركبونها، خطوها مد البصر فوق الحمار ودون البغل، لا تمر على شيء ولا تطأ شيئاً، ولا يجد ريحها شيء إلا حي، وهي التي أخذ السامري من ترابها فألقاه على العجل انتهى.
وهذه هي الحكمة في فداء الذبيح بكبش ليكون فدى من الموت بشكل الموت، ولما سر بذبحه سر أهل الجنة أيضاً بذبحه منة عليهم. ونقل القرطبي عن كتاب خلع النعلين، أن الذابح للكبش بين الجنة والنار، يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ في اسمه إشارة إلى الحياة الأبدية. وذكر صاحب كتاب الفردوس، أن الذي يذبحه جبريل عليه السلام.
فائدة أخرى: قال ابن عباس وابن عمر وابن عمرو وسعيد بن جبير والضحاك والحسن رضي الله تعالى عنهم، في قوله تعالى " قل كونوا حجارة أو محديداً، أو خلقاً مما يكبر في صدوركم " إن الذي يكبر في صدورهم الموت. قال السهيلي: وهو تفسير يحتاج إلى تفسير. قال: وقال بعض المتأخرين: إن الموت الذي يستعظمونه سيفنى حين يذبح بين الجنة والنار، فكذلك أنتم تفنون. ورأيت في الحلية لأبي نعيم في ترجمة وهب بن منبه أنه قال: إن الله تعالى في السماء السابعة داراً يقال لها البيضاء تجتمع فيها أرواح المؤمنين، فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الأرواح يسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم.
فائدة أخرى: قال البوني في اللمعة النورانية، من السر البديع: إذا كان الإنسان يخاف على نفسه من قتل أو عذاب أو غيره، فليذبح كبشاً سميناً سليماً من العيوب، كما في الأضحية، يذبحه في موضع خال ذبحاً سريعاً موجهاً إلى القبلة، ويقول عند الذبح: اللهم هذا لك ومنك، اللهم إنه فدائي فتقبله مني. ويحفر لدمه حفرة، ويردمها بالتراب، حتى لا يطأ أحد على دمه، ويبضعه ستين جزءاً: الجلد جزء، والرأس جزء، والبطن جزء، إلى أن يأتي على الستين جزءاً، ولا يأكل منه شيئاً لا هو ولا من تجب عليه نفقته، ويفرقه على الفقراء والمساكين، فإنه يكون فداء له، ولا يناله مكروه من جهة الأمر الذي يخشاه. وهو متفق عليه، مجرب معمول به، والله تعالى المحسن لعبيده المنعم عليهم.
قال: وإن كان يخاف من أمر دون ذلك، فليطعم ستين مسكيناً من أفضل الطعام، ويشبعهم ويقول: اللهم إني أستكفي الأمر الذي أخافه بهم هؤلاء، وأسألك بأنفسهم وأرواحهم وعزائمهم، أن تخلصني مما أخاف وأحذر، فإنه يفرج عنه. وهذا أيضاً متفق عليه، معمول به مستفيض عند أهل الطريقة.
وحكم الكبش: تقدم، ومنه أنه تحرم المناطحة بالكباش، لما روى أبو داود والترمذي، من حديث مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: " نهى عن التحريش بين البهائم " . والتحريش الإغراء وتهييج بعضها على بعض، كما يفعل بين الكباش والديوك وغيرها. وفي الكامل، في ترجمة غالب بن عبد الله الجزري، من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى لعن من يحرش بين البهائم " . قال الحليمي: وهو حرام ممنوع منه، لا يؤذن لأحد فيه، لأن كل واحد من المتهارشين يؤلم صاحبه ويجرحه، ولو أراد المحرش أن يفعل ذلك بيده ما حل له. وعن الإمام أحمد في ذلك روايتان: التحريم والكراهة.
الأمثال: قالوا: عند النطاح يظهر الكبش الأجم وهو الذي لا قرن له، يضرب لمن غلبه صاحبه بما أعد له. وكان الحسن يقول: يا ابن آدم السكين تحد، والتنور يسجر، والكبش يعتلف. وروى السهيلي وغيره أن عبد الله بن الزبير ولما ولد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هو هو " فلما سمعت بذلك أمه أسماء بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما أمسكت عن ارضاعه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " أرضعيه ولو بماء عينيك، كبش بين ذئاب، وذئاب عليها ثياب، ليمنعن البيت أو ليقتلن دونه " . ومما قيل في ليالي صفين:
الليل داج الكباش تنتطح ... نطاح أسد ما أراها تصطلح
فمن يقاتل في وغاها ما نجا ... ومن نجا برأسه فقد ربح
الخواص: خصية الكبش تشوى وتطعم، لمن يبول في الفراش، يبرأ من ذلك إذا داوم عليه، وإن تعسر على المرأة الولادة، فليؤخذ شحم كبش، وشحم بقر، وماء الكراث، وتخلط جميعاً، وتتحمل به المرأة فإنها تلد بسهولة، وكليته إذا نزعت بعروقها، وجففت في الشمس، وأذيبت بدهن الزئبق، وطلي به مكان نبت فيه شعر، ومرارته إذا طلي بها الثديان انقطع اللبن.
روى الإمام أحمد، بإسناد صحيح عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصف من عرق النسا ألية كبش عربي أسود ليس بالعظيم ولا بالصغير، تجزأ ثلاثة أجزاء فيذاب ويشرب منه كل يوم جزءاً. ورواه الحاكم وابن ماجه ولفظهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " شفاء عرق النسا أن يؤخذ ألية كبش فتذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم تشرب على الريق ثلاثة أيام في كل يوم جزء " . قال عبد اللطيف البغدادي: هذه المعالجة تصلح للأعراب الذين يعرض لهم هذا المرض من يبس.
التعبير: الكبش في الرؤيا، رجل شريف القدر، لأنه أشرف الدواب، بعد ابن آدم، لأنه كان فداء لإسماعيل عليه السلام. ومن رأى كبشاً ينطح فرج امرأة، فإنها تأخذ بالمقراض ما على فرجها من الشعر. ومن رأى أنه أخذ ألية كبش، أخذ مال رجل شريف القدر، أو يزوج بابنته، لأن ألية الكبش مال الرجل. ومن يتبعه من عقبه. ومن ذبح كبشاً لغير الأكل، فإنه يقتل رجلاً عظيماً وإن ذبحه للأكل نجا من هم على يد رجل عظيم القدر، وإن كان مريضاً فإنه يبرأ من مرضه.
وقال ارطاميدورس: الكبش يدل على رجل رئيس لتقدمه على الغنم، وهو دليل خير لمن يركبه إذا كان الموضع مرتفعاًِ، والكبش الأجم معزول، ورجل ذليل أو خصي. ومن نكح كبشاً، فرق بينه وبين ماله رجل عظيم، ومن ركب كبشاً من مكان مستو من الأرض، وكان من الأوباش الخداعين، الذين يحبون الفتن والكلام، فإنه يصلب لأن هذا الحيوان من حيوان عطارد، ومن حمل كبشاً على ظهره فإنه يتقلد مؤنة رجل ضخم. ومن رأى نعجته صارت كبشاً، فإن زوجته لا تحمل، فإن لم تكن له زوجه نال قوة ونصرة على عدوه. وكبش الإنسان سلطانه وأميره، وقد يكون كبشه كيسه، فإذا حدث فيه شيء فانسبه إلى الكيس.
أتى شخص إلى ابن سيرين رحمه الله تعالى فقال: رأيت كبشين يتناطحان على فرج امرأتي.
فقال له: إن امرأتك قد أخفت بالمقراض شعر فرجها لتعذر الموسى. ومن ضحى بكبشين، فإنه ينجو من جميع الهموم، وإن كان مسجوناً خرج من السجن، وإن كان في حرب سلم، وإن كان عليه دين قضى، وإن كان مريضاً شفي، ومن رأى كبشين يتناطحان فإنهما ملكان يقتتلان، فأيهما هزم صاحبه فهو الغالب. وتنسب السود من الكباش إلى العرب، والبيض إلى العجم، وإن تساويا في الألوان، فانظر إلى الجهة التي كانت الثابت فيها، كان أهلها منصورين، ومهما أخذ الإنسان من أصوافها، أو قرونها فهو مال يناله، وقس على هذا والله تعالى أعلم.
الكبعة: بفتح الكاف وإسكان الباء الموحدة، دابة من دواب البحر، قاله ابن سيده.
الكتفان: بضم الكاف وإسكان التاء المثناة فوق، وبعدها فاء، الجراد أول ما يطير، الواحدة كتفانة، ويقال: هو الجراد بعد الغوغاء، أوله السرور ثم الدبى ثم الغوغاء ثم الكتفان.
الكتع: كرطب أردأ ولد الثعلب، والجمع كتعان بكسر الكاف.
الكدر: بضم الكاف وإسكان الدال المهملة، طير في ألوانها كدرة.
روى ابني هشام وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم " غزا قرقرة الكدر، في النصف من المحرم، على رأس ثلاثة عشر شهراً من مهاجرته صلى الله عليه وسلم، وهي ناحية بأرض سليم على ثمانية برد من المدينة، وحمل لواءه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فأخذ صلى الله عليه وسلم نعمهم وقسم غنائمهم، وهي خمسمائة بعير فأخرج صلى الله عليه وسلم خمسة، وقسم أربعة أخماسه على المسلمين، فأصاب كل واحد منهم بعيرين، وكانوا مائتي رجل وصار يسار رضي الله تعالى عنه في سهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأعتقه حين رآه يصلي، وغاب صلى الله عليه وسلم عن المدينة خمسة عشرة ليلة " ، وقرقرة بفتح القافين أرض ملساء، وقال البكري: هي بضم القاف وإسكان الراء وبعدهما مثلهما والمعروف في ضبطهما الفتح.
الكركر: كجعفر طائر ببحر الصين، يطير تحت طائر يقال له شنة يتوقع فرقه، لأن غذاءه منه. وخرشنة طائراً أكبر من الحمام وهو لا يفرق إلا وهو طائر، كذا ذكره القزويني.
الكركند: رأيت بخط إسماعيل بن محمد الأمير، ما مثاله: روي أنه في جزائر الصين والهند الكركند حيوان طوله مائة ذراع فأكثر من ذلك، له ثلاثة قرون: قرن بين عينيه، وقرنان على أذنيه، يطعن الفيل فيأخذه في قرنه، ويبقى بين عينيه مدة، ويبقى ولد الكركند في بطن أمه أربع سنين، وإذا تم له سنة، يخرج رأسه من بطن أمه، فيرعى الشجر مما يصل إليه، وإذا تم له أربع سنين، وقع من بطن أمه وفر كالبرق، حتى لا تدركه فتلحسه بلسانها، لأن لسانها فيه شوك كبير غليظ، إذا لحسته أزالت لحمه عن عظمه في لحظة واحدة. وملوك الصين إذا عذبوا أحداً سلموه إلى الكركند يلحسه فيبقى عظاماً ليس عليه من اللحم شيء انتهى.
وسماه الجاحظ الكركدن، ويسمى الحمار الهندي، ويسمى الحريش كما تقدم، وهو عدو الفيل ومعادنه بلاد الهند والنوبة، وهو دون الجاموس، ويقال: إنه متولد بين الفرس والفيل، وله قرن واحد عظيم في رأسه، لا يستطيع لثقله أن يرفع رأسه، وهذا القرن مصمت قوي الأصل، حاد الرأس، يقاتل به الفيل فلا يفيد معه ناباه، وإذا نشر قرنه طولا، تخرج منه الصور المختلفة بياض في سواد كالطاوس والغزال، وأنواع الطير والشجر، وصور بني آدم وغير ذلك من عجائب النقوش، يتخذون منه صفائح على سرر الملوك ومناطقهم، ويتغالون في أثمانها. وزعم أهل الهند أن الكركند، إذا كان بأرض لم يدع شيئاً من الحيوانات، إلا ما كان بينه وبينه مائة فرسخ، من جميع الجهات هيبة له وهرباً منه. ويزعمون أنه ربما نطح الفيل فرفعه على قرنه، ويقال: إن الأنثى تحمل كأنثى الفيل ثلاث سنين أو سبع سنين، ويخرج ولدها نابت الأسنان والقرون، قوي الحوافر. وقيل: إذا قاربت الأنثى أن تضع يخرج الولد رأسه منها، فيرعى أطراف الشجر ثم يرجع. وقد أنكر الجاحظ هذا. وليس في الحيوان ذو قرن مشقوق الطرف غيره، وهو يجتر كالبقر والغنم والإبل، ويأكل الحشيش، لكنه شديد العداوة للإنسان إذا شم رائحته، أو سمع صوته طلبه، فإذا أدركه قتله. ولا يأكل منه شيئاً، ويقال للأنثى كركندة قاله الزمخشري.
وأما حكمه فلم أر أحداً تعرض له مع التتبع الشديد، والسؤال العديد، والظاهر حله، لأكله الشجر ولكونه يجتر، ولا يمنع من ذلك كونه يعادي الإنسان، فالضبع يعاديه ويؤكل، فإن ثبت أنه متولد من الفرس والفيل حرم، وهو بعيد.
الخواص: على رأس قرنه شعبة مخالفة لانحناء القرن، وهي لها خواص عجيبة، وعلامة صحتها أن يرى منها شكل فارس، ولا توجد تلك الشعبة إلا عند ملوك الهند. ومن خواصها حل كل عقد، فلو أخذها صاحب القولنج بيده شفي في الحال. والمرأة التي ضربها الطلق، إن أمسكتها بيدها تلد في الحال، وإن سحق منها شيء يسير وسقي المصروع أفاق، وحاملها يأمن من عين السوء، ولا يكبو به الفرس، وإذا تركت في الماء الحار عاد بارداً، وعينه اليمنى تعلق على الإنسان تزول عنه الآلام كلها، ولا يقربه الجن ولا الحيات، واليسرى تنفع من النافض والحمى، ويتخذ من جلده التجافيف فلا تعمل فيها السيوف.
خاتمة: قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الأمم: أشرف حلى أهل الصين من قرن الكركند فإن قرونها متى قطعت ظهر منها صور عجيبة مختلفة، فيتخذون منها مناطق تبلغ قيمة المنطقة أربعة آلاف مثقال ذهباً، والذهب عندهم هين عليهم، حتى يتخذوا منه لجم دوابهم وسلاسل كلابهم. قال: وأهل الصين بيض إلى الصفرة، فطس الأنوف، يبيحون الزنا ولا ينكرون شيئاً منه، ويورثون الأنثى أكثر من الذكر، ولهم عيد عند نزول الشمس الحمل، يأكلون فيه ويشربون سبعة أيام. وإقليمهم واسع فيه نحو ثلاثمائة مدينة، وفيه عجائب كثيرة. قال: والأصل في ذلك أن عامور بن يافث بن نوح عليه السلام نزلها، وابتنى بها المدائن هو وأولاده، وعملوا فيها العجائب وكانت مدة ملك عامور ثلاثمائة سنة، ثم ملك بعده ابنه صاين بن عامور مائتي سنة، وبه س الصين، فجعل حينئذ تمثالا من ذهب على صورة أبيه على سرير من ذهب، وعكف هو وقومه على عبادته، وفعلوا بجميع ملوكهم ذلك، وهم على دين الصابئين. قال: ووراء الصين أمم عراة منهم أمة يلتحفون بشعورهم، وأمم لا شعر لهم، وأمم حمر الوجوه شقر الشعور، وأمم إذا طلعت الشمس هربوا إلى مغارات يأوون إليها إلى أن تغرب الشمس، وأكثر ما يأكلون نبات يشبه الكمأة وسمك البحر، ثم ذكر بعد هؤلاء يأجوج ومأجوج. قال: وأجمعوا على أنهم من ولد يافث بن نوح. ثم ختم الكتاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن يأجوج ومأجوج، هل بلغتهم دعوتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " مررت بهم ليلة أسري بي فدعوتهم فلم يجيبوا " .
وأما تعبير رؤيته في المنام: فإنه ملك عظيم جائر، وقيل: إن رؤيته تدل على الحرب والمخادعة مع حقارته وعجمته ودناءة أصله، وربما كان مسلطاً بماله وولده.
الكركي: طائر كبير معروف، والجمع الكراكي، وكنيته أبو عريان وأبو عينا وأبو العيزار وأبو نعيم وأبو الهيصم، وذهب بعض الناس إلى أنه الغرنوق، وهو أغبر طويل الساقين، والأنثى منه لا تقعد للذكر عند السفاد، وسفاده سريع كالعصفور، وهو من الحيوان الذي لا يصلح إلا برئيس، لأن في طبعه الحذر والتحارس في النوبة، والذي يحرس يهتف بصوت خفي، كأنه ينذر بأنه حارس، فإذا قضى نوبته قام الذي كان نائماً يحرس مكانه حتى يقضي كل ما يلزمه من الحراسة ولها مشات ومصايف، ومنها ما يلزم موضعاً واحداً ومنها ما يسافر بعيداً، وفي طبعه التناصر، ولا تطير الجاعة منه متفرقة، بل صفاً واحداً، يقدمها واحد منها، كالرئيس لها وهي تتبعه، يكون ذلك حيناً، ثم يخلفه آخر منها مقدماً، حتى يصير الذي كان مقدماً مؤخراً، وفي طبعه أن أبويه إذا كبرا عالهما، وقد مدح هذا الخلق أبو الفتح كشاجم حيث يقول مخاطباً لولده:
اتخذ في خلة الكراكي ... أتخذ فيك خلة الوطواط
أنا إن لم تبرني في عناء ... فببري ترجو جواز الصراط
ومعنى قوله خلة الوطواط، أنه يبر ولده فلا يتركه بمضيعة، بل يحمله معه حيثما توجه، وقد كذب المحدثون جميع بن عمير التيمي في قوله: إن الكراكي تفرخ في السماء ولا تقع فراخها، وله في السنن الأربعة ثلاثة أحاديث وحسن له الترمذي لكنه من عتق الشيعة.
قال القزويني: والكراكي لا يمشي على الأرض إلا بإحدى رجليه، ويعلق الأخرى، وإن وضعها وضعها وضعاً خفيفاً مخافة أن تخسف به الأرض. وسيأتي إن شاء الله تعالى، في مالك الحزين طرف من هذا. ولملوك مصر وأمرائها في صيده تغال لا يدرك حده، وإنفاق مال لا يستطاع حصره وعده، فلذلك علت مملكتهم على كثير من الممالك، ولن يهلك على الله إلا هالك أو متهالك.
وفي مصنف عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس وأبي موسى، أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان نقش خاتمه كركي له رأسان، قال ابن بطال: وهذا إن كان صحيحاً، فلا حجة فيه لإباحة ذلك لترك الناس العمل به، ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن التصوير.
فائدة: ذكر السهيلي عن رواية ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في بني سعد، نزل عليه كركيان فشق أحدهما بمنقاره جوفه، ومج الآخر في فيه بمنقاره ثلجاً، أو برداً أو نحو هذا. قال: وهي رواية غريبة ذكرها يونس عنه. وفي أوائل المجالسة للدينوري، أنه " أقبل عليه صلى الله عليه وسلم طيران أبيضان، كأنهما نسران " . إلى آخره. وفي المستدرك: " فأقبل عليه صلى الله عليه وسلم طيران أبيضان كأنهما نسران " . وذكر الحديث بطوله.
وروى ابن أبي الدنيا وغيره، بإسناد يرفعه إلى أبي ذر رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله كيف علمت أنك نبي وبم علمت حتى استيقنت؟ قال صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر أتاني ملكان فوقع أحدهما بالأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: هو هو. قال: فزنه برجل، فوزنني برجل فرجحته. ثم قال: زنه بعشرة فوزنني بعشرة فرجحتهم. ثم قال: زنه بمائة فوزنني فرجحتهم. ثم قال: زنه بألف فوزنني فرجحتهم. ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه. فشق بطني، فأخرج قلبي، فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم، ثم قال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخاط بطني، وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن، وولياً عني فكأني أعاين الأمر معاينة " .
قلت: وفي هذا الحديث من الفوائد أن خاتم النبوة لم يكن قبل ذلك، واختلف العلماء في صفته على عشرين قولا حكاها الحافظ قطب الدين. ففي سيرة ابن هشام أنه كأثر المحجمة القابضة على اللحم. وفي الحديث أنه كان حوله خيلان فيها شعرات سود. وروي أنه كان كالتفاحة، وكزر الحجلة، مكتوب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقد تقدم في باب الحاء المهملة ما وقع فيه للترمذي. وروى أنه كان كبيضة الحمامة.
وروى الحاكم والترمذي في المناقب عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه، قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب، هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيد الخلق أجمعين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ قريش: ما أعلمك بهذا؟ فقال: إنكم حين أشرفتم على العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجداً لله تعالى، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يفعل ذلك إلا لنبي وإني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة.
ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به لم يجده وكان صلى الله عليه وسلم في رعية الإبل، فقال: ارسوا إليه، فأرسلوا إليه فأقبل صلى الله عليه وسلم وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس صلى الله عليه وسلم مال فيء الشجرة عليه، قال: فبينما هو قائم عليهم يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا هو بسبعة من الروم قد أقبلوا، فاستقبلهم وقال: ما جاء بكم؟ قالوا: أخبرنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا وقد بعث إليه أناس، وإنا قد أخبرنا يقيناً أنه في طريقك هذا. فقال: هل خلفتم أحداً هو خير منكم؟ قالوا: لا وإنما اخترنا طريقك هذا لأجلك. قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس أن يرده؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه، فبايعوه وأقاموا معه. ثم قال: أنشدكم بالله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالا رضي الله عنهما، وزوده الراهب من الكعك والزيت. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. ورجال سنده جميعهم مخرج لهم في الصحيح.
قال الحافظ الدمياطي: في هذا الحديث وهمان، الأول قوله فبايعوه وأقاموا معه، والثاني قوله وبعث معه أبو بكر وبلالا، ولم يكونا معه، ولم يكن بلال أسلم ولا ملكه أبو بكر بعد، بل كان أبو بكر حينئذ لم يبلغ عشرين سنة، ولم يملك بلالا إلا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً.
قال السهيلي: والحكمة في خاتم النبوة على جهة الاعتبار، أنه صلى الله عليه وسلم لما ملئ قلبه حكمة ويقيناً ختم عليه، كما يختم على الوعاء المملوء مسكاً أو دراً. وأما وضعه أسفل من غضروف الكتف، فلأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع منه يوسوس الشيطان لابن آدم، لما روى ميمون بن مهران عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، أن رجلا سأل ربه سنة أن يريه موضع الشيطان منه، فأري جسداً كالبلور، يرى داخله من خارجه، والشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه، يحاذي قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة، قد أدخله إلى قلبه يوسوس له، فإذا ذكر الله العبد خنس. وقد تقدم هذا في باب الضاد المعجمة في الضفدع منقولا عن الزمخشري.
قلت: وانشقاق الصدر حصل له صلى الله عليه وسلم مرتين: إحداهما في صغره وهي هذه، والأخرى في كبره ليلة الإسراء. ففي الصحيحين من حديث أنس وأبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: " فرج عني سقف بيتي، وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطشت من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري ثم أطبقه " .
وقال أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أنه صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال: " بينما أنا في الحطيم، وربما قال في الحجر بين النائم واليقظان، إذ نزل علي رجلان، فأتيت بطشت من ذهب مملوء حكمة وإيماناً، فشق صدري من النحر إلى مراق البطن، واستخرج قلبي فغسل، ثم حشي ثم أعيد " . وقال سعيد بن هشام: " ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيماناً وحكمة ثم أتيت بالبراق فركبته " . الحديث بطوله. وقال قوم: عرج به صلى الله عليه وسلم من دار أم هانئ أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
الحكم: يحل أكله بلا خلاف، وما أوهمه العبادي من جريان، خلاف طير الماء الأبيض فيه شاذ مردود. وقال الأصحاب: ما كان من الطيور المأكولة أكبر من الحمام كالبط والكركي، إذا قتلها المحرم أو قتلت في الحرم، فيه قولان: أحدهما إيجاب الشاة إلحاقاً بالحمام من باب أولى، لأنه أكبر شكلا من الحمام، ويشهد له قول عطاء في عظام الطير شاة كالكركي والحبارى والأوز، والقول الثاني اعتبار القيمة، وهو القياس، فإن الشاة في الحمام لا تباع النقل. ويشهد له قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ما كان سوى حمام الحرم، ففيه ثمنه إذا أصابه المحرم.
الأمثال: قالوا: فلان أحرس من الكركي لأنه يقوم الليل كله على إحدى رجليه كما تقدم. ومن أحسن ما يحكى عن الإمام الزاهد القدوة أبي سليمان الداراني أنه قال: اختلفت إلى مجلس قاص فتكلم فأحسن في كلامه فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت ثانياً فسمعت كلامه فبقي في قلبي أثر كلامه في الطريق، ثم زال ثم عدت ثالثاً، فبقي في قلبي أثر كلامه حتى رجعت إلى منزلي، فلزمت الطريق. فحكيت هذه الحكاية ليحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى. فقال " عصفوراً اصطاد كركياً " أراد بالعصفور ذلك القاص وبالكركي أبا سليمان.
الخواص: لحم الكركي بارد يابس لا دسم له أجرة صيد البازي، ينفع أصحاب الكد لكنه سيء الهضم، ويدفع ضرره إنضاجه بالأبازير الحارة، وهو يولد دماً غليظاً، ويوافق أصحاب الأمزجة الحارة، لا سيما الشباب، وأجود أكله في الشتاء، ويختار أن يتحلى بعده بالحلوى العسلية، فإنها مما يسهل خروجه، ويجب أن لا يؤكل إلا بعد يوم أو يومين. وتشد في أرجلها الحجارة، وتعلق ليرخص لحمها، وتنضج في طبخها وتستمرئ عند أكلها، وكذلك يفعل فيما لحمه كذلك غليظ عسر الاستمراء، لا سيما إناثها، ومرارته تنفع من القرع، وإذا خلطت مع دماغه بزئبق، وسعط بها الذي ينسى، فإنه يذكر ما ينساه. ومن أحب أن لا ينبت في بدنه من الشعر فليأخذ جزءاً من الذراريح، ومثله مخ كركي ويدفهما جميعاً ويطلي بهما أي موضع اختاره من بدنه، فإنه لا يطلع فيه شعر.
التعبير: الكركي في المنام تدل رؤيته على رجل مسكين غريب، ومن رأى كأنه راكب كركياً
فإنه يفتقر، ومن رأى أنه ملك كثيراً منها أو وهب له، فإنه ينال رياسه ومالا، ولحم الكركي لمن أراد المشاركة أو الزواج دليل خير، لأنها لا تفترق في طيرانها، وقيل: إن من رأى أنه أخذ كركياً صاهر قوماً سيئة أخلاقهم. وقالت النصارى والروم: من رأى كركياً سافر سفراً بعيداً، وإن رآه ا مسافراً رجع إلى بلده. وقال ارطاميدورس: الكركي في الشتاء تدل على اللصوص، وقطاع الطريق، وهي دليل خير من أراد الأولاد، لأنها تعين آباءها عند الكبر والله أعلم.
الكروان: بفتح الكاف والراء المهملة طائر يشبه البط لا ينام الليل، سمي بضده من الكرى، والأنثى كروانة وجمع كروان كروان بكسر الكاف كورشان وورشان على غير قياس قال بكر بن سوادة في خالد بن صفوان:
عليم بتنزيل الكتاب ملقن ... ذكور بما أسداه أول أولا
ترى خطباء الناس يوم ارتجاله ... كأنهم الكروان عاين أجدلا
وقال طرفة في أبياته التي كانت سبب قتله:
لنا يوم وللكروان يوم ... تطير اليابسات ولا نطير
فأما يومهن فيوم سوء ... تطاردهن بالحرب الصقور
وأما يومنا فنظل ركباً ... وقوفاً ما نحل ولا نسير
فكتب له عمرو بن هند وللمتلمس كتابين إلى عامله المكعبر بقتلهما، فقتل طرفة وسلم المتلمس لما قرئت عليه الصحيفة، والقصة في ذلك مشهورة، وتقدمت الإشارة إليها في القبرة. ووقع ذكره هذه الصحيفة في سنن أبي داود في آخر كتاب الزكاة، وذلك أن عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس التميمي قدما على النبي صلى الله عليه وسلم، فسألاه، فأمر لها عليه الصلاة والسلام بما سألاه. وأملى عليه الصلاة والسلام معاوية رضي الله تعالى عنه، فكتب لها بما سألاه، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته، وانطلق إلى قومه. وأما عيينه فأخذ كتابه وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أتراني حاملا إلى قومي كتاباً لا أدري ما فيه كصيحفة المتلمس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار " قالوا: يا رسول الله وما الذي يغنيه؟ قال صلى الله عليه وسلم: " قدر ما يغديه أو يعشيه " .
وحكمه: حل الأكل بالإجماع.
الأمثال: قالوا: أجبن من كروان لأنه إذا قيل له: أطرق كروان النعام في القرى التصق بالأرض، فيلقى عليه ثوب فيصاد، وهذا المثل يضرب للمعجب بنفسه، قال الشاعر:
أمير أبي موسى يرى الناس حوله ... كأنهم الكروان أبصر بازيا
وقالوا فيه:
شهدت بأن الخبز باللحم طيب ... وإن الحبارى خالة الكروان
يضرب عند الشيء يتمنى ولا يقدر عليه.
الخواص: قال القزويني: إن لحمه وشحمه يحركان الباه تحريكاً عجيباً.
الكسعوم: كحلقوم الحمار لغة حميرية والميم زائدة فيه، وكسع حي من حمير باليمن رماة منه قولهم: ندمت ندامة الكسعي وهو رجل من كسع اسمه مجاور بن قيس، رأى نبعة فرباها، حتى اتخذ منها قوساً فرمى الوحش عنها ليلا فأصاب، وظن أنه أخطأ، فكسر القوس، فلما أصبح رأى ما أصمى من الصيد فندم. قال الشاعر:
ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناه ما صنعت يداه
روى الطبراني وغيره من حديث عبد الرحمن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا زكاة في الكسعة والجبهة والنخة " . فسره أبو عبيد وغيره، بأن الكسعة الحمير، والجبهة الخيل، والنخة العبيد. وقال الكسائي: إنما هو النخة بضم النون وهي البقر العوامل.
الكعيت: البلبل جاء مصغراً كما تقدم وجمعه كعتان.
عجيبة: ذكر الأزرقي، في تاريخ مكة أن طائراً أصغر من الكعيت، لونه لون الحبرة بريشة حمراء، وريشة سوداء، دقيق الساقين طويلهما، له عنق طويل، دقيق المنقار طويله، كأنه من طير البحر، أقبل يوم السبت، يوم سبع وعشرين من ذي القعدة سنة ست وعشرين ومائتين، حين طلعت الشمس، والناس إذ ذاك في الطواف، كثير من الحاج وغيرهم، وعبر من ناحية أجياد، حتى وقع في المسجد الحرام، قريباً من زمزم مقابل الحجر الأسود، فمكث ساعة طويلة ثم طار، حتى صدم الكعبة في نحو وسطها بين الركن اليماني والحجر الأسود، وهو إلى الحجر الأسود أقرب. ثم وقع على منكب رجل في الطواف عند الحجر الأسود، من الحاج من أهل خراسان محرم، فلبى وهو على منكبه الأيمن، فطاف به الرجل أسابيع، والناس يدنون منه وبنظرون إليه وهو ساكن غير مستوحش منهم، والرجل الذي هو عليه يمشي في الطواف في وسط الناس، وهم ينظرون إليه ويتعجبون، وعينا الرجل تدمعان على خديه ولحيته.
قال عبد الله بن ربيعة: رأيته على منكبه الأيمن، والناس يدنون منه وينظرون إليه، فلا ينقل منهم ولا يطير، فطفت أسابيع ثلاثة كل ذلك أخرج من الطواف فأركع خلف المقام، ثم أعود وهو على منكب الرجل. قال: ثم جاء إنسان من أهل الطواف، فوضع يده عليه فلم يطر وطاف به بعد ذلك ثم طار هو من قبل نفسه حتى وقع على يمين المقام، ومكث ساعة طويلة وهو يمد عنقه ويقبضها إلى جناحه، والناس ينظرون إليه، فأقبل فتى من الحجبة فضرب بيده فيه فأخذه ليريه رجلا منهم كان يركع خلف المقام، فصاح الطير في يده أشد صياح، بصوت لا يشبهه أصوات الطيور، ففزع منه وأرسله من يده فطار حتى أتى بين يدي دار الندوة، خارجاً من الظلال، قريباً من الأسطوانة الحمراء، واجتمع الناس ينظرون إليه، وهو مستأنس في ذلك كله غير مستوحش من الناس، ثم طار من قبل نفسه فخرج من باب المسجد الذي بين دار الندوة ودار العجلة نحو قعيقعان، وقد تقدم في باب الهمزة، في الأديم ما ذكره الأزرقي مما يشبه هذا. الككم: طائر بأرض طبرستان حسن موشى حسن العينين جداً سمي باسم صياحه الذي يصيحه، وربما اصطاد العصافير وصغار الطير مما يكون في الآجام والمياه وغيرها، لكن لا في جميع السنة بل في فصل الربيع، فإذا صاح اجتمعت عليه العصافير وصغار الطيور مما يكون في الآجام والمياه، وغيرها فتزقه من أول النهار فإذا كان آخر النهار أخذ واحداً منها فأكله، فذلك فعله في كل يوم إلى أن ينقضي فصل الربيع، فإذا انقضى انعكست عليه، فلا تزال تجتمع عليه وتطرده وتضربه، وهو يهرب منها ولا يسمع له صوت، إلى فصل الربيع الآخر. وذكر علي بن زيد الطبري صاحب فردوس الحكمة أن هذا الطائر لا يكاد يرى قدماه على الأرض، بل يطأ على إحدى رجليه على البدن. وذكر الجاحظ أن الككم من عجائب الدنيا، وأنه لا يطأ على الأرض بقدميه جميعاً خشية أن تنخسف من تحته، كما تقدم في الكركي. ومثل هذا يأتي إن شاء الله تعالى في مالك الحزين والنحام.
الكلب: حيوان معروف، وربما وصف به فقيل للرجل كلب وللمرأة كلبة، والجمع أكلب وكلاب وكليب، مثل أعبد وعباد وعبيد وهو جمع عزيز. والأكالب جمع أكلب قال ابن سيده: وقد قالوا في جمع كلب كلابات. قال الشاعر:
أحب كلب في كلابات الناس ... إلي نهجاً كلب أم عباس
وكلاب اسم رجل من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وهو كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وكلاب إما منقول من المصدر، الذي هو في معنى المكالبة، نحو كالبت العدو مكالبة وكلاباً، وإما جمع كلب، وسموه بذلك طلباً للكثرة كما سموا سباع، وأنمار.
قيل لأبي الدقيش الأعرابي: لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب؟. وعبيدكم بأحسنها نحو مرزوق ورباح؟ فقال: إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا. وكأنهم قصدوا بذلك التفاؤل بمكالبة العدد وقهره، والكلبة أنثى الكلاب، وجمعها كلبات ولا تكسر.
والكلب حيوان شديد الرياضة كثير الوفاء، وهو لا سبع ولا بهيمة، حتى كأنه من الخلق المركب لأنه لو تم له طباع السبعية ما ألف الناس، ولو تم له طباع البهيمية ما أكل لحم الحيوان، لكن في الحديث إطلاق البهيمة عليه. روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينما امرأة تمشي بفلاة من الأرض، اشتد عليها العطش، فنزلت بئراً فشربت ثم صعدت، فوجدت كلباً يأكل الثرى من العطش، فقالت: لقد بلغ بهذا الكلب مثل الذي بلغ بي، ثم نزلت البئر فملأت خفها وأمسكته بفيها، ثم صعدت فسقته، فشكر الله لها ذلك، وغفر لها " . قالوا: يا رسول الله أو لنا في البهائم أجر؟ قال: " نعم في كل كبد رطبة أجر " .
وهو نوعان: أهلي وسلوقي نسبة إلى سلوق، وهي مدينة باليمن تنسب إليها الكلاب السلوقية، وكلا النوعين في الطبع سواء، وفي طبعه الاحتلام، وتحيض إناثه وتحمل الأنثى ستين يوماً، ومنها ما يقل عن ذلك وتضع جراها عمياً، فلا تفتح عيونها إلا بعد اثني عشر يوماً، والذكور تهيج قبل الإناث وهي تنزو إذا كمل لها سنة، وربما تسفد قبل ذلك، وإذا سفد الكلبة كلاب مختلفة الألوان أدت إلى كل كلب شبهه. وفي الكلب من اقتفاء الأثر، وشم الرائحة ما ليس لغيره من الحيوانات، والجيفة أحب إليه من اللحم الغريض. ويأكل العذرة ويرجع في قيئه، وبينه وبين الضبع عداوة شديدة وذلك أنه إذا كان في مكان عال أو موضع مرتفع، ووطئت الضبع ظله في القمر رمى بنفسه عليها مخذولا، فتأخذه فتأكله، وإذا دهن كلب بشحمها جن واختلط، وإذا حمل الإنسان لسان ضبع لم تنبح عليه الكلاب، ومن طبعه أن يحرس ربه ويحمي حرمه شاهداً وغائباً، ذاكراً وغافلا، نائماً ويقظان، وهو أيقظ الحيوان عيناً في وقت حاجته إلى النوم، وإنما غالب نومه نهاراً عند الاستغناء عن الحراسة، وهو في نومه أسمع من فرس، وأحذر من عقعق، وإذا نام كسر أجفان عينيه ولا يطبقها، وذلك لخفة نومه، وسبب خفته أن دماغه بارد بالنسبة إلى دماغ الإنسان، ومن عجيب طباعه أنه يكرم الجلة من الناس وأهل الوجاهة، ولا ينبح أحداً منهم، وربما حاد عن طريقه وينبح الأسود من الناس والدنس الثياب والضعيف الحال.
ومن طباعه البصبصة والترضي والتودد والتألف، بحيث إذا دعي بعد الضرب والطرد رجع، وإذا لاعبه ربه عضه العض الذي لا يؤلم، وأضراسه لو أنشبها في الحجر لنشبت، ويقبل التأديب والتلقين والتعليم، حتى لو وضعت على رأسه مسرجة وطرح له مأكول لم يلتفت إليه ما دام على تلك الحالة، فإذا أخذت المسرجة عن رأسه وثب إلى مأكوله، وتعرض له أمراض سوداوية في زمن مخصوص، ويعرض له الكلب بفتح اللام وهو داء يشبه الجنون، وعلامة ذلك أن تحمر عيناه وتعلوهما غشاوة، وتسترخي أذناه، ويندلع لسانه ويكثر لعابه، وسيلان أنفه، ويطأطئ رأسه وينحدب ظهره، ويتعوج صلبه إلى جانب، ولا يزال يدخل ذنبه بين رجليه ويمشي خائفاً مغموماً كأنه سكران، ويجوع فلا يأكل، ويعطش فلا يشرب، وربما رأى الماء فيفزع منه، وربما يموت منه خوفاً، وإذا لاح له شبح حمل عليه من غير نبح، والكلاب تهرب منه، فإن دنا منها غفلة، بصبصت له وخضعت، وخشعت بين يديه، فإذا عقر هذا الكلب إنساناً عرض له أمراض رديئة، منها أن يمتنع من شرب الماء حتى يهلك عطشاً، ولا يزال يستقي حتى إذا سقي الماء لم يشربه، فإذا استحكمت هذه العلة به، فقعد للبول خرج منه شيء على هيئة الكلاب الصغار.
قال صاحب الموجز في الطب: الكلب حالة كالجذام تعرض للكلب والذئب وابن آوى وابن عرس والثعلب، ثم ذكر غالب ما تقدم، وقال غيره: الكلب جنون يصيب الكلاب فتموت وتقتل كل شيء عضته إلا الإنسان، فإنه قد يعالج فيسلم. قال: وداء الكلب يعرض للحمار ويقع في الإبل أيضاً، فيقال: كلبت الإبل تكلب كلباً وأكلب القوم إذا وقع في إبلهم. ويقال: كلب الكلب واستكلب، إذا ضرى، وتعود أكل الناس انتهى.
وذكر القزويني، في عجائب المخلوقات، أن بقرية من أعمال حلب بئراً، يقال لها بئر الكلب، إذا شرب منها من عضه الكلب برئ، وهي مشهورة. قال: وقد أخبرني بعض أهل القرية، أن المكلوب إذا لم يجاوز أربعين يوماً، وشرب منها برئ أما إذا جاوز الأربعين فإنه يموت ولو شرب منها. وذكر أنه شاهد ثلاثة أنفس مكلوبين، شربوا منها فسلم اثنان، وكانا لم يبلغا الأربعين، ومات الثالث وكان قد جاوز الأربعين. وهذه البئر يشرب منها أهل الضيعة.
وأما السلوقي فمن طباعه أنه إذا عاين الظباء قريبة منه أو بعيدة عرف المقبل من المدبر، ومشي الذكر من مشي الأنثى، وبعرف الميت من الناس والمتلات، حتى إن الروم لا تدفن ميتاً حتى تعرضه على الكلاب، فيظهر لهم من شمها إياه علامة تستحل بها على حياته أو موته، ويقال: إن هذا لا يوجد إلا في نوع منها يقال له القلطي، وهو صغير الجرم قصير القوائم جداً، ويسمى الصيني. وإناث السلوقي أسرع تعلماً من الذكور، والفهد بالعكس كما تقدم، والسود من الكلاب أقل صبراً من غيرها.
وفي كتاب فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، لمحمد بن خلف المرزبان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قتيلا، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما شأنه " ؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زهرة، فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله. فقال صلى الله عليه وسلم: " قتل نفسه، وأضاع ديته، وعصى ربه، وخان أخاه وكان الكلب خيراً منه " .
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كلب أمين خير من صاحب خؤون. قال: وكان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم، فخرج في بعض منتزهاته، ومعه ندماؤه فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما فقتلهما. فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما قتيلين. فعرف الأمر فأنشأ يقول:
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني ... ويحفظ عرسي والخليل يخون
فيا عجباً للخل يهتك حرمتي ... ويا عجبا للكلب كيف يصون
وذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي في بعض مصنفاته، أن رجلا خرج في بعض أسفاره فمر على قبة مبنية أحسن بناء، بالقرب من ضيعة هناك، وعليها مكتوب: من أحب أن يعلم سبب بنائها، فليدخل القرية. فدخل القرية، وسأل أهلها عن سبب بناء القبة، فلم يجد عند أحد خبراً من ذلك، إلى أن دل على رجل قد بلغ من العمر مائتي سنة، فسأله فأخبره عن أبيه أنه حدثه أن ملكاً كان بتلك الأرض، وكان له كلب لا يفارقه في سفر ولا حضر، ولا نوم ولا يقظة، وكانت له جارية خرساء مقعدة، فخرج ذات يوم إلى بعض منتزهاته وأمر بربط الكلب لئلا يذهب معه، وأمر طباخه أن يصنع له طعاماً من اللبن كان يهواه، وأن الطباخ صنعه وجاء به فوضعه عند الجارية والكلب وتركه مكشوفاً، وذهب فأقبلت حية عظيمة إلى الإناء، فشربت من ذلك الطعام وردته وذهبت.
ثم أقبل الملك من منتزهه، وأمر بالطعام فوضع بين يديه، فجعلت الجارية تصفق بيديها، وتشير إلى الملك أن لا يأكله فلم يعلم أحد ما تريد، فوضع الملك يده في الصفحة، وجعل الكلب يعوي ويصيح، ويجذب نفسه من السلسلة، حتى كاد أن يقتل نفسه، فتعجب الملك من ذلك وأمر بإطلاقه فأطلق فغدا إلى الملك وقد رفع يده باللقمة إلى فيه فوثب الكلب وضربه على يده فأطار اللقمة منها فغضب الملك، وأخذ خنجراً كان بجنبه، وهم أن يضرب به الكلب، فأدخل الكلب رأسه في الإناء، وولغ من ذلك الطعام، فانقلب على جنبه وقد تناثر لحمه. فعجب الملك ثم التفت إلى الجارية، فأشارت إليه بما كان من أمر الحية. ففهم الملك الأمر وأمر بإراقة الطعام، وتأديب الطباخ على كونه ترك الإناء مكشوفاً، وأمر بدفن الكلب وببناء القبة عليه، وبتلك الكتابة التي رأيتها. قال: وهي من أغرب ما يحكى.
وفي كتاب النشوان عن أبي عثمان المديني، أنه قال: كان في بغداد رجل يلعب بالكلاب، فتركه ومشى حتى انتهى إلى قوم كان بينه وبينهم عداوة، فصادفوه بغيرعدة فقبضوا عليه، والكلب يراهم، فأدخلوه الدار ودخل الكلب معهم فقتلوا الرجل وألقوه في بئر وطموا رأس البئر، وضربوا الكلب، فأخرجوه وطردوه، فخرج يسعى إلى بيت صاحبه فعوى فلم يعبأوا به، وافتقدت أم الرجل ابنها، وعلمت أنه قد تلف، فأقامت عليه المأتم وطردت الكلاب عن بابها، فلزم ذلك الكلب الباب ولم ينطرد فاجتاز يوماً بعض قتلة صاحبه بالباب، والكلب رابض، فلما رآه وثب عليه، فخمش ساقه ونهشه وتعلق به، واجتهد المجتازون في تخليصه منه، فلم يمكنهم، وارتفعت للناس ضجة عظيمة، وجاء حارس الحرب وقال: لم يتعلق هذا الكلب بالرجل إلا وله معه قصة؟ ولعله هو الذي جرحه.
وسمعت أم القتيل الكلام فخرجت فحين رأت الكلب متعلقاً بالرجل، تأملت في الرجل، فتذكرت أنه كان أحد أعداء ابنها وممن يتطلبه، فوقع في نفسها أنه قاتل ابنها، فتعلقت به فرفعوهما إلى أمير المؤمنين الراضي بالله، فادعت عليه القتل، فأمر بحبسه بعد أن ضربه فلم يقر، فلزم الكلب باب الحبس، فلما كان بعد أيام أمر الراضي بإطلاقه، فلما خرج من باب الحبس، تعلق به الكلب كما فعل أولا، فتعجب الناس من ذلك وجهدوا على خلاصه منه، فلم يقدروا على ذلك إلا بعد جهد جهيد، فأخبر الراضي بذلك فأمر بعض غلمانه أن يطلق الرجل، ويرسل الكلب خلفه ويتبعه فإذا دخل الرجل داره بادره، وأدخل الكلب معه فمهما رأى الكلب يعمل يعلمه بذلك، ففعل ما أمره به، فلما دخل الرجل داره بادره غلام الخليفة ودخل وأدخل الكلب معه، ففتش البيت فلم ير أثراً ولا خبراً وأقبل الكلب ينبح، ويبحث عن موضع البئر التي طرح فيها القتيل، فتعجب الغلام من ذلك، وأخبر الراضي بأمر الكلب، فأمر بنبش البئر فنبشوها، فوجدوا الرجل قتيلا، فأخذوا صاحب الدار إلى بين يدي الراضي، فأمر بضربه فأقر على نفسه، وعلى جماعته بالقتل. فقتل وطلب الباقون فهربوا.
وفي عجائب المخلوقات، أن شخصاً قتل شخصاً بأصبهان وألقاه في بئر، وللمقتول كلب يرى ذلك، فكان يأتي كل يوم إلى رأس البئر، وينحي التراب عنه، ويشير إليها، وإذا رأى القاتل نبح عليه، فلما تكرر ذلك منه حفروا البئر، فوجدوا القتيل بها، ثم أخذوا الرجل وقرروه فأقر فقتلوه به.
وفي الإحياء، عن بعض الصوفية، قال: كنا بطرسوس فاجتمعنا جماعة وخرجنا إلى باب الجهاد فتبعنا كلب من البلد، فلما بلغنا باب الجهاد، وإذا نحن بدابة ميتة فصعدنا إلى موضع خال فقعدنا، فلما نظر الكلب إلى الميتة، رجع إلى البلد، ثم عاد ومعه نحو من عشرين كلباً، فجاء إلى تلك الميتة وقعد ناحية، ووقعت الكلاب في الميتة، فما زالت تأكل إلى أن شبعت، وذلك الكلب قاعد ينظر إلى الميتة، حتى أكلت وبقيت العظام، فلما رجعت الكلاب إلى البلد، قام ذلك الكلب إلى العظام فأكل ما بقي عليها من اللحم ثم انصرف.
وفي الشعب للبيهقي وغيرها عن الفقيه منصور اليمني الشافعي الضرير، وله مصنفات في المذهب وشعر حسن أنه كان ينشد لنفسه:
الكلب أحسن عشرة ... وهو النهاية في الخساسه
ممن ينازع في الريا ... سة قبل إبان الرياسه
ثم قال البيهقي: وكان الشيخ الإمام القاضي أبو الطيب الطبري يقول: من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه. وقال شعيب بن حرب: من رضي أن يكون ذنباً أبى الله إلا أن يجعله رأساً. ومن محاسن شعر الفقيه منصور اليمني المتقدم ذكره، ووفاته في سنة ست وخمسين وثلاثمائة قوله:
لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيله
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله
ولقد أجاد علي بن عبد الواحد البغدادي المعروف بصريع الدلاء في قوله:
من فاته العلم وأخطاه الغنى ... فذاك والكلب على حد سوا
وهذا البيت آخر قصيدة له في المجون، ذكر فيها من صنعة الغزل فنوناً، ولو لم يكن له سواه لكفاه، وهي طويلة طنانه عجز فحول الشعراء أن يزيدوا فيها بيتاً واحداً. وتوفي في رجب سنة اثنتي عشرة وأربعمائة فجأة بشرقة لحقته عند الشريف البطحاوي.
وذكر ابن خلكان أن الحسين بن أحمد المعروف بابن الحجاج الشاعر المشهور، لما حضرته
الوفاة أوصى بأن يدفن عند رجلي الإمام موسى بن جعفر أحد الأئمة الإثني عشر رضي الله عنهم على رأي الإمامية وأن يكتب على قبره " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " . قال: وابن الحجاج ذو خلاعة ومجون. وقيل: إنه دعي إلى دعوة وتأخر الطعام عنه فقال:
يا ذاهباً في داره جائيا ... من غير معنى بل ولا فائده
قد جن أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده
ودعوة الطعام بفتح الدال. وأما قول قطرب في مثلثته، فقلت: عندي دعوة بضم الدال فمردود عليه انتهى.
فائدة: ذكر ابن عبد البر في كتابه بهجة المجالس وأنس المجالس، أنه قيل لجعفر الصادق رضي الله عنه، وهو أحد الأئمة الإثني عشر: كم تتأخر الرؤيا؟ فقال: خمسين سنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى كأن كلباً أبقع ولغ في دمه، فأوله بأن رجلا يقتل الحسين ابن بنته رضي الله تعالى عنه. فكان الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين، وكان أبرص. فتأخرت الرؤيا بعده خمسين سنة، كما تقدم في باب الهمزة في الأوز.
وفي هذا الكتاب أشياء تصلح للمذاكرة، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل الجنة، فرأى فيها عذقاً مدلى فأعجبه، فقال: " لمن هذا " ؟ فقيل: هذا لأبي جهل. فشق عليه صلى الله عليه وسلم ذلك. فقال: " ما لأبي جهل والجنة؟ والله لا يدخلها أبداً، فإنه لا يدخلها إلا نفس مؤمنة " . فلما أتاه عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه مسلماً، فرح به وقام إليه، وتأول ذلك العذق عكرمة ابنه.
ومنها أن بعض الشاميين كان عاملا لعمر رضي الله تعالى عنه، فقال له: يا أمير المؤمنين رأيت كأن الشمس والقمر اقتتلا، ومع كل واحد منهما فرقة من النجوم، فقال له: مع أيهما كنت؟ فقال: مع القمر. قال: مع الآية الممحوة، لا عملت لي عملا أبداً، فعزله. وقتل ذلك الرجل مع معاوية رضي الله عنه بصفين.
ومنها أن عائشة رضي الله تعالى عنها، رأت ثلاثة أقمار سقطن في حجرها، فقال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه: إن صدقت رؤياك، فإنه يدفن في بيتك ثلاثة من خيار أهل الأرض. فلما دفن صلى الله عليه وسلم في بيتها قال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه: هذا أحد أقمارك، وهو خيرها. وفيه أشياء كثيرة وكان الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي، إمام عصره في الحديث والأثر وهو أحد نقلة المذاهب، وتوفي هو والإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب البغدادي الشافعي حافظ المشرق في سنة ثلاث وستين وأربعمائة. ومما ينشد للشافعي رحمه الله تعالى:
ليت الكلاب لنا كانت مجاورة ... وليتنا لا نرى ممن نرى أحدا
إن الكلاب لتهدا في مرابضها ... والناس ليس بهاد شرهم أبدا
وفي الميزان للذهبي، في ترجمة أحمد بن زرارة المدني بسند مظلم، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كيف أنتم إذا كان زمن يكون الأمير فيه كالأسد، والحاكم فيه كالذئب الأمعط، والتاجر فيه كالكلب الهرار، والمؤمن بينهم كالشاة الولهاء بين الغنم ليس لها مأوى، فكيف حال شاة بين أسد وذئب وكلب! " .
وفي أمالي أبي بكر القطيعي، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بنا كلب فما بلغت يده رجله حتى مات. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، قال: " من الداعي على هذا الكلب آنفاً؟ " فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله. فقال: " ما قلت " ؟ قال: قلت: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام اكفني هذا الكب بما شئت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى " والحديث في السنن الأربعة وفي مسند الإمام أحمد وكتابي الحاكم وابن حبان بغير قصة الكلب.
وأفاد الطبراني، من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن هذه الصلاة كانت صلاة العصر يوم الجمعة، وأن الرجل المذكور الداعي على هذا الكلب سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا سعد لقد دعوت في يوم وساعة بكلمات، لو دعوت بهن على من في السموات والأرض استجيب لك فأبشر يا سعد " .
وروى الإمام أحمد في الزهد، عن جعفر بن سليمان، قال: رأيت مع مالك بن دينار رضي الله تعالى عنه كلباً فقلت: ما تصنع بهذا يا أبا يحيى؟ فقال: هذا خير من جليس السوء! وفي مناقب الإمام أحمد، أنه بلغه أن رجلا من وراء النهر عنده أحاديث ثلاثية، فرحل الإمام أحمد إليه، فوجد شيخاً يطعم كلباً، فسلم عليه فرد عليه السلام، ثم اشتغل الشيخ بإطعام الكلب، فوجد الإمام في نفسه إذ أقبل الشيخ على الكلب ولم يقبل عليه، فلما فرغ الشيخ من طعمة الكلب، التفت إلى الإمام أحمد، وقال له: كأنك وجدت في نفسك، إذ أقبلت على الكلب ولم أقبل عليك؟ قال: نعم. فقال الشيخ: حدثني أبو الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قطع رجاء من ارتجاه قطع الله منه رجاءه يوم القيامة فلم يلج الجنة " . وأرضنا هذه ليست بأرض كلاب، وقد قصدني هذا الكلب، فخفت أن أقطع رجاءه فيقطع الله رجائي منه يوم القيامة. فقال الإمام أحمد: هذا الحديث يكفيني ثم رجع.
ويقرب من هذا ما في رسالة القشيري، في باب الجود والسخاء، أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، خرج إلى ضيعة له، فنزل على نخيل قوم، وفيها غلام أسود يعمل فيها، إذ أتى الغلام بغدائه، وهي ثلاثة أقراص، فرمى بقرص منها إلى كلب كان هناك فأكله، ثم رمى إليه الثاني فأكله والثالث فأكله، وعبد الله بن جعفر ينظر، فقال: يا غلام كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلم آثرت هذا الكلب؟ فقال: إن هذه الأرض ليست بأرض كلاب، وإنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً، فكرهت رده! فقال له عبد الله: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا. فقال عبد الله بن جعفر لأصحابه: ألام على السخاء وهذا أسخى مني؟ ثم اشترى الغلام وأعتقه، واشترى الحائط وما فيه ووهب ذلك له.
وتقدم في باب الحاء المهملة، في الحمار، أن الحاكم روى عن جابر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سمعتم نباح الكلب ونهيق الحمار بالليل فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم، فإنها ترى ما لا ترون وأقلوا الخروج إذا هدأت الرجل، فإن الله تعالى يبث في الليل من خلقه ما شاء " .
غريبة: في كتاب البشر بخير البشر، عن مالك بن نفيع أنه قال: ند بعير لي، فركبت نجيبة لي وطلبته حتى ظفرت به، فأخذته وانكفأت راجعاً إلى أهلي، فأسريت ليلتي حتى كدت أصبح، فأنخت النجيبة والبعير وعقلتهما، واضطجعت في ذرا كثيب رمل، فلما كحلني الوسن، سمعت هاتفاً يقول: يا مالك يا مالك، لو فحصت عن مبرك القعود البارك، لسرك ما هنا لك، قال: فثرت وأثرت البعير عن مبركه، وحفرت فعثرت على صنم في صورة امرأة من صفاة صفراء كالورس، مجلواً كالمرآة، فأخرجته ومسحته بثوبي ونصبته قائماً فما تمالكت أن خررت له ساجداً. ثم قمت فنحرت البعير له ورششته بدمه، وسميته غلاباً ثم حملته على النجيبة، وأتيت به أهلي، فحسدني عليه كثير من قومي، وسألوني نصبه لهم ليعبدوه معي، فأبيت عليهم وانفردت لعبادته، وجعلت على نفسي كل يوم عتيرة، وكانت لي ثلة من الضأن، فأتيت على آخرها، فأصبحت يوماً وليس لي ما أعتره، وكرهت الاخلال بنذري، فأتيته فشكوت إليه ذلك فإذا هاتف من جوفه يقول: يا مال يا مال، لا تأس على مال، سر إلى طوى الأرقم، فخذ الكلب الأسحم، الوالغ في الدم ثم صد به تغنم. قال مالك: فخرجت من فوري إلى طوى الأرقم، فإذا كلب أسحم هائل المنظر، قد وثب على قرهب، يعني ثوراً وحشياً، فصرعه وأنا أنظر إليه، ثم بقر بطنه وجعل يلغ في دمه فتهيبته، ثم تجاسرت فتقدمت عليه وهو مقبل على عقيرته، لم يلتفت إلي فشددت في عنقه حبلا، ثم جذبته فتبعني فأتيت راحلتي فأثرتها وقدتها، إلى القرهب وأنختها فجررته وحملته عليها، ثم قدتها وسرت قاصداً إلى الحي والكلب يلوذ بي، فعنت لي ظبية فجعل الكلب يثب ويجاذبني الحبل، فترددت في إرساله ثم أرسلته، فمر كالسهم حتى اختطفها، فأتيته فجاذبته إياها، فأرسلها من يديه، فاستقر بي السرور، وأتيت إلى أهلي فعترت الظبية لغلاب، ووزعت لحم القرهب وبت بخير ليلة.
ثم باكرت به الصيد، فلم يفته حمار ولا ماطلة ثور، ولا اعتصم منه وعل، ولا أعجزه ظبي، فتضاعف سروري به، وبالغت في إكرامه وسميته سحاماً. فلبثت كذلك ما شاء الله. فإني لذات يوم أصيد به، إذ بصرت بنعامة على أدحيها، وهي قريبة مني فأرسلته عليها فأجفلت أمامه، وأتبعتها على فرس جواد، فلما كاد الكلب أن يثب عليها، انقضت عليه عقاب من الجو، فكر راجعاً نحوي، فصحت به فما كذب، وأمسكت الفرس فجاء سحام حتى دخل بين قوائمها، ونزلت العقاب أمامي على شجرة، وقالت: سحام! قال الكلب: لبيك. قالت: هلكت الأصنام، وظهر الإسلام، فأسلم تنج بسلام، وإلا فليست بدار مقام. ثم طارت العقاب وتبصرت سحاماً فلم أره وكان آخر عهدي به.
قوله طوى أرقم، الطوى بئر مطوية بالحجارة، والأسحم الأسود وبه سمي الكلب سحاماً، فهو فعال من ذلك. وقوله: بنعامة على أدحيها، أي الموضع الذي فيه بيضها وقوله ما كذب أي ما توقف ولا انثنى.
فائدة: روى الحاكم في المستدرك، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، قالت: قدمت امرأة من أهل دومة الجندل علي تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد موته بيسير، تسأله عن شيء دخلت فيه، من أمر السحر لم تعلم به، قالت: فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إني لأرحمها من كثرة بكائها، وهي تقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت، فسألتها عن قصتها، فقالت: كان لي زوج قد غاب عني، فدخلت علي عجوز فشكوت لها حالي، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فإنه يأتيك بعلك! فقلت: إني أفعل. فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما، وتركت الآخر، فلم يكن بأسرع حتى وقفنا ببابل، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما حاجتك؟ وما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر؟ فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري! وارجعي. فأبيت وقلت: لا أرجع. قالا: فاذهبي إلى التنور فبولي فيه، فذهبت إليه فاقشعر جلدي ففزعت منه، ولم أفعل فرجعت إليهما، فقالا لي: فعلت؟ قلت: نعم. قالا: هل رأيت شيئاً. قلت: لم أر شيئاً. فقالا: لم تفعلي. ارجعي إلى بلادك لا تكفري، فأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت إليه فاقعشر جلدي وخفت ثم رجعت إليهما فقالا لي: ما رأيت؟ إلى أن قالت: فذهبت في الثالثة فبلت فيه فرأيت فارساً مقنعاً بالحديد، خرج مني حتى ذهب في السماء، فأتيتهما فأخبرتهما فقالا: صدقت، ذاك إيمانك خرج منك، اذهبي.
فقلت للمرأة: والله ما علمت شيئاً، ولا قالا لي شيئاً! فقالت لي: بلى لن تريدي شيئاً إلا كان. خذي هذا القمح فابذريه، فأخذته فبذرته. وقلت له: اطلع فطلع ثم قلت استحصد فاستحصد، ثم قلت: انطحن فانطحن، ثم قلت: انخبز فانخبز. فلما رأيت أني لا أقول شيئاً إلا كان سقط في يدي فندمت، والله يا أم المؤمنين ما فعلت قط ولا أفعله أبداً. فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما دروا ما يقولون لها، وكلهم هاب أن يفتيها بما لا يعلم إلا أنهم قالوا لها: لو كان أبواك حيين أر أحدهما لكانا يكفيانك. ثم قال الحاكم: صحيح انتهى.
قال هشام بن عروة، وهو راوي الحديث، عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنهم كانوا أي الصحابة رضي الله عنهم أهل ورع وخشية لله، وبعد من التكلف والجراءة على الله، فلذلك أمسكوا عن الفتيا لها ولو جاءتنا اليوم لوجدت الأمر بخلاف ذلك. قال بعض الحنابلة: قلت: فقد بان بهذا أن السحر والإيمان لا يجتمعان في قلب، ولا يصير ساحراً وفي قلبه إيمان، فاعتبر بحال هذه المرأة المسكينة كيف ألقاها الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء، في ورطة هلكة لا تجبر مصيبتها، وهذا دأب المعاصي تنكس الرؤوس وتوجب الحبوس، وتضاعف البؤس، ولقد أحسن القائل حيث قال:
إذا ما دعتك النفس يوماً لحاجة ... وكان عليها للخلاف طريق
فخالف هواها ما استطعت فإنما ... هواها عدو والخلاف صديق
تذنيب: للسحر حقيقة وتأثير وقيل لا، والصحيح أن الصواب الأول، دل عليه ظاهر القرآن والسنة. قال المازري: اختلف العلماء في القدر الذي يقع به السحر، ولهم فيه اضطراب، فقال بعضهم: لا يزيد تأثيره على قدر التفريق بين المرء وزوجه، لأن الله تعالى إنما ذكر ذلك تعظيماً لما يكون عنده، وتهويلا له في حقنا فلو وقع به أعظم منه لذكره، لأن المثل لا يضرب عند المبالغة، إلا بأعلى أحوال المذكور. ومذهب الأشعريين أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: وهذا هو الأصح، لأنه لا فاعل إلا الله تعالى، وما وقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى، ولا تفترق الأفعال في ذلك وليس بعضها أولى من بعض، ولو ورد الشرع بقصوره عن مرتبة، لوجب المصير إليه.
ولكن لا يوجد شرع قاطع بوجوب الاقتصار على ما قال القائل الأول، وذكر التفرقة بين الزوجين في الآية ليس بنص في منع الزيادة وإنما النظر في أنه ظاهر أم لا. فإن قيل: إذا جوزت الأشعرية خرق العادة على يد الساحر، فبماذا يتميز عن النبي؟ فالجواب أن العادة تنخرق على يد النبي والولي والساحر، لكن النبي يتحدى الخلق بها، ويستعجزهم عن الاتيان بمثلها، ويخبر عن الله تعالى بخرق العادة بها لتصديقه، فلو كان كاذباً لم تنخرق على يديه، ولو خرقها الله على يد كاذب لخرقها على يد المعارضين للأنبياء، وأما الولي والساحر فلا يتحديان الخلق، ولا يستدلان على نبوة، ولو ادعيا شيئاً من ذلك، لم تنخرق العادة لهما.
وأما الفرق بين الولي والساحر، فمن وجهين أحدهما، وهو المشهور، إجماع المسلمين على أن السحر لا يظهر إلا على يد فاسق، والكرامة لا تظهر إلا على يد ولي، ولا تظهر على يد فاسق، وبهذا جزم إمام الحرمين، وأبو سعيد المتولي وغيرهما. والثاني أن السحر يكون ناشئاً بفعل ومزج ومعاناة وعلاج، والكرامة لا تفتقر إلى ذلك وفي كثير من الأوقات يقع ذلك اتفاقاً، من غير أن يستدعيه أو يشعر به والله تعالى أعلم.
وأما ما يتعلق بالمسألة من فروع الفقه، فتعلم السحر وتعليمه حرام على الصحيح. والصواب عدم جواز تعليمه لكل أحد يريد تعلمه، وقال القاضي حسين وإبراهيم المروزي: إن كان في تعليمه ترك طاعة لله عز وجل لا يجوز، وإن لم يكن فإن قصد بتعلمه دفع ضرر سحر الناس عن نفسه جاز، وإن قصد تعلمه ليسحر الناس لم يجز انتهى. والخلاف فيما إذا كان لا يتوقف على اعتقاد كفر أو مباشرة محظور كترك صلاة وغيرها، أما إذا توقف على ذلك فتعلمه حرام بالإجماع، والسحر من الكبائر.
ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد أن الساحر يكفر لقوله تعالى: " وما كفر سليمان " لأنهم إنما نسبوا سليمان عليه السلام إلى السحر لا إلى الكفر. ولقوله تعالى حكاية عن الملكين " إنما نحن فتنة فلا تكفر " ومذهب الشافعي أنه لا يكفر إلا أن يكون فيه قول أو فعل يقتضي الكفر. قال الرافعي: من اعتقد إباحته فهو كافر. وقال ابن الصباغ: إن اعتقد التقرب إلى الكواكب السبعة وإنها تجيب إلى ما يقترح منها، فهو كافر. وعن القفال أنه لو قال: أنا أفعل السحر بقدرتي دون قدرة الله تعالى فهو كافر. فلو تاب الساحر قبلت توبته عند الشافعي رحمه الله. وقال مالك رحمه الله: السحر زندقة، فإن قال: أنا أحسن السحر قتل، ولا تقبل توبته كما لا تقبل توبة الزنديق. وعن أبي حنيفة رحمه الله مثله. وعن الإمام أحمد رحمه الله روايتان كالمذهبين. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إن المرأة الساحرة تحبس ولا تقتل، وأما الساحر الذمي فلا يقتل إلا أن يضر بالمسلمين فيقتل لنقضه العهد. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يقتل مطلقاً، ويقال للرجل المسحور مطبوب. يقال طب الرجل إذا سحر، فكنوا بالطب عن السحر، كما كنوا بالسليم عن اللديغ. قال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء طب وللسحر طب، وهو من أعظم الأدواء، ورجل طبيب أي حاذق سمي طبيباً لحذقه وفطنته والله تعالى أعلم.
فائدة أدبية: دخل أبو العلاء المعري يوماً على الشريف المرتضى فعثر برجل، فقال له الرجل: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً. فقربه المرتضى واختبره فوجده علامة. ثم جرى ذكر المتنبي يوماً فتنقصه الشريف المرتضى وذكر معايبه، فقال المعري: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله:
لك يا منازل في القلوب منازل
لكفاه فضلا وشرفاً، فغضب الشريف المرتضى وأمر بسحبه برجله وإخراجه من المسجد، ثم قال لمن يحضر مجلسه: تدرون أي شيء أراد هذا الأعمى بذكر هذه القصيدة وللمتنبي أجود منها ولم يذكره؟ قالوا: لا. قال: إنما أراد أن يذمني بقوله فيها:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
وسئل شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد عن أبي العلاء المعري، فقال: هو في حيرة. وهذا أحسن ما قيل فيه.
فائدة أخرى: قال أبو نواس محمد بن هانئ في طريدته:
أتعب كلباً أهله في كده ... قد سعدت جدودهم بجده
فكل خير عندهم من عنده ... وكل رفد نالهم من رفده
يظل مولاه له كعبده ... يبيت أدنى صاحب من فهده
إذا عرى جلله ببرده ... ذا غرة محجلا بزنده
يلذ منه العين حسن قده ... يا حسن شدقيه وطول خده
قيل: دخل أبو بكر الخالدي على الخليفة، فأنشده قصيدة امتدحه بها فأجازه، وكان بين يديه صحن يشم أزرق، فلمحه أبو بكر فأعطاه الخليفة إياه فخرج من عنده وهو مسرور، فمر على أبي الفتح بن خالويه فهناه أبو الفتح بذلك، فلما أصبح جاء إلى الخدمة، فقال له الخليفة: كيف حالك وكيف كان مبيتك؟ قال: بخير ودعا له، وقال: بتنا ندعوا لمولانا أمير المؤمنين، وبت أتفنن في الصحن وأتملى بحسنه، فأضفته إلى صدقات مولانا ورفده، وكل خير عندنا من عنده، فتنمر أمير المؤمنين، واستشاط غضباً وزجره، فخرج من عنده حزيناً كئيباً، فمر على ابن خالويه فسأله عن السبب وما الخبر فأخبره بما قال، فقال له أبو الفتح: أو قلتها. فقال: نعم. فقال: أين أنت؟ أتجعل أمير المؤمنين كلباً أين ذهب عقلك؟ أو ما سمعت قول أبي نواس في طريدته:
فكل خير عندهم من عنده ... وكل رفد نالهم من رفده
فكاد الخالدي أن يموت فزعاً ثم قال له: عرفني كيف المخلص؟ قال: تمارض مدة ثم أظهر أنك شفيت ثم تأتي أمير المؤمنين، فإذا سألك عن سبب مرضك، فقل له: طالعت طريدة أبي نواس، فلما فعل ذلك رضي عنه أمير المؤمنين.
فائدة أخرى: اختلفوا في قوله تعالى: " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً " أكثر أهل التفسير على أن كلب أهل الكهف كان من جنس الكلاب. وروى عن ابن جريج أنه قال: كان أسداً ويسمى الأسد كلباً لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب " أن يسلط الله عليه كلباً من كلابه " فأكله الأسد. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان كلباً أغبر.
وفي رواية عنه أحمر، واسمه قطمير. وقال مقاتل: كان أصفر. وقال القرطبي: صفرته تضرب إلى الحمرة. وقال الكلبي: كان خلنجي اللون. وقيل: كان لونه لون السماء. وقيل: كان أبلق أبيض وأسود وأحمر. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: اسمه ريان. وقال الأوزاعي: مشير.
وقال سعيد الحمال: حران. وقال عبد الله بن سلام: بسيط. وقال كعب الأحبار: صيهاً، وقال وهب: نقياً. وقصة الإمام مالك في ذلك مشهورة معروفة. وقال فرقة: كان رجلا طباخاً لهم، حكاه الطبري. وقال فرقة: كان أحدهم. وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم فسمي باسم الحيوان الملازم لذلك الموضع من الناس، كما سمي النجم التابع للجوزاء كلباً، لأنه منها كالكلب من الإنسان. وهذا القول يضعفه بسط الذراعين، فإنه في العرف من صفة الكلب. وحكى أبو عمرو المطرزي في كتاب اليواقيت وغيره، أن جعفر بن محمد الصادق قرأ: " وكالبهم " فيحتمل أنه يريد هذا الرجل.
وقال خالد بن معدان: ليس في الجنة من الدواب سوى كلب أهل الكهف، وحمار العزيز، وناقة صالح وقد تقدم في أوائل باب السين المهملة في السبع الكلام على قوله تعالى: " سبعة وثامنهم كلبهم " ونزيد هنا أن قوله تعالى: " قل رب أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل " أن المثبت في حق الله تعالى الأعلمية، وفي حق القليل العالمية، فلا تعارض بينهما. قال ابن عطية المفسر: حدثني أبي أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري، في سنة تسع وستين وأربعمائة، يقول: إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم. كلب أحب أهل فضل وصحبهم، فذكره الله في القرآن معهم.
وأما الوصيد، فاختلف المفسرون فيه فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الوصيد فناء الكهف، وهو قول مجاهد رضي الله تعالى عنه، وقال سعيد بن جبير: الوصيد التراب. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضاً. وقال السدي: الباب. وهو رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأنشد في ذلك:
بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر
أي بابها وقال عطاء: الوصيد عتبة الباب. وقال العتبي: هو البناء الذي من فوقه ومن تحته، مأخوذ من قولهم أوصدت الباب وآصدته. أي أغلقته وأطبقته " لو اطلعت عليهم " يا محمد " لوليت منهم فراراً " ، أي هرباً " ولملئت منهم رعباً " ، لما ألبسهم الله ومن الهيبة، حتى لا يصل إليهم واصل منعهم بالرعب، لئلا يراهم أحد. وقيل: إنما ذلك من وحشة المكان الذي هم فيه.
وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب أهل الكهف الذين ذكرهم الله في القرآن، فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقلت له: ليس لك ذلك قد منع الله ذلك من هو خير منك، فقال تعالى: " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً " فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم. ثم بعث ناساً لينظروا، فقال: اذهبوا فادخلوا الكهف، فذهبوا فلما دخلوا الكهف، بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم.
وذكر الثعلبي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يريه إياهم، فقال تعالى: إنك لن تراهم ولكن ابعث إليهم أربعة من كبار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: " كيف أبعث إليهم " . فقال له جبريل عليه السلام: أبسط كساءك واجلس على طرف من أطرافه أبا بكر، وعلى الطرف الثاني عمر، وعلى الطرف الثالث عثمان، وعلى الطرف الرابع علياً، ثم ادع الريح الرخاء المسخرة لسليمان، فإن الله يأمرها أن تطيعك. ففعل ذلك صلى الله عليه وسلم، فحملتهم الريح إلى باب الكهف فقلعوا منه حجراً، فحمل عليهم الكلب، فلما رآهم حرك رأسه وبصبص إليهم وأومأ إليهم برأسه، أن ادخلوا فدخلوا الكهف. فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد الله إلى الفتية أرواحهم، فقاموا بأجمعهم فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فقالوا: معشر الفتية، إن النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكم السلام، فقالوا: وعلى محمد السلام ما دامت السموات والأرض، وعليكم بما أبلغتم، وقبلوا دينه، ثم قالوا: اقرؤوا على محمد صلى الله عليه وسلم منا السلام، وأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان، عند خروج المهدي، فيقال: إن المهدي يسلم عليهم، فيحييهم الله ويردون عليه السلام، ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون حتى تقوم الساعة.
ثم ردتهم الريح فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " كيف وجدتموهم " ؟ فأخبروه الخبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تفرق بيني وبين أصحابي وأنصاري، واغفر لمن أحبني، وأحب أهل بيتي وخاصتي " .
واختلف في سبب مصيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق: مرح أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا، وأطغتهم الجن حتى عبدوا الأصنام، وذبحوا للطواغيت، وكانت فيهم بقايا على دين المسيح، يعبدون الله، وكان ملكهم اسمه دقيانوس، وكان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف، وهي أفسوس، فهرب منه أهل الإيمان، وكان حين قدمها، أمر أن يجمع له أهل الإيمان، فمن وقع به خيره بين القتل وعبادة الأصنام، فمنهم من يرغب في الحياة، ومنهم من يأبى فيقتل.
ثم أمر بأجسادهم أن تعلق على سور المدينة وعلى كل باب، فحزن هؤلاء الفتية، وأقبلوا على الصلاة والصيام والتسبيح والدعاء، وكانوا ثمانية من أشراف القوم، فعثر عليهم الملك فقال لهم: اختاروا: إما أن تعبدوا آلهتنا، وإما أن أقتلكم! فقال مكسلمينا، وهو أكبرهم: إن لنا إلهاً هو ملك السموات والأرض، وهو أعظم وأجل من كل شيء، وهو المعبود، فلن ندعو من دونه إلهاً. فقال الملك: ما يمنعني أن أعجل لكم العقوبة إلا أنكم شباب، وأحب أن أجعل لكم أجلا لعلكم تتذكرون فيه، وتراجعون عقولكم.
فأخذوا من بيوتهم نفقة، وخرجوا إلى الكهف يعبدون الله، فأتبعهم كلب كان لهم، وقال كعب: بل مروا بكلب، فنبح بهم فطردوه، فعاد فطردوه مراراً، وهو يعود فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء، كهيئة الداعي ونطق فقال: لا تخافوا مني فإني أحب أحباء الله، فناموا حتى أحرسكم.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هربوا ليلا، وكانوا سبعة، فمروا براع معه كلب فأتبعهم على دينهم فجعلوا يعبدون الله في الكهف، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم، يقال له تمليخا، فكان يبتاع لهم طعامهم من المدينة، وكان من أجملهم وأجلدهم، وكان إذا دخل المدينة لبس ثياب المساكين، واشترى طعامهم وتجسس لهم الأخبار، فلبثوا كذلك زماناً، ثم أخبرهم تمليخا أن الملك يتطلبهم، ففزعوا لذلك وحزنوا، فبينما هم كذلك عند غروب الشمس، يتحدثون ويتدارسون، إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، فأصابه ما أصابهم، فسمع الملك أنهم في جبل فألقى الله في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم، حتى يموتوا جوعاً وعطشاً وهو يظنهم أيقاظاً، أراد الله بذلك أن يكرمهم، وأن يجعلهم آية لخلقه.
وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم، والملائكة تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، ثم عمد رجلان مؤمنان كانا في بيت الملك، فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم، في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس، وجعلاه في البنيان.
وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتية مطوقين مصورين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيد فخرجوا في عيد لهم وأخرجوا آلهتهم التي كانوا يعبدونها فقذف الله في قلوبهم الإيمان، وكان أحدهم وزير الملك، فآمنوا وأخفى كل واحد منهم إيمانه عن صاحبه، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة، ثم خرج آخر فرآه فظن أن يكون على مثل أمره، وجاء من غير أن يظهر له ذلك، ثم خرج الآخرون واحداً بعد واحد حتى اجتمعوا تحت الشجرة. فقال بعضهم لبعض: ما جمعكم هاهنا؟ ثم قالوا: ليخرج كل فتيين فيخلوا ثم يفش كل واحد منهما أمره إلى صاحبه، فخرج فتيان فذكر كل واحد منهما لصاحبه أمره، فأقبلا مستبشرين قد اتفقا على أمر واحد، ثم فعلوا جميعاً كذلك فإذا هم جميعاً على الإيمان. فقال بعضهم لبعض: ائووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته، ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً، فدخلوا الكهف ومعهم كلبهم، فناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، فلما لم يجدوهم كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم، في شهر كذا في سنة كذا، في مملكة فلان بن فلان. ووضعوا اللوح في خزانة الملك، وقالوا: ليكونن لهذا شأن.
وقال السدي: لما خرجوا، مروا براع معه كلب، فقال الراعي: إني أتبعكم على أن أعبد الله معكم، قالوا: سر فسار معهم، وتبعهم الكلب فقالوا: يا راعي هذا الكلب ينبح علينا، وينبه بنا فما لنا به من حاجة. فطردوه فأبى إلا أن يلحق بهم، فرجموه فرفع يديه كالداعي، وأنطقه الله تعالى فقال: يا قوم لم تطردونني لم تضربونني لم ترجمونني؟ فوالله لقد عرفت الله قبل أن تعرفوه بأربعين سنة فتعجبوا من ذلك وزادهم الله بذلك هدى.
وقال محمد الباقر: كان أصحاب الكهف صياقلة، واسم الكهف حيوم، والقصة طويلة مشهورة في كتاب التفاسير والقصص مطولا ومختصراً، وقد وقفت على جمل من ذلك. فمن ذلك ما ساقه الإمام أبو إسحاق محمد بن أحمد بن إبراهيم النيسابوري الثعلبي، في كتابه الكشف والبيان في تفسير القرآن، وربما يتكرر شيء مما تقدم، فيما آتي به. قال: قوله تعالى: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً " يعني ليسوا من أعجب آياتنا، فإن فيم خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجب منهم. والكهف هو الغار في الجبل.
واختلفوا في الرقيم، فقال وهب: حدثني النعمان بن بشير الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرقيم، قال: إن ثلاثة نفر خرجوا مرتادين لأهليهم، فبينما هم يمشون إذ أصابتهم السماء، فأووا إلى كهف، فانحطت صخرة من الجبل، فانطبقت على باب الكهف، فأوصد عليهم، فقال قائل منهم: اذكروا أيكم عمل عملا حسناً، لعل الله برحمته أن يرحمنا، فقال رجل منهم: إني قد عملت حسنة مرة، كان لي أجراء يعملون عملا لي، استأجرت كل رجل منهم في نهاره بأجرة معلومة، فجاءني رجل منهم ذات يوم وسط النهار، فاستأجرته بشطر أجرة أصحابه، فعمل في بقية نهاره كما عمل رجل منهم في نهاره كله، فرأيت علي من الذمام، أن لا أنقصه عما استأجرت من أصحابه، لما رأيت من جهده في عمله.
فقال رجل منهم: أتعطي هذا مثل ما أعطيتني ولم يعمل إلا وسط النهار؟ فقلت: يا عبد الله لم أبخسك شيئاً من شرطك، وإنما هو مالي أحكم فيه بما شئت. فغضب وترك أجره فوضعت حقه في جانب من البيت ما شاء الله، ثم مرت بي بعد ذلك بقر فاشتريت له بها فصيلة من البقر، فبلغت ما شاء الله، فمر بي بعد حين رجل شيخ كبير لا أعرفه، فقال لي: إن لي عندك حقاً فذكرنيه حتى عرفته، قلت له: إياك أبغي، وهذا حقك وعرضتها عليه جميعاً، فقال: يا عبد الله لا تسخر بي إن لم تصدق علي فأعطني حقي! قلت: والله ما أسخر بك إنها لحقك، مالي فيها لشيء فدفعتها إليه جميعاً. اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا الحجر، فانصدع الحجر ففرج حتى رأوا وأبصروا.
وقال الآخر: قد عملت حسنة مرة، كان لي فضل، وأصابت الناس شدة، فجاءتني امرأة تطلب مني معروفاً، فقلت لها: والله ما هو دون نفسك، فأبت علي وذهبت، ثم رجعت فذكرتني بالله عز وجل، والله مطلع عليها فأبيت عليها وقلت لها: والله ما هو دون نفسك، فأبت علي وذهبت، وذكرت لزوجها فقال لها: أعطيه نفسك وأغيثي عيالك! فرجعت إلي وأنشدتني بالله، فأبيت عليها وقلت لها: والله ما هو دون نفسك! فلما رأت ذلك، أسلمت إلي نفسها، فلما كشفتها وهممت بها ارتعدت من تحتي، فقلت لها: ما شأنك؟ فقالت: إني أخاف الله رب العالمين! فقلت لها: خفته في الشدة ولم أخفه في الرخاء! وتركتها وأعطيتها ما يحق علي بما كشفتها. اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا الحجر فانصدع حتى عرفوا وتبين لهم.
وقال الآخر: قد عملت حسنة مرة، كان لي أبوان شيخان كبيران، وكان لي غنم فكنت أطعم والداي وأسقيهما، ثم أرجع إلى غنمي، فأصابني يوماً غيث، فحبسني حتى أمسيت، فأتيت أهلي وأخذت محلبي، فحلبت غنمي وتركتها قائمة، ومضيت إلى أبواي، فوجدتهما قد ناما، فشق علي أن أوقظهما، وشق علي أن أترك غنمي، فما برحت جالساً ومحلبي على يدي، حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا. قال النعمان بن بشير: لكأني أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الجبل طاق طاق ففرج الله عنهم فخرجوا " .
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الرقيم واد بين عمان وأيلة دون فلسطين، وهو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف.
وقال كعب: هي قريتهم وهو على هذا التأويل من رقمة الوادي، وهو موضع الماء منه، تقول العرب: عليك بالرقمة ودع الضفة. والضفتان جانبا الوادي.
وقال سعيد بن جبير: الرقيم لوح من حجارة. وقيل: من رصاص كتبوا فيه أسماء أهل الكهف، وهو على هذا التأويل بمعنى المرقوم أي الكتاب المرقوم. والرقم الخط والعلامة والرقم الكتابة. ثم ذكر صفتهم فقال تعالى: " إذ أوى الفتية إلى الكهف " أي رجعوا وصاروا إليه.
واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق: مرح أهل الإنجيل وكثرت الخطايا فيهم، وعظمت الذنوب وطغت فيهم الملوك، حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام، متمسكين بعبادة الله وتوحيده.
فكان ممن فعل ذلك ملك من ملوكهم من الروم، يقال له دقيانوس، كان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت، وقتل من خالفه في ذلك ممن أقام على دين المسيح، وكان ينزل قرى الروم فكان لا يترك فيها أحداً مؤمناً إلا فتنه، حتى يعبد الأصنام ويذبح للطواغيت، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف، وهي أفسوس، فلما نزلها كبر ذلك على أهل الإيمان فاستخفوا منه، وهربوا في كل وجه.
وكان دقيانوس قد أمر حين قدمها أن يتتبع أهل الإيمان في أماكنهم، فيجمعوا له واتخذ شرطة من الكفار، من أهلها فجعلوا يتتبعون أهل الإيمان، في أماكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس، فيقدمهم إلى الجامع الذي يذبح فيه للطواغيت، فيخيرهم بين القتل وعبادة الأصنام والذبح للطواغيت، فمنهم من يرغب في الحياة، ومنهم من يأب أن يعبد غير الله تعالى فيقتل.
فلما رأى أهل ذلك البلد الشدة في الإيمان بالله جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيقطعون ويعلق ما قطع من أجسادهم على سور المدينة ونواحيها كلها، وعلى كل باب من أبوب، حتى عظمت الفتنة على أهل الإيمان منهم، من أقر فترك، ومنهم من صلب على دينه فقتل.
فلما رأى ذلك الفتية، حزنوا حزناً شديداً فصلوا وصاموا واشتغلوا بالتسبيح والدعاء لله تعالى، وكانوا من أشراف الروم، وكانوا ثمانية فتفرقوا، وتضرعوا، وجعلوا يقولون: " ربنا رب السموات والأرض، لن ندعو من دونه إلهاً، لقد قلنا إذا شططا " ، اللهم اكشف عن عبادك المؤمنين، هذه الفتنة وادفع البلاء والغم عن عبادك، الذين آمنوا بك، حتى يعلنوا عبادتهم إياك، فبينما هم على ذلك إذا أدركهم الشرطة، وكانوا قد دخلوا في مصلى لهم، فوجدوهم سجداً على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى، ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفتنته.
فلما رآهم أولئك الكفرة، قالوا لهم: ما خلفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه. ثم خرجوا من عندهم فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس، فقالوا: نجمع الجميع وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يسخرون بك ويعصون أمرك! فلما سمع ذلك منهم أتى بهم وأعينهم تفيض من الدمع، معفرة وجوههم في التراب، فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح للآلهة التي تعبد في الأرض، وأن تجعلوا أنفسكم كغيركم؟ فاختاروا إما أن تذبحوا لآلهتنا كما يذبح الناس، وإما أن أقتلكم؟ فقال مكسلمينا، وكان أكبرهم: إن لنا إلهاً ملأت السموات والأرض عظمته " لن ندعو من دونه إلهاً، لقد قلنا إذا شططاً " ولن نقر بهذا الذي تدعو إليه أبداً، ولكنا نعبد الله ربنا، له الحمد والشكر والتسبيح من أنفسنا خالصاً أبداً، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير، فأما الطواغيت وعبادتها فلن نعبدها أبداً، اصنع ما بدا لك.
ثم قال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال له، فلما قالوا ذلك أمر فنزع منهم الملبوس الذي كان عليهم من لبوس عظمائهم، وقال: إن فعلتم ما فعلتم فإني سأؤخركم وأفرغ لكم وأنجزكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شباباً حديثة أسنانكم، فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا، تتذاكرون فيه وتراجعون عقولكم، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت عنهم، ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم التي هم بها قريبة منهم، لبعض أموره فلما علم الفتية أن دقيانوس خرج من مدينتهم، بادروا قدومه وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم فائتمروا بينهم، أن يأخذ كل رجل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها، ثم يتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة، في جبل يقال له منحلوس، فيمكثون فيه ويعبدون الله تعالى، حتى إذا جاء دقيانوس، أتوه فقاموا بين يديه، فيصنع بهم ما شاء. فلما قال ذلك بعضهم لبعض، عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه، فأخذ نفقة فتصدقوا منها، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم، واتبعهم كلب كان لهم. حتى أتوا ذلك الكهف في الجبل فلبثوا فيه.
وقال كعب الأحبار: مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه، فعاد ففعلوا ذلك مراراً، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني؟ لا تخشوا جانبي فأنا أحب أحباب الله. فناموا حتى أحرسكم.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هربوا ليلا من دقيانوس بن حلانوس حين دعاهم إلى عبادة الأصنام، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب، فتبعهم على دينهم، فخرجوا من البلد فآووا إلى الكهف وهو قريب من البلدة، فلبثوا فيه، ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد، ابتغاء وجه الله، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم، يقال له تمليخا، فكان على طعامهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سراً، وكان من أجملهم وأجلدهم، فكان تمليخا يصنع ذلك، فإذا دخل المدينة يضع ثياباً كانت عليه حساناً، ويلبس كثياب المساكين، الذين يطعمون فيها، ثم يأخذ ورقة ثم ينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاماً وشراباً، ويسمع ويتجسس لهم الخبر، هل ذكر أصحابه بشيء أم لا ثم يرجع إلى أصحابه.
فلبثوا كذلك ما لبثوا، ثم قدم دقيانوس الجبار المدينة فأمر العظماء، فذبحوا للطواغيت، ففزع لذلك أهل الإيمان، وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه الطعام والشراب، فرجع لأصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل، فأخبرهم أن الجبار دقيانوس قد دخل المدينة، وأنهم قد ذكروا مع عظماء المدينة، ليذبحوا الطواغيت، فلما أخبرهم فزعوا ووقعوا سجداً يدعون الله تعالى، ويتضرعون إليه، ويتعوذون به من الفتنة، ثم إن تمليخا قال لهم: يا أخوتاه ارفعوا رؤوسكم وأطعموا من رزق الله، وتوكلوا عليه، فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع، حزناً وخوفاً على أنفسهم، فطعموا منه وذلك عند غروب الشمس، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون، ويذكر بعضهم بعضاً، فبينما هم على ذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، فأصابه ما أصابهم، وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم.
فلما كان الغد تفقدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم، فقال لبعض أصحابه: قد ساءني هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا ظنوا بي غضباً عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري، وما كنت لأجهل عليهم، ولا على واحد منهم إن تابوا وعبدوا إلهي.
فقال له عظماء المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة، مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم، قد كنت أجلتهم أجلا، ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل، ولكنهم لم يتوبوا. فلما قالوا له ذلك: غضب غضباً شديداً، ثم أرسل إلى آبائهم فسأل عنهم؟ ثم قال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني؟ فقالوا له: أما نحن فلن نعصيك، فلم تقتلنا بقوم مردة ذهبوا بأموالنا فأهلكوها بأسواق المدينة، ثم انطلقوا فارتقوا إلى جبل يقال له منحلوس، فلما قالوا له ذلك، خلى سبيلهم، وجعل ما يدري ما يفعل بالفتية، فألقى الله في نفس دقيانوس أن يأمر بالكهف فيسد عليهم.
وأراد الله أن يذكرهم ويجعلهم آية، ويستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، ويدعوهم كما هم في الكهف يموتون عطشاً وجوعاً، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبراً لهم، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم. وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، قد غشيه ما غشيهم ذات اليمين وذات الشمال.
ثم إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقيانوس، يكتمان إيمانهما، كان اسم أحدهما مندروس، والآخر دوماس، ائتمرا أن يكتبا أسماء الفتية وأنسابهم وخبرهم، في لوح رصاص يجعلاه في تابوت من نحاس، ثم يجعلا التابوت في البنيان، وقالا: لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين، قبل يوم القيامة، فيعلم من فتح عليهم خبرهم، حين يقرأ هذا الكتاب. ففعلا ثم بنيا عليهم فبقي دقيانوس ما بقي، ثم مات وقومه وقرون بعد ذلك كثيرة، وخلفاء الملوك بعد الملوك.
وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتياناً مطوقين مسورين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم، في زي وموكب، وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وقد قذف الله في قلوب الفتية الإيمان، وكان أحدهم وزير الملك، فآمنوا وأخفى كل واحد منهم الإيمان عن أخيه، فقالوا في أنفسهم، من غير أن يظهر بعضهم على بعض: نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم، لئلا يصيبنا عقاب بجرمهم، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة، فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده، فرجا أن يكون على مثل أمره، من غير أن يظهر له ذلك، فجلس إليه ثم خرج الآخرون فجاؤوا وجلسوا إليهما. واجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ما جمعكم؟ وقال آخر: ما حملكم؟ وكل واحد يكتم عن صاحبه إيمانه، مخافة على نفسه، ثم قالوا: ليخرج كل فتيين منكم فيخلوا ثم ليفش كل واحد منهما لصاحبه أمره، فخرج فتيان منهم، فتوافقا. ثم تكلما، فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه، فأقبلا مستبشرين إلى أصحابهما، فقالا: قد اتفقنا على أمر واحد، فإذا هم جميعاً على أمر واحد، وهو الإيمان، وإذا كهف في الجبل قريب منهم، فقال بعضهم لبعض: فأووا إلى الكهف، ينشر لكم ربكم من رحمته، ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً، فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم، فناموا ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً.
وفقدهم الملك وقومهم فطلبوهم فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم، فلما لم يقدروا عليهم، كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص: فلان وفلان أبناء ملوكنا، فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان، ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا: ليكونن لهذا شأن ومات ذلك الملك وجاء قرن من بعد قرن.
وقال وهب بن منبه: جاء حواري عيسى ابن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنماً لا يدخلها إلا سجد له، فكره أن يدخلها وأتى حماماً قريباً من تلك المدينة، فكان فيه وكان يؤاجر نفسه من الحمامي في حمامه، ويعمل فيه ورأى الحامي في حمامه البركة، ودر عليه الرزق، فجعل يقوم عليه وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض، وخبر الآخرة، حتى آمنوا بالله وصدقوه. وكانوا على مثل حاله من حسن الهيئة، وكان شرط على صاحب الحمام، أن الليل لا يحول بيني وبينه أحد، ولا بين الصلاة، وكان على ذلك، حتى أتى ابن الملك بامرأة، فدخل بها الحمام، فعيره الحمامي، وقال له: أنت ابن الملك وتدخل مع هذه! فاستحيا وذهب، ثم رجع مرة أخرى، فقال له مثل ذلك فسبه وانتهره، ولم يلتفت إليه حتى دخلاه جميعاً فماتا معاً في الحمام.
فأتى الملك، فقيل له: صاحب الحمام قتل ابنك، فالتمس فلم يقدر عليه وهرب. فقال: من كان يصحبه؟ فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة، فمروا على صاحب لهم في زرع، وهو على مثل إيمانهم، فذكروا له أنهم التمسوا، فانطلق معهم، وكان معه كلب، حتى آواهم الليل إلى كهف، فقالوا: نبيت هاهنا الليلة ثم نصبح، فترون رأيكم فضرب الله على آذانهم، فخرج الملك في أصحابه يطلبهم، فتبعوهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد الرجل منهم دخوله، أرعب فلم يطق أحد منهم أن يدخله، فقال قائل من أصحاب الملك: أليس لو كنت تقدر عليهم قتلتهم. قال: بلى. قال: فابن عليهم باب الكهف، واتركهم فيه يموتون جوعاً وعطشاً، ففعل ذلك.
قال وهب: فمكثوا بعد ما سد عليهم باب هذا الكهف، زماناً بعد زمان، ثم إن راعياً أدركه المطر عند باب الكهف، فقال في نفسه: لو فتحت باب هذا الكهف، وأدخلت فيه غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتحه، ورد الله عليهم أرواحهم من الغد، حين أصبحوا.
قال محمد بن إسحاق: ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح، يقال له تاودوسيوس، فلما ملك بقي في ملكه ثمانية وثمانين سنة، فتحزب الناس في ملكه، وكانوا أحزاباً، فمنهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذب بها، فكبر ذلك على الملك الصالح، وشكا إلى الله وتضرع إليه، وحزن حزناً شديداً، لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق، ويقولون: لا حياة إلا الحياة الدنيا، وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، فأما الجسد فتأكله الأرض، ونسوا ما في الكتاب.
فجعل تاودوسيوس يرسل إلى كل من يظن فيه خيراً وأنه معه على الحق، فجعلوا يكذبون بالساعة، حتى كادوا يحولون الناس عن الحق وملة الحواريين، فلما رأى ذلك الملك الصالح تاودوسيوس، دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحاً، وجعل تحته رماداً ثم جلس عليه، فدأب ليلا ونهاراً يتضرع إلى الله ويبكي مما يرى فيه الناس، ويقول: أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث إليهم من يبين لهم.
ثم إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد، أراد أن يظهر الفتية أصحاب الكهف، ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية تبين لهم، وحجة عليهم، ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يستجيب لعبده الصالح تاودوسيوس، وأن يتم نعمته عليه، وأن لا ينزع عنه ملكه ولا الإيمان الذي أعطاه، وأن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، وأن يجمع من كان ببلده من المؤمنين، فألقى الله عز وجل في نفس رجل من أهل ذلك الجبل، الذي به أهل الكهف أن يبني فيه حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين، فجعلا ينزعان تلك الأحجار، ويبنيان بها تلك الحظيرة، حتى فرغ ما على فم الكهف، وفتح عليهم باب الكهف، وحجبهم الله عن الناس بالرعب، فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم، من يدخل من باب الكهف، ثم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم، إلى باب الكهف قائماً، فلما نزعت الحجارة، وفتح عليهم باب الكهف، أذن الله ذو القدرة والعظمة والسلطان، محي الموتى، أن يجلسوا بين ظهراني الكهف، فجلسوا فرحين مستبشرة وجوههم، طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض، حتى كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون فيها، إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها، ثم قاموا إلى الصلاة، فصلوا كالذي كانوا يفعلون، لا يرى في وجوههم، ولا في أبشارهم، ولا في ألوانهم شيء يكرهونه، إنما هم كهيئتهم حين رقدوا، وهم يرون أن ملكهم دقيانوس الجبار في طلبهم.
فلما قضوا صلاتهم، قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم: ائتنا يا أخي بالذي قال الناس في شأننا، عشية أمس عند الجبار، وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون أمس، وقد خيل إليهم أنهم ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها، حتى تساءلوا بينهم، فقال بعضهم لبعض " كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " وكل ذلك في أنفسهم يسير، فقال لهم تمليخا: افتقدتم والتمستم بالمدينة، وهو يريد أن يأتي بكم اليوم، فتذبحون للطواغيت، أو يقتلكم، فما شاء الله بعد ذلك فعل. فقال لهم مكسلمينا: يا أخوتاه، اعلموا أنكم ملاقو الله، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم غداً. ثم قال لتمليخا: انطلق إلى المدينة، فتسمع ما يقال لنا بها اليوم، وما الذي نذكر به عند دقيانوس، وتلطف ولا تشعرن بنا أحداً، وابتغ لنا طعاماً وائتنا به، فإنه قد نالنا الجوع وزدنا على الطعام الذي تجيئنا به العادة، فإنه كان قليلا وقد أصبحنا جياعاً.
ففعل تمليخا كما كان يفعل، وخرج ووضع ثيابه، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها، وأخذ ورقاً من نفقتهم، التي كانت معهم، التي ضربت بطابع دقيانوس، وكانت كخفاف الربع، فانطلق تمليخا خارجاً، فلما مر بباب الكهف، رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف، فعجب منها، ثم مر فلم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفياً، يصد عن الطريق تخوفاً من أن يراه أحد من أهلها، فيعرفه فيذهب به إلى دقيانوس الجبار، ولم يشعر بالعبد الصالح، وأن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة.
فلما رأى تمليخا باب المدينة، رفع رأسه فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان، فلما رآها عجب وجعل ينظر إليها مستخفياً، فنظر يميناً وشمالا فلم ير أحداً ممن يعرفه. ثم ترك ذلك الباب، وتحول إلى باب آخر من أبوابها، فرأى مثل ذلك، فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرفها، ورأى ناساً كثيرين محدثين لم يكن يعرفهم قبل ذلك، فجعل يمشي ويتعجب منهم ومن نفسه، ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه، فجعل يتعجب منهم ومن نفسه، ويقول: يا ليت شعري أما هذه عشية أمس كان المسلمون يخفون هذه العلامة، ويستخفون بها فأما اليوم فإنها ظاهرة، لعلي حالم! ثم يرى أنه ليس بنائم.
فأخذ كساءه وجعله على رأسه، ثم دخل المدينة فجعل يمشي بين ظهراني سوقها فيسمع ناساً كثيرين يحلفون بالله، ثم بعيسى ابن مريم فزاده عجباً! ورأى كأنه حيران، فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة، ويقول في نفسه: والله ما أدري ما هذا؟ أما عشية أمس فليس على وجه الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل، وأما الغداة فأسمع كل إنسان يذكر أمر عيسى ابن مريم ولا يخاف. ثم قال في نفسه: لعل هذه المدينة ليست التي أعرفها، أسمع كلام أهلها ولا أعرف أحداً منهم. والله ما أعلم مدينة أقرب من مدينتنا، ثم قام كالحيران لا يتوجه وجهاً، ثم لقى فتى من أهل المدينة، فقال: يا فتى ما اسم هذه المدينة؟ فقال: افسوس. فقال في نفسه: لعل بي مساً أو أمراً أذهب عقلي، والله يحق لي أن أسرع إلى الخروج منها، قبل أن أخرج منها ويصيبني سوء فأهلك.
هذا الذي حدث به تمليخا أصحابه حين تبين له حالهم. ثم إنه أفاق فقال: والله لو عجلت الخروج من المدينة، قبل أن يفطن بي لكان أكيس بي، فدنا من الذين يبيعون الطعام، فأخرج الورق التي كانت معه، فأعطاها رجلا منهم فقال: يا عبد الله بعني بهذه الورق طعاماً، فأخذها الرجل، ونظر إلى ضرب الورق ونقشها، وعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه، فنظر إليها، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم، من رجل إلى رجل، وهم يعجبون منها، ثم جعلوا يتشاورون من أجله، ويقول بعضهم: إن هذا الرجل قد أصاب كنزاً خبيئاً في الأرض منذ زمان ودهر طويل، فلما رآهم يتشاورون من أجله فرق فرقاً شديداً، وحزن حزناً عظيماً، وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه، وإنما يريدون أن يحملوه إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرفونه، فقال لهم، وهو شديد الفرق: اقضوني حاجتي، فقد أخذتم ورقي، وإلا فامسكوا طعامك فلا حاجة لي فيه.
فقالوا له: من أنت يا فتى وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزاً من كنوز الأولين وأنت تريد أن تخفيه منا، فانطلق معنا وشاركنا فيه، يخف عليك ما وجدت، فإنك إن لم تفعل نأت بك السلطان فنسلمك إليه فيقتلك، فلما سمع قولهم، عجب في نفسه وقال: قد وقعت في كل شيء أحذر منه، ثم قالوا: يا فتى والله إنك لا تستطيع أن تكتم شيئاً وجدته، ولا تظن في نفسك أن ستخفى عليك. فجعل تمليخا لا يدري ما يقول، وما يرجع إليهم وفرق حتى ما يحير إليهم جواباً.
فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطوقوه في عنقه، ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة مكبلا، حتى سمع به كل من فيها. فقيل: أخذ رجل عنده كنز، واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون: والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة، وما رأيناه فيها قط وما نعرفه، فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم، مع ما سمع منهم. فلما اجتمع عليه أهل المدينة، فرق وسكت ولم يتكلم، ولو قال إنه من أهل المدينة لم يصدق. وكان مستيقناً إن أباه وأخوته بالمدينة، وأن حسبه في أهل المدينة، من عظماء أهلها، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا، وقد استيقن أنه عشية أمس، كان يعرف كثيراً من أهلها، وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحد.
فبينما هو قائم كالحيران ينتظر من يأتيه من أهله إما أبوه أو بعض أخوته، فيخلصه من أيديهم، إذ اختطفوه فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها، وهما رجلان صالحان، اسم أحدهما أرموس والآخر اصطفوس، فلما انطلق به إليهما، ظن تمليخا إنما ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه. فجعل يلتفت يميناً وشمالا، وجعل الناس يسخرون به، كما يسخرون من المجنون والحيران، وجعل تمليخا يبكي ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم إله السماء وإله الأرض، أفرغ علي اليوم صبراً، وأولج معي روحاً منك، تؤيدني به عند هذا الجبار، وجعل تمليخا يبكي ويقول في نفسه: فرق بيني وبين أخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت، وأين يذهب به فلو أنهم يعلمون فيأتوني، فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار، فإنا كنا توافقنا لنكونن معاً لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئاً، ولا نعبد الطواغيت من دون الله عز وجل، فرق بيني وبينهم فلم أرهم ولم يروني، وقد كنا توافقنا أن لا نفترق في حياة ولا موت أبداً، يا ليت شعري ما هو فاعل بي أقاتلي أم لا؟
هذا ما حدث به تمليخا أصحابه عن نفسه حين رجع إليهم، ثم انتهي به إلى الرجلين الصالحين أرموس واصطفوس، فلما رأى تمليخا أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء، فأخذ أرموس واصطفوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها، ثم قال له أحدهما: أين الكنز الذي وجدته يا فتى؟ فهذا الورق يشهد عليك أنك قد وجدت كنزاً! فقال له تمليخا: ما وجدت كنزاً، ولكن هذا الورق ورق آبائي، ونقش هذه المدينة وضربها. ولكني والله ما أدري ما شأني وما أدري ما أقول لكم! فقال أحدهما: من أنت؟ فقال له تمليخا: أما ما أرى، فإني كنت أرى أني من أهل هذه المدينة. فقالوا له: من أبوك ومن يعرفك بها؟ فأنبأهم باسم أبيه، فلم يجدوا أحداً يعرفه ولا أباه. فقال له أحدهما: أنت رجل كذاب لا تخبر بالحق، فلم يدر تمليخا ما يقول لهم، غير أنه نكس رأسه إلى الأرض، فقال بعض من حوله: هذا الرجل مجنون، وقال بعضهم: ليس بمجنون ولكنه يحدق نفسه عمداً، لكي يفلت منكم. فقال له أحدهما ونظر إليه نظراً شديداً: أتظن أنا نرسلك ونصدقك هذا مال أبيك، ونقش هذا الورق وضربها، أكثر من ثلاثمائة سنة؟ وأنت غلام شاب تظن أنك تأفكنا وتسخر بنا، ونحن شمط كما ترى، وحولك سراة أهل المدينة، وولاة أمرها وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار. وإني لأظنني سآمر بك فتضرب وتعذب عذاباً شديداً، ثم أوثقك حتى تقر بهذا الكنز الذي وجدت.
فلما قال له ذلك، قال له تمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه، فإن فعلتم صدقتكم ما عندي؟ قالوا: سل لا نكتمك شيئاً. قال: فما فعل الملك دقيانوس؟ فقالوا له: ليس نعرف اليوم على وجه الأرض ملكاً يسمى دقيانوس، ولم يكن إلا ملكاً قد هلك منذ زمان ودهر طويل، وقد هلكت بعده قرون كثيرة.
فقال لهم تمليخا: فوالله ما يصدقني أحد من الناس بما أقول: لقد كنا فتية الملك، وأنه أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت، فهربنا منه عشية أمس، فنمنا، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لأصحابي طعاماً وأتجسس لهم الأخبار، فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل منحلوس، أريكم أصحابي، فلما سمع أرموس واصطفوس ما يقول تمليخا، قالا: يا قوم لعل هذه آية من آيات الله عز وجل، جعلها الله لكم على يدي هذا الفتى، فانطلقوا بنا معه يرينا أصحابه كما قال. فانطلق معه أرموس واصطفوس، وانطلق معهما أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم.
ولما رأى الفتية أصحاب الكهف، تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم، عن القدر الذي كان يأتيهم فيه، ظنوا أنه قد أخذ وذهب إلى ملكهم دقيانوس، الذي هربوا منه. فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه إذا سمعوا الأصوات، وجلبة الخيل مصعدة نحوهم، فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس، بعث إليهم ليؤتى بهم، فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض، وقالوا: انطلقوا بنا إلى أخينا تمليخا، فإنه الآن بين يدي الجبار دقيانوس، ينتظر متى نأتيه. فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس بين ظهراني الكهف فلم يروا إلا أرموس وأصحابه، وقوماً وقوفاً على باب الكهف، وقد سبقهم تمليخا فدخل عليهم وهو يبكي، فلما رأوه يبكي بكوا معه، ثم سألوه عن شأنه فأخبرهم بخبره وقص عليهم المسألة فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياماً بإذن الله تعالى ذلك الزمان كله، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقاً للبعث، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها.
ثم دخل على أثر تمليخا أرموس، فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم من فضة، فقام بباب الكهف ودعا رجالا من عظماء أهل المدينة، ففتح التابوت عندهم فوجدوا فيه لو حين من رصاص، مكتوباً فيهما: إن مكسلمينا وامليخا أو تمليخا مرطوكش ونوالس وسانيوس وبطنيوس وكشفوطط كانوا فتية، هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار، مخافة أن يفتنهم عن دينهم، فدخلوا في هذا الكهف، فلما أخبر بمكانهم أمر بهذا الكهف فسد عليهم بالحجارة، وأنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلم من بعدهم إن عثر عليهم.
فلما قرؤوه عجبوا وحمدوا الله عز وجل، الذي أراهم آية البعث فيهم. ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ثم دخلوا على الفتية الكهف فوجدوهم جلوساً بين ظهرانيه ووجوههم مشرقة لم تبل ثيابهم. فخر أرموس وأصحابه سجداً لله تعالى وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته، ثم كلم بعضهم بعضاً وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس الجبار. ثم إن أرموس وأصحابه بعثوا بريداً إلى ملكهم الصالح تاودوسيوس، أن عجل لعلك تنظر إلى آية في آيات الله تعالى، جعلها الله آية على ملكك وجعلها آية للعالمين ليكون ذلك نوراً وضياء وتصديقاً بالبعث، فاعجل على فتية بعثهم الله وكان قد توفاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة.
فلما أتى الملك الخبر قام من السدة التي كان عليها ورجع إليه عقله، وذهب عنه همه، ورجع إلى الله تعالى، وقال: أحمد الله رب العالمين رب السموات والأرض، وأعبدك وأسبح لك تطولت علي ورحمتني برحمتك، فلم تطفئ النور الذي كنت جعلته لأبائي وللعبد الصالح قسطيطوس الملك، فلما أنبئ به أهل المدينة ركبوا إليه وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف وأتوه، فلما رأوا الفتية تاودوسيوس، فرحوا به وخروا سجدا على وجوههم. وقام تاودوسيوس قدامهم، ثم اعتنقهم وبكى، وهم جلوس بين يديه على الأرض، يسبحون الله تعالى ويحمدونه، ثم قال الفتية لتاودوسيوس: نستودعك الله، ونقرأ عليك السلام، حفظك الله ومد ملكك، ونعيفك بالله من شر الجن والإنس. فبينما الملك قائم، رجعوا إلى مضاجعهم فناموا، وتوفى الله أرواحهم.
وقام الملك فجعل ثيابه عليهم، وأمر أن يجعل لكل واحد تابوت من ذهب. فلما أمسوا ونام، أتوه في المنام، وقالوا: إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة، ولكنا خلقنا من التراب وإلى التراب نصير. فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب، حتى يبعثنا الله، فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج، فجعلوا فيه. وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب، فلم يقدر أحد أن يطلع عليهم، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجداً يصلى فيه. وجعل لهم عيداً عظيماً، وأمر أن يؤتى كل سنة.
وقيل: إنهم لما أتوا باب الكهف، قال لهم تمليخا: دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم، فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم، فدخل فبشرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، وعمي عليهم فلم يهتدوا إليهم. فهذا حديث أصحاب الكهف.
ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يريه إياهم، فقال تعالى: إنك لن تراهم في دار الدنيا، ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: كيف أبعث إليهم؟ فقال: ابسط كساءك، واجلس على طرف من أطرافه أبا بكر، وعلى الثاني عمر، وعلى الثالث علياً، وعلى الرابع أبا ذر، ثم ادع الرخاء المسخرة لسليمان بن داود عليهما السلام، فإن الله تعالى أمرها أن تطعيك. ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به، فحملتهم الريح حتى انطلقت بهم إلى باب الكهف، فلما دنوا من الباب قلعوا منه حجراً، فقام الكلب فنبح عليهم حين أبصر الضوء، وهر وحمل عليهم، فلما رآهم حرك رأسه وبصبص بذنبه، وأومأ برأسه أن ادخلوا الكهف، فدخلوا فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد الله عليهم أرواحهم، فقاموا بأجمعهم، وقالوا: وعليكم السلام وعلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دامت السموات والأرض، وعليكم بما بلغتم ثم جلسوا بأجمعهم يتحدثون، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقبلوا دين الإسلام. وقالوا: اقرؤوا محمداً منا السلام، ثم أخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم، إلى آخر الزمان، عند خروج المهدي. ويقال إن المهدي يسلم عليهم فيحييهم الله ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون إلى يوم القيامة.
وقد رأيت في كتاب الشفاء، للإمام أبي الربيع سليمان بن سبع، ما نصه: روي أن عيسى عليه السلام يعمر بعد الدجال ويأجوج ومأجوج أربعين سنة، ويكون حواريوه أصحاب الكهف والرقيم ويحجون معه، لأنهم لم يحجوا. انتهى ما نقله ابن سبع.
ثم نرجع إلى سياق الثعلبي، قال: ثم جلس كل واحد منهم على مكانه وحملتهم الريح، فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان منهم. فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: كيف وجدتموهم وما الذي أجابوا؟ فقالوا: يا رسول الله دخلنا عليهم فسلمنا عليهم، فقاموا بأجمعهم فردوا علينا السلام، وبلغناهم رسالتك فأجابوا وأنابوا، وشهدوا أنك رسول الله حقاً، وحمدوا الله على ما أكرمهم بخروجك وتوجيه رسلك إليهم. وهم يقرؤونك السلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تفرق بيني وبين أصهاري وأحبابي، واغفر لمن أحبني، وأحب أهل بيتي وأحب أصحابي. فذلك قوله تعالى " إذ أوى الفتية إلى الكهف " أي صار يضم الفتية. قال الثعلبي: كان أصحاب الكهف صيارفة.
قوله عز وجل " إلى الكهف " هو غار بجبل منحلوس. وقيل: بناحيوس واسم الكهف حرم، وقيل خدم. قوله تعالى: " فقالوا ربنا أتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا " أي يسر لنا ما نلتمس من رضاك، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: رشداً أي مخرجاً من الغار في سلامة، وقيل: صواباً. قوله تعالى: " فضربنا على آذانهم في الكهف، وهذا من فصاحات القرآن، التي أقرت العرب القصور عن الإتيان بمثله. ومعناه أنمناهم وألقينا وسلطنا عليهم النوم. كما يقال ضرب الله فلاناً بالفالج، أي ابتلاه به وأرسله عليه. وقيل: معناه حجبناهم عن السمع، وسددنا نفوذ الصوت إلى مسامعهم. وهذا وصف الأموات والنيام. وقال قطرب: هو كقول العرب ضرب الأمير على يد الرعية، إذا منعهم من العبث والفساد، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة، إذا منعه من التصرف. وقال الأسود بن يعفر، وكان ضريراً، في ذلك: ومن الحوادث لا أبالي أنني ضربت على الأرض بالأسداد قوله عز وجل " سنين عددا " أي معدودة وهي نعت السنين، والعد المصدر والعدد الاسم المعدود كالنقض والنقض، والقص والقصص، والخبط والخبط.
وقال أبو عبيدة: هو نصب على المصدر. قوله تعالى: " ثم بعثناهم " يعني من بعد موتهم، " لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً " وذلك حين تنازع المسلمون الأولون أصحاب الملك، والمسلمون الآخرون الذين أسلموا حين رأوا أصحاب الكهف، في قدر مدة لبثهم في الكهف. فقال المسلمون الأولون: لبثوا في الكهف ثلاثمائة سنين وتسع سنين، وقال المسلمون الآخرون: بل لبثوا كذا وكذا. فقال الأولون: الله أعلم بما لبثوا. فذلك قوله تعالى: " ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين " أي: أي الفريقين أحصى، أي أضبط وأحفظ، لما لبثوا، أي مكثوا في كهفهم نياماً أمداً، غاية. وقال مجاهد: عدداً. وفي نصبه وجهان: أحدهما على التفسير والثاني مفعول لبثوا.
قوله عز وجل: " نحن نقص عليك " أي نقرأ وننزل عليك " نبأهم بالحق " ، أي خبر صحاب الكهف. " إنهم فتية " أي شباب وأحداث " آمنوا بربهم " ، حكم الله لهم بالفتوة، حين آمنوا بلا واسطة. لذلك قال أهل اللسان: رأس الفتوة الإيمان. وقال الجنيد: الفتوة بذل الندى، وكف الأذى، وترك الشكوى. وقيل: الفتوة شيآن: اجتناب المحارم واستعمال المكارم. وقيل: الفتى من لا يدعي قبل الفعل، ولا يذكي نفسه بعد الفعل. وقيل: ليس الفتى من يصبر على السياط، إنما الفتى من يجوز على الصراط، وليس الفتى من يصبر على المسكين إنما الفتى من يطعم المسكين. قوله تعالى: " وزدناهم هدى " أي إيماناً وبصيرة وإيقاناً. " وربطنا " أي شددنا " على قلوبهم " بالصبر، وألهمناهم ذلك وقويناهم بنور الإيمان حين صبروا على هجران دار قومهم، وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش، وفروا بدينهم إلى الكهف " إذ قاموا " بين يدي دقيانوس " فقالوا " حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم: " ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً " ، أي لا نعبد من دونه إلهاً، " لقد قلنا إذا شططاً " ، قال ابن عباس ومقاتل رضي الله تعالى عنهم: جوراً. وقال قتادة، رحمه الله تعالى: كذباً.
وأصل الشطط والإشطاط مجاوزة القدر والإفراط. " هؤلاء قومنا " : بمعنى أهل بلدهم، " اتخذوا " أي عبدوا " من دونه آلهة " يعني من دون الله الأصنام يعبدونها. " لولا " هلا " يأتون عليهم " على عبادتهم " بسلطان بين " ، أي حجة واضحة " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " ، بزعم أن له شريكاً وولداً. ثم قال بعضهم لبعض: " وإذ اعتزلتموهم " ، يعني قومهم " وما يعبدون إلا الله " ، أي واعتزلتم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله. وكذلك هو في مصحف عبد الله: وما يعبدون من دون الله.
" فأووا إلى الكهف " أي صيروا إليه " ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا: " أي رزقاً رغداً. والمرفق ما يرتفق به الإنسان. وفيه لغتان مرفق بفتح الميم وكسر الفاء، وهي قراءة أهل المدينة والشام وعاصم في بعض الروايات. ومرفق بكسر الميم وفتح الفاء وهي قراءة الباقين. قوله تعالى: " وترى الشمس إذا طلعت " أي وترى يا محمد الشمس " إذا طلعت تزاور " أي تتزاور. قرأ أهل الكوفة بالتخفيف على حذف إحدى التاءين، وقرأ أهل الشام ويعقوب: تزور، على وزن تحمر وكلها بمعنى واحد أي تميل وتعدل عن كهفهم، " ذات اليمين " أي جانب اليمين. " وإذا غربت تقرضهم " . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تدعهم. وقال مقاتل بن حيان: تجاوزهم. وأصل القرض القطع " ذات الشمال وهم في فجوة منه " . أي متسع من الكهف. وجمعها فجوات وأفجاء وفجاء.
أخبرنا الله بحفظه إياهم في مضجعهم، واختياره لهم أصلح المواضع للرقاد، فأعلمنا أنه يراهم في فضاء من الكهف، مستقبلا بنات نعش، تميل عنهم الشمس طالعة وغاربة وجارية، فلا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها، وتغير من ألوانهم وتبلي ثيابهم، وأنهم في متسع منه ينالهم فيه برد الريح ونسميها، وتنفي عنهم كربة الغار وغمومه، " ذلك " ما ذكرنا من أمر الفتية " من آيات الله " ، أي من عجائب صنع الله ودلالات قدرته.
قوله عز وجل: " من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " لأن التوفيق والخذلان بيد الله عز وجل، " وتحسبهم " يا محمد " أيقاظا " منتبهين جمع يقظ ويقظ، مثل قولك رجل نجد ونجد للشجاع وجمعه أنجاد، " وهم رقود " يعني نيام، جمع راقد، مثل قاعد وقعود. " ونقلبهم " بالتخفيف والتشديد، " ذات اليمين وذات الشمال " ، مرة للجنب الأيمن ومرة للجنب الأيسر.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانوا يقلبون في السنة مرة، من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم، ويقال: إن يوم عاشوراء كان يوم تقلبهم، وقال أبو هريرة: كان لهم في السنة تقليبتان " وكلبهم " ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان أحمر. وقال مقاتل: كان أصفر. وقال القرطبي: من شدة صفرته يضرب إلى الحمرة. وقال الكلبي: لونه كالخلنج. وقيل: لون الحجر، وقيل: لون السماء.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: كان اسمه ريان. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قطمير. وقال الأوزاعي: مشير. وقال سعيد الحماد: حران. وقال عبد الله بن كثير: إن اسم كلبهم قطمور. وقال السدى. اسمه تون. وقال عبد الله بن سلام: بسيط. وقال كعب: صيهان. وقال وهب: اسمه نقياً. وقيل: قطفير. وقيل: قطيفير. وقال عروة: مما أخذ على العقرب، أن لا يضر بأحد في ليل ولا نهار، قال: " سلام على نوح " قال: ومما أخذ على الكلب أن لا يضر بأحد، ممن حمل عليه، إذ قال: " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " وقرأ جعفر الصادق: وكالبهم، يعني صاحب الكلب باسط ذراعيه بالوصيد. وقال مجاهد والضحاك: الوصيد فناء الكهف، وهي رواية علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
وقال سعيد بن جبير: الوصيد الصعيد، وهو التراب وهي رواية عطية العوفي، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقال السير: الوصيد الباب، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس وأنشد قول الشاعر:
بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر
أي بابها.
وقال عطاء: الوصيد عتبة الباب. وقال العتبي: الوصيد البناء، وأصله من قول العرب أصدت الباب وأوصدته، إذا أغلقته وأطبقته. قوله تعالى: " لو اطلعت عليهم " يا محمد " لوليت منهم فراراً " لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة، حتى لا يصل إليهم واصل، ولا تلمسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب أجله، فيوقظهم الله تعالى من رقدتهم، لإرادة الله عز وجل أن يجعلهم آية وعبرة لمن يشاء من خلقه، ليعلموا أن وعد الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها " ولملئت منهم رعباً " أي خوفاً. وقرأ أهل الكوفة: لملئت بالتشديد، قيل: إنما قال ذلك لوحشة المكان الذي هم فيه. وقال الكلبي وغيره: لأن أعينهم مفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم، وهم نيام. وقيل: إن الله منعهم بالرعب، لئلا يراهم أحد.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه غزا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم، فمروا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف، الذين ذكرهم الله في القرآن فقال معاوية: لو كشفت لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم؟ فقال له ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ليس لك ذلك، قد منع الله ذلك من هو خير منك. قال الله تعالى: " واطلعت عليهم لوليت فراراً ولملئت منهم رعباً " فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم، فبعث ناساً، فقال: اذهبوا فادخلوا الكهف، فانظروا ففعلوا. فلما دخلوا الكهف، بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم.
قوله عز وجل " وكذلك بعثناهم، يعني كما أنمناهم في الكهف، ومنعنا من الوصول إليهم، وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان، وثيابهم من العفن على ممر الأيام بقدرتنا، فكذلك بعثناهم من النومة التي تشبه الموت، " ليتساءلوا بينهم " أي ليتحدثوا ويسأل بعضهم بعضاً، " قال قائل منهم " يعني رئيسهم مكسلمينا: " كم لبستم " في نومكم؟ وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول نومهم. ويقال: إنهم راعهم ما فاتهم من الصلاة! فقال ذلك. " قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، لأنهم دخلوا الكهف غدوة، فلما رأوا الشمس، قالوا: أو بعض يوم، توقياً من الكذب. وكان قد بقيت من الشمس بقية.
ويقال كان بعد زوال الشمس، فلما نظروا إلى أظفارهم وأبشارهم، تيقنوا أن لبثهم كان أكثر من يوم، ف " قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم " ويقال: إن رئيسهم لما سمع الاختلاف بينهم، قال ذلك: " فابعثوا أحدكم " ، يعني تمليخا، " بورقكم هذه إلى المدينة " ، والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة، والدليل عليه أن عرفجة بن سعد أصيب أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفاً من ورق وفيه لغات: بورقكم ساكنة الراء. وهي قراءة أبي عمرو وحمزة وخلف وأبي بكر. وبورقكم بكسر الراء وادغام القاف، وهي قراءة بعض، وبورقكم بفتح الواو وكسرا الراء، وهي قراءة أكثر القراء.
ورق وورق مثل كبد وكبد وكلم وكلم، والمدينة أفسوس، وقيل: طرسوس، ويقال: أرسوس كان اسمها في الجاهلية أفسوس، فلما جاء الإسلام سموها طرسوس. فلينظر أيها أزكى طعاماً.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه: أحل ذبيحة لأن عامتهم كانوا مجوساً، ومنهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم. وقال الضحاك: أطيب. وقال مقاتل وابن حيان: أجود، وقال ابن شهاب: أرخص. وقال قتادة: أخير. وقال عكرمة: أفضل، وأكثر. وأصل الزكاة: الزيات والنماء. قال الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة ... كذا السغ أزكى من ثلاث وأطيب
" فليأتيكم برزق منه " أي قوت وطعام، " وليتلطف " أي وليرفق في الشراء، وفي طريقه وفي دخوله المدينة، " ولا يشعرن " ولا يعلمن " بكم أحداً " من الناس " إنهم إن يظهروا عليكم فيعلموا بمكانكم يرجموكم " قال ابن جريج: يشتموكم ويؤذوكم بالقول. ويقال: يقتلوكم ويقال: كان من عادتهم القتل بالرجم، وهو من أخبث القتل. ويقال: يضربوكم أو يعيدوكم في ملتهم أي دينهم الكفر، ولن تفلحوا إذا أبداً إن عدتم إليهم.
قوله عز وجل: " وكذلك أعثرنا عليهم " أي اطلعنا عليهم، يقال: عثرت على الشيء: اطلعت عليه، وأعثرت غيري وأطلعته عليه " ليعلموا أن وعد الله حق " يعني قوم تاودوسيوس، " وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم " قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يتنازعون في البنيان والمسجد، فقال المسلمون: نبني عليهم مسجداً، لأنهم على ديننا، وقال المشركون: نبني عليهم بنياناً لأنهم من أهل نسبنا. وقال عكرمة: يتنازعون في الأرواح والأجساد.
فقال المسلمون: البعث للأجساد والأرواح، وقال المشركون: البعث للأرواح دون الأجساد. فبعثهم الله تعالى من رقادهم، وأراهم أن البعث للأجساد والأرواح. وقيل: يتنازعون في عددهم " فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم، قال الذين غلبوا على أمرهم " ، تاودوسيوس الملك وأصحابه " لنتخذن عليهم مسجداً " .
قوله عز وجل: " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، وذلك أن السيد والعاقب وأصحابهما، من نصارى نجران، كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أهل الكهف، فقال السيد: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، وكان السيد يعقوبياً، وقال العاقب: كانوا خمسة سادسهم كلبهم، وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. فحقق الله قول المسلمين وصدقهم بعدما حكى قول النصارى فقال: " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب " أي قذفاً بالظن من غير يقين كقول الشاعر:
وأجعل قول الحق قولا مرجما
" ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم " قال بعضهم: هذه واو الثمانية، وذلك أن العرب تقول واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية لأن العقد عندهم كان سبعة، كما هو اليوم عندنا عشرة. ونظيره قوله تعالى: " التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وقوله تعالى لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: " ثيبات وأبكارا " وقال بعضهم: هذه واو الحكم والتحقيق، فإن الله حكى اختلافهم فتم الكلام عند قوله " ويقولون سبعة " ثم حكى أن ثامنهم كلبهم، الثامن لا يكون إلا بعد السبع. فهذا تحقيق قول المسلمين.
" قل رب أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل " قال مجاهد وقتادة: قليل من الناس، وقال عطاء وقتادة أيضاً: يعني بالقليل أهل الكتاب. وقال ابن عباس، في قوله: " ما يعلمهم إلا قليل " قال: أنا من أولئك القليل، وهم مكسلمينا وتمليخا ومرطونس وبنيونس وساربونس ودوانوانس وكندسلططنوس، وهو الراعي. والكلب اسمه قطمير كلب أنمر فوق القلطي، ودون الكردي. والقلطي كلب صيني.
قال محمد بن المسيب: وما بقي بنيسابور محدث إلا كتب عني هذا الحديث، إلا من لم يقدر له. وكتبه علي أبو عمر والجبري زاد الإمام أبو الحسن في روايته فقال: قلت: وصدق ابن المسيب. فقد رأيت في تفسير أبي عمرو الجبري هذا الحديث، مروياً عن ابن المسيب، ثم قال: أعني الإمام أبا الحسن بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: إن الله عز وجل عدهم حتى انتهى إلى السبعة، وأنا من القليل الذين يعلمونهم هم سبعة يعني أصحاب الكهف.
قال الثعلبي: قوله تعالى: " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً " وهو ما نص عليه، في كتابه العزيز من خبرهم، يقول تعالى: حسبك ما قصصت عليك فلا تمار فيهم " ولا تستفت فيهم منهم أحداً " من أهل الكتاب. وقوله تعالى: " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يعني إن عزمت على أن تفعل غداً شيئاً، أو تحلف على شيء أنت فاعله غداً، فقل: إن شاء الله، فإن نسيت الاستثناء، ثم ذكرته فقله، ولو بعد سنة، وهذا تأديب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حين سئل عن المسائل الثلاثة: أهل الكهف والروح وذي القرنين، فوعدهم أن يجيبهم غداً، ولم يقل إن شاء الله ولم يستثن.
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتم إيمان العبد حتى يستثني في كل كلامه " .
قوله عز وجل " واذكر ربك إذا نسيت " قال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والحسن رضي الله تعالى عنهم: معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرته فاستثن. وقال عكرمة رضي الله تعالى عنه: معناه واذكر ربك إذا غضبت. فقد روى وهب بن منبه، قال: مكتوب في الإنجيل: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب، أذكرك حين أغضب، وإلا أمحقك فيمن أمحق. وإذا ظلمت فلا تنتصر، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. وقال الضحاك والسدي: هذا في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: " من نسي صلاة أو نام عنها، فليصلها متى ذكرها " . وقال أهل الإشارة: معناه اذكر ربك، إذا نسيت غيره. ويؤيده قول ذي النون المصري رحمه الله تعالى: من ذكر الله على الحقيقة نسي في جنب ذكره كل شيء، فإذا نسي في جنب ذكره كل شيء، حفظ الله له كل شيء، وكان له عوضاً من كل شيء. وقيل: معناه واذكر ربك، إذا تركت ذكره والنسيان هو الترك.
قوله عز وجل " وقل عسى أن يهديني رب لأقرب من هذا رشداً " أي يثبتني على طريق هو أقرب إليه وأرشد. وقيل: معناه لعل الله يهديني فيرشحني لأقرب مما وعدتكم وأخبرتكم، أنه سيكون إن هو شاء. وقيل: إن الله أمره أن يذكره إذا نسي شيئاً، ويسأله أن يذكره فيذكره ويهديه، لما هو خير له من تذكره ما نسيه.
ويقال: إن هؤلاء القوم، لما سألوه عن قصة أصحاب أهل الكهف، على وجه العناد، أمره الله أن يخبرهم أن الله سيؤتيه من الحجج والبيان على صحة نبوته، وما دعاهم إليه من الحق زيادة على ما سألوه، ثم إن الله تعالى فعل ذلك به حيث آتاه من علم غيوب المسلمين، وخبرهم ما كان أوضح الحجج، وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وقال بعضهم: هذا شيء أمر صلى الله عليه وسلم أن يقوله مع قوله: إن شاء الله إذا ذكر الاستثناء بعد ما نسيه، فإذا نسي الإنسان " إن شاء الله " فتوبته من ذلك وكفارته أن يقول: عسى أن يهديني رب لأقرب من هذا رشداً.
وقوله تعالى: " ولبثوا " يعني أصحاب الكهف، " في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً " قال بعضهم: هذا خبر عن أهل الكتاب أنهم قالوا ذلك، وقالوا: لو كان خبراً من الله عن قدر لبثهم في الكهف، لم يكن لقوله " قل الله أعلم بما لبثوا " وجه مفهوم، فقد أعلم الله خلقه قدر لبثهم. وهذا القول قول قتادة، يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود: فقالوا لبثوا في كهفهم. وقال مطر الوراق في هذه الآية: هذا شيء قالته اليهود، فرد الله عليهم، فقال: " قل الله أعلم بما لبثوا " .
وقال آخرون: هذا إخبار من الله تعالى عن قدر لبثهم في الكهف، وقالوا: معنى قوله تعالى: " قل الله أعلم بما لبثوا " أن أهل الكتاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين، فرد الله عليهم ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: " الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلم ذلك غير الله وغير من أعلمه ذلك " . وقال الكلبي: قالت النصارى، أهل نجران: أما الثلاثمائة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها. فنزلت " قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض " أي يعلم ما غاب فيهما من العباد.
واختلفوا في قوله عز وجل: " ثلاثمائة سنين " فقرأ أهل الكوفة بغير تنوين، بمعنى فلبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة. وقال الضحاك ومقاتل: نزلت " ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة " فقالوا: أياماً أو أشهراً أو سنين. فلذلك قال: سنين. ولم يقل سنة انتهى. ما ساقه الإمام أبو إسحاق محمد بن أحمد الثعلبي، من قصة أصحاب الكهف، وقد ذكرها الحافظ أبو محمد بن جرير بن يزيد الطبري في تاريخه الكبير، وفيها زيادة فوائد فلنأت بها.
قال: ومما كان في أيام ملوك الطوائف ما ذكره الله تعالى في كتابة العزيز من أمر الفتية، الذين أووا إلى الكهف فضرب على آذانهم، قال: وكان أصحاب الكهف فتية آمنوا بربهم، كما وصفهم الله في تنزيله، فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً " والرقيم هو الكتاب الذي كان القوم الذين منهم، كان الفتية كتبوه في لوح بذكر خبرهم وقصصهم، ثم جعلوه على باب الكهف الذي أووا إليه، أو نقروه في الجبل الذي أووا إليه، أو كتبوه في لوح وجعلوه في صندوق خلفوه عندهم، إذا أوى الفتية إلى الكهف.
وكان عدد الفتية فيما ذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سبعة وثامنهم كلبهم. قال قتادة: ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: أنا من ذلك القليل الذي استثنى الله عز وجل كانوا " سبعة وثامنهم كلبهم " وكان اسم أحدهم تمليخا وهو الذي كان يلي شراء الطعام لهم الذي ذكر الله عز وجل عنهم أنهم قالوا. إذ هبوا من رقدتهم: " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه " قال مجاهد في قوله تعالى " فابعثوا أحدكم بورقكم " اسمه تمليخ.
وأما ابن إسحاق، فإنه قال: اسمه يمليخا. وكان ابن إسحاق يقول: عدد الفتية ثمانية فعلى قوله كان تاسعهم كلبهم. وإنه كان يسميهم فيقول: كان أحدهم، وهو أكبرهم، والذي كلم الملك عن سائرهم مكسلمينا، والآخر مجسلمينا، والثالث يمليخا، والرابع مرطوس، والخامس كفشطيوس، والسادس ينيونس، والسابع ميموس، والثامن بطنيوس، والتاسع طالوس، وكانوا أحداثاً.
وعن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانهم وضح الورق، وكانوا من قوم يعبدون الأوثان من الروم فهداهم الله للإسلام، وكانت شريعتهم شريعة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، في قول جماعة من سلف علمائنا.
وعن عمرو يعني بن قيس الملائي، في قوله تعالى: " إن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً " قال: كانت الفتية على دين عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وكان ملكهم كافراً، وكان بعضهم يزعم أن أمرهم ومصيرهم إلى الكهف، كان قبل المسيح، وأن المسيح أخبر قومه خبرهم وأن الله عز وجل بعثهم من رقدتهم، بعدما رفع المسيح عليه السلام في الفترة التي بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم، والله أعلم، أي ذلك كان.
فأما الذي عليه علماء الإسلام، فعلى أن أمرهم كان بعد المسيح. وأما أنه كان في أيام ملوك الطوائف، فإن ذلك لا يرفعه رافع من أهل العلم بأخبار الناس القديمة، وكان لهم في ذلك الزمن ملك يقال له دقيانوس، يعبد الأصنام فيما ذكر، فبلغه عن الفتية خلافهم إياه في دينه، فطلبهم فهربوا منه بدينهم، حتى صاروا إلى جبل لهم، يقال له منحلوس.
وكان سبب إيمانهم وخلافهم لقومهم ما ذكر عن وهب بن منبه، أنه قال: جاء حواري عيسى ابن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنماً لا يدخل أحد إلا سجد له، فكره أن يدخلها. فأتى حماماً كان قريباً من تلك المدينة، فكان يعمل، فيه يؤاجر نفسه من صاحب الحمام، فرأى الرجل في حمامه البركة ودر عليه الرزق، فجعل يعرض عليه الإسلام، وجعل يسترسل إليه، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض، وخبر الآخرة حتى آمنوا بما يقوله وصدقوة، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة، وكان يشترط على صاحب الحمام، أن الليل لا يحول بيني وبينه أحد، ولا بين الصلاة إذا حضرت، فكان على ذلك، حتى جاء ابن الملك بامرأة، فدخل بها الحمام، فعيره الحواري، وقال له: أنت ابن الملك وتدخل معك هذه التي هي كذا وكذا. فاستحيا وذهب، فرجع مرة أخرى، فقال له مثل ذلك، فسبه وانتهره ولم يلتفت إليه حتى دخل، ودخلت معه المرأة فماتا في الحمام جميعاً.
فأتى الملك، فقيل له: إن صاحب الحمام قد قتل ابنك فالتمس فلم يقدر عليه، وهرب كل من كان يصحبه، فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم في زرع، وهو على مثل أمرهم، فذكروا له أنهم التمسوا، فانطلق معهم ومعه الكلب حتى آواهم الليل إلى الكهف، فدخلوا وقالوا: نبيت هاهنا الليلة، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم. فضرب على آذانهم فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم، حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد رجل أن يدخل الكهف أرعب، فلم يطق أحد أن يدخله فقال قائل: أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى. قال: فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتون عطشاً وجوعاً. ففعل فغبر بعد ما بنى عليهم باب الكهف، زمان بعد زمان.
ثم إن راعياً أدركه المطر عند الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتح، فأدخل فيه غنمه، ورد الله تعالى إليهم أرواحهم في أجساد من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورق يشتري لهم طعاماً، فلما أتى باب مدينتهم لم ير شيئاً ينكره، حتى دخل على رجل فقال له: بعني بهذه الدراهم طعاماً، فقال: ومن أين لك هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس فآوانا الليل حتى أصبحوا، فأرسلوني. فقال: هذه الدراهم كانت على عهد الملك فلان، فأنى لك بها؟ فرفعه إلى الملك، وكان ملكاً صالحاً، فقال: من أين لك هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا فلما أصبحوا أمروني أن أشتري لهم طعاماً. قال: وأين أصحابك؟ قال: في الكهف فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف، فقال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم، فلما رأوه ودنا منهم، ضرب الله على آذانه وآذانهم، فجعلوا كلما دخل رجل أرعب، فلم يقدروا أن يدخلوا إليهم. فبنوا عنده كنيسة واتخذوها مسجداً يصلون فيه.
وعن قتادة عن عكرمة قال: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، رزقهم الله الإسلام فتعوذوا بدينهم واغتالوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف، فضرب الله على صماخهم فلبثوا دهراً طويلاً حتى هلكت أمتهم، وجاءت أمة مسلمة، وكان ملكهم مسلماً، واختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: تبعث الروح والجسد جميعاً، وقال قائل: تبعث الروح لا غير، فأما الجسد فتأكله الأرض، فلا يكون شيئاً، فشق على ملكهم اختلافهم، فانطلق فلبس المسوح وجلس على الرماد، ثم دعا الله تعالى فقال: أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم ما يبين لهم. فبعث الله أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاماً، فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه، ويعرف الطريق ويرى الإيمان بالمدينة ظاهراً فانطلق وهو مستخف، حتى أتى رجلاً يشتري منه الطعام، فلما نظر الرجل إلى الورق أنكرها. قال: حسبت أنه قال: كأنها أخفاف الربع، يعني الإبل الصغار. فقال الفتى: أليس ملككم فلاناً؟ قال: لا بل ملكنا فلان. فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك، فسأله الملك فأخبره الفتى خبر أصحابه. فبعث الملك في الناس فجمعهم، فقال: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله قد بعث لكم آية، فهذا الرجل من قوم فلان يعني ملكهم الذي مضى، فقال الفتى: انطلقوا معي إلى أصحابي، فلما أبصرهم ضرب على آذانه وآذانهم، فلما استبطؤوه دخل الملك ودخل معه الناس، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئاً غير أنها لا أرواح فيها! فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم.
قال قتادة: وغزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة، فمروا بالكهف فإذا فيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثماثة سنة. وقال وهب والسدي وغيرهما: وأسماؤهم مكسلمينا وهو أكبرهم ورئيسهم، وأمليخا وهو أجملهم وأعبدهم وأنشطهم، ومرطونس، ويوناس، وساربنوس، وبطنيوس وكندسلططنوس، وكلبهم قطمير يكتب ذلك للنوم ولبكاء الأطفال.
ومما يكتب لنوم الصبيان وبكائهم: أعوذ بكلمات الله التامات التي نام بها أصحاب الكهف والرقيم، الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، اللهم الق النوم والسكينة على حامل هذا الكتاب، بألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فائدة أخرى: وقد تقدمت قبل ذلك، وهي عن عمرو بن دينار أنه قال: مما أخذ على العقرب أن لا تضر أحداً في ليل أو نهار أن يصلي على نوح صلى الله عليه وسلم. ومما أخذ على الكلب، أن لا يضر أحداً حمل عليه في ليل أو نهار، إذ قرأ " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " ، إلى هنا انتهى ما تقدم.
وقال القرطبي في كتاب التذكار في أفضل الأذكار: بلغنا عمن تقدم أن في سورة الرحمن آية تقرأ على الكلب إذا حمل على الإنسان، وهي قوله تعالى: " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " فإنه لا يؤذيه بإذن الله تعالى. وفي تاريخ الإسلام للذهبي في سنة ثلاثمائة أن ممشاد الدينوري رحمه الله تعالى، خرج من داره فنبحه كلب، فقال: لا إله إلا الله فمات الكلب مكانه.
الحكم: يحرم أكل الكلاب بجميع أنواعها إلا ابن آوى، فإنه من جنس الكلاب وفيه خلاف سبق في باب الهمزة. وروى ابن عبد البر، في التمهيد، عن الشعبي، أنه سئل عن رجل يتداوى بلحم الكلاب! فقال: لا شفاه الله. وعلى مقتني الكلب المباح اقتناؤه، أن يطعمه أو يرسله، أو يدفعه لمن يريد الانتفاع به، ولا يحل حبسه ليهلك جوعاً.
فرع: لو كان لإنسان كلب محترم مضطر، ومع غيره شاة، جاز له مكالبته عليها لإطعامه ويضمنها له.
فرع: لو عض كلب كلب شاة فكلبت نحرت، ولا يؤكل لحمها. قال أبو حيان التوحيدي من أصحابنا في كتاب الإمتاع: إذا كلب الجمل نحر، ولا يؤكل لحمه انتهى. والظاهر أن ذلك خشية الإيذاء.
فرع: لو غصب نجاسة تنفع ككلب معلم، وجلد ميتة وسرجين، فهل له كسر بابه ونقب جداره، إذا لم يصل إليها إلا بذلك؟ الظاهر أنه يجوز له ذلك، كالمال لأنها حق، ويجوز الدفع عنها كالمال والله أعلم.
تنبيه: الكلاب كلها نجسة المعلمة وغيرها الصغير والكبير وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيدة ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره، ولا بين كلب البدوي والحضري لعموم الأدلة.
وفي مذهب مالك رحمه الله تعالى أربعة أقوال: طهارته، ونجاسته، وطهارة سؤر المأذون في اتخاذه دون غيره، وهذه الثلاثة عن مالك. والرابع عن عبد الملك بن الماجشون أنه يفرق بين البدوي والحضري، وقال الزهري ومالك وداود: إنه طاهر وإنما يغسل الإناء من ولوغه تعبداً ويحكى هذا عن الحسن البصري وعروة بن الزبير، محتجين بقوله تعالى: " فكلوا مما أمسكن عليكم " ولم يذكر غسل موضع إمساكها.
وبحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: كانت الكلاب تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبول، فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك ذكره البخاري في صحيحه. واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة رضية الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات، إحداهن بالتراب " . قالوا: ولو لم يكن نجساً لما أمر بإراقته لأنه حينئذ يكون اتلاف مال. وأما حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقال البيهقي: أجمع المسلمون على أن بول الكلاب نجس، وعلى وجوب الرش من بول الصبي، والكلب أولى. فكان حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قبل الأمر بالغسل من ولوغ الكلب، أو أن بولها خفي مكانه فمن تيقنه لزمه غسله.
فرع: اختلف الأصحاب في موضع عض الكلب من الصيد، والأصح أنه لا يعفى عنه، كما لو أصاب ثوباً أو إناء، فلا بد من غسله وتعفيره. والثاني يعفى عنه، والثالث يكفي غسله بالماء مرة، والرابع أنه طاهر، والخامس يجب تقويره، والسادس إن أصاب عرقاً نضاخاً بالدم حرم أكله، والنضاخ الفوار. قال الله عز وجل: " أفيهما عينان نضاختان " ، وأحكام التتريب وشروطه مبسوطة في كتب الفقه.
روى مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود " . قيل لأبي ذر رضي الله تعالى عنه: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما سألتني، فقال: " الكلب الأسود شيطان " . فحمله بعض العلماء على ظاهره، وقال: الشيطان يتصور بصورة الكلب الأسود. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " اقتلوا منها كل أسود بهيم " . وقيل: لما كان الكلب الأسود أشد ضرراً من غيره وأشد ترويعاً، كان المصلي إذا رآه اشتغل عن صلاته، فانقطعت عليه لذلك. ولذلك تأول الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم " يقطع الصلاة المرأة والحمار " بأن ذلك مبالغة الخوف على قطعها وإفسادها من الشغل بهذه المذكورات. وذلك لأن المرأة تفتن، والحمار ينهق، والكلب الأسود يروع ويشوش الفكر، فلما كانت هذه الأمور، آيلة إلى القطع، جعلها قاطعة. وذهب ابن عباس وعطاء رضي الله تعالى عنهم، إلى أن المرأة التي تقطع الصلاة، إنما هي الحائض لما تستصحبه من النجاسة. واحتج أحمد رحمه الله بحديث الكلب الأسود على أنه لا يجوز صيده ولا يحل، لأنه شيطان. واختاره أبو بكر الصيرفي من أصحابنا. وقال الشافعي رحمه الله ومالك وأبو حنيفة وجماهير العلماء رحمة الله تعالى عليهم: يحل صيده كغيره. وليس المراد بالحديث، إخراجه عن جنس الكلاب، ولهذا إذا ولغ في إناء أو غيره وجب غسله وتعفيره كولوغ الكلب الأبيض.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال : " ما بالهم وبال الكلاب " . ثم رخص صلى الله عليه وسلم في كلب الصيد وكلب الغنم. فحمل الأصحاب الأمر بقتلها على الكلب الكلب والكلب العقور، واختلفوا في قتل ما لا ضرر فيه منها. فقال القاضي حسين وإمام الحرمين والماوردي، في باب بيع الكلاب، والنووي في أول البيع، من شرحي المهذب ومسلم: لا يجوز قتلها. وقال في باب المحرمات الإحرام: إنه الأصح، وإن الأمر بقتلها منسوخ. وعلى الكراهة اقتصر الرافعي في الشرح وتبعه في الروضة وزاد أنها كراهة تنزيه لا تحريم.
لكن، قال الشافعي في الأم، في باب الخلاف، في ثمن الكلاب: واقتلوا الكلاب التي لا نفع فيها حيث وجدتموها، وهذا هو الراجح في المهمات ولا يجوز اقتناء الكلب الذي لا منفعه فيه. وذلك لما في اقتنائها من مفاسد الترويع والعقر للمار. ولعل ذلك لمجانبة الملائكة لمحلها، ومجانبة الملائكة أمر شديد لما في مخالطتهم من الإلهام إلى الخير والدعاء إليه.
واختلف الأصحاب في جواز اتخاذ الكلب لحفظ الدرب والدور على وجهين: أصحهما الجواز، واتفقوا على جواز اتخاذه للزراعة والماشية والصيد، لكن يحرم اقتناء كلب الماشية قبل شرائها، وكذلك كلب الزرع والصيد لمن لا يزرع ولا يصيد، فلو خالف واقتنى نقص من أجره كل يوم قيرطان. وفي رواية: قيراط، وكلاهما في الصحيح .
وحمل ذلك على نوع من الكلاب، إذ بعضها أشد أذى من بعض أو لمعنى فيها، أو يكون ذلك مختلفاً باختلاف المواضع، فيكون القيراطان في المدائن ونحوها، والقيراط في البوادي أو يكون ذلك في زمنين. فذكر القيراط أولاً ثم زاد في التغليظ، فذكر القراطين. والمراد بالقيراط مقدار معلوم عند الله عز وجل ينقص من أجر عمله. واختلفوا في المراد بما نقص منه. فقيل: مما مضى من عمله، وقيل: من مستقبله، وقيل: قيراط من عمل الليل، وقيراط من عمل النهار، وقيل: قيراط من عمل الفرض، وقيراط من عمل النفل.
وأول من اتخذ الكلب للحراسة نوح عليه السلام، روى القاسم بن سلمة، بإسناده عن علقمة عن عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: أول من اتخذ الكلب للحراسة نوح عليه السلام، وذلك أنه قال: يا رب أمرتني أن أصنع الفلك وأنا في صناعته أصنع أياماً، فيجيئون في الليل فيفسدون كل ما عملت، فمتى يلتئم لي ما أمرتني به فقد طال علي أمدي. فأوحى الله إليه: يا نوح اتخذ كلبا يحرسك، فاتخذ نوح عليه السلام كلباً، وكان يعمل بالنهار وينام بالليل. فإذا جاء قومه ليفسدوا بالليل عمله نبحهم الكلب فينتبه نوح عليه السلام فيأخذ الهراوة ويثب لهم فيهربون منه. فالتأم له ما أراد.
قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح، في مناسكه في قوله صلى الله عليه وسلم " لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس " : فإن وقع ذلك من جهة غيره، ولم يستطع إزالته فليقل: اللهم إني أبرأ إليك مما فعله هؤلاء، فلا تحرمني ثمرة صحبة ملائكتك وبركتهم ومعونتهم أجمعين. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة " . فقال العلماء: سبب امتناعهم من البيت الذي فيه صورة، كونها معصية فاحشة، وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى، وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله تعالى وسبب امتناعهم من البيت الذي فيه الكلب كثرة أكله النجاسات، ولأن بعض الكلاب يسمى شيطاناً. كما جاء في الحديث والملائكة ضد الشياطين، ولقبح رائحة الكلب، والملائكة تكره الرائحة الخبيثة، ولأنها منهي عن اتخاذها فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته، وصلاتها فيه، واستغفارها له، وتبركها عليه في بيته، ودفعها أذى الشياطين.
والملائكة الذين لا يدخلون بيتاً فيه كلب ولا صورة هم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبرك والاستغفار، وأما الحفظة والموكلون بقبض الأرواح فيدخلون في كل بيت، ولا تفارق الحفظة بني آدم في حال من الأحوال، لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم وكتابتها.
قال الخطابي: وإنما لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة، مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور، فأما ما ليس اقتناؤه بحرام من كلب الصيد، والزرع والماشية، والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما، فلا يمتنع دخو الملائكة بسببه. وأشار القاضي إلى نحو ما قال الخطابي، قال النووي: والأظهر أنه عام في كل كلب وكل صورة، وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث. ولأن الجرو الذي كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت السرير، كان له فيه عذر ظاهر، فإنه لم يعلم به ومن هذا امتنع جبريل عليه السلام من دخول البيت بسببه، فلو كان العذر في وجود الكلب والصورة لا يمنعهم لم يمتنع جبريل عليه السلام.
قال الجاحظ: روي أن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ذهبوا إلى بيت رجل من الأنصار ليعودوه في مرض، فهرت في وجوههم كلاب من دار الأنصاري، فقال الصحابة: لا تدع هؤلاء من أجر فلان شيئاً، كل كلب من هؤلاء ينقص من أجره كل يوم قيراطاً. فدل هذا على أن القيراط بتعدد بتعدد الكلاب، وقد سئل الشيخ الإمام تقي الدين السبكي عن ذلك فأجاب بأنه لا يتعدد كما لو ولغت الكلاب في الإناء، فإن الأصح عدم تعدد الغسلات، وقد قالوا بتعدد القيراط إذا صلى على جنائر دفعة واحدة.
وقال الغزالي في منكرات الشرع من الإحياء: من كان له كلب عقور على باب داره، يؤذي الناس يجب منعه منه، وإن كان لا يؤذي إلا بتنجيس الطريق وكان يمكن الاحتراز عن نجاسته لم يمنع منه، وإن كان يضيق الطريق ببسط ذراعيه فيمنع منه، بل يمنع صاحبه أن ينام على الطريق، أو يقعد قعوداً يضيق الطريق، فكلبه أولى بالمنع. ولا يصح بيع جميع الكلاب عندنا، خلافاً لمالك، فإنه أباح بيعها، حتى قال سحنون: ويحج بثمنها. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع غير العقور. والأصح عدم صحة إجارة الكلاب المعلمة، لأن اقتناءها لهذه المنافع إنما جوز لأجل الحاجة، وما جوز للحاجة لا يجوز أخذ العوض عليه، ولأنه لا قيمة لعينه، فكذلك منفعته. وقال صاحب التلخيص: لا تجوز لأنها منفعة مقصودة، واختاره الروياني وابن أبي عصرون، وبناهما الماوردي على اختلاف أصحابنا في أن منفعة الكلب، هل هي مملوكة أو مستباحة؟ وفيها وجهان: فعلى الأول يجوز إجارته، وعلى الثاني لا.
ومن أحكامه: أن من كان في داره كلب عقور فاستدعى إنساناً فعقره وجب عليه ضمانه على الأصح في تصحيح النووي. وقيل: لا قطعاً، وهو المجزوم به في أصل الروضة، لأن للكلب اختياراً، ويمكن دفعه بعصا وغيرها، هذا إذا لم يعلم الداخل أنه عقور، فإن علم ذلك فلا ضمان جزماً، وكذلك لو كان مربوطاً فسار إليه المستدعي جاهلاً بحاله، فلا ضمان أيضاً، ومن له كلب عقور ولم يحفظه فقتل إنساناً في ليل أو نهار، ضمنه لتفريطه. وفي معناه الهرة المملوكة التي تأكل الطيور كما سيأتي، إن شاء الله تعالى في باب الهاء. وقيل: لا ضمان فيها لأن العادة لم تجر بربطها.
فرع: لو سرق قلادة من عنق كلب، أو سرقها مع الكلب، قطع وحرز الكلب كحرز الدواب. إذا وقع في الغنيمة كلب ينتفع به للاصطياد، أو الماشية والزرع. حكى الإمام عن العراقيين أن للإمام أن يسلمه إلى واحد من المسلمين، لعلمه بحاجته إليه، ولا يحسب عليه، واعترض بأن الكلب منتفع به، فليكن حق اليد فيه لجميعهم كما لو مات وله كلب لا يستبد به بعض الورثة. الموجود في كتاب العراقيين، انه إن أراده بعض الغانمين أو أهل الخمس، ولم ينازعه غيره سلم إليه، وإن تنازعوا فإن وجدنا كلاباً وأمكنت القسمة عمداً قسم، وإلا أقرع بينهم. وهذا هو المذهب، وهاهنا المعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة ويعتبر منافعها، كما في الوصية من الروضة.
تتمة: قوله تعالى: " تعلمونهن مما علمكم الله " ، أي من العلم الني كان علمكم الله دل على أن للعالم فضيلة ليست للجاهل، لأن الكلب إذا علم تحصل له فضيلة على غير المعلم، والإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على غيره كالجاهل، لاسيما إذا عمل بما علم. كما قال علي رضي الله تعالى عنه: لكل شيء قيمة، وقيمة المرء ما يحسنه. وقال لقمان لابنه، واسمه ثاران: وقيل: أنعم يا بني لكل قوم كلب، فلا تكن كلب قومك. وروى الإمام أحمد، في مسنده، والبزار والطبراني، من حديث عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ضاف رجل رجلاً من بني إسرائيل، وفي داره كلبة مجح، فقالت الكلبة: لا والله لا أنبح ضيف أهلي! قال: فعوت جراؤها في بطنها فقيل: ما هذا؟ فأوحى الله إلى رجل منهم: هذا مثل أمة تكون من بعد يقهر سفاؤها حلماءها " . والمجح بالجيم المكسورة قبل الحاء المهملة. قيل: هي الحامل التي قرب ولادتها.
وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بامرأة مجح على باب فسطاط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لعله يريد أن يلم بها " . فقالوا: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن ألعنه لعناً يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له " .
الأمثال: قال الله تعالى: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين لو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " ، قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما رضي الله تعالى عنهم أجمعين: هو رجل من الكنعانيين الجبارين اسمه بلعم بن باعوراء، وقيل بلعام بن باعر، وقال عطية عن ابن عباس: أصله من بني إسرائيل ولكنه كان مع الجبارين.
وقال مقاتل: هو من مدينة بلقاء، وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس والسدي وغيرهما أن موسى صلى الله عليه وسلم لما قصد حرب الجبارين، ونزل أرض كنعان من أرض الشام، أتي قوم بلعم وكانوا كفاراً، وكان بلعم عنده اسم الله الأعظم، وكان مجاب الدعوة، فقالوا له: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه قد جاء ليخرجنا من بلادنا، ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج وادع الله أن يردهم عنا.
فقال: ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم؟ وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي ؟ فراجعوه وألحوا عليه، فقال: حتى أؤامر ربي وكان لا يدعو بشيء، حتى ينظر ما يؤمر به في المنام، فوامر بالدعاء عليهم، فقيل له في المنام: لا تدع عليهم. فقال لهم: إني قد آمرت ربي وإني نهيت. فأهدوا له هدية فقبلها، ثم راجعوه فقال: حتى أؤمر ربي فآمره، فلم يجز إليه بشيء. فقال: قد وأمرت فلم يجز إلي بشيء. فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم، لنهاك كما نهاك المرة الأولى، فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن، وأتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلع منه على عسكر بني إسرائيل، يقال له حسان، فما سار عليها غير كثير حتى ربضت به فنزل عنها، وضربها حتى إذا أذلقها الضرب، قامت فركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت، ففعل بها مثل ذلك، فقامت فركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت، فضربها حتى أذلقها، فأذن الله تعالى لها بالكلام، فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب ألا ترى الملائكة أمامي يردوني عن وجهي هذا أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين، تدعو عليهم؟ فلم ينزع فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا أشرفت على جبل حسان، جعل يدعو عليهم بالاسم الأعظم الذي كان عنده، فاستجيب له ووقع موسى عليه السلام وبنو إسرائيل في التيه.
فقال موسى: يا رب بأي ذنب أوقعتنا في التيه. قال تعالى: بدعاء بلعام. قال موسى عليه السلام: يا رب فكما سمعت دعاءه علينا فاسمع دعائي عليه. فدعا موسى عليه أن ينزع الله تعالى منه الاسم الأعظم. فنزع الله منه المعرفة وسلخه منها، فخرجت من صدره كحمامة بيضاء. قاله مقاتل.
وقال ابن عباس والسدي: لما دعا بلعام على موسى وقومه، قلب الله لسانه، فجعل لا يدعو عليهم بشيء من الشر إلا صرف الله به لسانه إلى قومه، ولا يدعو بشيء من الخير، إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: يا بلعم أتدري ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وعلينا! فقال: هذا ما أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه، فنسي الاسم الأعظم واندلع لسانه على صدره. فقال لهم: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال عليهم، جملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبتعنها فيه، ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى واحد منهم كفيتموهم. ففعلوا.
فلما أتى النساء العسكر، مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستى بنت صور برجل من عظماء بني إسرائيل، يقال له زمري بن شلوم، رأس سبط شمعون بن يعقوب، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثم أقبل بها حتى وقف على موسى عليه السلام، فقال: إني أظنك ستقول هذا حرام علي! فقال مو!ى: أجل هي حرام عليك لا تقربنها. قال: فوالله لا أطيعك في هذا، ثم دخل بها قبة، فوقع عليها، فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت.
وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى عليه السلام، وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق، وقوة في البطش وكان غائباً، حين صنع زمري بن شلوم ما صنع، فجاء الطاعون يجوس بني إسرائيل، فأخبر الخبر فأخذ حربته، وكانت من حديد كلها، ثم دخل عليهما القبة، وهما متضاجعان، فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى الحيية وكان بكر العيزار، فجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، فرفع الطاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل بالطاعون فيما بين أصاب زمري المرأة إلى أن قتلهما فنحاص، فوجد قد هلك منهم سبعون ألفاً في ساعة من النهار. فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها: القبة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه وإسناده إياها إلى الحيية، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار. ويقال: إنه لما انتظمهما بالحربة وخرج بهما كانا في الحربة كحالهما في حالة الزنا. فكان ذلك آية.
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن المسيب، وزيد
بن أسلم، أن هذه الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت، وكان قد قرأ التوراة والإنجيل، وكان يعلم أن الله تعالى يرسل رسولا من العرب، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به، وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة، وكان قصد بعض الملوك، فلما رجع مر على قتلى بدر، فسأل عنهم من قتلهم؟ فقيل قتلهم محمد صلى الله عليه وسلم. فقال: لو كان نبياً ما قتل أقرباءه. وسيأتي إن شاء الله تعالى له ذكر في الوعل أيضاً.
وقالت فرقة: إنها نزلت في رجل من بني إسرائيل، كان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها دعوة، فقال: لك منها واحدة فما تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا لها. فكانت كذلك. فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه، فغضب الزوج، ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا قرار، وقد صارت أمنا كلبة نباحة، والناس يعيروننا بها، ادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليه، فدعا الله لها فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات كلها. والقولان الأولان أظهر.
وقال الحسن وابن كيسان: نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، كما يعرفون أبناءهم. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله تعالى لكل من عرض عليه الهدى، فأبى أن يقبله. قال الله تعالى: " ولو شئنا لرفعناه بها " أي وفقناه للعمل بها، فكنا نرفع بذلك منزلته في الدنيا والآخرة. ولكنه أخلد إلى الأرض، أي ركن إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها.
قال الزجاج: خلد وأخلد واحد، وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام. يقال: أخلد فلان بالمكان، إذا أقام به. والأرض هنا عبارة عن الدنيا لأن ما فيها من العقار والرباع كلها أرض وسائر متاعها مستخرج من الأرض. واتبع هواه انقاد إلى ما دعاه إليه الهوى، فعوقب في الدنيا بأنه كان يلهث كما يلهث الكلب، فشبه به صورة وهيئة. قال القتبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال التعب وحال الراحة، وفي حال الري وحال العطش، فضربه الله مثلا لمن كذب بآيات الله. فقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال كالكلب، إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث انتهى.
واللهث تنفس بسرعة، وتحرك أعضاء الفم معه، وامتداد اللسان وخلقة الكلب أنه يلهث على كل حال. قال الواحدي وغيره: وهذه الآية من أشد الآي على ذوي العلم، وذلك أن الله تعالى أخبر أنه آتاه آياته من اسمه الأعظم، والدعوات المستجابة والعلم والحكمة، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا واتباع الهوى تغيير النعمة عليه، والانسلاخ عنها. ومن الذي يسلم من هاتين الحالتين إلا من عصمه الله تعالى! نسأل الله التوفيق والهداية بمنه وكرمه. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه " . وفي رواية: " كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله " .
قال عمر رضي الله تعالى عنه: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه وظننت أن يبيعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " لا تشتره ولو باعكه بدرهم، ولا تعد في صدقتك فإن العائد في صدقته، كالعائد في قيئه " . وقال الجاحظ: لكل جيفة كلب، ولكل قدر طالب، ولكل نحو راغب، ولكل وسخ حامل، ولكل صم جارع، ولكل طعام آكل، ولكل ساقط لاقط، ولكل ثوب لابس، ولكل فرج ناكح انتهى.
وقالت العرب: آلف من كلب وأبصر وأبخل وأطوع وأفحش وألأم وأبول فيجوز أن يراد به البول نفسه ويجوز أن يراد به كثرة الجراء، فإن البول في كلام العرب يكنى به عن الولد. وبذلك عبر ابن سيرين رحمه الله تعالى عليه، رؤيا عبد الملك بن مروان لما رأى أنه بال في محراب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فكتب إليه: إن صدقت رؤياك، فسيقوم من أولادك أربعة في المحراب، ويتقلدون الخلافة بعدك فوليها أربعة خلفاء من صلبه: الوليد وسليمان وهشام ويزيد.
وقالوا: سمن كلبك يأكلك، وهو قريب من قولهم: اتق إساءة من أحسنت إليه، وقالوا: جوع كلبك يتبعك، يضرب في معاشرة اللئام، وقالوا: الكلاب على البقر، برفعها ونصبها، فالنصب على إضمار فعل تقديره خل كلاب الصيد، أودع الكلاب على بقر الوحش لتصطادها، والرفع على الابتداء، وما بعده خبره. ومعنى المثل: إذا أمكنتك الفرصة فاغتنمها. ويقال: معناه خل بين الناس خيرهم وشريرهم، واغتنم أنت طريق السلامة. وقد سئلت عن قول الأخطل:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
فتمسك البول بخلا أو تجود به ... وما تبول لهم إلا بمقدار
والخبز كالعنبر الوردي عندهم ... والقمح سبعون أردباً بدينار
فقلت: هذا عكس قول شاعر الأنصار حيث يقول:
لله در عصابة نادمتهم ... يوماً بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
ومن شعر العتابي رحمه الله تعالى:
طاف الخيال بنا ليلا فحيانا ... أهلا به من ملم زار عجلانا
ما ضر زائرنا المهدى تحيته ... في النوم إذ زارنا لو زار يقظانا
إني أهتدي وسواد الليل معتكر ... على تباعد مسراه ومسرانا
إن الأماني قد خيلن لي سكناً ... ردت تحيته قلبي كما كانا
حتى إذا هو ولى وانتبهت له ... هاجت زيارته شوقاً وأحزانا
وقال علي بن محمد بن نصير في المعنى بيتاً مفرداً:
وكان خيالها يشفي سقاماً ... فضنت بالخيال على الخيال
وقالوا: أشكر من كلب.
حكى محمد بن حرب، قال: دخلت على العتابي فوجدته جالساً على حصير، وبين يديه شراب في إناء، وكلب رابض بالفناء بحياله، يشرب كأساً ويولغه أخرى، فقلت له: ما الذي أردت بما اخترت؟ فقال: أسمع أنه يكف عني أذاه، ويكفيني أذى من سواه، ويشكر قليلي ويحفظ مبيتي ومقيلي، وهو من بين الحيوان خليلي. قال ابن حرب: فتمنيت والله أن أكون كلباً له لأحوز هذا النعت منه.
الخواص: لحمه يعلو شحمه، بخلاف لحم الشاة، فإن شحمها يعلو لحمها، فإذا ارتضعت الشاة من كلبة كان لحمها على صفة لحم الكلاب، وفي ذلك قصة شهيرة لربيعة ومضر وأنمار وإياد، تقدمت في باب الهمزة في الأفعى.
قال السهيلي: وفي الحديث " لا تسبوا ربيعة ومضر، فإنها كانا مؤمنين " . قال: وإنما سمي ربيعة الفرس لأنه أعطي من ميراث أبيه الخيل، وأعطي أخوه الذهب، فسمي مضر الحمراء. ولا تقول العرب إلا ربيعة ومضر ولا يقولون مضر وربيعة أصلا.
ومن خواص الكلب العجيبة، أنه لا يلغ في دم مسلم. قال القاضي عياض، في الشفاء: أفتى فقهاء القيروان وأصحاب سحنون بقتل إبراهيم الفزاري، وكان شاعراً ماهراً متفنناً في كثير من العلوم، وكان يحضر مجلس القاضي أبي العباس بن أبي طالب، طلباً للمناظرة فضبطت عليه أمور منكرة من الاستهزاء بالله تعالى والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقتل ثم صلب منكساً، وأنزل وأحرق بالنار، ولما رفعت خشبته وزالت عنها الأيدي، استدارت وتحولت عن القبلة، وجاء كلب فولغ في دمه. فقال يحيى بن عمر: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: " لا يلغ الكلب في دم مسلم " .