الكتاب : حياة الحيوان الكبرى
المؤلف : الدميري
فائدة: سئل إمام الحرمين هل الباري تعالى في جهة؟ فقال: هو متعال عن ذلك. فقيل له: ما الدليل على ذلك؟ فقال: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تفضلوني على يونس بن متى " . فقيل له ما وجه ذلك؟ فقال: لا أقول حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينه. فقام بها رجلان، فقال: إن يونس بن متى رمى نفسه في البحر فالتقمه الحوت وصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث " ونادى أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حين جلس على الرفرف الأخضر، وانتهى إلى أن سمع صريف الأقلام وناجاه ربه بما ناجاه، وأوحى إليه ما أوحى، بأقرب إلى الله تعالى من يونس بن متى في بطن الحوت في ظلمة البحر انتهى. وسيأتي في باب النون إن شاء الله تعالى جواب ابن عباس رضي الله عنهما عن رسالة ملك الروم، التي سأل فيها معاوية عن القبر الذي سار بصاحبه وروى الحاكم في المستدرك بإسناد فيه يزيد بن البلوي، عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً فإذا في الوادي رجل يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، قال: فأشرفت عليه فإذا رجل طوله ثلثمائة ذراع، فقال: من أنت؟ قلت: أنا أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وأين هو. قلت: هو ذا يسمع منك كلامك. قال: فأته واقرئه مني السلام، وقل له: أخوك الياس يقرئك السلام. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فجاء حتى عانقه وقعدا يتحدثان. فقاد: يا رسوله الله إني إنما آكل في السنة يوماً واحداً، وهذا يوم فطري، فآكل أنا وأنت فنزلت عليهما مائدة من السماء عليها خبز وحوت وكرفس، فأكلا وأطعماني، وصليا العصر ثم ودعه ثم رأيته مر في السحاب نحو السماء. قال الحاكم صحيح الإسناد. قال شيخ الإسلام العلامة شمس الدين الذهبي رحمه الله في الميزان: أما استحيا الحاكم من الله تعالى في تصحيح مثل هذا. وقال في تلخيص المستدرك، بعد قول الحاكم هذا صحيح قلت: بل هو موضوع قبح الله من وضعه، وما كنت أحسب ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى تصحيح هذا اه.
فائدة: قال القشيري: يقال: إن سليمان عليه الصلاة والسلام سأل ربه، سبحانه وتعالى، أن يأذن له أن يضيف يوماً، جميع الحيوانات، فأذن الله تعالى له، فأذن الله تعالى له، فأخذ سليمان في جمع الطعام مدة طويلة، فأرسل الله تعالى له حوتاً واحداً من البحر، فأكل كل ما جمعه سليمان، في تلك المدة الطويلة، ثم استزاده فقال سليمان: لم يبق عندي شيء، ثم قال له: وأنت تأكل كل يوم مثل هذا؟ فقال: رزقي كل يوم ثلاثة أضعاف هذا، ولكن الله لم يطعمني اليوم إلا ما أطعمتي أنت، فليتك لم تضيفني فإني بقيت اليوم جائعاً حيث كنت ضيفك انتهى. وفي هذا إشارة إلى كمال قدرة الله تعالى، وعظيم سلطانه، وسعة خزائنه، إذ مثل سليمان مع سعة ملكة وقوة سلطانه الذي آتاه الله تعالى، عجز أن يشبع مخلوقاً واحداً من مخلوقات الله تعالى. فسبحانه المتكفل بأرزاق خلقه. وهنا دقيقة يجب أن ينتبه لها: وهي أن الشبع والري ليس هو من فعل الطعام والماء، وإنما أجرى الله العادة بخلق الشبع عند أكل الطعام، وخلق الري عند شرب الماء، فالشبع والري خلق الله تعالى. هذا مذهب أهل الحق ولا التفات لمن قال غير ذلك. وحكمه وخواصه وتعبيره: كالسمك وسيأتي في باب السين المهملة إن شاء الله تعالى.
حوت الحيض: قال ابن زهر: قال لي من رآه: إنه دابة عظيمة في البحر تمنع المراكب الكبار عن السير، فإذا أشرف أهل السفينة على العطب، رموا له بخرق الحيض فيهرب، ولا يقربهم فهي معدة معهم لذلك، وهذا الحوت اسمه الفاطوس. وسيأتي في باب الفاء إن شاء الله تعالى. قال: ومن عجيب أمر هذا الحيوان أنه لا يقرب مركباً فيه امرأة حائض.
وحكمه: كعموم السمك ودم الحوت نجس كسائر الدماء، وقيل: طاهر لأنه إذا يبس ابيض بخلاف سائر الدماء، فإنها تسود. كذا نقله القرطبي عن بعض الحنفية.
الخواص: قال الرازي وغيره: إذا سعط المصروع بوزن حبة من مرارته برىء من الصرغ بإذن الله تعالى، وهو مجرب. وكبده إذا جففت وسحقت، وفر منها على الدم السائل قطعه أو على الجرح ألحمه وأبرأه، وإن كان عظيماً. وهو أيضاً مجرب ووسط لحم ظهره، إذ أخذ منه قطعة ولاكها إنسان هيجت الباه وأنعظت.
تذنيب: الحيض في المنام نكاح حرام، فمن رأى أنه حائض فإنه يأتي محرماً. والمرأة إذا رأت أنها حائض، اختلط عليها أمرها، فإن اغتسلت ذهب الهم عنها، وإن رأت امرأة أنها مستحاضة، وهي التي لم ينقطع الدم عنها، فإنها كثيرة الذنوب لا تثبت على توبة، لأن الإثم صار طبعاً لها نسأل الله السلامة. وقيل: إن الرجل إذا رأى أنه حائض فإنه يكذب، وإن رأى امرأته حائضاً نغلق عليه أمره والله تعالى أعلم.
حوت موسى ويوشع عليهما الصلاة والسلام: قال أبو حامد الأندلسي رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة، من نسل الحوت الذي أكل منه موسى وفتاه يوشع عليهما السلام، فأحيا الله نصفه فاتخذ سبيله في البحر سرباً، ونسلها في البحر إلى الآن في ذلك الموضع. وهي سمكة طولها أكثر من ذراع، وعرضها شبر واحد. في جانبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها، ولها عين ونصف رأس من رآها من هذا الجانب استقذرها، وحسب إنها ميتة ونصفها الآخر صحيح، والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة قال ابن عطية: وأنا رأيتها كذلك قال: ومن غريب ما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصص هذه الآية إن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هنالك تدعى عين الحياة ما مست ميتاً قط إلا وحيي. وقال الكلبي توضأ يوشع بن نون من عين الحياة، فنضح على الحوت المالح وهو في المكتل من ذلك الماء فعاش الحوت، فجعل يضرب بذنبه ولا يضرب بذنبه شيئاً من الماء وهو ذاهب إلا يبس. قال: ومن غريبه أيضاً أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد طريقاً يبساً، وإن موسى مشى عليه متبعاً للحوت حتى أفضى به ذلك الطريق إلى جزيرة في البحر وفيها وجد الخضر.
إشارة: كانت هذه القطرة مباركة فأحيا الله تعالى بها الميت، لأنها قطرة من وجه متوضىء وللعبادات تأثيرات، فحياة القلب من ميراث العمل. كان موسى ويوشع في تعب ومشقة فلما حيي الحوت وجدا السبيل إلى مطلبها. فكذا الجوارح والأعضاء في خوف وحيرة حتى تحيا القلوب بذكر الله تعالى، فإذا حمي القلب بالذكر أمنت الأعضاء وسكنت، واعلم أن موسى عليه السلام، جد في طلب الخضر حتى وجده. وكذلك يستحب لكل طالب فائدة دينية أو دنيوية أن يكون كراراً غير فرار. فإما الظفر والغنيمة، وإما القتل والشهادة، كما اتفق للحسين الحلاج وغيره، وقد تقدم ذكر قصته قريباً وروى أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " انجاب الماء عن مسلك الحوت فصار كوة لم تلتئم فدخل موسى على أثر الحوت، فإذا هو بالخضر " . وقال قتادة: ما سلك الحوت طريقاً إلا صار ماء جامداً طريقاً يبساً. وكان موسى عليه الصلاة والسلام قد لحقه الجوع فقال لفتاه، وهو يوشع: " آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " الآية. قال ابن عطية: وكان أبو الفضل الجوهري يقول في وعظه: مشى موسى عليه السلام لمناجاة ربه تعالى أربعين يوماً لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع. والإشارة في ذلك أنهما كانا متعلمين، وطالب العلم من حقه أن يحتمل كل مشقة، ولا يبالي بصيف ولا شتاء ولا جوع ولا ذل، إذ الذي يطلب لا يعرف قيمته إلا صاحبه، ومن عرف قدر ما يطلب هان عليه ما يبذل ومن طلب العظيم خاطر بالعظيم وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الصاد المهملة، في الصرد عن مقاتل طرف من ذلك مطول.
وكانت حياة لحوت عند مجمع البحرين قال قتادة: مجمع البحرين هما بحر فارس وبحر الروم مما يلي الشرق وقيل: هما بحر الأردن وبحر القلزم وقيل هما بحر بالمغرب وبحر بالزقاق. والحكمة في جمع موسى مع الخضر عليهما السلام بمجمع البحرين أنهما بحران في العلم أحدهما أعلم بالظاهر، وأعني بالظاهر علم الشرع وهو موسى والآخر أعلم بالباطن أعني بالباطن: علم الحقيقة وأسرار الملكوت وهو الخضر. فكان اجتماع البحرين بمجمع البحرين فحصلت المناسبة.
إشارة: اعلم أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يجد من هو دونه وهو الخضر عليه السلام حتى تجرد عن كل ما سواه فكذلك العبد لا يجد قرب مولاه وحبه حتى يتجرد عن كل ما سواه. قال الشبلي: انفرد بالله حتى تكون مجرداً عن الأغيار وتكون واحداً للواحد فرداً للفرد، وقال الإمام تاج الدين عطاء الله السكندري: من تجرد في وقته لوقته فاته من وقته، ومن استقبل الوقت فاز بحظه وأنشد:
لا كنت إن كنت أدري ... كيف الطريق إليكا
أفنيتني عن جميعي ... فكنت سلم يديكا
وقيل للجنيد: متى يكون العبد منفرداً متحيزاً؟ قال: إذا ألزم جوارحه الكف عن جميع المخالفات، وأفنى حركاته عن كل الإرادات، فكان شبحاً بين يدي الحق لا يتميز وما أحسن قول بعضهم:
وعن فنائي فني فنائي ... وفي فنائي وجدت أنتا
في محو اسمي ورسم جسمي ... سألت عني فقلت أنتا
أشار سري إليك حتى ... فني فنائي ودمت أنتا
أنت حياتي وسر قلبي ... فحيث ما كنت كنت أنتا
قال الشبلي: اضرب بالدنيا وجه عاشقيها، وبالآخرة وجه طالبيها، وسلم نفسك وقد وصلت، فإذا قلت: الله فهو الله، وإذا سكت فهو الله. وهذا هو المقام العظيم، واسم الخضر عليه السلام مضطرب فيه اضطراباً متبايناً، فقيل: إنه بليا بن ملكان بن فالغ بن شالح بن ارفخشذ بن نوح عليه السلام، قاله وهب بن منبه. وقيل: إيليا بن عاميل شما لخسين بن أرما بن علقما بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام. وقيل: اسمه أرميا بن حلقيا من سبط هارون قاله الثعلبي قلت: والأصح الذي نقله أهل السير وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قاله البغوي وغيره، إن اسمه بليا، بباء موحدة مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة من تحت، وفي آخره ألفح ابن ملكان بفتح الميم، وبإسكان اللام وبالنون في آخره. وقيل: بليان، قيل: كان من بني إسرائيل، وقيل كان من أبناء الملوك وكنيته أبوا لعباس، قال السهيلي: كان أبوه ملكاً وأمه اسمها ألها وإنها ولدته في مغارة، وأنه وجد هناك شاة ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية، ولما وجده الرجل أخذه ورباه، فلما شب طلب أبوه كاتباً، وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي أنزلت على إبراهيم وشيث، فكان فيمن أقدم عليه من الكتاب ابنه الخضر عليه السلام، وهو لا يعرفه فلما استحسن خطه ومعرفته بحث عن جلية أمره فعرف أنه ابنه فضمه لنفسه، وولاه أمر الناس. ثم إن الخضر فر من الملك لأسباب يطول ذكرها ولم يزل سائحاً إلى أن وجد عين الحياة فشرب منها فهو حي إلى أن يخرج الدجال، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ويقطعه ثم يحييه الله تعالى. انتهى وسيأتي إن شاء الله تعالى عن صاحب ابتلاء الأخيار في باب السين المهملة في لفظ السعلاء أنه ابن خالة في القرنين.
واختلف في سبب تلقيبه بالخضر فقال الأكثرون: لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من تحته خضراء، والفروة وجه الأرض. وقيل: لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، والصواب
الأول. واختلف في حياته فقال الإمام محيي الدين النووي وجمهور العلماء: هو حي موجود بين أظهرنا قال: وهذا متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة. وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجواباته ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم على ذلك وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين انتهى. وقال الحسن: إنه مات وقال ابن المنادي لا يثبت حديث في بقائه. وقال الإمام أبو بكر بن العربي: مات قبل انقضاء المائة ويقرب من هذا جواب الإمام محمد بن إسماعيل البخاري: لما سئل عن الخفر والياس عليهما السلام هل هما في الأحياء. فقال: كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض واحد " . والصحيح الصواب أنه حي وقال بعضهم إنه اجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزى أهل بيته وهم مجتمعون لغسله. وقد روي ذلك من طرق صحاح. وفي التمهيد لابن عبد البر إمام أهل الحديث في وقته رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم حين غسل وكفن، سمعوا قائلاً يقول: السلام عليكم أهل البيت إن في الله خلفاً من كل هالك، وعوضاً من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة، فعليكم بالصبر واحتسبوا، ثم دعا لهم ولا يرون شخصه، فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته رضي الله تعالى عنهم. قال السهيلي: وقد ذكر أن الخضر عليه السلام هو ارمياء ولم يصححه محمد بن جرير الطبري، وأبطله بما يطول ذكره من الحجج. وذكر أيضاً أنه اليسع صاحب الياس عليهما السلام، وأعجب ما في ذلك قول من قال: إنه ابن فرعون صاحب موسى عليه السلام. ذكره النقاش. انتهى. واختلف في نبوته فقال القشيري وكثيرون: هو ولي. وقال بعضهم: هو نبي ورجحه النووي وحكى الماوردي في تفسيره ثلاثة أقوال: أحدها أنه نبي، والثاني أنه ولي، والثالث أنه من الملائكة. وهذا القول غريب باطل لما قدمناه. وقال المازري: اختلف العلماء في الخضر هل هو ولي أو نبي؟ فقال الأكثرون: هو نبي، واحتجوا بقول تعالى: " وما فعتله عن أمري " فدل على أنه نبي يوحى إليه وبأنه أعلم من موسى، ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي، وأجاب الآخرون بأنه يجوز أن يكون الله تعالى قد أوحى إلى نبي الله ذلك الزمان بأن يأمر الخضر بذلك انتهى. ولم ينقل أنه كان مع موسى فكيف يتأتى هذا الجواب والخضر كان في عصر موسى؟ فإن نقل أنه كان معه نبي آخر قيل هذا الاحتمال في الجواب وإلا فلا. فإن قيل: إن يوشع بن نون كان نبياً في زمن موسى، قيل: هذه القضية كانت قبل نبوته، وأيضاً فهو كان مصاحباً لموسى ومرافقه حين لقيا الخضر، وهو الذي أخبر موسى بانسياب الحوت في البحر. واختلف في كونه مرسلاً فقال الثعلبي: الخضر نبي بعثه الله بعد شعيب، وهو معمر محجوب عن أبصار أكثر الناس. وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن. وقصته مع موسى في السفينة والغلام والقرية طويلة مشهورة، تركناها لطولها واشتهارها لكن قال السهيل: إن القرية برقة وقيل غير ذلك.
فائدة: لما حان لموسى والخضر أن يتفرقا قال له الخضر عليه السلام: لو صبرت لأتيت على
ألف عجب كل عجب أعجب مما رأيت! فبكى موسى عليه السلام على فراقه ثم قال موسى للخصر عليه السلام: أوصني يا نبي الله فقال له الخضر: يا موسى اجعل همك في معادك، ولا تخض فيما لا يعنيك، ولا تترك الخوف في أمنك، ولا تيأس من الأمن في خوفك، وتدبير الأمور في علانيتك، ولا تذر الإحسان في قدرتك. فقال له موسى: يا نبي الله، فقال له الخضر: يا موسى إياك واللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تعير أحداً من الخطائين بخطاياهم بعد الندم، وابك على خطيئتك يا ابن عمران. فقال له موسى عليه السلام: قد أبلغت في الوصية فأتم الله عليك نعمته، وعمرك في طاعته، وكلأك من عدوه. فقال الخضر عليه السلام: وأوصني أنت، فقال له موسى: إياك والغضب إلا في الله، ولا ترض عن أحد إلا في الله، ولا تحب الدنيا ولا تبغض لدنيا، فإن ذلك يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، فقال له الخضر: لقد أبلغت في الوصية فأعانك الله على طاعته، وأراك السرور في أمرك، وحببك إلى خلقه، وأوسع عليك من فضله، فقال موسى عليه السلام: آمين. رواه السهيلي. وقال البغوي: روي أن موسى لما أراد أن يفارق الخضر عليه السلام، قال له: أوصني، قال له: يا موسى لا تطلب العلم لتحدث به، واطلبه لتعمل به.
تتمة: في كتاب الهواتف، لأبي بكر بن أبي الدنيا أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، لقي الخضر عليه السلام وعلمه هذا الدعاء، وذكر فيه ثواباً عظيماً ورحمة، لمن قاله في دبر كل صلاة وهو: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تعطله المسائل، ويا من لا يبرمه إلحاح الملحين، أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك. وذكر في كتابه أيضاً عن عمر رضي الله تعالى عنه، في هذا الدعاء بعينه، نحو ما ذكر عن علي رضي الله عنه في سماعه من الخضر عليه السلام.
عجيبة: روى الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه المتفق والمفترق في ترجمة أسامة بن زيد التنوخي أنه ولي مصر للوليد بن عبد الملك بن مروان، ولأخيه سليمان، وهو الذي بنى مقياس النيل العتيق، الذي بجزيرة فسطاط مصر، ذكره ابن يونس في تاريخه. ثم روى الخطيب في ترجمة أسامة هذا أن صنماً كان بالإسكندرية يقال له شراحيل، على حشفة من حشف البحر، مستقبلاً بأصبع من أصابع كفه القسطنطينية لا يدري أكان مما عمله سليمان النبي عليه الصلاة والسلام أو الإسكندر، تصاد عنده الحيتان، وكانت الحيتان تدور حوله وحول الإسكندرية، وكان قدم الصنم طول قامة الرجل إذا انبطح، ومد يديه فكتب أسامة بن زيد، وهو عامل مصر للوليد بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين إن عندنا بالإسكندرية صنماً يقال له شراحيل، وهو من نحاس، وقد غلت علينا الفلوس، فإن رأى أمير المؤمنين أن ننزله ونجعله فلوساً فعلنا، وإن رأى غير ذلك فليكتب إلينا بما نعتمده في أمره. فكتب إليه: لا تنزله حتى أبعث إليك أمناء يحضرونه. فبعث إليه رجالاً أمناء، فأنزلوا الصنم عن الحشفة، فوجدت عيناه ياقوتتين حمراوين ليس لهما قيمة، فضربه أسامة بن زيد فلوساً فانطلقت الحيتان ولم ترجع إلى ذلك المكان أبداً بعد أن كانت لا تفارقه ليلاً ولا نهاراً وتصاد بالأيدي.
الحوشي: النعم المتوحشة. ويقال: إن الإبل الحوشية منسوبة إلى الحوش وهي فحول جن تزعم العرب أنها ضربت في نعم بعضهم فنسبت إليها.
الحوصل: طائر كبير له حصولة عظيمة يتخذ منها الفرو، وجمعه حواصل. قال ابن البيطار: وهذا الطائر يكون بمصر كثيراً ويعرف بالبجع، وجمل الماء والكي، بضم الكاف وسكون الياء المثناة من تحت. وهو صنفان: أبيض وأسود فالأسود منه كريه الرائحة، ولا يكاد يستعمل والأجود الأبيض، جرارته قليلة، ورطوبته كثيرة، وهو قليل البقاء، ولبسه يصلح للشباب وذوي الأمزجة الحارة ومن تغلب عليه الصفراء. انتهى والمعروف خلاف ما قال وأنه أشد حرارة من فرو الثعلب والحوصلة والحوصل من الطائر، والظليم بمنزلة المعدة للإنسان.
وحكمه: الحل كما جزم به الرافعي وغيره عموماً فإن قيل: لم لا أجري فيه الوجه الذي في طير الماء؟ فالجواب أن ذلك الوجه يجري في طير لا يفارق الماء، وهذا يألفه ثم يفارقه فهو كالأوز البلدي وقد رأيت منه بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم واحداً أقام بها أعواماً يمشي في أزقتها لكن غالب اقتياته في البر اللحم وفي البحر السمك.
الحلان: بحاء مضمومة بعدها لام ألف مشددة ثم نون هو الجدي يوجد في بطن أمه. وقال الأصمعي: الحلان والحلام بالنون وبالميم صغار الغنم. وقال ابن السكيت: الحلان الذي يصلح أن يذبح للنسك وفي الحديث أن عمر رضي الله تعالى عنه قضى في أم حبين يقتلها المحرم بحلان. وفي حديث آخر ذبح عثمان كما يذبح الحلان، أي إن دمه أطل دم الحلان. وحكمه سيأتي إن شاء الله تعالى.
حيدرة: إسم من أسماء الأسد. روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه، قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يوم خيبر وهو أرمد، فقال: " لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، قال: ويحب الله ورسوله " فأتيت علياً وجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فبصق في عينيه فبرأ وأعطاه الراية. قال: فبرز مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلتهب
قال: فبرز له علي رضي الله عنه وهو يقول :
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندره
وضرب مرحباً ففلق رأسه وقتله، وكان الفتح. قال السهيلي: ذكر قاسم بن ثابت في تسميته حيدرة ثلاثة أقوال: الأول أن اسمه في الكتب القديمة أسد والأسد هو حيدرة. والثاني أن أمه فاطمة بنت أسد، حين ولدته. كان أبوه غائباً، فسمته باسم أبيها أسداً، فقدم أبوه فسماه علياً. والثالث أنه كان يلقب في صغره بحيدرة لأن الحيدرة الممتلىء لحماً، العظيم البطن. وكذلك كان علي رضي الله تعالى عنه، ولذلك قال بعض اللصوص حين فر من سجنه الذي سماه نافعاً وقيل يافعاً بالياء:
ولو أني مكثت لهم قليلاً ... لجروني لحيدرة البطين
وكان مرحب قد رأى في المنام كأن أسداُ افترسه، فأراد علي رضي الله عنه أن يذكره أنه هو الأسد الذي يقتله، فكاشفه بذلك، فلما سمع مرحب قوله، تذكر المنام فأرعد فقتله علي رضي الله تعالى عنه، وبهذا يستدل على جواز المبارزة في الحرب بشرط أن لا يتضرر المسلمون بقتل المبارز. فإن طلبها كافر، استحب الخروج إليه. وروى أبو داود بإسناد صحيح عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه قال: لما كان يوم بدر تقم عتبة بن ربيعة بنفسه وتبعه أخوه وابنه، فنادى من يبارز؟ فانتدب إليه شبان من الأنصار فقال: من أنتم؟ فأخبروه: فقال: لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحارث، فأقبل حمزة إلى عتبة بن ربيعة، وأقبلت أنا إلى أخيه شيبة، وأقبل عبيدة إلى الوليد بن عتبة فاختلف بين عتبة والوليد ضربتان، فأثخن كل منهما صاحبه، ثم ملنا إلى الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخ ساقه يسيل، فقال: " أشهيد أنا يا رسول الله؟ قال: نعم " قال: وددت والله أن أبا طالب حياً ليعلم أننا أحق منه بقوله:
ولا نسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ثم أنشأ يقول:
فإن تقطعوا رجلي فإني مسلم ... أرجي بها عيشاً من الله عالياً
وألبسني الرحمن فضلاً ومنة ... لباساً من الإسلام غطى المساويا
قال الشافعي رضي الله عنه: وبارز يوم الخندق عمرو بن عبد ود لأنه خرج ينادي من يبارز؟ فقام له علي رضي الله عنه، وهو مقنع بالحديد، فقال: أنا له يا نبي الله. فقال: " إنه عمرو إجلس " . فنادى عمرو ألا رجل يبارز. ثم جعل يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم يدخلها؟ أفلا يبرز إلي رجل منكم؟ فقام علي رضي الله عنه، وقال: أنا له يا رسول الله، فقال له: إنه عمرو اجلس. فنادى الثالثة وذكر شعراً فقام علي وقال: أنا له يا رسول الله. قال: إنه عمرو قال: وإن كان عمراً فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى إليه حتى أتاه، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال: غيرك يا ابن أخي، أريد من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أهريق دمك. فقال علي رضي الله عنه: لكني والله لا أكره أن اهريق دمك فغضب، ونزل عن فرسه وسل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي رضي الله عنه مغضباً فاستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو في الدرقة فقدها، وأثبت فيها السيف وأصاب رأس علي فشجه، وضربه علي رضي الله عنه على حبل عاتقه فسقط قتيلاً، وثار العجاج. وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير، فعرف صلى الله عليه وسلم أن علياً قد قتله. اه وجاء في بعض الروايات أن علياً رضي الله عنه لما بارز عمراً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اليوم برز الإيمان كله للشرك كله " وكان سيف علي رضي الله عنه يقال له ذو الفقار، لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر، وكان لمنبه بن الحجاج، سلبه منه النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وأعطاه علياً رضي الله تعالى عنه وكان. من حديدة وجدت عند الكعبة من دفن جرهم، أو غيرهم، وكانت صمصامة عمرو بن معد يكرب من تلك الحديدة أيضاً.
تتمة: ينبغي لمقدم العسكر أن يتشبه بصفات من صفات الحيوان فيكون في قوة القلب كالأسد لا يجبن ولا يفر، وفي الكبر كالنمر لا يتواضع للعدو، وفي الشجاعة كالدب يقاتل جميع جوارحه، وفي الحملة كالخنزير لا يولي دبره إذا حمل، وفي الغارة كالذئب إذا يئس من وجه أغار من وجه، وفي حمل السلاح كالنملة تحمل أضعاف وزن بدنها، وفي الثبات كالحجر لا يزول عن مكانه، وفي الوفاء كالكلب لو دخل سيده النار يتبعه، وفي الصبر كالحمار، وفي التماس الفرصة كالديك، وفي الحراسة كالكركي وفي التعب كاليعر، وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والمشقة.
الحيرمة: البقرة والجمع حيرم قال ابن أحمر:
تبدل أدما من ظباء وحيرما
كذا أنشده الجوهري.
الحية: اسم يطلق على الذكر والأنثى، فإن أردت التمييز قلت: هذا حية ذكر، وهذا حية أنثى. قاله المبرد في الكامل، وإنما دخلته الهاء لأنه واحد من جنس. كبطة ودجاجة على أنه قد روي عن بعض العرب: رأيت حياً على حية أي ذكراً على أنثى، وفلان حية ذكر والنسبة إلى الحية حيوي. والحيوت: ذكر الحيات أنشد الأصمعي:
ويأكل الحية والحيوتا ... ويخنق العجوز أو تموتما
وذكر ابن خالويه لها مائتي اسم ونقل السهيلي عن المسعودي: إن الله تعالى لما أهبط الحية إلى الأرض، أنزلها بسجستان، فهي أكثر أرض الله حيات ولولا العربد يأكلها، ويفني كثيراً منها لخلت من أهلها لكثرة الحيات، وقال كعب الأحبار: أهبط الله تعالى الحية بأصبهان، وإبليس بجدة، وحواء بعرفة، وآدم بجبل سرنديب وهو بأرض الصين في بحر الهند، عال يراه البحريون من مسافة أيام، وفيه أثر قدم آدم عليه الصلاة والسلام مغموسة في الحجر. ويرى على هذا الأثر كل ليلة كهيئة البرق من غير سحاب، ولا بد له في كل يوم من مطر يغسل موضع قدم آدم عليه الصلاة والسلام. ويقال: إن الياقوت الأحمر يوجد على هذا الجبل فتحدره السيول والأمطار من ذروته إلى الحضيض. ويوجد به الماس أيضاً وبه يوجد العود. كذا قاله القزويني.
قلت وهو قريب من جبل يقال له ساتيدما، بكسر المثناة من فوق بعدها مثناة من تحت، ودال مهملة وميم وألف، وهو متصل من بحر الروم إلى بحر الهند، ليس يأتي يوم من الدهر إلا وسفك عليه دم، فسمي ساتيدما لذلك. وكان قيصر قد غزا كسرى، وأتى بلاده فاحتال له حتى انصرف عنه، فاتبعه كسرى في جنوده فأدركه بساتيدما، فانهزم أصحاب قيصر مرعوبين من غير قتال، فقتلهم كسرى قتل الكلاب ونجا قيصر ولم يدركه كذا حكاه البكري في معجمه. وذكره الجوهري نقلاً عن سيبويه كذلك أنشدوا على ذلك:
لما رأت ساتيدما استعبرت ... لله در اليوم من لامها
والحية أنواع: منها الرقشاء وهي التي فيها سود وبيض، ويقال لها الرقطاء أيضاً وهي من أخبث الأفاعي قال النابغة في وصف السليم:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش، في أنيابها السم ناقع
تبادرها الراقون من شر سمها ... فتطلقه يوماً، ويوماً تراجع
تسهد من ليل التمام، سليمها ... كحلي نساء، في يديه، قعاقع
وقال غيره:
هم أيقظوا رقط الأفاعي ونبهوا ... عقارب ليل نام عنها حواتها
وهم نقلوا عني الذي لم أفه به ... وما آفه الأخيار إلا رواتها
وتزعم الأعراب أن الأفاعي صم، وكذلك النعام قال علي بن نصر الجهضمي: دخلت على المتوكل فإذا هو يمدح الرفق فأكثر فقلت: يا أمير المؤمنين أنشدني الأصمعي:
لم أر مثل الرفق في لينه ... أخرج للعذراء من خدرها
من يستعن بالرفق في أمره ... يستخرج الحية من جحرها
فقال: يا غلام الدواة والقرطاس، فأتى بهما فكتبهما وأمر لي بجائزة سنية، وقال أبو بكر بن أبي دواد: كان المستعين بالله بعث إلى نصر بن علي، يشخصه للقضاء، فدعاه عبد الملك أمير البصرة وأمره بذلك فقال: ارجع فاستخير الله فرجع إلى بيته فصلى ركعتين، وقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك، ونام فنبهوه فإذا هو ميت. وذلك في شهر ربيع الآخر سنة خمسين ومائتين. ومن أنواعها الأزعر وهو غالب فيها ومنها ما هو أزب ذو شعر، ومنها ذوات القرون. وأرسطو ينكر ذلك قال الراجز:
وذات قرنين طحون الضرس ... تنهس لو تمكنت من نهس
تدير عيناً كشهاب القبس
ومنها الشجاع وسيأتي في باب الشين المعجمة. ومنها العربد وهي حية عظيمة، تأكل الحيات كما تقدم، ومنها الأصلة وهو عظيم جداً له وجه كوجه الإنسان، ويقال إنه يصير كذلك إذا مرت عليه ألوف من السنين ومن خاصية هذا، أن يقتل بالنظر أيضاً، ومنها الصل وتسمى المتكللة لأنها مكللة الرأس، وقيل: الصل الأول وهذه المكللة، وهي شديدة الفساد تحرق كل ما مرت عليه، ولا ينبت حول جحرها شيء من الزرع أصلاً، وإذا حاذى مسكنها طائر سقط، ولا يمر حيوان بقربها إلا هلك. وتقتل بصفيرها على غلوة سهم، ومن وقع عليه بصرها ولو من بعد مات، ومن نهشته مات في الحال، وضربها فارس برمحه فمات هو وفرسه. وهي كثيرة ببلاد الترك ومنها ذو الطفيتين والأبتر. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقتلوهما فإنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحبالى " . قال الزهري: ونرى ذلك من سمها. وسيأتي بيان هذا الحديث في باب الطاء إن شاء الله تعالى. ومنها الناظر متى وقع نظره على إنسان مات الإنسان من ساعته. ومنها نوع آخر إذا سمع الإنسان صوته مات.
ومن أسماء الحية العيم والعين والصم والأزعر والأبتر والناشر والأين والأرقم والأصلة والجان والثعبان والشجاع والأزب والأفعى والأفعوان وهو الذكر من الأفاعي كما تقدم والأرقش والأرقط والصل وذو الطفيتين والعربد. قال ابن الأثير: ويقال للحية أبو البخترى وأبو الربيع وأبو عثمان وأبو العاصي وأبو مذعور وأبو وثاب وأبو يقظان وأم طبق وأم عافية وأم عثمان وأم الفتح وأم محبوب وبنات طبق والحية الصماء وهي الشديد الشر قال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه:
إذا تخازرت وما بي من خزر ... ثم كسرت الطرف من غير حور
ألفيتني ألوي بعيد المستمر ... أحمل ما حملت من خير وشر
كالحية الصماء في أصل الشجر
والصمة الذكر من الحيات وجعه صمم، وبه سمي والد دريد بن الصمة. وزعم أهل الكلام في طبائع الحيوان أن الحية تعيش ألف سنة، وهي في كل سنة تسلخ جلدها، وتبيض ثلاثين بيضة على عدد أضلاعها، فيجتمع عليها النمل فيفسد غالب بيضها، ولا يصلح منه إلا القليل، وإن لدغها العقرب ماتت. ومن أنواعها: الحريش وقد تقدم ذكره وشرها الأفاعي ومسكنها الرمال. وبيض الحيات مستطيل وهو كدر اللون وأخضر وأسود وأبيض وأرقط، وفي بيضة نمش ولمع والسبب في اختلاف ذلك لا يعرف، وداخله شيء كالصديد، وهو في جوفها منضد طولاً على خط واحد، وليس للحيات سفاد يعرف، وإنما هو التواء بعضها على بعض ولسانها مشقوق فيظن بعض الناس أن لها لسانين. وتوصف بالنهم والشره، لأنها تبتلع الفراخ من غير مضغ كما يفعل الأسد، ومن شأنها أنها إذا ابتلعت شيئاً له عظم أتت شجرة أو نحوها، فتلتوي عليها التواء شديداً حتى يتكسر ذلك في جوفها. ومن عادتها أنها إذا نهشت انقلبت، فيتوهم بعض الناس أنها فعلت ذلك لتفرغ سمها، وليس كذلك. ومن شأنها أنها إذا لم تجد طعاماً عاشت بالنسيم، وتقتات به الزمن الطويل، وتبلغ الجهد من الجوع فلا تأكل إلا لحم الشيء الحي وهي إذا كبرت، صغر جسمها واقتنعت بالنسيم، ولم تشته الطعام. ومن غريب أمرها، أنها لا تريد الماء ولا ترده إلا أنها لا تضبط نفسها عن الشرب، إذا شمته لما في طبعها من الشوق إليه فهي إذا وجدته شربت منه حتى تسكر. وربما كان السكر سبب هلاكها. والذكر لا يقيم بموضع واحد وإنما تقيم الأنثى على بيضها حتى تخرج فراخها، وتقوى على الكسب، ثم تخرج هي سائرة، فإن وجدت حجراً انسابت فيه، وعينها لا تدور في رأسها، بل كأنها مسمار مضروب في رأسها، وكذلك عين الجراد، وإذا قلعت عادت، وكذلك نابها إذا قلع عاد بعد ثلاثة أيام، وكذلك ذنبها إذا قطم نبت. ومن عجيب أمرها أنها تهرب من الرجل العريان وتفرح بالنار وتطلبها، وتتعجب من أمرها، وتحب اللبن حباً شديداً. وإذا ضربت بسوط مسه عرق الخيل، ماتت وتذبح فتبقى أياماً لا تموت وقد تقدم أنها إذا عميت، أو خرجت من تحت الأرض، لا تبصر طلبت الرازيانج الأخضر، فتحك به بصرها فتبصر، فسبحان من قدر فهدي، قدر عليها العمى وهداها إلى ما يزيله عنها، وليس شيء في الأرض مثل الحية إلا وجسم الحية أقوى منه، ولذلك إذا أدخلت صدرها في حجر أو صدع لم يستطع أقوى الناس إخراجها منه، وربما تقطعت ولا تخرج وليس لها قوائم، ولا أظفار تشبث بها وإنما قوي ظهرها، هذه القوة لكثرة أضلاعها، فإن لها ثلاثين ضلعاً وإذا مشت مشت على بطنها، فتتدافع أجزاؤها وتسعى بذلك الدفع الشديد، والحيات في أصل الطبع مائية وتعيش في البحر، بعد أن كانت برية، وفي البر بعد أن كان بحرية. قال الجاحظ: الحيات ثلاثة أنواع: نوع منها لا ينفع للسعته ترياق، ولا غيره كالثعبان، والأفعى والحية الهندية، ونوع منها ينفع في لسعته الدرياق وما كان سواهما مما يقتل فإنما يقتل بواسطة الفزع، كما حكي أن شخصاً نام تحت شجرة، فتدلت عليه حية فعضت رأسه، فانتبه محمر الوجه، وحك رأسه وتلفت فلم ير أحداً فلم يرتب بشيء، ووضع رأسه ونام، فلما كان بعد ذلك بمدة، قال له بعض من رآها: هل علمت مم كان انتباهك تحت الشجرة؟ قال: لا، والله ما علمت. قال: إنما كان من حية تدلت عليك فعضت رأسك فلما قمت فزعاً تقلصت ففزع فزعة فاضت فيها نفسه. قال: فهم يزعمون أن الفزع هو الذي هيج السم وفتح مسام البدن، حتى مشى السم فيه انتهى.
فائدة: في النصائح لابن ظفران خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، لما تحصن منه أهل الحيرة بالقصر الأبيض وغيره من حصونهم، نزل بالنجف وأرسل إليهم: إن ابعثوا إلي رجلاً من عقلائكم، فأرسلوا إليه عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن نفيلة الغساني وكان من
المعمرين، عمر أكثر من ثلثمائة وخمسين سنة، فقاوله المقاولة المشهورة، وكان في يد عبد المسيح قارورة يقلبها، فقال له خالد: ما الذي في هذه القارورة. قال سم ساعة. قال: ما تصنع به؟ قال: إن وجدت عندك ما أحبه لقومي وأهل بلدي حمدت الله وقبلته، وإن لم أجد ذلك شربته وقتلت نفسي به. ولم أرجع إلى قومي بما يسوؤهم. فقال خالد رضي الله عنه: هاتها فناوله القارورة فأفرغها خالد في راحته وقال: بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله وبالله بسم الله رب الأرض والسماء بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم. ثم شربه، ويقال: إنه شرب عليه ماء، فضرب بذقنه على صدره، وغشيه عرق ثم سري عنه، فانصرف عبد المسيح إلى قومه، وكانوا نصارى نسطورية، إلا أنهم عرب، فقال لهم: جئتكم من عند رجل شرب سم ساعة فلم يضره فاعطوه ما سألكم، وأخرجوه من أرضكم راضياً، فهؤلاء قوم مصنوع لهم، وسيكون لهم شأن عظيم. فصالحوه على ثمانين ألف درهم فضة انتهى.
وقال بعضهم: إن سم ساعة لا يكون إلا من الحية الهندية، ولا ينفع فيها درياق ولا غيره وفي الناصح أيضاً: أن أمة لأبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، قالت له: من أي جنس أنت؟ قال: أنا آدمي مثلك. قالت: كيف تكون آدمياً. وقد أطعمتك السم أربعين يوماً فما ضرك؟ فقال لها: أوما علمت أن الذاكرين الله تعالى لا يضرهم شيء وإني كنت أذكر الله باسمه الأعظم. قالت: وما هو. قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض وفي السماء وهو السميع العليم. ثم قال: ما الذي حملك على ذلك؟ قالت: بغضك. قال: أنت حرة لوجه الله تعالى وأنت في حل مما صنعت انتهى.
عجيبة: ذكر القرطبي، في تفسير سورة غافر، عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن كعب الأحبار، أنه قال: لما خلق الله تعالى العرش، قال: لم يخلق الله تعالى خلقاً أعظم منى واهتز تعاظماً، فطوقه الله تعالى بحية لها سبعون ألف جناح، في كل جناح سبعون ألف ريشة، وفي كل ريشة سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان. يخرج من أفواهها كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر، وعدد ورق الشجر، وعدد الحصى والثرى، وعدد أيام الدنيا، وعدد الملائكة أجمعين، فالتوت الحية على العرش، فالعرش إلى نصف الحية وهي ملتوية عليه، فتواضع عند ذلك انتهى. وروي أن الرشيد نام ليلة فسمع قائلاً يقول:
يا راقد الليل انتبه ... إن الخطوب لها سرى
ثقة الفتى من نفسه ... ثقة محللة العرا
فاستيقظ فوجد المصابيح قد طفئت فأمر بالشموع فأوقدت، ونظر فإذا حية بقرب فراشه فقتلها.
غريبة: ذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى، في الأذكياء عن بشر بن الفضل قال: خرجنا حجاجاً فمررنا بماء من مياه العرب، فوصف لنا فيه ثلاث جوار أخوات بارعات في الجمال، وإنهن يطببن ويعالجن، فأحببنا أن نراهن، فعمدنا إلى صاحب لنا، فحككنا ساقه بعود حتى أدميناه، ثم حملناه وأتينا به إليهن، فقلنا: هذا سليم فهل من راق. فخرجت إلينا الأخت الصغرى، فإذا جارية كالشمس الطالعة، فجاءت حتى وقفت عليه، ونظرته فقالت: ليس بسليم. قلنا: وكيف ذلك؟ قالت: إنه خدشه عود بالت عليه حية ذكر، والدليل على ذلك أنه إذا طلعت عليه الشمس مات قال: فلما طلعت الشمس مات. فعجبنا من ذلك وانصرفنا. وفيه أيضاً في أواخره أن عيسى عليه الصلاة والسلام مر بحاو يطارد حية، فقالت له الحية: يا روح الله قل له لئن لم يلتفت عني لأضربنه ضربة أقطعه قطعاً! فمر عيسى عليه الصلاة والسلام ثم عاد فإذا الحية في سلة الحاوي. فقال لها عيسى عليه السلام: ألست القائلة كذا وكذا؟ فكيف صرت معه؟ فقالت: يا روح الله إنه قد حلف لي والآن غدر بي، فسم غدره أضر عليه من سمي.
وفي عجائب المخلوقات للقزويني، أن الريحان الفارسي لم يكن قبل كسرى أنوشروان، وإنما وجد في زمانه وسببه أنه كان ذات يوم جالساً للمظالم، إذا أقبلت حية عظيمة تنساب تحت سريره، فهموا بقتلها فقال كسرى: كفوا عنها فإني أظنها مظلومة، فمرت تنساب فأتبعها كسرى بعض أساورته، فلم تزل سائرة، حتى استدارت على فوهة بئر، فنزلت فيها، ثم أقبلت تتطلع فنظر الرجل فإذا في قعر البئر حية مقتولة، وهي على متنها عقرب أسود، فأدلى رمحه إلى العقرب ونخسه به وأتى إلى الملك فأخبره بحال الحية، فلما كان في العام القابل أتت تلك الحية في اليوم الذي كان كسرى جالساً فيه للمظالم، وجعلت تنساب حتى وقفت بين يديه، ونفضت من فيها بزراً أسود فأمر به الملك أن يزرع فنبت منه الريحان. وكان الملك كثير الزكام وأوجاع الدماغ فاستعمل منه فنفعه جداً.
فائدة أخرى: في حلية الأولياء للحافظ العلامة أبي نعيم رحمه الله تعالى، في ترجمة سفيان بن عيينة، عن يحيى بن عبد الحميد قال: كنت في مجلس سفيان بن عيينة، وقد اجتمع عنده ألف إنسان أو يزيدون أو ينقصون، فالتفت في آخر مجلسه إلى رجل كان عن يمينه، وقال: قم حدث الناس بحديث الحية، فقال الرجل: اسندوني فأسندناه فشال جفونه عن عينه، ثم قال: ألا فاستمعوا وعوا حدثني أبي عن جدي أن رجلاً كان يعرف بابن الحمير، وكان له ورع وكان يصوم النهار ويقوم الليل، وكان مبتلى بالقنص، فخرج يوماً يتصيد، فبينما هو سائر إذ عرضت له حية، فقالت يا محمد بن حمير أجرني أجارك الله، فقال لها: ممن. قالت من عدو قد ظلمني. قال لها: وأين عدوك؟ قالت له: من ورائي، قال لها: من أي أمة أنت؟ قالت: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: ففتحت لها ردائي وقلت لها ادخلي فيه. قالت: يراني عدوي. قال: فبسطت لها طمري وقلت لها: ادخلي بين طمري وبطني. قالت: يراني عدوي. قلت لها: فما الذي أصنع بك. قالت: إن أردت اصطناع المعروف، فافتح لي فاك حتى أنساب فيه. قلت: أخشى أن تقتليني. فقالت: لا والله ما أقتلك، والله شاهد علي بذلك وملائكته وأنبياؤه وحملة عرشه وسكان سمواته أن لا أقلتك. قال: ففتحت لها فمي فانسابت فيه، ثم مضيت فعارضني رجل معه صمصامة فقال: يا محمد فقلت له: ما تشاء؟ قال: هل لقيت عدوي؟ قلت: ومن عدوك. قال: حية. قلت: اللهم لا. واستغفرت ربي مائة مرة من قولي لا، لعلمي أين هي. ثم مضيت قليلاً، فإذا بها قد أخرجت رأسها من فمي وقالت: انظر هل مضى هذا العدو. فالتفت فلم أر أحداً فقلت: لم أر أحداً فإن أردت الخروج فاخرجي. فقالت: الآن يا محمد اختر لنفسك واحدة من اثنتين: إما أن افتت كبدك وإما أن أنفث في فؤادك فأدعك بلا روح فقلت: يا سبحان الله أين العهد الذي عهدت إلي، واليمين الذي حلفت لي، ما أسرع ما نسيته وخنت. فقالت: يا محمد: ما رأيت أحمق منك إذ نسيت العداوة التي كانت بيني وبين أبيك آدم، حيث أخرجته من الجنة فليت شعري ما الذي حملك على اصطناع المعروف مع غير أهله؟ قال: فقلت لها: ولا بد لك من قتلي؟ قالت: لا بد من ذلك. قال: فقلت لها: أمهليني حتى أصير تحت هذا الجبل، فأمهد لنفسي موضعاً. قالت: شأنك وما تريد. قال محمد: فمضيت أريد الجبل، وقد أيست من الحياة فرفعت طرفي إلى السماء، وقلت: يا لطيف الطف بي بلطفك الخفي، يا لطيف يا قدير أسألك بالقدرة التي استويت بها على العرش، فلم يعلم العرش أين مستقرك منه، يا حليم يا عليم يا عظيم يا حي يا قيوم يا الله ألا ما كفيتني شر هذه الحية. ثم مشيت فعارضني ر جل صبيح الوجه طيب الرائحة تقي الثوب فقال لي: سلام عليك فقلت: وعليك السلام يا أخي. فقال: ما لي أراك قد تغير لونك واضطرب كونك؟ فقلت: من عدو قد ظلمني قال لي: وأين عدوك؟ قلت في: جوفي. قال: فافتح فاك، ففتحته فوضع فيه مثل ورقة زيتون خضراء، ثم قال: امضغ وابلع فمضغت وبلعت. قال محمد: فلم ألبث إلا قليلاً حتى مغصني بطني ودارت الحية في بطني فرميت بها من أسفل قطعاً قطعاً، وذهب عني ما كنت أجده من الخوف، فتعلقت بالرجل، فقلت: يا أخي من أنت الذي من الله علي بك؟ فضحك ثم قال: أما تعرفني قلت: اللهم لا. قال: يا محمد بن حمير إنه لما كان بينك وبين هذه الحية ما كان، ودعوت الله بهذا الدعاء، ضجت ملائكة السموات السبع إلى الله عز وجل فقال الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي بعيني كل ما فعلت الحية بعبدي، وأمرني سبحانه وتعالى أن انطلق إلى الجنة، وخذ ورقة خضراء من شجرة طوبى والحق بها عبدي محمد بن حمير، وأنا يقال لي المعروف ومستقري في السماء الرابعة، ثم قال: يا محمد بن حمير عليك باصطناع المعروف فإنه يقي مصارع السوء، وإنه وإن ضيعه المصطنع إليه لم يضع عند الله تعالى.
فائدة أخرى: روى الحاكم وصححه عن أبي اليسر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والتردي، وأعوذ بك من الحرق والغرق، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك أن أموت لديغاً " قال الجاحظ: وتأويل هذا عند العلماء، أنه لا يتفق للإنسان أن يكون موته بهذا العدو إلا وهو من أعداء الله تعالى، بل من أشدهم عداوة، فكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ منه لذلك.
فائدة أخرى: يقال: لسعته الحية والعقرب تلسعه لسعاً فهو ملسوع. قال بعض العلماء المتقدمين: من قال في أول الليل وأول النهار: عقدت لسان الحية وزبان العقرب ويد السارق بقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، أمن من الحية والعقرب والسارق ومن الفوائد المجربة النافعة، أن يسأل الراقي الملدوغ إلى أين انتهى الوجع في العضو؟ ثم يضع على أعلاه حديدة ويقرأ العزيمة ويكررها، وهو يجرد موضع الألم بالحديدة حتى ينتهي في جرد السم إلى أسفل الوجع، فإذا اجتمع في أسفله، جعل يمص ذلك الموضع حتى يذهب جميع الألم ولا اعتبار بفتار العضو بعد ذلك. وهي هذه: سلام على نوح في العالمين، وعلى محمد في المرسلين، من حاملات السم أجمعين، لا دابة بين السماء والأرض إلا وربي آخذ بناصيتها أجمعين، كذلك يجزي عباده المحسنين، إن ربي على صراط مستقيم نوح نوح نوح. قال لكم نوح: من ذكرني فلا تلدغوه إن ربي بكل شيء عليم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ورأيت بخط بعض المحققين، من العلماء، أن يوقف الملسوع أو رسوله، أو المكلوب أو شارب السم قائماً ثم يخط دور قدميه، يبدأ بالخط من إبهام الرجل اليمنى حتى ترجع إليها ثم يخط بين قدميه خطاً ويكون ذلك بسكين فولاذ، ثم يأخذ من تحت مشط رجله اليمنى، ومن تحت كعبه الأيسر تراباً، ويرميه في إناء نظيف، ويسكب عليه ماء، ثم يأخذ السكين ويوقفها في وسط إناء آخر، ويكون رأس السكين إلى فوق، ويسكب الماء الذي في الإناء على السكين التي في الإناء الثاني، ويرقي بهذه الرقية، ويكون فراغ الماء مع فراغ الرقية، ثم يجعل النصاب إلى فوق، ويسكب الماء كأول مرة، ثم يجعل رأسها إلى فوق أيضاً، ويفعل كأول مرة. ثم يسقي الملسوع أو رسوله أو المكلوب أو شارب السم. وهي: سارا سارا في سارا عاتي نور نور نور أنا وأرميا فاه يا طورا كاطوا برملس أوزانا أو صنانيما كاما يوقا بانيا ساتيا كاطوط اصبأوتا ابريلس توتي تنا أوس. فإنه يبرأ بإذن الله تعالى كما جرب مراراً وما أحسن قول القائل:
قالوا: حبيبك ملسوع فقلت لهم: ... من عقرب الصدغ أو من حية الشعر
قالوا: بلى أفاعي الأرض قلت لهم: ... وكيف تسعى أفاعي الأرض للقمر
ولجمال الملك بن أفلح:
وقالوا يصير الشعر في الماء حية ... إذا الشمس حاذته فما خلته صدقا
فلما التوى صدغاه في ماء وجهه ... وقد لسعا قلبي تيقنته حقا
غريبة أخرى: ذكر المسعودي عن الزبير بن بكار أن أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين، فنزلا في ظل شجرة بجنب صفاة، فلما دنا الرواح، خرجت لهما من تحت الصفاة حية تحمل ديناراً فألقته إليهما فقالا: إن هذا لمن كنز هنا فأقاما ثلاثة أيام، وهي في كل يوم تخرج لهما ديناراً فقال أحدهما للآخر: إلى متى ننتظر هذه الحية؟ ألا نقتلها ونحفر عن هذا الكنز فنأخذه؟ فنهاه أخوه وقال له: ما تدري لعلك تعطب ولا تدرك المال، فأبى عليه وأخذ فأساً ورصد الحية حين خرجت فضربها ضربة، جرح رأسها ولم يقتلها، فبادرت إليه الحية فقتلته، ورجعت إلى جحرها فدفنه أخوه، وأقام حتى إذا كان الغد، خرجت الحية معصوباً رأسها وليس معها شيء فقال: يا هذه والله إني ما رضيت ما أصابك ولقد نهيت أخي عن ذلك فلم يقبل، فهل لك أن نجعل الله بيننا على أن لا تضريني ولا أضرك، وترجعين إلى ما كنت عليه أولاً. فقالت الحية: لا. قال: ولم. !قالت: لأني أعلم أن نفسك لا تطيب لي أبداً وأنت ترى قبر أخيك، ونفسي لا تطيب لك أبداً وأنا أذكر هذه الشجة. ثم أنشد أبيات النابغة الجعدي التي يقول فيها:
وما لقيت ذات الصفا من حليفها ... وكانت تريه المال رعباً وظاهره
غريبة أخرى: في رحلة ابن الصلاح، وتاريخ ابن النجار، في ترجمة يوسف بن علي بن محمد الزنجاني الفقيه الشافعي قال: حدثنا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله، عن القاضي الإمام أبي الطيب أنه قال: كنا في حلقة النظر بجامع المنصور ببغداد فجاء شاب خراساني يسأل عن مسألة المصراة، ويطالب بالدليل فاحتج المستدل بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، الثابت في الصحيحين وغيرهما، فقال الشاب، وكان حنفياً: أبو هريرة غير مقبول الحديث، قال القاضي: فما استتم كلامه حتى سقطت عليه حية عظيمة من سقف الجامع، فهرب الناس وتبعت الشاب دون غيره فقيل له: تب تب فقال: تبت فغابت الحية ولم يبق لها أثر. قال ابن الصلاح: هذا إسناد ثابت، فيه ثلاثة من صالحي أئمة المسلمين القاضي أبو الطيب الطبري، وتلميذه أبو إسحاق وتلميذه أبو القاسم الزنجاني. ويقرب من هذا ما رواه أبو اليمن الكندي، قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن حمدان، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم النحوي، قال: أخبرنا الكريمي، قال: حدثنا يزيد بن قرة الدراع، يرفعه إلى عمر بن حبيب، قال: حضرت مجلس الرشيد فجرت مسألة المصراة فتنازع الخصوم فيها وعلت أصواتهم فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرد بعضهم الحديث، وقال: أبو هريرة متهم فيما يرويه، ونحا نحوه الرشيد ونصر قوله. فقلت: أما الحديث فصحيح وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه صحيح النقل فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، فقمت من المجلس إلى منزلي فلم يستقر بي الجلوس حتى قيل: صاحب الشرطة بالباب. فدخل إلي فقال: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن. فقلت: اللهم إنك تعلم أني قد دافعت عن صاحب نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه، فسلمني منه. قال فأدخلت على الرشيد فإذا هو جالس على كرسي من ذهب حاسر عن ذراعيه وبيده السيف، وبين يديه النطع، فلما رآني قال: يا ابن حبيب ما تلقاني أحد بالرد ودفع قولي مثل ما تلقيتني به! فقلت: يا أمير المؤمنين إن الذي حاولت عليه فيه إزراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به. فقال: كيف ويحك؟ قلت: لأنه إذا كان أصحابه كذابين، فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام من الصلاة والصيام والحج والنكاح والطلاق والحدود، كلها مردودة غير مقبولة لأنهم رواتها، ولا تعرف إلا بواسطتهم، فرجع الرشيد إلى نفسه، وقال: الآن أحييتني يا ابن حبيب أحياك الله ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم.
ويقرب من هذه القصة ما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف في الكلام على لفظ القرد في الرجل الذي رد على معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما وهو على المنبر.
تتمة: قال طارق بن شهاب الزهري: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قد قضى في ميراث الجد مع الإخوة في قضايا مختلفة، ثم إنه جمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأخذ كتفاً ليكتب فيه، وهم يرون أنه يجعله أباً، فخرجت حية فتفرقوا، فقال: لو أراد الله تعالى أن يمضيه لأمضاه، ثم إنه أتى منزل زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه، فاستأذن عليه ورأسه في يد جارية له ترجله فنزع رأسه، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: دعها ترجلك. فقال زيد: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي جئتك؟ فقال عمر: إنما الحاجة لي إني جئتك في أمر الجد وأريد أن أجعله أباً، فقال له زيد: لا أوافقك على أن تجعله أبا. فخرج عمر رضي الله تعالى عنه مغضباً، ثم أرسل إليه في وقت آخر، فكتب إليه زيد رضي الله تعالى عنه مذهبه فيه، في قطعة قتب وضرب له مثلاً بشجرة نبتت على ساق واحد، فخرج منها غصن ثم خرج من الغصن غصن آخر، فالساق يسقي الغصن فإن قطع الغصن الأولى رجع الماء إلى الغصن الثاني، وإن قطع الغصن الثاني رجع الماء إلى الغصن الأول. فلما أتى عمر رضي الله تعالى عنه كتاب زيد، خطب الناس ثم قرأ قطعة القتب عليهم، ثم قال: إن زيداً قد قال في الجد قولاً وقد أمضيته.
تذنيب: روى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيره أن أبا خراش الهذلي الشاعر، واسمه خويلد بن مرة مات في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من نهش حية، وكان ممن يعدو على قدميه، فيسبق الخيل، وهو القائل:
رقوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وكان ممن أسلم وحسن إسلامه. وكان سبب موته أنه أتاه نفر من اليمن قدموا حجاجاً فنزلوا به، وكان الماء بعيداً عنهم. فقال لهم: يا بني ما أمسى عندنا ماء، ولكن هذه برمة وقربة وشاة فردوا الماء وكلوا شاتكم ثم دعوا قربتنا وبرمتنا عند الماء حتى نأخذهما فقالوا: لا والله ما نحن بسارين ليلتنا هذه. فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربته وسعى نحو الماء، تحت الليل، حتى استقى، ثم أقبل صادراً، فنهشته حية قبل أن يصل إليهم، فأقبل مسرعاً حتى أعطاهم الماء وقال: اطبخوا شاتكم وكلوا، ولم يعلمهم بما أصابه، فباتوا يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبو خراش في الموت، فلم يبرحوا حتى دفنوه. فلما بلغ عمر رضي الله تعالى عنه خبره غضب غضباً شديداً وقال: لولا أن تكون سنة لأمرت أن لا يضاف يماني أبداً، ولكتبت بذلك إلى الآفاق. ثم كتب إلى عامله باليمن أن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش، فيغرمهم ديته ويؤدبهم بعد ذلك بعقوبة جزاء لفعلهم.
غريبة أخرى: ذكر القاضي الإمام شمس الدين أحمد بن خلكان في وفيات الأعيان في ترجمة عماد الدولة أبي الحسن علي بن بويه، وكان أبوه صياداً: ليست له معيشة إلا صيد السمك، وكان له ثلاثة أولاد: عماد الدولة أكبرهم، ثم ركن الدولة الحسن، ثم معز الدولة. والجميع ملكوا وكان عماد الدولة سبب سعادتهم وانتشار صيتهم فإنهم ملكوا العراقين والأهواز وفارس، وساسوا أمور الرعية أحسن سياسة. قال: ومن عجيب ما اتفق لعماد الدولة، أنه لما ملك شيراز في أول ملكه، اجتمع أصحابه وطالبوه بالأموال، ولم يكن عنده ما يرضيهم به، فأشرف أمره على الانحلال، فاغتم لذلك، فبينما هو مفكر وقد استلقى على ظهره في مجلس قد خلا فيه للتفكير والتدبير، إذ رأى حية خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس، ودخلت في موضع آخر منه فخاف أن تسقط عليه فدعا بالفراشين وأمرهم بإحضار سلم وأن يخرجوا الحية، فلما صعدوا وبحثوا عنها، وجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين، فعرفوه بذلك فأمرهم بفتحها ففتحت، فإذا فيها صناديق فيها خمسمائة ألف دينار، فحمل ذلك بين يديه فقسمه على رجاله، فثبت أمره بعد أن كان قد أشفى على الانحلال والانخرام. ثم إنه جهز ثياباً وسأل عن خياط حاذق، فوصف له خياط كان لصاحب البلد قبله، فأمر بإحضاره وكان أطروشاً، وكان عنده وديعة لصاحب البلد، فوقع في نفسه أنه سعى به إليه، وأنه طلب بسبب الوديعة، فلما خاطبه حلف أنه لم يكن عنده سوى أثني عشر صندوقاً لا يدري ما فيها، فتعجب عماد الدولة من جوابه ووجه معه من يحمل الصناديق، فوجد فيها أموالاً وثياباً تجمل كثيرة، فكانت هذه الأسباب من أقوى دلائل سعادته، توفي عماد الدولة سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة ولم يعقب.
الحكم: يحرم أكل الحيات لضررها. وكذا يحرم أكل الترياق المعمول من لحومها. وقال البيهقي: كره أكله ابن سيرين، قال أحمد: ولهذا كرهه الإمام الشافعي، فقال: لا يجوز أكل الترياق المعمول من لحم الحيات، إلا أن يكون بحال الضرورة، بحيث يجوز له أكل الميتة و السمك الذي في البحر على شكلها فحلال، كما تقدم. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحيات أمر ندب روى البخاري ومسلم والنسائي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى؟ وقد أنزلت عليه والمرسلات عرفاً، فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية: فقال: اقتلوها فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا فقال صلى الله عليه وسلم: " وقاها الله شركم كما وقاكم شرها " وعداوة الحية للإنسان معروفة قال الله تعالى: " اهبطوا بعضكم لبعض عدو " قال الجمهور الخطاب لآدم وحواء والحية وإبليس.
وروى قتادة: رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما سالمناهن منذ عاديناهن " وقال ابن عمر رضي الله عنهما: من تركهن فليس منا. وقالت عائشة رضي الله عنها: من ترك حيية عن ثأرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وفي سنن البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحية فاسقة والعقرب فاسقة والفأرة فاسقة والغراب فاسق " . وفي مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من قتل حية فكأنما قتل رجلاً مشركاً بالله، ومن ترك حية مخافة عاقبتها فليس منا " وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: " إن الحيات مسخت كما مسخت القردة من بني إسرائيل " . وكذا رواه الطبراني عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا رواه ابن حبان.
وأما الحيات التي في البيوت، فلا تقتل حتى تنفر ثلاثة أيام، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إن بالمدينة جناقد أسلموا فإذا رأيتم منها شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام " وحمل بعض العلماء ذلك على المدينة وحدها والصحيح أنه عام في كل بلدة لا تقتل حتى تنذر. روى مسلم ومالك في أواخر الموطأ وغيرهما عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه قال: دخلت على أبي سعيد الخدري في بيته، فوجدته يصلي، فجلست أنتظر فراغه فسمعت حركة تحت سرير في ناحية البيت فالتفت، فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلي أن أجلس فجلست، فلما انصرف من صلاته أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت. قلت: نعم قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس فحرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند انتصاف النهار، ويرجع إلى أهله، فاستأذن يوماً فقال صلى الله عليه وسلم: " خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك بني قريظة " . فأخذ الفتى سلاحه، ثم رجع إلى أهله فوجد امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به، وقد أصابته الغيرة، فقالت: أكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني منه، فدخل فإذا حية عظيمة مطوقة على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج به فركزه في الدار فاضطربت عليه، وخر الفتى ميتاً. فما ندري أيهما كان أسرع موتاً الحية أم الفتى. قال: فجئنا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بذلك، وقلنا ادع الله أن يحييه، فقال: " استغفروا ربكم لصاحبكم،. ثم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهن شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام فإذا بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان. وقد اختلف العلماء في الإنذار، هل هو ثلاثة أيام، أو ثلاث مرات. والأول هو الذي عليه الجمهور. وكيفيته: أن يقول: أنشدكن بالعهد الذي أخذه عليكن نوح وسليمان عليهما الصلاة والسلام أن لا تبدوا لنا ولا تؤذونا. وفي أسد الغابة عن عبد الرحمن بن أبي يعلى أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا ظهرت الحية في المسكن، فقولوا لها: إنا نسألك بعهد نوح وبعهد سليمان بن داود عليهم الصلاة والسلام لا تؤذينا فإن عادت فاقتلوها " وروى الحافظ أبو عمر بن عبد البر أن عقبة بن عامر بن عبد قيس الفهري، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن خالة عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، لما فتح إفريقية، وقف على موضع القيروان، وهو واد كثير الحيات، وقال: يا أهل الوادي إنا حالون، إن شاء الله تعالى، قاطنون، ثلاث مرات، قال: فما رأينا حجراً ولا شجراً إلا خرج من تحته حية حتى هبطن بطن الوادي ثم قال: انزلوا بسم اله. فعمروا القيروان. وكان عقبة مجاب الدعوة وعند الحنفية ينبغي أن لا تقتل الحية البيضاء لأنها من الجان وقال الطحاوي: لا بأس بقتل الجميع والأولى الإنذار.
من الفوائد العجيبة المجربة ما أخبرني به بعض مشايخي، أنه يكتب على أربع ورقات، وتوضع كل ورقة في قرنة من قرن البيت فإن الحيات تهربن منه ولا تدخله حية بإذن الله تعالى وهو هذا:
وفي الإحياء من كتاب آداب السفر يستحب لمن أراد لبس الخف، في حضر أو سفر، أن ينكس الخف، وينفض ما فيه، حذراً من حية أو عقرب أو شوكة، واستدل له بحديث أبي إمامة الباهلي رضي الله عنه الآتي في باب الغين المعجمة، في الكلام على لفظ الغراب، وفي فتاوى الإمام النسوي: إذا اصطاد الحاوي حية وحبسها معه على عادهم، فلسعته فمات هل يأثم؟ فأجاب. إن صادها ليرغب الناس، في اعتماد معرفته، وهو صادق في صنعته، ويسلم منها في ظنه، ولسعته فمات لم يأثم. وإن انفلتت وأتلفت شيئاً لم يضمنه.
وروى الإمام أحمد، في الزهد، أن حاوياً معه حيات في خرج، نزل بقوم من أهل اليمن فخرج بالليل بعض الحيات، فلسعت بعض أهل المنزل فقتلته. فكتب بذلك عامل اليمن إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، فقال: لا شيء عليه لكن مره إذا نزل بقوم أن يخبرهم بما معه، وفي كتاب الأربعين على مذهب المحققين من الصوفية، للإمام الحافظ أبي مسعود سليمان بن إبراهيم بن محمد بن سليمان الأصبهاني، بإسناده إلى عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، قال أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بعمامتي من ورائي، وقال: " يا عمران إن الله يحب الإنفاق ويبغض الإقتار فأنفق وأطعم، ولا تعسر فيعسر عليك الطلب، واعلم أن الله يحب البصير الناقد عند هجم الشبهات والعقل الكامل عند نزول البليات، ويحب السماحة ولو على تمرات، ويحب الشجاعة ولو على قتل حية " .
الأمثال: قالوا: " فلان أسمع من حية وأعدى من حية " وهو من العدو لأنها تسرع إلى جحرها إذ أراعها شيء.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الإيمان ليأرز إلى المدينة، كما تأرز الحية إلى جحرها " . وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها " . أي مسجدي مكة والمدينة، ومعنى يأرز ينضم ويجتمع بضعه إلى بعض ومعناه أن المؤمن إنما يسوقه إلى المدينة إيمانه ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون المراد بذلك. عصمة المدينة من الدجال والفتن، فيكون الإسلام فيها موقراً، ويحتمل أن يكون المراد بذلك رجوع الناس إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ظهرت ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن الدين يؤخذ من علمائها وأئمتها، وكذلك كان. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الميم، في لفظ المطية حديث الترمذي إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يوشك أن يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة " . وقالوا: " أبغض من ريح السذاب إلى الحيات " ، وقالوا: " الحية من الحيية " . أي الأمر الكبير من الصغير، وربما قالوا: " الحيوت من الحية " وهذا كقولهم: " العصا من العصية " . وقد جاء معنى المثلين في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: " ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً " . كذا ذكره ابن الجوزي وغيره.
الخواص: قال عيسى بن علي: ناب الحية إذا قلع في حياتها وعلق على صاحب حمى الربع نزول عنه، وإن علق على من به وجع الأسنان نفعه وسكن وجعها. ولحمها يحفظ الحواس، ومرق لحمها يقوي البصر، ولحوم الحيات من حيث الجملة يسخن ويجفف وينقي البدن ويحلل منه أسقاماً. وسلخها إذا وضع في ثياب لم تسوس، وإن أحرق وعجن بزيت طيب و حشي به الضرس المتآكل الوجع أبرأه. وإن سحق مع رأسها وجعل على داء الثعلب، أنبت الشعر. وقال يحيى بن ماسويه: يؤخذ سلخ حية مقلي وقشور أصل الكبر وزراوند طويل وبلادر، أجزاء متساوية، ويبخر به صاحب البواسير الظاهرة والباطنة المتعلقة، فإنها تسقط. وقال غيره: سلخ الحية ومقل أزرق يبخر بها البواسير الظاهرة والخفية فتبرأ. وبيض الحية يدق مع بورق وخل، ويطلى به البرص الجديد يقطعه. وسلخ الحية إذا عجن بثلاث تمرات وأطعم لمن به الثآليل ذهبت عنه، وإن أكله من ليس به ثآليل لم تخرج أبداً وفلبها يذهب حمى الربع تعليقاً.
فائدة: روى ابن أبي شيبة وغيره أن فريكاً قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئاً فسأله صلى الله عليه وسلم ما أصابه؟ فقال: كنت أمرن جملاً فوقفت على بيض حية، ولم أشعر فأصبت ببصري، فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، فأبصر فكان يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين سنة، وإن عينيه مبيضتان.
التعبير: الحية في المنام تعبر بأشياء كثيرة فهي عدو ودولة وحياة وسيل وولد وامرأة. فمن نازع حية، وهي تريد أن تنهسه فإنه ينازع عدواً له لقوله تعالى: " اهبطوا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو " فإن رأى أنه أخذ حية ولم يخف منها، وصرفها حيث يشاء، فإنه ينال دولة ونصرة، لأن موسى عليه الصلاة والسلام، نال بها النصرة على فرعون. ومن رأى أن حية خرجت من فمه، وكان مريضاً، فإنه يموت لأنها حياته وقد خرجت من فمه. ومن رأى حيات تمشي في خلاف الشجر أو الزرع، فإنها سيول لأنهم شبهوا جريان الماء بالحيات، هذا إذا كان جريها بلا نفخ ولا إحراق شيء. ومن قتل حية على فراشه ماتت امرأته. ومن رأى امرأته حاملاً ووضعت حية، أتاه ولد عاق. ومن رأى حية ميتة فإنه عدو قد كفاه الله شره. ومن عضته حية فورم موضع العضة نال مالاً لأن السم مال، والورم زيادة فيه. ومن أكل لحم حية مطبوخاً، نال مال عدوه، ومن أكله نياً اغتاب عدوه. ومن رأى حية نزلت من مكان فإن ذلك موت رئيس ذلك المكان. ومن رأى حية ابتلعته، فإنه ينال سلطاناً ومن رأى كأنه يتخطى الحيات ولا تنهسه، فإنه يأمن أعداءه، وإن كان مسجوناً خرج من سجنه. ورؤية الحيات الكثيرة في الطرق وهي تمنع الناس بنفخها ونهسها فإن ذلك ظلم من السلطان. ومن رأى كأن الحيات قد فقدن من مكان، فإن الوباء والموت يكثر في ذلك المكان لأن الحيات هي الحياة ومن رأى كأن حية تكلمه، فإنه ينال سروراً. ومن رأى كأنه ملك حية ملساء، وصرفها حيث شاء، فإنه ينال غنى وسعادة. والسود من الحيات أعداء لهم قوة، فمن ملك حية سوداء نال ملكاً وولاية. والبيض أعداء ضعاف، والثعبان يدل على العداوة في الأهل والأزواج والأولاد. وربما كان جاراً شريراً حسوداً. والتنين يدل على سلطان جائر مهاب أو نار محرقة. والأصلة تدل على امرأة ذات نسل وأصل وعمر طويل. والشجاع يدل على امرأة باذلة أو ولد جسور. والأفاعي تدل على أقوام أغنياء، لكثرة سمها. والناشر يدل على اطم، أو على رجل محارب غيور. وحيات البيوت خسران. وحيات البوادي قطاع الطريق، وحيات الماء مال فمنشد وسطه بحية منها فإنه شده بهميان. وحيات البطن أعداء من الأهل والأقارب. فمن رمى حية فإنه يفارق شخصاً من أقاربه خبيثاً كان يواكله. والله أعلم.
الحيوت: كسفود ذكر الحيات.
الحيدوان: الورشان. وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في باب الواو.
الحيقطان: بضم القاف ذكر الدراجة.
الحيوان: جنس الحي والحيوان: الحياة والحيوان ماء في الجنة قاله ابن سيد. والحيوان نهر في السماء الرابعة يدخله ملك كل يوم، فيغمس فيه ثم يخرج، فينتفض انتفاضة، يخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله تعالى من كل قطرة ملكاً يؤمرون أن يطوفوا بالبيت المعمور، فيطوفون به ثم لا يعودون إليه أبداً، ثم يقفون بين السماء والأرض يسبحون الله تعالى إلى يوم القيامة. كذا رواه روح بن جناح مولى الوليد بن عبد الملك، الذي روى عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد " وحديثه هذا في كتابي الترمذي وابن ماجه. وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان " أي ليس فيها إلا حياة دائمة مستمرة خالدة لا موت فيها، فكأنها في ذاتها حياة. والحيوان مصدر حيي، وقياسه حييان فقلبوا الياء الثانية واوا كما قالوا: حيوة في اسم رجل، وبه سمي ما فيه حياة حيواناً، وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة وهو ما في بناء فعلان من الحركات، ومعنى الاضطراب كالنزوان، وما أشبه ذلك. والحياة حركة كما أن الموت سكون، فمجيئه على ذلك مبالغة في معنى الحياة. وقال ابن عطية: الحيوان والحياة بمعنى واحد. وهو عند الخليل وسيبويه مصدر كالهيمان ونحوه. والمعنى لا موت فيها، قاله مجاهد وهو حسن. ويقال: الأصل حييان بياءين، فأبدلت إحداهما واوا لاجتماع المثلثين. وقال الجاحظ: الحيوان على أربعة أقسام شيء يمشي، وشيء يطير، وشيء يعود، وشيء ينساخ في الأرض. إلا أن كل شيء يطير يمشي، وليس كل شيء يمشي يطير. فأما النوع الذي يمشي، فهو على ثلاثة أقسام: ناس وبهائم وسباع، والطير كله سبع وبهيمة وهمج. والخشاش ما لطف جرمه وصغر جسمه، وكان عديم السلاح. والهمج ليس من الطيور، ولكنه يطير وهو فيما يطير كالحشرات فيما يمشي. والسبع من الطير ما أكل اللحم خالصاً، والبهيمة ما أكل الحب خالصاً والمشترك كالعصفور، فإنه ليس بذي مخلب ولا منسر، وهو يلتقط الحب، ومع ذلك يصيد النمل، ويصيد الجراد، ويأكل اللحم. ولا يزق فراخه كما يزق الحمام، فهو مشترك الطبيعة، وأشباه العصافير من المشترك كثيرة، وليس كل ما طار بجناحين من الطير. فقد يطير الجعلان والذباب والزنابير والجراد والنمل والفراش والبعوض والأرضة والنحل وغير ذلك، ولا تسمى طيوراً، وكذلك الملائكة تطير ولها أجنحة، وليست من الطير، وكذلك جعفر بن أبي طالب ذو جناحين يطير بهما في الجنة، وليس من الضير انتهى. وفي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله من مثل بالحيوان " . وفي رواية " لعن الله من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضا " . وفي رواية " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم " . قال العلماء تصبير البهائم هو أن تحبس وهي أحياء لتقتل بالرمي ونحوه، وهو معنى قوله: " لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً " أي يرمى إليه كالغرض من الجلود وغيرها. وهذا النهي للتحريم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، ولأنه تعذيب للحيوان وإتلاف لنفسه، وتضييع لماليته، وتفويت لذكاته، إن كان مذكى، ولمنفعته إن لم يكن مذكى.
تتمة: في كتاب التنوير في إسقاط التدبير، قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله الإسكندري وإنما خص الله تعالى الحيوان بالافتقار إلى التغذية، دون غيره من الموجودات، لأنه تعالى وهب للحيوان من صفاته ما لو تركه من غير فاقة لادعى الربوبية، أو ادعى فيه ذلك فأراد الحق سبحانه، وهو الحكيم الخبير، أن يحوجه إلى مأكل ومشرب وملبس وغير ذلك، من أسباب الحاجة، ليكون تكرار أسباب الحاجة منه سبباً لخمود الدعوى منه أو فيه.
الحكم: يصح السلم في الحيوان، لأنه يثبت في الذمة ثمناً وصداقاً، وفي إبل الدية. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً ومنع أبو حنيفة رضي الله عنه ذلك. لأن ابن مسعود رضي الله عنه كرهه، ولأنه لا ينضبط بالصفة لنا ما روى أبو داود والحاكم على شرط مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه قال : " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بعيراً ببعيرين إلى أجل " وروى البيهقي عن علي رضي الله عنه، أنه باع جملاً له يدعى عصفور بعشرين بعيراً إلى أجل واشترى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما راحلة بأربعة أبعرة يوفيها صاحبها بالربذة. رواه مالك في الموطأ في البخاري بغير إسناد. الربذة بالذال المعجمة موضع على ثلاث مراحل من المدينة وأما الحديث الذي رواه الحسن عن سمرة رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان " فرواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: إنه حسن صحيح، وسماع الحسن من سمرة صحيح. هكذا قال علي بن المديني وغيره. والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم لا منع بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة، وبه قال أحمد. وقد رخص بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم، في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وهو قول الشافعي وإسحاق وقال الخطابي: النهي في حديث سمرة محمول على ما إذا كان نسيئة من الطرفين، فيكون من باب الكالىء بالكالىء بدليل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المذكور وقال مالك: إذا اختلفت أجناس الحيوان جاز بيع بعضه ببعض نسيئة وإن تشابهت لم يجز وقال في الإحياء تكره التجارة في الحيوان لأن المشتري يكره قضاء الله فيه، وهو الموت الذي هو بصدده لا محالة. وقيل: بيع الحيوان واشتر الموتان. ويضمن سائر الحيوان إذا أتلف بالقيمة لما في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أعتق شركاً له في عبد، فإن كان معه ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه وأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد " . وإلا فقد عتق منه ما عتق فأوجب القيمة لا العبد بالإتلاف بالعتق، ولأن إيجاب مثله من جهة الخلقة لا يمكن لاختلاف الجنس الواحد في القيمة، فكانت القيمة أقرب إلى إيفاء حقه، وتضمن أعضاء الحيوان بما نقص من قيمته. وأوجب أبو حنيفة في عين الإبل والبقر والخيل ربع القيمة وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في لفظ الفحل، أثر يشهد لذلك من حديث عروة البارقي وأوجب مالك رحمه الله في قطع ذنب حمار في الهيئة وذنب بغلته تمام القيمة ويأخذ المتلف العين. الخواص: الخصي من الحيوان أبرد من فحله، وإذا كان سميناً كان لذيذاً مرطباً مليناً للطبيعة، بطيء الانحدار، وما كان مهزولاً فبالضد إلا أنه سريع الإنحدار. أجوده حولي المعز ومنفعته سرعة الانهضام، ومضرته أنه يرخي المعدة، ودفع مضرته شرب مياه الفواكه القابضة. وهو يولد دماً معتدلاً يوافق أصحاب الأمزجة المعتدلة من الشبان. ومن الأزمان زمان الربيع. ويجب أن يعلم أن أفضل لحوم الحيوان ما كان معتدلاً في الهزال والسمن. وأجود اللحوم لحم الضأن المتناهي الشباب والبقر التي لم تبلغ سن الشباب والخصي من المعز وأجوده على الإطلاق الضأن.
التعبير: من كلمه حيوان من الدواب أو الطير وفهم كلامه، فإنه كما قال. وربما دل على وقوع أمر منه يعجب الناس له، وإن لم يفهم ما قاله فليحذر على مال يذهب منه، لأن الحيوان مأكله، وقد تكون هذه الرؤيا باطلة، فلا ينبغي أن يفتش عنها، وجلود سائر الحيوان ميراث. وقيل: الجلود بيوت لمن ملكها لقوله تعالى: " وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً " وربما دلت جلود الحيوان كالسمور والسنجاب والوشق والقاقم والفنك والنمس والثعلب والأرنب والفهد للجلوس، وأشباه ذلك على النعمة الطائلة، والأموال والأرزاق، وعلو الشأن لمن لبسها في المنام أو رآها عنده، أو ملكها. وإذا رأى الإنسان كأن جلده سلخ، وكان مريضاً، فإنه يموت. وإلا افتقر وافتضح. وربما دلت الجلود على ما يعمل منها فجلود الإبل تدل على الطبول، وجلود الضأن على الكتابة والمعز على النطوع، وجلود البقر على الأوطئة والدلاء والسيور، وجلود الخيل والبغال والحمير على الأوعية والأسقية، وجلود الجاموس على الحصون. وأما الأصواف والأوبار والأشعار فكل ذلك دال على الفوائد والأرزاق والملابس، وأموال موروثة وغير موروثة أو مغتصبة. وأما القرون فتدل رؤيتها على الأعوام والسنين، أو السلاح أو ما يتجمل به من الأموال والأولاد والعز والجاه. وأما أنياب الفيل وعظمه، فإن ذلك دال على تركة من هلك من الملوك والزعماء. وأما أظلاف الحيوان فإنها تدل على الكد والسعي والاجتماع بين المرأة وزوجها، والوالدة وولدها. والظلف في الصورة هاء مشقوقة وأما الأخفاف فقوة سفر وربما دل الخف في استدارته على العدو أو السقم أو التمهيد للأمور والتوطئة الحسنة. وأما الأذناب فإنها دالة على ما دل الحيوان عليه، ومن يساعده في مصالحه، ويذب عنه ما يخشاه. وأما أصوات الحيوان، فنذكرها هنا مفضلة: فأما ثغاء الشاة فلطافة من امرأة وصديق أو بر من رجل كريم. وأما ثغاء الجدي والكبش والحمل، فسرور وخصب وأما صهيل الفرس، فهو هيبة من رجل شريف أو جندي شجاع. وأما نهيق الحمار، فسفه من رجل سفيه. وأما شحيج البغل، فصعوبة من رجل صعب المرام. وأما خوار العجل والثور والبقر فوقوع في فتنة. وأما رغاء الإبل، فسفر طويل في حج أو تجارة رابحة أو جهاد. وأما زئير الأسد، فخوف وهيبة لمن سمعه من ملك ظلوم. وأما ضغاء الهرة، فشهرة من خادم لص أو فاجر. وأما نهيز الفأرة، فضرب من رجل نقاب أو فاسق أو سرقة. وأما بغام الظبي، ففائدة من امرأة حسناء. وأما عواء الكلب، فخجل من سعى في الظلم. وأما عواء الذئب، فجور من لص غشوم. وأما صياح الثعلب، فكيد من رجل كذاب، أو امرأة كذابة. وأما وعوعة ابن آوى، فصراخ نساء أو ضجة المحبوسين اليائسين. وأما صياح الخنزير، فظفر بأعداء حمقى. وأما صوت الفهد، فتهدد من رجل مذبذب طامع ويظفر به من سمعه. وأما نقيق الضفدع، فدخول في عمل رجل عالم أو رئيس أو سلطان، وقيل: إنه كلام قبيح. وأما فحيح الحية فكلام من عدو كاتم للعداوة، ثم يظفر به من سمعه، ومن كلمته الحية بكلام لطيف فإنه عدو يخضع له ويتعجب الناس لذلك.
أم حبين: بحاء مهملة مضمومة، وباء موحدة مفتوحة مخففة: دويبة مثل ابن عرس وابن آوى وسام أبرص وابن قترة، إلا أنه تعريف جنس وربما أدخل عليه الألف واللام ثم لا يكون بحذفهما منه نكرة، وإنما سميت بذلك من الحبن، تقول: فلان به حبن فهو أحبن أي مستسقي فشبهت بذلك لكبر بطنها. وهي على خلقة الحرباء غير الصدر وقيل هي أنثى الحرابي؟ وهما أما حبين وهن أمهات حبين. وهي دابة على قدر الكف تشبه الضب غالباً، قاله أبو منصور الأزهري ما نقله من كونها أنثى الحرابي، هو الذي نقله صاحب الكفاية. فإنه قال: الحرباء ذكر أم حبين، وقال ابن السكيت: هي أعرض من العظاءة وفي رأسها عرض، وقال أبو زيد: إنها غبراء لها أربع قوائم على قدر الضفدعة التي ليس بضخمة، فإذا طردها الصيادون قالوا لها:
أم حبين انشري برديك ... إن الأمير ناظر إليك
وضارب بسوطه جنبيك
فيطردونها حتى يدركها الإعياء، فتقف منتصبة على رجليها وتنشر جناحيها، وهما أغبران على مثل لونها، فإذا زاد في طردها نشرت أجنحة من تحت ذينك الجناحين، لم ير أحسن منهن ما بين أصفر وأحمر وأخضر وأبيض وهي طرائق بعضها فوق بعض، مثل أجنحة الفراش في الرقة، فإذا رآها الصيادون قد فعلت ذلك تركوها. وقال علي بن حمزة: الصحيح عندي إن هذه صفة أم عويف. وستأتي في باب العين المهملة إن شاء الله تعالى. وقال ابن قتيبة: أم حبين تستقبل الشمس، وتدور معها كيف دارت، وهذه صفة الحرباء. وقال في المرصع: اختلف في أم حبين، فقيل: هي ضرب من العظاء وقيل: هي أعرض منها وقيل: هي أنثى الحرابي، يتحاماها الأعراب فلا يأكلونها لنتنها. انتهى. وما ذكره ابن قتيبة من كون أم حبين ضرباً من العظاء فيه نظر، فإن العظاء نوع من الوزغ، كما ذكره أهل اللغة، ويقال لها حبينة معرفة بلا ألف ولام، تقع على الواحد والجمع وقد تجمع على أم حبينات، وأمهات حبين، وأمات حبين، ولم ترد إلا مصغرة. وفي حديث عقبة رحمه الله: " أتموا صلاتكم ولا تصلوا صلاة أم حبين " وفسروه بأنها إذا مشت تطأطىء رأسها كثيراً، وترفعه لعظم بطنها فهي تقع على رأسها وتقوم. فشبه بها صلاتهم في السجود. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم رأى بلالاً وقد خرج بطنه فقال: " أم حبين " . تشبيهاً له بها. وهذا من مزحه صلى الله عليه وسلم قال الجاحظ: قال أبو زيد النحوي: سمعت أعرابياً يقول لأم حبين: حبينة وحبينة اسمها. وحبين تصغير أحبن وهو الذي استلقى على ظهره ونفخ بطنه.
الحكم: الحل لأنها من الطيبات ولأنها تفدى في الحرم والإحرام إذا قتلت بحلان كما تقدم.
ومن قواعد الشافعي لا يفدى إلا المأكول البري. وحكى الماوردي فيها وجهين: وقال: إن الحل مقتفى قول الشافعي، ومقتفى ما قاله ابن الأثير في المرصع: إنها حرام. وفي التمهيد لابن عبد البر، عن جماعة من أهل الأخبار أن مدنياً سأل أعرابياً فقال: أتأكلون الضب؟ قال: نعم. قال: فالريبوع: قال: نعم. قال: فالقنفذ؟ قال: نعم. قال: فالورل؟ قال: نعم. قال: أفتأكلون أم حبين؟ قال: لا. قال: فليهنىء أم حبين العافية انتهى. والجواب أن هذا راجع لما اعتادوا أكله وترك أكله، خاصة لا أنها حرام على أنه لم يثبت ذلك.
أم حسان: دويبة على قدر كف الإنسان.
أم حسيس: بضم الحاء المهملة، دويبة سوداء من دواب الماء لها أرجل كثيرة.
أم حفصة: الدجاجة الأهلية.
أم حمارس: بفتح الحاء المهملة الغزالة قاله ابن الأثير والله الموفق للصواب.
باب الخاء المعجمة
الخازباز: والخزباز لغة فيه. قال الجوهري: إنه ذباب، وهما اسمان جعلا اسماً واحداً وبنيا على الكسر لا يتغيران في الرفع والنصب والجر قال ابن أحمر:تفقأ فوقه القلع السواري ... وجن الخازباز به جنونا
جوز فيه الجوهري أن يكون من جن الذباب إذا كثر صوته، وأن يكون من جن النبت جنوناً إذا طال واستعمله المتنبي كذلك في قوله :
كلما جادت الظنون بوعد ... عنك جادت يداك بالإنجاز
ملك منشد القريض لديه ... يضع الثوب في يدي بزاز
ولنا القول وهو أدرى بفحوا ... وأهدى فيه إلى الإعجاز
ومن الناس من تجوز عليه شعراء كأنها الخازباز ويرى أنه البصير بهذا وهو في العمى ضائع العكاز وقال الأصمعي: الخازباز حكاية لصوت الذباب، فسماه به وقال ابن الأعرابي: إنه نبت.
وأنشد ابن نصير تقوية لقول ابن الأعرابي:
رعيتها أكرم عود عوداً ... الصل والصفصل واليعضيدا
والخازباز السنم النجودا ... بحيث يدعو وعامر مسعوداً
وعامر ومسعود راعيان. قال وهو في غير هذا داء يأخذ الإبل في حلوقها والناس قال الراجز:
يا خازباز أرسل الهازما ... إني أخاف أن تكون لازما
وقيل وهو السنور. حكاه أبو سعيد. فإن كان ذباباً أو سنوراً فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى.
الأمثال: قالت العرب: الخازباز أخصب قال الميداني: إنه ذباب يطير في الربيع يدل على خصب السنة والله أعلم.
خاطف ظله: طائر من جنس العصافير. قال الكميت بن زيد:
وريطة فتيان كخاطف ظله ... جعلت لهم منها خباء ممدداً
وقال ابن سلمة: هو طائر يقال له الرفراف، إذا رأى ظله في الماء أقبل عليه ليخطفه. وهذه صفة ملاعب ظله وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الميم.
الخاطف: الذئب وسيأتي إن شاء لله تعالى في باب الذال المعجمة.
الخبهقعي: بفتح الخاء والباء والعين مقصورة وتمد: ولد الكلب من الذئبة، وبه سمي أبو الخبهقعي أعرابي من بني تميم.
الخثق: بفتح الخاء والثاء المثلثة قال ارسطا طاليس في النعوت: إنه طائر عظيم.
يكون ببلاد الصين وبابل وأرض الترك ولم يره أحد حياً إذ لا يقدر عليه أحد في حال حياته، ومن شأنه أنه إذا شم رائحة السم خدر وعرق وذهب حسه. وقال غيره: إن له في مشتاه ومصيفه سموماً كثيرة في طريقه فإذا شم رائحة السم خدر وسقط ميتاً، فتؤخذ جثته، ويجعل منها أوان ونصب للسكاكين. فإذا شم العظم رائحة السم، رشح عرقاً فيعرف به الطعام المسموم. ومخ عظام هذا الطائر سم لكل حيوان والحية تهرب من عظامه فلا تدرك.
الخدارية: بضم الحاء وبالدال المهملة العقاب. سميت بذلك للونها وبعير خداري، أي شديد السواد ومنه لون خداري، وما أحسن قول الميداني في خطبة كتابه مجمع الأمثال: فإن أنفاس الناس لا يأتي عليها الحصر، ولا تنفد حتى ينفد العصر، وأنا أعتذر للناظر في هذا الكتاب من خلل يراه، أو لفظ لا يرضاه، فأنا كالمنكر لنفسه، المغلوب على حسه وحدسه، منذ حط البياض بعارضي رحالة، وحال الزمان على سوادهما فأحاله، وأطار من وكرها متي الخدارية، وأنحى على عود الشباب فمص ريه، وملك يدا الضعف زمام قواي وأسلمني من كل يحطب في حبل هواي. فكأني المعني بقول الشاعر:
وهت عزماتك عند المشيب ... وما كان من حقها أن تهي
وأنكرت نفسك لما كبرت ... فلا هي أنت ولا أنت هي
وإن ذكرت شهوات النفوس ... فما تشتهي غير أن تشتهي
الخدرنق: العنكبوت وفي دالة الإهمال والإعجام في درة الغواص.
الخراطين: قيل: هي الأساريع، والصواب أنها شحمة الأرض وستأتي إن شاء اله تعالى في باب الشين المعجمة وقيل: إنها العلق الكبار الطوال التي تكون في المواضع الندية من الأرض وهي إذا قليت بالزيت، ثم سحقت ناعماً وتحمل بها صاحب البواسير نفعته، وإذا أخذ منها شي وجعل في زيت ودفن سبعة أيام ثم أخرج ورمي من الزيت حتى تذهب رائحته ووضع في قارورة ووضع فيها مقدار نصفها شقائق النعمان، ثم يدفن سبعة أيام ويخرج، فمن اختضب به أسود شعره ولم يشب سريعاً.
الخرب: بفتح الخاء المعجمة والراء المهملة وبالباء الموحدة: ذكر الحبارى، والجمع خراب وأخراب وخربان. ذكر أبو جعفر أحمد بن جعفر البلخي أن الرشيد جمع بين أبي الحسن الكسائي وأبي محمد اليزيدي ليتناظرا بين يديه فسأل اليزيدي والكسائي عن إعراب قول الشاعر:
ما رأينا قط خربا ... نقر عنه البيض صقر
لا يكون العير مهراً ... لا يكون المهر مهر؟.
فقال الكسائي: يجب أن يكون المهر منصوباً على أنه خبر كان. ففي البيت على هذا اقواء
فقال اليزيدي: الشعر صواب لأن الكلام قد تم عند قوله لا يكون، ثم استأنف فقال: المهر مهر ثم ضرب الأرض بقلنسوته وقال: أنا أبو محمد. فقال له يحيى بن خالد: أتكتني بحضرة أمير المؤمنين وتسفه على الشيخ. فقال له الرشيد: والله إن خطأ الكسائي مع حسن أدبه، أحب إلي صوابك مع قلة أدبك. فقال: يا أمير المؤمنين إن حلاوة الظفر أذهبت عني التحفظ فأمر بإخراجه. واجتمع الكسائي ومحمد بن الحسن الحنفي يوماً في مجلس الرشيد فقال الكسائي: من تبحر في علم اهتدى لجميع العلوم. فقال له محمد: ما تقول فيمن سها في سجود السهو هل يسجد مرة أخرى؟ قال: لا. قال: لماذا. قال: لأن النحاة تقول: المصغر لا يصغر. قال: فما تقول في تعليق العتق بالملك. قال: لا يصح. قال: لم؟ قال: لأن السيل لا يسبق المطر. وتعلم النسائي النحو على كبر سنه وذلك أنه مشى يوماً حتى أعيا فجلس، فقال: قد عييت، فقيل له: قد لحنت. قال: كيف قيل: إن كنت أردت التعب فقل: أعييت، وإن كنت أردت انقطاع الحيلة، فقل: عييت! فأذ من قولهم لحنت، واشتغل بعلم النحو حتى مهر وصار إمام وقته فيه. وكان مؤدب الأمين والمأمون وكان له اليد العظمى والوجاهة التامة عند الرشيد وولديه. توفي الكسائي ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة في يوم واحد سنة تسع وثمانين ومائة ودفنا في مكان واحد. فقال الرشيد دفن ههنا العلم والأدب.
الأمثال: قالوا: " ما رأينا صقراً يرصده خرب " . يضرب للشريف يقهره الوضيع.
الخرشة: بالتحريك الذبابة قاله الجوهري ومنه سماك بن خرشة الإخباري، سميت أمه بإسم تلك الذبابة ومنه أبو خراشة السلمي في قول عباس بن مرداس:
أبا خراشة أما أنت ذا نقر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع
أي السنة المجدبة ومنه خرشة بن الحر الفزاري الكوفي. مات سنة أربع وسبعين كان يتيماً في حجر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو الذي روي عنه أن رجلاً شهد عند فقال له: إني لا أعرفك ولا يضرك أني لا أعرفك إلى آخر القصة ووقع في المهذب في ذلك غلظ وتصحيف.
الخرشقلا: السمك البلطي. وفي الخبر: لولا الخرشقلا لوجدت أوراق الجنة في ماء النيل. الخرشنة: طائر أكبر من الحمام وسيأتي ذكره في باب الكاف إن شاء الله تعالى.
الخرق: بضم الخاء وتشديد الراء المهملة وبالقاف في آخره نوع من العصافير ذكره الجاحظ.
الخرنق: بكسر الخاء المعجمة ولد الأرنب وبه سمي الخرنق الشاعر الذي كان في زمن التابعين. وأرض مخرنقة أي ذات خرانق وقالوا: " ألين من خرنق " . وكان للنبي صلى الله عليه وسلم درع يقال لها الخرنق للينها، ودرع أخرى يقال لها البتيراء لقصرها، وأخرى يقال لها ذات الفضول، سميت به لطولها، أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وهذه هي التي رهنها عند اليهودي، فافتكها منه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأخرى يقال لها ذات الوشاح وذات الحواشي، وأخرى يقال لها فضة والسغدية، بالسين المهملة والغين المعجمة. قال الحافظ الدمياطي: وكانت السغدية درع داود عليه الصلاة والسلام التي لبسها حين قتل جالوت وكانت عمله بيده.
قال الكلبي وغيره في قوله تعالى: " وعلمه مما يشاء " يعني صنعة الدروع وكان يصنعها ويبيعها، وكان عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده. وقيل: منطق الطير، وكلام البهائم، وقيل: هو الزبور. وقيل: الصوت الطيب والألحان، فلم يعط الله أحداً من خلقه مثل صوته. وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأ الزبور تدنو منه الوحوش، حتى يأخذ بأعناقها، وتظله الطير مصيخة له، ويركد الماء الجاري وتسكن الريح. روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: إن الله تعالى أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة، ورأسها عند صومعته، وقوتها قوة الحديد ولونها لون النار، وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر، مسورة بقضبان اللؤلؤ الرطب، فلا يحدث في الهواء حدث، إلا صلصلت السلسلة، فيعلم داود ذلك الحدث. ولا يمسها ذو عاهة إلا برأ وكان بنو إسرائيل يتحاكمون إليها بعد داود، فمن تعدى على صاحبه، أو أنكر له حقاً أتى إلى السلسلة، فمن كان صادقاً مد يده إلى السلسلة فنالها، ومن كان كاذباً لم ينلها، وكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة. فروي عن غير واحد أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل، أودع عند رجل جوهرة ثمينة ثم طلبها فأنكر الرجل، فتحاكما إلى السلسلة فعمد الرجل الذي عنده الجوهرة إلى عكازه فنقرها وضمنها الجوهرة واعتمد عليها. فلما حضر إلى السلسلة قال صاحب الجوهرة رد علي وديعتي، فقال صاحبه: ما أعرف لك عندي من وديعة، فإن كنت صادقاً فتناول السلسلة فأتاها فتناولها بيده، فقيل للمنكر: قم أنت وتناولها، فقال لصاحب الجوهرة: خذ عكازتي هذه فاحفظها لي حتى أتناول السلسلة، ثم أتاها فتناولها بعد أن قال: أللهم إن كنت تعلم أن هذه الوديعة التي يدعيها علي قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة، ثم مد يده فتناولها، فتعجب القو وشكوا فيها فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة. قال الضحاك والكلبي: ملك داود بعد أن قتل جالوت سبعين سنة، ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود، وجمع الله لداود بين الملك والنبوة، ولم يجتمع ذلك لأحد من قبله، بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط، وقبضه الله تعالى وهو ابن مائة سنة صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ الدمياطي: ودرعان أصابهما من بني قينقاع، فهذه تسع أدرع. وكان صلى الله عليه وسلم قد لبس يوم أحد فضة وذات الفضول، ويوم حنين ذات الفضول والسغدية والله أعلم.
الخروف: معروف، وهو الحمل وربما سمي به المهر إذا بلغ ستة أشهر. حكاه الأصمعي وفي الميزان للإمام الذهبي، في ترجمة عثمان بن صالح السهمي، أنه روي عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قال: مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم نعجة فقال: " هذه التي بورك فيها وفي خروفها " . قال أبو حاتم: هذا حديث موضوع أي كذب.
الأمثال: قالوا : " كالخروف يتقلب على الصوف " . يضرب للرجل المكفي المؤنة.
التعبير: الخروف في الرؤيا يدل على ولد ذكر طائع لوالديه، فمن وهب له خروف وله امرأة حامل أتاه ولد ذكر وجميع الصغار من الحيوان في الرؤيا هموم، لأنها تحتاج إلى كلفة في التربية هذا إذا لم ينسبوا إلى الأولاد. وقيل: الخروف دليل خير لمن أراد الموافقة في أمر يطلبه: لأن الخروف سريع الأنس إلى بني آدم، ومن ذبح خروفاً لغير الأكل مات ولده، والخروف المشوي السمين مال كثير والهزيل مال قليل. ومن أكل شواء خروف فإنه يأكل من كد ولده والله أعلم.
الخزز: بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي الأولى ذكر الأرانب الجمع خران مثل صرد وصردان.
الخشاش: بفتح الخاء المعجمة هوام الأرض وحشراتها، وقيل: صغار الطير وحكى القاضي عياض فتح الخاء وضمها وكسرها. وحكى أبو علي الفارسي فيها الضم أيضاً، وجعل الزبيدي ضمها من لحن العامة. والفتح هو المشهور وواحد الخشاش خشاشة، وقيل: الخشاش دابة تكون في جحر الأفاعي والحيات منقطة بياض وسواد. وقيل: الخشاش الثعبان العظيم وقيل: حية مثل الأرقم وقيل حية خفيفة صغيرة الرأس، وفي الحديث الصحيح: " أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها فلم تطعمها شيئاً ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض " . أي هوامها وحشراتها، وقال الحسن بن عبد الله بن سعد العسكري في كتاب التحريف والتصحيف: الخشاش بالفتح النذل من كل شيء مثل الرخم من الطير وكل ما لا يصيد وأنشد .
خشاش الأرض أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلات نزور
والمعروف في البيت بغاث الطير أكثرها فراخاً. روى ابن أبي الدنيا في كتاب مكايد الشيطان، من حديث أبي الدرداء، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب، وخشاش الأرض وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليه الحساب والعقاب. وخلق الله الإنس ثلاثة أصناف صنف كالبهائم لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، وصنف أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف كالملائكة فهم في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله " . وقال وهيب ابن الورد، بلغنا أن إبليس تمثل ليحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام فقال له: أنصحك فقال له لا أريد ذلك، ولكن أخبرني عن بني آدم فقال: هم عندنا ثلاثة أصناف: صنف منهم هم أشد الأصناف عندنا نقبل على أحدهم حتى نفتنه عن دينه، ونتمكن منه فيفزع إلى الاستغفار والتوبة، فيفسد علينا كل شيء نصيبه منه، ثم نعود إليه فيعود فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك منه حاجتنا، فنحن معه في عناء، وصنف منهم في أيدينا كالكرة في أيدي صبيانكم نتلقفهم كيف شئنا قد كفونا مؤنة أنفسهم، وصنف منهم مثلك هم معصومون لا نقدر منهم على شيء.
الخشاف: لغة في الخفاش.
الخشرم: الزنابير. قال الأصمعي لا واحد له من لفظه.
الخشف: بضم الخاء وفتح الشين المعجمة الذباب الأخضر. والخشف بكسر الخاء وإسكان الشين المعجمة ولد الظبي بعد أن يكون جداية وقيل: هو خشف أول ما يولد والجمع خشفة. قال ابن سيده وروى جرير عن ليث قال: صحب رجل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام فقال: أكون معك يا نبي الله وأصحبك، فانطلقا حتى أتيا إلى شط نهر، فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة، فأكلا رغيفين وبقي رغيف، فقام عيسى عليه الصلاة والسلام إلى النهر، فشرب ثم رجع فلم يجد الرغيف، فقال للرجل: من أخذ الرغيف؟ فقال: لا أدري. قال: فانطلق ومعه صاحبه. فرأى ظبية ومعها خشفان لها، فدعا أحدهما فأتاه فذبحه وشوى من لحمه وأكل هو والرجل، ثم قال للخشف: قم بإذن الله فقام وذهب. فقال للرجل: أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف؟. فقال: لا أدري فسارا حتى انتهيا إلى نهر، فأخذ عيسى بيد الرجل ومشيا على الماء، فلما جازا قال عيسى: أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف؟ قال: لا أدري. فسارا حتى انتهيا إلى مفازة فجلسا، فأخذ عيسى تراباً ورملاً وقال كن ذهباً بإذن الله فكان ذهباً، فقسمه عيسى ثلاثة أثلاث، ثم قال: ثلث لي وثلث لك وثلث للذي أخذ الرغيف. فقال الرجل: أنا أخذته قال عيسى: كله لك. ثم فارقه عيسى عليه السلام وذهب ومكث هو عند المال في المفازة، فانتهى إليه رجلان فأرادا أن يأخذاه منه ويقتلاه، فقال: هو بيننا أثلاثاً ثم قال: فابعثا أحدكما إلى القرية ليشتري لنا طعاماً فقال الذي بعث: لأي شيء أقاسمهما المال. لأجعلن لهما في الطعام سماً فاقتلهما ففعل. وقال صاحباه في غيبته: لأي شيء نقاسمه المال. إذا جاء قتلناه واقتسمنا المال نصفين. فلما جاء قاما إليه وقتلاه، ثم أكلا الطعام فماتا وبقي المال في المفازة وأولئك الثلاثة قتلى حوله فمر عيسى عليه الصلاة والسلام بهم. وهم على تلك الحالة، فقال لأصحابه: هكذا الدنيا تفعل بأهلها فاحذروها.
الخضاري: طائر يسمى الأخيل قاله الجوهري. وقد تقدم في باب الهمزة.
الخضرم: كعلبط ولد الضب.
الخضيراء: طائر معروف عند العرب.
الخطاف: بضم الخاء المعجمة جمعه خطاطيف ويسمى زوار الهند وهو من الطيور القواطع
إلى الناس، تقطع البلاد البعيدة إليهم رغبة في القرب منهم ثم إنها تبني بيوتها في أبعد المواضع عن الوصول إليها، وهذا الطائر يعرف عند الناس بعصفور الجنة، لأنه زهد ما في أيديهم من الأقوات فأحبوه لأنه إنما يتقو بالذباب والبعوض. وفي الحديث الحسن، الذي رواه ابن ماجه وغيره، عن سهل بن سعد الساعدي، أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال: " ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس " . فأما كون الزهد في الدنيا سبباً لمحبة الله تعالى فلأنه تعالى يحب من أطاعه ويبغض من عصاه، وطاعة الله لا تجتمع مع محبة الدنيا، وأما كونه سبباً لمحبة الناس فلأنهم يتهافتون على محبة الدنيا، وهي جيفة منتنة وهم كلابها، فمن زاحمهم عليها أبغضوه، ومن زهد فيها أحبوه كما قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه:
وما هي إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها
وقد أحسن القائل في وصف الخطاف:
كن زاهداً فيما حوته يد الورى ... تضحي إلى كل الأنام حبيبا؟.
أو ما ترى الخطاف حرم زادهم ... أضحى مقيماً في البيوت ربيبا
سماه ربيبا لأنه يألف البيوت العامرة دون الخربة، وهو قريب من الناس ومن عجيب أمره أن عينه تقلع ثم ترجع ولا يرى واقفاً على شيء يأكله أبداً ولا مجتمعاً بأنثاه، والخفاش يعاديه فلذلك إذا فرخ يجعل في عشه قضبان الكرفس فلا يؤذيه إذا شم رائحته ولا يفرخ في عش عتيق حتى يطينه بطين جديد ويبني عشه بناء عجيباً. وذلك أنه يهيىء الطين مع التبن فإذا لم يجد طيناً مهيئاً ألقى نفسه في الماء ثم يتمرغ في التراب حتى يمتلىء جناحاه، ويصير شبيها بالطين، فإذا هيأ عشه جعله على القدر الذي يحتاج إليه هو وأفراخه ولا يلقي في عشه زبلاً بل يلقيه إلى خارج، فإذا كبرت فراخه علمها ذلك. وأصحاب اليرقان يلطخون فراخ الخطاف بالزعفران فإذا رآها صفراء ظن أن اليرقان أصابها من شدة الحر فيذهب فيأتي بحجر اليرقان من أرض الهند، فيطرحه على فراخه، وهو حجر صغير فيه خطوط بين الحمرة والسواد يعرف بحجر السنونو فيأخذه المحتال فيعلقه عليه أو يحكه ويشرب من مائه يسيراً فإنه يبرأ بإذن الله تعالى. والخطاف متى سمع صوت الرعد يكاد أن يموت، وقال ارسطو في كتاب النعوت: الخطاطيف إذا عميت أكلت من شجرة يقال لها عين شمس فيرد بصرها لما في تلك الشجرة من المنفعة للعين وفي رسالة القشيري في آخر باب المحبة أن خطافاً راود خطافة على قبة سليمان عليه الصلاة والسلام فامتنعت منه، فقال لها: أتمتنعين علي ولو شئت لقلبت القبة على سليمان، فسمعه سليمان فدعاه وقال له ما حملك على ما قلت. فقال: يا نبي الله العشاق لا يؤاخذون بأقوالهم قال: صدقت.
فائدة: ذكر الثعلبي وغيره في تفسير سورة النمل أن آدم عليه الصلاة والسلام، لما أخرج
من الجنة اشتكى إلى الله تعالى الوحشة، فآنسه الله تعالى بالخطاف، وألزمها البيوت فهي لا تفارق بني آدم أنسالهم. قال: ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل وهي " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا " إلى آخر السورة، وتمد صوتها بقوله العزيز الحكيم. والخطاطيف أنواع: منها نوع يألف سواحل البحر يحفر بيته هناك، ويعشش فيه، وهو صغير الجثة دون عصفور الجنة، ولونه رمادي والناس يسمونه سنونو بضم السين المهملة ونونين. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين المهملة، ومنها نوع أخضر على ظهره بعض حمرة أصغر من الذرة يسميه أهل مصر الخضيري، لخضرته يقتات الفراش والذباب ونحو ذلك، ومنها نوع طويل الأجنحة رقيقها يألف الجبال، ويأكل النمل، وهذا النوع يقال له السمائم مفرده سمامه، ومنهم من يسمي هذا النوع السنونو الواحدة سنونوة، وهو كثير في المسجد الحرام يعشش في سقفه في باب إبراهيم وباب بني شيبة. وبعض الناس يزعم أن ذلك هو الطير الأبابيل الذي عذب الله تعالى به أصحاب الفيل. روى نعيم بن حماد عن الحسن رضي الله عنه، قال: دخلنا على ابن مسعود رضي الله عنه، وعنده غلمان كأنهم الدنانير، أو الأقمار حسناً فجعلنا نتعجب من حسنهم، فقال عبد الله كأنكم تغبطوني بهم. فقلنا: والله إن مثل هؤلاء يغبط بهم الرجل المسلم، فرفع رأسه إلى سقف بيت له قصير، قد عشش فيه الخطاف وباض، فقال: والذي نفسي بيده لأن أكون قد نفضت يدي من تراب قبورهم، أحب إلي من أن يخرج عش هذا الطائر فينكسر بيضه. قال ابن المبارك: إنما قال ذلك خوفاً عليهم من العين. قال أبو إسحاق الصابي يصف الخطاف:
وهندية الأوطان زنجية الخلق ... مسودة الألوان محمرة الحدق
إذا صرصرت صرت بآخر صوتها ... حداد فأذرت من مدامعها العلق
كأن بها حزنًا وقد لبست له ... كما صر ملوي العود بالوتر الحزق
تصيف لدينا ثم تشتو بأرضها ... ففي كل عام نلتقي ثم نفترق
الحكم يحرم أكل لحم الخطاطيف لما روى أبو الحويرث عبد الرحمن بن معاوية وهو من التابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل الخطاطيف وقال: " لا تقتلوا هذه العوذ إنها تعوذ بكم من غيركم " . ورواه البيهقي وقال: إنه منقطع. قال: ورواه إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبيه، قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الخطاطيف عوذ البيوت " . ومن هذه الطريق رواه أبو داود في مراسيله، قال البيهقي: وهو منقطع أيضاً. لكن صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما موقوفاً عليه، أنه قال: " لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح. ولا تقتلوا الخطاف فإنه لما خرب بيت المقدس قال: يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم " . قال البيهقي: اسناده صحيح. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الضاد المعجمة في الحديث " إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلالة والمجثمة والخطفة " . بإسكان الطاء وفيها تأويلان أحدهما أن الخطفة ما اختطفه السبع من الحيوانات فأكله حرام. قاله ابن قتيبة: الثاني إن النهي عما يختطف بسرعة ومنها سمي الخطاف لسرعة اختطافه. قاله ابن جرير الطبري ونقله عنه في الحاوي. فعلى هذا يحرم كل ما كان يتقوت بما يختطفه، ولأنه يتقوت من الخبائث قال الماوردي : كل ما كان مستخبثاً كالخطاطيف والخفافيش فأكله حرام لخبث لحمه. وقال محمد بن الحسن رضي الله عنه: إنه حلال لأنه يتقوت بالحلال غالباً قال أبو عاصم العبادي: وهذا محتمل على أصلنا. وإليه مال أكثر أصحابنا. وحكاه في شرح المهذب قولاً عن حكاية البندنيجي.
الخواص : قال ارسطو: إن أخذت عين الخطاف وجعلت في خرقة، وشدت على سرير فمن صعد على ذلك السرير لم ينم. وإن أخذت وجففت وسحقت بدهن طيب، فأي امرأة شربت منه أحبت الساقي. وإن أخذت وسحقت بدهن زنبق ومسحت به سرة امرأة نفساء نفعتها. وقلبه إذا سحق بعد تجفيفه وشرب هيج الباه. ودمه إذا سقيت منه امرأة، وهي لا تعلم، سكن عنها شهوة الجماع. وإن ضمد به اليافوخ سكن الصداع الحادث من الأخلاط. وزبله يسحق ويطلى به على الدبيلة تبرأ. ومرارته تسود الشعر الأبيض شرباً، وينبغي أن يملأ الشارب فمه حليباً لئلا تسود أسنانه ولحمه يورث السهر لآكله وفي رأس الخطاف حصاة فيها منافع شتى، وكل خطاف يبلع تلك الحصاة فمن ظفر بها وحملها معه وقته السوء، وكانت له وسيلة إلى من يحب حتى لا يقدر على رده. قال الاسكندر: يوجد عند أول بطن من بطون الخطاطيف في أعشاشها، أول ما يبرزن ويظهرن في العش، حجران أبيضان أو أبيض وأحمر، إن وضع الأبيض على المصروع أفاق، وإن وضع على المعقود حله، والأحمر إن علق على من به عسر البول أبرأه، وربما وجد هذان الحجران مختلفي. الأحوال أحدهما طويل والآخر ململم إن جعلا في جلد عجل وعلقا على من به وسواس وتخيل أبرأه. ولا يوجدان إلا في العش الذي يكون في ناحية المشرق دون غيره، وهو عجيب مجرب وقال ابن الدقاق: إن أخذ الطين من عشه، وأديف بالماء وشرب أدر البول، مجرب نافع.
التعبير: الخطاف في المنام يؤول برجل أو امرأة ومال وولد قارىء لكتاب الله تعالى، ويؤول بمال مغصوب. فمن رأى أنه أخذ خطافاً اتخذ مالاً حراماً ،وذلك لأن إسمه خطاف، وهو بمنزلة الخطف. ومن رأى أن بيته قد امتلأ خطاطيف، نال مالاً حلالاً لأنه نماء خطفه. وقيل: الخطاف رجل أديب أنيس ورع، فمن رأى كأنه استعاره من غيره فإنه يأنس إلى شخص، ومن أخذه فإنه يظلم امرأة. وقالت النصارى: من أكل لحم خطاف في المنام، فإنه يقع في خصومة. ومن رأى الخطاطيف تخرج من داره تفرق عنه أقرباؤه من جهة سفر، وربما دل الخطاف على الأشغال والأعمال لأنه يظهر في زمن البطالة، وصوت الخطاطيف تنبيه على عمل الخير لأنه كالتسبيح، وربما دل على امرأة صاحبة أمانة. وقال جاماسب: من صاد خطافاً أدخلت اللصوص عليه والله تعالى أعلم.
الخطاف: بفتح الخاء وتشديد الطاء، سمكة ببحر سبتة لها جناحان على ظهرها أسودان، تخرج من الماء وتطير في الهواء ثم تعود إلى البحر قاله أبو حامد الأندلسي. الخفاش: بضم الخاء وتشديد الفاء واحد الخفافيش التي تطير في الليل، وهو غريب الشكل والوصف والخفش صغر العين وضيق البصر.
فائدة: الأخفش صغير العين ضعيف البصر وقيل: وهو عكس الأعشى وقيل: هو من يبصر في الغيم دون الصحو. وقال الجوهري: هو نوعان والأعشى من يبصر نهاراً لا ليلاً والعمش ضعف الرؤية مع سيلان الدمع غالب الأوقات والعور معروف.
تتمة: في كل عين نصف دية ولو عين أحول وأخفش وأعمش وأعور وأعشى وأجهرو نحوهم لأن المنفعة باقية في أعين هؤلاء ومقدار المنفعة لا ينظر إليه كما لا ينظر إلى قوة البطش والمشي وضعفهما. وكذا من بعينه بياض لا ينقص الضوء فإنه يكون كالثآليل في اليد سواء كان على بياض الحدقة أو سوادها وكذا لو كان على الناظر، إلا أنه رقيق لا يمنع الأبصار، ولا ينقص الضوء. هذا ما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه، وجرى عليه الأئمة ولم يفرقوا بين حصول ذلك بآفة سماوية أو جناية، فإن نقص فبقسطه، إن أمكن ضبط ذلك النقصان بالصحيحة التي لا بياض بها، وإن لم يمكن ضبط النقص الحاصل بالجناية فالواجب فيه الحكومة وفارق الأعمش ونحوه فإن البياض نقص الضوء الخلقي وعين الأعمش لا ينقص ضوؤها عما كان في الأصل. وهذا الفرق يفهمك أن العمش لو تولد من آفة أو جناية لا يجب في العين كمال الدية فإن سلم قيد به ذلك الاطلاق السابق.
فرع: ليس في عين الأعور السليمة إلا نصف الدية عندنا. قال ابن المنذر: وروي عن عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما أن فيها الدية، وبه قال عبد الملك بن مروان والزهري وقتادة ومالك والليث والإمام أحمد وإسحاق بن راهويه انتهى. قال البطليوسي: الخفاش له أربعة أسماء: خفاش وخشاف وخطاف ووطواط، وتسميته خفاشاً يحتمل أن تكون مأخوذة من الخفش والأخفش في اللغة نوعان: ضعيف البصر خلقه، والثاني لعلة حدثت وهو الذي يبصر بالليل دون النهار وفي يوم الغيم دون يوم الصحو انتهى. وذكر الجاحظ أن إسم الخفاش يقع على سائر طير الليل، فكأنه راعي العموم، وكون الوطواط هو الخفاش هو الذي ذكره ابن قتيبة وأبو حاتم في كتاب الطير الكبير. وما ذكره البطليوسي من أن الخفاش هو الخطاف فيه نظر، والحق أنهما صنفان وهو الوطواط. وقال قوم: الخفاش الصغير والوطواط الكبير وهو لا يبصر في ضوء القمر ولا في ضوء النهار غير قوي البصر قليل شعاع العين كما قال الشاعر:
مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نوراً ويعمي أعين الخفاش
ولما كان لا يبصر نهاراً التمس الوقت الذي لا يكون فيه ظلمة ولا ضوء وهو قريب غروب الشمس لأنه وقت هيجان البعوض، فإن البعوض يخرج ذلك الوقت يطلب قوته، وهو دماء الحيوان، والخفاش يخرج طالباً للطعم فيقع طالب رزق على طالب رزق فسبحان الحكيم. والخفاش ليس هو من الطير في شيء فإنه ذو أذنين وأسنان وخصيتين ومنقار ويحيض ويطهر، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويبول كما تبول ذوات الأربع ويرضع ولده ولا ريش له. قال: بعض المفسرين: لما كان الخفاش هو الذي خلقه عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام بإذن الله تعالى كان مبايناً لصنعة الخالق. ولهذا سائر الطيور تقهره وتبغضه فما كان منها يأكل اللحم أكله وما لا يأكل اللحم قتله، فلذلك لا يطير إلا ليلاً. وقيل لم يخلق عيسى غيره لأنه أكمل الطير خلقاً. وهو أبلغ في القدوة لأن له ثدياً وآذاناً وأسناناً ويحيض كما تحيض المرأة. قال وهب بن منبه: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق، وليعلم أن الكمال لله تعالى. وقيل: إنما طلبوا خلق الخفاش لأنه من أعجب الطير خلقية، إذ هو لحم ودم يطير بغير ريش وهو شديد الطيران سريع التقلب، يقتات البعوض والذباب، وبعض الفواكه وهو مع ذلك موصوف بطول العمر فيقال: إنه أطول عمراً من النسر ومن حمار الوحش، وتلد أنثاه ما بين ثلاثة أفراخ وسبعة، وكثيراً ما يسفد وهو طائر في الهواء وليس في الحيوان ما يحمل ولده غيره والقرد والإنسان، ويحمله تحت جناحه وربما قبض عليه بفيه وذلك من حنوه وإشفاقه عليه، وربما أرضعت الأنثى ولدها وهي طائرة وفي طبعه إنه متى أصابه ورق الدلب خدر ولم يطر، ويوصف بالحمق، ومن ذلك أنه إذا قيل له: اطرق كرى، الصق بالأرض.
الحكم: يحرم أكله لما رواه أبو الحويرث مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله، وقيل: إنه لما خرب بيت المقدس، قال: رب سلطني على البحر حتى أغرقهم، وسئل عنه الإمام أحمد فقال: ومن يأكله؟ قال النخعي: كل الطير حلال إلا الخفاش. قال الروياني: وقد حكينا في الحج خلاف هذا فيحتمل قولين، وعبارة الشرح والروضة يحرم الخفاش قطعاً. وقد يجري فيه الخلاف مع أنهما قد جزما في كتاب الحج بوجوب الجزاء فيه، إذا قتله المحرم، وإن الواجب فيه القيمة مع تصريحهما بأن ما لا يؤكل لا يفدى على أن الرافعي مسبوق بذلك، فأول من ذكره صاحب التقريب وأشعر كلامه بأن الشافعي رضي الله تعالى عنه ذكره. وذكر المحاملي أن اليربوع لا يحل أكله، ويجب فيه الجزاء في أصح القولين وهو غريب، ولم يزل الناس يستشكلون ما وقع في الرافعي من ذلك. وليس بمشكل فهو يتبين بمراجعة كلام الروياني فإنه قال: فرع: قال في الأم: الوطواط فوق العصفور ودون الهدهد، وفيه إن كان مأكولاً قيمته.
وذكر عن عطاء أنه قال: فيه ثلاثة دراهم انتهى. فاتضح إن المسألة منصوصة للشافعي رضي الله تعالى عنه، وأنه علق وجوب الجزاء على القول بحل أكله، تم تتبعت كلام عطاء المذكور فوجدت الأزهري قد نقل عنه أنه يجب فيه إذا قتله المحرم ثلثاً درهم. قال أبو عبيد قال الأصمعي: الوطواط هو الخفاش. وقال أبو عبيدة: الأشبه عندي أنه الخطاف. قلت: وأيا كان فهو غير مأكول.
الخواص: إذا وضع رأسه في حشو مخدة، فمن وضع رأسه عليها لم ينم، وإن طبخ رأسه في إناء نحاس أو حديد بدهن زنبق، ويغمز فيه مراراً حتى يتهرى ويصفى ذلك الدهن عنه، ويدهن به صاحب النقرس، والفالج القديم والارتعاش، والتورم في الجسد والربو، فإنه ينفعه ذلك ويبرئه وهو عجيب مجرب. وإن ذبح الخفاش في بيت وأخذ قلبه، وأحرق فيه لم يدخله حيات ولا عقارب، وإن علق قلبه وقت هيجانه على إنسان هيج الباه. وعنقه إذا علق على إنسان أمن من العقارب، ومن مسح بمرارته فرج امرأة قد عسرت ولادتها، ولدت لوقتها، ومن أخذت من النساء من شحمه لرفع الدم ارتفع عنها. وإن طبخ الخفاش ناعماً حتى يتهرى، ومسح به الإحليل أمن من تقطير البول، وإن صب من مرق الخفاش وقعد فيه صاحب الفالج انحل ما به. وزبله إذا طلي به على القوابي قلعها، ومن نتف ابطه وطلاه بدمه مع لبن أجزاء متساوية لم ينبت فيه شعر وإذا طلي به عانات الصبيان قبل البلوغ منع من نبات الشعر فيها.
التعبير: الخفاش في المنام رجل ناسك، وقال ارطيا ميدروس: إن رؤيته تدل على البطالة وذهاب الخوف لأنه من طيور الليل ولا يؤكل لحمه وهو دليل خير للحبلى بأنها تلد ولادة سهلة ولا تحمد رؤيته للمسافر براً وبحراً، وتدل رؤيته على خراب منزل من يدخل إليه وقيل: الخفاشة في المنام امرأة ساحرة والخفاش تدل رؤيته على رجل حيران ذي حرمان والله أعلم.
الخنان: كرمان الوزغة، وفي حديث علي كرم الله وجهه أنه قضى قضاء، فاعترف عليه بعض الحرورية فقال له: اسكت يا خنان ذكره الهروي وغيره.
الخلنبوص: بفتح الخاء المعجمة واللام وإسكان النون وضم الباء الموحدة طائر أصغر من العصفور على لونه وشكله.
الخلد: بضم الخاء ونقل في الكفاية عن الخليل بن أحمد فتح الخاء وكسرها قال الجاحظ:
هو دويبة عمياء صماء لا تعرف ما بين يديها إلا بالشم، فتخرج من جحرها، وهي تعلم أن لا سمع لها ولا بصر، فتنفخ فاها وتقف عند جحرها، فيأتي الذباب فيقع على شدقها، ويمر بين لحييها فتدخله جوفها بنفسها، فهي تتعرض لذلك في الساعات التي يكون فيها الذباب أكثر. وقال غيره: الخلد فأر أعمى لا يدرك إلا بالشم. قال ارسطو في كتاب النعوت: كل حيوان له عينان إلا الخلد، وإنما خلق كذلك لأنه ترابي جعل الله له الأرض كالماء للسمك، وغذاؤه من بطنها وليس له في ظهرها قوة ولا نشاط، ولما لم يكن له بصر، عوضه الله حدة حاسة السمع فيدرك الوطء الخفي من مسافة بعيدة، فإذا أحس بذلك جعل يحفر في الأرض، قال: والحيلة في صيده أن يجعل له في جحره قملة، فإذا أحس بها وشم رائحتها، خرج إليها ليأخذها وقيل: إن سمعه بمقدار بصر غيره. وفي طبعه الهرب من الرائحة الطيبة، ويهوى رائحة الكراث والبصل، وربما صيد بهما فإنه إذا شمهما خرج إليهما، وهو إذا جاع فتح فاه فيرسل الله تعالى له الذباب فيسقط عليه فيأكله، وذكر بعض المفسرين، أن الخلد هو الذي خرب سد مأرب، وذلك أن قوم سبأ كانت لهم جنتان، أي بستانان عن يمين من يأتيها وشماله. قال الله تعالى لهم: " كلوا من رزق ربكم واشكروا له " أي على ما أنعم به عليكم. وكانت بلدتهم طيبة لا يرى فيها بعوض ولا برغوث، ولا عقرب ولا حية، ولا ذباب، وكان الركب يأتون وفي ثيابهم القمل وغيره، فإذا وصلوا إلى بلادهم ماتت. وكان الإنسان يدخل البستان والمكتل على رأسه، فيخرج وقد امتلأ من أنواع الفواكه من غير أن يتناول منها شيئاً بيده. فبعث الله لهم ثلاثة عشر نبياً فدعوهم إلى الله وذكروهم نعمه عليهم. وأنذروهم عقابه فأعرضوا وقالوا: ما نعرف لله علينا من نعمة وكان لهم سد بنته بلقيس، لما ملكتهم، وبنت دونه بركة فيها اثنا عشر مخرجاً على عدد أنهارهم، فكان الماء يقسم بينهم على ذلك. فلما كان من شأنها مع سليمان عليه الصلاة والسلام ما كان، مكثوا مدة بعدها ثم طغوا وبغوا وكفروا فسلط الله عليهم جرذاً أعمى، يقال له الخلد، فنقب السد من أسفله فهلكت أشجارهم وخربت أرضهم. وكانوا يزعمون في علمهم وكهانتهم أن سدهم ذلك تخربه فأرة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة، فلما جاء الوقت الذي أراد الله تعالى، أقبلت فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرار، فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها، ونقبت وحفرت، فلما جاء السيل وجد خللاً، فدخل فيه حتى قلع السد، وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم بالرمل.
وروي: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ووهب غيرهما أنه قال: كان ذلك السد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء أوديتهم، فأمرت بواديهم فسد بالعرم، وهو بلغة حمير، فسدت بين الجبلين بالصخر والقار، وجعلت له أبواباً ثلاثة: بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدد أنهارهم، يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء وإذا استغنوا عنه سدوها فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفد الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة، فكانت تقسمه بينهم على ذلك والله أعلم.
ونقل: الإمام أبو الفرج بن الجوزي عن الضحاك، أن الجرذ الذي خرب سد مأرب كان له مخاليب وأنياب من حديد، وأن أول من علم بذلك عمرو بن عامر الأزدي وكان سيدهم وكان قد رأى في المنام، كأنه انبثق عليه الردم، فسال الوادي، فأصبح مكروباً فانطلق نحو الردم، فرأى الجرذ يحفر بمخاليب من حديد، ويقرض بأنياب من حديد، فانصرف إلى أهله فأخبر امرأته وأراها ذلك وأرسل بنيه فنظروا، فلما رجعوا قال: هل رأيتم ما رأيت قالوا نعم قال: فإن هذا الأمر ليس لنا إلى إذ هابه من سبيل. وقد اضمحلت الحيلة فيه لأن الأمر من الله، وقد آذن الله بالهلاك ثم إنه عمد إلى هرة فأخذها، وأتى إلى الجرذ فصار الجرذ يحفر ولا يكترث بالهرة، فولت الهرة هاربة فقال عمرو لأولاده: احتالوا لأنفسكم فقالوا: يا أبت كيف نحتال. فقال: إني محتال لكم بحيلة قالوا: افعل فدعا أصغر بنيه وقال له: إذا جلست في المجلس، واجتمع الناس على العادة، وكان الناس يجتمعون إليه وينتهون برأيه، فإني آمرك بأمر فتغافل عنه، فإذا شتمتك فقم إلي والطمني. ثم قال لأولاده: فإذا فعل ذلك فلا تنكروا عليه، ولا يتكلم أحد منكم، فإذا رأى الجلساء فعلكم لم يجسر أحد منهم أن ينكر عليه، ولا يتكلم فأحلف أنا عند ذلك يميناً لا كفارة لها، أن لا أقيم بين أظهر قوم قام إلي أصغر بني فلطمني فلم يغيروا. فقالوا: نفعل ذلك فلما جلس واجتمع الناس إليه أمر ابنه الصغير ببعض أمره، فلها عنه فشتمه، فقام إليه ولطم وجهه فعجب الجماعة من جراءة ابنه عليه، وظنوا أن أولاده يغيرون عليه فنكسوا رؤوسهم! فلما لم يغر أحد منهم، قام الشيخ وقال: أيلطمني ولدي وأنتم سكوت! ثم حلف يميناً لا كفارة لها أن يتحول عنهم، ولا يقيم بين أظهر قوم لم يغيروا عليه، فقام القوم يعتذرون إليه وقالوا له: ما كنا نظن أن أولادك لا يغيرون، فذاك الذي منعنا. فقال: قد سبق مني ما ترون وليس إلي غير التحول من سبيل. ثم أنه عرض ضياعه للبيع، وكان الناس يتنافسون فيها، واحتمل بثقله وعياله وتحول عنهم، فلم يلبث القوم إلا يسيراً حتى أتى الجرذ على الردم، فاستأصله فبينما القوم ذات ليلة بعدما هدأت العيون، إذا هم بالسيل فاحتمل أنعامهم وأموالهم وخرب ديارهم، فذلك قوله تعالى: " فأرسلنا عليهم سيل العرم " وفي العرم أقوال: قيل: هو المسناة أي السد. قاله قتادة. وقيل: هو إسم الوادي، قال السهيلي. وقيل: إسم الخلد الذي خرق السد. وقيل هو السيل الذي لا يطاق. وأما مأرب فبسكون الهمزة إسم لقصر كان لهم. وقيل: هو إسم لكل ملك كان على سبأ، كما أن تبعا إسم لكل من ولي اليمن والشحر وحضرموت، قاله المسعودي. وقال السهيلي: وكان السد من بناء سبأ بن يشجب، وكان قد ساق إليه سبعين وادياً ومات من قبل أن يتمه فاتمته ملوك حمير. وإسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان. قيل: إنه أول من سبي فسمي سبأ. وقيل: إنه أول من تتوج من ملوك اليمن، وقال المسعودي: بناه لقمان بن عاد وجعله فرسخاً في فرسخ، وجعل له ثلاثين شعباً فأرسل الله عليه سيل العرم، وفرقوا ومزقوا حتى صاروا مثلاً. فقالوا: " تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ " . قال الشعبي: لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد، فأما غسان. فلحقوا بالشأم، والأزد إلى عمان، ومر خزاعة إلى تمامة وجذيمة إلى العراق، والأوس والخزرج إلى يثرب، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جد الأوس والخزرج.
روى: أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك القطيفي قال: قال رجل: يا رسول الله أخبرني عن سبأ أكان رجلاً أو امرأة أو أرضاً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " كان رجلاً من العرب، وله عشرة أولاد تيامن منهم ستة وتشاءم. أربعة، فأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير. فقال الرجل: وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة. وأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان.
ومن الفوائد المجربة: أن يكتب للخلد الذي يطلع في الدواب، ويعلق في أذن الدابة اليسرى: يا خلد سليمان بن داود ذكر عزرائيل على وسطك، وذكر جبرائيل على رأسك، وذكر اسرافيل على ظهرك، وذكر ميكائيل على بطنك لا تدب ولا تسعى ألا أيبس كما يبس لبن الدجاج وقرن الحمار بقدرة العزيز القهار. وهذا قول عزرائيل وجبرائيل واسرافيل وميكائيل، وملائكة الله المقربين، الذين لا يأكلون ولا يشربون، إلا بذكر الله هم يعيشون اصباً وتآال شداي ايبس أيها الخلد من دابة فلان ابن فلانة أو من هذه الدابة بقدرة من يرى ولا يرى. ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا فماتوا. كذلك يموت الخلد من دابة فلان ابن فلانة أو من هذه الدابة.
من الفوائد المجرية للخلد أيضاً، أن يكتب في ورقة ويعلق في عنق الفرس المخلود: طلعوا ستة وستين ملكاً إلى جبال القدس لقوا ثلاث شجرات الواحدة قطعت والثانية يبست والثالثة احترقت انقطع أيها الخلد ببركة سيهوم ديهوم دهوم بألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم على الله اللهم احفظ حامله ودابته بحرمة الرب العظيم والقرآن العظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم انتهى.
الحكم: يحرم أكله لأنه نوع من الفأر وقال مالك: لا بأس بأكل الخلد والحيات إذا ذكى ذلك. وهذا أول مسألة في كتاب الذبائح من المدونة.
الأمثال: قالوا: " اسمع من خلد وأفسد من خلدا " .
الخواص: لحمه إذا اكتحل به أبرأ العين، والدم الذي في ذنبه إذا طلى به الخنازير أذهبها، وشفته العليا إذا علقت على من به حمى الربيع أذهبتها، وإن أكل لحمه قبل طلوع الشمس مشوياً تعلم آكله كل شيء، ودماغه إن جعل في قارورة مع دهن ورد ودهن به الجرب، والقوابي والكالف، والحزاز وكل شيء يظهر في الجسد أبرأه، قال الجاحظ: التراب الذي يخرجه الخلد من جحره يزعمون أنه يصلح لصاحب النقرس، إذا بل بالماء وطلي به ذلك المكان. وقال ارسطو: إذا غرق الخلد في ثلاثة أرطال ماء، ثم سقي منه إنسان تكلم بكل علم يسأل عنه، على سبيل الهذيان اثنين وأربعين يوماً. وقال يحيى بن زكريا: إذا غرق الخلد في ثلاثة أرطال ماء، وترك فيه حتى ينتفخ ثم يصفى من ذلك الماء، ويرمى عظمه، ويطبخ في قدر نحاس ويلقى عليه أربعة دراهم لبان ذكر، ومثله أفيون، ومثله كبريت، ومثله نشادر، بعد أن تدق هذه الحوائج مع أربعة أرطال عسل ويطبخ حتى يصير مثل الطلاء، ويجعل في إناء زجاج ثم يلعق على الريق، والشمس في الحمل إلى أن تدخل الأسد، ولا يأكل مستعمله شيئاً فيه زهومة، ويكون طاهراً صائماً، فمن فعل ذلك علمه الله تعالى كل شيء بقدرته.
التعبير: الخلد تدل رؤيته على العمى والنية والتبدد والحيرة والاختفاء وضيق الملك. وربما دلت رؤيته على حدة السمع لمن يشكو ضرراً من سمعه إن رؤي مع ميت فهو في النار لقوله عز وجل:، " وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون " وربما كان في الجنة ومسكن جنة الخلد والله تعالى أعلم.
الخلفة: الناقة الحامل وجمعها خلفات. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان قلنا نعم قال فثلاث آيات يقرؤهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان " . وروي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن، ولا أحد قد بنى بنياناً ولم يرفع سقفها، ولا أحد قد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر أولادها. قال: فغزا فدنا من القرية حين صلاة العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، واللهم احبسها علي فحبست عليه حتى فتح الله عليه " . الحديث . وهذا النبي هو يوشع بن نون عليه السلام.
فائدة: حبست الشمس مرتين لنبينا صلى الله عليه وسلم: إحداهما يوم الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فردها الله تعالى عليه. كما رواه الطحاوي وغيره. والثانية صبيحة الإسراء حين انتظر العير التي أخبر بوصولها مع شروق الشمس وفي أواخر المستدرك من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو أخذ سبع خلفات بشحومهن، فألقين في شفير جهنم ما انتهين إلى قعرها سبعين عاماً " . قال شيخ الإسلام الإمام الذهبي: إسناده صالح. والحكمة في التمثيل بالسبع إن ذلك عدد أبواب جهنم. وروى الشافعي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الا إن في قتيل الخطأ وقتيل السوط والعصا مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها " . وإسناده ضعيف ومنقطع. وقال أبو حاتم: رواية ارساله أشبه. قال شيخ الإسلام النووي في تهذيبه: وهذا مما يستشكل لأن الخلفة هي التي في بطنها ولدها فإن قيل: فما الحكمة في قوله صلى الله عليه وسلم: " في بطونها أولادها " ؟ فجوابه من أربعة أوجه: أحدها أنه توكيد وإيضاح، والثاني أنه تفسير لها لا قيد، والثالث أنه نفي لوهم من يتوهم أن يكفي في الخلفة أن تكون حملت في وقت ما ولا يشترط حملها حالة دفعها في الدية، والرابع أنه إيضاح لحكمها وأنه يشترط في نفس الأمر أن تكون حاملاً ولا يكفي قول أهل الخبرة أنها خلفة إذا تبين إنه لم يكن في بطنها ولد. وذكر الرافعي أنه قيل: إن الخلفة تطلق أيضاً على التي ولدت وولدها يتبعها.
فائدة أخرى: الخطأ المحض هو أن لا يقصد ضربه، بل قصد شيئاً آخر فأصابه فمات منه، فلا قصاص عليه، بل تجب دية مخففة على عاقلته، مؤجلة إلى ثلاث سنين. وتجب الكفارة في ماله في الأنواع كلها. وشبه العمد أن يقصد ضربه بما لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالباً بأن ضربه بعصا خفيفة أو حجر صغير ضربة أو ضربتين فمات، فلا قصاص فيه، بل تجب دية مغلظة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين. والعمد المحض هو أن يقصد قتل إنسان، بما يقصد به القتل غالباً، كالسيف والسكين، وما أشبه ذلك ففيه القصاص عند وجود التكافؤ، أو دية مغلظة في مال القاتل حالة. وعند أبي حنيفة، قتل العمد لا يوجب الكفارة لأنه كبيرة كسائر الكبائر ودية الحر المسلم مائة من الإبل، فإذا كانت الدية في العمد المحض، أو شبه العمد، فهي مغلظة بالسن، فيجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها. وهو قول عمرو بن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما. وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي للحديث المتقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما. وذهب قوم إلى أن الدية المغلظة أرباع: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخس وعشرون جذعة. وهو قول الزهري وربيعة، وبه قال مالك وأحمد وأبو حنيفة. وأما دية الخطأ فمخففة وهي أخماس بالاتفاق، غير أنهم اختلفوا في تقسيمها فذهب مالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما إلى أنها عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. وبه قال عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار وربيعة. وجعل أبو حنيفة وأحمد عوض بني اللبون بني المخاض. ويروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. والدية في الخطأ وشبه العمد على العاقلة كما تقدم، وهو عصبات القاتل من الذكور، ولا يجب على الجاني منها شيء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها على العاقلة فإن عدمت الإبل فتجب قيمتها من الدراهم والدنانير في قول. وفي قول يجب بدل مقدر منها وهو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم. لما روي أن عمر رضي الله تعالى عنه فرض الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وبه قال مالك وعروة بن الزبير والحسن البصري. وقال أبو حنيفة: إنها مائة من الإبل أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم. وبه قال سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه.
فرع: ودية المرأة نصف دية الرجل. ودية أهل الذمة والعهد ثلث دية المسلم إن كان كتابياً، وإن كان مجوسياً فخمس الثلث. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. وبه قال ابن المسيب والحسن البصري رضي الله تعالى عنهما. وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دية المسلم، وهو قول ابن مسعود وسفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقال عمر بن عبد العزيز: دية الذمي نصف دية المسلم، وهو قول مالك وأحمد. وأما دية الأطراف فمبسوطة في كتب الفقه.
تذنيب: قوله تعالى: " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها " الآية. قال أهل التفسير: إنها نزلت في مقيس بن سبابة، وذلك أنه لما قتل أخوه هشام بن صبابة في بني النجار، ولم يعلموا له قاتلاً، وأعطوه ديته مائة من الإبل ثم انصرف هو والفهري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين نحو المدينة، فأتي الشيطان مقيساً ووسوس إليه فقال: تقبل دية أخيك فتكون عليك وصمة ومسبة، فاقتل الرجل الذي معك، فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية، فغفل الفهري عن نفسه، فرماه مقيس بصخرة فشدخه. ثم ركب بعيراً من إبل الدية وساق باقيها ورجع إلى مكة كافراً فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآية. ومقيس هذا هو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ممن أمنه، فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة. وقد اختلف في حكم هذه الآية فروى البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قاتل المؤمن عمداً لا توبة له. وقال زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه لما نزلت الآية التي في الفرقان وهي قوله تعالى: " والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر " ، عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر، ثم نزلت الغليظة فنسخت الغليظة اللينة، وأراد بالغليظة هذه الآية وباللينة آية الفرقان. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: آية الفرقان مكية وآية النساء مدنية، لم ينسخها شيء والذي عليه جمهور المفسرين، وهو مذهب أهل السنة قاطبة، أن توبة قاتل المسلم عمداً مقبولة لقوله تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ، وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل. كما روي عن سفيان بن عيينة رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن المؤمن إذا لم يقتل يقال له لا توبة لك، وإن قتل يقال له توبة. وروي مثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وليس في الآية مستند لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر لأن الآية نزلت في قاتل كافر هو مقيس بن صبابة. كما تقدم. وقيل: إنه وعيد لمن قتل مؤمناً مستحلاً لقتله بسبب إيمانه. ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافراً مخلداً في النار. وروي أن عمرو بن عبيد قال لأبي عمرو بن العلاء، هل يخلف الله وعده؟ فقال أبو عمرو: لا. فقال: أليس قال الله عز وجل: " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها " فقال له أبو عمرو: أمن العجم أنت يا أبا عثمان؟ ألم تعلم أن العرب لا تعد الاخلاف في الوعيد خلفاً وذماً، وإنما تعد اخلاف الوعد خلفاً وذماً وأنشد قائلاً:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار ما روى البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، وكان قد شهد بدراً، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وحوله أصحابه: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستر الله عليه، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه قال فبايعناه على ذلك " . وما روي أيضاً في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة والله الموفق " .
الخمل: بالتحريك ضرب من السمك قاله ابن سيده.
الخنتعة: كقنفذة الأنثى من الثعالب قاله الأزهري.
الخندع: كجندب زنة ومعنى صغار الجنادب وقال في المحكم: إنه الخفاش في بعض اللغات.
الخنزير البري: بكسر الخاء المعجمة جمعه خنازير وهو عند أكثر اللغوين رباعي وحكى ابن سيده عن بعضهم إنه مشتق من خزر العين لأنه كذلك ينظر. فهو على هذا ثلاثي يقال تخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر، كقولك: تعامى وتجاهل، قال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه في يوم صفين:
إذا تخازرت وما بي من خزر ... ثم كسرت الطرف من غير حور
ألفيتي ألوي بعيد المستمر ... كالحية الصماء في أصل الشجر
أحمل ما حملت من خير وشر.
وكنية الخنزير أبو جهم وأبو زرعة وأبو دلف وأبو عتبة وأبو علية وأبو قادم، وهو يشترك بين البهيمية والسبعية، فالذي فيه من السبع الناب وأكل الجيف، والذي فيه من البهيمية الظلف وأكل العشب والعلف، وهذا النوع يوصف بالشبق، حتى إن الأنثى منه يركبها الذكر وهي ترتع، فربما قطعت أميالاً وهو على ظهرها، ويرى أثر ستة أرجل، فمن لا يعرف ذلك يظن أن في الدواب ماله ستة أرجل. والذكر من هذا النوع يطرد الذكور عن الإناث، وربما قتل أحدهما صاحبه، وربما هلكا جميعاً. وإذا كان زمن هيجان الخنازير، طأطأت رؤوسها، وحركت أذنابها، وتغيرت أصواتها. وتضع الخنزيرة عشرين خنوصاً، وتحمل من نزوة واحدة، والذكر ينزو إذا تمت له ثمانية أشهر، والأنثى تضع إذا مضى لها ستة أشهر. وفي بعض البلاد ينزو الخنزير إذا تمت له أربعة أشهر، والأنثى تحمل جراءها وتربيها، إذا تمت لها ستة أشهر أو سبعة. وإذا بلغت الأنثى خمس عشرة سنة لا تلد. وهذا الجنس أنسل الحيوان، والذكر أقوى الفحول على السفاد وأطولها مكثا فيه، يقال: إنه ليس لشيء من ذوات الأنياب والأذناب، ما للخنزير من القوة في نابه، حتى إنه يضرب بنابه صاحب السيف والرمح، فيقطع كل ما لاقى من جسده من عظم وعصب، وربما طال ناباه فيلتقيان فيموت عند ذلك جوعاً لأنهما يمنعانه من الأكل. وهو متى عض كلباً سقط شعر الكلب. وهو إذا كان وحشياً ثم تأهل، لا يقبل التأديب. ويأكل الحيات أكلاً ذريعاً، ولا يؤثر فيه سمومها، وهو أروغ من الثعلب، وإذا جاع ثلاثة أيام ثم أكل سمن في يومين، وهكذا تفعل النصارى بالخنازير في الروم يجيعونها ثلاثة أيام، ثم يطعمونها يومين لتسمن. وإذا مرض أكل السرطان فيزول مرضه. وإذا ربط على حمار ربطاً محكماً، ثم بال الحمار مات الخنزير.
وعن عجيب أمره: أنه إذا قلعت إحدى عينيه مات سريعا، وفيه من الشبه بالإنسان أنه ليس له جلد يسلخ إلا أن يقطع بما تحته من اللحم وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد " . وفي رواية " يهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الدجال، ويمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفاه الله فيصلي عليه المسلمون " . وهذا الحديث رواه أبو داود في آخر سننه في كتاب الملاحم مطولاً قال الخطابي: وفي قوله: " ويقتل الخنزير " دليل على وجوب قتل الخنازير، وبيان أن أعيانها نجسة، وذلك أن عيسى عليه السلام إنما ينزل في آخر الزمان وشريعة الإسلام باقية وقوله: " ويضع الجزية " معناه أنه يضعها عن النصارى واليهود وأهل الكتاب، ويحملهم على الإسلام فلا يقبل منهم غير دين الحق. فذلك معنى وضعها. وفي أواخر الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام لقي خنزيراً على الطريق، فقال له: إذهب بسلام، فقيل له: أتقول هذا الخنزير؟ فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: إني أخاف أن أعود لساني النطق بالسوء.
فائدة: ذكر أهل التفسير وأصحاب السير، أن عيسى عليه الصلاة والسلام استقبل رهطاً من اليهود، فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة، وقذفوه وأمه، فلما سمع ذلك عيسى دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله تعالى خنازير، فلما رأى ذلك يهوذا، وهو رأس اليهود وأميرهم، فزع من ذلك وخاف دعوته، فجمع اليهود واستشارهم في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فاجتمعت كلمة اليهود على قتله، فطرقوا عيسى عليه الصلاة والسلام في بعض الليل ونصبوا خشبة ليصلبوه عليها، فأظلمت الأرض، وأرسل الله تعالى ملائكة فحالت بينهم وبينه، فجمع عيسى عليه الصلاة والسلام الحواريين تلك الليلة، وأوصاهم ثم قال: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة، ثم إن الحواريين خرجوا من عنده وتفرقوا. وكانت اليهود تطلبه فأتى إليهم أحد الحواريين، وقال لهم: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه فلما دخل البيت، ألقى الله تعالى عليه شبه عيسى، ورفع الله عيسى إليه. فدخلوا فرأوه، فأخذوه. فقال لهم: أنا الذي دللتكم عليه، فلم يلتفتوا إلى قوله، وقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى. وقيل: إن الذي ألقي عليه شبهه كان من اليهود، وإسمه تطبانوس. وقيل: إن عيسى عليه الصلاة والسلام قال للحواريين؟ أيكم يقذف عليه شبهي فيقتل. فقال رجل منهم. أنا يا نبي الله. فقتل ذلك الرجل وصلب ورفع الله تعالى عيسى عليه الصلاة والسلام إليه، وكساه الريش وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فهو عليه الصلاة والسلام طائر مع الملائكة المقربين حول العرش. وقال أهل التاريخ: حملت مريم بعيسى عليهما السلام ولها ثلاث عشرة سنة، وولدت عيسى ببيت لحم، من أرض أروى شلم، لمضي خمس وستين سنة، من غلبة الاسكندر على أرض بابل، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة من عمره، ورفع من بيت المقدس ليلة القمر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وماتت أمه مريم بعد رفعه عليه السلام بست سنين. وذكر ابن أبي الدنيا، عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: قيل لأبي أسيد الفزاري: من أين تعيش فحمد الله تعالى وكبره وقال: يرزق الله الكلب والخنزير ولا يرزق أبا أسيد؟ وروى ابن ماجه، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم في غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والدر والذهب " . وفي اسناده كثير بن شنظير، وهو مختلف في توثيقه وتضعيفه. وقال في الإحياء: جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيت أن أقلد الدر أعناق الخنازير، فقال: أنت تعلم الحكمة غير أهلها. وفيه أيضاً في الباب السادس من أبواب العلم، روي أن رجلاً كان يخدم موسى عليه الصلاة والسلام فجعل يقول: حدثني مولى صفي الله حدثني موسى نجي الله حدثني موسى كليم الله حتى أثرى وكثر ماله ففقده موسى عليه السلام وجعل يسأل عنه فلم يجد له أثر. حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود فقال: يا موسى أتعرف فلاناً. قال: نعم. قال: هو هذا الخنزير. فقال موسى عليه السلام: يا رب أسألك أن ترده إلى حاله الأول حتى أسأله بم أصابه ذلك؟ فأوحى الله تعالى إليه لو دعوتني بالذي دعا به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه، ولكن أخبرك لم صنعت له هذا لأنه كان يطلب الدنيا بالدين وكذلك رواه الإمام أبو طالب المكي في قوت القلوب. وفي المستدرك عن أبي إمامة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يبيت قوم من هذه الأمة على طعام وشراب ولهو فيصبحون وقد مسخوا خنازير، وليخسفن الله بقبائل منها ودور منها حتى يصبحوا، فيقولوا قد خسف لليلة بدار بني فلان، وليرسلن عليهم حجارة كما أرسلت على قوم لوط، وليرسلن عليهم الريح العقيم بشربهم الخمر وأكلهم الربا ولبسهم الحرير، واتخاذهم القينات وقطعهم الرحم " . ثم قال: صحيح الاسناد.
الحكم: لا يجوز بيع الخنزير لما روى أبو داود من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل حرم الخمر وثمنها وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه " . واختلفوا في جواز الانتفاع به فكرهت طائفة ذلك وممن منع منه ابن سيرين والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق ورخص فيه الحسن والأوزاعي وأصحاب الرأي. وهو نجس العين كالكلب يغسل ما نجس بملاقاة شيء من أجزائه سبعاً إحداهن بالتراب. ويحرم أكله لقوله تعالى: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس " والرجس النجس. قال الإمام العلامة أقضى القضاة الماوردي: الضمير في قوله تعالى " فإنه رجس " ، عائد على الخنزير لكونه أقرب مذكور ونظيره قوله تعالى: " واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون " ، ونازعه الشيخ أبو حبان وقال: إنه عائد على اللحم لأنه إذا كان في الكلام مضاف ومضاف إليه، عاد الضمير على المضاف دون المضاف إليه، لأن المضاف هو المحدث عنه، والمضاف إليه وقع ذكره بطريق العرض وهو تعريف المضاف وتخصيصه. وقال شيخنا الأسنوي رحمه الله تعالى: وما ذكره الماوردي أولى من حيث المعنى، وذلك أن تحريم اللحم قد استفيد من قوله تعالى، أو لحم خنزير فلو عاد الضمير لزم خلو الكلام من فائدة التأسيس، فوجب عوده إلى الخنزير ليفيد تحريم اللحم والكبد والطحال وسائر أجزائه، وقال القرطبي، في تفسير سورة البقرة، لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة، إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به. ونقل ابن المنذر الإجماع على نجاسته. وفي دعواه الإجماع نظر، لأن مالكاً يخالف فيه، نعم هو أسوأ حالاً من الكلب فإنه يستحب قتله ولا يجوز الانتفاع به في حالة، بخلاف الكلب. وقال شيخ الإسلام النووي رحمه الله: ليس لنا دليل على نجاسته بل مقتضى المذهب طهارته كالأسد والذئب والفأرة. وقد روي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخرازة بشعره فقال: " لا بأس بذلك " رواه ابن خويز منداد. قال: ولأن الخزازة به كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، موجودة ظاهرة ولم يعلم أنه صلى الله عليه وسلم أنكرها، ولا أحد من الأئمة بعده. وقال الشيخ نصر المقدسي: لا يجوز المسح على خف خرز بشعره ولا الصلاة فيه وإن غسله سبعاً إحداهن بالتراب، لأن التراب والماء لا يصلان إلى مواضيع الخرز المتنجسة قال الإمام النووي: وهذا الذي ذكره الشيخ أبو الفتح نصر هو المشهور. وقال القفال، في شرح التلخيص: سألت الشيخ أبا زيد عنه، فقال: الأمر إذا ضاق اتسع. ومراده أن بالناس ضرورة إليه، فتصح الصلاة فيه لذلك. وفي الشرح والروضة في أواخر كتاب الأطعمة قريب من ذلك. ولا يجوز اقتناء الخنزير سواء كان يعدو على الناس أو لم يكن يعدو، فإذا كان يعدو وجب قتله قطعاً وإلا فوجهان: أحدهما يجب قتله، والثاني يجوز قتله ويجوز إرساله وهو ظاهر نص الشافعي. فالوجهان في وجوب قتله، وأما اقتناؤه فلا يجوز بحال كما صرح به في شرح المهذب وغيره. وفي سنن أبي داود من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أحسبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الكلب والحمار والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة الحائض، ويجزىء عنه إذا مروا بين يديه قذفه بحجر " . وفيه أيضاً من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من باع الخمر فليشقص الخنازير " . قال الخطابي: معناه فليستحل أكلها. وقال في النهاية: معناه فليقطعها ويفصلها أعضاء كما تفصل الشاة إذا بيع لحمها. والمعنى: من استحل بيع الخمر فليستحل بيع الخنزير، فإنها في التحريم سواء، وهذا لفظ أمر معناه النهي، تقديره من باع الخمر فليكن للخنازير قصاباً. وجعله الزمخشري من كلام الشعبي.
الأمثال: قالوا: " أطيش من عفر " . والعفر ولد الخنزير، والعفر أيضاً الشيطان، والعفر أيضاً العقرب، وقالوا: " أقبح من خنزير " . وقالوا: " أكرهه كراهة الخنازير الماء الموغر " . وأصله أن النصارى تغلي الماء للخنازير فتلقيها فيه لتنضج، فذلك هو إلايغار. قال أبو عبيد: ومنه قول الشاعر:
ولقد رأيت مكانهم فكرهتهم ... ككراهة الخنزير للإيغار
وقال ابن دريد: ألايغار أن يغلى الماء للخنازير فتسمط وهي حية.
إشارة: ابن دريد هو محمد بن الحسن بن دريد أبو بكر الأزدي البصري إمام عصره في اللغة والأدب والشعر، ومن جيد شعره المقصورة التي مدح بها الشاه بن ميكال وولده إسماعيل وعارضه فيها جماعة كثيرة من الشعراء، واعتنى بمقصورته جماعة من العلماء، فشرحوها. ومن تصانيفه الجمهرة وهو من الكتب المعتبرة، قال بعض العلماء: ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء، وعرض له في أواخر عمره فالج، فكان إذا دخل عليه الداخل ضج وتألم لدخوله وإن لم يصل إليه وسقي الترياق فبرىء منه ورجع إلى أسماع تلامذته ثم عاوده الفالج بعد حول، لغذاء ضار تناوله فكان يحرك يديه حركة ضعيفة، وبطل من محزمه إلى قدميه. قال تلميذه أبو علي: كنت أقول في نفسي إن الله تعالى عاقبه بقوله في المقصورة حين ذكر الدهر بقوله:
مارست من لوهوت الأفلاك ... من جوانب الجو عليه ما شكا
وعاش بهذه الحالة عامين وكان آخر كلامه :
فوا حزني إن لا حياة لذيذة ... ولا عمل يرضى به الله صالح
ثم قبض. قال ابن دريد: سهرت ليلة فلما كان آخر الليل رأيت رجلاً دخل علي في المنام فأخذ بعضادتي الباب وقال: أنشدني أحسن ما قلت في الخمر، فقلت: ما ترك أبو نواس لأحد شيئاً فقال: أنا أشعر منه، قلت: من أنت؟ قال: أنا أبو ناجية من أهل الشام ثم أنشدني :
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفاً فسلطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق
فقلت له: أسأت فقال: ولم؟ قلت لأنك قلت: وحمراء، فقدمت الحمرة ثم قلت: بين ثوبي نرجس وشقائق، فقدمت الصفرة فقال: ما هذا الاستقصاء في هذا الوقت يا بغيض؟ ويقال: إن ابن دريد أنشدهما لنفسه، وكان ابن دريد يشرب الخمر إلى أن جاوز تسعين سنة، وكان، حين أصابه الفالج، صحيح الذهن والعقل، يرد فيما يسأل عنه رداً صحيحاً. وتوفي في شعبان سنة إحدى وعشرين وثلثمائة ببغداد، ودريد تصغير أدرد وهو الذي ليس في فيه سن قاله ابن خلكان وغيره.
الخواص: كبده إذا أكلت أو سقيت لإنسان نفعت من نهش الهوام خصوصاً الحيات، وإن جفت وسقيت لمن به ريح الفالج والقولنج، برىء من وقته، وإذا قطرت مرارته في أنف رجل مربوط في كل جانب من أنفه ثلاث قطرات انطلق وبرىء، وإذا أحرق عظمه وسحق وشربه من به البواسير، فإنها تهدأ وتبرأ، بإذن الله تعالى، وقيل: إن حشي به موضع الناسور، أبرأه وعظمه يعلق على من به حمى الربع تذهب عنه، وقال يوحنا إن مما جربته الحكماء القدماء، أن عظم الخنزير يعلق على من به حمى الربع في خرقة تعقد فيه يبرأ منها، وإن جففت مرارته ووضعت على البواسير قلعتها من ساعتها، وزبله إذا أمسكه من به فواق دائم أبرأه، وإن شرب فتت الحصا. وأجوده زبل البري، وإن عجن بخل وطلي به الرأس نفع من سائر الجراحات، والجروح التي تظهر به، وإذا لطخ به، أصل شجرة الرمان الحامض أبدله حلواً وعرقوبه إذا أحرق وسحق وعجن بعسل وسقي لمن به مغص ونفخ في معدته وأمعائه وزن مثقال، فإنه ينفع نفعاً عظيماً.
التعبير: الخنزير تدل رؤيته على الشر والنكد والإفلاس، وعلى المال الحرام، وتدل رؤية إناثه على كثرة النسل، فإن حصل له منه ضرر في المنام ربما تنكد من نصراني، وقيل: الخنزير في المنام عدو قوي ملعون خدوع عند النوائب، غدار فمن رأى أنه ركب خنزيراً نال مالاً وقهر عدواً كما وصفت ومن أكل لحم الخنزير مطبوخاً نال مالاً وتجارة من غير حل. ومن رأى أنه تحول خنزيراً نال مالاً مع ذلة ووهن في الدين ومن رأى أنه يمشي، كما يمشي الخنزير، نال سروراً وقرة عين. وأولاد الخنازير هموم لمن ملكها والخنزير الأهلي خصب لمن رأه بداره، وكل حيوان يتربى عاجلاً ويألف فهو تمام قصد من رآه وقضاء حاجته. والبري يدل للمسافر على مطر أو برد. ومن رعى الخنازير في المنام فإنه يلي على قوم من اليهود والنصارى. ومن رأى كأن زوجته صارت خنزيرة، فإنه يطلقها لأنه حرمت عليه. ولحمه خير لجميع الناس لأن الخنزير لا ينفع إلا بعد موته وهو مال حرام لقوله تعالى: " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير " ففيه إشارة لذلك والله أعلم.
الخنزير البحري: سئل مالك عنه فقال: أنتم تسمونه خنزيراً يعني أن العرب لا تسميه بذلك لأنها لا تعرف في البحر خنزيراً والمشهور أنه الدلفين. وسيأتي إن شاء الله في باب الدال المهملة قال الربيع: سئل الشافعي رضي الله تعالى عنه عن خنزير الماء فقال: يؤكل. وروي أنه لما دخل العراق قال فيه: حرمه أبو حنيفة وأحله ابن أبي ليلى. وروي هذا القول عن عمرو عثمان وابن عباس وأبي أيوب الأنصاري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم، والحسن البصري والأوزاعي والليث وأبى مالك أن يقول فيه شيئاً وأبقاه مرة أخرى على جهة الورع. وحكى ابن أبي هريرة عن ابن خيران أن اكاراً صاد له خنزير ماء، وحمله إليه فأكله وقال: كان طعمه موافقاً لطعم الحوت سواء. وقال ابن وهب: سألت الليث بن سعد عنه، فقال: إن سماه الناس خنزيراً لم يؤكل لأن الله حرم الخنزير.
الخنفساء: معروفة، وكان من حقها أن تكتب قبل هذا لأن نونها زائدة وهي بفتح الفاء ممدودة الأنثى خنفساءة وقال ابن سيده: الخنفساء دويبة سوداء أصغر من الجعل منتنة الريح. والأنثى خنفسة وخنفساءة وضم الفاء في كل ذلك لغة. والخنفس إسم للكثير من الخنافس. وقال الأصمعي: لا يقال خنفساءة بالهاء وكنيتها أم القسور وأم الأسود، وأم مخرج وأم اللجاج، وأم التن، تتولد من عفونة الأرض وهي طويلة الظمأ وبينها وبين العقرب صداقة، ولهذا يسميها أهل المدينة الشريفة جارية العقرب.
وهي أنواع منها الجعل وحمار قبان، وبنات وردان، والحنطب وهو ذكر الخنافس، والخنفساء مخصوصة بكثرة الفسو كالظربان ولذلك تقول العرب في أمثالها: " إذا تحركت الخنفساء فست " . قال حنين بن إسحاق: طريق طرد الخنافس أن يطرح في أماكنها الكرفس فإنها تهرب من ذلك المكان. وروى ابن عدي في كامله في ترجمة أبي معشر وإسمه نجيح عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليدعن الناس فخرهم في الجاهلية، أو ليكونن أبغض إلى الله تعالى من الخنافس " .
غريبة: حكى القزويني أن رجلاً رأى خنفساء فقال: ماذا يريد الله تعالى من خلق هذه. ألحسن شكلها أو لطيب ريحها فابتلاه الله تعالى بقرحة عجز عنها الأطباء حتى ترك علاجها، فسمع يوماً صوت طبيب من الطرقيين ينادي في الدرب، فقال: هاتوه حتى ينظر في أمري، فقالوا: وما تصنع بطرقي وقد عجز عنك حذاق الأطباء! فقال: لا بد لي منه، فلما أحضروه ورأى القرحة استدعى بخنفساء، فضحك الحاضرون منه، فتذكر العليل القول الذي سبق منه، فقال: احضروا له ما طلب فإن الرجل على بصيرة من أمره، فأحضروها له، فأحرقها وذر رمادها على قرحته فبرىء بإذن الله تعالى. فقال للحاضرين: إن الله تبارك وتعالى أراد أن يعرفني أن أخس المخلوقات أعز الأدوية.
وحكى: ابن خلكان في ترجمه جعفر بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي أنه كان عنده أبو عبيدة الثقفي فقصدته خنفساء فأمر جعفر بإزالتها، فقال أبو عبيدة: دعوها عسى أن يأتين بقصدها إلي خير، فإنهم يزعمون ذلك، فأمر له جعفر بألف دينار، فقال: تحقق زعمهم. فأمر بتنحيتها فقصدته ثانياً فأمر له بألف دينار أخرى.
الحكم: يحرم أكلها لاستخباثها. وقال الأصحاب: ما لا يظهر فيه ضر ولا نفع، كالخنافس والدود والجعلان والسرطان والبغاث والرخمة والعظاءة والسلحفاة والذباب وأشباهها، يكره قتلها للمحرم وغيره، هكذا قطع به الجمهور. وحكى إمام الحرمين وجهاً شاذاً إنه لا يحرم قتل الطيور والحشرات. ودليل الكراهة أنه عبث بلا حاجة. وقد ثبت في صحيح مسلم عن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة " . وليس من الإحسان قتلها عبثاً. وروى البيهقي عن قطبة الصحابي رضي الله تعالى عنه أنه كان يكره أن يقتل الرجل ما لا يضره.
الأمثال: يقال: " أفسى من الخنفساء وقالوا: " الخنفساء إذا مست نتنت " . أي جاءت بالنتن الكثير. يضرب لمن ينطوي على خبث معناه لا تفتشوا على ما عنده، فإنه يؤذيكم بنتن معايبه. وقال خلف الأحمر النحوي يهجو العتبي:
لنا صاحب مولع بالخلاف ... كثير الخطاء قليل الصواب
ألج لجاجاً من الخنفساء ... وأدهى إذا ما مشى من غراب
الخواص: إذا أخ ت رؤوس الخنافس وجعلت في برج حمام اجتمع الحمام إليه، والاكتحال بما في جوفها من الرطوبة يحد البصر، ويجلو غشاوة العين، ويزيل البياض، وينفع السبل نفعاً عظيماً بليغاً. وإذا بخر المكان بورق الدلب، هرب منه الخنافس وإن أخذت خنفساء وطبخت بعصير السمسم وقطر في الأذن منه، فإنه نافع من جميع أوجاع الأذن وإن شدخت خنفساء وربطت على لسعة العقرب أبرأتها، وإن أحرقت وذر رمادها على القرحة أبرأتها، ومن أكل الخنفساء ولم يشعر بها حتى دخلت إلى جوفه، وهي حية قتلته من وقته.
التعبير: الخنفساء في المنام تدل رؤيتها على موت النفساء، ورؤية الذكر تدل على رجل يخدم الأشرار. وربما دلت رؤيته على عدو قذر بغيض والله أعلم.
الخنوص: بكسر الخاء وتشديد النون ولد الخنزير، والجمع الخنانيص. قال الأخطل يخاطب بشر بن مروان:
أكلت الدجاج فأفنيتها ... فهل في الخنانيص من مغمر
ويروي أكلت القطاة قاله ابن سيده.
وحكمه وتعبيره: كالخنزير.
الخواص: مرارته تحلل الأورام اليابسة، وإذا خلطت بعسل وطلي بها احليل الرجل هيج الباه بشهوة عظيمة. وشحمه المذاب إذا مسح به أصل شجر الرمان الحامض أبدله حلوا.
الخيتعور: الذئب لأنه لا عهد له. وقيل: الخيتعور الغول، والياء فيه زائدة، وفي الحديث: " ذاك أزب العقبة يقال له الخيتعور " . يريد به شيطان العقبة فجعل الخيتعور إسماً له. وقيل: الخيتعور كل شيء يضمحل ولا يدوم على حالة واحدة ولا يكون له حقيقة كالسراب قال الشاعر:
كل أنثى وإن بدا لك منها ... آية الحب حبها خيتعور
وقيل: الخيتعور دويبة تكون في وجه الماء لا تثبت في موضع إلا دبت. وقيل: الخيتعور الذي ينزل في الهواء، أبيض كالخيط أو كنسج العنكبوت. وقيل الخيتعور الدنيا الذاهبة والله أعلم. الخيدع: والخيطل السنور وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين.
الأخيل: طائر أخضر على جناحيه لمع تخالف لونه سمي بذلك للخيلان. وقيل للأخيل الشقراق وهو مشؤوم. ولفظه ينصرف في النكرة إذا سميت به، ومنهم من لا يصرفه في معرفة ولا نكرة ويجعله في الأصل صفة من التخيل. ويحتج بقوله حسان رضي الله تعالى عنه:
ذريني وعلمي بالأمور وشيمتي ... فما طائري فيها عليك بأخيلا
الخيل: جماعة الأفراس لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط والنفر. وقيل: مفرده خائل، قاله أبو عبيدة وهي مؤنثة والجمع خيول وقال السجستاني: تصغيرها خييل. وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في المشية، فهو على هذا اسم للجمع عند سيبويه، وجمع عند أبي الحسن. ويكفي في شرف الخيل أن الله تعالى أقسم بها في كتابه فقال: " والعاديات ضبحا " وهي خيل الغزو التي تعدو فتضج أي تصوت بأجوافها. وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوي ناصية فرسه بأصبعيه وهو يقول: " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " ، الأجر والغنيمة. ومعنى عقد الخير بنواصيها أنه ملازم لها، كأنه معقود فيها والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة. قاله الخطابي وغيره قالوا: وكنى بالناصية عن جميع ذات الفرس، كما يقال: فلان مبارك الناصية، وميمون الغرة أي الذات. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا " . قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: " بل أنتم أصحاب إخواننا الذي لم يأتوا بعد " . فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: " أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهراني خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول. قال صلى الله عليه وسلم : " فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء وأنا فرطهم على الحوض " . وفي رواية البيهقي، " إن أمتي يأتون يوم القيامة، غراً من السجود، محجلين من الوضوء ولا يكون ذلك لأحد من الأمم غيرهم " . وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يكره الشكال من الخيل " والشكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض، وفي يده اليسرى بياض، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى، كذا وقع تفسيره في صحيح مسلم وهذا أحد الأقوال في الشكال. وقال أبو عبيدة وجمهور أهل اللغة: والغريب هو أن يكون منه ثلاث قوائم محجلة، وواحدة مطلقة تشبيها بالشكال الذي يشكل به الخيل، فإنه يكون في ثلاث قوائم غالباً. وقال أبو عبيدة: وقد يكون الشكال ثلاث قوائم مطلقة وواحدة محجلة، قال: ولا تكون المطلقة أو المحجلة إلا في الرجل. وقال ابن دريد: هو أن يكون محجلاً في شق واحد في يده ورجله، فإن كان مخالفاً، قيل: شكال مخالف، وقيل: الشكال بياض اليدين، وقيل: بياض الرجلين. قال العلماء: إنما كرهه صلى الله عليه وسلم، لأنه على صورة المشكول وقيل: يحتمل أن يكون جرب ذلك الجنس، فلم يكن فيه نجابة. وقال بعض العلماء: فإذا كان مع ذلك أغر زالت الكراهة لزوال شبهه بالشكال. وقال ابن رشيق، في عمدته في باب منافع الشعر ومضاره: إن أبا الطيب المتنبي لما ذهب إلى بلاد فارس ومدح عضد الدولة بن بويه الديلمي، وأجزل جائزته، رجع من عنده قاصداً بغداد، وكان معه جماعة، فخرج عليهم قطاع الطريق، بالقرب من بغداد، فلما رأى الغلبة فر هارباً، فقال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبداً وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاس والقلم
فكر راجعاً، وقاتل حتى قتل. فكان سبب قتله هذا البيت، وذلك في شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة. وما أحسن قول أبي سليمان الخطابي في مدح العزلة والانفراد وإن لم يكن تعلق بهذا المعنى:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فدام الأنس لي ونما السرور
وأدبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزور
ولست بسائل ما دمت حياً ... أسار الخيل أم ركب الأمير
فائدة: ذكر ابن خلكان في تاريخه أن شخصاً سأل المتنبي عن قوله.
بادر هواك صبرت أم لم تصبرا.
كيف يثبت الألف في تصبرا مع وجود لم الجازمة! ومن حقه أن يقول لم تصبر؟ فقال أبو الطيب المتنبي: لو كان أبو الفتح بن جني ههنا لأجابك: هذه الألف هي بدل النون الساكنة لأنه كان في الأصل لم تصبرن، ونون التأكيد الخفيفة إذا وقف الإنسان عليها أبدل منها ألفاً قال الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
كان الأصل فاعبدن، فلما وقف عليها أتي بألف بدلاً من النون ومراده بأبي الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي المشهور، وكان ابن جني قد قرأ على أبي علي الفارسي وفارقه وقعد للإقراء بالموصل، فمر به شيخه أبو علي يوماً فرآه في حلقته، فقال له: زببت وأنت حصرم، فترك حلقته وتبعه، ولم يزل ملازماً له حتى مهر. وأبوه جني مملوك رومي، وله أشعار حسنة وكان أعور بعين واحدة وفي ذلك يقول :
صدودك عني ولا ذنب لي ... يدل على نية فاسده
فقد وحياتك مما بكيت ... خشيت على عيني الواحدة
ولولا مخافة أن لا أراك ... لما كان في تركها فائدة
وله تصانيف مفيدة وشرح ديوان المتنبي ولذلك أشار إليه المتنبي كما تقدم وكانت وفاة ابن جني في صفر ببغداد سنة اثنتين وتسعين وثلثمائة. وفي سنن النسائي، من حديث سلمة بن نفيل الكوني أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن إذالة الخيل " ، وهو امتهانها في الحمل عليها واستعمالها. وأنشد أبو عمر بن عبد البر، في التمهيد لابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
أحبوا الخيل واصطبروا عليها ... فإن العز فيها والجمالا
إذا ما الخيل ضيعها أناس ... ربطناها فأشركنا العيالا
نقاسمها المعيشة كل يوم ... ونكسوها البراقع والجلالا
فائدة: رأيت في تاريخ نيسابور، للحاكم أبي عبد الله في ترجمة أبي جعفر الحسن بن محمد بن جعفر الزاهد العابد أنه روى بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: " لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق الخيل، قال لريح الجنوب: إني خالق منك خلقاً، أجعله عزاً لأوليائي ومذلة لأعدائي وجمالاً لأهل طاعتي فقالت الريح: اخلق يا رب، فقبض منها قبضة فخلق منها فرساً، وقال جل وعلا: خلقتك عربياً وجعلت الخير معقوداً بنواصيك، والغنائم محتازة على ظهرك، وبوأتك سعة من الرزق وأيدتك على غيرك من الدواب، وعطفت عليك صاحبك، وجعلتك تطيرين بلا جناح، فأنت للطلب وأنت للهرب وإني سأجعل على ظهرك رجالاً يسبحونني ويحممونني ويهللونني ويكبرونني " . ثم قال صلى الله عليه وسلم: " ما من تسبيحة وتهليلة وتكبيرة، يكبرها صاحبها قد فتسمعه الملائكة إلا تجيبه بمثلها. قال: فلما سمعت الملائكة بخلق الفرس، قالت: يا رب نحن ملائكتك نسبحك ونحمدك ونهللك ونكبرك، فإذا لنا. فخلق الله تعالى لها خيلاً لها أعناق كأعناق البخت، يمد بها من شاء من أنبيائه ورسله، قال: فلما استوت قوائم الفرس في الأرض. قال الله تعالى له: إني أذل بصهيلك المشركين، وأملأ منه آذانهم، وأذل به أعناقهم، وأرعب به قلوبهم. قال: فلما أن عرض الله تعالى على آدم كل شيء مما خلق، قال له: اختر من خلقي ما شئت، فاختار الفرس. فقيل له: اخترت عزك وعز ولدك خالداً ما خلدواً وباقياً ما بقوا أبد الآبدين، ودهر الداهرين " .
وهو في شفاء الصدور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، بغير هذا اللفظ. ولفظه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما أراد الله أن يخلق الخيل أوحى إلى ريح الجنوب: إني خالق منك خلقاً فاجتمعي فاجتمعت، فأتى جبريل عليه السلام فقبض منها قبضة، ثم قال الله عز وجل له: هذه قبضتي ثم خلق منها فرساً كميتاً. وقال الله عز وجل: خلقتك فرساً وجعلتك عربياً، وفضلتك على سائر ما خلقت من البهائم، بسعة الرزق والغنائم، تقاد على ظهرك، والخير معقود بناصيتك. ثم أرسله فصهل، فقال جل وعلا: " يا كميت بصهيلك أرهب المشركين وأملأ مسامعهم، وأزلزل أقدامهم، ثم وسمه بغرة وتحجيل فلما خلق الله تعالى آدم، قال: يا آدم اختر أي الدابتين أحببت: يعني الفرس أو البراق، وهو على صورة البغل لا ذكر لا أنثى، فقال: يا جبريل اخترت أحسنهما وجها وهو الفرس، فقال الله تعالى: يا آدم اخترت عزك وعز أولادك باقياً ما بقوا، وخالدا ما خلدوا " . وفيه أيضاً عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكرم وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن في الجنة شجرة، يخرج من أعلاها حلل، ومن أسفلها خيل بلق من ذهب مسرجة ملجمة، بلجم من در وياقوت، لا تروث ولا تبول، لها أجنحة خطوتها مد بصرها، يركبها أهل الجنة فتطير بهم حيث شاؤوا، فيقول الذين أسفل منهم درجة: " يا ربنا بم بلغ عبادك هذه الكرامة كلها؟ فيقول بأنهم كانوا يقومون الليل، وكنتم تنامون، وكانوا يصومون النهار وكنتم تأكلون، وكانوا ينفقون وكنتم تبخلون، وكانوا يقاتلون وكنتم تجبنون. ثم يجعل الله في قلوبهم الرضا فيرضون وتقر أعينهم " .
فائدة أخرى: أول من ركب الخيل إسماعيل عليه السلام، ولذلك سميت بالعراب، وكانت قبل ذلك وحشية كسائر الوحوش، فلما أذن الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام برفع القواعد من البيت قال الله عز وجل: إني معطيكما كنزاً ادخرته لكما، ثم أوحى الله إلى إسماعيل: أن اخرج فادع بذلك الكنز، فخرج إلى أجياد، وكان لا يدري ما الدعاء والكنز! فألهمه الله تعالى الدعاء، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا اجابته، فأمكنته من نواصيها وتذللت له، ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم: " اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسماعيل " . وروى النسائي عن أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهارة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم " لم يكن شيء أحب إليه، بعد النساء، من الخيل " . إسناده جيد. وروى الثعلبي بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من فرس إلا ويؤذن له عند كل فجر بدعوة يدعو بها: اللهم من خولتني من بني آدم وجعلتني له فاجعلني أحب أهله وماله إليه " وقال صلى الله عليه وسلم: " الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان. فأما فرس الرحمن فما اتخذني في سبيل الله تعالى وقوتل علية أعدؤه، وفرس الإنسان ما استطرق عليه، وفرس الشيطان ما روهن عليه " . وفي طبقات ابن سعد بسنده، عن عريب المليكي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ، من هم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم أصحاب الخيل. ثم قال صلى الله عليه وسلم: " إن المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها، وأبوالها أرواثها يوم القيامة كذكي المسك " . وعريب بضم العين المهملة. وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي ضمرت وكان أمدها من الحفياء إلى ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق،؟ وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فيمن أجرى. وروى شيخ الإسلام الحافظ الذهبي في آخر طبقات الحفاظ، عن شيخة الحافظ شرف الدين الدمياطي، بإسناده إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحضر الملائكة من اللهو شيئاً إلا ثلاثة: لهو الرجل مع امرأته وإجراء الخيل، والنضال " . وروى الترمذي في صفة أهل الجنة بإسناد ضعيف عن واصل بن السائب عن أبي سودة عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، قال: جاء إعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أحب الخيل فهل في الجنة خيل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " إن دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوتة لها جناحان، فتحمل عليها فتطير بك في الجنة حيث شئت " . وفي معجم ابن قانع، إن هذا الإعرابي إسمه عبد الرحمن بن ساعدة الأنصاري. وكذلك ذكره الدينوري في أوائل المجالسة، وذكر ابن عدي بهذا الإسناد الضعيف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل الجنة يتزاورون على نجائب بيض كأنهن الياقوت وليس في الجنة من البهائم إلا الإبل والطير " .
فائدة أخرى: خيل السباق عشرة: ذكرها الرافعي وغيره وحذفها من الروضة وهي مجل ومصل وتال وبارع ومرتاح وحظي وعاطف ومؤمل والسكيت والفسكل وإلى ذلك أشرت في المنظوهة بقولي:
مهمة خيل السباق عشرة ... في الشرح دون الروضة المعتبرة
وهي مجل ومصل تالي ... والبارع المرتاح بالتوالي
ثم حظي عاطف مؤمل ... ثم السكيت والأخير الفسكل
فائدة أخرى: قال السهيلي في التعريف والإعلام: وأما خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسماؤها: السكب، وهو من سكب الماء كأنه سيل، والسكب أيضاً شقائق النعمان، والمرتجز سمي بذلك لحسن صهيله واللحيف كأنه يلحف الأرض لجريه، ويقال فيه اللخيف بالخاء المعجمة. وذكر البخاري في جامعه واللزاز ومعناه أنه ما سابق شيئاً إلا لزه أي أثبته، وملاوح والضرس والورد وهبه لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فحمل عليه عمر في سبيل الله تعالى، وهو الذي وجده يبتاع برخص انتهى.
فائدة أخرى: روى ابن السني وأبو القاسم الطبراني عن أبان بن أبي عياش والمستغفري أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كتب عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف أن أنظر أنس بن عالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدن مجلسه، وأحسن جائزته وأكرمه. قال: فأتيته فقال لي: يا أبا حمزة إني أريد أن أعرض عليك خيلي فتعلمني أين هي من الخيل التي كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضها فقلت: شتان ما بينهما! تلك كانت أروائها وأبوالها وأعلافها أجراً، وهذه هيئت للرياء والسمعة. فقال الحجاج: لولا كتاب أمير المؤمنين فيك لضربت الذي فيه عيناك فقلت: ما تقدر على ذلك، قال: ولم؟ قلت: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أقوله لا أخاف معه من شيطان ولا سلطان ولا سبع. فقال: يا أبا حمزة علمه ابن أخيك يعني ابنه محمد بن الحجاج، فأبيت عليه. فقال لابنه: أئت عمك أنساً فتسأله أن يعلمك ذلك. قال أبان: فلما حضرته الوفاة دعاني فقال: يا أبا أحمد إن لك إلي انقطاعاً، وقد وجبت حرمتك، وإني معلمك الدعاء الذي علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعلمه من لا يخاف الله أو نحو ذلك، وهو ذلك الدعاء المبارك: الله أكبر الله أكبر بسم الله على نفسي وديني، بسم الله على أهلي ومالي، بسم الله على كل شيء أعطانيه ربي، بسم الله خير الأسماء، بسم الله الذي لا يضر مع إسمه داء، بسم الله الذي لا يضر إسمه شيء، في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، بسم الله افتتحت، وعلى الله توكلت، الله الله ربي لا أشرك به شيئاً أسألك اللهم بخيرك من خيرك، الذي لا يعطيه أحد غيرك، عز جارك وجل ثناؤك، ولا إله غيرك، اجعلني في عبادك واحفظني من شر كل في شر خلقته، وأحترز بك من الشيطان الرجيم، اللهم إني احترس بك من شر كل في شر خلقته وأحترز بك منهم، وأقدم بين يدي بسم الله الرحمن الرحيم " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " ومن خلفي مثل ذلك وعن يميني مثل ذلك وعن يساري مثل ذلك ومن فوقي مثل ذلك ومن تحتي مثل ذلك.
مسألة: قال شيخ الإسلام تقي الله الدين السبكي رحمه الله تعالى: ورد مثال كريم ممن هو حقيق بالتبجيل والتعظيم، يتضمن السؤال عن الخيل: هل كانت قبل آدم عليه السلام أو خلقت بعده. وهل خلق الذكور قبل الإناث أو الإناث قبل الذكور؟ وهل العربيات قبل البراذين أو البراذين قبل العربيات؟ وهل ورد في الحديث أو الأثر أو السير أو الأخبار ما يدل على ذلك؟ والجواب: أن نختار أن خلق الخيل كان قبل خلق آدم عليه السلام بيومين أو نحوهما، وأن خلق الذكور قبل الإناث وأن العربيات قبل البراذين، أما قولنا إن خلقها كان قبل خلق آدم فلآيات في القرآن سنذكرها آية آية وتذكر وجه الاستدلال والمعنى فيه، وهو أن الرجل الكبير يهيء له ما يحتاج إليه قبل قدومه وقال تعالى: " خلق لكم ما في الأرض جميعاً " فالأرض وكل ما فيها مخلوق لآدم وذريته إكراماً لهم، ومن كمال إكرامهم وجودها قبلهم، فجميع ذلك مقدم على خلقه ثم كان خلق آدم بعد ذلك آخر الخلق، لأنه وذريته أشرف الخلق، ألا يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف من الجميع، ولذلك كان آخراً لأن به صلى الله عليه وسلم تم كمال الوجود، وما سوى آدم مما هيىء له حيوان وجماد. والحيوان أشرف من الجماد، والخيل من أشرف الحيوان، غير الآدمي فكيف يؤخر خلقها عنه فهذه الحكمة تقتضي تقديم خلقها مع غيرها من المنافع.
وإنما قلنا بيومين أو نحوهما، لحديث ورد فيه، يتضمن أن بث الدواب يوم الخميس، والحديث في الصحيح، لكن فيه كلام. ولا شك أن خلق آدم عليه السلام كان يوم الجمعة، والحديث المذكور يتضمن أنه بعد العصر، فلذلك قلنا إنه بيومين أو نحوهما على التقريب. وأما التقدم فلا يتردد فيه، والمعنى فيه قد ذكرناه. وأما الآيات التي تدل له، فمنها قوله تعالى: " خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات " ، ووجه الاستدلال أن الآية الكريمة اقتضت خلق ما في الأرض جميعاً قبل تسوية الرحمن السماء، ومن جملة ما في الأرض الخيل، فالخيل مخلوفة قبل تسوية السماء عملا بالآية ودلالة ثم على الترتيب، وتسوية السماء قبل خلق آدم عليه السلام، لأن تسوية السماء كانت في جملة الأيام الستة لقوله تعالى: " رفع سمكها فسواها " ، إلى قوله جل وعلا " والأرض بعد ذلك دحاها " ، ودلالة الحديث الصحيح المجمع عليه على أن خلق آدم عليه السلام يوم الجمعة بعد كمال المخلوقات أما آخر الأيام الستة إن قلنا إن ابتداء الخلق يوم الأحد، كما يقوله المؤرخون وأهل الكتاب، وهو المشهور عند أكثر الناس، وأما في اليوم السابع فهو خارج عن الأيام الستة كما يقتضيه الحديث، الذي أشرنا إليه فيما سبق الذي في صحيح مسلم، الذي صدره إن الله تعالى خلق التربة يوم السبت، وإن كان فيه كلام. وأما تأخر خلق آدم عليه السلام، فلا كلام فيه فثبت بهذا أن خلق الخيل قبل خلق آدم عليه السلام، وهي من جملة المخلوقات في الأيام الستة لا كما يقوله بعض الجهلة الكفرة. ويروي فيه أحاديث موضوعة لا تصدر إلا عن اسخف المجانين لا حاجة بنا إلى ذكرها. ومن الآيات قوله تعالى: " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " ، وجه الاستدلال بهذه الآية أن الأسماء كلها إما أن يراد بها نفس الأسماء أو صفات المسميات، ومنافعها وعلى كلا التقديرين المسميات موجودة في ذلك الوقت للإشارة إليها بقوله: هؤلاء. ومن جملة المسميات الخيل، فلتكن موجودة حينئذ. والأسماء عام بالألف واللام مؤكدة بقوله تعالى: " كلها " فتقوى العموم فيه. والمسميات لا بد من إرادتها بقوله تعالى: " ثم عرضهم " وقوله تعالى: " بأسمائهم " ، فهذا دليل قاطع في ذلك. والعموم شامل للخيل فمن رأى دلالة العموم قطيعة، يقطع بدخولها ومن لا يرى ذلك يستدل به فيه كما يستدل بسائر الأدلة الشرعية. ومن الآيات قوله تعالى في سورة " ألم تنزيل الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش " وجه الاستدلال اقتضاؤها خلق ما بينهما في الستة، وقد قلنا إن خلق آدم عليه السلام خارج عن الأيام الستة بعدها أو حاصل في آخرها بعد خلق غيره كما سبق وفي الآيات قوله تعالى في سورة ق " ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب " ، وجه الاستدلال بها ما قد مناه فيما قبلها، فهذه أربع آيات تدل على ذلك فيها كفاية. وقد جاء عن وهب بن منبه في الاسرائيليات، أن الخيل خلقت
من ريح الجنوب وذلك لا ينافي ما قلناه، ولا تلتزم صحته، لأنا لا نصحح إلا ما صح لنا، عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الخيل، كانت وحوشاً وأن الله تعالى ذللها لإسماعيل عليه الصلاة والسلام. وذلك لا ينافي ما قلناه، فقد تكون مخلوقة من قبل آدم عليه السلام، واستمرت على وحشيتها إلى عهد إسماعيل عليه السلام. أو كانت تركب في وقت، ثم توحشت ثم ذللت لإسماعيل عليه السلام. وليس في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة عليل، فالمعتمد ما قلناه من دلالة القرآن والذي قيل من أن إسماعيل عليه السلام أول من ركبها أمر مشهور ولكن اسناده ليس صحيحاً حتى نلتزمه. وقد قلنا إنا لا نلتزم إلا ما صح عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وفي تفسير القرطبي من رواية الترمذي الحكيم، عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال: لما أذن الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام برفع القواعد، قال الله تبارك وتعالى إني معطيكما كنزاً ادخرته لكما. ثم أوحى الله إلى إسماعيل عليه السلام، أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز، فخرج إلى أجياد ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز فألهمه الله تعالى الدعاء، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته وأمكنته من ناصيتها وذللها الله تعالى له. ولو ذكرنا ما قال الناس في ذلك، وشرحناه بطوله لطال. فقد تكلم الناس في ذلك كثيراً وذكروا من خواص الخيل ومنافعها شيئاً كثيراً، ليس ذلك كله مما نلتزم صحته، ومطالبة القاصد بسرعة الجواب، في أسرع وقت، تقتضي الاقتصار على ما قلناه، وفيه كفاية. وأما قولنا إن خلق الذكور قبل الإناث، فلأمرين: أحدهما شرف الذكر على الأنثى، والثاني حرارته وإن كان الإثنان من جنى واحد، من مزاج واحد، فأحدهما أكثر حرارة من الآخر، فقد جرت عادة القدرة الإلهية بتكوين أقواهما حرارة قبل الآخر، والذكر أقوى حرارة من الأنثى، فناسب أن يكون وجوده أسبق ولتحصل المنة به أكثر، ولذلك كان خلق آدم عليه السلام قبل خلق حواء، ولأن أعظم ما يقصد له الخيل الجهاد، والذكر في الجهاد خير من الأنثى، لأن الذكر أجرى وأجرأ، أعني أشد جرياً وأقوى جراءة، ويقاتل مع راكبه والأنثى بخلاف ذلك، وقد تقطع بصاحبها أحوج ما يكون إليها، إذا كانت وديقاً، ورأت فحلاً، ولا يرد على ذلك ركوب جبريل عليه السلام أنثى، لما جاز البحر بموسى عليه السلام، لأن ذلك لركوب فرعون فحلا فقصد طلبه للأنثى وعجز فرعون عن إمساك رأسه. وأما قولنا إن العربيات قبل البراذين، فلما ذكر من حديث إسماعيل عليه السلام، ولأن العربيات أشرف وآصل. والبرذون إنما يكون بعارض أو علة إما فيه وإما في أبيه أو أمه، ولم تكن البراذين تذكر فيما خلا من الزمان ألا ترى إلى قصة إسماعيل عليه السلام، وقصة سليمان عليه السلام، وإنما البراذين ما انتحس من الخيل، حتى اختلف العلماء هل يسهم كما يسهم للفرس العربي أو لا؟ وفي حديث من مراسيل مكحول، في بعض ألفاظه " للفرس سهمان وللهجين سهم " . فهذه الرواية تقتضي أن الهجين لا يسمى فرساً، والهجين هو البرذون أو قريب منه. وبالجملة البراذين حثالة الخيل وما كان الله تعالى ليخلق من الجنس حثالة في الأول. وأما الأحاديث النبوية والأثار الصحيحة، فإن ما جاء منها في فضيلة الخيل وسباقها، وشياتها وفضيلة اتخاذها، وبركتها والنفقة عليها وخدمتها، ومسح نواصيها والتماس نسلها، وثمنها ونمائها، والنهي عن خصائها، وجز نواصيها وأذنابها وإزالتها، وفيما يقسم لصاحبها من الغنيمة واختلاف العلماء فيه، وهل يجب فيها زكاة أو لا؟ وغير ذلك أضر بنا للعجلة.
وهذه نبذة يسيرة كتبتها على سبيل العجلة في ساعة من النهار، ولعجلة المطالب بها، وإن اخترتم كتبت فيها كتاباً مستقلاً إن شاء الله تعالى.
الحكم: أكل لحوم الخيل يأتي إن شاء الله تعالى، في باب الفاء في لفظ الفرس. وذكر الصميري، في شرح الكفاية، أنه لا يجوز بيعها لأهل الحرب كالسلاح، ويكره أن تقلد الأوتار لما روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي بشير الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك قال الخطابي: " وأمره صلى الله عليه وسلم بقطع قلائد الخيل " . قال مالك: أراه من أجل العين. وقال غيره: إنما أمر بقطعها لأنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس، وقال آخرون: لئلا تختنق بها عند شدة الركض، ويحتمل أن يكون أراد عين الوتر خاصة دون غيره من السيور والخيوط. وقيل: معناه لا تطلبوا عليها الأوتار والدخول ولا تركضوها في درك الثار، على ما كان من عادتهم في الجاهلية والسبق فيها معتبر بالأعناق، وفي الإبل بالأكتاف، لأن الإبل ترفع أعناقها في العدو، فلا يمكن اعتبار مدها، والخيل تمدها. والمراد: إذا استوت أعناقها في الطول والقصر والإرتفاع لقوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا و الساعة كفرسي رهان كاد أحدهما أن يسبق الآخر بإذنه " . وفي المستدرك وسنن أبي داود وابن ماجة ومسند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أدخل فرساً بين فرسين، ولا يأمن أن يسبق فليس بقمار، ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار " . والصحيح أن الذمي يمنع من ركوبها، لقوله تعالى: " ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " فأمر أولياءه بإعدادها لأعدائه، ولأن ظهورها عز، وهم ضربت عليهم الذلة. وفي وجه أنهم لا يمنعون وينسب لأبي حنيفة مثله. وقال الشيخ أبو محمد الجويني: يمنعون من الشريفة دون البراذين الخسيسة. وألحق الإمام والغزالي البغال النفيسة بالخيل، وجزم به الفوراني ولم يقيده بالنفيسة. ولا زكاة في الخيل عند الجمهور، لقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " . متفق عليه. وأوجبها أبو حنيفة في إناثها المنفردة أو المجتمعة مع الذكور فعند ذلك صاحبها بالخيار، وإن شاء أعطى عن كل فرس ديناراً وإن شاء قومها وأعطى من كل مائتي درهم خمسة دراهم، وإن كانت ذكوراً منفردة فلا شيء فيها.
الأمثال: قالوا: " الخيل ميامين " . أي مباركات. قالوا: " الخيل أعلم بفرسانها " يضرب للرجل يظن أن عنده غناء ولا غناء عنده. ومن كلمات النبي صلى الله عليه وسلم التي لم يسبق إليها قوله: " يا خيل الله اركبي " . قالها يوم حنين في حديث أخرجه مسلم وهو على حذف مضاف، أراد صلى الله عليه وسلم: أيا فرسان خيل الله اركبي " . وهو من أحسن المجازات، كقوله تعالى: " وأجلب عليهم بخيلك ورجلك " قال الجاحظ، في كتاب البيان والتبيين: عن يونس بن حبيب إنه قال: لم يبلغنا من بدائع الكلام ما بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغلط في هذا الحديث ونسب إلى التصحيف، وإنما قال القائل: ما بلغنا عن البتي، يريد عثمان البتي، فصحف الجاحظ. قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم أجل من أن يخلط مع غيره من الفصحاء حتى يقال: ما بلغنا عنه من الفصاحة أكثر من الذي بلغنا عن غيره، كلامه أجل من ذلك وأعلى صلى الله عليه وسلم.
الخواص: الخيل إذا سقيت الزرنيخ الأحمر قتلها. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك في باب الفاء في لفظ الفرس ويأتي طرف من خواصه.
التعبير: الخيل في المنام قوة وزينة وعز وهي أشرف ما ركب من الدواب، فمن رأى عنده منها شيئاً نال قوة وعزاً. وربما دل ذلك على اتسام حاله، وادرار رزقه، وانتصاره على أعدائه، لقوله تعالى: " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث " وربما ظفر بعدوه لقوله عز وجل: " ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " ومن رأى خيلاً تتطاير في الهواء فإنها فتنة. ولا خير في ركوب الخيل في غير محل الركوب كالسطح والحائط ونحوهما، وخيل البريد في الرؤيا قرب أجل من ركبها وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في باب الفاء قي لفظ الفرس كما وعدنا والله أعلم.
ومما جرب: لمغل الخيل والدواب أن يكتب على الحوافر الأربع: بسم الله الرحمن الرحيم فأصابها إعصار فيه نار، فاخترقت عجفون عجفون عجفون شاشيك شاشيك شاشيك وأيضاً يكتب لحمر الخيل والدواب ويعلق عليها وقد جرب ولا طلهه هو هو هو رهت هر هر هر هر هر هر وهو هو هو هو هو هوه ه ه ه ه أمها هيالولوس درروبر حفرب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أم خنور: على وزن التنور والسفود الضبع وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الضاد المعجمة الكلام عليه والله الموفق للصواب.
باب الدال المهملة
الدابة: ما دب من الحيوان كله، وقد أخرج بعض الناس منها الطير لقوله تعالى: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم " ورد بقوله تعالى: " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " قال الشيخ تاج الدين بن عطاء رحمه الله تعالى: وهذه الآية مصرحة بضمان الحق الرزق، وقطعت ورود الهواجس والخواطر عن قلوب المؤمنين، فإن وردت على قلوبهم كرت عليها جيوش الإيمان بالله تعالى، والثقة به فهزمتها بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق ولأن الطير يدب على الأرض برجليه في بعض حالاته قال الأعشى :بنات كغصن البان ترتج إن مشت ... دبيب قطا البطحاء في كل منهل
وقال تعالى: " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم " وقال عز وجل: " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون " قال ابن عطية: مقصود الآية أن يبين أن هذه الطائفة العاتية من الكفار هي شر الناس عند الله تعالى، وأنها في أخس المنازل لديه وعبر بالدواب ليتأكد ذمهم، وليفضل الكلب والخنزير والفواسق الخمس، وغيرها عليهم. والدواب كل ما دب يجمع الحيوان بجملته.
وفي الصحيحين: عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة، فقال: " مستريح ومستراح منه " قالوا: يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " العبد المؤمن مستريح من وصب الدنيا ونصبها إلى رحمة الله تعالى والعبد الفاجر تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب " . وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة عن إبراهيم بن محمد عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشية أن تقوم الساعة " . يروي مصيخة ومسيخة بالصاد والسين والأصل الصاد ومعانهما منصتة مستمعة.
وفي الحلية: في ترجمة أبي لبابة الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وهو من أهل الصفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى ما من ملك مقرب، ولا سماء ولا أرض، ولا جبال ولا رياح، ولا بحر إلا وهو مشفق من يوم الجمعة أن تقوم الساعة " . وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي وقال: " خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى المغرب " .
واعلم: أنه سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء بلا كلفة ونصب، ويختار ما يشاء بلا زلفة وسبب، يخلق ما يشاء بلا علاج، ويختار ما يشاء بلا احتياج، يخلق ما يشاء علماً بربوبيته، ويختار ما يشاء دلالة على وحدانيته، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. وفي كامل ابن الأثير إن كسرى كان له خمسون ألف دابة وثلاثة آلاف امرأة.
غريبة: في تاريخ ابن خلكان، في ترجمة ركن الدولة بن بويه، أنه حارب عدواً له وضاقت الميرة على الطائفتين، حتى ذبحوا دوابهم، ولو أمكن ركن الدولة الانهزام لفعل، فاستشار وزيره أبا الفضل بن العميد في الهرب، فقال له: لا ملجأ لك إلا إلى الله تعالى، فانو للمسلمين خيراً، وصمم العزم على حسن السيرة والإحسان، فإن الحيل البشرية كلها تقطعت بنا، وإن انهزمنا تبعونا وقتلونا، وهم أكثر منا، فقال قد سبقتك إلى هذا يا أبا الفضل، قال أبو الفضل: ثم إن ركن الدولة استدعاني في تلك الليلة في الثلث الأخير، وقال: رأيت الساعة في منامي كأني على دابتي فيروز. وقد انهزم عدونا، وأنت تسير إلى جانبي وقد جاءنا الفرج من حيث لا نحتسب، فمددت عيني فرأيت على الأرض خاتماً فأخذته فإذا فصه فيروزج، فجعلته في إصبعي وتبركت به فانتهيت، وقد أيقنت بالظفر فإن الفيروزج الفرج جاء ومعناه الظفر، ولذلك لقب الدابة فيروز. قال ابن العميد: فلم أبرح إذ أتانا الخبر والبشارة بأن العدو قد رحل وتركوا خيامهم، فما صدقنا حتى تواترت الأخبار فركبنا ولا نعرف سبب هزيمتهم وسرنا حذرين من كيدهم ومكرهم، وسرت إلى جانبه وهو على دابته فيروز، فصاح ركن الدولة بغلام بين يديه ناولني ذلك الخاتم فأخذ خاتماً من الأرض فناوله إياه فإذا هو من فيروزج فجعله في اصبعه، وقال: هذا تأويل رؤياي، وهذا هو الخاتم الذي رأيته في منامي بعينه. قال: وهذا عن أعجب ما يحكى وإسم ركن الدولة الحسن أبو علي، وكان ملكاً جليلاً مهاباً وكان قد ملك أصبهان والري وهمذان، وجميع عراق العجم وقد فتح أكثر البلاد وملكها وقرر قواعدها وضبطها. توفي في المحرم سنة ست وستين وثلثمائة وكان عمره تسعاً وتسعين سنة وكانت مدة ملكه أربعاً وأربعين سنة.
وفي شفاء الصدور لابن سبع السبتي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تضربوا وجوه الدواب فإن كل شيء يسبح بحمده " وقد تقدم عنه حديث في البهيمة قريب من هذا وفي كتاب الاحياء في باب كسر الشهوتين، حديث " لا يستدير الرغيف، ويوضع بين يديك حتى يعمل فيه ثلثمائة وستون صانعاً أولهم ميكائيل الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة، ثم الملائكة التي تزجي سحاباً، ثم الشمس والقمر والأفلاك، وملوك الهواء ودواب الأرض، وآخر ذلك الخباز " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " وروى الإمام أحمد والبيهقي في الشعب، عن محمد بن سيرين، قال: خرجت دابة تقتل الناس، فمن دنا منها قتلته فجاء رجل أعور فقال: دعوني وإياها فدنا منها فوضعت رأسها له حتى قتلها. فقالوا: حدثنا بأمرك، فقال: ما أصبت ذنباً قط إلا ذنباً واحداً بعيني هذه، فأخذت سهما وفقأتها به. قال الإمام أحمد: ولعل هذا كان جائزاً في شريعة بني إسرائيل، أو في شريعة من كان قبلنا أما في شريعتنا فلا يجوز فقء العين، التي ينظر بها إلى ما لا يحل له. لكن يستغفر الله تعالى من ذلك ولا يعود إليه.
وذكر ابن خلكان في ترجمة الربيع الجيزي أنه مر يوماً بسكة من سكك مصر، فطرحت عليه إجانة من رماد، فنزل عن دابته، ونفض ثيابه فقيل له ألا تزجرهم! فقال: من استحق النار فصولح على الرماد، لم يجز له أن يغضب. والربيع بن سلمان هذا صاحب الشافعي، وهو أحد رواة القول الجديد عن الشافعي. وتوفي سنة خمس ومائتين. والجيزي نسبة إلى الجيزة قبالة مصر، والأهرام في عملها بالقرب منها، وهي من عجائب أبنية الدنيا، والأهرام قبور لملوك عظام، أرادوا أن يتميزوا بها على سائر الملوك بعد مماتهم، كما تميزوا عليهم في حياتهم. قيل: إن المأمون لما وصل مصر أمر بنقب أحد الهرمين فنقب بعد جهد شديد، وغرامة نفقة عظيمة، فوجد داخله مراق ومها، ويعسر سلوكها، ووجد في أعلاها بيتاً، مكعباً، طول كل ضلع من أضلاعه ثمانية أذرع، وفي وسطه حوض من صوان مطبق فيه رمة بالية، قد أتت عليها العصور فكف عن نقب ما سواه. ونقل أن هرمس الأول، وهو أخنوخ وهو ادريس استدل من أحوال الكواكب، على كون الطوفان فأمر ببنيان الأهرام، ويقال: إنه ابتناها في مدة ستة أشهر وكتب فيها: قل لمن يأتي بعدنا يهدمها في ستمائة عام، والهدم أيسر من البنيان وكسوناها الديباج فليكسها الحصر والحصر أيسر من الديباج. وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتاب سلوة الاحزان: ومن عجائب الهرمين، أن سمك كل واحد منهما أربعمائة ذراع من رخام ومرمر، وفيها مكتوب أنا بنيتها بملكي، فمن ادعى قوة فليهدمها فإن الهدم أيسر من البناء، قال ابن المنادي: بلغنا أنهم قدروا خراج الدنيا مراراً، فإذا هو لا يقوم بهدمها والله أعلم.
وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يكهن له وفي رواية ساحر فقال الساحر: إني قد كبرت وأخاف أن أموت فينقطع عنكم علمي ولا يكون فيكم من يعلمه فانظروا إلي غلاماً فهيماً أر قال فطناً لقنا فأعلمه علمي هذا، فنظروا له غلاماً على ما وصف، وأمروه أن يحضر ذلك الساحر، وأن يختلف إليه، وكان على طريق الغلام راهب في صومعة قال معمر: أحسب أن أصحاب الصوامع يومئذ كانوا مسلمين فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به، فلم يزل به حتى أخبره فقال: إنما أنا عبد الله، فجعل الغلام يمكث عند الراهب. ويبطىء على الساحر، فأرسل إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني، فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما الغلام على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة وقد حبست الناس، فقال: اليوم يبين أمر الراهب من أمر الساحر، فأخذ حجراً وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، ثم رمى بالحجر فقتلها. فقال الناس من قتلها. فقالوا: الغلام. ففزع الناس، وقالوا: لقد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد. قال: فسمع به أعمى، كان جليساً للملك، فقال له: إن رددت بصري فلك كذا وكذا! فقال له: لا أريد منك شيئاً ولكن أرأيت إن رجع إليك بصرك، أتؤمن بالذي رده لك؟ قال: نعم فدعا الله تعالى فرد عليه بصره، فأمن الأعمى، وإنه جاء إلى الملك بعد ما شفي، فجلس معه كما كان يجلس، فقال له: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي قال: وهل لك رب غيري؟ قال: الله ربي وربك. فأمر بالمنشار فوضع على رأسه حتى وقع شقاه " . وفي رواية الترمذي أن تلك الدابة كانت أسداً وأن الغلام لما قتلها أخبر الراهب فقال له إن لك شأناً وإنك تبتلى فلا تدل علي. وإن الملك بلغه أمرهم فبعث إليهم فأتي بهم إليه فقال: لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه، ثم أمر بالراهب وبالرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق كل واحد منهما فقتله، ثم قتله المقعد بقتلة أخرى، ثم أمر بالغلام، فقال: انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا، فألقوه من رأسه، فانطلقوا به إلى ذلك الجبل، فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه، قال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فجعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون منه حتى لم يبق منهم إلا الغلام. قال: فرجع الغلام يمشي حتى أتى الملك فقال له: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم ربي بما شاء، فأمر الملك أن ينطلقوا به إلى البحر، فيلقوه فيه، فانطلقوا به إلى البحر فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت فأغرق الله عز وجل الذين كانوا معه، وأنجاه. فأقبل الغلام يمشي على وجه الماء حتى أتى الملك فتحير الملك في نفسه، فقال له الغلام: أتريد أن تقتلني؟ قال: نعم. قال: إنك لا تقدر على ذلك حتى تصلبني وترميني بسهم من كنانتي وتقول إذا رميتني: بسم الله رب هذا الغلام بعد أن تجمع الناس في صعيد واحد. قال: فجمع الملك الناس في صعيد واحد وأمر بالغلام أن يصلب فصلب، وأخذ الملك سهماً من كناية الغلام وقال: بسم الله رب هذا الغلام ورماه فوقع السهم في صدغه فقتله ووضع الغلام يده على صدغه فقال الناس: آمنا برب هذا الغلام. فقيل للملك: إنك جزعت حين خالفك ثلاثة، فهذا العالم كلهم قد خالفوك فأمر بالأخدود، فخد أخدوداً ثم ألقي فيه الحطب والنار ثم جمع الناس وقال لهم: من رجع عن دينه تركناه، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار. فجعل يلقيهم في ذلك الأخدود. فذلك قوله تعالى: " قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود " زاد مسلم فأتى بامرأة لتلقى في النار ومعها صبي رضيع، فجزعت فقال لها: الغلام يا أماه لا تجزعي فإنك على الحق. وذكر ابن قتيبة أن الغلام الرضيع، كان عمره سبعة أشهر. قال الترمذي وإن الغلام أخرج في زمان عمر رضي الله تعالى عنه ويده على صدغه كما وضعها حين قتل.
وذكر صاحب السيرة محمد بن إسحاق فيها أن إسمه عبد الله بن التامر. وأن رجلاً من أهل
نجران حفر خربة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه في بعض حاجته، فوجده تحت الردم قاعداً واضعاً يده على ضرية في صدغه، وفي يده خاتم مكتوب عليه " ربي الله " فكتبوا بذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه فكتب إليهم أن أقروه على حاله ففعلوا. قال السهيلي. ويصدقه قوله عز وجل " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً " الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " . خرجه أبو داود وذكر أبو جعفر الداودي هذا الحديث بزيادة ذكر الشهداء والعلماء والمؤذنين، قال: وهي زيادة غريبة، لكن الداودي من أهل الثقة والعلم. انتهى.
قال ابن بشكوال وكان إسم ذلك الملك يوسف ذا نواس، وكان بنجران وكان ملك حمير وما حوله، وقيل إسمه زرعة ذو نواس، وكان على دين اليهودية قاله السمرقندي. والوقعة كانت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، بسبعين سنة، وكان إسم ذلك الراهب قيتمون، قاله ابن بشكوال.
وفي المثل السائر: " فلان أكذب من دب ودرج " . قال الجوهري: معناه أكذب الأحياء والأموات، لأنهم يدرجون في الأكفان وروى الترمذي الحكيم، عن زيد بن أسلم أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر رضي الله تعالى عنهم في نفر منهم لما هاجروا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أرملوا من الزاد، فأرسلوا قاصدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فلما انتهى إليه سمعه يقرأ " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " فقال الرجل: ما الأشعريون بأهون على الله من الدواب، فرجع ولم يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأتى أصحابه وقال لهم: أبشروا فقد جاءكم الغوث فظنوا أنه قد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بحالهم، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان معهما قصعة مملوأة خبزاً ولحماً فأكلوا ما شاء الله، ثم قال بعضهم لبعض: ردوا بقية هذا الطعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فردوه، ثم إنهم أتوه فقالوا: يا رسول الله لم نر طعاماً أكثر ولا أطيب من طعام أرسلته إلينا فقال صلى الله عليه وسلم: " ما أرسلنا إليكم شيئاً فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم إليه، فسأله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع، فقال صلى الله عليه وسلم: " ذلكم شيء رزقكموه الله عز وجل " . قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله السكندري: هذه آية مصرحة بضمان الحق الرزق، وقطعت ورود الهواجس والخواطر عن قلوب المؤمنين، فإن وردت على قلوبهم، كرت عليها جيوش الإيمان بالله والثقة به وبضمانه فهزمتها بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
وذكر: ابن السني عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا فإن الله عز وجل في الأرض حابساً يحبسها " . قال: الإمام النووي رحمه الله تعالى حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم، أنه انفلتت له دابة، أظنها بغلة، وكان يعرف هذا الحديث، فقاله فحبسها الله تعالى عليه في الحال. قال: وكنت أنا مرة مع جماعة، فانفلتت منهم بهيمة، فعجزوا عنها فقلت هذا الحديث فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام. وروى ابن السني أيضاً، عن الإمام السيد الجليل المجمع على جلالته وحفظه، وديانته وورعه ونزاهته، أبي عبد الله يونس بن عبيد بن دينار المصري التابعي، المشهور، رحمه الله تعالى، أنه قال: ليس رجل يكون على دابة صعبة، فيقول في أذنها: " أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون " إلا وقفت بإذن الله تعالى. وروى الطبراني، في معجمه الأوسط، من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ساء خلقه من الرقيق والدواب والصبيان فاقرؤوا في أذنه " أفغير عين الله تبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون. وقد تقدم في باب الباء الموحدة في لفظ البغلة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب بغلة فحادت به فحبسها، وأمر رجلاً أن يقرأ عليها قل أعوذ برب الفلق فسكنت.
فرع: في كتب الحنابلة يجوز الانتفاع بالدابة في غير ما خلقت له كالبقر للحمل واللركوب، والإبل والحمير للحرث وقوله صلى الله عليه وسلم: " بينما رجل يسوق بقرة إذ أراد أن يركبها فقالت: إنا لم نخلق لذلك " . متفق عليه. المراد أنه معظم منافعها ولا يلزم منه منع غير ذلك. وقال الإمام أحمد من شتم دابة، قال الصالحون: لا تقبل شهادته لحديث المرأة التي لعنت الناقة. وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه: " لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة " .
فرع: يجب على مالك الدابة علفها ورعيها وسقيها لحرمة الروح كما في الصحيح عذبت امرأة في هرة لأنها ذات روح فأشبهت العبد. فإن لم تكن ترعى لزمه أن يعلفها ويسقيها إلى أول شبعها وريها دون غايتهما، وإن كانت ترعى لزمه إرسالها لذلك حتى تشبع وتروى بشرط فقد السباع العادية ووجود الماء، فإن اكتفت بكل من الرعي أو العلف خير بينهما فإن لم تكتف إلا بهما الزماه، وإن احتاجت البهيمة إلى السقي ومعه ماء يحتاج إليه لطهارته سقاها وتيمم، فإن من امتنع من العلف أجبر في مأكولة على بيع أو علف أو ذبح، وفي غيرها على بيع أو علف صيانة لها عن الهلاك فإن لم يفعل فعل الحاكم ما تقتضيه المصلحة، فإن كان له مال ظاهر بيع في النفقة، فإن تعذر جميع ذلك فمن بيت المال.
فائدة: يستحب أن يقول عند ركوب الدابة ما رواه الحاكم والترمذي وصححاه عن علي بن ربيعة، قال: شهدت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقد أتى بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك. فقيل: يا أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت، فقلت: يا رسول الله من أي شيء ضحكت. قال: " إن ربك تعالى يعجب من عبد إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري " .
وروى أبو القاسم الطبراني، في كتاب الدعوات، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا ركب العبد الدابة ولم يذكر إسم الله تعالى، ردفه الشيطان فقال: تغن فإن كان لا يحسن الغناء، قال له: تمن فلا يزال في أمنيته حتى ينزل " وفيه عن أبي الدرداء رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قال إذا ركب دابة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء سبحانه ليس له سمي، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعليه السلام. قالت: الدابة " بارك الله عليك من مؤمن خففت، عن ظهري وأطعت ربك، وأحسنت إلى نفسك بارك الله لك في سفرك وأنجح حاجتك " .
وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن ادريس عن أبي النضر الدمشقي عن إسماعيل ابن عياش، عن عمرو بن قيس الملائي، أنه قال: إذا ركب الرجل الدابة، قالت: اللهم اجعل بي رفيقاً رحيماً، فإذا لعنها، قالت: على أعصانا لله لعنة الله. وفي كامل ابن عدي في ترجمة عباد. ابن كثير الثقفي، وكان شعبة، لا يستغفر له، أنه روى عن ابن طاوس عن أبيه، عن ابن عم رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اضربوا الدواب على النفار ولا تضربوها على العثار " فرع: يجوز الأرداف على الدابة إذا كانت مطيقة، ولا يجوز إذا لم تطقه. ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " أردفه حين دفع من عرفات
إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما، من مزدلفة إلى منى، وأنه صلى الله عليه وسلم أردف معاذاً رضي الله تعالى عنه على الرحل، وأردفه على حمار يقال له عفير وأمر صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن ابن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، أن يعتمر بأخته عائشة رضي الله تعالى عنها من التنعيم، فأدرفها وراءه على راحلته، وأردف صلى الله عليه وسلم صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وراءه، حين تزوجها بخيبر " وإذا أردف صاحب الدابة، فهو أحق بصدرها ويكون الرديف وراءه إلا أن يرضى صاحبها بتقديمه لجلالته أو غير ذلك. وأفاد الحافظ ابن منلى أن الذين أردفهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون نفساً، ولم يذكر فيهم عقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه، ولم يذكر أحد من علماء الحديث والسير أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه. وروى الطبراني عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يركب ثلاثة على دابة " .
فرع: قال أصحابنا ما ليس مأكولاً من الدواب والطيور، إن كان فيه مضرة متمحضة، استحب قتله للمحرم وغيره كالفواسق الخمس والذئب والأسد والنمر والنسر والحدأة والبرغوث والقمل والزنبور والبق والقراد وأشباهها. فإن كان فيه منفعة ومضرة كالفهد والكلب المعلم والعقاب والبازي والصقر ونحوها فلا يستحب قتله لما فيه من المنفعة، ولا يكره لما فيه من الضرر، وهو الصيال على حمام الناس. والعقر وإن لم يكن فيه نفع ولا ضرر كالخنافس والدود والجعلان والسرطان والبغاث والرخمة والعظاءة واللجا والذباب وأشباهها، فيكره قتله ولا يحرم، على ما قطع به الجمهور وحكى الإمام وجهاً شاذاً أنه يحرم قتل الطيور دون الحشرات لأنه عبث بلا حاجة.
وأما دابة الأرض التي ذكرها الله تعالى في سورة سبأ. فهي الأرضة، وقيل سوسة الخشب قال الله تعالى: " فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته " السبب في ذلك أن سليمان عليه السلام، كان قد أمر الجن ببناء صرح، فبنوه له، ودخله مختفياً ليصفو له يوم واحد من الدهر عن الكدر، فدخل عليه شاب فقال له: كيف دخلت من غير استئذان؟ فقال له إنما دخلت بإذن. قال: ومن أذن لك؟ قال: رب هذا الصرح! فعلم سليمان أنه ملك الموت، أتى ليقبض روحه. فقال: سبحان الله، هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفاء. فقال له: طلبت ما لم يخلق. فاستوثق من الاتكاء على العصا. وقد كانت بيت المقدس بقي من تمام بنائه سنة، فسأل الله تعالى تمامها على يد الإنس والجن. وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة فكانوا يقولون إنه يتحنث أي يعبد ربه، فقبض روحه، وكانت الجن تدعي علم الغيب، فلما قبض، بقيت الجن تعمل على عادتها، وقيل: إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من عمره ساعة فدعا الجن فبنوا له الصرح، وقام يصلي متكئاً على عصاه، فمات وهو متكىء عليها وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق، فمر واحد منهم فلم يسمع صوته، ثم رجع فسلم فلم يسمع له كلاماً، فنظر فإذا هو قد خر ميتاً، فعلمت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين سنة. وكان عمره عليه السلام ثلاثاً وخمسين سنة. والمنسأة العصا
وكانت من خروب، وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس فينبت له في محرابه كل سنة شجرة، فيسألها ما إسمك؟ فتقول الشجرة: إسمي كذا، فيقول لها: لأي شيء أنت. فتقول: لكذا وكذا فيأمر بها فتقلع، فإن كانت تنبت بغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت، فبينما هو ذات يوم، إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما إسمك؟ قالت: أنا الخروبة خرجت لخراب ملكك. فعرف أنه قد حضر أجله، فاستعد واتخذ منها عصا، واستدعى بزاد سنة، والجن تتوهم أنه يأكل بالليل. وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وكان الذي ابتدأ في بناء بيت المقدس داود عليه السلام، فرفعه قامة رجل ثم مات، فلما استخلف ابنه سليمان عليه السلام، أحب اتمامه فجمع الجن والشياطين، وقسم عليهم الأعمال، فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثني عشر ربضاً، وأنزل في كل ربض منها سبطاً، فلما فرغ من بناء المدينة، ابتدأ في عمارة المسجد، فوجه الشياطين فرقاً فرقاً، يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها، والحر الصافي من البحر، وفرقاً يقلعون الجواهر والرخام من أماكنها، وفرقاً يأتونه بالمسك والعنبر وسائر أنواع الطيب. فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله تعالى، ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة، وتصييرها ألواحاً، وثقب اليواقيت واللآلىء، واصلاح الجواهر، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي، وسقفه بألواح الجواهر الثمينة، ونضد سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت، وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلماء كالقمر ليلة البدر، فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل، فأعلم أنه قد بناه لله عز وجل خالصاً واتخذ ذلك اليوم عيداً.
فائدة: قال بعض العلماء: سخر الله عز وجل الجن لسليمان عليه السلام، وأمرهم بطاعته، ووكل بهم ملكا بيده صوت من نار، فمن زاغ منهم عن أمره، ضربه الملك ضربة أحرقته. قال أهل التفسير: أجرى الله تعالى لسليمان عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وكان ذلك بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان من النحاس.
وروى الحاكم عن إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان سليمان نبي الله، إذا قام في مصلاه، رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول: ما إسمك؟ فتقول: كذا. فيقول: لأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا فإذا كانت لدواء كتبت، وإن كانت لغرس غرست، فبينما هو يصلي يوماً إذ رأى شجرة، فقال: ما إسمك؟ قالت: الخروب. فقال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. فقال سليمان عند ذلك: اللهم عم على الجن موتي، حتى يعلم الإنس إن الجن لا تعلم الغيب، قال: فاتخذ منها عصاً، وتوكأ عليها، فأكلتها الأرضة، فسقط، فوجدوه ميتاً حولاً، فتبينت الإنس أن الجن، لو كانوا يعلمون الغيب، ما لبثوا حولاً في العذاب المهين " . وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرؤها هكذا ما لبثوا حولاً في العذاب المهين، فشكرت الجن الأرضة. وكانت تأتيها بالماء والتراب حيث كانت ثم قال: صحيح الإسناد.
وأما الدابة التي هي أحد اشراط الساعة، فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم " ، قال: إذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر. قيل: إنها دابة طولها ستون ذراعاً ذات قوائم ووبر، وقيل: هي مختلفة تشبه عدة من الحيوانات، يتصدع لها جبل الصفا فتخرج منه ليلة جمع، والناس سائرون إلى متى. وقيل: تخرج من الحجر وقيل: من أرض الطائف، ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان عليهما السلام، لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب تضرب المؤمن بالعصا، وتكتب في وجهه مؤمن، وتطبع الكافر بالخاتم وتكتب في وجهه كافر. كذا رواه الحاكم في أواخر المستدرك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه عن أبي الطفيل عن أبي شريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " يكون للدابة ثلاث خرجات في الدهر: تخرج أول خرجة بأقصى اليمن، فيفشو ذكرها بالبادية، ولا يدخل ذكرها القرية، يعني مكة. ثم يكون زمان طويل ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة فيفشو ذكرها في البادية، ويدخل ذكرها القرية، يعني مكة، ثم يكون زمان فبينما الناس يوماً في أعظم المساجد عند الله حرمة، وأحبها إلى الله تعالى، وأكرمها على الله عز وجل، يعني المسجد الحرام، لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد بين الركن الأسود وباب بني مخزوم، فترفض الناس عنها شتى، وتثبت لها عصابة من المسلمين عرفوا أنهم لن يعجزوا الله هرباً فتنفض عن رؤوسهم التراب، فتجلو عن وجوههم حتى تظل كأنها الكواكب الحرية، ثم تذهب في الأرض فلا يدركها طالب، ولا يعجزها هارب، حتى إن الرجل ليعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه فتقول: أي فلان الآن تصلي؟ فيلتفت إليها فتسمه في وجهه، ثم تذهب فيتجاور الناس في ديارهم، ويصطحبون في أسفارهم، ويشتركون في أموالهم، يعرف المؤمن من الكافر، حتى إن الكافر يقول: يا مؤمن اقضني، ويقول المؤمن: يا كافر اقضني. وروى السهيلي أن موسى عليه السلام سأل ربه عز وجل أن يريه الدابة التي تكلم الناس، فأخرجها الله له من الأرض، فرأى منظراً أفزعه وهاله، قال: أي رب ردها، فردها. قال: والدابة اسمها أقصد. كذا ذكره محمد بن الحسن المقري في تفسيره انتهى.
روى أنها تخرج حين ينقطع الخير، ولا يؤمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يبقى منيب ولا تائب.
وفي الحديث: " أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب، من أول اشراط الساعة " . ولم يعين الأول منهما، وكذلك الدجال وظاهر الأحاديث أن طلوع الشمس آخرها، والظاهر إن الدابة التي تخرج واحدة، وروي أنه يخرج من كل بلد دابة، مما هو مبثوث نوعها في الأرض، وليست بواحدة، فعلى هذا يكون قوله تعالى دابة إسم جنس.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنها الثعبان الذي كان في جوف الكعبة، واختطفه العقاب، حين أرادت قريش بناء البيت الحرام، وأن الطائر حين اختطفها، ألقاها بالحجون، فالتقمتها الأرض، فهي الدابة التي تخرج تكلم الناس، وتخرج عند الصفا. قاله محمد بن الحسن المقري، وهو غريب غير أن الرجل من أهل العلم، ولذلك حكينا قوله، وقال القرطبي: أنها فصيل. ناقة صالح، لقوله في الحديث: " تخرج ولها رغاء " . والرغاء لا يكون إلا للإبل وهو غريب أيضاً. وفي الميزان للذهبي، عن جابر الجعفي أنه كان يقول: دابة الأرض علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. قال: وكان جابراً الجعفي شيعياً يرى الرجعة أي أن علياً رضي الله تعالى عنه يرجع إلى الدنيا، وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: ما لقيت أحداً أكذب من جابر الجعفي، ولا أفضل من عطاء بن أبي رباح. وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: أخبرني سفيان بن عيينة قال: كنا في منزل جابر الجعفي فتكلم بشيء، فخرجنا مخافة أن يقع علينا السقف، قلت: ومع ذلك روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، ووفاته سنة ست وستين ومائة. واختلف العلماء في كيفية خلق الدابة اختلافاً كثيراً فقيل إنها على خلقة الآدمين وقيل: جمعت خلق كل حيوان.
وهنا فائدة: وهي أن المفسرين اختلفوا في تفسير قوله تعالى: " أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم " قيل: تكلمهم ببطلان الأديان، سوى دين الإسلام، قاله السدي. وقيل: كلامها أن تقول لواحد: هذا مؤمن، وتقول لآخر: هذا كافر. وقيل: كلامها ما قاله الله عز وجل " إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، ويكون كلامها بالعربية. وروي عن علي رضي الله تعالى عنه، إنه قال: ليست بدابة لها ذنب ولكن كالحية. كأنه يشير إلى أنها رجل والاكثرون على إنها دابة. وروى ابن جريج عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس ثور، وعيناها عينا خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن ايل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعاً. وروى الثعلبي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: تخرج الدابة من صدع في الصفا تجري كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها. وروي أيضاً عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدابة تخرج من أعظم المساجد حرمة عند الله تعالى، بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت، ومعه المسلمون، فتضطرب الأرض من تحتهم، وينشق الصفا مما يلي المسعى وتخرج الدابة من الصفا، أول ما يبدو منها رأسها، ملمعة ذات وبر وريش، لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب، تسم الناس مؤمناً وكافراً أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينه: مؤمن، وأما الكافر فتترك في وجهه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه: كافر. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرع الصفا بعصاه، وهو محرم، وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه. وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: تخرج الدابة من شعب أبي قبيس رأسها في السحاب ورجلاها في الأرض. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بئس الشعب شعب أجياد " مرتين أو ثلاثاً، قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: " لأنه تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات، يسمعها من بين الخافقين " .
وقيل إن وجهها وجه رجل، وسائر خلقتها كخلقة الطير، فتكلم من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن لا يوقنون.
فرع: أوصى لرجل بدابة حمل على فرس وبغل وحمار، لأنها في اللغة إسم لما دب على رجه الأرض، ثم قصرها العرف على ذوات الأربع والوصية تنزل على العرف، وإذا ثبت عرف في بلد عم جميع البلاد، كما لو حلف لا يركب دابة فركب كافراً لا يحنث، وإن كان الله تعالى قد سماه دابة وكما لو احلف لا يأكل خبزاً حنث بأكل خبز الأرز في طبرستان على الأصح هذا هو المنصوص.
وقال ابن سريج: إنما ذكر الشافعي هذا، على عرف أهل مصر، في ركوبها جميعاً، واستعمال لفظ الدابة فيها. أما حيث لا يستعمل إلا في الفرس كالعراق، فإنه لا يعطي سواها، وقيل: إن قاله بمصر لم يعط إلا حماراً قاله في البحر ويدخل في لفظ الدابة الكبير والصغير، والذكر والأنثى والسليم والمعيب، وقال المتولي: إلا ما يمكن ركوبه.
فرع: يكره دوام الوقوف على الدابة لغير حاجة، وترك النزول عنها للحاجة، لما في سنن أبي داود والبيهقي، من حديث أبي مريم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله عز وجل إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم في الأرض مستقراً فاقضوا عليها حاجاتكم " . ويجوز الوقوف على ظهرها للحاجة، ريثما تقضى لما روى مسلم وأبو داود والنسائي، عن أم الحصين الأحمسية رضي الله تعالى عنها، قالت: " حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً رضي الله تعالى عنهما، أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة " . وهكذا رواه أحمد والحاكم وابن حبان وصححاه. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام، في الفتاوى الموصلية: النهي عن ركوب الدواب، وهي واقفة محمول على ما إذا كان لغير غرض صحيح، وأما الركوب الطويل في الأغراض الصحيحة، فتارة يكون مندوباً، كالوقوف بعرفة، وتارة يكون واجباً، كوقوف الصفوف في قتال المشركين، وقتال كل من يجب قتاله، وكذلك الحراسة في الجهاد، إذا خيف هجمة العدو، وهذا لا خلاف فيه. وفي حديث أم الحصين رضي الله تعالى عنها دليل على أن للمحرم أن يستظل بالمظال، نازلاً بالأرض وراكباً على ظهر الدابة، ورخص فيه أكثر أهل العلم إلا أن مالك بن أنس وأحمد رضي الله تعالى عنهما، كانا يكرهان للمحرم أن يستظل راكباً، لما روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه رأى رجلاً قد جعل على رحله عوداً له شعبتان، وجعل عليه ثوباً يستظل به وهو محرم، فقال له ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: اضح للذي حرمت. له أي ابرز للشمس، وأما قوله صلى الله عليه وسلم " لا تتخذوا ظهور الدواب منابر " فإنما أراد أن يستوطن ظهورها لغير أرب في ذلك، ولا حاجة. وقال الرياشي: رأيت أحمد بن المعذل في الموقف في يوم شديد الحر، وقد ضحى للشمس، فقلت له: يا أبا الفضل إن هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة فأنشأ يقول:
ضحيت له كي استظل بظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصا
فوا أسفا إن كان سعيك باطلا ... ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا
وأحمد بن المعذل هذا بصري مالكي المذهب، يعد من زهاد البصرة وعلمائها وأخوه عبد الصمد بن المعذل شاعر ماهر.
الداجن: الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم، وكذلك الناقة والحمام البيوتي. والأنثى داجنة، والجمع دواجن. وقال أهل اللغة: دواجن البيوت ما ألفها - من الطير والشاة وغيرهما. وقد دجن في بيته إذا لزمه قال ابن السكيت: شاة داجن وراجن، إذا ألفت البيوت واستأنست. قال: ومن العرب من يقولها بالهاء. وكذلك غير الشاة ككلاب الصيد، وقد أنشد عليه الجوهري بيتاً للبيد رضي الله تعالى عنه. قال: وأبو دجانة كنية. سماك بن خرشة، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في القنفذ. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن ميمونة أخبرته أن داجنة كانت لبعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم فماتت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخذتم إهابها فاستمتعتم به،. وفيه وفي السنن الأربعة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: " لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته، دخل داجن فأكلها " . وفي حديثها أيضاً: " كانت عندنا داجن فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندنا قوم وثبت وإذا خرج صلى الله عليه وسلم جاء ذهب " . وفي الحديث " لعن الله من مثل بدواجنه " . وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: كانت العضباء داجناً لا تمنع من حوض ولا بيت، وهي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي حديث الإفك فتدخل الداجن فتأكل من عجينها.
تتمة: دجين. بن ثابت أبو اليربوعي البصري، روى عن أسلم مولى عمرو بن هشام بن عروة بن الزبير، قال ابن معين: حديثه ليس بشيء. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني وغيره: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: روي لنا عن ابن معين إنه قال: دجين هو جحا. وقال البخاري: دجين بن ثابت هو أبو الغصن سمع مسلمة وابن مبارك، وروى عنه وكيع. قال عبد الرحمن بن مهدي قال لنا مرة دجين: وهو جحا، حدثني مولى لعمر بن عبد العزيز فقلنا له إنه مولى لعمر بن عبد العزيز لا يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. قال: قلنا لعمر ما بالك لا تحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إنما أخشى أن أزيد أو أنقص، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " . وقال حمزة والميداني في الأمثال: جحا رجل من فزارة، كنيته أبو الغصن وهو من أحمق الناس. فمن حمقه، أن موسى بن عيسى الهاشمي مر به يوماً وهو يحفر بظهر الكوفة موضعاً، فقال له: ما بالك يا أبا الغصن لأي شيء تحفر؟ فقال: إني دفنت في هذه الصحراء دراهم ولست أهتدي إلى مكانها. فقال له موسى: كان ينبغي أن تجعل عليها علامة، قال: لقد فعلت، قال: ماذا؟ قال: سحابة في السماء كانت تظلها، ولست أدري موضع العلامة الآن. ومن حمقه أيضاً أنه خرج يوما بغلس، فعثر في دهليز منزله بقتيل، فألقاه في بئر هناك، فعلم به أبوه فأخرجه ودفنه، ثم خنق كبشاً وألقاه في البئر، ثم إن أهل القتيل طافوا في سكك الكوفة يبحثون عنه، فتلقاهم جحا وقال: في دارنا رجل مقتول فانظروا لعله صاحبكم، فغدوا إلى منزله، فأنزلوه في البئر، فلما رأى الكبش، ناداهم هل كان لصاحبكم قرون. فضحكوا منه وانصرفوا. ومن حمقه أيضاً أن أبا مسلم الخراساني، صاحب الدعوة، لما ورد الكوفة، قال لمن حوله: أيكم يعرف جحا فيدعوه إلي؟ فقال يقطين: أنا. فخرج ودعاه، فلما دخل لم يجد في المجلس غير أبي مسلم ويقطين، فقال جحا: يا يقطين أيكما أبو مسلم؟! وجحا إسم لا ينصرف لأنه معدول من جاح مثل عمر من عامر يقال جحا يجحو جحواً إذا رمى.
الدارم: القنفذ. قاله ابن سيده وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف.
الدبى: بفتح الدال المهملة وتخفيف الباء الموحدة الجراد قبل أن يطير. الواحدة دباة قال الراجز:
كأن خوف قرطها المعقوب ... على دباة أو على يعسوب
وأرض مدبية أي كثيرة الدبى، وقالوا في أمثالهم: " أكثر من الدبى " . وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: يا رسول الله كيف الناس بعد ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: " دبى يأكل شداده ضعفاءه حتى تقوم الساعة " . وقد تقدم الكلام على عموم الجراد.
الدب: من السباع معروف، والأنثى دبة وكنيته أبو جهينة وأبو الجلاح وأبو سلمة وأبو حميد وأبو قتادة وأبو اللماس: وأرض مدبة أي ذات أدباب. والدب يحب العزلة فإذا جاء الشتاء دخل وجاره الذي اتخذه في الغيران، ولا يخرج حتى يطيب الهواء، وإذا جاع يمتص يده ورجليه فيندفع عنه بذلك الجوع. ويخرج في الربيع كاسمن ما يكون. وهو مختلف الطباع، لأنه يأكل ما تأكله السباع، وما ترعاه البهائم، وما يأكله الناس ومن طبعه أنه إذا كان أوان السفاد، خلا كل ذكر بأنثاه، والذكر يسافد أنثاه مضطجعة على الأرض، وتضع الأنثى جروها قطعة لحم غير مميز الجوارح، فتهرب به من موضع إلى موضع، خوفاً عليه من النمل، كما تقدم في جهير، وهي مع ذلك تلحسه حتى تتميز أعضاؤه ويتنفس. وفي ولادتها صعوبة وربما أشرفت على التلف حالة الوضع، وزعم بعضهم أنها تلد من فيها، وإنما تلده ناقص الخلق تشوقاً للذكر وحرصاً على السفاد، ولشدة شهوتها تدعو الآدمي إلى وطئها. ومن شأن هذا الجنس أن يسمن في الشتاء وتقل فيه حركته وتضع الإناث حينئذ. وإذا جثم في مكان لا يتحرك منه إلى أن يمضي عليه أربعة عشر يوماً، وبعد ذلك يتدرج في الحركة. والأنثى إذا انهزمت دفعت جراءها بين يديها، فإذا اشتد خوفها عليها صعدت بها الأشجار. وفي طبعه فطنة عجيبة لقبول التأديب، لكنه لا يطيع معلمه إلا بعنف وضرب شديد.
وحكمه: تحريم الأكل لأنه سبع يتقوى بنابه. وقاد الإمام أحمد: إن لم يكن له ناب فلا بأس به، لأن الأصل الإباحة، ولم يتحقق وجود المحرم.
فائدة: قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في آخر الأذكياء : هرب رجل من أسد، فوقع في بئر، فوقع الأسد خلفه، فإذا في البئر دب، فقال له الأسد: منذ كم لك ههنا. قال: منذ أيام، وقد قتلني الجوع. فقال: له الأسد: أنا وأنت نأكل هذا الإنسان وقد شبعنا، فقال له الدب فإذا عاودنا الجوع ما نصنع؟ وإنما الرأي أن نحلف له، أنا لا نؤذيه ليحتال في خلاصنا وخلاصه، فإنه على الحيلة أقدر منا فحلفا له فتشبث حتى وجد نقباً فوصل إليه، ثم إلى الفضاء فتخلص وخلصهما. ومعنى هذا أن العاقل لا يترك الحزم في كل أموره، ولا يتبع شهوته لا سيما إذا علم أن فيها هلاكه بل ينظر في عاقبة أمره ويأخذ بالحزم في ذلك. وحكى القزويني في عجائب المخلوقات أن أسداً قصد إنساناً فهرب والتجأ إلى شجرة، فإذا على بعض أغصانها دب يقطف ثمرتها، فلما رأى الأسد أنه فوق الشجرة، جاء وافترش تحتها ينتظر نزول الإنسان. قال: فنظرت إلى الدب، فإذا هو يشير بإصبعه إلى فيه، أن اسكت لئلا يعرف الأسد أني هنا. قال: فبقيت متحيراً بين الأسد والدب، وكان معي سكين صغير فأخرجته وقطعت بعض الغصن الذي عليه الدب حتى إذا لم يبق منه إلا اليسير سقط الدب بسبب ثقله فوثب الأسد عليه وتصارعا زماناً ثم غلبه الأسد فافترسه ورجع عني.
الأمثال: تقدم أنهم قالوا: " أحمق من جهبر " . وهي أنثى الدب. وأما قولهم : " ألوط من دب " . فهو رجل من العرب كان يتجاهر بعمل ذلك. وأما قولهم : " ألوط من ثفر " ، فإنما قالوه لأن الثفر لا يفارق دبر الدابة، وقولهم: " ألوط من راهب " . هذا من قول الشاعر:
وألوط من راهب يدعي ... بأن النساء عليه حرام
الخواص: نابه يلقى في لبن المرضعة ويسقاه الصبي تنبت أسنانه بسهولة. وشحمه يزيل البرص طلاء، وإذا شدت عينه اليمنى في خرقة، وعلقت على عضد إنسان لم يخف السباع، وإن علقت على من به الحمى الدائمة ابرأته، ومرارته إذا اكتحل بها مع العسل وماء الرازيانج أذهبت ظلمة البصر، وإذا طلي بذلك موضع داء الثعلب، أنبت الشعر فيه، وإذا شرب من مرارته وزن دانقين بعسل وماء حار، نفع الرئة والبواسير وطرد الرياح. وإذا ربطت مرارته على فخذ الرجل اليمنى جامع ما شاء ولا يضره، ودمه إذا اكتحل به منع طلوع الشعر في أجفان العين. وإن أكتحل به بعد نتفه لم ينبت، وإذا دلك الولد بشحمه، كان له حرزاً من كل سوء، وإذا جشي بشحمه موضع الناسور نفعه، وإذا طلي بشحمه كلب جن. وقطعة من جلده إذا علقت على الصبي الذي ساء خلقه يزول عنه ذلك، وعينه اليمنى إذا جففت وعلقت على الطفل لم يفزع في نومه.
التعبير: الدب في المنام يدل على الشر والنكد والفتنة، وربما دلت رؤيته على المكر والخديعة، وعلى المرأة الثقيلة البدن الموحشة المنظر، ذات اللهو واللعب والطرب، وربما دلت رؤيته على الأسر والسجن وربما دلت رؤيته على عدو أحمق، لص محتال مخنث، فمن رأى أنه ركب دباً نال ولاية دنيئة، إن كان لها أهلاً وإلا ناله هم وخوف ثم ينجو وربما دل على سفر ثم يرجع إلى مكانه والله تعالى أعلم.
الدبدب: حمار الوحش قاله في العباب. وقد تقدم الكلام عليه في باب الحاء المهملة.
الدبر: بفتح الدال جماعة النحل. وقال السهيلي الدبر الزنابير، وأما الدبر بكسر الدال فصغار الجراد. قال الأصمعي لا واحد له من لفظه، ويقال إن واحده خشرمة، ويجمع الدبر على دبور قال الهذلي في وصف عسال:
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها.
أي لم يخف لسعها به فسر قوله تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه " وقوله تعالى: " من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لأت " أي من كان يخاف لقاءه. قال النحاس: أجمع أهل التفسير على أن الرجاء في الآيتين بمعنى الخوف. ويقال أيضاً للزنابير دبر، كما قاله السهيلي. ومنه قيل لعاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه: حمى الدبر، وذلك أن المشركين لما قتلوه أرادوا أن يمثلوا به، فحماه الله تعالى بالدبر فارتدعوا عنه، حتى أخذه المسلمون فدفنوه. وكان رضي الله تعالى عنه، قد عاهد الله تعالى أن لا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، فحماه الله تعالى منهم بعد وفاته. وفي أوائل تاريخ نيسابور للحاكم عن ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو ممن روى له الجماعة أنه قال: خرجنا مرة من خراسان ومعنا رجل يشتم أو ينال من أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فنهيناه فأبى، فحضر غداؤنا ذات يوم ثم مضى إلى حاجته فأبطأ علينا فبعثنا في طلبه فرجع إلينا الرسول وقال: أدركوا صاحبكم، فذهبنا إليه فإذا هو قد قعد على حجر يقفي حاجته فخرج عليه عنق من الدبر، فنثرت مفاصله مفصلاً مفصلاً. قال: فجمعنا عظامه، وإنها لتقع علينا فما تؤذينا، وهي تبري مفاصله. وجاء في الحديث: " لتسلكن سنن من قبلكم ذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا خشرم عبر لسلكتموه " والخشرم مأوى النحل. وفي الفائق أن سكينة بنت الحسين رضي الله تعالى عنهما، جاءت إلى أمها الرباب وهي صغيرة تبكي، فقالت: ما بك. قالت: مرت بي دبيرة، فلسعتني بأبيرة أرادت تصغير دبرة وهي النحلة سميت بذلك لتدبيرها في عمل العسل.
الدبسي: بفتح الدال المهملة وكسر السين المهملة، ويقال له أيضاً الدبسي، بضم الدال طائر صغير منسوب إلى دبس الرطب لأنهم يغيرون في النسب كالدهري والسهلي والفامي بائع الفوم، والقياس فومي. والأدبس من الطير والخيل، الذي في لونه غبرة بين السواد والحمرة. وهذا النوع قسم من الحمام البري وهو أصناف مصري وحجازي وعراقي، وهي متقاربة لكن أفخرها المصري. ولونه الدكنة وقيل هو ذكر اليمام. قال الجاحظ: قال صاحب منطق الطير: يقال في الحمام الوحشي من القماري والفواخت، وما أشبه ذلك: دباسي ويقال: هدل يهدل هديلاً، إذا صاح فإذا طرب قيل: غرد يغرد تغريداً والتغريد يكون أيضاً للإنسان، وأصله من الطير، وبعضهم يزعم أن الهديل من أسماء الحمامة الذكر قال الراجز:
كهداهد كسر الرماة جناحه ... يدعو بقارعة الطريق هديلا
وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الهديل في باب الهاء. روى الإمام أحمد والطبراني ورجال المسند رجال الصحيح عن يحيى بن عمارة عن جده حنش، قال: دخلت الأسواق، فأخذت دبسيتين وأمهما ترفرف عليهما، وأنا أريد أن أذبحهما قال: فدخل علي أبو حنش فأخذ متيخة فضربني بها وقال: ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتي المدينة. المتيخة أصل جريد النخل وأصل العرجون والأسواف، سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في النهاس أيضاً في باب النون. وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه كان يصلي في حائط له، فطار محبسي فأعجبه، وهو طائر في الشجر يلتمس مخرجاً، فأتبعه بصره ساعة وهو في صلاته، فلم يدركم صلى فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ما أصابه من الفتنة. ثم قال: يا رسول الله هو صدقة فضعه حيث شئت، قال مالك: وعن عبد الله بن أبي بكر أن رجلاً من الأنصار، كان يصلي في حائط له بالقف في زمن التمر والنخل، قد ذللت فهي مطوقة بثمرها فنظر إليها فاعجبه ما رأى من ثمرها، ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى. فقال لقد أصابتني في مالي هذا فتنة. فجاء عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وهو يومئذ خليفة فذكر له ذلك وقال: هو صدقة فاجعله في سبيل الخير فباعه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بخمسين ألفاً فسمى ذلك الحائط الخمسون والقف واد من أودية المدينة. وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا يعجبه شيء من ماله إلا خرج عنه لله تعالى، وكان رقيقه يعرفون منه ذلك فربما لزم أحدهم المسجد، فإذا رآه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، على تلك الحالة الحسنة عتقه، فيقول له أصحابه: إنهم يخدعونك فيقول: من خدعنا بالله تعالى، انخدعنا له. وطلب منه خادم بثلاثين ألفاً، فقال: أخاف أن تفتني دراهم ابن عامر، وكان هو الطالب له، فقال للخادم إذهب فأنت حر لله تعالى. ولذلك قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: ما منا أحد إلا وقد مالت به الدنيا، الا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ولم يمت إلى أن أعتق ألف نسمة أو أكثر من ذلك. ومناقبه وفضائله رضي الله تعالى عنه لا تحصى قال حجة الإسلام الغزالي: وكانوا يفعلون ذلك قطعاً لمادة الفكرة، وكفارة لما جرى من نقصان الصلاة وهذا هو الدواء القاطع لمادة العلة ولا يغني غيره.
ومن طبع الدبسي إنه لا يرى ساقطاً على وجه الأرض بل في الشتاء له مشتى وفي الصيف له مصيف ولا يعرف له وكره.
وحكمه: الحل بالاتفاق. وفي سنن البيهقي عن ابن أبي ليلى، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال في الخضري: والدبسي والقمري والقطا والحجل إذا قتله المحرم شاة شاة.
الخواص: قال صاحب المنهاج في الطب: إنه أفضل الطير البري، وبعمه الشحرور والسماني، ثم الحجل والدراج، وفراخ الحمام والورشان وهو حار يابس.
والدباساء ممدوداً الأنثى من الجراد. وهو في المنام كالسماني وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليهما في باب السين المهملة فلينظر هناك.
الدجاج: مثلث الدال حكاه ابن معن الدمشقي وابن مالك وغيرهما، الواحدة دجاجة الذكر والأنثى فيه سواء والهاء فيه كبطة وحمامة، وقال ابن سيده: سميت الدجاجة دجاجة لإقبالها وادبارها يقال: دج القوم يدجون دجيجاً إذا مشوا مشياً رويداً في تقارب خطو. وقيل هو أن يقبلوا ويدبروا. وقال الأصمعي: الدجاجة بالفتح الواحدة من الدجاج، وبالكسر الكبة من الغزل. وقال غيره: الكبة من الغزل دجاجة بفتح الدال أيضاً. قاله الإمام ابن بيدار في شرح الفصيح. وكنيه الدجاجة أم الوليد وأم حفصة وأم جعفر وأم عقبة وأم إحدى وعشرين وأم قوب وأم نافع. وإذا هرمت الدجاجة لم يكن لبيضها مح، وإذا كانت كذلك لم يخلق منها فرخ، ومن عجيب أمرها أنه يمر بها سائر السباع فلا تخشاها فإذا مر بها ابن آوى وهي على سطح أو جدار أو شجرة رمت بنفسها إليه. وتوصف الدجاجة بقلة النوم، وسرعة الأنتباه. يقال إن نومها واستيقاظها إنما هو بمقدار خروج النفس ورجوعه، ويقال إنها تفعل ذلك من شدة الجبن، وأكثر ما عندها من الحيلة أنها لا تنام على الأرض، بل ترتفع على رف أو على جذع، أو جدار أو ما قارب ذلك، وإذا غربت الشمس فزعت إلى تلك العادة وبادرت إليها. والفرخ يخرج من البيضة كاسياً كاسياً، ظريفاً مقبولاً، سريع الحركة يدعى فيجيب، ثم هو كلما مرت عليه الأيام، حمق ونقص حسنه وكيسه وزاد قبحه، فلا يزال كذلك حتى ينسلخ من جميع ما كان فيه إلى أن يصير إلى حالة لا يصلح فيها إلا للذبح أو الصياح أو البيض. والدجاج مشترك الطبيعة يأكل اللحم والذباب، وذلك من طباع الجوارح، ويأكل الخبز ويلتقط الحب، وذلك من طباع البهائم والطير. ويعرف الديك من الدجاجة وهو في البيضة وذلك أن البيضة إذا كانت مستطيلة محدودة الأطراف فهي مخرج الإناث، وإذا كانت مستديرة عريضة الأطراف، فهي مخرج الذكور. والفرخ يخرج من البيضة تارة بالحضن وتارة بأن يدفن في الزبل ونحوه. ومن الدجاج ما يبيض مرتين في اليوم، والدجاجة تبيض في جميع السنة، إلا في شهرين منها شتويين، ويتم خلق البيض في عشرة أيام، وتكون البيضة عند خروجها لينة القشر، فإذا أصابها الهواء يبست، وهي تشتمل على بياض وصفرة، بينهما قشر رقيق، يسمى قميصاً، ويعلوه قشر صلب. فالبياض رطوبة مختلطة لزجة متشابهة الأجزاء، وهي بمنزلة المني. والصفرة رطوبة سلسة ناعمة أشبه شيء بدم قد جمد، وهي للفرخ مادة يغتذي بها من سرته.
والذي يتكون من الرطوبة البيضاء عين الفرخ ثم دماغه ثم رأسه ثم ينحاز البياض في لفافة واحدة هي جلدة الفرخ، وتنحاز الصفرة في غشاء واحد هي سرته، فيتغذى منها كتغذي الجنين من سرته من دم الحيض، وربما وجد في البيضة الواحدة محان أصفران، فإذا حضنت هذه البيضة خرج منها فرخان، وقد شوهد ذلك. وأغنى البيض وألطفه ذوات الصفرة، وأقله غذاء ما كان من دجاج لا ديك لها، وهذا النوع من البيض، لا يتولد منه حيوان، ولا مما يباض في نقصان القمر على الأكثر، لأن البيض من الاستهلال إلى الابدار يمتلىء ويرطب، فيصلح للكون وبالضد من الابدار إلى المحاق. ويعرف الفرخ الذكر من الأنثى، بعد عشرة أيام، بأن يعلق بمنقاره، فإن تحرك فذكر، وإن سكن فأنثى. وقد وصف الشعراء البيضة بأوصاف مختلفة منها قول أبي الفرج الأصبهاني من أبيات:
فيها بدائع صنعة ولطائف ... ألفن بالتقدير والتعليق
خلطان مائيان ما اختلطا على ... شكل ومختلف المزاج رقيق
روى ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأغنياء باتخاذ الغنم، وأمر الفقراء باتخاذ الدجاج. وقال: عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى. وفي اسناده علي بن عروة الدمشقي، قال ابن حبان: كان يضع الحديث. قال عبد اللطيف البغدادي: إنما أمر الأغنياء باتخاذ الغنم والفقراء باتخاذ الدجاج لأنه أمر كل قوم بحسب مقدرتهم وما تصل إليه قوتهم والقصد من ذلك كله أن لا يقعد الناس عن الكسب، وإنماء المال وعمارة الدنيا، وأن لا يدعوا التسبب فإن ذلك يوجب التعفف والقناعة، وربما أدى إلى الغنى والثروة. وترك الكسب والاعراض عنه يوجب الحاجة والمسألة للناس والتكفف منهم، وذلك مذموم شرعاً وأما قوله: " عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى " . يعني أن الأغنياء إذا ضيقوا على الفقراء في مكاسبهم، وخالطوهم في معايشهم تعطل سببهم وهلكوا، وفي هلاك الفقراء بوار، وني ذلك هلاك القرى وبوارها. وفي آخر البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تلك الكلمة من الحق يختطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة " . وذكر الإمام العلامة أبو الفرج بن الجوزي، في الأذكياء، عن أحمد بن طولون، صاحب مصر، أنه جلس يوماً في منتزه له يأكل مع ندمائه فرأى سائلاً وعليه ثوب خلق، فوضع يده في رغيف ودجاجة وقطعة لحم وفالوذج وأمر بعض الغلمان بمناولته فأخذ ذلك الغلام وذهب به إلى السائل ورجع، فذكر أنه ما هش له ولا بش، فقال ابن طولون للغلام: ائتني به فأحضره بين يديه فاستنطقه فأحسن الجواب، ولم يضطرب من هيبته، فقال له أحضر لي الكتب التي معك، وأصدقني عمن بعث بك، فقد صح عندي أنك صاحب خبر، وأحضر السياط فاعترف له بذلك. فقال بعض من حضر هذا: والله السحر. فقال أحمد: ما هو بسحر ولكنه قياس صحيح وفراسة، وذلك أني لما رأيت سوء حاله وجهت إليه بطعام يشره إلى أكله الشبعان، فما هش ولا بش ولا مد يده إليه، فأحضرته وخاطبته فتلقاني بقوة جأش وجواب حاضر. فلما رأيت رثاثة حاله، وقوة جأشه، وسرعة جوابه، علمت منه صاحب خبر انتهى. وقال ابن خلكان في ترجمته: كان أبو العباس أحمد بن طولون صاحب الديار المصرية والشامية والثغور، ملكاً عادلاً شجاعاً متواضعاً، حسن السيرة، يحب أهل العلم، كريماً له مائدة يحضرها الخاص والعام، كثير الصدقة. نقل أنه قال له وكيله يوماً إن امرأة تأتيني وعليها الازار الرفيع، وفي يدها الخاتم الذهب، فتطلب مني أفأعطيها؟ فقال: من مد يده إليك فأعطه. وكان يحفظ القرآن، ورزق حسن الصوت فيه، وكان مع ذلك طائش السيف سفاك الدماء. قيل إنه أحصى من قتله صبراً ومن مات في حبسه فكان ثمانية عشر ألفاً توفي سنة سبعين ومائتين بزلق الأمعاء. ويقال إن طولون تبناه ولم يكن ابنه. وروي أن رجلاً كان يواظب القراءة على قبره، فرآه ذات ليلة في المنام، فقال: أحب منك أن لا تقرأ علي! قال: ولم؟ قال: لأنه لا تمر بي آية إلا قرعت بها، ويقال لي أما سمعت هذه أما مرت بك هذه. اه وروى الإمام الحافظ ابن عساكر في تاريخه أن سليمان بن عبد الملك رحمه الله تعالى، كان نهماً في الأكل، وقد نقل عنه فيه أشياء غريبة، فمنها أنه اصطبح في بعض الأيام بأربعين دجاجة مشوية، وأربعين بيضة، وأربع وثمانين كلوة بشحمها، وثمانين جردقة، ثم أكل مع الناس على السماط العام. ومنها أنه دخل ذات يوم بستاناً له، وكان قد أمر قيمه أن يجني ثماره ويستطيب له، وكان معه أصحابه، فأكل القوم حتى أكتفوا واستمر هو يأكل فأكل أكلاً ذريعاً، ثم استدعى بشاة مشوية فأكلها، ثم أقبل على الفاكهة فأكل أكلاً ذريعاً، ثم أتى بدجاجتين مشويتين فأكلهما، ثم مال إلى الفاكهة فأكل أكلاً ذريعاً، ثم أتى بقعب يقعد فيه الرجل مملوء سمناً وسويقاً وسكراً فأكله أجمع، ثم سار إلى دار الخلافة، وأتى بالسماط فما نقص من أكله شيء. ومنها أنه حج فأتى الطائف فأكل سبعمائة رمانة وخروفاً وست دجاجات، وأتى بمكوك زبيب طائفي فأكله أجمع. وقيل إنه كان له بستان فجاء رجل ليضمنه ودفع له قدراً من المال، فاستؤذن في ذلك فدخل البستان لينظره وجعل يأكل من ثماره، ثم أذن في ضمانه فلما قيل للضامن أحمل المال، قال: كان ذلك قبل أن يدخله أمير المؤمنين. قيل كان سبب مرضه أنه أكل أربعمائة بيضة، وثمانمائة
حبة تين، وأربعمائة كلوة بشحمها، وعشرين دجاجة فحم، وفشت الحمى في عسكره، وكان موته بالتخمة رحمة الله تعالى عليه في مرج دابق.بة تين، وأربعمائة كلوة بشحمها، وعشرين دجاجة فحم، وفشت الحمى في عسكره، وكان موته بالتخمة رحمة الله تعالى عليه في مرج دابق.
فائدة: ذكر بعض العلماء أن من أكل كثيراً وخاف على نفسه من التخمة، فليمسح على بطنه بيده، وليقل: الليلة ليلة عيدي يا كرشي ورضي الله عن سيدي أبي عبد الله القرشي. يفعل ذلك ثلاثا، فإنه لا يضره الأكل وهو عجيب مجرب.
وقد روينا بأسانيد شتى من طرق مختلفة، أن امرأة جاءت بولدها إلى سيدي الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله روحه، وقالت: إني رأيت قلب ابني هذا شديد التعلق بك، وقد خرجت عن حقي فيه لله عز وجل ولك، فاقبله فقبله الشيخ، وأمره بالمجاهدة وسلوك الطريق، فدخلت عليه أمه يوماً، فوجدته نحيلاً مصفراً من آثار الجوع والسهر، ووجدته يأكل قرصاً من الشعير، فدخلت إلى الشيخ فوجدت بين يديه إناء فيه عظام دجاجة مسلوقة، قد أكلها فقالت: يا سيدي تأكل لحم الدجاج ويأكل ابني خبز الشعير، فوضع الشيخ يده على تلك العظام، وقال: قومي بإذن الله تعالى الذي يحيى العظام وهي رميم، فقامت دجاجة سوية وصاحت، فقال الشيخ: إذا صار ابنك هكذا فليأكل ما شاء. وذكر ابن خلكان أيضاً في ترجمة الهيثم بن عدي أن رجلاً من الأولين كان يأكل وبين يديه دجاجة مشوية، فجاءه سائل فرده خائباً، وكان الرجل مترفاً فوقع بينه وبين امرأته فرقة، وذهب ماله وتزوجت امرأته، فبينما الزوج الثاني يأكل وبين يديه دجاجة مشوية إذ جاءه سائل، فقال لامرأته: ناوليه الدجاجة فناولته، ونظرت إليه فإذا هو زوجها الأول. فأخبرت زوجها الثاني بالقصة فقال الزوج الثاني: وأنا والله ذلك المسكين الأول، خولني الله نعمته وأهله لقلة شكره. وقال الهيثم: خرجت في سفر على ناقة، فأمسيت عند خيمة أعرابي، فنزلت. فقالت ربة الخباء: من أنت؟ فقلت: ضيف. قالت: وما يصنع الضيف عندنا إن الصحراء لواسعة؟ ثم قامت إلى بر فطحنته وعجنته وخبزته، ثم قعدت تأكل، فلم ألبث أن جاء زوجها ومعه لبن، فسلم ثم قال: من الرجل؟ قلت: ضيف. قال: أهلاً وسهلاً حياك الله، وملأ قعباً من لبق وسقاني. ثم قال: ما أراك أكلت شيئاً! وما أراها أطعمتك! فقلت: لا والله. فدخل عليها مغضباً، وقال: ويلك أكلت وتركت الضيف؟ قالت: وما أصنع به أطعمه طعامي. وزاد بينهما الكلام، فضربها حتى شجها، ثم أخذ شفرة وخرج إلى ناقتي فنحرها، فقلت: ما صنعت عافاك الله؟ فقال: والله لا يبيت ضيفي جائعاً، ثم جمع حطباً، وأجج ناراً وأقبل يشوي ويطعمني، ويأكل ويلقي إليها، ويقول: كلي لا أطعمك الله! حتى إذا أصبح تركني وذهب، فقعدت مغموماً، فلما تعالى النهار، أقبل ومعه بعير ما يسأم الناظر من النظر إليه، وقال: هذا مكان ناقتك ثم زودني من ذلك اللحم ومما حضره. وخرجت من عنده فضمني الليل إلى خيمة أعرابي، فسلمت فردت صاحبة الخباء علي السلام، وقالت: من الرجل؟ قلت: ضيف. فقالت: مرحباً بك حياك الله وعافاك، فنزلت ثم عمدت إلى بر فطحنته وعجنته وخبزته، ثم روت ذلك بالزبد واللبن ووضعته بين يدي، ومعه دجاجة مشوية، وقالت: كل واعذر، فلم البث إذ أقبل أعرابي كريه المنظر، فسلم فرددت عليه السلام، فقال: من الرجل؟ قلت: ضيف قال: وما يصنع الضيف عندنا؟ ثم دخل إلى أهله وقال: أين طعامي؟ قالت: أطعمته للضيف. فقال: أتطعمين طعامي للأضياف؟ ثم تكالما فضربها فشجها، فجعلت أضحك فخرج إلي وقال: ما يضحكك. فأخبرته بقصة الرجل والمرأة اللذين نزلت عندهما قبله، فأقبل علي وقال: إن هذه المرأة التي عندي أخت ذلك الرجل، وتلك المرأة التي عنده أختي. قال: فنمت ليلتي متعجباً فلما أن أصبحت انصرفت.
الحكم: يحل أكل الدجاج لأنه من الطيبات، لما روى الشيخان والترمذي والنسائي عن زهدم بن مضرب الجرمي قال: كنا عند أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فدعا بمائدة عليها لحم دجاج فدخل رجل من بني تيم الله، أحمر شبيه بالموالي، فقال له: هلم فتلكأ، فقال: هلم فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه وفي لفظ " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل دجاجة " . وهذا الرجل إنما تلكأ لأنه رآه يأكل العذرة فقذره ويحتمل أن يكون تردد لالتباس الحكم عليه، أو لم يكن عنده عليل فتوقف حتى يعلم حكم الله تعالى وقد جاء النهي عن لبن الجلالة ولحمها وبيضها. وفي الكامل والميزان في ترجمة غالب بن عبيد الله الجذري وهو متروك عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل دجاجة أمر بها فربطت أياماً ثم يأكلها بعد ذلك.
وفي فتاوى القاضي حسين لو قال رجل لامرأته إن لم تبيعي هذه الدجاجات فأنت طالق فقتلت واحدة منهن طلقت لتعذر البيع، وإن جرحتها ثم باعتها فإن كانت بخبث لو ذبحت لم تحل لم يصح البيع ووقع الطلاق وإلا فتحل اليمين.
فرع: لا يجوز بيع دجاجة فيها بيض ببيض كما لا يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بلبن، ويحرم بيع الحنطة بدقيقها والسمسم بكسبه، وما أشبهه لأنه يحرم بيع مال الربا بأصله المشتمل عليه. فرع: البيضه التي في جوف الطائر الميت فيها ثلاثة أوجه حكاها الماوردي والروياني والشاشي أصحها، وهو قول ابن القطان وأبي الفياض، وبه قطع الجمهور إن تصلبت فطاهرة وإلا فنجسة. والثاني طاهرة مطلقاً، وبه قال أبو حنيفة لتميزها عنه فصارت بالولد أشبه. والثالث نجسة مطلقاً، وبه قال مالك لأنها قبل الإنفصال جزء من الطائر وحكاه المتولي عن نص الشافعي رضي الله تعالى عنه. وهو نقل غريب شاذ ضعيف، وقال صاحب الحاوي والبحر: فلو وضعت هذه البيضة تحت طائر فصارت فرخاً، كان الفرخ طاهراً على الأوجه كلها كسائر الحيوان، ولا خلاف أن ظاهر البيضة نجس، وأما البيضة الخارجة في حال حياة الدجاجة فهل يحكم بنجاسة ظاهرها؟ فيه وجهان: حكاهما الماوردي والروياني والبغوي وغيرهم، بناء على الوجهين في نجاسة رطوبة فرج المرأة قال في المهذب: إن المنصوص نجاسة رطوبة فرج المرأة. وقال الماوردي: إن الشافعي رضي الله تعالى عنه قد نص في بعض كتبه على طهارتها. ثم حكى التنجيس عن ابن سريج، فملخص الخلاف فيها قولان لا وجهان. وقال الإمام النووي: رطوبة الفرج طاهرة مطلقاً، سواء كان الفرج من بهيمة أو امرأة، وهو الأصح. وإذا فرعنا على نجاسة رطوبة الفرج فنقل النووي في شرح المهذب عن فتاوى ابن الصباغ، ولم يخالفه أن المولود لا يجب غسله إجماعاً. وقال في آخر باب الأنية من الشرح المذكور: إن فيه وجهين حكاهما الماوردي والروياني، وقد حكاهما الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه. ورأيت في الكافي للخوارزمي أن الماء لا ينجس بوقوعه فيه فيحتمل أن يكون الخلاف مفرعاً على القول القديم بعدم وجوب الغسل، لكونه نجساً معفواً عنه، وأما إذا انفصل الولد حياً، بعد موتها، فعينه طاهرة بلا خلاف. ويجب غسل ظاهره بلا خلاف. وأما البلل الخارج مع الولد أو غيره فنجس، كما جزم به الرافعي في الشرح الصغير والنووي في شرح المهذب. وقال الإمام لا شك فيه. وأما الرطوبة الخارجة من باطن الفرج فإنها نجسة كما تقدم، وإنما قلنا بطهارة ذكر المجامع ونحوه، على ذلك القول لأنا لا نقطع بخروجها.
قال في الكفاية: والفرق بين رطوبة فرج المرأة، ورطوبة باطن الذكر لأنها لزجة لا تنفصل بنفسها، ولا تمازج سائر رطوبات البدن، فلا حكم لها قلت: والرطوبة هي ماء أبيض متردد بين المني والعرق. كما قاله في شرح المهذب وغيره، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على الجلالة من الدجاج وغيره في باب السين المهملة في حكم السخلة والله الموفق.
الأمثال: قالوا: " أعطف من أم إحدى وعشرين " . وهي الدجاجة كما تقدم.
الخواص: لحم الدجاج معتدل الحرارة جيد. وأكل لحم الفتي من الدجاج يزيد في العقل والمني ويصفي الصوت، لكنه يضر بالمعدة والمرتاضين. ودفع مضرته أن يتناول بعده شراب العسل. وهو يولد غذاء معتدلاً يوافق من الأمزجة المعتدلة ومن الإنسان الفتيان، ومن الأزمان الربيع. وأعلم أن الدجاج المعتدلة الغذاء ليست حارة مستحيلة: إلى الصفراء، ولا باردة مولدة للبلغم، ولا أعلم من أين أجمعت العامة والأطباء الأغمار على مضرتها بالنقرس وتوليد هاله، والقائلون بذلك لعلهم معتقدون بالخاصية وحسب لا غير. وهي محسنة للون وأدمغتها تزيد في الأدمغة والعمل. وهى من أغذية المترفهين، لا سيما من قبل أن تبيض. وإما بيضها فحار مائل إلى الرطوبة واليبس وقال بياروق: بياضه بارد رطب، وصفرته حارة جيدة للكاد. والطري منفعته تزيد في الباه لكنه إذا أدمن أكله يولد كلفاً. وهو بطيء الهضم ودفع ضرره بالاقتصار على صفرته هو يولد خلطاً محموداً. وأعلم أن أجود البيض للإنسان بيض الدجاج، والدراج إذا كانا طريين معتدلي النضج، فإن الصلب إما أن يتخم، أو يورث حمى، وهو يلبث طويلاً ويغذو إذا انهضم كثيراً، والنيمرشت يغذو غذاء كثيراً والمسلوق بخل يعقل البطن، والساذج ينفع من حرارة المعدة والمثانة ونفث الدم، ويصفي الصوت. وأنفع السليق ما ألقي على الماء وهو يغلي عد مائة ورفع.
ومما ينفع لحل المعقود أن تكتب على جوانب السيف هذه الأحرف بكصم لا لا وم ما ما لا لا لا ه ه ه وتقطع به بيضة دجاجة سوداء نظيفة مناصفة، فتأكل المرأة النصف والرجل النصف فإنه مجرب وهو يحل إثنين وسبعين باباً بإذن الله تعالى. ومما ينفع لحل المعقود أيضاً أن يكتب ويعلق في عنق الرجل، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواج ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر. ومما جرب أيضاً لحل المعقود أن تكتب وتعلق عليه الفاتحة والإخلاص والمعوذتين، و " يسألوك عن الجبال فقل ينسفها رب نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، " أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون " " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " ، " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسي صعقا " " مرج البحرين يلقيان بينهما برزخ لا يبغيان " ، " فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم " ، و " هو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً " و " عنت الوجوه للحي القيوم " ، و " قد خاب من حمل ظلما " ، و " من يتوكل على الله فهو حسبه " ، " إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدر " ، وتكتب بسم الرجل والمرأة في آخر الكتاب وتقول: أللهم إني أسألك أن تجمع بين فلان بن فلانة وبين فلانة بنت فلانة بحق هذه الأسماء والآيات إنك على كل شيء قدير. باهياً شراهياً أصبأوت آل شداي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم في في في في تم وكمل. وقال ابنه وحشية: دماغ الدجاجة إذا وضع على لسعة الحية خاصة أبرأتها. وقال القزويني: إذا طبخت الدجاجة مع عشر بصلات بيض وكف سمسم مقشور حتى تتهرى ويؤكل لحمها ويشرب مرقتها فإنه يزيد في الباه ويقوي الشهوة.
وقال غيره: المداومة على أكل لحم الدجاج تورث البواسير والنقرس. وهذا قول جاهل بالطب وهو قول أغمار الأطباء كما تقدم. قال القزويني: وفي قانصة الدجاجة حجر إذا شد على المصروع أبرأه، وإذا علق على إنسان زاد في قوة الباه، ويدفع عنه عين السو، وإذا ترك تحت رأس الصبي فإنه لا يفزع في نومه. وفرق الدجاجة السوداء إذا ألصق على باب قوم، وقع بينهم الخصومة والشر، وإذا طلي الذكر بمرارة الدجاجة السوداء وجامع من شاء لم ينله أحد بعده. وإذا دفنت رأس دجاجة سوداء في كوز جديد، تحت فراش رجل قد خاصم زوجته، صالحها من وقته. وإذا احتمل رجل من دهن الدجاجة السوداء قدر أربعة دارهم هيج الباه. وإذا أخذ عينا دجاجة سوداء شديدة السواد، وعينا سنبور أسود، وجففن وسحقن واكتحل بهن، رأى من يفعل ذلك الروحانيين، فإن سألهم أخبروه بما يريد والله أعلم.
التعبير: الدجاج في المنام نساء ذليلات مهينات، فالرقادة ذات نشاط وأصالة وبدالة.
والدبيبة امرأة دنيئة الأصل أو خائنة وفروخها أولاد زنا، وربما دلت الدجاجة على المرأة ذات الأولاد، ودخولها على المريض عافيته وآذان الدجاجة شر ونكد أو موت. وكذلك الفروخ ربما دل دخولها على السليم، على انذار بمرض يحتاج فيه إليها وربما دل دخولها على زوال الهموم والانكاد، وعلى الأفراح والتظاهر بالرفاهية والنعم، والفروج ولد أو ملبوس مفرح أو فرج لمن هو في شدة، وربما كانت الدجاجة في المنام تدل رؤيتها على امرأة رعناء حمقاء ذات جمال، أو سرية أو خادم. فمن رأى كأنه ذبح دجاجة افتض جارية. ومن صادها نال ولاية ومالاً هنيأً من العجم. ومن رأى الدجاج أو الفراريج تساق من مكان إلى مكان فإنه سبي. ومن رأى الدجاج أو الطواويس تهدر في منزله، فإنه صاحب فجور. وريش الدجاج مال، والبيض في المنام يعبر بالنساء لقوله تعالى: " كأنهن بيض مكنون " والبيضة الواحدة لمن رآها بيده، فإن كانت زوجته حاملاً فإنها تضع له بنتاً وإن كان أعزب تزوج ومن رأى البيض يجرف من مكان إلى مكان، كما تجرف الزبالة، فإنه سبي نساء ذلك المكان ومن رأى بيضاً نيئاً وهو يأكله، فإنه يأكل مالاً حراماً وللطبوخ رزق حلال بتعب. وبؤا رأت الحامل كأنها أعطيت بيضة مقشرة فإنها تلد بنتاً وفراريج الدجاج أولاد زناء ومن قشر بيضة فأكل بياضها، ورمى صفارها، فإنه نباش للقبور، ويأخذ أكفان الموتى. لما روى عن ابن سيرين أنه أتاه رجل، فقال: إني رأيت كأني أقشر بيضة وأرمي صفارها وآكل بياضها. فقال ابن سيرين: هذا رجل نباش للقبور. فقيل له: من أين أخذت هذا؟ فقال: البيضة القبر، والصفار الجسد، والبياض الكفن. فيلقى الميت ويأكل ثمن الكفن، وهو البياض. وحكي أن امرأة أتت إلى ابن سرين فقالت: رأيت كأني أضع البيض تحت الخشب، فتخرج فراريج. فقال ابن سيرين: ويلك اتقي الله، فإنك امرأة توفقين بين الرجال والنساء فيما لا يحبه الله عز وجل فقال له جلساؤه: قذفت المرأة يا محمد، من أين أخذت ذلك؟ فقال: من قوله تعالى قي النساء يشبهن بالبيض " كأنهن بيض مكنون " وقال جل وعلا، يشبه المنافقين بالخشب: " كأنهم خشب مسندة " ، فالبيض هو النساء، والخشب هم المفسدون والفرارج هم أولاد الزنا والله أعلم.
الدجاجة الحبشية: هي نوع مما تقدم. قال الشافعي: يحرم على المحرم الدجاجة الحبشية لأنها وحشية تمتنع بالطيران، وإن كانت ربما ألفت البيوت. قال القاضي حسين: الدجاجة الحبشية شبيهة بالدراج. قال: وتسمى بالعراق الدجاجة السندية،. فإن أتلفها لزمه الجزاء. وقال مالك: لا جزاء في دجاج الحبش على المحرم لاستئناسه، وكذلك كل ما تأنس من الوحشي عند الشافعي فيه الجزاء، خلافاً لمالك. والدجاج الحبشي هو الدجاج البري، وهو في الشكل واللون قريب من الدجاج يسكن في الغالب سواحل البحر، وهو كثير ببلاد المغرب، يأوي مواضع الطرفاء ويبيض فيها. قال الجاحظ: ويخرج فراخه وكفلك فراخ الطاووس والبط السندي كيسة كاسية تلتقط الحب من ساعتها كفراخ الدجاج الأهلي ويقال له الغرغر، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة.
الدج: طائر صغير في حد اليمام من طير الماء سمين طيب اللحم وهو كثير بالاسكندرية وما يشابهها من بلاد السواحل قاله ابن سيده.
الدحرج: بضم الدال المهملة دويبة قاله ابن سيده.
الدخاس: كنحاس دويبة تغيب في التراب والجمع الدخاخيس.
الدخس: بضم الدال المهملة وتشديد الخاء المعجمه ضرب من السمك وهو الدلفين. قاله ابن سيده أيضاً وقال الجوهري: الدخس مثال الصرد دويبة في البحر تنجي الغريق تمكنه من ظهرها ليستعين على السباحة وتسمى الدلفين وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى في هذا الباب.
الدخل: بتشديد الخاء المعجمة أيضاً طائر صغير والجمع الدخاخيل وهو أغبر يسقط على رؤوس الشجر والنخل. واحدته دخلة وفي أدب الكاتب لابن قتيبة الدخل ابن تمرة.