الكتاب : حياة الحيوان الكبرى
المؤلف : الدميري
فصل: يلتحق بهذا النوع غزال المسك، ولونه أسود ويشبه ما تقدم في القدودقة القوائم وافتراق الأظلاف غير أن لكل منهما نابين أبيضين خفيفين خارجين من فيه في فكه الأسفل، قائمين في وجهه كناي الخنزير، كل واحد منهما دون الفتر، ويقال إنه يسافر من التبت إلى الهند، فيلقي ذلك المسك هناك فيكون رديئاً. وحقيقة ذلك المسك دم يجتمع في سرتها في وقت معلوم من السنة بمنزلة المواد التي تنصب إلى الأعضاء، وهذه السرة جعلها الله تعالى معدناً للمسك، فهي تثمر كل سنة كالشجرة التي " تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " وإذا حصل ذلك الورم مرضت له الظباء، إلى أن يتكامل. ويقال إن أهل التبت يضربون لها أوتاداً في البرية، تحتك بها ليسقط عندها. وذكر القزويني في الأشكال، أن دابة المسك تخرج من الماء كالظباء تخرج في وقت معلوم، والناس يصيحون منها شيئاً كثيراً فتذبح. فيوجد في سررها دم وهو المسك، ولا يوجد له هناك رائحة حتى يحمل إلى غير ذلك الموضع من البلاد انتهى. وهذا غريب! والمعروف ما تقدم.
وفي مشكل الوسيط لابن الصلاح، عن ابن عقيل البغدادي، أن النافجة في جوف الظبية، كالأنفحة في جوف الجدي، وأنه سافر إلى بلاد المشرق، حتى حمل هذه الدابة، إلى بلاد المغرب لخلاف جرى فيها، ونقل في كتاب العطر له عن علي بن مهدي الطبري، أحد أئمة أصحابنا، أنها تلقيها من جوفها كما تلقي الدجاجة البيضة انتهى. قلت: والمشهور أنها ليست مودعة في الظبية بل هي خارجة ملتحمة في سرتها كما تقدم والله أعلم.
روى مسلم عن أي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة، تمشي مع امرأتين طويلتين، فاتخذت رجلين من خشب، وخاتماً من ذهب، وحشته مسكاً والمسك أطيب الطيب، فمرت بين المرأتين فلم يعرفوها، فقالت بيدها هكذا ونفض شعبة يده " . قال النووي: دل الحديث على أن المسك أطيب الطيب وأفضله، وأنه طاهر يجوز استعماله في البدن والثوب ويجوز بيعه، وهذا كله مجمع عليه. ونقل أصحابنا عن الشيعة فيه، مذهباً باطلا، وهم محجوجون بإجماع المسلمين وبالأحاديث الصحيحة، في استعمال النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمال الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قال أصحابنا وغيرهم: وهو مستثنى من القاعدة المعروفة أن ما أبين من حي فهو ميتة. قال: وأما اتخاذ المرأة القصيرة رجلين من خشب حتى مشت بين الطويلتين، فلم تعرف فحكمه في شرعنا أنها إن قصدت به مقصوداً شرعياً لتستر نفسها لئلا تعرف فتقصد بالأذى ونحو ذلك فلا بأس به. وإن قصدت به التعاظم أو التشبه بالكاملات، وتزويراً على الرجال وغيرهم، فهو حرام.
فائدة: روى الدارقطني والطبراني في معجمه الأوسط، عن أنس بن مالك، والبيهقي في شعبه عن أبي سعيد الخدري، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم قد صادوا ظبية وشدوها إلى عمود فسطاط فقالت: يا رسول الله إني وضعت ولي خشفان، فاستأذن لي أن أرضعهما ثم أعود إليهم فقال صلى الله عليه وسلم: " خلوا عنها حتى تأتي خشفيها ترضعهما وتأتي إليكم " . قالوا: ومن لنا بذلك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: " أنا " فأطلقوها، فذهبت فأرضعتهما ثم عادت إليهم فأوثقوها فقال صلى الله عليه وسلم: " أتبيعونيها " قالوا: هي لك يا رسول الله، فخلوا عنها، فأطلقها. وفي رواية عن زيد بن أرقم، قال: لما أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيتها تسبح في البرية وهي تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وروى الطبراني عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحراء، فإذا مناد ينادي: يا رسول الله، فالتفت فلم ير أحداً، ثم التفت فإذا ظبية موثوقة، فقالت: ادن مني يا رسول الله فدنا منها، فقال: ما حاجتك؟ فقالت: إن لي خشفين في هذا الجبل، فحلني حتى أذهب إليهما فأرضعهما ثم أرجع إليك! فقال صلى الله عليه وسلم: " وتفعلين " ؟ قالت: عذبني الله عذاب العشار إن لم أفعل! فأطلقها فذهبت فأرضعت خشفيها ثم رجعت. فأوثقها. وانتبه الأعرابي فقال: ألك حاجة يا رسول الله؟ قال: " نعم تطلق هذه " ، فأطلقها. فخرجت تعدو وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وفي دلائل النبوة للبيهقي، عن أبي سعيد، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بظبية مربوطة إلى خباء، فقالت: يا رسول الله حلني حتى أذهب فأرضع خشفي، ثم أرجع فتربطني فقال صلى الله عليه وسلم: " صيد قوم وربيطة قوم " ، فأخذ عليها فحلفت له فحلها، فما مكثت إلا قليلا حتى جاءت وقد نفضت ما في ضرعها، فربطها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى إلى خباء أصحابها فاستوهبها منهم فوهبوها له، فحلها، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " لو علمت البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سميناً أبداً " وفي ذلك يقول صالح الشافعي من قصيدة له:
وجاء امرؤ قد صاد يوماً غزالة ... لها ولد خشف تخلف بالكذا
فنادت رسول الله والقوم حضر ... فأطلقها والقوم قد سمعوا الندا
وسيأتي إن شاء الله تعالى، في العشراء بيتان آخران.
الحكم: يحل كلها بجميع أنواعها، ووقع لجماعة من الأصحاب أنهم قالوا: يجب على المحرم في قتل الظبي عنز. كذا قاله الإمام وارتضاه الرافعي وصوبه النووي. وهو وهم، فإن الظبي ذكر والعنز أنثى، فالصواب أن في الظبي ثنياً. وأما المسك فطاهر، وكذا فأرته في الأصح، لكن شرط طهارتها انفصالها حال حياة الظبية. وقيد المحاملي في كتاب اللباب المسك بالظبي، فقال: والمسك من الظبي طاهر، أي المسك المأخوذ من الظبي، احترز بذلك عن المسك التبتي المأخوذ من الفأرة الأتي ذكرها في باب الفاء إن شاء الله تعالى. وهو نجس ويستدل به على منع أكلها إذ لو كانت مأكولة، لالتحق مسكها بمسك الظبية. والطيبيون يسمون المسك التبتي المسك التركي، وهو عندهم أجود المسك، وأغلى ثمناً وينبغي التحرز من استعماله لنجاسته. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء ما قاله الجاحظ في فأرة المسك.
ونقل الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، عن القفال الشاشي، أن فأرة المسك، يعني النافجة، تدبغ بما فيها من المسك فتطهر طهارة المدبوغات. لمذكر بعض شراح غنية ابن سريج، أن الشعر الذي على فأرة المسك، يعني النافجة نجس بلا خلاف. لأن المسك يدبغ ما لاقاه من الجلد المحاذي له فيطهر، وما لم يلاقه من أطراف النافجة نجس. وهذا الذي قاله ظاهر إلا قوله إن شعرها نجس بلا خلاف، فليس بظاهر، لأن في طهارة الشعر تبعاً للجلد المدبوغ خلافاً عندنا. وهي رواية الربيع الجيزي، عن الشافعي. واختاره السبكي وغيره، وصححه الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني والروياني وابن أبي عصرون وغيرهم كما تقدم في باب السين المهملة، في الكلام على السنجاب.
وذكر الأزرقي، في تعظيم صيد الحرم عن عبد العزيز بن أبي رواد، أن قوماً انتهوا إلى ذي
طوى ونزلوا بها، فإذا ظبي من ظباء الحرم قد دنا منهم، فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه، فقال له أصحابه: ويلك أرسله، فجعل يضحك، وأبى أن يرسله فبعر الظبي وبال، ثم أرسله، فناموا في القائلة، فانتبه بعضهم فإذا هو بحية منطوية على بطن الرجل الذي أخذ الظبي، فقال له أصحابه: ويحك لا تتحرك فلم تنزل الحية عنه حتى كان من الحدث مثل ما كان من الظبي.
ثم روى عن مجاهد، قال: دخل مكة قوم تجار من الشام في الجاهلية، بعد قصي بن كلاب، فنزلوا بوادي طوى، تحت سمرات يستظلون بها، فاختبزوا على ملة لهم، ولم يكن معهم أدم، فقام رجل منهم إلى قوسه، فوضع عليها سهماً ثم رمى به ظبية من ظباء الحرم، وهي حولهم ترعى، فقاموا إليها فسلخوها وطبخوها، ليأتدموا بها، فبينما هم كذلك، وقدرهم على النار تغلى بها، وبعضهم يشوي إذ خرجت من تحت القدر، عنق من النار عظيمة، فأحرقت القوم جميعاً ولم تحرق ثيابهم ولا أمتعتهم ولا السمرات التي كانوا تحتها.
الأمثال: قالوا: آمن من ظباء الحرم، وقالوا: ترك الظبي ظله. وهو كقولهم: اتركه ترك الغزال ظله، يضرب للرجل النفور. وظله كناسه الذي يستظل به من شدة الحر. وهو إذا نفر منه لا يعود إليه أبداً. وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الغين أيضاً.
الخواص: قال ابن وحشية: قرنه ينحت ويبخر به البيت يطرد الهوام. ولسانه يجفف في الظل، ويطعم للمرأة السلطة، تزول سلاطتها. ومرارته تقطر في الأذن الوجعة، يزول وجعها. وبقره وجلده يحرقان ويسحقان، ويجعلان في طعام الصبي، فيأكله فينشأ ذكياً فصيحاً حافظاً ذلقاً. ومسكه يقوي البصر، وينشف الرطوبات، ويقوي القلب والدماغ، ويجلو بياض العين وينفع من الخفقان. وهو ترياق للسموم إلا أنه يورث تصفير الوجه. ومن خواص المسك أن استعماله في الطعام يورث البخر.
فصل: المسك حار يابس، وأجوده الصفدي المجلوب من تبت، إلا أنه يضر بالأدمغة الحارة. ودفع ضرره استعماله بالكافور. وتوافق رائحته الأمزجة الباردة والشيوخ. قال الرازي: لحم الظبي حار يابس، وهو أصلح لحوم الصيد وأجوده الخشف. وهو نافع للقولنج والفالج والأبدان الكثيرة الفضول، لكنه يجفف الأعضاء ويدفع ضرره الأدهان والحوامض، وهو يولد دماً حاراً وأصلح ما أكل في الشتاء.
فائدة: نوافج التبتي نوع رقاق والجرجاري ضده في الرقة والرائحة، والقينوي متوسط بينهما، والصنوبري دون ذلك. ويجلب في قوارير متفرقاً في نوافجه، وكلما بعد حيوانه عن البحر كان مسكه ألذ وأذكى.
التعبير: الظبي في المنام امرأة حسناء عربية، فمن رأى أن يملك ظبية بصيد، فإنه يملك جارية بمكر وخديعة، أو يتزوج امرأة. ومن رأى أنه ذبح ظبية افتض جارية. ومن رمى ظبية لغير الصيد، فإنه يقذف امرأة. ومن رمى ظبية وكان عزمه الصيد، نال مالا من امرأة. ومن رأى أنه صاد ظبياً أصابته لذاذة في الدنيا، ومن رأى أنه أخذ ظبياً نال ميراثاً وخيراً كثيراً. ومن رأى أنه سلخ ظبية فجر بامرأة. ومن رأى ظبياً وثب عليه، فإن امرأته تعصيه في جميع أموره. وقال جاماسب: من رأى أنه يمشي في أثر ظبي، زادت قوته، ومهما ملك الإنسان من قرون الظباء أو شعورها أو جلودها، فهي أموال من قبل النساء.
خاتمة: المسك في المنام حبيب أو جارية، ومن حمل المسك من اللصوص، فإنه يمسك لأن الرائحة الذكية تنم على صاحبها وحاملها وتفشي سره، ويدل أيضاً على المال، لأنه أكثر ثمناً من الذهب وغيره، ويدل على طيب عيش وخير طيب يرد على من شمه أو ملكه ويدل على براءة المتهمين. وقيل: هو ولد وقيل هو امرأة والله تعالى أعلم.
فائدة: رأيت في مختصر الإحياء، للشيخ شرف الدين بن يونس شارح التنبيه، في باب الإخلاص، أن من أخلص لله تعالى في العمل، ولم ينوبه مقابلا، ظهرت آثار بركته عليه، وعلى عقبه إلى يوم القيامة. كما قيل: إنه لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، جاءته وحوش الفلاة تسلم عليه وتزوره، فكان يدعو لكل جنس بما يليق به. فجاءته طائفة من الظباء، فدعا لهن ومسح على ظهورهن، فظهر فيهن نوافج المسك، فلما رأى بواقيها ذلك، قلن: من أين هذا لكن؟ فقلن: زرنا صفي الله آدم فدعا لنا ومسح على ظهورنا، فمضى البواقي إليه فدعا لهن، ومسح على ظهورهن، فلم يظهر بهن من ذلك شيء. فقلن: قد فعلنا كما فعلتن فلم نر شيئاً مما حصل لكن، فقيل: أنتن كان عملكن لتنلن كما نال إخوانكن. وأولئك كان عملهن لله من غير شيء فظهر ذلك في نسلهن وعقبهن إلى يوم القيامة انتهى. وهذه من زياداته على الإحياء، وقد تكلمنا على الإخلاص والرياء، في كتاب الجوهر الفريد، في الجزء الرابع فلينظر هناك.
الظربان: بفتح الظاء المشالة مثل القطران، دويبة فوق جرو الكلب، منتنة الريح كثيرة الفسو، وقد عرف الظربان ذلك من نفسه فجعل ذلك سلاحاً له، كما عرفت الحبارى ما في سلحها من السلاح، إذا قرب الصقر منها. كذلك الظربان يقصد جحر الضب، وفيه حسوله وبيضه، فيأتي أضيق موضع فيه فيسله بذنبه ويحول دبره إليه، فلا يفسو ثلاث فسوات حتى يغشى على الضب، فيأكله ثم يقيم في جحره، حتى يأتي على آخر حسوله. وتزعم الأعراب أنها تفسو في ثوب أحدهم، إذا صادها فلا تذهب رائحته حتى يبلى الثوب.
فائدة: سأل أبو علي الفارسي الطبيب، أحمد بن الحسين المتنبئ الشاعر، وكان مكثراً من نقل اللغة، هل لنا في الجمع على وزن فعلى؟ فقال في الحال: حجلى وظربى. قال أبو علي: فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال، فلم أجد لهما ثالثاً. وقد تقدم هذا في باب الحاء المهملة. والظربان على قدر الهرة والكلب القلطي، وهو منتن الريح ظاهراً أو باطناً، له صماخان بغير أذنين قصير اليدين، وفيها براثن حداد، طويل الذنب ليس لظهره فقار، ولا فيه مفصل بل عظم واحد من مفصل الرأس إلى مفصل الذنب. وربما ظفر الناس به، فيضربونه بالسيوف، فلا تعمل فيه حتى تصيب طرف أنفه، لأن جلده مثل القد في الصلابة. ومن عادته أنه إذا رأى الثعبان دنا منه ووثب عليه، فإذا أخذه تضاءل في الطول، حتى يبقى شبيهاً بقطعة حبل، فينطوي الثعبان عليه، فإذا انطوى عليه، نفخ ثم زفر زفرة يتقطع منها الثعبان قطعاً قطعاً، وله قوة في تسلق الحيطان في طلب الطير. فإذا سقط نفخ بطنه، فلا يضره السقوط، ويتوسط الهجمة من الإبل، فيفسو فيها فتتفرق تلك الإبل، كتفرقها من مبرك فيه قردان، فلا يردها الراعي إلا بجهد. ولهذا سمته العرب مفرق النعم وهو كثير ببلاد العرب والهجمة مائة من الإبل.
وحكمه: تحريم الأكل، لاستخباثه ولا يدفع ذلك قول ابن قتيبة: العرب تصيد الظربان فيفسو في أكمامهم لأنهم لا يسمون صيداً إلا المأكول.
الأمثال: قالوا: " فسا بينهم الظربان " إذا تقاطع القوم. قال الشاعر:
ألا أبلغا قيساً وجندب أنني ... ضربت كثيراً مضرب الظربان
الظليم: ذكر النعام، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب النون وكنيته أبو البيض وأبو ثلاثين وأبو الصحاري وجمعه ظلمان كوليد وولدان قال زهير:
من الظلمان جؤجؤه هواء
وقال تعالى: " ويطوف عليهم ولدان مخلدون " ونظيرهما قضيب وقضبان وعريض وعرضان وفصيل وفصلان. ذكر سيبويه هذه الألفاظ سوى الولدان. وقال: إنه قليل. وحكى غيره القري وهو مجرى الماء والجمع قريان وسرى وسريان وصبي وصبيان وخصي وخصيان.
خاتمة: يقال: عار الظليم يعار عراراً، بكسر العين المهملة، وهو صوته قال ابن خلكان، وغيره: ومنه أخذ اسم عرار وهو عرار بن عمرو بن شاس الأسدي الذي قال فيه أبوه:
أرادت عراراً بالهوان ومن يرد ... عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم
فإن عراراً إن يكن غير واضح ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم
وكان والده له امرأة من قومه، وابنه عرار هذا كان من أمة، وكان قد وقع بين عرار وبين امرأة أبيه عداوة، فاجتهد أبوه عمرو على أن يصلح بينه وبين امرأته، فلم يمكنه فطلقها، ثم ندم وكان عرار فصيحاً عاقلا، توجه عن المهلب بن أبي صفرة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي رسولا في بعض المهمات، فلما مثل بين يديه لم يعرفه وازدراه، فلما استنطقه أبان عن فضل وأعرب إلى أن بلغ الغاية فأنشد الحجاج متمثلا:
أرادت عراراً بالهوان ومن يرد ... عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم
فقال عرار: أيدك الله أنا عرار، فأعجب به.
وبذلك الاتفاق قلت: وهذه الحكاية نظير ما رواه الدينوري في المجالسة، وقال الحريري في الدرة: إن عبيد بن شرية الجرهمي، عاش ثلاثمائة سنة وأدرك الإسلام فأسلم، ودخل على معاوية بن أبي سفيان بالشام، وهو خليفة، فقال له: حدثني بأعجب ما رأيت، قاد: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتاً لهم، فلما انتبهت إليهم، اغرورقت عيناي بالدموع فتمثلت بقول الشاعر:
يا قلب إنك من أسماء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير
قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد ... حتى جرت لك إطلاقاً محاضير
فلست تدري وما تدري أعاجلها ... أدنى لرشدك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيراً وارضين به ... فبينما العسر إذا دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذ هو الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
قال: فقال لي رجل: أتعرف من يقول هذه الأبيات؟ قلت: لا والله إلا أني أرويها منذ زمان فقال: والذي تحلف به، إن قائلها صاحبنا الذي دفناه آنفاً الساعة، وأنت الغريب الذي تبكي عليه ولست تعرفه، وهذا الذي خرج من قبره أمس الناس به رحماً، وهو أسرهم بموته كما وصف فعجبت لما ذكره من شعره، والذي صار إليه من قوله، كأنه ينظر من مكانه إلى جنازته. فقلت إن البلاء موكل بالمنطق، فذهبت مثلا. فقال له معاوية: لقد رأيت عجباً! فمن الميت؟ قال هو عثير بن لبيد العذري.
باب العين المهملة
العاتق: قال الجوهري: هو فرخ الطائر فوق الناهض، يقال أخذت فرخ قطاة عاتقاً وذلك إذا طار واستقل. قال أبو عبيدة: نرى أنه من السبق، كأنه يعتق، أي يسبق انتهى. وقال ابن سيده: العاتق الناهض من فرخ القطا، وهو أول ما ينحسر ريشه الأول، وينبت له ريش جديد. وقيل: العاتق من الحمام، ما لم يسن ويستحكم. والجمع عواتق، والفرس العتيق الرائع الكريم. وامرأة عتيقة أي جميلة كريمة. وفي صحيح البخاري، عن ابن مسعود أنه كان يقول سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء، " أنهن من العتاق الأول، وهو من تلادي " أراد بالعتاق جمع عتيق. والعرب تسمي كل شيء بلغ الغاية في الجودة عتيقاً، يريد تفضيل هذه السور لما تتضمن من ذكر القصص وأخبار الأنبياء، وأخبار الأمم. والتلاد ما كان قديماً من المال، يريد أنها من أوائل السور المنزلة في أول الإسلام، لأنها مكية وأنها من أول ما قرئ وحفظ من القرآن.العاتك: الفرس والجمع العواتك قال الشاعر:
نتبعهم خيلا لنا عواتكا ... في الحرب جرداً تركب المهالكا
فائدة: روى عبد الباقي بن قانع في معجمه، والحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي من حديث سيانة بن عاصم، وسيانة بسين مهملة ثم ياء مثناة من تحت وبعد الألف نون ثم هاء، له صحبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: " أنا ابن العواتك من سليم " . العواتك ثلاث نسوة من بني سليم، كن من أمهات النبي صلى الله عليه وسلم إحداهن عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان السلمية، وهي أم عبد مناف بن قصي، والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال بن الفالج السلمية، وهي أم هاشم بن عبد مناف، والثالثة عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال السلمية، وهي أم وهب أبي آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم. فالأولى من العواتك عمة الثانية والثانية عمة الثالثة. وبنو سليم تفخر بهذه الولادة، ولبني سليم مفاخر أخرى: منها أنها آلفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، أي شهد معه منهم ألف. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم لواءهم يومئذ على الألوية، وكان أحمر.
ومنها أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى أهل الكوفة والبصرة ومصر والشام، أن ابعثوا إلي من كل بلد أفضله رجلا. فبعث أهل الكوفة عتبة بن فرقد السلمي، وبعث أهل الشام أبا الأعور السلمي، وبعث أهل البصرة مجاشع بن مسعود السلمي، وبعث أهل مصر معن بن يزيد السلمي. كذا قاله جماعة. والصواب أن بني سليم، كانوا يوم الفتح تسعمائة فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " هل لكم في رجل يعمل مائة فيوفيكم ألفاً؟ " قالوا: نعم فوفاهم بالضحاك بن سفيان، وكان رئيسهم، وإنما جعله عليهم لأن جميعهم من قيس عيلان.
عتاق الطير: هي الجوارح. قاله الجوهري.
العتلة: هي الناقة التي لا تلقح، فهي أبداً قوية قاله أبو نصر. وسيأتي إن شاء الله تعالى لفظ الناقة في باب النون.
العاضة والعاضهة: حية يموت الذي تلسعه من ساعته، وقد تقدم لفظ الحية في باب الحاء المهملة.
العاسل: الذئب، والجمع العسل والعواسل والأنثى عسلى، وقد تقدم لفظ الذئب في باب الذال المعجمة.
العاطوس: دابة يتشاءم بها وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها في باب الفاء في الفاعوس.
العافية: كل طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طائر، مأخوذ من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه.
فائدة: في الحديث : " من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة " . وفي رواية العوافي وير جمع عافية، رواه النسائي والبيهقي وصححه ابن حبان من رواية جابر بن عبد الله، وفي صحيح مسلم من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي " . يريد عوافي السباع والطير. " ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة ينقعان بغنمهما فيجدانها وحشاً حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما " . قال الإمام النووي: المختاران هذا الترك للمدينة، يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة. ويوضحه قصة الراعيين من مزينة فإنها يخران على وجوههما، حين تدركهما الساعة، وهما آخر من يحشر، كما ثبت في صحيح البخاري انتهى.
وقال القاضي عياض: هذا مما جرى في العصر الأول وانقضى، وهو من معجزاته صلى الله عليه وسلم. فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت حين انتقلت الخلافة منها إلى الشام والعراق، وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا، أما الدين فلكثرة العلماء بها، وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها. قال: وذكر الأخباريون، في بعض الفتن التي جرت بالمدينة، وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس، وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافي، وخلت مدة ثم تراجع الناس إليها، قال: وحالها اليوم قريب من هذا وقد خرب أطرافها.
العائذ: بالذال المعجمة الناقة التي معها ولدها، وقيل: الناقة إذا وضعت وبعدما تضع أياماً حتى يقوى ولدها. وفي الحديث " إن قريشاً خرجت لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها العوذ المطافيل. وهي جمع عائذ يريد أنهم خرجوا بذوات الألبان من الإبل ليزودوا بألبانها، ولا يرجعوا حتى يناجزوا محمداً وأصحابه في زعمهم. ووقع في نهاية الغريب أن العوذ المطافيل يريد بها النساء والصبيان، وإنما قيل للناقة عائذ وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها لأنها عاطف عليه كما قالوا تجارة رابحة وإن كان مربوحاً فيها، لأنها في معنى نامية وزاكية. وكذلك عيشة راضية لأنها في معنى صالحة.
العبقص والعبقوص: دويبة قاله ابن سيده.
العبور: الجذعة من الغنم أو أصغر، وعين اللحياني ذلك للصغير، فقال: هي بعد الفطم والجمع عبائر قاله ابن سيده أيضاً.
العترفان: بضم العين الديك وقد تقدم لفظ الديك في باب الدال المهملة. قال عدي بن زيد:
ثلاثة أحوال وشهراً محرماً ... أقضى كعين العترفان المحارب
العتود: بفتح العين: الصغير من أولاد المعز إذا قوي ورعى وأتى عليه حول، والجمع أعتدة وعدان أصله عتدان، فأدغم. روى مسلم عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم " أعطاه غنماً يقسمها بين أصحابه فبقي عتود، فقال: ضح به أنت " ، قال البيهقي، وسائر أصحابنا: كانت هذه رخصة لعقبة بن عامر خاصة كأبي بردة هانئ بن نيار البلوي. وروى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعقبة بن عامر: " ضح بها أنت ولا رخصة لأحد فيها بعدك). وفي سنن أبي داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم " رخص في مثل ذلك لزيد بن خالد " ، فالذين خصوا بذلك ثلاثة: أبو بردة وعقبة بن عامر وزيد بن خالد.
العثة: ضم العين وتشديد الثاء المثلثة دوببة تلحس الثياب والصوف. والجمع عث وعثث، وأكثر ما تكون في الصوف. وقال في المحكم: هي دويبة تعلق بالإهاب تأكله. هذا قول ابن الأعرابي. وقال ابن دريد: العث بغير هاء دويبة تقع في الصوف، فدل هذا على أن الجمع عث. وقال ابن قتيبة: إنها دويبة تأكل الأديم، وغاير بينها وبين الأرضة، وقال الجوهري: العثة السوسة التي تلحس الصوف.
وحكمها: تحريم الأكل.
الأمثال: قالوا: " عثيثة تقرم جلداً أملس " يضرب للرجل يجتهد أن يؤثر في الشيء فلا يقدر عليه. قاله الأحنف بن قيس لحارثة بن زيد، لما طلب من علي رضي الله تعالى عنه أن يدخله في الحكومة. وفي الفائق أن الأحنف قاله لرجل هجاه كما قيل:
فإن تشتمونا على لومكم ... فقد تقرم العث ملس الأدم
العثمثمة: الشديدة من النوق والذكر عثمثم والعثمثم الأسد. قاله الجوهري، قال: ويقال ذلك من ثقل وطئه قال الراجز:
خبعثن مشيته عثمثم
العثمان: بضم العين وإسكان الثاء المثلثة وبالميم والنون بينهما ألف، فرخ الحبارى وفرخ الثعبان والحية أو فرخها.
العثوثج: بثاءين مثلثتين مفتوحتين بينهما واو وأوله عين وآخره جيم، البعير الضخم.
العجروف: بضم العين، دويبة ذات قوائم طوال، وقيل: هي النملة الطويلة الأرجل.
العجل: ولد البقرة، والجمع العجاجيل، والأنثى عجلة وبقرة معجل، أي ذات عجل.
فائدة: قيل: سمي عجلا لاستعجال بني إسرائيل عبادته، وكانت مدة عبادتهم له أربعين يوماً، فعوقبوا في التيه أربعين سنة، فجعل الله كل سنة في مقابلة يوم. وروى أبو منصور الديلمي، في مسند الفردوس، من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لكل أمة عجل وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم " . قال حجة الإسلام الغزالي: وكان أصل عجل قوم موسى، من حلية الذهب والفضة. وقال الجوهري: قال بعضهم في قوله تعالى: " عجلا جسداً " أي من ذهب أحمر انتهى.
والسبب في عبادة بني إسرائيل العجل، أن موسى عليه الصلاة والسلام وقت الله تعالى له ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فلما عبر بهم البحر في يوم عاشوراء، بعد مهلك فرعون، وقومه، مروا على قوم لهم أوثان يعبدونها من دون الله تعالى. على تماثيل البقر، قال ابن جريج: وكان ذلك أول شأن العجل، فقال بنو إسرائيل لما رأوا ذلك: يا موسى اجعل لنا إلهاً أي تمثالا نعبده كما لهم آلهة. ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى. وإنما معناه اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله، وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة، وكان ذلك لشدة جهلهم. كما قال تعالى: " إنكم قوم تجهلون " وكان موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل، وهم بمصر أن الله إذا أهلك عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون. فلما فعل الله ذلك لهم، سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوماً، فلما تمت الثلاثون أنكر خلوف فمه، فاستاك بعود خروب، وقيل: أكل من لحاء شجرة، فقالت له الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدتها بالسواك، فأتمها بعشر، فلما مضت ثلاثون، كانت فتنتهم في العشر التي زادها.
وكان السامري من قوم يعبدون البقر، وكان قد أظهر الإسلام، وفي قلبه من حب عبادة البقر شيء، فابتلى الله به بني إسرائيل، فقال لهم السامري، واسمه موسى بن ظفر: ائتوني بحلي بني إسرائيل، فجمعوا له، فاتخذ لهم منه عجلا جسداً، له خوار، وألقي في فمه قبضة من تراب أثر فرس جبريل، فتحول عجلا جسداً لحماً ودماً له خوار وهو صوت البقر. كذا قاله ابن عباس والحسن وقتادة، وأكثر أهل التفسير، وهو الأصح كما في البغوي وغيره. وقيل: كان جسداً مجسداً من ذهب لا روح فيه، وكان يسمع منه صوت. وقيل: إنه ما خار إلا مرة واحدة، فعكف عليه القوم للعبادة، من دون الله تعالى، يرقصون حوله ويتواجدون. وقيل إنه كان يخور كثيراً، كلما خار سجدوا له، وإذا سكت رفعوا رؤوسهم، وقال وهب: كان يسمع منه الخوار ولا يتحرك. وقال السدي: كان يخور ويمشي، والجسد بدن الإنسان، ولا يقال لغيره من الأجسام المغتذية جسد وقد يقال للجن أجساد، فكان عجل بني إسرائيل جسداً يصيح، كما تقدم. ولا يأكل ولا يشرب، قال الله تعالى: " وأشربوا في قلوبهم العجل " أي حب العجل. وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: " فجاء بعجل سمين " قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم عليه السلام البقر. واختار سميناً زيادة في إكرامهم. وقال القرطبي: العجل في بعض اللغات الشاة، ذكره القشيري.
وكان عليه الصلاة والسلام مضيافاً، وحسبك أنه وقف للضيافة أوقافاً تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها. قال عون بن شداد: مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه، فقام مسرعاً حتى لحق بأمه.
ومما يحكى من محاسن القاضي محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة، ووفاته سنة ثلاثين وثلاثمائة أن العباس بن المعلى الكاتب، كتب إليه: ما يقول القاضي وفقه الله تعالى في يهودي زنى بنصرانية، فولدت ولداً، جسمه للبشر ووجهه للبقر، وقد قبض عليهما فما يرى القاضي فيهما؟ فكتب الجواب بديهاً: هذا من أعدل الشهود على الملاعين اليهود فإنهم أشربوا حب العجل في صدورهم حتى خرج من أيورهم وأرى أن يناط برأس اليهودي رأس العجل ويصلب على عنق النصرانية الرأس مع الرجل ويسحبا على الأرض، وينادى عليهما ظلمات بعضها فوق بعض والسلام.
فائدة أخرى: نمل القرطبي عن أبي بكر الطرطوشي رحمهما الله تعالى، أنه سئل عن قوم يجتمعون في مكان يقرؤون شيئاً من القرآن ثم ينشد لهم منشد شيئاً من الشعر، فيرقصون ويطربون ويضربون بالدف والشبابة هل الحضور معهم حلال أم لا؟ فأجاب مذهب السادة الصوفية أن هذا بطالة وجهالة وضلالة إلى آخر كلامه.
قلت: وقد رأيت أنه أجاب بلفظ غير هذا، وهو أنه قال: مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسداً، له خوار قاموا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل. وإنما كان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، " كأنما على رؤوسهم الطير " من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين.
فائدة أخرى: روي أنه كان في بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له، سواه، فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحوله إلى قرية أخرى، فألقاه بفنائها ثم أصبح يطلب بثأره، وجاء بناس إلى موسى عليه الصلاة والسلام فادعى عليهم القتل، فسألهم موسى فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى، قال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ذلك، فدعا الله، فأوحى إليه أن يعلمهم أن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة.
وروي أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح، وله طفل له عجله، فأتى بها إلى غيضة، وقال: اللهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر، ومات الرجل. فصارت العجلة في الغيضة عواناً، وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن، وكان باراً بأمه، كان يقسم الليل ثلاثة أثلاث: يصلي ثلثاً، وينام ثلثاً، ويجلس عند رأس أمه ثلثاً، وكان إذا أصبح، انطلق فاحتطب على ظهره، وأتى به السوق فيبيعه بما شاء الله، ثم يتصدق بثلثه ويأكل بثلثه ويعطي أمه ثلثه. فقالت أمه له يوماً: إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا وكذا، فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن يردها عليك. وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل لك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها.
فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها، وقال: أعزم علمك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن تأتي، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها وأقبل يقودها، فتكلمت العجلة بإذن الله تعالى وقالت: أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإن ذلك أهون عليك فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك، ولكن قالت خذ بعنقها. فقالت: وإله بني إسرائيل لو ركبتني لما قدرت علي أبداً، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله، وينطلق معك لفعل، لبرك بأمك. فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له: إنك فقير لا مال لك، ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع هذه البقرة، قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير، ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة إذا ذاك ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السوق، فبعث الله إليه ملكاً ليري خلقه قدرته، وليختبر الفتى كيف بره بوالدته، وكان الله عليماً خبيراً، فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضا والدتي، فقال له الملك: فإني أعطيك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك! فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا والدتي! ثم إن الفتى رجع إلى أمه وأخبرها بالثمن، فقالت له: ارجع وبعها بستة دنانير، على رضا مني، فانطلق بها إلى السوق فأتاه الملك فقال له: استأمرت أمك؟ فقال له الفتى: إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها، فقال له الملك: فإني أعطيك اثني عشر ديناراً، على أن لا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمه، فأخبرها بذلك، فقالت له: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليجربك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل فقال له الملك: اذهب إلى أمك وقل لها: أمسكي هذه البقرة فإن موسى يشتريها منك لقتيل من بني إسرائيل، فلا تبيعيها إلا بملء مسكها ذهباً، أي جلدها دنانير، فأمسكوها. وقدر الله عز وجل، على بني إسرائيل، ذبح تلك البقرة بعينها مكافأة له على بره بأمه، فضلا منه ورحمة فمازالوا يستوصفون، حتى وصف لهم تلك البقرة بعينها.
واختلف العلماء في لونها فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: شديدة الصفرة، وقال قتادة: لونها صاف، وقال الحسن البصري: الصفراء السوداء. والأول أصح لأنه لا يقال أسود فاقع، وإنما يقال أصفر فاقع، وأسود حالك، وأحمر قان، وأخضر ناضر، وأبيض يقق، للمبالغة. فلما ذبحوها، أمرهم الله أن يضربوا القتيل ببعضها، واختلف في ذلك البعض فقال ابن عباس وجمهور المفسرين: ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف وهو المقبل. وقال مجاهد وسعيد بن جبير بعجب الذنب لأنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى ويركب عليه الخلق. وقال الضحاك: بلسانها لأنه آلة الكلام، وقال عكرمة والكلبي: بفخذها الأيمن. وقيل: بعضو منها لا بعينه ففعلوا ذلك، فقام القتيل حياً بإذن الله تعالى، وأوداجه تشخب دماً وقال: قتلني فلان، ثم سقط ومات مكانه، فحرم قاتله الميراث، وفي الخبر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة واسم القتيل عاميل. قاله البغوي وغيره.
قال الزمخشري وغيره: روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة، فأتى بها الغيضة وقال: اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر، فكبر الولد وكان باراً بأمه، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء جلدها ذهباً. وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير.
وذكر الزمخشري وغيره أن بني إسرائيل، كانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو اعترضوا أي بقرة كانت فذبحوها لكفتهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم والاستقصاء شؤم.
وعن بعض الخلفاء، أنه كتب إلى عامله، أن يذهب إلى قوم، فيقطع أشجارهم، ويهدم دورهم، فكتب إليه: بأيهما أبدأ؟ فقال: إن قلت لك بقطع الشجر، سألتني بأي نوع منها أبدأ.
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه كتب إلى عامله قال: إذا أمرتك أن تعطي فلاناً شاة، سألتني أضأن أم معز؟ فإن بينت لك، قلت: أذكر أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني فيه.
تتمة: فيما يتعلق بهذه الفائدة من الأحكام، إذا وجد قتيل في مكان، ولم يعرف قاتله، فإن كان ثم لوث على إنسان، واللوث ما يغلب على القلب صدق المدعي، بأن اجتمع جماعة في بيت أو صحراء، ثم تفرقوا عن قتيل، يغلب على الظن أن القاتل منهم، أو وجد قتيل في محلة أو قرية كلهم أعداء القتيل، لا يخالطهم غيرهم، فيغلب على القلب أنهم قتلوه وادعى الولي فيحلف المدعي خمسين يميناً، على من يدعي عليه، فإن كان الأولياء جماعة، توزع الأيمان عليهم، ثم بعد الأيمان تؤخذ الدية من عاقلة المدعى عليه، إن ادعى عليه قتل خطأ. وإن ادعى عليه قتل عمد، فمن ماله، ولا قود على قول الأكثرين.
وقال عمر بن عبد العزيز: يجب القود، وبه قال مالك وأحمد. وإن لم يكن ثم لوث، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وهل يحلف يميناً واحدة أم خمسين يميناً؟ قولان أحدهما يميناً واحدة كما في سائر الدعاوى، والثاني خسين يميناً تغليظاً لآمر الدم. وعند أبي حنيفة لا حكم للوث، ولا يبتدأ بيمين المدعي، بل إذا وجد قتيل في محلة أو قرية، يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها ويحلفهم أنهم ما قتلوه ولا يعرفون له قاتلا، ثم يأخذ الدية من سكانها. والدليل على البداءة بيمين المدعي، عند وجود اللوث، ما روى الشافعي عن سهل بن أبي خيثمة، أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا لخيبر فتفرقا لحاجتهما، فقتل عبد الله بن سهل، فانطلق محيصة بن مسعود وعبد الرحمن أخو القتيل، وحويصة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له قتل عبد الله بن سهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم " فقالوا: يا رسول الله وكيف نقبل أيمان قوم كفار؟ فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم عقله من عنده.
قال البغوي، في معالم التنزيل: وجه الدليل من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمان المدعين لقوة جانبهم باللوث، وهو أن عبد الله بن سهل وجد قتيلا في خيبر، وكانت العداوة ظاهرة بين الأنصار وبين أهل خيبر، وكان يغلب على الظن أنهم قتلوه. واليمين أبداً تكون حجة لمن يقوي جانبه، وعند عدم اللوث يقوى جانب المدعى عليه حيث إن الأصل براءة ذمته فكان القول قوله مع يمينه انتهى.
الخواص: قال القزويني: خصية العجل تجفف وتشرب بعد حرقها تهيج الباه وتعين على كثرة الجماع حتى يرى عجباً، وقضيب العجل إذا جفف وأجيد سحقه واستف منه إنسان وزن درهم، فإنه يمكن الشيخ العاجز من افتضاض البكر. فإن سحق وألقي على البيض النيمرشت، وتحسى منه فإنه يزيد في الباه زيادة لم ير مثلها. وقال غيره: خصية العجل تجفف وتشرب مسحوقة تهيج الباه وتنعظ وتعين على كثرة الجماع، وقضيبه إذا أحرق وسحق وشرب نفع من وجع الأسنان. وإذا شرب مع السكنجبين منع الطحال.
التعبير: العجل في المنام ولد ذكر. وإذا كان مشوياً فهو أمن من الخوف، لقصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال تعالى: " فما لبث أن جاء بعجل حنيذ " إلى قوله " لا تخف " .
خاتمة: بنو عجل قبيلة كبيرة من العرب شهيرة، ينسبون إلى عجل بن لجيم، بضم اللام وفتح الجيم، وكان عجل المذكور يعد من الحمقى من أجل أنه كان له فرس جواد، فقيل له: إن لكل فرس جواد اسماً، فما اسم فرسك؟ فقال: لم اسمه بعد، فقيل له: سمه ففقأ إحدى عينيه، ثم قال: سميته الأعور، وفيه قال بعض شعراء العرب:
رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وهل أحد في الناس أحمق من عجل
أليس أبوهم عار عين جواده ... فسارت به الأمثال في الناس بالجهل
يقال عار عينه بالمهملة إذا فقأها.
العجمجمة: الشديدة من النوق. قال الجوهري: مثل العثمثمة، وأنشد:
بات يباري ورشات كالقطا ... عجمجمات خشفا تحت السرى
أم عجلان: طائر معروف قاله الجوهري.
العجوز: الأرنب والأسد والبقر والثور والذئب والذئبة والرخم والرمكة والضبع وعانة الوحش والعقرب والفرس والكلب.
عدس: البغل. سموه بزجره قال الشاعر:
إذا حملت بزتي على عدس ... على الذي بين الحمار والفرس
فما أبالي من عدا ومن جلس
وعدس زجر البغل. مال يزيد بن مفرغ:
عدس ما لعباد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق
العذفوط: بالضم دويبة بيضاء ناعمة يشبه بها أصابع الجواري.
العربج: كلب الصيد كذا قاله في المداخل.
عرار: مثل قطام، اسم بقرة، وفي المثل باءت عرار بكحل. وهما بقرتان انتطحتا فماتتا جميعاً. العريض: الجدي. كذا قاله في المداخل. وقد تقدم لفظ الجدي في باب الجيم.
العسجدية: ركاب الملوك، قال الجوهري: وهي إبل كانت تزين للنعمان.
العربد: مثال سلفد، ملحق بجرد حل، حية تنفخ ولا تؤذي. وقد تقدم ذكرها في الحيات، والعربدة سوء الخلق. وقولهم رجل معربد مأخوذ من هذا، قاله ابن قتيبة وغيره.
العربض والعرباض: البقر القوي الكلكل قاله ابن سيده.
العرس: لبوة الأسد والجمع أعراس، قال مالك بن خويلد الخناعي:
ليث هزبر مدل عند خيسته ... بالرقمتين له أجر وأعراس
العريقصة: بالصاد المهملة دويبة عريضة كالجعل.
العريقطة والعريقطان: بالطاء المهملة دويبة عريضة.
العزة: بالفتح بنت الطيبة، وبها سميت المرأة عزة. قاله الجوهري.
العسا: بفتح العين المهملة، الأنثى من الجراد، وقد تقدم لفظ الجراد في باب الجيم.
العساعس: بفتح العين القنافذ الكبيرة سميت بذلك لكثرة ترددها في الليل.
العساس: الذئب وقد تقدم في باب الدال المعجمة.
العساهيل: الإبل المهزولة الواحدة عسهول.
العسبار: بكسر العين وبالسين الساكنة، والأنثى عسبارة ولد الضبع من الذئب وجمعه عسابر.
وحكمه: تحريم الأكل، لأنه متولد بين مأكول وغير مأكول.
العسبور: ولد الكلب من الذئبة. والعسبار ولد الذئب، أو ولد الضبع من الذئب كما تقدم. قال الجوهري في ع ول قال الكميت:
كما خامرت في حضنها أم عامر ... لذي الحبل حتى عال أوس عيالها
أشار بذلك إلى أن الضبع إذا صيدت، ولها ولد من الذئب لم يزل الذئب يطعم ولدها إلى أن يكبر، وقد تقدم ذلك في لفظ أوس.
العسلق: كل سبع جريء، والعسلق الظليم، وقيل الثعلب، حكاه ابن سيده.
العسنج: كعملس الظليم أيضاً، وقد تقدم لفظ الظليم في باب الظاء المشالة المعجمة.
العشراء: الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر، وزاد عنها اسم المخاض، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعدما تضع أيضاً، يقال: ناقتان عشراوان، ونوق عشار، وليس في الكلام فعلاء يجمع على فعال غير عشراء جمع على عشار، ونفساء جمع على نفاس.
فائدة: قال الشيخ أبو عبد الله بن النعمان، في كتاب المستغيثين بخير الأنام: حديث حنين الجذع الذي كان يخطب إليه النبي صلى الله عليه وسلم، حنين العشار. متواتر، رواه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم العدد الكثير، والجم الغفير. منهم جابر بن عبد الله، وابن عمرو من طريقهما أخرجه البخاري، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد الساعدي، وأبو سعيد الخدري، وبريدة، وأم سلمة والمطلب بن أبي وداعة. قال جابر في حديثه: فصاحت الخشبة صياح الصبي، فضمها إليه. وفي حديثه أيضاً: " سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار " . وفي رواية ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، " فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح بيده عليه " . وفي بعض الروايات: " والذي نفسي بيده، لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة " ، تحزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث، بكى وقال: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه لمكانه، وأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. ونظم صالح الشافعي في ذلك فقال:
وحن إليه الجذع شوقاً ورقة ... ورجع صوتاً كالعشار مرددا
فبادره ضماً فقر لوقته ... لكل امرئ من دهره ما تعودا
وحنين الجذع إليه، وتسليم الحجر عليه، لم يثبت لواحد من الأنبياء إلا له صلى الله عليه وسلم.
العصاري: بضم العين وفتح الصاد المهملة والراء في آخره بعدها ياء مثناة من تحت نوع من الجراد أسود شبيه بالخنافس.
وحكمه: حل الأكل. حكى أبو عاصم العبادي، عن أبي طاهر الزيادي، أنه قال: كنا نراه حراماً ونفتي بتحريمه، حتى ورد علينا الأستاذ أبو الحسن الماسرجسي، فقال: إنه حلال فبعثنا منه جراباً للبادية، وسألنا عنه العرب؟ فقالوا: هذا هو الجراد المبارك فرجعوا إلى قول العرب فيه.
العصفور: بضم العين وحكى ابن رشيق في كتاب الغرائب: والشذوذ عصفور بالفتح، والأنثى عصفورة قال الشاعر:
كعصفورة في كف طفل يسومها ... حياض الردى والطفل يلهو ويلعب
وكنيته أبو الصعو وأبو محرز وأبو مزاحم وأبو يعقوب. قال حمزة: سمي عصفوراً لأنه عصى وفر. وهو أنواع: منها ما يطرب بصوته ويعجب بصوته وحسنه وسيأتي إن شاء الله تعالى. والعصفور الصرار، وهو الذي يجيب إذا دعى، من الصيورة. وعصفور الجنة وهو الخطاف، وقد تقدم ذكرهما في بابيهما. وأما العصفور الدوري البيوتي، فإن في طباعه اختلافاً، وذلك أن فيه من طبائع السباع، وهو أكل اللحم، ولا يزق فراخه ومن البهائم أنه ليس بذي مخلب ولا منسر، وإذا سقط على عود قدم أصابعه الثلاث وأخر الدابرة، وسائر أنواع الطير تقدم إصبعين وتؤخر إصبعين، ويأكل الحب والبقول. ويتميز الذكر منها بلحية سوداء كما للرجل والتيس والديك. وليس في الأرض طائر من سبع ولا بهيمة أحنى من العصفور على ولده، ولا أشد له عشقاً، وذلك مشاهد عند أخذ فراخها. ووكره في العمران تحت السقوف خوفاً من الجوارح، وإذا خلت مدينة من أهلها ذهبت العصافير منها، فإذا عادوا إليها عادت العصافير. والعصفور لا يعرف المشي، إنما يثب وثباً. وهو كثير السفاد، فربما سفد في الساعة الواحدة مائة مرة، ولذلك قصر عمره فإنه لا يعيش في الغالب أكثر من سنة. ولفرخه تدرب على الطيران، حتى إنه يدعى فيجيب. قال الجاحظ: بلغني أنه رجع من فرسخ.
ومن أنواعه عصفور الشوك، وأكثر مأواه السياج. وزعم أرسطو أن بينه وبين الحمار عداوة، لأن الحمار إذا كان به دبر، حكه في الشوك الذي يأوي إليه هذا العصفور فيقتله. وربما نهق الحمار، فتسقط فراخه أو بيضه من جوف وكره، فلذلك هذا العصفور، إذا رأى الحمار رفرف فوق رأسه، وعلى عينيه وآذاه بطيرانه وصياحه.
ومن أنواعه: القبرة وستأتي إن شاء الله تعالى، في باب القاف. ومن أنواعه حسون، وقد تقدم في باب الحاء، والبلبل والصعو والحمرة والعندليب والمكاكي والصافر والتنوط والوصع والبراقش والقبعة، وكلها في أماكنها مذكورة.
وفي الأذكياء لابن الجوزي، أن رجلا رمى عصفوراً فأخطأه، فقال له رجل: أحسنت فغضب وقال: أتهزأ بي؟ قال: لا، ولكن أحسنت إلى العصفور إذا لم تصبه. ورأيت في بعض التعاليق، أن المتوكل رمى عصفوراً فلم يصبه وطار، فقال له ابن حمدان: أحسنت، فقال له المتوكل: كيف أحسنت؟ قال: أحسنت إلى العصفور، ويروى عن الجنيد، أنه قال: أخبرني محمد بن وهب عن بعض أصحابه أنه حج مع أيوب الجمال قال: فلما دخلنا البادية، وسرنا منازل، إذ بعصفور يحوم حولنا، فرفع أيوب رأسه إليه وقال له: قد جئت إلى هنا! فأخذ كسرة خبز ففتها في كفه فانحط العصفور وقعد على كفه، فأكل منها ثم صب له ماء فشربه، ثم قال له: اذهب الآن فطار العصفور، فلما كان من الغد، رجع العصفور، ففعل أيوب مثل فعله في اليوم الأول، فلم يزل كل يوم يفعل به مثل ذلك، إلى آخر السفر. ثم قال أيوب: أتدري ما قصة هذا العصفور؟ قال: لا. قال: إنه كان يجيئني في منزلي كل يوم، فكنت أفعل به في ما رأيت، فلما خرجنا تبعنا يطلب منا ما كنت أفعل به لا المنزل.
روى البيهقي وابن عساكر، بسندهما إلى أبي مالك، قال: مر سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام بعصفور يدور حول عصفورة، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يا نبي الله. قال: يخطبها لنفسه، ويقول: تزوجيني أسكنك أي قصور دمشق شئت. قال سليمان: وإنه عرف أن قصور دمشق مبنية بالصخر، لا يقدر أن يسكنها، لكن كل خاطب كذاب. وسيأتي إن شاء الله تعالى له نظير، في باب الفاء، في الفاختة، وكان سليمان عليه السلام يعرف ما يتخاطب به الطيور بلغاتها، ويعبر للناس عن مقاصدها وإرادتها كما تقدم في باب الطاء المهملة، في الطيطوي. قال الله تعالى حكاية عنه: " يا أيها الناس علمنا منطق الطير " وكذلك كان يعرف لغات ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات.
فائدة: روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت، حين توفي صبي من الأنصار، بين أبوين مسلمين: طوبى له عصفور من عصافير الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أو غير ذلك أن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم " ومن الناس من قدح في هذا الحديث بأنه من رواية طلحة بن يحيى وهو متكلم فيه. والصواب صحته وهو في صحيح مسلم ولكنه صلى الله عليه وسلم نهانا عن المسارعة إلى القطع، أو أنه قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة كذا. قال بعضهم: وليس بصحيح لأن سورة الطور مكية ودلت على تبعيتهم، أو أن قطع عائشة بذلك قطع بإيمان أبويه، ويحتمل أن يكونا منافقين، فيكون الصبي ابن كافرين. وروى ابن قانع، في ترجمة الشريد بن سويد الثقفي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل عصفورا عبثاً عج إلى الله يوم القيامة، فقال: يا رب عبدك قتلني عبثاً ولم يقتلني لمنفعة " . وروى في حديث آخر أن رجلا من أهل الصفة استشهد، فقالت له أمه: هنيئاً لك عصفور من عصافير الجنة، هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتلت في سبيل الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا ينفعه ويمنع ما لا يضره " .
وروى البيهقي في الشعب، عن مالك بن دينار، قال: مثل قراء هذا الزمان، مثل رجل نصب فخاً، فجاء عصفور فوفع في فخه فقال: ما لي أراك مغيباً في التراب؟ قال: للتواضع، قال: فمم حنيت؟ قال: من طول العبادة. قال: فما هذه الحبة في فيك؟ قال: أعددتها للصائمين. فلما أمسى تناول الحبة فوقع الفخ في عنقه فخنقه. فقال العصفور: إن كان العباد يخنقون خنقك فلا خير في العباد اليوم. وفيه أيضاً عن الحسن، أن لقمان قال لابنه: يا بني حملت الجندل والحديد، وكل حمل ثقيل فلا أجد شيئاً أثقل من الجار السوء، وذقت المرار كله فلم أذق شيئاً أمر من الفقر، يا بني لا ترسل رسولا جاهلا فإن لم تجد حكيماً، فكن رسول نفسك. يا بني إياك والكذب، فإنه شهي كلحم العصفور، وعما قليل يقلي صاحبه. يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس، فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا. يا بني لا تأكل شبعاً على شبع، فإنك إن تلقيه إلى الكلب خير لك من أن تأكله. يا بني لا تكن حلواً فتبلع، ولا مراً فتلفظ.
ورأيت في بعض المجاميع عن الحسن، أن لقمان قال لابنه: يا بني اعلم أنه لا يطأ بساطك إلا راغب فيك، أو راهب منك، فأما الراهب منك الخائف فأدن مجلسه وتهلل في وجهه، وإياك والغمز من ورائه، وأما الراكب فيك فاظهر له البشاشة مع صفاء الباطن له، وأبدأه بالنوال قبل السؤال، فإنك إن تلجئه إلى السؤال منك تأخذ من حر وجهه ضعفي ما تعطيه. وأنشدوا على هذا:
إذا أعطيتني بسؤال وجهي ... فقد أعطيتني وأخذت مني
يا بني ابسط حملك للقريب والبعيد، وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم، وصل أقاربك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك، لم تعبهم ولم يعيبوك.
وقد أذكرني هذا، ما حكاه بعض أشياخي أن الإسكندر وجه رسولا إلى بعض ملوك الشرق فعاد رسوله برسالة، شك الإسكندر في حرف منها، فقال له الإسكندر: ويحك إن الملوك لا يخاف عليها إلا إذا مالت بطانتها، وقد جئتني برسالة صحيحة الألفاظ، بينة العبارة، غير أن فيها حرفاً ينقصها، فعلى يقين أنت منه أم شاك فيه؟ فقال الرسول: على يقين. فأمر الإسكندر أن تكتب ألفاظها حرفاً حرفاً، وتعاد إلى الملك مع رسول آخر، فتقرأ عليه وتترجم له. فلما قرئ الكتاب على الملك، مر بذلك الحرف فأنكره، فقال للمترجم: ضع يدك على هذا الحرف، فوضعها وأمر أن يقطع ذلك الحرف، فقطع من الكتاب، وكتب إلى الإسكندر رأس المملكة صحة فطنة الملك، ورأس الملك صدق لهجة رسوله، إذا كان عن لسانه ينطق، وإلى اذنه يؤدي وقد قطعت ما لم يكن من كلامي، إذ لم أجد إلى قطع لسان رسولك سبيلا. فلما جاء الرسول بهذا إلى الإسكندر، دعا الرسول الأول، وقال له: ما حملك على كلمة أردت بها الفساد بين ملكين؟ فأقر الرسول أن ذلك لتقصير رآه من الموجه إليه، فقال له الإسكندر: ما أراك سعيت إلا لنفسك لا لنا، فلما فاتك ما أملت، جعلت لك ثأراً في الأنفس الخطيرة الرفيعة. ثم أمر بلسانه فنزع من قفاه. وقال يحيى بن خالد بن برمك: ثلاثة أشياء تدل على عقول الرجال: الهدية والرسول والكتاب.
وسمع أبو الأسود الدؤلي رجلا ينشد:
إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيماً ولا توصه
فقال: قد أساء قائل هذا أيعلم الغيب إذا لم يوصه كيف يعلم ما في نفسه؟ هلا قال:
إذا أرسلت في أمر رسولا ... فأفهمه وأرسله أديباً
ولا تترك وصيته بشيء ... وإن هو كان ذا عقل أريبا
فإن ضيعت ذاك فلا تلمه ... على أن لم يكن علم الغيوبا
وفي تاريخ ابن خلكان وغيره من التواريخ، أن الزمخشري كان مقطوع الرجل، فسئل عن ذلك. فقال: دعاء الوالدة، وذلك أني كنت في صباي أمسكت عصفوراً وربطته بخيط في رجله، فأفلت من يدي وأدركته وقد دخل في خرق من الجدار، فجذبته فانقطعت رجله بالخيط، فتألمت والدتي لذلك، وقالت: قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله! فلما وصلت إلى سن الطلب، رحلت إلى بخارى لطلب العلم، فسقطت عن الدابة فانكسرت رجلي، وعملت عملا أوجب قطعها.
وفي الحلية للحافظ أبي نعيم، في ترجمة زين العابدين، قال أبو حمزة اليماني: كنت عند علي بن الحسين، فإذا عصافير يطرن حوله ويصرخن، فقال: يا أبا حمزة هل تدري ما تقول هذه العصافير؟ قلت: لا. قال: إنها تقدس ربها جل وعلا، وتسأله قوت يومها.
وفي الصحيحين وسنن النسائي وجامع الترمذي، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أبي بن كعب وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قام موسى خطيباً في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم فقال: أنا أعلم، فعتب الله تعالى عليه إذا لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إلى موسى، أن عبداً من عبادي، بمجمع البحرين هو أعلم منك " .
وفي الرواية الأخرى أنه قيل له: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال موسى: لا فأوحى الله تعالى إلى موسى، بل عبدنا خضر. فقال: يا رب وكيف به؟ فقال له: احمل حوتاً في مكتلك، فإذا فقدته فهو، ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، وحملا حوتاً في مكتل، حتى إذا كانا عند الصخرة، وضعا رؤوسهما، فناما وانسل الحوت من المكتل، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وكان لموسى ولفتاه عجباً، فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما حتى أصبحا، فقال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً. ولم يجد موسى شيئاً من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به. فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت. قال موسى: ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصاً، فلما انتهيا إلى الصخرة، إذا رجل مسجى بثوب أو قال: تسجى بثوبه فسلم موسى.
وفي الرواية الأخرى وكان يتبع أثر الحوت في البحر، فقال الخضر: وأني بأرضك السلام فقال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. ثم قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما
علمت رشداً؟ قال: إنك لن تستطيع معي صبراً يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت! وإنك على علم علمكه الله لا أعلمه. قال: ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فقال: فرأيا سفينة فكلموهما أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله، إلا كنقرة هذا العصفور. وفي الرواية الأخرى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. وعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه فقال موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها! قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال: لا تؤاخذني بما نسبت ولا ترهقني من أمري عسراً. فكانت الأولى من موسى نسياناً، فانطلقا فإذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده، فقال موسى: أقتلت نفساً زكية بغير حق لقد جئت شيئاً نكراً. قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال ابن عيينة: وهذا أوكد. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى: لو شئت لاتخذت عليه أجراً، قال: هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أخي موسى لوددنا أن لو صبر حتى يقص الله علينا من أنبائهما " وفي الرواية الأخرى " يرحم الله موسى لو كان صبر، لقص علينا من أمرهما " . وعن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى ليس بموسى بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر. قال: كذب عدو الله. حدثني أبي بن كعب، وذكر الحديث، وذكر قصة موسى والخضر بطولها، قال: وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة، ثم نقر في البحر، فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. قال العلماء: لفظ النقص ليس هنا على ظاهره، وإنما معناه إنما علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله كنسبة ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. قلت: وهذا على التقريب للإفهام، وإلا فنسبة علمهما أقل وأحقر.
وحكمه: حل الأكل، قال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من إنسان يقتل عصفورة فما فوقها بغي حقها إلا سأله الله عنها " . قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: " أن يذبحها فيأكلها، وأن لا يقطع رأسها فيرمي به " . رواه النسائي.
وروى الحاكم عن خالد بن معدان عن أبي عبيدة بن الجراح، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن قلب ابن آدم مثل العصفور يقلب في اليوم سبع مرات " . ومن أحكام العصافير أنها على اختلاف أنواعها جنس واحد في باب الربا، والبطوط جنس والكركي جنس والحبارى جنس والأوز جنس والدجاج جنس والحمام جنس، وتقدم في بابه.
ومن أحكامها أنه لا يجوز عتقها على الأصح، وقيل: يجوز لما روى الحافظ أبو نعيم عن أبي الدرداء، أنه كان يشتري العصافير من الصبيان، ويرسلها. قال ابن الصلاح: والخلاف فيما يملك بالاصطياد، أما البهائم الأنسية فإن أعناقها من قبيل سوائب الجاهلية وذلك باطل قطعاً وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، في كتاب عيون المسائل، أن فرق العصافير غير معفو عنه والمشهور أن فيه الخلاف الذي في بود يؤكل لحمه.
الأمثال: قالوا: أخف حلماً من عصفوراً. قال حسان رضي الله تعالى عنه:
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير
وقال قعنب:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا
مثل العصافير أحلاماً ومقدرة ... لو يوزنون برق الريش ما وزنوا
وقالوا: صاحت عصافير بطنه " إذا جاع. قال الأصمعي: العصافير هنا الأمعاء. قال الجوهري: والمصير المعي وهو فعيل، والجمع المصران، مثل رغيف ورغفان، ثم المصارين جمع الجمع. ونقله في المحكم، عن سيبوط، سميت مصارين لصيرورة الطعام فيها. وقالوا: أسفد من عصفور.
الخواص: لحم العصافير حار يابس، أصلب من لحم الدجاج، وأجودها الشتوية السمان، وأكلها يزيد في المني والباه، لكنه يضر أصحاب الرطوبات الأصلية، ويدفع ضررها دهن اللوز، وهي تولد خلطاً صفراوياً، يوافق من الإنسان الشيوخ. ومن الأمزجة الباردة ومن الأزمان الشتاء.
قال المختار بن عبدون: يكره أكل لحم العصافير لأن اليسير من عظامها إذا سبق في أكل شيء منها أحدث شحماً في المريء والمعي، وإذا اتخذ من فراخها عجة بالبيض والبصل، زادت في الباه وأمراقها تحل الطبع، ولحومها تعقله، ولا سيما إذا كانت مهزولة هزالا فاضحاً. وأضر العصافير ما سمن في البيوت وقال غيره: إذا أخذ دماغ العصفور، وأضيف إلى ماء السذاب، وشيء من عسل، وشرب على الريق، فإنه نافع لأوجاع البواسير. وإذا خلط فرق العصافير بلعاب الإنسان، وطلي به على الثآليل قلعها، مجرب. وإذا أخذ عصفور وذوب دماغه بشيرج، وسقي لمن يحب شرب النبيذ، فإنه يبغضه وهو عجيب مجرب. وإذا أكل عصفور الشوك مشوياً ومملوحاً فتت الحصى الذي في المثانة والكلى. وقال مهراريش: إذا ذبح العصفور، وقطر دمه على دقيق العدس، وجعل بنادق وجفف، فإنه يهيج الباه وإذا أخذت منه بندقة، وخلطت بزيت وطلي بها الإحليل، ولا يطأ على الأرض فإنه يطأ ما شاء.
فائدة: قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أربعة أشياء تزيد في الجماع: أكل العصافير، وأكل الإطريفل الأكبر، وأكل الفستق، وأكل الجز. وأربعة أشياء تزيد في العقل: ترك الفضول من الكلام، واستعمال السواك، ومجالسة الصالحين، والعمل بالعلم. وأربعة أشياء تقوي البدن: أكل اللحم، وشم الطيب، وكثرة الغسل من غير جماع، ولبس الكتان. وأربعة أشياء توهن البدن وتسقمه: كثرة الجماع، وكثرة الهم، وكثرة شرب الماء على الريق، وكثرة أكل الحموضة.
فائدة أخرى: من أكثر من الجماع وجعله دأبه، أورثه حكة في بدنه، وضعفاً في قوته وبصره، وعم لذة المجامعة، وشاب عاجلا. ومن دافع البول والغائط، ولم يقم إذا دعياه، ضعفت مثانته، وغلظ جلده، وأورثه حرق البول، والرمل والحصا، وضعف البصر. ومن أكثر من حك رجليه بالنخالة والملح، أحد بصره وعوفي من ضعفه. ومن بصق في بوله، وأدمن على ذلك، أمن من وجع الصلب. قاله القزويني نقلا عن أبقراط وغيره، وذكر أنه امتحنه وجربه.
التعبير: العصفور في المنام رجل قاص، صاحب لهو وحكايات، يضحك الناس. وقيل: إنه ولد ذكر فمن رأى أنه ذبح عصفوراً، وله ولد مريض خشي عليه من الموت. وربما دل على رجل شيخ ضخم، كثير المال يحتال في الأمور، كامل في رياسته مدبر. وربما دل على امرأة حسناء شفيقة، وأصوات العصافير كلام حسن أو دراسة في العلم. والعصافير الكثيرة، أموال لمن حواها في المنام، وتعبر العصافير بالأولاد والصبيان.
ومن الرؤيا المعبرة أن رجلا أتى ابن سيرين، فقال له: رأيت كأني آخذ العصافير فأدق أجنحتها وأجعلها في حجري فقال ابن سيرين: أتعلم كتاب الله أنت؟ قال: نعم. فقال: اتق الله في أولاد المسلمين. وأتاه رجل فقال: رأيت كأن في يدي عصفوراً وقد هممت بذبحه. فقال: لا يحل لك أن تأكلني! فقال له ابن سيرين: أنت رجل تتناول الصدقة ولست مستحقها، فقال له الرجل: تقول لي ذلك؟ فقال: نعم، ولو شئت قلت لك كم هي درهم. فقال: كم هي. فقال ابن سيرين: ستة دراهم. فقال الرجل: ها هي في كفي، وأنا تائب لا أعود إلى تناول الصدقة. فقيل له: من أين أخذت ذلك؟ فقال: العصفور ينطق في الرؤيا بالحق، وهو ستة أعضاء، فبقوله: لا يحل لك أن تأكلني، علمت بذلك أنه يتناول ما لا يستحق. ومن الرؤيا المعبرة أيضاً، عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، أنه أتاه رجل، فقال: رأيت كأن في يدي عصفوراً، فقال له جعفر: تنال عشرة دنانير، فمر الرجل فوقع في يده تسعة دنانير، فأتى إلى جعفر وأخبره بذلك، فقال: اقصص علي الرؤيا ثانياً، فقال: رأيت كأن بيدي عصفوراً، وأنا أقلبه فلم أر له ذنباً، فقال له جعفر: لو كان له ذنب، لكانت الدنانير عشرة والله أعلم.
العضل: بضم العين وفتح الضاد المعجمة الجرذ والجمع العضلان. وقد تقدم ذكر الجرذ في باب الجيم.
العرفوط: بكسر العين دويبة لا خير فيها. تذكر العرب أنها لا تبول إلا شغرت ببولها إلى صوب القبلة، والحيات تأكلها.
العريقطة: دويبة عريضة، وهي العريقطان. قاله الجوهري.
العضمجة: الثعلبة وقد تقدم ذكر الثعلب وما فيه في باب الثاء المثلثة في أول الكتاب. العضرفوط: العضاءة الذكر، وتصغيره عضيرف وعضريف. قاله الجوهري.
فائدة: قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: " قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، روي أن الغراب كان ينقل الحطب إلى نار إبراهيم " وأن الوزغة كانت تنفخ النار عليه لتضرم. وكذلك البغل. وروي أن الخطاف والضفدع والعضرفوط، كن ينقلن الماء ليطفئن النار فأبقى الله على هذه وقاية وسلط على تلك النوائب والأذى.
وقد أفادني بعض الأشياخ أن يكتب لسائر الحميات: قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً سلاماً سلاماً، على ثلاث ورقات، ويشرب المحموم كل يوم ورقة منها على الريق، أو عندما تأخذه الحمى، فإنها تذهب بإذن الله تعالى. وهو عجيب مجرب وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً أن العظاءة هي السحلية وهي مباركة.
عطار: قال القزويني في الأشكال: إنه صنف من الدواب الصدفية، يوجد ببلاد الهند في المياه القائمة ويوجد أيضاً بأرض بابل، وهو من أعجب الحيوانات، له بيت صدفي يخرج منه وله رأس وأذنان وعينان وفم، فإذا دخل في بيته يحسبه الإنسان صدفة، فإذا خرج منه ينساب في الأرض ويجر بيته معه، فإذا جفت الأرض في الصيف يجتمع ورائحته عطرة.
ومن خواصه: أنه إذا بخر به ينفع من الصرع، وإذا أحرق فرماده يجلو الأسنان، وإذا وضع على حرق النار وترك حتى يجف نفعه نفعاً بيناً.
العطاط: بالفتح الأسد، وقال صاحب الكامل في تفسير خطبة الحجاج، لأهل الكوفة: العطاط بضم العين وقيل بفتحها، ضرب من الطير معروف.
العطرف: بالكسر الأفعى الكبيرة، وقد تقدم لفظ الأفعى في باب الهمزة.
العظاءة: بالظاء المعجمة المفتوحة والمد: دويبة أكبر من الوزغة، ويقال في الواحدة عظاية أيضاً والجمع عظاء وعظايا. قال عبد الرحمن بن عوف:
كمثل الهر يلتمس العظايا
وقال الأزهري: هي دويبة ملساء تعدو وتزور كثيراً، تشبه سام أبرص إلا أنها أحسن منه، ولا تؤذي وتسمى شحمة الأرض، وشحمة الرمل، وهي أنواع كثيرة، منها الأبيض والأحمر والأصفر والأخضر وكلها منقظة بالسواد، وهذه الألوان بحسب مساكنها فإن منها ما يسكن الرمال ومنها ما يسكن قريباً من الماء والعشب، ومنها ما يألف الناس وتبقى في جحرها أربعة أشهر لا تطعم شيئاً، ومن طبعها محبة الشمس لتصلب فيها.
ومن خرافات العرب قالوا: إن السموم لما فرقت على الحيوانات احتبست العظاءة عند التفرقة حتى نفد السم، وأخذ كل حيوان قسطه منه على قدر السبق إليه، فلم يكن لها فيه نصيب. ومن طبعها أنها تمشي مشياً سريعاً ثم تقف، ويقال: إن ذلك لما يعرض لها من التذكر والأسف، على مما فاتها من السم وهذه تسمى بأرض مصر السحلية.
وهي محرمة الأكل: وقد تقدم ذكرها في باب السين.
الخواص: من علق عليه يدها اليمنى، ورجلها اليسرى في خرقة، جامع ما شاء، وإن علقت في خرقة سوداء على من به حمى الربع المزمنة أبرأته. وقلبها إذا علق على امرأة منعها أن تلد، ما دام عليها، وإن طبخت بسمن البقر حتى تتهرى، ومسح بها الملسوع أبرأه وإن جعلت في قارورة وملئت زيتاً وجعلت في الشمس حتى تتهرى، كان ذلك الزيت سماً قاتلا.
وهي في الرؤيا تدل على التلبيس واختلاف الأسرار والله أعلم.
العفر: ولد الأروبة.
وفي المثل: أو قل من عفر والعفر بالكسر الخنزير الذكر، والعفر الرجل الخبيث المداهن، والمرأة عفرة. يقال عفرية نفرية، كما يقال عفريت نفريت.
العفريت: القوي المارد من الشياطين، والتاء فيه زائدة قال تعالى: " قال عفريت من الجن أنا آتيك به " قرأ أبو رجاء العطاردي وعيسى الثقفي عفرية ورويت عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وقرأت فرقة عفر، وكل ذلك لغات. وقال وهب: اسم هذا العفريت كوذا، وقيل ذكوان، وقال ابن عباس: هو صخر الجني.
واختلفوا في غرض سليمان عليه الصلاة والسلام في استدعاء عرش بلقيس، فقال قتادة وغيره: لأنه أعجبه وصفه، لما وصفه الهدهد بالعظم فأراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام. وقال الأكثرون: إن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها، فأراد أن يأخذ عرشها قبل أن يحرم عليه أخذها بإسلامها. وقال ابن زيد: استدعاه ليريها القدرة، التي هي من عند الله، وعظم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها. وروي أن عرشها كان من فضة وذهب، مرصعاً بالياقوت والجوهر، وأنه كان في جوف سبعة أبيات، عليه سبعة أغلاق. وفي الكشف والبيان للثعلبي، أن عرشها كان سريراً ضخماً حسناً، وكان مقدمه من ذهب، منضداً بالياقوت الأحمر، والزمرد الأخضر، ومؤخره من فضة مكللا بأنواع الجواهر، وله أربع قوائم: قائمة من ياقوت أحمر، وقائمة من ياقوت أصفر، وقائمة من زبرجد أخفر، وقائمة من در أبيض، وصفائح السرير من ذهب. وكانت قد أمرت به، فجعل في آخر سبعة أبيات، بعضها في بعض في آخر قصر من قصورها، على كل بيت باب مغلق.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً، وارتفاعه في الهواء ثلاثين ذراعاً. وقال مقاتل: كان ثمانين في ثمانين. وقيل: كان طوله ثمانين ذراعاً، وعرضه أربعين ذراعاً وارتفاعه ثلاثين ذراعاً.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان سليمان عليه السلام مهيباً، لا يبدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فرأى ذات يوم وهجاً قريباً منه فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا عرش بلقيس. فقال: يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟ قال عفريت من الجن: " أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك " .
وكان سليمان يجلس في مجلس الحكم من الصباح إلى الظهر، وإني عليه أي على الإتيان به لقوي على حمله، أمين لا أختلس منه شيئاً. قال الذي عنده علم من الكتاب، قال البغوي وغيره والأكثرون: على أنه آصف بن برخيا، وكان صديقاً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى: " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " . قال سعيد بن جبير: يعني من قبل أن يرجع إليك أقصى من تراه ومعناه أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك. وقال قتادة: قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر.
وقال مجاهد: يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئاً. وقال وهب: تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه حتى أمثله بين يديك. وقيل: إن الذي عنده علم من الكتاب اسمه اسطوم، وقيل هو جبريل، وقيل هو سليمان نفسه. قال له عالم من بني إسرائيل، قيل اسمه اسطوم، آتاه الله معرفة وفهماً: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك. قال سليمان: هات. قال: أنت النبي وابن النبي، وليس أحد أوجه عند الله منك. فإن دعوت الله وطلبت منه كان عندك. قال: صدقت.
والعلم الذي أوتيه، قيل هو الاسم الأعظم. وفي الكلام حذف تقديره فدعا باسم الله الأعظم، وهو يا حي يا قيوم، يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً، لا إله إلا أنت. وقيل: يا ذا الجلال والإكرام. قيل: شقت الأرض بالعرش فغار في الأرض، حتى نبع بين يدي سليمان. قاله الكلبي. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فبعث الله الملائكة، فحملوا السرير من تحت الأرض، يخدون الأرض خداً، حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان، وقيل: جيء به في الهواء، وكان بين سليمان والعرش مسيرة شهرين للمجد، فلما رآه مستقراً عنده، جعل يشكر نعمة الله تعالى، بعبارة فيها تعليم للناس، وعرضة للاقتباس، ثم قال: نكروا لها عرشها. أراد بالتنكير تجربة تمييزها ونظرها، وليزيد في الإغراب عليها.
وروت فرقة أن الجن، لما أحست من سليمان، أنه ربما يتزوج بلقيس، فتفشي له أخبار الجن، لأن أمها كانت جنية، وأنها ربما تلد ولداً، فينقل الملك إليه، فلا ينفكون من تسخير سليمان وولده من بعده، فأساؤوا الثناء عليها وظلموها عنده، ليزهدوه فيها، فقالوا: إنها غير عاقلة ولا مميزة وإن رجليها كحافر فرس، وقيل: كحافر حمار، وإنها شعراء الساقين. فجرب عقلها بتنكير العرش، واختبر أمر رجليها بالصرح لتكشف عن ساقيها، وتنكيره بأن يزيد فيه وينقص منه. والقصة في ذلك مشهورة في كتب التفسير، ولما أسلمت وأذعنت وأقرت على نفسها بالظلم، روي أنه تزوجها وردها إلى ملكها باليمن، وكان يأتيها على الريح في كل شهر مرة، فولدت له غلاماً فسماه داود ومات في حياته. وقيل: إنه جعل يعني لما زاد في العرش ونقص منه، مكان الجوهر الأخضر أحمر ومكان الأحمر أخضر، فلما جاءت قيل: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو. وقيل: عرفته. ولكنها شبهت عليهم، كما شبهوا عليها، قاله مقاتل.
وقال عكرمة: كانت بلقيس حكيمة لم تقل نعم خوفاً من أن تكذب، ولم تقل لا خوفاً من التنكيت عليها، بل قالت: كأنه هو، فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر. وقيل: إنه اشتبه عليها أمر العرش، لأنها لما أرادت الشخوص إلى سليمان، دعت قومها وقالت لهم: والله ما هذا ملك، وما لنا به من طاقة، ثم أرسلت إلى سليمان: إني قادمة عليك بملوك قومي، حتى أنظر ما أمرك، وما الذي تدعو إليه من دينك. ثم أمرت بعرشها وكان من ذهب وفضة، مرصعاً بالياقوت والجوهر، فجعلته في جوف سبعة أبيات، عليه سبعة أغلاق كما تقدم، ووكلت به حراساً يحفظونه، ثم قالت لمن خلفته على سلطانها: احتفظ بما قبلك لا يخلص إليه أحد، ولا ترينه أحداً حتى آتيك. وشخصت إلى سليلا باثني عشر ألف قيل من أقيال اليمن، تحت كل قيل ألوف كثيرة، فلما جاءت، قيل: أهكذا عرشك؟ فاشتبه عليها أمر العرش، فقالت: كأنه هو. ثم قيل لها: ادخلي الصرخ.
قيل: إنه قصر من زجاج كأنه الماء بياضاً، وقيل: الصرح الصحن في الدار، وأجرى تحته الماء، وألقى فيه شيئاً كثيراً من دواب البحر، كالسمك والضفادع وغيرها، ثم وضع سرير سليمان في صدره، فكان الصرح إذا رآه أحد حسبه لجة ماء. قيل: إنه إنما بنى الصرح، لأنه أراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها، من غير أن يسألها كشفها. وقيل: أراد أن يختبر فهمها كما فعلت هي بالوصفاء والوصائف، وقد تقدم ذكر ذلك في باب الدال المهملة، في الدود. فجلس سليمان عليه السلام على السرير، ودعا بلقيس، فلما جاءت، قيل لها: ادخلي الصرح، فلما رأته حسبته لجة، وهي معظم الماء، وكشفت عن ساقيها لتخوضها إلى سليمان، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً إلا شعر الساقين، فلما رأى سليمان ذلك، صرف بصره عنها وناداها: إنه صرح ممرد من قوارير وليس بماء، ثم دعاها إلى الإسلام. وكانت قد رأت حال العرش والصرح. فأجابت. وقيل: إنها لما بلغت الصرح وحسبته لجة، قالت في نفسها: إن سليمان يريد أن يغرقني، وكان القتلى أهون علي من هذا، فقولها ظلمت نفسي يعني بذلك الظن.
وقيل: إنه عليه السلام لما أراد أن يتزوجها كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها، فسأل الإنس ما يذهب هذا؟ قالوا: الموسى. قالت: لا تمسني حديدة قط. وكره سليمان الموسى، وقال: إنها تقطع ساقيها، فسأل الجن، فقالوا: لا ندري، فسأل الشياطين، فقالوا: إنا نحتال لك حتى يكونا كالفضة البيضاء، فاتخذوا النورة والحمام ومن يومئذ ظهرت النورة والحمامات، ولم تكن قبل ذلك.
فلما تزوجها سليمان أحبها حباً شديداً، وأقرها على ملكها، وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعاً وحسناً، وهي سيلجين وبينون وغمدان. ثم كان سليمان عليه السلام يزورها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام يبتكر من الشام إلى اليمن، ومن اليمن إلى الشام على الريح، وولدت له غلاماً سماه داود فمات في حياته.
وبلقيس هي بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكاً عظيم الشأن قد ولده أربعون ملكاً هو آخرهم، وكان ملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤاً لي وأبى أن يتزوج منهم، وأنه تزوج امرأة من الجن اسمها ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقيس. ولم يكن له ولد غيرها. وقد جاء في الحديث ما يؤيد هذا، وهو قوله إن أحد أبوي بلقيس كان جنياً، فلما مات أبوها، طمعت في الملك، وطلبت من قومها أن يبايعوها، فأطاعها قوم وعصاها آخرون، وملكوا عليهم رجلا، وافترقوا فرقتين: كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن، ثم إن الرجل الذي ملكوه أساء السيرة في أهل مملكته، حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته، ويفجر بهن، فأراد قومه خلعه، فلم يقدروا على ذلك، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة، فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك، فقال: لا أرغب عنك وأنت كفء كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم، فجمعهم فخطبها إليهم، فذكروا لها ذلك فقالت: أجبت، فزوجوها به، فلما زفت إليه ودخلت عليه، سقته الخمر حتى سكر وغلب على نفسه، ثم حزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها، وأمرت بنصب رأسه على باب دارها، فلما رأى الناس ذلك علموا أن تلك المناكحة كانت مكراً وخديعة منها، فاجتمعوا إليها وملكوها عليهم.
وفي الحديث عن أبي بكرة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " رواه البخاري.
تذنيب: اعلم أن الحكماء قد ذكروا أن للحمام والنورة منافع ومضار، فمن منافعه أنه يوسع المسام، ويستفرغ الفضول، ويحلل الرياح، ويحبس الطبيعة، من هيضة ورطوبة، وينظف البدن من الوسخ والعرق، ويذهب الحكة والجرب والإعياء، ويلين الجسد، ويجيد الهضم، ويعد البدن لاستعداد الغذاء، وينشط الأعضاء المتشنجة، وينضج النزلات والزكام، وينفع من حميات يوم والدق والربع والبلغمية بعد نضجها. قلت: إذا دبر ذلك طبيب حاذق.
ومن مضاره تسهيل صب الفضول إلى الأعضاء الضعيفة، ويرخي البدن ويضعف الحرارة الغريزية، والأعضاء العصبية ويضعف الباه، ووقته بعد الرياضة، وقبل الغذاء إلا المتخلخلي الأبدان الكثيري المرار، وإياك أن تدخل الحمام وتخرج منه بحميتك، وإذا أردت الخروج، فاخرج إلى المسلخ متدرجاً، وأفرغ عليك ثوباً نظيفاً مبخراً، واجتنب النساء يوماً وليلة. وتكره المجامعة في الحمام لأنها تورث الاستسقاء وأمراضاً رديئة. ويكره للإنسان شرب الماء البارد عقب الطعام الحار والحلو والتعب والمجامعة والحمام والأكل، فإن ذلك مضر جداً، وأجود الحمامات القديمة الشاهقة العذبة.
وأما النورة فهي حارة يابسة، قال الغزالي في الإحياء: إن النورة بعد الحمام أمان من الجذام، وغسل الرجلين بالماء البارد في الصيف، أمان من النقرس، وبولة في الحمام من قيام في الشتاء أنفع من شربة دواء. قال: ويكره إلصاق الظهر إلى حائط الحمام انتهى. ومعناه أن يطلي جسده بالنورة أولا، قبل أن يسكب على جسمه الماء، ثم يستحم بعد ذلك. وينبغي أن يستعمل قبل النورة الخطمي ليأمن من حرقها، ثم يغتسل بالماء البارد، وينشف البدن منه. وإن أحب استعمال النورة أولا ليأمن من الجذام، كما قاله الغزالي وغيره فليأخذ على إصبعه شيئاً من النورة، ويشمها ويقل صلى الله على سليمان بن داود، ويكتب ذلك على فخذه الأيمن، فإنه يعرق قبل النورة، فيمسح العرق ويطلي، ويكون ذلك في البيت الحار، ليعرق سريعاً. ويستعمل بعد هذا العصفر وبزر البطيخ ودقيق الأرز، ويعجن ذلك بماء الآس والتفاح وماء الورد ويسخن في إناء ويطلى به الجسد مع العسل، فإن ذلك ينقي البدن وينفي عنه ثلاثين داء كالجذام والبرص والبهق والبثر والنفاطات ونحوها.
قال القزويني: إذا طرح في النورة زرنيخ ورماد الكرم وطلي به الجسد ثم غسل بعدها بدقيق الشعير والباقلاء وبزر البطيخ مراراً، فإن الشعر يضعف حتى لا يكاد أن يعود. وقال الإمام العلامة فخر الدين الرازي رحمة الله تعالى عليه: النورة التي قبل الزرنيخ ربما أحدثت كلفاً ويدفع ضررها بالأرز والعصفر طلاء، وأن تعجن للمحرورين بماء الشعير والأرز والبطيخ والبيض وللمبرودين بماء المرزنجوش أو النمام، وينبغي أن يخلط مع النورة الصبر والمر والحنظل من كل واحد درهم ليأمن من الحكة والبثر والله أعلم.
خاتمة: روى مالك في الموطأ، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت، ليلة أسري بي، عفريتاً من الجن يطلبني بشعلة من نار، كلما التفت رأيته " فقال جبريل: ألا أعلمك كلمات تقولهن فتنطفئ شعلته ويخر لفيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلى " فقال جبريل: قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير، يا رحمن. وقد تقدم في باب الجيم في الجن حديث العفريت الذي تفلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقطع عليه صلاته، " فخنقه النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يربطه في سارية من سواري المسجد " .
العفر: بالكسر والضم قاله ابن الأثير في النهاية وهو الجحش والأنثى عفرة.
العقاب: طائر معروف، والجمع أعقب لأنها مؤنثة. وأفعل بناء يختص به جمع الإناث مثل عناق وأعنق وذراع وأذرع، والكثير عقبان وعقابين جمع الجمع. قال الشاعر:
عقابين يوم الجمع تعلو وتسفل
وكنيته أبو الأشيم وأبو الحجاج وأبو حسان وأبو الدهر وأبو الهيثم، والأنثى أم الحوار وأم الشعو وأم طبلة وأم لوح وأم الهيثم. والعرب تسمى العقاب الكاسر، ويقال لها الخدارية للونها، وهي مؤنثة اللفظ. وقيل: العقاب يقع على الذكر والأنثى. وتمييزه باسم الإشارة. وقال في الكامل: العقاب سيد الطيور والنسر عريفها. والعقاب، قال ابن ظفر: حاد البصر، ولذلك قالت العرب أبصر من عقاب. والأنثى منه تسمى لقوة.
قال البطليوسي، في الشرح: قال الخليل: اللقوة واللقوة بالفتح والكسر العقاب السريعة الطيران انتهى. وتسمى العقاب عنقاء مغرب لأنها تأتي من مكان بعيد، وليس هو العنقاء الآتي ذكرها، وبهذا نسر قول أبي العلاء المعري.
أرى العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا
وظن بسائر الإخوان شراً ... ولا تأمن على سر فؤادا
فلو خبرتهم الجوزاء خبري ... لما طلعت مخافة أن تصادا
وكم عين تؤمل أن تراني ... وتفقد عند رؤيتي السوادا
وله من قصيدة قد أبدع فيها:
فإن كنت تهوى العيش فابغ توسطا ... فعند التناهي يقصر المتطاول
توافي البدور النقص وهي أهلة ... ويدركها النقصان وهي كوامل
وقي المعنى لابن العفيف التلمساني:
أيسعدني يا طلعة البحر طالع ... ومن شقوتي خط بخديك نازل
نعم قد تناهى في الجفاء تطاولا ... وعند التناهي يقصر المتطاول
وتقدم أن العقاب، إذا صاحت، تقول: في البعد عن الناس راحة. وهي نوعان عقاب، وزمج فأما العقاب فمنها السود والخوخية والسفع والأبيض والأشقر، ومنها ما يأوي الجبال وما يأوي الصحاري وما يأوي الغياض وما يأوي حول المدن، ويقال: إن ذكورها من طير لطيف الجرم لا يساوي شيئاً. وقال ابن خلكان، في آخر ترجمة العماد الكاتب: ويقال إن العقاب جميعه أنثى، وأن الذي يسافده طير آخر من غير جنسه، وقيل: إن الثعلب يسافده. قال: وهذا من العجائب. ولابن عنين الشاعر في هجو شخص يقال له ابن سيده:
ما أنت إلا كالعقاب فأمه ... معروفة وله أب مجهول
والعقاب تبيضن ثلاث بيضات في الغالب، وتحضنها ثلاثين يوماً، وما عداها من الجوارح يبيض بيضتين ويحضن عشرين يوماً، فإذا خرجت فراخ العقاب، ألقت واحداً منها لأنه يثقل عليها طعم الثلاث، وذلك لقلة صبرها، والفرخ الذي تلقيه، يعطف عليه طائر آخر، يسمى كاسر العظام، ويسمى المكلفة فيربيه. ومن عادة هذا الطائر أن يزق كل فرخ ضائع.
والعقاب، إذا صادت شيئاً، لا تحمله على الفور إلى مكانها، بل تنقله من موضع إلى موضع، ولا تقعد إلا على الأماكن المرتفعة، وإذا صادت الأرانب تبدأ بصيد الصغار ثم الكبار. وهي أشد الجوارح حرارة، وأقواها حركة، وأيبسها مزاجاً، وهي خفيفة الجناح، سريعة الطيران، تتغدى بالعراق وتتعشى باليمن، وريشها الذي عليها فروتها في الشتاء، وحليتها في الصيف، ومتى ثقلت عن النهوض وعميت، حملتها الفراخ على ظهرها ونقلتها من مكان إلى مكان، فعند ذلك تلتمس لها عيناً صافية بأرض الهند، على رأس جبل فتغمسها فيها، ثم تضعها في شعاع الشمس فيسقط ريشها، وينبت لها ريش جديد، وتذهب ظلمة بصرها، ثم تغوص في تلك العين فإذا هي قد عادت شابة، كما كانت. فسبحان القادر على كل شيء، الملهم كل نفس هداها.
قال التوحيدي: ومن عجيب ما ألهمته، أنها إذا اشتكت أكبادها، أكلت أكباد الأرانب والثعالب فتبرأ. وهي تأكل الحيات إلا رؤوسها، والطيور إلا قلوبها، ويدل لهذا قول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
ومنه قول طرفة بن العبد:
كأن قلوب الطير في عشها ... نوى القسب ملقى عند بعض المآدب
وقيل لبشار بن برد الأعمى الشاعر: لو خيرك الله أن تكون حيواناً ماذا كنت تختار؟ قال: العقاب لأنها تلبث حيث لا يبلغها سبع ولا ذو أربع، وتحيد عنها سباع الطير ولا تعاني الصيد إلا قليلا، بل تسلب كل في صيد صيده. ومن شأنها أن جناحها لا يزال يخفق قال عمرو بن حزام:
لقد تركت عفراء قلبي كأنه ... جناح عقاب دائم الخفقان
وفي عجائب المخلوقات، في ذكر الأحجار، أن حجر العقاب يشبه نوى التمر هندي إذا حرك يسمع منه صوت، وإذا كسر لا يوجد فيه شيء يوجد في عش العقاب. والعقاب يجلبه من أرض الهند وإذا قصد الإنسان عشه، يرمي إليه بهذا الحجر ليأخذه ويرجع، فكأنه عرف أن قصدهم إياه لخاصيته. فمن خواصه أنه إذا علق على من بها عسر الولادة، تضع سريعاً. ومن جعله تحت لسانه، فإنه يغلب الخصم في المقاولة، ويبقى مقضي الحاجة. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب النون نظير هذا، في لفظ النسر.
وأول من صاد بها وأدبها أهل المغرب، يحكى أن قيصر ملك الروم أهدى إلى كسرى ملك فارس عقاباً، وكتب إليه علمها فإنها تعمل عملا لا يدركه أكثر الصقور، فأمر بها فعلمت وصاد بها فأعجبته ثم جوعها ليصيد بها، فوثبت على صبي من حاشيته فقتلته. فقال كسرى: غزانا قيصر في بلادنا بغير جيش. ثم أهدى كسرى إليه نمراً أو فهداً، وكتب إليه: قد بعثت إليك بما تقتل به الظباء وما قرب منها من الوحش، وكتم عليه ما صنعته العقاب، فأعجب به قيصر، إذ وافقت صفته ما وصف، فغفل عنه يوماً، فافترس فتى من بعض فتيانه. فقال: صادنا كسرى فإن كنا قد صدناه فلا بأس، فلما بلغ ذلك كسرى قال: أنا أبو ساسان.
وذكر ابن خلكان، في ترجمة جعفر بن يحيى البرمكي وغيره، عن الأصمعي قال: لما قتل الرشيد جعفراً، طلبني ليلا فجئته وأنا خائف، فأومأ إلي بالجلوس فجلست، فالتفت إلي وقال: أبيات أحببت أن تسمعها، قلت: إن شاء أمير المؤمنين فأنشدني:
لو أن جعفر خاف أسباب الردى ... لنجا به منها طمر ملجم
ولكان من حذر المنية حيث لا ... يرجو اللحاق به العقاب القشعم
لكنه لما أتاه يومه ... لم يدفع الحدثان عنه منجم
فعلمت أنها له فقلت: إنها أحسن أبيات. فقال: الحق الآن بأهلك. ففكرت فلم أعرف لذلك معنى إلا أنه أراد أن يسمعني شعره وأحكيه.
وقد حكى أهل التاريخ، في سبب قتل جعفر حكايات مختلفة، منها ما روي عن أبي محمد اليزيدي، أنه قال: من قال إن الرشيد قتل جعفراً بغير سبب يحيى بن عبد الله العلوي فلا تصدقه، وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم إن جعفر بن حسن، دعا به ليلة من الليالي، وسأله عن أمره فأجابه، ثم إن يحيى قال له: اتق الله في يا جعفر، ولا تتعرض إلى دمي، فيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمك يوم القيامة، فوالله ما أحدثت حدثاً، ولا آوب محدثاً. فرق له جعفر وأطلقه بعد أن استحلفه أن لا يحدث حدثاً، وبعث معه من أوصله إلى مأمنه. فنقل ذلك إلى الرشيد، فقال لجعفر: ما فعل بيحيى بن عبد الله؟ قال: على حاله يا أمير المؤمنين في السجن، والأكبال الثقيلة، فقال: بحياتي؟ فأحجم لها جعفر. وكان من أصح الناس فكراً، فهجس في نفسه أنه قد علم شيئاً من أمره. فقال: لا وحياتك يا أمير المؤمنين، بل أطلقته، لعلمي أن لا مكروه لديه، فأظهر الرشيد الاستحسان لذلك، وأسرها في نفسه، وقال: نعم ما فعلت، ما عدوت عما كان في خاطري. فلما خرج، أتبعه الرشيد بصره، وقال: قتلني الله بسيوف العدا على الضلالة إن لم أقتلك.
وفي تاريخ صاحب حماه وغيره، أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر ولا عن أخته عباسة بنت المهدي، فقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها، ولا تمسها فكانا يحضران مجلسه، ثم يقوم الرشيد من المجلس، فيمتلئان من الشراب وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها فحملت وولدت غلاماً، وخافت الرشيد فوجهت المولود مع خواص لها إلى مكة، ولم يزل الأمر مستوراً، حتى وقع بين عباسة وبين بعض جواريها شر، فأنهت أمر الصبي، وأخبرت بمكانه ومن معه من جواريها وما معه من الحلي. فلما حج الرشيد أرسل من أتاه بالصبي وخواصه فوجد الأمر صحيحاً فأوقع بالبرامكة.
وقيل: إنما قتل الرشيد جعفراً لأنه كان قد حاز ضياع الدنيا لنفسه، وكان الرشيد إذا سافر لا يمر بضيعة ولا بستان إلا قيل: هذا لجعفر، فلم يزل كذلك حتى جنى جعفر على نفسه، بأن وجه فقطع رأس بعض الطالبين من غير أن يكون أمر بقتله، فاستحل الرشيد بذلك دمه. وقيل: كان سبب قتله أنه رفعت إلى الرشيد قصة لم يعرف رافعها وفيها هذه الأبيات:
قل لأمين الله في أرضه ... ومن إليه الحل والعقد
هذا ابن يحيى قد غدا مالكا ... مثلك ما بينكما حد
أمرك مردود إلى أمره ... وأمره ليس له رد
وقد بنى الدار التي ما بنى ال ... فرس لها مثلا ولا الهند
والدر والياقوت حصباؤها ... وتربها العنبر والند
ونحن نخشى أنه وارث ... ملكك إن غيبك اللحد
ولن يباهي العبد أربابه ... إلا إذا ما بطر العبد
فلما وقف الرشيد عليها أضمر له الشر وأوقع به. وقيل: بل أرادت البرامكة إظهار الزندقة وفساد الملك، فأوقع بهم وقتلهم. قلت: وهو قول بعيد لا أعتقد صحته.
وقيل: إن مسروراً قال: سمعت الرشيد سنة حج وهي سنة ست وثمانين ومائة، يقول في الطواف: اللهم إنك تعلم أن جعفراً قد وجب عليه القتل، وأنا أستخيرك في قتله فخر لي. وإن الرشيد لما عاد إلى الأنبار، بعث إليه بمسرور وحماد فوافياه، والمغني يغنيه:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
فقال مسرور: لذلك جئت، قد والله طرقك الأمر، أجب أمير المؤمنين، فتصدق بأمواله، وأعتق عبيده، وأبرأ الناس من حقوقه. ثم أتى به إلى المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأخبر الرشيد. فقال: ائتني برأسه! فعاوده فيه مرتين، فشتمه وصاح عليه. فدخل عليه واحتز رأسه وجاء به إليه. وذلك لا مستهل صفر سنة سبع وثمانين ومائة، وهو ابن سبع وثلاثين سنة. ثم صلب رأسه على الجسر وصلب كل قطعة على جسر، فلم يزل كذلك حتى مر عليه الرشيد عند خروجه إلى خراسان، فقال: ينبغي أن يحرق هذا فأحرق. ولما قتله أحاط بجميع البرامكة وأتباعهم، ونودي أن لا أمان لهم إلا لمحمد بن خالد بن برمك وولده وجماعته، لما عرف من براءة محمد بن خالد وولده وجماعته.
وقيل: إن علية بنت المهدي قالت للرشيد: لأي شيء قتلت جعفر. فقال: لو علمت أن قميصي يعلم سبب قتل جعفر لأحرقته! ولما صلب جعفر وقف عليه يزيد الرقاشي وقال من أبيات:
أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمناً ... كما للناس بالحجر استلام
فما أبصرت قبلك يا ابن يحيى ... حساماً فله السيف الحسام
على اللذات والدنيا جميعاً ... لدولة آل برمك السلام
فبلغ الرشيد مقالته فأحضره، وقال: ما حملك على ما فعلت وقد بلغك ما توعدنا به كل من يقف عليه أو يرثيه؟ قال: كان يعطيني كل سنة ألف دينار، فأمر له الرشيد بألفي دينار، وقال: هي لك منا ما دمنا في قيد الحياة.
ويروى أن امرأة وقفت على جعفر ونظرت إلى رأسه معلقاً، فقالت: أما والله لئن صرت اليوم آية، لقد كنت في المكارم غاية ثم أنشدت تقول:
ولما رأيت السيف خالط جعفراً ... ونادى مناد للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وأيقنت أنما ... قصارى الفتى يوماً مفارقة الدنيا
وما هي إلا دولة بعد دولة ... تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى
إذا أنزلت هذا منازل رفعة ... من الملك حطت ذا إلى الغاية السفلى
ثم مرت كأنها الريح ولم تقف.
ولما بلغ سفيان بن عيينة قتل جعفر، وما نزل بالبرامكة حول وجهه إلى القبلة، وقال: اللهم إن جعفراً كان قد كفاني مؤونة الدنيا فاكفه مؤونة الآخرة. وكان جعفر من الكرم والعطاء على جانب عظيم، وأخباره في ذلك مشهورة، وفي الدفاتر مسطورة، ولم يبلغ أحد من الوزراء منزلة بلغها جعفر من الرشيد، وكان الرشيد يسميه أخاً، ويدخله معه في ثوبه، وأن الرشيد، لما قتل جعفراً، خلد أباه يحيى في السجن. وكانت البرامكة في الغاية من الجود والكرم كما هو مشهور عنهم. وكانت مدة وزارتهم للرشيد سبع عشرة سنة.
وذكر ابن إسحاق قال: قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من شأن الحية، التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لأجلها حتى اختطفها العقاب:
عجبت لما تصوبت العقاب ... إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش ... وأحياناً يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس شدت ... فهبنا للبناء وقد تهاب
فلما أن خشينا الزجر جاءت ... عقاب حلقت ولها انصباب
فضمتها إليها ثم خلت ... لنا البنيان ليس له حجاب
فقمنا حاشدين إلى بناء ... لنا منه القواعد والتراب
غداة نرفع التأسيس منه ... وليس على مساوينا ثياب
أعزبه المليك بني لؤي ... فليس لأصله منه ذهاب
وقد حشدت هناك بني عدي ... ومرة قد تعهدها كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزاً ... وعند الله يلتمس الثواب
وذكر ابن عبد البر، في التمهيد عن عمرو بن دينار، أنه قال: لما أرادت قريش بناء الكعبة، خرجت منها حية، فحالت بينهم وبينها، فجاء عقاب أبيض فأخذها ورمى بها نحو أجياد. كذا في بعض نسخ التمهيد. وفي بعضها طائر أبيض.
فائدة: روى ابن عباس أن سليمان بن داوود عليهما السلام، لما فقد الهدهد، دعا بالعقاب سيد الطير، وأحزمه وأشده بأساً، فقال: علي بالهدهد الساعة، فرفع العقاب نفسه نحو السماء، حتى التصق بالهواء، فصار ينظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي الرجل، ثم التفت يميناً وشمالا فرأى الهدهد مقبلا نحو اليمن، فانقض عليه، فقال الهدهد: أسألك بحق الذي أقدرك علي وقواك إلا ما رحمتني. فقال له: الويل لك، إن نبي الله سليمان حلف أن يعذبك أو يذبحك. ثم أتى به فلقيته النسور وعساكر الطيور، فخوفوه وأخبروه بتوعد سليمان، فقال الهدهد: ما قدري وما أنا أو ما أستثنى نبي الله قالوا: بلى. قال: أو ليأتيني بسلطان مبين، قال الهدهد: نجوت إذن. فلما دخل على سليمان رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه تواضعاً لسليمان. فقال له سليمان: أين غبت عن خدمتك ومكانك؟ لأعذبنك عذاباً شديداً، أو لأذبحنك. فقال الهدهد: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله بمنزلة وقوفي بين يديك. فاقشعر جلد سليمان وارتعد، وعفا عنه. وسيأتي إن شاء الله تعالى، نظير هذا في باب الهاء في الهدهد.
الحكم: يحرم أكل العقاب لأنه ذو مخلب، واختلف في أنه هل يستحب قتله أم لا. فجزم الرافعي والنووي في الحج باستحباب قتله، وجزم في شرح المهذب بأنه من القسم الذي لا يستحب قتله ولا يكره وهو الذي فيه نفع ومضرة، قلت: وهذا الذي جزم به القاضي أبو الطيب الطبري وهو المعتمد.
الأمثال: قالوا: أمنع من عقاب الجو. قاله عمرو بن عدي لقصير بن سعد في قصة الزباء المشهورة. وفي ذلك يقول ابن دريد في مقصورته:
واخترم الوضاح من دون التي ... أملها سيف الحمام المنتضى
وقد سما عمرو إلى أوتاره ... فاحتط منها كل عالي المنتهى
فاستنزل الزباء قسراً وهي من ... عقاب لوح الجو أعلى منتهى
جعلها لامتناعها بمنزلة لوح الجو، واللوح الهواء بين السماء والأرض.
والجو أيضاً ما بينهما. والقصة في ذلك ما ذكره الأخباريون: ابن هشام وابن الجوزي وغيرهم، قالوا وقد دخل كلام بعضهم في بعض: إن جذيمة الأبرش، كان ملكاً على الحيرة، وما حولها من السواد، ملك ستين سنة، وكان شديد السلطان قد خافه القريب، وهابه البعيد، وهو أول من أوقدت الشموع بين يديه، وأول من نصب المجانيق في الحرب، وأول من اجتمع له الملك بأرض العراق. فغزا مليح بن البراء، وكان ملكاً على الحضر وهو الحاجز بين الروم والفرس وهو الذي ذكره عدي بن زيد بقوله:
وأخو الخضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجفله كل ... سا فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون وباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور
فقتله جذيمة وطرد بنته الزباء، فلحقت بالروم.
وكانت الزباء عاقلة أديبة عربية اللسان، حسنة البيان شديدة السلطان، كبيرة الهمة. قال ابن الكلبي: ولم يكن في نساء عصرها أجمل منها، وكان اسمها فارعة وكان لها شعر إذا مشت سحبته وراءها، وإذا نشرته جللها فسميت الزباء لذلك. قال: وكان قتل أبيها قبل مبعث عيسى ابن مريم عليهما السلام، فبلغت بها همتها أن جمعت الرجال، وبذلت الأموال، وعادت إلى ديار أبيها ومملكته، فأزالت جذيمة عنها وابتنت على عراقي الفرات مدينتين متقابلتين في شرقي الفرات وغربيه، وجعلت بينهما نفقاً تحت الفرات، فكانت إذا رهقتها الأعداء أوت إليه وتحصنت. وكانت قد اعتزلت الرجال في عذراء بتول.
وكان بينها وبين جذيمة بعد الحرب مهادنة، فحدثته نفسه بخطبتها فجمع خاصته وشاورهم في ذلك، فسكت القوم وتكلم قصير، وكان ابن عمه، وكان عاقلا لبيباً، وكان خازنه، وصاحب أمره، وعميد دولته، فقال: أبيت اللعن أيها الملك إن الزباء امرأة حرمت الرجال فهي عذراء بتول لا ترغب في مال ولا جمال، ولها عندك ثأر، والدم لا ينام وإنما هي تاركتك رهبة وحذراً، والحقد دفين، في سويداء القلب له كمون، ككمون النار في الحجر، إذ قدحته أورى، وإن تركته توارى وللملك في بنات الملوك الاكفا متسع، ولهن فيه منتفع، ولقد رفع الله قدرك عن الطمع، فيمن هو دونك، وعظم الرب شأنك، فما أحد فوقك. هكذا حكاه ابن الجوزي وغيره.
وذكر ابن هشام، شارح الدريدية وغيره، أن الزباء، هي التي أرسلت إليه تخطبه، وتعرض عليه نفسها، ليتصل ملكه بملكها، فدعته نفسه إلى ذلك، فاستشار وزراءه، فكل واحد منهم رأى ذلك مصلحة، إلا قصيراً فإنه قال: أيها الملك هذه خديعة ومكر، فلم يسمع منه. قال: ولم يكن قصيراً ولكن سمي به.
قال ابن الجوزي: فقال جذيمة: يا قصير، الرأي ما رأيته وقلته، ولكن النفس تواقة، وإلى ما تحب وتهوى مشتاقة، ولكل امرئ قدر لا مفر منه ولا وزر، ثم وجه إليها خاطباً وقال له: اذكر لها ما ترغبها فيه، وتصبو إليه، فجاءها خطيبه فلما سمعت كلامه، وعرفت مراده، قالت: أنعم بك عيناً وبما جئت به. وأظهرت له السرور والرغبة فيه، وأكرمت مقدمه، ورفعت موضعه، وقالت: قد كنت أضربت عن هذا، مخافة أن لا أجد كفؤاً! ولكن الملك فوق قدري، وأنا دون قدره قد أجبت إلى ما سأل، ورغبت فيما قال، ولولا أن السعي في مثل هذا الأمر بالرجال أمثل، لسرت إليه، ولنزلت عليه.
وأهدت له هدية سنية، ساقت إليه فيها العبيد والإماء، والكراع والسلاح، والأموال والإبل والغنم، وغير ذلك من الثياب والأمتعة والجواهر شيئاً عظيماً. فلما رجع إليه خطيبه، أعجبه ما سمع من الجواب، وأبهجه ما رأى من اللطف، الذي تحير فيه عقول ذوي الألباب، وظن أن ذلك منها لحصول رغبة، فأعجبته نفسه، وسار من فوره فيمن يثق به من خاصته، وأهل مملكته، وفيهم قصير خازنه، وقد استخلف على مملكته عمرو بن عدي اللخمي، وهو أول من ملك الحيرة من لخم، وكانت مدة ملكه مائة وعشرين سنة، وهو الذي اختطفته الجن وهو صبي ثم ردته وقد شب وكبر. فألبسته أمه طوقاً من ذهب وأمرته بزيارة خاله جذيمة، فلما رأى جذيمة لحيته والطوق في عنقه قال: شب عمرو عن الطوق، فأرسلها مثلا. وقال ابن هشام: إنه ملك مائة وثماني عشرة سنة.
قال ابن الجوزي: فاستخلفه وسار إلى الزباء فوصل إلى قرية على الفرات، يقال لها نيفة فنزل بها، وتصيد وأكل وشرب. واستعاد المشورة والرأي من أصحابه، فسكت القوم وافتتح قصير الكلام فقال: أيها الملك كل عزم لا يؤيد بحزم فإلى أين يكون كونه؟ فلا تثق بزخرف قول لا محصول له، ولا تقذف الرأي بالهوى فيفسد، ولا الحزم بالمنى فيبعد، والرأي عندي للملك أن يعتقب أمره بالتثبت، ويأخذ حذره بالتيقظ، ولولا أن الأمور تجري بالمقدر، لعزمت على الملك عزماً بتاً أن لا يفعل. فأقبل جذيمة على الجماعة، وقال: ما عندكم أنتم في هذا الأمر؟ فتكلموا. بحسب ما عرفوا من رغبته في ذلك، وصوبوا رأيه وقووا عزمه، فقال جذيمة: الرأي مع الجماعة، والصواب ما رأيتم. فقال قصير: أرى القدر يسابق الحذر، فلا يطاع لقصير أمر. فأرسلها مثلا، ثم سار جذيمة، فلما قرب من ديار الزباء، أرسل إليها يعلمها بمجيئه، فأظهرت السرور به، والرغبه فيه وأمرت بحمل الميرة إليه، وقالت لجندها، ولخاصة أهل مملكتها، وعامة أهل دولتها ورعيتها: تلقوا سيدكم وملك دولتكم فعاد الرسول إليه بالجواب، وأخبره بما رأى وسمع.
فلما أراد جذيمة أن يسير، دعا قصيراً وقال: أنت على رأيك؟ قال: نعم، وقد زادت بصيرتي فيه، أفأنت على عزمك؟ قال: نعم، وقد زادت رغبتي فيه. فقال قصير: ليس الدهر بصاحب لمن لم ينظر في العواقب فأرسلها مثلا. ثم قال: وقد يستدرك الأمر قبل فوته، وفي يد الملك بقية، هو بها مسلط على استدراك الصواب، فإنك إن وثقت بأنك ذو ملك وسلطان وعشيرة وأعوان، فإنك قد نزعت يدك من سلطانك، وفارقت عشيرتك وأعوانك، وألقيتها في يد من لست آمن عليك مكره وغدره، فإن كنت ولا بد فاعلا، ولهواك تابعاً، فإن القوم أن يلقوك غداً رزدقاً واحداً، وقاموا لك صفين، حتى إذا توسطتهم أطبقوا عليك من كل جانب، وأحدقوا بك فقد ملكوك، وصرت في قبضتهم. وهذه العصا لا يسبق غبارها. وكان لجذيمة فرس تسبق الطير وتجاري الرياح، يقال لها العصا، فإذا رأيت الأمر كذلك فتجلل ظهرها، فهي ناجية بك إن ملكت ناصيتها، فسمع جذيمة كلامه ولم يرد جوابه. وسار وكانت الزباء، لما رجع رسول جذيمة من عندها، قالت لجندها: إذا أقبل جذيمة غداً فتلقوه بأجمعكم، وقوموا له صفين، عن يمينه وعن شماله، فإذا توسط جمعكم، فانقضوا عليه من كل جانب حتى تحدقوا به، وإياكم أن يفوتكم.
وسار جذيمة وقصير عن يمينه، فلما لقيه القوم رزدقاً واحداً، قاموا له صفين، فلما توسطهم انقضوا عليه من كل جانب فعلم أنهم قد ملكوه، وكان قصير يسايره، فأقبل جذيمة عليه وقال: صدقت يا قصير، فقال: هذه العصا فدونكها لعلك تنجو بها، فأنف جذيمة من ذلك، وسارت به الجيوش، فلما رأى قصير أن جذيمة قد استسلم للأمر، وأيقن بالقتل، جمع نفسه ووثب على ظهر العصا، وقال ابن هشام: إن قصيراً قدم العصا إلى جذيمة، فشغل عنها جذيمة بنفسه، فركبها قصير وأعطاها عنانها، وزجرها فذهبت تهوي في هوي الريح، فنظر إليه جذيمة وهي تطاول به، وأشرفت عليه الزباء من قصرها، فقالت له: ما أحسنك من عروس تجلى علي وتزف إلي حتى دخلوا به على الزباء، ولم يكن معها في قصرها إلا جوار أبكار، وهي جالسة على سريرها وحولها ألف وصيفة، كل واحدة لا تشبه صاحبتها في خلق ولا زي، وهي بينهن كأنها قمر قد حفت به النجوم.
وقال ابن هشام: وكانت الزباء قد ربت شعر عانتها حولا، فلما دخل عليها جذيمة، تكشفت له وقالت: أمتاع عروس ترى؟ فقال: بل متاع أمة بظراء! فأمرت به فأجلس على نطع، وقيل: إنه لما أدخل عليها أمرت بالأنطاع فبسطت وقالت لوصائفها: خذن بيد سيدكن، وبعل مولاتكن، فأخذن بيده وأجلسنه على الأنطاع، بحيث تراه ويراها، وتسمع كلامه ويسمع كلامها، ثم أمرت الجواري فقطعن رواهشه، ووضعن الطست بين يديه، فجعلت دماؤه تشخب في الطست فقطرت قطرة على النطع، فقالت لجواريها: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: لا يحزنك دم أراقه أهله. فقالت: والله ما وفى دمك، ولا شفى قتلك، ولكنه غيض من فيض، فأرسلتها مثلا فلما قضى أمرت به فدفن.
وأما عمرو فكان يخرج كل يوم إلى ظهر الحيرة يطلب الخبر، ويقتفي من خاله الأثر، فخرج ذات يوم، فإذا فارس قد أقبل، تهوي به الفرس هوي الريح، فقال عمرو بن عدي: أما الفرس ففرس جذيمة وأما الراكب فكالبهيمة لأمر ما جاءت العصا، فأرسلها مثلا، فأشرف قصير قال: مما وراءك؟ قال: سعى القدر بالملك إلى حتفه، على الرغم من أنفي وأنفه. ثم قال لعمرو بن عدي: أطلب بثأرك من الزباء، فقال عمرو: وأتى يطلب من الزباء وهي أمنع من عقاب الجو فأرسلها مثلا. فقال له قصير: قد علمت نصحي لخالك، وكأن الأجل طالبه، وأنا والله لا أنام عن الطلب بدمه، ما لاح نجم أو طلعت شمس، أو أدرك به ثأراً، أو تخترم نفسي فأعذر. ثم إنه عمد إلى أنفه فجدعه. وقال ابن هشام: إن قصيراً قال لعمرو: اجدع أنفي واقطع آذاني، واضرب ظهري حتى يؤثر فيه، ودعني وإياها، ففعل به عمرو ذلك. وذكر الاخباريون أن عمراً أبى عليه ففعل هو بنفسه ذلك، فقيل: لأمر ما جدع قصير أنفه.
قال ابن الجوزي: ثم إن قصيراً لحق بالزباء هارباً من عمرو بن عدي، فقيل لها: هذا قصير ابن عم جذيمة، وخازنه وصاحب أمره، قد أتاك هارباً، فأذنت له وقالت: ما الذي جاء بك إلينا يا قصير، وبيننا وبينك دم عظيم الخطر؟ فقال: يا ابنة الملوك العظام، لقد أتيت فيما يأتي فيه مثلي إلى مثلك، ولقد كان دم الملك، يعني أباها، يطلب جذيمة حتى أدركه، وقد جئتك مستجيراً من عمرو بن عدي، فإنه اتهمني بخاله لمشورتي عليه في المسير، إليك فجدع أنفي، وأخذ مالي، وجلد ظهري، وقطع آذاني، وحال بيني وبين أهلي، وتهددني بالقتل، وإني خشيت على نفسي، فهربت منه إليك، وأنا مستجير بك، ومستند إلى كنف عزك. فقالت له: أهلا وسهلا، لك حق الجوار، وذمة المستجير.
وأمرت به فأنزل، وأجرت له النفقات ووصلته وكسته وأخدمته، وزادت في إكرامه. فأقام مدة لا يكلمها ولا تكلمه، وهو يطلب الحيل عليها، وموضع الفرصة منها، وكانت ممتنعة بقصر مشيد على باب النفق تعتصم به، فلا يقدر أحد عليها، فقال لها قصير يوماً: إن لي في العراق مالا كثيراً، وذخائر نفيسة مما يصلح للملوك، فإذا أذنتني في الخروج إلى العراق، وأعطيتني شيئاً أتعلل به في التجارة، واجعله سبباً إلى الوصول إلى مالي، أتيتك بما قدرت عليه من ذلك. فأذنت له وأعطته مالا فقدم به إلى العراق، وأخذ مالا جزيلا، ثم رجع إلى الزباء، وقد استصحب من ظرائف العراق ولطائفها وزادها مالا كثيراً إلى مالها.
قال: فلما قدم عليها، أعجبها ذلك وأبهجها وعظمت منزلته عندها، ثم إنه عاد إلى العراق ثانية، وقدم عليها بأكثر من النوبة الأولى، وزادها أضعافاً من الجوهر والخز والبز والقز والديباج، فازداد مكانه منها، وعظمت منزلته عندما، ورغبتها فيه ولم يزل قصير يتلطف في الحيلة، حتى عرف موضع النفق الذي تحت الفرات، والطريق إليه. ثم خرج ثالثة، فقدم بأكثر من المرتين الأوليين ظرائف ولطائف، فبلغ مكانة عظيمة منها، حتى إنها كانت تستعين به في مهماتها، واسترسلت إليه وعولت في أمورها عليه.
وكان قصير رجلا حسن العقل والوجه، أديباً لبيباً، فقالت له يوماً: إني أريد أن أغزو البلد الفلانية من أرض الشام، فاخرج إلى العراق وائتني بكذا وكذا من الدروع والكراع، والعبيد والثياب، فقال قصير: لي ببلاد عمرو بن علي ألف بعير، وخزانة من المال، وخزانة من السلاح، فيها كذا وكذا، وما لعمرو بها من علم، ولو علم بها لأخذها، واستعان بها على حرب الملكة، وقد كنت أتربص به ريب المنون، وها أنا أخرج متنكراً من حيث لا يعلم فآتي الملكة بذلك، مع الذي سألت، فأعطته من المال ما أراد، وقالت: يا قصير الملك يحسن بمثلك، وعلى يد مثلك يصلح أمره، وقد بلغني أن جذيمة كان إيراده وإصداره إليك، وما أقصر بك عن شيء تناله يدي، ولا يقعد بك حال تنهض بي. فسمع كلامها رجل من خاصة قومها فقال: إنه أسد خادر، وليث ثائر، قد تحفز للوثبة.
ولما عرف قصير مكانه منها، وتمكنه من قلبها، قال: الآن طاب الخداع، وخرج من عندها، فأتى عمرو بن عدي فقال: قد أصبت الفرصة من الزباء، فقال له عمرو: قل أسمع ومر اقبل، فأنت طبيب هذه القرحة. فقال: الرجال والأموال. فقال عمرو: حكمك فيما عندي مسلط، فعمد إلى الذي رجل من فتاك قومه، وصناديد أهل مملكته، فحملهم على ألف بعير، في الغرائر السود بالأسلحة، وجعل ربطها من داخل الجوالق. وكان عمرو منهم، وساق الخيل والكراع والسلاح والإبل محملة.
قال ابن هشام: فكان يسير بالليل ويكمن بالنهار، وكانت الزباء قد صور لها عمرو قائماً وقاعداً وراكباً، وغمي عليها أمر قصير، فسألت عنه فقيل: أخذ الغوير. فقالت: عسى الغوير أبؤسا، فأرسلتها مثلا. وعسى، في المثل، بمعنى صار، ولذلك أتى الخبر بغير الفعل، فلما قدم قصير دخل على الزباء وكان قد تقدم على العير، فقال لها: قفي وانظري إلى العير، فصعدت على سطح قصرها وجعلت تنظر إلى العير مثقلة بحمل الرجال فقالت: يا قصير:
ما للجمال مشيهما وئيد ... أجندلا يحملن أم حديدا
أم صرفاناً بارداً شديداً ... أم الرجال جثما قعودا
وكان قصير قد وصف لعمرو الزباء، وشأن النفق، فلما دخلت العير المدينة، وكان على باب الزباء بوابون من النبط، وفيهم رجل بيده مخصرة، فطغن جوالقاً، فأصابت المخصرة رجلا منهم فضرط، فقال البواب بالنبطية: بشا بشا أي الشر الشر، فاستل قصير سيفه وضرب به البواب فقتله. وكان عمرو على فرسه فدخل الحصن عقب الإبل وحل الرجال الجوالق، فظهروا في المدينة، ووقف عمرو على باب النفق، فلما رأت الزباء عمراً، عرفته بالصفة، فمصت خاتماً في يدها مسموماً، وقالت: بيدي لا بيد عمرو، فماتت. ويقال: إن عمراً قتلها بالسيف، وقال ابن الجوزي: إن الزباء، لما رأت الإبل تتهادى بأحمالها، ارتابت بها، وكان قد وشى بقصير إليها، فقدح مما رأت من كثرة الإبل وعظم أحمالها في نفسها، مع ما عندها من قول الواشي به فقالت: أرى الجمال مشيها وئيدا إلا أنه ذكر عوض أم الرجال جثما قعوداً أم الرجال في الغرار السودا. ثم قالت لجواريها: أرى الموت الأحمر في الغرائر السودا فذهبت مثلا، وذكر القصة إلى آخرها، فاحتوى عمرو على بلادها.
والزباء اسمها نائلة في قول محمد بن جرير الطبري، ويعقوب بن السكيت واستشهد ابن جرير الطبري بقول الشاعر:
أتعرف منزلا بين النقاء ... وبين ممر نائلة القديم
وميسون في قود ابن دريد، وفارعة في قول ابن هشام وابن الجوزي وغيرهما كما تقدم. قلت: وفي النهاية لابن الأثير، أن قوماً من الجن تذكروا عيافة بني أسد، ووصفهم بها، فأتوهم فقالوا: ضلت لنا ناقة، فلو أرسلتم معنا من يعيف؟ فقالوا لغلام لهم: انطلق معهم، فاستردفه أحدهم، ثم ساروا فلقيهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها، فاقشعر الغلام وبكى، فقالوا: ما لك يا غلام؟ فقال: كسرت جناحاً ورفعت جناحاً، وحلفت بالله صراخاً، ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحاً، وقالوا: أطير من عقاب الجو وأبصر من عقاب وأحزم. فإن قيل: ما حزمه؟ قيل: إنه يخرج من بيضته على رأس جبل عال، فلا يتحرك حتى يتكامل ريشه، ولو تحرك لسقط. ويقال أيضاً: أسمع من فرخ عقاب وأعز من عقاب الجو.
عجيبة: نقل ابن زهر، عن ارسطاطاليس، أن العقاب تصير حدأة والحدأة عقاباً يتبادلان في كل سنة.
الخواص: قال صاحب عين الخواص: قال عطارد بن محمد: إن العقاب يهرب من الصبر، وإذا شم رائحته غشي عليه. وريش العقاب إذا دخن به البيت ماتت حياته. ومرارته تنفع من الظلمة، والماء الذي في العينين اكتحالا قاله القزويني.
التعبير: العقاب تدل رؤيته لمن هو في حرب على النصر والظفر على الأعداء، لأنها كانت راية النبي صلى الله عليه وسلم. والعقاب تدل على العقاب لمن حل عنده. ومن رأى أنه ملك عقاباً أو نسراً، وتحكم عليه، نال عزاً وسلطاناً ونصرة على عدوه، وعاش عمراً طويلا. فإن كان الرائي من أهل الجد والاجتهاد، انقطع عن الناس واعتزلهم، وعاش منفراً لا يأوي إلى أحد. وإن كان ملكاً، اصطلح مع الأعداء، وأمن من شرهم ومكايدهم، وانتفع بما عندهم من السلاح والمال، لأن أرياشها السهام، وهي أموال أيضاً، وصغارها أولاد زنا. قاله ابن المقري.
وقال المقدسي: من رأى عقاباً ضربه بمخالبه، ناله شدة في ماله. وأكل لحم العقاب يدل على الحرص، وربما دلت رؤيته، أعني العقاب، على رجل صاحب حرب، لا يأمنه قريب ولا بعيد. وإذا رؤي على سطح أو دار أو بيت فهو ملك الموت. ومن ركب عقاباً في منامه، وكان فقيراً نال خيراً، وإن كان غنياً أو من أشراف الناس، فإنه يموت، لأن في الزمان المتقدم، كانوا يصورون صورة الميت من الأغنياء والأمراء، على صورة عقاب. ومن رأى من النساء، كأنها ولدت عقاباً، اتصل ولدها بالملك في خدمة أو صراع، والله أعلم.
العقد: الجمل الصغير القوائم، الطويل السنام، فإذا مشى مع الجمال، قصر عن طولها، وإذا برك معها طالها لطول سنامه، ولذلك يقول ثعلبة:
أرسلت فيها جملا لكالكا ... يقصر مشياً ويطول باركا
العقال: القلوص الفتية، والعقال زكاة العام من الإبل والغنم. قال الشاعر:
سعى عقالا فلم يترك لنا سبداً ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
العقرب: دويبة من الهوام تكون للذكر والأنثى بلفظ واحدة، واحدة العقارب. وقد يقال للأنثى: عقربة وعقرباء ممدود غير مصروف، ويصغر على عقيرب، كما تصغر زينب على زيينب والذكر عقربان بضم العين والراء، وهو دابة له أرجل طوال وليس ذنبه كذنب العقارب قال الشاعر:
كأن مرعى أمكم إذ غدت ... عقربة يكومها عقربان
أي ينزو عليها. ومكان معقرب بكسر الراء، ذو عقارب، وصدغ معقرب بفتح الراء، أي معطوف. وكنيتها أم عريط وأم ساهرة، واسمها بالفارسية الرشك كما تقدم. ومنها السود والخضر والصفر، وهن قواتل وأشدها بلاء الخضر. وهي مائية الطباع، كثيرة الولد، تشبه السمك والضب. وعامة هذا النوع، إذا حملت الأنثى منه، يكون حتفها في ولادتها، لأن أولادها إذا استوى خلقها، تأكل بطنها وتخرج، فتموت الأم. وأنشدوا قول الشاعر:
وحاملة لا يحمل الدهر حملها ... تموت وينمى حملها حين تعطب
والجاحظ لا يعجبه هذه القول، ويقول: قد أخبرني من أثق به، أنه رأى العقرب تلد من فيها وتحمل أولادها على ظهرها، وهي على قدر القمل كثيرة العدد. قلت: والذي ذهب إليه الجاحظ هو الصواب. والعقرب أشد ما تكون، إذا كانت حاملا، ولها ثمانية أرجل، وعيناها في ظهرها. ومن عجيب أمرها أنها لا تضرب الميت ولا النائم، حتى يتحرك شيء من بدنه، فإنها عند ذلك تضربه. وهي تأوي إلى الخنافس وتسالمها، وربما لسعت الأفعى فتموت، وهي يلسع بعضها بعضاً فتموت، قاله الجاحظ. وفي كتاب القزويني، أن العقرب إذا لسعت الحية فإن أدركتها وأكلتها برئت، وإلا ماتت. وقد أشار إلى ذلك الفقيه عمارة اليمني في أبياته بقوله:
إذا لم يسالمك الزمان فحارب ... وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب
ولا تحتقر كيد الضعيف فربما ... تموت الأفاعي من سموم العقارب
فقد هدم عرش بلقيس هدهد ... وخرب فأر قبل ذا سد مأرب
إذا كان رأس المال عمرك فاحترز ... عليه من الانفاق في غير واجب
فبين اختلاف الليل والصبح معرك ... يكر علينا جيشه بالعجائب
وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة الفقيه عمارة بن علي بن زيدان اليمني، أن قاسم بن هاشم، صاحب مكة، وجهه رسولا إلى الديار المصرية، فدخلها في ربيع الأول سنة خمسين وخمسمائة، وصاحبها يومئذ الفائز، والوزير الصالح بن رزيك، فأنشدهما قصيدته الميمية التي أولها:
الحمد للعيس بعد العزم والهمم
وفي آخرها:
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
خليفة ووزير مد عدلهما ... ظلا على مفرق الإسلام والأمم
زيادة النيل نقص عند فيضهما ... فما عسى يتعاطى منة الديم
فاستحسنا قصيدته وأجزلا صلته، وعاد إلى مكة، ثم إلى زبيدة ثم أعاده صاحب مكة رسولا إلى مصر أيضاً، فاستوطنها وأحسن الصالح وبنوه إليه. فلما ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، مدحه وفدح جماعة من أهل بيته، ثم إنه شرع في الاتفاق، مع جماعة من الرؤساء، على إعادة دولة المصريين ووافقهم جماعة من أمراء الملك الناصر، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية ومن سواحل الشام إلى ديار مصر، على شيء يبذلونه لهم، من المال والبلاد، فعلم صلاح الدين بذلك فقبض عليهم وسألهم عن ذلك، فأقروا. فصلبهم في رمضان سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وهذا التاريخ مناقض لما تقدم، من أنه كان رسولا لصاحب مكة في سنة خمسين وخمسمائة.
قلت: والصواب أن صلبهم كان في سنة تسع وستين يوم السبت الثاني من شهر رمضان، وكان القبض عليهم في يوم الأحد السادس والعشرين من شعبان من السنة المذكورة. وكان عمارة شافعياً، وينسب إليه بيت قاله، أو وضع عليه والله أعلم بذلك:
قد كان أول هذا الدين من رجل ... سعى إلى أن دعوه سيد الأمم
فأفتى فقهاء مصر بقتله، ولم يتعرض السلطان صلاح الدين إلى من نافق عليه من أجناده، ولا أظهر لهم أنه علم بشيء من أمرهم. ومن العجيب أن الفقيه عمارة قال قبل صلبه بأيام قلائل في مصلوب:
ورأت يداه عظيم ما جنتا ... ففررن ذي شرقاً وذي غربا
وأمال نحو الصدر منه فما ... ليلوم في أفعاله القلبا
فكأنه كان لسان حاله.
ومن شأنها، أنها إذا لسعت الإنسان، فرت فرار مسيء يخشى العقاب. قال الجاحظ: ومن عجيب أمرها أنها لا تسبح ولا تتحرك، إذا ألقيت في الماء سواء كان الماء ساكناً، أو جارياً، قال: والعقارب تخرج من بيوتها للجراد، لأنها حريصة على أكله، وطريق صيدها أن تشبك الجرادة في عود، ثم تدخل في جحرها، فإذا عاينتها العقرب تعلقت فيها. ومتى أدخل الكراث في جحرها وأخرج، فإنها تتبعه أيضاً. وربما ضربت الحجر والمدر، ومن أحسن ما قيل في ذلك:
رأيت على صخرة عقرباً ... وقد جعلت ضربها ديدنا
فقلت لها: إنها صخرة ... وطبعك من طبعها ألينا
فقالت: صدقت ولكنني ... أريد أعرفها من أنا
والعقارب القاتلة تكون في موضعين بشهرزور وبعسكر مكرم، وهي جرارات تلسع فتقتل كما تقدم. وربما تناثر لحم من لسعته أو عفن لحمه واسترخى، حتى إنه لا يدنو منه أحد إلا وهو يمسك أنفه مخافة أعدائه. ومن لطيف أمرها أنها مع صغرها تقتل الفيل والبعير بلسعها.
ومن نوع العقارب الطيارة، قال القزويني والجاحظ: وهذا النوع يقتل غالباً. قال الرافعي: وحكى العبادي وجهاً أنه يصح بيع النمل بنصيبين، لأنه يعالج به العقارب الطيارة، التي بها. وسيأتي إن شاء الله تعالى، هذا أيضاً في باب النون، في حكم النمل ولعل مراده أن النمل يعمل مع أدوية، ويعالج بها لدغتها.
وبنصيبين عقارب قتالة، يقال إن أصلها من شهرزور، وإن بعض الملوك حاصر نصيبين، فأتى بالعقارب منها وجعلها في كيزان الفقاع، ورمى بها في المجانيق. قال الجاحظ: وكان في دار نصر بن حجاج السلمي عقارب، إذا لسعت قتلت، فدب ضيف لهم، إلى بعض أهل الدار فضربته عقرب في مذاكيره فقال نصر يعرض به:
وداري إذا نام سكانها ... أقام الحدود بها العقرب
إذا غفل الناس عن دينهم ... فإن عقاربها تضرب
فلا تأمنن سرى عقرب ... بليل إذا أذنب المذنب
فدخل حوالي الدار وقال: هذه عقارب تسقى من أسود سالخ، ونظر إلى موضع في الدار، وقال: احفروا هاهنا، فحفروا فوجدوا أسودين: ذكراً وأنثى.
وروى الطبراني وأبو يعلى الموصلي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فقام إلى جنبه فصلى بصلاته، فجاءت عقرب حتى انتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركته، وذهبت نحو علي فضربها بنعله حتى قتلها، فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها بأساً. في إسناده عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف.
وروى ابن ماجه، عن أبي رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم " قتل عقرباً وهو يصلي " . وفيه أيضاً، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقرب، وهو في الصلاة، فقال: " لعن الله العقرب ما تدع مصلياً ولا غير مصل اقتلوها في الحل والحرم " .
وروى الحافظ أبو نعيم، في تاريخ أصبهان، والمستغفري في الدعوات، والبيهقي في الشعب، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقرب، وهو في الصلاة فلما فرغ من صلاته، قال: " لعن الله العقرب ما تدع مصلياً ولا غيره، ولا نبياً ولا غيره، إلا لدغته " . وتناول نعله فقتلها به، ثم دعا بماء وملح فجعل يمسح عليها، ويقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين.
وفي تاريخ نيسابور، عن الضحاك بن قيس الفهري، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل يتهجد، فلدغته عقرب في إصبعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله العقرب ما تكاد تدع أحداً " ، ثم دعا بماء في قدح، وقرأ عليه قل هو الله أحد الله الصمد ثلاث مرات، ثم صبه على إصبعه، ثم رؤي صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك على المنبر عاصباً إصبعه من لدغة العقرب.
وفي عوارف المعارف، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: " لدغت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقرب في إبهامه، من رجله اليسرى فقال: " علي بذاك الأبيض الذي يكون في العجين " ، فجئنا بملح فوضعه صلى الله عليه وسلم في كفه، ثم لعق منه ثلاث لعقات، ثم وضع بقيته على اللدغة فسكنت عنه. وروى ابن أبي شيبة، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس، وهو عاصب إصبعه من لدغة عقرب فقال: " إنكم تقولون لا عدوى، ولا تزالون تقاتلون عدواً حتى تقاتلوا يأجوج ومأجوج، عراض الوجوه، صغار العيون، صهب الشعاف، من كل حدب ينسلون وكأن وجوههم المجان المطرقة " .
غريبة: في تاريخ شيخنا اليافعي رحمه الله تعالى، في حوادث سنة تسع وخمسمائة ذكر أن بعض الملوك قال له منجموه: إنه يموت في الساعة الفلانية في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني من سنة كذا من عقرب تلدغه، فلما كانت الساعة المذكورة تجرد من جميع ثيابه سوى ما يستر عورته، وركب فرساً بعد أن غسله ونظفه وسرح شعره، ودخل به البحر حذاراً مما ذكر له منجموه، فبينما هو كذلك عطست الفرس فخرج من أنفه عقرب فلدغته، فمات. فما أغناه الحذر عن القدر.
وعن معروف الكرخي قال: بلغنا أن ذا النون المصري، خرج ذات يوم يريد غسل ثيابه، فإذا هو بعقرب قد أقبل عليه، كأعظم ما يكون من الأشياء، قال: ففزع منها فزعاً شديداً، واستعاذ بالله منها فكفي شرها. فأقبلت حتى وافت النيل، فإذا هي بضفدع قد خرج من الماء فاحتملها على ظهره، وعبر بها إلى الجانب الآخر.
فقال ذو النون: فاتزرت بمئزري ونزلت في الماء، ولم أزل أرقبها إلى أن أتت إلى الجانب الآخر، فصعدت ثم سعت وأنا أتبعها إلى أن أتت شجرة كثيرة الأغصان، كثيرة الظل، وإذا بغلام أمرد أبيض نائم تحتها، وهو مخمور، فقلت: لا قوة إلا بالله، أتت العقرب من ذلك الجانب للذع هذا الفتى، فإذا أنا بتنين قد أقبل يريد قتل الفتى، فظفرت العقرب به ولزمت دماغه، حتى قتلته ورجعت إلى الماء. وعبرت على ظهر الضفدع إلى الجانب الآخر فأنشد ذو النون يقول:
يا راقداً والجليل يحفظه ... من كل سوء يكون في الظلم
كيف تنام العيون عن ملك ... تأتيك منه فوائد النعم
قال: فانتبه الفتى على كلام ذي النون، فأخبره الخبر فتاب ونزع لباس اللهو، ولبس أثواب السياحة وساح ومات على تلك الحالة رحمه الله تعالى.
واسم ذي النون ثوبان بن إبراهيم، وقيل: الفيض بن إبراهيم. ومن كلامه رحمه الله تعالى: حقيقة المحبة أن تحب ما أحبه الله، وتبغض ما أبغضه الله، وتطلب رضاه وترفض جميع ما يشغلك عنه، وأن لا تخاف فيه لومة لائم، وأن تعزل نفسك عن رؤيتها وتدبيرها. فإن أشد الحجاب رؤية النفس وتدبيرها. وقال رحمه الله: لا يزال العارف مادام في الدنيا، بين الفخر والفقر، فإذا ذكر الله افتخر، وإذا ذكر نفسه افتقر. وقال: ليس بذي لب من جد في أمر دنياه وتهاون في أمر آخرته، ولا من سفه في مواطن حلمه، ولا من تكبر في مواطن تواضعه، ولا من فقدت منه التقوى في مواطن طمعه، ولا من غضب من حق إن قيل له، ولا من زهد فيما يرغب العقلاء فيه، ولا من رغب فيما يزهد العقلاء فيه، ولا من طلب الإنصاف من غيره لنفسه، ولا من نسى الله تعالى في مواطن طاعته، وذكر الله في مواطن الحاجة إليه، ولا من جمع العلم ليعرف به ثم أثر عليه هواه بعد تعلمه، ولا من قل منه الحياء من الله تعالى، على جميل ستره، ولا من أغفل الشكر على إظهار نعمه، ولا من عجز عن مجاهدة عدوه، ولا من جعل مروأته لباسه، ولم يجعل أدبه درعه وتقواه لباسه، ولا من جعل علمه ومعرفته تظرفاً وتزيناً في مجلسه، ثم قال: استغفر الله العظيم، إن الكلام كثير وإن لم تقطعه لم ينقطع.
وحكى لي بعض أشياخي عن ذي النون أنه قال لبعض الرهبان: ما معنى المحبة؟ فقال: لا يطيق العبد حمل محبتين: من أحب الله لا يحب الأغيار، ومن أحب الأغيار لا يحب الله خالصاً، فتفكر في حالك من أي القبيلين أنت؟ قال: قلت: صف لي المحبة. فقال: المحبة عقل ذاهب، ودمع ساكب، ونوم طريد، وشوق شديد، والحبيب يفعل ما يريد. قال ذو النون: فعمل هذا الكلام معي، فعلمت أنه خرج من المعدن وأن الراهب مسلم. ثم فارقته فبينما أنا أطوف بالكعبة، وإذا بالراهب يطوف وقد نحل، فقال لي: يا أبا الفيض، تم الصلح وانفتح باب المؤانسة، ومن الله علي بالإسلام وحملني ما عجزت عنه السموات والأرض. قال ذو النون: حمل نفسه محبه الله تعالى التي عجزت عنها السموات والأرض، وصم الجبال، وحملها أجلاد الرجال بلطائف الأحوال. وأنشد يقول:
حبك يا سؤلي ويا منيتي ... قد أنحل الجسم وقد كده
لو أن ما في القلب من حبكم ... بالجندل الصلد لقد هده
ثم قال ذو النون: لا أحياء ولا أموات، ولا صحاة ولا سكرى، ولا مقيمون ولا ظاعنون، ولا مفيقون ولا صرعى، ولا أصحاء ولا مرضى، ولا منتبهون ولا نيام، فهم كأصحاب الكهف، في فجوة الكهف لا يدرون ما يفعل بهم، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال. قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي: ذو النون رحمه الله تعالى، أصله من النوبة وكان من أهل اخميم، فنزل مصر وسكنها، ويقال اسمه الفيض وذو النون لقب.
وقال الأمام أبو القاسم القشيري، في رسالته: كان ذو النون قد فاق أهل هذا الشأن، وصار واحد وقته علماً وورعاً وأدباً وحالاً، وكانت وفاته بالجيزة لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة ست وأربعين ومائتين. قال ابن خلكان: ودفن بالقرافة الصغرى.
وأما معروف فهو ابن قيس الكرخي، كان مشهوراً بإجابة الدعوة، وأهل بغداد يستسقون بقبره، ويقولون: قبر معروف ترياق مجرب. وكان سري السقطي تلميذه، وقيل لمعروف في مرض موته: أوص، فقال: إذا مت، فتصدقوا بقميصي فإني أريد أن أخرج من الدنيا عرياناً كما دخلتها عرياناً. ومر معروف رحمه الله تعالى يوماً بسقاء، وهو يقول: يرحم الله من يشرب، وكان صائماً قتقدم وشرب، فقيل له: ألم تكن صائماً؟ قال: بلى. ولكن رجوت دعاءه. توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثمائة.
وقال الزمخشري، في ربيع الأبرار: زعموا أن أرض حمص لا تعيش فيها العقارب، وزعم أهلها إن ذلك لطلسم هناك، قالوا: وإن طرحت فيها عقرب غريبة، ماتت من ساعتها. وحمص مدينة معروفة من مشارق الشام، لا تنصرف للعلمية والعجمة والتأنيث، وهي من المدن الفاضلة. وفي حديث ضعيف أنها من مدن الجنة. وكانت في أول الأمر أشهر بالفضل من دمشق. وذكر الثعلبي أنه نزلها سبعمائة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
فائدة: رقية العقرب جائزة، لما روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، قال: لدغت رجلاً عقرب ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله ارقيه؟ قال صلى الله عليه وسلم: " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل " . وفي رواية فجاء آل عمر بن حزم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا رسول الله، كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى، فقال صلى الله عليه وسلم: " اعرضوا علي رقاكم " ، فعرضوها عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما أرى بها بأساً، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه " . وفي رواية: " أعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شيء " . فالرقى جائزة بكتاب الله أو بذكره، ومنهي عنها إذا كانت بالفارسية أو بالعجمية، أو بما لا يدري معناه، لجواز أن يكون فيه كفر. واختلفوا في رقية أهل الكتاب، فجوزها أبو حنيفة، وكرهها مالك خوفاً أن لكون مما بدلوا.
فمن الرقى النافعة المجربة، أن يسأل الراقي الملدوغ إلى أين انتهى الوجع من العضو؟ ثم يضع على أعلاه حديدة، ويقرأ العزيمة ويكررها، وهو يجرد موضع الألم بالحديدة من فوق حتى ينتهي في جرد السم إلى أسفل الوجع، فإذا اجتمع في أسفله، جعل يمص ذلك الموضع حتى يذهب جميع الألم، ولا اعتبار بفتور العضو بعد ذلك. وهي هذه: سلام على نوح في العالمين، وعلى محمد في المرسلين، من حاملات السم أجمعين، لا دابة بين السماء والأرض إلا ربي آخذ بناصيتها أجمعين، كذلك يجزي عباده المحسنين، إن ربي على صراط مستقيم، نوح نوح قال لكم نوح: من ذكرني لا تأكلوه، إن ربي بكل شيء عليم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ورأيت بخط ابن الصلاح، في رحلته رقية للعقرب، قال: ذكر أن الإنسان يرقى بها فلا تلدغه عقرب، وإن أخذها بيده لا تلدغه، وإن لدغته لا تضره. وهي بسم الله وبالله وبسم جبريل وميكائيل كازم كازم ويزازم فتيز إلى مرن إلى مرن يشتامر ايشتامر اهوذا هوذاهى لمظا أنا الراقي والله الشافي.
صفة خاتم: نافع للسع العقرب، ولإفاقة المجنون وللرعاف، ولوجع العين، إذا كان من ريح باردة، ينقش على خاتم بلور أحمر هذه الأسماء: خطلسلسه كطوده دل صحوه أوسططا أبى ممه بيدهى سفاهه. فللعقرب يغمس في ماء نظيف، ويجعل في موضع اللسع، وللمجنون يديم النظر إلى الخاتم فإنه يفيق بإذن الله تعالى، وللرعاف يكتب على الجبهة، وللحمى يكتب على ورق الزيتون ويعلق، وللريح يجعل الخاتم في موضع الريح ويمسحه.
ومما يكتب للحمى أيضاً على ثلاث ورقات ويبخر بها المحموم: ا ا ا ط لا ا ا ط ط ا ا ا لح لوم الأولى الثانية الثالثه كو كو كو
وللحمى أيضاً يكتب على ثلاث ورقات، ويأكل كل يوم ورقة إذا حم. الأولى بسم الله نارت واستنارت، الثانية بسم الله في علم الغيب غارت، الثالثة بسم الله حول العرش دارت. ومما يكتب للرعاف أيضاً، وللنزيف لوطاً لوطاً لوطاً يكتب ثلاثة أسطر. وذكر صاحب عين الخواص: تكتب هذه الأسماء في ورقة، أو على طاسة اسبادرية صحيحة غير مشعوبة، أو قصعة جوز بلا شعب، ويكتب اسم أبيه وأمه، ويسقى للموعوك، وإن سقيت للملسوع أفاق لوقته وهي هذه: سارا سارا إلى سارا مالى يرن يرن إلى بامالو واصال باطوطو كالعوماراساب يا فارس ارددباب ها كانا مما أبين لها ناراً أناركاس متمرنا كاطن صلوبير ص صاروب اناوين ودى. هذا لملسوع الحية قالا:، وهو مما جرب، فوجد نافعاً وقد تقدم، في باب الحاء المهملة، في الحية ما يقرب من هذا. وقال بعض العلماء المتقدمين: من قال في أول الليل وأول النهار، عقدت زبان العقرب ولسان الحية ويد السارق، بقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله أمن من الحية والعقرب والسارق.
وروى مالك والجماعة، إلا البخاري، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك إن شاء الله تعالى " . وفي كامل ابن عدي، في ترجمة وهب بن راشد الرقي، أن الرجل المذكور بلال. وفي رواية للترمذي: من قال حين يمسي، ثلاث مرات: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضره حمة تلك الليلة. قال سهيل: فكان أهلنا يقولونها كل ليلة، فلدغت جارية منهم فلم تجد لها وجعاً. وقال: هذا حديث حسن.
كلمات الله القرآن. ومعنى تمامها أن لا يدخلها نقص ولا عيب، كما يدخل كلام الناس.
وقيل: هي النافعات الكافيات عن كل ما يتعوذ به. قال البيهقي: وإنما سماها تامة لأنه لا يجوز أن يكون في كلامه تعالى نقص أو عيب كما يكون في كلام الآدميين. قال: وبلغني عن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان يستدل بذلك على أن القرآن غير مخلوق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الهامة.
وذكر أبو عمر بن عبد البر في التمهيد، عن سعيد بن المسيب قال: بلغني أن من قال حين يمسي سلام على نوح في العالمين، لم تلدغه عقرب. وقال عمرو بن دينار: إن مما أخذ على العقرب، أن لا تضر أحداً قال في ليل أو نهار: سلام على نوح في العالمين.
وفي التمهيد، لابن عبد البر في ترجمة يحيى بن سعيد الأنصاري، في بلاغاته في الثاني عشر، قال ابن وهب وأخبرني ابن سمعان قال: سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون: إذا لدغ الإنسان، فنهشته حية أو لدغته عقرب، فليقرأ الملدوغ هذه الآية: " نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين " .
وقال الشيخ أبو القاسم القشيري، في تفسيره في بعض التفاسير: إن الحية والعقرب، أتتا نوحاً عليه الصلاة والسلام، فقالتا: احملنا، فقال نوح: لا أحملكما فإنكما سبب للبلاء والضرر، فقالتا: احملنا ونحن نعاهدك ونضمن لك أن لا نضر أحداً ذكرك، فعاهدهما وحملهما. فمن قرأ ممن كان يخاف مضرتهما حين يمسي وحين يصبح: " سلام على نوح في العالمين، إنا كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين " ما ضرتاه.
ثم روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن نوحاً عليه الصلاة والسلام اتخذ السفينة في سنتين. وكان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ذراعاً، وسمكها ثلاثين ذراعاً، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون: في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الثاني، وهو الأوسط، الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما احتاج إليه من الزاد.
وروينا عن الشيخ الإمام الحافظ فخر الدين عثمان بن محمد بن عثمان التوريزي، نزيل مكة المشرفة، أنه قال: كنت أقرأ بمكة الفرائض، على الشيخ تقي الدين الحوراني، فبينما نحن جلوس، وإذا بعقرب تمشي، فأخذها الشيخ بيده، وجعل يقلبها في يده، فوضعت الكتاب من يدي، فقال: اقرأ، فقلت: حتى أتعلم هذه الفائدة، فقال: هي عندك، قلت: ما هي؟ قال: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال حين يصبح وحين يمسي: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، لم يضره شيء وقد قلتها أول النهار " . ومما يدفع شر الحية والعقرب، أن يقرأ عند النوم ثلاث مرات: أعوذ برب أوصافه سمية من كل عقرب وحية، سلام على نوح في العالمين، إنا كذلك نجزي المحسنين، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
فائدة: يقال: لدغته العقرب تلدغه لدغاً وتلداغاً فهو ملدوغ ولديغ.
قال أبو داود الطيالسي، في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " : معناه أن المؤمن لا يعاقب على ذنبه في الدنيا، ثم يعاقب عليه في الآخرة. والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، هو أبو عزة الجمحي الشاعر، واسمه عمر ووقع في الأسر يوم بدر، ولم يكن معه مال، فقال: يا رسول الله إني ذو عيلة، فأطلقه لبناته الخمس، على أن لا يرجع للقتال. فرجع إلى مكة ومسح عارضيه، وقال: خدعت محمداً مرتين، ثم عاد عام أحد مع المشركين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تفلته " . فلم يقع في الأسر غيره، فقال: يا محمد إني ذو عيلة فأطلقني. فقال صلى الله عليه وسلم: " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " . وأمر بقتله. والحديث المذكور رواه الشافعي ومسلم وابن ماجه. وقوله لا يلدغ يروى بضمن الغين على الخبر، يعني أن المؤمن حازم لا يخدع مرة بعد مرة، ولا يفطن لذلك. وقيل: أراد به الخداع في أمر الآخرة دون أمر الدنيا. ويروى بكسر الغين نهياً، أي لا يؤتى من جهة الغفلة، وهذا يصح أن يتوجه إلى أمر الدنيا والآخرة أيضاً.
ويؤيد ما قاله أبو داود الطيالسي، ما رواه النسائي، في مسند علي، عن أبي سخيلة أنه سمع علياً رضي الله تعالى عنه يقول: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى؟ قالوا: بلى. قال: قوله تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " . قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي ما أصابك من بلاء، أو عقوبة، أو مرض في الدنيا، فبما كسبت يداك. والله أكرم من أن يثني على عبده في الآخرة العقوبة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله أكرم وأحلم من أن يعود بالعقوبة بعد عفوه انتهى. ولذلك قال الواحدي: إن هذه الآية أرجى آية في القرآن، لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين: صنف كفره بالمصائب، وصنف عفا عنه، وهو جل وعلا كريم لا يعود في عفوه.
فائدة أخرى: يقال: لسعته العقرب والحية تلسعه لسعاً فهو ملسوع وما أحسن قول الأول:
قالوا: حبيبك مسلوع، فقلت لهم: ... من عقرب الصدغ أم من حية الشعر
قالوا: بلى من أفاعي الأرض، قلت لهم: ... وكيف تسعى أفاعي الأرض للقمر
ويقال في الحية: عضت تعض، ونهشت تنهش، ونشطت تنشط، ونكزت بأنفها تنكز. وأنشدني شيخنا الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الأسنوى قال: أنشدنا شيخنا الشيخ أثير الدين أبو حيان قال: أنشدنا الحافظ رضي الدين أبو عبد الله الشاطبي قال: أنشدنا أبو الربيع سليمان بن سالم الناقد قال: أنشدنا أبو عبد الله بن رافع القيسي قال: أنشدنا أبو القاسم بن حبيش قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن الفراء الضرير الخطيب بقصبة المرية لنفسه:
يا حسنا مالك لم تحسن ... إلى نفوس في الهوى متعبه
رقمت بالورد وبالسوسن ... صفحة خد بالسنا مذهبه
وقد أبى صدغك إن أجتنى ... منه وقد ألدغني عقربه
يا حسنه إذ قال: ما أحسني ... ويا لذاك اللفظ ما أعذبه
قلت له: كلك عندي سنا ... وكل ألفاظك مستعذبه
ففوق السهم ولم يخطني ... ومذ رآني ميتاً أعجبه
وقال كم عاش وكم حبني ... وحبه إياي قد أتعبه
يرحمه الله على أنني ... قتلي له لم أدر ما أوجبه
قال الحريري في درة الغواص: السوسن بفتح السين، وقد أذكرني السوسن أبياتاً أنشدنيها علي بن عبد العزيز الأديب المغربي، لأبي بكر بن القوطية الأندلسي، يصف فيها الورد والسوسن، مما أبدع فيه وأحسن فأوردتها على وجه التسديد لسمط هذا الفصل، والتأسي بمن درج من أهل الفضل وهي:
قم فاسقنيها على الورد الذي نعما ... وباكر السوسن الغض الذي نجما
كأنما ارتضعا خلفي سماءهما ... فأرضعت لبنا هذا وذاك دما
جسمان قد كفر الكافور ذاك وقد ... عق العقيق احمراراً ذا وما ظلما
كان ذا طلية نصت لمعترض ... وذاك خد غداة البين قد لطما
أولا فذاك أنابيب اللجين وذا ... جمر الغضى حركته الريح فاضطرما
وقالت العرب: قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعاً من الزنبور، فإذا هو هي. وقالوا أيضاً: فإذا هو إياها، وهذا الوجه هو الذي أنكره سيبويه، لما سأله الكسائي، بحضرة يحيى بن خالد البرمكي، فقال له الكسائي: إن العرب ترفع كل ذلك وتنصبه، فقال له يحيى: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد سمع منهم أهل البلدين، فيحضرون ويسألون، فأحضروا وسئلوا فوافقوا الكسائي. فأمر يحيى لسيبويه بعشرة آلاف درهم. ورحل سيبويه من فوره إلى بلاد فارس فأقام بها حتى مات في سنة ثمانين ومائة، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، وقيل اثنتان وثلاثون سنة.
ويقال: إن العرب علموا منزلة الكسائي عند الرشيد، فقالوا: القول قول الكسائي، ولم ينطقوا بالنصب وإن سيبويه قال ليحيى: مرهم أن ينطقوا بذلك، فإن ألسنتهم لا تطاوعهم على النطق به. وقد أشار إلى ذلك حازم في منظومته بقوله:
والعرب قد تحذف الأخبار بعد إذا ... إذا عنت فجأة الأمر الذي دهما
وربما نصبوا بالحال بعد إذا ... وربما رفعوا من بعدها ربما
فإن توالى ضميران اكتسى بهما ... وجه الحقيقة من أشكاله عمما
لذلك أعيت على الأفهام مسألة ... أهدت إلى سيبويه الحتف والغمما
قد كانت العقرب العرجاء أحسبها ... قدما أشد من الزنبور وقع حما
وفي الجواب عليها هل إذا هو هي ... أو هل إذا هو إياها قد اختصما
فخطأ ابن زياد وابن حمزة في ... ما قال فيها أبا بشر وقد ظلما
وغاظ عمرا علي في حكومته ... يا ليته لم يكن في أمره حكما
كغيظ عمرو علياً في حكومته ... يا ليته لم يكن في أمره حكما
وفجع ابن زياد كل منتخب ... من أهله إذا غدا منه يفيض دما
وأصبحت بعده الأنفاس باكية ... في كل طرس كدمع سح وانسجما
وليس يخلو امرؤ من حاسد أضم ... لولا التنافس في الدنيا لما أضما
والغبن في العلم أشجى محنة علمت ... وأترح الناس شجواً عالم هضما
الحكم: يحرم أكل العقرب وبيعها، وتقتل في الحل والحرم، وإذا ماتت في مائع نجسته على المشهور. وقيل: لا تنجسه كالوزغة. ونقل الخطابي عن يحيى بن أبي كثير، أن العقرب إذا ماتت في الماء نجسته، ثم قال: وعامة أهل العلم على خلافه.
الأمثال: قال الشاعر:
ومن لم يكن عقرباً يتقى ... مشت بين أثوابه العقرب
وقالوا: في النصح لسع العقارب وقالوا: أعدى من العقرب، وهو من العداوة.
وقالوا: العقرب تلدغ وتصي يضرب للظالم في صفة المتظلم. وقالوا: تحككت العقرب بالأفعى يضرب لمن ينازع أو يخاصم من هو أكثر منه شراً. يقال: تحكك به، إذا تعرض لشره، وقولهم: أتجر من عقرب وأمطل من عقرب. هو اسم تاجر كان بالمدينة، وكان من أكثر الناس تجارة، وأشدهم تسويفاً، حتى ضربوا بمطله المثل. فاتفق أن الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب، وكان من أشد الناس اقتضاء، عامله، فقال الناس: ننظر الآن ما يصنعان، فلما جاء المال لزم الفضل باب عقرب، وشد حماره ببابه، وقعد يقرأ القرآن، فأقام عقرب على المطل غير مكترث به، فعدل الفضل عن ملازمة بابه إلى هجاء عرضه، فمما سار عنه قوله فيه:
كل عدو كيده في استه ... فغيره ليس الأذى ضائره
قد تجرت في سوقنا عقرب ... لا مرحباً بالعقرب التاجره
كل عدو يتقى مقبلا ... وعقرب يخشى من الدابره
إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضره
وقد أذكرني قوله: إن عادت العقرب عدنا لها البيت، ما حكاه الشيخ كمال الدين الأدفوي، في كتابه الطالع السعيد أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، كان في صباه يلعب الشطرنج مع زوج أخته الشيخ تقي الدين بن الشيخ ضياء الدين، فأذن بالعشاء فقاما فصليا، ثم قال الشيخ تقي الدين بن عقيق العيد: أما تعود؟ فقال صهره:
إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضره
فأنف الشيخ تقي الدين من ذلك فلم يعد يلعبها إلى أن مات.
فائدة: قال ابن خلكان، في ترجمة أبي بكر الصولي الكاتب المشهور، أنه كان أوحد أهل زمانه في لعب الشطرنج، والناس إلى الآن، يضربون المثل به في ذلك. وزعم كثير من الناس أنه الذي وضع الشطرنج، وهو غلط، وواضعه رجل يقال له صصة، بصادين مهملتين، الأولى مكسورة والثانية مفتوحة مشددة وضعه لملك الهند شهرام بكسر الشين المعجمة، وكان أردشير بن بابك، أول ملوك الفرس المؤرخة به، قد وضع النرد، ولذلك قيل له النردشير، نسبوه إلى واضعه المذكور، وجعله مثالا للدنيا وأهلها. فجعل الرقعة اثني عشر بيتاً بعدد شهور السنة، وجعل القطع ثلاثين قطعة بعدد أيام الشهر، وجعل الفصوص مثل القضاء والقدر وتقلبه في الدنيا، فافتخرت الفرس بوضع النرد، فوضع صصة الهندي الحكيم الشطرنج، لملك الهند، فقضت حكماء ذلك العصر بترجيح الشطرنج على النرد. وأردشير بالراء المهملة، وقيل بالزاي، هو الذي أباد ملوك الطوائف، ومهد لنفسه الملك. وهو جد ملوك الفرس الذين أخرجهم يذدجرد بكسر الجيم. وانقرض ملكهم في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة انتهى.
والصواب أن الملك الذي وضع له الشطرنح بلهيت، كما قاله شيخنا اليافعي وغيره، وأنه لما قدمه للملك وأراه طريقة اللعب به، أعجب الملك إعجاباً عظيماً، وقال له: تمن علي فقال: أتمنى عليك أيها الملك أن يوضع درهم في أود بيوت الرقعة، ويضاعف إلى آخرها، فقال له الملك: ما هذا القدر أفسدت علينا ما صنعت! فقال الوزير: مهلا أيها الملك، فإن خزائنك وخزائن ملوك أهل الأرض تنفددون ذلك! وقد أغفل ابن خلكان من وصف النرد أشياء منها: أن الاثني عشر بيتاً التي في الرقعة مقسومة أربعة، على عدد فصول السنة، ومنها أن الثلاثين قطعة بيض وسود كالأيام والليالي. ومنها أن الفصوص مسدسة، إشارة إلى أن الجهات مست لا سابع لها. ومنها أن ما فوق الفصوص وتحتها كيفما وقعت سبع نقط عدد الأفلاك، وعدد الأرضين، وعدد السموات، وعدد الكواكب السيارة. ومنها أنه جعل تصرف اللاعب في تلك الأعداد لاختياره وحسن التدبير بعقله. كما يرزق العاقل شيئاً قليلا فيحسن التدبير فيه، ويرزق المفرط شيئاً كثيراً فلا يحسن التصرف فيه، فالنرد جامع لحكم القضاء والقدر وحسن التصرف لاختيار لاعبه، والشطرنج مفوض لاختيار اللاعب وعقله وتصرفه، والجيد أو الرديء. وتفضيل الشطرنج على النرد فيه نظر.
والسطرنج بكسر السين المهملة على وزن جردحل، وهو الضخم من الإبل وقد جوز في الشطرنج أن مقال بالشين المعجمة، لجواز اشتقاقه من المشاطرة وأن يقال بالسين المهملة لجواز أن اشتق من التسطير، عند التعبية قاله في درة الغواص. ومما قيل في الشطرنج:
وخيل قد رأيت إزاء خيل ... يسقى بها كأكياس الرياح
بميمنة وميسرة وقلب ... كتعبية الكتائب للبطاح
إذا ما قتلوا نشروا وعادوا ... صحاحاً لم يصابوا بالجراح
بغير عداوة كانت قديماً ... ولكن للتلذذ والمزاح
إشارة: لعب الشطرنج مكروه كراهة تنزيه، وقيل: حرام، وقيل: مباح، والأول أصح. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: إنه حرام. ووافقهم من أصحابنا الحليمي والروياني. وروى البيهقي أن محمد بن سيرين، وهشام بن عروة بن الزبير، وبهز بن حكيم، والشعبي وسعيد بن جبير، كانوا يلعبون بالشطرنج، وقال الشافعي: كان سعيد بن جبير يلعب بالسطرنج استدباراً من وراء ظهره. وروى الصعلوكي تجويزه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وأبي اليسر وأبي هريرة والحسن البصري والقاسم بن محمد وأبي قلابة وأبي مجلز وعطاء والزهري وربيعة بن عبد الرحمن وأبي الزناد رحمهم الله تعالى. والمروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه من اللعب به، مشهور في كتب الفقه.
وروى الصولي في جزء، قد جمعه في الشطرنج، أن أبا هريرة وعلي بن الحسين زين العابدين وسعيد بن المسيب ومحمد بن المنكدر والأعمش وناجية وعكرمة وأبا إسحاق السبيعي، وإبراهيم بن سعد وإبراهيم بن طلحة بن عبد الله بن معمر، كانوا يلعبون بالشطرنج. وقد ذكرت الأسانيد عن هؤلاء، وتكلمت على أدلة المخالفين، بكلام يشفي النفس، ويذهب اللبس، في جزء أفردته في الشطرنج والشد، نحو عشرين كراسة، فاعلم ذلك والله تعالى أعلم.
قال أصحابنا: ولأن الشطرنج فيها تدبير الحروب، فأشبهت اللعب بالحراب ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي صحيح عن اللعب به، وأقوى ما يحتج به القائلون بالتحريم، ما روي عن ابن عمر أنه سئل عن الشطرنج، فقال: هي شر من النرد. قالوا: والنرد حرام. فيكون الشطرنج كذلك. قال الإمام تاج الدين السبكي، في الجواب عن هذا الأثر: إنا لا نعلم مذهب ابن عمر في النرد، ولعله كان يقول بحله. وهو وجه لأصحابنا ولا يلزم حينئذ من كون الشطرنج شراً من الحلال، باعتبار ما أن يكون حراماً. وأيضاً فإن المسألة مسألة اجتهادية. ولعل ابن عمر كان يذهب إلى التحريم، ورأي الشافعي معروف.
وعلى قول من قال: إن قول الصحابي حجة يشترط فيه أن لا يعارضه قول صحابي آخر، وهذا قد عارضه قول جماعة من الصحابة بالجواز، وأيضاً هذا الأثر لم يقل بظاهره أحد من العلماء، وذلك أن ظاهره أن الشطرنج شر من النرد، سواء اشتمل على عوض أم لا، وبعض العلماء قال: إن الشطرنج شر من النرد، لكن شرط فيه أن يكون مشتملا على عوض، وأما إذا لم يكن مشتملا على عوض، فلم نعلم أن أحداً من العلماء قال إنه في هذه الحالة شر من النرد. وإذا كان الأثر مردود الظاهر بالإجماع، سقط الاحتجاج به انتهى.
وروى الآجري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بالأزلام الشطرنج والنرد فلا تسملوا عليهم " . هذا حديث ضعيف، لأن في سنده سليمان اليماني، وقد قال ابن معين فيه: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث، فلا تحل الرواية عنه. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: هو منكر الحديث، لا أعلم له حديثاً صحيحاً انتهى. فأما إذا انضم إليه اشتغال عن صلاة أو غيرها، فالتحريم إذ ذاك ليس للشطرنج نفسه، وهو مكروه إذا لم يواظب عليه، فإن واظب عليه فإنه يصير صغيرة، كما ذكره الغزالي في كتاب التوبة من الإحياء. لكن ذكر ابن الصباغ، في الشامل خلافه. وأما النرد فحرام على الأصح، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله " . ولقوله صلى الله عليه وسلم: " مثل الذي يلعب النرد ثم يقوم فيصلي، مثل الذي يتوضأ بالقيح ولحم الخنزير ثم يقوم فيصلي " . ومن محاسن شعر الإمام العلامة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى في التشبيه:
حلت عقارب صدغه من خده ... قمراً يجل به عن التشبيه
ولقد عهدناه يحل ببرجها ... ومن العجائب كيف حلت فيه
وقد تقدم ذكر وفاته، وطرف من أخباره في باب الحاء المهملة في الحمام. وقد أجاد أبو المحاسن يوسف بن الشواء في وصف غلام أرسل أحد صدغيه وعقد الآخر فقال:
أرسل صدغاً ولوى قاتلي ... صدغاً فأعيا بهما واصفه
فخلت ذا في خده حية ... تسعى وهذا عقرباً واقفه
ذا ألف ليست لوصل وذا ... واو ولكن ليست العاطفه
ومن محاسن شعره رحمه الله أيضاً:
قالوا: حبيبك قد تضوع نشره ... حتى غدا منه الفضاء معطرا
فأجبتهم والخال يعلو خده ... أو ما ترى النيران تحرق عنبرا
الخواص: قال صاحب عين الخواص: العقرب إذا رأت الوزغة ماتت ويبست من ساعتها. وقيل: إن العقرب إذا أحرقت ودخن بها البيت، هربت العقارب منه، وإذا طبخت بزيت ووضع على لدغ العقارب سكن الوجع، ورماد العقارب يفتت الحصى. وإن أخذت عقرب وقد بقي من الشهر ثلاثة أيام، وجعلت في إناء، وصب عليها رطل زيت، وسد رأس الإناء، وترك حتى يأخذ الزيت قوتها، ثم ادهن به من به وجع الظهر والفخذين، فإنه ينفعه ويقويه. وإن شرب بزر الخس بشراب أمن شاربه من لسع العقارب، وإن طرحت قطعة من فجل، على قدر لم يدب عليها عقرب إلا ماتت من وقتها. وإذا ديف ورق الخس بدهن، وطلي به على لسعة العقرب أبرأها، وإن طبخت العقرب بسمن البقر، وطلي به موضع لسعتها سكنها من وقته. وقال ابن السويدي: إذا وضعت العقرب في إناء فخار، وسد رأسه، ثم وضع في تنور إلى أن تصير رماداً وسقي من ذلك الرماد من به الحصى نفعه وفتتها. وإذا بخر البيت بعقرب اجتمعت فيه العقارب، كذا قال أرسطو، وقال غيره: تهرب منه العقارب. وإذا غرزت شوكة العقرب في ثوب إنسان، لم يزل سقيماً حتى تزول منه. وإن دقت العقارب وألصقت على لسعتها أبرأتها. وإن وقعت في ماء وشرب منه إنسان وهو لا يعلم، امتلأ جسده قروحاً. وإن بخر البيت بزرنيخ أحمر وشحم البقر هربت منه العقارب.
وقال القزويني والرافعي: من شرب مثقالين من حب الأترج، بعد دقه ناعماً، أبرأ ذلك من لسعة العقرب والحية وغيرهما من ذوات السموم، وهو عجيب مجرب. وفي عجائب المخلوقات، أنه إذا علق شيء من عروق شجرة الزيتون، على من لسعته العقرب برئ من وقته، وشجر الرمان إذا بخر بحطبه طردها، وشحم الماعز والسمن البقري والزرنيخ الأصفر، وحافر الحمار، والكبريت، ورش البيت بالماء المنقوع فيه الحلتيت، ووضع قشور الفجل في البيت، كل ذلك يطردها وهو عجيب أيضاً مجرب. ذكر ذلك في المنتخب، وفي الموجز الفجل المشدوخ وعصارته، إذا أمسكت وورقه والباذروج يطردها، وإن وضع الفجل المقطوع على جحرها لم تجرأ على الخروج، وفيها أن تفل الصائم يقتل الحيات والعقارب.
وفي المنتخب أن تفل الحار المزاج، يفعل مثل ذلك، ورؤية السها تؤمن من لسعة العقرب والسارقي، وقد ذكر ذلك الرئيس أبو علي بن سينا في أرجوزته. وقيل: إنها لابن شيخ حطين، وهي تشتمل على خواص مجربة وأسرار من علم الطب فلنأت بها بكمالها لتتم الفائدة وهي هذه: بدأت بسم الله في نظم حسن أذكر ما جربت في طول الزمن
ما هو بالطبع وبالخواص ... لكل عائم ولكل خاص
في شوكة العقرب نجم توأم ... تراه عين من يراه يعلم
إذا تراآه امرآن اصطحبا ... واتفقا وذا وذا تحابيا
لا سيما إن قيل ذا محبب ... بعض لبعض كوكبان كوكب
وتوأم نجمان في سعد بلع ... رؤيته لكل ود قد جمع
ومثله أيضاً لسعد الذابح ... رؤيته لكل ود صالح
تخبر من شئت به فيعجب ... ثم يقول كوكبان كوكب
فينشأ الود بإذن الله ... بينهما فلا تكن باللاهي
كف الخضيب فرقة إلى الأبد ... لكائن من كان من كل أحد
ينظره الإنسان أو جماعه ... يفترقوا إلى قيام الساعه
نجم السها مأمنة من سارق ... ومن سموم عقرب وطارق
ومن رأى عشية نجم السها ... لم تدن منه عقرب يمسها
وقيل لا يدنو إليه سارق ... في سفر ولا بسوء طارق
الطخ على الحزاز دهن القمح ... مع وسخ الأسنان بعد المسح
فإنه يذهب منها سعيها ... كالنار فيها ثم يوري نقيها
أكو رؤوس كل ثؤلول يرى ... بعودتين قد حرقت أخضرا
ومثله رؤوس قش الحلبه ... تذهب بالثؤلول منه الرعبه
تخطيطك الأظفار بعد الصبح ... بكزلك عرضا مزيل القلح
وطبقك الأضراس في التثاؤب ... يمنع من هذا لذي التجارب
أعني عروض القلح إن تقرحت ... كذاك إن تحفرت واصطلمت
يغرغر العليل ذو الخناق ... بمرق الضبار كالترياق
لا سيما إن شابه كشوث ... لذي الخلاط نفعه موروث
ابلع من الصابون رزن درهم ... تنج من القولنج غير المحكم
وامسح على الأضراس والأسنان ... لو كالها بطرف اللسان
وقد حرمت الأكل من لحم الفرس ... شهراً ولا من هندبا تبغي الحرس
وذاك عند رؤية الهلال ... فتأمن الأضراس من أعلال
كذاك في كل هلال يجتلى ... فإنها مأمنة من البلا
لا تغسلن ثيابك الكتانا ... ولا تصد فيها كذا حيتانا
عند اجتماع النيرين تبلى ... وفي السرار فاتخذه أصلا
اتخذ البرمة من زجاج ... من غير تلوين ولا علافي
والنار جزل إن تشا أو فحم ... ينضج فيها اللحم ثم الشحم
وكرر الطبخ بها أياماً ... وأشهراً إن شئت أو أعواما
وذاك سهل ليس بالعسير ... من غير تقتير ولا تكثير
وتتخذ كحلا جديداً محرقا ... منعماً مصولا مروقاً
ومثله من حجر الهنود ... ذي الخاصة الجاذبة الحديد
مطيباً بالمسك طيب الإثمد ... وأكحل به من شئت فرد مردود
ثم اكتحل منه على مر المدى ... لأنه لم يتخذ كحلا سدى
واكحل المحبوب بالحديد ... يهواك في الوقت بلا مزيد
فيسحر العينين منه فيرى ... وجهك شمساً باهياً أو قمرا
ولا يكاد يستطيع صبراً ... عنك ولو حرقت منه الصحرا
نشادر الدخان بالحمام ... ينضحه الفخار من مسام
فريحه يقتل الأفاعي ... من الهوام والدبيب الساعي
ووزن مثقال إذا ما شربا ... مع وزنه من الرجيع انتخبا
يخلص المسموم من مماته ... من بعد يأس الأمر من حياته
هذا إذا دبر بالإتقان ... بالسحق والترويق في الأواني
وكل ما جاد بسحق فاعتبر ... وفيه يا هذا تفهم واختبر
مرارة الحية سم قاتل ... وهي لملدوغ بها تقابل
إذا سقي المسموم منها حبه ... نجا من السم بتلك الشربه
وإن سقي منها صحيح ماتا ... من يومه وفارق الحياتا
التعبير: العقرب في المنام رجل نمام، فمن نازعته عقرب فإنه ينازع رجلا نماماً، ومن أخذ عقرباً في منامه، فألقاها على زوجته، فإنه يأتيها في الدبر، وإن سيبها على الناس فإنه رجل لوطي، ومن قتل عقرباً خرج منه مال وعاد إليه، والعقرب في السروايل رجل فاسق، يداخل امرأة من ورائها في سروايله، ومن أكل لحم عقرب مطبوخاً، فإنه يرث مالا، وإن كان نيئاً اغتاب رجلا فاسقاً، وكذلك كل حيوان لا يؤكل إذا أكل لحمه في المنام، والعقرب رجل يظهر ما في بطنه لسانه، والعقارب في البطن أولاد أعداء، ونزول العقرب من الدبر ولد عاق، وربما دلت رؤية العقرب على الافتتان، بمن يشبه العقرب بصدغه إذا بدا فيه الشعر، والله تعالى أعلم.
العقريان: دوببة تدخل الأذن، وهي هذه الطويلة الصفراء الكثيرة القوائم، قاله ابن سيده.
العقف: الثعلب. قال حميد بن ثور الهلالي:
كأنه عقف تولى يهرب ... من أكلب تعقفهن أكلب
يقال: عقفت الشيء فانعقف، أي عطفته فانعطف.
العقعق: كثعلب ويسمى كندشاً بالشين المعجمة، وصوته العقعقة وهو طائر على قدر الحمامة، وهو على شكل الغراب وجناحاه أكبر من جناحي الحمامة، وهو ذو لونين أبيض وأسود طويل الذنب، ويقال له القعقع أيضاً. وهو لا يأوي تحت سقف ولا يستظل به بل يهيء وكره في المواضع المشرفة، وفي طبعه الزنا والخيانة، ويوصف بالسرقة والخبث والعرب تضرب به المثل في جميع ذلك، وإذا باضت الأنثى أخفت بيضها بورق الدلب خوفاً من الخفاش، فإنه متى قرب من البيض مذر وفسد وتغير من ساعته.
حكى الزمخشري وغيره في تفسير قوله تعالى: " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزفها " عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس شيء من الحيوان يخبأ قوته إلا الإنسان والنمل والفأر والعقعق. وعن بعضهم أنه قال: رأيت البلبل يحتكر، ويقال إن للعقعق مخابئ، إلا أنه ينساها. وفي طبعه شدة الاختطاف لما يراه من الحلي. فكم من عقد ثمين اختطفه من شمال ويمين قال الشاعر:
إذا بارك الله في طائر ... فلا بارك الله في العقعق
قصير الذنابي طويل الجناح ... متى ما يجد غفلة يسرق
يقلب عينيه في رأسه ... كأنهما قطرتا زئبق
فائدة: اختلفوا في سبب تسميته عقعقاً فقال الجاحظ: لأنه يعق فراخه فيتركهم بلا طعام، وبهذا يظهر أنه نوع من الغربان، لأن جميعها يفعل ذلك. وقيل: اشتق له هذا الاسم من صوته. الحكم: في حله وجهان: أحدهما يؤكل كغراب الزرع، والثاني يحرم وهو الأصح في الروضة تبعاً للبغوي والبوسنجي. وسئل الإمام أحمد عنه فقال: إن لم يأكل الجيف فلا بأس به. وقال بعض الصحابة: إنه يأكلها فيكون على قوله محرماً.
فائدة: حكى الجوهري أن العرب تتشاءم به وبصياحه، لأنهم كانوا يشتقون في الطيرة مما يسمعون ويشاهدون، فكانوا إذا سمعوا العقعق اشتقوا منه العقوق، وإذا سمعوا العقاب اشتقوا منه العقوبة، وإذا رأوا شجر الخلاف، وهو الصفصاف، اشتقوا منه الخلاف. والخلاف بتخفيف اللام ضد الوفاق، وكذلك الخلاف الذي هو الصفصاف، بتخفيف اللام أيضاً. وحكى الرافعي الخلاف عن الحنفية، فيمن خرج لسفر فسمع صوت عقعق فرجع، هل يكفر أم لا؟ قيل: إنه يكفر، وكذلك رأيته في فتاوى قاضي خان. قال النووي: الصحيح أنه لا يكفر عندنا بمجرد ذلك.
الأمثال: قالوا: ألص من عقعق وأحمق من عقعق لأنه كالنعامة التي تضيع بيضها وأفراخها وتشتغل ببيض غيرها وإياها عنى هدبة بقوله:
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
الخواص: إذا جعل دماغه على قطنة، وألصق على موضع النصل، أو الشوكة الغائصين في البدن، أخرجهما بسهولة. ولحمه حار يابس رديء الكيموس.
التعبير: العقعق في الرؤيا رجل لا أمان له ولا وفاء، ومن رأى أنه كلمه عقعق جاءه خبر من غائب، والعقعق رجل حكار يطلب الغلاء والله أعلم.
العقيب: طائر، لا يستعمل إلا مصغراً.
العكاش: كرمان ذكر العنكبوت عن كراع.
العكرشة: بكسر العين والراء المهملتين وبالشين المعجمة في آخره، الأرنب الأنثى. وفي الحديث، أن رجلا سأل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال: عنت لي عكرشة، وأنا محرم، فقتلتها، فقال: فيها جفرة.
العكرمة: بكسر العين والراء المهملتين الأنثى الحمام، وسمي بها الإنسان أيضاً، كعكرمة مولى ابن عباس، أحد أوعية العلم، ولما مات مولاه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، كان عكرمة رقيقاً لم يعتقه، فباعه ولده علي بن عبد الله بن عباس لخالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فقال عكرمة لعلي: بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار! فاستقال خالداً فأقاله ثم أعتقه. مات عكرمة وكثير عزة الشاعر في يوم واحد بالمدينة سنة خمس ومائة، وصلي عليهما في مكان واحد. فقال الناس: مات اليوم أعلم الناس وأشعر الناس رحمهما الله تعالى.
قال ابن خلكان وغيره: وكثير عزة أحد شعراء العرب ومتيميها، وكان كيسانياً والكيسانية فرقة من الروافض يعتقدون إمامة محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وهو المعروف بمحمد ابن الحنفية. ويقولون: إنه مقيم بجبل رضوى، ومعه أربعون نفراً من أصحابه ولم يوقف لهم على خبر، ويقولون: إنهم أحياء يرزقون، وإنه سيرجع إلى الدنيا ويملؤها عدلا وفي ذلك يقول كثير عزة:
وسبط لا يذوق الموت حتى ... تعود الخيل يقدمها اللواء
يغيب فلا يرى فيهم زماناً ... برضوى عنده عسل وماء
قلت: الصواب أنهما للحميري. قال: وكانت وفاة محمد بن الحنفية سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين من الهجرة والله تعالى أعلم.
العلج: بكسر العين وإسكان اللام، حمار الوحش السمين القوي، والرجل من كفار العجم، والجمع علوج وأعلاج ومعلوجاء وعلجة.
العل: بالفتح القراد المهزول.
العلجوم: بضم العين وسكون اللام وضم الجيم الضفدع الذكر، وقيل: البطة الذكر كذا حكاه ابن سيده.
العلام: بضم العين وتشديد اللام وبالميم في آخره الباشق.
العلوش: بكسر العين وفتح اللام المشددة على وزن سنور: ابن آوى والذئب ودويبة وضرب من السباع. قال ابن رشيق في كتاب الغرائب والشذوذ: قال الخليل: ليس في كلام العرب كلمة تجتمع فيها شين ولام إلا والشين قبل اللام إلا العلوش، فإن اللام فيه تقدمت على الشين وهو مفرد في الكلام.
العلهان: كالكروان: الظليم وقد مر.
العلس: محركة القراد الضخم، لأنه أول ما يكون قمقامة ثم يصير حمنانة ثم حلمة ثم علسا. ومن الألغاز القديمة أيجب في العلس زكاة، إذا بلغ خمسة أوسق أو أكثر منها؟ قال: لا وإذا علم بذلك الساعي أعرض عنها.
العلامات: قال ابن عطية: حدثني أبي، رحمه الله تعالى، أنه سمع بعض أهل العلم بالمشرق يقول: إن في بحر الهند حيتاناً طوالا رقاقاً كالحيات في ألوانها وحركتها، وأنها تسمى العلامات، وذلك أنها علامات الوصول إلى بلاد الهند، وإمارات النجاة من المهالك، لطول ذلك البحر وصعوبته، وأن بعض الناس قال: إنها المراد بقوله تعالى: " وعلامات وبالنجم هم يهتدون " قال: وأما من شاهد تلك العلامات في البحر، فحدثني منهم عدد كثير. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: العلامات معالم الطرق بالنهار، والنجوم هداية بالليل. وقال الكلبي: هي الجبال. وقال مجاهد والنخعي: هي النجوم منها ما يسمى علامات ومنها ما يهتدى به.
العلهز: بكسر العين وإسكان اللام وكسر الهاء قبل الزاي: القراد الضخم، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام، لما دعا على قريش بقوله : " اللهم اجعلها عليهم سنيناً كسني يوسف " ، أكلوا العلهز. وقيل: المراد به الوبر المخلوط. بالدم.
العلعل: كهدهد الذكر من القنابر.
العلق: بفتح العين واللام دود أسود وأحمر، يكون بالماء يعلق بالبدن ويمص الدم، وهو من أدوية الحلق والأورام الدموية، لامتصاصه الدم الغالب على الإنسان. الواحدة علقة، وفي حديث عامر خير اللواء العلق والحجامة،. والعليق الشجرة التي آنس موسى عليه الصلاة والسلام منها النار، قاله ابن سيده. وقيل: إنها العوسج، والعوسج، إذا عظم، قيل له الغرقد. وفي الحديث أنه شجر اليهود، فلا ينطق، يعني إذا نزل عيسى عليه السلام، وقتل اليهود فلا يختبئ أحد منهم خلف شجرة، إلا نطقت وقالت: يا مسلم هذا يهودي خلفي فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجرهم فلا ينطق.
فائدة: ذكر الثعلبي في تفسير قوله تعالى: " أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين، يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم " . عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن البصري يعني قدس من في النار، وهو الله سبحانه وتعالى عنى به نفسه. قال: وتأويل هذا القول إنه كان فيها لا على سبيل تمكن الأجسام، بل على أنه جل وعلا ناس موسى عليه الصلاة والسلام، وأسمعه كلامه من جهتها وأظهر له ربوبيته من ناحيتها، فالشجرة مظهر لكلامه تعالى. وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران، فمجيئه من سيناء بعثه موسى عليه السلام منها، وإشراقه من ساعير بعثه عيسى عليه السلام منه، واستعلانه من جبال فاران بعثه المصطفى صلى الله عليه وسلم منها.
وفاران مكة المشرفة، وقيل: كانت النار نوره عز وجل. وإنما ذكره بلفظ النار لأن موسى عليه السلام حسبه ناراً، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. وقال سعيد بن جبير: كانت هي النار بعينها وهي أحد حجبه تعالى. وقيل: بورك من في النار سلطانه وقدرته، وفيمن حولها، وتأويلي هذا القول، إنه عائد إلى موسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام. ومجاز الآية أن بورك من في طلب النار وقصدها، وبالقرب منها.
ومعنى الآية أن بورك فيك يا موسى، وفي الملائكة الذين حول النار، وهذه تحية من الله عز وجل لموسى عليه السلام، وتكرمة له. كما حيا إبراهيم عليه السلام، على ألسنة الملائكة، حين دخلوا عليه، فقالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، فحمد نفسه تعالى بواسطة فعله. قلت: وكذلك إذا ذكر العبد ربه أو حمده فما ذكر الله إلا الله، ولا حمد الله إلا الله، لأنه تعالى ذكر نفسه وحمدها، بواسطة فعله. والعبد آلة ليس له شيء. قال تعالى: " ليس لك من الأمر شيء " وقال تعالى: " وإليه يرجع الأمر كله " ، ففعل العبد ينسب إلى الله خلق وإيجاد. قال تعالى: " والله خلقكم وما تعملون " وينسب إلى العبد نسبة كسب وإسناد ليعاقب عليه أو يثاب، والله تعالى أعلم. وقال بعضهم: هذه البركة راجعة إلى النار نفسها.
وأما وجه قوله تعالى: " بورك من في النار " ، فإن العرب تقول بارك الله لك وبارك فيك وبارك عليك وباركك، أربع لغات. قال الشاعر:
فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً ... وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
وأما الكلام المسموع من الشجرة، فاعلم أن مذهب أهل الحق، أن الله تعالى مستغن عن الحد والكلام والمكان والجهة والزمان، لأن ذلك من إمارات الحدوث، وهي خلقه وملكه، وهو سبحانه أجل وأعظم من أن يوصف بالجهات، أو يحد بالصفات، أو تحصيه الأوقات، أو تحويه الأماكن والأقطار، ولما كان جل وعلا كذلك، استحال أن توصف ذاته بأنها مختصة بجهة، أو متنقلة من مكان إلى مكان، أو حالة في مكان.
روي أن موسى عليه السلام، لما كلمه الله تعالى، سمع الكلام من سائر الجهات، ولم يسمعه من جهة واحدة، فعلم بذلك أنه كلام الله تعالى. وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف تعالى بأنه يحل موضعاً أو ينزل مكاناً، كما لا يوصف بأنه جوهر ولا عرض، ولا يوصف كلامه بحرف ولا صوت، خلافاً للحنابلة الحشوية، بل هو صفة قائمة بذاته تعالى، يوصف بها فينتفي عنه بها آفات الخرس والبكم، وما لا يليق بجلاله وكماله، ولا تقبل الانفصال والفراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق. وأما الإفهام والإسماع، فيجوز أن يكون في موضع دون موضع، ومكان دون مكان، وحيث لم يقع إحاطة ولا إدراك بالوقوف على كنه ذاته، قال تعالى: " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " ، وأما الهاء في قوله تعالى: " يا موسى إنه " فهو عماد وليس بكناية.
فائدة أخرى: اختلف في أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هل كلم ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا؟ فذهب ابن عباس وابن مسعود وجعفر الصادق وأبو الحسن الأشعري وطائفة من المتكلمين إلى أنه صلى الله عليه وسلم كلم الله بغير واسطة، وذهب جماعة إلى نفي ذلك. واختلف في جواز الرؤية، فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة، وأكثر أهل السنة والسلف على جوازها فيهما، ووقوعهما في الآخرة. واختلف العلماء من السلف والخلف في أنه هل رأى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ربه تعالى أم لا؟ فأنكرته عائشة وأبو هريرة وابن مسعود وجماعة من السلف، وبه قال جماعة من المتكلمين والمحدثين، وأجازه جماعة من السلف وأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء بعيني رأسه، وهو قول ابن عباس وأبي ذر وكعب الأحبار والحسن البصري والشافعي وأحمد بن حنبل. وحكي أيضاً عن ابن مسعود، وأبي هريرة، والمشهور عنهما الأول، وبهذا القول الثاني قال أبو الحسن وجماعة من أصحابه، وهو الأصح، وهو مذهب المحققين من الساعة الصوفية.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اختص موسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة ومحمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية. وذهب جماعة من العلماء إلى الوقف، وقالوا: ليس عليه دليل قاطع نفياً ولا إثباتاً، ولكنه جائز عقلاً. وصححه القرطبي وغيره.
قلت: رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة بالأدلة العقلية والنقلية، أما العقلية فمعروفة في علم الكلام، وأما النقلية فمنها سؤال موسى عليه السلام رؤية الله تعالى. ووجه التمسك بذلك علم موسى بذلك، ولو علم استحالة ذلك لما سأله، ومحال أن يجهل موسى جواز ذلك، إذ يلزم منه أن يكون مع علو منصبه في النبوة وانتهائه إلى أن اصطفاه الله تعالى على الناس، وأسمعه كلامه بلا واسطة جاهلا بما يجب لله ويستحيل عليه ويجوز، وملتزم هذا كافر. نعوذ بالله من اعتقاد ذلك.
ومنها امتنانه تعالى على عباده بالنظر إلى وجهه في الدار الآخرة بقوله تعالى: " وجوة يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة " وإذا جاز أن يروه في الدار الآخرة، جاز أن يروه في الدنيا لتساوي النظر بالنسبة إلى الأحكام. ومنها ما تواترت به الأحاديث من أخباره صلى الله عليه وسلم برؤية الله تعالى في الدار الآخرة، ووقوع ذلك كرامة للمؤمنين. فهذه الأدلة دالة على جواز رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة. وأما استدلال عائشة رضي الله تعالى عنها على عدم الرؤية بقوله تعالى: " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " ، ففيه بعد إذا يقال بين الإدراك والإبصار فرق، فيكون معنى لا تدركه الأبصار، أي لا تحيط به مع أنها تبصره. قاله سعيد بن المسيب وغيره وقد نفى الإدراك مع وجود الرؤية، في قوله تعالى: " فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا " ، أي لا يدركونكم. وأيضاً فإن الإبصار عموم، وهو قابل للتخصيص فيختص المنع بالكافرين، كما قال تعالى عنهم: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " ، ويكرم المؤمنين أو من شاء الله منهم بالرؤية كما قال تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة " ، وبالجملة فالآية ليست نصاً ولا من الظواهر الجلية في عدم جواز الرؤية، فلا حجة فيها والله أعلم. ولهذه المسألة أسرار وأغوار تركناها، لأن ذلك ليس من مقصود الكتاب، فمن أراد تحقيق هذه المسألة وغيرها من المسائل المهمة فعليه بكتابنا الجوهر الفريد، فإنا ذكرنا فيه اختلاف الفرق، وأقوال علماء الظاهر والباطن، وما اخترناه وما أيدناه وهو كتاب مهم عمدة في هذا الشأن، لا يستغني عنه طالب، وهو في ثمان مجلدات ضخمة جداً وبالله التوفيق.
فائدة أخرى: قوله تعالى: " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق " هذه السورة أول ما نزل من القرآن كما ثبت في الصحيحين، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. قيل: وجه المناسبة بين الخلق من علق، والتعليم بالقلم، وتعليم العلم، أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة وأعلاها كونه عالماً، فكأنه سبحانه وتعالى امتن على الإنسان، بنقله من أخس المراتب، وهي العلقة، إلى أعلاها، وهي العلم.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال: من علق وإنما خلق من علقة واحدة، كقوله تعالى من نطفة ثم من علقة؟ قلت: لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله تعالى: " إن الإنسان لفي خسر " والأكرم هو الذي له الكمال في زيادة تكرمه على كل كريم، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى، ويحلم عليهم فلا يعاجلهم بالعقوبة، مع كفرهم وجحودهم لنعمه، وركوبهم المناهي، وإطراحهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقترافهم العظائم. فما لكرمه غاية ولا أمد، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العظيمة تكرم، حيث قال: " الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم " فدل على كمال كرمه، بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل الكتابة، لما فيها من المنافع العظيمة، التي لا يحيط بها إلا هو. وما دونت العلوم الأول، ولا قيمت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة. ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به.
فائدة أخرى: سئل شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى عن العلقة السوداء، التي أخرجت من قلب النبي صلى الله عليه وسلم في صغره، حين شق فؤاده، وقول الملك هذا حظ الشيطان منك، فأجاب بقوله: تلك العلقة خلقها الله تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها، فأزيلت من قلبه عليه الصلاة والسلام فلم يبق فيه مكان قابل لأن يلقي الشيطان فيه شيئاً. هذا معنى الحديث ولم يكن للشيطان فيه صلى الله عليه وسلم حظ قط، وإنما الذي نفاه الملك أمر هو في الجبلات البشرية، فأزيل القابل الذي لم يكن يلزم من حصوله حصول القذف في قلبه عليه الصلاة والسلام. فقيل له: لم خلق الله هذا القابل في هذه الذات الشريفة، وكان يمكنه أن لا يخلقه فيها؟ فقال: لأنه من جملة الأجزاء الإنسانية فخلقه تكملة للخلق الإنساني فلا بد منه ونزعه كرامة ربانية طرأت بعده انتهى.
الحكم: يحرم أكل العلق ويجوز بيعه لما فيه من المنفعة ويستثنى بيع القرمز من عدم جواز بيع الحشرات كما تقدم.
فرع: العلقة فيها وجهان: أحدهما أنها نجسة لأنها دم خارج من الرحم كالحيض. والثاني أنها طاهرة، لأنها دم غير مسفوح، فهي كالكبد والطحال، نقله أبو حامد عن الصيرفي، وصرح بتصحيحه الشيخ أبو حامد والمحاملي والرافعي في المحرر، وهو الأصح كما صرح به في المنهاج.
والعلقة هي المني إذا استحال في الرحم، فصار دماً غليظاً، فإذا استحال بعد، فصار قطعة لحم فهو مضغة. قال النووي، في شرح المهذب: إن المذهب القطع بطهارة المضغة. وقيل: على وجهين. والصواب خلاف ما في شرح المهذب، لأن المضغة إما كميتة الآدمي، وفيها قولان في الجديد، أو كجزئه المنفصل، وفيه طريقان: حاكية للخلاف وقاطعة بالنجاسة. وحكى الرافعي فيها وجهين أصحهما الطهارة. نعم يشترط في المضغة والعلقة على قاعدة الرافعي أن يكونا من الآدمي، فإن مني غيره نجس عنده، فالعلقة والمضغة أولى بالنجاسة من المني، ويدل عليه تردده في المنهاج، في نجاستهما مع جزمه فيه بطهارة المني. قال شيخنا: ولك أن تمنع كونهما أولى بالنجاسة من المني بأنهما صارا أقرب إلى الحيوانية منه وهو أقرب إلى الدموية منهما والله تعالى أعلم.
الأمثال: قالوا: أعلق من العلق.
الخواص: العلق ينفع تعليقاً على صاحب الأعضاء الضعيفة التركيب، مثل الأماق والوجنات والمواضع المؤلمة، لأنها تقوم مقام الحجامة، في امتصاصها الدم الفاسد، لا سيما في الأطفال والنساء وأهل الرفاهية. وهي تمص الدم الفاسد من الأجفان وغيرها. وربما كان العلق في الماء فيشربه الإنسان فينشب بحلقه. وطريق إخراجه من الحلق أن يبخر بوبر الثعلب، فإذا أصابه دخانه سقط في الحال. وكذلك إذا بخر بظلف الإبل يموت، مجرب، ذكر ذلك في المنتخب. وقال القزويني وصاحب الذخيرة الحميدة: إذا كان العلق في الحلق، يتغرغر بخل خمر، وبوزن درهم من الذباب الذي في الباقلاء، فإن العلق يسقط. وإذا أرادوا إخراج دم من موضع مخصوص، أخذوا هذا الدود في قطعة طين، وقربوه من العضو، فإنه ينشب به ويمص الدم منه، فإذا أرادوا سقوطه عنه، رشوا عليه ماء الملح، فإنه يسقط في الحال.
وقال صاحب عين الخواص: بذا يبس العلق في الظل، وسحق مع نشادر وطلي به موضع داء الثعلب، نبت الشعر عليه. وقال غيره: إذا بخر البيت بالعلق، هرب ما فيه من البق والبعوض وأمثالهما. وإذا ترك العلق في قارورة حتى يموت، ثم يسحق ويفتت الشعر ويطلى به، فإنه لا ينبت أبداً. ومن الخواص المجربة النافعة أن تؤخذ العلق الكبار، التي تكون في الأنهار والأماكن الندية فتقلى بالزيت الطيب، ثم تسحق بالخل حتى تصير مثل المرهم، وتؤخذ في صوفة ويتحمل بها صاحب البواسير فيبرأ. وقيل: إنه يبرئ من القطى. ومن خواصه العجيبة أنه إذا بخر به حانوت زجاج تكسر جميع ما فيه. وإذا أخذ العلق وهو رطب ودهن به الإحليل، فإنه يكبر من غير وجع.
التعبير: العلق في الرؤيا بمنزلة الدود، وهم أولاد لقوله تعالى: " خلق الإنسان من علق " فمن رأى علقة دم خرجت من أنفه، أو ذكره أو دبره أو بطنه أو فمه، فإن امرأته تسقط ولداً قبل. كمال خلقه. وقيل: العلق والقراد والدلم والنمل وما أشبه ذلك، تدل على الأعداء والحساد الأخساء. ومن الرؤيا المعبرة أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، أتاه رجل فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيت كأن في يدي كيساً، وأنا أفرغ ما فيه حتى لم يبق فيه شيء، فخرج منه علقة، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أخرج من بين يدي فخرج من بين يديه ومشى خطوات فرمحته دابة فقتلته، فأخبر بذلك أبو بكر فقال: والله ما وددت أن يموت بين يدي، فنزل الكيس بمنزلة الآدمي، والدراهم بمنزلة العمر، والعلقة بمنزلة الروح، لقوله تعالى: " خلق الإنسان من علق " والله تعالى أعلم.
العلهب: تيس الجبل. كذا قاله صاحب كتاب المداخل في اللغة أحمد بن يحيى.
العمروس: بضم العين الخروف، والجمع عماريس. قال الشاعر:
وكان كذئب السوء إذ قال مرة ... لعمروسة والذئب غرثان مرمل
أأنت التي من غير ذنب شتمتني ... فقالت: متى ذا؟ قال: ذا عام أول
فقالت: ولدت الآن بل رمت غدرة ... فدونك كلني لا هنا لك مأكل
العملس: بفتح العين والميم وتشديد اللام، الذئب الخبيث والكلب الخبيث. وأما قولهم: أبر من العملس فإنه رجل كان باراً بأمه، يحملها على عاتقه، ويحج بها على ظهره كل سنة، فضربوا به المثل، ليتأسى به البنون في بر الأمهات. وأشرت إلى ذلك في المنظومة بقولي:
وضربوا الأمثال بالعملس ... في البركى به البنون تأتسي
العميثل: الأسد، قاله أبو زيد، في كتاب الإبل، وبه كني عبد الله بن خليد الشاعر البليغ، وكان يفخم الكلام ويعربه، وكان كاتب عبد الله بن طاهر وشاعره. وكان عارفاً باللغة فمن شعره في عبد الله المذكور:
يا من يحاول أن تكون صفاته ... كصفات عبد الله انصت واسمع
فلأنصحنك في المشورة والذي ... حج الحجيج إليه فاسمع أو دع
اصدق وعف وبر واصبر واحتمل ... واصفح وكاف ودار واحلم واشجع
والطف ولن وتأن وارفق واتئد ... واحزم وجد وحام واحمل وادفع
فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي ... وهديت للنهج الأسد المهيع
وقبل يوماً كف عبد الله بن طاهر، فاستخشن مس شاربه، فقال أبو العميثل في الحال: شوك القنفذ لا يؤلم كف الأسد، فأعجبه كلامه وأمر له بجائزة سنية. وصنف أبو العميثل كتباً مفيدة في كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه، وكانت وفاته سنة أربعين ومائتين. وقال الأصمعي: العميثل الذيال بذنجه. وقال الخليل: العميثل البطيء الذي يسيل ثيابه كالوادع الذي يكفي العمل انتهى.
العناق: الأنثى من ولد المعز والجمع أعنق وعنوق. روي عن الأصمعي أنه قال: بينما أنا أسير في طريق اليمن، إذا أنا بغلام واقف قي الطريق، في أذنيه قرطان، في كل قرط جوهرة، يضيء وجهه من ضوء الجوهرة، وهو يمجد ربه بأبيات من الشعر وهي هذه:
يا فاطر الخلق البديع وكافلا ... رزق الجميع سحاب جودك هاطل
يا مسبغ البر الجزيل ومسبل ال ... ستر الجميل عميم طولك طائل
يا عالم السر الخفي ومنجز ال ... وعد الوفي قضاء حكمك عادل
عظمت صفاتك يا عظيم فجل أن ... يحصيى الثناء عليك فيها قائل
الذنب أنت له بمنك غافر ... ولتوبة العاصي بحلمك قابل
رب يربي العالمين ببره ... ونواله أبداً إليهم واصل
تعصيه وهو يسوق نحوك دائماً ... ما لا تكون لبعضه تستاهل
متفضل أبداً وأنت لجوده ... بقبائح العصيان منك تقابل
وإذا دجا ليل الخطوب وأظلمت ... سبل الخلاص وخاب فيها الآمل
وأيست من وجه النجاة فما لها ... سبب ولا يدنو لها متناول
يأتيك من ألطافه الفرج الذي ... لم تحتسبه وأنت عنه غافل
يا موجد الأشياء من ألقى إلى ... أبواب غيرك فهو غر جاهل
ومن استراح بغير ذكرك أو رجا ... أحداً سواك فذاك ظل زائل
رأي يلم إذا عرته ملمة ... بسوى جنابك فهو رأي مائل
عمل أريد به سواك فإنه ... عمل وإن زعم المرائي باطل
وإذا رضيت فكل شيء هين ... وإذا حصلت فكل شيء حاصل
أنا عبد سوء آبق كل على ... مولاه أوزار الكبائر حامل
قد أثقلت ظهري الذنوب وسودت ... صحفي العيوب وستر عفوك شامل
ها قد أتيت وحسن ظني شافعي ... ووسائلي ندم ودمع سائل
فاغفر لعبدك ما مضى وارزقه تو ... فيقاً لما ترضى ففضلك كامل
وافعل به ما أنت أهل جميله ... والظن كل الظن أنك فاعل
قال: فدنوت منه وسلمت عليه فقال: ما أنا براد عليك حتى تؤدي من حقي الذي يجب لي عليك! قلت: وما حقك؟ قال: أنا غلام على مذهب إبراهيم الخليل عليه السلام، لا أتغدى ولا أتعشى كل يوم، حتى أسير الميل والميلين في طلب الضيف. فأجبته إلى ذلك، فرحب بي، وسرت معه حتى قربنا من خيمته، فصاح: يا أختاه فأجابته جارية من الخيمة بالبكاء، فقال: قومي إلى ضيفنا فقالت الجارية: حتى أبدأ بشكر الله الذي ساق لنا هذا الضيف، ثم قامت فصلت ركعتين شكراً لله تعالى. قال: فأدخلني الشاب الخيمة، وأجلسني ثم أخذ الغلام الشفرة وعمد إلى عناق فذبحها، قال: فلما جلست في الخيمة، نظرت إلى الجارية، فإذا هي أحسن الناس وجهاً، فكنت أسارقها النظر، ففطنت لبعض لحظاتي إليها، فقالت لي: مه أما علمت أنه نقل عن صاحب طيبة عليه السلام، أنه قال: إن زنا العينين النظر، أما إني ما أردت بهذا أن أوبخك، ولكني أردت أن أؤدبك لكي لا تعود إلى مثل هذا.
قال: فلما كان النوم بت أنا والغلام خارج الخيمة، وباتت الجارية عن داخلها، فكنت أسمع دوي القرآن إلى السحر، بأحسن صوت يكون وأرقه، ثم سمعت أبياتاً من الشعر بأعذب لفظ، وأشجى نغمة وهي هذه:
أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته ... فأصبح عندي قد أناح وطنبا
إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره ... وإن رمت قرباً من حبيبي تقربا
ويبدو فأفنى ثم أحيا بذكره ... ويسعدني حتى ألذ وأطربا
قال: فلا أصبحت قلت للغلام: صوت من كان ذلك؟ قال: تلك أختي، وهذا شأنها كل ليلة، فقلت: يا غلام كنت أنت أحق بهذا العمل من أختك، إذ أنت رجل وهي امرأة. قال: فتبسم وقال: ويحك أما علمت أنه موفق ومخذول ومقرب ومبعد! قال الأصمعي: فودعتهما وانصرفت.
وحكمها: الحل، وتفدى بها الأرنب إذا قتلها المحرم لقضاء الصحابة بذلك. ولا تجزئ في الأضحية لما روى الشيخان وغيرهما عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى، بعد الصلاة، فقال : " من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، وعن نسك قبل الصلاة فلا نسك له " . فقال أبو بردة بن نيار، وهو خال البراء بن عازب: يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، فأحببت أن تكون شاتي أول شاة تذبح في بيتي، فذبحتها وتغديت قبل أن أتي الصلاة. فقال صلى الله عليه وسلم: " شاتك شاة لحم " . قال: يا رسول الله فان عندي عناقاً هي أحب إلي من شاتين أفتجزع! عني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " نعم ولن تجزئ عن أحد بعدك " .
ووقع في أصل الروضة، أن العناق الأنثى من المعز، من حين تولد إلى أن ترعى. والجفرة الأنثى من ولد المعز حين تفطم وتفصل عن أمها، فتأخذ في الرعي وذلك بعد أربعة أشهر. والذكر جفر. وقال في لغات التنبيه وعقائق المنهاج: العناق الأنثى من ولد المعز ما لم تستكمل سنة. ونقل مثل هذا عن الأزهري، في تهذيب الأسماء واللغات، وكلام الأزهري لا يوافق ذلك. وروى الحاكم بإسناد صحيح، وأبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب، عن قيس بن النعمان رضي الله تعالى عنه. قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله تعالى عنه مستخفيين، مرا بعبد يرعى غنماً فاستسقياه من اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن هاهنا عناقاً حملت أول الشتاء وما بقي لها لبن. قال صلى الله عليه وسلم: " ادع بها " . فاعتقلها صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها حتى أنزلت. وجاء أبو بكر بمجن فحلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب صلى الله عليه وسلم. فقال الراعي: بالله من أنت فوالله ما رأيت مثلك قط؟ قال: " أو تراك تكتم علي حتى أخبرك " قال: نعم. قال: " فإني محمد رسول الله " . قال: أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ؟ قال: " إنهم ليقولون ذلك " . قال: أشهد أنك نبي، وأن ما جئت به حق، وأنا متبعك. قال صلى الله عليه وسلم: " إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا " .
خاتمة: روى أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد، وكان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، قال: وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق كقطام، وكانت صديقة له، لأنه كان واعد رجلا من الأسارى بمكة، أن يأتيه فيحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة، في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط، فلما انتهت إلي، قالت: مرثد؟ قلت: مرثد. قالت: مرحباً وأهلا وسهلا هلم فبت عندنا الليلة. فقلت: يا عناق قد حرم الله الزنا. قالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراركم. قال: فتبعني ثمانية رجال، وسلكت الخندمة، فانتهيت إلى غار أو كهف، فجاؤوا حتى وقفوا على رأسي وبالوا، فظل بولهم ينزل على رأسي وأعماهم الله عني.
فرجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت به إلى الأذخر، ففككت عنه أكبله، وجعلت أحمله ويعييني، حتى قدمت به المدينة، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناق؟ فأمسك ولم يرد علي شيئاً حتى نزلت: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا مرثد " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك " فلا تنكحها " . قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة، إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها صحيح لا ينفسخ. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: قال عكرمة: معنى الآية أن الزاني لا يريد ولا يقصد إلا نكاح زانية. قال: والأشبه ما قاله سعيد بن المسيب أن هذه الآية منسوخة، نسخها قوله تعالى: " وأنكحوا الأيامى منكم " وهي من أيامى المسلمين.
الأمثال: قالوا : لا تنفط في هذا الأمر عناق. أي لا تعطس، والنفيط من العناق مثل العطاس من الإنسان. وهو كقولهم: لا ينتطح فيها عنزان. وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله.
عناق الأرض: دويبة أصغر من الفهد طويل الظهر يصيد كل شيء حتى الطير، وهو التفه الذي تقدم ذكره، في باب التاء المثناة فوق. وقال في نهاية الغريب: قال قتادة: عناق الأرض من الجوارح دابة وحشية أكبر من السنور، وأصغر من الكلب، والجمع عنوق. يقال في المثل: لقي عناق الأرض وأعق عناق أي داهية. يريد أنها من الحيوان الذي يصاد به إذا علم.
العنبس: الأسد، وبه سمي الرجل وهو فنعل من العبوس. والعنابس من قريش أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر، وهم ستة: حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو وسموا بالأسد والباقون يقال لهم الأعياص.
العنس: الناقة القوية الصلبة ويقال هي التي اعنونس ذنبها، أي وفر. قاله الجوهري. والعنسة أيضاً اسم للأسد علم مشتق من العنوس قاله ابن سيده.
العنبر: سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلودها الترس. ويقال للترس عنبر. وقد تقدم ذكرها في باب الباء الموحدة.
روى البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر علينا أبا عبيدة، نلتقي عيراً لقريش، وزودنا جراباً فيه تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يطعمنا تمرة تمرة، قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها. قال: كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله.
فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا شيء كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر. قال: فقال أبو عبيدة: إنها ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليها شهراً، ونحن ثلاثمائة، حتى سمنا، يعني تقوينا، وزال ضعفنا، وإلا فما كانوا سمانا قط، قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينيها بالقلال الدهن ونقتطع القطعة قدر التور. ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في عينها، وأخذ ضلعاً من أضلاعها فأقامه، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمها. فلما قدمنا المدينة، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له فقال: " هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه فتطعمونا " ؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله.
وسرية أبي عبيدة هذه يقال لها سرية الخبط. وكانت في رجب سنة ثمان من الهجرة، وكان فيها عمر بن الخطاب وقيس بن سعد مع أبي عبيدة رضي الله تعالى عنهم. وحديثها رويناه في الغيلانيات وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه، في سرية فيها المهاجرون والأنصار، ثلاثمائة رجل إلى ساحل البحر، إلى حي من جهينة، فأصابهم جوع شديد، فقال قيس بن سعد: من يشتري مني تمراً بجزور، يوفيني الجزور هاهنا، وأوفيه التمر بالمدينة؟ فجعل عمر يقول: واعجبا لهذا الغلام لا مال له يدين في مال غيره! فوجد رجلا من جهينة، فقال له قيس: يعني جزوراً أوفيكه وسقاً من تمر المدينة. فقال الجهني: والله ما أعرفك، فمن أنت؟ فقال: أنا ابن سعد بن عبادة بن دليم. فقال الجهني: ما أعرفني بنسبك، وذكر كلاماً، فابتاع منه خمس جزائر، كل جزور بوسق من تمر، يشترط عليه البدوي تمر ذخيرة مصلبة من تمر آل دليم، فيقول قيس: نعم. قال: فاشهد لي قال: فأشهد له نفراً من الأنصار، ومعهم نفر من المهاجرين. قال قيس: إنما أشهد من تحب، وكان فيمن أشهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال عمر: ما أشهد على هذا بدين، ولا مال له، إنما المال لأبيه، فقال الجهني: والله ما كان سعد ليبخس في وسقة من تمر، وإني أرى وجهاً حسناً وفعالا شريفة. فكان بين عمر وقيس كلام، حتى أغلظ عمر لقيس، ثم أخذ الجزر فنحرها لهم في مواطن ثلاثة، كل يوم جزوراً، فلما كان اليوم الرابع، نهاه أميره وقال له: أتريد أن تحفر ذمتك ولا مال لك؟ قال: فأقبل أبو عبيدة ومعه عمر، فقال: عزمت عليك أن لا تنحر، فقال قيس: يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت يقضي ديون الناس، ويحمل الكل، ويطعم في المجاءة، ولا يقضي عني وسقة من تمر لقوم مجاهدين في سبيل الله؟ فكاد أبو عبيدة أن يلين له، وجعل عمر يقول: اعزم عليه، فعزم عليه وبلغ سعداً ما أصاب القوم من المجاعة فقال: إن يكن قيس كما أعرف، فسينحر للقوم، فلما قدم قيس لقيه سعد فقال: ما صنعت في مجاعة القوم؟ قال: نحرت. قال: أصبت، ثم ماذا. قال: نحرت. قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نحرت. قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نهيت. قال: ومن نهاك؟ قال: أبو عبيدة أميري. قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي، وإنما المال لأبيك! فقلت: إن أبي يقضي عن الأباعد، ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة، ولا يصنع هذا بي؟ قال: تلك أربع حوائط أدناها حائطاً نجذ منه خمسين وسقاً. قال: وقدم البدوي مع قيس فأوفاه وسقته، وحمله وكساه. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من فعل قيس فقال: " إنه من قلب جود " .
والعنبر المشموم، قيل: إنه يخرج من قعر البحر، يأكله بعض دوابه لدسومته، فيقذفه رجيعاً، فيوجد كالحجارة الكبار، فيطفو على الماء، فتلقيه الريح إلى الساحل، وهو يقوي القلب والدماغ، نافع من الفالج واللقوة والبلغم الغليظ. وقال ابن سيده: العنبر يخرج من البحر، وأجوده الأشهب ثم الأزرق ثم الأصفر ثم الأسود. قال: وكثيراً ما يوجد في أجواف السمك الذي يأكله ويموت. وزعم بعض التجار أن بحر الزنج يقذفه كجمجمة الإنسان، وأكبرها وزنه ألف مثقال. وكثيراً ما تأكله الحيتان فتموت، والدابة التي تأكله تدعى العنبر.
الحكم: قال الماوردي والروياني في كتاب الزكاة: لا زكاة في العنبر والمسك. وقال أبو يوسف: فيهما الخمس. وقال الحسن وعمر بن عبد العزيز وعبد الله العنبري وإسحاق: يجب الخمس في العنبر. واحتج الشافعي عليهم بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في العنبر، إنما هو شيء عصره البحر، أي لفظه، وليس بمعدن حتى يجب فيه الخمس. وروي عنه صريحاً أنه قال: لا زكاة فيه.
وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العنبر ليس بغنيمة " ، وهذا ينفي وجوب الزكاة فيه. قالا، أي الماوردي والروياني: وأكثر الفقهاء على أن العنبر طاهر، وقال الشافعي: سمعت من قال: رأيت العنبر نابتاً في البحر، ملتوياً مثل عنق الشاة. وقيل: إن أصله نبت في البحر وله رائحة ذكية. وفي البحر دويبة تقصده لذكاء رائحته، وهو سمها، فتأكله فيقتلها ويلفظها البحر، فيخرج العنبر من بطنها.
وقالا في كتاب السلم: يجوز السلم في العنبر، ولا بد من بيان أنواعه ووزنه، فالعنبر منه الأشهب والأبيض والأخضر والأسود ولا يجوز حتى يسمى ذلك. وقال الشافعي: يجوز بيع العنبر، وقال أهل العلم به: إنه نبات والنبات لا يحرم منه شيء. قال: وحدثني بعضهم، أنه ركب البحر فوقع إلى جزيرة فيه، فنظر إلى شجرة مثل عنق الشاة، فإذا ثمرها عنبر، قال: فتركناه حتى يكبر ثم نأخذه، فهبت الريح فألقته في البحر. قال الشافعي: والسمك ودواب البحر تبتلعه أول ما يقع منه، لأنه لين، فإذا ابتلعته قلما تسلم منه إلا قتلها لفرط الحرارة فيه، فإذا أخذ الصياد السمكة، وجده في بطنها فيقدر أنه منها، وإنما هو ثمر نبت.
وأما خواصه: فقال المختار بن عبدون: العنبر حار يابس، وهو دون المسك، وأجوده الأشهب الخفيف الدسم، وهو يقوي القلب والدماغ، ويزيد في الروح وينفع من الفالج واللقوة والبلغم الغليظ، ويولد شجاعة، لكنه يضر من اعتاده الباسور، وتدفع مضرته بالكافور وشم الخيار. ويوافق الأمزجة الباردة الرطبة والمشايخ، وأجوده ما استعمل في الشتاء. قالوا: والعنبر جماجم أكبرها ألف مثقال، تبرز من عيون في البحر وتطفو على الماء، فيسقط عليها الطير فتأكلها فتهلك. وقيل: إنه روث دابة، وقيل: إنه من غثاء البحر، وأجوده الأشهب وضده الخمري وله زهومة لابتلاع السمك، ويتصفى منه عند عمله رمل والله تعالى أعلم.
العنتر: الذباب الأزرق، وقيل: مطلق الذباب. وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، في حديثه الطويل المشتمل على كرامات ظاهرة للصديق رضي الله تعالى عنه، ومعناه أن الصديق ضيف جماعة، وأجلسهم في محله، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأخر رجوعه، فلما رجع قال: أعشيتموهم؟ قالوا: لا. فأقبل على ابنه عبد الرحمن وقال: يا عنتر، فجدع وسب ومعناه دعا عليه بقطع الأنف ونحوه. وجاء يا عنيتر مصغراً شبهه بذلك تحقيراً له، وقيل: شبهه بالذباب الأزرق لشدة أذاه. وروي بالغين المعجمة وبالثاء المثلثة وهو الأكثر، ومعناه: يا لئيم. وعنترة اسم رجل وهو عنترة بن شداد بن معاوية العبسي، وهو أحد فرسان العرب وشعرائها ومتيميها، وهو من أبطال الجاهلية، ويضرب المثل بشجاعته. قال سيبويه: نون عنترة ليست زائدة.
العندليب: الهزار بفتح الهاء، والجمع العنادل لأنك ترده إلى الرباعي ثم تبني منه الجمع والتصغير، والبلبل يعندل إذا صوت. وما أحسن قول أبي سعيد المؤيد بن محمد الأندلسي الشاعر المجيد في وصف طنبور:
وطنبور مليح الشكل يحكي ... بنغمته الفصيحة عندليبا
روى لما ذوى نغماً فصاحا ... حواها في تقلبه قضيبا
كذا من عاشر العلماء طفلا ... يكون إذا نشأ شيخاً أديبا
ومن محاسن شعره قوله:
أحب العذول لتكراره ... حديث الحبيب على مسمعي
وأهوى الرقيب لأن الرقيب ... يكون إذا كان حبي معي
ومما يستجاد من محاسن شعره أيضاً:
احذر صديقاً ما ذقا ... مزج المرارة بالحلاوة
يحمي الذنوب عليك ... أيام الصداقة للعداوة
وما أحسن قوله:
ونهاية الدنيا وغاية أهلها ... ملك يزول وستر قوم يهتك
تحلو فتعقب غصة ومرارة ... وتحب وهي بنا تصول وتفتك
وكافت وفاته سنه سبع وخمسين وخمسمائة.
وحكمه: حل الأكل لأنه من الطيبات.
وهو في الرؤيا يدل على ولد ذكي والله أعلم.
العندل: البعير الضخم الرأس يستوي فيه الذكر والأنثى.
العنز: الأنثى من المعز، والجمع أعنز وعنوز. روى البخاري وأبو داود، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، من عامل يعمل بخصلة منها، رجاء ثوابها، وتصديقاً بموعودها، إلا أدخله الله الجنة " ، قال حسان بن عطية الراوي، عن أبي كبشة: فعددنا ما دون منيحة العنز من رد السلام، وتشميت العاطس، واماطة الأذى عن الطريق، ونحوه، فما استطعنا أن نصل إلى خمس عشرة خصلة. قال ابن بطال: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخصال في الحديث. ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بها لا محالة، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها، وذلك والله أعلم، خشية أن يكون التعيين لها، زهداً في غيرها، من أبواب المعروف وسبل الخير. وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام، من الحث والحض على أبواب من الخير والبر، ما لا يحصى كثرة. قال: وقد بلغني عن بعض أهل عمرنا، أنه تتبعها في الأحاديث، فوجدها تزيد على أربعين خصلة ثم ذكرها إلى آخرها.
قلت: وتشميث العاطس بالشين المعجمة وبالسين المهملة، فالأول إشارة إلى جمع الشمل، لأن العرب تقول: أشمتت الإبل، إذا اجتمعت في المرعى، وقيل: معناه الدعاء لشوامته، وهو اسم للأطراف، والثاني إشارة إلى أن يرزق السمت الحسن. قلت: وقد روى صاحب الترغيب والترهيب، في باب قضاء حوائج المسلمين، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للمسلم على أخيه المسلم ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو يغفر زلته ويرحم عبرته ويستر عورته ويقيل عثرته ويقبل معذرته ويرد غيبته ويديم نصيحته ويحفظ خلته ويرعى ذمته ويعود مرضته ويشهد منيته ويجيب دعوته ويقبل هديته ويكافئ صلته ويشكر نعمته ويحسن نصرته ويحفظ حليلته ويقضي حاجته ويشفع مسألته ويقبل شفاعته ولا يخيب مقصده ويشمت عطسته وينشد ضالته ويرد سلامه ويطيب كلامه ويزيد إنعامه ويصدق أقسامه وينصره ظالماً أو مظلوماً، أما نصره ظالماً فيرده عن ظلمه، وأما نصره مظلوماً فيعينه على أخذ حقه، ويواليه ولا يعاديه ويسلمه ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه " ، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة،. ثم قال علي رضي الله تعالى عنه: إن أحدكم ليدع تشميت أخيه إذا عطس، فيطالبه به يوم القيامة فيقضي له عليه. فهذه مع ما عده حسان بن عطية يجتمع منها أكثر من أربعين خصلة.
فائدة: روى أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبري، في كتاب الدعوات، بإسناده عن سويد بن غفلة، قال: أصابت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فاقة فقال لفاطمة رضي الله تعالى عنها: لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاتته وكان عند أم أيمن فدقت الباب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأم أيمن: " إن هذا الدق لدق فاطمة، ولقد أتتنا في ساعة ما عودتنا أن تأتينا في مثلها فقومي فافتحي لها الباب " . قال: فقامت أم أيمن ففتحت لها الباب، فلما دخلت قال صلى الله عليه وسلم: " يا فاطمة لقد أتيتنا في ساعة ما عودتنا أن تأتينا في مثلها " . فقالت: يا رسول الله هذه الملائكة طعامها التسبيح والتحميد والتقديس، فما طعامنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " والذي بعثني بالحق ما اقتبس في آل محمد نار منذ ثلاثين يوماً، وقد أتتنا أعنز فإن شئت أمرت لك بخمسة أعنز، وإن شئت علمتك خمس كلمات علمنيهن جبريل آنفاً " . قالت: بل علمني الخمس التي علمك جبريل. قال صلى الله عليه وسلم: " قولي يا أول الأولين، ويا آخر الآخرين، ويا ذا القوة المتين، ويا راحم المساكين، ويا أرحم الراحمين " . قال: فانصرفت حتى دخلت على علي بن أبي طالب، فقالت: ذهبت من عندك إلى الدنيا فأتيتك بالآخرة، وذكرت له ذلك، فقال: خير أيامك خير أيامك.
وفي كتاب صفوة التصوف للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا جابر هؤلاء الأعنز إحدى عشرة عنزاً في الدار أحب إليك أم كلمات علمنيهن جبريل آنفاً يجمعن لك خير الدنيا والآخرة " . فقال: يا رسول الله، والله إني لمحتاج، وهذه الكلمات أحب إلي فقال صلى الله عليه وسلم: " قل اللهم إنك البر خلاق عليم، اللهم إنك غفور حليم، اللهم إنك تواب رحيم، اللهم إنك رب العرش العظيم، اللهم إنك الجواد الكريم، اغفر لي وارحمني واجبرني ووفقني وارزقني واهدني ونجني وعافني واسترني ولا تضلني وأدخلني الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين " . قال: فطفق يرددهن حتى حفظتهن. ثم قال صلى الله عليه وسلم: " تعلمهن وعلمهن عقبك من بعدك " . ثم قال صلى الله عليه وسلم: " يا جابر استبقهن معك " . قال: فاستبقتهن معي. وفي تفسير القشيري وغيره، أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما هاجر بولده إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة، مر على قوم من العماليق، فوهبوا لإسماعيل عليه الصلاة والسلام عشرة أعنز، فجميع أعنز مكة من نسلها. وهذا نظير ما تقدم في حمام الحرم، وأنه من نسل الحمامتين اللتين عششتا على النبي صلى الله عليه وسلم في الغار.
فائدة أخرى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ينتطح فيها عنزان " . والسبب في ذلك أن امرأة من خطمة، كان يقال لها عصماء بنت مروان من بني أمية، كانت تحرض على المسلمين وتؤذيهم، وتقول الشعر، فجعل عمير بن عدي عليه نذراً لله عز وجل لئن رد الله رسوله سالماً من بحر ليقتلنها. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، عدا عليها عمير في جوف الليل فقتلها، ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم معه الصبح، فلما قام صلى الله عليه وسلم ليدخل مجلسه، قال لعمير بن عدي: " أقتلت عصماء " ؟ قال: نعم فهل علي في قتلها من شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لا ينتطح فيها عنزان " . فأول ما سمعت هذه الكلمة منه صلى الله عليه وسلم، وهي من الكلام الموجز البديع المفرد الذي لم يسبق إليه. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " حمي الوطيس، ومات حتف أنفه، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ويا خيل الله اركبي، والولد للقراش وللعاهر الحجر، وكل الصيد في جوف الفرا، والحرب خدعة، وإياكم وخضراء الدمن، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، والأنصار كرشي وعيبتي، ولا يجني على المرء إلا يده، والشديد من غلب على نفسه عند الغضب، وليس الخبر كالمعاينة، والمجالس بالأمانة، واليد العليا خير من اليد السفلى، والبلاء موكل بالمنطق، والناس كأسنان المشط، وترك الشر صدقة، وأي داء أدوأ من البخل، والأعمال بالنيات، والحياء خير كله، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع، وسيد القوم خادمهم، وفضل العلم خير من فضل العبادة، والخيل معقود في نواصيها الخير، وأعجل الأشياء عقوبة البغي، وإن من الشعر لحكمة، والصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، ونية المؤمن خير من عمله، ونية المنافق شر من عمله، والولد للوطء، واستعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان. فإن كل في نعمة محسود، والمكر والخديعة في النار، ومن غشنا ليس منا، والمستشار مؤتمن، والندم توبة، والدال على الخير كفاعله، وحبك الشيء يعمي ويصم، والعارية مؤداة، والأيمان قيد الفتك.
وأمثال ذلك من كلامه صلى الله عليه وسلم، وإنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم العنز دون سائر الغنم، لأن العنز إنما تشام العنز ثم تفارقها وليس كنطاح الكباش وغيرها.
وروى ابن دريد أن عدي بن حاتم، لما قتل عثمان رضي الله تعالى عنه، قال: لا ينتطح فيها عنزان. فلما كان يوم الجمل فقئت عينه فقيل له: لا ينتطح في قيل عثمان عنزان؟ قال: بلى وتفقأ عيون كثيرة، كذا ذكر هذا الخبر ابن إسحاق والدمياطي وغيرهما. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: حدثني الصادق المصدوق أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: " أن أول خصم يقضى عليه يوم القيامة عنزان ذات قرن وغير ذات قرن. رواه الطبراني في معجمه الأوسط، وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف.
وحكمها: الحل ويفدى بها الغزال إذا قتله المحرم وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة.
الأمثال: قد تقدم في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام " لا ينتطح فيها عنزان " أي لا يلتقي فيها اثنان ضعيفان لأن النطاح من شأن التيوس والكباش لا العنوز، وهو إشارة إلى قضية مخصوصة لا يجري فيها خلف ولا نزاع وقالوا: فلان أضرط من عنز. وقالوا: أعنز بها كل داء يضرب للكثير العيوب من الناس والدواب. قال الفزاري: للعنز تسعة وتسعون داء. والعنز العقاب الأنثى في قول الشاعر:
إذا ما العنز من ملق تدلت ... ضحياً وهي طاوية تحوم
فمراده بالعنز هنا العقاب الأنثى.
الخواص: مرارة العنز، إذا خلطت بنوشادر، ونتف شعر من مكان في البدن، وطلي به الموضع، لم ينبت فيه شعر البتة. وقال ارسطو: مرارة العنز، إذا خلطت بكراث، وطلي بها مكان الشعر المنتوف، لم ينبت فيه شعر البتة. وإذا غسلت ساقها وسقي من به سلس البول أبرأه. وإن كتبت بلبنها على قرطاس، لم تبن كتابته فإن ذر عليه رماد ظهرت الكتابة.
وقال هرمس: إذا أخذ من دماغ العنز ومن دم الضبع، وزن دانق من كل واحد، وزن حبتين من كافور، وعجن باسم شخص، تولد فيه روحانية المحبة إذا طعم ذلك. ومن أخذ من مرارتها وزن دانق، ومثله من دمها، ومن دماغ سنور أسود نصف دانق، وأطعمه إنساناً قطع عنه شهوة الجماع ولا يصل إلى امرأة حتى يحل عنه. وحله أن يسقى أنفحة ظبية في لبن عنز، ويكون سخناً والله تعالى أعلم.
العنظب: الذكر من الجرادة وفتح الظاء لغة فيه. قال الكسائي: يقال العنظب والعنظاب والعنظوب والأنثى عنظوبة، والجمع في المذكر عناظب قال الشاعر:
رؤوس العناظب كالعنجد
والجمع في المؤنث عنظوبات. وفي كتاب سيبويه العنظباء بالمد والضم.
العنظوانة: الجراد الأنثى والجمع عنظوانات. وقد تقدم ذكر الجراد وما فيه في باب الجيم.
عنقاء مغرب ومغربة: من الألفاظ الدالة على غير معنى. قال بعضهم: هو طير غريب يبيض بيضاً كالجبال، ويبعد في طيرانه. وقيل: سميت بذلك لأنه كان في عنقها بياض كالطوق. وقيل: هو طائر يكون عند مغرب الشمس. وقال القزويني: إنها أعظم الطير جثة، وأكبرها خلقة تخطف الذيل كما تخطف الحدأة الفأر، وكانت في قديم الزمان بين الناس فتأذوا منها، إلى أن سلبت يوماً عروساً بحليها فدعا عليها حنظلة النبي عليه السلام، فذهب الله بها إلى بعض جزائر البحر المحيط، وراء خط الاستواء. وهي جزيرة لا يصل إليها الناس، وفيها حيوان كثير كالذيل والكركند والجاموس والبقر وسائر أنواع السباع وجوارح الطير.
وعند طيران عنقاء مغرب يسمع لأجنحتها دوي كدوي الرعد القاصف والسيل، وتعيش الذي سنة. وتزاوج إذا مضى لها خمسمائة سنة، فإذا كان وقت بيضها، يظهر بها ألم شديد. ثم أطال في وصفها. وذكر ارسطاطاليس، في النعوت، أن عنقاء مغرب قد تصاد فيصنع من مخالبها أقداح عظام للشرب. قال: وكيفية صيدها أنهم يوقفون ثورين ويجعلون بينهما عجلة، ويثقلونها بالحجارة العظام، ويجعلون بين يدي العجلة بيتاً، يختبئ فيه رجل معه نار، فتنزل العنقاء على الثورين لتخطفهما. فإذا نشبت أظفارها في الثورين أو أحدهما لم تقدر على اقتلاعهما لما عليهما من الحجارة الثقيلة، ولم تقدر على الاستقلال لتخلص مخالبها، فيخرج الرجل بالنار فيحرق أجنحتها. قال: والعنقاء لها بطن كبطن الثور، وعظام كعظام السبع، وهي من أعظم سباع الطير انتهى.
وقال الإمام العلامة أبو البقاء العكبري، في شرح المقامات: إن أهل الرس كان بأرضهم جبل يقال له مخ، صاعد في السماء قدر ميل، وكان به طيور كثيرة وكانت العنقاء به وهي عظيمة الخلق لها وجه كوجه الإنسان، وفيها من كل حيوان شبه. وهي من أحسن الطيور، وكانت تأتي هذا الجبل في السنة مرة، فتلتقط طيوره، فجاءت في بعض السنين، وأعوزها الطير فانقضت على صبي فذهبت به، ثم ذهبت بجارية أخرى، فشكوا ذلك إلى تبيهم حنظلة بن صفوان عليه السلام، فدعا عليها فأصابتها صاعقة فاحترقت. وكان حنظلة بن صفوان عليه السلام في زمن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام انتهى.
وذكر غيره أن الجبل يقال له فتح وسميت العنقاء لطول عنقها، ثم إنهم قتلوا نبيهم فأهلكهم الله تعالى. وذكر السهيلي، في التعريف والأعلام، في قوله تعالى: " وبئر معطلة وقصر مشيد " أن البئر هي الرس، وكانت بعدن لأمة من بقايا ثمود وكان لهم ملك عمل حسن السيرة، يقال له العلس، وكانت البئر تسقي المدينة كلها، وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك، وكانت لهم بركات كثيرة عليها ورجال كثيرون موكلون بها وأوان من رخام، وهي شبه الحياض كثيرة يملأ الناس منها وآخر للدواب، والقوم عليها يستقون الليل والنهار يتداولون ذلك. ولم يكن لهم ماء غيرها وطال عمر الملك، فلما جاءه الموت، طلوه بدهن لتبقى صورته ولا يتغير، وكذلك كانوا يفعلون بموتاهم، إذا كانوا ممن يكرم عليهم، فلما مات شق عليهم ورأوا أن أمرهم قد فسد، وضجوا بالبكاء، فاغتنمها الشيطان منهم، فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة وأخبرهم أنه لم يمت ولا يموت أبداً. ثم قال: ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم. ففرحوا أشد الفرح، وأمر خاصته أن يضربوا له حجاباً بينه وبينهم، ليكلمهم من ورائه كي لا يعرف الموت في صورته. فنصبوه صنماً من وراء حجاب، وأخبرهم أنه لا يأكل ولا يشرب ولا يموت أبداً وأنه لهم إله. وكان ذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم ذلك وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب له أقل من المصدق له، وكان كلما تكلم ناصح منهم زجر وقهر، وفشا الكفر فيهم وأقبلوا على عبادته، فبعث الله إليهم نبياً، كان ينزل الوحي عليه في النوم دون اليقظة، اسمه حنظلة بن صفوان فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن الشيطان قد أضلهم وأن الله سبحانه لا يمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله تعالى، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته، فآذوه وعادوه وهو يعظهم وينصح لهم حتى قتلوه وطرحوه في بئر. فعند ذلك حلت عليهم النقمة، فباتوا شباعاً رواء من الماء، فأصبحوا والبئر قد غار ماؤها، وتعطلت رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان، وأخذهم العطش وبهائمهم حتى عمهم الموت، وشملهم الهلاك وخلفهم في أرضهم السباع، وفي منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت جناتهم بالسحر وشوك القتاد، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن، وزئير الأسد. نعوذ بالله من سطواته، ومن الإصرار على ما يوجب نقماته.
قال: وأما القصر المشيد، فقصر بناه شداد بن عاد بن أرم، ولم يبن في الأرض مثله فيما ذكر، وحاله كحال هذه البئر، في إيحاشه بعد الأنس، وافقاره بعد العمران، فلا يستطيع أحد أن يدنو منه على أميال لما يسمع من عزيف الجن والأصوات المنكرة، بعد النعيم والعيش الرغد، وانتظام الأهل كالسلك، فبادوا وما عادوا. فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وذكرى وتحذيراً من غب المعصية وسوء عاقبة المخالفة نعوذ بالله من ذلك.
وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول الناس دخولا الجنة يوم القيامة عبد أسود " وذلك أن الله تعالى بعث نبياً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلا ذلك العبد الأسود، ثم إن أهل تلك القرية عدوا على ذلك النبي فحفروا له بئراً، فألقوه فيها، ثم ألقوا عليه حجراً ضخماً، فكان ذلك العبد الأسود يذهب ويحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاماً وشراباً، ثم يأتي إلى تلك البئر، فيرفع تلك الصخرة، ويعينه الله عليها، ثم يدلي إليه طعامه وشرابه، ثم يرد الصخرة كما كانت. فمكث كذلك ما شاء الله. ثم ذهب يحتطب يوماً، كما كان يصنع، فجمع حطبه وحزم حزمته، وفرغ منها فلما أراد أن يحملها، أخذته سنة من النوم، فاضطجع فنام فضرب الله على أذنه سبع سنين، ثم إنه هب فتمطى لشقه الآخر، فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين، ثم إنه هب فاحتمل حزمته ولا يحسب أنه نام إلا ساعة من نهار، فجاء إلى القرية فباع حزمته، ثم إنه اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع، ثم ذهب إلى البئر والتمس النبي فلم يجده، وقد كان بدا لقومه ما بدا، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه، فكان النبي يسألهم عن ذلك العبد الأسود ما فعل به فيقولون: لا ندري حتى قبض الله ذلك النبي، وأهب الله ذلك العبد الأسود من نومته بعد ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن ذلك العبد الأسود لأول من يدخل الجنة " .
قلت: وقد ذكر في هذا الحديث أنهم آمنوا بنبيهم الذي استخرجوه من الحفرة، فلا ينبغي أن يكونوا المعنيين بقوله تعالى: " وأصحاب الرس " لأن الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس، أنه دمرهم تدميراً إلا أن يكونوا دمروا بأحداث أحدثوها، بعد نبيهم الذي استخرجوه من الحفرة وآمنوا به، فيكون ذلك وجهاً.
قال ابن خلكان: ورأيت في تاريح أحمد بن عبد الله بن أحمد الفرغاني نزيل مصر أن العزيز بن نزار ابن المعز صاحب مصر اجتمع عنده من غرائب الحيوان، ما لم يجتمع عند غيره، فمن ذلك العنقاء، وهو طائر جاءه من صعيد مصر، في طول البلشون، لكنه أعظم جسماً منه، له لحية وعلى رأسه وقاية، وفيه عدة ألوان ومشابهة من طيور كثيرة، وقد تقدم، عن الزمخشري، أن العنقاء انقطع نسلها، فلا توجد اليوم في الدنيا.
وفي آخر ربيع الأبرار، في باب الطير عن ابن عباس، قال: إن الله تعالى خلق، في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، طائراً يسمى العنقاء، لها أربعة أجنحة من كل جانب، ووجه كوجه الإنسان، وأعطاها الله تعالى من كل شيء قسطاً، وخلق لها ذكراً مثلها، وأوحى إلى موسى أني خلقت طائرين عجيبين، وجعلت رزقهما في الوحوش التي حول بيت المقدس، وجعلتهما زيادة فيما وصلت به بني إسرائيل فتناسلا وكثر نسلهما. فلما توفي موسى عليه الصلاة والسلام، انتقلت فوقعت بنجد والحجاز، فلم تزل تأكل الوحوش، وتخطف الصبيان إلى أن نبئ خالد بن سنان العبسي من بني عبس، قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فشكوا إليه ما يلقون منها فدعا الله عليها، فانقطع نسلها وانقرضت، فلا توجد اليوم في الدنيا.
وفي كتاب البدء، لابن أبي خيثمة، ذكر خالد بن سنان العبسي، وذكر نبوته، وذكر أنه كان وكل به من الملائكة، مالك خازن النار وأنه كان من أعلام نبوته، أن ناراً يقال لها نار الحدثان، كانت تخرج على الناس من مفازة، فتأكل الناس والدواب، ولا يستطيعون ردها، فردها خالد بن سنان، فلم تخرج بعد ذلك. وذكر شراح الفصوص لابن عربي له قصة غريبة بعد موته، وستأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى شيء من ذلك في لفظ العير.
وروى الدارقطني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان نبياً ضيعه قومه " . يعني خالد بن سنان. وذكر غيره من العلماء أن ابنته أتت النبي صلى الله عليه وسلم فبسط لها رداءه، وقال: " أهلا ببنت خير نبي " أو نحو ذلك. وذكر الكواشي والزمخشري وغيرهما أنه كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أربعة أنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل، وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي. وذكر البغوي أنه لا نبي بينهما، والله أعلم. وكان القاضي الفاضل ينشد كثيراً:
وإذا السعادة لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبالة ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان
وتقدم في العقاب أنه مراد أبي العلاء المعري بقوله:
هي العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا
الأمثال: يقال: حلقت به عنقاء مغرب. يضرب لمن يئس منه. قال الشاعر:
الجود والغول والعنقاء ثالثة ... أسماء أشياء فلم توجد ولم تكن
وسيأتي، إن شاء الله تعالى، ذكر هذا البيت في الغول أيضاً.
التعبير: العنقاء في المنام رجل رفيع مبتدع لا يصحب أحداً، ومن رأى العنقاء كلمته نال رزقاً من قبل الخليفة، وربما يصير وزيراً، ومن ركب العنقاء غلب شخصاً لا يكون له نظير، وعن صادها فإنه يتزوج بامرأة جميلة وربما تعبر العنقاء بولد ذكر شجاع لمن أخذها وله امرأة حامل والله أعلم.
العنكبوت: دويبة تنسج في الهواء، وجمعها عناكب، والذكر عنكب وكنيته أبو خيثمة وأبو قشعم، والأنثى أم قشعم ووزنه فعللوت وهي قصار الأرجل كبار العيون للواحد ثمان أرجل وست عيون، فإذا أراد صيد الذباب لطأ بالأرض، وسكن أطرافه، وجمع نفسه، ثم وثب على الذباب، فلا يخطئه. قال أفلاطون: أحرص الأشياء الذباب، وأقنع الأشياء العنكبوت. فجعل الله رزق أقنع الأشياء في أحرص الأشياء، فسبحان اللطيف الخبير. وهذا النوع يسمى الذباب ومنها نوع يضرب إلى الحمرة له زغب، وله في رأسه أربع إبر ينهش بها وهو لا ينسج بل يحفر بيته في الأرض، ويخرج في الليل كسائر الهوام. ومنها الرتيلاء، وقد تقدم الكلام عليها في باب الراء المهملة. وقال الجاحظ: ولد العنكبوت أعجب من الفروج الذي يخرج إلى الدنيا كاسباً كاسياً، لأن ولد العنكبوت، يقوى على النسج ساعة يولد، من غير تلقين ولا تعليم، ويبيض ويحضن، وأول ما يولد عوداً صغاراً ثم يتغير ويصير عنكبوتاً، وتكمل صورته عند ثلاثة أيام، وهو يطاول السفاد، فإذا أراد الذكر الأنثى جذب بعض خيوط نسجها من الوسط، فإذا فعل ذلك فعلت الأنثى مثله، فلا يزالان يتدانيان حتى يتشابكا فيصير بطن الذكر قبالة بطن الأنثى.
وهذا النوع من العناكب حكيم، ومن حكمته أنه يمد السدى، ثم يعمل اللحمة، ويبتدئ من الوسط ويهيئ موضعاً لما يصيده من مكان آخر كالخزانة، فإذا وقع شيء فيما نسجه وتحرك، عمد إليه وشبك عليه حتى يضعفه، فإذا علم ضعفه، حمله وذهب به إلى خزانته، فإذا خرق الصيد من النسج شيئاً عاد إليه ورمه، والذي ينسجه لا يخرجه من جوفه بل من خارج جلده. وفمه مشقوق بالطول وهذا النوع ينسج بيته دائماً مثلث الشكل، وتكون سعة بيته بحيث يغيب فيه شخصه.
فائدة: أسند الثعلبي وابن عطية وغيرهما، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه في البيت يورث الفقر. وفي مراسيل أبي داود، عن يزيد بن مزيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن العنكبوت شيطان فاقتلوه " . وهو في كامل ابن علي، في ترجمة مسلمة بن علي الخشني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه " . وهو حديث ضعيف ويزيد بن مزيد الهمداني المصنعاني الدمشقي، أدرك عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وهو القائل: والله لو أن الله تعالى توعدني، إن أنا عصيت، أن يسجنني في الحمام لكان حرياً أن لا تجف لي عين. وطلبوه للقضاء فقعد يأكل في السوق فتخلص بذلك منهم.
وروى أبو نعيم، في الحلية، في ترجمة مجاهد أنه قال في قوله تعالى: " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " أنه قال: كان فيمن كان قبلكم امرأة وكان لها أجير، فولدت جارية فقالت لأجيرها: اقتبس لنا ناراً فخرج فوجد بالباب رجلا، فقال له الرجل: ما ولدت هذه المرأة؟ فقال: جارية. فقال: أما أن هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمائة رجل ويتزوج بها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت. فقال الأجير في نفسه: فأنا والله ما أريد هذه بعد أن تبغي بمائة، لأقتلنها فأخذ شفرة ودخك فشق بطن الجارية وخرج على وجهه، فركب البحر فخيط بطن الصبية، وعولجت فشفيت وشبت وطلعت من أجمل نساء عصرها، وكانت تبغي فأتت ساحلا من سواحل البحر، وأقامت هناك تبغي.
ولبث الرجل ما شاء الله، ثم قدم ذلك الساحل، ومعه مال كثير، فقال لامرأة من أهل ساحل البحر: ابتغي لي أجمل امرأة في القرية أتزوجها، فقالت: هاهنا امرأة من أجمل الناس ولكنها بغي! فقال: ائتيني بها. فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير وقال لي كذا وكذا فقلت كذا وكذا. فقالت: إني قد تركت البغاء، ولكن إن أراد تزوجته. قال: فتزوجها فوقعت منه موقعاً عظيماً، وأحبها حباً شديداً، فبينما هو يوماً عندها، إذ أخبرها بأمره، فقالت: أنا تلك الجارية، وأرته الشق في بطنها. ثم قالت: وقد كنت أبغي، فما أدري بمائة أو أقل أو أكثر. قال: فإنه قد قال لي يكون موتها بالعنكبوت، فبنى لها برجاً في الصحراء وشيده، فبينما هو وإياها يوماً في ذلك البرج إذا عنكبوت في السقف، فقال: هذا عنكبوت، فقالت: هذا يقتلني لا يقتله أحد غيري فحركته فسقط، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه، فشدخته فساح سمه بين أظفارها ولحمها، فاسودت رجلها وماتت. فأنزل الله تعالى هذه الآية " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " . وقال أكثر المفسرين: إن هذه الآية نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. فرد الله عليهم بقوله " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " .
والبروج: الحصون، والقلاع المشيدة: المرفوعة المطولة. قال قتادة: معناه في قصور محصنة.
وقال عكرمة: مجصصة، والمشيد المجصص. ويكفي العنكبوت فخراً وشرفاً نسجها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، والقصة في ذلك مشهورة في كتب التفاسير والسير وغيرها.
ونسجت أيضاً على الغار الذي دخله عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لقتل خالد بن نبيح الهذلي بالعرنة، فقتله، ثم احتمل رأسه ودخل في غار، فنسجت عليه العنكبوت. وجاء الطلب، فلم يجدوا شيئاً، فانصرفوا راجعين. ثم خرج فسار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والرأس معه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قد أفلح الوجه " . قال: وجهك يا رسول الله، ووضع الرأس بين يديه وأخبره الخبر، فدفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم عصا كانت بيده وقال: " تخطر بهذه في الجنة " . فكانت عنده إلى أن حضرته الوفاة، فأوصى أهله أن يدفنوها في كفنه ففعلوا. وكانت مدة غيبته ثمان عشرة ليلة.
وفي الحلية للحافظ أبي نعيم عن عطاء بن ميسرة، قال: نسجت العنكبوت مرتين على نبيين، على داود حين كان جالوت يطلبه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار.
وفي تاريخ الإمام الحافظ أبي القاسم بن عساكر، أن العنكبوت نسجت أيضاً على عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، لما صلب عرياناً في سنة إحدى وعشرين ومائة، فأقام مصلوباً أربع سنين، وكانوا وجهوه لغي القبلة، فدارت خشبته إلى القبلة، ثم أحرقوا خشبته وجسده رحمه الله. وكان قد بايعه خلق كثير، وحارب متولي العراق يوسف بن عمران، عم الحجاج بن يوسف الثقفي، فظفر به يوسف ففعل به ذلك. وكان ظهوره في أيام هشام بن عبد الملك، ولما خرج أتاه طائفة كثيرة من أهل الكوفة، وقالوا له: تبرأ من أبي بكر وعمر، حتى نبايعك، فأبى، فقالوا: إذن نرفضك. فمن ذلك سموا الرافضة. وأما الزيدية فقالوا: لا نتولاهما ونتبرأ ممن تبرأ منهما، وخرجوا مع زيد فسموا الزيدية. وروى زيد عن أبيه زين العابدين وجماعة، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
تتمة: ذكر ابن خلكان، في ترجمة يعقوب بن جابر المنجنيقي، أنه وقف بالقاهرة على كراريس من شعره، ورأى فيها البيتين المشهورين المنسوبين إلى جماعة من الشعراء ولا يعرف قائلهما على الحقيقة وهما:
ألقني في لظى فإن أحرقتني ... فتيقن إن لست بالياقوت
جمع النسج كل من حاك لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت
قال: فعمل يعقوب بن صابر في جوابهما هذه الأبيات:
أيها المدعي الفخار دع الفخ ... ر لذي الكبرياء والجبروت
نسج داود لم يفد ليلة الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت
وبقاء السمند في لهب النا ... ر مزيل فضيلة الياقوت
وكذاك النعام يلتقم الجم ... ر وما الجمر للنعام بقوت
وقد تقدم في السمندل الإشارة إلى هذه الأبيات.
وحكم العنكبوت: تحريم الأكل لاستقذارها.
الأمثال: قالوا: أغزل من عنكبوت وقالوا: أوهن من بيت العنكبوت قال الله تعالى: " مثل الذين اتخذوا من دون الله ا أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم، وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " . فضرب الله ببيتها المثل لمن اتخذ من دونه آلهة لا تضره ولا تنفعه، فكما أن بيت العنكبوت لا يقيها حراً ولا برداً ولا قصد أحد إليها، فكذلك ما اكتسبوه من الكفر، واتخذوه من الأصنام، لا يدفع عنهم غداً شيئاً. والعالمون كل من عقل عن الله عز وجل، وعمل بطاعته، وانتهى عن معصيته، فهم يعقلون صحة هذه الأمثال وحسنها وفائدتها. وكان جهلة قريش يقولون: إن رب محمد يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، وما علموا أن الأمثال تهز المعاني الخلفية في الصور الجلية.
الخواص: إذا وضع نسج العنكبوت على الجراحات الطرية، في ظاهر البدن حفظها بلا ورم، ويقطع سيلان الدم إذا وضع عليه، وإذا دلكت الفضة المتغيرة بنسجه جلاها. والعنكبوت الذي ينسج على الكنيف، إذا علق على المحموم يبرأ بإذن الله تعالى. وإن لف في خرقة وعلق على صاحب حمى الربع نفعه وأذهبها، وكذلك إذا سحق العنكبوت وهو حي، ومرخ به صاحب الحميات أذهبها. وإذا بخر البيت بورق الآس الرطب هرب منه العنكبوت، قاله صاحب عين الخواص.
التعبير: العنكبوت في المنام رجل قريب العهد بالزهد، وقيل: العنكبوت امرأة ملعونة تهجر فراش زوجها. وبيت العنكبوت ونسجها وهن في الدين للآية الكريمة المتقدم ذكرها في الأمثال. وقيل: العنكبوت في الرؤيا نساج فمن نازع العنكبوت نازع رجلا نساجاً أو امرأة والله أعلم.
العود: المسن من الإبل وهو الذي قد جاوز في السن البازل والخلف وجمعه عودة، والناقة عودة. ويقال في المثل: زاحم بعود أودع، أي استعن على أمرك بأهل السن وأهل المعرفة، فإن رأي الشيخ المسن خير من رأي الغلام ومعرفته. والعود المطافيل، تقدم ذكرها في أول الباب، في لفظ عائد. قال الجوهري: يقال لها ذلك إذا ولدت لعشرة أيام أو خمسة عشر يوماً ثم هي مطفل بعد والجمع مطافيل ومطافل.
العواساء: بفتح العين ممدود الحامل من الخنافس حكاه أبو عبيدة.
العوس: بالضم ضرب من الغنم يقال كبش عوسي.
العومة: بالضم دويبة تسبح في الماء، كأنها فص أسود مد ملكة والجمع عوم. قاله الجوهري.
العوهق: الخطاف الجبلي ويقال للغراب الأسود، ويقال للبعير الأسود الجسيم العوهق الطويل يستوي فيه الذكر والأنثى.
العلا: القطا وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف.
العلام: الباشق، وقد تقدم ذكره في باب الباء.
العيثوم: الضبع حكاه الجوهري عن أبي عبيدة، وقال غيره: العيثوم أنثى الذيل.
العير: الحمار الوحشي والأهلي أيضاً والجمع أعيار ومعيوراء وعيور. روى ابن ماجه من حديث عتبة بن عبد الله السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجردا تجرد العيرين " ورواه البزار من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه والطبراني من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه. وروى النسائي في عشرة النساء، من حديث عبد الله بن سرجس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتى أحدكم أهله فليلق على نفسه ثوباً ولا يتجردا تجرد العيرين " . وروى أبو منصور الديلمي من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقعن أحدكم على أهله كما يقع الحمار وليكن بينهما رسول قالوا: وما الرسول. قال: " القبلة والكلام اللين " .
وفي الحديث: " إذا أراد الله بعبد سوءاً أمسك عليه ذنوبه حتى يوافيه يوم القيامة كأنه عير " . شبه لعظم ذنوبه بالحمار الوحشي، وقيل: أراد الجبل الذي بالمدينة اسمه عير وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه، فكان يضرب به المثل في المكروهات غالباً. وعير العين جفنها قال الشاعر: زعموا أن كل من ضرب الع - ير موال لنا وأنى الولاء قال أبو عمرو بن العلاء: ذهب من كان يعرف معنى هذا البيت.
فائدة: روي أن خالد بن سنان العبسي، لما حضرته الوفاة، قال لقومه: إذا أنا دفنت فإنه سيجيء عانة من حمير يقدمها عير فيضرب قبري بحافره، فإذا أنتم رأيتم ذلك فانبشوا عني فإني سأخرج فأخبركم بعلم الأولين والآخرين، فلما مات واتفق ما قاله لقومه أرادوا أن يخرجوه، فكره ذلك بعض ولده وقالوا: إنا نخاف أن ينسب إلينا إنا نبشنا قبر أبينا. ولو فعلوا لخرج إليهم وأخبرهم لكن أراد الله غير ذلك. وقد تقدم أن ابنته أتت النبي صلى الله عليه وسلم فبسط لها رداءه وقال لها: أهلا ببنت خير نبي أو نحو ذلك. وروي أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ " قل هو الله أحد " فقالت: كأن أبي يقرأ هذا. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ذاك نبي أضاعه قومه " . وقال الشاعر يهجو رجلا:
لو كنت سيفاً كنت غير عضب ... أو كنت ماء كنت غير عذب
أو كنت لحماً كنت لحم كلب ... أو كنت عيراً كنت غير ندب
أي غير صريع في الحاجات.
الأمثال: قالت العرب: معيوراء تكادم الأعيار جمع عير، والتكادم التعارض، يضرب مثلا للسفهاء تتهارش. وقالوا: " نجي عيراً سمنه " قال أبو زيد: زعموا أن حمراً كانت هزالا فهلكت في جدب، ونجا منها حمار، كان سميناً فضرب به المثل في الحزم قبل وقوع الأمر. أي انج قبل أن لا تقدر على ذلك. ويضرب أيضاً لمن خلصه ماله من مكروه. وقالت العرب: قد حيل بين العير والنزوان يضرب لمن أيس منه. قال الشاعر:
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
وذكر ابن خلكان في ترجمة أبي أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري من ذلك شيئاً ينبغي الوقوف عليه. قال: كان الصاحب بن عباد يود الاجتماع بأبي أحمد العسكري ولا يجد إليه سبيلا، فقال لمخدومه مؤيد الدولة بن بويه: إن عسكر مكرم قد اختلت أحوالها وأحتاج إلى أن أكشفها بنفسي، فأذن له في ذلك فلما أتاها توقع أن يزوره أبو أحمد المذكور فلم يزره فكتب الصاحب إليه:
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فلم نقدر على الوخدان
أتيناكم من بعض أرض نزوركم ... وكم منزل بكر لنا وعوان
نسائلكم هل من قرى لنزيلكم ... بملء جفون لا بملء جفان
وكتب مع هذه الأبيات شيئاً من النثر، فجاوبه أبو أحمد عن النثر بنثر مثله وعن هذه الأبيات بالبيت المشهور وهو:
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
فلما وقف الصاحب على الجواب، عجب من اتفاق هذا البيت له، وقال: والله لو علمت أنه يقع له هذا البيت، لما كتبت إليه على هذا الروي. وهذا البيت لصخر أخي الخنساء. وهو من جملة أبيات مشهورة. وكان صخر المذكور قد حضر محاربة بني أسد، فطعنه ربيعة بن ثور الأسدي فأدخل بعض حلقات الدرع في جنبه، وبقي مدة حول في أشد ما يكون من المرض، وأمه وزوجته سليمى يمرضانه. فضجرت زوجته منه، فمرت بها امرأة فسألتها عن حاله، فقالت: لا هو حي فيرجى ولا ميت فينسى فسمعها صخر فأنشد:
أرى أم صخر لا تمل عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغتر بالحدثان
لعمري لقد نبهت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان
وأي امرئ ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا شقا وهوان
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
فللموت خير من حياة كأنها ... معرس يعسوب برأس سنان
وقالوا: كل شواء العير جوفان، قيل: اجتمع فزاري وثعلبي وكلبي في سفر، فاشتووا حماراً وحشياً، فغاب الفزاري في بعض حاجاته، فأكل صاحباه العير، واختبأ له غرموله، فلما جاء قدماه له وقالا: هذا قد اختبأناه لك، فجعل يأكل ولا يسيغه فضحكا منه، فاخترط سيفه وقال: لأقتلنكما إن لم تأكلاه! فأبى أحدهما، فضربه بالسيف، فأبان رأسه. وكان اسمه مرقمة، فقال صاحبه: طاح مرقمة! فقال الفزاري: وأنت إن لم تلقمه أراد إن لم تلقمها طرحت رأسك. وقد عيرت فزارة بهذا الخبر حتى قال سالم بن دارة في ذلك:
لا تأمنن فزارياً خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
لا تأمننه ولا تأمن بوائقه ... بعد الذي امتل اير العير بالنار
أطعمتم الضيف جوفانا مخاتلة ... فلا سقاكم إلهي الخالق والباري
وقالوا: أذل من عير. قيل: المراد به الوتد، لأنه يشج رأسه أبداً. وقيل: المراد به الحمار، وقال الشاعر:
ولا يقيم على خسف يراد به ... إلا الاذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثى له أحد
وقال خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، عند موته: لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ثم ها أنا أموت حتف أنفي كما يموت العير، لا نامت أعين الجبناء.
العير: بالكسر الإبل التي تحمل الميرة، ويجوز أن تجمعه على عيرات. وفي الحديث أنهم كانوا يترصدون عيرات قريش.
فائدة: قال الله تعالى: " واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها " قال ابن عطية: القرية مصر. قاله ابن عباس وغيره، وهو مجاز، والمراد أهلها. وكذلك قوله والعير هذا قول الجمهور وهو الصحيح. وحكى أبو المعالي في التلخيص، عن بعض المتكلمين، أنه قال: هذا من الحذف، وليس من المجاز، قال: وإنما المجاز لفظة تستعار لغير ما هي له، وحذف المضاف هو غير المجاز، هذا مذهب سيبويه وغيره من أهل النظر، وليس كل حذف مجازاً. ورجح أبو المعالى في هذه الآية أنه مجاز، وحكى أنه قول الجمهور، أو نحو هذا. وقالت فرقة: بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة من حيث هو نبي فلا يبعد أن تخبره بالحقيقة، قال: وهذا وان جوز فبعيد.
فائدة أخرى: أول من قال: " لا في العير ولا في النفير " أبو سفيان بن حرب، وذلك أنه لما أقبل بعير قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم تحين انصرافها من الشام، فندب المسلمين للخروج معه وأقبل أبو سفيان حتى دنا من المدينة، وقد خاف خوفاً شديداً، فقال للمجد بن عمرو: هل أحسست بأحد من أصحاب محمد؟ فقال: ما رأيت أحداً أذكره إلا راكبين أتيا إلى هذا المكان، وأشار إلى مكان عدياً وبسيساً عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ أبو سفيان أبعاراً من أبعار بعيريهما وفركها فإذا فيها نوى، فقال: علائف يثرب، هذه عيون محمد فضرب وجوه عيره عن يسار بدر، وقد كان بعث إلى قريش يخبرهم بما يخافه من النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبلت قريش من مكة، فأرسل إليهم أبو سفيان يخبرهم أنه قد أحرز العير ويأمرهم بالرجوع، فأبت قريش أن ترجع، ومضت إلى بحر ورجع بنو زهرة منصرفين إلى مكة، فصادفهم أبو سفيان فقال: يا بني زهرة لا في العير ولا في النفير. قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع. ومضت قريش إلى بدر، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم ولم يشهد بدراً من بني زهرة أحد. قال الأصمعي: يضرب هذا المثل للرجل يحط أمره ويصغر قدره، والله تعالى أعلم.
عير السراة: طائر كهيئة الحمامة.
العيس: بكسر العين الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة، واحدها أعيس والأنثى عيساء، ويقال هي كرام الإبل وما أحسن قول الأول:
ومن العجائب والعجائب جمة ... قرب الحبيب وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول
وفي حديث سواد بن قارب وشدت العيس بأحلاسها.
العيساء: بفتح العين الأنثى من الجراد، وقد تقدم ما في الجراد في باب الجيم.
العيلام: والعيلان بفتح العين فيهما الذكر من الضباع وفي الحديث، أن الخليل عليه الصلاة والسلام يريد أن يحمل أباه آزر ليجوز به الصراط فينظر إليه فإذا هو عيلام أمدر، والعيلام ذكر الضباع، والياء والألف زائدتان قاله في نهاية الغريب.
العيثوم: الضبع عن أبي عبيدة، وقد تقدم قبل ذلك بورقة، وقال الغنوي: والعيثوم الأنثى من الذيلة وأنشد الأخطل:
تركوا أسامة في اللقاء كأنما ... وطئت عليه بخفها العيثوم
العين: من الألفاظ المشتركة، قال بعض أهل اللغة ممن تكلم على الألفاظ المشتركة: إن العين طائر أصفر البطن والظهر في حد القمري.
العيهل: الناقة السريعة، قال أبو حاتم: ولا يقال جمل عيهل.
عيجلوت: كحيزبون اسم النملة المذكورة في القرآن، وسيأتي إن شاء الله تعالى اختلاف العلماء في اسمها في باب النون في لفظ النمل.
ابن عرس: وكنيته أبو الحكم وأبو الوثاب وهي دابة تسمى بالفارسية راسو، وهي بكسر العين وإسكان الراء المهملتين، تجمع على بنات عرس وبني عرس، حكاه الأخفش. قال القزويني: هو حيوان دقيق يعادي الفأر، يدخل جحره ويخرجه، ويعادي التمساح فإن التمساح لا يزال مفتوح الفم، وابن عرس يدخل فيه وينزل جوفه ويأكل أحشاءه ويمزقها، ويخرج ويعادي الحية أيضاً، ويقتلها. وإذا مرض يأكل بيض الدجاج فيزول مرضه.
وحكي أن ابن عرس تبع فأرة فصعدت شجرة، فلم يزل يتبعها حتى انتهت إلى رأس الغصن، ولم يبق لها مهرب، فنزلت على ورقة وعضت طرفها، وعلقت نفسها بها، فعند ذلك صاح ابن عرس، فجاءته زوجته فلما انتهت إلى تحت الشجرة، قطع ابن عرس الورقة التي عضتها الفأرة فسقطت فاصطادها ابن عرس التي كانت تحت الشجرة.
وقال عبد اللطيف البغدادي: وأظنه الحيوان المسمى بالدلق، وإنما يختلف لونه ووبره بحسب البلاد قال في طبعه: إنه يسرق ما وجد من فضة وذهب، كما يفعل الفأر وربما عادى الفأر فقتله، ولكن خوف الفأر من السنور أشد من خوفه منه. قال: وهو كثير الوجود في منازل أهل مصر، قال: وقد حكي من فطنته، أن رجلا صاد فرخاً منها وحبسه في قفص بحيث تراه أمه، فلما رأته ذهبت ثم جاءت وفي فمها دينار، فألقته بين يديه كأنها تفتدي ولدها فلم يتركه لها، فذهبت وعادت بدينار آخر حتى كمل العدد خمساً، فلما رأت أنه لا يطلقه ذهبت وعادت بخرقة كأنها تشير إلى فراغ حاصلها فلم يكترث بها، فلما رأت ذلك منه عادت إلى دينار منها لتأخذه، فخشي الرجل من ذلك فأطلق لها ولدها. وقد تقدم في باب الجيم في الجرذ حديث ضباعة بنت الزبير، أن المقداد بن الأسود ذهب يقضي حاجته فإذا جزد يخرج من جحره ديناراً ثم ديناراً ثم لم يزل كذلك، إلى أن أخرج سبعة عشر ديناراً، ثم أخرج خرقة حمراء قد بقي فيها دينار واحد، فكانت ثمانية عشر، فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره وقال: خذ صدقتها. فقال عليه الصلاة والسلام: " هل هوت إلى الجحر بيدك؟ " فقال: لا. فقال له عليه الصلاة والسلام: " بارك الله لك فيها " . قال الجاحظ: ابن عرس نوع من الفأر وأنشد قول الشمقمق:
نزل الفارات بيتي ... رفقة من بعد رفقه
ثم قال:
وابن عرس رأس بيتي ... صاعداً في رأس طبقه
ثم قال يصفه:
صبغة أبصرت منها ... في سواد العين زرقه
مثل هذا في ابن عرس ... أغبش تعلوه بلقه
فوصفه بكونه أغبش أبلق، وأنه من الفأر. وهو أنواع ثلاثة عشر ستأتي في أماكنها، إن شاء الله تعالى. وقال أرسطاطاليس، في نعوت الحيوان، والتوحيدي في الإمتاع والمؤانسة: إن الأنثى من بنات عرس، تلقح من أفواهها وتلد من أذنابها. وقال في كفاية المتحفظ: ابن عرس هو السرعوب، ويقال له النمس، وهو غلط. والذي قبله قريب منه. والجمع بينه وبين كلام الجاحظ عسر لأن النمس ليس من جنس الفأر، والصواب ما قاله الجاحظ من أنه نوع من الفأر. وقال الشيخ قطب الدين السنباطي: بنات عرس هي هذه التي في بيوت مصر، وفيما قاله قصور، فإن بنات عرس أنواع كما يأتي عن الرافعي قريباً.
الحكم: قيل: يحرم أكله لأنه كالفأر، والمشهور حله، بل قال في شرح المهذب: يحل بلا خلاف، وفيه وجه حكاه الماوردي أنه يحرم. وحكى في الشرح الصغير الوجهين، وقال: الأظهر الحل، وهذه المسألة ساقطة من الشرح الكبير والروضة، والأشبه أنه من صنيع النساخ، وإلا فكلام الشرح لا يستقيم إلا بذكرها، ولذلك كتبها فيه، كما في الشرح الصغير، الشيخ عز الدين النشائي على حاشية نسخته. وقال الرافعي، في كتاب الحج: إن بنات عرس أنواع. والغزالي قال: إنه يشبه الثعلب، وكلام الغزالي يقتضي أن ابن عرس هو النمس، لأنه يشبه الثعلب بأسنانه وطول ذنبه، وإن كان أصغر منه جثة. وقال القاضي أبو الطيب: لا أعلم خلافاً بين الأصحاب في حل ابن عرس، لأنه لا يتقوى بنابه، وكذا ذكر صاحب البحر. والمشهور الحل، كما في الشرح الصغير والمختصرات المشهورة كالتنبيه والوجيز والحاوي الصغير.
الخواص: دماغه يكتحل به فينفع من ظلمة العين، وإن جفف وشرب بخل نفع من الصرع، ولحمه يستعمل ضماداً لوجع المفاصل، وشحمه يطلى به السن تقع سريعاً، ومرارته إن شربت، وهي حارة، قتلت من وقتها. وعمه يطلى به الخنازير يحللها. وإن خلط دمه بدم الفأر، ومزج بماء، ورش في بيت، وقعت الخصومة بين أهله، وإن دفن ابن عرس وفأرة في بيت، فعل كما يفعل الدم، وزبله يجعل على الجراحات يقطع الدم، وإن أخذ كفاه وعلقتا على امرأة لم تحبل ما دام ذلك عليها والله تعالى أعلم.
وهو في الرؤيا: يدل على الزواج للأعزب بامرأة صبية والله تعالى أعلم.
أم عجلان: طائر، قاله الجوهري، وقال ابن الأثير: طائر أسود، يقال له قوبع، وقيل: طائر أسود أبيض الذنب، يكثر تحريك ذنبه يقال له الفتاح.
أم عزة: الظبية وعزة ابنتها.
أم عويف: دويبة صغيرة، ضخمة الرأس مخضرة، لها ذنب طويل، وأربعة أجنحة، إذا رأت الإنسان قامت على ذنبها، ونشرت أجنحتها، وهي لا تطير. ويقال لها ناشرة برديها، يلعب بها الصبيان ويقولون لها:
أم عويف انشري برديك ... ثمت طيري بين صحراويك
إن الأمير خاطب بنتيك ... بجيشه وناظر إليك
كذا قاله في المرصع. وهذه تشبه أن تكون أم حبين المتقدمة في باب الحاء المهملة.
أم العيزار: السبيطر، ووقع في المهذب، في باب الهدنة أن عاقر ناقة صالح اسمه العيزار بن سالف، وهو تصحيف بلا خلاف، وإنما عاقر الناقة اسمه قدار بضم القاف، ثم دال مهملة مخففة ثم ألف ثم راء مهملة هكذا ذكره جميع أهل التواريخ والقصص والأسماء وأهل اللغة كالجوهري وغيره ونبه عليه النووي رحمه الله تعالى.
باب الغين المعجمة
الغاق: والغاقة: نوع من طير الماء معروف مشهور.الغداف: غراب القيظ وجمعه غدفان، بكسر الغين المعجمة، وربما سموا النسر الكثير الريش غدافاً. وكذلك الشعر الأسود الطويل، وقال ابن فارس: الغداف هو الغراب الضخم. وقال العبدري وغيره من أئمة أصحابنا: هو غراب صغير أسود لونه كلون الرماد.
الحكم: أباح الشعبي أكل الغراب الأسود الكبير، الذي يأكل الحبوب والزرع، فأشبه الحجل. وقال أبو حنيفة: الغربان كلها حلال. وروى هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: إني لأعجب ممن يأكل الغراب وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله للمحرم وسماه فاسقاً، والله ما هو من الطيبات وأما مذهب الشافعي، فحاصل ما في الروضة أن الغداف يحرم أكله، والذي في الرافعي أنه حلال، وهذا هو المعتمد في الفتوى، كما نبه عليه شيخنا في المهمات.
الخواص: قال القزويني: إذا أخذت شحم الغداف مع دهن ورد، ودهنت به وجهك، ودخلت على السلطان قضى حاجتك.
الغذي: السخلة والجمع غذاء، مثل فصيل وفصال، ومنه قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لعامل الصدقة: احتسب عليهم بالغذاء، ولا تأخذهما منهم. وأنشد الأصمعي:
لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... غذى بهم ولقمانا وذا جدن
ورواه خلف الأحمر غذى بالتصغير حكاه الجوهري وغيره.
الغراب: معروف، وسمي بذلك لسوافه. ومنه قوله تعالى: " وغرابيب سود " وهما لفظان بمعنى واحد. ومن أحاديث راشد بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى يبغض الشيخ الغربيب " فسره راشد بن سعد بالذي يخضب بالسواد. وجمعه غربان وأغربة وأغرب وغرابين وغرب. وقد جمعها ابن مالك في قوله:
بالغرب أجمع غراباً ثم أغربة ... وأغرب وغرابين وغربان
وكنيته أبو حاتم وأبو جحادف وأبو الجراح وأبو حفر وأبو زيدان وأبو زاجر وأبو الشؤم وأبو غياث وأبو القعقاع وأبو المرقال قال الشاعر:
إن الغراب وكان يمشي مشية ... فيما مضى من سالف الأجيال
حسد القطاة ورام يمشي مشيها ... فأصابه ضرب من العقال
فأضل مشيته وأخطأ مشيها ... فلذاك سموه أبا المرقال
ويقال له ابن الأبرص وابن بريح وابن داية، وهو أصناف: الغداف والزاغ والأكحل، وغراب الزرع والأورق. وهذا الصنف يحكي جميع ما يسمعه. والغراب الأعصم عزيز الوجود. قالت العرب: أعز من الغراب الأعصم.
وقال صلى الله عليه وسلم: " مثل المرأة الصالحة في النساء، كمثل الغراب الأعصم في مائة غراب " . رواه الطبراني من حديث أبي أمامة.
وفي رواية ابن أبي شيبة، قيل: يا رسول الله وما الغراب الأعصم. قال: " الذي إحدى رجليه بيضاء " . وروى الإمام أحمد والحاكم في مستدركه، عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، فإذا بغربان كثيرة، فيها غراب أعصم أحمر المنقار والرجلين، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة من النساء إلا مثل هذا الغراب، في هذه الغربان " وإسناده صحيح. وهو في السنن الكبرى للنسائي. قال في الإحياء: الأعصم أبيض البطن. وقال غيره: الأعصم أبيض الجناحين. وقيل: أبيض الرجلين أراد عليه الصلاة والسلام قلة الصالحة في النساء، وقلة، من يدخل الجنة منهن، لأن هذا الوصف في الغربان عزيز قليل.
وفي وصية لقمان لابنه: يا بني اتق المرأة، فإنها تشيبك قبل المشيب، واتق شرار النساء فإنهن لا يدعون إلى خير، وكن من خيارهن على حذر. وقال الحسن: والله ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: خالفوا النساء، فإن في خلافهن البركة. وقد قيل: شاوروهن وخالفوهن. وفي السيرة، في قصة حفر زمزم لما رأى عبد المطلب قائلا يقول له: احفر طيبة، قال: وما طيبة؟ قال: زمزم. قال: وما علامتها؟ قال: بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم. قال السهيلي: في ذلك إشارة إلى أن الذي يهدم الكعبة صفته كصفة الغراب، وهو ذو السويقتين. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يخرب الكعبة ذو السويقتين رجل من الحبشة " . وفي البخاري، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " كأني به أسود أفحج، يقلعها حجراً حجراً " . وفي حديث حذيفة الطويل، " كأني بحبشي أفحج الساقين، أزرق العينين، أفطس الأنف، كبير البطن، وأصحابه ينقضونها حجراً حجراً، ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر " . يعني الكعبة. ذكره أبو الفرج ابن الجوزي، وذكر الحليمي أن هذا يكون في زمن عيسى عليه السلام. وفي الحديث: " استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع فقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة " . وكراب الليل، قال الجاحظ: هو غراب ترك أخلاق الغربان، وتشبه بأخلاق البوم، فهو من طير الليل. وسمعت بعض الثقات يقول: إن هذا الغراب يشاهد كثيراً في الليل. وقال ارسطاطاليس، في النعوت: الغربان أربعة أجناس، أسود حالك، وأبلق ومطرف ببياض لطيف الجرم يأكل الحب، وأسود طاوسي براق الريش، ورجلاه كلون المرجان، يعرف بالزاغ، وفي الغراب كله الاستتار عند السفاد، وهو يسفد مواجهة، ولا يعود إلى الأنثى بعد ذلك لقلة وفائه. والأنثى تبيض أربع بيضات وخمساً، وإذا خرجت الفراخ من البيض طردتها، لأنها تخرج قبيحة المنظر جداً، إذ تكون صغار الأجرام كبيرة الرؤوس والمناقير، جرداء اللون، متفاوتة الأعضاء، فالأبوان ينظران الفرخ كذلك فيتركانه، فيجعل الله قوته في الذباب والبعوض الكائن في عشه إلى أن يقوى وينبت ريشه، فيعود إليه أبواه. وعلى الأنثى أن تحضن وعلى الذكر أن يأتيها بالمطعم. وفي طبعه أنه لا يتعاطى الصيد. بل إن وجد جيفة، أكل منها وإلا مات جوعاً، ويتقمقم كما يتقمقم ضعاف الطير، وفيه حذر شديد وتنافر. والغداف يقاتل البوم ويخطف بيضها ويأكله، ومن جيب أمره أن الإنسان إذا أراد أن يأخذ فراخه، يحمل الذكر والأنثى في أرجلهما حجارة، ويتحلقان الجو ويطرحان الحجارة عليه يريدان بذلك دفعه.
قال الجاحظ: قال صاحب منطق الطير: الغراب من لئام الطير، وليس من كرامها، ولا من أحرارها ومن شأنه أكل الجيف والقمامات، وهو إما حالك السواد شديد الاحتراق، ويكون مثله في الناس الزنج فإنهم شرار الخلق تركيباً ومزاجاً، كمن بردت بلاده ولم تنضجه الأرحام، أو ثخنت بلاده فأحرقته الأرحام، وإنما صارت عقول أهل بابل فوق العقول، وكمالهم فوق الكمال، لأجل ما فيها من الاعتدال. فالغراب الشديد السواد، ليس له معرفة ولا كمال، والغراب الأبقع كثير المعرفة، وهو الأم من الأسود انتهى. والعرب تتشاءم بالغراب، ولذا اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب.
فائدة أجنبية: اسم الغربة مجموع من أسماء دالة على محصول اسم الغربة فالغين من غمر وغرور وغيبة وغم وغلة، " وهي حرارة الحزن، وغرة وغول وهي كل مهلكة، والراء من رزء وردع وردى وهو الهلاك، والباء من بلوى وبؤس وبرح وهو الداهية، وبوار وهو الهلاك، والهاء من هوان وهول وهم وهلك، قاله محمد بن ظفر، في السلوان. وغراب البين الأبقع. قال الجوهري: هو الذي فيه سواد وبياض. وقال صاحب المجالسة: سمي غراب البين لأنه بان عن نوح، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، لما وجهه لينظر إلى الماء، فذهب ولم يرجع. ولذلك تشاءموا به. وذكر ابن قتيبة أنه سمي فاسقاً، فيما أرى، لتخلفه حين أرسله نوح عليه السلام، ليأتيه بخبر الأرض، فترك أمره ووقع على جيفة. قال عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى ببينهم الغراب الأبقع
وقال صاحب منطق الطير: الغربان جنس من الأجناس التي أمر بقتلها في الحل والحرام، من الفواسق، اشتق لها ذلك الاسم من اسم إبليس، لما يتعاطاه من الفساد الذي هو شأن إبليس، واشتق ذلك أيضاً لكل شيء اشتد أفاه. وأصل الفسق الخروج عن الشيء، وفي الشرع الخروج عن الطاعة انتهى.
قال الجاحظ: غراب البين نوعان، أحدهما غراب صغير معروف باللؤم والضعف، وأما الآخر فإنه ينزل في دور الناس، ويقع على مواضع إقامتهم إذا ارتحلوا عنها، وبانوا منها. قال: وكل غراب غراب البين، إذا أرادوا به الشؤم لا غراب البين نفسه الذي هو غراب صغير أبقع.
وإنما قيل: لكل غراب غراب البين، لأنه يسقط في منازلهم إذا ساروا منها وبانوا عنها، فلما كان هذا الغراب لا يوجد إلا عند بينونتهم عن منازلهم، اشتقوا له هذا الاسم من البينونة.
وقال المقدسي، في كشف الأسرار، في حكم الطيور والأزهار، في صفة غراب البين: هو غراب أسود ينوح نوح الحزين المصاب، وينعق بين الخلان والأحباب، إذا رأى شملا مجتمعاً أنذر بشتاته، وإن شاهد ربعاً عامراً بشر بخرابه، ودروس عرصاته، يعرف النازل والساكن بخراب الدور والمساكن، ويحذر الآكل غصة المآكل، ويبشر الراحل بقرب المراحل، ينعق بصوت فيه تحزين، كما يصيح المعلن بالتأذين وأنشد على لسان حاله:
أنوح على ذهاب العمر مني ... وحق أن أنوح وأن أنادي
وأندب كلما عاينت ركباً ... حدا بهمو لو شك البين حادي
يعنفني الجهول إذا رآني ... وقد ألبست أثواب الحداد
فقلت له: اتعظ بلسان حالي ... فإني قد نصحتك باجتهاد
وها أنا كالخطيب وليس بدعا ... على الخطباء أثواب السواد
ألم ترني إذا عاينت ركبا ... أنادي بالنوى في كل ناد
أنوح على الطلول فلم يجبني ... بساحتها سوى خرس الجماد
فأكثر في نواحيها نواحي ... من البين المفتت للفؤاد
تيقظ يا ثقيل السمع وافهم ... إشارة من تسير به العوادي
فما من شاهد في الكون إلا ... عليه من شهود الغيب بادي
وكم من رائح فيها وغاد ... ينادي من دنو أو بعاد
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي
فدل قوله: وقد ألبست أثواب الحداد، وليس بدعا على الخطباء أثواب السواد، أنه أسود، وقوله: فلم يجبني بساحتها سوى خرس الجماد، أنه يوجد عند مفارقة أهل المواضع لها، وأما قوله: وينغق بين الخلان والأحباب، فهو بالغين المعجمة، عند جمهور أهل اللغة، وهو الذي قاله ابن قتيبة، وجعل غيره خطأ.
ونقل البطليوسي، عن صاحب المنطق، أنه قال: نعق الغراب ونغق. قال: وهو بالغين المعجمة أحسن. وحكى ابن جني مثل ذلك. وقد أحسن الصاحب بهاء الدين زهير وزير الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بقوله في البين من أبيات:
لقد ظلمتني واستطالت يد النوى ... وقد طمعت في جانبي كل مطمع
إلى كم أقاسي فرقة بعد فرقة ... وحتى متى يا بين أنت معي معي
وقالت علمنا ما جرى منك بعدنا ... فلا تظلميني ما جرى غير أدمي
وله ملغزا في قفل وقد أجاد:
وأسود عار أنحل البرد جسمه ... وما زال من أوصافه الحرص والمنع
وأعجب شيء كونه الدهر حارساً ... وليس له عين وليس له سمع
وله شعر جيد، وشعره عند أهل الصناعة يسمى السهل الممتنع. وكان متمكناً من الملك الصالح ولا يتوسط إلا بالخير، وكانت وفاته سنة ست وخمسين وستمائة رحمه الله تعالى.
ويقال: إذا صاح الغراب مرتين، فهو شر، وإذا صاح ثلاث مرات فهو خير على قدر عدد الحروف. ولما كان صافي العين حاد البصر سموه بالأعور. وقال الجاحظ: إنهم إنما سموه بالأعور تطيراً منه وتشاؤماً به وليس به عور. وقيل: إنما سموه أعور تفاؤلا بالسلامة منه، كما سموا البرية بالمفازة، واليد الشمال باليسار.
والتطير أصله من الطير إذا مر بارحاً أو سانحاً أو قعيداً أو ناطحاً، فالبارح ما أتى من ناحية الميامن والسانح، بالنون والحاء المهملة ما أتى من ناحية المياسر، والناطح ما تلقاك والقعيد ما استدبرك. وإنما كان الغراب هو المقدم عندهم في باب الشؤم، لأنه لما كان أسود ولونه مختلفاً إن كان أبقع، ولم يكن على إبلهم شيء أشد من الغراب. وكان حديد البصر يخاف من عينيه كما يخاف من عين المعيان قدموه في باب الشؤم انتهى. وقيل: إنما سموه أعور لتغميض إحدى عينيه أبداً، من قوة بصره. قاله ابن الأعرابي، وسيأتي في الأمثال شيء من هذا.
فائدة: قال صاحب العشرات: اسم الغراب من الأسماء المشتركة، يقع على الثلج وعلى الضفيرة من الشعر وعلى المعول وعلى رأس الورك وعلى الغراب نفسه. قال: أنشدني أبو عبد الله المهلبي، يعني نفطويه كنى عنه لأنه كان في زمانه، عن ثعلب عن ابن الأعرابي:
يا عجباً للعجب العجاب ... خمسة غربان على غراب
وقال ارسطاطاليس في النعوت: غراب البين جسمه أسود ومنقاره ورجلاه صفر، ومأكله من جميع النبات واللحوم. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن نقرة الغراب " . يريد بذلك تخفيف السجود، وأنه لا يمكث فيه، إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله. وروى البخاري في الأدب، والحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب، وابن عبد البر وغيرهم عن عبد الله بن الحارث الأموي، عن أمه ريطة بنت مسلم، عن أبيها، أنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حنيناً، فقال: " ما اسمك " ؟ قلت: اسمي غراب. فقال صلى الله عليه وسلم: " بل أنت مسلم " . وإنما غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه لأنه حيوان خبيث الفعل، خبيث المطعم، ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بقتله في الحل والحرم.
وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: " ما اسمك " ؟ قال: أصرم. قال: " بل أنت زرعة " . وإنما غيره لما فيه من معنى الصرم وهو القطع. قال أبو داود: وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاص وعزيز وعقلة وشيطان والحكم وحباب وشهاب وأرض تسمى عفرة فسماها النبي صلى الله عليه وسلم خضرة. فالعاص كرهه لمعنى العصيان، وإنما صفة المؤمن الطاعة والاستسلام. وعزيز إنما غيره لأن العزة لله تعالى وشعار العبد الذلة والاستكانة، وقد قال الله تعالى عندما قرع بعض أعدائه: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " وعقلة معناه الشدة والغلظة، ومن صفة المؤمن اللين والسهولة. قال صلى الله عليه وسلم: " المؤمنون هينون لينون " . والشيطان اشتقاقه من البعد عن الخير. والحكم هو الحاكم الذي لا يرد حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير الله سبحانه وتعالى. والحباب اسم الشيطان، والشهاب اسم للشعلة من النار والنار عقوبة الله تعالى، وهي محرقة مهلكة، نسأل الله النجاة منها. وأما عفرة فهو نعت لأرض لا تنبت شيئاً، فسماها خضرة على معنى التفاؤل لتخضر وتزرع.
وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن شبل، وليس له في الكتب الستة سواه أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى المصلي عن نقرة الغراب " . ورواه الحاكم بلفظ " نهى عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان كما يوطنه البعير " . يريد بنقرة الغراب تخفيف السجود، وأنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله.
وروى أبو يعلى الموصلي، والطبراني، في معجمه الأوسط، عن سلمة بن قيصر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من صام يوماً ابتغاء وجه الله، باعده الله من النار كبعد غراب طار وهو فرخ حتى مات هرماً. وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه كلام.