كتاب:السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون
المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي
إلى محل البيت صارت السكيتة سحابة وقالت يا إبراهيم خذ قدر ظلي
فابن
عليه أي وفي لفظ لما أمر إبراهيم ببناء البيت ضاق به ذرعا فأرسل إليه
السكينة وهي ريح خجوج ملتوية في هبوبها لها رأس الحديث فحفر إبراهيم
وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام فأبرزوا أي الحفر عن أس ثابت في الأرض فبنى
إبراهيم وإسمعيل يناول الحجارة أي التي تأتي بها الملائكة كما سيأتي حتى
ارتفع البناء
أقول يحتمل أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أوحى
الله إليه بذلك كان في مكة عند إسمعيل وإنهما كانا بمحل بعيد عن محل البيت
ويحتمل أنهما كانا بغيرها ثم جاءا
وقد قيل في قوله تعالى { إن
إبراهيم كان أمة قانتا لله } الآية أي قائما مقام الأمة لإنفراده بعبادة
الله تعالى في أرضه لأنه لم يمكن على وجه الأرض من يعبد الله سواه والله
أعلم
قال ثم لما ارتفع البناء جاء المقام أي وهو الحجر المعروف فقام
عليه وهو يبنى وهما يقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وصار كلما
ارتفع البناء ارتفع به المقام في الهواء فأثر قدم إبراهيم في ذلك الحجر
وقيل إنما أثر في صخرة اعتمد عليها وهو قائم حين غسلت زوجة إسمعيل له رأسه
لأن سارة كانت أخذت عليه عهدا حين استأذنها في الذهاب إلى مكة لينظر كيف
حال إسمعيل وهاجر فحلف لها إنه لا ينزل عن دابته أي التي هي البراق ولا
يزيد على السلام وإستطلاع الحال غيرة من سارة عليه من هاجر فحين اعتمد على
الصخرة ألقى الله تعالى فيها أثر قدمه آية وفيه كيف يعتمد بقدمه على
الصخرة وهو راكب دابته إلا أن يقال لما مال بشقه اعتمد عليها بإحدى رجليه
مع ركوبه وهذا يدل على أن الموجود في المقام أثر قدمه لا قدميه ووقوفه
عليه في حال البناء يدل على أن الموجود فيه المام أثر قدميه فلينظر وجعل
ارتفاع البيت تسعة أذرع قيل وعرضه ثلاثين ذراعا قال بعضهم وهو خلاف
المعروف ولم يجعل له سقفا ولا بناء بمدر وإنما رصه رصا وجعل له بابا أي
منفذا لاصقا بالأرض غير مرتفع عنها ولم ينصب عليه بابا أي يقفل إنما جعله
تبع الحميري بعد ذلك وحفر له بئرا داخله عند بابه أي على يمين الداخل منه
يلقى فيها ما يهدى إليه وكان يقال لها خزانة الكعبة كما تقدم
ولما
أراد أن يجعل حجرا يجعله علما للناس أي يبتدئون الطواف منه ويختمون به ذهب
إسمعيل عليه الصلاة والسلام إلى الوادي يطلب حجرا فنزل جبريل عليه الصلاة
والسلام
بالحجر الأسود يتلألأ نورا أي فكان نوره يضيء إلى منتهى أبواب
الحرم من كان ناحية
وفي الكشاف إنه اسود لما لمسته الحيض في الجاهلية وتقدم أنه اسود من مسح
آدم به دموعه وجاء إن خطايا بني آدم سودته وأما شدة سواده فبسبب إصابة
الحريق له أولا في زمن قريش وثانيا في زمن عبدالله بن الزبير وقد كان رفع
إلى السماء حين غرقت الأرض زمن نوح بناء على أنه كان موجودا في تلك الخيمة
كما تقدم وفي رواية إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما قال لإسمعيل يا
بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه ههنا قال يا أبتي إني كسلان لغب أي تعب قال
علي بذك فانطلق يأتيه بحجر فجاءه جبريل بالحجر من الهند وهو الحجر الذي
خرج به آدم من الجنة أي كما تقدم فوضعه إبراهيم موضعه وقيل وضعه جبريل
وبنى عليه إبراهيم وجاء إسمعيل بحجر من الوادي فوجد إبراهيم قد وضع ذلك
الحجر أي أو بنى عليه فقال من أين هذا الحجر من جاءك به قال إبراهيم عليه
الصلاة والسلام من لا يكلني إليك ولا إلى حجرك أي وفي لفظ جاءني به من هو
أنشط منك وفي لفظ إن إسمعيل جاءه بحجر من الجبل قال غير هذا فرده مرارا لا
يرضى ما يأتيه به وجاء إن الله تعالى استودع الحجر أبا قبيس حين أغرق الله
الأرض زمن نوح عليه الصلاة والسلام وقال إذا رأيت خليلي يبنى بيتي فأخرجه
له أي فلما انتهى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمحل الحجر نادى أبو قبيس
إبراهيم فقال يا إبراهيم هذا الركن فجاء فحفر عنه فجعله في البيت وقيل
تمخض أبو قبيس فانشق عنه
أقول وفي لفظ قال يا إبراهيم يا خليل
الرحمن إن لك عندي وديعة فخذها فإذا هو بحجر أبيض من يواقيت الجنة ومن ثم
كان أبو قبيس يسمى في الجاهلية الأمين لحفظه ما استودع ويسمى أبا قبيس
باسم رجل من جرهم اسمه قبيس هلك فيه وقيل باسم رجل من مذحج بني فيه يقال
له أبو قبيس وقيل لأنه اقتبس منه الحجر الأسود فسمى بذلك ويحتاج إلى الجمع
بين ما ذكر على تقدير صحته وما ذكر في ترجمة إلياس أحد أجداده صلى الله
عليه وسلم أنه أول من وضع الركن أي الحجر الأسود حين غرق البيت وانهدم زمن
نوح فكان أول من سقط عليه أي أول من علم به فوضعه في زاوية البيت فليتأمل
ذلك والله أعلم أي وعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال عند
المقام أشهد بالله يكررها لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الركن
والمقام
يا قوتتان من ياقوت الجنة طمس
الله نورهما ولولا أن نورهما طمس لأضاء ما بين المشرق والمغرب أي من
نورهما ولعل طمس نور الحجر كان سببه ما تقدم فلا مخالفة
وجاء إنهما
يقفان يوم القيامة وهما في العظم مثل أبي قبيس يشهدان لمن وافاهما بالوفاء
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لولا ما مسهما من أهل الشرك ما مسهما
ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى
وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه
لما خلق الله الخلق قال لبني آدم ألست بربكم قالوا بلى فكتب القلم إقرارهم
ثم ألقم ذلك الكتاب الحجر فهذا الإستلام له إنما هو بيعة على إقرارهم الذي
كانوا أقروا به قال رضي الله تعالى عنه وكان أبي على يقول إذا استلم الحجر
يقول اللهم أمانتي أديتها وميثاقي وفيت به ليشهد لي عندك بالوفاء وفي كلام
السهيلي إن العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين مسح ظهره أن لا
يشركوا به شيئا كتبه في صك وألقمه الحجر الأسود ولذلك يقول المستلم اللهم
إيمانا بك ووفاء بعهدك وقد جاء الحجر الأسود يمين الله في الأرض
قال
الإمام ابن فورك وكان ذلك سببا لإشتغالي بعلم الكلام فإني لما سمعت ذلك
سألت فقيها كنت أختلف إليه عن معناه فلم يحر جوابا فقيل لي سل عن ذلك
فلانا من المتكلمين فسألته فأجاب بجواب شاف فقلت لا بد لي من معرفة هذا
العلم فاشتغلت به وهذا الذي قاله السهيلي يروى عن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه
فعن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه لما دخل المطاف قام عند
الحجر وقال والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك فقال له علي رضي الله تعالى عنه
بلى يا أمير المؤمنين هو يضر وينفع قال ولم قلت ذاك بكتاب الله قال وأين
ذلك من كتاب الله قلت قال الله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم
ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم } الآية وكتب ذلك في رق وكان هذا الحجر له
عينان ولسان فقاله له افتح فاك فألقمه ذلك الرق وجعله في هذا الموضع فقال
تشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة فقال عمر رضي الله عنه أعوذ بالله
أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن
وعن قتادة قال ذكر لنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنى البيت من خمسة
أجبل من طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجودى وحراء
وذكر لنا أن قواعده من حراء التي وضعها آدم مع الملائكة
أقول تقدم أن تلك القواعد كانت من جبل لبنان ومن طور سيناء ومن طور زيتا
ومن الجودى ومن حراء إلا أن يقال يجوز أن يكون معظم ذلك كان من حراء
فليتأمل
وذكر بعضهم أنه كان له ركنان وهما اليمانيان أي لم يجعل له
إبراهيم عليه الصلاة و السلام إلا الركنين المذكورين فجعلت له قريش حين
بنته أربعة أركان
وذكر الحافظ أبن حجر أن ذا القرنين الأول وهو
المذكور في القرآن في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وهو إسكندر الرومي قدم
مكة فوجد إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام يبنيان الكعبة فاستفهمهما
عن ذلك فقالا نحن عبدان مأموران فقال لهما من يشهد لكما فقامت خمسة أكبش
شهدت أي قلن نشهد أن إبراهيم وإسمعيل عبدان مأموران بالبناء فقال رضيت
وسلمت وقال لهما صدقتما
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما كان
إبراهيم عليه الصلاة والسلام بمكة وأقبل ذو القرنين عليهما فلما كان
بالأبطح قيل له في هذه البلدة إبراهيم خليل الرحمن فقال ذو القرنين كما
ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم خليل الرحمن فنزل ذو القرنين ومشى
إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فسلم عليه إبراهيم واعتنقه فكان هو أول
من عانق عند السلام
قال الفاكهي وأظن أن الأكبش المذكورة أي التي شهدت أحجارا ويحتمل أن تكون
غنما
ووصف ذي القرنين بالأكبر احترازا من ذي القرنين الأصغر وهو الإسكندر
اليوناني فإنه كان قريبا من زمن عيسى عليه الصلاة والسلام وبين عيسى
وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام أكثر من ألفي سنة وكان كافرا والله أعلم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما فرغ إبراهيم صلى الله عليه وسلم من
بناء البيت قال يا رب قد فرغت قال أذن في الناس بالحج قال أي ورب ومن يبلغ
صوتي قال الله جل ثناؤه أذن وعلي البلاغ قال أي ورب كيف أقول قال قل يا
أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم عز وجل فوقف على
المقام وارتفع به حتى كان أطول الجبال فنادى وأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل
بوجهه شرقا وغربا ينادي بذلك ثلاث مرات أي وزويت الأرض له يومئذ سهلها
وجبلها وبحرها وبرها
وأنسها وجنها حتى
أسمعهم جميعا فقالوا لبيك اللهم لبيك وبدأ بشق اليمن وحينئذ يكون أول من
أجاب أهل اليمن وسيأتي التصريح بذلك في بعض الروايات
وعن ابن عباس
رضي الله عنهما كان أهل اليمن أكثر إجابة ومن ثم جاء في الحديث الإيمان
يمان وقال صلى الله عليه وسلم في حق أهل اليمن يريد أقوام أن يضعوهم ويأبى
الله إلا أن يرفعهم
وروى الطبراني بإسناده عن علي رضي الله تعالى
عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أهل اليمن فقد أحبني ومن
أبغضهم فقد أبغضني
ومما يؤثر عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه من
علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وقد ذكر في تفسير قوله
تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم } هو نداء إبراهيم على المقام بما
ذكر
وقيل له البيت العتيق لأنه أعتق من الجبابرة لم يدعه أي بحيث ينسب إليه
جبار من الجبابرة الذين كانوا بمكة مع العمالقة وجرهم
وقال القاضي تبعا للكشاف لأنه أعتق من تسلط الجباربرة فكم من جبار سار
إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى قال وأما الحجاج فإنما كان قصده إخراج ابن
الزبير عنه لما تحصن به دون التسلط عليه كذا قال
قال بعضهم وعن
عبدالله بن عمر أنه قال إنما سميت بكة أي بالموحدة لأنها كانت تبك أعناق
الجبابرة ولينظر من قصده هدمه إثنان قاتلتهما خزاعة ومنعتهما والثالث كان
في أول زمان قريش أراد هدمه حسدا على شرف الذكر لقريش به وأن يبنى عنده
بيتا يصرف حجاج العرب إليه فلما قارب مكة أظلمت الأرض وأيقن بالهلاك فأقلع
عن تلك النية ونوى أن يكسوا البيت وينحر عنده فانجلت الظلمة ففعل ذلك
وفيه أن هذاالذي حصلت له الظلمة إنما هو تبع الأول فإنه لما عمد إلى البيت
يريد تخريبه أرسلت عليه ريح كتعت منه يديه ورجليه وأصابته وقومه ظلمة
شديدة وفي رواية أصابه داء تمخض منه رأسه قيحا وصديدا أي يثج ثجا حتى لا
يستطيع أحد أن يدنو منه فدعا بالأطباء فسألهم عن دائه فهالهم ما رأوا منه
ولم يجد عندهم فرجا فعند ذلك قال له الحبر لعلك هممت بشيء في حق هذا البيت
فقال نعم أردت هدمه
فقال له تب إلى الله مما نويت فإنه بيت الله وحرمه وأمره بتعظيم حرمته
ففعل فبرأ من دائه
وقيل لأنه أول بيت وضع في الأرض وقيل لأنه أعتق من الغرق بسبب الطوفان في
زمن نوح عليه الصلاة والسلام كذا في الكشاف وغيره وفيه نظر ظاهر لما تقدم
من دثوره بالطوفان ولما ذكر في قصة نوح أنه لما بعث الحمامة من السفينة
لتأتيه بخبر الأرض فوقفت بوادي الحرم فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة
وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلاها إلا أن يقال إن معنى أعتق أنه لم يذهب
بالمرة بل بقى أثره
وفي الخميس عن ابن هشام أن ماء الطوفان لم يصل
للكعبة ولكن قام حولها وبقيت هي في هواء السماء أي بناء على الكعبة هي
الخيمة التي كانت على زمن آدم عليه الصلاة والسلام وتقدم عن الكشاف أنها
رفعت إلى السماء الرابعة وأنها البيت المعمور وهذا كما علمت يدل على أن
المراد بالكعبة الخيمة التي كانت لآدم وقوله قام حولها يريد أنه لم يعل
محل تلك الخيمة ولعله لا ينافيه ما تقدم في قصة نوح فليتأمل
وفي
رواية أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام نادى يا أيها الناس إن الله كتب
عليكم الحج وفي لفظ إن ربكم قد اتخذ بيتا وطلب منكم أن تحجوه فأجيبوا ربكم
كرر ذلك ثلاث مرات فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من كان
سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك فليس حاج يحج
إلى أن تقوم الساعة إلا ممن كان أجاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن لبى
تلبية واحدة حج حجة واحدة ومن لبى مرتين حج حجتين وهكذا وفي لفظ لما نادى
إبراهيم عليه الصلاة والسلام فما خلق الله من جبل ولا شجر ولا شيء من
المطيعين له إلا أجاب لبيك اللهم لبيك
أقول لا يخفى أنه يحتاج إلى
الجمع بين هذه الروايات فيما نادى به إبراهيم عليه الصلاة والسلام وسيأتي
ومعلوم أن إجابة غير العقلاء إجابة إجلال وتعظيم ولعل المراد بالكتب مطلق
الطلب لا خصوص الوجوب لأنه لم يفرض الحج على هذه الأمة إلا بعد الهجرة في
السنة السادسة وقيل التاسعة وقيل العاشرة كما سيأتي وأما بقية الأمم من
بعد إبراهيم فلم أقف على وجوب الحج عليها
وقد ذكر بعض المتأخرين من
أصحابنا أن الصحيح أنه لم يجب الحج إلا على هذه الأمة واستغرب وفي الخصائص
الصغرى وافترض عليهم أي على هذه الأمة ما افترض
على
الأنبياء والرسل وهو الوضوء والعسل من الجنابة والحج والجهاد وهو يفيد أنه
كان واجبا على الأنبياء والرسل وفيه أن الأصل أن ما وجب في حق نبي وجب في
حق أمته إلا أن يقوم الدليل الصحيح على الخصوصية وقوله وهو الوضوء سيأتي
ما في الوضوء والله أعلم أي ثم أمر بالمقام فوضعه قبله أي ملصقا بالبيت
على يمين الداخل فكان يصلي إليه مستقبل الباب أي جهته وأول من أخره عن ذلك
المحل ووضعه موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أي وقد تقدم ذلك
عن ابن كثير
أقول وقيل إن أول من وضعه موضعه الآن النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة
وسيأتي الجمع بين هذين القولين ويأتي ما فيه
وذكر الطبري أن محله أولا المنخفض أي الذي تسميه العامة المعجنة أي محل
عجن الطين للكعبة وذلك المنخفض هو محل صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم
الصلوات الخمس في اليومين كما سيأتي
ونازع في ذلك العز بن جماعة
وقال لو كان ذلك لشهر عليه بالكتابة في الحفرة ورد بأن ذلك ليس بلازم
والناقل ثقة وهو حجة على من لم ينقل
وذكر ابن حجر الهيتمي أن في
رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن إبراهيم عليه الصلاة
والسلام صعد أبا قبيس وقيل صعد ثبيرا وأذن وأن أول من أجابه أهل اليمن أي
لما تقدم أنه بدأ بشق اليمن ولا مانع من تعدد ذلك أي وقوفه على تلك
الأماكن التي هي المقام وأبو قبيس وثبير ويجوز أن يكون قال في بعض تلك
الأماكن مالم يقله في غيره مما تقدم فلا مخالفة بين تلك الروايات فيما
نادى به إبراهيم عليه الصلاة والسلام وجاء إنه لما فرغ من دعائه ذهب به
جبريل فأراه الصفا والمروة وحدود الحرم وأمره أن ينصب عليها الحجارة ففعل
وعلمه المناسك أي مع إسمعيل عليهما الصلاة والسلام
ففي العرائس خرج
جبريل بهما يوم التروية إلى منى فصلى بهما الظهر والعصر والمغرب والعشاء
والآخرة ثم باتا بها حتى أصبحا فصلى بهما صلاة الصبح ثم غدا بهما إلى عرفة
فقام بهما هناك حتى زالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر ثم رجع بهما
إلى الموقف من عرفة فوقف بهما على الموقف الذي يقف عليه الناس الآن فلما
غربت الشمس دفع بهما إلى مزدلفة فجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة
ثم
بات بهما حتى طلع الفجر ثم صلى بهما صلاة الغداة ثم وقف بهما على قزح حتى
إذا أسفر أفاض بهما إلى منى فأراهما كيف رمى الجمار ثم أمرهما بالذبح
وأراهما المنحر من منى وأمرهما بالحلق ثم أفاض بهما إلى البيت فليتامل ذلك
فإن فيه التصريح بأن إبراهيم وإسمعيل صليا مع جبريل جماعة الصلوات الخمس
وجمعا تقديما بين الظهر والعصر وتأخيرا بين المغرب والعشاء للنسك وهو
مخالف لقول أئمتنا لم تجمع الصلوات الخمس إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم
ففي الخصائص الصغرى وخص بمجموع الصلوات الخمس ولم تجتمع لأحد وبالعشاء ولم
يصلها أحد وبالجماعة في الصلاة إلا أن يدعى أن المراد الجمع على جهة
المداومة على ذلك لجواز أن يكون إبراهيم وإسمعيل عليها الصلاة والسلام لم
يداوما على ذلك وفيه ما لا يخفى
وفي الوفاء عن وهب قال أوحى الله
تعالى إلى آدم عليه الصلاة والسلام أنا الله ذو بكة أهلها جيرتي وزوارها
وفدى وفي كتفي أعمره بأهل السماء وأهل الأرض يأتونه أفواجا شعثا غبرا
يعجون بالتكبير عجا ويرجون بالتلبية ترجيجا ويثجون بالبكاء ثجا فمن اعتمره
لا يريد غيره فقد زارني وضافني ووفد إلي ونزل بي وحق لي أن أتحفه بكرامتي
أجعل ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وثناءه لنبي من ولدك يقال له إبراهيم
أرفع له قواعده وأقضى على يديه عمارته وأنيط له سقايته وأريه حله وحرمه
وأعلمه مشاعره ثم يعمره الأمم والقرون حتى ينتهي إلى نبي من ولدك يقال له
محمد خاتم النبيين وأجعله من سكانه وولاته وحجابه وسقاته فمن سأل عني
يومئذ فأنا من الشعث الغبر الموفين بنذورهم المقبلين على ربهم
ولما
دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى { وارزقهم من الثمرات } أي
دعا بذلك وهو على ثنية كداء بالمد فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن
إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم
وارزقهم من الثمرات } كان على الثنية العليا ذكره السهيلي وعند ذلك نقل له
الطائف من فلسطين من أرض الشام أي و ببركة دعائه عليه الصلاة والسلام يوجد
بمكة الفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم
واحد ذكره في الكشاف
ثم لما فرغ أي من بناء البيت وحج طاف بالبيت لقيته الملائكة في الطواف
فسلموا
عليه
فقال لهم ما تقولون في طوافكم قالوا كنا نقول قبل أبيك آدم سبحان الله
والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فأعلمناه بذلك فقال زيدوا ولا حول
ولا قوة إلا بالله فقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام زيدوا فيها العلي
العظيم فقالت الملائكة ذلك
وكان بناء إبراهيم للبيت بعد مضى من عمره مائة سنة ثم بناه العماليق ثم
بنته جرهم وقيل عكسه وقد يتوقف في بناء العماليق له
أما في الأول فلأن أول من نزل مكة مع هاجر وولدها إسمعيل جرهم وإنهم بعد
إسمعيل وبعض ولده كانوا ولاة البيت وأما في الثاني فلأن ولاية البيت كانت
لخزاعة بعد جرهم كما تقدم وكيف يبنون البيت ولا ولاية لهم عليه إلا أن
يقال لا مانع أن يكونوا حينئذ أهل ثروة بخلاف جرهم وخزاعة
ثم رأيت
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن العماليق كانوا عز وكانت لهم أموال
كثيرة وأن الله سلبهم ذلك لما تطاهروا بالمعاصي وسلط عليهم الذر حتى ة
خرجوا من الحرم وتفرقوا وهلكوا والذر في النمل كالزنبور في النحل
وفي تاريخ مكة للفاكهي أن العماليق قدموا مكة لما قدم وفد عاد للإستسقاء
بالبيت وقيل كانوا بعرفة ولما أخرج الله تعالى زمزم لإسماعيل بواسطة جبريل
ففي ربيع الأبرار أن جبريل أخرج ماء زمزم مرتين مرة لآدم ومرة لإسمعيل
وعند ذلك تحولوا إلى مكة قال المقريزي لما علموا بذلك وقيل كانوا بعد جرهم
ولا يصح ذلك ثم رأيت المقريزي قال وفي كتاب أخبار مكة للفاكهي ما يدل على
تقدم بناء جرهم على بناء العمالقة ولا يصح ذلك لإتفاقهم على أن ولاية
العمالقة على مكة كانت قبل ولاية جرهم وعلى أنه لم يل مكة بعد جرهم إلا
خزاعة
ولا يخفى أن هذا صريح في أن العمالقة بنته ولا بد وأن بناءهم
له كان قبل بناء جرهم له والعماليق من ولد عملاق أو عمليق بن لاوذ بن سام
بن نوح عليه الصلاة والسلام قيل وهو أول من كتب بالعربية وقيل من ولد
العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ثم بناه قصي جده صلى
الله عليه وسلم وسقفه بخشب الروم وجريد النخل ثم بنته قريش كما تقدم ثم
بناه بعد قريش عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أي ويكنى أبا خبيب
بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة وكنى بأبى خبيب لأن
خبيبا كان رجلا بالمدينة من النساك طويل الصلاة قليل الكلام أي
وعبدالله رضي الله تعالى عنه كان مشابها له في ذلك فكنى به
هذا وفي كلام ابن الجوزي أنه كان لعبدالله بن الزبير ولد يقال له خبيب حيث
قال خبيب بن عبدالله بن الزبير ضربه عمر بن عبدالعزيز بأمر الوليد مائة
سوط فمات لأنه لما حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا بلغ بنو
أبي العاص أربعين رجلا وفي رواية ثلاثين رجلا وفي رواية إذا بلغ بنو الحكم
ثلاثين رجلا وفي رواية إذا بلغ بنوا أمية أربعين رجلا أتخذوا عباد الله
تعالى خولا أي عبيدا ومال الله دولا ودين الله دغلا
وفي رواية بدل
دين الله كتاب الله قال ابن كثير وهذا الحديث أي ذكر بني أمية وذكر
الأربعين منقطع ولما بلغ الوليد ما ذكر خبيب كتب لإبن عمه عمر بن
عبدالعزيز وهو والي المدينة أن يضرب خبيبا هذا مائة سوط ففعل ثم برد ماء
في جرة وصبه أي في يوم شات عليه وحبسه فلما اشتد وجعه أخرجه وندم على ما
فعل فلما مات وسمع بموته سقط إلى الأرض واسترجع واستعفى من ولاية المدينة
فكان عمر بن عبدالعزيز إذا قيل له أبشر قال كيف أبشر وخبيب على الطريق أي
عائق لي
وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعضهم قال كنت عند معاوية بن
أبي سفيان ومعه ابن عباس على السرير فدخل عليه مروان بن الحكم فكلمه في
حاجته وقال اقص حاجتي يا أمير المؤمنين فوالله إن مؤنتي لعظيمة فإني أبو
عسرة وعم عشرة وأخو عشرة فلما أدبر مروان قال معاوية لابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أشهدك بالله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله بينهم دولا وعباد
الله تعالى خولا وكتاب الله دغلا فإذا بلغوا تسعة وتسعين وأربعمائة كان
هلاكهم أسرع من لوك تمرة فقال ابن عباس اللهم نعم ثم ذكر مروان حاجة فرد
مروان ولده عبدالملك إلى معاوية فكلمه فيها فلما أدبر عبدالملك قال معاوية
أنشدك الله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هذا
فقال أبو الجبابرة الأربعة فقال ابن عباس اللهم نعم فإن أربعة من ولده
ولوا الخلافة فليتأمل هذا فإنه ربما يدل على أن عبدالملك صحابي إلا أن
يقال ذكره قبل وجوده فهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وفي كلام ابن
كثير هذا الحديث في غرابة ونكارة شديدة
هذا وقد رأيت عن بعض حواشي الكشاف أن أعداء عبدالله بن الزبير رضي الله
تعالى عنهما هم الذين كانوا يكنونه بأبي خبيب لأن خبيبا كان من أخس أولاده
ويرده قول بعضهم يغلب للشرف كالخبيبين لخبيب بن عبدالله بن الزبير وأخيه
مصعب
وذكر ابن الجوزي أيضا فيمن ضرب بالسياط من العلماء سعيد بن
المسيب ضربه عبدالملك بن مروان مائة سوط لأنه بعث ببيعة الوليد إلى
المدينة فلم يبايع سعيد فكتب أن يضرب مائة سوط ويصب عليه جرة ماء في يوم
شات ويلبس جبة صوف ففعل به ذلك أي كما فعل بخبيب
ثم رأيت في تاريخ
الحافظ ابن كثيرة لما عهد عبدالملك لولده الوليد في حياته وانتهت البيعة
إلى المدينة امتنع سعيد بن المسيب أن يبايع فضربه نائب المدينة ستين سوطا
وألبسه ثيابا من شعر وأركبه جملا وطاف به في المدينة ثم أودع السجن فلما
بلغ ذلك عبدالملك أرسل يعنف والي المدينة على ذلك ويأمره بإخراجه من الحبس
هذا كلامه
وفي كلام البلاذري وكان جابر بن الأسود عاملا لإبن الزبير
على المدينة وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب ستين سوطا إذ لم يبايع لإبن
الزبير هذا كلامه إلا أن يقال لا مانع أن يكون سعيد فعل به الأمران لأن
ولاية ابن الزبير سابقة على ولاية عبدالملك والد الوليد ثم رأيت الحافظ
ابن كثير صرح بذلك حيث ذكر أن سعيد بن المسيب ضرب بالسياط المذكورة وفعل
به ما تقدم لما امتنع من المبايعة لابن الزبير وفعل به ذلك أيضا لما امتنع
من البيعة للوليد
وفي طبقات الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله
تعالى في ترجمة سعيد بن المسيب وضربه عبدالملك بن مروان حيث امتنع من
مبايعته وألبسه المسوح ونهى الناس عن مجالسته فكان كل من جلس إليه يقول له
قم لا تجالسني فإنهم قد جلدوني ومنعوا الناس عن مجالستي هذا كلامه إلا أن
يقال المراد امتنع من قبول مبايعة عبدالملك لولده الوليد فلا مخالفة وإنما
امتنع سعيد بن المسيب من المبايعة للوليد لأنه روى عن النبي صلى الله عليه
وسلم إنه سيكون في هذه الأمة رجل يقال له الوليد فهو شر لأمتي من فرعون
لقومه وفي رواية هو أضر على أمتي من فرعون على قومه زاد
في
رواية يسد به ركن من أركان جهنم وفي لفظ زاوية من زوايا جهنم فكان الناس
يرون أنه الوليد بن عبد الملك قال ابن كثير وهو الوليد ابن يزيد بن عبد
الملك لا الوليد بن عبدالملك الذي هو عمه
وكان سعيد بن المسييب أعبر
الناس للرؤيا قال له رجل رايت كأني أبول في يدى فقال تحتك ذات محرم فنظر
فإذا بينه وبين امرأته رضاعة وأخذ سعيد تعبير الرؤيا عن أسماء بنت أبي بكر
وهي أخذت ذلك عن والدها أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وعن سعيد أخذ ابن
سيرين ذلك
وعن ابن سيرين كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى
الله عليه وسلم وكان يعبر الرؤيا في زمنه صلى الله عليه وسلم وفي حضرته
وعن الزهري رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا فقصها على أبي بكر فقال
رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة فسبقتك بمرقاتين ونصف قال يا رسول الله
يقبضك الله إلى مغفرة ورحمة وأعيش بعدك سنتين ونصفا فكان كما عبر فقد عاش
بعده صلى الله عليه وسلم سنتين وسبعة أشهر وقال له رأيتني أردفت غنما
سوادا ثم أردفتها غنما بيضا حتى ما ترى السود فيها فقال أبوبكر يا رسول
الله أما الغنم فإن العرب يسلمون ويكثرون والغنم البيض الأعاجم يسلمون حتى
لاترى العرب فيهم من كثرتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عبرها
الملك سحيرا
وسبب بناء عبدالله بن الزبير للكعبة أن يزيد بن معاوية
لما وجه الجيش عشرين ألف فارس وسبعة آلاف راجل وأميرهم مسلم بن قتيبة
لقتال أهل المدينة لما علم أنهم خرجوا عن طاعته أي وأظهروا شتمه وأعلنوا
بأنه ليس له دين لأنه اشتهر عنه نكاح المحارم وإدمان شرب الخمر وترك
الصلاة وأنه يلعب بالكلاب أي فقد ذكر بعض ثقات المؤرخين أنه كان له قرد
يحضره مجلس شرابه ويطرح له وسادة ويسقيه فضلة كأسه واتخذ له أتانا وحشية
قد ربضت له وصنع لها سرجا من ذهب يركب عليها ويسابق بها الخيل في بعض
الأيام وكان يلبس عليه قباء وقلنسوة من الحرير الأحمر
وقد استفتى
الكيا الهراسي من أكابر أئمتنا معاشر الشافعية كان من رءوس تلامذة إمام
الحرمين نظير الغزالي عن يزيد هذا هل هو من الصحابة وهل يجوز لعنه فأجاب
بأنه ليس من الصحابة لأنه ولد في أيام عمر بن الخطاب وللإمام
أحمد قولان أي في لعنه تلويح وتصريح وكذلك الإمام مالك وكذا لأبي حنيفة
ولنا قول واحد التصريح دون التلويح وكيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالنرد
والمصيد بالفهود ومدمن الخمر وشعره في الخمر معلوم هذا كلامه
وسئل
الغزالي هل من صرح بلعن يزيد يكون فاسقا وهل يجوز الترحم عليه فأجاب بأن
من لعنه يكون فاسقا عاصيا لأنه لا يجوز لعن المسلم ولا يجوز لعن البهائم
فقد ورد النهى عن ذلك وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي صلى
الله عليه وسلم ويزيد صح إسلامه وما صح أمره بقتل الحسين ولا رضاه بقتله
وما لم يصح منه ذلك لا يجوز أن يظن به ذلك فإن إساءة الظن بالمسلم حرام
وإذا لم يعرف حقيقة الأمر وجب إحسان الظن به ومع هذا فالقتل ليس بكفر بل
هو معصية وأما الترحم عليه فهو جائز بل هو مستحب لأنه داخل في المؤمنين في
قولنا في كل صلاة اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات هذا كلامه وكان على ما
أفتى به الكيا الهراسى من جواز التصريح بلعنه أستاذنا الأعظم الشيخ محمد
البكري تبعا لوالده الأستاذ الشيخ أبي الحسن
وقد رأيت في كلام بعض أتباع استاذنا المذكور في حق يزيد ما لفظه زاده الله
خزيا وضعه وفي أسفل سجين وضعه
وفي كلام ابن الجوزي أجاز العلماء الورعون لعنه وصنف في إباحة لعنه مصنفا
وقال السعد التفتازاني إني لأشك في إسلامه بل في إيمانه فلعنة الله عليه
وعلى أنصاره وأعوانه وعلى هذا يكون مستثنى من عدم جواز لعن الكافر المعين
بالشخص
ولما خلعوا أي أهل المدينة بيعة يزيد ولوا عليهم عبدالله بن
حنظلة غسيل الملائكة وأخرجوا والي يزيد من المدينة وهو مروان بن الحكم
وبني أمية حتى قال بعضهم ما خرجنا عليه حتى خفنا أن نرمى بحجارة من السماء
فكانت وقعة الحرة المشهورة التي كادت تبيد أهل المدينة عن آخرهم قتل فيها
الجم الكثير من الصحابة والتابعين وقيل المقتول فيها من الصحابة ثلاثة
منهم عبدالله بن حنظلة ونهبت المدينة وافتض فيها ألف عذراء أي ولم تقم
الجماعة ولا الأذان في المسجد النبوي مدة المقاتلة وهي ثلاثة أيام
في
كلام بعضهم ووقع من ذلك الجيش الذي وجهه يزيد للمدينة من القتل والفساد
العظيم والسبى وإباحة المدينة وقتل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن
التابعين خلق كثيرون وكانت عدة المقتولين من قريش والأنصار ثلثمائة وستة
رجال ومن قراء القرآن نحو سبعمائة نفس
وفي التنوير لابن دحية وقتل
من وجوه المهاجرين والأنصار ألف وسبعمائة ومن حملة القرآن سبعمائة وجالت
الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وراثت بين القبر الشريف
والمنبر واختفت أهل المدينة حتى دخلت الكلاب المسجد وبالت على منبره صلى
الله عليه وسلم ولم يرض أمير ذلك الجيش من أهل المدينة إلا بأن يبايعوه
ليزيد على أنهم خول أي عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق حتى قال له بعض
أهل المدينة البيعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فضرب
عنقه
وروى البخاري أن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما لما أرجف
أهل المدينة يزيد دعا بنيه ومواليه وقال لهم إنا بايعنا هذا الرجل على
بيعة الله وبيعة رسوله وإنه والله لا يبلغني عن أحد منكم أنه خلع يدا من
طاعته إلا كان التنصل بيني وبينه ثم لزم بيته ولزم أبو سعيد الخدري رضي
الله تعالى عنه بيته أيضا فدخل عليه جمع من الجيش بيته فقالوا له من أنت
أيها الشيخ فقال أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا قد سمعنا خبرك ولنعم ما فعلت حين كففت يدك ولزمت بيتك ولكن هات
المال فقال قد أخذه الذين دخلوا قبلكم على وما عندي شيء فقالوا كذبت
ونتفوا لحيته
وأما جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه فخرج في يوم
من تلك الأيام وهو أعمى يمشى في بعض أزقة المدينة وصار يعثر في القتلى
ويقول تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له قائل من الجيش من
أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول من أخاف المدينة فقد أخاف ما بين جنبي فحمل عليه جماعة من الجيش
ليقتلوه فأجاره منهم مروان وأدخله بيته
قال السهيلي وقتل في ذلك
اليوم من وجوه المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم ألف وسبعمائة وقتل
من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان
فقد ذكر أن امرأة من الأنصار دخل عليها رجل من الجيش وهي ترضع صبيها وقد
أخذ
ما وجد عندها ثم قال لها هات الذهب وإلا قتلتك وقتلك ولدك فقالت له ويحك
إن قتلته فأبوه أبو كبشة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا من
النسوة اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الصبي من حجرها
وثديها في فمه وضرب به الحائط حتى انتثر دماغه في الأرض فما خرج من البيت
حتى أسود نصف وجهه وصار مثلة في الناس
قال السهيلي وأحسب هذه المرأة
جدة للصبي لا أما له إذ يبعد في العادة أن تبايع امرأة وتكون يوم الحرة في
سن من ترضع أي ولدا صغيرا لها ووقعة الحرة هذه من أعلام نبوته صلى الله
عليه وسلم
ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم وقف بهذه الحرة وقال ليقتلن بهذا
المكان رجال هم خيار أمتي بعد أصحابي
وعن عبدالله بن سلام رضي الله تعالى عنه أنه قال لقد وجدت قصة هذه الوقعة
في كتاب يهوذ بن يعقوب الذي لم يدخله تبديل وأنه يقتل فيها رجال صالحون
يجيئون يوم القيامة وسلاحهم على عواتقهم وهذه الوقعة كانت سنة ثلاث وستين
ويقال كان يزيد أعذر أهل المدينة قبل هذه الوقعة فيما ذكروه وبذل لهم من
العطاء أضعاف ما يعطى الناس رغبة في إستمالتهم إلى الطاعة وتحذيرهم من
الخلاف ولكن يأبى الله إلا ما أراد
وفي التنوير أن الله ابتلى أمير
هذا الجيش الذي هو مسلم بن قتيبة بعد ثلاثة أيام من أخذه البيعة بمرض صار
ينبح منه كالكلب إلى أن مات وولى أمر الجيش بعده الحصين ابن نمير بأمر
يزيد فإنه وصى مسلم بن قتيبة لما ولاه إمرة الجيش وقال له إذا أشرفت على
الموت أي لأنه كان مريضا بالإستسقاء فول أمر الجيش للحصين وهذا الذي وقع
من يزيد فيه تصديق لقوله صلى الله عليه وسلم لا يزال أمر أمتي قائما
بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد
وقد جاء عن سعيد بن
المسيب رضي الله تعالى عنه لقد رأيتني ليالى الحرة وما في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم غيري وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان والإقامة من
القبر الشريف
ومما يؤثر عن سعيد بن المسيب الدنيا نذلة تميل إلى الأنذال ومن استغنى
بالله افتقر إليه الناس
ومن جملة من خلع يزيد وقتل من الصحابة في تلك الوقعة مغفل بن سنان الأشجعي
رضي الله تعالى عنه روى علقمة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن
رجل تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود
لها مثل مهر نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام مغفل
بن سنان وقال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة
منا مثل ما قضيت ففرح ابن مسعود
وسبب مقاتلة عبدالله بن الزبير رضي
الله تعالى عنهما لأنه امتنع من المبايعة ليزيد أيضا هو والحسين رضي الله
تعالى عنهما لما أرسل إليهما يطلب منهما المبايعة له فامتنعا من ذلك وفرا
من المدينة إلى مكة
ثم لما قتل الحسين رضي الله تعالى عنه أي لأن
الحسين أرسل إليه أهل الكوفة أن يأتيهم ليبايعوه فأراد الذهاب إليهم فنهاه
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وبين له غدرهم وقتلهم لأبيه وخذلانهم لأخيه
الحسن رضي الله تعالى عنه ونهاه ابن عمر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم
فأبى إلا أن يذهب فبكى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال واحبيباه وقال
له ابن عمر أستودعك الله من قتيل وكان أخوه الحسن قال له إياك وسفهاء
الكوفة أن يستخفوك فيخرجوك ويسلموك فتندم ولات حين مناص وقد تذكر ذلك ليلة
قتله فترحم على أخيه الحسن ولم يبق بمكة إلا من حزن على مسيره وقدم أمامه
إلى الكوفة مسلم بن عقيل فبايعه من أهل الكوفة للحسين إثنا عشر ألفا وقيل
أكثر من ذلك ولما شارف الكوفة جهز إليه أميرها من جانب يزيد وهو عبدالله
بن زياد عشرين الف مقاتل وكان أكثرهم ممن بايع له لأجل السحت العاجل على
الخير الآجل فلما وصلوا إليه ورأى كثرة الجيش طلب منهم إحدى ثلاث إما أن
يرجع من حيث جاء أو يذهب إلى بعض الثغور أو يذهب إلى يزيد يفعل فيه ما
أراد فأبوا وطلبوا منه نزوله على حكم ابن زياد وبيعته ليزيد فابى فقاتلوه
إلى أن أثخنته الجراحة فسقط إلى الأرض فحزوا رأسه ذلك يوما عاشوراء عام
إحدى وستين ووضع ذلك الرأس بين يدي عبدالله بن زياد ولما جاء خبر قتل
الحسين
رضي الله تعالى عنه قام ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما في الناس يعظم
قتل الحسين وجعل يظاهر بعيب يزيد ويذكر شربه الخمر وغير ذلك ويثبط الناس
عن بيعته ويذكر مساوى بني أمية ويطنب في ذلك ولما بلغ يزيد ذلك أقسم أن لا
يؤتى به إلا مغلولا فجاء إليه رجل من أهل الشام في خيل من خيل الشام وتكلم
مع ابن الزبير وعظم على ابن الزبير الفتنة وقال لا يستحل الحرم بسببك فإن
يزيد غير تاركك ولا تقوى عليه وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولا وقد عملت لك
غلا من فضة وتلبس فوقه الثياب وتبر قسم أمير المؤمنين فالصلح خير عاقبة
وأجمل بك وبه فقال له أنظر في أمري ثم دخل على أمه أسماء رضي الله تعالى
عنها واستشارها فقالت يا بني عش كريما أو مت كريما ولا تمكن بني أمية من
نفسك فتلعب بك فامتنع وصار يبايع الناس سرا ثم أظهر المبايعة فاجتمع عليه
أهل الحجاز ولحق به من انهزم من وقعة الحرة فلما جاء الجيش إلى مكة حاصر
عبدالله وضرب بالمنجنيق نصبه على أبي قبيس قيل وعلى الأقمر وهم أخشبا مكة
فأصاب الكعبة من ناره ما حرق ثيابها وسقفها فإن الكعبة كانت في زمن قريش
مبنية مدماك من خشب الساج ومدماك من حجارة كما تقدم
وذكر في الشرف
أن الله تعالى بعث عليهم صاعقة بعد العصر فأحرقت المنجنيق وأحرقت تحته
ثمانية عشر رجلا من أهل الشام ثم عملوا منجنيقا آخر فنصبوه على أبي قبيس
ويذكر أن النار لما أصابت الكعبة أنت بحيث يسمع أنينها كأنين المريض آه آه
وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم فقد جاء إنذاره صلى الله عليه
وسلم بتحريق الكعبة فعن ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه
وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنتم إذا مرج الدين فظهرت
الرغبة والرهبة وحرق البيت العتيق وفي العرائس إن أول يوم تكلم الناس في
القدر ذلك اليوم فقيل إحراق الكعبة من قدر الله وقيل ليس من قدر الله
والمتكلم بذلك حينئذ قيل أبو معبد الجهني وقيل أبو الأسود الدؤلي وقيل غير
ذلك
وقوله أول يوم تكلم الناس في القدر لعل المراد أول يوم اشتهر
واستفيض فيه الكلام من الناس في القدر فلا يخالف ما حكى أن شخصا قال لعلي
رضي الله تعالى عنه وهو بصفين يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا هذا أكان
بقضاء الله وقدره فقال
نعم والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ولا قطعنا واديا
ولا علونا شرفا إلا بقضائه وقدره
والتكلم في القدر ليس من خصائص هذه الأمة فقد تكلمت فيه الأمم قبلها وفي
الحديث ما بعث الله نبيا إلا في امته ذرية يشوشون عليه أمر أمته ألا وإن
الله تعالى قد لعن القدرية على لسان سبعين نبيا وقد جاء في ذم القدرية
زيادة على ما تقدم منها القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن
ماتوا فلا تشهدوهم وجاء اتقوا القدر فإنه شعبة من النصرانية وجاء أخاف على
أمتي التكذيب بالقدر
وإنما كانت القدرية مجوس هذه الأمة لأن طائفة
من القدرية تقول يأتي الخير من الله والشر من العبد وهؤلاء الطائفة أشبه
بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة وأن الخير من النور والشر من
الظلمة وهم المانوية وإنما كان القدر شعبة من النصرانية لأن أكثر القدرية
على أنه ليس من أفعال العبد من خير أو شر ناشئا عن إقدار الله تعالى له
على ذلك بل هو ناشيء عن قدرة العبد وإختياره فقد أثبتوا لله تعالى شريكا
كما أن النصارى أثبتوا الشريك لله تعالى فهذه الفرقة من القدرية أشبهت
النصارى فكان القدر شعبة من النصرانية بهذا الإعتبار وقد أوضحت ذلك في
تعليق المسمى ب المصباح المنير على الجامع الصغير وفيه أخر الكلام على
القدر لشرار أمتي في آخر الزمان فإن الحق إسناد الفعل إلى الله تعالى
إيجادا وللعبد إكتسابا
وقيل إن سبب بناء عبدالله بن الزبير رضي الله
تعالى عنهما للكعبة أن امرأة بخرتها فطارت شرارة فعلقت بثيابها فحصل ذلك
ولا مانع من التعدد وقد وقع أيضا إحتراقها بتبخير المرأة في زمن قريش ولا
مانع من تعدد ذلك كما تقدم
وعد بعضهم أن من البدع تجمير المسجد وأن
مالكا كرهه وقد روى أن مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان يجمر
المسجد النبوي إذا جلس عمر رضي الله عنه على المنبر يخطب ومع حرق الكعبة
حرق قرنا الكبش الذي فدى به إسماعيل فإنهما كانا معلقين بالسقف
أقول
ولعل تعليقهما في السقف كان بعد تقليقهما في الميزاب فقد ذكر بعضهم جاء
الإسلام ورأس الكبش معلق بقرنيه في ميزاب الكعبة ويدل لتعليقهما في السقف
ما جاء عن صفية بنت شيبة قالت لعثمان بن طلحة لم دعاك النبي صلى الله عليه
وسلم بعد
خروجه من البيت قال قال لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رأيت قرني الكبش في البيت فنسيت أن آمرك
أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أي يكون في البيت شيء يشغل مصليا
وذكر الجلال المحلى في قطعة التفسير أن الكبش المذكور هو الذي قربه هابيل
جاء به جبريل فذبحه السيد إبراهيم عليه الصلاة والسلام مكبرا أي وحينئذ
تكون النار التي أنزلت في زمن هابيل لم تأكله بل رفعته إلى السماء وحينئذ
يكون قول بعضهم فنزلت النار فأكلته على التسمح ويدل لما ذكر الجلال ما جاء
أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه الصلاة والسلام ما كان ذبح
إبراهيم أي مذبوحه قال الذي قرب ابن آدم قال بعضهم وهذا الحديث لم يثبت
قيل ووصف بأنه عظيم لأنه رعى في الجنة أربعين عاما وقيل كان الكبش إختراعا
اخترعه الله هناك في ذلك الوقت قال بعضهم فقد فدى من الموت بصورة الموت
وهذا كله بناء على أن الذي قربه هابيل كان كبشا وقيل كان جملا سمينا وعليه
اقتصر القاضي فلينظر الجمع على تقدير صحة كل وانصدع الحجر من تلك النار من
ثلاثة أماكن وعند محاصرة الجيش لعبد الله جاء الخبر بموت يزيد
ويقال
إن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أن يعلم الجيش وهم أهل الشام فنادى فيهم
يا أهل الشام قد أهلك الله طاغيتكم يعنى يزيد فمن أحب منكم أن يدخل فيما
دخل فيه الناس فعل ومن أحب أن يرجع إلى شأنه فليفعل فانفل الجيش وبايع
عبدالله بن الزبير جماعة بالخلافة ودخلوا في طاعته ظاهرا
ويقال إن
أمير الجيش طلب من ابن الزبير أن يحدثه فخرج من الصفين حتى اختلفت رءوس
فرسيهما وجعل فرس أمير الجيش ينفر ويكفها فقال له ابن الزبير مالك فقال إن
حمام الحرم تحت رجليها فأكره أن أطأ حمام الحرم فقال تفعل هذا وأنت تقتل
المسلمين فقال له تأذن لنا أن نطوف بالكعبة ثم نرجع إلى بلادنا فأذن لهم
فطافوا وقال له إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر يعني
الخلافة فارحل معي إلى الشام فوالله لا يختلف عليك إثنان فلم يثق به ابن
الزبير وأغلظ عليه القول فكر راجعا وهو يقول أعده بالملك وهو يعدني بالقتل
ومن ثم قيل كان في ابن الزبير خلال لا تصلح معها الخلافة منها سوء الخلق
وكثرة الخلاف ودخل في طاعة ابن الزبر جميع أهل البلدان إلا الشام ومصر فإن
مروان بن الحكم تغلب عليها بعد موت
معاوية
بن يزيد بن معاوية فإن معاوية هذا مكث في الخلافة أربعين يوما وقيل عشرين
يوما بعد أن كان مروان عزم على أن يبايع لإبن الزبير بدمشق
وقد كان
ابن الزبير لما ولى أخاه نائبا عنه بالمدينة أمره بإجلاء بني أمية وفيهم
مروان وإبنه عبدالملك إلى الشام فلما أراد مروان أن يبايع ابن الزبير
بدمشق ثنى عزمه عن ذلك جماعة وقالوا له أنت شيخ قريش وسيدها وقد فعل معكم
ابن الزبير ما فعل فأنت أحق بهذا الأمر فوافقهم ومكث تسعة أشهر في الخلافة
وهو الرابع من خلفاء بني أمية وقام بالأمر بعده ولده عبدالملك وهو أول من
سمى عبدالملك في الإسلام ثم عهد عبدالملك لأولاده الأربعة من بعده الوليد
ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام وادعى عمرو بن سعيد أن مروان عهد إليه بعد ابنه
عبدالملك فضاق عبدالملك بذلك ذرعا واستعجل أمر عمرو بدمشق فلم يزل به
عبدالملك حتى قتله
وفي كلام ابن ظفر أن عبدالملك لما خرج لمقاتلة
عبدالله بن الزبير خرج معه عمرو بن سعيد وقد انطوى على دغل نية وفساد طوية
وطماعيته في نقل الخلافة فلما ساروا عن دمشق أياما تمارض عمرو بن سعيد
واستأذن عبدالملك في العودة إلى دمشق فأذن له فلما عاد ودخل دمشق صعد
المنبر وخطب خطبة نال فيها من عبدالملك ودعا الناس إلى خلعه فأجابوه إلى
ذلك وبايعوه فاستولى على دمشق وحصن سورها وبذل الرغائب وبلغ ذلك عبدالملك
وهو متوجه إلى أبن الزبير فأشير على عبدالملك أن يرجع إلى دمشق ويترك ابن
الزبير لأن ابن الزبير لم يعطه طاعة ولا وثب له على مملكة فهو في صورة
ظالم له وقصده لعمرو بن سعيد في صورة مظلوم لأنه نكث بيعته وخان أمانته
وأفسد رعيته فرجع إلى دمشق فظفر بعمرو بن سيعد
ويقال إن سبب بناء
عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنه للكعبة أنه جاء سيل فطبقها فكان
عبدالله رضي الله تعالى عنه يطوف سباحة أي ولا مانع من وجود الأمرين الحرق
والسيل فلما رأى عبدالله ما وقع في الكعبة شاور من حضر ومن جملتهم عبدالله
بن عباس رضي الله تعالى عنهما في هدمها فهابوا هدمها وقالوا نرى أن يصلح
ما وهي ولا تهدم فقال لو أن بيت أحدكم أحرق لم يرض له إلا بأكمل إصلاح ولا
يكمل إصلاحها إلا بهدمها
وقد حدثته خالته عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه
قال
لها ألم ترى قومك يعنى قريشا حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم
عليه الصلاة والسلام حين عجزت بهم النفقة لولا حدثان قومك بالجاهلية أي
قرب عهدهم بها أي وفي لفظ لولا الناس حديثو عهد الجاهلية أي قريب عهدهم
بها أي وفي لفظ لولا الناس حديثو عهد بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوى
على بنائها لهدمتها وجعلت لها خلفا أي بابا من خلفها أي وفي لفظ لجعلت لها
بابا يدخل منه وبابا بحياله يخرج الناس منه وفي لفظ وجعلت لها بابين بابا
شرقيا وبابا غربيا وألصقت بابها الأرض أي كما كان عليه في زمن إبراهيم
ولأدخلت الحجر فيها أي وفي رواية لأدخلت نحو ستة أذرع وفي رواية ستة أذرع
وشيئا وفي رواية وشبرا وفي رواية قريبا من سبعة أذرع فقد اضطربت الروايات
في القدر الذي أخرجته قريش وفي لفظ لأدخلت فيها ما أخرج منها وفي لفظ
لجعلتها على أساس إبراهيم وأزيد أي بأن أزيد في الكعبة من الحجر أي ذلك ما
أخرجته قريش خشى صلى الله عليه وسلم أن تنكر قلوبهم هدم بنائهم الذي
يعدونه من أكمل شرفهم فربما حصل لهم الإرتداد عن الإسلام
وقد ذكر
بعضهم أن كل من بنى الكعبة بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يبنها إلا
على قواعد إبراهيم غير أن قريشا ضاقت بهم النفقة أي الحلال الحديث وهذا
بناء على أن من بعد إبراهيم وقبل قريش بناها كلها وليس كذلك بل الحاصل
منهم إنما هو ترميم لها فقوله لم يبنها إلا على قواعد إبراهيم ليس على
ظاهره بل المراد أنه أبقاها على ذلك
قال وعن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أنه قال لعبدالله دع بناء وأحجارا أسلم عليها المسلمون وبعث
عليها النبي صلى الله عليه وسلم أي فإنه يوشك أن يأتي بعدك من يهدمها فلا
يزال يهدم ويبنى فيتهاون الناس بحرمتها ولكن ارفعها أي رمها فقال عبدالله
إني مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمري فلما مضى الثلاث أجمع أمره على أن
ينقضها فتحاماها الناس وخشوا أن ينزل بأول الناس يقصدها أمر من السماء حتى
صعدها رجل فألقى منها حجارة فلم ير الناس أصابه شيء فتابعوه
أي وقيل
أول فاعل لذلك عبدالله بن الزبير نفسه رضي الله تعالى عنه وخرج ناس كثير
من مكة إلى منى ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأقاموا بها ثلاثا
مخافة أن
يصيبهم عذاب شديد بسبب هدمها وأمر ابن الزبير جماعة من الحبشة
بهدمها رجاء أن يكون فيهم الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم أنه يهدمها
وفيه أن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يهدمها ذكر صفته حيث قال
كأني أنظر إليه أسود أفحج ينقضها حجرا حجرا وجاء في وصفه أنه مع كونه أفحج
الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن ووصف أيضا بأنه أصلع وفي لفظ
أجلح وهو من ذهب شعر مقدم رأسه ووصف بأنه أصعل أي صغير الرأس وبأنه أصمع
أي صغير الأذنين معه أصحابه ينقضونها حجرا حجرا ويتناولونها حتى يرموا بها
إلى البحر
أي وقوله ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر لعله لم
يثبت عند ابن الزبير وكذا تلك الأوصاف وهدم الحبشة لها يكون بعد موت عيسى
عليه الصلاة والسلام ورفع القرآن من الصدور والمصاحف أي وورد أن أول ما
يرفع رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام والقرآن وأول نعمة ترفع من الأرض
العسل وقيل يكون هدمها في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام
وجمع بأنه يهدم بعضها في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام فإذا جاءهم الصريخ
هربوا فإذا مات عيسى عادوا وكملوا هدمها
فهدمها عبدالله إلى أن انتهى الهدم إلى القواعد أي التي هي الأساس قال وفي
رواية كشف له عن أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوجده داخلا في الحجر
ستة أذرع وشيئا وأحجار ذلك الأساس كأنها أعناق الإبل حجارة حمراء آخذ
بعضها في بعض مشبكة كتشبك الأصابع وأصاب فيه قبر أم إسمعيل عليه الصلاة
والسلام وهذا ربما يدل على أنه لم يصب فيه قبر إسمعيل وهو يؤيد القول بأن
قبره في حيال الموضع الذي فيه الحجر الأسود لا في الحجر كما ذكره الطبري
وأنه تحت البلاطة الخضراء التي بالحجر كما تقدم فدعا عبدالله بن الزبير
رضي الله تعالى عنهما خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك
الأساس وأدخل عبدالله ابن المطيع العدوي عتلة كانت بيده في ركن من أركان
البيت فتزعزت الأركان كلها فارتج جوانب البيت ورجفت مكة بأسرها رجفة شديدة
وطارت منه برقة فلم يبق دار من دور مكة إلا دخلت فيها ففزعوا
أقول تقدم في بناء قريش أنهم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها ببعض
وأن رجلا أدخل عتلته بين حجرين منها فحصل نحو ما ذكر
وقد يقال لا مخالفة بين كون تلك الأحجار كانت خضراء وبين كونها حمراء لأنه
يجوز أن تكون حمرة تلك الاحجار ليست صافية بل هي قريبة من السواد ومن ثم
وصفت بأنها زرق كما تقدم والأسود يقال له أخضر كما أن الأخضر غير الصافي
يقال له أسود والصافي يقال له أزرق والله أعلم
وجعل عبدالله على تلك
القواعد ستورا فطاف الناس بتلك الستور حتى بنى عليها وارتفع البناء وزاد
في أتفاعها على ما كانت عليه في بناء قريش تسعة أذرع فكانت سبعا وعشرين
ذراعا زاد بعضهم وربع ذراع وبناها على مقتضى ما حدثته به خالته عائشة رضي
الله تعالى عنها فأدخل فيه الحجر أي لأنه يجوز أن يكون إدخال الحجر هو
الذي سمعه من عائشة فعمل به دون غير ذلك من الروايات المتقدمة الدال على
أن الحجر ليس من البيت وإنما منه ستة أذرع وشبر أو قريب من سبعة أذرع
وفيه أن هذا أي قوله فأدخل فيه الحجر هو الموافق لما تقدم من أن قريش
أخرجت منها الحجر وهو واضح إن كان وجد الأساس خارجا عن جميع الحجر
وأما إذا لم يكن خارجا عن جميع الحجر كيف يتعداه ولا يبنى عليه إعتمادا
على ما حدثته به خالته عائشة رضي الله تعالى عنها على أنه سيأتي عن نص
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال لها فإن بدا
لقومك من بعد أن يبنوا فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من ستة أذرع
فليتأمل وجعل لها خلفا أي بابا من خلفها وألصقه بالأس كالمقابل له
قال ولما ارتفع البناء إلى مكان الحجر الأسود وكان في وقت الهدم وجد مصدعا
بسبب الحريق كما تقدم فشده بالفضة ثم جعله في ديباجة وأدخله في تابوت
وأقفل عليه وأدخله دار الندوة فحين وصل البناء إلى محله أمر إبنه حمزة
وشخصا آخر أن يحملاه ويضعاه محله وقال إذا وضعتماه وفرغتما فكبرا حتى
أسمعكما فأخفف صلاتي فإنه صلى بالناس بالمسجد إغتناما لشغلهم عن وضعه لما
أحس منهم بالتناقض في ذلك أي أن كل واحد يريد أن يضعه وخاف الخلاف فلما
كبر تسامع الناس بذلك فغضب جماعة من قريش حيث لم يحضرهم
وكون
الحجر وجد مصدعا بسبب الحريق وكون ابن الزبير شده كذلك بالفضة لا ينافى ما
وقع بعد ذلك من أن أبا سعيد كبير القرامطة وهم طائفة ملاحدة ظهروا بالكوفة
سنة سبعين ومائتين يزعمون أن لا غسل من الجنابة وحل الخمر وأنه لا صوم في
السنة إلا يوم النيروز والمهرجان ويزيدون في أذانهم وأن محمد بن الحنفية
رسول الله وأن الحج والعمرة إلى بيت المقدس وافتتن بهم جماعة من الجهال
وأهل البراري وقويت شوكتهم حتى انقطع الحج من بغداد بسببه وسبب ولده أبي
طاهر فإن ولده أبا طاهر بنى دارا بالكوفة وسماها دار الهجرة وكثر فساده
وإستيلاؤه على البلاد وقتله المسلمين وتمكنت هيبته من القلوب وكثرت أتباعه
وذهب إليه جيش الخليفة المقتدر بالله السادس عشر من خلفاء بني العباس غير
ما مرة وهو يهزمهم
ثم إن المقتدر سير ركب الحاج إلى مكة فوافاهم أبو
طاهر يوم التروية فقتل الحجيج بالمسجد الحرام وفي جوف الكعبة قتلا ذريعا
وألقى القتلى في بئر زمزم وضرب الحجر الأسود بدبوسه فكسره ثم اقتلعه وأخذه
معه وقلع باب الكعبة ونزع كسوتها وسققها بين أصحابه وهدم قبة زمزم وارتحل
عن مكة بعد أن أقام بها أحد عشر يوما ومعه الحجر الأسود وبقى عند القرامطة
أكثر من عشرين سنة أي والناس يضعون أيديهم محله للتبرك ودفع لهم فيه خمسون
ألف دينار فأبوا حتى أعيد في خلافة المطيع وهو الرابع والعشرون من خلفاء
بني العباس فأعيد الحجر إلى موضعه وجعل له طوق فضة شدد زنته ثلاثة آلاف
وسبعمائة وتسعون درهما ونصف
قال بعضهم تأملت الحجر وهو مقلوع فإذا السواد في رأسه فقط وسائره أبيض
وطوله قدر عظم الذراع
وبعد القرامطة في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة قام رجل من الملاحدة وضرب الحجر
الأسود ثلاث ضربات بدبوس فتشقق وجه الحجر من تلك الضربات وتساقطت منه
شظيات مثل الأظفار وخرج مكسره أسمر يضرب إلى الصفرة محببا مثل حب الخشخاش
فجمع بنو شيبة ذلك الفتات وعجنوه بالمسك واللك وحشوه في تلك الشقوق وطلوه
بطلاء من ذلك وجعل طول الباب أحد عشر ذراعا والباب الآخر بإزائه كذلك
فلما فرغ من بنائها خلقها من داخلها وخارجها بالخلوق أي الطيب والزعفران
وكساها القباطي أي وهو ثياب بيض رقاق من كتان تتخذ بمصر
وفي كلام بعضهم أول من كسا الكعبة الديباج عبدالله بن الزبير
وأقول وبناء عبدالله للكعبة من جملة أعلام النبوة لأنه من الإخبار
بالمغيبات ففي نص حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فإن بدا لقومك من بعدي
أن يبنوه فهلمى لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من ستة أذرع وتقدم أن هذا
يرد قول بعضهم أن ابن الزبير أدخل في بنائه جميع الحجر
قال بعضهم وهذا منه صلى الله عليه وسلم تصريح بالإذن في أن يفعل ذلك بعده
صلى الله عليه وسلم عند القدرة عليه والتمكن منه
وقد قال المحب الطبري وهذا الحديث يعنى حديث عائشة رضي الله تعالى عنها
يدل تصريحا وتلويحا على جواز التغيير في البيت إذا كان لمصلحة ضرورية أو
حاجية أو مستحسنة
قال الشهاب ابن حجر الهيتمي ومن الواضح البين أن
ما وهى وتشقق منها في حكم المنهدم أو المشرف على الإنهدام فيجوز إصلاحه بل
يندب بل يجب هذا كلامه
وفي شعبان سنة تسع وثلاثين وألف جاء سيل عظيم
بعد صلاة العصر يوم الخميس لعشرين من الشهر المذكور هدم معظم الكعبة سقط
به الجدار الشامي بوجهيه وانحدر معه في الجدار الشرقي إلى حد الباب ومن
الجدار الغربي من الوجهين نحو السدس وهدم أكثر بيوت مكة وأغرق في المسجد
جملة من الناس خصوصا الأطفال فإن الماء ارتفع إلى أن سد الأبواب
وعند مجيء الخبر بذلك إلى مصر جمع متوليها الوزير محمد باشاه وهو الوزير
الأعظم الآن أي في سنة ثلاث وأربعين وألف جمعا من العلماء كنت من جملتهم
وقعت الإشارة بالمبادرة للعمارة وقد جعلت للوزير المذكور في ذلك رسالة
لطيفة وقعت منه موقعا كبيرا وأعجب بها كثيرا حتى أنه دفعها لمن عبر عنها
باللغة التركية وأرسل بها لحضرة مولانا السلطان مراد أعز الله أنصاره
وذكرت فيها أن الحق أن الكعبة لم تبن جميعها إلا ثلاث مرات المرة الأولى
بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام والثانية بناء قريش وكان بينهما ألفا
سنة وسبعمائة سنة وخمس وسبعون سنة والثالثة بناء عبدالله بن الزبير أي
وكان بينهما نحو إثنتين وثمانين سنة أي وأما بناء الملائكة وبناء آدم
وبناء شيث لم يصح وأما بناء جرهم والعمالقة وقصى فإنما كان ترميما ولم تبن
بعد هدمها جميعا إلا مرتين مرة زمن قريش ومرة زمن عبدالله بن
الزبير رضي الله تعالى عنه
وحينئذ يكون ما جاء في الحديث استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع
وقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة معناه قد يهدم مرتين ويرفع في الهدم
الثالث من الدنيا
وذكر الإمام البلقيني أن كون ابن الزبير أول من
كسا الكعبة الديباج أشهر من القول بأن أول من كساها الديباج أم العباس بن
عبدالمطلب كما سيأتي وجاز أن يكون عبدالله بن الزبير كساها أولا القباطي
ثم كساها الديباج والله أعلم وكان كسوتها أي في زمن الجاهلية المسوح
والأنطاع فإن أول من كساها تبع الحميري كساها الأنطاع ثم كساها الثياب
الحميرية أي وفي رواية كساها الوصائل وهي برود حمر فيها خطوط خضر تعمل
باليمن
وفي كلام الإمام البلقيني ويروى أن تبعا اليماني لما كساها
الخسف انتفضت فزال ذلك عنها فكساها المسوح والأنطاع فانتفضت فزال ذلك عنها
فكساها الوصائل فقبلتها قال والوصائل ثياب موصولة من ثياب اليمن
وفي الكشاف كان تبع الحميري مؤمنا وكان قومه كافرين ولذلك ذم الله قومه
ولم يذمه
وعن النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم وعنه عليه
الصلاة والسلام ما أدرى أكان تبع نبيا أو غير نبي
هذا وقد نقل الشمس الحموي في كتابه المناهج الزهية والمباهج المرضية عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان نبيا وقيل أول من كساها عدنان بن
أدد وكانت قريش تشترك في كسوة الكعبة حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة فقال
لقريش أنا أكسو الكعبة سنة وحدى وجميع قريش سنة أي وقيل كان يخرج نصف كسوة
الكعبة في كل سنة ففعل ذلك إلى أن مات فسمته قريش العدل لأنه عدل قريشا
وحده في كسوة الكعبة ويقال لبنيه بنو العدل وكانت كسوتها لا تنزع فكان
كلما تجدد كسوة تجعل فوق واستمر ذلك إلى زمنه صلى الله عليه وسلم ثم كساها
النبي صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية
وفي كلام بعضهم أول من كسا الكعبة القباطي النبي صلى الله عليه وسلم
وكساها أبو بكر وعمر وعثمان القباطي
وكساها معاوية الديباج والقابطي والحبرات فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء
والقباطي في آخر رمضان والإقتصار على ذلك ربما يفيد أن عطف الحبرات على
القباطي من عطف التفسير فليتأمل
وكساها المأمون الديباج الأحمر
والديباج الأبيض والقباطي فكانت تكسى الأحمر يوم التروية والقباطي يوم
هلال رجب والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان قال بعضهم وهكذا كانت
تكسى في زمن المتوكل العباسي ثم في زمن الناصر العباسي كسيت السواد من
الحرير واستمر ذلك إلى الآن في كل سنة وكسوتها من غلة قريتين يقال لهما
بيسوس وسندبيس من قرى القاهرة وقفهما على ذلك الملك الصالح إسماعيل ابن
الناصر محمد بن قلاوون في سنة نيف وخمسين وسبعمائة أي والآن زادت القرى
على هاتين القريتين
والحاصل أن أول من كساها على الإطلاق تبع الحميري كما تقدم على الراجح
وذلك قبل الإسلام بتسعمائة سنة
قيل وسبب كسوة أم عمه صلى الله عليه وسلم لها الديباج أن العباس ضل وهو
صبي فنذرت إن وجدته لتكسون الكعبة فوجدته فكست الكعبة الديباج أي وكانت من
بيت مملكة
وقيل أول من كساها الديباج عبدالملك بن مروان أي وهو
المراد بقول ابن إسحاق أول من كساها الديباج الحجاج لأن الحجاج كان من
أمراء عبدالملك
وقد سئل الإمام البلقيني هل تجوز كسوة الكعبة
بالحرير المنسوج بالذهب ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف فأجاب بجواز
ذلك قال لما فيه من التعظيم لكسوتها الفاخرة التي ترجى بكسوتها الخلع
السنية في الدنيا والآخرة ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف فإن في
ذلك المناسبة للحال المنيف هذا كلامه
أي وأول من حلى بابها بالذهب
جده صلى الله عليه وسلم عبد المطلب فإنه لما حفر بئر زمزم وجد فيها
الأسياف والعزالتين من الذهب فضرب الأسياف بابا لها وجعل في ذلك الباب
الغزالتين فكان أول ذهب حليته الكعبة على ما تقدم
وأول من ذهب الكعبة في الإسلام عبدالملك بن مروان وقيل عبدالله ابن الزبير
جعل على أساطينها صفائح الذهب وجعل مفاتيحها من الذهب وجعل الوليد بن
عبدالملك الذهب على الميزاب
يقال إنه أرسل لعامله على مكة ستة
وثلاثين ألف دينار يضرب منها على باب الكعبة وعلى الميزاب وعلى الأساطين
التي داخلها وعلى أركانها من داخل
وذكر أن الأمين بن هرون الرشيد
أرسل إلى عامله بمكة بثمانية عشر ألف دينار ليضرب بها صفائح الذهب على
بابي الكعبة فقطع ما كان على الباب من الصفائح وزاد عليها ذلك وجعل
مساميرها وحلقتي الباب والعتب من الذهب وإن أم المقتدر الخليفة العباسي
أمرت غلامها لؤلؤ أن يلبس جميع أسطوانات البيت ذهبا ففعل
وقال
عبدالله بن الزبير لما فرغ من بنائها من كان لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر
من التنعيم ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل فإن لم يقدر فشاة ومن لم يقدر
فليتصدق بما تيسر وأخرج مائة بدنة فلما طاف استلم الأركان الأربعة جميعا
فلم تزل الكعبة على بناء عبدالله بن الزبير تستلم أركانها الأربعة أي
لأنها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويدخل إليها من باب يخرج من
باب حتى قتل أي قتله شخص من جيش الحجاج بحجر رماه به فوقع بين عينيه فقتل
وهو بالمسجد لأن الحجاج كان أميرا على الجيش الذي أرسله عبدالملك بن مروان
لقتاله
وكتب عبدالملك بن مروان إلى الحجاج أن اهدم ما زاده ابن
الزبير فيها أي يهدم البناء الذي جعله على آخر الزيادة التي أدخلها في
الكعبة وكانت قريش أخرجتها بدليل قوله وردها إلى ما كانت عليه وسد الباب
الذي فتح أي وأن يرفع الباب الأصلي إلى ما كان عليه زمن قريش واترك سائرها
أي لأنه اعتقد أن ابن الزبير فعل ذلك من تلقاء نفسه فكتب الحجاج إلى
عبدالملك يخبره بأن عبدالله بن الزبير وضع البناء على أس قد نظر إليه
العدول من أهل مكة أي وهم خمسون رجلا من وجوه الناس وأشرافهم كما تقدم
فكتب إليه عبدالملك لسنا من تخبيط ابن الزبير في شيء فنقض الحجاج ما أدخل
من الحجر وسد الباب الثاني أي الذي في ظهر الكعبة عند الركن اليماني ونقص
من الباب الأول خمسة أذرع أي ورفعه إلى ما كان عليه في زمن قريش فبنى تحته
أربعة أذرع وشبرا وبنى داخلها الدرجة الموجودة اليوم
وفي لفظ أن الحجاج لما ظفر بابن الزبير كتب إلى عبدالملك بن مروان يخبره
أن ابن الزبير زاد في الكعبة ما ليس فيها وأحدث فيها بابا آخر واستأذن في
رد ذلك على ما كانت عليه في الجاهلية فكتب إليه عبدالملك أن يسد بابها
الغربي ويهدم ما زاد فيها من الحجر ففعل ذلك الحجاج فسائرها قبل وقوع هذا
الهدم بالسيل الواقع في سنة تسع وثلاثين بعد الألف فبنيانه على بنيان ابن
الزبير إلا الحجاب الذي يلي الحجر فإنه من بنيان الحجاج أي والبناء الذي
تحت العتبة وهو أربعة أذرع وشبر فإن باب الكعبة كان على عهد العماليق
وجرهم وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لاصقا بالأرض حتى رفعته قريش كما تقدم
وما سد به الباب الغربي والردم كان بالحجارة التي كانت داخل أرض الكعبة أي
التي وضعها عبدالله بن الزبير أي ولعله إنما وضع في ذلك المحل الحجارة
التي تصلح للبناء فلا ينافى ما أخبرني به بعض الثقات أن بعض بيوت مكة كان
فيها بعض الحجارة التي أخرجت من الكعبة زمن عبدالله بن الزبير
ويقال
إن ذلك البيت الذي كان فيه تلك الحجارة كان بيتا لعبدالله بن الزبير رضي
الله تعالى عنه وبناء الحجاج كان في السنة التي قتل فيها عبدالله بن
الزبير رضي الله تعالى عنه وهي سنة ثلاث وسبعين
قيل ولما دخل
عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنه وهو محاصر حاصره الحجاج خمسة أشهر
وقيل سبعة أشهر وسبع عشرة ليلة على أمه أسماء رضي الله تعالى عنهما قبل
قتله بعشرة أيام وهي شاكية أي مريضة فقال لها كيف تجدينك يا أمه قالت ما
أجدني إلا شاكية فقال لها إن في الموت لراحة فقالت لعلك تبغيه لي ما أحب
أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك إما قتلت وإما ظفرت بعدوك فقرت عيني ولما
كان اليوم الذي قتل فيه دخل عليها في المسجد فقالت له يا بني لاتقبلن منهم
خطة تخاف فيها على نفسك الذي تخافه القتل فوالله لضربة بالسيف في عز خير
من ضربة سوط في ذل
ويقال إن الناس لا زالوا يتنقلون عن ابن الزبير
إلى الحجاج لطلب الأمان وهو يؤمنهم حتى خرج إليه قريب من عشرة آلاف حتى
كان من جملة من خرج إليه حمزة وخبيب ابنا عبدالله بن الزبير وأخذ لأنفسهما
أمانا من الحجاج فأمنهما
ودخل عبدالله على أمه فشكا إليها خذلان الناس له وخروجهم إلى الحجاج حتى
أولاده
وأهله وأنه لم يبق معه إلا اليسير والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا فما
رأيك فقالت يا بني أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وتدعوا إلى حق
فاصبر عليه فقد قتل أصحابك عليه ولا تمكن من رقبتك تلعب بها غلمان بني
أمية وإن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت أهلكت نفسك وأهلكت من قتل
معك كم خلودك في الدنيا فدنا منها وقبل رأسها وقال والله ما ركنت إلى
الدنيا ولا أحببت الحياة فيها وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن
تستحل حرمته
وبعد أن قتل وصلب على الجذع فوق الثنية ومضت ثلاثا أيام
جاءت أمه أسماء رضي الله تعالى عنها تقاد لأن بصرها كان قد كف حتى وقفت
عليه فدعت له طويلا ولم يقطر من عينها دمعة وقالت للحجاج أما آن لهذا
الراكب أن ينزل فقال لها الحجاج المنافق رأيت كيف نصر الله الحق وأظهر أن
ابنك ألحد في هذا البيت وقد قال تعالى { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من
عذاب أليم } وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم
وفي كلام سبط ابن
الجوزي أن ابن الزبير لما قال لعثمان رضي الله تعالى عنه وهو محاصر إن
عندي نجائب أعددتها لك فهل لك أن تنجو إلى مكة فإنهم لا يستحلونك بها قال
له عثمان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يلحد رجل في الحرم من
قريش أو بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم فلن أكون أنا
وفي رواية قال
له لا لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يلحد بمكة كبش من قريش
اسمه عبدالله عليه مثل نصف أوزار الناس هذا كلامه
وعندي أن المراد
بعبدالله الحجاج لا ابن الزبير ولا مانع أن يكون الحجاج من قريش على أن
الذي في الصواعق لابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى أن القائل لعثمان ذلك
المغيرة بن شعبة
ولما سمعت سيدتنا أسماء رضي الله تعالى عنها الحجاج
يقول في ولدها المنافق قالت له كذبت والله ما كان منافقا ولكنه كان صواما
قواما برا كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة وسر به رسول الله صلى
الله عليه وسلم وحنكه بيده وكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحا به
كان عاملا بكتاب الله حافظا لحرم الله يبغض أن يعصى الله عز وجل قال
انصرفي فإنك عجوز قد خرفت قالت والله ما خرفت ولقد سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول يخرج من ثقيف كذاب ومبير
أما الكذاب فقد رأيناه تعنى المختار بن أبي عبيد الثقفي والي العراق فإنه
لما قتل الحسين رضي الله تعالى عنه اتفق مع طائفة من الشيعة ممن كان خذل
الحسين ولما قتل ندموا على ذلك فوافقوا المختار على مقاتلة من قتل الحسين
من أهل الكوفة فتوجهوا إليه وقتلوا جميع من قاتل الحسين وملكوا الكوفة
وشكر الناس للمختار ذلك ثم قالت وأما المبير فأنت المبير
ولما بلغ
عبدالملك ما قاله الحجاج لأسماء كتب إليه يلومه على ذلك أي ومن ثم أرسل
إليها الحجاج فأبت أن تأتيه فأعاد إليها الرسول وقال إما أن تأتيني أو
لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك فأبت وقالت والله لا آتيك حتى تبعث إلى من
يسحبني بقروني فعند ذلك أخذ نعليه ومشى حتى دخل عليها فقال يا أمه إن أمير
المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة فقالت لست لك بأم ولكني أم المصلوب على
رأس الثنية ومالي من حاجة ولكن انتظر حتى أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى
الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج من ثقيف كذاب
ومبير فأما الكذاب فقد رأيناه وأما المبير فأنت فقال الحجاج مبير
للمنافقين ومن كذب المختار أنه ادعى النبوة وأنه يأتيه الوحي ويسر ذلك
لأحبابه
وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعضهم قال كنت أقوم بالسيف على
رأس المختار ابن أبي عبيد فسمعته يوما يقول قام جبريل عن هذه النمرقة وفي
رواية من على هذا الكرسي فأردت أن أضرب عنقه فتذكرت حديثا حدثته أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له
لواء الغدر يوم القيامة فكففت عنه ولعل هذا مستند ما نقل عن كتاب الإملاء
لإمامنا الشافعي رضي الله عنه من القول بأن المسلم يقتل بالمستأمن
وقد كتب المختار للأحنف بن قيس وجماعته وقد بلغني أنكم تسموني الكذاب وقد
كذب الأنبياء من قبلي لست بخير منهم
وقد كان يقع منه أمور تشبه الكهانة منها أنه لما جهز جيشا لقتال عبيدالله
بن زياد المجهز للجيش لمقاتلة الحسين رضي الله تعالى عنه كما تقدم قال
لأصحابه في غد يأتي إليكم خبر النفير وقتل ابن زياد فكان كما أخبر وجئ
برأس ابن زياد وألقيت بين يدي المختار وكان قتله يوم عاشوراء اليوم الذي
قتل فيه الحسين ثم قتل المختار وكان قتل المختار على
يد مصعب بن الزبير جئ برأس المختار بين يدي مصعب لما ولى العراق
من جانب أخيه لأبيه عبدالله بن الزبير
ومما يؤثر عن مصعب العجب من ابن آدم كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول
مرتين ثم قتل مصعب وقطعت رأسه ووضعت بين يدي عبدالملك بن مروان
وعن
بعضهم أنه حدث عبدالملك فقال له يا أمير المؤمنين دخلت القصر قصر الإمارة
بالكوفة فإذا رأس الحسين على ترس بين يدي عبيدالله بن زياد وعبيدالله بن
زياد على السرير ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس عبيدالله بن زياد
على ترس بين يدي المختار والمختار على السرير ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين
فرأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير على السرير ثم دخلت بعد ذلك
بحين فرأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك وأنت على السرير فقال عبدالملك لا
أراك الله الخامسة ثم أمر بهدم ذلك القصر
وعن إمامنا الشافعي رضي
الله تعالى عنه أن أبا الحجاج لما دخل بأم الحجاج واقعها فنام فرأى قائلا
يقول له في المنام ما أسرع ما أنجبت بالمبير
وفي كلام سبط بن الجوزي
أن أم الحجاج كانت قبل أبيه مع المغيرة بن شعبة فطلقها بسبب أنه دخل عليها
يوما فوجدها تتخلل حين انقلبت من صلاة الصبح فقال لها إن كنت تتخللين من
طعام البارحة إنك لقذرة وإن كان من طعام اليوم إنك لنهمة كنت فبنت قالت
والله ما فرحنا إذ كنا ولا أسفنا إذ بنا ولا هو شيء مما ظننت ولكني استكت
فأردت أن أتخلل من السواك فندم المغيرة على طلاقها فخرج فلقي يوسف بن أبي
عقيل والد الحجاج فقال له هل لك إلى شيء أدعوك إليه قال وما ذاك قال إني
نزلت عن سيدة نساء ثقيف وهي الفارعة فتزوجها تنجب لك فتزوجها فولدت له
الحجاج
وفي حياة الحيوان إنها كانت قبل أبي الحجاج عند أمية بن أبي الصلت هذا
كلامه
وقد يقال لا مانع أنها تزوجت الثلاثة وإن تزوجها لأمية كان قبل المغيرة
وكونها سيدة نساء ثقيف يبعد القول بأنها المتمنية التي مر بها سيدنا عمر
رضي الله تعالى عنه وهي تنشد
** هل من سبيل إلى خمر فأشربها **
الأبيات وأنه كان يعير بها فيقال له ابن المتمنية
وفي مدة صلب عبدالله بن الزبير صارت أمه تقول اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته وذهب أخوه عروة بن الزبير إلى عبدالملك بن مروان يسأل في إنزاله عن الخشبة فأجابه وأنزله قال غاسله كنا لا نتناول عضوا من أعضائه إلا جاء معنا فكنا نغسل العضو ونضعه في أكفانه وقامت فصلت عليه أمه وماتت بعده بجمعة ذكر ذلك في الإستيعاب وقيل بعده بمائة يوم قال الحافظ ابن كثير وهو المشهور وبلغت من العمر مائة سنة ولم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل وقتل مع ابن الزبير مائتان وأربعون رجلا منهم من سال دمه في جوف الكعبة وكان من جملة من قتل عبدالله بن صفوان بن أمية الجمحي قتل يوم قتل ابن الزبير وقطع رأسه وبعث الحجاج برأسه ورأس ابن الزبير إلى المدينة فنصبوهما وصاروا يقربون رأس عبدالله بن صفوان إلى رأس ابن الزبير كأنه يساره يلعبون بذلك ثم بعثوا بهما إلى عبدالملك بن مروانولما وضعت رأس عبدالله بن الزبير بين يدي عبدالملك سجد وقال والله كان أحب الناس إلي وأشدهم إلي إلفا ومودة ولكن الملك عقيم أي فإن الرجل يقتل ابنه أو أخاه على الملك فإذا فعل ذلك انقطعت بينهما الرحم وستأتي مدحة عبد الملك لعبدالله بن الزبير وتوبيخ أمير الجيش الذي أرسله يزيد لمقاتلته
وقد كان ابن الزبير قال لعبدالله بن صفوان إني قد أقلتك بيعتي فاذهب حيث شئت فقال إنما أقاتل عن ديني وكان سيدا شريفا مطاعا حليما كريما قتل وهو متعلق بأستار الكعبة وحينئذ يشكل كونه حرما آمنا
ومما يدل لما تقدم من أن عبدالله بن الزبير كان عنده سوء خلق ما حكى أنه جاء إليه شخص فقال له إن الناس على باب عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلبون العلم وإن الناس على باب أخيه عبيدالله يطلبون الطعام فأحدهما يفقه الناس والآخر يطعم الناس فما أبقيا لك مكرمة فدعا شخصا وقال له انطلق إلى ابني العباس رضي الله تعالى عنهم وقل لهما يقول لكما أمير المؤمنين اخرجا عني وإلا فعلت وفعلت فخرجا إلى الطائف أي وقيل ما خرج عبدالله من مكة إلى الطائف إلا لإن الله تعالى يقول { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم }
فقد قال الشيخ محي الدين بن العربي اعلم أن الله تعالى قد عفا عن جميع
الخواطر التي لا تستقر عندنا إلا بمكة لأن الشرع قد ورد أن الله يؤاخذ فيه
من يرد فيه بإلحاد بظلم وكان هذا سبب سكني عبدالله بن عباس بالطائف
احتياطا لنفسه لأنه ليس في قدرة الإنسان أن يدفع عن قلبه الخواطر
قال بعضهم كان يقال من أراد الفقه والجمال والسخاء فليأت دار العباس
الجمال للفضل والسخاء لعبيدالله والفقه لعبدالله
قال ولما حج عبدالملك أي وذلك في سنة خمس وسبعين قال له الحارث أنا أشهد
لإبن الزبير بالحديث الذي سمعه من خالته عائشة رضي الله تعالى عنها قال
أنت سمعته منها قال نعم فجعل ينكت بالمثناة فوق بقضيب كان في يده الأرض
ساعة ثم قال وددت أني كنت تركته يعنى ابن الزبير وما تحمل
وفي رواية
أن عبدالملك كتب إلى الحجاج وددت أنك تركت ابن الزبير وما تحمل وهذا هو
الموافق لما في تاريخ الأزرقي أن الحرث وفد على عبد الملك بن مروان في
خلافته فقال له عبد الملك ما أظن أنا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة
رضي الله تعالى عنها ما كان يزعم أنه سمع منها في بناء الكعبة قال الحرث
أنا سمعته منها قال عبدالملك أنت سمعته منها الحديث وكون عائشة حدثت ابن
الزبير بما ذكر لا ينافى ما في تاريخ ابن كثير عن بعضهم
قال سمعت
ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما يقول حدثتني أمي أسماء بنت أبي بكر رضي
الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لولا قرب
عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام
الحديث وفي رواية أن عائشة رضي الله تعالى عنها نذرت إن فتح الله مكة على
رسول الله صلى الله عليه وسلم تصلى في البيت ركعتين فلما فتحت مكة أي وحج
رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فسألت النبي صلى الله عليه وسلم
أن يفتح لها باب الكعبة ليلا فجاء عثمان بن طلحة بالمفتاح إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إنها لم تفتح ليلا قط قال فلا
تفتحها ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها وأدخلها الحجر وقال صلى
ههنا فإن الحطيم أي الحجر من البيت إلا أن قومك قصرت بهم النفقة أي الحلال
فأخرجوه من البيت ولولا حدثان قومك بالجاهلية لنقضت بناء الكعبة
وأظهرت
قواعد الخليل وأدخلت الحطيم في البيت وألصقت العتبة على الأرض ولئن عشت
إلى قابل لأفعلن ذلك ولم يعش عليه الصلاة والسلام ولم تتفرغ الخلفاء لذلك
وبما ذكر يعلم ما في قول الأصل فهدمها أي عبدالملك وبناها على ما كانت
عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد علمت أن الحجاج لم يبن إلا الحجاب الذي يليه الحجر والبناء الذي تحت
العتبة والدرجة التي في باطنها
وأما التراب الذي جعل في باطنها فيحتمل أن يكون هو التراب الذي أخرجه
عبدالله بن الزبير استمر باقيا فأعاده الحجاج ويحتمل أنه غيره ولم أقف على
بيان ذلك في كلام أحد
والشاذروان الذي أخرجه عبدالله بن الزبير من عرض الأساس الذي بنته قريش
لأجل مصلحة استمساك البناء وثباته
ومن العجب ما حدث به بعضهم قال كنت أميرا على الجيش الذي بعث به يزيد ابن
معاوية إلى عبدالله بن الزبير بمكة فدخلت مسجد المدينة فجلست بجانب
عبدالملك بن مروان فقال لي عبدالملك أنت أمير هذا الجيش قلت نعم قال ثكلتك
أمك أتدري إلى من تسير تسير إلى أول مولود ولد في الإسلام أي بالمدينة من
أولاد المهاجرين وإلى ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ابن
ذات النطاقين يعنى أسماء وإلى من حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم أما
والله إن جئته نهارا وجدته صائما وإن جئته ليلا وجدته قائما فلو أن أهل
الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله في النار جميعا فلما صارت الخلافة إلى
عبد الملك وجهنا مع الحجاج حتى قتلناه
وذكر بعضهم أن عبدالملك بن
مروان لما رأى جيش يزيد متوجها إلى مكة قال أعوذ بالله أيبعث الجيش إلى
حرم الله فضرب منكبه شخص كان يهوديا وأسلم وكان يقرأ الكتب وقال له جيشك
إليه أعظم
ويقال إن هذا اليهودي مر على دار مروان والد عبدالملك هذا
فقال ويل لأمة محمد من أهل هذه الدار أي لأن مروان كان سببا لقتل عثمان
وعبدالملك ابنه كان سببا لقتل عبدالله بن الزبير ووقع من الوليد بن يزيد
بن عبدالملك الأمور الفظيعة
وسبب
ولاية الحجاج على الجيش أنه قال لعبد الملك بن مروان رأيت في منامي أني
أخذت عبدالله بن الزبير فسلخته فولني قتاله فولاه فأرسله في جيش كثيف من
أهل الشام فحضر ابن الزبير ورمى الكعبة بالمنجنيق ولما رمى به أرعدت
السماء وأبرقت فخاف أهل الشام فصاح الحجاج هذه صواعق تهامة وأنا ابنها ثم
قام ورمى المنجنيق بنفسه فزاد ذلك ولم تزل صاعقة تتبعها أخرى حتى قتلت
اثني عشر رجلا فخاف أهل الشام زيادة
قال بعضهم ولا زال الحجاج يحضهم على الرمي بالمنجنيق ولم تزل الكعبة ترمى
بالمنجنيق حتى هدمت وحرقت أستارها حتى صارت كالفحم
أي وفيه أنه لو كانت هدمت أو حرقت لأعيد بناؤها أو أصلحت بالترميم ولو وقع
ذلك لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله ولعل هذا اشتبه على بعض الرواة
ظن أن الذي وقع من جيش يزيد واقع من الحجاج
فإن قيل هلا أهلك الله
من نصب المنجنيق على الكعبة كما أهلك أبرهة قلنا لأن من نصب المنجنيق لم
يرد هدم الكعبة بخلاف أبرهة كما تقدم وفيه أنه قد يشكل كونه حرما آمنا
وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال حين وقع بينه وبين
ابن الزبير أي وأمره بأن يخرج إلى الطائف ويهدده على ما تقدم قلت أبوه
الزبير وأمه أسماء وخالته عائشة وجده أبو بكر وجدته صفية وفي رواية عنه
أنه قال أما أبوه فحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الزبير وأما
جده فصاحب الغار يريد أبا بكر وأما أمه فذات النطاقين يريد أسماء وأما
خالته فأم المؤمنين يريد عائشة وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم
يريد خديجة وأما عمة النبي صلى الله عليه وسلم فجدته يريد صفية ثم عفيف في
الإسلام وقارئ للقرآن
ولما قتل عبدالله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء
فجمع الحجاج الناس وخطبهم وقال في خطبته ألا إن ابن الزبير كان من أخيار
هذه الأمة إلا أنه نازع الحق أهله إن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه
وأسكنه جنته فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته وآدم أكرم على الله من ابن
الزبير والجنة أعظم حرمة من الكعبة اذكروا الله يذكركم
ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ما روى أن عبدالله بن الزبير لما ولد
نظر إليه
رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال هو هو فلما سمعت بذلك أمه أمسكت عن إرضاعه
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه ولو بماء عينيك كبش بين ذئاب
وذئاب عليها ثياب ليمنعن البيت أو ليقتلن دونه
وفي حياة الحيوان
العرب إذا أرادوا مدح الإنسان قالوا كبش وإذا أرادوا ذمه قالوا تيس ومن ثم
قال صلى الله عليه وسلم في المحلل التيس المستعار
ويقال إن الحجاج
بعد قتل ابن الزبير ذهب إلى المدينة وعلى وجهه لثام فرأى شيخا خارجا من
المدينة فسأله عن حال أهل المدينة فقال شر حال قتل ابن حواري رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال من قتله قال الفاجر اللعين الحجاج عليه لعائن الله
ورسله من قليل المراقبة لله فغضب الحجاج غضبا شديدا ثم قال أبها الشيخ
أتعرف الججاج إذا رأيته قال نعم ولا عرفه الله خيرا ولا وقاه ضيرا فكشف
الحجاج اللثام عن وجهه وقال ستعلم الآن إذا سال دمك الساعة فلما تحقق
الشيخ أنه الحجاج قال إن هذا لهو العجب يا حجاج أنا فلان أصرع من الجنون
في كل يوم خمس مرات فقال الحجاج اذهب لا شفى الله الأبعد من جنونه ولا
عافاه وخلوص هذا من يد الحجاج من العجب لأن إقدامه على القتل ومبادرته
إليه أمر لم ينقل مثله عن أحد
وكان يخبر عن نفسه ويقول إن أكبر
لذاته سفك الدماء قال بعضهم والأصل في ذلك أنه لما ولد لم يقبل ثديا فتصور
لهم إبليس في صورة الحرث بن كلدة طبيب العرب وقال اذبحوا له تيسا أسود
وألعقوه من دمه واطلوا به وجهه ففعلوا به ذلك فقبل ثدي أمه
وذكر أنه
أتى إليه بامرأة من الخوارج فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه ولا ترد عليه
كلاما فقال لها بعض أعوانه يكلمك الأمير وأنت معرضة فقال إني أستحي أن
أنظر إلى من لا ينظر الله إليه فأمر بها فقتلت وقد أحصى الذي قتل بين يديه
صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألف
ولما عزى سيدتنا أسماء عبدالله بن
عمر رضي الله تعالى عنهم وأمرها بالصبر قالت وما يمنعني من الصبر وقد أهدى
رأس يحيى بن زكريا إلى بعي من بغايا بني إسرائيل وقد جاء أن هذه البغى أول
من يدخل النار
ويقال إن عبدالله
بن الزبير قال لأمه يوم قتل يا أمه إني مقتول من يومي هذا فلا يشتد حزنك
وسلمى الأمرلله فإن إبنك لم يعمد لإتيان منكر ولا عمل فاحشة
وفي كون
عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما تأخر موته عن ابن الزبير نظر فقد قيل
إن عبدالله بن عمر مات قبل ابن الزبير بثلاثة أشهر وسبب موته أن الحجاج
سفه عليه فقال له عبدالله إنك سفيه مسلط فغيره ذلك عليه فأمر الحجاج شخصا
أن يسم زج رمحه ويضعه على رجل عبدالله ففعل به ذلك في الطواف فمرض من ذلك
أياما ومات
ويذكر أن الحجاج دخل ليعوده فسأله عمن فعل به ذلك وقال
له قتلني الله إن لم أقتله فقال له عبدالله لست بقاتل له قال ولم قال لأنك
الذي أمرته
وقول عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما للحجاج إنك
سفيه مسلط يشير إلى قول أبيه عمر رضي الله تعالى عنهما فإنه لما بلغه أن
أهل العراق حصبوا أميرهم أي رجموه بالحجارة خرج عضبان فصلى فسها في صلاته
فلما سلم قال اللهم إنهم قد لبسوا علي فألبس عليهم وعجل عليهم بالغلام
الثقفي يحكم فيهم بحكم الجاهلية لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم
وكان ذلك قبل أن يولد الحجاج
ثم رأيت في تاريخ ابن كثير لما مات ابن
الزبير واستقر الأمر لعبدالملك ابن مروان بايعه عبدالله بن عمر ويوافقه ما
في الدلائل للبيهقي أن ابن عمر وقف على ابن الزبير وهو مصلوب وقال السلام
عليك أبا خبيب أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله لقد كنت أنهاك عن
هذا أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله إن كنت ما علمت صواما قواما
وصولا للرحم
ويذكر أنه كان لعبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما
مائة غلام لكل غلام منهم لغة لا يشاركه غيره فيها وكان يكلم كل واحد منهم
بلغته وهذا أغرب مما استغرب وهو أن ترجمان الواثق بالله من الخلفاء بني
العباس كان عارفا بألسن كثيرة حتى قيل إنه يعرف أربعين لغة ويمارى فيها
وقد قال الحجاج لعروة بن الزبير يوما في كلام جرى بينهما لا أم لك فقال
إلى تقول هذا وأنا ابن عجائز الجنة يعنى جدته صفية وعمته خديجة
وخالته عائشة وأمه أسماء
وقال الحجاج يوما لشخص ما تقول في عبدالملك بن مروان فقال الرجل ما أقول
في رجل أنت سيئة من سيئاته
وقد أطلق سليمان بن عبدالملك لما ولى الخلافة من سجن الحجاج سبعين ألفا قد
حبسهم للقتل ليس لواحد منهم ذنب يستوجب به الحبس فضلا عن القتل
وذكر
أنه كان يحبس الرجال مع النساء ولم يكن لحبسه بيوت أخلية فكان الرجل يبول
بجانب المرأة والمرأة تبول بجانب الرجل فتبدو العورات وكان كل عشرة في
سلسلة ويطعمهم خبز الدخن مخلوطا بالملح والرماد
ومر يوم جمعة فسمع
استغاثة فقال ما هذا فقيل له أهل السجن يقولون قتلنا الحر فقال قولوا لهم
أخسئوا فيها ولا تكلمون فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة
وآخر من قتله الحجاج من التابعين سيعد بن جبير رضي الله تعالى عنه ولم
يقتل بعد ابن جبير إلا رجلا واحدا
وقال عمر بن عبدالعزيز لو جاءت كل أمة بفرعونها وجئناهم بالحجاج لغلبناهم
وقال سليمان بن عبدالملك لرجل من أخصاء الحجاج بعد موت الحجاج أبلغ الحجاج
قعر جهنم فقال يا أمير المؤمنين يجئ الحجاج يوم القيامة بين أبيك عبدالملك
وبين أخيك هشام بن عبدالملك فضعه في النار حيث شئت
ومن غريب الإتفاق
ما حكاه بعضهم قال مات رجل فلما وضع على مغتسله استوى قاعدا وقال نظرت
بعيني هاتين وأهوى بيديه إلى عينيه الحجاج وعبدالملك في النار يسحبان
بأمعائهما ثم عاد ميتا كما كان
والحجاج متأصل في الظلم فقد رأيت
بعضهم حكى أنه يقال في المثل أظلم من ابن الجلندي وهو المشار إليه بقوله
تعالى { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا } وإنه من أجداد الحجاج بينه
وبينه سبعون جدا
واستحلف الحجاج رجلا في أمر قال لا والذي أنت بين يديه غدا أذل مني بين
يديك اليوم فقال والله إني يومئذ لذليل
وأول من ضرب الدراهم في الإسلام الحجاج بأمر عبدالملك بن مروان وكتب
عليها { قل هو الله أحد الله الصمد } أي على أحد وجهي الدراهم {
قل هو الله أحد } وعلى وجهه الثاني { الله الصمد }
ولم توجد الدراهم الإسلامية إلا في زمن عبدالملك بن مروان وكانت الدراهم
قبل ذلك رومية وكسروية وفي زمن الخليفة المستنصر بالله وهو السابع
والثلاثون من خلفاء بني العباس ضرب دراهم وسماها النقرة وكانت كل عشرة
بدينار وذلك في سنة أربع وعشرين وستمائة
ولما دخل سليمان بن
عبدالملك المدينة سأل هل بالمدينة أحد أدرك أحدا من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالوا أبو حازم فأرسل إليه فلما دخل عليه سأله فقال يا
أبا حازم مالنا نكره الموت فقال لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم
أن تنقلوا من عمران إلى خراب فقال له وكيف القدوم على الله قال أما المحسن
فكغائب يقدم على أهله وأما المسئ فكآبق يقدم على مولاه فبكى سليمان وقال
يا ليت شعري ما لنا عندالله قال اعرض عملك على كتاب الله تعالى فقال في أي
مكان أجده فقال في قوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم
} قال سليمان فأين رحمة الله قال قريب من المحسنين قال فأي عبادالله أكرم
قال أولو المروءة
وجاء أعرابي إلى سليمان بن عبدالملك هذا فقال يا
أمير المؤمنين إني أكلمك بكلام فاحتمله فإن وراءه إن قبلته ما تحب فقال
سليمان هاته يا أعرابي فقال الأعرابي إني طلق لساني بما خرست عنه الألسن
تأدية لحق الله إنه قد أكتنفك رجال قد أساءوا الإختيار لأنفسهم وابتاعوا
دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم وخافوك في الله ولم يخافوا الله فيك فهم حرب
للآخرة وسلم للدنيا فلا تأمنهم على ما استخلفك الله عليه فإنهم لن يبالوا
بالأمانة وأنت مسئول عما اجترموا فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم
الناس عندالله عيبا من باع آخرته بدنيا غيره فقال له سليمان أنت ما أنت
بأعرابي فقد سللت لسانك وهو سيفك قال أجل يا أمير المؤمنين لك لا عليك
ولما حج بالناس قال لولد عمه وولى عهده عمر بن عبدالعزيز ألا ترى هذا
الخلق الذي لا يحصى عددهم إلا الله تعالى ولا يسع رزقهم غيره فقال يا أمير
المؤمنين
هؤلاء رعيتك اليوم وهم غدا
خصماؤك عندالله فبكى سليمان بكاء شديدا ثم قال بالله أستعين وقال يوما
لعمر بن عبدالعزيز رضي الله تعالى عنه حين أعجبه ما صار إليه من الملك يا
عمر كيف ترى ما نحن فيه فقال يا أمير المؤمنين هذا سرور لولا أنه غرور
ونعيم لولا أنه عديم وملل لولا أنه هلك وفرح لو لم يعقبة ترح ولذات لو لم
تقترن بآفات وكرامة لو صحبتها سلامة فبكى سليمان رحمه الله حتى اخضلت
دموعه لحيته
وولاية عمر بن عبدالعزيز بشر بها جده لأمه عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه فعنه رضي الله تعالى عنه أنه قال إن من ولدي
رجلا بوجهه شين و رواية علامة يملأ الأرض عدلا فكان ولده عبدالله يقول
كثيرا ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر بن الخطاب في وجهه علامة يملأ
الأرض عدلا وفي رواية عنه كان يقول يا عجبا يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضى
حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر قال بعضهم فإذا هو عمر بن
عبدالعزيز لأن أمه ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
ومما يؤثر عن سليمان رحمه الله تعالى أنه لما ولى الخلافة وقام خطيبا قال
الحمد لله الذي ما شاء صنع وما شاء رفع ومن شاء وضع ومن شاء أعطى ومن شاء
منع إن الدنيا دار غرور تضحك باكيا وتبكي ضاحكا وتخيف آمنا وتؤمن خائفا
وقال في خطبة من خطبه أيضا أيها الناس أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد
أسمعهم الداعي وأسترد العواري واضمحل ما كان كائن لم يكن أذهب عنهم ثابت
الحياة وفارقوا القصور واستبدلوا بلين الوطئ خشن التراب فهم رهناء فيه إلى
يوم المآب فرحم الله عبدا مهد لنفسه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا
ولما ولى الخلافة أبو جعفر المنصور أراد أن يبني الكعبة على ما بناها ابن
الزبير وشاور الناس في ذلك فقال له الإمام مالك بن أنس أنشدك الله أي بفتح
الهمزة وضم الشين المعجمة أي أسألك بالله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا
البيت ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره فتذهب هيبته من
قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه قال وذكر الطبري في مناسكه أن الذي أراد ذلك
ونهاه مالك هو الرشيد
أقول وكونه الرشيد هو الذي ذكره المقريزي واقتصر عليه ولأن المنصور مات
محرما ببئر ميمونة لستة أيام خلون من ذي الحجة فلم يدخل مكة
وقد يقال يجوز أن يكون دخل المدينة قبل سيره إلى مكة واستشار الناس في
المدينة فقال له الإمام مالك ما تقدم وأن الرشيد أيضا أراد ذلك واستشار
الإمام مالكا فأشار عليه بما ذكر ثم رأيت في تاريخ ابن كثير في زمن المهدى
بن المنصور استشار الإمام مالكا في ردها أي الكعبة على الصفة التي بناها
ابن الزبير فقال له إني أخشى أن تتخذها الملوك لعبة
ورأيت في كلام
بعضهم أن المنصور حج وأنه لما قضى الحج والزيارة توجه إلى زيارة بيت
المقدس ولعل هذا كان في حجة غير هذه التي مات فيها
ثم رأيت في تاريخ
ابن كثير أن المنصور حج وهو خليفة أربع حجات غير الحجة التي مات فيها وكذا
في القرى لقاصد أم القرى للطبري وذكر أنه مات في الحجة الخامسة قبل يوم
التروية بيومين وأنه أحرم في بعض حججه من بغداد
وقد ذكر الشيخ
الصفوي أن المنصور بلغه أن سفيان الثوري ينقم عليه في عدم إقامة الحق فلما
توجه المنصور إلى الحج وبلغه أن سفيان بمكة أرسل جماعة أمامه وقال لهم
حيثما وجدتم سفيان خذوه واصلبوه فنصبوا الخشب ليصلبوا سفيان عليه وكان
سفيان بالمسجد الحرام رأسه في حجر الفضيل بن عياض ورجلاه في حجر سفيان ابن
عيينة فقيل له خوفا عليه بالله لا تشمت بنا الأعداء قم فاختف فقام ومشى
حتى وقف بالملتزم وقال ورب هذه الكعبة لا يدخلها يعنى مكة المنصور وكان
وصل إلى الحجون فزلقت به راحلته فوقع عن ظهرها ومات من فوره فخرج سفيان
وصلى عليه هذا كلامه
وقد يقال لا مخالفة بين هذا وبين ما تقدم أنه مات ببئر ميمونة لأنه يجوز
أن يكون المراد بوصوله إلى الحجون وصول خيله وركبه فليتأمل
ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن المنصور لما خرج للحج وجاوز الكوفة بمراحل
أخذه وضعه الذي مات فيه وأفرط به الإسهال ودخل مكة فنزل بها وتوفى ولعل هذا
لا يخالف ما سبق لأنه يجوز أنه أطلق مكة على المحل القريب منها
وأنه من إنطلاق بطنه زلقت به فرسه
قيل وآخر ما تكلم به المنصور اللهم بارك لي في لقائك ومما يؤثر عنه أولى
الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه
والله أعلم
وتقدم أن قصيا لما أمر قريشا أن تبنى حول الكعبة بيوتها
فبنيت بيوتها من جهاتها الأربع وتركوا قد المطاف واستمر الأمر على ذلك
زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر رضي الله تعالى عنه فلما ولى عمر
رضي الله تعالى عنه رأى أن يوسع حول الكعبة فاشترى دورا وهدمها ووسع حول
الكعبة وبنى جدارا قصيرا على ذلك وجعل فيه أبوابا ثم وسعه عثمان ثم
عبدالله بن الزبير
ثم إن عبدالملك بن مروان رفع الجدارن وسقفه
بالساج ثم إن الوليد بن عبدالملك نقص ذلك ونقل إليه الأساطين الرخام وسقفه
بالساج المزخرف وأزر المسجد بالرخام ثم زاد فيه المنصور ورخم الحجر ثم زاد
فيه المهدي أولا وثانيا حتى صارت الكعبة في وسط المسجد
وفي أيام
المعتضد أدخلت داره الندوة في المسجد وتسمى مكة فاران وتسمى قرية النمل
لكثرة نملها أو لأن الله سلط فيها النمل على العماليق لما أظهروا فيها
الظلم حتى أخرجهم من الحرم كما تقدم ولها أسماء كثيرة قد أفردها صاحب
القاموس بمؤلف
أقول وسيأتي عن الإمام النووي أنه قال ليس في البلاد أكثر أسماء من مكة
والمدينة والله أعلم
قال وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه خلقت الكعبة أي موضعها قبل الأرض
بألفي سنة كانت حشفة على الماء عليها ملكان يسبحان فلما أراد الله تعالى
أن يخلق الأرض دحاها منها فجعلها في وسط الأرض انتهى
وسئل الجلال
السيوطي رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى { إن ربكم الله الذي خلق
السماوات والأرض في ستة أيام } هل كانت أيام ثم موجودة قبل خلق السموات
والأرض
فأجاب بأن خلق السموات والأرض وخلق الأيام كان دفعة واحدة من غير تقديم
لأحدهما على الآخر واستند في ذلك لمأثور التفسير
وفي الحديث إن الله حرم مكة قبل أن يخلق السموات والأرض الحديث وحينئذ
فقوله صلى الله عليه وسلم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حرم مكة معناه
أظهر حرمتها & باب ما جاء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
أحبار اليهود وعن الرهبان من النصارى وعن الكهان من العرب على ألسنة الجان
وعلى غير ألسنتم وما سمع من الهواتف ومن بعض الوحوش ومن بعض الأشجار وطرد
الشياطين من استراق السمع عند مبعثه بكثرة تساقط النجوم وما وجد من ذكره
صلى الله عليه وسلم وذكر صفته في الكتب القديمة وما وجد فيه إسمه مكتوبا
من النبات والأحجار وغيرهما
قال ابن إسحاق وكانت الأحبار من يهود
والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب زمانه أما الأحبار من يهود ورهبان من
النصارى فلما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وأما الكهان من العرب
فجاءهم به الشياطين فيما تسترق به من السمع إذ كانت لا تحجب عن ذلك كما
حجبت عند الولادة والمبعث وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض
أموره ولا تلقى العرب لذلك بالا حتى بعثه الله تعالى ووقعت تلك الأمور
التي كانوا يذكرونها فعرفوها وهذا فيه تصريح بأن الملائكة كانت تذكره صلى
الله عليه وسلم في السماء قبل وجوده
فأما أخبار الأحبار من اليهود
فمنها ما تقدم ذكره ومنها ماجاء عن سلمة بن سلامة وكان من أصحاب بدر قال
كان لنا جارا من يهود بني عبدالأشهل فذكر أي عند
قوم
أصحاب الأوثان القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار فقالوا له
ويحك يا فلان أو ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها
جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم قال نعم والذي يحلف به وليود أي الشخص أن له
بحظه من تلك النار أعظم تنور يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه بأن
ينجو من تلك النار غدا فقالوا له ويحك وما آية ذلك قال نبي يبعث من نحو
هذه البلاد وأشار بيده إلى مكة واليمن قالوا ومن يراه فنظر إلى وأنا من
أحدثهم سنا فقال إن يستنفد أي يستكمل هذا الغلام عمره يدركه قال سلمة
والله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو أي
ذلك اليهودي بين أظهرنا فآمنا به وكفر بغيا وحسدا فقلنا له ويحك يا فلان
ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت قال بلى ولكن ليس به
ومن ذلك ما جاء
عن عمرو بن عنبسة السلمي رضي الله تعالى عنه قال رغبت عن آلهة قومى في
الجاهلية أي ترك عبادتها قال فلقيت رجلا من أهل الكتاب من أهل تيماء أي
وهي قرية بين المدينة والشام فقلت إني امرؤ ممن يعبد الحجارة فينزل الحي
ليس معهم إله فيخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار فيعين ثلاثة لقذره أي
يستنجى بها ويجعل أحسنها إلها يعبده ثم لعله يجد ما هو أحسن منه شكلا قبل
أن يرتحل فيتركه ويأخذ غيره وإذا نزل منزلا سواه ورأى ما هو أحسن منه تركه
وأخذ ذلك الأحسن فرأيت أنه إله باطل لا ينفع ولا يضر فدلني على خير من هذا
قال يخرج من مكة رجل يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها فإذا رأيت ذلك
فاتبعه فإنه يأتي بأفضل الدين فلم يكن لي همة منذ قال لي ذلك إلا مكة آتى
فأسأل هل حدث حدث فيقال لا ثم قدمت مرة فسألت فقيل لي حدث رجل يرغب عن
آلهة قومه ويدعو إلى غيرها فشددت راحلتي ثم قدمت منزلي الذي كنت أنزله
بمكة فسألت عنه فوجدته مستخفيا ووجدت قريشا عليه أشداء فتلطفت له حتى دخلت
عليه فسألته أي شيء أنت قال نبي قلت من نباك قال الله قلت وبم أرسلك قال
بعبادة الله وحده لا شريك له وبحقن الدماء وبكسر الأوثان وصلة الرحم وأمان
السبيل فقلت نعم ما أرسلت به قد آمنت بك وصدقتك أتأمرني أن أمكث معك أو
أنصرف فقال ألا ترى كراهة الناس ما جئت به فلا تستطيع أن تمكث كن في أهلك
فإذا
سمعت بي قد خرجت مخرجا فاتبعني
فكنت في أهلي حتى خرج صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فسرت إليه فقدمت
المدينة فقلت يا نبي الله أتعرفني قال نعم أنت السلمى الذي أتيتني بمكة
ومن ذلك ما حدث به عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا إنما
دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى لنا وهداه ما كنا نسمع من أحبار
يهود كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا
تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا قد تقارب
زمان نبي يبعث الآن يقتلكم قتل عاد وإرم أي يستأصلكم بالقتل فكان كثيرا ما
نسمع ذلك منهم فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أجبناه حين
دعانا إلى الله عز وجل وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا
به وكفروا ففي ذلك نزلت هذه الآيات في البقرة { ولما جاءهم كتاب من عند
الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما
عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين }
ومن ذلك ما حدث به شيخ من
بني قريظة قال إن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان أي
الجبان قدم إلينا قبل الإسلام بسنين فحل بين أظهرنا والله ما رأينا رجلا
قط لا يصلى الخمس أفضل منه أي لا أظن أحدا من غير المسلمين لأن المسلمين
يصلون الخمس فلا أصلية لا زائدة فأقام عندنا فكنا إذا قحط المطر أي احتبس
قلنا له اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا فيقول لا والله حتى تقدموا بين
يدي نجواكم صدقة فنقول له كم فيقول صاعا من تمر ومدين من شعير فنخرجها ثم
يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي لنا فوالله ما يبرح من محله حتى يمر
السحاب ونسقى قد فعل ذلك غير مرة أي لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا بل أكثر
من ذلك ثم حضرته الوفاة عندنا فلما عرف أنه ميت قال يا معشر يهود ما ترينه
أخرجني من أهل الخمر بالتحريك وبإسكان الميم الشجر الملتف والخمير إلى أرض
البؤس والجوع قلنا أنت أعلم قال فإنما قدمت هذه الأرض أتوكف أي أتوقع خروج
نبي قد أظل زمانه أي أقبل وقرب كأنه لقربه أظلهم أي ألقى عليهم ظله وهذه
البلد مهاجره وكنت أرجو أن يبعث فاتبعه فقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا
معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وبسبى الذرارى والنساء ممن خالفه فلا
يمنعكم ذلك منه فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم
وحاصر
بين قريظة قال لهم نفر من هدل بفتح الهاء وفتح الدال المهملة وقيل بسكونها
إخوة بني قريظة وهم ثعلبة بن سعية وأسد بن سعية ويقال أسيد بالتصغير وأسد
بن عبيد وكانوا شبانا أحداثا يا بني قريظة والله إنه لهو بصفته فنزلوا
وأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم كما سيأتي
قال ومن ذلك
خبرالعباس بن عبدالمطلب رضي الله تعالى عنه قال خرجت في تجارة إلى اليمن
في ركب فيه أبو سفيان بن حرب فورد كتاب حنظلة بن أبي سفيان إن محمدا قائم
في أبطح مكة يقول أنا رسول الله أدعوكم إلى الله ففشا ذلك في مجالس أهل
اليمن فجاءنا حبر من اليهود فقال بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما
قال قال العباس فقلت نعم قال نشدتك الله هل كان لإبن أخيك صبوة قلت لا
والله ولا كذب ولا خان وما كان اسمه عند قريش إلا الأمين قال هل كتب بيده
فاردت أن أقول نعم فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويرد علي فقلت لا يكتب
فوثب الحبر وترك رداءه وقال ذبحت يهود وقتلت يهود قال العباس فلما رجعنا
إلى منزلنا قال أبو سفيان يا أبا الفضل إن يهود تفزع من ابن أخيك فقلت قد
رأيت لعلك أن تؤمن به قال لا أومن به حتى أرى الخيل في كداء أي بالمد قلت
ما تقول قال كلمة جاءت على فمي إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع
على كداء قال العباس فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ونظر أبو
سفيان إلى الخيل قد طلعت من كداء فقلت يا أبا سفيان تذكر تلك الكلمة قال
إي والله إني لأذكرها انتهى
أي ومن ذلك ما جاء عن أمية بن أبي الصلت
الثقفي قال لأبي سفيان إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا فكنت أظن
أني هو وكنت أتحدث بذلك ثم ظهر لي أنه من بني عبد مناف فنظرت فلم أجد فيهم
من هو متصف بأخلاقه إلا عتبة بن ربيعة إلا أنه قد جاوز الأربعين ولم يوح
إليه فعرفت أنه غيره قال أبو سفيان فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم قلت
لأمية فقال أمية أما إنه حق فاتبعه فقلت له فأنت ما يمنعك قال الحياء من
نساء ثقيف إني كنت أخبرهن أني هو ثم أصير تبعا لفتى من بني عبد مناف
وسيأتي ذلك بأبسط مما هنا
وأما أخبار الرهبان من النصارى فمنها ما
تقدم ذكره قال ومنها خبر طلحة بن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال حضرت سوق
بصرى فإذا راهب في صومعته
يقول سلوا
أهل هذا الموسم هل فيكم أحد من أهل الحرم فقلت نعم أنا قال هل ظهر أحمد
قلت ومن أحمد قال ابن عبدالله بن عبدالمطلب هذا شهره الذي يخرج فيه أي
الذي يبعث فيه وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخلة وحرة
وسباخ فإياك أن تسبق إليه قال طلحة فوقع في قلبي ما قال الراهب فلما قدمت
مكة حدثت أبا بكر بذلك فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخبره فسر بذلك وأسلم طلحة فأخذ نوفل بن العدوية أبا بكر وطلحة رضي
الله تعالى عنهما فشدهما في حبل واحد فلذلك سميا القرينين
أقول
يحتمل أن هذا الراهب هو بحيرا ويحتمل أن يكون نسطورا لأن كلا منهما كان
ببصرى كما تقدم في سفره ويحتمل أن يكون غيرهما وهو أولى لما تقدم أن كلا
من بحيرا ونسطورا لم يدرك البعثة والله أعلم
أي ومنها ما حدث به
سعيد بن العاص بن سعيد قال لما قتل أبي العاص يوم بدر كنت في حجر عمى أبان
بن سعيد وكان يكثر السب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج تاجرا إلى
الشام فمكث سنة ثم قدم فأول شيء سأل عنه أن قال ما فعل محمد قال له عمي
عبدالله بن سعيد هو والله أعز ما كان وأعلاه فسكت ولم يسبه كما كان يسبه
ثم صنع طعاما وأرسل إلى سراة بني أمية أي أشرافهم فقال لهم إني كنت بقرية
فرأيت بها راهبا يقال له بكاء لم ينزل إلى الأرض منذ أربعين سنة أي من
صومعته فنزل يوما فاجتمعوا ينظرون إليه فجئت فقلت إن لي حاجة فقال ممن
الرجل فقلت إني من قريش وإن رجلا هناك خرج يزعم أن الله أرسله قال ما إسمه
فقلت محمد قال منذ كم خرج فقلت عشرين سنة قال ألا أصفه لك قلت بلى فوصفه
فما أخطأ في صفته شيئا ثم قال لي هو والله نبي هذه الأمة والله ليظهرن ثم
دخل صومعته وقال لي اقرأ عليه السلام وكان ذلك في زمن الحديبية أي
والحديبية سيأتي أنها كانت سنة ست فالعشرين تقريب
أي ومنها ما حدث
به حكيم بن حزام بالزاي رضي الله تعالى عنه قال دخلنا الشام لتجارة قبل أن
أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأرسل إلينا ملك الروم فجئناه
فقال من أي العرب أنتم من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال حكيم فقلت
يجمعني وإياه الأب الخامس فقال هل أنتم صادقي فيما أسألكم عنه
فقلنا
نعم فقال أنتم ممن اتبعه أم ممن رد عليه فقلنا ممن رد عليه وعاداه فسألنا
عن أشياء مما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه ثم نهض
واستنهضنا معه فأتى محلا في قصره وأمر بفتحه وجاء إلى ستر فأمر بكشفه فإذا
صورة رجل فقال أتعرفون من هذه صورته قلنا لا قال هذه صورة آدم ثم تتبع
أبوابها ففتحها ويكشف عن صور الأنبياء ويقول أما هذا صاحبكم فنقول لا
فيقول لنا هذه صورة فلان حتى فتح بابا وكشف عن صورة فقال أتعرفون هذا قلنا
نعم هذا صورة محمد بن عبدالله صاحبنا قال أتدرون متى صورت هذه الصور قلنا
لا قال منذ أكثر من ألف سنة وإن صاحبكم لنبي مرسل فاتبعوه ولوددت أني عبده
فأشرب ما يغسل من قدميه
ووقع نظير ذلك لجبير بن مطعم رضي الله تعالى
عنه وأنه رأى صورة أبي بكر آخذة بعقب تلك الصورة وإذا صورة عمر آخذة بعقب
صورة أبي بكر فقال من ذا الذي آخذ بعقبه قلنا نعم هو ابن أبي قحافة قال
فهل تعرف الذي آخذ بعقبه قلت نعم هو عمر بن الخطاب قال أشهد أن هذا رسول
الله وأن هذا هو الخليفة بعده وأن هذا هو الخليفة من بعد هذا
ومنها
ما حدث به سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال كنت رجلا فارسيا من أهل
أصبهان من قرية يقال لها جي بفتح الجيم وتشديد الياء أي وفي لفظ من قرية
من قرى الأهواز يقال لها رامهرمز وفي لفظ ولدت برامهرمز وبها نشأت وأما
ابي فمن أصبهان وكان أبي دهقان قريته أي كبير أهل قريته أي وفي لفظ كنت من
أبناء أساورة فارس وكنت أحب خلق الله تعالى إلى أبي لم يزل حبه إياي حتى
حبسني في بيت كما تحبس الجارية واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار
بفتح القاف وكسر الطاء المهملة ويروى بفتحها بمعنى قاطن أي خادمها الذي
يوقدها لا يتركها تخبا أي تطفأ ساعة وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان
له يوما فقال لي يا بني إني قد شغلت في بنيان هذا اليوم فاذهب إليها
وأمرني فيها ببعض ما يريد ثم قال لي ولا تحتبس عني إن احتبست عني كنت أهم
إلي من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري فخرجت أريد ضيعته التي بعثني
إليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون وكنت
لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته فلما
سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ماذا يصنعون فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت والله هذا خير من الذي نحن عليه فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها ثم قلت لهم أين أهل هذا الدين قالوا بالشام فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله فلما جئته قال أي بني أين كنت ألم أكن عهدت إليك ما عهدت قلت يا أبت مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس قال أي بني ليس في ذلك الدين خير دينك ودين آبائك خير منه فقلت له كلا والله إنه لخير من ديننا قال فخافني أي خاف مني أن أهرب فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته وبعثت إلى النصارى فقلت لهم إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبرونى فقلت لهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة فأخبروني بهم فأخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي ثم ق قدمت معهم إلى الشام فلما قدمتها قلت من أجل هذا الدين علما قالوا الأسقف في الكنيسة والأسقف بتخفيف الفاء وتشديدها هو عالم النصارى ورئيسهم في الدين فجئته فقلت له إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك فأخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك قال ادخل فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه أشياء منها اكتنزها لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ثم مات فاجتمعت النصارى ليدفنوه فقلت لهم إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا فقالوا لي وما أعلمك بذلك فقلت أنا أدلكم على كنزه فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا وفي رواية وجدوا ثلاثة قماقم فيها نحو نصف أردب فضة فلما رأوها قالوا والله لا ندفنه أبدا فصلبوه ورموه بالحجارة أي ولم يصلوا عليه صلاتهم مع أن هذا الراهب كان يصوم الدهر وكان تقيا عن الشهوات ومن ثم قال في الفتوحات المكية أجمع أهل كل ملة على أن الزهد في الدنيا مطلوب وقالوا إن الفراغ من الدنيا أحب لكل عاقل خوفا على نفسه من الفتنة التي حذرنا الله تعالى منها بقوله { أنما أموالكم وأولادكم فتنة } هذا كلامه
قال الشيخ عبدالوهاب الشعراني رضي الله تعالى عنه ومن فوائد الرهبان أنهم
لا يدخرون قوت الغد ولا يكنزون فضة ولا ذهبا
قال ورأيت شخصا قال لراهب انظر لي هذا الدينار هو من ضرب أي الملوك فلم
يرض وقال النظر إلى الدنيا منهى عنه عندنا
قال ورأيت الرهبان مرة وهم يسحبون شخصا ويخرجونه من الكنيسة ويقولون له
أتلفت علينا الرهبان فسألت عن ذلك فقالوا رأوا على عاتقه نصفا مربوطا فقلت
لهم ربط الدرهم مذموم فقالوا نعم عندنا وعند نبيكم صلى الله عليه وسلم هذا
كلامه
وعند ذلك جاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه فما رأيت رجلا لا يصلى
الخمس أرى أنه أفضل منه أي لا أظن أحدا غير المسلمين أفضل منه ولا أزهد في
الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ونهارا منه فأحببته حبا شديدا لم
أحبه شيئا قبله فأقمت معه زمانا حتى حضرته الوفاة فقله له يا فلان إني كنت
معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا من قبلك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى
من توصني قال أي بني والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه لقد هلك الناس
وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما
كنت عليه فلما مات وغيب أي دفن لحقت بصاحب الموصل فأخبرته خبرى وما أمرني
به صاحبي فقال أقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبه فأقمت مع خير رجل
فلما احتضر قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد
حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصى بي وبم تأمرني قال يا بني والله ما
أعلم رجلا على مثل ما كنت عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به فلما
مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي فقال أقم
عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل فوالله ما لبث أن
نزل به الموت فلما احتضر أي حضرته الملائكة لقبض روحه قلت له يا فلان إن
فلانا أوصى بي إلى فلان ثم إن فلانا أوصى بي إليك فإلى من توصى بي وإلى من
تأمرني قال يا بني والله ما أعلم بقى أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا
رجلا بعمورية من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه فإن أحببت فأته فلما
مات وغيب أي دفن لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري فقال أقم عندي
فأقمت
عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم فاكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ثم
نزل به أمر الله تعالى فلما احتضر قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى
بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصى
بي وبم تأمرني قال أي بني والله ما أعلم أصبح ما كنا عليه أحد من الناس
آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظل أي أقبل قرب زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج
بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات يأكل الهدية
ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد
فافعل ثم مات وغيب
أقول وهذا السياق يدل على أن الذين اجتمع بهم من
النصارى على دين عيسى أربعة وفي كلام السهيلي أنهم ثلاثون وفي النور أنهم
بضعة عشر وأن هذا أظهر والله أعلم
قال سلمان ثم مر بي نفر من كلب
تجار فقلت لهم احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنمي هذه فقالوا
نعم فأعطيتهموها أي أعطيتهم إياها وحملوني معهم حتى إذا بلغوا بي وادي
القرى وهو محل من أعمال المدينة المنورة ظلموني فباعوني من رجل يهودي
فمكثت عنده فرأيت النخل فرجوت أن تكون البلدة التي وصف لي صاحبي ولم يحق
عندي أي لم أتحقق ذلك فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة
من المدينة فابتاعني منه فحملني إلى المدينة فوالله ما هو إلا أن رأيتها
فعرفتها أي تحققتها بصفة صاحبي فأقمت بها
وبعث رسول الله صلى اله
عليه وسلم وأقام بمكة ما أقام لا اسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق
ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق أي نخل لسيدي أعمل له فيه بعض
العمل وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال يا فلان قاتل
الله بني قيلة أي وهما الأوس والخزرج لأن قيلة أمهما فقد جاء إن الله
أمدنى بأشد العرب ألسنا وأدرعا بابنى قيلة الأوس والخزرج والله إنهم الآن
لمجتمعون بقبا بالمد والقصر وربما قيل قباة بتاء التأنيث والقصر على رجل
قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي فلما سمعتها أخذتني العرواء وهي الحمى
النافض أي الرعدة والبرحاء الحمى الصالب حتى ظننت أني ساقط على سيدي فنزلت
عن
النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك ما
تقول فغضب سيدي ولكمني لكمة شديدة ثم قال مالك ولهذا أقبل على عملك فقلت
لا شيء إنما أردت أن أثبته فيما قال وقد كان عندي شيء جمعته أي وهو محتمل
لأن يكون تمرا ولأن يكون رطبا فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له إني قد بلغني أنك رجل
صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق
به من غيركم فقر بته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه كلوا
وأمسك يده فلم يأكل فقلت في نفسي هذه واحدة أي ومن ثم لما أخذ الحسن بن
علي رضي الله تعالى عنهما وهو طفل تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فمه قال
له النبي صلى الله عليه وسلم كخ كخ أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة رواه مسلم
وروى أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال إني لأنقلب إلى أهلي فأجد
التمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها
ووجد صلى الله عليه وسلم تمرة فقال لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها وقال
إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس وفي رواية إن هذه
الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد والراجح من
مذهبنا حرمة الصدقتين عليه صلى الله عليه وسلم وحرمة صدقة الفرض دون النفل
على آله وقال الثوري لا تحل الصدقة لآل محمد لا فرضها ولا نفلها ولا
لمواليهم لأن مولى القوم منهم بذلك جاء الحديث
قال سلمان ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا هو أيضا يحتمل أن يكون تمرا ولأن يكون
رطبا
وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته فقلت إني رأيتك
لا تأكل الصدقة وهذا هدية أكرمتك بها فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأمر أصحابه فأكلوا معه فقلت في نفسي هاتان ثنتان أي ومن ثم روى مسلم كان
إذا أتى بطعام سأل عنه فإن قيل هدية أكل منها وإن قيل صدقة لم يأكل منها
قال سلمان ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد وقد تبع
جنازة رجل من أصحابه أي وهو كلثوم بن الهدم الذي نزل عليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم بقباء لما قدم المدينة
وقيل هو أول من دفن به وقيل أول من دفن به أسعد بن زرارة وقيل أول من دفن
به عثمان بن مظعون
وجمع بأن أول من دفن به من المهاجرين عثمان أي وقد مات في ذي الحجة من
السنة الثانية من الهجرة وأول من دفن به من الأنصار كلثوم أو أسعد أي وفي
الوفيات لابن زبر مات كلثوم ثم من بعده أبو أمامة أسعد بن زرارة في شوال
من السنة الأولى من الهجرة ودفن بالبقيع هذا كلامه ولم يذكر الوقت الذي
مات فيه كلثوم
وفي النور عن الطبري أنه مات بعد قدومه صلى الله عليه
وسلم المدينة بأيام قليلة وأول من مات من الأنصار البراء بن معرور مات قبل
قدومه المدينة مهاجرا بشهر ولما حضره الموت أوصى بأن يدفن ويستقبل به
الكعبة ففعلوا به ذلك ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى
على قبره هو وأصحابه وكبر أربعا ولم أقف على محل دفنه
وقولهم إن أول
من دفن بالبقيع كلثوم يدل على أن البراء لم يدفن بالبقيع إلا أن يراد
الأولية بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة والظاهر أن هذه أول صلاة
صليت على القبر
قال سلمان وكان عليه الصلاة والسلام عليه شملتان وهو
جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم ابتدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي
وصف لي فألقى الرداء عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله
وأبكي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول فتحولت بين يديه فقصصت
عليه حديثي قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأعجب رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه أي وفي شواهد النبوة لما جاء سلمان إلى
النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فطلب
ترجمانا فأتى بتاجر من يهود كان يعرف الفارسية والعربية فمدح سلمان النبي
صلى الله عليه وسلم وذم اليهود بالفارسية فغضب اليهودي وحرف الترجمة فقال
للنبي صلى الله عليه وسلم إن سلمان يشتمك فقال النبي صلى الله عليه وسلم
هذا الفارسي جاء ليؤدينا فنزل جبريل وترجم عن كلام سلمان فقال النبي صلى
الله عليه وسلم ذلك أي الذي ترجمه له جبريل لليهودي فقال اليهودي يا محمد
إن
كنت تعرف الفارسية فما حاجتك إلي فقال صلى الله عليه وسلم ما كنت أعلمها
من قبل والآن عملني جبريل أو كما قال فقال اليهودي يا محمد قد كنت قبل هذا
أتهمك والآن تحقق عندي أنك رسول الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد
أنك رسول الله ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل علم سلمان العربية
فقال قل له ليغمض عينيه ويفتح فاه ففعل سلمان فتفل جبريل في فيه فشرع
سلمان يتكلم بالعربي الفصيح وهذا السياق يدل على أن ذلك كان عند مجيئه في
المرة الثالثة وحينئذ يشكل مجيئه أولا وثانيا وقوله ما تقدم بالعربية إلا
أن يقال ذاك لقلته سهل عليه أن يعبر عنه بالعربية يخلاف حكاية حاله لكثرته
لم يحسن أن يعبر عنه بالعربية
قال وقد اختلفت الروايات عن سلمان في
الشيء الذي جاء به للنبي صلى الله عليه وسلم أولا وثانيا فالرواية الأولى
المتقدمة ظاهرها يقتضى أنه تمر أي وفيه من أين أن ظاهرها ذلك بل هي محتملة
وقد جاء التصريح بكونه تمرا في الأولى والثانية ففي بعض الروايات فسألت
سيدي أن يهب لي يوما ففعل فعملت في ذلك اليوم على صاع أو صاعين من تمر
وجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأيته لا يأكل الصدقة سألت سيدي أن
يهب لي يوما آخر فعملت فيه على ذلك أي على صاع أو صاعين من تمر ثم جئت به
النبي صلى الله عليه وسلم فقبله وأكل منه
أي والذي في كلام السهيلي قال سلمان كنت عبدا لإمرأة فسألت سيدتي أن تهب
لي يوما الحديث
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون عني بسيدته زوجة سيده لأنه يقال لها
سيدة في المتعارف بين الناس أو أن المرأة هي التي اشترته ويؤيده ما يأتي
وزوج تلك المرأة يقال له في المتعارف بين الناس سيد قال وقيل إن الذي جاء
به أولا وثانيا رطب
وفي رواية احتطبت حطبا فبعته واشتريت بذلك طعاما
والطعام خبز ولحم وفي رواية جئت بمائدة عليها بط وفي رواية عليها رطب وجمع
بأنه أولا قدم الخبز واللحم الذي هو البط والتمر ثم قدم الرطب فلم يتحد
المقدم وفي مسند الإمام أحمد أن المرات ثلاث وأن المقدم فيها متحد
أقول تقديم الرطب في المرة الثانية يخالفه ما تقدم أنه في المرة الثانية
كان تمرا والله أعلم
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد
فكان أول مشاهده الخندق كما سيأتي وكان بعد ذلك يقال له سلمان الخير وكان
معدودا من أخصائه صلى الله عليه وسلم قال سلمان ثم قال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم كاتب يا سلمان فكاتبت صاحبي على ثلثمائة نخلة أي ودية على
وزن فعيلة وهي النخلة الصغيرة التي يقال لها الفسيلة أحييها له بالتفقير
بالفاء ثم القاف أي الحفر أي ومن ثم قيل للبئر الفقير أي احفر لها واغرسها
بتلك الحفرة وتصير حية بتلك الحفرة أي وأتعهدها إلى أن تثمر والودية
والفسيلة هي النخلة الصغيرة التي جرت العادة بأن تنقل من المحل الذي تنبت
فيه إلى محل آخر لكن في كلام بعضهم إذا خرجت النخلة من النواة قيل لها
غريسة ثم يقال لها ودية ثم فسيلة ثم إشاءة فإذا فاتت اليد فهي جبارة ويقال
للنخلة الطويلة عوانة بلغة عمان
وفي الحديث إن قامت الساعة وبيد
أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم فليغرسها وعلى أربعين أوقية أي
من ذهب كما سيأتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينوا أخاكم
فأعانوني بالنخل الرجل بستين والرجل بعشرين ودية والرجل بخمسة عشر والرجل
يعين بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلثمائة ودية قال وفي رواية أنه كوتب على
أن يغرس لهم خمسائة فسيلة أي يحفر لها ويغرسها أي ويتعهدها إلى أن تثمر
وعلى أربعين أوقية
قال سلمان فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
اذهب يا سلمان ففقر أي بالفاء وفي رواية فنقر أي بالنون أي احفر لها فإذا
فرغت فائتني أنا أضعها بيدي ففقرت وفي رواية فنقرتها وأعانني أصحابي حتى
إذا فرغت جئته صلى الله عليه وسلم فأخبرته فخرج معي إليها فجعلنا نقرب
إليه الودى فيضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ما مات منها ودية
واحدة فأديت النخل وبقى على المال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل
بيضة الدجاجة أي وفي رواية مثل بيضة الحمامة من ذهب من بعض المعادن ولعل
هذه البيضة كانت مترددة بين بيضة الدجاجة وبين بيضة الحمامة أي أكبر من
بيضة الحمامة وأصغر من بيضة الدجاجة فاختلف فيها التشبيه فقال صلى الله
عليه وسلم
ما فعل الفارسي المكاتب فدعيت له فقال خذ هذه فأدها مما عليك يا
سلمان أي تكون بعضا مما عليك
وحينئذ قد يتوقف في جواب سلمان بقوله قلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما
علي لأن النبي يؤدي بعضه وإن قل ذلك البعض إلا أن يقال العادة قاضية بأن
ذلك البعض لا يقبل إلا إذا كان له وقع بالنسبة لكله
وقد أشار صلى
الله عليه وسلم للرد على سلمان بأن هذا الذي قلت فيه إنه لا يحسن أن يكون
بعضا مما عليك يوفى به الله عنك جميع ما عليك حيث قال خذها فإن الله سيؤدي
بها عنك فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية
فأوفيتهم حقهم أي وبقى عندي مثل ما أعطيتهم قال وهذا أي سؤال سلمان وجوابه
صلى الله عليه وسلم كالصريح في أن الأواقي التي كاتب عليها كانت ذهبا لا
فضة
وقد جاء أي مما يدل على ذلك في بعض الروايات أن سلمان لما قال
للنبي صلى الله عليه وسلم وأين تقع هذه مما علي فقلبها صلى الله عليه وسلم
على لسانه ثم قال خذها فأوفهم منها
وأيضا أي مما يدل على ذلك أيضا
أن المعلوم أن قدر بيضة الدجاجة من الذهب يعدل أكثر من أربعين أوقية من
الفضة أي فلا يحسن قول سلمان وأين تقع هذه مما علي وقد صرح بذلك أي بكونها
ذهبا البلاذري والقاضي عياض في الشفاء فقالا على أربعين أوقية من ذهب وإلى
القصة أشار صاحب الهمزية بقوله ** ووفى قدر بيضة من نضار ** دين سلمان حين
حان الوفاء ** ** كان يدعى قنا فأعتق لما ** أينعت من نخيله الأقناء ** **
أفلا تعذرون سلمان لما ** أن عرته من ذكره العرواء **
أي ووفى قدر
بيضة من بيض الدجاج أو الحمام من ذهب دين سلمان وهو أربعون أوقية من ذهب
حين قرب حلول الدين وتقدم أنه وفي دينه منها وبقى عنده منها قدر ما أعطاهم
وسبب هذا الدين على سلمان أنه كان يدعى قنا أي أرق بالباطل كما تقدم
فكوتب على ذلك وعلى أن يغرس تلك النخيل ويتعهدها إلى أن تثمر وأعتق بأداء
هذا الدين حين أينعت العراجين من نخيله التي غرسها أي غرست له أفلا ترون
لسلمان عذرا
يمنعكم من إيذائه حين أن
غشيته قوة الحمى من أجل سماع ذكره صلى الله عليه وسلم قال سلمان وشهدت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم لم يفتني معه مشهد
وعن
بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى سلمان أبي كان سببا لشرائه
أن مكاتبته من قوم اليهود بكذا وكذا درهما وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من
النخل يعمل فيها سلمان حتى تدرك فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل
كله إلا نخلة غرسها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فاطعم النخل كله إلا
تلك النخلة التي غرسها عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرسها
قالوا عمر فقلعها وغرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فأطعمت من
عامها
وذكر البخاري أن سلمان رضي الله تعالى عنه غرس بيده ودية
واحدة وغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرها فعاشت كلها إلا التي
غرسها سلمان قال ويجوز أن يكون كل من سلمان وعمر غرس هذه النخلة أحدهما
قبل الآخر انتهى
أقول وهذا الحائط الذي غرس فيه سلمان من حوائط بني النضير وكان يقال له
المنبت وقد آل إليه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي
ولا يخفى أن قول صاحب الهمزية كان يدعى قنا أنه لم يرق حقيقة وقد تقدم ذلك
وفيه أنه لو لم يرق حقيقة لما أقره على الرق وأمره صلى الله عليه وسلم
بالمكاتبة وأدى عنه وكونه فعل ذلك تطييبا لخاطر ساداته بعيد فليتأمل
فإن قيل إذا رق حقيقة كيف جاز له صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه أن
يأكلوا مما جاء به صدقة ويأكل هو وهم مما جاء به هدية والرقيق لا يملك وإن
ملكه سيده على الأصح عندنا معاشر الشافعية بل وعند باقي الأئمة
قلنا
يجوز أن يكون الرقيق كان في صدر الإسلام يملك ما ملكه له سيده ثم نسخ ذلك
على أن بعض أصحابنا ذهب إلى صحته وفي كلام السهيلي وذكر أو عبيد أن حديث
سلمان حجة على من قال إن العبد لا يملك هذا كلامه وأنه صلى الله عليه وسلم
لم يعلم رقه حينئذ لأن الأصل في الناس الحرية ولعدم تحقق رق سلمان وعدم
مجئ مكاتبته على قواعد أئمتنا لم يستدلوا على مشروعية الكتابة بقصة سلمان
وفي كلام السهيلي أن في خبر سلمان من الفقه قبول الهدية وترك سؤال المهدي
وكذلك الصدقة وفي الحديث من قدم إليه الطعام فليأكل ولا يسأل
والله أعلم
وعن سلمان رضي الله تعالى عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين
أخبره بالقصة المتقدمة زاد أن صاحب عمورية قال له أئت كذا وكذا من أرض
الشام فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة
مستجيزا يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفى فاسأله عن هذا
الدين فهو يخبرك به
قال سلمان فخرجت حتى جئت حيث وصفه لي فوجدت
الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى
الغيضتين إلى الأخرى فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفى وغلبوني
عليه فلم أخلص حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخلها إلا منكبه فتناولته
فقال من هذا والتفت إلى فقلت يرحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم
فقال إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم قد أظلك نبي يبعث بهذا
الدين من أهل الحرم فإنه يحملك عليه ثم دخل فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لئن كنت صدقتني لقد لقيت عيسى بن مريم والغيضة الشجر الملتف
قال السهيلى هذا الحديث مقطوع وفيه رجل مجهول ويقال إن الرجل هو الحسن بن
عمارة وهو ضعيف بإجماع منهم وإن صح هذا الحديث فلا نكارة في متنه
فقد ذكر الطبري أن المسيح عليه الصلاة والسلام نزل بعد ما رفع وأمه وأمرأة
أخرى أي كانت مجنونة فأبرأها المسيح عند الجذع الذي فيه الصليب يبكيان
فأهبط إليهما فكلمهما وقال لهما علام تبكيان فقالا عليك فقال إني لم أقتل
ولم أصلب ولكن الله رفعني وكرمني وأخبرهما أن الله أوقع شبهه على الذي صلب
وأرسل إلى الحواريين أي قال لأمه ولتك المرأة أبلغا الحواريين أمري أن
يلقوني في موضع كذا ليلا فجاء الحواريون ذلك الموضع فإذا الجبل قد اشتعل
نورا لنزوله فيه ثم أمرهم أن يدعوا الناس إلى دينه وعبادة ربهم ووجههم إلى
الأمم وإذا جاز أن ينزل مرة جاز أن ينزل مرارا لكن لانعلم أنه هو أي حقيقة
حتى ينزل النزول الظاهر فيكسر الصليب ويقتل الخنزير كما جاء في الصحيح هذا
كلامه
ويروى أنه إذا نزل تزوج امرأة من جذام قبيلة باليمن ويولد له ولدان يسمى
أحدهما
محمدا
والآخر موسى يمكث أربعين سنة وقيل خمسا وأربعين وقيل سبع سنين كما في مسلم
وقيل ثمان سنين وقيل تسعا وقيل خمسا أي وجمع بين كون مدة مكثه أربعين سنة
أو خمسا وأربعين سنة وبين كونها سبع سنين أي وما بعد ذلك بأن المراد
بالأول مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده والسبعة أي وما بعدها من
الأقوال يكون بعد نزوله ويدفن إذا مات في روضة النبي صلى الله عليه وسلم
قال وقيل في حجرته صلى الله عليه وسلم أي عند قبره الشريف وقيل في بيت
المقدس أنتهى أي وقيل يدفن معه صلى الله عليه وسلم في قبره ويؤيده ما ورد
ويدفن معي في قبري فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر
أقول وكما يقتل عيسى عليه الصلاة والسلام الخنزير يقتل الدجال فقد جاء
ينزل عيسى حكما مقسطا يحكم بشرعنا يقتل الدجال ونزوله يكون عند صلاة الفجر
فيصلى خلف المهدي بعد أن يقول له المهدي تقدم يا روح الله فيقول له تقدم
فقد أقيمت لك وفي رواية ينزل بعد شروع المهدي في الصلاة فيرجع المهدي
القهقري ليتقدم عيسى فيضع يده بين كتيفيه ويقول له تقدم فإذا فرغ من
الصلاة أخذ حربته وخرج خلف الدجال فيقتله عند باب لد الشرقي وورد أن
المهدي يخرج مع عيسى فيساعده على قتل الدجال وقد جاء أن المهدي من عترة
النبي صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة قيل من ولد الحسين وقيل من ولد
الحسن وقيل من ولد عمه العباس
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن
أمه أم الفضل مرت به صلى الله عليه وسلم فقال إنك حامل بغلام فإذا ولدتيه
فائتيني به قالت فلما ولدته أتيته به فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى
وألبأه أي أسقاه اللبأ من ريقه وسماه عبدالله وقال اذهبي بأبي الخلفاء
فأخبرت العباس فأتاه فذكر له فقال هو ما أخبرتك هذا أبو الخلفاء حتى يكون
منهم السفاح حتى يكون منهم المهدي أي الخليفة وهو أبو الرشيد بدليل قوله
حتى يكون منهم من يصلى بعيسى ابن مريم أي وهو المهدي الذي يأتي آخر الزمان
اسمه محمد بن عبدالله لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد وفي رواية إلا
ليلة واحدة يطول الله ذلك حتى يبعث وظهوره يكون بعد أن يكسف القمر في أول
ليلة من رمضان وتكسف الشمس في النصف منه مثل ذلك لم يوجد منذ خلق الله
السموات والأرض عمره عشرون سنة وقيل أربعون سنة ووجهه كوكب درى على خده
الأيمن خال أسود يخرج
في زمان الدجال
وينزل في زمانه عيسى ابن مريم وأما ما ورد لا مهدي إلا عيسى بن مريم فلا
ينافي ذلك لجواز أن يكون المراد لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى بن مريم
عليه الصلاة والسلام
فقد جاء لن تهلك أمة أنا أولها وعيسى بن مريم
آخرها والمهدي من أهل بيتي في وسطها وعن العباس رضي الله تعالى عنه قال
كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أنظر هل ترى في السماء من شيء قلت
نعم قال ما ترى قلت الثريا قال أما إنه سيملك هذه الأمة بعددها من صلبك أي
وقد اختلف الناس في عددها المرئى فقيل سبعة أنجم وقيل تسعة
وجمعنا
بينهما بأن الأول يكون هو المرئى لغالب الناس ولو غير حديد البصر والثاني
لمن يكون حديد البصر منهم وأما المرئى له صلى الله عليه وسلم فقيل كان يرى
أحد عشر نجما وقيل أثني عشر نجما
وجمعنا بينهما بحمل الأول على ما
إذا لم يمعن النظر والثاني على ما إذا أمعن النظر وحينئذ يقتضى هذا أن
تكون الخلفاء من بني العباس اثني عشر
وعن سعيد بن جبير سمعت ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما يقول يكون منا ثلاثة أهل البيت السفاح والمنصور
والمهدي ورواه الضحاك عن ابن عباس مرفوعا والمهدي في هذه الرواية يحتمل أن
المراد به أبو الرشيد ويحتمل أن يكون المنتظر
وروى أبو نعيم بسند
ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم خرج فتلقاه العباس فقال ألا أسرك يا أبا
الفضل قال بلى يا رسول الله قال إن الله فتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه
وفي رواية ويختمه بولدك
وقد أفردت ترجمة المهدي المنتظر بالتأليف في مجلد حافل سماه مؤلفه الفواصل
عن الفتن القواصم
وقد رويت قصة سلمان رضي الله تعالى عنه على غير هذا الوجه الذي تقدم فعنه
قال كان لي أخ أكبر مني وكان يتقنع بثوبه ويضعد الجبل يفعل ذلك غير ما مرة
متنكرا فقلت له أما إنك تفعل كذا وكذا فلم لا تذهب بي معك قال أنت غلام
وأخاف أن يظهر منك شيء فقلت لا تخف قال إن في هذا الجبل قوما لهم عبادة
وصلاح يذكرون الله ويذكرون الآخرة ويزعمون أنا على غير دين قلت فاذهب بي
معك إليهم قال
حتى أستامرهم فاستأمرهم فقالوا جئ به فذهبت معه فانتهيت إليهم فإذا هم ستة أو سبعة وكأن الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار ويقومون الليل يأكلون الشجر وما وجدوا فصعدنا إليهم فحمدوا الله تعالى وأثنوا عليه وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى عيسى ابن مريم قالوا ولد بغير ذكر وبعثه الله رسولا وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموت وخلق الطير وإبراء الأعمى والأبرص فكفر به قوم وتبعه قوم ثم قالوا يا غلام إن لك ربا وإن لك معادا وإن بين ذلك جنة ونارا لهما تصير وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون وليسوا على دين ثم انصرفنا ثم عدنا إليهم فقالوا مثل ذلك وأحسن فلزمتهم ثم اطلع عليهم الملك فأمرهم بالخروج من بلاده فقلت ما أنا بمفارقكم فخرجت معهم حتى قدمنا الموصل فلما دخلوا حفوا بهم ثم أتاهم رجل من كهف جبل فسلم وجلس فحفوا به فقال لهم أين كنتم فأخبروه فقال ما هذا الغلام معكم فأثنوا علي خيرا وأخبروه بإتباعي إياهم ولم أر مثل إعظامهم له فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر من أرسله الله من رسله وأنبيائه وما لقوا وما صنع بهم حتى ذكر عيسى بن مريم ثم وعظهم وقال اتقوا الله والزموا ما جاء به عيسى ولا تخالفوا يخالف بكم ثم أراد أن يقوم فقلت ما أنا بمفارقك فقال يا غلام إنك لا تستطيع ان تكون معي إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد قلت ما أنا بمفارقك فتبعته حتى دخل الكهف فما رأيته نائما ولا طاعما إلا راكعا وساجدا إلى الأحد الآخر فلما أصبحنا خرجنا واجتمعوا إليه فتكلم نحو المرة الأولى ثم رجع إلى كهفه ورجعت معه فلبثت ما شاء الله أن يخرج في كل يوم أحد ويخرجون إليه ويعظهم ويوصيهم فخرج في أحد فقال مثل ما كان يقول ثم قال يا هؤلاء إني قد كبر سني ورق عظمي وقرب أجلي وإني لا عهد لي بهذا البيت يعني بيت المقدس منذ كذا وكذا سنة فلا بد لي من إتيانه فقلت ما أنا بمفارقك فخرج وخرجت معه حتى أتيت إلى بيت المقدس فدخل وجعل يصلى وكان فيما يقول لي يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج من جبال تهامة علامته أن يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب فأما أنا فشيخ كبير لا أحسبني أدركه فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه فقلت وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه قال وإن أمرك ثم خرج من بيت المقدس وعلى بابه مقعد فقال له ناولني
يدك فناوله يده فقال له
قم باسم الله فقام كانما نشط من عقال فقال لي المقعد يا غلام احمل على
ثيابي حتى أنطلق فحملت عليه ثيابه فذهب الراهب وذهبت في أثره أطلبه كلما
سألت عنه قالوا أمامك حتى لقيني ركب من كلب فسألتهم فلما سمعوا لغتي أناخ
رجل بعيره وحملني عليه فجعلني خلفه حتى أتوا بي بلادهم فباعوني فاشترتني
إمرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها أي بستان وقدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأخبرت به فأخذت شيئا من تمر حائط ثم أتيته فوجدت عنده أناسا
فوضعته بين يديه فقال ماهذا قلت صدقة قال للقوم كلوا ولم يأكل هو ثم لبثت
ما شاء الله ثم أخذت مثل ذلك ثم أتيته فوجدت عنده أناسا فوضعته بين يديه
فقال ما هذا فقلت هدية قال بسم الله وأكل وأكل القوم فقلت في نفسي هذه من
آياته ويحتاج للجمع بين هذه الرواية وما تقدم على تقدير صحتهما
وفي
الدر المنثور أن امرأة من جهينة اشترته وصار يرعى غنما لها بينما هو يوما
يرعى إذ أتاه صاحب له فقال له أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم
أنه نبي فقال له سلمان أقم في الغنم حتى آتيك فهبط سلمان إلى المدينة
فاشترى بدينار ببعضه شاة فشواها وببعضه خبزا ثم أتاه به فقال ما هذا قال
سلمان هذه صدقة قال لا حاجة لي بها فأخرجها فأكلها أصحابه ثم انطلق فاشترى
بدينار آخر خبزا ولحما فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا قال
هذه هدية قال فاقعد فكل فقعد وأكلا جميعا منها فدرت خلفه ففطن بي فأرخى
ثوبه فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر فتبينته ثم درت حتى جلست بين يديه
فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وهذه الرواية تخالف ما تقدم
فليتأمل ولينظر كيف الجمع
ونقل بعضهم الإجماع على أن سلمان عاش
مائتين وخمسين سنية وكان حبرا عالما فاضلا زاهدا متقشفا وكان يأخذ من بيت
المال في كل سنة خمسة آلاف وكان يتصدق بها ولا يأكل إلا من عمل يده وكان
له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها
قال بعضهم دخلت عليه وهو أمير على
المدائن وهو يعمل الخوص فقلت له لم تعمل هذا وأنت أمير وهو يجرى عليك رزق
فقال إني أحب أن آكل من عمل يدي وربما اشتري اللحم وطبخه ودعا المجذومين
فأكلوا معه
وأول مشاهدة الخندق كما تقدم قيل وشهد بدرا وأحدا قبل أن يعتق أي وهو
مكاتب فيكون أول مشاهده الخندق بعد عتقه والله أعلم
وأما أخبار الكهان لا عن ألسنة الجان فكثيرة منها ما تقدم في ليلة ولادته
صلى الله عليه وسلم وفي أيام رضاعه
قال ومنها أيضا خبر عمرو بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه قال والله لقد
علمت أن محمدا رسول الله قبل أن يبعث فقيل له وكيف ذاك قال فزعنا إلى كاهن
لنا في أمر نزل بنا فقال الكاهن أقسم بالسماء ذات الإبراج والأرض ذات
الأدراج والريح ذات العجاج إن هذا لا مراج لعله من أجيج النار وهو
التهابها ولقاح ذي نتاج قالوا وما نتاجه قال نتاجه ظهور نبي صادق بكتاب
ناطق وحسام فالق قالوا وأين يظهر وإلى ماذا يدعو قال يظهر بصلاح ويدعو إلى
فلاح ويعطل القداح وينهى عن الراح والسفاح وعن كل أمر قباح قالوا ممن هو
قال من ولد الشيخ الأكرم حافر زمزم وعزه سرمد وخصمه مكمد انتهى
ومنها خبر قس بن ساعدة الإيادي وهو أول من قال البينة على المدعى واليمين
على من أنكر وأول من اتكأ على عصا أو قوس أو سيف عند الخطبة
وقيل إن أول من تكلم بأن البينة على المدعى واليمين على من أنكر داود عليه
الصلاة والسلام وأن ذلك فصل الخطاب
ورد بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم بغير لغته عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما قال قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيكم
يعرف القس بن ساعدة الإيادي قالوا كلنا يا رسول الله نعرفه قال فما فعل
قالوا هلك قال ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر وهو يقول أيها الناس اجمعوا
واسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت إن في السماء لخبرا
وإن في الأرض لعبرا مهاد موضوع وسقف مرفوع ونجوم تمور وبحار لا تغور أقسم
قس قسما حاتما لأن كان في الأمر رضا ليكونن سخطا إن الله دينا هو أحب إليه
من دينكم الذي أنتم عليه مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا بالمقام
فقاموا أم تركوا هناك فناموا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيكم
يروى شعره فأنشدوه عليه الصلاة والسلام
**
في الذاهبين الأولين ** من القرون لنا بصائر ** ** لما رأيت مواردا **
للموت ليس لها مصادر ** ** ورأيت قومي نحوها ** تسعى الأصاغر والأكابر **
** لا يرجع الماضي إلى ** ولا من الباقين غابر ** ** أيقنت أنى لا محا **
لة حيث صار القوم صائر **
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما قال قدم الجارود ابن عبدالله وكان سيدا في قومه وقيل له
الجارود لأنه أغار على قوم من بني بكر بن وائل فجردهم أي أخذ جميع أموالهم
وإلى ذلك الإشارة بقول الشاعر ** ودسناهم بالخيل من كل جانب ** كما جرد
الجارود بكر بن وائل **
فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا جارود هل في جماعة وفد عبدالقيس من
يعرف لنا قسا قالوا كلنا نعرفه يا رسول الله قال الجارود وأنا بين يدي
القوم كنت أقفو أي أتبع أثره كان من أسباط العرب أي من ولد ولدهم شيخا عمر
سبعمائة سنة أي وقيل ستمائة سنة أدرك من الحواريين سمعان فهو أول من تأله
أي تعبد من العرب أي ترك عبادة الأصنام وأول من قال أما بعد أي وقيل أول
من قال ذلك كعب بن لؤي كما تقدم وقيل سحبان بن وائل وقيل يعقوب وقيل يعرب
بن قحطان وقيل داود وهو فصل الخطاب
ورد بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم
بغير لغته أي وبعد لفظة عربية وفصل الخطاب الذي أوتيه هو فصل الخصومة أي
وهذا يؤيد ما تقدم عنه أنه أول من قال البينة على المدعى واليمين على من
أنكر وتقدم ما فيه وجمع بأن الأولية بالنسبة لداود حقيقية ولغيره إضافية
فلكعب بن لؤي بالنسبة للعرب ولغيره بالنسبة لقبيلته وقس أول من كتب من
فلان إلى فلان قال الجارود كأني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هو له ليبلغن
الكتاب أجله وليوفين كل عامل عمله ثم أنشأ يقول ** هاج للقلب من جواه
ادكار ** وليال خلالهن نهار ** ** وجبال شوامخ راسيات ** وبحار مياههن
غزار ** ** ونجوم تلوح في ظلم الليل ** تراها في كل يوم يوم تدار ** **
والذي قد ذكرت دل على الله ** نفوسا لها هدى واعتبار **
فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلك يا جارود والرسل بكسر الراء
التؤدة فلست أنساه بسوق عكاظ أي وهو سوق بين بطن نخلة والطائف كان سوقا
لثقيف وقيس عيلان كما تقدم على جمل أورق أي يضرب لونه إلى السواء وهو
يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه وفي لفظ تكلم بكلام له حلاوة لا أحفظه الآن
فقال أبو بكر يا رسول الله فإني أحفظه كنت حاضرا ذلك اليوم بسوق عكاظ فقال
في خطبته يا أيها الناس اسمعوا وعوا وإذا وعيتم فانتفعوا من عاش مات ومن
مات فات وكل ما هو آت أت مطر ونبات وأرزاق وأقوات وآباء وأمهات وأحياء
وأموات جمع وأشتات وآيات بعد آيات إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا
ليل داج أي مظلم وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج مالي أرى
الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا أقسم
قس فسما حاتما لا حنثا فيه ولا آثما إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم
الذي أنتم عليه ونبيا قد حان حينه وأظلكم زمانه فطوبى لمن آمن به فهداه
وويل لمن خالفه فعصاه ثم قال تبا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية والقرون
الماضية يامعشر إياد هي قبيلة من اليمن أين الآباء والأجداد وأين المريض
والعواد وأين الفراعنه الشداد أين من بنى وشيد وزخرف ونجد أي من زين وطول
وغره المال والولد أين من بغى وطغى وجمع فأوعى وقال أنا ربكم الأعلى ألم
يكونوا أكثر منكم أموالا وأطول منكم آجالا وأبعد منكم آمالا طحنهم التراب
بكلكله أي بصدره ومزقهم بتطاوله فتلك عظامهم بالية وبيوتهم خاوية عمرتها
الذئاب العاوية كلا بل هو الله الواحد المعبود ليس بوالد ولا مولود ثم
أنشأ يقول الأبيات المتقدمة
أي وفي رواية لما قدم وفد إياد على
النبي صلى الله عليه وسلم قال يا معشر وفد إياد ما فعل قس بن ساعدة
الإيادي قالوا هلك يا رسول الله قال لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل
أحمر يتكلم بكلام معجب موفق لا أجدني أحفظه الآن فقام امرؤ أعرابي من
أقاصي القوم فقال أنا أحفظه يا رسول الله فسر النبي صلى الله عليه وسلم
بذلك كان يقول يا معشر الناس اجتمعوا فكل من مات فات وكل شيء آت آت ليل
داج وسماء ذات أبراج وبحر عجاج نجوم تزهر وجبال مرسية وأنهار مجرية الحديث
وفي رواية أين الصعب ذو القرنين ملك الخافقين وأذل الثقلين وعمر ألفين ثم
كان ذلك كلمحة عين
قال وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قس بن ساعدة كان
يخطب قومه بسوق عكاظ فقال سيأتيكم حق من هذا الوجه وأشار بيده إلى نحو مكة
قالوا له وما هذا الحق قال رجل أبلج أحور من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى
كلمة الإخلاص وعيش ونعيم لا ينفدان فإذا دعاكم فأجيبوه ولو علمت أني أعيش
إلى ة مبعثه لكنت أول من يسعى إليه وقد رويت هذه القصة من طرق متعددة
قال الحافظ ابن كثير هذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة
وقال الحافظ ابن حجر طرق هذا الحديث كلها ضعيفة وهو يرد قول ابن الجوزي في
موضوعاته حديث قس بن ساعدة من جميع جهاته باطل
أقول ذكر في النور أن
في قصة قس ما يرشد إلى التعدد مرتين مرة حفظ صلى الله عليه وسلم كلامه
وكان قس على جمل أحمر والثانية التى لم يحفظ فيها كلامه كان قس على جمل
أورق قال لكن لا أدري أي المرتين كانت أولا هذا كلامه
وقد يقال
النسيان جائز عليه صلى الله عليه وسلم فيجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم
نسى كلام قس بعد الإخبار به أولا ويدل لذلك قوله لا أظن أني أحفظه الآن أو
قبل الإخبار به فيكون خبره صلى الله عليه وسلم متأخرا عن خبر أبي بكر فلا
دلالة في ذلك التعدد ووصف الجمل بأنه أحمر ووصفه بأنه أورق لا يدل على
التعدد لأنه يجوز أن يكون شديد الحمرة تميل إلى السواد وهو الأورق فأخبر
عنه مرة بأنه أحمر ومرة بأنه أورق وهذا السياق يدل على تعدد مجئ وفد
عبدالقيس مرة جاءوا وحدهم ومرة جاءوا مع سيدهم الجارود وقد جاء رحم الله
قسا إنه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم والله أعلم
ومن ذلك خبر
نافع الجرشي نسبة إلى جرش بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة قبيلة من
حمير تسمى به بلدهم أن بطنا من اليمن كان لهم كاهن في الجاهلية فلما ذكر
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر في العرب جاءوا إلى كاهنهم
واجتمعوا
إليه في أسفل جبل فنزل إليهم
حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس فرفع رأسه إلى السماء طويلا
ثم قال أيها الناس إن الله أكرم محمدا وأصطفاه وطهر قلبه وحشاه ومكثه فيكم
أيها الناس قليل
وأما أخبار الكهان على ألسنة الجان فكثيرة أيضا
منها خبر سواد بن قارب رضي الله تعالى عنه وكان يتكهن في الجاهلية وكان
شاعرا ثم أسلم فعن محمد بن كعب القرظي قال بينا عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه ذات يوم جالسا إذ مر به رجل فقيل له يا أمير المؤمنين أتعرف هذا
المار قال ومن هذا قالوا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه أي تابعه من الجن
الذي يتراءى له أتاه بظهور النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد أن قال عمر
رضي الله تعالى عنه على المنبر أي منبر النبي صلى الله عليه وسلم أيها
الناس أفيكم سواد بن قارب فلم يجبه أحد فلما كان السنة المقبلة ولعل ذلك
كان في زمن المجئ للزيارة من الآفاق قال أيها الناس أفيكم سواد بن قارب
قال بعضهم يا أمير المؤمنين ما سواد بن قارب قال إن سواد بن قارب كان بدء
إسلامه شيئا عجيبا قال البراء فبينا نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب فارسل
إليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال له أنت سواد بن قارب قال نعم قال أنت
الذي أتاك رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم قال فأنت على ما
كنت عليه من كهانتك فغضب سواد بن قارب وقال ما استقبلني بهذا أحد منذ
أسلمت يا أمير المؤمنين فقال له سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أي من
عبادة الأصنام أعظم مما كنت عليه من كهانتك أي وفي رواية أن عمر رضي الله
تعالى عنه قال اللهم غفرا قد كنا في الجاهلية على شر من هذا نعبد الأصنام
والأوثان حتى أكرمنا الله برسوله صلى الله عليه وسلم وبالإسلام
أقول
وفيه أن المتبادر أن غضب سواد إنما هو بسبب ما فهمه من نسبته إلى الكهانة
بعد الإسلام لا قبلها بدليل قوله ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت وجواب
سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه يدل على أنه فهم أن غضب سواد بسبب نسبته
للكهانة قبل الإسلام فلذلك قال سبحان الله متعجبا منه
وفي كلام
السهيلي أن عمر رضي الله تعالى عنه مازح سوادا رضي الله تعالى عنه فقال له
ما فعلت كهانتك يا سواد فغضب وقال له سواد رضي الله تعالى عنه قد كنت أنا
وأنت
على شر من هذا من عبادة الأصنام
وأكل الميتات أفتعيرني بأمر قد تبت منه فقال عمر رضي الله تعالى عنه اللهم
غفرا فليتأمل والله أعلم ثم قال لسواد أخبرني ما نبأ رئيك بظهور رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وفي رواية قال يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف
كان قال نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ
أتاني رئيى فضربني برجله وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن
كنت تعقل إنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤى بن غالب يدعو
إلى الله عز وجل وإلى عبادته ثم أنشأ يقول ** عجبت للجن وتطلابها ** وشدها
العيس بأقتابها ** ** تهوى إلى مكة تبغى الهدى ** ما صادق الجن ككذابها **
** فارحل إلى الصفوة من هاشم ** ليس قدماها كأذنابها **
فقلت دعنى
أنام فإني أمسيت ناعسا فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال
قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من
لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته ثم أنشأ يقول ** عجبت للجن
وتخبارها ** وشدها العيس بأكوارها ** ** تهوى إلى مكة تبغى الهدى ** ما
مؤمن الجن ككفارها ** ** فارحل إلى الصفوة من هاشم ** بين روابيها
وأحجارها **
فقلت دعنى أنام فإني أمسيت ناعسا فلما كانت الليلة
الثالثة أتاني فضربني برجله وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل
إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى
عبادته ثم أنشأ يقول ** عجبت للجن وتحساسها ** وشدها العيس بأحلاسها ** **
تهوى إلى مكة تبغي الهدى ** ما خير الجن كأنحاسها ** ** فارحل إلى الصفوة
من هاشم ** وارم بعينيك إلى راسها **
فقمت فقلت قد امتحن الله قلبي
فرحلت ناقتي ثم أتيت المدينة وفي رواية حتى أتيت مكة وهي كما قال البيهقي
أقرب إلى الصحة من الأولى أي لأن الجن إنما جاءت إليه صلى الله عليه وسلم
للإيمان به في مكة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله وفي
لفظ والناس حوله وفي لفظ والناس عليه كعرف الفرس فلما
رآني
قال مرحبا بك يا سواد بن قارب قد علمنا ماجاء بك قلت يا رسول الله قد قلت
شعرا فاسمع مقالتي يا رسول الله فقال هات فأنشأت أي ابتدأت أقول أتاني نجي
بعد هدء ورقدة وفي لفظ ** أتاني رئيى بعد ليل وهجعة ** ولم يك فيما قد
تلوت بكاذب ** ** ثلاث ليال قوله كل ليلة ** أتاك رسول من لؤى بن غالب **
فشمرت من ذيل الإزار وفي لفظ عن ساقي الإزار ** ووسطت بي الذعلب الوجناء
بين الساسب ** ** فأشهد أن الله لا رب غيره ** وأنك مأمون على كل غائب **
** وأنك أدنى المرسلين وسلية ** إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب ** **
فمرنا بما يأتيك ياخير مرسل ** وإن كان فيما جاء شيب الذوائب ** ** وكن لي
شفيعا يوم لا ذو شفاعة ** سواك بمغن عن سواد بن قارب **
وفي رواية ** وكن لي شفيعا يوم لا ذوا قرابة ** بمغن فتيلا عن سواد بن
قارب **
قال ففرح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤى
الفرح في وجوههم أي وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه
وقال أفلحت يا سواد فرأيت عمر رضي الله تعالى عنه التزمه وقال لقد كنت
اشتهي أن أسمع هذا الحديث منك فهل يأتيك رئيك اليوم قال منذ قرأت القرآن
فلا ونعم العوض كتاب الله تعالى من الجن أي وهذا السياق يدل على أن سيدنا
عمر لم يكن حاضرا عند النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره سواد
ولما
مات صلى الله عليه وسلم وخشى سواد على قومه الردة قام فيهم خطيبا فقال يا
معشر دوس من سعادة القوم أن يتعظوا بغيرهم ومن شقائهم أن لا يتعظوا إلا
بأنفسهم وإنه من لم تنفعه التجارب ضربه ومن لم يسعه الحق لم يسعه الباطل
وإنما تسلمون اليوم بما أسلمتم به أمس ولا ينبغي لأهل البلاء إلا أن
يكونوا أذكر من أهل العافية للعافية ولست أدري لعله يكون للناس جولة فإن
لم تكن فالسلامة منها الأناة والله يحبها فأحبوها فأجابه القوم بالسمع
والطاعة
أي ومن ذلك أن امرأة كانت كاهنة بالمدينة يقال لها حطيمة كان لها تابع من
الجن
فجاءها
يوما فوقف على جدارها فقالت له مالك لا تدخل تحدثنا ونحدثك فقال إنه قد
بعث نبي بمكة يحرم الزنا فحدثت بذلك فكان أول من خبر تحدث به المدينة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما ما سمع من جوف الأصنام فكثير أيضا
فمنها أي غير ما تقدم في ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم خبر عباس بن
مرداس قال كان لمرداس السلمى وثن يعبده يقال له ضمار بكسر الضاد المعجمة
وميم مخففة بعدها ألف ثم راء مهملة فلما حضرت مرداسا الوفاة قال لعباس
ولده أي بني أعبد ضمارا فإنه ينفعك ويضرك فبينا عباس يوما عند ضمار إذ سمع
من جوف ضمار مناديا يقول ** من للقبائل من سليم كلها ** أودى ضمار وعاش
أهل المسجد ** ** إن الذي ورث النبوة والهدى ** بعد ابن مريم من قريش مهتد
** ** أودى ضمار وكان يعبد مدة ** قبل الكتاب إلى النبي محمد **
فحرق عباس ضمارا ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ أن عباس بن مرداس
كان في لقاح له نصف النهار إذ طلع عليه راكب على نعامة بيضاء وعليه ثياب
بيض فقال له يا عباس ألم تر أن السماء قد تعب أحراسها وأن الحرب قد حرقت
أنفاسها وأن الخيل وضعت أحلاسها وأن الذي نزل عليه البر والتقوى صاحب
الناقة القصواء فقال عباس فراعني ذلك فجئت وثنا لنا يقال له الضمار كنا
نعبده وتكلم من جوفه فكنست ما حوله ثم تمسحت به فإذا صائح يصيح من جوفه **
قل للقبائل من قريش كلها ** هلك الضمار وفاز أهل المسجد ** ** هلك الضمار
وكان يعبد مدة ** قبل الصلاة على النبي محمد ** ** إن الذي ورث النبوة
والهدى ** بعد ابن مريم من قريش مهتد **
قال عباس فخرجت مع قومي بني
حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فدخلت المسجد فلما رآني
رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم وقال يا عباس كيف إسلامك فقصصت عليه
القصة فقال صدقت وأسلمت أنا وقومي
ومن ذلك خبر مازن بن الغضونة قال
كنت أسدن أي أخدم صنما بقرية بعمان أي بالتخفيف تدعى سمائل وسمال يقال له
بادر وفي لفظ باحر بالحاء المهملة فعترنا
ذات
يوم عنده عتيرة وهي الذبيحة مطلقا وقيل في رجب خاصة فسمعنا صوتا من جوف
الصنم يقول يا مازن اسمع تسر ظهر خير وبطن شر بعث نبي من مضر بدين الله
الكبر فدع نحيتا من حجر تسلم من حر سقر قال مازن ففزعت لذلك وقلت إن هذا
لعجب ثم عترت بعد أيام عتيرة أي ذبحت ذبيحة لذلك الصنم فسمعت صوتا من
الصنم يقول ** أقبل إلى أقبل ** تسمع مالا تجهل ** ** هذا نبي مرسل ** جاء
بحق منزل ** ** آمن به كي تعدل ** عن حر نار تشعل ** ** وقودها بالجندل **
فقلت إن هذا لعجب وإنه لخير يراد بي
أقول ورأيت في بعض السير
تقديم هذه الأبيات على ما قبلها وأن مازنا قال ثم سمعت صوتا أبين من الأول
وهو يقول يا مازن اسمع إلى آخره والله أعلم
قال مازن فينا نحن كذلك
إذ قدم رجل من أهل الحجاز قلنا له ما الخبر وراءك قال قد ظهر رجل يقال له
أحمد يقول لمن أتاه أجيبوا داعي الله فقلت هذا نبأ ما سمعته فنزلت إلى
الصنم فكسرته جذاذا وركبت راحلتي وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرح
لي الإسلام وأسلمت وقلت ** كسرت بادرا جذاذا وكان لنا ** ربا نطيف به ضلا
بتضلال ** ** بالهاشمي هدانا من ضلالتنا ** ولم يكن دينه شيئا على بالي **
** يا راكبا عمرا وإخوتها ** أنى لما قال ربي بادر قالى **
عنى
بعمرو وإخوتها بين خطامة وهي بطن من طيئ وهذه الأبيات ساقطة في أسد الغابة
قال مازن فقلت يا رسول الله إني مولع بالطرب أي مغرم به وبشرب الخمر
وبالهلوك أي الفاجرة من النساء التي تتمايل وتتثنى عند جماعها وقيل
الساقطة على الرجال أي لشدة شبقها وألحت أي دامت علينا سنون أي أعوام
القحط والجدب فذهبن بالأموال وهزلن الذرارى والعيال وليس لي ولد فادع الله
أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحيا ويهب لي ولدا فقال النبي صلى الله عليه
وسلم اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال وبالخمر ريا لا إثم
فيه وبالعهر أي الزناعفة
الفرج وأته
بالحيا أي المطر وهب له ولدا قال مازن فأذهب الله عني ما كنت أجده وتعلمت
شطر القرآن وحججت حجيجا وأخصبت عمان يعني قريته وما حولها من قرى عمان
وتزوجت أربع حرائر ووهب الله لي حيان يعني ولده وأنشأت أقول ** إليك رسول
الله حنت مطيتي ** تجوب الفيافي من عمان إلى العرج ** ** لتشفع لي يا خير
من وطئ الحصا ** فيغفر لي ذنبي وأرجع بالفلج ** أي بالفوز والظفر المطلوب
** إلى معشر خالفت في الله دينهم ** ولا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي ** أي
بالشين والجيم أي لا شكلهم شكلي و لا طريقهم طريقي ** وكنت أمرأ بالعهر
والخمر مولعا ** شبابي حتى آذن الجسم بالنهج ** أي البلاء ** فبدلني
بالخمر خوفا وخشية ** وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي ** ** فأصبحت همى في
الجهاد وينتي ونيتي ** فلله ما صومي ولله ما حجي **
قال مازن فلما
رجعت إلى قومي أنبوني أي عنفوني ولاموني وشتموني وأمروا شاعرهم فهجاني
فقلت إن هجوتهم فإنما أهجوا نفسي وتنحيت عنهم وأتيت مسجدا أتعبد فيه وكان
لا يأتي هذا المسجد مظلوم فيتعبد فيه ثلاثا ويدعو على من ظلمه إلا استجيب
له ولا دعا ذو عاهة من برص أو غيره إلا عوفى ثم إن القوم ندموا وطلبوا مني
الرجوع إليهم فأسلموا كلهم وضعف هذا الحديث
وأما ما سمع من أجواف
الذبائح فمنه ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال كنا يوما في
حي من قريش يقال لهم آل ذريح بالحاء المهملة وقد ذبحوا عجلا لهم والجزار
يعالجه إذ سمعنا صوتا من جوف العجل ولا نرى شيئا يا آل ذريح أمر نجيح صائح
يصيح بلسان فصيح يشهد أن لا إله إلا الله أي والمراد بالذريح العجل الذي
ذبح لأنه ملطخ بالدم الأحمر لقولهم أحمر ذريحى أي شديد الحمرة والذي في
البخاري يقول يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله والمراد
بالجليح العجل المذبوح أيضا لأنه قد جلح أي كشف عنه جلده
وأما ما سمع من الهواتف ولم يجئ على ألسنة الكهان ولا سمع من جوف
الأصنام
ولا من جوف الذبائح فكثير من ذلك ما حدث به بعضهم وذكره النبي صلى الله
عليه وسلم قال يا رسول الله لقد رأيت من قس عجبا خرجت أطلب بعيرا لي حتى
إذا عسعس الليل أي أدبر وكاد الصبح أن يتنفس هتف بي هاتف يقول ** يا أيها
الراقد في الليل الأحم ** أي بالحاء المهملة يعنى الأسود ** قد بعث الله
نبيا بالحرم ** ** من هاشم أهل الوفاء والكرم ** يجلو دجنات الليالي
والبهم ** أي الظلمات والأمور المشكلة فأدرت طرفي فما رأيت شخصا فأنشأت
أقول ** يا أيها الهاتف في داجى الظلم ** أهلا وسهلا بك من طيف ألم ** **
بين هداك الله في لحن الكلم ** من ذا الذي تدعو إليه يغتنم **
فإذا
أنا بنحنحة وقائل يقول ظهر النور وبطل الزور وبعث الله محمدا صلى الله
عليه وسلم بالحبور أي السرور صاحب النجيب الأحمر أي الكريم من الإبل
والتاج والمغفر والوجه الأزهر أي الأبيض المشرب بالحمرة والحاجب أي الجبين
الأقمر أي الأبيض والطرف الأحور أي شديد سواده صاحب قول شهادة أن لا إله
إلا الله فذاك محمد المبعوث إلى الأسود والأحمر أهل المدر والوبر أي العجم
والعرب ثم أنشأ يقول ** الحمد لله الذي ** لم يخلق الخلق عبث ** ** أرسل
فينا أحمدا ** خير نبي قد بعث ** ** صلى الله عليه ما ** حج له ركب وحث **
وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وتغنت بمدحه الجن حتى ** أطرب الإنس
منه ذاك الغناء **
أي أظهرت الجن أوصافه صلى الله عليه وسلم الجميلة في صورة الغناء الذي
تألفه النفس ولا تصبر منها عند سماعه فتسمع لغيره حتى أطرب الإنس ذاك
الغناء الذي سمعوه من الجن قال فلاح الصباح وإذا بالفنيق يشقشق والفنيق
بفتح الفاء وكسر النون وسكون المثناة تحت ثم قاف الفحل الكريم من الإبل
ويشقشق بشينين معجمتين وقافين أي يهدر إلى النوق فملكت خطامه وعلوت سنامه
حتى إذا لغب بالغين المعجمة والموحدة أي تعب فنزل في روضة خضراء فإذا أنا
بقس بن
ساعدة في ظل شجرة وبيده قضيب من
أراك ينكت به الأرض والنكت بالمثناة فوق وهو يقول ** يا ناعي الموت
والملحود في جدث ** أي قبر ** ** علهيم من بقايا بزهم خرق ** أي والبز
الثياب ** ** دعهم فإن لهم يوما يصاح به ** فهم إذا انتبهوا من نومهم
فرقوا ** أي خافوا حتى يعودا بحال غير حالهم ** خلقا جديدا كما من قبله
خلقوا ** ** منهم عراة ومنهم في ثيابهم ** منها الجديد ومنها المنهج
الخالق **
والمنهج من الثياب الذي أخذ في البلى قال فدنوت منه فسلمت
عليه فرد علي السلام فإذا بعين خرارة أي لمائها خرير أي صوت في الأرض
خوارة أي ضعيفة ومسجد بين قبرين وأسدين عظيمين يلوذان به وإذا بأحدهما قد
سبق الآخر إلى الماء فتبعه الآخر يطلب الماء فضربه بالقضيب الذي في يده
وقال ارجع ثكلتك أمك أي فقدتك حتى يشرب الذي قبلك فرجع ثم ورد بعده فقلت
له ما هذان القبران قال هذان قبرا أخوين كانا لي يعبدان الله عز وجل معي
في هذا المكان لا يشركان بالله شيئا أي اسم أحدهما سمعون والآخر سمعان
فأدركهما الموت فقبرتهما وها أنا بين قبريهما حتى ألحق بهما ثم نظر إليهما
وأنشد أبيانا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله قسا إني أرجو أن
يبعثه الله أمة وحده أي واحدا يقوم مقام جماعة كما تقدم وقد أشار إلى ذلك
صاحب الأصل بقوله ** وعنه أخبر قس قومه فلقد ** حلى مسامعهم من ذكره شنفا
**
ولما مات قس قبر عندهما وتلك القبور الثلاثة بقرية يقال لها روحين من أعمال حلب وعليها بناء والناس يزورونهم وعليهم وقف ولهم خدام
ومن ذلك ما ذكره الواقدي بإسناد له قال كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يحدث أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم فبينا الخثعميون عند صنم لهم إذا سمعوا هاتفا يهتف ويقول ** يا أيها الناس ذوو الأجسام ** ومسندو الحكم إلى الأصنام ** ** أما ترون ماأرى أمامي ** من ساطع يجلو دجى الظلام ** ** ذاك نبي سيد الأنام ** من هاشم في ذروة السنام ** **** مستعلن بالبلد الحرام ** جاء يهد الكفر بالإسلام ** أكرمه
الرحمن من إمام **
قال أبو هريرة فأمسكوا ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا فلم يمض بهم ثالثهم
حتى فجأهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد ظهر بمكة أي جاءهم ذلك
بغتة فما أسلم الخثعميون حتى استأخر إسلامهم ورأوا عبرا عند أصنامهم
وأما خبر زمل بن عمرو العذري قال كان لبني عذرة وهي قبيلة من اليمن صنم
يقال له خمام بالخاء المعجمة المضمومة وتخفيف الميم وكانوا يعظمونه وكان
في بني هند بن حرام بالحاء المهملة المفتوحة والراء وكان سادنه أي خادمه
رجلا يقال له طارق قال في النور لا أعلم له ترجمة ولا إسلاما وكانوا
يعترون أي يذبحون الذبائح عنده فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سمعنا
صوتا يقول يا بني هند بن حرام ظهر الحق وأودى خمام أي هلك ورفع الشرك
الإسلام قال زمل ففزعنا لذلك وهالنا أي أفزعنا فمكثنا أياما ثم سمعنا صوتا
يقول يا طارق يا طارق بعث النبي الصادق بوحي ناطق صدع صدعة بأرض تهامة
لناصريه السلامة ولخاذليه الندامة هذا الوداع مني إلى يوم القيامة فوقع
الصنم لوجهه
فإن كان ذلك الصوت من جوف الصنم ويرشد إليه قوله هذا
الوداع مني إلى يوم القيامة فهو من غير هذا النوع وإن لم يكن فهو من هذا
النوع قال زمل فابتعت أي اشتريت راحلة ورحلت حتى أتيت النبي صلى الله عليه
وسلم مع نفر من قومي وأنشدته إليك يا رسول الله أعلمت نصها النص هو الغاية
في السير
** أكلفها حزنا وقوزا من الرمل ** والحزن ما ارتفع من الأرض **
والقوز بالقاف والزاي التل الصغير
** لأنصر خير الناس نصرا موزرا ** أي قويا وأعقد حبلا من حبالك في حبلي **والحبل العهد الميثاق
** وأشهد أن الله لا شيء غيره ** أدين له أي أخضع وأضيع ما أثقلت قدمي نعلي **ومن هذا النوع خبر تميم الداري أي ويكنى أبارقية اسم ابنة له لم يولد له غيرها روى عنه صلى الله عليه وسلم قصة الجساسة مع الدجال على المنبر فقال حدثني تميم الداري وذكر القصة قال بعضهم وهذا أولى ما يخرجه المحدثون في رواية الكبار
وقد يكون من ذلك ما ذكر
أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه مر يوما على ابنته عائشة رضي الله تعالى
عنها فقال هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء كان يعلمناه وذكر
أن عيسى ابن مريم كان يعلمه أصحابه ويقول لو كان على أحدكم جبل دين ذهبا
قضاه الله عنه قال نعم يقول اللهم فارج الهم كاشف الغم مجيب دعوة المضطرين
رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أنت ترحمني فارحمني برحمة تغنيني بها عن
رحمة من سواك وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال كان علي دين وكنت له
كارها فقلته فلم ألبث إلا يسيرا حتى قضيته
قال تميم الداري رضي الله
تعالى عنه كنت بالشام حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت إلى بعض
حاجاتي فأدركني الليل فقلت أنا في جوار عظيم هذا الوادي فلما أخذت مضجعي
إذا مناد ينادي لا اراه عذ بالله فإن الجن لا تجير أحدا على الله فقلت أيم
تقوله وأيم بتشديد الياء وبإسكانها وفتح الميم فيهما أي أيما شيء تقول
فقال قد خرج رسول الأميين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا خلفه
بالحجون أي وهو مقبرة مكة التي يقال لها المعلاة كما تقدم وأسلمنا
وأتبعناه وذهب كيد الجن ورميت بالشهب فانطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم
فأسلم فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب فسألت راهبه وأخبرته فقال صدقوك نجده
يخرج من الحرم أي مكة ومهاجره الحرم أي المدينة وهو خير الأنبياء فلا تسبق
إليه قال تميم فطلبت الشخوص أي الذهاب حتى جئت رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأسلمت
أقول وهذا يدل ظاهرا على أن تميما الداري أسلم بمكة قبل
الهجرة فهو مما الكلام فيه بل رأيت في تتمة الخبر فسرت إلى مكة فلقيت
النبي صلى الله عليه وسلم وكان مستخفيا فآمنت به
ورأيت بعضهم قال وهذه الرواية غلط لأن تميما الداري إنما أسلم سنة تسع من
الهجرة والله أعلم
قال ومن ذلك ما حدث به سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه أن رجلا من بني
تميم حدث عن بدء إسلامه قال إني لأسير برمل عالج ذات ليلة إذ غلبني النوم
فنزلت عن راحلتي وأنختها ونمت وتعوذت قبل نومي فقلت أعوذ بعظيم هذا الوادي
من الجن فرأيت في منامي رجلا بيده حربة يريد أن يضعها في نحر ناقتي
فانتبهت فزعا
فنظرت يمينا وشمالا فلم
أر شيئا فقلت هذا حلم ثم عدت فتعوذت فرأيت مثل ذلك وإذا بناقتي ترعد ثم
غفوت فرأيت مثل ذلك فانتبهت فرأيت ناقتي تضطرب فالتفت فإذا أنا برجل شاب
كالذي رأيته في منامي بيده حربة ورجل شيخ يمسك بيده يرده عن ناقتي وبينهما
نزاع
فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش فقال الشيخ
للفتى قم فخذ أيها شئت فداء لناقة جارى الإنسى فقام الفتى وأخذ منها ثورا
وانصرف ثم التفت إلى الشيخ وقال يا فتى إذا نزلت واديا من الأودية فخفت
هوله فقل أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي و لاتعذ بأحد من الجن فقد
بطل أمرها فقلت له ومن محمد قال نبي عربي لا شرقي ولا غربي فقلت أين مسكنه
قال يثرب ذات النخل فركبت ناقتي وحثثت السير حتى أتيت المدينة فرأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم فحدثني قبل أن أذكر له منه شيئا ودعاني إلى
الإسلام فأسلمت وهذا السياق يدل على أن هذه القصة بعد الهجرة لا عند
المبعث الذي الكلام فيه
ونظير هذا ما حدث به بعض الصحابة قال خرجت
في طلب إبل لي وكنا إذا نزلنا بواد قلنا نعوذ بعزيز هذا الوادي فتوسدت
ناقتي وقلت أعوذ بعزيز هذا الوادي فإذا هاتف يهتف بي ويقول ** ويحك عذ
بالله ذي الجلال ** منزل الحرام والحلال ** ** ووحد الله ولا تبال ** ما
كيد ذي الجن من الأهوال ** ** إذ يذكر الله على الأحوال ** وفي سهول الأرض
والجبال ** ** وصار كيد الجن في سفال ** إلا النبي وصالح الأعمال ** **
فقلت له يا أيها القائل ما تقول ** أرشد عندك أم تضليل ** ** فقال هذا
رسول الله ذو الخيرات ** جاء بيس وحاميمات ** ** وسور بعد مفصلات ** يأمر
بالصلاة والزكاة ** ** ويزجر الأقوام عن هنات ** قد كن في الإسلام منكرات
**
فقلت أما لو كان من يؤدي إبلي هذه إلى أهلي لأتيته حتى أسلم فقال
إذا أؤديها فركبت بعيرا منها ثم قدمت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم على
المنبر وفي رواية فوافيت الناس يوم الجمعة وهم في الصلاة فإني أنيخ راحلتي
إذ خرج إلى أبو ذر فقال لي
يقول لك
رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخل فدخلت فلما رآني قال ما فعل الرجل وفي
لفظ ما فعل الشيخ الذي ضمن لك أن يؤدي إبلك أما إنه قد أداها سالمة وقد قص
الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ما كان عليه الناس قبل بعثته من
أن الإنسان إذا نزل منزلا مخوفا قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه
بقوله سبحانه وتعالى { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال } أي يستغيذون
برجال من الجن أي حين ينزلون في أسفارهم بمكان مخوف يقول كل رجل أعوذ بسيد
هذا المكان من شر سفهائه { فزادوهم رهقا } أي زادوا الجن أي ساداتهم
بإستعاذتهم بهم طغيانا فيقولون سدنا الإنس والجن
أي ومن ذلك ما حكاه
وائل بن حجر الحضرمي ويكنى أبا هنيدة كان قيلا من أقيال حضرموت وكان أبوه
من ملوكهم قال وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بشر أصحابه
بقدومي فقال يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضرموت راغبا في الله عز
وجل وفي رسوله وهو بقية أبناء الملوك قال وائل فما لقيني أحد من الصحابة
إلا قال بشرنا بك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومك بثلاث فلما دخلت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم رحب بي وأدناني من نفسه وقرب مجلسي وبسط
لي رداءه فاجلسني عليه وقال اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده ثم
صعد المنبر وأقامني بين يديه ثم قال أيها الناس هذا وائل بن حجر أتاكم من
أرض بعيدة من حضرموت راغبا في الإسلام فقلت يا رسول الله بلغني ظهورك وأنا
في ملك عظيم فمن الله علي أن رفضت ذلك كله وآثرت دين الله قال صدقت اللهم
بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده
قال وسبب وفودي على رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه كان لي صنم من العقيق فبينما أنا نائم في الظهيرة
إذ سمعت صوتا منكرا من المخدع الذي به الصنم فأتيت الصنم وسجدت بين يديه
وإذا قائل يقول ** واعجبا لوائل بن حجر ** يخال يدرى وهو ليس يدرى ** **
ماذا يرجى من نحيت صخري ** ليس بذي نفع ولا ذي ضر ** ** لو كان ذا حجر
أطاع أمري **
قال فقلت أسمعت أيها الهاتف الناصح فماذا تأمرني فقال
** ارحل إلى يثرب ذات النخل ** تدين دين الصائم المصلى ** **
محمد النبي خير الرسل **
ثم خر الصنم لوجهه فاندقت عنقه فقمت إليه فجعلته رفاتا ثم سرت مسرعا حتى
أتيت المدينة فدخلت المسجد الحديث
وفيه أنه إن كان الصوت من جوف الصنم فهو من غير هذا النوع ولوائل هذا حديث
مع معاوية تركناه لطوله
وأما ما سمع من بعض الوحوش فمنه ما حدث به أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى
عنه قال بينا راع يرعى بالجزيرة إذ عرض الذئب لشاة من شياهه فحال الراعي
بين الذئب وبين الشاة فأقعى الذئب على ذنبه فقال ألا تتقي الله تحول بيني
وبين رزق ساقه الله إلي فقال الراعي أعجب من ذئب يكلمني بكلام الإنس فقال
الذئب ألا أخبرك بأعجب مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين
وفي رواية بيثرب يحدث الناس بأنباء ما قد سبق وفي لفظ يخبركم بما مضى وما
هو كائن بعدكم فساق الراعي شياهه فأتى المدينة فغدا لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فحدثه بما قال الذئب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق
الراعي إن من أشراط الساعة كلام السباع للإنس والذي نفس محمد بيده لا تقوم
الساعة حتى يكلم الرجل شراك نعله أي وهو أحد سيورها الذي يكون على وجهها
كما تقدم وعذبة سوطه أي طرفه وقيل أحد سيوره ويخبره بما فعل أهله أي وفي
لفظ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودى بالصلاة جامعة ثم خرج فقال
للأعرابي أخبرهم فأخبرهم
وفي رواية أن راعي الغنم كان يهوديا وفي
رواية أن الذئب قال له أنت أعجب مني واقفا على غنمك وتركت نبيا لم يبعث
الله قط أعظم منه قدرا وقد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها على أصحابه
ينظرون قتالهم وما بينك وبينه إلا هذا الشعب فتصير في جنود الله تعالى
فقال له الراعي من لي بغنمي فقال الذئب أنا أرعاها حتى ترجع فأسلم إليه
غنمه ومضى إليه صلى الله عليه وسلم وأسلم وقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم عد إلى غنمك تجدها بوفرها فوجدها كذلك وذبح للذئب شاة منها وفيه أن
هذا وما تقدم من خبر سعيد بن جبير كما علمت بعد الهجرة لا عند المبعث الذي
الكلام فيه
قال في النور هذا الراعي لا أعرف اسمه قال وكلم الذئب غير واحد فانظرهم في
تعليقي على البخاري
أقول ذكر في حياة الحيوان عن ابن عبدالبر كلم الذئب من الصحابة رضي الله
تعالى عنهم ثلاثة رافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع ووهبان بن أوس
وأما
ما سمع من بعض الأشجار فقد روى عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قيل له
هل رأيت قبل الإسلام شيئا من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم
بينا أنا قاعد في ظل شجرة في الجاهلية إذ تدلى على غصن من أغصانها حتى صار
على رأسي فجعلت أنظر إليه وأقول ما هذا فسمعت صوتا من الشجرة هذا النبي
يخرج في وقت كذا وكذا فكن أنت من أسعد الناس به والله أعلم
وأما
تساقط النجوم وطرد الجن بها عن استراق السمع فقد قال ابن إسحاق لما تقارب
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع وحيل
بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد فيها فرموا بالنجوم فعرف الجن أن ذلك
لأمر حدث من الله في العباد يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين
بعثه يقص عليه خبرهم إذ حجبوا { وأنا لمسنا السماء } أي طلبنا استراق
السمع منها { فوجدناها ملئت حرسا شديدا } أي ملائكة أقوياء يمنعون عنها {
وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } لخلوها عن الحرس والشهب { فمن
يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } أي أرصد له ليرمى به أي ومن يخطف الخطفة
منهم بخفة حركته يتبعه شهاب ثاقب يقتله أي أو يحرق وجهه أو يخبله قبل أن
يلقيها إلى الكاهن وذلك لئلا يلتبس أمر الوحي بشيء من خبر الشياطين مدة
نزوله وبعد انقضائه وموته صلى الله عليه وسلم لئلا تدخل الشبهة على ضعفاء
العقول فربما توهموا عود الكهانة التي سببها استراق السمع وأن أمر رسالته
صلى الله عليه وسلم تم فاقتضت الحكمة حراسة السماء في حياته صلى الله عليه
وسلم وبعد موته ومن ثم قال لا كهانة بعد اليوم
وقد حدث بعضهم قال إن
أول العرب فزع للرمى بالنجوم حين رمى بها ثقيف وإنهم جاءوا إلى رجل منهم
يقال له عمرو بن أمية وكان أدهى العرب وأنكرها رأيا أي أدهاها رأيا وكان
ضريرا وكان يخبرهم بالحوادث فقالوا له يا عمرو ألم تر أي تعلم ما حدث في
السماء من الرمى بهذه النجوم فقال بلى فانظروا فإن كانت معالم النجوم أي
النجوم
المشهورة التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف
والشتاء هي التي يرمى بها فهو والله طي هذه الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي
فيها وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهو لأمر أراد الله بهذا
الخلق أي والنوء وبالنون والهمز هنا ما يحصل عند سقوط نجم في المغرب وطلوع
رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما وحقيقة النوء سقوط
النجم وطلوع رقيبه في المدة المذكورة
وكانت العرب تضيف الأمطار
والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها أو إلى الطالع منها فتقول مطرنا
بنوء كذا وسيأتي الكلام على ذلك في غزوة الحديبية
وفي لفظ فأمر أراد
الله ونبي يبعث في العرب فقد تحدث بذلك لا يقال قد رجمت الشياطين بالنجوم
قبل ذلك وذلك عند مولده صلى الله عليه وسلم لأنا نقول المراد رجمت الآن
بأكثر مما كان قبل ذلك أو صارت تصيب ولا تخطئ
ومن ثم حدث بعضهم قال
لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أي قرب زمن بعثه رجمت الشياطين بنجوم لم
تكن ترجم بها قبل فأتوا عبد ياليل بن عمرو وهو بمثناتين تحتيتين وكسر
اللام الأولى الثقفي وكان أعمى فقالوا إن الناس قد فزعوا وقد أعتقوا
رقيقهم وسيبوا أنعامهم فقال لهم لا تعجلوا وانظروا فإن كانت النجوم التي
تعرف أي وهي التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء فهي عند
فناء الناس وإن كانت لا تعرف فهي من حدث فنظروا فإذا نجوم لا تعرف فقالوا
هذا من حدث
أي وقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال النجوم أمنة
السماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما يوعدون وأنا أمنة لأصحابي فإذا
ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمته لأمتي فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي
ما يوعدون فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم
وفي لفظ فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم الطائف أبو سفيان بن حرب فقال ظهر
محمد بن عبدالله يدعى أنه نبي مرسل
وهذا قد يخالف ما يأتي عن ابن عمر لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين من خبر السماء بالشهب ولا مانع من تكرر
سؤال ثقيف مرة لعمرو بن أمية ومرة لعبد يا ليل بن عمرو وأن كلا منهما كان
أعمى ويحتمل إتحاد الواقعة
ووقع
الإختلاف في اسم الذي سألوه فسماه بعضهم عمرو بن أمية وبعضهم سماه عبد
ياليل بن عمرو هذا كما ترى إنما كان عند المبعث وبه يعلم ما في قول
الماوردي الذي نقله عن شيخ بعض شيوخنا النجم الغيطي في معراجه وأقره
وسببه أي رمى النجوم أن الله تعالى لما أراد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم
رسولا كثر انقضاض الكوكب قبل مولده ففزع أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن
لهم ضرير وكان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال انظروا البروج الإثنى عشر
فإن انقض منها شيء فهو ذهاب الدنيا وإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا
أمر عظيم فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم فإنه
يقتضى أن المراد ببعثه ولادته فكان يتعين إسقاط قوله قبل مولده لما علمت
أن هذا أي كثرة تساقط النجوم إنما كان عند بعثه ونبوته لا عند ولادته ومنه
خبر أبي لهب أو لهيب بن مالك أي من بني لهب فإن بني لهب فزعوا لفزع ثقيف
قال حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عنده الكهانة فقلت بأبي
وأمي نحن أول من عرف حراسة السماء ومنع الجن من استراق السمع وذلك أنا
اجتمعنا إلى كاهن يقال له خطر بالخاء المعجمة والطاء المهملة والراء ابن
مالك قال في النور لا أعرف له ترجمة ولا إسلاما وكان شيخا كبيرا قد أتت
عليه مائتا سنة وثمانون سنة وكان من أعلم كهاننا فقلنا له يا خطر هل عندك
علم من هذه النجوم التي يرمى بها فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها
فقال ائتوني بسحر أي قبيل الفجر أخبركم الخبر الخير أم ضرر أم لأمن أو حذر
قال فانصرفنا عنه يومنا فلما كان من الغد في وجه السحر أتيناه فإذا هو
قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه فناديناه يا خطر يا خطر فأومأ إلينا
أن أمسكوا فأمسكنا فانقض نجم عظيم من السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته أصابه
أصابه جمع وصب كجمل وجمال فالهمزة بدل من الواو خامره عقابه عاجله عذابه
أحرقه شهابه زايله جوابه أي زال عنه جوابه يا ويله ما حاله بلبله بلباله
البلبال الغم عاوده خباله تقطعت حباله وغيرت أحواله ثم أمسك طويلا ثم قال
يا معشر بني قحطان أخبركم بالحق والبيان أقسم بالكعبة والأركان والبلد
المؤتمن السدان أي الخدام قد منع السمع عتاة الجان بثاقب كون ذا سلطان من
أجل مبعوث عظيم الشان يبعث بالتنزيل والفرقان وبالهدى
وفاضل
القرآن تبطل به عبادة الأوثان قال فقلنا له ويلك يا خطر إنك لتذكر أمرا
عظيما فماذا ترى لقومك فقال ** أرى لقومي ما أرى لنفسي ** أن يتبعوا خير
نبي الإنس ** ** برهانه مثل شعاع الشمس ** يبعث في مكة دار الحمس ** بمحكم
التنزيل غير اللبس **
والحمس بضم الحاء المهملة وإسكان الميم والسين
المهملة هم قريش وما ولدت من غيرها فإنهم كانوا لا يزوجون بناتهم لأحد من
أشراف العرب إلا على شرط أن يتحمس أولادهم فإن قريشا من بين قبائل العرب
دانوا بالتحمس ولذلك تركوا الغزو لما في ذلك من استحلال الأموال والفروج
ومالوا للتجارة ومن ثم يقال قريش الحمس سموا بذلك لتشددهم في دينهم لأن
الحماسة هي الشدة فقلنا له يا خطر ومن هو فقال والحياة والعيش إنه لمن
قريش ما في حكمه طيش أي عدول عن الحق من قولهم طاش السهم عن الهدف إذا عدل
عنه ولا في خلقه هيش أي ليس في طبيعته وسجيته قول قبيح يكون في جيش وأي
جيش من آل قحطان وآل أيش وآل قحطان هم الأنصار قال صلى الله عليه وسلم رحى
الإيمان دائرة في ولد قحطان وآل أيش قبيلة من الجن المؤمنين ينسبون إلى
أبيهم أيش شخص من كبير الجن وقيل أراد بهم المهاجرين أي ومن المهاجرين
الذين يقال فيهم أيش لأنه يقال في مقام المدح فلان أيش على معنى أي شيء هو
أي شيء عظيم لا يمكن أن يعبر عن عظمته وجلالته وروى بدل أيش ريش فقلنا له
بين لنا من أي قريش فقال والبيت ذي الدعائم يعنى الكعبة والركن يعني الحجر
الأسود والأحائم يعني بئر زمزم لأن الأحائم جمع أحوام والأحوام جمع أحوم
وهو الماء في البئر وأراد بئر زمزم أو أن الأصل الحوائم ففيه قلب مكاني
الأصل فواعل فصار أفاعل والحوائم هي الطير التي تحوم على الماء والمراد
حمام مكة لهو نجل أي نسل هاشم من معشر أكارم يبعث بالملاحم يعني الحروب
وقتل كل ظالم ثم قال هذا هو البيان أخبرني به رئيس الجان ثم قال الله أكبر
جاء الحق وظهر وانقطع عن الجن الخبر ثم سكن وأغمى عليه فما أفاق إلا بعد
ثلاثة أيام فقال لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان
الله لقد نطق عن مثل نبوة أي وحي وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده أي مقام
جماعة كما تقدم في نظيره
قال ومن
ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن نفر من الأنصام
قالوا بينا نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بنجم فاستنار
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي
يرمى به في الجاهلية أي قبل البعث قالوا يا رسول الله كنا نقول إذا رأينا
برمى بها مات ملك ولد مولود مات مولود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليس ذلك كذلك ولكن الله سبحانه وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعته
حمله العرش فسبحوا فسبح من تحتهم بتسبيحهم فسبح من تحت ذلك فلا يزال
التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيسبحوا ثم يقول بعضهم لبعض لم
سبحتم فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا له الأمر الذي كان أي يكون في
الأرض فيهبط به من سماء إلى سماء أي تقوله أهل كل سماء لمن يليهم حتى
ينتهي إلى السماء الدنيا فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم وإختلاس ثم
يأتون به إلى الكهان فيحدثونهم فيخطئون بعضا ويصيبون بعضا
أي وفي
البخاري إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا
لقوله كالسلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا
للذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقو السمع فربما أدرك الشهاب
المستمع قبل أن يرمى بها إلى صاحبه فيحرقه الحديث وقولهم قال الحق أي ثم
يذكرونه لما تقدم من قولهم قضى الله في خلقه كذا وكذا ولما يأتي وقوله صلى
الله عليه وسلم يرمى بها في الجاهلية صريح في أنه كان يرمى بالنجوم
للحراسة في زمن الفترة بينه صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه الصلاة
والسلام قبل مولده صلى الله عليه وسلم ويخالفه ما يأتي عن أبي بن كعب رضي
الله تعالى عنه وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال إنهم ليسوا
بشيء فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحيانا بالشيء يكون حقا قال تلك
الكلمة من الجن يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من
مائة كذبة ثم إن الله تعالى حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها
فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة
أي وفي البخاري أنه صلى الله عليه
وسلم قال إن الملائكة تتحدث في العنان أي الغمام بالأمر يكون في الأرض
فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن فيزيدونها مائة كذبة
وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه لم يرم بنجم منذ رفع عيسى عليه الصلاة
والسلام حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بها فلما رأت قريش
أمرا لم تكن تراه فزعوا لعبد ياليل الحديث
أقول وهذا يفيد أنه
لم يرم بها قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم أي قبل قربه الشامل لزمن الولادة
فلا يخالف ما تقدم وأن النجوم كان يرمى بها قبل أن يرفع عيسى عليه الصلاة
والسلام وذلك صادق بزمن آدم فمن بعده من الرسل وهو الموافق لقول الزهري
الحجب وتساقط النجوم كان موجودا قبل البعث في سالف الأزمان أي في زمن
الرسل لا في زمن الفترات بين الرسل لقول الكشاف وقول بعضهم ظاهر الأخبار
يدل على أن الرجم للشياطين بالشهب كان في زمن غيره صلى الله عليه وسلم من
الرسل وهو كذلك وعليه أكثر المفسرين حراسة لما ينزل من الوحي على الرسل
وأما في الزمن الذي ليس فيه رسول أي وهو زمن الفترات بين الرسل فكانوا
يسترقون السمع في مقاعد لهم ويلقون ما يسمعون للكهان أي لأن الله تعالى
ذكر فائدتين في خلق النجوم فقال تعالى { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح
وجعلناها رجوما للشياطين } وقال تعالى { إنا زينا السماء الدنيا بزينة
الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد } وكونها إنما جعلت رجوما وحفظا ليس إلا
عند قرب مبعثه صلى الله عليه وسلم خاصة دون بقية الرسل من أبعد البعيد
وحيث كان الغرض من الرمي بالنجوم منع الشياطين من استراق السمع اقتضى ذلك
أنه لم يرم بها قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم ومنه زمن ولادته
ويوافق ذلك قول ابن إسحاق لما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحضر مبعثه حجبت الشياطين وقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما كان
اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين من خبر
السماء رموا بالشهب فذكروا ذلك لإبليس فقال بعث أي لعله بعث نبي عليكم
بالأرض المقدسة أي لأنها محل الأنبياء وهذا يدل على أن عند إبليس أن الرمى
بالنجوم علامة على بعث الأنبياء فذهبوا ثم رجعوا فقالوا ليس بها أحد فخرج
إبليس يطلبه بمكة أي لأنها مظنة ذلك بعد محل الأنبياء فإذا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بحراء منحدرا معه جبريل فرجع إلى أصحابه فقال بعث أحمد
ومعه جبريل وفي رواية إن إبليس قال لما أخبروه بأنهم منعوا من خبر السماء
إن هذا لحدث حدث في الأرض فائتوني من تربة كل أرض
فأتوه بذلك فجعل يشمها فلما شم تربة مكة قال من ههنا الحدث فمضوا
فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث
أقول قد يقال لا منافاة بين الروايتين لأنه يجوز أنهم لم يخبروه بمبعثه
صلى الله عليه وسلم لما وجدوه فذهب أو ذهب بعد إخبارهم له بذلك للإستيقان
وهذا يفيد أن الرمى بالنجوم إنما كان عند مبعثه أي عند تقارب زمنه لا قبل
ذلك الذي منه زمن ولادته
وحينئذ يشكل حصول مثل ذلك لإبليس وجنوده
عند مولده صلى الله عليه وسلم ومن ثم قدمنا أنه يجوز أن يكون من خلط بعض
الرواة وهذه الرواية تدل على أن إبليس لم يكن عنده علم بأن سقوط النجم على
الشياطين علامة على مبعث النبي صلى الله عليه وسلم والرواية التي قبلها
تدل على ذلك كما علمت وكلتا الروايتين يدل على أنه لم يعلم عينه ولا محله
والله أعلم وقد أشار صاحب الهمزية إلى أن حجب الشياطين كان عند مبعثه صلى
الله عليه وسلم بقوله ** بعث الله عند مبعثه الشهب ** حراسا وضاق عنها
الفضاء ** ** تطرد الجن عن مقاعد للسم ** مع كما يطرد الذئاب الرعاء ** **
فمحت آية الكهانة آيا ** ت من الوحي مالهن إنمحاء **
أي أرسل الله
زمن إرساله صلى الله عليه وسلم الشعل من النار على الجن لأجل حراسة السماء
منهم ولكثرة تلك الشعل ضاقت عنها المفازات حال كون تلك الشهب تطرد الجن عن
أمكنة قريبة يقعدون فيها لأجل أن يسمعوا شيئا من الملائكة المتكلمين بما
سيقع في الأرض من المغيبات وطرد تلك الشهب لأولئك الشياطين في الشدة كطرد
الرعاة للذئاب عن الغنم إذا أرادت أن تعدو عليها فبسبب ذلك الطرد البالغ
للجن عن خبر السماء محت آيات من الوحي آية الكهانة التي هي الإخبار
بالأمور المغيبة ما لتلك الآيات من الوحي إنمحاء أي ذهاب بل هي باقية إلى
يوم القيامة وفيه أنه لزم على كون الغرض من الرمى بالنجوم حفظ الوحى أن
ذلك لا يكون إلا عند مبعثه صلى الله عليه وسلم ولا يكون قبل ذلك الذي منه
وقت ولادته وأيضا لو كان ذلك موجودا قبل مبعثه واستمر إلى مبعثه لم تفزع
العرب منه عند مبعثه
وأجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون الغرض الأصلي من الرمى بها حفظ الوحى
فلا ينافى وجود ذلك قبل عند ولادته إرهاصا وتخويفا
وكان هذا السؤال الثاني هو الحامل لأبي بن كعب على دعوى أنه لم يرم
بالنجوم منذ رفع عيسى عليه الصلاة والسلام حتى تنبأ رسول الله صلى الله
عليه وسلم رمى بها ومن ثم قال فلما رأت قريش أمرا لم تكن تراه فزعوا لعبد
ياليل ويجاب بأنه يجوز أن يكون الرمى بالنجوم عند المبعث مخالفا للرمى بها
قبله إما لفرط كثرتها وإما لأن الرمى بها بعد المبعث كان من كل جانب وقيل
كان من جانب واحد وإما لأن الرمى بها صار لا يخطئ أبدا وقبل ذلك كان يخطئ
تارة ويصيب أخرى فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه ومنهم من يخبله أي
يصيره غولا يضل الناس في البراري وكان ذلك سبب فزع العرب لأنه كان قبل ذلك
لم يكن من كل جانب ولم يكثر ويخطئ فيعود الشيطان إلى مكانه فيسترق السمع
ويلقى ما يسترقه إلى كاهنه أي فلم تنقطع الكهانة قبل مبعثه صلى الله عليه
وسلم بالمرة بل كانت موجودة إلى زمن مبعثه صلى الله عليه وسلم وعند مبعثه
انقطعت بالمرة ومن ثم قال لا كهانة اليوم وهذا كله على تسليم رواية ابن
عباس أن النجوم رمى بها عند ولادته صلى الله عليه وسلم وحفظ الوحي بالرمى
بالشهب لا يخالف ما حكاه في الإتقان عن سعيد بن جبير ما جاء جبريل بالقرآن
إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة وسيأتي عن
الينبوع عن ابن جرير ما نزل جبريل بوحى قط إلا ونزل معه من الملائكة حفظة
يحيطون به وبالنبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما لئلا يسمعوا ما
يبلغه جبريل إلى ذلك النبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما لئلا
يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى ذلك النبي من الغيب الذي يوحيه إليه فيبلغوه
إلى أوليائهم
وعن بعضهم قال سافرت عن زوجتي فخلفني عليها شيطان على
صورتي وكلامي وسائر حالاتي التي تعرفها مني فلما قدمت من السفر لم تفرح بي
ولم تتهيأ لي وكانت إذا قدمت من سفر تتهيأ لي كما تتهيا العروس فقلت لها
في ذلك فقالت إنك لم تغب فبينما أنا كذلك وقد ظهر لي ذلك الشيطان وقال لي
أنا رجل من الجن عشقت امرأتك وكنت آتيها في صورتك فلا تنكر ذلك فاختر إما
أن يكون لك الليل ولي النهار أو لك النهار ولي الليل فراعني ذلك ثم اخترت
النهار فلما كان في بعض الليالي جاءني وقال بت الليلة عند أهلك فقد حضرت
نوبتي في استراق السمع من السماء فقلت أنت تسترق السمع فقال نعم هل لك أن
تكون معي قلت نعم فلما جاء الليل أتاني وقال حول وجهك فحولت وجهي فإذا هو
في صورة خنزير له جناحان فحملني على ظهره فإذا له معرفة كمعرفة الخنزير
فقال لي استمسك بها فإنك ترى أمورا وأهوالا فلا
تفارقني
تهلك ثم صعد حتى لصق بالسماء فسمعت قائلا يقول لا حول ولا قوة إلا بالله
ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهوى بي ووقع من وراء العمران فحفظت
الكلمات فلما أصبحت أتيت أهلي فلما كان الليل جاء فقلتهن فاضطرب فلم أزل
أقولهن حتى صار رمادا وإن لم يحمل وقوع ذلك في زمن الجاهلية وإلا كان كذبا
لأنهم أجابوا عن إيراد أن القول بقدرة الجن على التصور يلزمه رفع الثقة
بشيء فإن من رأى نحو ولده وزوجته احتمل أنه جنى فيشك بأن الله تكفل لهذه
الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي إلى ما يترتب عليه ريبة في الدين
فليتأمل
وقد جاء في فضل لا حول ولا قوة إلا بالله من كثرت همومه
وغمومه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله والذي نفسي بيده إن لا حول
ولا قوة إلا بالله شفاء من سبعين داء أدناها الهم والغم والحزن وفرق بين
الغم والهم بأن الغم يعرض منه السهر والهم يعرض منه النوم
وفي حكمة
آل داود العافية ملك خفى وهم ساعة هرم سنة وقال الأطباء الهم يوهن القلب
وفيه ذهاب الحياة كما أن في الحزن ذهاب البصر وفي الحديث من كثر همه سقم
بدنه فعلم أن النجوم على تسليم أنه كان يرمى بها قبل الولادة وبعدها إلى
البعثة كانت قبل قرب زمن المبعث تصيب تارة ولا تصيب أخرى مع قلتها وعند
البعثة تصيب ولا بد مع كثرتها وإن الكثرة هي سبب الفزع لا دوام الإصابة
وإلا فمجرد دوام الإصابة لا يكون حاملا على الفزع لأنه لا يظهر لكل أحد
بخلاف الكثرة ومجرد الكثرة لا يكون سببا لقطع الكهانة أو أنها قبل البعث
كانت ترمى من جانب دون آخر وبعد البعثة رميت من جميع الجوانب وإليه
الإشارة بقوله تعالى { ويقذفون من كل جانب دحورا } فكان ذلك سببا للفزع
والمراد وجود ذلك مع دوام الإصابة ليكون سببا لقطع الكهانة وإلا فمجرد
الرمى من كل جانب مع قلة الإصابة لا يكون سببا لقطع الكهانة ولما انقطعت
الكهانة بعدم إخبار الجن قالت العرب هلك من في السماء فجعل صاحب الإبل
ينحر كل يوم بعيرا وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة وصاحب الغنم ينحر كل يوم
شاة حتى أسرعوا في أموالهم أي في إتلافها فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب
أيها الناس أمسكوا على أموالكم فإنه لم يمت من في السماء ألستم ترون
معالمكم من النجوم كما هي والشمس والقمر كذا في كلام بعضهم ولعله لا يخالف
ما تقدم من أن أول العرب فزع للرمى بالنجوم ثقيف وأنهم جاءوا إلى رجل منهم
يقال له
عمرو بن أمية ولرجل آخر يقال له عبدياليل لجواز أن يكون ما ذكر
هنا صدر من بعضهم لبعض ثم اجتمعوا على عمرو وعبد ياليل والله أعلم
وظاهر القرآن والأخبار أن الذي يرمى به الشياطين المسترقون نفس النجم وإنه
المعبر عنه بالكوكب وبالمصباح والشهاب وقيل الشهاب عبارة عن شعلة نار
تنفصل من النجم أي كما قدمنا فأطلق عليها لفظ النجم ولفظ المصباح ولفظ
الكوكب ويكون معنى { وجعلناها رجوما } جعلنا منها رجوما وهي تلك الشهب
ومعنى كونها حفظا بإعتبار ما ينشأ عنها من تلك الشهب
وقالت الفلاسفة
إن الشهب إنما هي أجزاء نارية تحصل في الجو عند إرتفاع الأبخرة المتصاعدة
وإتصالها بالنار التي دون الفلك وقيل السحاب إذا اصطكت أجرامه تخرج نار
لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود فقد
حكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت قاله في الكشاف
ومما يؤيد أن الشعل منفصلة من النجوم ما جاء عن سلمان الفارسي رضي الله
تعالى عنه أن النجوم كلها كالقناديل معلقة في السماء الدنيا كتعليق
القناديل بالمساجد مخلوقة من نور إنها معلقة بأيدي ملائكة ويعضد هذا القول
قوله تعالى { إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت } أن انتثارها يكون
بموت من كان يحملها من الملائكة وقيل إن هذا ثقب في السماء وقد وقع في سنة
تسع وتسعين من القرن السادس أن النجوم ماجت وتطايرت تطاير الجراد ودام ذلك
إلى الفجر وأفزع الخلق فلجئوا إلى الله تعالى بالدعاء قال بعضهم ولم يعهد
ذلك إلا عند ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم
أقول قد وقع نظير
ذلك في سنة إحدى وأربعين من القرن الثالث ماجت النجوم في السماء وتناثرت
الكواكب كالجراد أكثر الليل كان أمرا مزعجا لم ير مثله ووقع في سنة
ثلثمائة تناثر النجوم تناثرا عجيبا إلى ناحية المشرق والله أعلم
وأما ما جاء من ذكره صلى الله عليه وسلم أي ذكر اسمه وصفته أمته في الكتب
القديمة أي كالتوراة المنزلة على موسى عليه الصلاة والسلام لست ليال خلون
من رمضان اتفاقا والإنجيل المنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام لثنتى عشرة
خلت من رمضان وقيل لثلاث عشرة وقيل لثمان عشرة والزبور المنزل على داود
عليه الصلاة والسلام لثنتي عشرة وقيل لثلاث عشرة وقيل لثمان عشرة وقيل في
ست خلت من رمضان
وصحف شعياء ويقال له
أشعياء أو مزامير داود وصحف شيث فقد أنزلت عليه خمسون صحيفة وقيل ستون
وصحف إبراهيم فقد أنزل عليه عشرون صحيفة وقيل ثلاثون أول ليلة من رمضان
اتفاقا وفي كتاب شعيب ولم يذكر صحف إدريس وقد أنزلت عليه ثلاثون صحيفة
وذكر بعضهم أن موسى عليه الصلاة والسلام أنزل عليه قبل التوراة عشرون
صحيفة وقيل عشر صحائف وهذا كما لا يخفى يزيد على ما اشتهر أن الكتب
المنزلة مائة وأربعة كتب
وفي كلام بعضهم أتفقوا على أن القرآن أنزل لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان
وعن أبي قلابة أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان وحينئذ يكون
من حكى الإتفاق في التوراة وصحف إبراهيم لم يطلع على هذا أو لم يعتد به
فقد أشار إلى ذكره صلى الله عليه وسلم في جميع الكتب المنزلة الإمام
السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله ** وفي كل كتب الله نعتك قد أتى
** يقص علينا ملة بعد ملة **
وهذا كما لا يخفى أبلغ من قول بعضهم ** ومن قبل مبعثه جاءت مبشرة ** به
زبور وتوراة وإنجيل **
وقد اعترض على هذا القائل بعض الأغبياء بأن التوراة والإنجيل قد صحت
بشارتهما به صلى الله عليه وسلم وأما الزبور فلا ندرى ولا نقول إلا ما
نعلم ويرده ما ذكره الإمام السبكي وسنده قوله تعالى { وإنه لفي زبر
الأولين } أي كتبهم فقد قال بعض المفسرين إن الضمير عائد إلى النبي صلى
الله عليه وسلم لأن الإضافة حيث لا عهد تحمل على العموم وسيأتي أيضا
التصريح بوجود اسمه في الزبور وقد جاء إن اسمه في التوراة أحمد يحمده أهل
السماء والأرض كما تقدم
وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى { ومن يرغب
عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } أن عبدالله بن سلام رضي الله تعالى عنه
دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما قد علمتما أن الله
تعالى قال في التوراة إني باعث من ولد إسمعيل نبيا اسمه أحمد من آمن به
فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمة وأبي مهاجر فأنزل
الله الآية وفيها أيضا محمد واسمه فيها أيضا حمياطا وقيل أي يحمى الحرم من
الحرام واسمه في التوراة أيضا قدمايا أي الأول السابق واسمه فيها أيضا
ينديند واسمه أيضا أحيد وقيل أحيد أي يمنع نار جهنم عن أمته واسمه فيها
أيضا طاب طاب أي طيب واسمه فيها ايضا كما
في
الشفاء محمد حبيب الرحمن ووصف فيها بالضحوك أي طيب النفس وفيها محمد بن
عبدالله ولده بمكة ومهاجرة إلى طابة وملكه بالشام والتوراة أي على فرض أن
تكون اسما عربيا مأخوذة من التورية وهو كتمان السر بالتعريض لأن أكثرها
معاريض من غير تصريح واسمه في الإنجيل المنحمنا والمنحمنا بالسريانية محمد
أي وما جاء عن سهل مولى خيثمة قال كنت يتيما في حجر عمي فأخذت
الإنجيل فقرأته حتى مرت لي ورقة ملصقة بغراء ففتقتها فوجدت فيها وصف محمد
صلى الله عليه وسلم فجاء عمي فلما رأى الورقة ضربني وقال مالك وفتح هذه
الورقة وقراءتها فقلت فيها وصف النبي أحمد فقال إنه لم يأت بعد أي الآن
أي وفي الإنجيل اسمه حبنطا أي يفرق بين الحق والباطل ووصفه بأنه صاحب
المدرعة وهي الدرع وفيه أيضا وصفه بأنه يركب الحمار والبعير وسيأتي أن
راكب الحمار عيسى عليه الصلاة والسلام وراكب الجمل محمد صلى الله عليه
وسلم وسيأتي الجواب وفي الإنجيل إن أحببتموني فاحفظوا وصيتي وأنا أطلب إلى
ربي فيعطيكم بارقليط والبارقليط لا يجيئكم مالم أذهب فإذا جاء وبخ العالم
على الخطيئة ولا يقول من تلقاء نفسه ولكنه ما يسمع يكلمهم به ويسوسهم
بالحق ويخبرهم بالحوادث والغيوب أي وما جاء بذلك وأخبر بالحوادث والغيوب
إلا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والبارقليط أو الفارقليط الحكيم
والرسول قيل والإنجيل أي على فرض أن يكون إسما عربيا مأخوذ من النجل وهو
الخروج ومن ثم سمى الولد نجلا لخروجه أو مشتق من النجل وهو الأصل يقال لعن
الله أناجيله أي أصوله فسمى هذا الكتاب بهذا الإسم لأنه الأصل المرجوع
إليه في ذلك الدين وقيل من النجلة وهي سعة العين لأنه أنزل وسعة لهم أي
لأن فيه تحليل بعض ما حرم عليهم
ومن ذلك ما جاء عن عطاء بن يسار قال
لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما فقلت أخبرني عن صفة
رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال أجل والله إنه لموصوف في
التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا
ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك بالمتوكل ليس بفظ أي سيء
الخلق ولا غليظ أي شديد القول ولا صخاب بالسين والصاد في الأسواق أي لا
يصبح فيها وفي الحديث أشد الناس عذابا كل جعار نعار سخاب
في
الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم
به الملة العوجاء أي ملة إبراهيم التي غيرتها العرب وأخرجها عن إستقامتها
بأن يقول لا إله إلا الله يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا أي
لا تفهم كأنها في غلاف قال عطاء ثم لقيت كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه
فسألته فما أخطأ في حرف
أقول لكن في رواية كعب وأعطى المفاتيح
ليبصرن الله به أعينا عورا وليسمع به آذانا صما ويقيم به ألسنة معوجة يعين
المظلوم ويمنعه من أن يستضعف وفيها وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه يسبق
حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما
وعن بعض أحبار اليهود
أنه قال على جميع ما وصف به صلى الله عليه وسلم في التوراة وقفت إلا هذين
الوصفين وكنت أشتهي الوقوف عليها فجاءه شخص يطلب منه ما يستعين به وذكر له
أنه لم يكن عنده ما يعينه به فقلت هذه دنانير ندفعها له وتكون على كذا من
التمر ليوم كذا ففعل فجئته قبل الأجل بيومين أو ثلاثة فأخذت بمجامع قميصه
وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت ألا تقضيني يامحمد في حقي إنكم يا بني
عبدالمطلب مطل فقال لي عمر أي عدو الله تقول لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ما أسمع وهم بي فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكون
وتؤدة وتبسم ثم قال أنا وهو أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن
الأداء وتأمره بحسن التباعة أي المطالبة أذهب وأوفه حقه وزده عشرين صاعا
مكان مارعته أي خفته فأسلم اليهودي وذكر القصة
وفي التوراة لا يزال
الملك في يهود إلى أن يجيء الذي إياه تنتظر الأمم أي لا يزال أمرهم ظاهرا
إلى أن يجيء الذي تنتظره الأمم أي المرسل إليهم وهو محمد صلى الله عليه
وسلم لأنه المرسل لجميع الأمم
وما زعمه اليهود بأنه يوشع رد بنص
التوراة في محل آخر إن الله ربكم يقيم نبيا من إخوتكم مثلي وقد قال لي إنه
سوف يقيم نبيا مثلك من إخوتهم وأجعل كلمتي في فيه وأيما إنسان لم يطع
كلامه أنتقم منه لأن قوله مثلي أي رسولا بكتاب مشتمل على الأحكام والشرائع
وذكر المبدإ والمعاد لأن يوشع لم يكن له كتاب بل كان متابعا لسنة موسى
عليه الصلاة والسلام في بني إسرائيل خاصة وأيضا يوشع منهم لا من إخوتهم
فلو كان يوشع لقال منكم
وما زعمه
النصارى إنه المسيح رد عليهم بنصوص الإنجيل التي منها إن الله يقيم لكم
نبيا من إخوتكم لأن المسيح ليس من إخوتهم بل منهم لأنه من نسل داود ففي
زبور داود سيولد ولد أدعى له أبا ويدعى لي ابنا وإخوة بني إسرائيل إنما هم
أولاد إسمعيل الذي هو أخو إسحق وبنو إسرائيل منه وأيضا لو كان المسيح لم
يحسن أن يخاطب بهذا اللفظ
وفي الإنجيل جاء الله من طور سينا وظهر
بساعير وأعلن بفارن أي عرف الله بإرساله موسى وعيسى ومحمدا صلوات الله
وسلامه عليهم لأن ظهور نبوة موسى كان في طور سينا وتقدم أنه جبل بالشام
قيل هو الذي بين مصر وإيليا وأنزلت التوراة عليه فيه وظهور نبوة عيسى كان
في ساعير وهو جبل القدس لأن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يسكن بقرية بأرض
الخليل يقال لها ناصرة وبإسمها سمى من اتبعه وأنزل عليه الإنجيل بها وظهور
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان في فاران وهي مكة وأنزل عليه القرآن بها
وفي التوراة أن إسمعيل أقام بقرية فاران وإنما عبر في جانب موسى
بالمجيء لأنه أول المشرعين لأن كتابه الذي هو التوراة أول كتاب اشتمل على
الأحكام والشرائع بخلاف ما قبله من الكتب فإنها لم تشتمل على ذلك وإنما
كانت مشتملة على الإيمان بالله تعالى وتوحيده ومن ثم قيل لها صحف وإطلاق
الكتب عليها مجاز ولما حصل بعيسى وبكتابه الذي هو الإنجيل نوع ظهور عبر في
جانبه بالظهور الذي هو أقوى من المجيء ثم لما زاد الظهور بمجيء محمد صلى
الله عليه وسلم عبر عنه بالإعلان الذي هو أقوى من مجرد الظهور
وقد
قيل في تفسير قوله تعالى { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
} إنهم يجدون نعته { يأمرهم بالمعروف } وهو مكارم الأخلاق وصلة الأرحام {
وينهاهم عن المنكر } وهو الشرك { ويحل لهم الطيبات } وهي الشحوم التي حرمت
على بني إسرائيل والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام التي حرمتها الجاهلية
{ ويحرم عليهم الخبائث } التي كانت تستحلها الجاهلية من الميتة والدم ولحم
الخنزير { ويضع عنهم إصرهم } من تحريم العمل يوم السبت وعدم قبول دية
المقتول وأن يقطعوا ما أصابهم من البول والله أعلم
ومن ذلك ما جاء عن النعمان السبائي رضي الله تعالى عنه وكان من أحبار يهود
باليمن قال لما سمعت بذكر النبي صلى الله عليه وسلم قدمت عليه وسألته عن
أشياء ثم قلت له إن أبي كان يختم على سفر ويقول لاتقرأه على يهود حتى تسمع
بنيى قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه قال النعمان فلما سمعت بك فتحت
السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة وإذا فيه ما تحل وما تحرم وإذا فيه
أنت خير الأنبياء وأمتك خير الأمم وإسمك أحمد صلى الله عليه وسلم وأمتك
الحمادون أي يحمدون الله في السراء والضراء قربانهم دماؤهم أي يتقربون إلى
الله سبحانه وتعالى بإراقة دمائهم في الجهاد وأناجيلهم في صدورهم أي
يحفظون كتابهم لا يحضرون قتالا إلا جبريل معهم يتحنن الله عليهم كتحنن
الطير على فراخه ثم قال لي يعني أباه إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به
وصدقه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع أصحابه حديثه فأتاه يوما
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يانعمان حدثنا فابتدأ النعمان الحديث من
أوله فرؤى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ثم قال أشهد أني رسول الله
أقول والنعمان هذا قتله الأسود العنسي الذي ادعى النبوة وقطعه عضوا عضوا
وهو يقول إن محمدا رسول الله وإنك كذاب مفتر على الله ثم حرقه بالنار أي
ولم يحترق كما وقع للخيل
وقيل الذي أحرقه الأسود العنسي بالنار ولم
يحترق ذؤيب بن كليب أو ابن وهب ولما بلغه صلى الله عليه وسلم ذلك قال
لأصحابه فقال عمر الحمد لله الذي جعل في أمتنا مثل إبراهيم الخليل وهذا
السفر يحتمل أن يكون ملخصا من التوراة وقوله إلا وجبريل معهم يدل على أن
جبريل يحضر كل قتال صدر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم للكفار بل ظاهره
كل قتال صدر حتى من جميع الأمة وفي رواية بعضهم نقلا عن سفر من التوراة لا
يلقون أي أمته عدوا إلا وبين أيديهم ملائكة معهم رماح
وفي التوراة
في صفة أمته صلى الله عليه وسلم زيادة على ما سبق يوضئون أطرافهم ويأتزرون
في أوساطهم يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم
وقد جاء ائتزوا كما رأيت الملائكة أي ليلة الإسراء تأتزر أي مؤتزرة عند
ربها إلى أنصاف سوقها
وقد جاء عليكم بالعمائم وأرخوها خلف ظهوركم فإنها سيما الملائكة وكلاهما
أي الإتزار وأرخاء العذبة من خصائص هذه الأمة
وقد جاء إن العمائم تيجان المسلمين وفي رواية من سيما المسلمين أي
علاماتهم المميزة لهم عن غيرهم
ويؤخذ من وصفهم بأنهم يوضئون أطرافهم أن الأمم السابقة كانوا لا يتوضئون
ويوافقه قول الحافظ ابن حجر إن الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا
هذه الأمة ويوافقه ما رواه ابن مسعود مرفوعا يقول الله تبارك وتعالى
افترضت عليهم أن يتطهروا في كل صلاة كما افترضت على الأنبياء أي أن يكونوا
طاهرين أو أن هذا أي وجوب الطهر لكل صلاة كان في صدر الإسلام ولم ينسخ إلا
في فتح مكة كما سيأتي
ويخالف كون الوضوء من خصائص هذه الأمة ما رواه
الطبراني في الأوسط بسند فيه ابن لهيعة عن بريدة قال دعا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ واحدة واحدة فقال هذا الوضوء الذي لا يقبل
الله الصلاة إلا به ثم توضأ ثنتين ثنتين فقال هذا وضوء الأمم قبلكم ثم
توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلى فإن هذا يفيد
أن الوضوء كان للأمم السابقة لكن مرتين ولأنبيائهم كان ثلاثا وعليه فالخاص
بهذه الأمة التثليث كوضوء الأنبياء أي كما اختصت هذه الأمة عمن عداها
بالغرة والتحجيل
وعلى هذا يحمل قول ابن حجر الهيتمي إن الوضوء من خصائص هذه الأمة بالنسبة
لبقية الأمم لا لأنبيائهم
وفي كلام ابن عبدالبر قيل إن سائر الأمم كانوا يتوضئون ولا أعرفه من وجه
صحيح وفي كلام ابن حجر والذي من خصائصنا إما الكيفية المخصوصة أو الغرة
والتحجيل هذا كلامه وهو يفيد أن كون الكيفية المخصوصة ومنها الترتيب من
خصائصنا غير مقطوع به بل الأمر فيه على الإحتمال
ولا يخفى أن
الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم هذا وضوء الأمم يدل على الترتيب فقد
أستدل أئمتنا على وجوب الترتيب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ إلا
مرتبا باتفاق أصحابه ولو كان جائزا لتركه في بعض الأحايين وما اعترض به
على دعوى الإتفاق
بأنه جاء عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما أنه وصف وضوءه صلى الله عليه وسلم فتوضأ فغسل وجهه
ثم يديه ثم رجليه ثم مسح رأسه أجيب عنه بضعف هذه الرواية
وعلى تقدير
صحتها يجوز أن يكون ابن عباس نسي مسح الرأس فذكره بعد غسل رجليه فمسحه ثم
أعاد غسل رجليه والراوي عن ابن عباس لم يقف على إعادة ابن عباس غسل رجليه
وفي التوراة في صفة أمته صلى الله عليه وسلم دويهم في مساجدهم كدوي النحل
وفي رواية أصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل رهبان بالليل ليوث
بالنهار وإذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها
كتبت له عشر حسنات وإذا هم أحدهم بسيئة فلم يعلمها لم تكتب وإن عملها كتبت
عليه سيئة واحدة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول
أي وهو التوراة أو جنس الكتب السابقة والكتاب الآخر أي وهوالقرآن
وروى الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح قال الله تعالى لعيسى يا عيسى إني
باعث من بعدك نبيا أمته إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا وإن أصابهم ما
يكرهون صبروا وأحتسبوا ولا حلم ولا علم قال كيف يكون ذلك لهم ولاحلم
ولاعلم قال أعطيهم من حلمي وعلمي وحينئذ يكون المراد ولا حلم ولا علم لهم
كامل وأن الله تعالى يكمل علمهم وحلمهم من علمه وحلمه ويدل لذلك ما ذكره
بعضهم أن هذه الأمة آخر الأمم فكان العلم والحلم الذي قسم بين الأمم كما
شهد به حديث إن الله قسم بينكم أخلاقكم قد دق جدا فلم يدرك هذه الأمة إلا
يسير من ذلك مع قصر أعمارهم فأعطاهم الله من حلمه وعلمه وجاء أنهم مسمون
في التوارة صفوة الرحمن وفي الإنجيل حلماء علماء أبرار أتقياء كأنهم من
الفقه أنبياء
وفي الطبراني أن عمر قال لكعب الأحبار كيف تجدني يعني
في التوراة قال خليفة قرن من حديد أمير شديد لا تخاف في الله لومة لائم
وزاد عن جواب السؤال قوله ثم الخليفة من بعدك يقتله أمة ظالمون له ثم يقع
البلاء بعد
وفي صحف شعياء اسمه صلى الله عليه وسلم ركن المتواضعين
وفيها إني باعث نبيا أميا أفتح به آذنا صما وقلوبا غلفا وأعينا عميا مولده
بمكة ومهاجرته بطيبة وملكه بالشام رحيما بالمؤمنين يبكى للبهيمة المثقلة
ويبكى لليتيم في حجر الأرملة لو يمر إلى
جنب
السراج لم يطفئه من سكينته ولو يمشي على القضيب الرعراع يعني اليابس لم
يسمع من تحت قدميه إلى آخر الرواية فإن فيها طولا وقد ساقها الجلال
السيوطي في الخصائص الكبرى وشعياء هذا كان بعد داود وسليمان وقبل زكريا
ويحيى عليهم الصلاة والسلام
ولما نهى بني إسرائيل عن ظلمهم وعتوهم
طلبوه ليقتلوه فهرب منهم فمر بشجرة فانفلقت له ودخل فيها وأدركه الشيطان
فأخذ بهدبة ثوبه فأبرزها فلما رأوا ذلك جاءوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة
فنشروها ونشروه معها
وكان من جملة الرسل الذين عناهم الله تعالى
بقوله { وقفينا من بعده } أي موسى { بالرسل } وهم سبعة وهو ثالث تلك الرسل
السبعة أي وهو المبشر بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما وسلم فقال يخاطب بيت
المقدس لما شكا له الخراب وإلقاء الجيف فيه أبشر يأتيك راكب الحمار يعني
عيسى وبعده راكب الجمل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وتقدم في وصفه صلى
الله عليه وسلم أنه يركب الحمار والبعير
وقد يقال لا مخالفة لأنه
يجوز أن يكون عيسى اختص بركوب الحمار بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم فإنه
كان يركبهما هذا تارة وهذا أخرى فليتأمل ومن جملتهم أرمياء قيل وهو الخضر
والله أعلم
واسمه صلى الله عليه وسلم في الزبور حاط حاط والفلاح
الذي يمحق الله به الباطل وفارق وفاروق أي يفرق بين الحق والباطل وهو كما
تقدم معنى فارقليط أو بارقليط بالفاء في الأول والموحدة في الثاني
وقيل معناه الذي يعلم الأشياء الخفية وفي الينبوع ومن الألفاظ التي رضوها
لأنفسهم يعنى النصارى وترجموها على إختيارهم أن المسيح عليه الصلاة
والسلام قال إني أسأل الله أن يبعث إليكم بارقليط آخر يكون معكم إلى الأبد
وهو يعلمكم كل شيء ويفسر لكم الأسرار وهو يشهد لي كما شهدت له ويكون خاتم
النبيين ولم يشهد له بالبراءة والصدق في النبوة بعده إلا محمد صلى الله
عليه وسلم
وقد ذكر صاحب الدر المنظم بإسناده أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه يا عمر أتدري من أنا أنا الذي بعثني
الله في التوراة لموسى وفي الإنجيل لعيسى وفي الزبور لداود ولا فخر أي لا
أقول ذلك على سبيل الإفتخار بل على
سبيل
التحدث بالنعمة يا عمر أتدري من أنا أنا اسمي في التوراة أحيد وفي الإنجيل
البارقليط وفي الزبور حمياطا وفي صحف إبراهيم طاب طاب ولا فخر
وذكر
صاحب كتاب شفاء الصدور في مختصره أن من فضائله صلى الله عليه وسلم ما رواه
مقاتل بن سليمان قال وجدت مكتوبا في زبور داود إني أنا الله لا إله إلا
أنا ومحمد رسولي ووصف في مزامير داود بأنه يقوى الضعيف الذي لاناصر له
ويرحم المساكين ويبارك عليه في كل وقت ويدوم ذكره إلى الأبد وبالجبار
ففيها تقلد أيها الجبار سيفك
فإن قيل قال الله تعالى { وما أنت
عليهم بجبار } أجيب بأن الأول هو الذي يجبر الخلق إلى الحق والثاني هو
المتكبر وفيها يا دواد سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقا لا أغضب
عليه أبدا ولا يعصيني أبدا وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما
تأخر أي على فرض وقوع ذلك الذنب والمراد به خلاف الأولى من باب حسنات
الأبرار سيئات المقربين أي ما يعد حسنة بالنسبة لمقام الأبرار قد يعد سيئة
بالنسبة لمقام المقربين لعلو مقامهم وارتفاع شأنهم وأمته مرحومة يأتون يوم
القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء
وفي بعض مزامير داود إن الله أظهر من صهيون إكليلا محمودا وصهيون اسم مكة
والإكليل الإمام الرئيس وهو محمد صلى الله عليه وسلم
وفي صحف شيث أخوناخ ومعناه صحيح الإسلام وهذا يدل على أن مزامير داود نسخة
مختلفة بالزيادة والنقص
وفي صحف إبراهيم اسمه يوذموذ وقيل إن ذلك في التوراة ولا مانع من وجوده
فيهما وتقدم أنه في صحف إبراهيم اسمه طاب طاب ولا مانع من وجود الوصفين في
تلك الصحف
وفي كتاب شعيب عليه السلام عبدي الذي يثبت شأنه أنزل عليه
وحيي فيظهر في الأمم عدلي لا يضحك أي مع رفع الصوت ومن ثم قال ولا يسمع
صوته في الأصوات لأن ضحكه كان ابتسم يفتح العيون العور والآذان الصم ويحيى
القلوب الغلف وما لا أعطيه أحدا وفيه أيضا مشقح بالشين المعجمة والقاف
والحاء المهملة أي زاهي يحمدالله حمدا جديدا أي مخترعا لم يسبقه إليه أحد
يأتي من أقصى
الأرض لعل المراد به مكة
به تفرح البرية وسكانها وهو ركن المتواضعين وهو نور الله الذي لا يطفأ
سلطانه على كتفه وذكر البرية وسكانها إشارة لدولة العرب والمراد بسلطانه
على كتفه خاتم النبوة لأنه علامة وبرهان على نبوته
أي وذكر ابن ظفر
أن في بعض كتب الله المنزلة إني باعث رسولا من الأميين أسدده بكل جميل
وأهب له كل خلق كريم وأجعل الحكمة منطقه والصدق والوفاء طبيعته والعفو
والمعروف خلقه والحق شريعته والعدل سيرته والإسلام ملته أرفع به من
الوضيعة وأهدى به من الضلالة وأؤلف به بين قلوب متفرقة وأهواء مختلفة
وأجعل أمته خير الأمم
وأما ما جاء مما يدل على وجوه اسمه الشريف أعنى لفظ محمد مكتوبا في
الأحجار والنبات والحيوان وغير ذلك بقلم القدرة فكثير
من ذلك ما جاء عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام لا
إله إلا الله محمد رسول الله قال المراد فص خاتمه
فعن عبادة بن
الصامت رضي الله تعالى عنه مرفوعا إن فص خاتم سليمان بن داوود كان سماويا
أي من السماء ألقى إليه فوضعه في خاتمه أي وكان به انتظام ملكه وكان نقشه
أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي وحينئذ يكون ما تقدم عن حابر
وما يأتي يجوز أن يكون روى بالمعنى وكان ينزعه إذا دخل الخلاء وإذا جامع
وكان عند نزعه يتنكر عليه أمر الناس ولم يجد من نفسه ما كان يجده قبل نزعه
وفي أنس الجليل كان نقش خاتم سليمان لا إله إلا الله وحده لا شريك له
محمد عبده ورسوله ووجد على بعض الحجارة القديمة مكتوب محمد تقي مصلح وسيد
أمين وفي جامع مدينة قرطبة بالمغرب عمود أحمر مكتوب فيه بقلم القدرة محمد
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما اقترف آدم الخطيئة قال يارب أسألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم
إلا غفرت لي قال وكيف عرفت محمدا وفي لفظ كما في الوفاء وما محمد ومن محمد
قال لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم
العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك
إلا أحب الخلق
إليك قال صدقت يا آدم
ولولا محمد لما خلقتك أي وفي لفظ كما في الشفاء قال آدم لما خلقتني رفعت
رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه
ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع أسمك فأوحى الله تعالى إليه
وعزتي وجلالي إنه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك
وفي الوفاء
عن ميسرة قلت يا رسول الله متى كنت نبيا قال لما خلق الله الأرض واستوى
إلى السماء فسواهن سبع سموات وخلق العرش كتب على ساق العرش محمد رسول الله
خاتم الأنبياء وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء وكتب اسمي أي موصوفا
بالنبوة أو بما هو أخص منها وهو الرسالة على ما هو المشهور على الأبواب
والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد أي قبل أن تدخل الروح
جسده فلما أحياه الله نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله تعالى أنه سيد
ولدك فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا بإسمي إليه أي فقد وصف صلى الله
عليه وسلم بالنبوة قبل وجود آدم
وفي أيضا عن سعيد بن جبير اختصم ولد
آدم أي الخلق أكرم على الله تعالى فقال بعضهم آدم خلقه الله بيده وأسجد له
ملائكته وقال آخرون بل الملائكة لأنهم لم يعصوا الله عز وجل فذكروا ذلك
ذلك لآدم فقال لما نفخ في الروح لم تبلغ قدمي حتى استويت جالسا فبرق لي
العرش فنظرت فيه محمد رسول الله فذاك أكرم الخلق على الله عز وجل قيل وكان
يكنى آدم بأبي محمد وبأبي البشر وظاهره أنه كان يكنى بذلك في الدنيا وتقدم
أنه يكنى بأبي محمد في الجنة
ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب أيضا
رضي الله تعالى عنه قال لكعب الأحبار رضي الله تعالى عنه أخبرنا عن فضائل
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مولده قال نعم يا أمير المؤمنين قرأت أن
إبراهيم الخليل وجد حجرا مكتوبا عليه أربعة أسطر الأول أنا الله لا إله
إلا أنا فاعبدني والثاني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسولي طوبى لمن آمن
به واتبعه والثالث أنا الله لا إله إلا أنا الحرم لي والكعبة بيتي من دخل
بيتي أمن من عذابي ولينظر الرابع
أي وذكر بعضهم أن في سنة أربع
وخمسين وأربعمائة عصفت ريح شديدة بخراسان كريح عاد انقلب منها الجبال وفرت
منها الوحوش فظن الناس أن القيامة قد قامت وابتهلوا إلى الله تعالى فنظروا
فإذا نور عظيم قد نزل من السماء على جبل من تلك الجبال
ثم
تأملوا الوحوش فإذا هي منصرفة إلى ذلك الجبل الذي سقط فيه ذلك النور
فساروا معها إليه فوجدوا به صخرة طولها ذراع في عرض ثلاثة أصابع وفيها
ثلاثة أسطر سطر فيه لا إله إلا أنا فاعبدون وسطر فيه محمد رسول الله
القرشي وسطر ثالث فيه احذروا وقعة المغرب فإنها تكون من سبعة أو تسعة
والقيامة قد أزفت أي قربت
وجاء أن آدم عليه الصلاة والسلام قال طفت
السموات فلم أر في السموات موضعا إلا رأيت اسم محمد صلى الله عليه وسلم
مكتوبا عليه ولم أر في الجنة قصرا ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوب عليه ولقد
رأيت اسمه صلى الله عليه وسلم على نحور الحور العين وورق آجام الجنة وشجرة
طوبي وسدرة المنهى والحجب وبين أعين الملائكة وهذا الحديث قد حكم بعض
الحفاظ بوضعه
أي وقد قيل إن أول شيء كتب القلم في اللوح المحفوظ بسم
الله الرحمن الرحيم إني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسولي من استسلم
لقضائي وصبر على بلائي وشكر على نعمائي ورضي بحكمي كتبته صديقا وبعثته يوم
القيامة من الصديقين وفي روية مكتوب في صدر اللوح المحفوظ لا إله إلا الله
دينه الإسلام محمد عبده ورسوله فمن آمن بهذا أدخله الله الجنة
وفي
رواية لما أمر الله القلم أن يكتب ما كان وما يكون كتب على سرادق العرش لا
إله إلا الله محمد رسول الله يتأمل هذا فإنه إن كان المراد كما هو
المتبادر أن القلم لما أمر أن يكتب ما ذكر كان أول شيء كتبه على سرادق
العرش ما ذكر ثم تمم كتابة ما أمر به على ذلك كما كتب أول ما ذكر البسملة
في اللوح المحفوظ ثم تمم كتابة ما أمر به يلزم أن يكون القلم كتب ما كان
وما يكون في اللوح وعلى سرادق العرش
ومن ذلك ما جاء عن عمر بن
الخطاب أيضا رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إن آدم عليه
الصلاة والسلام قال وجدت اسم محمد صلى الله عليه وسلم على ورق شجرة طوبى
وعلى ورق سدرة المنتهى أي وعلى ورق قصب آجام الجنة ومن ثم قال السيوطي في
الخصائص الكبرى من خصائصه صلى الله عليه وسلم كتابة اسمه الشريف مع اسم
الله تعالى على العرش وفيها ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه
لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن ومكتوب اسمه صلى الله عليه وسلم على
سائر ما في الملكوت أي من السموات والجنان وما فيهن
وفي الخصائص الصغرى له أيضا ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم كتابة اسمه
الشريف على العرش وكل سماء والجنان وما فيها وسائر ما في الملكوت
أقول ولا يخالف هذا أي ما تقدم عن آدم ما جاء على تقدير صحته أن آدم لما
نزل إلى الأرض استوحش فنزل جبريل عليه السلام فنادى بالأذان الله أكبر
الله أكبر مرتين أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله
مرتين قال آدم من محمد قال جبريل هو أخر ولدك من الأنبياء لجواز أن يكون
آدم عليه السلام أراد أن يستثبت هل هو محمد الذي رأى اسمه مكتوبا وأخبر
بأنه آخر الأنبياء من ذريته وأنه لولا ما خلقه واستشفع به أو غيره فليتأمل
وإنما قلنا على تقدير صحته لأنه سيأتي في بدء الأذان أن في سند هذا الحديث
مجاهيل
وذكر صاحب كتاب شفاء الصدور في مختصره عن علي بن أبي طالب
رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال
يا محمد وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت أرضي ولا سمائي ولا رفعت هذه الخضراء
لا بسطت هذه الغبراء وفي رواية عنه ولا خلقت سماء ولا أرضا ولا طولا ولا
عرضا
وبهذا يرد على من رد على القائل في مدحه صلى الله عليه وسلم ** لولاه ما
كان لا فلك ولا فلك ** كلا ولا بان تحريم وتحليل **
بأن قوله لولاه ما كان لافلك ولا فلك مثل هذا يحتاج إلى دليل ولم يرد في
الكتاب ولا في السنة ما يدل على ذلك فيقال له بل جاء في السنة ما يدل على
ذلك والله أعلم
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال غزونا الهند فوقعت في
غيضة فإذا فيها شجر عليه ورق أحمر مكتوب عليه بالبياض لا إله إلا الله
محمد رسول الله
وعن بعضهم رأيت في جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كبير
طيب الرائحة مكتوب عليه بالحمرة والبياض في الخضرة كتابة بينة واضحة خلقة
ابتدعها الله تعالى بقدرته في الورقة ثلاثة أسطر الأول لا إله إلا الله
والثاني محمد رسول الله والثالث إن الدين عند الله الإسلام
وعن بعض
آخر قال دخلت بلاد الهند فرأيت في بعض قراها شجر ورد أسود ينفتح عن وردة
كبيرة سوداء طيبة الرائحة مكتوب عليها بخط أبيض لا إله إلا الله محمد رسول
الله أبو بكر الصديق عمر الفاروق فشككت في ذلك وقلت إنه معمول فعمدت إلى
وردة
كبيرة لم تفتح فرأيت فيها كما رأيت في سائر الورق وفي البلد منها
شيء كثير وأهل تلك البلد يعبدون الحجارة
ونقل ابن مرزوق في شرح البردة عن بعضهم قال عصفت بنا ريح ونحن في لجج بحر
الهند فأرسينا في جزيرة فرأينا فيها وردا أحمر ذكي الرائحة مكتوب عليه
بالأصفر براءة من الرحمن الرحيم إلى جنات النعيم لا إله إلا الله محمد
رسول الله
أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال رأيت في بلاد الهند شجرة
تحمل ثمرا يشبه اللوز له قشران فإذا كسر خرج منه ورقة خضراء مطوية مكتوب
عليها بالحمرة لا إله إلا الله محمد وسول الله كتابة جلية وهم يتبركون
بتلك الشجرة ويستسقون بها إذا منعوا الغيث هذا وفي مزيل الخفاء الإقتصار
على لا إله إلا الله أي وحينئذ لا يكون شاهدا على ما ذكرنا
أي ومن
ذلك ما حكاه الحافظ السلفي عن بعضهم أن شجرة ببعض البلاد لها أوراق خضر
وعلى كل ورقة مكتوب بخط أشد خضرة من لون الورق لا إله إلا الله محمد رسول
الله وكان أهل تلك البلاد أهل أوثان وكانوا يقطعونها ويبقون أثرها فترجع
إلى ما كانت عليه في أقرب وقت فأذابوا الرصاص وجعلوه في أصلها فخرج من حول
الرصاص أربع فروع على كل فرع لا إله إلا الله محمد رسول اله فصاروا
يتبركون ويستشفون بها من المرض إذا اشتد ويخلقونها بالزعفران وأجل الطيب
ومن ذلك أنه وجد في سنة سبع أو تسع وثمانمائة حبة عنب فيها بخط بارع بلون
أسود محمد ومن ذلك ما ذكره بعضهم أنه اصطاد سمكة مكتوب على جنبها الأيمن
لا إله إلا الله وعلى جنبها الأيسر محمد رسول الله قال فلما رأيتها
ألقيتها في النهر إحتراما لها
وعن بعض آخر قال ركبت بحر الغرب ومعنا
غلام معه سنارة فأدلاها في البحر فاصطاد سمكة قدر شبر بيضاء فنظرنا فإذا
مكتوب بالأسود على أذنها الواحد لا إله إلا الله وفي قفاها وخلف أذنها
الأخرى محمد رسول الله فقذفناها
وعن بعضهم أنه ظهرت له سمكة بيضاء وإذا على قفاها مكتوب بالأسود لا إله
إلا الله محمد رسول الله
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم وإذا بطائر في فمه لوزة خضراء فألقاها فأخذها النبي صلى الله عليه
وسلم فوجد فيها دودة
خضراء مكتوب عليها
بالأصفر لا إله إلا الله محمد رسول الله ومن ذلك ما حكاه بعضهم أنه كان
بطبرستان قوم يقولون لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا يقرون لمحمد صلى
الله عليه وسلم بالرسالة وحصل منهم افتتان ففي يوم شديد الحر ظهرت سحابة
شديدة البياض فلم تزل تنشأ حتى أخذت ما بين الخافقين وأحالت بين السماء
والبلد فلما كان وقت الزوال ظهر في السحابة بخط واضح لا إله إلا الله محمد
وسول الله فلم تزل كذلك إلى وقت العصر فتاب كل من كان افتتن وأسلم أكثر من
كان بالبلد من اليهود والنصارى
ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي
الله تعالى عنه قال بلغني في قول الله تعالى { وكان تحته كنز لهما } قال
كان ولوحا من ذهب وقيل لوح من رخام مكتوب فيه عجبا لمن أيقن بالموت أي
بأنه يموت كيف يفرح عجبا لمن أيقن بالحساب اي أنه يحاسب كيف يغفل عجبا لمن
أيقن بالقضاء أي أن الأمور بالقضاء والقدر كيف يحزن عجبا لمن يرى الدنيا
وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله
وروى البيهقي وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن الكنز الذي
ذكره الله تعالى في كتابة لوح من ذهب فيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن
أيقن بالقدر ثم ينصب أي يتعب عجبت لمن ذكر النار ثم يضحك عجبت لمن ذكر
الموت ثم غفل لا إله إلا الله محمد رسول الله وفي لفظ لا إله إلا أنا محمد
عبدي ورسولي
وفي تفسير القاضي البيضاوي عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف
يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق أي أن الله رازقه كيف ينصب أي يتعب وعجبت لمن
يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف
الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله
أقول قد يقال يجوز أن يكون ما ذكر أولا في أحد وجهي ذلك اللوح وما ذكر
ثانيا في الوجة الثاني أو أن بعض الرواة زاد وبعضهم نقص وبعضهم روى
بالمعنى وحفظ ذلك الكنز لأجل صلاح أبيهما وكان تاسع أب لهما
وقد قال
محمد بن المنكدر إن الله يحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وبقعته التي
هو فيها والدويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله وستره
ويذكر أن بعض العلوية هم هرون الرشيد بقتله فلما دخل عليه أكرمه وخلى سبيله
فقيل له بماذا دعوت حتى نجاك الله فقال قلت يا من حفظ الكنز على الصبيين
لصلاح أبيهما احفظني منه لصلاح آبائي كذا في العرائس والله أعلم
ومن ذلك ما جاء عن جابر رضي الله تعالى عنه قال مكتوب بين كتفي آدم محمد
رسول الله خاتم النبيين
أي وذكر بعضهم أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا على أحد جنبيه مكتوب لا
إله إلا الله وعلى الآخر محمد رسول الله أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال ولد
عندي في عام أربعة وسبعين وستمائة جدى أسود غرته بيضاء على شكل الدائرة
وفيها مكتوب محمد بخط في غاية الحسن والبيان
وما حكاه بعضهم قال
شاهدت ببلدة من بلاد إفريقية بالمغرب رجلا ببياض عينه اليمنى من أسفل
مكتوب بعرق أحمر كتابة مليحة محمد رسول الله
وذكر الشيخ عبدالوهاب
الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته في كتابه لواقح الأنوار القدسية في
قواعد السادة الصوفية وفي يوم كتابتي لهذا الموضع رأيت علما من أعلام
النبوة وذلك أن شخصا أتاني برأس خروف شواها وأكلها وأراني فيها مكتوبا بخط
إلهي على الجبين لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق
يهدى به من يشاء يهدي به من يشاء قال الشيخ عبدالوهاب وتكرير ذلك لحكمة
فإن الله لا يسهو هذا كلامه وقد يقال لعل الحكمة التأكيد لعلو مقام
الهداية كيف وهو المجانب لمقام الضلالة والغواية
وعن الزهري قال
شخصت إلى هشام بن عبدالملك فلما كنت بالبلقاء رأيت حجرا مكتوبا عليه
بالعبرانية فأرشدت إلى شيخ يقرؤه فلما قرأه ضحك وقال أمر عجيب مكتوب عليه
باسمك اللهم جاء الحق من ربك بلسان عربي مبين لا إله إلا الله محمد رسول
الله وكتبه موسى بن عمران
& باب سلام الحجر والشجر عليه صلى الله عليه وسلم قبل
مبعثه
عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعرف حجرا بمكة كان
يسلم على قبلي أن أبعث إني لأعرفه الآن قال جاء في بعض الروايات أن هذا
الحجر هو الحجر الأسود أي وقيل غيره وأنه هو الذي في زقاق بمكة يعرف بزقاق
الحجر أي ولعله غير الحجر الذي به أثر المرفق ذكر أنه صلى الله عليه وسلم
اتكأ عليه بمرفقه وهوالذي يقال له زقاق المرفق وغير الحجر الذي به أثر
الأصابع
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله تعالى
كرامته بالنبوة كان إذا خرج لحاجة أي لحاجة الإنسان أبعد حتى لا يرى ببناء
ويفضى إلى الشعاب وبطون الأودية فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال الصلاة
والسلام عليك يا رسول الله وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا
هو إلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله ** لم يبق من حجر صلب ولا شجر ** إلا
وسلم بل هناه ما وهبا **
وإلى ذلك يشير أيضا صاحب الهمزية بقوله ** والجمادات أفصحت بالذي أخ ** رس
عنه لأحمد الفصحاء **
أي والجمادات التي لا روح فيها نطقت بكلام فصيح لا تلعثم فيه أي بالشهادة
له صلى الله عليه وسلم بالرسالة ولم تنطق به أهل الفصاحة والبلاغة وهم
الكفار من قريش وغيرهم
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال كنت مع النبي
صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر
إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله
أقول وإلى تسليم الحجر قبل
البعثة يشير الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله ** وما جزت
بالأحجار إلا وسلمت ** عليك بنطق شاهد قبل بعثة **
وأما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما أوحى إلى جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول
الله وما ذكره بعضهم أن الجن قالوا له صلى الله عليه وسلم بمكة من يشهد
أنك رسول الله قال تلك الشجرة ثم قال لها من أنا فقالت رسول الله فليس من
المترجم له
وفي الخصائص الصغرى وخص بتسليم الحجر وبكلام الشجر وبشهادتهما له بالنبوة
وإجابتهما دعوته
وفي كلام السهيلي يحتمل أن يكون نطق الحجر والشجر كلاما مقرونا بحياة وعلم
ويحتمل أن يكون صوتا مجردا غير مقترن بحياة وعلم وعلى كل هو علم من أعلام
النبوة
وفي كلام الشيخ محيى الدين ابن العربي أكثر العقلاء بل كلهم
يقولون عن الجمادات لا تعقل فوقفوا عند بصرهم والأمر عندنا ليس كذلك فإذا
جاءهم عن نبي أو ولي أن حجرا كلمه مثلا يقولون خلق الله فيه العلم والحياة
في ذلك الوقت والأمر عندنا ليس كذلك بل سر الحياة سار في جميع العالم
وقد ورد أن كل شيء سمع صوت المؤذن من رطب ويابس يشهد له ولا يشهد إلا من
علم وأطال في ذلك وقال قد أخذ الله بأبصار الإنس والجن عن إدراك حياة
الجماد إلا من شاء الله كنحن وأضرابنا فإنا لا نحتاج إلى دليل في ذلك لكون
الحق تعالى قد كشف لنا عن حياتها عينا وأسمعنا تسبيحها ونطقها وكذلك
إندكاك الجبل لما وقع التجلي إنما كان ذلك منه لمعرفته بعظمة الله عز وجل
ولولا ما عنده من العظمة لما تدكدك والله أعلم & باب بيان حين
المبعث
وعموم بعثته صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق لما بلغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله رحمه للعالمين وكافة للناس
أجمعين وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به
والتصديق له والنصر على من خالفه وأن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم
أي فهم وأممهم من جملة أمته صلى الله عليه وسلم كما سيأتي عن السبكى
فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
على رأس الأربعين قال وهذا هو المشهور بين الجمهور من أهل السير والعلم
بالأثر وقيل بزيادة يوم وقيل بزيادة عشرة أيام وقيل بزيادة شهرين وقيل
بزيادة سنتين وهو شاذ وأكثر منه شذوذا ما قيل إنه بزيادة ثلاث سنين وما
قيل إنه بزيادة خمس سنين قال بعضهم والأربعون هي سن الكمال ونهاية بعث
الرسل أي لا يرسلون دونها ومن ثم قال في الكشاف ويروى أنه لم يبعث نبي إلا
على رأس أربعين سنة هذا كلام الكشاف وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى
السماء وهو ابن ثلاث أو أربع وثلاثين سنة أي ومعلوم أنه دعا إلى الله قبل
ذلك فهو قول شاذ حكاه وهب بن منبه عن النصارى أ هـأي وعليه جرى غير واحد
من المفسرين بل قال في ينبوع الحياة لم يبلغني أن أحدا من المفسرين ذكر في
مبلغ سنه إذ رفع أكثر من ثلاث وثلاثين سنة هذا كلامه
وفي الهدى وأما
ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنه فهذا لا يعرف
به أثر متصل يجب المصير إليه هذا كلامه ويوافق ما تقدم عن المفسرين وما في
العرائس ولما تمت له يعنى عيسى عليه الصلاة والسلام ثلاثون سنة أوحى الله
تعالى إليه أن يبرز لناس ويدعوهم ويضرب الأمثال لهم ويداوي المرضى والزمني
والعميان والمجانين ويقمع الشياطين ويذلهم ويدحرهم ففعل ما أمر به وأظهر
المعجزات فأحيا ميتا يقال له عازر بعد ثلاثة ايام من موته
وعبارة
الجلال المحلي في قطعة التفسير أحيا عيسى عليه الصلاة والسلام أربعة عازر
صديقا له وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح هذا كلامه وذكر البغوي قصة
كل واحد فراجعه وكان عيسى عليه الصلاة والسلام يمشى على الماء ومكث في
الرسالة ثلاث سنوات ثم رفع ويوافق ذلك أيضا قول ابن الجوزى وأما حديث وما
من نبي إلا نبي بعد الأربعين فموضوع لأن عيسى عليه الصلاة والسلام نبئ
ورفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة أي نبيء وهو ابن ثلاثين سنة
ورفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة بل قيل نبىء وهو طفل فاشتراط الأربعين في
حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس بشيء هذا كلامة أي وفيه أن هذا
بمجرده لا يدل على وضع الحديث ويوافقه أيضا قول القاضي البيضاوي ونبىء نوح
وهو ابن خمسين سنة وقيل
أربعين ويوافقه
أيضا قول بعضهم ومما يدل على أن بلوغ الأربعين ليس شرطا للنبوة وقصة سيدنا
يحيى صلوات الله وسلامه عليه بناء على أن الحكم في قوله تعالى { وآتيناه
الحكم صبيا } النبوة لا الحكمة وفهم التوراة كما قيل بذلك بل أحكم إليه
عقله في صباه واستنبأه قيل كان ابن سنتين أو ثلاث
ولما ولى الخلافة
المقتدر وهو غير بالغ صنف الإمام الصولي له كتابا فيمن ولى الأمر وهو غير
بالغ واستدل على جواز ذلك بأن الله بعث يحيى بن زكريا نبيا وهو غير بالغ
وذكر فيه كل من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم من الصبيان قال بعضهم
وهو كتاب حسن فيه فوائد كثيرة
وكان ذبح يحيى قبل رفع عيسى عليهما الصلاة والسلام بسنة ونصف سنة
ومما يدل على ما تقدم عن الهدى أي من إنكار أن عيسى عليه الصلاة والسلام
رفع وله ثلاث وثلاثون سنة قوله بعضهم الأحاديث الصحيحة تدل على أنه إنما
رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة من تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم في
مرض موته لإبنته فاطمة رضي الله تعالى عنها أخبرني جبريل أنه لم يكن نبي
إلا عاش نصف عمر الذل كان قبله وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة
سنة ولا أراني إلا ذاهبا على رأس الستين وفي الجامع الصغير ما بعث الله
نبيا إلا عاش نصف ما عاش الذي قبله وعلى كون كل نبي عاش نصف ما عاش النبي
الذي قبله يشكل أن نوحا كان أطول الأنيباء عمرا ومن ثم قيل له كبير
الأنبياء وشيخ المرسلين وهو أول من تنشق عنه الأرض بعد نبينا صلى الله
عليه وسلم ثم رأيت أن الحافظ الهيتمي ضعف حديث ما بعث الله نبيا إلا عاش
نصف ما عاش النبي الذي قبله وقال العماد بن كثير إنه غريب جدا وعن عمرو
ابن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك قام من
الليل يصلى فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه أي ينتظرون فراغه من الصلاة لأن
نزول { والله يعصمك من الناس } كان قبل هذا حتى إذا صلى وانصرف إليهم قال
لهم لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي زاد في رواية لا أقولهن
فخرا أما أولاهن فأرسلت إلى الناس كلهم عامة أي من في زمنه وغيرهم ممن
تقدم أو تأخر أي وللشجر والحجر إلى آخر ما يأتي وكان من قبلي وفي لفظ وكان
كل نبي إنما يرسل إلى قومه أي جميع أهل زمنه أو جماعة منهم خاصة ومن الأول
نوح فإنه كان مرسلا لجميع من
كان في زمنه من أهل الأرض ولما أخبر بأنه لا يؤمن منهم إلا من
آمن معه وهم أهل السفينة وكانوا ثمانين أربعين رجلا وأربعين امرأة
وفي عوارف المعارف أصحاب السفينة كانوا أربعمائة وقد يقال من الآدميين
وغيرهم فلا مخالفة دعا على من عدا من ذكر بإستئصال العذاب لهم فكان
الطوفان الذي كان به هلاك جميع أهل الأرض إلا من آمن ولو لم يكن مرسلا
إليهم ما دعا عليهم بسبب مخالفتهم له في عبادة الأصنام لقوله تعالى { وما
كنا معذبين } أي حتى في الدنيا { حتى نبعث رسولا }
وقد ثبت أن نوحا
أول الرسل أي لمن يعبد الأصنام لأن عبادة الأصنام أول ما حدثت في قومه
وأرسله الله إليهم ينهاهم عن ذلك وحينئذ لا يخالف كون أول الرسل آدم
وأرسله الله تعالى إلى أولاده بالإيمان بالله تعالى وتعليم شرائعه وذكر
بعضهم أنه كان مرسلا لزوجته حواء في الجنة لأن الله تعالى أمره أن يأمرها
وينهاها في ضمن أخباره بأمره ونهيه بقوله تعالى { يا آدم اسكن أنت وزوجك
الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة } وذلك عين الإرسال
كما ادعاه بعضهم
فعلم أن عموم رسالة نوح عليه الصلاة والسلام لجيمع
أهل الأرض في زمنه لا يساوي عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم لما علمت
أن رسالته عامة حتى لمن يوجد بعد زمنه وحينئذ يسقط السؤال وهو لم يبق بعد
الطوفان إلا مؤمن فصارت رسالة نوح عليه الصلاة والسلام عامة ويسقط جواب
الحافظ ابن حجر عنه بأن هذا العموم الذي حصل بعد الطوفان لم يكن من أصل
بعثته بل طرأ بعد الطوفان بخلاف رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قيل
كان بين الدعوة والطوفان مائة عام وقد حققنا فيما سبق أن آدم ومن بعده دعا
إلى الإيمان بالله تعالى وعدم الإشراك به إلا أن الإشراك به وعبادة
الأصنام اتفق أنه لم يقع إلا زمن نوح ومن بعده
وأما قول اليهود أو
بعضهم وهم العيسوية طائفة من اليهود أتباع عيسى الأصفهاني إنه صلى الله
عليه وسلم إنما بعث للعرب خاصة دون بني إسرائيل وإنه صادق ففاسد لأنهم إذا
سلموا أنه رسول الله وأنه صادق لا يكذب لزمهم التناقض لأنه ثبت بالتواتر
عنه صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله لكل الناس
أقول قال بعضهم ولا ينافيه قوله تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان
قومه }
لأنه
لا يدل على اقتصار رسالته عليهم بل على كونه متكلما بلغتهم ليفهموا عنه
أولا ثم يبلغ الشاهد الغائب ويحصل الإفهام لغير أهل تلك اللغة من الأعاجم
بالتراجم الذين أرسل إليهم فهو صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الكافة وإن
كان هو وكتابه عربيين كما كان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام مبعوثين
لبني إسرائيل بكتابيهما العبراني أي وهو التوراة والسرياني وهو الإنجيل مع
أن من جملتهم جماعة لا يفهمون بالعبرانية ولا بالسريانية كالأروام فإن
لغتهم اليونانية والله أعلم
وأشار إلى الثانية من الخمس بقوله ونصرت
بالرعب على العدو ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر أي أمامه وخلفه بملأ مني
رعبا أي يقذف الرعب في قلوب أعدائه صلى الله عليه وسلم وجعل الغاية شهرا
لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أي المحاربين له أكثر من شهر
أي وجاء أن سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام ذهب هو وجنده من الإنس والجن
وغيرهما إلى الحرم وكان يذبح كل يوم خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف ثور وعشرين
ألف شاة لأن مساحة جنده كانت مائة فرسخ قال لمن حضر من أشراف جنده هذا
مكان يخرج منه نبي عربي يعطى النصر على جميع من ناوأه وتبلغ هيبته مسيرة
شهر القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم ثم
قالوا فبأي دين يا نبي الله يدين قال بدين الحنيفية فطوبى لمن آمن به
قالوا كم بين خروجه وزماننا قال مقدار ألف عام
وأشار إلى الثالثة
بقوله وأحلت لي الغنائم كلها وكان من قبلي أي من أمر الجهاد منهم يعطونها
ويحرمونها أي لأنهم كانوا يجمعونها أي والمراد ما عدا الحيوانات من
الأمتعة والأطعمة والأموال فإن الحيوانات تكون ملكا للغانمين دون الأنبياء
ولا يجوز للإنبياء أخذ شيء من ذلك بسبب الغنيمة كذا في الوفاء وجاء في بعض
الروايات وأطعمت أمتك الفىء ولم أحله لأمة قبلها أي والمراد بالفيء ما يعم
الغنيمة كما أنه قد يراد بالغنيمة ما يعم الفيء هذا وفي بعض الروايات
وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجىء النار أي نار بيضاء مع السماء فتأكله
أي حيث لا غلول وأمرت أن أقسمه في فقراء أمتي وفي تكملة تفسير الجلال
السيوطي لتفسير الجلال المحلي أن ذلك لم يعهد في زمن عيسى عليه الصلاة
والسلام ولعله لم يكن ممن أمر بالجهاد فلا يخالف ما سبق
وأشار إلى الرابعة بقوله وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني
الصلاة تمسحت أي تيممت حيث لا ماء وصليت فلا يختص السجود منها بموضع دون
غيره وكان من قبلي لا يعطون ذلك أي الصلاة في أي محل أدركتهم فيه إنما
كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم أي ولم يكن أحد منهم يتيمم لأن التيمم من
خصائصنا وفي رواية جابر ولم يكن أحد من الأنبياء يصلى حتى يبلغ محرابه
وجاء في تفسير قوله تعالى { واختار موسى قومه } الآيات من المأثور أن الله
تعالى قال لموسى أجعل لكم الأرض مسجدا فقال لهم موسى إن الله قد جعل لكم
الأرض مسجدا قالوا لا نريد أن نصلى إلا في كنائسنا فعند ذلك قال الله
تعالى { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } إلى قوله { المفلحون } أي
وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه أنه قيل إن عيسى عليه الصلاة
والسلام كان يسيح في الأرض يصلى حيث أدركته الصلاة ويحتاج إلى الجمع بين
هذا وبين ما تقدم من قوله لم يكن أحد من الأنبياء يصلى حتى يبلغ محرابه
إلا أن يقال لا يصلى مع أمته إلا في محرابه
وأما عيسى عليه الصلاة والسلام فخص بأنه كان يصلى حيث أدركته الصلاة
وسيأتي في الخصائص الكلام على ذلك
وأشار إلى الخامسة بقوله قيل لي سل فإن كل نبي قد سأل فأخرت مسألتي إلى
يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله وهي لإخراج من في قلبه
ذرة من الإيمان ليس له عمل صالح إلا التوحيد أي إخراج من ذكر من النار لأن
شفاعة غيره صلى الله عليه وسلم تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك قاله القاضي
عياض
أي وقد جاء في بيان من يشفع بإذن الله له في الشفاعة فلا يبقى
نبي ولا شهيد إلا شفع وفي رواية ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء
والصالحون والمؤمنون فيشفعهم الله عز وجل وقد جاء إن أول شافع جبريل ثم
إبراهيم ثم موسى ثم يقوم نبيكم رابعا لا يقوم بعد أحد فيما يشفع فيه
وفي الحديث آتى تحت العرش فأخر ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه
واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتي يا رب أمتى فيقال انطلق فمن كان
في قلبه مثقال حبة من بر أو شعير من إيمان وفي لفظ حبة من خردل وفي لفظ
أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل فأخرجه أي من النار فانطلق فأفعل أي
أخرجه من النار وأدخله الجنة
وله
صلى الله عليه وسلم شفاعة قبل هذه في إدخال أهل الجنة الجنة بعد مجاوزة
الصراط ففي الحديث فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدا فيأذن الله
لي في حمده وتمجيده ثم يقول ارفع رأسك يا محمد واشفع تشفع واسأل تعطه
فأقول يا رب شفعني في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة فيأذن الله تعالى في
الشفاعة إلى آخر ما تقدم
ومن هذا يعلم أن الشفاعة في الإخراج من
النار إنما تكون منه صلى الله عليه وسلم وهو في الجنة فما تقدم من قوله
آتى تحت العرش فأخر ساجدا إلى آخره إنما ذلك في الشفاعة في فصل القضاء
فهذا خلط من بعض الرواه أي خلط الشفاعة في الموقف التي هي الشفاعة في فصل
القضاء بالشفاعة بعد مجاوزة الصراط في دخول أهل الجنة الجنة وبالشفاعة بعد
دخول الجنة في إخراج أهل التوحيد من النار والشفاعة في فصل القضاء هي
المشار إليها في قوله صلى الله عليه وسلم وأعطيت الشفاعة فقد قال ابن دقيق
العيد الأقرب أن اللام فيها للعهد والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس
من هول الموقف أي وهذا هو المقام المحمود الذي يحمده ويغبطه فيه الأولون
والآخرون المعنى بقوله تعالى { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا }
وعن
حذيفة رضي الله تعالى عنه تجمع الناس في صعيد واحد فأول مدعو محمد صلى
الله عليه وسلم فيقول لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك
بين يديك ولك وإليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك
رب البيت
وقد هاجب فتنة كبيرة ببغداد بسبب هذه الآية أعنى { عسى أن
يبعثك ربك مقاما محمودا } فقالت الحنابلة معناه أن يجلسه الله تعالى على
عرشه وقال غيرهم بل هي الشفاعة العظمى في فصل القضاء فدام الخصام إلى أن
اقتتلوا فقتل كثيرون
وهذه الشفاعة إحدى الشفاعات الثلاث المعنية بقوله صلى الله عليه وسلم لي
عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن
وفي كلام بعضهم له صلى الله عليه وسلم تسع شفاعات أخر غير فصل القضاء جرى
في إختصاصه ببعضها خلاف وهي الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب ولا
عقاب قال النووي وجماعة هي مختصة به صلى الله عليه وسلم والشفاعة في أناس
استحقوا دخول النار فلا يدخلونها قال القاضي عياض وغيره ويشترك فيها من
يشاء
الله تعالى والشفاعة في أخراج من
أدخل النار من الموحدين وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان وهي مختصة به صلى
الله عليه وسلم والشفاعة في إخراج من أدخل منهم النار وفي قلبه أزيد من
ذرة من إيمان ويشاركه فيها الأنبياء والملائكة والمؤمنون وظاهر هذا السياق
أن المراد بمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلى آخره عام في أمته وغيرهم من
الأمم وهو يخالف قول بعضهم جاء في الصحيح فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا
إله إلا الله أي ومات على ذلك قال ليس ذلك لك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي
لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله
ولا يشكل على ذلك قوله صلى
الله عليه وسلم أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي وفي
رواية ثلثي أمتي الجنة أي بلا حساب ولا عذاب وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة
وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا فاخترت الشفاعة وعلمت أنها أوسع لهم
لأنا نقول المراد بالذين تنالهم شفاعته صلى الله عليه وسلم ممن مات لا
يشرك بالله شيئا خصوص أمته وأما من قيل له فيه ليس ذلك لك فهم الموحدون من
الأمم السابقة فليتأمل مع ما سبق من شفاعة الأنبياء والملائكة والمؤمنين
والشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وجوز النووي إختصاصها به صلى
الله عليه وسلم والشفاعة في تخفيف العذاب عن بعض الكفار كأبي طالب وأبي
لهب في كل إثنين بالنسبة لأبي لهب والشفاعة لمن مات بالمدينة الشريفة ولعل
المراد أنه لا يحاسب
قد أوصل ابن القيم شفاعاته صلى الله عليه وسلم
إلى أكثر من عشرين شفاعة وفي رواية أعطيت مالم يعطه أحد من الأنبياء نصرت
بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض أي وفي لفظ وبينا أنا نائم رأيتني أوتيت
مفاتيح خزائن الأرض فوضعت بين يدي ولا منافاة لأنه يجوز أنه أعطى ذلك يقظة
بعد أن أعطيه مناما وسميت أحمد أي ومحمدا أي لأن أحد من الأنبياء لم يسم
بذلك فهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم بالنسبة للأنبياء كذا في الخصائص
الصغرى وتقدم أن التسمية بأحمد من خصائصه صلى الله عليه وسلم على جميع
الناس وفي وصفه صلى الله عليه وسلم نفسه بما ذكر وقول عيسى عليه الصلاة
والسلام إني عبدالله الآية وقول سليمان عليه الصلاة والسلام { علمنا منطق
الطير وأوتينا من كل شيء } الآية هو الأصل في ذكر العلماء مناقبهم في
كتبهم وهذا مأخوذ من قوله تعالى { وأما بنعمة ربك فحدث } ومن قوله صلى
الله عليه وسلم
التحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر قال الله تعالى { لئن شكرتم لأزيدنكم
ولئن كفرتم إن عذابي لشديد }
صعد سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه المنبر فقال الحمدلله الذي صيرني ليس
فوقي أحد ثم نزل فقيل له فقال في ذلك فقال إنما فعلت ذلك إظهارا للشكر
وعن سفيان الثوري رحمه الله من لم يتحدث ينعمة الله فقد عرضها للزوال
والحق في ذلك التفصيل وهو أن من خاف من التحدث بالنعمة وإظهارها الرياء
فعدم التحدث بها وعدم إظهارها أولى ومن لم يخف ذلك فالتحدث بها وإظهارها
أولى أي وفي الشفاء أنه أحمد المحمودين وأحمد الحامدين ويوم القيامة يحمده
الأولون والآخرون لشفاعته لهم فحقيق أن يسمى محمدا وأحمد وتقدم أن هذا
يوافق ما تقدم عن الهدى أن أحمد مأخوذ من الفعل الواقع على المفعول
وقد جاء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا
الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي وجعلت
أمتي خير الأمم
قال القاضي البيضاوي وفي التسمية بالأسماء العربية
تنويه إلى تعظيم المسمى هذا كلامه وفي رواية لما أسرى بي إلى السماء قربني
ربي حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى قيل لي قد جعلت أمتك آخر الأمم
لأفضح الأمم عندهم أي بوقوفهم على أخبارهم ولا أفضحهم عند الأمم أي
لتأخرها عنهم وعليه فالضمير في دنا يعود إليه صلى الله عليه وسلم فالضمير
في دنا إلى آخره يعود إلى الله تعالى وهو معنى لطيف وفي رواية نحن الآخرون
من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق وفي رواية نحن
آخر الأمم وأول من يحاسب تنفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضى غرا محجلين من
أثر الطهور وفي رواية من آثار الوضوء فتقول الأمم كادت هذه الأمة أن تكون
أنبياء كلها هذا وفي رواية غرا من أثر السجود محجلين من أثر الوضوء وفي
رواية فضلت على الأنبياء بست أي ولا مخالفة بين ذكر الخميس أولا وبين ذكر
الست هنا لأنه يجوز أن يكون اطلع أولا على بعض ما اختص به ثم اطلع على
الباقي هذا على اعتبار مفهوم العدد ثم أشار إلى بيان الست بقوله صلى الله
عليه
وسلم أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض
طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافة والخلق يشمل الإنس والجن والملك
والحيوانات والنبات والحجر
قال الجلال السيوطي وهذا القول أي إرساله
للملائكة رجحته في كتاب الخصائص وقد رجحه قبلي الشيخ تقي الدين السبكي
وزاد أنه مرسل لجميع الأنبياء والأمم السابقة من لدن آدم إلى قيام الساعة
ورجحه أيضا البارزي وزاد أنه مرسل إلى جميع الحيوانات والجمادات وأزيد على
ذلك أنه أرسل إلى نفسه
وذهب جمع إلى أنه لم يرسل للملائكة منهم
الحافظ العراقي في نكته على ابن الصلاح والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع
ومشيت عليه في شرح التقريب وحكى الفخر الرازي في تفسيره والبرهان النسفي
في تفسيره فيه الإجماع هذا كلامه وبهذا الثاني أفتى والد شيخنا الرملي
وعليه فيكون قوله صلى الله عليه وسلم أرسلت للخلق كافة وقوله تعالى {
ليكون للعالمين نذيرا } من العام المخصوص أو الذي أريد به الخصوص
ولا يشكل عليه حديث سلمان إذا كان الرجل في أرض وأقام الصلاة صلى خلفه من
الملائكة ما لا يرى طرفاه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده لأنه يجوز أن لا
يكون ذلك صادرا عن بعثته إليهم ولا يشكل عليه ما ورد بعثت إلى الأحمر
والأسود لما تقدم أن المراد بذلك العرب والعجم وفي الشفاء وقيل الحمر
الإنس والسود الجان واستدل للقول الأول القائل بأنه أرسل للملائكة بقوله
تعالى { ومن يقل منهم } أي من الملائكة { إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم
} فهي إنذار للملائكة على لسانه صلى الله عليه وسلم في القرآن العظيم الذي
أنزل عليه فثبت بذلك إرساله إليهم ودعوى الإجماع منازع فيها فهي دعوى غير
مسموعة ثم رأيت الجلال السيوطي ذكر هذا الإستدلال وهو واضح وذكر تسعة أدلة
أيضا وهي لا تثبت المدعى الذي هو أن الملائكة يكلفون بشرعه صلى الله عليه
وسلم كما لا يخفى على من رزق نوع فهم بالوقوف عليها
فعلم أنه صلى
الله عليه وسلم مرسل لجميع الأنبياء وأممهم على تقدير وجوده في زمنهم لأن
الله تعالى أخذ عليهم وعلى أممهم الميثاق على الإيمان به ونصرته مع بقائهم
على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم فنبوته ورسالته أعم وأشمل وتكون شريعته في
تلك
الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم
ما جاءت به أنبياؤهم لأن الأحكام والشرائع تختلف بإختلاف الأشخاص والأوقات
قاله السبكي أي فجميع الأنبياء وأممهم من جملة أمته صلى الله عليه وسلم
فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه والذي نفسي
بيده لو أن موسى عليه الصلاة والسلام كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني
وأخرج أحمد وغيره عن عبدالله بن ثابت قال جاء عمر رضي الله تعالى عنه إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة
فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك فتغير وجه رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال عمر رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه
وسلم رسولا فسرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال والذي نفس محمد
بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لضللتم إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم
من النبيين
وفي النهر لأبي حيان إن عبدالله بن سلام أستأذن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت وأن يقرأمن التوراة في صلاته
من الليل فلم يأذن له وكون جميع الأنبياء وأممهم من أمته صلى الله عليه
وسلم فالمراد أمة الدعوة لا أمة الإجابة لأنها مخصوصة بمن آمن به بعد
البعثة على ما تقدم ويأتي وبعثته صلى الله عليه وسلم رحمه حتى للكفار
بتأخير العذاب عنهم ولم يعاجلوا بالعقوبة كسائر الأمم المكذبة وحتى
للملائكة قال تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }
وقد ذكر في
الشفاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل هل أصابك من هذه الرحمة
شيء قال نعم كنت أخشى العاقبة فآمنت لثناء الله تعالى علي في القرآن بقوله
عز وجل { ذي قوة عند ذي العرش مكين }
قال الجلال السيوطي إن هذا
الحديث لم نقف له على إسناد فهو صلى الله عليه وسلم أفضل ما سائر المرسلين
وجميع الملائكة المقربين وفي لفظ آخر فضلت على الأنبياء بست لم يعطهن أحد
كان قبلي غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر وأحلت لي الغنائم وجعلت أمتي
خير الأمم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأعطيت الكوثر ونصرت بالرعب والذي
نفسي بيده إن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه وفي
رواية فما من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج وإن معي لواء
الحمد أنا أمشي ويمشي الناس معي حتى آتى باب الجنة الحديث
أقول قد سئلت عما حكاه الجلال السيوطي أنه ورد إلى مصر نصراني من الفرنج
وقال لي شبهة إن أزلتموها أسلمت فعقد له مجلس بدار الحديث الكاملية ورأس
العلماء إذ ذاك الشيخ عز الدين بن عبدالسلام فقال له النصراني والناس
يسمعون أي أفضل عندكم المتفق عليه أو المختلف فيه فقال له الشيخ عز الدين
المتفق عليه فقال له النصراني قد اتفقنا نحن وأنتم على نبوة عيسى واختلفنا
في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيلزم أن يكون عيسى أفضل من محمد فأطرق
الشيخ عز الدين ساكتا من أول النهار إلى الظهر حتى أرتج المجلس واضطرب
أهله ثم رفع الشيخ رأسه وقال عيسى قال لبني إسرائيل { ومبشرا برسول يأتي
من بعدي اسمه أحمد } فيلزمك أن تتبعه فيما قال وتؤمن بأحمد الذي بشر به
فأقام الحجة على النصراني وأسلم بأنه كيف أقام الحجة على كون محمد صلى
الله عليه وسلم أفضل من عيسى إذ غاية ما ذكر أن محمدا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأجبت بأنه حيث ثبت أن محمدا رسول الله وجب الإيمان به وبما جاء
به ومما جاء به وأخبر به أنه أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
وقد سئل أبو الحسن الحمال بالحاء المهملة من فقهائنا معاشر الشافعية محمد
وموسى أيهما أفضل فقال محمد فقيل له ما الدليل على ذلك فقال إنه تعالى
أدخل بينه وبين موسى لام الملك فقال تعالى { واصطنعتك لنفسي } وقال لمحمد
صلى الله عليه وسلم { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } فقرق بين من
أقام بوصفه وبين من أقامه مقام نفسه والله أعلم
وفي رواية إذا كان
يوم القيامة كان لي لواء الحمد وكنت إمام المرسلين وصاحب شفاعتهم وفي لفظ
ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر
وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر وأنا أول شافع وأنا أول مشفع
يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يحرك حلق الجنة أي حلق بابها فيفتح الله
لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر أي وفي رواية آتى باب الجنة يوم
القيامة فأستفتح أي بتحريك حلقة الباب أوقرعه بها لا بصوت فيقول الخازن أي
وهو رضوان من أنت فأقول محمد وفي رواية أنا محمد فيقول بك أمرت لا أفتح
وفي رواية أن لا أفتح لأحد قبلك زاد في رواية ولا أقوم لأحد بعدك لأفتح له
فمن خصائصه صلى
الله عليه وسلم أن
رضوان لايفتح إلا له ولا يفتح لغيره من الأنبياء وغيرهم وإنما يتولى ذلك
غيره من الخزنة وهي خصوصية عظيمة نبه عليها القطب الخضري وكون الفاتح له
صلى الله عليه وسلم الخازن لا ينافى ما قبله من كون الفاتح له الحق سبحانه
وتعالى لما علم أن الخازن إنما فتح بأمر الله فهو الفاتح الحقيقي
وفي رواية أنا أول من يفتح له باب الجنة ولا فخر فآتى فآخذ بحلقة الجنة
فيقال من هذا فأقول محمد فيفتح لي فيستقبلني الجبار جل جلاله فأخر له
ساجدا أي فالكلام في يوم القيامة فلا يرد إدريس بناء على أن دخوله الجنة
مترتب على فتح الباب غالبا لأن ذلك قبل يوم القيامة وفي يوم القيامة يخرج
إلى الموقف فيكون مع أمته للحساب ولا ينافيه ماجاء أول من يقرع باب الجنة
بلال من حمامة على تقدير صحته لأنه يجوز أن يكون يقرع الباب الأصلي لا
حلقه أو الأول من الأمة والله أعلم
وفي الأوسط للطبراني بإسناد حسن
حرمت الجنة على الأنبياء حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي
وسيأتي أن هذا من جملة ما أوحى إليه المعراج الذي أشار إليه قوله تعالى {
فأوحى إلى عبده ما أوحى } ولعل هذا هو المراد مما جاء في المرفوع عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما حرمت الجنة على جميع الأمم حتى أدخلها أنا
وأمتي وأن ظاهرها من أنه لا يدخلها أحد من الأنبياء إلا بعد دخول هذه
الأمة ليس مرادا
وفي هاتين الروايتين منقبة عظيمة لهذه الأمة
المحمدية وهي أنه لا يدخل أحد الجنة من الأمم السابقة ولو من صلحائها
وعلمائها وزهادها حتى يدخل من كان يعذب في النار من عصاة هذه الأمة بناء
على أنه لابد من تعذيب طائفة من هذه الأمة في النار ولا بعد في ذلك لأنه
تقدم أن أول من يحاسب من الأمم هذه الأمة فيجوز أن الأمم لا يفرغ حسابهم
ولا يأتون إلى باب الجنة إلا وقد خرج من كان يعذب من هذه الأمة في النار
ودخل الجنة
وجاء إنه يدخلها قبله من أمته سبعون ألفا مع كل واحد
سبعون ألفا لا حساب عليهم وذلك معارض لقوله صلى الله عليه وسلم أنا أول من
يدخل الجنة إلا أن يقال أول من يدخل الجنة من الباب وهؤلاء السبعون ألفا
ورد أنهم يدخلون من أعلى حائط الجنة فلا معارضة
ولا يعارض ذلك ما جاء أول من يدخل الجنة أبو بكر لأن المراد أول من يدخلها
من رجال هذه الأمة غير الموالي
ولا يعارض ذلك ما تقدم عن بلال رضي الله تعالى عنه أنه أول من يقرع باب
الجنة لأنه لا يلزم من القرع الدخول وعلى تسليم أن القرع كناية عن الدخول
فالمراد من الموالي
ولا يعارض ذلك أيضا ما جاء أول من يدخل الجنة بنتى فاطمة كما لا يخفى لأن
المراد أول من يدخلها من نساء هذه الأمة فالأولية إضافية
وجاء لأشفعن يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر وعن أنس رض الله
تعالى عنه فضلت على الناس بأربع بالسخاء والشجاعة وقوة البطش وكثرة الجماع
أي فعن سلمى مولاته صلى الله عليه وسلم أنها قالت طاف رسول الله صلى الله
عليه وسلم على نسائه التسع ليلته وتطهر من كل واحدة قبل أن يأتي الأخرى
وقال هذا أطهر وأطيب
ومما يدل على قوة بطشه صلى الله عليه وسلم ما
وقع له مع ركانة كما سيأتي وفي الخصائص الصغرى وكان أفرس العالمين فهو صلى
الله عليه وسلم أجود بني آدم على الإطلاق كما أنه أفضلهم وأشجعهم وأعلمهم
وأكملهم في جميع الأخلاق الجميلة والأوصاف الحميدة
قال ابن
عبدالسلام من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أخبره بالمغفرة أي
لما تقدم وتأخر ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك أي ولأنه لو
وقع لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله بل ومما اختص به صلى الله عليه
وسلم وقوع غفران نفس الذنب المتقدم والمتأخر كما تقدم من قوله صلى الله
عليه وسلم في بيان ما اختص به عن الأنبياء وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما
تأخر أي ولا ينافى ذلك قوله تعالى في حق داود { فغفرنا له ذلك } لأنه
غفران لذنب واحد قال ابن عبد السلام بل الظاهر أنه لم يخبرهم أي بغفران
ذنوبهم بدليل قولهم في الموقف نفسي نفسي لأني إلى آخره وعن أبي موسى رضي
الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سمع بي من يهودي
أو نصراني ثم لم يسلم دخل النار أي لأنه يجب عليه أن يؤمن به
أقول والذي في مسلم والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي
أو
نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار أي من سمع
بنبينا صلى الله عليه وسلم ممن هو موجود في زمنه وبعده إلى يوم القيامة ثم
مات غير مؤمن بما أرسل به كان من أصحاب النار أي ومن جملة ما أرسل به أنه
أرسل إلى الخلق كافة لا لخصوص العرب تأمل وإنما خص اليهود والنصارى بالذكر
تنبيها على غيرها لأنه إذا كان حالهما ذلك مع أن لهم كتابا فغيرهم مما لا
كتاب له كالمجوسي أولى لأن اليهود كتابهم التوراة والنصارى كتابهم الإنجيل
لأن شريعة التوراة التي هي شريعة موسى يقال لها اليهودية أخذا من قول موسى
عليه الصلاة والسلام { إنا هدنا إليك } أي رجعنا إليك فمن كان على دين
موسى يسمى يهوديا وشريعة الإنجيل يقال لها النصرانية أخذا من قول عيسى
عليه الصلاة والسلام { من أنصاري إلى الله } فمن كان على دين عيسى يسمى
نصرانيا وكان القياس أن يقال له أنصاري وقيل النصراني نسبة إلى ناصرة قرية
من قرى الشام نزل بها عيسى عليه الصلاة والسلام كما تقدم ولا مانع من
رعاية الأمرين في ذلك وجاء في رواية وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة أي
والأمم السابقة كانوا يصلون متفرقين كل واحد على حدته وإن أمته صلى الله
عليه وسلم حط عنها الخطأ والنسيان وحمل ما لا تطيقه الذي أشارت إليه
خواتيم سورة البقرة وإن شيطانه صلى الله عليه وسلم أسلم وفي الخصائص
الصغرى وأسلم قرينه ومجموع تلك الخصال سبع عشرة خصلة قال الحافظ ابن حجر
ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع
وذكر أبو سعيد
النيسابوري في كتابه شرف المصطفى أنه عد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه
وسلم عن الأنبياء فإذا هو ستون خصلة أي ومن ذلك أي مما اختص به صلى الله
عليه وسلم في أمته أن وصف الإسلام خاص بها لم يوصف به أحد من الأمم
السابقة سوى الأنبياء فقط فقد شرفت هذه الأمة المحمدية بأن وصفت بالوصف
الذي كان يوصف به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو الإسلام على القول
الراجح نقلا ودليلا لما قام عليه من الأدلة الساطعة قاله الجلال السيوطي
رحمه الله
& باب بدء الوحي له صلى الله عليه وسلم
عن عائشة رضي الله تعالى عنها أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم
من النبوة حين أراد الله تعالى كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصالحة لا
يرى رؤيا إلا جاءت كفلق أي وفي لفظ كفرق الصبح أي كضيائه وإثارته فلا يشك
فيها أحد كما لا يشك أحد في وضوح ضياء الصبح ونوره وفي لفظ فكان لا يرى
شيئا في المنام إلا كان أي وجد في اليقظة كما رأى فالمراد بالصالحة
الصادقة وقد جاءت في رواية البخاري في التفسير أي ولا يخفى أن رؤيا النبي
صلى الله عليه وسلم كلها صادقة وإن كانت شاقة كما في رؤياه يوم أحد
قال القاضي وغيره وإنما ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا
يفجأه الملك الذي هو جبريل عليه الصلاة والسلام بالنبوة أي الرسالة فلا
تتحملها القوى البشرية أي لأن القوى البشرية لا تتحمل رؤية الملك وإن لم
يكن على صورته التي خلقه الله عليها ولا على سماع صوته ولا على ما يخبر به
لا سيما الرسالة فكانت الرؤيا تأنيسا له صلى الله عليه وسلم والمراد
بالملك جبريل لكن ذكر بعضهم أن من لطف الله تعالى بنا عدم رؤيتنا للملائكة
أي على الصورة التي خلقوا عليها لأنهم خلقوا على أحسن صورة فلو كنا نراهم
لطارت أعيننا وأرواحنا لحسن صورهم
وعن علقمة بن قيس أول ما يؤتى به
الأنبياء في المنام أي ما يكون في المنام حتى تهدأ قلوبهم ثم ينزل الوحي
اه أي في اليقظة لأن رؤيا الأنيباء وحي وصدق وحق لا أضغاث أحلام ولا تخيل
من الشيطان إذ لا سبيل له عليهم لأن قلوبهم نورانية فما يرونه في المنام
له حكم اليقظة فجميع ما ينطبع في عالم مثالهم لا يكون إلا حقا ومن ثم جاء
نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا
قول وحينئذ يكون في
القول بأن من خصوصياته صلى الله عليه وسلم اجتماع أنواع الوحي الثلاثة له
وعد منها الرؤيا في المنام وعد منها الكلام من غير واسطة وبواسطة جبريل
نظر لما علمت أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعهم مشتركون في الرؤيا
وموسى عليه الصلاة والسلام حصل له كل من الكلام بلا واسطة وبواسطة جبريل
وذكر
بعضهم أن مدة الرؤيا ستة أشهر قال فيكون ابتداء الرؤيا حصل في شهر ربيع
الأول وهو مولده صلى الله عليه وسلم ثم أوحى الله إليه في اليقظة أي في
رمضان ذكره البيهقي وغيره
وجاء في الحديث الرؤيا الصادقة وفي
البخاري الرؤيا الحسنة أي الصادقة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين
جزءا من النبوة قال بعضهم معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث أقام
بمكة ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشر سنين يوحى إليه ومدة الوحي إليه في
اليقظة ثلاث وعشرون سنة ومدة الوحي إليه في المنام أي التي هي الرؤيا ستة
أشهر فالمراد خصوص رؤيته وخصوص نبوته صلى الله عليه وسلم وهذا القيل نقله
في الهدى وأقره حيث قال كانت الرؤيا ستة أشهر ومدة النبوة ثلاثا وعشرين
سنة فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا هذا كلامه وحينئذ يكون المعنى
ورؤيتي جزء من ستة وأربعين جزءا من نبوتي ولا يخفى أن هذا لا يناسب الرؤيا
الصالحة من الرجل الصالح إذ هو يقتضى أن مطلق الرؤيا الصالحة جزء من مطلق
النبوة الشامل لنبوته صلى الله عليه وسلم ونبوة غيره فليتأمل ولم أقف في
كلام أحد على مشاركة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له صلى الله
عليه وسلم في هاتين المدتين وحينئذ تحمل الخصوصية التي ادعاها بعضهم على
هذا
ومما يدل على أن المراد مطلق الرؤيا ومطلق النبوة لا خصوص رؤياه
ونبوته صلى الله عليه وسلم ما جاء في ذلك من الألفاظ التي بلغت خمسة عشر
لفظا
ففي رواية أنها جزء من سبعين جزءا وفي رواية من أربعة وأربعين
وفي رواية أنها جزء من خمسين جزءا من النبوة وفي رواية من تسعة وأربعين
وفي أخرى أنها جزء من ستة وسبعين وفي أخرى من خمسة وعشرين جزءا وفي أخرى
من ستة وعشرين جزءا وفي أخرى من أربعة وعشرين جزءا فإن ذلك بإعتبار
الأشخاص لتفاوت مراتبهم في الرؤيا
وذكر الحافظ أبن حجر أن أصح الروايات مطلقا رواية ستة وأربعين ويليها
رواية أنها جزء من سبعين جزءا
فعلم أن الرؤية المذكورة جزءمن مطلق النبوة أي كجزء منها من جهة الإطلاع
على بعض الغيب فلا ينافى انقطاع النبوة بموته صلى الله عليه وسلم
ومن ثم جاء ذهبت النبوة أي لا توجد بعدي وبقيت المبشرات أي المرائى
التي
كانت مبشرات الأنبياء بالنبوة بدليل ما في رواية لم يبق بعدي من المبشرات
أي مبشرات النبوة إلا الرؤيا أي مجرد الرؤيا الخالية عن شي من مبشرات
النبوة بدليل ما في لفظ لم يبق إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أي لنفسه
أو ترى له
لا يقال الرؤيا الصادقة تكون من الكافر أو ترى له وهو
خارج بالرجل الصالح وبالمسلم لأنا نقول لو فرض وقوع ذلك كان استدراجا وفيه
أنها واقعة وظاهر سياق الحديث الحصر وكما تكون الرؤيا مبشرة بخير عاجل أو
آجل تكون منذرة بشر كذلك قال بعضهم وقد تطلق البشارة التي هي الخبر السار
على ما يشمل النذارة التي هي الخبر الضار بعموم المجاز بأن يراد بالبشارة
ما يعود إلى الخير لأن النذارة ربما قادت إلى الخير
وفي الإتقان ومن المجاز تسمية الشيء بإسم ضده نحو { فبشرهم بعذاب أليم }
اه أي وهي في هذه الآية للتهكم
وجاء رجل أي وهو أبو قتادة الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا
رسول الله إني أرى في المنام الرؤيا تمرضني فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم الرؤيا الحسنة من الله والسيئة من الشيطان فإذا رأيت الرؤيا تكرهها
فاستعذ بالله من الشيطان واتفل عن يسارك ثلاث مرات فإنها لا تضرك أي وحكمة
التفل احتقار الشيطان واستقذاره
وفي رواية إذا رأى أحدكم ما يكره
فليعذ بالله من شرها ومن الشيطان كأن يقول أعوذ بالله من شر ما رأيت ومن
شر الشيطان وليتفل ثلاثا ولا يحدث بها أحدا فإنها لا تضره زاد في رواية
وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه زاد في أخرى وليقم فليصل أي ليكون فعل
ذلك سببا للسلامة من المكروه الذي رآه
وفي البخاري إذا رأى أحدكم
الرؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليتحدث بها أي ولا يخبر
بها إلا من يحب وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان أي لا
حقيقة لها وإنما هي تخيل يقصد به تخويف الإنسان والتهويل عليه فليستعذ
بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره وفي الأذكار ثم ليقل اللهم
إني أعوذ بك من عمل الشيطان وسيئات الأحلام وفي الحديث الرؤيا من الله
والحلم من الشيطان
قيل في معناه لأن صاحب الرؤيا يرى الشيء على ما هو عليه بخلاف صاحب الحلم
فإنه
يراه على خلاف ماهو عليه فإن الحلم مأخوذ من حلم الجلد إذا فسد والرؤيا
قيل إنها أمثلة يدركها الرائي بجزء من القلب لم تستول عليه آفة النوم وإذا
ذهب النوم عن أكثر القلب كانت الرؤيا أصفى وذكر الفخر الرازي أن الرؤيا
الرديئة يظهر تعبيرها أي أثرها عن قرب والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها
بعد حين
والسبب فيه أن حكمة الله تعالى تقتضى أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا
عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل
وأما الإعلام بالخير فإن يحصل متقدما على ظهوره بزمان طويل حتى تكون
البهجة الحاصلة بسبب توقع حصول ذلك الخير أكثر وهذا جرى على ما هو الغالب
وإلا فقد قيل لجعفر الصادق كم تتأخر الرؤيا فقال رأى النبي صلى الله عليه
وسلم في منامه كأن كلبا أبقع يلغ في دمه فكان أي ذلك الكلب الأبقع شمرا
قاتل الحسين وكان أبرص فكان تأخير الرؤيا بعد خمسين سنة
وجاء عن
عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة إذا خلوت سمعت
نداء أن يا محمد يا محمد وفي رواية أرى نورا أي يقظة لا مناما وأسمع صوتا
وقد خشيت أن يكون والله لهذا أمر وفي رواية والله ما أبغضت بغض هذه
الأصنام شيئا قط ولا الكهان وإني لأخشى أن أكون كاهنا أي فيكون الذي
يناديني تابعا من الجن لأن الأصنام كانت الجن تدخل فيها وتخاطب سدنتها
والكاهن يأتيه الجني بخبر السماء وفي رواية وأخشى أن يكون بي جنون أي لمة
من الجن فقالت كلا يا بن عم ماكان الله ليفعل ذلك بك فوالله إنك لتؤدي
الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث وفي رواية إن خلقك لكريم أي فلا يكون
للشيطان عليك سبيل استدلت رضي الله تعالى عنها بما فيه من الصفات العلية
والأخلاق السنية على أنه لا يفعل به إلا خيرا لأن من كان كذلك لا يجزي إلا
خيرا
ونقل الماوردي عن الشعبي أن الله قرن إسرافيل عليه السلام
بنبيه ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه يعلمه الشيء بعد الشيء ولا يذكر له
القرآن فكان في هذه المدة مبشرا بالنبوة وأمهله هذه المدة ليتأهب لوحيه
وفيه أنه لو كان في تلك المدة مبشرا بالنبوة ما قال لخديجة ما تقدم إلا أن
يقال ما تقدم إنما قاله لخديجة في أول الأمر ويدل لذلك ما قيل إنه صلى
الله عليه وسلم مكث
وبعد ذلك حبب الله إليه صلى الله عليه وسلم الخلوة التي يكون بها فراغ القلب والإنقطاع عن الخلق فهي تفرغ القلب عن أشغال الدنيا لدوام ذكر الله تعالى فيصفوا وتشرق عليه أنوار المعرفة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده وكان يخلو بغار حراء بالمد والقصر وهذا الجبل هو الذي نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إلى يا رسول الله لما قال له ثبير وهو على ظهره أهبط عني فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب فكان صلى الله عليه وسلم يتحنث أي يتعبد به أي بغار حراء الليالي ذوات العدد ويروى أولات العدد أي مع أيامها وإنما غلب الليالي لأنها أنسب بالخلوة قال بعضهم وأبهم العدد لإختلافه بالنسبة إلى المدد فتارة كان ثلاث ليال وتارة سبع ليال وتارة شهر رمضان أو غيره
وفي كلام بعضهم ما قد يدل على أنه لم يختل صلى الله عليه وسلم أقل من شهر وحينئذ يكون قوله في الحديث الليالي ذوات العدد محمول على القدر الذي كان يتزود له فإذا فرغ زاده رجع إلى مكة وتزود إلى غيرها إلى أن يتم الشهر وكذا قول بعضهم فتارة كان ثلاث ليال وتارة سبع ليال وتارة شهرا ولم يصح أنه صلى الله عليه وسلم اختلى أكثر من شهر قال السراج البلقيني في شرح البخاري لم يجىء في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام هذا كلامه وسيأتي بيان ذلك قريبا
ثم إذا مكث صلى الله عليه وسلم تلك الليالي أي وقد فرغ زاده يرجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فيتزود لمثلها أي قيل وكانت زوادته صلى الله عليه وسلم الكعك والزيت وفيه أن الكعك والزيت يبقى المدة الطويلة فيمكث جميع الشهر الذي يختلي فيه ثم رأيت عن الحافظ ابن حجر مدة الخلوة كانت شهرا فكان يتزود لبعض ليالي الشهر فإذا نفد ذلك الزاد رجع إلى أهله يتزود قدر ذلك ولم يكونوا في سعة بالغة من العيش وكان غالب أدمهم اللبن واللحم وذلك لا يدخر منه لغاية شهر لئلا يسرع الفساد إليه ولا سيما وقد وصف بأنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم من يرد عليه هذا كلامه وهو يشير فيه إلى ثلاثة أجوبه