كتاب:السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون
المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي


قد كنت نهيتنا عن التطير فقال له صلى الله عليه وسلم ماتطيرت ولكن آثرت الإسم الحسن وللجلال السيوطي كتاب فيمن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم إسمه ولم أقف عليه
ورأيت في كلام بعضهم أن حزن بن أبي وهب أسلم يوم الفتح وهو جد سعيد بن المسيب أراد النبي صلى الله عليه وسلم تغيير إسمه وتسميته سهلا فامتنع وقال لاأغير إسما سمانيه أبواي قال سعيد فلم تزل الحزونة فينا والله أعلم
أي وفي حديث أنه صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد ما جاءته النبوة قال الإمام أحمد هذا منكر أي حديث منكر والحديث المنكر من أقسام الضعيف لا أنه باطل كما قد يتوهم والحافظ السيوطى لم يتعرض لذلك وجعله أصلا لعمل المولد قال لأن العقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أن هذا الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهارا للشكر على إيجاد الله تعالى إياه رحمة للعالمين وتشريعا لأمته كما كان يصلى على نفسه لذلك قال فيستحب لنا إظهار الشكر بمولده صلى الله عليه وسلم هذا كلامه
ويروى أن عبدالمطلب إنما سماه محمدا لرؤيا رآها أي في منامه رأى كأن سلسلة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق وطرف في المغرب ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور وإذا أهل المشرق وأهل المغرب يتعلقون بها فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض فلذلك سماه محمدا أي مع ما حدثته به أمه بما رأته على ما تقدم
وعن أبي نعيم عن عبدالمطلب قال بينما أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا فأتيت كاهنة قريش فلما نظرت إلى عرفت في وجهي التغير فقالت ما بال سيدهم قد أتى متغير اللون هل رابه من حدثان الدهر شيء فقلت لها بلى فقلت لها إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها المشرق والمغرب وما رأيت نورا أزهر منها ورأيت العرب والعجم ساجدين لها وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وإرتفاعا ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها فإذا دنوا منها أخرهم شاب

لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب منه ريحا فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا فلم أنله فانتبهت مذعورا فزعا فرأيت وجه الكاهنة قد تغير ثم قالت لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب وتدين له الناس وعند ذلك قال عبدالمطلب لإبنه أبي طالب لعلك أن تكون هذا المولود فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث بعد ما ولد صلى الله عليه وسلم ويقول كانت الشجرة هي محمد صلى الله عليه وسلم
وفي الإمتاع لما مات قثم بن عبدالمطلب قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين وهو ابن تسع سنين وجد عليه وجدا شديدا فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه قثم حتى أخبرته أمه آمنة أنها أمرت في منامها أن تسميه محمدا فسماه محمدا أي ولا مخالفة بين هذه الروايات على تقدير صحتها كما لا يخفى لأنه يجوز أن يكون نسى تلك الرؤية ثم تذكرها ويكون معنى سؤاله ما حملك على أن تسميه محمدا وليس من أسماء قومك أي لم استقر أمرك على أن تسميه محمدا
وذكر بعضهم أنه لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الإسم يعنى محمدا قبله إلا ثلاثة طمع آباؤهم حين وفدوا على بعض الملوك وكان عنده علم من الكتاب الأول وأخبرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم أي بالحجاز وبقرب زمنه وبإسمه المذكور الذي هو محمد وهو يدل على أن إسمه في بعض الكتب القديمة محمد وكان كل واحد منهم قد خلف زوجته حاملا فنذر كل واحد منهم إن ولد له ولد ذكر أن يسميه محمد ففعلوا
وفي الشفاء أن في هذين الإسمين محمدا وأحمد من بدائع آياته أي المصطفى وعجائب خصائصه أن الله تعالى حماهما عن أي يسمى بهما أحد قبل زمانه أي قبل شيوع وجوده أما أحمد الذي أتى في الكتب القديمة وبشرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمنع الله تعالى بحكمته أن يتسمى به أحد غيره ولا يدعى به مدعو قبله منذ خلقت الدنيا وفي حياته زاد الزين العراقي ولا في زمن أصحابه رضي الله تعالى عنهم حتى لا يدخل لبس أوشك على ضعيف القلب أي فالتسمية به من خصائصه صلى الله عليه وسلم على جميع الناس ممن تقدمه خلافا لما يوهمه كلام الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى أنه من خصائصه على الأنبياء فقط
ومن ثم ذهب بعضهم إلى أفضليته على محمد وقال الصلاح الصفدي أحمد أبلغ

من محمد كما أن أحمر وأصفر أبلغ من محمر ومصفر ولعله لكونه منقولا عن أفعل التفضيل لأنه صلى الله عليه وسلم أحمد الحامدين لرب العالمين لأنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم تفتح على أحد قبله
وفي الهدى لو كان إسمه أحمد بإعتبار حمده لربه لكان الأولى أن يسمى الحماد كما سميت بذلك أمته وأما هذا فهو الذي يحمده أهل السماء والأرض وأهل الدنيا والآخرة لكثرة خصاله المحمودة التي تزيد على عدد العادين وإحصاء المحصين أي أحق الناس وأولاهم بأن يحمد فهو كمحمد في المعنى فهو مأخوذ من الفعل الواقع على المفعول لا الواقع من الفاعل وحينئذ فالفرق بين محمد وأحمد أن محمدا من كثر حمد الناس له وأحمد من يكون حمد الناس له أفضل من حمد غيره وسيأتي عن الشفاء أنه أحمد المحمودين وأحمد الحامدين فيجوز أن يكون أحمد مأخوذا من الفعل الواقع على المفعول كما يجوز أن يكون مأخوذا من الفعل الواقع من الفاعل
وفي كلام السهيلي ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان قبل أحمد فبأحمد ذكر قبل أن يذكر بمحمد لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له وأطال في بيان ذلك
وفي كلام بعض فقهائنا معاشر الشافعية أنه ليس في أحمد من التعظيم ما في محمد لأنه أشهر أسمائه الشريفة وأفضلها فلذلك لا يكفى الإتيان به في التشهد بدل محمد وقد جاء أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن قال بعضهم وعبدالله أحب من عبدالرحمن لإضافة العبد إلى الله المختص به تعالى إتفاقا والرحمن مختص به على الأصح ومن ثم سمى نبينا صلى الله عليه وسلم في القرآن بعبدالله في قوله تعالى { وأنه لما قام عبد الله يدعوه } وعلى ما ذكر هنا يكون بعد عبدالرحمن المذكور في القرآن في قوله تعالى { وعباد الرحمن } أحمد ثم محمد أي وبعدهما إبراهيم خلافا لمن جعله بعد عبدالرحمن
وذكر بعضهم أن أول من تسمى بأحمد بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ولد لجعفر بن أبي طالب وعليه يشكل ما تقدم عن الزين العراقي وقيل والد الخليل أي ولعل المراد به الخليل بن أحمد صاحب العروض ثم رأيت الزين العراقي صرح بذلك حيث قال وأول من تسمى في الإسلام أحمد والد الخليل بن أحمد العروضي
ويشكل على ذلك وعلى قوله لم يسم به أحد في زمن الصحابة تسمية ولد جعفر بن أبي طالب بذلك إلا أن يقال لم يصح ذلك عند العراقي أو يقال مراد العراقي أصحابه

الذين تخلفوا عنه بعد وفاته فلا يرد جعفر لأنه مات في حياته صلى الله عليه وسلم وهو خامس خمسة كل يسمى الخليل بن أحمد وزاد بعضهم سادسا وكذلك محمد أيضا لم يتسم به أحد قبل وجوده صلى الله عليه وسلم وميلاده إلا بعد أن شاع أن نبيا يبعث إسمه محمد بالحجاز وقرب زمنه فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك وحمى الله تعالى هؤلاء أن يدعى أحد منهم النبوة أو يدعيها أحد له أو يظهر عليه شيء من سماتها أي علاماتها حتى تحققت له صلى الله عليه وسلم
وفي دعوى أن الذي في الكتب القديمة إنما هو أحمد مخالفة لما سبق وما يأتي عن التوراة والإنجيل أي فالمراد بالكتب القديمة غالبها فلا ينافى أن في بعضها إسمه محمد وفي بعضها إسمه أحمد وفي بعضها الجمع بين محمد وأحمد
قال بعضهم سمعت محمد بن عدي وقد قيل له كيف سماك أبوك في الجاهلية محمدا قال سألت أبي أي عما سألتني عنه قال خرجت رابع أربعة من تميم نريد الشام فنزلنا عند غدير عند دير فأشرف علينا الديراني وقال إن هذه للغة قوم ما هي لغة أهل هذه البلد فقلنا له نحن قوم من مضر فقال من أي المضاير فقلنا من خندف فقال لنا إن الله سيبعث فيكم نبيا وشيكا أي سريعا فسارعوا إليه وخذوا حظكم ترشدوا فإنه خاتم النبيين فقلنا له ماإسمه قال محمد ثم دخل ديره فوالله ما بقى أحد منا إلا زرع قوله في قلبه فاضمر كل واحد منا إن رزقه الله غلاما سماه محمدا رغبة فيما قاله أي فنذر كل واحد منا ذلك فلا يخالف ما سبق قال فلما انصرفنا ولد لكل واحد منا غلام فسماه محمدا رجاء أن يكون أحدهم هو والله أعلم حيث يجعل رسالاته
أقول يجوز أن يكون هؤلاء الأربعة منهم الثلاثة الذين وفدوا على بعض الملوك وحينئذ تكرر لهم هذا القول من الملك ومن صاحب الدير وإضمار ذلك لا ينافى نذره المتقدم فالمراد بإضماره نذره كما قدمناه ويجوز أن يكونوا غيرهم فيكونوا سبعة
وذكر ابن ظفر أن سفيان بن مجاشع نزل على حي من تميم فوجدهم مجتمعين على كاهنتهم وهي تقول العزيز من والاه والذليل من خالاه فقال لها سفيان من تذكرين لله أبوك فقالت صاحب هدى وعلم وحرب وسلم فقال سفيان من هو لله أبوك فقالت نبي مؤيد قد آن حين يوجد ودنا أوان يولد يبعث للأحمر

والأسود إسمه محمد فقال سفيان أعربي أم عجمي فقالت أما والسماء ذات العنان والشجر ذوات الأفانا إنه لمن معد بن عدنان حسبك فقد أكثرت يا سفيان فأمسك عن سؤالها ومضى إلى أهله وكانت إمرأته حاملا فولدت له ولدا فسماه محمدا رجاء منه أن يكون هو النبي الموصوف والله أعلم
وقد عد بعضهم ممن سمى بمحمد ستة عشرة ونظمهم في قوله ** إن الذين سموا بإسم محمد ** من قبل خير الخلق ضعف ثمان ** ** ابن البراء مجاشع بن ربيعة ** ثم ابن مسلم يحمدى حرماني ** ** ليثى السليمي وابن أسامة ** سعدى وابن سواءة همداني ** ** وابن الجلاح مع الأسيدي يافتى ** ثم الفقيمي هكذا الحمراني **
قال بعضهم وفاته آخران لم يذكرهما وهما محمد بن الحارث ومحمد بن عمر بن مغفل بضم أوله وسكون المعجمة وكسر الفاء ثم لام ووقع النزاع الكثير والخلاف الشهير في أول من سمى بذلك الإسم منهم
أقول وفي شرح الكفاية لإبن الهائم ويمكن أن يكون من زاد على أولئك الأربعة أو السبعة سمع ذلك من بعضهم فاقتدى به في ذلك طمعا فيما طمع فيه
ومثل ذلك وقع لبني إسرائيل فإن يوسف صلوات الله وسلامه عليه لما حضرته الوفاة أعلم بني إسرائيل بحضور أجله وكان أول أنبيائهم فقالوا له يا نبي الله إنا نحب أن تعلمنا بما يئول إليه أمرنا بعد خروجك من بين أظهرنا في أمر ديننا فقال لهم إن أموركم لم تزل مستقيمة حتى يظهر فيكم رجل جبار من القبط يدعى الربوبية يذبح أبناءكم ويستحيى نساءكم ثم يخرج من بني إسرائيل رجل إسمه موسى بن عمران فينجيكم الله به من أيدى القبط فجعل كل واحد من بني إسرائيل إذا جاء له ولد يسميه عمران رجاء أن يكون ذلك النبي منه ولا يخفى أن بين عمران أبي موسى وعمران أبي مريم أم عيسى وهو آخر أنبياء بني إسرائيل ألف وثمانمائة سنة والله أعلم
والذي أدرك الإسلام ممن تسمى بإسمه عليه الصلاة والسلام محمد بن ربيعة ومحمد بن الحارث ومحمد بن مسلمة وادعى بعضهم أن محمد بن مسلمة ولد بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من خمسة عشر سنة
أي وقد ذكر ابن الجوزي أن أول من تسمى في الإسلام بمحمد محمد بن حاطب وعن ابن عباس اسمى في القرآن أي كالتوراة محمد وفي الإنجيل أحمد


وأما فضل التسمية بهذا الإسم أعنى محمدا فقد جاء في أحاديث كثيرة وأخبار شهيرة أي منها أنه صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى وعزتي وجلالي لا أعذب أحدا تسمى بإسمك في النار أي بإسمك المشهور وهي محمد أو أحمد ومنها ما من مائدة وضعت فحضر عليها من إسمه أحمد ومحمد أي وفي رواية فيها اسمى إلا قدس الله ذلك المنزل كل يوم مرتين ومنها قال يوقف عبدان أي إسم أحدهما أحمد والآخر محمد بين يدي الله تعالى فيؤمر بهما الى الجنة فيقولان ربنا بما أستأهلنا الجنة ولم نعمل عملا تجازينا به الجنة فيقول الله تعالى ادخلا الجنة فإني آليت على نفسي أن لا يدخل النار من إسمه أحمد أو محمد لكن قال بعضهم ولم يصح في فضل التسمية بمحمد حديث وكل ما ورد فيه فهو موضوع قال بعض الحفاظ وأصحها أي أقر بهما للصحة من ولد له مولود فسماه محمدا حبا لي وتبركا بإسمي كان هو ومولوده في الجنة
وعن أبي رافع عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سميتموه محمدا فلا تضربوه ولا تحرموه وفي رواية طعن فيها بأن بعض رواتها متهم بالوضع فلا تسبوه ولا تجبهوه و لا تعنفوه وشرفوه وعظموه وأكرموه وبروا قسمه وأوسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجها بورك في محمد وفي بيت فيه محمد وفي مجلس فيه محمد وفي رواية تسمونه محمدا ثم تسبونه وفي رواية طعن فيها أما يستحى أحدكم أن يقول يا محمد ثم يضربه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من ولد له ثلاثة أولاد فلم يسم أحدهم محمدا فقد جهل أي وفي رواية فهو من الجفاء وفي أخرى فقد جفاني
وذكر بعضهم وإن لم يرد في المرفوع من أراد أن يكون حمل زوجته ذكرا فليضع يده على بطنها وليقل إن كان هذا الحمل ذكرا فقد سميته محمدا فإنه يكون ذكرا
وجاء عن عطاء قال ما سمى مولود في بطن أمه محمدا إلا كان ذكرا قال ابن الجوزي في الموضوعات وقد رفع هذا بعضهم أي وروى ما اجتمع قوم قط في مشورة فيهم رجل إسمه محمد لم يدخلوه في مشورتهم إلا لم يبارك فيه أي في الأمر الذي اجتمعوا له وفي رواية فيهم رجل إسمه محمد أو أحمد فشاوروه إلا خير لهم أي إلا حصل لهم الخير فيما تشاوروا فيه وما كان إسم محمد في بيت إلا جعل الله في ذلك البيت بركة واتهم راوي ذلك بأنه مجروح


وروى ما قعد قوم قط على طعام حلال فيه رجل إسمه إسمي إلا تضاعفت فيهم البركة أي إسمه المشهور وهو أحمد أو محمد كما تقدم
وفي الشفاء إن لله ملائكة سياحين في الأرض عبادتهم أي بالباء الموحدة كل دار فيها إسم محمد أي حراسة أهل كل دار فيها إسم محمد وقد ذكر الحافظ السيوطي أن هذا الحديث غير ثابت
وعن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما قال من كان له حمل فنوى أن يسميه محمدا حوله الله تعالى ذكرا وإن كان أنثى قال بعض رواة الحديث فنويت سبعة كلهم سميتهم محمدا وعنه صلى الله عليه وسلم من كان له ذو بطن فأجمع أي يسميه محمدا رزقه الله تعالى غلاما
وشكت إليه صلى الله عليه وسلم امرأة بأنهما لا يعيش لها ولد فقال لها اجعلي لله عليك أن تسميه أي الولد الذي ترزقينه محمدا ففعلت فعاش ولدها
وعن علي رضي الله تعالى عنه مرفوعا ليس أحد من أهل الجنة إلا يدعى بإسمه أي ولا يكنى إلا آدم صلى الله عليه وسلم فإنه يدعى أبا محمد تعظيما له وتوقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم أي لأن العرب إذا عظمت إنسانا كنته ويكنى الإنسان بأجل ولده قاله الحافظ الدمياطي وفي رواية ليس أحد أي من أهل الجنة يكنى إلا آدم فإنه يكنى أبا محمد أي وفي حديث معضل إذا كان يوم القيامة نادى مناد يا محمد قم فادخل الجنة بغير حساب فيقوم كل من إسمه محمد يتوهم أن النداء له فلكرامة محمد صلى الله عليه وسلم لا يمنعون
وفي الحلية لأبي نعيم عن وهب بن منبه قال كان رجل عصى الله مائة سنة أي في بني إسرائيل ثم مات فأخذوه وألقوه في مزبلة فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن أخرجه فصل عليه قال يا رب إن بني إسرائيل شهدوا أنه عصاك مائة سنة فأوحى الله إليه هكذا إلا أنه كان كلما نشر التوراة ونظر إلى اسم محمد قبله ووضعه على عينيه فشكرت له ذلك وغفرت له وزوجته سبعين حوراء
ومن الفوائد أنه جرت عادة كثير من الناس إذا سمعوا بذكر وضعه صلى الله عليه وسلم أن يقوما تعظيما له صلى الله عليه وسلم وهذا القيام بدعة لا أصل لها أي لكن هي بدعة حسنة لأنه ليس كل بدعة مذمومة وقد قال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في إجتماع الناس لصلاة التراويح نعمت البدعة وقد قال العز ابن عبد السلام إن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة وذكر من أمثلة كل ما يطول ذكره


ولا ينافى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وقوله صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا أي شرعنا ما ليس منه فهو رد عليه لأن هذا عام أريد به خاص فقد قال إمامنا الشافعي قدس الله سره ما أحدث وخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا فهو البدعة الضلالة وما أحدث من الخبر ولم يخالف شيئا من ذلك فهو البدعة المحمودة وقد وجد القيام عند ذكر إسمه صلى الله عليه وسلم من عالم الأمة ومقتدى الأئمة دينا وورعا الإمام تقي الدين السبكى وتابعه على ذلك مشايخ الإسلام في عصره فقد حكى بعضهم أن الإمام السبكي اجتمع عنده جمع كثير من علماء عصره فأنشد منشد قول الصرصري في مدحه صلى الله عليه وسلم ** قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب ** على ورق من خط أحسن من كتب ** ** وأن تنهض الأشراف عند سماعه ** قياما صفوفا أو جثيا على الركب **
فعند ذلك قام الإمام السبكي رحمه الله وجميع من في المجلس فحصل أنس كبير بذلك المجلس ويكفى مثل ذلك في الإقتداء
وقد قال ابن حجر الهيتمي والحاصل أن البدعة الحسنة متفق على ندبها وعمل المولد وإجتماع الناس له كذلك أي بدعة حسنة ومن ثم قال الإمام أبو شامة شيخ الإمام النووي ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مشعر بمحبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكر الله على ما من به من إيجاد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين هذا كلامه
قال السخاوي لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة وإنما حدث بعد ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم قال ابن الجوزي من خواصه أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام
وأول من أحدثه من الملوك صاحب أربل وصنف له ابن دحية كتابا في المولد سماه التنوير بمولد البشير النذير فأجازه بألف دينار وقد استخرج له الحافظ ابن حجر

أصلا من السنة وكذا الحافظ السيوطى وردا على الفاكهاني المالكي في قوله إن عمل المولد بدعة مذمومة & باب ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم وما اتصل به
يقال أنه صلى الله عليه وسلم ارتضع من ثمانية من النساء وقيل من عشرة بزيادة خولة بنت المنذر وأم أيمن عزيزة قالت أول من أرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثويبة أي بعد إرضاع أمه له كما سيأتي قال وثويبة هي جارية عمه أبي لهب وقد أعتقها حين بشرته بولادته صلى الله عليه وسلم أي فإنها قالت له أما شعرت أن آمنة ولدت ولدا وفي لفظ غلاما لأخيك عبدالله فقال لها أنت حرة فجوزى بتخفيف العذاب عنه يوم الإثنين بأن يسقى ماء في جهنم في تلك الليلة أي ليلة الإثنين في مثل النقرة التي بين السبابة والإبهام أي أن سبب تخفيف العذاب يوم الإثنين ما يسقاه تلك الليلة في تلك النقرة
ويذكر أن بعض أهل أبي لهب أي وهو أخوه العباس رضي الله تعالى عنه رآه في النوم في حالة سيئة فعن العباس رضي الله تعالى عنه قال مكثت حولا بعد موت أبي لهب لا أراه في نوم ثم رأيته في شر حال فقلت له ماذا لقيت فقال له أبو لهب لم أذق بعدكم رخاء وفي لفظ فقال له بشر خيبة بفتح الخاء المعجمة وقيل بكسر الخاء وهي سوء الحال غير أني سقيت في هذه وأشار إلى النقرة المذكورة بعتاقتي ثويبة ذكره الحافظ الدمياطي
والذي في المواهب وقد رؤى أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له ما حالك فقال في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة إثنين وأمص من بين أصبعي هاتين ماء وأشار برأس أصبعيه وأن ذلك بإعتاقي لثويبة عند ما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له فليتأمل
وقيل إنه إنما أعتقها لما هاجر صلى الله عليه وسلم أي فإن خديجة رضي الله تعالى عنها كانت تكرمها وطلبت من أبي لهب أن تبتاعها منه لتعتقها فأبى أبو لهب فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أعتقها أبو لهب


أقول قد يقال لا منافاة لجواز أن يكون لما أعتقها لم يظهر عتقها وإباؤه بيعها لكونها كانت معتوقة ثم أظهر عتقها بعد الهجرة والله أعلم وإرضاعها له صلى الله عليه وسلم كان أياما قلائل قبل أن تقدم حليمة وكان بلبن إبن لها يقال له مسروح وهو بضم الميم وسين مهملة ساكنة ثم راء مضمومة ثم حاء مهملة كذا في النور وفي السيرة الشامية بفتح الميم وكانت قد أرضعت قبله أبا سفيان أبن عمه صلى الله عليه وسلم الحارث
وفي كلام بعضهم كان تربا له صلى الله عليه وسلم وكان يشبهه وكان يألفه إلفا شديدا قبل النبوة فلما بعث صلى الله عليه وسلم عاداه وهجره وهجا أصحابه رضي الله تعالى عنهم فإنه كان شاعرا مجيدا وسيأتي إسلامه رضي الله تعالى عنه عند توجهه صلى الله عليه وسلم لفتح مكة وأرضعت ثويبة رضي الله تعالى عنها قبلهما عمه صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب وكان أسن منه صلى الله عليه وسلم بسنتين وقيل بأربع سنين
أقول هذا يخالف ماتقدم من أن عبدالمطلب تزوج من بني زهرة هالة وأتى منها بحمزة وأن عبدالله تزوج من بني زهرة آمنة وذلك في مجلس واحد وأن آمنة حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول عبدالله بها وأنه دخل بها حين أملك عليها فكيف يكون حمزة أسن منه صلى الله عليه وسلم بسنتين إلا أن يقال ليس فيما تقدم تصريح بأن عبدالمطلب وعبدالله دخلا على زوجتيهما في وقت واحد
وعبارة السهيلي هالة بنت وهيب عبد بن مناف بن زهرة عم آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها عبدالمطلب وتزوج ابنه عبدالله آمنة في ساعة واحدة فولدت هالة لعبدالمطلب حمزة وولدت آمنة لعبدالله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أرضعتهما ثويبة هذا كلامه وليس فيه كقول أسد الغابة المتقدم أن عبد المطلب تزوج هو وعبدالله في مجلس واحد تصريح بأنهما دخلا بزوجتيهما في وقت واحد لإمكان حمل التزوج على الخطبة المصرح بها فيما تقدم عن ابن المحدث أن عبدالمطلب خطب هالة في مجلس خطبة عبدالله لآمنة والله أعلم
ثم رأيت في الإستيعاب قال كان أي حمزة أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع سنين وهذا لا يصح عندي لأن الحديث الثابت أن حمزة أرضعته ثويبة مع رسول

الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تكون أرضعتهما في زمانين هذا لفظه وفيه ما علمت وفيه أيضا على تسليم أنها أرضعتهما في زمانين لكن بلبن إبنها مسروح كما سيأتي
ويبعد بقاء لبن إبنها مسروح أربع سنين ثم أرضعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيأتي الجواب عنه
وأرضعت ثويبة رضي الله تعالى عنها بعده صلى الله عليه وسلم أبا سلمة بن عبدالأسد أي ابن عمته الذي كان زوجا لأم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها فقد أرضعت ثويبة حمزة ثم أبا سفيان ابن عمه الحرث ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبا سلمة وهو مخالف بظاهره لقول المحب الطبري وارضعته ثويبة جارية أبي لهب وأرضعت معه حمزة بن عبدالمطلب وأبا سلمة عبدالله بن عبدالأسد بلبن إبنها مسروح هذا كلامه وفيه ما علمت
وقد يجاب بأنه ممكن بأن تكون لم تحمل على ولدها مسروح في المدة المذكورة فاستمر لبنها
وأيضا هي أرضعت بين حمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه أبا سفيان الحارث كما علمت
وذكر بعضهم أن أبا سلمة أول من يدعى للحساب اليسير وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا فعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به قال لا تصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول اللهم أجرني في مصيبتي واخلف على خيرا منها إلا فعل به قال الترمذي حسن غريب ويدل لكون أبي سلمة أخاه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة ما جاء عن أم حبيبة قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له هل لك في أختى بنت أبي سفيان أي وهي عزة بعين مهملة ثم زاي أي وفي رواية هل لك في أختي حمنة بنت أبي سفيان والذي في مسلم انكح أختى عزة أي وفي البخاري أنكح أختي بنت أبي سفيان قال أو تحبين ذلك قالت نعم لست لك بمخلية بضم الميم وسكون الخاء وكسر اللام وبالتحتية أي لست لك بتاركة عدم أخذها وأحب من شاركني


في خير أختى فقال النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لايحل لي قالت فوالله إني أنبئت أي وفي لفظ إنا لنتحدث أنك تخطب درة أي وفي لفظ تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة أي بضم الدال المهملة وأما ضبطه بفتح الذال المعجمة قال بضعهم هو تصحيف لا شك فيه تعنى بدرة بنتها من أبي سلمة قال ابنة أبي سلمة قلت نعم فقال والله لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لإبنة أخي من الرضاعة أرضعتني وإياه ثويبة أي وفي رواية لولا أني لم أنكح أم سلمة يعني أم حبيبة التي هي أمها لم تحل لي إن أباها أخي من الرضاعة أي وأختك على فرض أن تكون بنت أخي من الرضاعة لا يحل لي أن أجمعها معك فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن قيل وفي هذا أي وفي قوله لو لم تكن ربيبتي في حجري وفي قوله تعالى { وربائبكم اللاتي في حجوركم } حجة لداود الظاهري أن الربيبة لاتحرم إلا إذا كانت في حجر زوج أمها فإن لم تكن في حجره فهي حلال له أي وقيل لها ربيبة لأنها مأخوذة من الرب وهو الإصلاح لأن زوج أمها يقوم بإصلاح أحوالها قال ولك أن تقول كان الظاهر الإقتصار على الأخوات لأن أم حبيبة هي التي عرضت أختها ولم تعرض بنتها التي هي درة
وقد يجاب بأنه صلى الله عليه وسلم جعل خطاب أم حبيبة خطابا لجميع زوجاته صلى الله عليه وسلم لأن هذا الحكم لا يختص بواحدة دون أخرى
أقول فيه أن هذا واضح لو كان في زوجاته صلى الله عليه وسلم من عرض عليه بنته إلا أن يقال المراد فلا تعرضن لا ينبغي لكن أن تعرضن وذلك لا يستلزم وقوع العرض بالفعل
ثم رأيت الإمام النووي رحمه الله ذكر أن هذا من أم حبيبة أي من عرض أختها محمول على أنه لم تكن تعلم تحريم الجمع بين الأختين عليه صلى الله عليه وسلم قال وكذا لم تعلم من عرض بنت أ سلمة تحريم الربيبة هذا كلامه وهو يقتضى أن بعض الناس عرض عليه بنت أم سلمة وإذا كان من عرضها عليه إحدى نسائه اتجه قوله فلا تعرضن على بناتكن تأمل
وبهذا الحديث استدل من قال إنه لا يجوز له صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وأختها وهو الراجح من وجهين
ومقابله يقول خص بجواز ذلك له ولا يجمع بين المرأة وبنتها خلافا لوجه حكاه

الرافعي وهذا الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم لو لم أنكح أم سلمة لم تحل لي يرد هذا الوجه
وعبارة الخصائص الصغرى وله صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وأختها وعمتها وخالتها في أحد الوجهين وبين المرأة وابنتها في وجه حكاه الرافعي وتبعه في الروضة وجزموا بأنه غلط والله أعلم
ومما يدل أيضا على أن عمه صلى الله عليه وسلم حمزة أخوه من الرضاعة ما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه قال قلت يا رسول الله ما لك لا تتوق في قريش أي بمثناتين فوق مفتوحتين ثم واو مشددة ثم قاف أي لا تتشوق إليهم مأخوذ من التوق الذي هو الشوق وفي رواية بالتاء والنون أي لا تختار و لاتتزوج منهم قال أو عندك قلت نعم ابنة حمزة أي عمه وهي أمامة وهي أحسن فتاة في قريش قال تلك ابنة أخي من الرضاعة أي وهذا من علي رضي الله تعالى عنه محمول على أنه لم يكن يعلم بتحريم بنت الأخ من الرضاعة عليه صلى الله عليه وسلم أو أنه لم يكن يعلم أن عمه حمزة أخ له صلى الله عليه وسلم من الرضاعة
وفيه أنه جاء رواية أليس قد علمت أنه أخي من الرضاعة وأن الله قد حرم من الرضاعة ما حرم من النسب إلا أن يراد بقوله قد علمت أي أعلم قال ولعله لم يقل أرضعتني وإياه ثويبة كما قال ذلك في أبي سلمة لأن ثويبة أرضعت حمزة ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبا سلمة لأن حمزة رضيعه أيضا من امرأة من بني سعد غير حليمة كان حمزة رضي الله تعالى عنه مسترضعا عندها في بني سعد أرضعته صلى الله عليه وسلم يوما وهي عند حليمة أي فهو رضيعه صلى الله عليه وسلم من جهة ثويبة ومن جهة تلك المرأة السعدية ولم أقف على اسم تلك المرأة أي ولو اقتصر على ثويبة لأوهم أنه لم يرتضع معه على غيرها وذكر في الأصل أن بعضهم ذكر من مراضعه صلى الله عليه وسلم خولة بنت المنذر
أقول وتقدم ذلك ونسب هذا البعض في ذلك للوهم وأن خولة بنت المنذر التي هي أم بردة إنما كانت مرضعة لولده إبراهيم
وقد يجاب عنه بأنه يجوز أن تكون خولة بنت المنذر إثنتان واحدة أرضعته صلى الله عليه وسلم وواحدة أرضعت ولده إبراهيم وأن خولة التي أرضعته صلى الله عليه وسلم

وسلم هي السعدية التي كانت ترضع حمزة التي قال فيها الشمس الشامي لم أقف على إسم تلك المرأة والله أعلم ولم يذكر إسلام ثويبة إلا ابن منده
قال الحافظ ابن حجر وفي طبقات ابن سعد ما تدل على أنها لم تسلم ولكن لا يدفع نقل ابن منده به وفي الخصائص الصغرى لم ترضعه صلى الله عليه وسلم مرضعة إلا أسلمت ولم أقف على إسلام إبنها مسروح
أقول ومما يدل على عدم إسلامه ما جاء بسند ضعيف إذا كان يوم القيامة أشفع لأخ لي في الجاهلية قال الحافظ السيوطي يعنى أخاه من الرضاعة لأنه لم يدرك الإسلام
لايقال من أين أنه مسروح جاز أن يكون ابن حليمة وهو عبدالله الذي كان يرضع معه صلى الله عليه وسلم بناء على أنه لم تدرك الإسلام لأنه لم يعرف له إسلام لأنا نقول سيأتي عن شرح الهمزية لإبن حجر أن عبدالله ولد حليمة أسلم والله أعلم
أي وقد يدل على عدم إسلام ثويبة وإبنها المذكور الذي هو مسروح ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث لها بصلة وكسوة وهي بمكة حتى جاءه خبر وفاتها مرجعه صلى الله عليه وسلم من خيبر سنة سبع فقال ما فعل إبنها مسروح فقيل مات قبلها أي ولو كانا أسلما لهاجرا إلى المدينة
أقول وهذا بظاهره يدل على أن مسروحا أدرك الإسلام وقد ينافى علم وفاتهما مرجعه صلى الله علهي وسلم من خيبر ما ذكر السهيلي أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلها من المدينة فلما افتتح مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح فأخبر أنهما ماتا
وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون سؤاله الثاني للتثبت لوصوله محل إقامتهما والقول بأنهما لو كانا أسلما لهاجرا إلى المدينة يقال عليه يجوز أن تكون الهجرة تعذرت عليهما لعارض عرض لهما والله أعلم قال وجاء أن أمه أرضعته صلى الله عليه وسلم تسعة أيام
أقول وعن عيون المعارف للقضاعي سبعة أيام وفي الإمتاع أنها أرضعته صلى الله عليه وسلم سبعة أشهر ثم أرضعته ثويبة أياما قلائل هذا كلامه وقوله ثم أرضتعه ثويبة يخالف ما تقدم من أن أول من أرضعه ثويبة إلا أن يقال المراد أول من أرضعه غير أمه ثويبة فلا مخالفة


وبهذا يرد نقل ابن المحدث عن الأصل أن أول لبن نزل جوفه صلى الله عليه وسلم لبن ثويبة فإنه فهم ذلك من قول الأصل أول من أرضعه ثويبة لما علمت أن الأولية إضافية لا حقيقة إلا أن يدعى ذلك في نقل ابن المحدث أيضا اي أول لبن نزل جوفه صلى الله عليه وسلم بعد لبن أمه والله أعلم
قال وأرضعه صلى الله عليه وسلم ثلاث نسوة أي أبكار من بني سليم أخرجن ثديهن فوضعنها في فمه فدرت في فيه فرضع منهن وأرضعته صلى الله عليه وسلم أم فروة أي وهؤلاء النسوة الأبكار كل واحدة منهن تسمى عاتكة وهن اللاتي عناهن صلى الله عليه وسلم بقوله أنا ابن العواتك من سليم على ما تقدم
وما تقدم من أن أم أيمن أرضعته صلى الله عليه وسلم ذكره في الخصائص الصغرى رد بأنها حاضنته لا مرضعته
وعلى تقدير صحته ينظر بلبن أي ولد لها كان فإنه لا يعرف لها ولد إلا أيمن وأسامة إلا أن يقال جاز أن لبنها در له صلى الله عليه وسلم من غير وجود ولد كما تقدم في النسوة الأبكار
وأرضعته صلى الله عليه وسلم حليمة بنت أبي ذؤيب وتكنى أم كبشة أي بإسم بنت لها إسمها كبشة ويكنى بها أيضا والدها الذي هو زوج حليمة أي وكانت من هوازن أي من بني سعد بن بكر بن هوازن وسيأتي الكلام على إسلامها
وعنها أنها كانت تحدث أنها خرجت من بلدها معها ابن لها ترضعه إسمه عبدالله ومعها زوجها قال وهو الحارث بن عبدالعزى ويكنى أبا ذؤيب أي كما يكنى أبا كبشة أدرك الإسلام وأسلم
فقد روى أبو داود بسند صحيح عن عمرو بن السائب أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلسه بين يديه
وعن ابن إسحاق بلغني أن الحارث إنما أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يؤيد قول بعضهم لم يذكر الحارث كثير ممن ألف في الصحابة
أقول يدل للأول ظاهر ما روى أن الحارث هذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد نزول القرآن عليه صلى الله عليه وسلم فقالت له قريش أو تسمع

يا حارث ما يقول إبنك فقال وما يقول قالوا يزعم أن الله يبعث من في القبور وأن لله دارين يعذب فيهما من عصاه ويكرم فيهما من أطاعه أي يعذب في إحداهما من عصاه وهي النار ويكرم في الأخرى من أطاعه وهي الجنة فقد شتت أمرنا وفرق جماعتنا فأتاه فقال أي بني مالك ولقومك يشكونك ويزعمون أنك تقول كذا أي أن الناس يبعثون بعد الموت ثم يصيرون إلى جنة ونار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم أنا أقول ذلك وفي لفظ أنا أزعم ذلك ولو قد كان ذلك اليوم يا أبت فلآخذن بيدك حتى أعرفك حديثك اليوم فأسلم الحرث بعد ذلك وحسن إسلامه أي وقد كان يقول حين أسلم لو أخذ ابني بيدي فعرفني ما قال لم يرسلني حتى يدخلني الجنة وإنما قلنا ظاهر لأنه قد يقال قوله بعد ذلك يصدق بما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا دلالة في ذلك على أنه أسلم في حياته صلى الله عليه وسلم
وفي شرح الهمزية لإبن حجر ومن سعادتها يعنى حليمة توفيقها للإسلام هي وزوجها وبنوها وهم عبدالله والشيما وأنيسة هذا كلامه
وفي الإصابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا أي على ثوب فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه ثم أقبلت أمه صلى الله عليه وسلم فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر فجلست عليه ثم أقبل أخوه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ورجاله ثقات ولعل المراد بجلوسه بين يديه جلوسه مقابله وحينئذ ففاعل جلس النبي صلى الله عليه وسلم وضمير يديه راجع لأخيه أي قام صلى الله عليه وسلم عن محل جلوسه على الثوب وأجلس أخاه على الثوب مكانه وجلس صلى الله عليه وسلم قبالة أخيه فعل صلى الله عليه وسلم ذلك ليكون أخوه هو وأبواه جيمعا على الثوب والله أعلم
قالت وخرجت في نسوة من بني سعد أي ابن بكر بن هوازن عشرة يطلبن الرضعاء في سنة شهباء أي ذات جدب وقحط لم تبق شيئا على أتان قمراء بفتح القاف والمد أي شديد البياض ومعنى شارف أي ناقة مسنة ما تبض بالضاد المعجمة وربما روى بالمهملة أي ما ترشح بقطرة لبن قالت وما كنا ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع ما في ثدي وفي رواية ثديى ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذيه بمعجمتين وقيل بمعجمة ثم مهملة وقيل بإسكان العين المهملة وكسر الذال المعجمة

وضم الباء الموحدة أي ما يكفيه بحيث يرفع رأسه وينقطع عن الرضاعة قالت حليمة ولكنا نرجو الغيث والفرج فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالدال المهملة وتشديد الميم بالركب أي حبسته بتأخرها عنه لشدة عنائها وتعبها لضعفها وهزالها حتى شق ذلك عليهم حتى قدمنا مكة نلتمس أي نطلب الرضعاء جمع رضيع وأدم مأخوذ من الماء الدائم يقال أدم بالركب إذا أبطأ حتى حبسهم ويروى بالمعجمة أي جاء بما يذم عليه وهو هنا لإبطاء
أقول لأنه كان من شيم العرب وأخلاقهم إذا ولد لهم ولد يلتمسون له مرضعة في غير قبيلتهم ليكون أنجب لولد وأفصح له وقيل لأنهم كانوا يرون أنه عار على المرأة أن ترضع ولدها انتهى أي تستقل برضاعه
ويدل للأول ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه أنا أعربكم أي أفصحكم عربية أنا قرشي وأسترضعت في بني سعد وجاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما قال له صلى الله عليه وسلم ما رأيت أفصح منك يا رسول الله فقال له مايمنعني وأنا من قريش وأرضعت من بني سعد فهذا كان يحمله على دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات
ومن ثم نقل عن عبدالملك بن مروان أنه كان يقول أضر بناحب الوليد يعنى ولده لأنه لمحبته له أبقاه مع أمه في المصر ولم يسترضعه في البادية مع الأعراب فصار لحانا لا عربية له وأخوه سليمان استرضع في البادية مع الأعراب فصار عربيا غير لحان
قالت حليمة فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها يتيم وذلك أنا إنما نرجو المعروف من أبى الصبي فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة معي إلا أخذت رضيعا غيري فلما أجمعنا الإنطلاق أي عزمنا عليه قلت لصاحبي والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا والله لأذهبن إلى ذلك الرضيع فلآخذنه قال لا عليك أي لا بأس عليكم أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة فذهبت إليه فأخذته
أقول وهذا السياق قد يخالف قول بعضهم إن عبدالمطلب خرج يلتمس له المراضع فجاءت له حليمة ابنة أبي ذؤيب إلا أن يقال جاز أن يكون التماسه للمراضع

غير حليمة كان عند قدومهن وأبين أن يقبلن ثم طلب من حليمة ذلك بعد أن لم يجد رضيعا ويدل لذلك قول صاحب شفاء الصدور إن حليمة قالت استقبلني عبدالمطلب فقال من أنت فقلت أنا أمرأة من بني سعد قال ما أسمك قلت حليمة فتبسم عبدالمطلب وقال بخ بخ سعد وحلم خصلتان فيهما خير الدهر وعز الأبد يا حليمة إن عندي غلاما يتيما وقد عرضته على نساء بني سعد فأبين أن يقبلن وقلن ما عند اليتيم من الخير إنما نلتمس الكرامة من الآباء فهل لك أن ترضعيه فعسى أن تسعدي به فقلت ألا تذرني حتى أشاور صاحبي فانصرفت إلى صاحبي فأخبرته فكأن الله قذف في قلبه فرحا وسرورا فقال لي يا حليمة خذيه فرجعت إلى عبدالمطلب فوجدته قاعدا ينتظرني فقلت هلم الصبي فاستهل وجهه فرحا فأخذني وأدخلني بيت آمنة فقالت لي أهلا وسهلا وأدخلتني في البيت الذي فيه محمد صلى الله عليه وسلم فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيض من اللبن وتحته حريرة خضراء راقد على قفاه يغط يفوح منه رائحة المسك فأشفقت أي خفت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله فوضعت يدى على صدره فتبسم ضاحكا وفتح عينيه إلى فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر فقبلته بين عينيه وأخذته وما حملني على أخذه أي أكد أخذه إلا أني لم أجد غيره وإلا فما ذكرته من أوصافه مقتض لأخذه أي وهذه الرواية ربما تدل على أنها لم تره قبل ذلك وأن إباءها كان قبل رؤيتها له قالت فلما أخذته رجعت به إلى رحلى فلما وضعته في حجرى أقبل ثدياي بما شاء الله من لبن فشرب حتى روى أي من الثدي الأيمن وعرضت عليه الأيسر فأباه قالت حليمة وكانت تلك حالته بعد أي بعد ذلك لا يقبل إلا ثديا واحدا وهو الأيمن
وفي السبعيات للهمذاني أن أحد ثديي حليمة كان لا يدر اللبن منه فلما وضعته في فم رسول الله صلى الله عليه وسلم در اللبن منه قالت وشرب معه أخوه حتى روى ثم نام وما كنا ننام معه قبل ذلك أي فعدم نومه من الجوع فقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا هي حافل أي ممتلئة الضرع من اللبن فحلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا فبتنا بخير ليلة يقول صاحبي حين أصبحنا تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة قلت والله إني لأرجو ذلك ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته صلى الله عليه وسلم معي عليها فوالله لقطعت بالركب أي صيرته خلفها ما يقدر عليها أي على

مرافقتها ومصاحبتها شيء من حمرهن حتى أن صواحبي يقلن لي يا بنت أبي ذؤيب ويحك اربعي أي اعطفى علينا بالرفق وعدم الشدة في السر أليس هذا أتانك التي كنت خرجت عليها تخفضك طورا وترفعك أخرى فأقول لهن بلى والله إنها لهى فيقلن والله إن لها لشأنا أي وقالت حليمة فكنت أسمع أتاني تنطق ونقول والله إن لي لشأنا ثم شأنا شأني بعثني الله بعد موتي ورد لي سمني بعد هزالي ويحكن يا نساء بني سعد إنكن لفي غفلة وهل تدرين من على ظهري على ظهري خير النبيين وسيد المرسلين وخير الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين ذكره في النطق المفهوم
وذكرت أنها لما أرادت فراق مكة رأت تلك الأتان سجدت أي خفضت رأسها نحو الكعبة ثلاث سجدات ورفعت رأسها إلى السماء ثم مشت قالت ثم قدمنا منازل بني سعد ولا أعلم أرضا من أراضي الله أجدب منها فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به شباعا لبنا أي غزيرات اللبن فنحلب ونشرب ولفظ فنحلب ما شئنا والله ما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضر أي المقيم في المنازل من قومنا يقول لرعاتهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب يعنونني فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا فلم نزل نعرف من الله تعالى الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شبا لا يشبه الغلمان فلم يقطع سنتيه حتى كان غلاما جفرا أي غليظا شديدا
وعن حليمة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ شهرين كان يجيء إلى كل جانب أي وهذا يضعف ما تقدم عن الإمتناع من أن أمه صلى الله عليه وسلم أرضعته سبعة أشهر قالت حليمة فلما بلغ صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر كان يتكلم بحيث يسمع كلامه ولما بلغ تسعة أشهر كان يتكلم الكلام الفصيح ولما بلغ عشرة أشهر كان يرمى السهام مع الصبيان
وعنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت إنه لفى حجرى ذات يوم إذ مرت به غنيماتي فأقبلت واحدة منهن حتى سجدت له وقبلت رأسه ثم ذهبت إلى صواحبها
أقول وقد سجدت له صلى الله عليه وسلم الغنم وكذا الجمل بعد بعثته والهجرة فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطا أي بستانا للإنصار ومعه أبو بكر وعمر ورجال من الأنصار وفي الحائط غنم فسجدت

له فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله كنا أحق بالسجود لك من هذه الغنم فقال إنه لا ينبغي في أمتي أن يسجد أحد لأحد ولو كان ينبغي لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها زاد في رواية ولو أن رجلا أمر زوجته أن تنقل من جبل إلا جبل لكان نولها أي حقها أن تفعل وحرب جمل بكسر الراء أي اشتد غضبه فصار لا يقدر أحد يدخل عليه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه افتحوا عنه فقالوا إنا نخشى عليك يا رسول الله فقالوا افتحوا عنه ففتحوا عنه فلما رآه الجمل خر ساجدا أي فأخذ بناصيته ثم دفعه لصاحبه وقال استعمله وأحسن علفه فقال القوم يا رسول الله كنا أحق أن نسجد لك من هذه البهيمة فقال كلا الحديث وفي هذا دلالة على عظيم حق الزوج على زوجته
وجاء مما يدل على ذلك أيضا ما روى أن أسماء بنت يزيد الأنصارية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الله بعثك إلى الرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك ونحن معاشر النساء مقصورات مخدرات قواعد بيوت ومواضع شهوات الرجال وحاملات أولادهم وأن الرجال فضلوا بالجماعات وشهود الجنائز والجهاد وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم وربينا لهم أولادهم أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه إلى أصحابه وقال هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالا عن دينها من هذه قالوا بلى يا رسول الله فقال انصرفي يا أسماء واعملي بأنك من النساء إن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته وإتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال أي من حضور الجماعات وشهود الجنائز والجهاد فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر استبشارا بما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتبعل ملاعبة المرأة لزوجها والله أعلم
قالت حليمة وكان ينزل عليه صلى الله عليه وسلم كل يوم نور كنور الشمس ثم ينجلى عنه وإلى قصة رضاعه صلى الله عليه وسلم يشير صاحب الهمزية بقوله ** وبدت في رضاعه معجزات ** ليس فيها عن العيون خفاء ** ** إذ أتته ليتمه مرضعات ** قلن ما في اليتيم عنا غناء ** ** فأتته من آل سعد فتاة ** قد أبتها لفقرها الرضعاء ** ** أرضعته لبانها فسقتها ** وبنيها ألبانهن الشاء ** **

أصبحت شولا عجافا وأمست ** ما بها شائل ولا عجفاء ** ** أخصب العيش عندها بعد محل ** إذ غدا للنبي منها غذاء ** ** يا لها منة لقد ضوعف الأجر ** عليها من جنسها والجزاء ** ** وإذا سخر الإله أناسا ** لسعيد فإنهم سعداء **
أي وظهرت في رضاعه وفي زمن رضاعه صلى الله عليه وسلم أمور خارقة للعادة لوضوحها لا تخفى على العيون
فمن ذلك أن المراضع أبين أن يأخذنه صلى الله عليه وسلم لأجل يتمه فبعد أن تركته أتته فتاة من آل سعد قد أبتها أهل الرضعاء لفقرها فسقته لبنها فسقتها وبنيها الشاء ألبانها وكانت تلك الشياه لا لبن بها بل هزيلات فصارت ذات ألبان وسمن
ومن ذلك أن العيش كثر عندها بعد شدة المحل لأجل حصول غذاء النبي صلى الله عليه وسلم يا لها أي لتلك الخصلة الصادرة من حليمة وهي سقيها له لبنها نعمة منها عليه لقد كرر الثواب والجزاء على تلك النعمة من جنس تلك النعمة لأن الجزاء من جنس العمل فلما سقت اللبن سقيته ولا بدع فإن الله تعالى إذا سخر أناسا لمحبة سعيد والقيام بخدمته فإنهم بسبب ذلك سعداء
أقول لم أقف على رواية فيها أن حليمة أبتها أهل الرضعاء لفقرها وكأن الناظم أخذ ذلك من قولها فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره ولا دلالة في ذلك
واستفتى الحافظ ابن حجر عن بعض الوعاظ يذكر عند إجتماع الناس للمولد حادثات أي وقائع تتعلق به صلى الله عليه وسلم جاءت بها الأخبار هي نخلة بالتعظيم حتى يظهر من السامعين لها حزن فيبقى صلى الله عليه وسلم في حيز من يرحم لا في حيز من يعظم
من ذلك أنهم يقولون إن المراضع حضرن ولم يأخذنه لعدم ماله ونحو ذلك فما قولكم في ذلك
فأجاب بما نصه ينبغي لمن يكون فطنا أن يحذف من الخبر أي الحديث ما يوهم في المخبر عنه نقصا ولا يضره ذلك بل يجب كما وقع لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه حيث قال في بعض نصوصه وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة لها شرف فكلم فيه فقال لو سرفت فلانة لإمرأة شريفة لقطعتها يعنى فاطمة بنت النبي صلى

الله عليه وسلم فلم يصرح بإسمها تأدبا معها أن تذكر في هذا المعرض وإن كان صلى الله عليه وسلم ذكرها لأن ذلك منه صلى الله عليه وسلم حسن دل على أن الخلق عنده صلى الله عليه وسلم في الشرع سواء فهذا من كمال أدب الإمام رضي الله تعالى عنه وأرضاه ونفعنا ببركاته أي فإذا جاز حذف بعض الحديث الموهم نقصا في بعض أهل بيته فما بالك بما بوهم النقص فيه صلى الله عليه وسلم وهذا من الحافظ يدل على أن إباء المراضع له صلى الله عليه وسلم وارد حيث أقره ولم ينكره والله أعلم
قال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان أول كلام تكلم به صلى الله عليه وسلم حين فطمته حليمة رضي الله تعالى عنها الله أكبر تكبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا أي وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا عند خروجه من بطن أمه وفي رواية أول كلام تكلم صلى الله عليه وسلم به في بعض الليالي أي وهو عند حليمة لا إله إلا الله قدوسا قدوسا نامت العيون والرحمن لا تأخذه سنة ولا نوم وكان صلى الله عليه وسلم لا يمس شيئا إلا قال بسم الله
وعن حليمة رضي الله عنها لما دخلت به صلى الله عليه وسلم إلى منزلي لم يبق منزل من منازل بني سعد إلا شممنا منه ريح المسك وألقيت محبته صلى الله عليه سلم أي وإعتقاد بركته في قلوب الناس حتى إن أحدهم كان إذا نزل به أذى في جسده أخذ كفه صلى الله عليه وسلم فيضعها على موضع الأذى فيبرأ بإذن الله تعالى سريعا وكذلك إذا اعتل لهم بعير أو شاة انتهى
قالت حليمة فقدمنا مكة على أمه صلى الله عليه وسلم أي بعد أن بلغ سنتين ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما نرى من بركته صلى الله عليه وسلم فكلمنا أمه وقلت لها لو تركتي بني عندي حتى يغلظ
وفي كلام ابن الأثير قلنا لها دعينا نرجع به هذه السنة الأخرى فإني أخشى عليه وباء مكة أي مرضها ووخمها فلم نزل بها حتى ردته صلى الله عليه وسلم معنا
وقيل إن أمه صلى الله عليه وسلم آمنة قالت لحليمة ارجعي بابني فإني أخاف عليه وباء مكة فوالله ليكونن له شأن أي ولا مخالفة بينهما لجواز أن حليمة لما قالت لها ما تقدم قالت لحليمة ارجعي بإبني على الفور فإني أخاف عليه وباء مكة أي كما تخافين عليه ذلك قالت حليمة فرجعنا به صلى الله عليه وسلم فوالله إنه بعد مقدمنا به صلى الله عليه وسلم

بأشهر عبارة ابن الأثير بعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة مع أخيه يعنى من الرضاعة لفى بهم لنا ولعل هذا لا ينافيه قول المحب الطبري فلما شب وبلغ سنتين لأنه ألغى أي ذلك الكسر فبينما هو صلى الله عليه وسلم وأخوه في بهم لنا خلف بيوتنا والبهم أولاد الضأن إذ أتى أخوه يشتد أي يعدو فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه أي يدخلان يديهما في بطنه قالت فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا وجهه وفي لفظ لونه أي متغير أي صار لونه كلون النقع الذي هو الغبار وهو صفة ألوان الموتى وذلك لما ناله من الفزع أي من رؤية الملائكة لا من مشقة نشأت عن ذلك الشق لما يأتى في بعض الروايات فلم أجد لذلك حسا ولا ألما ومن ثم قال ابن الجوزي فشقة وما شق عليه وإطلاقه شامل لهذه المرة التي هي الأولى وقد قال بعضهم إنه لم ينتفع لونه إلا وهو صلى الله عليه وسلم صغير في بني سعد
قالت فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا له مالك يا بني فقال صلى الله عليه وسلم جاءني رجلان عليها ثياب بيض أي وهما جبريل وميكائيل أي وهما المراد بقوله في رواية فأقبل إلي طيران أبيضان كأنهما نسران فقال أحدهما لصاحبه أهو هو قال نعم فأقبلا يبتدراني فأخذاني فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئا أي طلباه فوجداه فأخذاه وطرحاه ولا أدري ما هو أي وسيأتي أن هذا الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه وما أدري ما هو أنه علقة سوداء استخرجاها من قلبه بعد شق بطنه ففي هذه الرواية طي ذكر القلب وشقه وسيأتي ذكر ذلك في بعض الروايات
وفي رواية غريبة نزل عليه كركيان فشق أحدهما بمنقاره جوفه ومج الآخر فيه بمنقاره ثلجا أو بردا وقد يقال إن الطيرين تارة شبها بالنسرين وتارة شبها بالكركيين وفي كون مجئ جبريل وميكائيل على صورة النسر لطيفة لأن النسر سيد الطيور فقد جاء في الحديث هبط على جبريل فقال يا محمد إن لكل شيء سيد فسيد البشر آدم وأنت سيد ولد آدم وسيد الروم صهيب وسيد فارس سلمان وسيد الحبش بلال وسيد الشجر السدر وسيد الطير النسر وفي بحر العلوم وسيد الملائكة إسرافيل وسيد الشهداء هابيل وسيد الجبال جبل موسى وسيد الأنعام الثور وسيد الوحوش الفيل وسيد السباع الأسد زاد بعضهم وسيد الشهور رمضان وسيد الأيام يوم الجمعة وسيد الكلام العربية وسيد العربية القرآن وسيد القرآن سورة البقرة
قالت حليمة فرجعنا به صلى الله عليه وسلم إلى خبائنا أي محل الإقامة وقال لي أبوه

يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به ذلك وفي رواية قال الناس يا حليمة رديه على جده واخرجي من أمانتك وفي رواية وقال زوجي أرى أن ترديه على أمه لتعالجه والله إن أصابه ما أصابه إلا حسد من آل فلان لما يرون من عظيم بركته قالت فحملناه فقدمنا به مكة على أمه قال الواقدي وكان إبن عباس يقول رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين أي وزاد في الإستيعاب ويومين من مولده صلى الله وكان غيره أي غير ابن عباس يقول رجع إلى أمه وهو ابن أربع سنين وذكر الأموي أنه رجع إلى أمه وهو ابن ست سنين انتهى
أقول سياق ما قبله يدل على أن قدوم حليمة به على أمه كان عقب الواقعة المذكورة وتقدم أن سنه حينئذ كان سنتين وأشهر وسيأتي ما فيه والله أعلم
وعن ابن عباس أن حليمة كانت تحدث أنه صلى الله عليه وسلم لما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم فقال لي يوما يا أماه مالي لا أرى إخوتي بالنهار يعنى إخوته من الرضاعة وهم أخوه عبدالله وأختاه أنيسة والشيماء بفتح المعجمة وسكون التحية أولاد الحارث قلت فدتك نفسي إنهم يرعون غنما لنا فيروحون من ليل إلى ليل قال ابعثيني معهم فكان عليه الصلاة والسلام يخرج مسرورا ويعود مسرورا أي وهذا لا يخالف قولها السابق كان مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا ولا قوله صلى الله عليه وسلم الآتي فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا ولا قوله فبينما أنا ذات يوم منتبذا من أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الفتيان كما لا يخفى
قالت حليمة فلما كان يوما من ذلك خرجوا فلما انتصف إليها أتاني أخوه أي وفي رواية إذا أتى ابني ضمرة يعدو فزعا وجبينه يرشح باكيا ينادى يا أبت ويا أمه الحقا أخي محمدا فما تلحقانه إلا ميتا قلت وما قضيته قال بينا نحن قيام إذ أتاه رجل فاختطفه من وسطنا وعلا به ذروة الجبل ونحن ننظر إليه حتى شق صدره إلى عانته ولا أدرى ما فعل به
أقول ولعل ضمرة هذا هو أخوه عبدالله المتقدم ذكره لقب بذلك لخفة جسمه ولا يخالف ذلك قوله صلى الله عليه وسلم الآتي إن أترابه الذين كانوا معه انطلقوا هربا مسرعين إلى الحي يؤذونهم ويستصرخونهم ولأنه يجوز أن يكون ضمرة سبقهم والله أعلم
قالت حليمة فانطلقت أنا وأبوه نسعى سعيا فإذا نحن به قاعدا على ذورة الجبل شاخصا ببصره إلى السماء يتبسم ويضحك فأكببت عليه وقبلته بين عينيه وقلت له فدتك نفسي

ما الذي دهاك قال خيرا كذا بالنصب يا أماه بينا أنا الساعة قائم إذ أتاني رهط ثلاثة بيد أحدهم إبريق فضة في يد الآخر طست من زمردة خضراء والزمردة بالضم والزاي المعجمة الزبر جد وهو معرب فأخذوني وانطلقوا بي إلى ذروة الجبل فأضجعوني على الجبل إضجاعا لطيفا وفيه أن هذا يخالف قوله صلى الله عليه وسلم الآتي فأخذوني حتى أتوا شفير الوادي فعمد أحدهم فأضجعني إلى الأرض ثم شق من صدري إلى عانتي وسيأتي الجمع بينهما وقوله ثم شق من صدري إلى عانتي هو المراد ببطنه فيما تقدم وما يأتي قال وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حسا ولا ألما الحديث وفي هذه الرواية طي ذكر القلب وشقه أيضا
أقول ولا منافاة في تلك الرواية بين قولها فوجدناه قائما وبين قولها في هذه الرواية فإذا نحن به قاعدا على ذروة الجبل لجواز أن تكون أرادت بقولها قائما كونه حيا وبكونه قاعدا كونه ماكثا كما لا منافاة بين قولها في تلك الرواية منتقعا وجهه وبين قولها في هذه الرواية يتبسم ويضحك لأن ذلك لا ينافي الفزع أو لجواز أن يكون تبسمه وضحكه تعجبا لما رأى من الحالة التي عليها أمه من التعب والشدة والله أعلم
قال وذكر ابن إسحاق أن حليمة لما قدمت به صلى الله عليه وسلم مكة لترده على أمه أي بعد شق صدره صلى الله عليه وسلم وقد بلغ أربع سنين أو خمسا أو ستا على ما تقدم أضلته في أعالي مكة فأتت جده عبدالمطلب فقالت إني قدمت بمحمد هذه الليلة فلما كنت بأعالي مكة أضلني فوالله ما أدري أين هو فقام عبدالمطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده عليه وفي مرآة الزمان أنه أنشد ** يا رب رد لي ولدي محمدا ** أردده ربي واصطنع عندي يدا **
وسيأتي أن هذا البيت أنشده عبدالمطلب حين بعث صلى الله عليه وسلم ليرد إبلا له ضلت
وقد يقال لا مانع من تكرر ذلك منه فسمع هاتفا من السماء يقول أيها الناس لا تضجوا إن لمحمد ربا لن يخذله ولا يضيعه فقال عبدالمطلب من لنا به فقال إنه بوادي تهامة عند الشجرة اليمنى فركب عبد المطلب نحوه وتبعه ورقة بن نوفل وسيأتي بعض ترجمة ورقة فوجداه صلى الله عليه وسلم قائما تحت شجرة يجذب عصنا من أغصانها فقال له جده من أنت يا غلام فقال أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب فقال وأنا عبدالمطلب جدك فدتك نفسي وأحتمله وعانقه وهو يبكى ثم رجع إلى مكة وهو قدامه على قربوس فرسه ونحر الشياه والبقر وأطعم أهل مكة


أقول وقول جده من أنت يا غلام لعله لكونه وجده على حالة لا توجد لمن يكون في سنه عادة كما تقدم عن حليمة من قولها كان يشب شبابا لا يشبه الغلمان
وفي السيرة الهشامية أن الذي وجده هو ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش فأتيا به عبدالمطلب أي ويقال إن عمرو بن نفيل رآه وهو لا يعرفه فقال له من أنت يا غلام فقال أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم فاحتمله بين يديه على الراحلة حتى أتى به عبدالمطلب
وفي كلام بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى { ووجدك ضالا فهدى } روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ضللت عن جدي عبدالمطلب وأنا صبي وصار ينشد وهو متعلق باستار الكعبة يا رب رد ولدي محمدا البيت فجاء أبو جهل بين يديه على ناقة وقال لجدي ألا تدري ما وقع من إبنك فسأله فقال أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت أن تقوم فأركبته من امامي فقامت ويحتاج إلى جمع على تقدير صحة كل مما ذكر
وقد يقال لا مانع من تعدد ذلك ويدل لذلك أن بعض المفسرين قال في تفسير قوله تعالى { ووجدك ضالا فهدى } قيل ضل عن حليمة مرضعته وقيل ضل عن جده عبد المطلب وهوصغير
قالت حليمة فقالت أمه ما أقدمك به يا ظئر أي يا مرضعة ولقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك قلت قد بلغ والله وقضيت الذي على وتخوفت عليه الأحداث فأديته إليك كما تحبين فقالت ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك قالت فلم تدعني حتى أخبرتها قالت أفتخوفت عليه الشيطان قلت نعم قالت كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وإن لإبني شأنا أفلا أخبرك خبره قلت بلى قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام ثم حملت به فوالله ما رأيت أي ما علمت من حمل قط كان أخف على ولا أيسر منه ووقع حين ولدته وإنه لواضع يده بالأرض رافع رأسه إلى السماء دعيه عنك وانطلقي راشدة
قال وعن حليمة أنه مر عليها جماعة من اليهود فقالت ألا تحدثوني عن ابن هذا حملته كذا ووضعته كذا ورأيت كذا كما وصفت لها أمه أي فإنها ذكرت لها ذلك مرتين عند دفعه لها وعند أخذه منها انتهى


أقول ولا ينافي ذلك قول آمنة لحليمة أولا أخبرك خبره وقول حليمة لها بلى لجواز أن تكون أمه لم تكن متذكرة أنها أخبرتها بذلك قبل ذلك وأن حليمة كذلك أو جوزت حليمة أنها تخبرها بزيادة عما أخبرتها به أولا بناء على إتحاد ما أخبرتها به أولا وثانيا والله أعلم
قالت ولما أخبرت أولئك اليهود بذلك قال بعضهم لبعض اقتلوه فقالو أيتيم هو فقالت لا هذا أبوه وأنا أمه فقالوا لو كان يتيما قتلناه
أقول وهذا يدل على أن ما ذكرته أمه لحليمة من أنها حين حملت به خرج منها نور إلى آخر ما تقدم وأن يكون لا أب له مذكورا في بعض الكتب القديمة أنه من علامة نبوة النبي المنتظر والله أعلم
قال وعنها أنها نزلت به سوق عكاظ أي وكان سوقا للجاهلية بين الطائف ونخلة المحل المعروف كانت العرب إذا حجت أقامت بهذا السوق شهر شوال فكانوا يتفاخرون فيه وللمفاخرة فيه سمى عطاظ يقال عكظ الرجل صاحبه إذا فاخره وغلبه في المفاخرة
وفي كلام بعضهم كان سوق عكاظ لثقيف وقيس غيلان فرآه كاهن من الكهان فقال يا أهل سوق عكاظ اقتلوا هذا الغلام فإن له ملكا فزاغت أي مالت به وحادت عن الطريق فأنجاه الله تعالى أي وفى الوفاء لما قامت سوق عكاظ أنطلقت حليمة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عراف من هذيل يريه الناس صبيانهم فلما نظر إليه صاح يا معشر هذيل يا معشر العرب فاجتمع إليه الناس من أهل الموسم فقال اقتلوا هذا الصبي فأنسلت حليمة به فجعل الناس يقولون أي صبي فيقول هذاالصبي فلا يرون شيئا فيقال له ما هو فيقول رأيت غلاما والآلهة ليقتلن أهل دينكم وليكسرن آلهتكم وليظهرن أمره عليكم فطلب فلم يوجد
وعنها رضي الله عنها أنها لما رجعت به مرت بذي المجاز وهو سوق للجاهلية على فرسخ من عرفة أي وهذا السوق قبله سوق يقال له سوق مجنة كانت العرب تنتقل إليه بعد انفضاضهم من سوق عكاظ فتقيم فيه عشرين يوما من ذي القعدة ثم تنتقل إلى هذا السوق الذي هو سوق ذي المجاز فتقيم به إلى أيام الحج وكان بهذا السوق عراف أي منجم يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

أي نظر إلى خاتم النبوة وإلى الحمرة في عينيه صاح يا معشر العرب اقتلوا هذا الصبي فليقتلن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم إن هذا لينظر أمرا من السماء وجعل يغرى بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يلبث أن وله فذهب عقله حتى مات
أي وفي السيرة الهشامية أن نفرا نصارى من الحبشة رأوه صلى الله عليه وسلم مع أمه السعدية حين رجعت به إلى أمه بعد فطامه فنظروا إليه وقلبوه أي رأوا خاتم النبوة بين كتفيه وحمرة في عينيه وقالوا لها هل يشتكي عينيه قالت لا ولكن هذه الحمرة لا تفارقه ثم قالوا لها لتأخذن هذا الغلام فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا فإن هذا الغلام كائن لنا وله شأن نحن نعرف أمره فلم تكد تنفلت به صلى الله عليه وسلم منهم وأتت به إلى أمه
وعنه صلى الله عليه وسلم واسترضعت في بني سعد فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بيد أحدهما طست من ذهب مملوء ثلجا فأخذاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها أي وقيل هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله وفي رواية فاستخرجا منه علقتين سوداوين أي ولا مخالفة لجواز أن تكون تلك العلقة انفلقت نصفين وفي رواية فاستخرجا منه مغمز الشيطان أي وهو المعبر عنه في الرواية قبلها بحظ الشيطان
ولا ينافي ذلك قوله في الرواية السابقة ولا أدري ماهو لجواز أن يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بهذا بعد أن علمه والمراد بمغمز الشيطان محل غمزه اي محل ما يلقيه من الامور التي لا تنبغي لأن تلك العلقة خلقها الله تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها فأزيلت من قلبه فلم يبق فيه مكان لأن يلقي الشيطان فيه شيئا فلم يكن للشيطان فيه حظ وليست هي محل غمزه عتد ولادته صلى الله عليه وسلم كما يوهمه كلام غير واحد
وفيه أن هذا يقتضي أن يكون قبل إزالة ذلك كان للشيطان عليه سبيل أجاب السبكي بأنه لا يلزم من وجود القابل لما يلقيه الشيطان حصول الإلقاء أي بالفعل فليتأمل
وسئل السبكي رحمه الله تعالى فلم خلق الله ذلك القابل في الذات الشريفة وكان من الممكن أن لا يخلقه الله فيها وأجاب بأنه من جملة الأجزاء الإنسانية فخلقت تكملة

للخلق الإنساني ثم نزعت تكرمه له صلى الله عليه وسلم أي وليظهر للخلق بتلك التكرمة ليتحققوا كمال باطنه كما تحققوا كمال ظاهره أي لأنه لو خلق صلى الله عليه وسلم خاليا عنها لم تظهر تلك الكرامة
وفيه أنه يرد على ذلك ولادته صلى الله عليه وسلم من غير قلفة وأجيب بالفرق بينهما بأن القلفة لما كانت تزال ولا بد من كل أحد مع ما يلزم على إزالتها من كشف العورة كان نقص الخلقة الإنسانية عنها عين الكمال وقد تقدم كل ذلك
وذكر السهيلي رحمه الله ما يفيد أن هذه العلقة هي محل مغمز الشيطان عند الولادة حيث قال أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما لم يخلق من منى الرجال وإنما خلق من نفخة روح القدس أعيذ من مغمز الشيطان
قال ولا يدل هذا على فضل عيسى عليه الصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم لأن محمد صلى الله عليه وسلم قد نزع منه ذلك الغمز هذا كلامه وقد علمت أنه إنما هو محل ما يلقيه الشيطان من الأمور التي لا تنبغي وأن ذلك مخلوق في كل واحد من الأنبياء عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره ولم تنزع إلا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم ثم غسلا قلبي بذلك الثلج أي الذي في ذلك الطست حتى أنقياه أي وملآه حكمة وإيمانا كما في بعض الروايات أي و رواية ثم قال أحدهما لصاحبه ائتني بالسكينة فأتى بها فذراها في قلبي وهذه السكينة يحتمل أنها الحكمة والإيمان ويحتمل أن تكون غيرهما وهذه الرواية فيها أن الطست كان من ذهب وكذا في الرواية الآتية وفي الرواية قبل هذه كانت من زمردة خضراء ويحتاج الى الجمع وسنذكره في هذه الرواية وكذا الرواية الآتية أن الثلج كان في الطست وفي الرواية قبل هذه كان في يد أحدهما إبريق فضة ويحتاج الى الجمع لأن الواقعة لم تتعدد وهو عند حليمة وفي غسله بالثلج إشعار بثلج اليقين وبرده على الفؤاد ذكره السهيلي رحمه الله
وذكر في حكمة كون الطست من ذهب كلاما طويلا قال صلى الله عليه وسلم وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن وفي الروايات السابقة طي ذكر الخاتم
وتتمة الجواب الذي أجاب به صلى الله عليه وسلم أخا بني عامر التي وعدنا بذكرها هنا هو قوله صلى الله عليه وسلم وكنت مسترضعا في بني سعد فبينا أنا ذات يوم منتبذا

أي منفردا من أهلي في بطن واد مع أتراب لي أي المقاربين بالموحدة أو النون لي في السن من الصبيان إذ أتى رهط ثلاثة معهم طست من ذهب ملآن ثلجا فأخذوني من بين أصحابي فخرج أصحابي هرابا حتى أتوا على شفير الوادي ثم أقبلوا على الرهط فقالوا ما أر بكم أي ما حاجتكم إلى هذا الغلام فإنه ليس منا هذا ابن سيد قريس وهو مرتضع فينا يتيم ليس له أب فما يرد عليكم أن يفيدكم قتله وماذا تصيبون من ذلك فإن كنتم لابد قاتلوه أي إن كان لا بد لكم من قتل واحد فاختاروا منا من شئتم فليأتكم مكانه فاقتلوه ودعوا هذا الغلام فإنه يتيم فلما رأى الصبيان أن القوم لا يجيبون جوابا انطلقوا هرابا مسرعين الى الحي يؤذنونهم أي يعلمونهم ويستصرخونهم على القوم فعمد أحدهم إلى فأضجعني على الأرض اضجاعا لطيفا ثم شق بطني ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك مسا أي أدنى مشقة واستخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها أي بالغ في غسلها ثم أعادها مكانها أي وقد طوى ذكر استخراج الأحشاء وغسلها في الروايات السابقة ولا يخفى أن من جملة الأحشاء ظاهر القلب ثم قال الثاني منهم لصاحبه تنح عنه فنحاه عني ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي وأنا أنظر إليه فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء تقدم التعبير عنها بالعلقة السوداء ثم رمى بها ثم قال بيدة يمنة منه كأنه يتناول شيئا وإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه فختم به قلبي أي بعد التئام شقه فامتلأ نورا وذلك نور النبوة والحكمة وقد تقدم وملآه حكمة وإيمانا وإن السكينة ذرت فيه ثم أعاده مكانه فوجدت برد الخاتم في قلبي دهرا وفي رواية فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي
أقول نقل شيخ بعض مشايخنا الشيخ نجم الدين الغيطي عن مغازي ابن عائذ في حديثه صلى الله عليه وسلم لأخي بني عامر وأقبل أي الملك وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه فليتأمل ذلك وقوله فصدعه يدل بظاهره على أن صدعه كان بيد الملك فلم يشقه بآلة وحينئذ يكون المراد بالشق الصدع بلا آلة وقد طوى في هذه الرواية ذكر ملء قلبه حكمة وإيمانا وأنه ذر فيه السكينة وذكر في هذه الرواية أن الختم كان لقلبه صلى الله عليه وسلم وفي الرواية قبلها أنه كان بين كتفيه وفي رواية ابن عائذ وبين ثدييه ويحتاج الى الجمع والظاهر أن متعاطي الختم جبريل ويدل عليه قول

صاحب الهمزية رحمه الله في هذه القصة ختمته يمنى الأمين وسيأتي التصريح بذلك لكن في غير هذه القصة والله أعلم قال صلى الله عليه وسلم ثم قال الثالث لصاحبه تنح عنه فنحاه عني فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى وختم عليه وفي رواية قال أحدهما للآخر خطه فخاطه وختم عليه
أقول وقد يقال معنى خطه ألحمه فخاطه أي لحمه أي مر بيده عليه فالتحم أي فلا يخالف ما سبق ولا ينافيه ما في الحديث الصحيح أنهم كانوا يرون أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم لجواز أي يكون المراد يرون أثرا كأثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم وهو أثر مرور يد جبريل عليه الصلاة والسلام وهذا طوى ذكره في الروايات السابقة وقوله ختم عليه يقتضى أن الختم كان في صدره صلى الله عليه وسلم وهو الموافق لما تقدم عن ابن عائذ أنه بين ثدييه لكنه زاد بين كتفيه وتقدم ان الختم كان بقلبه
وقد يقال في الجمع لا مانع من تعدد الختم في المحال المذكورة أي في قلبه وصدره وبين كتفيه فختم القلب لحفظ ما فيه وختم الصدر وبين الكتفين مبالغة في حفظ ذلك لأن الصدر وعاؤه القريب وجسده وعاؤه البعيد وخص بين الكتفين لأنه أقرب إلى القلب من بقية الجسد ولعله أولى من جواب القاضي عياض رحمه الله بأن الذي بين كتفيه هو أثر ذلك الختم الذي كان في صدره إذ هو خلاف الظاهر من قوله وجعل الخاتم بين كتفي وفيه السكوت عن ختم قلبه ولا يحسن أن يراد بالصدر القلب من باب تسمية الحال بإسم محله لأنه يصير ساكتا عن ختم الصدر
وأولى من جواب الحافظ ابن حجر رحمه الله أيضا بأنه يجوز أن يكون الختم لقلبه ظهر من وراء ظهره عند كتفه الأيسر لأن القلب في ذلك الجانب لما علمت وفيهما أن الذي عند الأيسر خاتم النبوة أي الذي هو علامة على النبوة الذي ولد صلى الله عليه وسلم به على ما هو الصحيح
وفي الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بجعل خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث يدخل الشيطان لغيره وسائر الأنبياء كلهم كان الخاتم في يمينهم
أي فقد أخرج الحاكم في المستدرك عن وهب بن منبه قال لم يبعث الله نبيا إلا وقد كان عليه شامات النبوة في يده اليمنى إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإن شامة البنوة كانت بين كتفيه هذا كلامه ولم أقف على بيان تلك الشامات التي كانت للأنبياء ما هي


وكتب الشهاب القسطلاني على هامش الخصائص قوله وجعل خاتم النبوة بظهره الخ مشكل إذ مفهومه أن موضع الدخول لقلوب الأنبياء غير نبينا لم يختم ولا يخفى ما فيه من المحظور فما أشنعها من عبارة وأخطأها من إشارة هذا كلامه
ولك أن تقول المراد بغيره في قوله حيث يدخل الشيطان لغيره من غير الأنبياء لما علم وتقرر في النفوس من عصمة الأنبياء من الشيطان واختص نبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالختم في المحل المذكور مبالغة في حفظه من الشيطان وقطع أطماعه فليتأمل
لا يقال كل من جواب القاضي والحافظ ابن حجر يجوز أن يكون مبنيا على أن خاتم النبوة هو أثر هذا الختم وهو موافق لما تمسك به القائل بأن خاتم النبوة لم يولد به وإنما حدث بعد الولادة
لأنا نقول على تسليم أنه حدث بعد الولادة فقد وجد عقبها فعن ابن نعيم في الدلائل أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد ذكرت أمه أن الملك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات ثم أخرج صرة من حرير أبيض فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة وبذلك يعلم أن خاتم النبوة ليس أثرا لهذا الخاتم
وكلام السهيلى يقتضى أنه هو حيث قال إن هذا الحديث الذي في شق صدره في الرضاعة فيه فائدة من تبيين العلم وذلك أن خاتم النبوة لم يدر أنه خلق به أو وضع فيه بعد ما ولد أو حين نبئ فبين في هذا الحديث متى وضع وكيف وضع ومن وضعه زادنا الله تعالى علما وأوزعنا شكر ما علم هذا كلامه
ثم رأيت عن الحافظ ابن حجر ما يوافقه حيث قال ومقتضى الأحاديث التي فيها شق الصدر ووضع الخاتم أنه لم يكن موجودا حين ولادته وإنما كان أول وضعه لما شق صدره عند حليمة خلافا لمن قال ولد به أو حين وضع هذا كلامه
ولا يخفى أن ما قلناه من أن هذا الخاتم غير خاتم النبوة أولى لأن به يجتمع القولان وتندفع المخالفة والجمع أولى من التضعيف لما صح من أنه صلى الله عليه وسلم ولد به وعلى أنه هو يلزم أن يكون خاتم النبوة تعدد محله فوجد بين كتفيه وفي صدره وفي قلبه


لايقال قد أشير إلى الجواب عن ذلك بأن الموجود بين كتفيه إنما هو أثر ما في صدره وقلبه
لأنا نقول يبطله ما تقدم عن الدلائل لأبي نعيم وما تقدم عن بعض الروايات فأقبل الملك وفي يده خاتم فوضعه بين كتفيه وثدييه وأيضا يلزم عليه أن يكون خاتم النبوة تكرر الإتيان به ثانيا في قصة المبعث وثالثا في قصة الإسراء ففي قصة المبعث فأكفأني كما يكفأ الإناء ثم ختم في ظهري وفي قصة الإسراء ثم ختم يبن كتفيه بخاتم النبوة وكل منهما يبطل كون ما في ظهره أو بين كتفيه أثرا لذلك الختم الذي وجد في صدره أو قلبه
إلا أن يقال ما في قصة المبعث وقصة الإسراء غير خاتم النبوة وإن خاتم النبوة إنما هو الأثر الحاصل من ختم صدره وقلبه في قصة الرضاعة وإنه تكرر الختم على ذلك الأثر في المبعث وفي قصة الإسرء وفيه أنه لا معنى لتكرر الختم في محل واحد
ولا يقال الغرض منه المبالغة في الحفظ لأن ذلك إنما يكون عند تعدد محل الختم لا عند إعادته ثانيا وثالثا في محل واحد وأيضا هو خلاف ظاهر كلامهم من أنه في المحال الثلاثة خاتم النبوة ويؤيده أن المتبادر من القول في قصة الإسراء ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة أنه جعل خاتم النبوة بين كتفيه وإلا فما معنى كون الخاتم بمعنى الطابع أي خاتم النبوة
فإن قلت على دعوى الغيرية يحتاج إلى الجواب عن قوله بخاتم النبوة قلت قد يقال هذا ليس برواية عن الشارع وإنما وقعت تلك العبارة عن بضعهم ويجوز أن يكون الباء في كلامهم بمعنى مع أي مع خاتم النبوة فتأمل والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنها ضا لطيفا ثم قال الأول للذي شق صدري زنه بعشرين من أمته فوزنني فرجحتهم ثم قال زنه بمائة من أمته فوزنني فرجحتهم ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني فرجحتهم ثم قال دعه فلو وزنتموه بأمته كلهم لرجحهم كلهم ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني ثم قالوا يا حبيب الله لم ترع إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك
أقول في بعض الروايات زنه بعشرة ثم قال زنه بمائة ففي هذه الرواية طى الذكر وزنه بعشرين وفي تلك الرواية طي ذكر وزنه بعشرة والله أعلم


قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينا نحن كذلك إذا الحي قد أقبلوا بحذافيرهم أي بأجمعهم وإذا بظئرى أي مرضعتي أما الحي تهتف أي تصيح بأعلى صوتها وتقول واضعيفاه فأكبوا على يعني الملائكة الذين هم أولئك الرهط الثلاثة وضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من ضعيف ثم قالت ظئرى يا وحيداه فأكبواعلى فضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد إن الله معك وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض ثم قالت ظئرى يايتيماه استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك فأكبوا علي وضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من يتيم ما أكرمك على الله لو تعلم ما أريد بك من الخير لقرت عينك فوصلوا يعنى الحي إلى شفير الوادي فلما أبصرتني أمي وهي ظئرى قالت لا أراك إلا حيا بعد فجاءت حتى أكبت على ثم ضمتني إلى صدرها فوالذي نفسي بيده إني لفي حجرها قد ضمتني إليها ويدي في أيديهم يعني الملائكة وجعل القوم لا يعرفونهم أي لا يبصرونهم فأقبل بعض القوم يقول إن هذا الغلام قد أصابه لمم أي طرف من الجنون أو طائف من الجن أي وهي اللمة فانطلقوا به إلى كاهن حتى ينظر إليه ويداويه فقلت يا هذا ما بي مما تذكر إن آرابى أي أعضائي سليمة وفؤادي صحيح ليس بي قلبة أي علة يقلب بها إلى من ينظر فيها فقال أبي وهو زوج ظئرى ألا ترون كلامه صحيحا إني لأرجو أن لا يكون بإبني بأس واتفقوا على أن يذهبوا بي إليه أي إلى الكاهن فلما انصرفوا بي إليه فقصوا عليه قصتي فقال اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنه أعلم بأمره منكم فسألني فقصصت عليه أمري من أوله إلى آخره فوثب قائما إلي وضمني إلى صدره ثم نادى بأعلى صوته يا للعرب يا للعرب من شر قد اقترب اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه فواللات والعزى لئن تركتموه فأدرك مدرك الرجال ليبدلن دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم وليخالفن أمركم وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله وفي رواية ليسفهن أحلامكم أي عقولكم وليكذبن أوثانكم وليدعونكم إلى رب لم تعرفونه ودين تنكرونه فعمدت ظئرى وانتزعتني من حجره وقالت لأنت أعته وأجن ولو علمت أن هذا قولك ما أتيتك به فاطلب لنفسك من يقتلك فأنا غير قاتلي هذا الغلام ثم احتملوني إلى أهلهم وأصبحت مفزعا مما فعلوا يعني الملائكة بي أي من حملي من بين أترابي وإلقائي إلى الأرض لا من خصوص الشق لما تقدم وأصبح

أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي أي أثر التئام الشق الناشئ عن إمرار يد الملك كأنه الشراك
أقول الشراك أحد سيور النعل الذي هو المداس الذي يكون على وجهها ولعل حكمة بقائه ليدل على وجود الشق
واعلم أنه حيث كانت قصة شق صدره الشريف في زمن الرضاع عند حليمة واحدة يكون هذه الروايات المراد منها واحد وأن بعضها وقع فيها الإختصار عما وقعت به الإطالة في بعضها وأن إخباره صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة كانوا ثلاثة لا ينافى إخباره بأنهم كانوا إثنين ونسبة الأخذ والإضجاع والشق للبطن أو الصدر إلى الثلاثة أو إلى الإثنين لا ينافى أن متعاطى ذلك واحد منهم كما أخبر به أخوه وجاء التصريح به في بعض الروايات وأن التعبير في بعضها بشق البطن هو المراد بشق الصدر إلى منتهى العانة في بعضها وأنه ليس المراد بشق البطن أو شق الصدر شق القلب لما تقدم في الرواية واستخرج أحشاء بطني ثم غسلها ثم أعادها مكانها ثم قال لصاحبه تنح عنه فنحاه عني ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي فصدعه الحديث وأنه يجوز أن يكون الطست كان متعددا واحدا من زمردة خضراء وواحدا من ذهب وأن الأول كان فارغا معدا لأن يلقى فيه ماء يغسل به باطنه أي مع أحشائه ومنها أي من جملة الأحشاء ظاهر قلبه من الإبريق الفضة وأن الثاني كان مملوءا ثلجا معدا لأن يغسل به قلبه أي داخل قلبه
وحينئذ يكون في بعض الروايات اقتصر على القلب وفي بعضها جمع بينه وبين الأحشاء في ذلك ويحتاج إلى الجمع بين كون الشق في ذروة الجبل وكونه في شفير الوادي وكون المخرج علقة وكونه مضغة
وقد يقال جاز أن تكون ذروة الجبل قريبة من شفير الوادي وأنه عبر عن الذي أخرجه وألقاه تارة بالعلقة وتارة بالمضغة ولعل تلك المضغة كانت قريبة من العلقة ولا يخفى أن هذه العلقة يحتمل أنها غير حبة القلب التي أخذت منها المحبة وهي علقة سوداء في صميمه المسماة بسويداء القلب
ويحتمل أنها هي والله أعلم وقد أشار إلى هذه القصة صاحب الهمزية بقوله ** وأتت جده وقد فصلته ** وبها من فصاله البرحاء ** ** إذ أحاطت به ملائكة الله ** فظنت بأنهم قرناء ** **

ورأى وجدها به ومن الوج ** د لهيب تصلى به الأحشاء ** ** فارقته كرها وكان لديها ** ثاويا لا يمل منه الثواء ** ** شق عن قلبه وأخرج منه ** مضغة عند غسله سوداء ** ** ختمته يمنى الأمير وقد أو ** دع مالم يذع له أنباء ** ** صان أسراره الختام فلا الف ** ض ملم به ولا الإفضاء **
أي وأتت حليمة به جده والحال أنها فطمته والحال أنه لحق بها من أجل فطامه ورده التألم الزائد وردها له لأجل أنه أحدقت به ملائكة الله فظنتهم شياطين ورأى شدة محبتها له وتعلقها به وقد حصل لها من الوجد الذي بها لهب تحترق الأحشاء به وهي ما تحويه الضلوع وفارقته بعد ردها له كارهة لفراقه والحال أنه كان مقيما عندها لا تمل ذلك منه وقد شق عن قلبه وأخرج من ذلك القلب عند غسله مضغة سوداء ختمت على ذلك القلب يمين الأمين جبريل بخاتم والحال أن ذلك القلب الشريف قد أودع من الأسرار الإلهية مالم تنشره أخبار لأن تلك الأسرار لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى حفظ ذلك الختام أسراره التي أودعت فيه فلا الكسر واقع بذلك الختم ولا الإشاعة واقعة لتلك الأسرار
أقول قد علمت أن صدره الشريف شق مرتين غير هذه المرة مرة عند مجيء الوحي ومرة عند المعراج وزاد بعضهم أنه شق عند بلوغه عشر سنين كما مسلم
ولما بلغ عمره صلى الله عليه وسلم عشرين سنة أي ولعلها هي المعنية بقول صاحب المواهب وروى خامسة ولم تثبت وستأتي تلك الخامسة عن الدر المنثور وسيأتي ما فيها والله أعلم
قال وفي المرة التي كان ابن عشر سنين أي وأشهر قال صلى الله عليه وسلم جاءني رجلان فقال أحدهما لصاحبه أضجعه فأضجعني لحلاوة القفا ثم شقا بطني فكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب والآخر يغسل جوفي ثم شق قلبي فقال أخرج الغل والحسد منه فأخرج منه العلقة
والمتبادر أن أل في العلقة للعهد وهي العلقة السوداء التي تقدم أنها حظ الشيطان وأنها مغمزه فهي محل الغل والحسد
وفيه أنه تقدم أيضا أن تلك العلقة أخرجت وألقيت قبل هذا المرة وتكرر نبذها

مستحيل إلا أن تحمل العلقة على جزء بقى من أجزائها بناء على جواز أنها تجزأت أكثر من جزءين المعبر عنهما فيما تقدم عن بعض الروايات علقتين سوداوين إلا أن يقال المراد بقوله فأخرج منه العلقة أي أخرج ما هو كالعلقة أي شيئا يشبه العلقة كما سيأتي التصريح بذلك في بعض الروايات فأدخل شيئا كهيئة الفضة ثم أخرج ذرورا كان معه فذره عليه أي على شق القلب ليلتحم به ثم نقر إبهامي ثم قال اغد واسلم
أقول لم يذكر في هذه المرة الختم وظاهر هذه الرواية أن الصدر التحم بمجرد ذر الذرور وتقدم في قصة الرضاع أن ذلك كان من إمرار يد الملك وإستمر أثر التئام الشق يشاهد كالشراك
وفي الدر المنثور عن زوائد مسند الإمام أحمد عن أبي بن كعب عن أبي هريرة قال يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوة فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وقال لقد سألت يا أبا هريرة إني لفي صحراء ابن عشرين سنة وأشهر إذا بكلام فوق رأسي وإذا برجل يقول لرجل أهو هو فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط وثياب لم أرها على أحد قط فأقبلا إلى يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مسا فقال أحدهما لصاحبه أضجعه فأضجعاني بلا قصر ولا هصر أي من غير إتعاب فقال أحدهما لصاحبه أفلق صدره ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع فقال له أخرج الغل والحسد فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها فقال له أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج أي ليدخله شبه الفضة ثم نقر إبهام رجلي اليمنى وقال أغد واسلم فرجعت أغدو بها رأفة على الصغير ورحمة على الكبير ولم يذكر في هذه المرة الغسل فضلا عما يغسل به ولم يذكر الختم ولكن قول الرجل للآخر أهو هو يدل على أن الرجلين ليسا جبريل وميكائيل لأنهما يعرفانه وقد فعلا به ذلك في قصة الرضاع وقد يدعى أن هذه الرواية هي عين الرواية قبلها وذكر عشرين سنة غلط من الراوي وإنما هي عشر سنين
ثم رأيت ما يصرح بذلك وهو كان سنه عشر حجج وقد تحمل هذه المرة أي كونه ابن عشرين سنة على أن ذلك كان في المنام وإن كان خلاف ظاهر السياق
وقال صلى الله عليه وسلم في المرة التي هي عند إبتداء الوحي جاءني جبريل وميكائيل فاخذني جبريل وألقاني لحلاوة القفا ثم شق عن قلبي فاستخرجه ثم أستخرج منه ما شاء الله أن يستخرج ولم يبين ذلك ما هو ثم غسله في طست من ماء زمزم ثم أعاده

مكانه ثم لأمه أي بذلك الذرور أي بإمرار يده أو بهما جميعا ثم أكفأني كما يكفي الإناء ثم ختم في ظهري
يحتمل أن يكون المراد في غير المحل الذي ختمه في قصة الرضاع وهو بين كتفيه ويحتمل أن المراد بظهره المحل الذي ختمه في قصة الرضاع
وفيه أنه لا معنى لوضع الختم على الختم كما تقدم ويمكن أن تكون الحكمة في الجمع بين جبريل وميكائيل أن ميكائيل ملك الرزق الذي به حياة الأجساد والأشباح وجبريل ملك الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح والمرة التي هي عند المعراج سيأتي الكلام عليها وفيها أن الختم وقع بين كتفيه وفيه ما علمت
وقد علمت أن شق الصدر والبطن غير شق القلب وأن شق القلب وإخراج العلقة السوداء التي هي حظ الشيطان ومغمزه مما اختص به صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
وما في بعض الآثار أن التابوت أي تابوت بني إسرائيل كان فيه الطست الذي غسلت فيه قلوب الأنبياء المراد ظاهر قلوبهم لأن القلب من جملة الأحشاء التي غسلت بغسل الصدر أو البطن كما تقدم على أن ابن دحية ذكر أنه أثر باطل
وقد يطلق الصدر على القلب من باب تسمية الحال بإسم محله ومنه ما وقع في قصة المعراج ثم أتى بطست ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغ في صدره ومنه قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى إن شق صدره الشريف من خصائصه صلى الله عليه وسلم على الأصح من القولين أي شق قلبه وسيأتي الكلام على ذلك في الكلام على المعراج بما هو أبسط مما هنا
وعن حليمة رضي الله تعالى عنها أنها كانت بعد رجوعها به صلى الله عليه وسلم من مكة لا تدعه أي يذهب مكانا بعيدا أي عنها فغفلت عنه صلى الله عليه وسلم يوما في الظهيرة فخرجت تطلبه فوجدته مع أخته أي من الرضاعة وهي الشيماء وكانت تحضنه مع أمها أي ولذلك تدعى أم النبي أيضا أي وكانت ترقصه بقولها ** هذا أخ لي لم تلده أمي ** وليس من نسل أبي وعمي ** ** فأنمه اللهم فيما تنمى **
فقالت في هذا الحر أي لا ينبغي أي يكون في هذا الحر فقالت أخته يا أمه

ما وجد أخي حرا رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع فجعلت تقول أحقا يا بنية قالت إي والله فجعلت تقول أعوذ بالله من شر ما يحذر على إبني أي وفي كلام بعضهم ورأت يعنى حليمة الغمامة تظله إذا وقف وقفت وإذا سار سارت
وقد يقال الرؤية في حق حليمة علمية وفي حق أخته بصرية فلا مخالفة أو أنها أبصرتها بعد الإخبار بها كما يدل على ذلك القول بأنه أفزعها ذلك من أمره أي في كونها فزعت من ذلك بعد إخبار أخته لها بذلك شيء فقدمت به على أمه
أقول عن الواقدي أن حليمة لما قدمت به صلى الله عليه وسلم إلى مكة لترده لأمه رأت غمامة تظله في الطريق إن سار سارت وإن وقف وقفت وسياق هذه الرواية يقتضى أنها ردته إلى أمه عقب مجيئها به من مكة وأن ذلك كان قبل شق صدره عندها
وحينئذ تكون هذه قدمة ثانية لحليمة إلى مكة كانت قبل شق صدره ففي القدمة الأولى كان سنه صلى الله عليه وسلم سنتين وفي هذه القدمة كان سنه صلى الله عليه وسلم سنتين وأشهرا وتكون هذه المراة الثانية محمل قول حليمة فوالله إنه بعد مقدمنا بأشهر وقول ابن الأثير بشهرين أو ثلاثة
وأما في القدمة الثالثة وهي التي بعد شق صدره وتركها له صلى الله عليه وسلم عند أمه كان سنه أربع سنين وفيها كانت وفاتها على ما يأتي وقيل خمس سنين قاله ابن عباس وقيل ست سنين ويكون بعض الرواة اشتبه عليه الأمر وظن أن هذه القدمة الثانية التي قبل شق صدره هي الثالثة التي بعد شق صدره صلى الله عليه وسلم فلزم الإشكال فتأمل ذلك تأملا حميدا ولا تكن ممن يفهم تقليدا والله أعلم
ووفدت عليه صلى الله عليه وسلم حليمة بعد تزوجه خديجة تشكو إليه ضيق العيش فكلم لها خديجة فأعطتها عشرين رأسا من غنم وبكرات جمع بكرة وهي الثنية من الإبل أي وفي رواية أربعين شاة وبعيرا
ووفدت عليه يوم حنين فبسط لها رداءه فجلست عليه أي فقد قال بعضهم لم تره بعد أن ردته إلا مرتين إحداهما بعد تزوجه خديجة أي وعليه تكون هذه المرة هي التي قدمت فيها مع زوجها وولدها وأجلسهم على ردائه أي ثوبه الذي كان جالسا عليه كما تقدم والمرة الثانية يوم حنين


وفي كلام القاضي عياض ثم جاءت أبا بكر ففعل ذلك أي بسط لها رداءه ثم جاءت عمر ففعل كذلك
وفي كلام ابن كثير أن حديث مجيئ أمه صلى الله عليه وسلم إليه في حنين غريب وإن كان محفوظا فقد عمرت دهرا طويلا لأن من وقت أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقت الجعرانة أي بعد رجوعه من حنين أزيد من ستين سنة وأقل ما كان عمرها حين أرضعته عليه الصلاة والسلام ثلاثين سنة وكونها وفدت على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما تزيد المدة على المائة
وعن أبي الطفيل قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لحما بالجعرانة أي بعد رجوعه من حنين كما تقدم والطائف وأنا غلام شاب فأقبلت امرأة فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسط لها رداءه فقيل من هذه قيل أمه التي أرضعته صلى الله عليه وسلم وفي رواية استأذنت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم قد كانت ترضعه فلما دخلت عليه قال أمي أمي وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه وتقدم عن شرح الهمزية لإبن حجر أن من سعادة حليمة توفيقها للإسلام هي وزوجها وبنوها
وفي الأصل ومن الناس من ينكر إسلامها وأشار بذلك إلى شيخه الحافظ الدمياطي فإنه من جملة المنكرين حيث قال أي وفي سيرته حليمة لا يعرف لها صحبة ولا إسلام وقد وهم غير واحد فذكروها في الصحابة وليس بشيء وكان الأنسب أن يقول ذكروا إسلامها وليس بشيء ويوافقه قول الحافظ ابن كثير الظاهر أن حليمة لم تدرك البعثة ورده بعضهم فقال إسلامها لا شك فيه عند جماهير العلماء ولا يعول على قول بعض المتأخرين إنه لم يثبت فقد روى ابن حبان حديثا صحيحا دل على إسلامها وأنكر الحافظ الدمياطي وفودها عليه في حنين وقال الوافدة عليه في ذلك إنما هي أخته من الرضاعة وهي الشيماء
أقول وعلى صحة ما قاله الحافظ الدمياطي لا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم أمي أمي لأنه كان يقال لأخته الشيماء أم النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كانت تحضنه مع أمها كما تقدم ولا قول بعض الصحابة أمه التي أرضعته لأنه يجوز أنه لما قيل أمه حملها على المرضعة له صلى الله عليه وسلم لتيقن موت أمه من النسب وعلى كون الوافدة عليه في حنين أخته اقتصر في الهدى والله أعلم


أقول قال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد عدة آثار في مجيء أمه من الرضاعة إليه صلى الله عليه وسلم في حنين وفي تعدد هذه الطرق ما يقتضى أن لها أصلا أصيلا وفي إتفاق الطرق على أنها أمه رد على من زعم أن التي قدمت عليه أخته
أقول لا رد في ذلك لأنه علم أن أخته المذكورة كان يقال لها أم النبي صلى الله عليه وسلم ووصف بعض الصحابة لها بأنها أمه من الرضاعة تقدم أنه يجوز أن يكون بحسب ما فهم
ومما يعين أنها أخته ما سيأتي أنها لما أخذت في حنين من جملة سبى هوازن قالت للمسلمين أنا أخت صاحبكم فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له يا رسول الله أنا أختك قال وما علامة ذلك قالت عضة عضيتنيها في ظهري وأنا متوركتك فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة فقام لها قائما وبسط لها رداءه وأجلسها عليه ودمعت عيناه إلى آخر ما يأتي
وكلام المواهب يقتضى أنهما قضيتان واحدة كانت فيها أخته والآخرى كانت فيها أمه من الرضاعة حيث قال وقد روى أن خيلا له صلى الله عليه وسلم أغارت على هوازن فأخذوها يعنى أخته من الرضاعة التي هي الشيماء فقالت أنا أخت صاحبكم إلى أن قال فبسط لها رداءه وأجلسها عليه فأسلمت ثم قال وجاءته يعنى أمه من الرضاعة التي هي حليمة يوم حنين فقام إليها وبسط رداءه لها وجلست عليه
وهذا كما ترى يوهم أن الخيل التي أغارت على هوازن التي كانت فيها أخته لم تكن في حنين وأن أمه لم تكن يوم حنين في سبى هوازن مع أن القصة واحدة وأن سبى هوازن كان يوم حنين فيلزم أن يكون جاء إليه يوم حنين كل من أمه وأخته من الرضاعة الأولى في غير السبي والثانية في السبى وأنه فرش لكل رداءه وهو تابع في ذلك لإبن عبدالبر حيث قال في الإستيعاب حليمة السعدية أم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة جاءت إليه يوم حنين فقام لها وبسط لها رداءه فجلست عليه وروت عنه وروى عنها عبدالله بن جعفر ثم قال حذافة أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة يقال لها الشيماء أغارت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم على هوازن فأخذوها فيما أخذوا من السبى الحديث وكون عبدالله بن جعفر روى عن حليمة
قال الحافظ ابن حجر لا يتهيأ له السماع منها إلا بعد الهجرة بسبع سنين فأكثر لأنه قدم

من الحبشة مع أبيه الذي هو جعفر بن أبي طالب في خيبر سنة سبع وتبعد حياتها وبقاؤها إلى ذلك الزمن
وفيه أن حنينا بعد خيبر وأبعد من ذلك وقوفها على أبي بكر وعمر وقد تقدم ما يشعر بإستبعاد ذلك عن ابن كثير
والذي يتجه أن الوافدة عليه في حنين أخته لا أمه كما يقول الحافظ الدمياطي والله أعلم قال قال أبو الفرج بن الجوزي ثم قدمت أي حليمة عليه بعد النبوة فأسلمت وبايعت أي فلا يقال سلمنا أن حليمة هي القادمة عليه أي بعد النبوة فما الدليل على إسلامها
أقول كان من حقه أن يقول بدل هذه العبارة التي ذكرها وإنما قال يعنى ابن الجوزي فأسلمت بعد قوله قدمت عليه بعد النبوة لأنه لا يلزم من قدومها عليه بعد النبوة إسلامها
وفي كون قول بن الجوزي فأسلمت دليلا على إسلامها نظر بل هي دعوى تحتاج إلى دليل إلا أن يقال قول ابن الجوزي فأسلمت دليل لنا على إسلامها والله أعلم
وذكر الذهبي أن التي وفدت عليه صلى الله عليه وسلم في الجعرانة يجوز أن تكون ثويبة ونظر فيه بأن ثويبة توفت سنة سبع أي من الهجرة أي مرجعه من خيبر على ما تقدم
أقول ذكر في النور أن الحافظ مغلطاي له مؤلف في إسلام حليمة سماه التحفة الجسيمة في إسلام حليمة
وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لم ترضعه مرضعة إلا وأسلمت لكن هذا البعض قال ومرضعاته صلى الله عليه وسلم أربع أمه وحليمة السعدية وثويبة وأم أيمن أيضا
وهو يؤيد ما تقدم عن ابن منده من إسلام ثويبة وأما إسلام آمنة فسنذكره وكون أم أيمن أرضعته صلى الله عليه وسلم تقدم ما فيه والله سبحانه وتعالى أعلم

& باب وفاة أمه صلى الله عليه وسلم وحضانة أم أيمن له وكفالة جده عبدالمطلب إياه
أي إختصاصه بذلك
ذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتت أمه لما بلغ ست سنين وقيل كان سنه أربع سنين وبه صدر في المواهب أي وهو يرد القول بأن حليمة لما ردته إلى أمه كان عمره خمس أو ست سنين قال وقيل كان سنه صلى الله عليه وسلم سبع سنين وقيل ثمان وقيل تسع وقيل اثنتي عشرة وشهرا عشرة أيام
ووفاتها كانت بالأبواء وهو محل بين مكة والمدينة أي وهو إلى المدينة أقرب وسمى بذلك لأن السيول تتبوأه أي تحل فيه ودفنت به فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما مر بالأبواء في عمرة الحديبية قال إن الله أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فأتاه وأصلحه وبكى عنده وبكى المسلمون لبكائه صلى الله عليه وسلم وقيل له في ذلك فقال أدركتني رحمتها فبكيت وكان موتها وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم من المدينة من زيارة أخواله أي أخوال جده عبد المطلب لأن أم عبدالمطلب من بني عدي بن النجار كما تقدم بعد أن مكثت عندهم شهرا ومرضت في الطريق ومعها أم أيمن بركة الحبشية التي ورثها من أبيه عبدالله على ما تقدم فحضنته وجاءت به إلى جده عبدالمطلب أي بعد خمسة أيام من موت أمه فضمه إليه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده
هذا وفي كلام بعضهم وبقى النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أمه بالأبواء حتى أتاه الخبر إلى مكة وجاءت أم أيمن مولاة أبيه عبدالله فاحتملته وذلك لخامسة من موت أمه فليتأمل
وكون موت أمه صلى الله عليه وسلم كان في حياة عبدالمطلب هو المشهور الذي لا يكاد يعرف غيره وبه يرد قول من قال إن موت عبدالمطلب كان قبل موت أمه صلى الله عليه وسلم بسنتين
أي وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأم أيمن أنت أمي بعد أمي ويقول أم أيمن أمي بعد أمي وفي القاموس دار رابغة بالغين المعجمة بمكة فيها مدفن أمه صلى الله عليه وسلم

ولم أقف على محل تلك الدار من مكة قال وقيل توفيت أي دفنت بالحجون بشعب أبي ذؤيب وغلط قائله
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم فبكيت لبكائه ثم إنه طفق أي شرع يقول يا حميراء استمسكي فاستندت إلى جنب البعير فمكث عني طويلا ثم عاد إلى وهو فرح متبسم فقلت له بأبي أنت وأمي يا رسول الله نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك ثم إنك عدت إلي وأنت فرح متبسم فمم ذاك قال ذهبت لقبر أمي فسألت ربي أن يحييها فأحياها فآمنت وردها الله تعالى
وهذا الحديث قد حكم بضعفه جماعة منهم الحافظ أبو الفضل بن ناصر الدين والجوزقاني وابن الجوزي والذهبي في الميزان وأقره على ذلك الحافظ ابن حجر في لسان الميزان جعله ابن شاهين ومن تبعه ناسخا لأحاديث النهى عن الإستغفار أي لها
منها ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أي ولعله في عمرة القضاء لأنه لم يقدم مكة نهارا مع أصحابه قبل حجة الوداع إلا في ذلك أتى رسم قبر أمه فجلس إليه فناجاه طويلا ثم بكى قال ابن مسعود فبكينا لبكائه صلى الله عليه وسلم ثم قام ثم دعانا فقال ما أبكاكم قلنا بكينا لبكائك فقال إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة الحديث
وفي رواية أتى قبر أمه فجلس إليه فجعل يخاطبه ثم قام مستعبرا فقال بعض الصحابة يا رسول الله قد رأينا ما صنعت قال إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الإستغفار لها فلم يأذن لي وفي رواية إن جبريل عليه الصلاة والسلام ضرب في صدره صلى الله عليه وسلم وقال لا تستغفر لمن مات مشركا فما رؤى باكيا أكثر منه يومئذ وفي رواية استأذنته في الدعاء لها أي بالإستغفار فلم يأذن لي وأنزل على ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى فأخذني ما يأخذ الولد للوالد قال القاضي عياض بكاؤه صلى الله عليه وسلم على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به أي النافع إجماعا وكونه ناسخا لذلك غير جيد لأن أحاديث النهى عن الإستغفار بعض طرقها صحيح رواه مسلم وابن حبان في صحيحيهما ونص مسلم استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي وأستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي

فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة وفي لفظ تذكركم الموت وهذا الحديث أي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها على تسليم ضعفه أي دون وضعه لا يكون ناسخا للأحاديث الصحيحة
أقول ذكر الواحدي في أسباب النزول أن آيتي ما كان للنبي والذين آمنوا وما كان استغفار إبراهيم لأبيه نزلتا لما استغفر صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بعد موته فقال المسلمون ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذي قرابتنا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لعمه وقد استغفر إبراهيم لأبيه أي فنزولهما كان عقب موت أبي طالب
لا يقال جاز أن تكون آية ما كان للنبي تكرر نزولها لما استغفر صلى الله عليه وسلم لعمه ولما استغفر لأمه لأنا نقول كونه يعود للإستغفار بعد أن نهى عنه فيه ما فيه أو المراد بالنسخ المعارضة يعنى قول ابن شاهين إنه ناسخ أحاديث النهى عن الإستغفار أي معارض لها إذ لامعنى للنسخ هنا على أنه لا معارضة لأن النهي عن الإستغفار لها كان قبل أن تؤمن
وإذا ثبت ماتقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها وما بعده كان دليلا لمن يقول قبر أمه صلى الله عليه وسلم بمكة وعلى كونها دفنت بالأبواء اقتصر الحافظ الدمياطي في سيرته وكذا ابن هشام في سيرته وفي الوفاء عن ابن سعد أن كون قبرها بمكة غلط وإنما قبرها بالأبواء
وقد يقال على تقدير صحة الحديثين أي أنها دفنت بالأبواء وأنها دفنت بمكة يجوز أنها تكون دفنت أولا بالأبواء ثم نقلت من ذلك المحل إلى مكة فعلم أن بكاءه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يحييها الله له وتؤمن به ومن ثم قال الحافظ السيوطي إن هذا الحديث أي حديث عائشة قيل إنه موضوع لكن الصواب ضعفه لا وضعه هذا كلامه
ويجوز أن يكون قوله لشخصين أمي وأمكما في النار على تقدير صحته التي ادعاها الحاكم في المستدرك كان قبل إحيائها وإيمانها به كما تقدم نظير ذلك في أبيه صلى الله عليه وسلم
وقولنا على تقدير صحة الحديث إشارة لما تقرر في علوم الحديث أنه لا يقبل تفرد

الحاكم بالتصحيح في المستدرك لما عرف من تساهله فيه في التصحيح وقد بين الذهبي ضعف هذا الحديث وحلف على عدم صحته يمينا وتقدم الجواب عما يقال كيف ينفع الإيمان بعد الموت وتقدم ما فيه على أن هذا أي منع الأستغفار لها إنما يأتي على القول أن من بدل أو غير أو عبد الأصنام من أهل الفترة معذب وهو قول ضعيف مبنى على وجوب الإيمان والتوحيد بالعقل
والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة أنه لا يجب ذلك إلا بإرسال الرسل ومن المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل فإن إسماعيل انتهت رسالته بموته كبقية الرسل لأن ثبوت الرسالة بعد الموت من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فعليه أهل الفترة من العرب لا تعذيب عليهم وإن غيروا أو بدلوا أو عبدوا الأصنام والأحاديث الواردة بتعذيب من ذكر أي من غير أو بدل أو عبدالأصنام مؤولة أو خرجت مخرج الزجر للحمل على الإسلام
ثم رأيت بعضهم رجح أن التكليف بوجوب الإيمان بالله تعالى وتوحيده أي بعدم عبادة الأصنام يكفى فيه وجود رسول دعا إلى ذلك وإن لم يكن ذلك الرسول مرسلا لذلك الشخص بأن لم يدرك زمنه حيث بلغه أنه دعا إلى ذلك أو أمكنه علم ذلك وأن التكليف بغير ذلك من الفروع لا بد فيه من أن يكون ذلك الرسول مرسلا لذلك الشخص وقد بلغته دعوته
وعلى هذا فمن لم يدرك زمن نبينا صلى الله عليه وسلم ولا زمن من قبله من الرسل معذب على الإشراك بالله بعبادة الأصنام لأنه على فرض أن لا تبلغه دعوة أحد من الرسل السابقين إلى الإيمان بالله وتوحيده لكنه كان متمكنا من علم ذلك فهو تعذيب بعد بعث الرسل لا قبله
وحينئذ لا يشكل ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما بعث الله نبيا إلى قوم ثم قبضه إلا جعل بعده فترة يملأ من تلك الفترة جهنم ولعل المراد المبالغة في الكثرة وإلا فقد أخرج الشيخان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيرتد بعضها إلى بعض وتقول قط قط أي حسبي بعزتك وكرمك وأما بالنسبة لغير الإيمان والتوحيد من الفروع فلا تعذيب على

تلك الفروع لعدم بعثة رسول إليهم فأهل الفترة وإن كانوا مقرين بالله إلا أنهم أشركوا بعبادة الأصنام
فقد حكى الله تعالى عنهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وقد جاء النهى عن ذلك على ألسنة الرسل السابقين
ووجه التفرقة بين الإيمان والتوحيد وغير ذلك أن الشرائع بالنسبة للإيمان بالله وتوحيده كالشريعة الواحدة إتفاق جميع الشرائع عليه
قيل وهو المراد من قوله تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } فقد قال بعضهم المراد من الآية إستواء الشرائع كلها في أصل التوحيد أي ومن ثم قال في تمام الآية { ولا تتفرقوا فيه } وقال { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقال { وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } ومن ثم قاتل بعض الأنبياء غير قومه على الشرك بعبادة الأصنام ولو لم يكن الإيمان والتوحيد لازما لهم لم يقاتلهم بخلاف غيره من الفروع فإن الشرائع فيها مختلفة
قال بعضهم سبب إختلاف الشرائع اختلاف الأمم في الإستعداد والقابلية والدليل على أن الأنبياء متفقون على الإيمان والتوحيد ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال الأنبياء أولاد علات أي أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع شرائعهم لأن العلات الضرائر فأولادهم أخوة من الأب وأمهاتهم مختلفة وقد جاء هذا التفسير في نفس الحديث ففي بعض الروايات الأنبياء إخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وبه يعلم ما في كلام العلامة ابن حجر الهيتمي حيث ذكر أن الحق الواضح الذي لا غبار عليه أن أهل الفترة جميعهم ناجون وهم من لم يرسل لهم رسول يكلفهم بالإيمان بالله عز وجل فالعرب حتى في زمن أنبياء بني إسرائيل أهل فترة لأن تلك الرسل لم يؤمروا بدعايتهم إلى الله تعالى وتعليمهم الإيمان قال نعم من ورد فيه حديث صحيح من أهل الفترة بأنه من أهل النار فإن أمكن تأويله فذاك وإلا لزمنا أن نؤمن بهذا الفرد بخصوصه
قال وأما قول الفخر الرازي لم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد معلومة فجوابه أن كل رسول إنما أرسل إلى قوم مخصوصين فمن لم يرسل إليه لا يعذب وجواب ما صح من تعذيب أهل الفترة أنها أخبار آحاد فلا تعارض القطع أو يقصر التعذيب على ذلك الفرد بخصوصه أي حيث لا يقبل التأويل كما تقدم هذا كلامه


هذا وقد جاء أنهم أي أهل الفترة يمتحنون يوم القيامة فقد أخرج البزار عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم فيسألهم ربهم فيقولون ربنا لم ترسل لنا رسولا ولم يأتنا لك أمر ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك فيقول لهم ربهم أرأيتم إن أمرتكم بأن تطيعوني فيأخذ على ذلك مواثيقهم فيرسل إليهم أن ادخلوا النار فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا فرجعوا فقالوا ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها فيقول أدخلوها داخرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما
قال الحافظ ابن حجر فالظن بآله صلى الله عليه وسلم يعني الذين ماتوا قبل البعثة أنهم يطيعون عند الإمتحان إكراما له صلى الله عليه وسلم لتقر عينه ويرجو أن يدخل عبدالمطلب الجنة في جماعة من يدخلها طائعا إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن به أي بعد أن طلب منه الإيمان
ومما استدل به الحافظ السيوطي على أن أبويه صلى الله عليه وسلم ليسا في النار قال لأنهما لو كانا في النار لكانا أهون عذابا من أبي طالب لأنهما أقرب منه وأبسط عذرا لأنهما لم يدركا البعثة ولا عرض عليهما الإسلام فامتنعا بخلاف أبي طالب وقد أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه أهون أهل الناس عذابا فليسا أبواه صلى الله عليه وسلم من أهلها قال وهذا يسمى عند أهل الأصول دلالة الإشارة
وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد من أهل بيته أي ولا أحد من أشراف قريش إجلالا له فكان بنوه وسادات قريش يحدقون به فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر أي شديد قوى حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخره عنه فيقول عبد المطلب إذا رأى أي علم ذلك منهم دعوا ابني فوالله إن له لشأنا ثم يجلسه عليه معه ويمسح ظهره ويسره ما يراه يصنع
قال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعوا بني يجلس فإنه يحس من نفسه بشيء أي بشرف وأرجو أن يبلغ من الشرف مالم يبلغه به عربي قبله ولا بعده وفي رواية دعوا ابني إنه ليؤنس ملكا أي يعلم من نفسه أن له ملكا وفي لفظ ردوا ابني إلى مجلسي فإنه تحدثه نفسه بملك عظيم وسيكون له شأن


وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال سمعت أبي يقول كان لعبد المطلب مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره وكان حرب بن أمية فمن دونه من عظماء قريش يجلسون حوله دون المفرش فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وهو غلام لم يبلغ الحلم فجلس على المفرش فجذبه رجل فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبدالمطلب وذلك بعد ما كف بصره مالا بني يبكي قالوا له أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه فقال عبدالمطلب دعوا ابني يجلس عليه فإنه يحس من نفسه بشرف أي يتيقن في نفسه شرفا وأرجو أن يبلغ من الشرف مالم يبلغه عربي قبله ولا بعده أي فكانوا بعد ذلك لا يردونه عنه حضر عبدالمطلب أو غاب أي ولعل هذا كان في آخر الأمر فلا ينافى ما تقدم الدال ظاهرا على تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم من إختلاف قول عبدالمطلب وإلا فيحتمل أن إختلاف قول عبدالمطلب جاء من إختلاف الرواة
وقال لعبدالمطلب قوم من بني مدلج أي وهم القافة العارفون بالآثار والعلامات احتفظ به فإنا لم نرقد ما أشبه بالقدم التي في المقام منه أي وهي قدم إبراهيم عليه الصلاة والسلام
أقول أي فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أثرت قدماه في المقام وهو الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت كما سيأتي وهو الذي يزار الآن بالمكان الذي يقال له مقام إبراهيم أي وقد أشار إلى ذلك عمه أبو طالب في قصيدته بقوله مقسما ** وبالحجر المسود إذ يلثمونه ** إذا اكتنفوه في الضحى والأصائل ** ** وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ** على قدميه حافيا غير ناعل **
قال الحافظ ابن كثير يعنى أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة فصارت على قدر قدمه حافية لا منتعلة
وعن أنس رضي الله تعالى عنه رأيت في المقام أثر أصابع إبراهيم وعقبيه وأخمص قدميه غير أن مسح الناس بأيديهم أذهب ذلك أي ومشابهة قدمه صلى الله عليه وسلم لقدم سيدنا إبراهيم تدل على أن تلك الأقدام بعضها من بعض كما تقدم في قول مجزز المدلجى في زيد بن أسامة رضي الله عنهما وقد ناما وغطيا رءوسهما وبدت أقدامهما إن هذه الأقدام بعضها من بعض فسر بذلك صلى الله عليه وسلم لأن في ذلك رد على من كان يطعن في نسب أسامة بن زيد كما تقدم


وذكر بعضهم أن نبينا صلى الله عليه وسلم أثر قدمه في الحجر أيضا فقد أثر في صخرة بيت المقدس ليلة الإسراء وإن ذلك الأثر موجود إلى الآن
وذكر الجلال السيوطى انه لم يقف لذلك أي لتأثير قدمه صلى الله عليه وسلم في الحجر على أصل ولا سند قال ولا رأيت من خرجه في شيء من كتب الحديث وقال مثل ذلك فيما أشتهر على الألسنة من أن مرفقه الشريف لما ألصقة بالحائط غاص في الحجر وأثر فيه وبه يسمى ذلك المحل بمكة بزقاق المرفق
ومن العجب أن الجلال السيوطي مع قوله المذكور قال في الخصائص الصغرى ولا وطيء على صخر إلا وأثر فيه هذا كلامه ولعله ظهر له صحة ذلك بعد إنكاره ودعوى أنه صلى الله عليه وسلم ما وطئ على صخر إلا وأثر فيه قد يتوقف فيه ثم رأيت الإمام السبكي ذكر تأثير قدمه الشريف في الأحجار حيث قال في تائيته ** وأثر في الأحجار مشيك ثم لم ** يؤثر برمل أو ببطحاء رطبة **
قال شارحها ولعل عدم تأثير قدمه الشريف في الرمل كان ليلة ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الغار أي فليس كان هذا شأنه في كل رمل مشى عليه وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع قدمه عن الرمل يقول لأبي بكر ضع قدمك موضع قدمي فإن الرمل لا ينم أراد به إخفاء أثر سيره ليتحير المشركون في طلبه
وفيه أن هذا التعليل مقتض لتأثير قدمه الشريف في الرمل لا لعدم تأثيره في ذلك ويؤيد ذلك أنه سيأتي أنهم قصوا أثره إلى أن انقطع الأثر عند الغار أي وقال لهم القاص هذا أثر قدم ابن أبي قحافة وأما القدم الآخر فلا أعرفه إلا أنه يشبه القدم الذي في المقام يعنى مقام إبراهيم فقالت قريش ما وراء هذا شيء أي محل كما سيأتي
وفيه أن هذا تميز قدمه الشريف من قدم سيدنا أبي بكر ربما ينافيه قوله لأبي بكر ضع قدمك موضع قدمي فإن الرمل لا ينم
وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون قدم أبي بكر لم يكن مساويا لقدمه صلى الله عليه وسلم ولا يضر في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فإن الرمل لا ينم لجواز أن يكون المراد لا يظهر فيه قدمي ظهور أبينا فصح قول القائل هذا أثر قدم ابن أبي قحافة وأما القدم الآخر إلى آخره ولم يعترض هذا الشارح على تأثير قدمه صلى الله عليه وسلم في الحجارة بل أبدي لذلك حكما لا بأس بها فلتراجع


وقوله في الأحجار يدل على أنه تكرر تأثير قدمه الشريف في الأحجار ولكن لم يكن ذلك شأنه صلى الله عليه وسلم في كل حجر مشى عليه كما دلت عليه عبارة الجلال السيوطي والله أعلم
قال وبينا عبدالمطلب يوما في الحجر وعنده أسقف نجران والأسقف رئيس النصارى في دينهم اشتق من السقف بالتحريك وهو طول الإنحناء لأنه يتخاشع أي يظهر الخشوع وذلك الأسقف يحادثه ويقول له إنا نجد صفة نبي بقى من ولد إسمعيل وهذا البلد مولده ومن صفته كذا وكذا وأتى برسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليه الأسقف إلى عينيه وإلى ظهره وإلى قدمه وقال هو هذا ما هذا منك قال هذا ابني قال ما نجد أباه حيا قال هو ابن أبني وقد مات أبوه وأمه حبلى به قال صدقت فقال عبدالمطلب لبنيه تحفظوا بإبن أخيكم ألا تسمعون ما يقال فيه انتهى
وعن أم أيمن كنت أحضن النبي صلى الله عليه وسلم أي أقوم بتربته وحفظه فغفلت عنه يوما فلم أدر إلا بعبد المطلب قائما على رأسي يقول يا بركة قلت لبيك قال أتدرين أين وجدت ابني قلت لا أدري قال وجدته مع غلمان قريبا من السدرة لا تغفلي عن ابني فإن أهل الكتاب أي ومنهم سيف بن ذي يزن كما سيأتي يزعمون أنه نبي هذه الأمة وأنا لا آمن عليه منهم وكان لا يأكل يعنى عبدالمطلب طعاما إلا يقول على بإبني أي أحضروه قال وكان عبدالمطلب إذا أتى بطعام أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه وربما أقعده على فخذه فيؤثر بأطيب طعامه انتهى
وعن بعضهم أي وهو حيدة بن معاوية العامري كان من المعمرين وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم قال بعضهم مات وهو عم ألف رجل وامرأة قال حججت في الجاهلية فبينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل وفي رواية إذا شيخ طويل يطوف بالبيت وهو يقول رد إلى راكبي محمدا وفي رواية ** يا رب رد راكبي محمدا ** اردده ربي واصطنع عندي يدا **
فقلت من هذا قالوا عبدالمطلب بن هاشم بعث ابنه في طلب إبل له ضلت وما بعثه في شيء إلا جاء به قال وفي رواية هذا سيد قريش عبد المطلب له إبل كثيرة فإذا ضل منها شيء بعث فيه بنيه يطلبونها فإذا غابوا بعث ابن ابنه ولم يبعثه حاجة

إلا أنجح فيها وقد بعثه في حاجة أعيا عنها بنوه وقد أبطأ عليه انتهى فما برحت أي مازلت عن مكاني حتى جاء بالإبل معه فقال له يا بني حزنت عليك حزنا لا يفارقني بعده أبدا وتقدم عن بعض المفسرين ما لا يحتاج إلى إعادته هنا
وعن رقيقة بنت أبي صيفي أي ابن هاشم بن عبد مناف زوجة عبدالمطلب ذكرها ابن سعد في المسلمات المهاجرات أقوال وقال أبو نعيم لا أراها أدركت الإسلام وقال ابن حبان يقال إن لها صحبة والله أعلم قالت تتابعت على قريش سنون أي أزمنة قحط وجدب ذهبت بالأموال وأشفين أي أشرفن على الأنفس قالت فسمعت قائلا يقول في المنام يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم هذا إبان أي وقت خروجه وبه يأتيكم الحيا أي بالقصر المطر العام والخصب فانظروا رجلا من أوساطكم أي أشرافكم نسبا طوالا عظاما أي طويلا عظيما أبيض مقرون الحاجبين أهدب الأشفار أي طويل شعر الأجفان أسيل الخدين أي لا نتو بها رقيق العرنين أي الأنف وقيل أوله فليخرج هو وجميع ولده وليخرج منكم من كل بطن رجل فيتطهروا ويتطيبوا ثم استلموا الركن ثم أرقوا إلى رأس أبي قبيس ثم يتقدم هذا الرجل فيستسقى وتؤمنون فإنكم تسقون فأصبحت وقصت رؤياها عليهم فنظروا فوجدوا هذه الصفة صفة عبدالمطلب فاجتمعوا عليه وأخرجوا من كل بطن رجلا ففعلوا ما أمرتهم به ثم علوا على أبي قبيس ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام فتقدم عبدالمطلب فقال لا هم هؤلاء عبيدك وبنو عبيدك وإماؤك وبنو إمائك وقد نزل بنا ما ترى وتتابعت علينا هذه السنون فذهبت بالظلف والخف والحافر أي الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير فأشفت على الأنفس أي أشرفت على ذهابها فأذهب عنا الجدب وائتنا بالحيا والخصب فما برحوا حتى سالت الأودية
قال وفي رواية أخرى عن رقيقة قال تتابعت على قريش سنون جدبة أقحلت أي أيبست الجلد وأدقت العظم فبينا أنا نائمة أو مهومة أي بين اليقظانة والنائمة إذا هاتف هو الذي يسمع صوته ولا يرى شخصه كما تقدم يصرخ بصوت صحل أي فيه بحوحة وهي خشونة الصوت وغلظه يقول يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم قد أظللتكم أيامه أي قربت منكم وهذا إبان مخرجه فحيعلا بالحيا والخصب ألا فانظروا رجلا منكم وسطا عظاما أبيض بضا أي شديد البياض أوطف الأهداب أي كثير شعر العينين

أسهل الخدين أشم العرنين أي مرتفع الأنف له فخر يكظم عليه أي يسكت عليه ولا يظهره وسنن يهتدى إليها أي يرشد إليها فليخلص هو وولده وولد ولده وليد لف أي يتقدم إليه من كل بطن رجل فليسنوا من الماء أي يفرغوه على أجسادهم أي يغتسلوا به وليمسوا من الطيب ثم يلتمسوا الركن وليطوفوا بالبيت العتيق سبعا ثم ليرقوا أبا قبيس فليستسق الرجل وليؤمن القوم ألا وفيهم الطيب الطاهر فغثتم إذا ما شئتم أي جاءكم الغيث على ما تريدون قالت فأصبحت مذعورة قد اقشعر جلدي ووله أي ذهب عقلي واقتصيت رؤياي أي ذكرتها على وجهها فنمت أي فشت وكثرت من شعاب مكة فما بقى أبطحي إلا قال هذا شيبة الحمد يعني عبدالمطلب وقامت عنده قريش وانفض إليه من كل بطن رجل فسنوا من الماء ومسوا من الطيب واستلموا وطافوا
ثم ارتقوا أبا قبيس فطفق القوم يدنون حوله ما إن يدركه بعضهم مهلة وهي التؤدة والتأني ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أيفع أي ارتفع أو كرب أي قرب من ذلك فقام عبدالمطلب فقال اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة أنت عالم غير معلم ومسئول غير مبخل وهذه عبيدك وإماؤك بغدرات حرمك أي أفنيته يشكون إليك سنتهم التي أقحلت أي أيبست الظلف والخف أي الإبل والبقر فأمطرن اللهم غيثا سريعا مغدقا فما برحوا حتى انفجرت السماء بمائها وكظ الوادي أي ضاق بثجيجه أي بسيله فلسمعت شيخان قريش وهي تقول لبعدالمطلب هنيئا لك يا أبا البطحاء بك عاش أهل البطحاء انتهى أي والظاهر أن القصة واحدة فليتأمل الجمع وقد يدعى أن الإختلاف من الرواة منهم من عبر بالمعنى
وفي سقيا الناس بعبدالمطلب وأن ذلك ببركته صلى الله عليه وسلم تقول رقيقة ** بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ** وقد عدمنا الحيا واجلوذ المطر **
أي امتد زمن تأخره فجاد بالماء جوني له سبل دان أي مطرها طل كثير الهطل قريب فعاشت به الأنعام والشجر منا من الله بالميمون طائره أي المبارك حظه وخير من بشرت يوما به مضر ** مبارك الإسم يستسقى الغمام به ** ما في الأنام له عدل ولا خطر **

أي لا معادل ولا مماثل له
ولما سقوا لم يصل المطر إلى بلاد قيس ومضر فاجتمع عظماؤهم وقالوا قد أصبحنا

في جهد وجدب وقد سقى الله الناس بعبدالمطلب فاقصدوه لعله يسأل الله تعالى فيكم فقدموا مكة ودخلوا على عبدالمطلب فحيوه بالسلام فقال لهم أفلحت الوجوه وقام خطيبهم فقال قد أصابتنا سنون مجدبات وقد بان لنا أثرك وصح عندنا خبرك فاشفع لنا عند من شفعك وأجرى الغمام لك فقال عبدالمطلب سمعا وطاعة موعدكم غدا عرفات ثم أصبح غاديا إليها وخرج معه الناس وولده ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصب لعبدالمطلب كرسي فجلس عليه وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره ثم قام عبدالمطلب ورفع يديه ثم قال اللهم رب البرق الخاطف والرعد القاصف رب الأرباب وملين الصعاب هذه قيس ومضر من خير البشر قد شعثت رؤوسها وحدبت ظهورها تشكوا إليك شدة الهزال وذهاب النفوس والأموال اللهم فأتح لهم سحابا خوارة وسماء خرارة لتضحك أرضهم ويزول ضرهم فما استتم كلامه حتى نشأت سحابة دكناء لها دوى وقصدت نحو عبدالمطلب ثم قصدت نحو بلادهم فقال عبدالمطلب يا معشر قيس ومضر انصرفوا فقد سقيتم فرجعوا وقد سقوا
وذكر بعضهم أنهم كانوا في الجاهلية يستسقون إذا أجدبوا فإذا أرادوا ذلك أخذوا من ثلاثة أشجار وهي سلع وعشر وشبرق من كل شجرة شيئا من عيدانها وجعلوا ذلك حزمة وربطوا بها على ظهر ثور صعب وأضرموا فيها النار ويرسلون ذلك الثور فإذا أحس بالنار عدا حتى يحترق ما على ظهره ويتساقط وقد يهلك ذلك الثور فيسقون
وفي حياة الحيوان كانت العرب إذا أرادت الإستسقاء جعلت النيران في أذناب البقر وأطلقوها فتمطر السماء فإن الله يرحمها بسبب ذلك قال وذكر ابن الجوزي أنه صلى الله عليه وسلم في سنة سبع من مولده أصابه رمد شديد فعولج بمكة فلم يغن فقيل لعبدالمطلب إن في ناحية عكاظ راهبا يعالج الأعين فركب إليه ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه وديره مغلق فلم يجبه فتزلزل ديره حتى خاف أن يسقط عليه فخرج مبادرا فقال يا عبدالمطلب إن هذا الغلام نبي هذه الأمة ولو لم أخرج إليك لخر على ديري فارجع به واحفظه لا يقتله بعض أهل الكتاب ثم عالجه وأعطاه ما يعالجه به
هذا ورأيت في كتاب سماه مؤلفه كريم الندماء ونديم الكرماء أن رسول الله صلى الله

عليه وسلم رمد وهو صغير فمكث أياما يشكو فقال قائل لجده عبدالمطلب إن بين مكة والمدينة راهبا يرقى من الرمد وقد شفى على يديه خلق كثير فأخذه جده وذهب به إلى ذلك الراهب فلما رآه الراهب دخل إلى صومعته فاغتسل ولبس ثيابه ثم أخرج صحيفة فجعل ينظر إلى الصحيفة وإليه صلى الله عليه وسلم ثم قال هو والله خاتم النبيين ثم قال يا عبدالمطلب هو أرمد قال نعم قال إن دواءه معه يا عبد المطلب خذ من ريقه وضعه على عينيه فأخذ عبدالمطلب من ريقه صلى الله عليه وسلم ووضعه على عينيه صلى الله عليه وسلم فبرأ لوقته ثم قال الراهب يا عبدالمطلب وتالله هذا هو الذي أقسم على الله به فأبرئ المرضى وأشفى الأعين من الرمد فليتأمل فإن تعدد الواقعة لا يخلو عن بعد والله أعلم & باب وفاة عبدالمطلب وكفالة عمه أبي طالب له صلى الله عليه وسلم
ثم لما كان سنه صلى الله عليه وسلم ثمان سنين أي بناء على الراجح من الأقوال المتكثرة ويرحجه ما يأتي توفى عبدالمطلب وله من العمر خمس وتسعون سنة وقيل مائة وعشرون وقيل وأربعون أي ولعل ضعف هذا القول اقتضى عدم ذكر ابن الجوزي لعبدالمطلب في المعمرين قال وقيل إثنان وثمانون أي وعليه اقتصر الحافظ الدمياطي قال وقيل مائة وأربعة وأربعون وقد قيل له صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أتذكر موت عبدالمطلب قال نعم وأنا يومئذا بن ثمان سنين
وعن أم أيمن أنها كانت تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبكى خلف سرير عبدالمطلب وهو ابن ثمان سنين ودفن بالحجون عنده جده قصي
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث جدي عبدالمطلب في زي الملوك وأبهة الأشراف
ولما حضرته الوفاة أوصى به صلى الله عليه وسلم إلى عمه شقيق أبيه أبي طالب أي وكان أبو طالب ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية كأبيه عبدالمطلب كما تقدم وإسمه على الصحيح عبد مناف وزعمت الروافض أن إسمه عمران وأنه المراد من قوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين قال الحافظ ابن كثير

وقد أخطأوا في ذلك خطأ كبيرا ولم يتأملوا القرآن قبل أن يقولوا هذا البهتان فقد ذكر بعد هذه قوله تعالى { إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا } وحين أوصى به جده لأبي طالب أحبه حبا شديدا لا يحبه لأحد من ولده فكان لا ينام إلا إلى جنبه وكان يخصه بأحسن الطعام أي وقيل اقترع أبو طالب هو والزبير شقيقه فيمن يكفله صلى الله عليه وسلم منهما فخرجت القرعة لأبي طالب وقيل بل هو صلى الله عليه وسلم اختار أبا طالب لما كان يراه من شفقته عليه وموالاته له قبل موت عبدالمطلب فسيأتي أنه كان مشاركا له في كفالته
وقيل كفله الزبير حين مات عبد المطلب ثم كفله أبو طالب أي بعد موت الزبير وغلط قائله بأن الزبير شهد حلف الفضول ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر نيف وعشرون سنة كذا في أسد الغابة مقدما للإقتراع على ما قبله
وفي كون عمره صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول كان نيفا وعشرين سنة نظر لما سيأتي أن عمره إذا ذاك كان أربع عشرة سنة
وفي كلام بعضهم فلما مات عبدالمطلب كفله عماه شقيقا أبيه الزبير وأبو طالب ثم مات عمه الزبير وله من العمر أربع عشرة سنة فانفرد به أبو طالب وكفالة جده وعمه له صلى الله عليه وسلم بعد موت أبيه وأمه مذكورة في الكتب القديمة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم
ففي خبر سيف بن ذي يزن يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه أي وفي سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق أن عبدالمطلب لما حضرته الوفاة وعرف أنه ميت جمع بناته وكن ست نسوة صفية وهي أم الزبير بن العوام وبرة وعاتكة وأم حكيم البيضاء أي وهي جدة عثمان بن عفان لأمه وأميمة وأروى فقال لهن ابكين على حتى أسمع ما تقلن في قبل أن أموت فقالت كل واحده منهن شعرا في وصفه مذكور في تلك السيرة ولما سمع جميع ذلك أشار برأسه أن هكذا فابكينني ويقال إنه إنما أشار بذلك لما سمع قول أميمة وقد أمسك لسانه وكان من قولها ** أعيني جودا بدمع درر ** على ماجد الخيم والمعتصر ** ** على ماجد الجد وارى الزناد ** جميل المحيا عظيم الخطر ** ** على شيبة الحمد ذي المكرمات ** وذي المجد والعز والمفتخر ** **

وذي الحلم والفضل في النائبات ** كثير المفاخر جم الفخر ** ** له فضل مجد على قومه ** متين يلوح كضوء القمر **
قال ابن هشام رحمه الله لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذاالشعر إلا أنه أي ابن إسحاق لما رآه عن ابن المسيب كتبه قال بعضهم ولم يبك أحد بعد موته ما بكى عبد المطلب بعد موته ولم يقم لموته بمكة سوق أياما كثيرة
وروى أبو نعيم والبيهقي أن سيف بن ذي يزن الحميري لما ولى على الحبشة وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين أناه وفود العرب وأشرافها وشعرؤها لتهنئه أي بهلاك ملوك الحبشة وبولايته عليهم أي لأن ملك اليمن كان لحمير فانتزعته الحبشة منهم واستمر في يد الحبشة سبعين سنة ثم إن سيف بن ذي يزن الحميري استنقذ ملك اليمن من الحبشة واستقر فيه على عادة آبائه وجاءت العرب تهنئه من كل جانب وكان من جملتهم وفد قريش وفيهم عبدالمطلب وأمية بن عبد شمس وغالب وجهائهم أي كعبدالله بن جدعان بضم الجيم وإسكان الدال المهملة وبالعين المهملة التيمي وهو ابن عم عائشة رضي الله تعالى عنها وكأسد بن عبدالعزى ووهب بن عبدمناف وقصي ابن عبدالدار فأخبر بمكانهم أي وكان في قصره بصنعاء وهو مضمخ بالمسك وعليه بردان والتاج على رأسه وسيفه بين يديه وملوك حمير عن يمينه وشماله فأذن لهم فدخلوا عليه ودنا منه عبدالمطلب
وفي الوفاء وجدوه جالسا على سرير من الذهب وحوله أشراف اليمن على كراسي من الذهب فوضعت لهم كراسي من الذهب فجلسوا عليها إلا عبدالمطلب فإنه قام بين يديه واستأذنه في الكلام فقال إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك فقال إن الله عز وجل أحلك أيها الملك محلا رفيعا شامخا أي مرتفعا باذخا أي عاليا منيعا وأنبتك نباتا طالت أرومته وعظمت جرثومته أي والأرومة والجرثومة هما الأصل وثبت أصله وبسق أي طال فرعه من أطيب موضع وأكرم معدن وأنت أبيت اللعن أي أبيت أن تأتي من الأمور ما يلعن عليه ملك العرب الذي له تنقاذ وعمودها الذي عليه العماد وكهفها الذي تلجأ إليه العباد سلفك خير سلف وأنت لنا فيهم خير خلف فلن يهلك ذكر من أنت خلفه ولن يخمل ذكر من أنت سلفه نحن أهل حرم الله وسدنة بيته أشخصنا أي أحضرنا إليك الذي أبهجنا من كشف الكرب

الذي فدحنا أي أثقلنا فنحن وفد التهنئة لا وفد الترزئة أي التعزية فعند ذلك قال له الملك من أنت أيها المتكلم قال عبدالمطلب بن هاشم قال ابن اختنا بالتاء المثناة فوق لأن أم عبدالمطلب من الخزرج وهم من اليمن قال نعم قال ادنه ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال مرحبا وأهلا وناقة ورحلا ومستناخا سهلا وملكا ربحلا أي كثير العطاء يعطى عطاء جزلا قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابكم وقبل وسيلكم فإنكم أهل الليل والنهار ولكم الكرامة ما أقمتم والحباء أي العطاء إذا ظعنتم ثم انهضوا إلى دار الضيافة والوفود وأجرى عليهم الأنزال فأقاموا بذلك شهرا لا يصلون إليه ولا يؤذن لهم بالإنصراف ثم انتبه لهم إنتباهة فأرسل إلى عبدالمطلب فأدناه ثم قال له يا عبدالمطلب إني مفض إليك من سر علمي أمرا لو غيرك يكون لم أبح له به ولكن رأيتك معدنه فأطلعتك طلعه أي عليه فليكن عندك مخبأ حتى يأذن الله عز وجل فيه إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي أدخرناه لأنفسنا واحتجبناه أي كتمناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة فقال له عبدالمطلب مثلك أيها الملك سر وبر فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر قال إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة أي السيادة إلى يوم القيامة فقال له عبدالمطلب أيها الملك أبت أي رجعت بخير ما آب بمثله وافد قوم ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من مساره أي من مساررته إياي بما أزداد به سرورا فقال له الملك هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد إسمه محمد يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه قد ولدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا أنصارا يعزبهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ويضرب بهم الناس عن عرض أي جميعا ويستفتح بهم كرائم الأرض يعبد الرحمن ويدحض أي يزجر الشيطان ويخمد النيران ويكسر الأوثان قوله فصل وحكمه عدل ويأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله قال له عبدالمطلب جد جدك ودام ملكك وعلا كعبك فهل الملك ساري بإفصاح فقد وضح لي الإيضاح قال والبيت ذي الحجب والعلامات على النقب أي الطرق إنك لجده يا عبد المطلب غير كذب قال فخر عبدالمطلب ساجدا فقال له ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا كعبك فهل أحسست بشيء مما ذكرت لك قال نعم أيها الملك إنه كان لي إبن

وكنت به معجبا وعليه رقيقا وإني زوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فجاءت بغلام فسميته محمدا مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه يعنى أبا طالب وهذا يدل على أن وفود عبدالمطلب على سيف بن ذي يزن كان بعد موت أمه صلى الله عليه وسلم
وحينئذ لا ينافى ذلك ما تقدم أن عمره صلى الله عليه وسلم كان سنتين لأن ذلك كان سنه صلى الله عليه وسلم حين ولى سيف بن ذي يزن على الحبشة وتأخر وفود عبدالمطلب عليه بعد موت أمه صلى الله عليه وسلم ويدل على أن أبا طالب كان مشاركا لعبدالمطلب في كفالته صلى الله عليه وسلم في حياة عبدالمطلب ثم اختص هو بذلك بعد موته أي وعبارة سيف بن ذي يزن صادقة بالحالين فقال له إن الذي قلت لك كما قلت فاحتفظ على إبنك واحذر عليه من اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا أي فحفظه والخوف عليه منهم من باب الإحتياط و الإعلام بقدره
قال واطوما ذكرته لك عن هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تداخلهم النفاسة من أن تكون له الرياسة فينصبون له الحبائل ويبغون له الغوائل وهم فاعلون ذلك وأبناؤهم من غير شك ولولا أعلم أن الموت مجتاحي أي مهلكي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكه فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار ملكه وإستحكام أمره وأجل نصرته وموضع قبره ولولا أني أقيد الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمره وأعليت على أسنان العرب كعبه ولكن سأصرف ذلك إليك من غير تقصير بمن معك
ثم دعا بالقوم وأمر لكل واحد منهم بعشرة أعبد أسود وعشرة إماء سود وحلتين من حلل البرود وعشرة أرطال ذهبا وعشرة أرطال فضة ومائة من الإبل وكرش مملوء عنبرا وأمر لعبدالمطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال إذا جاء الحول فأتني بخبره وما يكون من أمره فمات الملك قبل أن يحول عليه الحول وكان عبدالمطلب كثيرا ما يقول لمن معه لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك ولكن يغبطني بما يبقى لي ولعقبي ذكره وفخره فإذا قيل له ما هو قال سيعلم ما أقول ولو بعد حين


وهذا القصر الذي كان فيه الملك سيف بن ذي يزن يقال له بيت عمدان يقال إنه كان هيكلا للزهرة تعبد فيه الزهرة وكان سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه يقول لا أفلحت العرب مادام فيها عمدانها فلما ولى عثمان رضي الله تعالى عنه الخلافة هدمه
وكان أبو طالب مقلا من المال فكان عياله إذا أكلوا جميعا أو فرادى لم يشبعوا وإذا أكل معهم النبي صلى الله عليه وسلم شبعوا فكان أبو طالب إذا أراد أن يغديهم أو يعشيهم يقول لهم كما أنتم حتى يأتي ابني فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم فيفضلون من طعامهم وإن كان لبنا شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم ثم تتناول العيال القعب أي القدح الذي من الخشب فيشربون منه فيروون من عند آخرهم أي جميعهم من القعب الواحد وإن كان أحدهم ليشرب قعبا واحدا فيقول أبو طالب إنك لمبارك
أقول وفي الإمتاع وكان أي أبو طالب يقرب إلى الصبيان يصبحهم أو البكرة فيجلسون وينتهبون فيكف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده لا ينتهب معهم فلما رأى ذلك أبو طالب عزل له طعامه على حدة هذا كلامه ولا ينافى ما قبله لأنه يجوز أن يكون ذلك خاصا بما يحضر في البكرة الذي يقال له الفطور دون الغداء والعشاء فإنه كان يأكل معهم وهو المقدم والله أعلم
وكان الصبيان يصبحون شعثا رمصا بضم الراء وإسكان الميم ثم صاد مهملة ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهينا كحيلا
قالت أم أيمن ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جوعا قط ولا عطشا لا في صغره ولا في كبره
وكان صلى الله عليه وسلم يغد وإذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة فربما عرضنا عليه الغداء فيقول أنا شبعان أي في بعض الأوقات فلا ينافي ماسبق
وكان يوضع لأبي طالب وسادة يجلس عليها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجلس عليها فقال إن ابن أخي ليخبر بنعيم أي بشرف عظيم
قال واستسقى أبو طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم قال جلهمة ابن عرفطة قدمت مكة وقريش في قحط فقائل منهم يقول اعتمدوا اللات والعزى وقائل منهم يقول اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى فقال شيخ وسيم حسن الوجه جيد الرأي أنى تؤفكون أي

كيف تصرفون عن الحق وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسمعيل عليهما السلام أي فكيف تعدلون عنه إلا ما لا يجدي قالوا كأنك عنيت أبا طالب قال أيها فقاموا بأجمعهم وقمت معهم فدققنا عليه بابه فخرج إلينا رجل حسن الوجه عليه إزار قد اتشح به فثاروا أي قاموا إليه فقالوا يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال فهلم فاستسق لنا فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجنة بدال مهلمة فجيم مضمومتين أي ظلمة وفي رواية كأنه شمس دجن أي ظلام تجلت عنه سحابة قتماء أي من القتام بالفتح وهو الغبار وحوله أغيلمة جمع غلام فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ أي طاف بأصبعه الغلام زاد في بعض الروايات وبصبصت الأغيلمة حوله أي فتحت أعينها وما في السماء قزعة أي قطعة من سحاب فأقبل السحاب من ههنا ومن ههنا واغدودق أي كثر مطره وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي
وفي ذلك يقول أبو طالب من قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم أكثر من ثمانين بيتا ** وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل **
أي ملجأ وغياثا لليتامى ومانع الأرامل من الضياع والأرامل المساكين من النساء والرجال وهو بالنساء أخص وأكثر إستعمالا
أقول وأخذت الشعية من هذه القصيدة القول بإسلام أبي طالب أي لأنه صنفها بعد البعثة وسيأتي الكلام في إسلامه
وأما ما نقله الدميري في شرح المنهاج عن الطبراني وإبن سعد أن هذه القصيدة التي منها هذا البيت من إنشاء عبدالمطلب فهو وهم لما درج عليه أئمة السير أن المنشيء لها هو أبو طالب وإحتمال توارد كل من أبي طالب وعبدالمطلب على هذه القصيدة بعيد جدا
ومما يصرح بالوهم ما يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم من نسبة هذا البيت لأبي طالب والله أعلم
قال وعن أبي طالب قال كنت بذي المجاز أي وهو موضع على فرسخ من عرفة كان سوقا للجاهلية كما تقدم مع ابن أخي يعني النبي صلى الله عليه وسلم فأدركني العطس فشكوت إليه فقلت يا ابن أخي قد عطشت وما قلت له ذلك وأنا أرى عنده شيئا إلا الجزع

أي لم يحملني على ذلك إلا الجزع وعدم الصبر قال فثنى وركه أي نزل عن دابته ثم قال يا عم عطشت قلت نعم فأهوى بعقبه إلى الأرض وفي رواية إلى صخرة فركضها برجله وقال شيئا فإذا أنا بالماء لم أر مثله فقال اشرب فشربت حتى رويت فقال أرويت قلت نعم فركضها ثانية فعادت كما كانت وسافر أي وقد أتت عليه صلى الله عليه وسلم بضع عشرة سنة مع عمه الزبير بن عبدالمطلب شقيق أبيه كما تقدم إلى اليمن فمروا بواد فيه فحل من الإبل يمنع من يجتاز فلما رآه البعير برك وحك الأرض بكلكله أي صدره فنزل صلى الله عليه وسلم عن بعيره وركب ذلك الفحل وسار حتى جاوز الوادي ثم خلى عنه فلما رجعوا من سفرهم مروا بواد مملوء ماء يتدفق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتبعوني ثم أقتحمه فاتبعوه فأيبس الله عز وجل الماء فلما وصلوا إلى مكة تحدثوا بذلك فقال الناس إن لهذا الغلام شأنا
أي وفي السيرة الهشامية أن رجلا من لهب كان قائفا وكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويقتاف لهم فيهم فأتى أبو طالب بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام مع من يأتيه فنظر إليه صلى الله عليه وسلم ثم شغل عنه بشيء فلما فرغ قال علي بالغلام وجعل يقول ويلكم ردوا على الغلام الذي رأيت آنفا فوالله ليكونن له شأن فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه وانطلق به والله أعلم & باب ذكر سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام
عن إبن إسحق لما تهيأ أبو طالب للرحيل صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الصاد المهملة وتشديد الباء الموحدة والصبابة رقة الشوق قاله في الأصل
قال وعند بعض الرواة فضبث به أي بفتح الضاد المعجمة والباء الموحدة والثاء المثلثة كضرب لزمه وقبض عليه يقال ضبثت على الشيء إذا قبضت عليه
فقد جاء أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قل للملأ من بني إسرائيل لا يدعوني والخطايا بين أضباثهم أي قبضاتهم أي وهم يحملون الأوزار غير مقلعين عنها أي وعلى ما عند بعض الرواة اقتصر الحافظ الدمياطي فلفظه لما تهيأ يعني أبا طالب للرحيل

ضبث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له أبو طالب وقال والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا
أقول رأيت بعضهم نقل عن سيرة الدمياطي وضبث به أبو طالب ضباثة لم يضبث مثلها لشيء قط وإنه ضبث بالضاد المعجمة والباء الموحد ة والثاء المثلثة قال وهو القبض على الشيء وهذا لايناسب قوله ضباثة لم يضبث مثلها لشيء قط لأن ذلك إما يناسب صب بالصاد المهملة أي الذي هو الرقة كما لا يخفى على أن مصدر ضبث إنما هو الضبث ومن ثم لم أجد ذلك في السيرة المذكورة والذي رأيته فيها ما قدمته عنها وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم مسك بزمام ناقة أبي طالب وقال يا عم إلى من تكلني لا أب لي ولا أم وكان سنه صلى الله عليه وسلم تسع سنين على الراجح وقيل إثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام أي وهذا القيل صدر به في الإمتاع وقال إنه أثبت أي ومن ثم اقتصر عليه المحب الطبري
وذكر أنه لما سار به أردفه خلفه فنزلوا على صاحب دير فقال صاحب الدير ما هذا الغلام منك قال ابني قال ما هو بإبنك وما ينبغي أن يكون له أب حي هذا نبي أي لأن من كانت هذه الصفة صفته فهو نبي أي النبي المنتظر
ومن علامة ذلك النبي في الكتب القديمة أن يموت أبوه وأمه حامل به كما تقدم وسيأتي أو بعد وضعه بقليل من الزمن أي ومن علامته أيضا في تلك الكتب موت أمه وهو صغير كما تقدم في خبر سيف بن ذي يزن ولا ينافى ذلك الإقتصار من بعض أهل الكتب القديمة على الأول الذي هو موت أبيه وهو حمل
قال أبو طالب لصاحب الدير وما النبي قال الذي يأتي إليه الخبر من السماء فينبئ أهل الأرض قال أبو طالب الله أجل مما تقول قال فاتق عليه اليهود ثم خرج حتى نزل براهب أيضا صاحب دير فقال له ما هذا الغلام منك قال ابني قال ما هو بإبنك وما ينبغي أي يكون له أب حي قال ولم قال لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي أي النبي الذي يبعث لهذه الأمة الأخيرة لأن ما ذكر علامته في الكتب القديمة قال أبو طالب سبحان الله الله أجل مما تقول ثم قال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم يا ابن أخي ألا تسمع ما يقول قال أي عم لا تنكر لله قدرة والله أعلم
فلما نزل الركب بصرى وبها راهب يقال له بحيرا بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة وسكون

المثناة التحتية آخره راء مقصورة وإسمه جرجيس وقيل سرجيس وحينئذ يكون بحيرا لقبه في صومعة له وكان انتهى إليه علم النصرانية أي لأن تلك الصومعة كانت تكون لمن ينتهى إليه علم النصرانية يتوارثونها كابرا عن كابر عن أوصياء عيسى عليه الصلاة والسلام وفي تلك المدة انتهى علم النصرانية إلى بحيرا وقيل كان بحيرا من أحبار اليهود يهود تيما
أقول لا منافاه لأنه يجوز أن يكون تنصر بعد أن كان يهوديا كما وقع لورقة بن نوفل كما سيأتي
هذا وقال ابن عساكر إن بحيرا كان يسكن قرية يقال لها الكفو بينها وبين بصرى ستة أميال وقيل كان يسكن البلقاء من أرض الشام بقرية يقال لها ميفعة ويحتاج إلى الجمع
وقد يقال يجوز أنه كان يسكن في كل من القريتين كل واحدة يسكن فيها زمنا وكان في بعض الأحايين يأتي لتلك الصومعة فليتأمل وقد سمع مناد قبل وجوده صلى الله عليه وسلم ينادي ويقول ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة رباب بن البراء وبحيرا الراهب وآخر لم يأت بعد وفي لفظ والثالث المنتظر يعني النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ابن قتيبة
قال ابن قتيبة وكان قبر رباب وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عندهما طش وهو المطر الخفيف والله أعلم
وكانت قريش كثيرا ما تمر على بحيرا فلا يكلمهم حتى كان ذلك العام صنع لهم طعاما كثيرا وقد كان رأى وهو بصومعته رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ثم لما نزلوا في ظل شجرة نظر إلى الغمامة قد أظلت الشجرة وتهصرت أي مالت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية وأخضلت أي كثرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استظل تحتها أي وقد كان صلى الله عليه وسلم وجدهم سبقوه إلى فىء الشجرة فلما جلس صلى الله عليه وسلم مال فىء الشجرة عليه ثم أرسل إليهم إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش وأحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم فقال له رجل منهم لم أقف على إسم هذا الرجل يا بحيرا إن لك اليوم لشأنا ما كنت تصنع هذا بنا وكنا نمر عليك كثيرا فما شأنك اليوم فقال له بحيرا صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت

أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم أي تحت الشجرة فلما نظر بحيرا في القوم ولم ير الصفة أي لم ير في أحد منهم الصفة التي هي علامة للنبي المبعوث آخر الزمان التي يجدها عنده أي ولم ير الغمامة على أحد من القوم ورآها متخلفة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا معشر قريش لا يتخلف أحد منكم عن طعامي فقالوا يا بحيرا ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا قال لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الغلام معكم أي وقال فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد مع أني أراه من أنفسكم فقال القوم هو والله أوسطنا نسبا وهو ابن أخي هذا الرجل يعنون أبا طالب وهو من ولد عبدالمطلب فقال رجل من قريش واللات والعزى إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبدالله بن عبدالمطلب عن طعام من بيننا ثم قام إليه فاحتضنه أي وجاء به وأجلسه مع القوم أي وذلك الرجل هو عمه الحارث بن عبدالمطلب ولعله لم يقل هو ابن أخي مع كونه أسن من أبي طالب لأن أبا طالب كان شقيقا لأبيه عبدالله كما تقدم دون الحارث مع كون أبي طالب هو المقدم في الركب وقيل الذي جاء به صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقدمه ابن المحدث على ما قبله فليتأمل
ولما سار به من احتضنه لم تزل الغمامة تسير على رأسه صلى الله عليه وسلم فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته صلى الله عليه وسلم حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه صلى الله عليه وسلم بحيرا فقال له أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما أي وفي الشفاء أنه اختبره بذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسألني باللات والعزى شيئا فوالله ما أبغض شيئا قط بعضهما فقال بحيرا فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه فقال له سلني عما بدا لك فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره ويخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته أي صفة النبي المبعوث آخر الزمان التي عنده أي ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة على الصفة التي عنده فقبل موضع الخاتم فقالت قريش إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له ما هذا الغلام منك قال إبني قال ما هو إبنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا قال فإنه ابن أخي

قال فما فعل أبوه قال مات وأمه حبلى به قال صدقت أي ثم قال ما فعلت أمه قال توفيت قريبا قال صدقت فارجع بإبن أخيك إلى بلاده واحذر عليه اليهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت لتبغينه شرا فإنه كائن لإبن أخيك هذا شأن عظيم أي نجده في كتبنا ورويناه عن آبائنا
واعلم أني قد أديت إليك النصيحة فأسرع به إلى بلده وفي لفظ لما قال له ابن أخي قال له بحيرا أشفيق عليه أنت قال نعم قال فوالله لئن قدمت به إلى الشام أي جاوزت هذا المحل ووصلت إلى داخل الشام الذي هو محل اليهود لتقتلنه اليهود فرجع به إلى مكة ويقال إنه قال لذلك الراهب إن كان ألأمر كما وصفت فهو في حصن من الله عز وجل
وقد يقال لا مخالفة لأن ما صدر من بحيرا كان على ما جرت به العادة من طلب التوقى فخرج به عمه أبو طالب حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام وفي الهدى فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى المدينة فليتأمل
وذكر أن نفرا من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى بحيرا وأرادوا به سواء فردهم عنه بحيرا وذكرهم الله وما يجدونه في الكتاب من ذكره وصفاته وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لا يخلصون إليه فعند ذلك تركوه وانصرفوا عنه
وفي رواية أخرى خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب بحيرا قبل ذلك يمرون عليه فلا يخرج إليهم ولا يلتفت إليهم فجعل وهم يحلون رحالهم يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال هذا سيد العالمين هذا رسول رب العالمين هذا يبعثه الله رحمة للعالمين فقال الأشياخ من قريش ما أعلمك فقال إنكم حين أشرفتم على العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدا ولا يسجد إلا لنبي أي وإن الغمامة صارت تظلله دونهم وإني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة أي والغضروف تقدم أنه رأس لوح الكتف ثم رجع وصنع لهم طعاما فلما أتاهم به كان النبي صلى الله عليه وسلم في رعية الإبل فارسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فئ الشجرة فلما جلس مال فئ الشجرة عليه فقال الراهب انظروا إلى فئ هذه الشجرة مال عليه

فبينما هو قائم عليهم وهو يعاهدهم أن لا يذهبوا به إلى أرض الروم أي داخل الشام فإنهم إن عرفوه قتلوه فالتفت فإذا سبعة من الروم قد أقبلوا فاستقبلهم فقال ما جاء بكم قالوا جئنا إلى هذا النبي الذي هو خارج في هذا الشهر أي مسافر فيه فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا قال أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده قالوا لا فبايعوه ي بايعوا بحيرا على مسالمة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم أخذه وأذيته على حسب ما أرسلوا فيه وأقاموا عند ذلك الراهب خوفا على أنفسهم ممن أرسلهم إذا رجعوا بدونه قال بحيرا لقريش أنشدكم الله أي أسألكم بالله أيكم وليه قالوا أبو طالب فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه بلالا وفي لفظ وبعث معه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بلالا وزوده بحيرا من الكعك والزيت أي وإذا كانت القصة واحدة فالإختلاف في إيرادها من الرواة كما تقدم نظيره فبعض الرواة قدم في هذه الرواية وأخر
على أنه في الهدى قال وقع في كتاب الترمذي وغيره أن عمه أي وأبا بكر رضي الله تعالى عنه بعث معه بلالا وهو من الغلط الواضح فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا وإن كان فلم يكن مع عمه ولا مع أبي بكر
وذكر في الأصل أن في هذه الرواية أمورا منكرة حيث قال قلت ليس في إسناد هذا الحديث إلا من خرج له في الصحيح ومع ذلك أي مع صحة سنده ففي متنه نكارة أي أمور منكرة وهي إرسال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فإن بلالا لم ينقل لأبي بكر إلا بعد هذه السفرة بأكثر من ثلاثين عاما ولأن أبا بكر لم يبلغ العشر سنين حينئذ لأنه صلى الله عليه وسلم أسن منه بأزيد من عامين بقليل أي بشهر ولا ينافى ما يأتي وتقدم أن سنه صلى الله عليه وسلم حينئذ تسع سنين على الراجح أي فيكون سن أبي بكر نحو سبع سنين وكان بلال أصغر من أبي بكر رضي الله عنهما فلا يتجه هذا بحال أي لأن أبا بكر حينئذ لم يكن أهلا للإرسال عادة وكذا بلال لم يكن أهلا لأن يرسل
وكون النبي صلى الله عليه وسلم اسن من أبي بكر هو ما عليه الجمهور من أهل العلم بالأخبار والسير والآثار
وما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبا بكر فقال له من الأكبر أنا أو أنت

فقال له أبوبكر أنت أكرم وأكبر وأنا أسن قيل فيه إنه وهم وإن ذلك إنما يعرف عن عمه العباس رضي الله تعالى عنه وكون بلال أصغر من أبي بكر ينازعه قول ابن حبان بلال كان تربا لإبي بكر أي قرينه في السن وبه يرد قول الذهبي بلال لم يكن خلق
قال وذكر الحافظ ابن حجر أن إرسال أبي بكر معه بلال وهم من بعض الرواة وهو مقتطع من حديث آخر أدرجه ذلك الراوي في هذا الحديث انتهى
أقول ولأجل هذاالوهم قال الذهبي في الحديث أظنه موضوعا بعضه باطل أي لم يوافق الواقع أي فمع كون الحديث موضوعا بعضه موافق للواقع وبعضه لم يوافق الواقع وحينئذ فمراد الأصل بالنكارة في قوله في متنه نكارة البطلان كما أشرت إليه وليس هذا من قبيل قولهم هذا حديث منكر الذي هو من أقسام الضعيف وهو يرجع إلى الفردية ولا يلزم من الفردية ضعف متن الحديث فضلا عن بطلانه
وقال الحافظ الدمياطي في هذا الحديث وهمان أحدهما قوله فبايعوه وأقاموا معه والوهم الثاني قوله وبعث معه أبو بكر بلالا ولم يكونا معه ولم يكن بلال أسلم ولا ملكه أبو بكر
وفيه أن الحافظ الدمياطي فهم أن الضمير في بايعوه للنبي صلى الله عليه وسلم وقد علمت أنه لبحيرا فلا وهم فيه
وتوجيه الوهم الثاني بعدم وجود أبي بكر وبلال مع النبي صلى الله عليه وسلم واضح إن ثبت ذلك وإلا فمجرد النفي لا يرد به الإثبات وحينئذ لا حاجة معه إلى ذكر ما بعده من أن بلالا لم يكن أسلم ولا ملكه أبو بكر إلا أن يقال هو على تسليم وجود أبي بكر وبلال مع النبي صلى الله عليه وسلم
وقد يقال على تسليم ذلك إرسال إبي بكر لبلال لا يتوقف على إسلام بلال ولا على ملك أبي بكر له جاز أن يكون سيد بلال وهو أمية بن خلف أرسله في ذلك العير لأمر فأذن أبو بكر لبلال في العود مع النبي صلى الله عليه وسلم ليكون خادما ويستأنس ويأمن به إعتمادا على رضا سيده بذلك إذ ليس من لازم إرساله أن يكون مملوكا له وكون أبي بكر لم يكن في سن من يرسل عادة تقدم ما فيه والله أعلم
قال وروى ابن منده بسند ضعيف عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم

ابن عشرين سنة أي فالنبي صلى الله عليه وسلم أسن من أبي بكر بعامين أي وشهر كما تقدم ولقلة هذه الزيادة على العامين التي هي الشهر الواردة مبهمة في الرواية السابقة لم يذكرها ابن منده وهم يريدون الشام في تجارتهم حتى إذا نزل منزلا وهو سوق بصرى من أرض الشام وفي ذلك المحل سدرة فقعد صلى الله عليه وسلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرا يسأله عن شيء فقال من الرجل الذي في ظل السدرة قال له محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب فقال له والله هذا نبي هذه الأمة ما استظل تحتها بعد عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إلا محمد عليه الصلاة والسلام أي وقد قال عيسى لا يستظل تحتها بعدي إلا النبي الأمي الهاشمي كما سيأتي في بعض الروايات
قال الحافظ ابن حجر يحتمل أن يكون أي سفر أبي بكر معه صلى الله عليه وسم في سفرة أخرى بعد سفرة أبي طالب إنتهى
أقول وهي سفرته مع ميسرة غلام خديجة فإنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم سافر إلى الشام أكثر من مرتين ويؤيده ما تقدم من قول الراوي وهم يريدون الشام في تجاراتهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج تاجرا إلا في تلك السفرة وسيأتي أن هذا القول قاله الراهب نسطورا لا بحيرا قاله لميسرة لا لأبي بكر إلا أن يقال لا مانع أن يكون قال ذلك لميسرة ولأبي بكر لكن ربما يبعده ما سيأتي أن سنه صلى الله عليه وسلم حين سافر مع ميسرة كان خمسا وعشرين سنة على الراجح لا عشر سنين وعلى هذا فالشجرة لم تكن إلا عند صومعة الراهب نسطورا لا عند صومعة الراهب بحيرا وذكر بحيرا موضع نسطورا وهو ما وقع في شرف المصطفى للنيسابورى وهم من بعض الرواة سرى إليه من إتحاد محلهما وهو سوق بصرى إلا أن يقال يجوز أن يكون الراهب نسطورا خلف بحيرا في ذلك الصومعة لموته مثلا وهو أقرب من دعوى تعدد الشجرة فتكون واحدة عند صومعة بحيرا وواحدة عند صومعة نسطورا وكلاهما قال فيها عيسى ما ذكرا
ومن دعوى إتحادها وأنها بين صومعة بحيرا وصومعة نسطورا وأن العير الذي كان فيه أبو طالب نزل جهة صومعة بحيرا والعير الذي كان فيه أبو بكر وميسرة نزل جهة صومعة نسطورا وسيأتي أن بحيرا ونسطورا ونحوهما ممن صدق بأنه صلى الله عليه وسلم نبي هذه الأمة من أهل الفترة لا من أهل الإسلام لأنهما لم يدركا البعثة أي الرسالة

بناء على إقترانهما بالنبوة أو أن المراد بها النبوة أي لم يدركا النبوة فضلا عن الرسالة بناء على تأخرها عن النبوة
ثم رأيت الحافظ ابن حجر قال في بحيرا ما أدرى أدرك البعثة أم لا هذا كلامه في الإصابة وليس هذا بحيرا الراهب الصحابي الذي هو أحد الثمانية الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة
فعنه رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا شرب الرجل كأسا من خمر الحديث ومن قال إن هذا الحديث منكر ظن أن بحيرا هذا هو بحيرا المذكور هنا الذي لقى النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة والله أعلم & باب ما حفظه الله تعالى به في صغره صلى الله عليه وسلم من أمر الجاهلية
أي من أقذارهم ومعايبهم أي بحسب ما آل إليه شرعه لما يريد الله تعالى به من كرامته حتى صار أحسنهم خلقا وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزيها وتكريما أي حتى كان صلى الله عليه وسلم أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم مخالطة وخيرهم جوارا وأعظمهم حلما وأمانة وأصدقهم حديثا فسموه الأمين لما جمع الله عز وجل فيه من الأمور الصالحة الحميدة والفعال السديدة من الحلم والصبر والشكر والعدل والزهد والتواضع والعفة والجود والشجاعة والحياء والمروءة
فمن ذلك ما ذكره ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد رأيتني أي رأيت نفسي في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم أي من الملائكة ما أراها لكمة وجيعة وفي لفظ لكمني لكمة شديدة
وقد يقال لا منافاة لأنها مع شدتها لم تكن وجيعة له صلى الله عليه وسلم ثم قال شد عليك إزارك فأخذته فشددته علي ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري على من بين أصحابي أي وقد وقع له صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أي نقل الحجارة عاريا عند إصلاح أبي طالب لزمزم


فعن ابن اسحاق وصححه أبو نعيم قال كان أبو طالب يعالج زمزم وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة وهو غلام فأخذ إزاره واتقى به الحجارة فغشى عليه فلما أفاق سأله أبو طالب فقال أتاني آت عليه ثياب بيض فقال لي استتر فما رؤيت عورته صلى الله عليه وسلم من يومئذ
وفي الخصائص الصغرى ونهى صلى الله عليه وسلم عن التعري وكشف العورة من قبل أن يبعث بخمس سنين وقد وقع له صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أي نهيه عن التعري عند بنيان الكعبة كما سيأتي وسيأتي ما فيه
ومن ذلك ما جاء عن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما هممت بقبيح مما هم به أهل الجاهلية أي ويفعلونه إلا مرتين من الدهر كلتاهما عصمني الله عز وجل منهما أي من فعلهما قلت لفتي كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها أي وفي لفظ قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلها لم أقف على أسم هذا الفتى أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان قال نعم وأصل السمر الحديث ليلا فخرجت فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير فقلت ما هذا فقالوا فلان قد تزوج بفلانة لرجل من قريش تزوج إمرأة من قريش فلهوت بذلك الصوت حتى غلبتني عيناي فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس أي وفي لفظ فجسلت أنظر أي أسمع وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا حر الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال ما فعلت فأخبرته ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك
أقول المناسبة لقوله عصمني الله ما في الرواية الثانية لا ما ذكر في الرواية الأولى إلا أن يحمل قوله في الرواية الأولى فلهوت على أردت أن ألهو والله أعلم فقال صلى الله عليه وسلم والله ما هممت بغيرهما بسوء مما تعمله أهل الجاهلية اي ما هممت بسوء مما يعمله أهل الجاهلية غيرهما وفي لفظ فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك أي مما يعمله أهل الجاهلية ولا هممت به حتى أكرمني الله تعالى بنبوته
ومن ذلك ما جاء عن أم أيمن رضي الله عنها أنها قالت كان بوانة بضم الموحدة وبفتح الواو مخففة بعدها ألف ونون صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك أي تذبح له وتحلق عنده وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة فكان أبو طالب يحضر مع قومه

ويكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد معه فيأبى ذلك حتى قالت رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب وجعلن يقلن إنا لنخاف عليك مما تصنع من إجتناب آلهتنا ويقلن ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع مرعبا فزعا فقلن ما دهاك قال إني أخشى أن يكون بي لمم أي لمة وهي اللمس من الشيطان فقلن ما كان الله عز وجل ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذي رأيت قال إني كلما دنوت من صنم منها أي من تلك الأصنام التي عند ذلك الصنم الكبير الذي هو بوانة تمثل لي رجل أبيض طويل أي وذلك من الملائكة يصيح بي وراءك يا محمد لا تمسه قالت فما عاد إلى عيد لهم حتى تنبأ صلى الله عليه وسلم
أقول ظاهر هذا السياق أن اللمم يكون من الشيطان وحينئذ يكون بمعنى اللمة وهي المس من الشيطان كما قدمناه فقد أطلق اللمم على اللمة وإلا فاللمم نوع من الجنون كما تقدم في قصة الرضاع قد أصابه لمم أو طائف من الجن إذ هو يدل على أن اللمم يكون من غير الشيطان كمرض وعبارة الصحاح اللمم طرف من الجنون وأصاب فلانا من الجن لمة وهي المس أي فقد غاير بينهما والله أعلم
ومن ذلك ما روته عائشة رضي الله تعالى عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يعيب كل ما ذبح لغير الله تعالى أي فكان يقول لقريش الشاة خلقها الله عز وجل وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض الكلأ ثم تذبحونها على غير اسم الله فما ذقت شيئا ذبح على النصب أي الأصنام حتى أكرمني الله تعالى برسالته أي وزيد بن عمرو كان قبل النبوة زمن الفترة على دين إبراهيم عليه السلام فإنه لم يدخل في يهودية ولا نصرانية واعتزل الأوثان والذبائح التي تذبح للأوثان ونهى عن الوأد وتقدم أنه كان يحييها إذا أراد أحد ذلك أخذ الموءودة من أبيها وتكفلها وكان إذا دخل الكعبة يقول لبيك حقا تعبدا وصدقا وقيل ورقا عاذت بما عاذ به إبراهيم ويسجد للكعبة قال صلى الله عليه وسلم إنه يبعث أمة واحدة أي يقوم مقام جماعة انتهى أي فإن ولده سعيدا قال يا رسول الله إن زيدا كان كما قد رأيت وبلغك فاستغفر له قال نعم استغفر له فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده


وفي البخاري عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي وقد قدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة أي فيها شاة ذبحت لغير الله عز وجل أو قدمها النبي صلى الله عليه وسلم إليه فأبى أن يأكل منها وقال إني لست آكل ما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه ولعل هذا كان قبل ما تقدم عنه صلى الله عليه وسلم وأن ذلك كان هو السبب في ذلك
قال الإمام السهيلي وفيه سؤال كيف وفق الله عز وجل زيد إلى ترك ما ذبح على النصب وما لم يذكر إسم الله عليه ورسوله صلى الله عليه وسلم كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية لما ثبت من عصمة الله تعالى له أي فكان صلى الله عليه وسلم يترك ذلك من عند نفسه لا تبعا لزيد بن عمرو وحينئذ لا يحسن الجواب الذي أشرنا إليه بقولنا
وأجاب أي السهيلي بأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أكل من تلك السفرة أي ولا من غيرها
سلمنا أنه أكل قبل ذلك مما ذبح على النصب فتحريم ذلك لم يكن من شرع إبراهيم وإنما كان تحريم ذلك في الإسلام والأصل في الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة هذا كلامه
وفيه أن هذا التسليم يبطل عد الشمس الشامي ذلك من أمر الجاهلية التي حفظه الله تعالى منه في صغره ويخالف ما ذكره بعضهم من أن زيد بن عمرو هذا هو رابع أربعة من قريش فارقوا قومهم فتركوا الأوثان والميتة وما يذبح للأوثان كانوا يوما في عيد لصنم من أصنامهم ينحرون عنده ويعكفون عليه ويطوفون به في ذلك اليوم فقال بعضهم لبعض تعلمون والله ما قومكم على شيء لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم فما حجر تطوف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ثم تفرقوا في البلاد يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم وظاهر هذا السياق أن تركهم للأوثان كان بعد عبادتهم لها وسيأتي عن ابن الجوزي انهم لم يعبدوها
وهؤلاء الثلاثة الذين زيد بن عمرو رابعهم ورقة بن نوفل وعبيدالله بن جحش ابن عمته صلى الله عليه وسلم أميمة وعثمان بن الحويرث وزاد ابن الجوزي على هؤلاء الأربعة جماعة آخرين سيأتي الكلام عليهم عند الكلام على أول من أسلم
وزيد بن عمرو بن نفيل هذا كان ابن أخي الخطاب والد سيدنا عمر أخاه لأمه فأما

ورقة فلم يدرك البعثة على ما سيأتي وكان ممن دخل في النصرانية أي بعد دخوله في اليهودية كما سيأتي
وأما عبيدالله بن جحش فأدرك البعثة وأسلم وهاجر إلى الحبشة مع من هاجر من المسلمين ثم تنصر هناك كما سيأتي وكان يمر على المسلمين ويقول لهم فتحنا وصأصأتم أي أبصرنا وأنتم تلتسمون البصر ولم تبصروا ومات على النصرانية
وأما عثمان بن الحويرث فلم يدرك البعثة وقدم على قيصر ملك الروم وتنصر عنده
وأما زيد بن عمرو بن نفيل هذا كان يوبخ قريشا ويقول لهم والذي نفس زيد ابن عمرو بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري حتى إن عمه الخطاب أخرجه من مكة وأسكنه بحراء ووكل به من يمنعه من دخول مكة كراهة أن يفسد عليهم دينهم ثم خرج يطلب الحنيفية دين إبراهيم ويسأل الأحبار والرهبان عن ذلك حتى بلغ الموصل ثم أقبل إلى الشام فجاء إلى راهب به كان انتهى إليه علم أهل النصرانية فسأله عن ذلك فقال له إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ولكن قد أظل زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها يبعث بدين إبراهيم الحنيفية فالحق بها فإنه مبعوث الآن هذا زمانه فخرج سريعا يريد مكة حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه وقتلوه ودفن بمكان يقال له ميفعة وقيل دفن بأصل جبل حراء
هذا وفي كلام الواقدي عن زيد بن عمرو أنه قال لعامر بن ربيعة وأنا أنتظر نبيا من ولد إسمعيل ولا أرى أن أدركه وأنا أدين به وأصدقه وأشهد أنه نبي فإن طالت بك مدة فرأيته فسلم مني عليه قال عامر فلما أسلمت بلغته صلى الله عليه وسلم عن زيد السلام قال فرد عليه السلام وترحم عليه وتقدم أن ولده سعيدا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبيه زيد فقال نعم أستغفر له الحديث
قال وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت الجنة فوجدت لزيد بن عمرو دوحتين أي شجرتين عظيمتين قال الحافظ ابن كثير إسناده جيد قوي أي وقال إلا أنه ليس في شيء من الكتب وفي رواية رأيته في الجنة يسحب ذيولا وعن الزهري نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل ما يذبح للجن وعلى إسمهم وأما ما قيل عند ذبحه بسم الله وإسم محمد فحلال أكله وإن كان القول المذكور حراما لإيهامه التشريك وهذا من جملة المحال المستثناة من قوله تعالى

له لا أذكر إلا وتذكر معي فقد جاء أتاني جبريل فقال إن ربي وربك يقول لك أتدري كيف رفعت ذكرك أي على كل حال أي جعلت ذكرك مرفوعا مشرفا المذكور ذلك في قوله تعالى { ألم نشرح لك صدرك } إلى قوله { ورفعنا لك ذكرك } قلت الله أعلم قال لا أذكر إلا وتذكر معي أي في غالب المواطن وجوبا أو ندبا
ومن ذلك ما روى عن علي رضي الله تعالى عنه قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هل عبدت وثنا قط قال لا قالوا هل شربت خمرا قط قال لا وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان انتهى
أقول تحريم شرب الخمر في الجاهلية ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم بل حرمها على نفسه في الجاهلية جماعة كثيرون سيأتي ذكر بعضهم وتقدم ذكر بعض منهم وكون شرب الخمر من الكفر على ما هو ظاهر السياق بمعنى ينبغي أن يجتنب كما يجتنب الكفر ولعل صدور هذا منه صلى الله عليه وسلم كان بعدم تحريم الخمر ويكون الإتيان بذلك للمبالغة في الزجر عنها والتباعد منها لأنها أم الخبائث وقد كانت نفوس غالبهم ألفتها وهذا محمل ما جاء أتاني جبريل فقال بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا أي مصدقا بما جئت به دخل الجنة أي لا بد وأن يدخل الجنة وإن دخل النار قلت يا جبريل وإن زنى وإن سرق قال نعم قلت وإن سرق وإن زنى قال نعم قلت وإن سرق وإن زنى قال نعم وإن شرب الخمر والمراد بتحريمها تحريمها على الناس وإلا ففي الخصائص الصغرى للسيوطي وحرمت عليه الخمر من قبل ما يبعث قبل أن تحرم على الناس بعشرين سنة والله أعلم
قال وأما ما رواه جابر بن عبدالله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم فسمع ملكين خلفه واحد يقول لصاحبه أذهب بنا نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كيف نقوم خلفه وإنما عهده بإستلام الأصنام قبل لم يعد بعد ذلك يشهد مع المشركين مشاهدهم قال الحافظ ابن حجر أنكره الناس أي فقد قال الإمام أحمد كما في الشفاء إنه موضوع أو يشبه الموضوع وقال الدارقطني إن ابن أبي شيبة وهم في إسناده والحديث بالجملة منكر فلا يلتفت إليه والمنكر فيه قول الملك عهده بإستلام الأصنام قبل فإن ظاهره أنه باشر الإستلام وليس ذلك مرادا أبدا بل المراد أنه شاهد مباشرة المشركين إستلام أصنامهم أي لشهوده بعض مشاهدهم التي تكون عند الأصنام


وقال غيره والمراد بالمشاهد التي شهدها أي التي كان يشهدها مشاهد الحلف ونحوها كالضيافات الآتي بينها لا مشاهدة إستلام الأصنام فإنه يرده ما تقدم عن أم أيمن أنتهى أي من قولها إن بوانة كان صنما لقريش تعظمه وتعتكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة إلى آخره أي ويرده أيضا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم لبحيرا لما حلفه باللات والعزى لا تسألني بهما فإني والله ما أبغضت شيئا قط بغضهما لأن مثل اللات والعزى غيرهما من الأصنام في ذلك وما سيأتي من قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله تعالى عنها والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئا قط وما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لما نشأت بغضت إلى الأوثان وبغض إلى الشعر والله سبحانه وتعالى أعلم & باب رعيته صلى الله عليه وسلم الغنم
قال رعيته بكسر الراء المراد الهيئة انتهى
أقول المبين في هذاالباب إنما هو فعله صلى الله عليه وسلم الذي هو رعيه للغنم لا بيان هيئة رعيه للغنم فرعيته بفتح الراء لا بكسرها والله أعلم
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم قال له أصحابه وأنت يا رسول الله قال وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط أي وهي أجزاء من الدراهم والدنانير يشتري بها الحوائج الحقيرة قال سويد ابن سعيد يعنى كل شاة بقيراط وقيل القراريط موضع بمكة
فقد قال إبراهيم الحربي قراريط موضع ولم يرد بذلك القراريط من الفضة أي والذهب قال وأيد هذا الثاني بأن العرب لم تكن تعرف القراريط التي هي قطع الذهب والفضة بدليل أنه جاء في الصحيح ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط ولأنه جاء في بعض الروايات لأهلي ولا يرعى لأهله بأجرة أي كما قضت بذلك العادة وأيضا جاء في بعض الروايات بدل بالقراريط بأجياد فدل ذلك على أن القراريط إسم محل عبر عنه تارة بالقراريط وتارة بأجياد
ورد بأن أهل مكة لا يعرفون بها محلا يقال له القراريط وحينئذ يكون أراد بأهله أهل مكة لا أقاربه الذين تقضي العادة بأنه لا يرعى لهم بالأجرة والإضافة تأتي لأدنى ملابسة ويدل لذلك ما جاء في رواية البخاري كنت أرعاها أي الغنم على قراريط لأهل

مكة وذكره البخاري كذلك في باب الإجارة وذلك يبعد أن المراد بالقراريط المحل وجعل على بمعنى الباء
ويرد القول بأن العرب لم تكن تعرف القراريط التي هي قطع الدراهم والدنانير أي ويمنع دلالة قوله صلى الله عليه وسلم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط على ذلك لجواز أن يكون المراد يذكر فيها القيراط كثيرا لكثرة التعامل به فيها أو أن المراد بالقيراط ما يذكر في المساحة
وجمع الحافظ ابن حجر بأنه رعى لأهله أي أقاربه بغير أجرة ولغيرهم بأجرة والمراد بقوله أهلي أهل مكة أي الشامل لأقاربه ولغيرهم قال فيتجه الخبران ويكون في أحد الحديثين بين الأجرة أي التي هي القراريط وفي الآخر بين المكان أي الذي هو أجياد فلا تنافى في ذلك هذا كلامه ملخصا وعبارته تقتضى وقوع الأمرين منه صلى الله عليه وسلم وهو مما يتوقف على النقل في ذلك
قال ابن الجوزي كان موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم رعاة غنم وهذا يرد قول بعضهم لم يرد ابن إسحاق برعايته صلى الله عليه وسلم الغنم إلا رعايته لها في بني سعد مع أخيه من الرضاع أي وقد يتوقف في كون قول ابن الجوزي هذا بمجرده يرد قول هذا البعض نعم يرده ما تقدم وما يأتي وفي الهدى أنه صلى الله عليه وسلم آجر نفسه قبل النبوة في رعيه الغنم
ومن حكمة الله عز وجل في ذلك أن الرجل إذا استرعى الغنم التي هي أضعف البهائم سكن قلبه الرأفة واللطف تعطفا فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان قد هذب أولا من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي فيكون في أعدل الأحوال ووقع الإفتخار بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم أي عند النبي صلى الله عليه وسلم فاستطال أصحاب الإبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث موسى وهو راعي غنم وبعث داود وهو راعي غنم وبعثت أنا وأنا راعي غنم أهلي بأجياد أي وهو موضع بأسفل مكة من شعابها ويقال له جياد بغير همزة ولعل المراد بقوله راعي غنم أي وكذا قوله وأنا راعي غنم أي وقد رعى الغنم وقد رعيت الغنم إذا الأخذ بظاهر الحالية بعيد ولتنظر حكمة الإقتصار على من ذكر من الأنبياء مع قوله السابق ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم وما يأتي من قوله وما من نبي إلا وقد رعاها وقد قال صلى الله عليه وسلم الغنم بركة والإبل عز لأهلها وقال في الغنم سمنها معاشنا وصوفها رياشنا ودفؤها كساؤنا وفي رواية

سمنها معاش وصوفها رياش أي وفي الحديث الفخر والخيلاء في أصحاب الإبل والسكينة والوقار في أهل الغنم ولعل هذا لا ينافي ما جاء في الأمثال قالوا أحمق وفي لفظ أجهل من راعي ضأن لما بين لأن الضأن تنفر من كل شيء فيحتاج راعيها إلى جمعها أي وذلك سبب لحمقه فليتأمل وفي رواية الفخر والخيلاء وفي لفظ والرياء من أهل الخيل والوبر قال وفيما تقدم في الباب من أمر السمر دليل على ذلك أي على رعايته للغنم أيضا وما رواه جابر رضي الله تعالى عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجنى الكباث بكاف فباء موحدة مفتوحتين فثاء مثلثة أي وهو النضيج من ثمر الأراك وفي الحديث عليكم بالأسود من ثمر الأراك فإنه أطيبه فإني كنت أجتنيه إذ كنت أرعى الغنم قلنا وكيف ترعى الغنم يا رسول الله قال نعم وما من نبي إلا وقد رعاها
أقول وحينئذ لا ينبغي أحد عير برعاية الغنم أن يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم فإن قال ذلك أدب لأن ذلك كما علمت كمال في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دون غيرهم فلا ينبغي الإحتجاج به ويجرى ذلك في كل ما يكون كمالا في حق النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره كالأمية فمن قيل له أنت أمي فقال كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا يؤدب والله أعلم & باب حضوره صلى الله عليه وسلم حرب الفجار
أي بكسر الفاء بمعنى المفاجرة كالقتال بمعنى المقاتلة وهو فجار البراض بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء وضاد معجمة عن ابن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حضرته يعنى الحرب المذكورة مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وما أحب أني لم أكن فعلت وكان له من العمر أربع عشرة سنة أي وهذا الفجار الرابع
وأما الفجار الأول فكان عمره صلى الله عليه وسلم حينئذ عشر سنين وسببه أي هذا الفجار الأول أن بدر بن معشر الغفاري كان له مجلس يجلس فيه بسوق عكاظ ويفتخر على الناس فبسط يوما رجله وقال أنا أعز العرب فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف فوثب عليه رجل فضربه بالسيف على ركبته فأندرها أي أسقطها وأزلها وقيل جرحه جرحا يسيرا قال بعضهم وهو الأصح فاقتلوا


وسبب الفجار الثاني أن امرأة من بني عامر كانت جالسة بسوق عكاظ فأطاف بها شاب من قريش من بني كنانة فسألها أن تكشف وجهها فأبت فجلس خلفها وهي لا تشعر وعقد زيلها بشوكة فلما قامت انكشف دبرها فضحك الناس منها فنادت المرأة يا آل عامر فثاروا بالسلاح ونادى الشاب يا بني كنانة فاقتتلوا وقوله فسألها أن تكشف وجهها فأبت يدل على أن النساء في الجاهلية كن يأبين كشف وجوههن
وسبب الفجار الثالث أنه كان لرجل من بني عامر دين على رجل من بني كنانة فلواه به أي مطله فجرت بينهما مخاصمة فاقتتل الحيان
وقد ذكر أن عبدالله بن جدعان تحمل ذلك الدين في ماله وكان ذلك سببا لإنقضاء الحرب وقيل لم يقاتل صلى الله عليه وسلم في فجار البراض وعليه اقتصر في الوفاء أي لم يرم فيه بأسهم بل قال كنت أنبل على أعمامي أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموه
وقد يقال لا مخالفة لأنه ليس في هذه العبارة أنه لم يرم بل فيها أنه كان ينبل ويجوز أن يكون أغلب أحواله صلى الله عليه وسلم ذلك أي أنه كان ينبل أي يرد النبل فلا ينافى أنه رمى في بعض الأوقات بأسهم أي وفي كلام بعضهم كان أبو طالب يحضر أيام الفجار أي فجار البراض وكانت أربعة أيام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام فإذا جاء هزمت قيس ولعل المراد قيس هوازن فلا ينافى ما يأتي من الإقتصار على هوازن وإذا لم يجيء هو أي في يوم من تلك الأيام هزمت كنانة فقالوا لا أبالك لا تغب عنا ففعل ذكره في الإمتاع وذكر فيه أنه صلى الله عليه وسلم طعن أبا براء ملاعب الأسنة في تلك الحروب أي في بعض تلك الأيام وأبو براء هذا كان رئيس بني قيس وحامل رايتهم في تلك الحرب والطعن ظاهر في الرمح محتمل للنبل وظاهر كلامهم أنه لم يقاتل فيه بغير الرمى للأسهم على تقدير صحة تلك الرواية بذلك ولا يبعد أن يكون رمى لم يصب أحدا إذ لو أصاب لنقل لأنه مما توفر الدواعي على نقله إلا أن يقال بجواز أن يكون أصاب أحدا ثمرة لم تذكر فليتأمل قال وسميت الفجار لأن العرب فجرت فيه لأنه وقع في الشهر الحرام
أقول ظاهره حروب الفجار الأربعة أي التي هي فجار البراض وغيرها وظاهر كلامه صلى الله عليه وسلم أنه لم يحضر إلا في الفجار الرابع الذي هو فجار البراض

ثم رأيت التصريح بذلك في الوفاء وسأذكره وسيأتي في الباب الذي يلي هذا أن حرب الفجار لم يكن في شهر حرام وسيأتي في هذا الباب ما يدل على ذلك
أي أن القتال في ذلك لم يكن في الشهر الحرام وإنما سببه كان في الشهر الحرام وهو قتل البراض لعروة الرحال
فقد قيل سبب القتال أن عروة الرحال بتشديد الحاء المهملة وكان من أهل هوازن أجار لطيمة للنعمان بن المنذر ملك الحيرة واللطيمة العير التي تحمل الطيب والبز للتجارة أي فإن المنذر كان يرسل تلك اللطيمة لتباع في سوق عكاظ ويشتري له بثمن ذلك أدم من أدم الطائف ويرسل تلك اللطيمة في جوار رجل من أشراف العرب فلما جهز اللطيمة كان عنده جماعة من العرب كان فيهم البراض وهو من بني كنانة وعروة الرحال وهو من هوازن فقال البراض أنا أجيرها على بني كنانة يعنى قومه فقال له النعمان ما أريد إلا من يجيرها على أهل نجد وتهامة فقال له عروة الرحال أنا أجيرها لك فقال له البراض أتجيرها على كنانة فقال نعم وعلى أهل الشيح والقيصوم ونال من البراض فخرج عروة الرحال مسافرا وخرج البراض خلفه يطلب غفلته فلما استغفله وثب عليه فقتله أي فإنه شرب الخمر وغنته القينات فسكر ونام فجاءه البراض وأيقظه فقال له الرحال ناشدتك الله لا تقتلني فإنها كانت مني زلة وهفوة فلم يلتفت إليه وقتله وذلك في الشهر الحرام فأتى آت كنانة وهم بعكاظ مع هوازن فقال لكنانة إن البراض قد قتل عروة الرحال وهو في الشهر الحرام فانطلقوا وهوازن لا تشعر ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم فأدركوهم قبيل دخولهم الحرم فأمسكت عنهم هوازن ثم التقوا بعد هذا اليوم وعاونت قريش كنانة ولا يخفى أن في هذا تصريحا بأن القتال لم يكن في الشهر الحرام لأنهم إذا كانوا في الشهر الحرام لا يقاتلون مطلقا أي وإن لم يدخلوا الحرام فكفهم عن قتالهم لمقاربتهم دخول الحرم وقتالهم لهم في اليوم الثاني دليل على أن قتالهم لم يكن في الشهر الحرام ومكث القتال بينهم أربعة أيام أي كما تقدم
أقول قال السهيلي الصواب ستة أيام والله أعلم قال وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض تلك الأيام أخرجه أعمامه معهم أي ويدل له ما تقدم من أنه كان إذا حضر غلبت كنانة وإذا لم يحضر هزمت وفي بعض تلك الأيام وهو أشدها أي وهو اليوم الثالث قيد أمية وحرب ابنا أمية بن عبد شمس وأبو سفيان بن حرب أنفسهم كيلا يفروا فسموا العنابس أي الأسود


أي وحرب والد أبي سفيان وأمية أخوه ماتا على الكفر وأبو سفيان أسلم كما سيأتي ثم تواعدوا للعام المقبل بعكاظ فلما كان العام المقبل جاءوا للوعد أي وكان أمر قريش وكنانة إلى عبدالله بن جدعان وقيل كان إلى حرب بن أمية والد أبي سفيان لأنه كان رئيس قريش وكنانة يومئذ وكان عتبة بن أخيه ربيعة بن عبد شمس يتيما في حجره فضن أي بخل به حرب وأشفق أي خاف من خروجه معه فخرج عتبة بغير إذنه فلم يشعر أي يعلم به إلا وهو على بعير بين الصفين ينادي يا معشر مضر علام تفانون فقالت له هوازن ما تدعوا إليه قال الصلح على أن ندفع لكم دية قتلاكم وتفوا عن دمائنا أي فإن قريشا وكنانة كان لهم الظفر على هوازن يقتلونهم قتلا ذريعا أي وذلك لا ينافي إنهزامهم بعض الأيام قالوا وكيف قال ندفع لكم رهنا منا إلى أن نوفى لكم ذلك قالوا ومن لنا بهذا قال أنا قالوا ومن أنت قال أنا عتبة بن ربيعة ابن عبد شمس فرضيت به هوازن وكنانة وقريش ودفعوا إلى هوازن أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم فلما رأت هوازن الرهن في أيديهم عفوا عن الدماء وأطلقوهم وانقضت حرب الفجار وفي رواية وودت قريش قتلى هوازن ووضعت الحرب أوزارها
وقد يقال على تقدير صحة هذه الرواية دماء بدرت التزمت أن تديها فكان انقضاؤها على يد عتبة بن ربيعة وهو ممن قتل كافرا ببدر وهو أبو هند زوج أبي سفيان أم معاوية رضي الله عنها وعن زوجها وولدها المذكور
وكان يقال لم يسد مملق أي فقير إلا عتبة بن ربيعة وأبو طالب فإنهما سادا بغير مال أي وفي كلام بعضهم ساد عتبة بن ربيعة وأبو طالب وكان أفلس من أبي المزلق وهو رجل من بني عبد شمس لم يكن يجد مؤنة ليلته وكذا أبوه وجده وأبو جده وجد جده كلهم يعرفون بالإفلاس
هذا والذي في الوفاء الإقتصار على أن حرب الفجار كان مرتين المرة الأولى كانت المحاربة فيه ثلاث مرات المرة الأولى سببها قضية بدر بن معشر الغفاري والمرة الثانية كان سببها قضية المرأة والثالثة سببها قضية الدين ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرات وأما المرة الثانية فكانت بين هوازن وكنانة وقد حضرها صلى الله عليه وسلم وقد يقال لا خلاف في المعنى

& باب شهوده صلى الله عليه وسلم حلف الفضول
وهو أشرف حلف في العرب والحلف في الأصل اليمين والعهد وسمى العهد حلفا لأنهم يحلفون عند عقده وكان عند منصرف قريش من حرب الفجار لأن حرب الفجار كان في شوال أي وقيل في شعبان لا في الشهر الحرام أي وإن كان سببه وهو قتل البراض لعروة الرحال كان في الشهر الحرام كما تقدم وكون هذا الحلف كان منصرف قريش من حرب الفجار ظاهر في أنه كان بعد إنقضاء الحرب وقبل مجيء الفريقين للموعد من قابل لأن عند مجيئهم من قابل للموعد لم يقع حرب إلا أن يقال أطلق عليه حرب بإعتبار أنهم كانوا عازمين على المحاربة وهذا الحلف كان في ذي القعدة وأول من دعا إليه الزبير بن عبدالمطلب أي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيق أبيه كما تقدم فاجتمع إليه بنو هاشم وزهرة وبنو أسد بن عبدالعزى وذلك في دار عبدالله ابن جدعان التيمي كان بنو تيم في حباته كأهل بيت واحد يقوتهم وكان يذبح في داره كل يوم جزورا وينادي مناديه من أراد الشحم واللحم فعليه بدا ابن جدعان وكان يطبخ عنده الفالوذج فيطعمه قريشا
أي وسبب ذلك أنه كان أولا يطعم التمر والسويق ويسقى اللبن فاتفق أن أمية بن أبي الصلت مر على بني عبد المدان فرأى طعامهم لباب البر والشهد فقال أمية ** ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ** فرأيت أكرمهم بني المدان ** ** البر يلبك بالشهاب طعامهم ** لا ما يعللنا بنو جدعان **
فبلغ شعره عبدالله بن جدعان فأرسل إلى بصرى الشام يحمل إليه البر والشهد والسمن وجعل ينادي مناد ألا هلموا إلى جفنة عبدالله بن جدعان ومن مدح أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان قوله ** أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حياؤك إن سيمتك الحياء ** ** إذا أثنى عليك المرء يوما ** كفاه من تعرضك الثناء ** ** كريم لا يغيره صباح ** عن الخلق الجميل ولا مساء ** ** يباري الريح مكرمة وجودا ** إذا ما الضب أجحره الشتاء **
وكان عبدالله بن جدعان ذا شرف وسن وإنه من جملة من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية أي بعد أن كان بها مغرما


وسبب ذلك أنه سكر ليلة فصار يمد يده ويقبض على ضوء القمر ليمسكه فضحك منه جلساؤه ثم أخبروه بذلك حين صحا فحلف أن لا يشربها أبدا
وممن حرمها على نفسه في الجاهلية عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه وقال لا أشرب شيئا يذهب عقلي ويضحك بي من هو أدنى مني ويحملني على أن أنكح كريمتي من لا أريد
فصنع لهم عبدالله بن جدعان طعاما وتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن مع المظلوم حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة أي الأبد
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن ابن جدعان كان يطعم الطعام ويقرى الضيف ويفعل المعروف فهل ينفعه ذلك يوم القيامة فقال لا لأنه لم يقل يوما وفي رواية إنه لم يقال ساعة من ليل أونهار رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين رواه مسلم أي لم يكن مسلما لأن القول المذكور لا يصدر إلا عن مسلم فلا يقال مقتضى الحديث أنه لو قال ذلك لنفعه ما ذكر يوم القيامة مع كونه كان كافرا لأن ممن أدرك البعثة ولم يؤمن وحينئذ يسأل عن الحكمة عن عدوله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك عن قوله أنه لم يؤمن بي أو لم يكن مسلما أي وكان يكنى أبا زهير وقد قال صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر لو كان أبو زهير أو مطعم بن عدي حيا فاستوهبهم لوهبتهم له
وقد ذكر أن جفنة ابن جدعان كان يأكل منها الراكب على البعير أي وسيأتي في غزوة بدر أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه ازدحم هو وأبو جهل وهما غلامان على مائدة لابن جدعان وأنه صلى الله عليه وسلم دفع أبا جهل لعنه الله فوقع على ركبته فجرحت جرحا أثر فيها وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال كنت أستظل بجفنة عبدالله بن جدعان في صكة عمي أي في الهاجرة وسميت الهاجرة بذلك لأن عمي تصغير أعمى على الترخيم رجل من العماليق أوقع بالعدو والقتل في مثل ذلك الوقت
وقيل هو رجل من عدوان كان فقيه العرب في الجاهلية فقدم في قومه معتمرا فلما كان على مرحلتين من مكة قال لقومه وهم في نحر الظهيرة من أتى مكة غدا في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين فصكوا الإبل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغد في وقت الظهيرة ولعل هذا لا يخالفه قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عجلنا الرواح للمسجد صكة الأعمى فقيل ما صكة الأعمى قال إنه لا يبالي أية ساعة خرج


وكان عبدالله بن جدعان في إبتداء أمره صعلوكا وكان مع ذلك شريرا فتاكا لا يزال يحنى الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته وطرده أبوه وحلف لا يأويه أبدا فخرج هائما في شعاب مكة يتمنى الموت فرأى شقا في جبل فدخل فإذا ثعبان عظيم له عينان تتقدان كالسراج فلما قرب منه حمل عليه الثعبان فلما تأخر إنساب أي رجع عنه فلا زال كذلك حتى غلب على ظنه أن هذا مصنوع فقرب منه ومسكه بيده فإذا هو من ذهب وعيناه ياقوتتان فكسره ثم دخل المحل الذي كان هذا الثعبان على بابه فوجد فيه رجالا من الملوك ووجد في ذلك المحل أموالا كثيرة من الذهب والفضة وجواهر كثيرة من الياقوت واللؤلؤ والزبرجد فأخذ منه ما أخذ ثم علم ذلك اشق بعلامة وصار ينقل منه ذلك شيئا فشيئا ووجد في ذلك الكنز لوحا من رخام فيه أنا نفيلة بن جرهم بن قحطان ابن هود نبي الله عشت خمسمائة عام وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والمجد والملك فلم يكن ذلك ينجى من الموت ثم بعث عبدالله بن جدعان إلى أبيه بالمال الذي دفعه في جناياته ووصل عشيرته كلهم فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف
قال وفي رواية تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها ولا يقر ظالم على مظلوم أي وحينئذ فالمراد بالفضول ما يؤخذ ظلما
وقيل إن هذا أي رد الفضول مدرج من بعض الرواة زاد بعضهم على ما بل بحر صوفة وما رسا حراء وثبير مكانيهما أي والمراد الأبد كما تقدم وكان معهم في ذلك الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار بني جدعان حمر النعم أي الإبل وأنى أغدر به بالغين المعجمة والدال المهملة أي لا أحب الغدر به وإن أعطيت حمر النعم في ذلك قال وفي رواية لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم أي بفواته ولو دعى به في الإسلام لأجبت أي لو قال قائل من المظلومين يا آل حلف الفضول لأجبت لأن الإسلام إنما جاء بإقامة الحق ونصرة المظلوم
وفيه أن الإسلام قد رفع ما كان من دعوى الجاهلية من قولهم يا لفلان عند الحرب والتعصب
وأجيب بأن هذا مستثنى فالدعوى به جائزة وفي أخرى ما شهدت حلفا لقريش

إلا حلف المطيبين شهدته مع عمومتي وما أحب أن لي به حمر النعم وأنى كنت نقضته أي لا أحب نقضه وإن دفع لي حمر الإبل في مقابلة نقضه
والمطيبون هم هاشم وزهرة أي بنو زهرة بن كلاب وأمية ومخزوم قال البيهقي كذا روى هذا التفسير أي أن المطيبين هاشم وزهرة وأمية ومخزوم مدرجا ولا أدري من قاله
وعبارته في السنن الكبرى لا أدري هذا التفسير من قول أبي هريرة أو من دونه هذا كلامه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين أي لأنه كما تقدم وقع بين بني عبد مناف بن قصي وهم هاشم وإخوته عبد شمس والمطلب ونوفل وبنو زهرة وبنو أسد بن عبدالعزى وبنو تميم وبنو الحرث بن فهر وهم المطيبون وبين بني عمهم عبدالدار بن قصي وأحلافهم بني مخزوم وغيرهم ويقال لهم الأحلاف كما تقدم وذلك قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيث لم يدرك صلى الله عليه وسلم حلف المطيبين يصير المدرج لفظ المطيبين مع تفسيره بمن ذكر لا أن المدرج تفسيره فقط بمن ذكر كما يقتضيه كلام البيهقي وحينئذ تكون الرواية ما شهدت حلفا لقريش إلا حلفا مع عمومتي إلى آخره ظن الراوي أن حلف الفضول هو حلف المطيبين فذكر لفظ المطيبين وبنيهم
وقد يقال ذكر ابن إسحاق أنه لما قام عبدالله بن جدعان هو والزبير بن عبدالمطلب في الدعوى للتحالف أجابهما بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تميم هذا كلامه ولا يخفى أن هؤلاء أجل المطيبين أطلق على هذا الحلف والذي هو حلف الفضول حلف المطيبين لأنهم العاقدون له فليتأمل
وسمى بالفضول قيل لما تقدم من أنهم تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها وقيل لأنه يشبه حلفا وقع لثلاثة من جرهم كل واحد يقال له الفضل
وعبارة بعضهم لأن الداعي إليه كان ثلاثة من أشرافهم اسم كل واحد منهم فضل وهم الفضل بن فضالة والفضل بن وداعة والفضل بن الحارث والضمير في أشرافهم يتبادر رجوعه إلى قريش وهؤلاء الثلاثة تحالفوا على نصرة المظلوم على ظالمه فالفضول جمع الفضل
وقيل لأنهم أي هؤلاء الذين تحالفوا كانوا أخرجوا فضول أموالهم للأضياف وقيل لأن قريشا قالوا عن هؤلاء الذين تحالفوا لقد دخل هؤلاء في فضول من الأمر


والسبب في هذا الحلف والحامل عليه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل وكان من أهل الشرف والقدر بمكة فحبس عنه حقه فاستدعى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار ومحزوما وجمح وسهما وعدي بن كعب فأبوا أن يعينوا على العاص وانتهروه أي الزبيدي فلما رأى الزبيدي الشر رقى على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة فقال بأعلى صوته ** يا آل فهر لمظلوم بضاعته ** ببطن مكة نائى الدار والقفر ** ** ومحرم أشعث لم يقض عمرته ** يا للرجال وبين الحجر والحجر ** ** إن الحرام لمن تمت مكارمه ** ولا حرام لثوب الفاجر الغدر **
والحرام بمعنى الإحترام فقال في ذلك الزبير بن عبدالمطلب أي مع عبدالله بن جدعان كما تقدم واجتمع إليه من تقدم
وقيل قام فيه العباس وأبو سفيان وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه شريفا أو وضيعا ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه
أقول ذكر السهيلي أن رجلا من خثعم قدم مكة معتمرا أو حاجا ومعه بنت له من أضوإ نساء العالمين فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج فقيل له عليك بحلف الفضول فوقف عند الكعبة ونادى يا لحلف الفضول فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب وقد انتضوا أسيافهم أي جردوها يقولون جاءك الغوث فما لك فقال إن نبيها ظلمني في بنتي فانتزعها مني قسرا فساروا إليه حتى وقفوا على باب داره فخرج إليهم فقالوا له أخرج الجارية ويحك فقد علمت من نحن وما تعاهدنا عليه فقال أفعل ولكن متعوني بها الليلة فقالوا لا والله ولا شخب لقحة أي مقدار زمن ذلك فأخرجها إليهم
وفي سيرة الحافظ الدمياطي أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال متعلق بالحسين فقال الحسين للوليد احلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون لحلف الفضول أي لحلف كحلف الفضول وهو نصرة المظلوم على ظالمه ووافقه على ذلك جماعة منهم عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما لأنه كان إذ ذاك في المدينة فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي والله أعلم

& باب سفره صلى الله عليه وسلم إلى الشام ثانيا
وذلك مع ميسرة غلام خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة أي على الراجح من أقوال ستة وعليه جمهور العلماء وتلك أقوال ضعيفة لم تقم لها حجة على ساق وليس له صلى الله عليه وسلم إسم بمكة إلا الأمين لما تكامل فيه من خصال الخير كما تقدم
وسبب ذلك أن عمه صلى الله عليه وسلم أبا طالب قال له يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان أي القحط وألحت علينا أي أقبلت ودامت سنون منكرة أي شديدة الجدب وليس لنا مادة أي ما يمدنا وما يقومنا ولا تجارة وهذه عير قومك وتقدم أنها الإبل التي تحمل الميرة وفي رواية عيرات جمع عير قد حضر خروجها إلى الشام وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها فيتجرون لها في مالها ويصيبون منافع فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك وإن كنت لأكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من يهود ولكن لا تجد لك من ذلك بدا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلها ترسل إلي في ذلك فقال أبو طالب إني أخاف أن تولى غيرك فتطلب أمرا مدبرا فافترقا فبلغ خديجة رضي الله تعالى عنها ما كان من محاورة عمه أبي طالب له فقالت ما عملت أنه يريد هذا ثم أرسلت إليه صلى الله عليه وسلم فقالت إني دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك وأنا أعطيك ضعف ما أعطى رجلا من قومك ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقى عمه أبا طالب فذكر له ذلك فقال إن هذا لرزق ساقه الله إليك فخرج صلى الله عليه وسلم مع غلامها ميسرة أي يريد الشام وقالت خديجة لميسرة لا تعص له أمرا ولا تخالف له رأيا وجعل عمومته يوصون به أهل العير أي ومن حين سيره صلى الله عليه وسلم أظللته الغمامة
فلما قدم صلى الله عليه وسلم الشام نزل في سوق بصرى في ظل شجرة قريبة من صومعة راهب يقال له نسطورا أي بالقصر فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان

يعرفه فقال يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت الشجرة فقال ميسرة رجل من قريش من أهل الحرم فقال له الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي أي صانها الله تعالى عن أن ينزل تحتها غير نبي ثم قال له أفي عينيه حمرة قال ميسرة نعم لا تفارقه فقال الراهب هو هو وهو آخر الأنبياء ويا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج أي يبعث فوعى ذلك ميسرة أي والحمرة كانت في بياض عينيه وهي الشكلة ومن ثم قيل في وصفه صلى الله عليه وسلم أشكل العينين فهذه الشكلة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة أي وقد تقدم ذلك
قال وفي الشرف للنيسابوري فلما رأى الراهب الغمامة تظلله صلى الله عليه وسلم فزع وقال ما أنتم عليه أي أي شيء أنتم عليه قال ميسرة غلام خديجة رضي الله تعالى عنها فدنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سرا من ميسرة وقبل رأسه وقدمه وقال آمنت بك وأنا أشهد أنك الذي ذكره الله في التوراة ثم قال يا محمد قد عرفت فيك العلامات كلها أي العلامات الدالة على نبوتك المذكورة في الكتب القديمة خلا خصلة واحدة فأوضح لي عن كتفك فأوضح له فإذا هو بخاتم النبوة يتلألأ فأقبل عليه يقبله ويقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر بك عيسى بن مريم فإنه قال لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلا النبي الأمي الهاشمي العربي المكي صاحب الحوض والشفاعة وصاحب لواء الحمد انتهى
أقول قال في النور ولم أجد أحدا عد هذا الراهب الذي هو نسطورا في الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما عد بعضهم فيها بحيرا الراهب وينبغي أن يكون هذا مثله هذا كلامه
وقد قدمنا أنه سيأتي أن بحيرا ونسطورا ونحوهما ممن صدق بأنه صلى الله عليه وسلم نبي هذه الأمة من أهل الفترة لا من أهل الإسلام فضلا عن كونه صحابيا لأن المسلم من أقر برسالته صلى الله عليه وسلم بعد وجودها إلى آخر ما يأتي
ومن ثم ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة أن بحيرا ممن ذكر في كتب الصحابة غلطا قال لأن تعريف الصحابي لا ينطبق عليه وهو مسلم لقى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك قال فقولي مسلم يخرج من لقيه مؤمنا به قبل أن يبعث كهذا الرجل يعني بحيرا هذا كلامه ومراده ما ذكرنا ولعل نسطورا هذا هو الذي تنسب إليه النسطورية من النصارى فإن النصارى افترقت ثلاث فرق نسطورية

قالوا عيسى ابن الله ويعقوبية قالوا عيسى هو الله عز وجل هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء وملكانية قالوا عيسى عبدالله ونبيه زاد بعضهم فرقة رابعة وهم إسرائيلية قالوا هو إله وأمه إله والله إله
هذا وفي القاموس النسطورية بالضم ويفتح أمة من النصارى تخالف بقيتهم وهم أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في أيام المأمون وتصرف في الإنجيل برأيه وقال إن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة وهو بالرومية نسطورس كما افترقت اليهود ثلاث فرق فإنها افترقت إلى قرائية وربانية وسامرية
ولا يخفى أن بقاء تلك الشجرة هذا الزمن الطويل قبل عيسى وبعده إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم على خلاف العادة وصرف غير الأنبياء عن النزول تحت تلك الشجرة وكذا صرف الأنبياء الذين وجدوا بعد عيسى على ما تقدم عن النزول تحت تلك الشجرة بعد عيسى الذي دلت عليه الرواية الأولى والرواية الثانية ممكن وإن كانت الشجرة لا تبقى في العادة هذا الزمن الطويل ويبعد في العادة أن تكون شجرة تخلو عن أن ينزل تحتها أحد غير الأنبياء لأن هذا الأمر مع كونه خارقا للعادة والأنبياء لهم خرق العوائد سيما نبينا صلى الله عليه وسلم
وبهذا يرد قول السهيلي يريد ما نزل تحت هذه الشجرة الساعة إلا نبي ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي لبعد العهد بالأنبياء عليهم السلام قبل ذلك وإن كان في لفظ الخبر قط أي كما تقدم فقد تكلم بها على جهة التأكيد للنفى والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل حتى يدرى أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى أو غيره من الأنبياء ويبعد في العادة أيضا أن تكون شجرة تخلو من أن ينزل تحتها أحد حتى يجيء نبي هذا كلامه
وقد يقال يجوز أن تكون تلك الشجرة كانت شجرة زيتون فقد ذكر أن شجرة الزيتون تعمر ثلاثة آلاف سنة على أن في بعض الروايات ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يابسة نحر عودها فلما اطمأن تحتها اخضرت ونورت واعشوشب ما حولها وأينع ثمرها وتدلت أغصانها ترفرف على رسول الله
قال بعضهم المختار عند جمهور المحققين من أهل السنة ان كل ما جاز وقوعه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من المعجزات جاز للأولياء مثله من الكرامات بشرط عدم التحدي لأن المعجزة يعتبر فيها التحدي وأن تكون بعدالنبوة وما قبل النبوة كما هنا يقال له إرهاص


وحينئذ لا يستبعد ما ذكر عن الشيخ رسلان رحمه الله أنه كان إذا استند إلى شجرة يابسة قد ماتت تورق ويخرج ثمرها في الحال على أنه سيأتي في الكلام على غزاة الخندق أن كرامات الأولياء معجزات لأنبيائهم
ولما رأى الراهب ما ذكر لم يتمالك الراهب أن انحدر من صومعته وقال له باللات والعزى ما إسمك فقال له إليك عني ثكلتك أمك ومع ذلك الراهب رق مكتوب فجعل ينظر في ذلك الرق ثم قال هو هو ومنزل التوراة فظن بعض القوم أن الراهب يريد بالنبي صلى الله عليه وسلم مكرا فانتضى سيفه وصاح يا آل غالب يا آل غالب فأقبل الناس يهرعون إليه من كل ناحية يقولون ما الذي راعك فلما نظر الراهب إلى ذلك أقبل يسعى إلى صومعته فدخلها وأغلق عليه بابها ثم أشرف عليهم فقال يا قوم ما الذي راعكم مني فوالذي رفع السموات بغير عمد إني لأجد في هذه الصحيفة أن النازل تحت هذه الشجرة هو رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم يبعثه الله بالسيف المسلول وبالريح الأكبر وهو خاتم النبيين فمن أطاعه نجا ومن عصاه غوى ثم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى قال ولم أقف على تعيين ما باعه وما اشتراه انتهى
وكان بينه صلى الله عليه وسلم وبين رجل إختلاف في سلعة فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم احلف باللات والعزى فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما حلفت بهما قط فقال الرجل القول قولك ثم قال الرجل لميسرة وقد خلا به يا ميسرة هذا نبي والذي نفسي بيده إنه لهو الذي تجده أحبارنا منعوتا أي في الكتب فوعى ميسرة ذلك أي وقبل أن يصلوا إلى بصرى عيى بعيران لخديجة وتخلف معهما ميسرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الركب فخاف ميسرة على نفسه وعلى البعيرين فانطلق يسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البعيرين فوضع يده على أخفافهما وعوذهما فانطلقا في أول الركب ولهما رغاء
قال وفي الشرف أنهما باعوا متاعهم وربحوا ربحا ما ربحوا مثله قط قال ميسرة يا محمد اتجرنا لخديجة أربعين سنة ما ربحنا ربحا قط أكثر من هذا الربح على وجهك أنتهى


وأقول لا يخفى ما في قول ميسرة اتجرنا لخديجة أربعين سنة ولعلها مصحفة عن سفرة أو هو على المبالغة والله أعلم
ثم انصرف أهل العير جميعا راجعين مكة وكان ميسرة يرى ملكين يظللانه صلى الله عليه وسلم من الشمس وهو على بعيره إذا كانت الهاجرة واشتد الحر وهذا هو المعنى بقول الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بإظلال الملائكة له في سفره
ويحتمل أن المراد في كل سفر سافره لكن لم أقف على إظلال الملائكة له صلى الله عليه وسلم في غير هذا السفرة وقد ألقى الله تعالى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلب ميسرة فكان كأنه عبده فلما كانوا بمر الظهران أي وهو واد بين مكة وعسفان وهو الذي تسميه العامة بطن مرو وهو المعروف الآن بوادي فاطمة قال ميسرة للنبي صلى الله عليه وسلم هل لك أن تسبقني إلى خديجة فتخبرها بالذي جرى لعلها تزيدك بكرة إلى بكرتيك أي وفي رواية تخبرها بما صنع الله تعالى لها على وجهك فركب النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية أي في غرفة مع النساء فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظللان عليه فأرته نساءها معجبن فعجبن لذلك ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرها بما ربحوا وهو ضعف ما كانت تربح فسرت بذلك وقالت أين ميسرة قال خلفته في البادية قالت عجل إليه ليعجل بالإقبال وإنما أرادت أن تعلم أهو الذي رأت أم غيره فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصعدت خديجة تنظر فرأته على الحالة الأولى فاستيقنت أنه هو
فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت فقال لها ميسرة قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام وإلى ذلك أشار الإمام السكي رحمه الله في تائيته بقوله ** وميسرة قد عاين الملكين إذ ** ** أظلاك لما سرت ثاني سفرة **
وأخبرها ميسرة بقول الراهب نسطورا وقول الآخر الذي حالفه أي استحلفه في البيع أي وقصة البعيرين وحينئذ أعطت خديجة له صلى الله عليه وسلم ضعف ما سمته له أي وما سمته له ضعف ما كانت تعطيه لرجل من قومه كما تقدم وقول ميسرة له صلى الله عليه وسلم فيما تقدم لعلها تزيدك بكرة إلى بكرتيك يدل على أنها سمت له بكرتين وكانت تسمى لغيره بكرة وفي كلام بعضهم وفي الروض الباسم استأجرته على أربع بكرات


وفي الجامع الصغير ما نصه آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوصين ثم رأيت في الإمتاع ما يوافق ذلك ونصه وأجر صلى الله عليه وسلم نفسه من خديجة سفرتين يقلوصين وفي السفرة الأولى أرسلته مع عبدها ميسرة إلى سوق حباشة أي وهو مكان بأرض اليمن بينه وبين مكة ست ليال كانوا يبتاعون فيه ثلاثة أيام من أول رجب في كل عام فابتاعا منه بزا ورجعا إلى مكة فربحا ربحا حسنا وفي السفرة الثانية أرسلته مع عبدها ميسرة إلى الشام
وفيه أن سفره مع ميسرة إلى الشام سفرة ثالثة فعن مستدرك الحاكم وصححه وأقره الذهبي عن جابر أن خديجة استأجرته صلى الله عليه وسلم سفرتين إلى جرش بضم الجيم وفتح الراء موضع باليمن كل سفرة بقلوص وهي الشابة من الإبل وهو يفيد أنه صلى الله عليه وسلم سافر لها ثلاث سفرات كما تقدم ولعل سوق حباشة هو جرش وإلا لزم أن يكون صلى الله عليه وسلم سافر لها خمس سفرات أربعة إلى اليمن وواحدة إلى الشام وما تقدم عن الروض الباسم من أنها استأجرته في سفرة إلى الشام بأربع بكرات لا يناسب ما تقدم عن ميسرة
وقد جاء في بعض الروايات أن أبا طالب جاء لخديجة وقال لها هل لك أن تستأجري محمدا فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرتين وليس نرضى لمحمد دون أربع بكرات فقالت خديجة لو سألت لبعيد بغيض فكيف وقد سألت لحبيب قريب
ثم لا يخفى أن كون سفره صلى الله عليه وسلم مع ميسرة بسوق حباشة قبل سفره معه إلى الشام مخالف لظاهر ما تقدم من قول عمه أبي طالب وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام فلو جئتها فوضعت نفسك عليها وقول خديجة ماعلمت أنه يريد هذا وإنما قلنا ظاهر لأنه يجوز أن يكون بعد قول أبي طالب وقولها المذكور أرسلته صلى الله عليه وسلم مع ميسرة إلى سوق حباشة لقرب مسافته وقصر زمنه ثم أرسلته مع ميسرة إلى الشام أو كانت خديجة لا تجوز أن أبا طالب يرضى بسفره إلى الشام وأنه صلى الله عليه وسلم يوافق على ذلك فليتأمل
وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم من حين سيره أي من مكة صارت الغمامة تظله فإن كانت غير الملكين فالغمامة كانت تظله في الذهاب والملكين يظلانه في العود ولعل عدم ذكره ميسرة لخديجة

تظليل الغمامة له صلى الله عليه وسلم في ذهابه أنه لم يفظن لها مثلا ولكن سيأتي في كلام صاحب الهمزية ما يدل على أن الملكين هما الغمامة
وفيه وقوع رؤية البشر غير نبينا صلى الله عليه وسلم للملائكة غير جبريل وسيأتي رؤية جمع من الصحابة لجبريل
وفي المنقذ من الضلال للغزالي أن الصوفية يشاهدون الملائكة في يقظتهم أي لحصول طهارة نفوسهم وتزكية قلوبهم وقطعهم العلائق وحسمهم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال وإقبالهم على الله تعالى بالكلية علما دائما وعملا مستمرا والله أعلم قال ولم أقف على إسم الرجل الذي حالفه أي استخلفه

وقال الحافظ ابن حجر لم أقف على رواية صحيحة صريحة فيه بأنه أي ميسرة بقى إلى البعثة انتهى
ثم إن خديجة ذكرت ما رأته من الآيات وما حدثها به غلامها ميسرة لابن عمها ورقة ابن نوفل وكان نصرانيا أي بعد أن كان يهوديا على ما يأتي قد تبع الكتب فقال لها إن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا نبي هذا الأمة وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي منتظر هذا زمانه أي وكان صلى الله عليه وسلم يتجر قبل النبوة قبل أن يتجر لخديجة وكان شريكا للسائب بن أبي السائب صيفي
ولما قدم عليه السائب يوم فتح مكة قال له مرحبا بأخي وشريكي كان لا يداري أي لا يرائي ولا يماري أي يخاصم صاحبه وهذا يدل على أن قوله كان لا يدارى الخ من مقوله صلى الله عليه وسلم
وقد قال فقهاؤنا والأصل في الشركة خبر السائب بن يزيد أنه كان شريكا للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وافتخر بشركته بعد المبعث أي قال كان صلى الله عليه وسلم نعم الشريك لا يدارى ولا يمارى ولا يشارى والمشاراة المشاحة في الأمر واللجاج فيه وهو يدل على أن ذلك كان من مقول السائب ولا مانع أن بكون كل من النبي صلى الله عليه وسلم والسائب قال في حق الآخر كان لا يدارى ولا يمارى وبهذا يندفع قول بعضهم اختلفت الروايات في هذا الكلام الذي هو كان خير شريك كان لا يشارى ولا يمارى فمنهم من يجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم في السائب ومنهم من يجعله من قول السائب في حق النبي صلى الله عليه وسلم


ويمكن أن لا يكون مخالفة بين السائب بن أبي السائب صيفى وبين السائب بن يزيد لأنه يجوز أن يكون صيفي لقبا لوالده ولإسمه يزيد
وفي الإستيعاب وقع اضطراب هل الشريك كان أبا السائب أو ولده السائب بن أبي السائب أو ولد السائب وهو قيس بن السائب بن أبي السائب لا أخ السائب وهو عبدالله بن أبي السائب قال وهذا اضطراب لا يثبت به شيء ولا تقوم به حجة
والسائب بن أبي السائب من المؤلفة أعطاه صلى الله عليه وسلم يوم الجعرانة من غنائم حنين وبه يرد قول بعضهم إن السائب بن أبي السائب قتل يوم بدر كافرا
ومما يدل على أن الشركة كانت لقيس بن السائب قوله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية شريكي فكان خير شريك كان لا يشاريني و لايماريني ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم سمع قوله كان شريكي وأقره عليه
وذكر في الإمتاع أن حكيم بن حزام اشترى من رسول الله صلى الله عليه وسلم بزا من بوق تهامة بسقو حباشة وقدم به مكة فكان ذلك سببا لإرسال خديجة له صلى الله عليه وسلم مع عبدها ميسرة إلى سوق حباشة ليشتريا لها بزا
وفي سفر السعادة أنه صلى الله عليه وسلم وقع منه أنه باع واشترى إلا أنه بعد الوحي وقبل الهجرة كان شراؤه أكثر من البيع وبعد الهجرة لم يبع إلا ثلاث مرات وأما شراؤه فكثير وآجر واستأجر والإستئجار أغلب ووكل وتوكل وكان توكله أكثر & باب تزوجه صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ابن أسد بن عبدالعزى بن قصي
فهي تجتمع معه صلى الله عليه وسلم في قصي قال الحافظ ابن حجر وهي من أقرب نسائه صلى الله عليه وسلم إليه في النسب ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة هذا كلامه
وعن نفيسة بنت منية رضي الله تعالى عنها أي وهي أخت يعلى بن منية ففي الإمتاع منية أخت يعلى بن منية وعليه يكون ضمير وهي راجع لمنية لا لنفيسة قالت كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة أي ضابطة جلدة أي قوية شريفة اي مع ما أراد الله تعالى لها من الكرامة والخير وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهم

شرفا وأكثرهم مالا أي وأحسنهم جمالا وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة وفي لفظ كان يقال لها سيدة قريش لأن الوسط في ذكر النسب من أوصاف المدح والتفضيل يقال فلان أوسط القبيلة أعرفها في نسبها وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك قد طلبوها وذكروا لها الأموال فلم تقبل فأرسلتني دسيسا أي خفية إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع في عيرها من الشام فقلت يا محمد ما يمنعك أن تتزوج فقال ما بيدي ما أتزوج به قلت فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاية ألا تجيب قال فمن هي قلت خديجة قال وكيف لي بذلك بكسر الكاف لأنه خطاب لنفيسة قلت بلى وأنا أفعل فذهبت فأخبرتها فأرسلت إليه أن أئت لساعة كذا وكذا فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها فحضر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته فزوجه أحدهم أي وهو أبو طالب على ما يأتي وقال في خطبته وابن أخي له في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك فقال عمرو بن أسد هذا الفحل لا يقدح أنفه أي بالقاف والدال المهملة أي لا يضرب أنفه لكونه كريما لأن غير الكريم إذا أراد ركوب الناقة الكريمة يضرب أنفه ليرتدع بخلاف الكريم وكون المزوج لها عمها عمرو بن أسد قال بعضهم هو المجمع عليه وقيل المزوج لها أخوها عمرو بن خويلد
وعن الزهري أن المزوج لها أبوها خويلد بن أسد وكان سكران من الخمر فألقت عليه خديجة حلة وهي ثوب فوق ثوب لأن الأعلى يحل فوق الأسفل وضمخته بخلوق أي لطخته بطيب مخلوط بزعفران فلما صحا من سكره قال ما هذه الحلة والطيب فقيل له لأنك أنكحت محمدا خديجة وقد ابتنى بها فأنكر ذلك ثم رضيه وأمضاه أي لأن خديجة استشعرت من أبيها أنه يرغب عن أن يزوجها له فصنعت له طعاما وشرابا ودعت أباها ونفرا من قريش فطعموا وشربوا فلما سكر أبوها قالت له إن محمد بن عبدالله يخطبني فزوجني إياه فزوجها فخلقته وألبسته لأن ذلك أي إلباس الحلة وجعل الخلوق به كان عادتهم أن الأب يفعل به ذلك إذا زوج بنته فلما صحا من سكره قال ما هذا قالت له خديجة زوجتني من محمد بن عبدالله قال أنا أزوج يتيم أبي طالب لا لعمرى فقالت له خديجة ألا تستحى تريد أن تسفه نفسك عند قريش تخبرهم أنك كنت سكران فلم تزل به حتى رضى أي وهذا مما

يدل على أن شرب الخمر كان عندهم مما يتنزه عنه ويدل له أن جماعة حرموها على أنفسهم في الجاهلية منهم من تقدم ومنهم من يأتي وفي رواية أنها عرضت نفسها عليه فقالت يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك فذكر ذلك صلى الله عليه وسلم لأعمامه فخرج معه عمه حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فزوجها
أقول قال في النور ولعل الثلاثة أي أباها وأخاها وعمها حضروا ذلك فنسب الفعل إلى كل واحد منهم هذا كلامه
وفي كون المزوج لها أبوها خويلد أو كونه حضر تزويجها نظر ظاهر لأن المحفوظ عن أهل العلم أن خويلد بن أسد مات قبل حرب الفجار المتقدم ذكرها
قال بعضهم وهو الذي نازع تبعا أي حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن فقام في ذلك خويلد وقام معه جماعة من قريش ثم رأى تبع في منامه ما ردعه عن ذلك فترك الحجر الأسود مكانه
وعلى كون المزوج له عمه حمزة اقتصر ابن هشام في سيرته وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدقها عشرين بكرة
وعبارة المحب الطبري فلما ذكر ذلك لأعمامه خرج معه منهم حمزة بن عبدالمطلب حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه ففعل وحضره أبو طالب ورؤساء مضر فخطب أبو طالب فقال الحمد لله القصة والله أعلم
قال وعن ابن إسحاق أنها قالت له يا محمد ألا تتزوج قال ومن قالت أنا قال ومن لي بك أنت أيم قريش وأنا يتيم قريش قالت اخطبني الحديث أي وفيه إطلاق اليتيم على البالغ وذلك بحسب ما كان والمراد به المحتاج وإلا فالعرف أي الشرعي واللغوي خصه بغير البالغ ممن مات أبوه الحقيقي
وعن بعضهم قال مررت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على أخت خديجة فنادتني فانصرفت إليها ووقفت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أما لصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة فأخبرته فقال بلى لعمري فذكرت ذلك لها فقالت أغدوا علينا إذا أصبحنا فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا خديجة حلة الحديث


وفي الإمتاع بعد أن ذكر أن السفير بينهما نفيسة بنت منية ذكر أنه قيل كان السفير بينهما غلامها وقيل مولاة مولده وقد يقال لامنافاة لجواز أن يكون كل ممن ذكر كان سفيرا
وفي الشرف أن خديجة رضي الله تعالى عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم أذهب إلى عمك فقل له تعجل إلينا بالغداة فلما جاءها معه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له يا أبا طالب تدخل على عمي فكلمه يزوجني من ابن أخيك محمد بن عبدالله فقال أبو طالب يا خديجة لا تستهزئى فقالت هذا صنع الله فقام فذهب وجاء مع عشرة من قومه إلى عمها الحديث أي وفي رواية ومعه بنو هاشم ورؤساء مضر ولا مخالفة لجواز أن يكون المراد ببني هاشم أولئك العشرة وأنهم كانوا هم المراد برؤساء مضر في ذلك الوقت
وذكر أبو الحسين بن فارس وغيره أن أبا طالب خطب يومئذ فقال الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسمعيل وضئضىء معد أي معدنه وعنصر مضر أي أصله وجعلنا حضنة بيته أي المتكفلين بشأنه وسواس حرمه أي القائمين بخدمته وجعله لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا حكام الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبدالله لا يوزن به رجل إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل وعارية مسترجعة وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله إثنتي عشرة أوقية ونشا أي وهو عشرون درهما والأوقية أربعون درهما أي وكانت الأواقي والنش من ذهب كما قال المحب الطبري أي فيكون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعي وقيل أصدقها عشرين بكرة أي كما تقدم
أقول لامنافاة لجواز أن تكون البكرات عوضا عن الصداق المذكور وقال بعضهم يجوز أن يكون أبو طالب أصدقها ما ذكر وزاد صلى الله عليه وسلم من عنده تلك البكرات في صداقها فكان الكل صداقا والله أعلم
قال وما قيل إن عليا رضي الله تعالى عنه ضمن المهر فهو غلط لأن عليا لم يكن ولد على جميع الأقوال في مقدار عمره وبه يرد قول بعضهم وكون على ضمن المهر غلط لأن عليا كان صغيرا لم يبلغ سبع سنين أي لأنه ولد في الكعبة وعمره

صلى الله عليه وسلم ثلاثون سنة فأكثر وسنه حين تزوج خديجة كان خمسا وعشرين سنة على ما تقدم أو زيادة بشهرين وعشرة أيام وقيل خمسة عشرة يوما على ما يأتي وقيل الذي ولد في الكعبة حكيم بن حزام
قال بعضهم لا مانع من ولادة كليهما في الكعبة لكن في النور حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة ولا يعرف ذلك لغيره وأما ما روى أن عليا ولد فيها فضعيف عند العلماء
قال النووي وعند ذلك قال عمها عمرو بن اسد هو الفحل لا يقدع أنفه وأنكحها منه وقيل قائل ذلك ورقة بن نوفل اي فإنه بعد أن خطب أبو طالب بما تقدم خطب ورقة فقال الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت وفضلنا على ما عددت فنحن سادة العرب وقادتها وأنتم أهل ذلك كله لا ينكر العرب فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم ورغبتنا في الإتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا على معاشر قريش إني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبدالله وذكر المهر فقال أبو طالب قد أحببت أن يشركك عمها فقال عمها اشهدوا على معاشر قريش أنى قد أنكحت محمد بن عبدالله خديجة بنت خويلد وأولم عليها صلى الله عليه وسلم نحر جزورا وقيل جزورين وأطعم الناس وأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف وفرح أبو طالب فرحا شديدا وقال الحمد الله الذي أذهب عنا الكرب ودفع عنا الغموم وهي أول وليمة أولمها رسول الله صلى الله عليه وسلم
أقول ولا ينافى هذا ما تقدم من قوله فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا خديجة حلة لجواز أن يكون ذلك كان عند العقد وهذا عند إرادة الدخول ولا ينافى ذلك ما تقدم من قوله وقد ابتنى بها لأن تلك الرواية غير صحيحة ولا ينافى كون المزوج له عمه أبو طالب ما تقدم أن المزوج له عمه حمزة لجواز أن يكون حضر مع أبي طالب فنسب التزويج إليه أيضا والله أعلم
والسبب في ذلك أي في عرض خديجة رضي الله تعالى عنها نفسها عليه صلى الله عليه وسلم أيضا مع ما أراد الله تعالى بها من الخير ما ذكره ابن إسحاق قال كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في المسجد فاجتمعن يوما فيه فجاءهن يهودي وقال أيا معشر نساء قريش إنه يوشك فيكن نبي قرب وجوده فأيتكن استطاعت أن تكون

فراشا له فلتفعل فحصبته النساء أي رمينه بالحصباء وقبحنه وأغلظن له وأغضث خديجة على قوله ووقع ذلك في نفسها فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات وما رأته هي أي وما قاله لها ورقة لما حدثته بما حدثها به ميسرة مما تقدم قالت إن كان ما قاله اليهودي حقا ما ذاك إلا هذا
وذكر الفاكهي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب فاستأذن أبا طالب في أن يتوجه إلى خديجة أي ولعله بعد أن طلبت منه صلى الله عليه وسلم الحضور إليها وذلك قبل أن يتزوجها فأذن له وبعث بعده جارية له يقال له نبعة فقال انظري ما تقول له خديجة فخرجت خلفه فلما جاء صلى الله عليه وسلم إلى خديجة أخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت بأبي أنت وأمي والله ما أفعل هذا الشيء ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي سيبعث فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإلة الذي سيبعثك لي فقال لها والله لئن كنت أنا هو لقد اصطنعت عندي مالا أضيعه أبدا وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا فرجعت نبعة وأخبرت أبا طالب بذلك وكان تزويجه صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله تعالى عنها بعد مجيئه من الشام بشهرين أو خمسة عشر يوما وعمره إذا ذاك خمس وعشرون سنة على ما هو الصحيح الذي عليه الجمهور كما تقدم زاد بعضهم على الخمسة والعشرين سنة شهرين وعشرة أيام وقد أشار إلى ما تقدم صاحب الهمزية بقوله ** ورأته خديجة والتقى والزهى ** د فيه سجية والحياء ** ** وأتاها أن الغمامة والسر ** ح أظلته منهما أفياء ** ** وأحاديث أن وعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم* بالبعث حان منه الوفاء ** ** فدعته إلى الزواج وما أح ** سن ما يبلغ المنى الأذكياء **
أي وعلمته خديجة رضي الله تعالى عنها ذات الشرف الطاهر والمال الوافر الظاهر والحسب الفاخر والحال أن التقى والزهد والحياء فيه صلى الله عليه وسلم سجية وطبيعة وأتاها الخبر بإن الغمامة والشجر أظلته أفياء أي أظلال حالة كون تلك الأفياء من الغمامة والشجر
وفيه أن هذا يدل على أن الملكين هما الغمامة
قال بعضهم وتظليل الغمامة له صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة تأسيسا لها

وانقطع ذلك بعد النبوة وأتى خديجة الأحاديث والأخبار من بعض الأحبار بأن وعد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالبعث والإرسال إلى الخلق قرب الوفاء به منه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فبسبب ذلك خطبته إلى أن يتزوج بها وعرضت نفسها عليه وما أحسن بلوغ الأذكياء ما يتمنونه
وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ بنت أربعين سنة قال وقيل خمس وأربعين سنة وقيل ثلاثين وقيل ثمان وعشرين أي وقيل خمس وثلاثين وقيل خمس وعشرين
وتزوجت قبله صلى الله عليه وسلم برجلين أولهما عتيق بن عابد أي بالموحدة والمهملة وقيل بالمثناة تحت والمعجمة فولدت له بنتا اسمها هند وهي أم محمد بن صيفي المخزومي وثانيهما أبو هالة واسمه هند فولدت له ولدا إسمه هالة وولدا اسمه هند أيضا فهو هند بن هند أي وكان يقول أنا أكرم الناس أبا وأما وأخا وأختا أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه زوج أمه وأمي خديجة وأخي القاسم وأختي فاطمة قتل هند هذا مع علي يوم الجمل رضي الله تعالى عنه
وفي كلام السهيلي أنه مات بالطاعون بالبصرة وكان قد مات في ذلك اليوم نحو من سبعين ألفا فشغل الناس بجنائزهم عن جنازته فلم يوجد من يحملها فصاحت نادبته واهنداه بن هنداه واربيب رسول الله فلم تبق جنازة إلا تركت واحتملت جنازته على أطراف الأصابع إعظاما لربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا
هذا وفي المواهب أنها كانت تحت أبي هالة أولا ثم كانت تحت عتيق ثانيا وستأتي بقية ترجمتها رضي الله عنها في أزواجه صلى الله عليه وسلم & باب بنيان قريش الكعبة شرفها الله تعالى
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة على ما هو الصحيح جاء سيل حتى أتى من فوق الردم الذي صنعوه لمنعه السيل فأخربه أي ودخلها وصدع جدرانها بعد توهينهما من الحريق الذي أصابها
وذلك أن امرأة بخرتها فطارت شرارة في ثياب الكعبة فاحترقت جدرانها فخافوا

أن تفسدها السيول أي تذهبها بالمرة وقيل تبخير المرأة كان لها في زمن عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ولا مانع من التعدد وكان إرتفاعها تسعة أذرع من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولم يكن لها سقف أي وكان الناس يلقون الحلى والمتاع كالطيب أي الذي يهدى إليها في بئر داخلها عند بابها على يمين الداخل منه أعدت لذلك يقال لها خزانة الكعبة كما سيأتي ذلك فأراد شخص في أيام جرهم أن يسرق من ذلك شيئا فوقع على رأسه وإنهار البئر عليه فهلك
وفي كلام بعضهم فسقط عليه حجر فحبسه في تلك البئر حتى أخرج منها وانتزع المال منه فليتأمل الجمع
وقد يقال على بعد جاز أن يكون هذا الرجل تكرر منه السرقة وكان هلاكه في المرة الثانية فعند ذلك بعث الله حية بيضاء سوداء الرأس والذنب رأسها كرأس الجدي فأسكنها تلك البئر لحفظ تلك الأمتعة وكانت قد تخرج منها إلى ظاهر البيت فتشرق بالقاف أي تبرز للشمس على جدار الكعبة فيبرق لونها وربما التفت عليه فتصير رأسها عند ذنبها فلا يدنو منها أحد إلا كشت أي صوتت وفتجت فاها معطوف على كشت
ففي حياة الحيوان قال الجوهري كشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فيها فحرست بئره وخزانة البيت خمسمائة عام لا يقربه أحد أي لا يقرب بئره وخزانته إلا أهلكته أي ولعل المراد لو قرب منه أحد أهلكته إذ لو أهلكت أحدا قرب من تلك البئر لنقل فلم تزل كذلك حتى كان زمن قريش ووجد هذا السيل والحريق أرادوا هدمها وإعادة بنائها وأن يشيدوا بنيانها أي يرفعوه ويرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا واجتمعت القبائل من قريش تجمع الحجارة كل قبيلة تجمع على حدة وأعدوا لذلك نفقة أي طيبة ليس فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلة أحد من الناس أي بعد أن قام أبو وهب عمرو بن عابد فتناول منها حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال عند ذلك يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا الحديث أي وفي لفظ أنه قال لهم لا تدخلوا في نفقة هذا البيت مهر بغي أي زانية ولا بيع ربا وفي لفظ لا تجعلوا في نفقة هذا البيت شيئا أصبتموه غصبا ولا قطعتم فيه رحما ولا انتهكتم فيه حرمة أو ذمة بينكم وبين أحد من الناس وأبو وهب هذا خال عبدالله أبي النبي صلى الله عليه وسلم وكان شريفا في قومه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة


روى الشيخان عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنهما قال لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس رضي الله تعالى عنه ينقلان الحجارة فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة أي كبقية القوم فإنهم كانوا يضعون أزرهم على عواتقهم ويحملون الحجارة ففعل صلى الله عليه وسلم فخر إلى الأرض فطمحت عيناه إلى السماء أي ونودى عورتك فقال إزاري إزاري أي شدوا علي إزاري فشد عليه وفي رواية سقط فغشى عليه فضمه العباس إلى نفسه وسأله عن شأنه فأخبره أنه نودى من السماء أن شد عليك إزارك وهذا يبعد ما جاء في رواية قال له العباس أي بعد أن أمر بستر عورته وسترها يا ابن أخي اجعل إزارك على رأسك فقال ما أصابني ما أصابني إلا من التعري
وفي رواية بينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته فنودى يا محمد خمر عورتك أي غطها فلم ير عريانا أي مكشوف العورة بعد ذلك
أي وقد يقال هذا لا يخالف ما تقدم عن العباس رضي الله تعالى عنه لأنه يجوز أن يكون ذلك صدر من العباس حينئذ وغايته أنه سمى النمرة إزارا له
قال واستبعد بعض الحفاظ ذلك أي وقوع هذا مع ما تقدم من نهيه عن ذلك أي الذي تضمنه الأمر بالستر عند إصلاح عمه أبي طالب لزمزم قبل هذا قال لأنه صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء مرة لا يعود إليه ثانيا بوجه من الوجوه أي وقد عاد إلى ذلك
أقول يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يفهم أن أمره بستر عورته أولا عزيمة بل جواز الترك وفي الثانية علم أنه عزيمة
لا يقال تقدم من كرامتي على ربي أن أحدا لم ير عورتي وتقدم أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم
ففي الخصائص الصغرى أنه صلى الله عليه وسلم لم تر عورته قط ولو رآها أحد طمست عيناه لأنه لا يلزم من كشف عورته صلى الله عليه وسلم رؤيتها كما لم يلزم من حضانته وتربيته ومجامعة زوجاته ذلك فعن عائشة رضي الله تعالى عنها ما رأيت منه صلى الله عليه وسلم والظاهر أن بقية زوجاته كذلك والله أعلم


ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر أي خوف من أن يمنعهم الله تعالى ما أرادوا أي بأن يوقع بهم البلاء قبل ذلك سيما وقد شاهدوا ما وقع لعمرو بن عائذ
أي قال وعند ابن اسحاق أن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه أي خافوا من أنه يحصل لهم بسببه بلاء فقال الوليد بن المغيرة لهم أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة قالوا بل نريد الإصلاح قال فإن الله لا يهلك المصلحين قالوا من الذي يعلوها فيهدمها قال أنا أعلوها وأنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول اللهم لم ترع أي بالراء والعين المهملتين والضمير في ترع للكعبة أي لا تفزع الكعبة لا نريد إلا الخير أي وفي رواية لم نزغ بالنون والزاي والمعجمة أي لم نحل عن دينك ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة وقالوا ننظر فإن أصيبب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء هدمناها فقد رضي الله ما صنعنا فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله فهدم وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم صلى الله عليه وسلم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة أي أسنمة الإبل وفي لفظ كالأسنة
قال السهيلي وهو وهم من بعض النقلة عن ابن إسحاق هذا كلامه أي وقد يقال هي كالأسنة في الخضرة وكالأسنمة في العظم
يقال الأسنة زرق لأنا نقول شديد الزرقة يرى أخضر أخذ بعضها ببعض فأدخل رجل ممن كان يهدم عتلته بين حجرين منهما ليقلع بها بعضها فلما تحرك الحجر تنفضت مكة أي تحركت بأسرها وأبصر القوم برقة خرجت من تحت الحجر كادت تخطف بصر الرجل فانتهوا عن ذلك الأساس ووجدت قريش في الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود فإذا هو أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا يزول أخشباها أي جبلاها وهما أبو قبيس وهو جبل مشرف على الصفا وقعيقعان وهو جبل مشرف على مكة وجهه إلى أبي قبيس يبارك لأهلها في الماء واللبن ووجدوا في المقام أي محله كتابا آخر مكتوب فيه مكة بلد الله الحرام يأتيها رزقها من ثلاث سبل ووجدوا كتابا آخر مكتوب فيه من يزرع خيرا يحصد غبطة أي ما يغبط أي يحسد حسدا محمودا عليه ومن يزرع شرا يحصد ندامة أي ما يندم عليه تعملون السيئات وتجزون الحسنات أجل أي نعم كما يجنى من الشوك العنب أي الثمر


أي وفي السيرة الشامية أن ذلك وجد مكتوبا في حجر في الكعبة وفي كلام بعضهم وجدوا حجرا فيه ثلاثة أسطر الأول أنا الله ذو بكة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر إلى آخره وفي الثاني أنا الله ذو بكة خلقت الرحم وشققت لها إسما من إسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته وفي الثالث أنا الله ذوبكة خلقت الخير والشر فطوبى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه قال ابن المحدث ورأيت في مجموع أنه وجد بها حجر مكتوب عليه أنا الله ذو بكة مفقر الزناة ومعرى تارك الصلاة أرخصها والأقوات فارغة وأغليها والأقوات ملآنة أي فارغ محلها وملآن محلها هذا كلامه
وقد يقال لا مانع من أن يكون ذلك حجرا آخر أو يكون هو ذلك الحجر وما ذكر مكتوب في محل آخر منه أي وفي الإصابة عن الأسود بن عبد يغوث عن أبيه أنهم وجدوا كتابا بأسفل المقام فدعت قريش رجلا من حمير فقال إن فيه لحرفا لو حدثتكموه لقتلتموني قال وظننا أن فيه ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فكتمناه وكان البحر قد رمى بسفينة إلى ساحل جدة أي الذي به جدة الآن وكان ساحل مكة قبل ذلك الذي يرمى به السفن يقال له الشعيبية بضم الشين فلا يخالف قول غير واحد فلما كانت السفينة بالشعيبية ساحل مكة انكسرت وفي لفظ حبسها الريح وتلك السفينة كانت لرجل من تجار الروم اسمه باقوم وكان بانيا
وقيل كانت تلك السفينة لقيصر ملك الروم يحمل له فيها الرخام والخشب والحديد سرحها مع باقوم إلى الكنيسة التي حرقها الفرس بالحبشة فلما بلغت مرساها من جدة وقيل من الشعيبية بعث الله تعالى عليها ريحا فحطمها أي كسرها
فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى السفينة فابتاعوا خشبها فأعدوه لسقف الكعبة وقيل هابوا هدمها من أجل تلك الحية العظيمة فكانوا كلما أرادوا القرب منه أي البيت ليهدموه بدت لهم تلك الحية فاتحة فاها فبينا هي ذات يوم تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله طائرا أعظم من النسر فاختطفها وألقاها في الحجون فالتقمتها الأرض قيل وهي الدابة التي تكلم الناس يوم القيامة وقد جاء أن الدابة تخرج من شعب أجياد
وفي حديث أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يريه الدابة التي تكلم

الناس فأخرجها له من الأرض فرأى منظرا هاله وأفزعه فقال أي رب ردها فردها
فقالت قريش عند ذلك إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضى ما أردنا أي بعد أن اجتمعوا عند المقام وعجوا إلى الله تعالى ربنا لن نراع أردنا تشريف بيتك وتزيينه فإن كنت ترضى بذلك فأتمه واشغل عنا هذا الثعبان يعنون الحية وإلا فما بدا لك فافعل فسمعوا في السماء صوتا ووجبة وإذا بالطائر المذكور أخذها وذهب بها إلى أجياد فقالوا ما ذكر وقالوا عندنا عامل رفيق وعندنا أخشاب وقد كفانا الله الحية وذلك العامل هو باقوم الرومي الذي كان بالسفينة وكان بانيا كما تقدم فإنهم جاءوا به معهم إلى مكة أو هو باقوم مولى سعيد بن العاص وكان نجارا وتلك الأخشاب هي التي اشتروها من تلك السفينة التي كسرت
أقول ومع أخذ الطائر لتلك الحية يجوز أن يقال هابوا هدمها حتى قدم عليه الوليد ابن المغيرة فلا مخالفة بين ما تقدم عن ابن إسحاق وبين هذا الظاهر في أنهم هدموها عند أخذ الطائر لتلك الحية ولم يهابوا هدمها حتى فعل الوليد ما تقدم والله أعلم
أي ثم لما أراداو بنيانها تجزأتها قريش أي بعد أن أشار عليهم بذلك أبو وهب عمرو ابن عائذ فقال لهم إني أرى أن تقسموا أربعة أرباع فكان شق الباب لبعد مناف وزهرة وكان ما بين الركنين الأسود واليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم ابني عمرو وكان شق الحجر أي الجانب الذي فيه الحجر الآن لبني عبدالدار ولبني أسد ولبني عدي
والذي في كلام المقريزي كان لبني عبد مناف ما بين الحجر الأسود إلى ركن الحجر اي وهو شق الباب وصار لأسد وعبد الدار وزهرة الحجر كله أي الجانب الذي فيه الحجر وصار لمخزوم دبر البيت وصار لسائر قريش ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود هذا كلامه فليتأمل
وفي كلام بعضهم وسمى الركن اليماني باليماني لأن رجلا من اليمن بناه وكان الباني لها باقوم النجار أي الذي هو مولى سعيد بن العاص
أقول وكان المناسب أن يكون الذي بناها باقوم الرومي الذي كان صحبة السفينة التي كسرت لأنه كما تقدم كان بانيا وسيأتي التصريح بذلك وأما باقوم مولى سعيد بن

العاص فتقدم أنه كان نجارا إلا أن يقال باقوم مولى سعيد كان نجارا بناء واشتهر بالوصف الأول فكان الباني لها وفيه يحتمل أن يكون باقوم الرومي البناء كان نجارا أيضا واشتهر بالوصف الأول
ثم رأيت في كلام بعضهم التصريح بذلك فقال وكان أي باقوم الرومي نجارا بناء فقول القائل وكان الباني لها باقوم النجار مراده باقوم الرومي لا مولى سعيد
ثم رأيت في بعض الروايات ما يؤيد ذلك وهو وصف باقوم الرومي بأنه كان نجارا ونصها فخرجت قريش لتأخذ خشبها أي السفينة التى كسرت فوجدوا الرومى الذي فيها نجارا فقدموا به وبالخشب فقد دلت الروايتان على أنه موصوف بالوصفين ويحتمل أن يكون أحدهما بناها والآخر عمل سقفها أو أنهما أشتركا فيها لما علمت أن كلا منهما كان بانيا نجارا
ثم رأيت عن ابن إسحاق وكان بمكة قبطى يعرف تجر الخشب وتسويته فوافقهم على أن يعمل لهم سقف الكعبة ويساعده باقوم أي الرومي فالقبطي هو مولى سعيد بن العاص وحينئذ في هذه الرواية وصف باقوم الرومي بأنه كان نجارا كالرواية التي قبلها وسيأتي في الرواية التي تلي هذه أنه الذي بناها وهي في الإصابة اسم الرجل الذي بنى الكعبة لقريش باقوم وكان روميا وكان في سفينة حبستها الريح فخرجت إليها قريش فأخذوا خشبها وقالوا له ابنها على بنيان الكنائس وإن باقوم الرومي أسلم ثم مات فلم يدع وارثا فدفع النبي صلى اليه عليه وسلم ميراثه لسهيل بن عمرو
ثم لما بنوها جعلوها مدماكا من خشب الساج ومدماكا من الحجارة من أسفلها إلى أعلاها وزادوا فيها تسعة أذرع فكان ارتفاعها ثمانية عشر ذراعا ورفعوا بابها من الأرض فكان لا يصعد إليها إلا في درج وضاقت بهم النفقة عن بنيانها على تلك القواعد فأخرجوا منها الحجر وفي لفظ أخرجوا من عرضها أذرعا من الحجر وبنوا عليه جدارا قصيرا علامة على أنه من الكعبة
ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختصموا كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى أعدوا للقتال فقربت بنو عبدالدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي أي تحالفوا على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم وقد تقدم في حلف المطيبين ومكث النزاع بينهم أربع أو خمس ليال ثم أجتمعوا في المسجد الحرام وكان أبو أمية بن المغيرة وإسمه حذيفة أسن قريش كلها

يومئذ أي وهو والد أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها وهو أحد أجواد قريش المشهورين بالكرم وكان يعرف بزاد الراكب لأنه كان إذا سافر لا يتزود معه أحد بل يكفي كل من سافر معه الزاد
أي وذكر بعضهم أن أزواد الراكب من قريش ثلاثة زمعة بن الأسود بن المطلب ابن عبد مناف قتل يوم بدر كافرا ومسافر بن أبي عمرو بن أمية وأبو أمية بن المغيرة وهو أشهرهم بذلك
وفي كلام بعضهم لا تعرف قريش زاد الراكب إلا أبا أمية بن المغيرة وحده يحتمل أن المراد لا تكاد تعرف قريش غيره بهذا الوصف لشهرته فلا مخالفة وأبو أمية هذا مات على دينه ولعله لم يدرك الإسلام فقال يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم أي وهو باب بني شيبة وكان يقال له في الجاهلية باب بني عبد شمس الذي يقال له الآن باب السلام وفي لفظ أول من يدخل من باب الصفا أي وهو المقابل لما بين الركنين اليماني والأسود ففعلوا أي وفي كلام البلاذري أن الذي أشار على قريش بأن يضع الركن أول من يدخل من باب بني شيبة مهشم بن المغيرة ويكنى أبا حذيفة
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون اسمه حذيفة ويكنى بأبي حذيفة كما يكنى بأبي أمية ومهشم لقبه وأن الراوي عنه اختلف كلامه فتارة قيل عنه يقضى بينكم وتارة قيل عنه يضع الركن والمشهور الأول ويدل له ما يأتي فكان أول داخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا هذا محمد أي لأنهم كانوا يتحاكمون إليه صلى الله عليه وسلم في الجاهلية لأنه كان لا يدارى ولا يمارى فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم هلم إلى ثوبا فأتى به أي وفي رواية فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاره وبسطه في الأرض أي ويقال إنه كساء أبيض من متاع الشام ويقال إن ذلك الثوب كان للوليد بن المغيرة فأخذ صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود فوضعه فيه بيده الشريفة ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب أي بزاوية من زواياه ثم ارفعوه جميعا ففعلوا فكان في ربع عبد مناف عتبة بن ربيعة وكان في الربع الثاني زمعة وكان في الربع الثالث أبو حذيفة ابن المغيرة وكان في الربع الرابع قيس بن عدي حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو صلى الله عليه وسلم أي ولما مات أبو أمية بن المغيرة رثاه أبو طالب بقصيدة طويلة ورثاه أبو جحيفة بقوله

** ألا هلك الماجد الرفد ** وكل قريش له حامد ** ** ومن هو عصمة أيتامنا ** وغيث إذا فقد لراعد **
قال وعن ابن عباس رضي اله تعالى عنهما لما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن أي الحجر ذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي صلى الله عليه وسلم حجرا يشد به الركن فقال العباس لا وناول العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شد به الركن فغضب النجدي وقال واعجبا لقوم أهل شرف وعقول وأموال عمدوا إلى رجل أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم كأنهم خدم له أما والله ليفرقنهم شيعا وليقسمن بينهم حظوظا فكاد يثير شرا فيما بينهم ولعله هذا النجدي هو إبليس
فقد ذكر السهيلي أن إبليس تمثل في صورة شيخ نجدي حين حكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الركن من يرفعه وصاح يا معشر قريش أرضيتم أن يلى هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أنسابكم انتهى
وإنما تصور بصورة نجدي لأن في الحديث نجد طلع منها قرن الشيطان ولما قال صلى الله عليه وسلم اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا قالوا وفي نجدنا فأعاد الأول والثاني قال هنالك الزلازل والفتن وفيها يطلع قرن الشيطان
أقول سيأتي أنه تصور بهذه الصورة أيضا عند دخول قريش دار الندوة ليتشاوروا في كيفية قتله صلى الله عليه وسلم ودخل معهم وسيأتي ثم في حكمة تصوره بذلك غير ما ذكر ولا مانع أن يكونا حكمة لما هنا ولما يأتي
وأعادوا الصور التي كانت في حيطانها لأنه كان في حيطانها صور الأنبياء بأنواع الأصباغ ومن جملتهم صورة إبراهيم وفي يده الأزلام أي وإسمعيل وفي يده الأزلام وصورة الملائكة وصورة مريم كما سيأتي في فتح مكة وكساها زعماؤهم أرديتهم وكانت من الوصائل ولم يكسها أحد بعد ذلك حتى كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرات في حجة الوداع والله أعلم وهذه المرة الرابعة أي من بناء الكعبة بناء على أن أول من بناها الملائكة
ففي بعض الآثار أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السموات والأرض كان عرشه على الماء أي العذب فلما اضطرب العرش كتب عليه لا إله إلا الله محمدا رسول الله

صلى الله عليه وسلم فسكن فلما أراد أن يخلق السموات والأرض أرسل الريح على ذلك الماء فتموج فعلاه دخان فخلق من ذلك الدخان السموات ثم أزال ذلك الماء عن موضع الكعبة فيبس وفي لفظ أرسل على الماء ريحا هفافة فصفق الريح الماء أي ضرب بعضه بعضا فأبرز عنه خشفة الحديث وبسط الله سبحانه وتعالى من ذلك الموضع جميع الأرض طولها والعرض فهي أصل الأرض وسرتها وقد يخالفه ما في أنس الجليل كذا روى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال وسط الدنيا بيت المقدس وأرفع الأرضين كلها إلى السماء بيت المقدس
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومعاذ بن جبل أنه أقرب إلى السماء بإثنى عشر ميلا ثم بين ذلك في أنس الجليل
ولما ماجت الأرض وضع عليها الجبال فكان أول جبل وضع عليها أبو قبيس وحينئذ كان يبغي أن يسمى أبا الجبال وأن يكون أفضلها مع أن أفضلها كما قال الجلال السيوطى إستنباطا أحد لقوله صلى الله عليه وسلم أحد يحبنا ونحبه ولما ورد أنه على باب من أبواب الجنة قال ولأنه من جملة أرض المدينة التي هي أفضل البقاع أي عنده تبعا لجمع ولأنه مذكور في القرآن بإسمه في قراءة من قرأ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد أي بضم الهمزة والحاء ثم فتق الأرض فجعلها سبع أرضين وقد جاء بدأ الله خلق الأرض في يومين غير مدحوة ثم خلق السموات فسواهن في يومين ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين
وبهذا يظهر التوقف في قول مغلطاي إن لفظة بعد في قوله تعالى { والأرض بعد ذلك دحاها } بمعنى قبل لأن خلق الأرض قبل خلق السماء لما علمت أن الأرض خلقت قبل السماء غير مدحوة ثم بعد خلق السماء دحى الأرض
ثم رأيت بعضهم سأل ابن عباس عن ذلك حيث قال له يا إمام اختلف على من القرآن آيات ثم ذكر منها أنه قال قال الله تعالى { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } حتى بلغ { طائعين } ثم قال في الآية الأخرى { أم السماء بناها } ثم قال { والأرض بعد ذلك دحاها } فأجابه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أما قوله { خلق الأرض في يومين } فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض وأما قوله تعالى { والأرض بعد ذلك دحاها } يقول جعل

فيها جبلا وجعل فيها نهرا وجعل فيها شجرا وجعل فيها بحورا وبه يرد قول بعضهم خلق السماء قبل الأرض والظلمة قبل النور والجنة قبل النار فليتأمل
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى { ومن الأرض مثلهن } قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوحكم وإبراهيم كإبراهيمكم وعيسى كعيسكم رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد وقال البيهقي إسناده صحيح لكنه شاذ بالمرة أي لأنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن فقد يكون فيه مع صحة إسناده ما يمنع صحته فهو ضعيف
قال الحافظ السيوطي ويمكن أن يؤول على أن المراد بهم النذر الذين كانوا يبلغون الجن عن أنبياء البشر
ولا يبعد أن يسمى كل منهم بإسم النبي الذي يبلغ عنه هذا كلامه أي وحينئذ كان لنبينا صلى الله عليه وسلم رسول من الجن إسمه كإسمه ولعل المراد إسمه المشهور وهو محمد فليتأمل
ولما خاطب الله السموات والأرض بقوله { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } كان المجيب من الأرض موضع الكعبة ومن السماء ما حاذاها الذي هو محل البيت المعمور
وعن كعب الأحبار رضي الله عنه لما أراد الله تعالى أن يخلق محمدا صلى الله عليه وسلم أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها فقبض قبضة رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع قبره الشريف وهي بيضاء منيرة لها شعاع عظيم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرة الارض بمكة قال بعض العلماء هذا يشعر بأن ما أجاب من الأرض إلا تلك الطينة أي وقد ذكر الشيخ أبو العباس المرسي رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لأبي بكر الصديق رضي الله عنه أتعرف يوم يوم فقال أبوبكر نعم والذي بعثك بالحق نبيا يا رسول الله سألتني عن يوم المقادير يعني يوم ألست بربكم ولقد سمعتك تقول حينئذ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقد سئل الشيخ على الخواص نفعنا الله تعالى ببركاته لم لم تتكلم الأنبياء بلسان الباطن الذي تكلم به الصوفية
فأجاب بأنه إنما لم تتكلم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك لأجل عموم خطابهم للأمة ولا يعتبر بالأصالة إلا فهم العامة دون فهم الخاصة إلا بعض تلويحات ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للصديق رضي الله تعالى عنه أتعرف يوم يوم فقال نعم

يا رسول الله الحديث وتلك الطينة لما تموج الماء رمى بها من مكة إلى محل تربيته صلى الله عليه وسلم ومدفنه بالمدينة
وبهذا يندفع ما يقال مقتضى كون أصل طينته صلى الله عليه وسلم بمكة أن يكون مدفنه بها لأن تربة الشخص تكون من محل مدفنه ثم عجنها بطينة آدم ولعل هذه الطينة هي المعبر عنها بالنور في قوله صلى الله عليه وسلم وقد قال له جابر يا رسول الله أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل ألأشياء قال يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره ولم يكن في ذلك الوقت لا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا لوح ولا قلم الحديث
وجاء أول ما خلق الله نوري وفي رواية أول ما خلق الله العقل قال الشيخ على الخواص ومعناهما واحد لأن حقيقته صلى الله عليه وسلم يعبر عنها بالعقل الأول وتارة بالنور فأرواح الأنبياء والأولياء مستمدة من روح محمد صلى الله عليه وسلم هذا كلامه وهذا هو المعنى بقول بضعهم لما تعلقت إرادة الحق بإيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها وفي أن هذا لا يناسبه قوله ولم يكن في ذلك الوقت لا سماء ولا أرض إذ كيف يأتي ذلك مع قول كعب الأحبار أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض إلى آخره ومع قول ابن عباس أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرة الأرض إلا أن يقال إن ذلك النور بعد إيجاده أودع تلك الطينة التي هي قلب الأرض وسرتها وحينئذ لا يخالف ذلك ما جاء أن الله خلق آدم من طين العزة من نور محمد صلى الله عليه وسلم فهو صلى الله عليه وسلم الجنس العالي لجميع الأجناس والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس
هذا وقد جاء في حديث بعض رواته متروك الحديث خلق الله آدم من تراب الجابية وعجنه بماء الجنة وجاء خلق الله آدم من تربة دحنا ومسح ظهره بنعمان الأراك ودحنا محل قريب من الطائف وتقدم انه يحتاج إلى بيان وجه كون آدم خلق من نوره وجعل نوره في ظهر آدم ولما خلق الله آدم وقبل نفخ الروح فيه استخرج ذلك النور من ظهره وأخذ عليه العهد ألست بربكم فقد خص بذلك عن بقية خلقه من بني آدم فإن بني آدم ما أخرجوا من ظهر آدم وأخذ عليهم الميثاق إلا بعد نفخ الروح في آدم


ونقل بعضهم أن الله تعالى لما أخرج الذر وأعاده في صلب آدم أمسك روح عيسى إلى أن أتى وقت خلقه ولا يخفى أن هذا يفيد أن أخذ العهد على الصديق كان بعد نفخ الروح في آدم وأخذ العهد عليه صلى الله عليه وسلم كان سابقا على ذلك وحينئذ فيكون المراد بقول الصديق حينئذ لما قال له صلى الله عليه وسلم أتعرف يوم يوم وقال نعم إلى قوله ولقد سمعتك تقول حينئذ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أي حين أخذ العهد على بني آدم لا حين أخذ العهد عليه صلى الله عليه وسلم كما قد يتبادر فليتأمل
ثم لما نفخت الروح في آدم صار ذلك النور في ظهر آدم فصارت الملائكة تقف صفوفا خلف آدم يتعجبون من ظهور ذلك النور فقال آدم يا رب ما بال هؤلاء ينظرون إلى ظهري قال ينظرون إلى نور محمد خاتم الأنبياء الذي أخرجه من ظهرك فسأل الله تعالى أن يجعله في مقدمه لتستقبله الملائكة فجعله الله في جبهته ثم سأل الله تعالى أن يجعله في محل يراه فكان في سبابته فلما أهبط آدم إلى الأرض انتقل ذلك النور إلى ظهره فكان يلمع في جبهته وفي رواية لما انتقل النور إلى سبابته قال يا رب هل بقى في ظهري من هذا النور شيء قال نعم نور أخصاء أصحابه فقال يا رب اجعله في بقية أصابعي فكان نور أبي بكر في الوسطى ونور عمر في البنصر ونور عثمان في الخنصر ونور علي في الإبهام فلما أكل من الشجرة عاد ذلك النور إلى ظهره كذا في بحر العلوم عن ابن عباس
ثم انتقل ذلك النور من آدم إلى ولده شيث ولما قال تعالى للملائكة { إني جاعل في الأرض خليفة } و { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } يعنون الجن الذين أفسدوا فيها وسفكوا الدماء غضب عليهم
وفي لفظ ظنت الملائكة أي علمت أن ما قالوا ردا على ربهم وأنه قد غضب عليهم من فوقهم فلاذوا بالعرش وطافوا به سبعة أطواف يسترضون ربهم فرضى عليهم
وفي لفظ فنظر الله إليهم ونزلت الرحمة علهيم فعند ذلك قال لهم ابنوا لي بيتا في الأرض يعوذ به من سخطت عليه من بني آدم أي الذي هو الخليفة فيطوفون حوله كما فعلتم بعرشي فأرضى عنهم فبنوا الكعبة
وفي هذه الرواية اختصار بدليل ما قيل وضع الله تحت العرش البيت المعمور

على أربع أساطين من زبرجد يغشاهن ياقوتة حمراء وقال للملائكة طوفوا بهذا البيت أي لأرضى عنكم ثم قال لهم ابنوا لي بيتا في الأرض بمثاله وقدره أي ففعلوا وقدره عطف تفسير على مثاله فالمراد بالمثال القدر
وفي لفظ لما قال تعالى للملائكة { إني جاعل في الأرض خليفة } و { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } الآية خافوا أن يكون الله تعلى عابها عليهم لإعتراضهم في علمه فطافوا بالعرش سبعا يسترضون ربهم ويتضرعون إليه فأمرهم أن يبنوا البيت المعمور في السماء السابعة وأن يجعلوا طوافهم به فكان ذلك أهون عليهم من الطواف بالعرش ثم أمرهم أن يبنوا في كل سماء بيتا وفي كل أرض بيتا قال مجاهد هي أربعة عشر بيتا متقابلة لو سقط بيت منها لسقط على مقابله والبيت المعمور في السماء السابعة وله حرمة كحرمة مكة في الأرض واسم البيت الذي في السماء الدنيا بيت العزة
وفي كلام بعضهم في كل سماء بيت تعمره الملائكة بالعبادة كما يعمر أهل الأرض البيت العتيق بالحج في كل عام والإعتمار في كل وقت والطواف في كل أوان ولينظر ما معنى بناء الملائكة للبيوت في السموات وإذا لم يصح أن الملائكة بنت الكعبة تكون هذه المرة من بناء قريش هي المرة الثالثة بناء على أن أول من بناها آدم صلى الله عليه وسلم أي أو ولده شيث فقد قال بعضهم ما تقدم من الأثرين الدالين على أن أول من بناها الملائكة لم يصح واحد منها وكانت قبل ذلك أي وكان محلها قبل بناء آدم لها خيمة من ياقوتة حمراء نزلت لآدم من الجنة أي لها بابان من زمرد أخضر شرقي وباب غربي من ذهب منظومان من در الجنة فكان آدم يطوف بها ويأنس إليها وقد حج إليها من الهند ماشيا أربعين حجة ويجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور وعبر عنها بحمراء لأن سقف البيت المعمور كان ياقوتة حمراء
قال وذكر أن آدم لما أهبط إلى الأرض كان رجلاه بها ورأسه في السماء
وفي لفظ كان رأسه يمسح السحاب فصلع فأورث ولده الصلع أي بعض ولده فسمع تسبيح الملائكة ودعاءهم فاستأنس بذلك فهابته الملائكة أي صارت تنفر منه فشكا إلى الله تعالى فنقص إلى ستين ذراعا بالذراع المتعارف وقيل بذراع آدم فلما فقد أصوات الملائكة حزن وشكا إلى الله تعالى فقال يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به أي تطوف به الملائكة كما يطاف حول عرشي ويصلى عنده كما يصلى عند

عرشي أي كان ذلك أي الطواف بالعرش والصلاة عنده شأن الملائكة أولا فلا ينافى ما تقدم أنهم بعد ذلك صاروا يطوفون بالبيت المعمور كما تقدم فاخرج إليه أي طف به وصل عنده وهذا البيت هو هذه الخيمة التي أنزلت لأجله وقد علمت أنه يجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور
قيل أهبط آدم وطوله ستون ذراعا أي على الصفة التي خلق عليها وهو المراد بقوله صلى الله عليه سولم خلق الله تعالى آدم على صورته وطوله ستون ذراعا أي أوجده الله تعالى على الهيئة التي خلقه عليها لم ينتقل في النشأة أحوالا بل خلقه كاملا سويا من أول ما نفخ فيه الروح فالضمير في صورته يرجع لآدم وعلى رجوعه إلى الحق سبحانه وتعالى المراد على صفته أي حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا مدبرا حكيما
وقد يخالف هذا قول ابن خزيمة قوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته فخرج على سبب وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يضرب وجه رجل فقال لا تضربه على وجهه فإن الله تعالى خلق آدم على صورته أي صورة هذا الرجل فهو ينتقل أطوارا ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ومن ثم عبر بقوله أوجده وهذا القيل المتقدم من أنه أهبط آدم وطوله ستون ذراعا يوافقه ما جاء في الحديث المرفوع كان طوله ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا ومن ثم قال الحافظ ابن حجر إنما روى أن آدم لما أهبط كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء فحطه في الله تعالى إلى ستين ذراعا أي الذي تقدم ظاهر الخبر الصحيح يخالفه وهو أنه خلق في ابتداء الأمر على طول ستين ذراعا وهو الصحيح وكان آدم أمرد وفي الصحيحين فكل من يدخل الجنة يكون على صورة آدم وقد جاء في صفة أهل الجنة أجرد مرد على صورة آدم
وفي بعض الأخبار أن آدم لما كثر بكاؤه على فراق الجنة نبتت لحيته ولم يصح ولم تنبت اللحية إلا لولده وكان مهبطه بأرض الهند بجبل عال يراه البحريون من مسافة أيام وفيه أثر قدم آدم مغموسة في الحجر ويرى على هذا الجبل كل ليلة كهيئة البرق من غير سحاب ولا بد له في كل يوم من مطر يغسل قدمى آدم وذروة هذا الجبل أقرب ذرا جبال الأرض إلى السماء ولعل هذا وجه النظر الذي أبداه بعض الحفاظ في قوله بعضهم إن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا قال بعض الحفاظ وفيه نظر


قيل ونزل معه من ورق الجنة فبثه هناك فمنه كان أصل الطيب بالهند
وعن عطاء بن أبي رباح إن آدم هبط بأرض الهند ومعه أربعة أعواد من الجنة فهي هذه التي يتطيب الناس بها وجاء أنه نزل بنخلة العجوة
ثم لما أمر آدم بالخروج لتلك الخيمة خرج إليها ومد له في خطوة قيل كانت خطوته مسيرة ثلاثة أيام فقد قيل لمجاهد هل كان آدم يركب قال وأي شيء كان يحمله فوالله إن خطوته لمسيرة ثلاثة أيام
وفيه أن هذا يقتضى أن آدم لم يكن يركب البراق فقول بعضهم إن الأنبياء كانت تركبه مراده مجموعهم لا جميعهم وقيض الله تعالى له ما كان في الأرض من مخاض أو بحر فلم يكن يضع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمرانا وصار بين كل خطوة مفازة حتى انتهى إلى مكة فإذا خيمة في موضع الكعبة أي الموضع الذي به الكعبة الآن وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة مجوفة أي ولها أربعة أركان بيض وفيها ثلاثة قناديل من ذهب فيها نور يلتهب من نور الجنة طولها ما بين السماء والأرض كذا في بعض الروايات ولعل وصف الخيمة بما ذكر لا ينافى ما تقدم أنه يجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور ووصف بأنه ياقوتة حمراء لأن سقفة كان ياقوتة حمراء لأن التعدد بعيد فليتأمل ونزل مع تلك الخيمة الركن وهو الحجر الأسود ياقوتة بيضاء من أرض الجنة وكان كرسيا لآدم يجلس عليه أي ولعل المراد يجلس عليه في الجنة
أقول وهذا السياق يدل على أن آدم أهبط من الجنة إلى أرض الهند إبتداء
وذكر في مثير الغرام عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أهبط آدم إلى موضع الكعبة وهو مثل الفلك من شدة رعدته ثم قال يا آدم تخط فتخطى فإذا هو بأرض الهند فمكث هنالك ما شاء الله ثم استوحش إلى البيت فقيل له حج يا آدم فأقبل يتخطى فصار موضع كل قدم قرية وما بين ذلك مفازة حتى قدم مكة الحديث والسياق المذكور أيضا يدل على أن الخيمة والحجر الأسود نزلا بعد خروج آدم من الجنة
ويدل لكون الحجر الأسود نزل عليه ما في مثير الغرام وأنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه لؤلؤة بيضاء فأخذه آدم فضمه إليه إستئناسا به هذا كلامه


وفي رواية عنه أنزل الركن والمقام مع آدم ليلة نزل آدم من الجنة فلما أصبح رأى الركن والمقام فعرفهما فضمهما إليه وأنس بهما فليتأمل الجمع
وفي رواية أن آدم نزل بتلك الياقوتة أي فعن كعب أنزل الله من السماء ياقوتة مجوفة مع آدم فقال له يا آدم هذا بيتي أنزلته معك يطاف حوله كما يطاف ح حول عرشي ويصلى حوله كما يصلى حول عرشي أي على ما تقدم ونزل معه الملائكة فرفعوا قواعده من الحجارة ثم وضع البيت أي تلك الياقوتة عليها وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين عن تقدير صحتهما
وقد يقال في الجمع يجوز أن تكون المعية ليست حقيقية والمراد أنه نزل بعده قريبا من نزوله فلقرب الزمن عبر بالمعية فلا ينافى ما تقدم من قوله يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به فاخرج إليه وجاء إن آدم نزل من الجنة ومعه الحجر الأسود متأبطه أي تحت إبطه وهو ياقوتة من يواقيت الجنة ولولا أن الله تعالى طمس ضوءه ما استطاع أحد أن ينظر إليه وكون آدم نزل بالحجر الأسود متأبطا له يخالف الرواية المتقدمة أنه نزل مع تلك الخيمة التي هي الياقوتة بعد نزوله وحينئذ يحتاج للجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما
وأيضا يحتاج إلى الجمع بين ذلك وبين ما روى عن وهب بن منبه رحمه الله أن آدم لما أمره الله تعالى بالخروج من الجنة أخذ جوهرة من الجنة أي التي هي الحجر الأسود مسح بها دموعه فلما نزل إلى الأرض لم يزل يبكى ويستغفر الله ويمسح دموعه بتلك الجوهرة حتى اسودت من دموعه ثم لما بنى البيت أمره جبريل عليه الصلاة والسلام أن يجعل تلك الجوهرة في الركن ففعل
وفي بهجة الأنوار أن الحجر الأسود كما في الإبتداء ملكا صالحا ولما خلق الله تعالى آدم أباح له الجنة كلها إلا الشجرة التي نهاه عنها ثم جعل ذلك الملك موكلا على آدم أن لا يأكل من تلك الشجرة فلما قدر الله تعالى أن آدم يأكل من تلك الشجرة غاب عنه ذلك الملك فنظر الله تعالى إلى ذلك الملك بالهيبة فصار جوهرا ألا ترى أنه جاء في الأحاديث الحجر الأسود يأتي يوم القيامة وله يد ولسان وأذن وعين لأنه كان في الإبتداء ملكا
أقول ورأيت في ترجمة كلام الشيخ كمال الدين الأخميمي أنه لما جاور بمكة رأى الحجر الأسود وقد خرج من مكانه وصار له يدان ورجلان ووجه ومشى ساعة ثم رجع إلى مكانه


وقد جاء أكثروا من إستلام هذا الحجر فإنكم توشكون أن تفقدوه بينما الناس يطوفون به ذات ليلة إذ أصبحوا وقد فقدوه إن الله عز وجل لا يترك شيئا من الجنة في الأرض إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة أي فقد جاء ليس في الأرض من الجنة إلا الحجر الأسود والمقام فإنهما جوهرتان من جواهر الجنة ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى وجاء استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع وقد هدم مرتين ويرفع الثالثة والله أعلم
وجاء أن آدم أتى ذلك أي تلك الخيمة أي التي هي البيت المعمور على ما تقدم ألف مرة من الهند ماشيا من ذلك ثلثمائة حجة وسبعمائة عمرة وأول حجة حجها جاءه جبريل وهو واقف بعرفة فقال له يا آدم بر نسكك أما إنا قد طفنا بهذا البيت قبل أن تخلق بخمسين ألف سنة وفي رواية لما حج آدم استقبلته الملائكة بالردم أي ردم بين جمح الذي هو محل المدعى فقالوا بر حجك يا آدم قد حججنا هذا البيت قبلك بألف عام
أقول وفي تاريح مكة للأزرقي أن آدم عليه الصلاة والسلام حج على رجليه سبعين حجة ماشيا وأن الملائكة لقيته بالمأزمين فقالوا بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام والمأزمان موضع بين عرفة والمزدلفة قال الطبري ودون منى أيضا مأزمان والله أعلم بالمراد منهما هذا كلامه وجاء أنه وجد الملائكة بذى طوى وقالوا له يا آدم مازلنا ننتظرك ههنا منذ ألفي سنة وكان بعد ذلك إذا وصل إلى المحل المذكور خلع نعليه ويحتاج للجمع بين كون الملائكة استقبلته بالردم وكونها لقيته بالمأزمين وكونه وجدهم بذي طوى وبين كونهم حجوا البيت قبله بألف عام وكونهم حجوا قبله بألفى عام وبخمسين ألف عام وهل الملائكة خلقوا دفعة واحدة أم خلقوا جيلا بعد جيل
ومما يدل على أنهم جيلا بعد جيل ما جاء من نحو من قال سبحان الله وبحمده خلق الله ملكا له عينان وجناحان وشفتان ولسان يطير مع الملائكة ويستغفر لقائلها إلى يوم القيامة وما جاء إن جبريل في كل غداة يدخل بحر النور فينغمس فيه الحديث لكن في سفر السعادة الحديث المنسوب إلى أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال يأمر الله تعالى جبريل كل غداة أن يدخل بحر النور ينغمس فيه إنغماسة ثم يخرج فينتفض إنتفاضة يخرج منه سبعون ألف قطرة يخلق الله عز وجل من كل قطرة منها ملكا لهذا الحديث طرق كثيرة ولم يصح منها شيء ولم يثبت في هذا المعنى حديث هذا لفظه والله أعلم


وعند ذلك قال آدم للملائكة فما كنتم تقولون حوله قالوا كنا نقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال آدم زيدوا فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله فكان آدم إذا طاف يقولها وكان طوافه سبعة أسابيع بالليل وخمسة أسابيع بالنهار أي ولما فرغ من الطواف صلى ركعتين تجاه باب الكعبة ثم أتى الملتزم أي محله فقال اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم ما في نفسي وما عندي فأغفر لي ذنبي وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي الحديث
أقول قول الملائكة قد طفنا بهذا البيت لا يحسن أن يعنوا به تلك الخيمة المذكورة المعنية بقوله تعالى لآدم قد أهبطت بيتا إلى آخر ما تقدم أو كونها أهبطت مع آدم بل المراد ذلك البيت الذي هو الخيمة قبل أن تنزل
ويجوز أن يكون المراد تلك الخيمة أو نفس تلك الخيمة بناء على أنها البيت المعمور وأن الملائكة طافوا بها قبل نزولها إلى الأرض كما تقدم قال وعن وهب بن منبه قرأت في كتاب من كتب الأول ليس من ملك بعثه الله إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت فينقض من تحت العرش محرما ملبيا حتى يستلم الحجر ثم يطوف سبعا بالبيت ويصلى في جوفه ركعتين ثم يصعد
أقول يجوز أن يكون المراد بإحرامه بنية الطواف بالبيت لا إحرامه بالعمرة بدليل قوله ثم يطوف سبعا بالبيت إلى آخره
ويجوز أن يكون المراد بالبيت في كلام وهب محل تلك الخيمة ما يعم من وجد من الملائكة وبمن بعث بعد ذلك ولا يخفى أن الأول يبعده قوله حتى يستلم الحجر
وعلى الثاني يكون فيه دلالة على أن الحجر الأسود كان في تلك الخيمة يبتدأ الطواف بها منه وجاء عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهما إن الله عز وجل أوحى إلى آدم أن اهبط إلى الأرض ابن لي بيتا ثم أحفف به كما رأيت الملائكة تحف بيتي الذي في السماء وفي رواية وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي أي على ما تقدم وهذا السياق بظاهره يوافق ما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هبوط آدم كان من الجنة إلى موضع الكعبة إبتداء والله أعلم قال وجاء أن جبريل عليه الصلاة والسلام بعثه الله تعالى إلى آدم وحواء فقال لهما ابنيا أي قال لهما إن الله تعالى يقول لكما ابنيا لي بيتا فخط لهما جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى

أجابه الماء ونودى من تحته حسبك يا آدم وفي رواية حتى إذا بلغ الأرض السابعة فقذفت فيها الملائكة الصخر ما يطيق الصخرة ثلاثون رجل
وفيه أنه إن كان أمر آدم ببناء البيت بعد مجيئه إلى تلك الخيمة من الهند ماشيا خالف ظاهر ما تقدم عن عطاء وسعيد بن المسيب أوحى الله تعالى إلى آدم أن اهبط إلى الأرض ابن لي بيتا إذ ظاهره أنه أوحى إليه بذلك وهو في الجنة إلا أن يقال المراد بالأرض في قوله اهبط إلى الأرض أرض الحرم أي اذهب إلى أرض الحرم ابن لي بيتا
ثم لا يخفى أن قوله فقذفت فيه الملائكة الصخر يقتضى أن إلقاء الملائكة للصخر كان بعد حفر آدم وهو لا يخالف ما تقدم عن كعب أنزل الله من السماء ياقوتة مجوفة مع آدم فقال له يا آدم هذا بيتي أنزلته معك ونزل معه الملائكة فرفعوا قواعده من الحجارة ثم وضع البيت عليها فيكون إلقاء الملائكة للصخر بعد حفر آدم فلما تم ذلك الأس جعل ذلك البيت فوق تلك الصخور ويكون المراد بقوله ونزل معه الملائكة أي صحبوه من أرض الهند إلى أرض الحرم
وجاء في بعض الروايات إن آدم وحواء لما أسساه نزل البيت من السماء من ذهب أحمر وكل به من الملائكة سبعون ألف ملك فوضعوه على أس آدم ونزل الركن فوضع موضعه اليوم من البيت فطاف به آدم أي كما كان يطوف به قبل ذلك وبهذا تجتمع الروايات وحينئذ لا مانع أن ينسب بناء هذا الأساس الذي وضعت الملائكة عليه تلك الخيمة لآدم وأن ينسب للملائكة
أما نسبته للملائكة فواضح وأما نسبته لآدم فلأنه السبب فيه أو لأنه كان إذا ألقت الملائكة الصخر يضع آدم بعضه على بعض وعلى نسبة بناء ذلك الأس للملائكة ولآدم يحتمل القول بأن أول من بنى الكعبة الملائكة والقول بأن أول من بنى الكعبة آدم فليتأمل
وقد جاء أن آدم بناه من لبنان جبل بالشام ومن طور زيتا جبل من جبال القدس ومن طور سينا جبل بين مصر وإيليا
وفي كلام بعضهم أنه جبل بالشام وهو الذي نودى منه موسى عليه الصلاة والسلام ومن الجودى وهو جبل بالجزيرة ومن حرا حتى استوى على وجه الأرض
أقول وفي رواية بناه من ستة أجبل من أبي قبيس ومن رضوى ومن أحد فالمتحصل من الروايتين أنه بناء من ثمانية أجبل ولا مانع من ذلك واستمر ذلك البيت

الذي هو الخيمة إلى زمن نوح عليه الصلاة والسلام فلما كان الغرق بعث الله تعالى سبعين ألف ملك فرفعوه إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور كما في الكشاف وكان رفعه لئلا يصيبه الماء النجس وبقيت قواعده التي هي الأس وفي العرائس ثم طافت السفينة بأهلها الأرض كلها في تسة أشهر لا تستقر على شيء حتى أتت الحرم فلم تدخله ودارت بالحرم أسبوعا
وقد رفع الله البيت الذي كان يحجه آدم صيانة له من الغرق وهو البيت المعمور أي وكون حواء أسست البيت مع آدم يخالف ما جاء أن حواء أهبطت بجدة وحرم الله عليها دخول الحرم والنظر إلى خيمة آدم وإلى شيء من مكة لأجل خطيئتها وأنها أرادت أن تدخل مع آدم إلى مكة فقال لها إليك عني قد خرجت من الجنة بسببك فتريدين أن أحرم هذا فكان آدم إذا أراد أن يلقاها ليلم بها خرج من الحرم كله حتى يلقاها بالحل
وذكر محمد بن جرير أن الله أهبط آدم على جبل سرنديب بالهند أي وتقدم ما فيه وحواء بحدة بالحاء المهملة وقيل بالجيم فجاء آدم في طلبها فتعارفا بالمحل الذي قيل له بسبب ذلك عرفة فاجتمعا بالمحل الذي قيل له بسبب ذلك جمع وزلفت إليه في المحل الذي قيل له بسبب ذلك مزدلفة وهذا يدل على أن جمع غير مزدلفة وهو خلاف المشهور من أن جمع هو مزدلفة إلا أن يقال كل من المحلين من جملة البقعة وأطلق كل من الإسمين على جميع تلك البقعة
وقيل سمى المحل عرفة لأن جبريل عليه الصلاة والسلام لما علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام المناسك وانتهى إلى عرفة وقال له أعرفت مناسكك قال نعم فسمى عرفة أي والمراد مناسكه التي قبل عرفة وإلا فعظم المناسك بعد عرفة فليتأمل
وفي الخصائص الصغرى عن رزين أنه روى أن آدم عليه الصلاة والسلام قال إن الله أعطى أمة محمد صلى اله عليه وسلم أربع كرامات لم يعطنيها كانت توبتي بمكة وأحدهم يتوب في كل مكان الحديث وهو يدل على أن توبته كانت بسبب طوافه بالبيت ويذكر أن حواء عاشت بعد آدم سنة
وجاء أن آدم لما فرغ من بناء البيت أمره الله تعالى بالمسير إلى أن يبنى بيت المقدس فسار وبناه ونسك فيه وحينئذ لا يشكل قوله صلى الله عليه وسلم وقد قيل له أي مسجد وضع في الأرض أولا المسجد الحرام قيل ثم أي قال بيت المقدس قيل كم كان بينهما قال أربعون سنة وحينئذ لا حاجة لجواب الإمام البلقيني إن المراد أن المدة

المذكورة بين أرضيهما في الدحو أي دحيت أرض المسجد الحرام ثم بعد مضى مقدار أربعين سنة دحيت أرض بيت المقدس
وفيه أن الإمام البلقيني إنما أجاب بذلك بناء على أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الباني للمسجد الحرام والباني لمسجد بيت المقدس سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام فإن بينهما كما قيل أكثر من ألف عام وكذا لا إشكال إذا كان الباني للمسجد الحرام آدم والباني لمسجد بيت المقدس أحد أولاده كما قيل بذلك ومن ثم أجاب بعضهم بأن سليمان إنما كان مجددا لبناء بيت المقدس وأما المؤسس له فسيدنا يعقوب بن إسحاق بعد بناء جده إبراهيم للمسجد الحرام بالمدة المذكورة وأما على أن الباني لهما آدم فلا إشكال وفي رواية أن أول من بنى الكعبة أي كلها بعد أن رفعت تلك الخيمة بعد موت آدم شيث ولد آدم بناها بالطين والحجارة أي فهي أولية إضافية ثم لما جاء الطوفان انهدم وبقى محله وقيل إنه استمر ولم يبنه أحد إلى زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام
وفي رواية أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أراد بناء الكعبة جاء جبريل فضرب بجناحه الأرض فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة ثم بناها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام على ذلك الأس ويقال له القواعد أي كما تقدم وهذا الأس كما علمت لآدم أو للملائكة أو لهما وإنما قيل له أساس إبراهيم وقواعد إبراهيم لأنه بنى على ذلك ولم ينقضه
ومما يدل للقيل المذكور ما جاء في بعض الروايات عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت دثر مكان البيت أي بسبب الطوفان بدليل ما جاء في رواية قد درس مكان البيت بين نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام وكان موضعه أكمة حمراء وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض وما دعا عنده أحد إلا استجيب له
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها لم يحجه هود ولا صالح عليها الصلاة والسلام لتشاغل هود بقومه عاد وتشاغل صالح بقومه ثمود
وجاء إن بين المقام والركن وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا وجاء إن حول الكعبة لقبور ثلثمائة نبي وإن ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود لقبور سبعين نبيا وكل نبى من الأنبياء إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم وأتى مكة يعبد الله عز وجل بها حتى يموت وجاء ما بين الركن اليماني والحجر الأسود روضة من رياض الجنة وإن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل في تلك البقعة
أقول ويوافق ذلك قول بضعهم إن إسمعيل دفن حيال الموضع الذي فيه الحجر

الأسود لكن جاء إن قبر إسماعيل في الحجر وذكر المحب الطبري أن البلاطة الخضراء التي بالحجر قبر إسمعيل عليه الصلاة والسلام
وقد يقال لا منافاة بين كون هود وصالح لم يحجا البيت وبين كونهما دفنا في تلك البقعة لأنه يجوز أن يكونا ماتا قبل وصولهما إلى البيت فجىء بهما ودفنا في تلك البقعة على أن بعضهم ضعف كونهما لم يحجا أي ويدل أنه قد جاء حجه هود وصالح ومن آمن معهما وفي بضع الروايات لم يحجه بين نوح وإبراهيم أحد من الأنيباء ويحتاج إلى الجمع بينه وبين ما تقدم من أن كل نبي إذا كذبه قومه إلى آخره على تقدير صحتها
وقد يقال لا يحتاج إلى الجمع إلا أن يثبت أن بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء كذبه قومه على أنه لم يكن بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء كذبه قومه إلا هود وصالح وهو يؤيد القول بأنهما لم يحجا وتقدم ضعفه وجاء في حديث راويه متروك إن نوحا حجت به السفينة فوقفت بعرفات وباتت بمزدلفة وطافت به أي بالحرم كما تقدم أن السفينة لم تجاوز الحرم وهذا لا يناسبه قوله وسعت لأن السعى بين الصفا والمروة إلا أن يراد بالسعى نفس الطواف فهو من عطف التفسير
وفي أنس الجليل ورد حديث شريف إن السفينة طافت ببيت المقدس أسبوعا واستوت على الجودى أي وجاء إن نوحا قال لأهل السفينة وهي تطوف بالبيت العتيق إنكم في حرم الله وحول بيته لا يمس أحد امرأة وجعل بينهم وبين النساء حاجزا ويذكر أن ولده حاما تعدى ووطىء زوجته فدعا عليه بأن يسود الله لون بنيه فأجاب الله دعاءه في أولاده فجاء ولده أسود وهو أبو السودان
وقيل في سبب دعوة نوح وسوادهم غير ذلك وقد بينت ذلك في كتاب إعلام الطراز المنقوش في فضائل الحبوش والله أعلم وقبر آدم وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف في بيت المقدس أي بعد نقل يوسف من بحر النيل كما سنذكره
قال وقد جاء إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا فقال إبراهيم أي رب أين أبنيه فأوحى الله تعالى إليه أن اتبع السكينة أي وهي ريح لها وجه كوجه الإنسان أي وقيل كوجه الهر وجناحان ولها لسان تتكلم به أي وفي الكشاف في تفسير السكينة التي كانت في التابوت الذي هو صندوق التوراة قيل هو صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس كرأس الهر وذنب كذنبه


وعن علي رضي الله تعالى عنه كان لها وجه كوجه الإنسان هذا كلام الكشاف وفي رواية بعث الله ريحا يقال لها الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية فكشف لإبراهيم وإسمعيل صلى الله عليهما وسلم ما حول البيت من أساس البيت الأول
وفي رواية أرسل الله سحابة فيها رأس فقال الرأس يا إبراهيم إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة فجعل ينظر إليها ويخط قدرها ثم قال الرأس له قد فعلت قال نعم فارتفعت فليتأمل الجمع بين هذه الروايات وبينها وبين ما تقدم أن جبريل ضرب بحناحه الأرض فأبرز عن أس إلى آخره وجاء إن السكينة جعلت تسير ودليله الصرد وهو الطائر المعروف أي وهو طائر فوق العصفور يصيد العصافير وغيرها لأن له صفيرا مختلفا يصفر لكل طائر يريد صيده بلغته فيدعوه إلى القرب منه فإذا قرب منه قصمه من ساعته وأكله ويقال له الصوام لأنه ورد أنه أول طائر صام عاشوراء فعن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنه رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى يدي صرد فقال هذا أول طير صام عاشوراء لكن قال الذهبي هو حديث منكر وقال الحاكم حديث باطل
ويذكر أن خالد بن الوليد لما قتل طليحة الكذاب الذي ادعى النبوة في زمنه صلى الله عليه وسلم وقوى أمره بعد موته صلى الله عليه وسلم قال خالد لبعض أصحابه من أسلم ما كان يقول لكم طليحة من الوحي فقال كان يقول والحمام واليمام والصرد الصوام ليبلغن ملكنا العراق والشام وقد سمع نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام الصرد يصوت فقال يقول استغفروا الله يا مذنبون
وفي الكشاف أن ذلك صياح الهدهد ولا مانع أن يكون ذلك صياحهما وسمع طاوسا يصوت فقال يقول كما تدين تدان وسمع هدهدا يصوت فقال يقول من لا يرحم لا يرحم
ويجمع بينه وبين ما تقدم بأنه يجوز أن الهدهد تارة يقول استغفروا الله يامذنبون وتارة يقول من لا يرحم لا يرحم وسمع خطافا يصوت فقال يقول قدموا خيرا تجدوه وسمع ديكا يصوت فقال يقول اذكروا الله يا غافلون وسمع بلبلا يصوت فقال يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء وصاحت فاختة فقال إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا وسمع رخمة تصوت فقال تقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه وقال الحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله والقطاة تقول من

سكت سلم والببغا تقول ويل لمن الدنيا همه والنسر يقول يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت والعقاب يقول في البعد عن الناس أنس
وعن سيدنا سيلمان صلوات الله وسلامه عليه ليس من الطيور أنصح لبني آدم وأشفق عليهم من البومة تقول إذا وقفت عند خربة أي الذين كانوا يتنعمون بالدنيا ويسعون فيها ويل لبني آدم كيف ينامون وأمامهم الشدائد تزودوا يا غافلون وتهيئوا لسفركم
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأينا طيرا أعمى يضرب بمنقاره على شجرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتدري ما يقول فقلت الله ورسوله أعلم فقال إنه يقول اللهم أنت العدل وقد حجبت عني بصري وقد جعت فأقبلت جرادة فدخلت في فمه ثم ضرب بمنقاره الشجرة فقال عليه الصلاة والسلام أتدري ما يقول قلت لا قال إنه يقول من توكل على الله كفاه
ويقال لما قال سليمان للهدهد لأعذبنك عذابا شديدا قال له الهدهد اذكر يا نبي الله وقوفك بين يدي الله فلما سمع سليمان صلوات الله وسلامه عليه ذلك ارتعد فرقا وعفا عنه أي فإن الهدهد كان دليلا له على الماء فإن الهدهد يرى الماء تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فلما فقد سليمان الماء تفقد الهدهد فلم يجده فأرسل خلفه العقاب فرآه الهدهد مقبلا من جهة اليمن فلما رآه الهدهد منقضا عليه قال له بحق من أقدرك على إلا ما رحمتني
قيل لإبن عباس يا سبحان الله الهدهد يرى الماء تحت الأرض ولا يرى الفخ فقال إذا وقع القضاء عمى البصر قيل عنى سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام بالعذاب الشديد الذي يعذب به الهدهد التفرقة بينه وبين إلفه وقيل إلزامه خدمة أقرانه وقيل صحبة الأضداد وقد قيل أضيق السجون عشرة الأضداد وقيل الزوجة العجوز قال تعالى حكاية عنه علمنا منطق الطير
قال بضعهم عبر عن أصواتها بالمنطق لما يتخيل منها من المعاني التي تدرك من النطق فسليمان صلوات الله وسلامه عليه مهما سمع من صوت طائر علم بقوته القدسية الغرض الذي أراده ذلك الطائر وهذا في طائر لم يفصح بالعبارة وإلا فقد يسمع من بعض الطيور الأفصاح بالعبارة فنوع من الغربان يفصح بقوله الله حق


وعن بعضهم قال شاهدت غرابا يقرأ سورة السجدة وإذا وصل إلى محل السجود سجد وقال سجد لك سوادى ومن آمن بك فؤادي والدرة تنطق بالعبارة الفصيحة
وقد وقع لي أني دخلت منزلا لبعض أصحابنا وفيه درة لم أرها فإذا هي تقول لي مرحبا بالشيخ البكري وتكرر ذلك فعجبت من فصاحة عبارتها
وكان عليه السلام يعرف نطق الحيوان غير الطير فقد جاء أن سليمان عليه السلام سمع النملة وقد أحست بصوت جنود سليمان تقول للنمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فعند ذلك أمر سليمان الريح فوقفت حتى دخل النمل مساكنها ثم جاء سليمان إلى تلك النملة وقال لها حذرت النمل ظلمي قالت أما سمعت قولي وهم لا يشعرون على أني لم أرد حطم النفوس أي إهلاكها إنما أردت حطم القلوب خشية أن يشتغلن بالنظر إليك عن التسبيح أي فيمتن
فقد جاء مرفوعا آجال البهائم كلها وخشاش الأرض في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها ويروى ما من صيد يصاد ولا شجرة تقطع إلا بغفلتها عن ذكر الله تعالى وفي الحديث الثوب يسبح فإذا اتسخ انقطع تسبيحه وفي رواية إن النملة قالت له إنما خشيت أن تنظر إلى ما أنعم الله به عليك فتكفر نعم الله عليها فقال لها عظيني قالت هل تدري لم جعل ملكك في فص خاتمك قال لا قالت أعلمك أن الدنيا لا تساوي قطعة من حجر
ومن عجيب صنع الله تعالى أن النملة تغتذي بشم الطعام لأنها لا جوف لها يكون به الطعام ويذكر أن هذه النملة التي خاطبت سيدنا سليمان أهدت له نبقة فوضعتها في كفه
ويحكى عنها لطيفة لا نطيل بذكرها وفي فتاوى الجلال السيوطي قال الثعالبي في زهرة الرياض لما تولى سليمان عليه الصلاة والسلام الملك جاءه جميع الحيوانات يهنئونه إلا نملة واحدة فجاءت تعزيه فعاتبها النمل في ذلك فقال كيف أهنيه وقد علمت أن الله تعالى إذا أحب عبدا زوى عنه الدنيا وحبب إليه الآخرة وقد شغل سليمان بأمر لا يدري ما عاقبته فهو بالتعزية أولى من التهنئة
وجاء في بعض الأيام شراب من الجنة فقيل له إن شربته لم تمت فشاور جنده فكل أشار بشربه إلا القنفذ فإنه قال له لا تشربه فإن الموت في عز خير من البقاء في سجن الدنيا قال صدقت فأراق الشراب في البحر
قال وصار إبراهيم وإسمعيل صلوات الله وسلامه عليهما يتبعان الصرد حتى وصل
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15