كتاب : المختصر في أخبار البشر
المؤلف : أبو الفداء

ثم ارتحلنا عائدين إلى البلاد، حتى وصلنا إلى مرج دابق في يوم الخميس، ثالث صفر من هذه السنة، وأقمنا به مدة، وكان ببلاد الروم جوبان، وهو نائب خربندا، ومعه جمع كثير، وكنا مستعدين فلم يقدم علينا، ولا جاء إلى ملطية إلا بعد رحيلنا عنها بمدة، فاستمرينا مقيمين بمرج دابق، وترددت الرسل إلى أوشين بن ليفون صاحب بلاد سيس في إعادة البلاد التي جنوبي جيحان، وزيادة القطيعة التي هي الأتاوة، فزاد القطيعة حتى جعلها نحو ألف ألف درهم، وبعد ذلك ورد الدستور، سرنا من مرج دابق في يوم الخميس ثاني ربيع الأول، ووصلنا إلى حماة في يوم الخميس تاسع ربيع الأول، وبعد يومين من وصولي، وصل الأمير سيف الدين تنكز بباقي العساكر، وعملت له ضيافة بداري التي بمدينة حماة، فمضى هو والأمراء في يوم الأحد، ثاني عشر ربيع الأول، ثم سافر في النهار المذكور إلى دمشق.
وفيها في مدة مقامي بمرج دابق، قبض بمصر على أيد غدي شقير الحسامي، وكان من شرار الناس، وعلى بكتمر الحاجب، وعلى بهادر الحسامي المغربي.
وفيها جهزت خيل التقدمة إلى الأبواب الشريفة، صحبة مملوكي أستبغا، فحصل قبولها والإحسان علي أولاً بحصان برقي بسرجه، ولجامه، ثم بخلعه أطلس أحمر بطرز زركش، وكلوته زركش، وشاش تساعي، وهو شاش منسوج جميعه بالحرير والذهب، وقبا أطلس أصفر تحتاني، وحياصة ذهب بجامة مجوهرة بفصوص بلخش ولؤلؤ، وثلاثين ألف درهم، وخمسين قطعة من القماش السكندراني، وسيف، ودلكش أطلس أصفر، فلبست التشريف السلطاني المذكور، وركبت في الموكب به في يوم الخميس ثاني رجب الفرد، الموافق لثاني تشرين الأول، أيضاً وشملتني الصدقات السلطانية بتوقيع شريف، أن لا تكون بحماة وبلادها حماية للدعوة الإسماعيلية، أهل مصياف، بل يتساوون مع رعية حماة في أداء الحقوق والضرائب الديوانية وغير ذلك.
وفيها قبض على تمر الساقي، نائب السلطنة بالفتوحات، وعلى بهادراص.
وفيها سار الملك الصالح، واسمه صالح ابن الملك المنصور غازي ابن الملك المظفر قرا أرسلان، صاحب ماردين، إلى خدمة خربندا ملك التتر، بالتقادم على عادة والده، فأحسن إليه خربندا، ثم عاد الملك الصالح المذكور إلى ماردين في جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفي أثناء هذه السنة ورد إلى الأبواب الشريفة، رميثة بن أبي نمي من مكة، وهو أخو حميضة الأكبر، مستنجداً على أخيه حميضة صاحب مكة حينئذ، فجهز السلطان مع رميثة عسكراً من العساكر المصرية، وجهزهم بما يحتاجون إليه، فسار بهم رميثة إلى مكة، وكان مقدم العسكر تمرخان بن قرمان أمير طبلخاناه، وأمير آخر يقال له طيدمر، وكان العسكر مائتين فارس من نقاوة عسكر مصر، فجمع حميضة ما يقارب اثني عشر ألف مقاتل، وتعبى العسكر المصري، وكان رميثة في القلب، وابن قرمان ميمنة، وطيدمر ميسرة، والتقوا واقتتلوا في عيد الفطر من هذه السنة، وراء مكة إلى جهة اليمن بمراحل، ورمى العسكر بالنشاب، فولى جماعة حميضة منهزمين لا يلوون، وكان لحميضة حصن إلى جهة اليمن، فهرب إليه وانحصر به، فأحاط به العسكر وحاصروه، فنزل حميضة برقبته مع ثلاثة أو أربعة أنفس، وهرب خفية، واحتاط العسكر على ماله وحريمه، وغنموا من ذلك شيئاً كثيراً، قيل إنه حصل للفارس من عسكر مصر ما يقارب عشرة آلاف درهم، وكان في الغنيمة من العنبر الخام وأمثاله ما يفوق الحصر، فأطلق السلطان ذلك جميعه للعسكر، واستقر رميثة صاحب مكة.
وفيها أفرج السلطان عن جمال الدين أقوش الذي كان نائباً بالكرك، ثم صار نائباً بدمشق، وأحسن إليه وعلى منزلته.
وفيها وصل قراسنقر إلى بغداد في رمضان هذه السنة، وتقدم مرسوم إلى التتر الذين ببغداد وديار بكر وتلك الأطراف، بالركوب مع قراسنقر إذا قصد الإغارة على بلاد الشام، وكان خربندا مقيماً بجهة موغان، وأقام قراسنقر وقدم عليه بها فدوى، وسلم قراسنقر، ولما دخلت سنة ست عشرة، توجه قراسنقر في مستهل المحرم من بغداد إلى جهة خربندا.
وفيها في ذي القعدة، ولد للسلطان ولد ذكر، ودقت البشائر لمولده في ديار مصر والشام، ثم توفي المولود المذكور بعد مدة يسيرة، وجهزت تقدمة لطيفة بسبب المولود المذكور صحبة طيدمر، فقدمها وحصل قبولها.

وفيها في جمادى الأولى وصل إلي من صدقات السلطان، حصان برقي أحمر بسرجه، ولجامه، صحبة عز الدين أيبك أمير اخور، فأعطيته خلعة طرد، وحشن بكلوته زركش، وفرساً بسرجه ولجامه، وخمسة آلاف درهم.
وفيها في أواخر ذي القعدة أغار سليمان بن مهنا بن عيسى، بجماعة من التتر والعرب على التراكمين والعرب النازلين قريب تدمر، ونهبهم وأخذ لهم أغناماً كثيرة، ووصل في إغارته إلى قرب البيضا بين القريتين، وتدمر، وعاد بما غنمه إلى الشرق.
وفي هذه السنة، أعني سنة خمس عشرة وسبعمائة توفي نجاد بن أحمد بن حجي بن بزيد بن شبل أمير آل مرا، وكانت وفاته في أواخر هذه السنة، واستقر بعده في أمر آل مرا، ثابت بن عساف بن أحمد بن حجي المذكور، وبقي ثابت المذكور، وتوبة بن سليمان بن أحمد، يتنازعان في الأمرة.
وفيها توفي بدمشق ابن الأركشي الذي كان نائباً بالرحبة لما حصرها خربندا، وكان قد عزل في تلك السنة، وأعطي أمرة بدمشق، وتولى الرحبة مكانه بكتوت القرماني، ثم عزل وولي على الرحبة بعده طغر بك الأنصاري.
ذكر أخبار أبي سعيد ملك المغربوفي هذه السنة، أعني سنة خمس عشرة وسبع مائة، اجتمع العسكر على عمر ولد أبي سعيد عثمان، ملك المغرب، وبقي والده خائفاً من العسكر، واقتتل عمر المذكور مع والده أبي سعيد عثمان، وانتصر عمر، وهرب أبوه أبو سعيد إلى تازة، فسار ولده عمر وحصره بها، ثم وقع الاتفاق بينهما على أن يسلم أبو سعيد الأمر إلى ولده عمر المذكور، وأشهد عليه بذلك، وبقي أبو سعيد في تازة، وسار عمر بالجيوش إلى جهة فاس، فلحق عمر بعد أيام يسيرة مرض شديد، فكاتب عسكره أباه بمدينة فاس، وعنده بيوت الأموال والسلاح، فحصره أبوه أبو سعيد نحو تسعة أشهر، ثم وقع الاتفاق بينهما على جانب طائل من المال يتسلمه عمر المذكور، وأن تكون له سجلماسة، فتسلم عمر ذلك وسار من فاس إلى سجلماسة، وتسلمها واستقر أبوه أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق في المملكة على ما كان عليه، وكان لعمر المذكور حينئذ من العمر نحو عشرين سنة.
وفيها توفي السيد ركن الدين وكان إماماً مبرزاً في العلوم المعقولات والمنقولات وشرح الحاوي الصغير، ومختصر ابن الحاجب في الفقه وفضائله مشهورة.
ثم دخلت سنة ست عشرة وسبعمائة فيها في العشر الأخير من المحرم، الموافق لأواخر العشر الأوسط من نيسان، وترادفت الأمطار، فحصل سيول عظيمة في بلاد حلب وحماة وحمص، وغرق أهل ضيعة من بلاد حمص مما يلي جهة جوسية. وفيها في الثاني والعشرين من ربيع الأول الموافق لرابع عشر حزيران، وصل إلى حماه من ديار مصر، الأمير بهاء الدين أرسلان الدواداري، وأوقع الوصية على أخبار آل عيسى، ثم استقرت بالوصية على خبر مهنا ومحمد ابني عيسى وأحمد وفياض ابني مهنا المذكور، وركب الأمير بهاء الدين المذكور من عندي للجنا، وسار عليها إلى مهنا، واجتمع به على مربعة، وهي منزلة تكون يوماً تقريباً من السنة، يوم الاثنين سلخ ربيع الأول من السنة المذكورة، وتحدث معه في انقطاعه عن التتر، ولم ينتظم حال، فعاد الأمير بهاء الدين المذكور إلى دمشق، ثم عاد إلى موسى بن مهنا بالقرب من سلمية، ثم عاد إلى دمشق وتوجه هو وفضل بن عيسى إلى الأبواب الشريفة، واستقر فضل أميراً موضع أخيه مهنا، ووصل إلى بيوته بتل أعدا، في أوائل جمادى الأولى من هذه السنة.
ذكر مسيري إلى مصر

وعود المعرة:

في هذه السنة حصلت تقدمتي على جاري العادة، من الخيول والقماش والمصاغ، وسألت دستوراً لأتوجه بنفسي إلى الأبواب الشريفة، فورد الدستور الشريف، وسرت من حماة آخر نهار الجمعة، الخامس والعشرين من ربيع الآخر، الموافق لسادس عشر تموز، وكانت خيلي قد تقدمتني، فلحقتهم على خيل البريد بدمشق، وخرجت من دمشق في نهار وصولي إليها. وهو يوم الاثنين الثامن والعشرين من ربيع الآخر المذكور، ووصلت إلى القاهرة عشية نهار الأحد ثامن عشر جمادى الأولى، وأنزلت في الكبش، وحضرت بين يدي المواقف الشريفة السلطانية بكرة الاثنين تاسع عشر جمادى المذكورة، وشملني من الصدقات السلطانية ما يفوت الحصر من ترتيب الإقامات في الطرقات من حماة إلى مصر، ومن كثرة الرواتب مدة مقامي بالكبش، ومن الخلع لي ولكل من في صحبتي ووصلني بحصانين بسروجهما ولجمهما، أحدهما كان سرجه محلى ذهباً مصرياً، واتفق عند وصولي زيادة النيل على خلاف العادة، ووفى ماء السلطان وكسر بحضوري في نهار الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى، الموافق لثاني عشر آب، وتاسع عشر مسري، وهذا شيء لم يعهد في جيلنا وأقمت في الصدقات السلطانية، ووصلني بثلاث خلع، أحدها أطلس تحتاني أصفر وفوقاني أحمر بطرز زركش، وكلوته زركش، وشاس تساعي. والأخرى قبا منسوج بالذهب، وطراز زركش يزيد عن مائة مثقال من الذهب المصري بفرو قاقم والخلعة الثالثة عند مسيري، قباً ثالثاً بالشرج، وتصدق علي بمدينة المعرة وقصبتها زيادة على ما بيدي، وكتب لي بها تقليد يشبه ما كتب لي حماة، ومدحني شهاب الدين محمود كاتب الإنشاء الحلبي بقصيدة، ذكر فيها صدقات السلطان وعود المعرة أضر بنا عن غالبها خوف التطويل فمنها:
بك تزهى مواكب وآسرة ... ولك الشمس والقواضب آسره
وبأيامك التي هي روض ... للأماني تجتني ثمار المسره
بك كل الدنيا تهني ويضحي ... قدرها عالياً وكيف المعره
وتوجهت من الأبواب الشريفة وأنا مغمور محبور بأنواع الصدقات السلطانية، وسرت من الكبش بعد العشاء الآخرة، من الليلة المسفرة عن نهار الجمعة، رابع عشر جمادى الآخرة، وقدمت مملوكي طيدمر الدوادار مبشراً على البريد لأهلي بحماة، ثم حقني إلى سريا قوش الأمير سيف الدين كجري أمير شكار، بسنقور، وكذك وصلني أحمال من الحلاوة والسكر والشمع زائداً عن الإقامات المرتبة في الطرقات، كذلك وصلني سيف محلى بالذهب المصري، وأتممت السير وتوجهت عن غزة زيارة، فزرت الخليل، ثم القدس، وسرت من القدس يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، ودخلت دمشق يوم الأحد مستهل رجب، ولما أصبحت، سرت ما ودخلت حماة نصف الليلة المسفرة عن نهار الخميس خامس رجب الموافق للثالث والعشرين من أيلول، فإني قصدت في ذلك عدم التثقيل على الناس، فإنهم كانوا قد زينوا حماة واحتفلوا بالبسط لقدومي، فدخلت بغتة ليلاً لذلك ولم يكن عسكر حماة فيها، فإني جردتهم إلى حلب حسب المرسوم الشريف، وساروا من حماة إلى حلب يوم خروجي من حماة إلى الديار المصرية، فأقاموا بحلب، ثم جردهم نائب حلب إلى عين تاب ثم إلى الكختا، ثم عادوا إلى حماة في أول شعبان بعد قدومي بقريب شهر.
وفيها مرض الأمير سيف الدين كستاي نائب السلطنة بطرابلس والقلاع في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الآخر، الموافق لثامن أيلول، فولى السلطان موضعه الأمير شهاب الدين قرطاي أحد أمراء دمشق حينئذ.
وفيها في جمادى الآخرة، سار مهنا بن عيسى، وكان نازلاً بالقرب من عانة، إلى خربندا، واجتمع به بالقرب من قنغرلان، ثم عاد إلى بيوته.
وفيها في ثاني عيد الفطر الموافق لتاسع عشر كانون الأول، وقع بحماة والبلاد التي حواليها ثلوج عظيمة، ودامت أياماً، وبقي على الأرض ذراع، ودام على الأرض أياماً وانقطعت الطرق بسببه وكان ثلجاً لم أعهد مثله، وكان البرد والجليد شديداً عاماً في البلاد، حتى جلد الماء في الديار المصرية، ووقعت الثلوج باللاذقية والسواحل.

وفيها جهزت صحبة لاجين المشد، تقدمة لطيفة، ومملوكاً يسمى يلدز، إلى المواقف الشريفة، فوصل بذلك وقدمه فقبله وشملتني صدقات السلطان صحبة لاجين المذكور، بمسامحات ما علي بضائع أجهزها مع كافة التجار في جميع البلاد، وكذلك زادني على المعرة بجملة غلال بلادها، وضاعف علي صدقاته، وكان وصول لاجين بذلك إلى حماة بالسابع والعشرين من شوال من هذه السنة أعني سنة ست عشرة وسبعمائة.
وفيها قصد حميضة بن أبي نمي خربندا مستنصراً في إعادته إلى ملك مكة، ودفع أخيه رميثة فجرد خربندا مع حميضة الدرفندي، وهو النائب على البصرة، وجرد معه جماعة من التتر وعرب خفاجة.
وفيها في ذي القعدة خرجت المعرة عني، وسبب ذلك أن محمد بن عيسى طلبها ليحضر إلى الطاعة، فأجيب إلى ذلك؛ وتسلمها نواب المذكور، وكتب إلى السلطان بما طيب خاطري من جهتها.
وفيها بلغ السلطان أن حميضة قد جهزه خربندا بعسكره وخزانة، صحبة الدرفندي، ليملكه مكة، فجهز السلطان نائبه في السلطنة، وهو المقر الأشرف السيفي أرغون الدوادار، فحج وحج العسكر صحبته، وعادوا سالمين وأما حميضة والدرفندي، فكان من أمرهما ما سنذكره.
وفيها لما قدم عسكر مصر إلى مدينة الرسول، كان مقدمهم المقر السيفي أرغون، فحضر إليه منصور بن حماد الحسيني صاحب مدينة الرسول فطلع معه يودعه إلى عيون حمزة، فخلع نائب السلطنة على منصور المذكور، وعلى ولده كبش بن منصور، وأعادهما إلى المدينة، فلما حضر المحمل المصري وصحبته العسكر خرج إليهم منصور فقبضوا عليه، وأحضر معتقلاً إلى بين يدي السلطان إلى ديار مصر، فتصدق عليه السلطان وأفرج عنه، وأمره بالعود إلى بلده.
وفي هذه السنة أعني سنة ست عشرة وسبعمائة في السابع والعشرين من رمضان مات خربندا أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وكان جلوسه في الملك في أواخر في الحجة سنة ثلاث وسبعمائة، ومات بالمدينة الجديدة التي سماها السلطانية، وكان اسم بقعتها قنغرلان، فلما مات خطب بالسلطنة لولده أبي سعيد بن خربندا، وكان عمره نحو عشر سنين، واستولى على الأمر جوبان ابن الملك ابن تناون.
ذكر ما جرى لحميضة والدرفنديوكان خربندا قد جهز حميضة وجهز معه الدرفندي نائب السلطانة بالبصرة، وجهز معه عسكراً وخزانة، ليسير الدرفندي بالعسكر مع حميضه ويقاتل عسكر المسلمين الواصلين إلى الحج. ويملك حميضة بدل أخيه رميثة. فصار الدرفندي وحميضة ومن معهما من عسكر التتر والعرب، حتى جاوزوا البصرة، فبلغهم موت خربندا فتفرقت تلك الجموع، ولم يبق مع الدرفندي غير ثلاثمائة من التتر، وأربعمائة من عقيل عرب البصرة، وكان قد استولى على البصرة ابن السوايكي، فأرسل استوحى محمد بن عيسى على الدرفندي، فجمع محمد بن عيسى عربه عن خفاجة، وعرب إخوته وأولاد إخوته، وسار إلى الدرفندكط، فأحرز له بالقرب من البصرة واتقع معه، في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة ست عشرة وسبعمائة، فانهزم الدرفندي في بضع وثلاثين نفساً من أزلامه، وانهزم حميضة برقبته، وأخذ حريم حميضة وما كان معه من الأموال، وكذلك الخيم والأثقال والجمال وكان ذلك شيئاً عظيماً، وفيها هرب التراكمين الكنجاوية إلى طاعة السلطان وفارقوا التتر.
فسارت التتر في طلبهم، فأنجد الكنجاويين عسكر البيرة واتقعوا مع التتر، فانهزم التتر هزيمة قبيحة، وأسر منهم نحو خمسين من المغل، وقتل منهم جماعة، ووصل الكنجاوية سالمين بذواتهم وحريمهم إلى البلاد الإسلامية.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وسبعمائة ولما دخلت هذه السنة، كان الصبي ابن خرابندا، واسمه أبو سعيد، قد حضر من خراسان صحبة سونج، وغيره من الأمراء إلى ظاهر السلطانية، واجتمعوا مع جوبان، ونزلوا جميعهم بظاهر السلطانية مع ذيل الجبل، ومضى من أول هذه السنة عدة أشهر، ولم يجلس هذا الصبي على سرير الملك، بل اسم السلطنة للصبي، والحاكم جوبان، وفي الباطن بينه وبين سونج الوحشة. وكل من سونج وجوبان يختار أن يكون هو الذي يجلس الصبي ويكون نائبه فتأخر جلوسه لذلك.
ثم إنهم اتفقوا وأخرجوا استقطلو عنهم، وجهزوه إلى خراسان، وكان قد تحرك على خراسان التتر الذين بخوارزم وما وراء النهر، وقيل إن ملكهم ياشور.

وفيها في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من صفر الموافق لعاشر أيار من شهور الروم، كان السيل الذي خرب بعلبك. فإنه جاء من شرقيها بين الظهر والعصر، فسكره السور، وقوي السيل وقلع برجاً وبعض التنأتين اللتين على يمين البرج وشماله، وسار بالبرج صحيحاً يخرب بالبلد، ويخرب ما يمر به من الدور مسافة بعيدة، قيل إنها خمسمائة ذراع، ودخل السيل الجامع وغرق به جماعة، ورمى المنبر وخرب بعض حيطان الجامع، وبلغ السيل إلى رؤوس العمد، وكذلك دخل السيل المذكور الحمامات، وغرق فيها جماعة، وذهب للناس بذلك أموال عظيمة، وخرب دوراً كثيرة، وأسواقاً وغرق عدة كثيرة من الرجال والنساء والأطفال، وأتلف كتب الحديث والمصاحف وكانت مضرته عظيمة.
وفيها في ربيع الآخر، كانت الإغارة على آمد وسبب ذلك أن نائب السلطنة بحلب، جهز عدة كثيرة من عسكر حلب، وغيرهم من التراكمين والعربان والطماعة، ومدم عليهم شخصاً تركمانياً من أمراء حلب يقال ابن جاجا، وكان عدة المجتمعين المذكورين ما يزيد على عشرة آلاف فارس، فساروا إلى آمد وبغتوها ودخلوها ونهبوا أهلها المسلمين والنصارى، ثم بعد ذلك أمر بإطلاق من كان مسلماً، فأطلقوا بعد أن ذهبت أموالهم، وبالغ المجتمعون المذكورون في النهب، حتى نهبوا الجامع، وأخذوا بسطه وقناديله، وفعلوا بالمسلمين كل فعل قبيح، وعادوا سالمين وقد امتلأت أيديهم من الكسوبات الحرام التي لا تحل ولا تجوز شرعاً، وخلت آمد من أهلها، وصارت كأنها لم تغن بالأمس.
وفيها في الثاني والعشرين من ربيع الآخر وصلني من صدقات السلطان حصان برقي بسرجه ولجامه، صحبة موسى أحد أمراء خورية، فوصلته بالخلع والدراهم وقابلت الصدقات بمزيد الدعاء.
وفيها خرج السلطان الملك الناصر خلد الله ملكه من الديار المصرية في رابع جمادى الأولى، الموافق لرابع عشر تموز إلى حسبان من البلقاء، ووصل إليها في سادس عشر جمادى الأولى، ووصل إليه في حسبان المقر السيفي تنكز نائب السلطنة بالشام، ووصل إليه صحبته جماعة من الأمراء، وكنت طلبت دستوراً بالحضور؛ فرسم بتجهيز خيل التقدمة ومقامي بحماة، فجهزتها وأقمت وقدمت خيلي؛ يوم نزوله على حسبان يوم الثلاثاء سادس عشر جمادى الأولى، وكنت قد جهزتها صحبة طيدمر الدوادار، فقبلت وتصدق السلطان وأرسل إلى صحبة طيدمر تشريفاً كاملاً على جاري العادة من الأطلس الأحمر والأصفر والكلوته الزركش والطرز الزركش بالذهب المصري، وكذلك تصدق بثلاثين ألف درهم وخمسين قطعة وقماش، وركبت بالتشريف المذكور الموكب بحماة نهار الإثنين سادس جمادى الثانية من هذه السنة، أعني سنة سبع عشرة وسبعمائة، ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية من الشوبك ولم يصل في خرجته هذه إلى دمشق، بل رجع من بلاد البلقاء.
فيها وصل مثال السلطان بالبشارة بالنيل وأن الخليج كسر في رابع جمادى الأولى وسلخ أبيب، قبل دخول مسرى، وهذا مما لا يعهد، فإنه تقدم عن عادته شهراً.
وفيها بعد رحيل السلطان عن الكرك أفرج عن الأمير سيف الدين بهادراص. ووصل بهادراص إلى دمشق، وأتم السلطان السير ودخل مصر يوم الأربعاء منتصف جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفيها في أثناء ذي الحجة ظهر في جبال بلاطنس إنسان من بعض النصيرية، وادعى أنه محمد ابن الحسن العسكري، ثاني عشر الأئمة عند الإمامية، الذي دخل السرداب المقدم ذكره فاتبع هذا الخارجي الملعون من النصيرية جماعة كثيرة، تقدير ثلاثة آلاف نفر، وهجم مدينة جبلة، في يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، والناس في صلاة الجمعة ونهبت أموال أهل جبلة، وسلبهم ما عليهم. وجرد إليه عسكر من طرابلس، فلما قاربوه تفرق جمعه وهرب واختفى في تلك الجبال،، فتتبع وقتل لعنه الله، وباد جمعه وتفرقوا، ولم يعد لهم ذكر.

ثم دخلت سنة ثمان عشرة وسبعمائة في أوائل هذه السنة سار فضل بن عيسى إلى ابن خربندا وجوبان إلى بغداد واجتمع بهما، وأحضر لهما تقدمة من الخيول العربية، فأقبل جوبان عليه وأعطى فضل المذكور البصرة، واستمرت له إقطاعاته التي كانت له بالشام بيده مع البصرة، وأقام فضل عندهما مدة، واجتمع بقراسنقر هناك، ثم عاد إلى بيوته، وبعد مسير فضل عنهما، سار جوبان وابن خربندا عن بغداد إلى قنغرلان وهي المدينة الجديدة المسماة بالسلطانية، وفي هذه السنة توجهت من حماة إلى الديار المصرية، وخرجت الخيل قدامي من حماة في نهار السبت، منتصف جمادى الأولى، الموافق لنصف تموز أيضاً، وتأخرت أنا بحماة ثم خرجت من حماة وركبت خيل البريد، في نهار الاثنين، الرابع والعشرين من جمادى الأولى والرابع والعشرين من تموز، ولحقت خيلي وثقلي بغزة نهار الأحد، غرة جمادى الآخرة وهو اليوم الثلاثون من تموز، وسرت بهم جميعاً ووصلت إلى قلعة الجبل، وحضرت بين يدي مولانا السلطان الملك الناصر خلد الله ملكه بها، في نهار الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة، الموافق لعاشر آب الرومي، وشملتني صدقاته بالتنزيل في الكبش، وترتيب الرواتب الكثيرة، بعد ما كان رتب لي في جميع المنازل من حماة إلى الديار المصرية، الرواتب الزائدة عن كفايتي وكفاية كل من هو في صحبتي من الأغنام والخبز والسكر وحوائج الطعام والشعير. وألبسني تشريفاً في حال قدومي من الأطلس بطرز الزركش والكلوته على العادة، وأركبني حصاناً بسرج محلى بالذهب، وأقمت تحت صدقاته في الكبش، على أجمل حال.
ثم إنه عن لي أن أرى مدينة الإسكندرية، فسألت ذلك، وحصلت الصدقات السلطانية بإجابتي لذلك، وتقدمت المراسيم أنني أسير إليها في المراكب، وأعود في السير على الخيل، فسرت أنا ومن في صحبتي في حراقتين، وتوجهت من الكبش في يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، وهو الموافق للحادي والعشرين من آب، وسرت في النيل إلى أن وصلت إلى فوه، وسرنا منها في الخليج الناصري، ووصلت الإسكندرية في بكرة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، ووصلني بها من صدقات السلطان مائة قطعة قماش من عمل إسكندرية، وأقمت بها حتى صليت الجمعة، وخرجت من إسكندرية وركبت الخيل وبت في تروجة، ووصلت إلى الكبش بكرة الاثنين الثلاثين من جمادى الآخرة وأقمت به، وكسر الخليج بحضوري في يوم الأربعاء ثاني رجب، الموافق للثلاثين من آب وأول يوم من توت، من شهور القبط.
ثم شملتني الصدقات السلطانية بزيادة عدة قرايا من بلد المعرة، على ما هو مستقر بيدي، وأفاض علي وعلى من هو في صحبتي بالتشاريف، وأمرني بالعود إلى بلدي، فخرجت من بين يديه من الميدان، في نهار السبت ثاني عشر رجب من هذه السنة، الموافق لثامن من أيلول، ووصلت إلي حماة نهار الخميس مستهل شعبان الموافق للثامن والعشرين من أيلول، واستقريت فيها.
وفي هذه السنة أعني سنة ثمان عشرة، عند توجه الحاج من مصر، أرسل السلطان الأمير بدر الدين ابن التركماني، وكان المذكور مشد الدواوين بديار مصر، فأرسله السلطان مع الحجاج إلى مكة بعسكر، وسار المذكور حتى وصل ووقف الوقفة، وفي أيام التشريف، أرسل رميثة صاحب مكة حسبما أمر به مولانا السلطان، بحكم تقصيره ومواطاته في الباطن لأخيه حميضة، وأرسله معتقلاً إلى ديار مصر، واستقر بدر الدين ابن التركماني المذكور نائباً وحاكما في مكة، ولما دخلت سنة تسع عشرة وسبعمائة، أرسل السلطان عطيفة، وهو من إخوة حميضة، وكان عطيفة المذكور مقيماً بمصر، فأرسله السلطان ليقيم بها مع بدر الدين ابن التركماني المذكور. وفي أواخر هذه السنة، أعني سنة ثماني عشرة وسبعمائة حالفت عقيل عرب الإحساء والقطيف، على مهنا بن عيسى وطردوا أخاه فضلاً عن البصرة، فجمع مهنا العرب وقصد عقيل، والتقى الجمعان وافترقا على غير قتال ولا طيبة، بعد أن أخذت عقيل أباعر كثيرة تزيد على عشرة آلاف من عرب مهنا المذكور، وعاد كل من الجمعين إلى أماكنهما، وكانت هذه البرية وغالب بلاد الإسلام مجدبة لقلة الأمطار، وهلك العرب، وضرب دواب تفوت الحصر.

وفيها قريباً من منتصف هذه السنة، خرج اللحياني، وهو أبو زكريا يحيى الحفصي من ملك تونس، وكان اللحياني المذكور قد ملك إفريقية، حسبما سقنا وقدمنا ذكره مع جملة الحفصيين في سنة اثنتين وخمسين وستمائة، فلما كانت هذه السنة، جمع أخو خالد الذي مات في حبس اللحياني، فقصد اللحياني فهرب منه إلى طرابلس وتملك أخو خالد تونس، ولم يقع لي اسم أخي خالد المذكور. وكان للحياني ولد شهم، وكان اللحياني المذكور يخاف منه، فاعتقل ولده المذكور. فلما استولى أخو خالد المذكور على تونس، وطرد اللحياني عن المملكة، أخرج اللحياني ولده من الاعتقال، وجمع إليه الجموع؛ والتقى مع أخي خالد، فانتصر أخو خالد وقتل ابن اللحياني، واستقر اللحياني بطرابلس الغرب كالمحصور بها.
ثم إن اللحياني أيس من البلاد، وهرب بأهله ومن تبعه، وقدم بهم إلى الديار المصرية في سنة تسع عشرة، وقصد الحج وتوجه مع الحجاج فمرض ورجع من أثناء الطريق. ثم إنه قصد الإقامة بالإسكندرية فسار إليها وأقام بها.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وسبعمائة في هذه السنة في أواخر ربيع الآخر، هرب رميثة بن أبي نمي الذي كان صاحب مكة، وكان المذكور أفرج عنه وأكرم غاية الإكرام فسولت له نفسه الهروب إلى الحجاز، فهرب وأركب السلطان خلفه جماعة، وتبعوه وأمسكوه بالقرب من عقبة إيله، على طريق حاج مصر وأحضروه فاعتقل بقلعة الجبل.
ذكر الوقعة العظيمة التي كانت بالأندلسوفي هذه السنة، اجتمعت الفرنج في جمع عظيم، واجتمعت فيه عدة من ملوكهم، وكان أكبرهم ملك قشتيلية، واسمه جوان، وقصد ابن الأحمر ملك غرناطة، فبذل له قطيعة، في كل يوم مائة دينار وفي كل أسبوع ألف دينار، فأبى الفرنج أن يقبلوا ذلك، فخرج المسلمون من غرناطة بعد أن تعاهدوا على الموت، واقتتلوا معهم، فأعطاهم الله النصر، وركبوا قفاء الفرنج يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا، وقتل جوان المذكور وأسرت امرأته، وحصل للمسلمين من الغنائم ما يفوق الحصر، حتى قيل كان فيها مائة وأربعون قنطاراً من الذهب والفضة، وأما الأسرى فتفرق الحصر.
ذكر مسيري إلى مصر ثم الحجاز الشريفوفي هذه السنة، حج السلطان من الديار المصرية، ولما قرب أوان الحج، أرسل جمال الدين عبد الله البريدي ورسم إلى أن أحضر إلى الأبواب الشريفة، فركبت خيل البريد وأخذت في صحبتي أربعة من مماليكي، وخرجت من حماة يوم الجمعة، سادس عشر شوال، الموافق، لسلخ تشرين الثاني، وسرت حتى وصلت إلى مصر من شوال الموافق الثامن كانون الأول، ونزلت بالقاهرة بدار القاضي كريم الدين، وأقمت حتى خرجت صحبة الركاب السلطاني.
ذكر خروج السلطان وتوجهه إلى الحجاز

وفي هذه السنة، في يوم السبت، ثاني ذي القعدة خرج السلطان إلى الدهليز المنصوب، وكان قد نصب له لرب العش، وخرج من قلعة الجبل بكرة السبت المذكور، وتصيد في طريقه الكراكي، وكنت بين يديه فتفرج على الصيد، وصاد عدة من الكراكي من السقاقر وغيرها، ونزل بالدهليز المنصوب وأقام به يتصيد في كل نهار ببلاد الحوف، ورحل من المنزلة المذكورة بكرة الخميس سابع ذي القعدة، الموافق لعشرين من كانون الأول، وسار على درب الحاج المصري على السويس وأبلة، وسرت في صدقاته حتى وصلنا رابغ في يوم الاثنين، ثاني ذي الحجة، الموافق لرابع عشر كانون الثاني وأحرم من رابغ وسار منها في يوم الثلاثاء غد النهار المذكور. واتفق من جملة سعادته وتأييده طيب الوقت، فإنه كان في وسط الأربعينيات، ولم نجد برداً نشكو منه مدة الإحرام، وسار حتى دخل مكة بكرة السبت سابع ذي الحجة، ثم سار إلى منى، ثم إلى مسجد إبراهيم، وأقام هناك حتى صلى به الظهر وجمع إليها العصر، ووقف بعرفات راكباً تجاه الصخرات في يوم الاثنين، ثم أفاض وقدم إلى منى وأكمل مناسك حجه، وكان في خدمته القاضي بدر الدين جماعة قاضي قضاة ديار مصر الشافعي، وواظب المسلطان في جميع أوقات المناسك، بحيث إن السلطان حافظ على الأركان والواجبات والسنن، محافظة لم أرها من أحد، ولما كمل مناسك حجه، سار عائداً إلى مقر ملكه بالديار المصرية. وخرجت هذه السنة، أعني سنة تسع عشرة، وهو بين ينبع وإيلة، بمنزلة يقال لها القصب، وهي إلى إيلة أقرب. ولقد شاهدت من جزيل صدقاته في هذه الحجة ما لم أقدر أن أحصره، وإنما أذكر نبذة منه، وهو أنه سار في خدمته ما يزيد على ستين أمير أصحاب طبلخانات، وكان لكل منهم في كل يوم في الذهاب والإياب ما يكفيه، من عليف الخيل والماء والحلوى والسكر والبقسماط، وكذلك لجميع العسكر الذين ساروا في خدمته، وكان يفرق فيهم في كل يوم في تلك المفاوز وغيرها، ما يقارب أربعة آلاف عليفة شعير، ومن البقسماط الحلوى والسكر ما يناسب ذلك، وكان في جملة ما كان في الصحبة الشريفة أربعون جملاً تحمل محاير الخضراوات مزروعة، وكان في كل منزلة يحصد من تلك الخضراوات ما يقدم صحبة الطعام بين يديه، وفرق في منزلة رابغ على جميع من في الصحبة من الأمراء والأجناد وغيرهم، جملاً عظيمة من الدراهم، بحيث كان أقل نصيب فرق في الأجناد ثلاثمائة درهم، وما فوق ذلك إلى خمسمائة درهم، ونصيب أمراء العشرات ثلاثة آلاف درهم؛ وأما الأمراء أصحاب الطبلخانات فوصل بعضهم بعشرين ألف درهم؛ وبعضهم بأقل من ذلك؛ فكان شيئاً كثيراً، وأما التشاريف فأكثر من أن تحصر، ثم كان ما سنذكره في سنة عشرين وسبعمائة إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة عشرين وسبعمائة.
ذكر قدوم السلطان إلى مقر ملكهاستهل السلطان غرة المحرم من هذه السنة في القصب، وهي منزلة عن إيلة على تقدير أربعة مراحل، وسار السلطان منها ونزل بإيلة، وأقام بها ثلاثة أيام ينتظر وصول خيل وخزانة كانت له بالكرك، وبعد وصول ذلك، رحل السلطان وسار حتى دخل قلعة الجبل، بكرة نهار السبت، ثاني عشر المحرم من هذه السنة، الموافق للثالث والعشرين من شباط، وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً ركب جميع الجيش وقبلوا الأرض بين يديه، ولما صار على تقدير أربعة آلاف ذراع من القلعة أخذت الأمراء في بسط الشقق الفاخرة بين يدي فرسه، فبسطوا واستمر البسط إلى أن دخل القلعة المنصورة في أسعد وقت من ضحى يوم السبت المذكور.
ذكر ما أولاني من عميم الصدقات وجزيل التطولات

سرت من حماة على البريد، ولم يصحبني مركوب لي ولا شيء من أدوات المسافر، فتصدق علي وأنزلني عند القاضي كريم الدين، فكان يبالغ في الإحسان إلي بأنواع الأمور من الملابس والمراكيب والأكل، وكان ينصب لي خادماً مختصاً بي يكفي بجميع ما احتاجه من الفرش للنوم والمأكل والغلمان المختصة بي، وكان مع ذلك لم تنقطع التشاريف على اختلاف أنواعها، لأخلعها على من أختار، وكان السلطان في طول الطريق، في الرواح والعود، يتصيد الغزلان بالصقور، وأنا في صدقاته أتفرج، ويرسل إلي من الغزلان التي يصيدها، وتقدم مرسومه إلي ونحن نسير أنني إذا وصلت إلى ديار مصر أسلطنك، وتتوجه إلى بلدك وأنت سلطان، واستعفيت عن ذلك واستقللته، وتألمت منه استصغاراً لنفسي وتعظيماً لاسمه الشريف أن يشارك فيه، وبقي الأمر في ذلك كالمتردد إلى أن وصل إلى مقر ملكه حسبما ذكرناه، ونزلت أنا عند القاضي كريم الدين بداره داخل باب زريلة، بالقرب إلى بين القصرين، وأقمت هناك، وتقدم مرسوم السلطان بإرسال شعار السلطنة إلي، فحضرت الموالي والأمراء؛ وهم سيف الدين الماس أمير حاجب، وسيف الدين قجليس، والأمير علاء الدين أيدغمش، أمير أخور. والأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي، والأمير سيف الدين طيبال؛ أمير حاجب أيضاً، وحضر من الأمراء الخاصكية تقدير عشرين أميراً، وحضر صحبتهم التشريف الأطلس، الكامل المزركش، والنمجا الشريفة السلطانية والغاشية المنسوجة بالذهب المصري، وعليها القبة والطير وثلاثة سناجق، وعصائب وتقليد يتضمن السلطنة، والجمدارية السلطانية، وسلحدار بسيفين معلقين على كتفه، والشاويشية، وحضر جميع ذلك إلى المدرسة المنصورية بين القصرين، وقدم لي حصان كامل العدة، فركبته بكرة الخميس سابع عشر المحرم الموافق للثامن والعشرين من شباط بالشعار المذكور، ومشت الأمراء إلى أثناء الطريق وركبوا، ولما قاربت قلعة الجبل نزلوا جميعهم، واستمريت حتى وصلت إلى قرب باب القلعة، ونزلت وقبلت الأرض للسلطان إلى جهة القلعة، وقبلت التقليد الشريف، ثم أعدت قبيل الأرض مراراً، ثم طلعت صحبة النائب، وهو المقر السيفي أرغون الدوادار إلى قلعة، وحضرت بين يدي السلطان في ضحوة النهار المذكور، فقبلت الأرض فأولاني من الصدقة ما لا يفعله الوالد مع ولده، وعند ذلك أمرني بالمسير إلى حماة، وقال أيا فلان لك مدة غائب؛ فتوجه إلى بلدك. فقبلت الأرض وودعته، وركبت خيل البريد عند العصر من نهار الخميس المذكور، وشعار السلطنة صحبتي على فرس يد، وسرت حتى قاربت حماة، وخرج من بها من الأمراء والقضاة، وتلقوني، وركبت بالشعار المذكور، ودخلت حماة ضحوة نهار السبت، السادس والعشرين المحرم من هذه السنة الموافق لثامن آذار بعد أن قرئ تقليد السلطنة بنقيرين في خام كان قد نصب هناك، ولولا مخافة التطويل كنا ذكرنا نسخته.
ذكر الإغارة على سيسر وبلادهافي هذه السنة تقدمت مراسيم السلطان بإغارة العساكر على بلاد سيس، ورسم لمن عينه من العساكر الإسلامية الشامية، فسار من دمشق تقدير ألفي فارس وسار الأمير شهاب الدين قرطاي بعساكر الساحل، وجردت من حماة أمراء الطبلخانات الذين بها، وسارت العساكر المذكورة من حماة في العشر الأول من ربيع الأول من هذه السنة، ووصلوا إلى حلب، ثم خرجت عساكر حلب صحبة المقر العلاى الطنبغا، نائب السلطنة بحلب، وسارت العساكر المذكورة عن آخرهم، ونزلوا بعمق حارم، وأقاموا به مدة، ثم رحلوا ودخلوا إلى بلاد سيس في منتصف ربيع الآخر من هذه السنة، الموافق للرابع والعشرين، من أيار، وساروا حتى وصلوا إلى نهر جيحان، وكان زائداً، فاقتحموه ودخلوا فيه؛ فغرق من العساكر جماعة كثيرة، وكان غالب من غرق من التراكمين الذين من عسكر الساحل، وبعد أن قطعوا جيحان المذكور، ساروا ونازلوا قلعة سيس، وزحفت العساكر عليها حتى بلغوا السور، وغنموا منها وأتلفوا البلاد والزراعات وساقوا المواشي، وكانت شيئاً كثيراً، وأقاموا ينهبون ويخربون، ثم عادوا وقطعوا جيحان وكان قد انحط فلم ينضر أحد به، ووصلوا إلى بغراس في نهار السبت التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر المذكور، ثم ساروا إلى حلب وأقاموا بها مدة يسيرة، حتى وصل إليهم الدستور فسار كل عسكر إلى بلده.

وفي هذه السنة في أثناء ربيع الأول وصلت الجهة في البحر إلى الديار المصرية، وكان في خدمتها ما يقارب ثلاثة آلاف نفر من رجال ونساء، واحتفل بهم إلى غاية ما يكون، وأدرت عليهم الإنعامات والصلات.
ذكر قطع أخبار آل عيسى

وطردهم عن الشام
في هذه السنة تقدمت مراسم السلطان بقطع أخبار المذكورين؛ وطردهم بسبب سوء صنيعهم، فقطعت أخبارهم، ورحلوا عن بلاد سلمية في يوم الاثنين ثاني جمادى الأولى من هذه السنة، الموافق لعاشر حزيران، وساروا إلى جهات عانة والحديثة على شاطئ الفرات.
وفيها عند رحيل المذكورين، وصل الأمير سيف الدين قجليس، وسار بجمع عظيم من العساكر الشامية والعرب في إثر المذكورين، حتى وصل إلى الرحبة، ثم سار منها حتى وصل إلى عانة، ولما وصل المذكور هناك، هرب آل عيسى إلى وراء الكبيسات، وعيسى المذكور هو أعيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن عصبة بن فضل بن ربيعة، وأقام السلطان موضع مهنا؛ محمد بن أبي بكر بن علي بن حديثة بن عصبة المذكور، ولما جرى ذلك، عاد الأمير سيف الدين المذكور وأقام بالرحبة حتى نجزت مغلاتها وحملت إلى القلعة، ثم سار منها ونزل على سلمية في يوم الخميس منتصف رجب من السنة المذكورة، الموافق للحادي والعشرين من آب، واستمر مقيماً على سلمية حتى وصل إليه الدستور، فسمار منها إلى الديار المصرية في يوم الاثنين تاسع شهر رمضان من السنة المذكورة، الموافق لثالث عشر تشرين الأول، وأتم سيره حتى وصل إلى مصر.
ذكر هلاك صاحب سيسفي هذه السنة مات صاحب سيس، أرشين بن ليفون، عقيب الإغارة على بلده، وكان المذكور مريضاً لما دخلت العساكر إلى بلاده، وشاهد حريق بلاده وخراب أماكنه، وقتل رعيته وسوق دوابهم، فتضاعفت أحلامه وهلك في جمادى الأولى من هذه السنة، وخلف ولداً صغيراً دون البلوغ فأقيم مكانه، وتولى تدبير أمره جماعة من كبار الأرمن.
ذكر مقتل حميضةولما جرى من حميضة ما تقدم ذكره، واستمر وصول العساكر من الديار المصرية إلى مكة لحفظها من المذكور رأى المذكور عجزه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فعزم على الحضور إلى مقدم العسكر المقيم بمكة، وهو الأمير ركن الدين بيبرس أمير أخور، ودخوله في الطاعة، وكان قد هرب من بعض المماليك السلطانية من منى، لما حج السلطان، ثلاثة مماليك، يقال لأحدهم أيدغدي والتجأوا إلى حميضة في برية الحجاز، فآواهم وأكرم مثواهم، فلما عزم حميضة على الحضور إلى الطاعة، اتفقوا على قتله واغتياله، وكان حميضة قد نزل على القرب من وادي نخلة، فلما كان وقت القيلولة، ذهب إلى تحت شجرة ونام، فقتله أيدغدي المذكور بالسيف، وقطع رأس حميضة وأحضره إلى مقدم العسكر بمكة، فحمل إلى جن يدي السلطان بالديار المصرية، وكفى الله شر حميضة المذكور ولقاه عاقبة بغيه.
وكان حميضة المذكور قد ذبح أخاه أبا الغيث فاقتص الله منه، وكان مقتله في يوم الخميس سابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، الموافق للرابع والعشرين من تموز، بالقرب من وادي نخلة.
وفيها تصدق السلطان على ولدي محمد، وأرسل له تشريفاً، أطلس أحمر بطرز زركش، وقندس، وتحتاني أطلس أصفر، وشربوش مزركش، ومكلل باللؤلؤ، وأمر له بأمرية وستين فارساً لخدمته طبلخاناه، فركب محمد بالتشريف المذكور بحماة، يوم الاثنين الخامس من رجب الموافق لحادي عشر آب، وكان عمره حينئذ نحو تسع سنين.
وفيها حج المقر السيفي أرغون الدوادار، وكان السلطان قد عفى عن رميثة وأفرج عنه، وأرسله صحبة المقر السيفي إلى مكة، ورسم لرميثة المذكور بنصف متحصل مكة، ويكون النصف الآخر لعطيفة أخيه، فسافر المقر السيفي وقرر رميثة بمكة حسبما رسم به السلطان.
وفيها في يوم الاثنين، تاسع ذي الحجة وصل المجد إسماعيل السلامي رسولاً من جهة أبي سعيد، ملك التتر، ومن جهة جوبان، وعلى شاه، بهدايا جليلة، وتحف ومماليك وجواري، مما يقارب قيمته خمسين تماناً، والتمان هو البدرة، وهي عشرة آلاف درهم، وسار بذلك إلى السلطان.
وفيها في شوال، الموافق لتشرين الثاني، شرعت في عمارة القبة، وعمل المربع والحمام، على ساقية نخيلة بظاهر حماة، وفرغت العمارة في المحرم من سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، وجاء ذلك من أنزه الأماكن.

وفيها أو في أواخر سنة تسع عشرة وسبعمائة، جرى بين الفرنج الجنويين قتال شديد، وذلك بين قبيلتين منهم، يقال لإحدى القبيلتين إسبينيا، وللأخرى دوريا، حتى قتل منهم ما ينيف عن خمسين ألف نفر، وكان إحدى القبيلتين أصحاب داخل جنوة، والأخرى أصحاب خارج البلد إسبينيا - بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وكسر الباء الموحدة من تحتها وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر النون وفتح ياء مثناة من تحتها. وفي آخرها ألف مقصورة - ودويار - بضم الدال المهملة وسكون الواو وكسر الراء المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها وفي آخرها ألف والله أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وسبعمائة.
فيها في مستهل جمادى الأولى توفيت بحماة فاطمة خاتون بنت الملك المنصور صاحب حماة، وكانت كثيرة الإحسان.
وفيها عدى مهنا بن عيسى الفرات، وتوجه إلى أبي سعيد ملك التتر مستنصراً به على المسلمين، وأخذ معه تقدمة برسم التتر، سبعمائة بعير وسبعين فرساً وعدة من الفهود.
وفيها حضر رسول تمرتاش بن جوبان المستولي على بلاد الروم، بتقدمة إلى الأبواب الشريفة بديار مصر.
وفيها ورد مرسوم السلطان على مؤلف الأصل، يأمره الحضور ليسير معه في صيوده، قال أفسرت من حماة على البريد، وسبقت تقدمتي وحضرت لدى المواقف الشريفة، وهو نازل بالقرب من قليوب فبالغ في إدرار الصدقات علي.
وفيها رحل السلطان من الأهرام، وسار في البرية متصيداً حتى وصل إلى الحمامات وهي غربي الإسكندرية على مقدار يومين، ثم عاد إلى القاهرة.
وفيها دخل تمرتاش المذكور بعسكره إلى بلاد سيس، وأغار وقتل؛ فهرب صاحب سيس إلى قلعة إياس التي في البحر، وأقام تمرتاش ينهب ويخرب نحو شهر، ثم عاد إلى بلاد الروم.
وفيها عاد مؤلف الأصل من الخدمة الشريفة إلى حماة. وفيها توجه نائب الشام تنكز إلى الحجاز الشريف، وكان قد توجه من الديار المصرية الأدر السلطانية إلى الحج بتجمل وعظمة لم يعهد مثلها.
ذكر وفاة صاحب اليمنوفيها ليلة الثلاثاء في ذي الحجة، توفي بمرض ذات الجنب بتعز، الملك لمؤيد هزبر الدين داود بن المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول، فاتفق أرباب الدولة وأقاموا ولده علي، ولقب الملك المجاهد بسيف الإسلام بن داود المذكور، وهو إذ ذاك أول ما قد بلغ، ثم خرج عليه عمه الملك المنصور أيوب، ولقبه زين الدين، أخو عاود، في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة، فملك اليمن واعتقل ابن أخيه سيف الإسلام، وقعد المنصور في مملكة اليمن دون ثلاثة أشهر، ثم هجم جماعة من العسكر وأخرجوا سيف الإسلام وأعادوه إلى ملك اليمن، واعتقلوا عمه المنصور أيوب، وبقي أمر مملكة اليمن مضطرباً غير منتظم الأحوال.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة فيها وصل الأمير فضل بن عيسى صحبة الأدر السلطانية من الحجاز، داخلاً عليهم مستشفعاً بهم، فرضي عنه السلطان وأقره على إمرة العرب موضع محمد بن أبي بكر، أمير آل عيسى.
ذكر فتوح إياسفبها وصل بعض العساكر المصرية والشامية والساحلية، وسار صحبتهم غالب عسكر حماة إلى حلب المحروسة، وانضم إليهم عسكرها، وتقدم عليهم نائب حلب الطنبغا. وأتموا السير حتى نازلوا إياس من بلاد سيس، وحاصروها وملكوها بالسيف، وعصت عليهم القلعة التي في البحر، فأقاموا عليها منجنيقاً عظيماً، وركب المسلمون إليها طريقين في البحر؛ إلى أن قاربوا القلعة، فهربت الأرمن منها، وأخلوها ولاقوا في القلعة ناراً، وملك المسلمون القلعة نهار الأحد الحادي والعشرين من ربيع الآخر، وهدموا ما قدروا على هدمه، وعاد كل عسكر إلى بلده.
وفيها توجه أتامش الناصري رسولاً إلى أبي سعيد ملك التتر، وعاد إلى القاهرة بانتظام الأمر واتفاق الكلمة.
وفيها وصل مؤلف الأصل تغمده الله برحمته، إلى خدمة السلطان، قال أوسرت في خدمة السلطان، إلى الأهرام، وحضر هناك رسول صاحب برشلونة وهو أحد ملوك الفرنج بجهات الأندلس، فقبل السلطان هديتهم وأنعم عليه أضعاف ذلك، ثم رحل من الأهرام وتوجه إلى الصعيد الأعلى وأنا معه، إلى أن وصلنا دندرة، وهي عن قوص مسيرة يوم، وعدنا إلى القاهرة.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة فيها عاد الملك المؤيد إلى حماة من خدمة السلطان؛ بعد أن غمره بالأنعام والعطايا.
ذكر السنة الحمراء

فيها جدبت الأرض بالشام، من دمشق إلى حلب، وانحبس القطر، ولم ينبت شيء من الزراعات إلا القليل النادر، واستسقى الناس في هذه البلاد، فلم يسقوا، وأما السواحل التي من طرابلس إلى اللاذقية وجبل اللكام، فإن الأمطار مازالت تقع في هذه النواحي فاستوت زراعاتهم.
وفيها مات قاضي القضاة الشافعي بدمشق المعروف بابن صقر وهو نجم الدين أحمد، وولى مكانه جمال الدين المعروف بالزرعي. وفيها عزل السلطان كريم الدين بن عبد الكريم عن منصبه، واستعاد منه ما كان عنده من الأموال، وأرسله إلى الشوبك، فأقام بها، وولى مكانه أمين الملك عبد الله. وفيها رسم السلطان لمؤلف الأصل أن لا يرسل قوده، نظراً في حاله، بسبب محل البلاد، فأرسلت عدة يسيرة من الخيل التي كنت حصلتها، فتصدق علي بتشريف كامل على عادتي، وستين قطعة إسكندري، وخمسين ألف درهم، وألف مكوك حنطة. وفيهما حضرت رسل أبي سعيد ملك التتر، ورسل نائبه جوبان، وتوجهوا إلى الأبواب الشريفة بالقاهرة، ثم عادوا إلى بلادهم.
وفيها وصلت الملكة بنت أبغا؛ واسمها قطلو؛ وفي خدمتها عدة كثيرة من التتر، وتوجهت إلى الحج ورسم السلطان ورتب لها في الطرقات الإقامات الوافرة.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وسبعمائة فيها تقدم السلطان بإبطال المكوس والضرائب عن سائر أصناف الغلة بجميع الشام فأبطل، وكان ذلك جملة تخرج عن الإحصاء.
ذكر المتجددات في بلاد الرومكان ببلاد الروم تمرتاش بن جوبان، فاستولى عليها، واستكثر من المماليك، قطع ما كان يحمل منها إلى الأردو والخواتين، وصار كلما جاءه رسول لطلب المال يهينه، ويعيده بغير زبدة، فلما كثر ذلك منه، سار إليه أبوه جوبان، فعزم تمرتاش على شال أبيه، واتفق في عسكره ومماليكه، فلما قرب جوبان منه، فارقه عسكره وصاروا مع جوبان، فلما رأى تمرتاش ذلك، حضر مستسلماً إلى أبيه جوبان، فتقدم جوبان بإمساكه وأخذه معه معتقلاً إلى الأردو، وذلك بعد أن أقام ببلاد الروم شخصاً من التتر موضع تمرتاش.
ذكر المتجددات باليمنفي هذه السنة، لم يبق، في يد الملك المجاهد علي بن داود غير حصن تعز، خرج باقي ملك اليمن عنه، وصار بيد ابن عمه صاحب الدملوة، وتلقب بالملك الظاهر. وفيها نزل الأمير مهنا ابن عيسى بظاهر سلمية من بلاد حمص، عند تل أعدا، وكان له ما يزيد عن عشر سنين لم ينزل بأهله هناك، وكان الأمر والنهي إليه في العرب، وخبز الإمرة لأخيه فضل بن عيسى.
وفيها ورد مرسوم السلطان إلى صاحب حماة بالمسير إلى خدمته، فسار وأخذ معه ولده محمداً وأهله، قال أوحضرت بين يدي السلطان بقلعة الجبل مستهل الحجة، فبالغ في أنواع الصدقات علي، وعلى من كان معي، وعلى ولدي، ووصل وأنا هناك رسل أبي سعيد ملك التتر، ويقال لكبيرهم طوغان، وهو من جهة، أبي سعبد، والذي من بعده حمزة وهو من جهة جوبان، وصحبتهما الطواشي ريحان خزندار أبي سعيد، وكان مسلماً ما كان صحبتهم من الهدايا، وحضر المذكورون بين. يدي السلطان بقلعة الجبل، وكان يوماً مشهوراً لبس فيه جميع الأمراء والمقدمون، لمماليك السلطانية وغيرهم الكلوتات المزركشات، والطرز الذهب، ولم يبق من لم يلبس ذلك غير الملك الناصر، وأحضر المذكورون التقدمة، وأنا حاضر، وهي ثلاثة أكاديش بثلاثة سروج ذهب مصري مرصعة بأنواع الجواهر، وثلاث حوائص ذهب مجوهرة وسيف، وجميعها بطرز زركش ذهب، وشاشاً فيه قبضات عدة زركش ذهب، وإحدى عشر بختياً مزينة، أحمالها صناديق، ملؤها قماش من معمول تلك البلاد، وعدتها سبعمائة شقة قد نقش عليها ألقاب السلطان، فقبل ذلك منهم وغمر الرسل بأنواع التشاريف والأنعام.
وكان عيد الأضحى بعد ذلك بيومين، واحتفل السلطان للعيد احتفالاً عظيماً يطول شرحه، وأقام رسل التتر ينظرون إلى ذلك، ثم أحضرهم وخلع عليهم نائباً وأوصلهم مناطق من الذهب، ومبالغاً تزيد على مائة ألف درهم، وأمرهم بالعود إلى بلادهم، ثم بعد ذلك عبر السلطان النيل ونزل بالجيزة، ثالث عشر الحجة، وكان قد طلع النيل وزاد على ثمانية عشر ذراعاً، ووصل إلى قريب الذراع التاسع عشر، وطال مكثه على البلاد، فأقام بالجيزة حتى جفت البلاد لأجل الصيد، ثم رحل وسار إلى الصيد وأنا بين يديه الشريفتين.

وفيها مات علي شاه وزير ملك التتر، وكان المذكور قد بلغ منزلاً عظيماً من أبي سعيد وغيره، وأنشأ بتبريز الجامع الذي لم يعهد مثله، ومات قبل إتمامه، وهو الذي نسج المودة بين الإسلام والتتر رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وسبعمائة فيها عاد الملك الناصر إلى القاهرة، وأعطى لصاحب حماه الدستور بعد ما غمره بالصدقات، ورسم له بألفي مثقال ذهب؛ وثلاثين ألف درهم؛ ومائة شقة من أفخر القماش الإسكندري، ووصل إلى حماة شاكراً ناشراً.
ذكر عمارة القصور بقرية سرياقوس والخانقاهفي هذه السنة تكملت القصور والبساتين بسرياقوس، وهي قرية في جهة الشمال. عن القاهرة، على مرحلة خفيفة، وعمر السلطان على طريق الجادة الآخذة إلى الشام، بالقرب من العش، خانقاه، وأنزل جماعة من الصوفية بها، ورتب لهم الرواتب الجليلة، وأرسل صاحب حماة هدية تليق الخانقاه المذكورة مثل كتب وبسط وغير ذلك.
ذكر إرسال السلطان العسكر إلى اليمنوفيها بلغ السلطان اضطراب حال اليمن وفساد أحوال الرعية، فأرسل إليهما جيشاً، وقدم على الجيش الأمير ركن الدين بيبرس، الذي كان أمير أخور، ثم أمير حاجب، والأمير سيف الدين طينال الجاجب حينئذ، وكان توجه العسكر المذكور من الديار المصرية، في شهر ربيع الأول من هذه السنة، ووصلوا إلى اليمن وخرج إليهم الملك المجاهد ابن الملك المؤيد صاحب اليمن، وهو إذ ذاك شاب جاهل ليس له معرفة بما يجب عليه، فقصر في حق العسكر، ثم إنه لتقصيره في حقهم، استوحش منهم، ودخل قلعة تعز وعصى بها، ولم يكن مع العسكر مرسوم بملك اليمن، بل بمساعدة المذكور وتقرير أمر ولايته، ووجدوا في طريقهم مشقة عظيمة من العطش والجوع، ووصلوا إلى مصر في شوال من هذه السنة، فلم يعجب السلطان ما صدر منهم، وأنكر عليهم، واعتقل المقدم بيبرس المذكور.
وفي هذه السنة أحضر علاء الدين الطبنغا بحلب إلى حماة متوجهاً إلى خدمة السلطان، وتوجه من حماة ثالث في القعدة من هذه السنة، الموافق لثاني عشر تشرين الأول، ثم عاد وعبر على حماة وتوجه إلى حلب، تاسع وعشرين ذي القعدة المذكورة.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وسبعمائة أوكان أول محرم يوم الأحد وهو الموافق لثامن كانون الأول. وفيها في منصف ربيع الآخر، الموافق لحادي وعشرين آذار، خرجت بعسكر حماة ووصلت إلى القناة الواصلة من سلمية إلى حماة، وقسمتها على الأمراء والعسكر لينظفوها، فإنها كانت قد آلت إلى التلف؛ بسبب ما اجتمع فيها من الطين، فحرروها في نحو أسبوع؛ ثم عدت إلى حماة.
وفيها وصل الأمير سيف الدين أتامش متوجهاً رسولاً إلى أبي سعيد وجوبان وكان صحبته تقدمة جليلة للمذكورين وكان عبوره على حماة، وتوجهه إلى البلاد الشرقية منها في سادس جمادى الأولى وتاسع أيار.
وفيها في أوائل جمادى الآخرة عزل السلطان الأمير شهاب الدين قرطاي من نيابة السلطنة بالسواحل، وولى مكانه الأمير سيف الدين طينال الحاجب، وكان وصول طينال إلى تلك الجهة في سادس وعشرين الشهر المذكور.
وفيها يوم الاثنين سادس عشر جمادى الآخرة، وتاسع عشر أيار، وكانت وفاة مملوكي طيدمر، وكان المذكور قد صار أميراً كبيراً عندي، وكان مريضاً بالسل مدة طويلة، وجرى علي لفقده أمر عظيم، رحمه الله تعالى.
وفيها وصل رسول جوبان وصحبته طاي بضا، قرابة السلطان وكان عبوره على حماة في منتصف جمادى الآخرة.
وفيها في ثامن عشر شعبان، عاد سيف الدين من الأردو، وعبر على حماة وتوجه إلى الأبواب الشريفة.
وفيها في شعبان حضر نجم الدين صاحب حصن كيفا متوجهاً إلى الحجاز ثم بطل المسير إلى الحجاز وسار إلى عند السلطان إلى مصر، فأنعم عليه السلطان وأعاده، فعبر على حماة وتوجه إلى حصن كيفا.
وفيها حال وصوله إليها قتله أخوه، وكان أخوه مقيماً هناك، وملك أخوه الحصن، والمذكوران من ولد تورانشاه ابن الملك الصالح أيوب ابن الكامل ابن العادل ابن أيوب.
وفيها أمر السلطان بطرد مهنا وعربه، وأمرني بإرسال عسكر إلى الرحبة لحفظ زرعها من المذكورين، فجردت إليها أخي بدر الدين ومحموداً ابن أخي، واسنبغا مملوكي، فساروا إليها بمن في صحبتهم في مستهل شهر رمضان، ووصلوا وأقاموا بها وعادوا إلى حماة في حادي وعشرين ذي القعدة من السنة المذكورة، الموافق لتاسع عشر تشرين الأول.

ذكر وفاة أخي بدر الدين حسن
رحمه الله تعالى:
في هذه السنة مرض أخي حسن عند وصوله من الرحبة، واشتد مرضه، وكاد مرضه حمى بلغمية، وتوفي نهار الثلاثاء مستهل ذي الحجة، وكان عمره يوم وفاته سبعاً وخمسين سنة، وكان أكبر مني بثلاث سنين، وخلف ابنين طفلين وبنتين، وأعطيت أمريته لابنه الطفل وعمره نحو ثلاث سنين، وأقمت لهم نواباً يباشرون أمورهم، ثم مرض محمود ابن أخي أسد الدين عمر، وابتدأ مرضه يوم موت أخي حسن، وقوي مرضه حتى توفي محمود المذكور يوم الأحد ثالث عشر ذي الحجة من السنة المذكورة، وكان بينه وبين وفاة عمه بدر الدين حسن المذكور ثلاثة عشر يوماً، وكان عمر محمود عند وفاته نحو ست وثلاثين سنة.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وسبعمائة فيها عزل السلطان نائبه المقر السيفي أرغون من نيابة السلطنة بمصر، وأرسله إلى حلب نائباً بها بعد عزل الطنبغا منها، وكان عبور المقر السيفي أرغون المذكور على حماة يوم الثلاثاء سادس وعشرين المحرم، الموافق لثامن وعشرين كانون الأول، وكانت الأمطار في هذه السنة وفيها تصدق السلطان وأرسل لي حصانين من خيل برقة، أحدهما بسرج ذهب لي؛ والآخر بسرج فضة لابني محمد، ووصل بهما أمير آخور دقماق، وركبناهما يوم الخميس ثالث عشر رجب الفرد، الموافق لرابع حزيران. وفيها في يوم السبت ثالث عشر شعبان حضر من الأبواب الشريفة الأمير علاء الدين قطلوبغا، المعروف بالمغربي، وصحبته رسولا جوبان، وهما أسندمر وحمزة، وتوجه بهما وصلهما إلى البيرة مكرمين، ثم عاد قطلوبغا المغربي المذكور إلى حماة، وتوجه إلى الأبواب الشريفة، وتوفي عند وصوله.
وفيها بعد وصول المقر السيفي أرغون إلى حلب، وتوفي ابنه الكبير ناصر الدين محمد بن أرغون؛ وكان أميراً كبيراً في الدولة، وكان وفاته يوم الأربعاء سابع عشر شعبان المذكور.
ذكر أخبار أبي سعيد وجوبانوكان أبو سعيد ملك التتر صبيا عند موت أبيه خربندا، فقام بتدبير المملكة جوبان، ولم يكن لأبي سعيد معه من الأمر شيء حسبما تقدم ذكره، ولما كبر أبو سعيد ووجد أن الأمر مستبد به جوبان، وليس له معه حكم، أضمر لجوبان السوء، وكن جوبان قد سلم الأردو لابنه خواجا دمشق، فحكم خواجا دمشق على أبي سعيد، فاتفق في هذه السنة أن جوبان سار بالعساكر إلى خراسان، واستمر ابنه خواجا دشق حاكماً في الأردو، وكان الأردو إذ ذاك بظاهر السلطانية، وكان خواجا دمشق يروح سراً بالليل إلى بعض خواتين خربندا، فلما خرج شهر رمضان من هذه السنة، ودخل شوال، وتوجه خواجا دمشق في الليل ودخل القلعة ونام عند تلك الخاتون، وكان هناك امرأة أخرى عيناً لأبي سعيد عليها، فأرسلت تلك المرأة وخيرت أبا سعيد بالخبر، واسم المرأة التي هي عين أحجل. ولقلعة السلطانية بابان، فأرسل أبو سعيد عسكراً، ووقفوا على الباب، وأحس خواجا دمشق بذلك، فحمل وخرج من الباب الواحد، فضربوه وأمسكوه وقصدوا إحضاره ممسوكاً بين يدي أبي سعيد، فأرسل أبو سعيد وقال لهم اقطعوا رأسه وأحضروه، فقطعوا رأس خواجا دمشق المذكور، وأحضروه إلى بين يدي أبي سعيد، وبقي المغل يرفسون رأسه، وجمع أبو سعيد كل من قدر عليه، وخاف من جوبان، وأرسل إلى العسكر الذي مع جوبان فيهم بأنه قد عادى جوبان، ولما بلغ جوبان ذلك، سار من خراسان بمن معه من العسكر طالباً أبا سعيد، وسار أبو سعيد إلى جهته، حتى تقارب الجمعان عند مكان يسمى صاري قماش، أي القصب الأصفر، وذلك على مراحل يسيرة من الري، ولما تقارب الجمعان فارقت العساكر عن آخرها جوبان، ورحلوا عنه إلى طاعة أبي سعيد، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة، فلم يبق مع جوبان غير عدة يسيرة، فابتدر جوبان الهرب وقصد نواحي هراة، واختفى خبره، ثم ظهر في السنة الأخرى ثم عدم قيل إنه قتل بهراة، قتله صاحبها، وقيل غير ذلك، وتتبع أبو سعيد كل من كان في المملكة من أولاده والزامه فأعدمهم، واستقرت قدم أبي سعيد في المملكة، وكان أبو سعيد يهوى بنت جوبان واسمها بغداد، وكانت مزوجة للأمير حسن بن أقبغا، وهو من أكبر أمراء المغلة، فطلقها أبو سعيد منه وتزوجها أبو سعيد، وبقيت عند أبي سعيد في منزلة عظيمة جداً.
ذكر سفري إلى الأبواب الشريفة

في هذه السنة، رسم السلطان لي بالحضور إلى أبوابه الشريفة، لأكون في خدمته في صبوده، فخرجت من حماة يوم الاثنين رابع ذي القعدة، الموافق للحادي والعشرين من أيلول، وأتممت السير أنا وابني محمد حتى وصلنا إلى بلبيس ونزلنا على عيثة، وهي قرية خارج بلبيس من جهتها الجنوبية، فمرض ابني محمد المذكور مرضاً شديداً، وأرسل السلطان إلي خيلاً بسروجها لي ولابني ووصلني ذلك إلى بير البيضا، وأنا في شدة عظيمة من الخوف على ولدي، واستمر مرضه يتزايد، والتقيت بالسلطان وقبلت الأرض بين يديه يوم السبت، مستهل ذي الحجة بظاهر سرياقرس، ونزلنا بسرياقوس والسلطان يبالغ في الصدقة بأنواع التشاريف والخيول والمآكل، وأنا مشغول الخاطر، وأقمنا بسرياقوس بالعمائر التي أنشأها السلطان هناك، وأرسل السلطان أحضر رئيس الأطباء إذ ذلك. وهو جمال الدين إبراهيم بن أبي الربيع المغربي، فحضر إلى سرياقوس وبقي يساعدني على العلاج، ثم رحل السلطان من سرياقوس ودخل القلعة، وأرسل إلي حراقة، فركبت أنا وابني محمد فيها، وكان إذ ذاك يوم بحرانة يعني سابع أيام الرض، وهو يوم الخميس، سادس ذي الحجة، ونزلت بدار طقزتمر على بركة الفيل، وأصبح يوم الجمعة المرض منحطاً ولله الحمد، فإنه أفسح بالبحران المذكور، وأقمت تحت ظل صدقات السلطان وبقي يحصل لي عوائق عن ملازمة خدمة السلطان بسبب مرض الولد، فإن الحمى بقيت تعاوده بعد كل قليل، والسلطان يتصدق ويعذرني في انقطاعي ويرسم لي بذلك رحمة منه وشفقة علي، وبقي عنده من مرض ابني أمر عظيم، وبقيت أتردد مع السلطان في هذه النوبة في الصيف في أراضي الجيزة، وأراضي المنوفية، حتى خرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وكان أول المحرم من هذه السنة يوم الاثنين وكنا بالقاهرة كما تقدم، وخلع علي السلطان في هذا اليوم قباً مذهباً بطرز ذهب مصري، لم يعمل مثله في كبره وحسنه.
ذكر خروج السلطان إلى عند الأهرامواستحضار رسل أبي سعيد ثم عدى السلطان إلى الجيزة ونزل عند الأهرام، واستحضر هناك رسل أبي سعيد، ووصلوا مبشرين بهروب جوبان ونصرة أبي سعيد عليه، واستقراره في الملك، وأنه مقيم على الصلح والمحبة، وقصدوا من السلطان استمرارالصلح، فاستحضر السلطان الرسل عند الأهرام في الدهليز الشريف وكان الدهليز جميعه جتره، وشقته من أطلس معدني ونخ مذهب عال، وكان ذلك يوم الأحد ثامن وعشرين لمحرم وثلاث عشر كانون الأول، وكان الرسل ثلاثة نفر، كبيرهم شيخ كأنه كردي الأصل يسمى أرش بغا، والثاني أياجي، والثالث برجا قرابة الأمير بدر الدين جنيكي، وكان يوماً مشهوداً، وأنزل السلطان الرسل في خيمة أعدها السلطان لهم، وأدر السلطان عليهم الإنعامات الوافرة، وبالغ في الإحسان إليهم، ثم إنه سفرهم وأنعم على كل من في صحبتهم من أتباعهم، وكانوا نحو مائة نفر، وسافر الرسل المذكورون من تحت الأهرام يوم الأربعاء مستهل صفر، ودخلوا القاهرة وتوجهوا منها عائدين إلى أبي سعيد، وهم مغمورون بصدقات السلطان، ثم إن السلطان دخل إلى القلعة يوم الأحد ثاني عشر صفر، وكانت غيبته نحو خمسة وثلاثين يوماً، ثم خرجنا إلى سرياقوس يوم الخميس سلخ صفر، وفي يوم الجمعة غد النهار المذكور، خلع علي وعلى ابني محمد تشاريف حسنة فوق العادة، وكذلك أوصلنا بالحوائص الذهب المجوهرة، وبالقماش الفاخر مما يعمل للخاص الشريف بدار الطراز بالإسكندرية، ووصلني من الصناقر والصقور والشواهين عدة كثير، ثم وصلني بعد ذلك كله بثلاثة آلاف دينار مصرية، ورسم لي بالدستور والعود إلى بلادي، فودعته عند بحر ابن منجا يوم السبت ثاني ربيع الأول، وسرت حتى دخلت حماة يوم الجمعة بعد الصلاة، ثاني وعشرين ربيع الأول من هذه السنة، الموافق الخامس شباط.
وفيها قبل دخولي حماة توفيت والدتي رحمها الله تعالى، يوم الخميس حادي وعشرين ربيع الأول، ورابع شباط، وكنت إذ ذاك قريب حمص، فلم يقدر الله لي أن أراها ولا حضرت وفاتها، وكانت من العبادة على قدم كبير.

وفيها بعد وصولي إلى حماة بمدة يسيرة أرسلت وطلبت من السلطان دستوراً لزيارة القدس الشريف، فرسم لي بالتوجه إليه، فخرجت من حماة يوم الثلاثاء سلخ جمادى الأولى الموافق لثاني عشر نيسان، وتوجهت على بلد بارين إلى بعلبك إلى كرك نوح، وانحدرت منها إلى الساحل، ونزلت ببيروت وسرت منها إلى صيدا وصور ثم إلى عكا ثم إلى القدس، وسرت إلى الخليل صلوات الله عليه، ثم عدت إلى حماة ودخلتها يوم السبت خامس وعشرين جمادى الآخرة.
وفيها بعد وصولي من القدس وصلني من صدقات السلطان على العادة في كل سنة، من الحصن البرقية اثنان بالعدة الكاملة، لي ولابني، صحبة علاء الدين أيدغدي أمير أخور، وركبناهما بالعسكر على العادة يوم ثاني عشر رجب من هذه السنة. وفيها أرسلت التقدمة من الخيل وغيرها على عادتي في ذلك كل سنة، صحبة لاجين، وكان خروجه بها من حماة يوم السبت ثاني شعبان.
وفيها عبر على حماة سيف الدين أروج رسولاً من السلطان، وتوجه إلى أبي سعيد، وكان ذلك في أواخر ربيع الأول، ثم عاد بعد أن أدى الرسالة وعبر على حماة في سادس عشر شعبان من هذه السنة، متوجهاً إلى الأبواب الشريفة.
ذكر أخبار تمرتاش بن جوبانكان تمرتاش المذكور في حياة أبيه جوبان قد صار صاحب بلاد الروم، واستولى على جميع بلادها من قونية إلى قيسارية وغيرهما من البلاد المذكورة، فلما انقهر أبوه وهرب كما ذكرناه، ضاقت بتمرتاش المذكور الأرض، ففارق بلاده وسار في جمع يسير نحو مائتي فارس أو أقل أو أكثر إلى الشام، ثم سار منها إلى مصر إلى صدقات السطان، وكانت نفس المذكور كبيرة جداً بسبب كبر أصله في مغل وكبر منصبه، ولم يكن له عقل يرشده إلى أن يجعل نفسه حيث جعله الله تعالى، ووصل المذكور إلى صدقات السلطان بالديار المصرية في العشر الأول من ربيع الأول، فتصدق عليه السلطان وانعم عليه الإنعامات الجليلة، وأعرض عليه إمرية كبيرة وإقطاعاً جليلاً، فأبى أن يقبل ذلك، وأن يسلك ما ينبغي، واتفق أن الصلح قد انتظم بين السلطان وبين أبي سعيد، وكان أبو سعيد يكاتب ويطلب تمرتاش المذكور بحكم الصلح وما استقر عليه القواعد، فرأى السلطان من المصلحة إمساك تمرتاش المذكور، وانضم إلى ذلك ما بلغ السلطان عنده أنه أخذ أموال أهل بلاد الروم وظلمهم الظلم الفاحش، فأمسكه السلطان واعتقله في أواخر شعبان من هذه السنة، ثم حضر أباجي رسول أبي سعيد، فبالغ في طلب تمرتاش المذكور، فاقتضت المصلحة إعدامه، فأعدم تمرتاش المذكور في رابع شوال من هذه السنة بحضرة أباجي رسول أبي سعيد.
وفيها وصل أباجي رسول أبي سعيد وعبر على حماة في أواخر شعبان، وصحبته أرلان قرائب والدة السلطان وتوجه إلى الأبواب الشريفة بسبب تمرتاش، وكان من أمره ما شرح، وعاد أباجي رسول المذكور من الأبواب الشريفة، وعبر على حماة في التاسع عشر من شوال وتوجه إلى جهة أبي سعيد.
وفيها يوم الأحد تاسع عشر ذي القعدة توفي مملوكي أسنبغا، وكان قد بقي من أكبر أمراء عسكر حماة رحمه الله.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وسبعمائة وكانت غرة المحرم من هذه السنة، يوم الجمعة رابع تشرين الثاني، ولم يبلغني في أوائلها ما يليق أن يؤرخ والله أعلم.
ذكر أخبار الصبي صاحب سيسفي هذه السنة اشتد الصبي صاحب سيس، وهو ليفون بن أوشين، وكان الحاكم عليه صاحب الكرك - بكافين الأولى مفتوحة وبينهما راء مهملة ساكنة - وهي قليعة قريب البحر، في أطراف بلد سيس من جهة الغرب والشمال، وهي تتاخم بلاد ابن قرمان، وكان صاحب الكرك المذكور قد استولى على مملكة صاحب سيس، بحكم صغر الصبي المذكور، فلما كانت هذه السنة قوي الصبي وقتل صاحب الكرك وأخاه بعده، وأرسل رأس صاحب الكرك إلى السلطان فأرسل السلطان تشريفاً وسيفاً وفرساً بسرجه ولجامه، مع الأمير شهاب الدين أحمد المهمندار بالأبواب الشريفة، فتوجه شهاب الدين بذلك إلى الصبي صاحب سيس فلبى صاحب سيس الخلعة، وشذ السيف وقبل الأرض، وركب الفرس المتصدق به عليه، وقويت نفسه بذلك، وأوصل شهاب الدين المهمندار المذكور أنعاماً كثيراً وعماد شهاب الدين إلى الأبواب الشريفة، وعبر على حماة متوجهاً إلى الأبواب الشريفة يوم الخميس، ثاني عشر جمادى الآخرة.

وفي هذه السنة وصلني من صدقات السلطان من الحصن البرقية اثنان بالعدة الكاملة صحبة، علاء الدين أيدغي أمير أخور، لي ولابني محمد، وركبنا الموكب بهما نهار الاثنين، سابع رجب، وفي هذه السنة أرسل السلطان إلى المقر السيفي أرغون النائب بحلب، وأمره بالحضور إلى الأبواب الشريفة، فسار المذكور من حلب وتوجه إلى الديار المصرية، وحضر بين يدي السلطان وشمله بأنواع الصدقات والتشاريف، وبقي مقيماً في الخدمة الشريفة نحو نصف شهر، وما يزيد على ذلك، ثم أمره بالعود إلى النيابة بالمملكة الحلبية، فعاد إليها وعبر على حماة يوم الخميس حادي عشر رجب، وكنت قد خرجت إلى تلقيه، ولقيته بين حمص والرستن وبت عنده يوم الخميس بالرستن، ودخل حماة يوم الجمعة، وصلى وسافر إلى حلب. وفي هذه السنة في الليلة المسفرة عن نهار الاثنين الثالث والعشرين من رجب وتاسع عشر أيار ولد لولدي محمد ولداً ذكراً وكان ذلك وقت المسبح من الليلة المذكورة، وسميته عمر بن محمد.
وفي هذه السنة كان قد توجه على الرحبة رسول أبي سعيد، وهو رسول كبير يسمى تمر بغا، وحضر بين يدي السلطان وكان حضوره بسبب أن أبا سعيد سأل الاتصال بالسلطان وأن يشرفه السلطان بأن يزوجه ببعض بناته، ووصل مع الرسول المذكور ذهب كثيراً لعمل مأكول وغيره، يوم العقد، فأجابه السلطان بجواب حسن، وإن اللاتي عنده صغار، ومتى كبرن يحصل المقصود وعاد تمر بغا الرسول بذلك، وعبر على حماة يوم الجمعة عاشر شعبان من هذه السنة.
وفيها توفي بدمشق قاضي قضاتها وهو علاء الدين القزويني، وكان فاضلاً في العلوم العقلية والنقلية، وعلم التصوف، وله مصنفات مفيدة رحمه الله تعالى. ثم دخلت سنة ثلاثين وسبعمائة.
فيها في المحرم، توفي القاضي علاء الدين علي بن الأثير، كان كاتب السر بمصر، ثم فلج وانقطع فولى مكانه القاضي محي الدين بن فضل الله وفيه مات الشيخ فتح الدين بن قرناص الحموي ولي نظر جامع حماه وله نظم. وفيه قدم قاضي القضاة علم الدين محمد بن أبي بكر الأخنائي، صحبة نائب الشام، عوضاً عن القونوي.
وفيه توفي الوزير الزاهد العالم أبو القاسم محمد بن الوزير الأزدي الغرناطي بالقاهرة، قافلاً من الحج، بلغ من الجاه ببلده إلى أنه كان يولي في الملك ويعزل، وكان ورعاً شريف النفس عاقلاً، أوصى أن تبع ثيابه وكتبه ويتصدق بها.
وفيها في صفر، مات بدمشق سيف الدين بهادر المنصوري بداره، وشيعه النائب والأعيان.
وفيه مات مسند العصر، شهاب الدين أحمد بن أبي طالب الصالحي الحجازي ابن شحنة الصالحية، توفي بعد السماع عليه بنحو من ساعتين، كان ذا دين وهمة وعقل، وإليه المنتهى في الثبات وعدم النعاس، وحصلت له للرواية خلع ودراهم وذهب وإكرام، وشيعه الخلق والقضاة ونزل الناس بموته درجة.
وفيه توفي قاضي القضاة فخر الدين عثمان بن كمال الدين محمد بن البارزي الحموي الجهني، قاضي حلب، فجأة بعد أن توضأ وجلس بمجلس الحكم ينتظر إقامة العصر، حج غير مرة، وكان يعرف الحاوي في الفقه. وشرحه في ست مجلدات، وكان يعرف الحاجبية والتصريف، وكان فيه دين وصداقة رحمه الله تعالى.
وفيها في ربيع الآخر، تولى قضاء القضاة بحلب، القاضي شمس الدين محمد بن النقيب، نقل من طرابلس وولي طرابلس كعده شمس الدين محمد بن المجد عيسى البعلي، سار من دمشق إليها.
وفيها في جمادى الأولى، أنشأ الأمير سيف الدين مغلطاي الناصري مدرسة حنفية بالقاهرة ومكتب أيتام. وفيها في جمادى الآخرة مات الأمير العالم سيف الدين أبو بكر محمد بن صلاح الدين بن صاحب الكرك بالجبل، وكان فاضلاً شاعراً.
وفيه وصل الخبر بعافية السلطان من كسر يده، فزينت دمشق وخلع على الأمراء والأطباء.
وفيه مات بمكة قاضيها الإمام نجم الدين أبو حامد. وفيه مات الشيخ إبراهيم الهدمة، وله كرامات وشهرة.
وفيه حضرت رسل الفرنج يطلبون بعض البلاد، فقال السلطان ألولا أن الرسل لا يقتلون لضربت أعناقكم، ثم سفروا.
وفيها في رجب ماتت زوجة تنكز، وعمل لها تربة حسنة قرب باب الخواصين، ورباط.
وفيها في رمضان مات قاضي طرابلس شمس الدين محمد بن مجد الدين عيسى الشافعي البعلي وكان صاحب فنون قلت:
لقد عاش دهراً يخدم العلم جهده ... وكان قليل المثل في العلم والود

فلما تولى الحكم ما عاش طائلاً ... فما هنئ ابن المجد والله بالمجد
وفيه أنشأ الأمير سيف الدين قوصون الناصري جامعاً عند جامع طولون، عند دار قتال السابع، فخطب به أول يوم قاضي القضاة جلال الدين بحضور السلطان وقرر لخطابته القاضي فخر الدين محمد بن شكر.
وفيها في شوال مات رئيس الكحالين نور الدين علي بمصر.
وفيها احترقت الكنيسة المعلقة بمصر، وبقيت كوماً.
وفيها قدم رسول صاحب اليمن بهدية، فقيد وسجن، لأن صاحب الهند بعث إلى السلطان بهدايا فأخذها صاحب اليمن، وقتل بعض من كان معها وحبس بعضهم.
وفيها في ذي القعدة مات الأمير علاء الدين قلبرس ابن الأمير علاء الدين طبرس بدمشق بالسهم، وكان مقدم ألف، وله معروف، وخلف أموالاً. ومات الأمير جف الدين كوليجار المحمدي.
وفيها بدمشق في ذي الحجة، مات المعمر المسند زين الدين أيوب بن نعمة، وكانت لحيته شعرات يسيرة وكان كحالاً. ومات بها أيضاً الصالح الزاهد الشيخ حسن المؤذن بالمأذنة الشرقية بالجامع، وكان مجاوراً به. ومات بدر الدين محمد بن الموفق إبراهيم بن داود بن العطار، أخو الشيخ علاء الدين، ببستانه، وصلاح الدين يوسف بن شيخ السلامية صهر الصاحب، وشيعه الخلق وفجع به أبواه وكان شاباً متميزاً من أبناء الدنيا المتنعمين.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة.
فيها وردت كتب الحجاج بما جرى بمكة، شرفها الله تعالى، حول البيت من ثورة عبيد مكة، ساعة الجمعة بالوفد، من النهب والجراحة وقتل جماعة من الحجاج، وقتل أمير مصري، وهو أيدمر أمير جندار وابنه، ولما بلغ السلطان ذلك غضب، وجرد جيشاً من مصر والشام للانتقام من فاعل ذلك.
وفيها في المحرم أيضاً مات الأمير الكبير شهاب الدين طغان بن مقدم الجيوش سنقر الأشقر، ودفن بالقرافة، جاوز الستين، وكان حسن الشكل ومات الصالح كمال الدين محمد ابن الشيخ تاج الدين القسطلاني بمصر، سمع ابن الدهان وابن علاق والنجيب، وحدث وكان صوفياً.
وفيها في صفر، مات قاضي القضاة عز الدين محمد ابن قاضي القضاة عز الدين سليمان بن حمزة الحنبلي، بدمشق بالدير، ومولده في ربيع الآخر سنة خمس وستين، سمع من الشيخ وابن النجاري وأبي بكر الهروي وطائفة، وأجاز له ابن عبد الدائم، وكان عاقلاً، ولي القضاء بعد ابن مسلم، وحج ثلاث مرات.
وماتت أم الحسن فاطمة بنت الشيخ علم الدين البرزالي، سمعت الكثير، من خلق، وحدثت وكتبت ربعة وأحكام ابن تيمية والصحيح، وحجت، وكانت تجتهد يوم الحمام أن لا تدخل حتى تصلي الظهر، وتحرص في الخروج لإدراك العصر، رحمها الله تعالى.
وفيها في صفر أيضاً وصل نهر الساجور إلى نهر قويق، وانصبا إلى حلب، بعد غرامة أموال عظيمة، وتعب من العسكر والرعايا. بتولية الأمير فخر الدين طمان.
وفيها في ربيع الأول مات بحلب الأمير سيف الدين أرغون الناصري نائبها، وخرجت جنازته بلا تابوت، وعلى النعش كساء بالفقيري. من غير ندب ولا نياحة، ولا قطع شعر، ولا لبس جل، ولا تحويل سرج، حسبما أوصى به، ودفن بسوق الخيل تحت القلعة، وعملت عليه تربة حسنة، ولم يجعل على قبره سقف ولا حجرة بل التراب لا غير، وكان متقناً لحفظ القران، مواظباً على التلاوة عنده فقه وعلم، ويرد أحكام الناس إلى الشرع الشريف، حتى كان بعض الجهال ينكر عليه ذلك، وكتب صحيح البخاري بخطه بعد ما سمعه من الحجاز، واقتنى كتباً نفيسة، وكان عاقلاً وفيه ديانة رحمه الله.
وفيها في صفر أيضاً ولي قضاء الحنابلة بدمشق الشيخ شرف الدين ابن الحافظ، واستناب ابن أخيه القاضي تقي الدين عبد الله بن أحمد، ومات القاضي الفقيه الأديب ضياء الدين علي بن سليم بن ربيعة الأذرعي الشافعي بالرملة، ناب عن القاضي عز الدين بن الصائغ، وناب بدمشق عن القونوي، نظم التنبيه في الفقه في ستة عشر ألف بيت وشعره كثير.
مات الرئيس زين الدين يوسف بن محمد بن النصبي بحلب، سمع من شيخ الشيوخ عز الدين، مسند العشرة، وحدث، قارب الثمانين وفيها في ربيع الآخر مات الأمير سيف الدين طرشي الناصري بمصر، أمير مائة، حج غير مرة، وفيه ديانة.
ومات الشيخ علاء الدين ابن صاحب الجزيرة، الملك المجاهد إسحاق ابن صاحب الموصل لؤلؤ بمصر، سمع جزء ابن عرفة من النجيب، والجمعة من ابن علاق، وكان جندياً له ميرة.

ومات بحلب نور الدين حسن ابن الشيخ المقري جمال الدين الفاضلي، روى عن زينب بنت مكي وكان كاتباً بحلب.
ومات الأمير علم الدين سنجر البرواني بمصر فجأة، وكان أمير خمسين من الشجعان.
ومات الصالح المسند شرف الدين أحمد بن عبد المحسن بن الرفعة العدوي، سمع وحدث.
ومات ليلة الجمعة تاسع وعشرين ربيع الآخر بدر الدين محمد بن ناهض إمام الفردوس بحلب، سمع عوالي الغيلانيات الكبير، على القطب ابن عصرون، وحدث وله نظم.
ومات رئيس المؤذنين بجامع الحاكم نجم الدين أيوب بن علي الصوفي، وكان بارعاً في فنه، له، أوضاع عجيبة وآلات غريبة.
وفيها في جمادى الأولى، عاد الأمير علاء الدكن التنبغا إلى نيابة حلب، وفرح الناس وأظهروا السرور.
وفيها حضر بمكة الأمير رميثة بن أبي نمي الحسني وقريء تقليده ولبس الخلعة بولاية مكة، وحلف مقدم العسكر الذين وصلوا إليه والأمراء له بالكعبة الشريفة، وكان كوما مشهوداً وكان وصول الجيش إلى مكة في سابع عشر ربيع الآخر.
وفيه مات الإمام الورع موفق الدين أبو الفتح الجعفري المالكي، وشيعه خلق إلى القرافة، وقارب السبعين، ولم يحدث.
ومات العدل السر برهان الدين إبراهيم بن عبد الكريم العنبري، باشر الصدقات والأيتام والمساجد وهو خال ابن الزملكاني.
ومات القاضي تاج الدين بن النظام المالكي بالقاهرة ومات أبو دبوس المغربي بمصر، قيل إنه ولي مملكة قابس، ثم أخذت منه فترح؛ فأعطي إقطاعاً في الحلقة.
وفيها في جمادى الآخرة، مات القاضي التاج أبو إسحاق عبد الوهاب بن عبد الكريم وكيل السلطان، وناظر الخواص بمصر.
وفيه وصل إلى دمشق العسكر المجرد إلى مكة، ومقدمهم الجي بغا، غابوا خمسة أشهر سوى أربعة أيام، وأقاموا بمكة شهراً ويوماً، وحصل بهم الرعب، في قلوب العرب، وهرب من بين أيديهم عطيفة والأشراف بأهلهم، وثقلهم، وعوض عن عطيفة بأخيه رميثة، وقهر مكانه.
ومات الأمير حسام الدين طرنطاي العادلي الدوانداري بمصر، وكان ديناً وله سماع.
ومات المجد بن اللغينة ناظر الدواوين بالقاهرة. ومات الرئيس تاج الدين بن الدماملي، كبير الكرامية بمصر، قيل ترك مائة ألف دينار.
- ووصل الحاج عمر بن جامع السلامي إلى دمشق من إصلاح عين تبوك، جمع لها من التجار دون عشرين ألفا وأحكمت.
وفيها في رجب مات بمصر العلامة فخر الدين عثمان لن إبراهيم التركماني، سمع من الأبرقوهي، وشرح الجامع الكبير، وألقاه في المنصورية دروساً، وكان حسن الأخلاق فصيحاً، ودرس بها بعده ابنه.
ومات بمصر القاضي جمال الدين بن عمر البوزنجي المالكي معيد المنصورية.
وفيها في شعبان كان بدمشق ريح عاصفة حطمت الأشجار ثم وقع في تاسعه برد عظيم قدر البندق.
وفيه جاء من الكرك، الملك أحمد ابن مولانا السلطان الملك الناصر، وختن بعد ذلك بأيام، وأنفذ إلى الكرك أخ له اسمه إبراهيم.
ومات سيف الدين كشتمر الطباخي الناصري بمصر، كهلاً، تفقه لأبي حنيفة، وكان ديناً، وأحدثت بالمدرسة المعزية على شاطئ النيل الخطبة، وخطب عز الدين عبد الرحيم ابن الفرات حين رتب ذلك، سيف الدين طقز دمر، أمير الجيش.
وفيها في رمضان قدم دمشق العلامة تاج الدين عمر بن علي اللخمي بن الفاكهاني المالكي، من الإسكندرية لزيارة القدس، والحج، فحدث ببعض تصانيفه، وسمع الشفاء وجامع الترمذي من ابن طرخان، وصنف جزءاً في أن عمل المولد في ربيع الأول بدعة. وفيها في ذي القعدة مات الصاحب تقي الدين بن السلعوس بالقاهرة فجأة، حج وسمع من القارون.
ومات القاضي جمال الدين أحمد بن محمد القانسي التميمي، درس بالأمينية والظاهرية، وعمل الإنشاء بدمشق.
وفيها في ذي الحجة مات الأمير نجم الدين البطاحي، ولى أستاذ دارية السلطنة، ومات أمين الدين بن البص، أنفق أموالاً في بناء خان المزيرب، وفي بناء مسجد الذباب، والمأذنة، قيل أنفق في وجوه البر مائتي ألف وخمسين ألفا.
ومات بدمشق الأمير ركن الدين عمر بن بهادر، وكان مليح الشكل، وجاء التقليد بمناصب جمال الدين ابن القلانسي لأخيه.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.

في المحرم منها، توفي الشيخ الكبير العابد المقري، أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي محمد بن سلطان القرامزي الحنبلي، بجوبر ودفن بتربة له جوار قبة القلندرية بدمشق، وكان مشهوراً بالمشيخة، يتردد إليه الناس، سمع من ابن أبي يسر، وابن عساكر، وحدث بدمشق ومصر، وقرأ بالروايات على الشيخ حسن صقلي.
ومات الأمير الكبير علم الدين الدميثري، ولي نيابة قلعة دمشق مدة. وحصل بحمص سيل عظيم هلك به خلائق، ومات بحمام تنكز بها نحو مائتي، امرأة وصغير وصغيرة، وجماعة رجال دخلوا ليخلصوا النساء، وهلك بعض متفرجين بالجزيرة، وانهدمت دار المستوفي، وهلك ابنه، وصاروا يخرجون الموتى من بواليع الحمام والقمين، وكان بالحمام عروس، فلهذا أكثر النساء الحمام.
ومات بمصر الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، وزر ببصر، وحج بالمصريين.
ومات السلطان الملك المؤيد إسماعيل ابن الملك الأفضل علي، صاحب حماة، مؤلف هذا التاريخ وله تصانيف حسنة مشهورة، منها أصل هذا الكتاب ونظيم الحاوي، وشرحه شيخنا قاضي القضاة شرف الدين ابن البارزي شرحاً حسناً، وله كتاب تقويم البلدان، وهو حسن في بابه، تسلطن بحماة في أول سنة عشرين بعد نيابتها، رحمه الله تعالى، وكان سخياً محباً للعلم والعلماء، متقناً يعرف علوماً، ولقد رأيت جماعة من ذوى الفضل يزعمون أنه ليس في الملوك بعد المأمون أفضل منه، رحمه الله تعالى.
وفيها في صفر مات قاضي الجزيرة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن نصر الشافعي، وكان له تعلق بالدولة، ومكاتبة من بلده، ثم تحول إلى دمشق.
وفيه أتملك حماة السلطان الملك الأفضل ناصر الدين محمد ابن الملك المؤيد على قاعدة أبيه، وهو ابن عشرين سنة.
وفيها في ربيع الأول مات بالقاهرة القاضي الإمام المحدث، تاج الدين أبو القاسم عبد الغفار بن محمد بن عبد الكافي بن عوض السعدي سعد خدام الشافعي، ولد سنة خمسين تفقه وقرأ النحو على الأمين المحلي، وسمع من ابن عزون، وابن علان، وجماعة وارتحل فلقى بالثغر عثمان ابن عوف، وعمل معجمه في ثلاث مجلدات، وأجاز له ابن عبد الدائم، وروى الكثير، وخرج أربعين تساعيات، وأربعين مسلسلات، وكان حسن الخط والضبط، متقناً، ولي مشيخة الحديث بالصاحبية، وأفتى، وذكر أنه كتب بخطه أزيد من خمسمائة مجلد.
ومات بدمشق العلامة رضى الدين إبراهيم بن سليمان الرومي الحنفي، المعروف المنطقي، بدمشق بالنورية، وكان ديناً متواضعاً محسناً إلى تلامذته، حج سبع مرات.
ومات الأمير علاء الدين طنبغا السلحدار، عمل نيابة حمص، ثم نيابة غزة وبها مات، وحج بالشاميين سنة إحدى عشرة وسبعمائة نيابة.
ومات بمكة خطيبها الإمام بهاء الدين محمد ابن الخطيب تقي الدين عبد الله ابن الشيخ المحب الطبري، له نظم ونثر وخطب، وفيه كرم ومروءة وفصاحة، وخطب بعده أخوه التاج علي.
وفيها في ربيع الآخر، ركب بشعار السلطنة، الملك الأفضل الحموي بالقاهرة، وبين يديه الغاشية، ونشرت العصائب السلطانية والخليفية على رأسه، وبين يديه الحجاب، وجماعة من الأمراء، وفرسه بالرقبة وبالشبابة، وصعد القلعة هكذا.
وفيها في جمادى الأولى، مات قاضي القضاة بدمشق، شرف الدين أبو محمد عبد الله ابن الإمام شرف الدين حسن ابن الحافظ أبي موسى ابن الحافظ الكبير عبد الغني المقدسي الحنبلي فجأة، كان شيخاً مباركاً.
ومات فخر الدين علي بن سليمان بن طالب بن كثيرات بدمشق.
ومات بالإسكندرية الصالح، القدوة، الشيخ ياقوت الحبشي الإسكندري الشاذلي، وكانت جنازته مشهورة، وقد جاوز الثمانين، كان من أصحاب أبي العباس المرسي.
وفيها في رجب مات الإمام الصالح. عز الدين عبد الرحمن ابن الشيخ العز إبراهيم بن عبد الله ابن أبي عمر المقدسي الحنبلي، سمع أباه وابن عبد الدائم وجماعة، وكان خيراً بشوشاً، رأساً في الفرائض.
ومات بدمشق الناصح محمد بن عبد الرحيم بن قاسم الدمشقي النقيب الجنائزي، وكان خبيراً بألقاب الناس، يحصل الدراهم والخلع، ويتقيه الناس، عفا الله عنه.
ومات بمصر فخر الدين بن محمد بن فضل الله، كاتب المماليك ناظر الجيوش المصرية كان له بر، وعدمه الناس، وعرفوا قدره بوفاته، فإنه كان يشير على السلطان بالخيرات، ويرد عن الناس أموراً معظمات قلت:
وكم أمور حدثت بعده ... حتى بكت حزناً عليه الرتوت

لو لم يمت ما عرفوا قدره ... ما يعرف الإنسان حتى يموت
سمع من ابن الأبرقوهي واحتيط على حواصله.
ومات شيخ القراء شهاب الدين أحمد بن محمد بن يحيى بن أبي الحزم، سبط السلعوس النابلسي، ثم الدمشقي، بستانه ببيت لهيا وكان ساكناً وقوراً.
ومات بمصر الأمير سيف الدين أبجية الدواتدار، الناصري، الفقيه الحنفي، كهلاً وولي المنصب بعده الأمير صلاح الدين يوسف بن الأسعد، ثم عزل بعد مدة.
وفيها في شعبان، كان عرس الملك محمد ابن السلطان على زوجته بنت بكتمر الساقي، وسوارها ألف ألف دينار مصرية، وذبح خيل وجمال وبقر وغنم وإوز ودجاج، فوق عشرين ألف رأس، وحمل له ألف قنطار شمع، وعقد له ثمانية عشر ألف قنطار حلوى سكرية، وأنفق على هذا العرس أشياء لا تحصى.
ومات بالقاهرة، جمال الدين محمد بن بدر الدين محمد بن جمال الدين محمد بن مالك الطائي الجياني، بلغ الخمسين، وسمع من ابن النجاري جزءاً، خرجه له عمه، وله نظم جيد، ولم يحدث.
ومات الأمير سيف الدين ساطي، صهر سلار، من العقلاء، وفيه ديانة، وله حرمة وافرة.
ومات بدمشق أمين الدين سليمان بن داود، الطبيب، تلميذ العماد الدنيسري، كان سعيداً في علاجه، وحصل أموالاً، قلت:
مات سليمان الطبيب الذي ... أعده الناس لسوء المزاج
لم يفده طب ولم يغنه ... علم ولم ينفعه حسن العلاج
كان مقدماً على المداواة، ودرس بالدخوارية مدة، وعاش نحو سبعين سنة.
وفيه طغى ماء الفرات وارتفع ووصل إلى الرحبة، وتلفت زروع، وانكسر السكر بدير بسير، كسراً ذرعه اثنان وسبعون ذراعاً، وحصل تألم عظيم، وعملوا السكر فلما قارب الفراغ انكسر منه جانب، وغلت الأسعار بهذا السبب، وتعب الناس بصعوبة هذا العمل.
وفيها في رمضان، أمر بدمشق، الأمير علي ابن نائب دمشق، سيف الدين تنكز، ولبس الخلعة عند قبر نور الدين الشهيد، المشهور بإجابة الدعاء عنده، ومشى الأمراء في خدمته إلى العتبة السلطانية فقبلها، وفيه نقل من دمشق إلى كتابة السر بالأبواب السلطانية القاضي شرف الدين أبو بكر بن محمد بن الشيخ شهاب الدين محمود، ونقل إلى دمشق القاضي محي الدين بن فضل الله ولده.
ومات بدمشق فجأة الأمير سيف الدين بلبان العنقاري الزراق، الساكن بالسبعة، وقد جاوز السبعين، من أمراء الأربعين.
ومات شيخ القراء ذو الفنون، برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري الشافعي، بالخليل، ومولده سنة أربعين وستمائة وتصانيفه كثيرة، اشتغل ببغداد، وقرأ التعجيز على مصنفه بالموصل، و أقام شيخاً أربعين سنة.
ومات بمصر الأمير سيف الدين سلامش الظاهري أمير خمسين، وقد قارب التسعين، وكان ديناً صالحاً. وفيها في شوال، توجه السلطان للحج بأهله ومعظم أمرائه، في حشمة عظيمة. ومات الإمام شهاب الدين أبو أحمد عبد الرحمن بن محمد بن عسكر المالكي، مدرس المستنصرية ببغداد، وله مصنفات في الفقه، وكان حسن الأخلاق، ولد في سنة أربع وأربعين بباب الأزج.
وفيها في ذي القعدة مات قاضي القضاة، علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السعدي المصري ابن الأحناني، بالعادلية بدمشق، ودفن بسفح قاسيون، كان من شهود الخزانة بمصر، ثم جعل حاكماً بالإسكندرية، ثم بدمشق، وكتب الحكم لابن دقيق العيد، ولازم الدمياطي مدة، وسمع من أبي بكر بن الأنماطي وجماعة، ومولده عاشر رجب، سنة أربع وستين، وكان عفيفاً فاضلاً عاقلاً نزهاً متديناً محباً للحديث والعلم شرح بعض كتاب البخاري.
وفيه وفي النيل، قبل النيروز بثلاثة وعشرين يوماً، وبلغ أحد عشر من تسعة عشر وهذا لم يعهد من ستين سنة، وغرق أماكن، وأتلف للناس من القصب ما يزيد على ألف ألف دينار، وثبت على البلاد أربعة أشهر.
وفيها في ذي الحجة، مات قطب الدين موسى بن أحمد بن حسان ابن شيخ اللامية، وكان ناظر الجيش الشامي، ومرة المصري، ودفن بتربة أنشأها بجنب جامع الأفرم، وعاش اثنتين وسبعين، ورثاه علاء الدين بن غانم.
ومات الشيخ الصالح المقرئ شمس الدين محمد بن النجم أبي تغلب بن أحمد بن أبي تغلب الفاروثي، ويعرف بالمربي، جاوز الثمانين، كان معلماً في صنعة الإقباع، ويقرئ صبيانه، ويتلو كثيراً، قرأ بالسبع على الكمال المحلي قديماً.

ومات العلامة الخطب جمال الدين يوسف بن محمد بن مظفر بن حماد الحموي الشافعي خطيب جامع حماة، كان عالماً ديناً سمع جزء الأنصاري من مؤمل البالسي، والمقداد القيسي، وحدث، واشتغل وأفتى، وكان على قدم من العبادة والإفادة، رحمه الله تعالى.
ومات العلامة شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن بن قاضي القضاة، الحافظ سعد الدين مسعود ابن أحمد الحارثي، بالقاهرة، تصدر للإقراء، وحج مرات، وجاور وسمع من العز الحراني وجماعة، وكان ذا تعبد وتصون وجلالة، قرأ النحو على ابن النحاس والأصول على ابن دقيق العيد، ومولده سنة إحدى وسبعين، وولي بعده تدريس المنصورية، قاضي القضاة، تقي الدين. ومات كبير أمراء سيف الدين، بكتمر الناصري الساقي، بعد قضاء حجه، وابنه الأمير أحمد أيضاً، وخلف ما لا يحصى كثرة، ماتا بعيون القصيب. بطريق مكة، ونقلا إلى تربتهما بالقرافة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة.
فيها في المحرم أطلق الصاحب شمس الدين غبريال. بعد مصادرة كثيرة.
ومات بدمشق نقيب الأشراف، شرف الدين عدنان الحسين ولي النقابة على الأشراف بعد موت أبيه، واستمر بها تسع عشرة سنة، وهم بيت تشيع.
وفيها في صفر، وصل الخبر بموت محدث بغداد، تقي الدين محمود بن علي بن محمود بن مقبل الدفوقي، كان يحضر مجلسه خلق كثير لفصاحته وحسن آدابه، وله نظم وولي مشيخة المستنصرية، وحدث عن الشيخ عبد الصمد وجماعة وكان يعظ، وحمل نعشه على الرؤوس، وما خلف درهماً.
وفيه قدم أمين الملك، عبد الله الصاحب، على نظر دمشق، وهو سبط السديد الشاعر.
ومات بدمشق، الشيخ كمال الدين عمر بن إلياس المراغي كان عالماً عابداً سمع منهاج البيضاوي من مصنفه.
وفيها في ربيع الأول ولي القضاء بدمشق، العلامة جمال الدين يوسف جملة، بعد الإخنائي.
وفيها في ربيع الآخر، توجه القاضي محي الدين بن فضل الله وابنه إلى الباب الشريف، وتحول إلى موضعه بدمشق، القاضي شرف الدين أبو بكر بن محمد ابن الشهاب محمود، وولي نقابة الأشراف بدمشق عماد الدين موسى بن عدنان.
وفي خامس عشر شعبان من سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، دخل الأمير بدر الدين لؤلؤ القندشي إلى حلب، شاداً على المملكة، وعلى يده تذاكر، وصادر المباشرين وغيرهم، ومنهم النقيب بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني، القاضي جمال الدين سليمان بن ريان ناظر الجيش، وناصر الدين محمد بن قرناص عامل الجيش، وعمه المحبي عبد القادر عامل المحلولات، والحاج إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي، والحاج علي بن السقاء، وغيرهم. واشتد به الخطب وانزعج الناس كلهم، حتى البريئون، وقنت الناس في الصلوات وقلت في ذلك:
قلبي لعمر الله معلول ... بما جرى للناس مع لولو
يا رب قد شرد عنا الكرا ... سيف على العالم مسلول
وما لهذا السيف من مغمد ... سواك يا من لطفه السول
كان هذا لؤلؤ مملوكاً لقندش ضامن المكوس بحلب، ثم ضمن هو بعد أستاذه المذكور، ثم صار ضامن العداد، ثم صار أمير عشرة، ثم أمير طبلخانات، ثم صار ما صار، ثم أنه عزل ونقل إلى مصر، وأراح الله أهل حلب منه، فعمل بمصر أقبح عمله بحلب، وتمكن وعاقب حتى نساء مخدرات، وصادر خلقاً.
وفيها في جمادى الأولى مات عز القضاة فخر الدين بن المنير المالكي، من العلماء ذوى النظم والنثر، وألف تفسيراً وأرجوزة في السبع.
ومات قاضي المجدل، بدر الدين محمد بن تاج الدين الجعبري.
ومات قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الكناني الحموي بمصر، له معرفة بفنون، وعدة مصنفات، حسن المجموع، كان ينطوي على دين وتعبد، وتصون وتصوف، وعقل ووقار، وجلالة وتواضع، درس بدمشق، ثم ولي قضاء القدس، ثم قضاء الديار المصرية، ثم قضاء الشام، ثم قضاء مصر، وولي مشيخة الحديث بالكاملية، ومشيخة الشيوخ، وحمدت سيرته ورزق القبول من الخاص والعام، وحج مرات وتنزه عن معلوم القضاء لغناه مدة، وقل سمعه في الآخر قليلاً فعزل نفسه، ومحاسنه كثيرة ومن شعره:
لم أطلب العلم للدنيا التي ابتغيت ... من المناصب أو للجاه والمال
لكن متابعة الأسلاف فيه كما ... كانوا فقدر ما قد كان عن حالي

وفيها في جمادى الآخرة، مات الرئيس تاج الدين طاولت بن نصير الدين ابن الوجيه بن سويد بدمشق، حدث عن عمر القواس، وعاشق خمسين سنة، وهو سبط الصاحب جمال الدين بن صصري، وكان فيه دين وبر، وله أموال.
ومات العلامة مفتي المسلمين شهاب بن أحمد بن جهبل الشافعي بدمشق، درس بالصلاحية، وولي مشيخة الظاهرية، ثم تدريس الباذرائية وله محاسن وفضائل.
ومات الأمير علم الدين طرقشي المشد بدمشق.
وفيها في رجب مات الشيخ الإمام القدوة تاج الدين بن محمود الفارقي بدمشق، وعاش ثلاثاً وثمانين سنة، وكان عابداً عاقلاً فقيهاً، عفيف النفس، كبير القدر، ملازماً للجامع، عالج الصرف مدة، ثم ترك وأتجر في البضائع، وحدث عن عمر بن القواس وغيره.
ومات صاحبنا الأمير شهاب الدين أحمد بن بدر الدين حسن بن المرواني نائب بعلبك، ثم والي البر بدمشق، وكان فيه دين كثير التلاوة محباً للفضل والفضلاء، ولي ولده النيابة بقصير أنطاكية طويلاً وبها مات.
وفيها في شعبان مات الخطيب بالجامع الأزهر، علاء الدين بن عبد المحسن ابن قاضي العسكر، المدرس بالظاهرية والأشرفية، بالديار المصرية. وفيه دخل القاضي تاج الدين محمد ابن الزين حلب، متولياً كتابة السر، ولبس الخلعة وباشر وأبان عن تعفف عن هدايا الناس.
وفيها في رمضان، مات بدمشق الأمير علاء الدين أوران الحاجب، وكان ينطوي على ظلم من أولاد الأكراد.
ومات بحماة زين الدين عبد الرحمن بن علي بن إسماعيل بن البارزي المعروف بابن الولي، كان وكيل بيت المال بها، وبنى بها جامعاً، وكانت له مكانة ومروءة ومنزلة عند صاحب حماة.
ومات مسند الشام المعمر تاج الدين أبو العباس أحمد بن المحدث تقي الدين إدريس كان فيه خير وديانة.
ومات بحماة شيخ الشيوخ فخر الدين عبد الله بن التاج، كان صواماً عابداً، ذا سكينة، سمع من والده.
ومات الإمام المؤرخ شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب الشافعي بالقاهرة، وله تاريخ في ثلاثين مجلداً، كان ينسخ في اليوم ثلاثة كراريس، وفضيلته تامة، عاش خمسين سنة.
ومات الإمام جمال الدين حسين بن محمود الربعي البالسي بالقاهرة، قرأ بالروايات، وكان شيخ القراء، وله وظائف كثيرة، أمّ بالشجاعي، ثم أمّ بالسلطان نيفاً وثلاثين سنة، وكان عالماً كثير التهجد.
وفيها في ذي القعدة، أخذ حاجب العرب بدمشق، علي بن مقلد، فضرب وحبس، وأخذ ماله وقطع لسانه، وعزل ناصر الدين الدواتدار، وضرب وصودر، وأخذ منه مال جزيل، وأبعد إلى القدس، ثم قطع لسان ابن مقلد مرة ثانية، فمات آخر اليوم. قلت:
أوصيك فإن قبلت مني ... أفلحت ونلت ما تحب
لا تدن من الملوك يوماً ... فالبعد من الملوك قرب
ومات بحلب أمين الدين عبد الرحمن الفقيه الشافعي المواقيتي، سبط الأبهري، وكان له يد طولى في الرياضة، والوقت والعمليات، ومشاركة في فنون، وكان عنده لعب، فنفق عند الملك المؤيد بحماة، وتقدم، ثم بعده تأخر وتحول إلى حلب، ومات بها.
قلت وأهل حماة يطعنون في عقيدته. ويعجبني بيتان، الثاني منهما مضمن لا لكونهما فيه، فإن سريرته عند الله، بل لحسن صناعتهما وهما:
إلى حلب خذ عن حماة رسالة ... أراك قبلت الأبهري المنجما
فقولي له ارحل لا تقيمن عندنا وإلا فكن في السر والجهر مسلما ومات الزاهد الولي أبو الحسن الواسطي العابد محرماً ببدر، قيل إنه حج وله ثمان عشرة سنة، ثم لازم الحج وجاور مرات وكان عظيم القدر، منقبضاً عن الناس. وفيها في ذي الحجة مات الأمير الكبير مغلطاي كان مقدم ألف بدمشق، وماتت الشيخة المسندة الجليلة أم محمد أسماء بنت محمد بن صصري، أخت قاضي القضاة، نجم الدين، سمعت وحدثت وكانت مباركة، كثيرة البر، وججت مرات، وكانت تتلو في المصحف وتتعبد قلت:
كذلك فلتكن أخت ابن صصرى ... تفوق على النساء صبي وشيبا
طراز القوم أنثى مثل هذي ... وما التأنيث لاسم الشمس عيبا
ومات أيضاً بد مشق، عز الدين إبراهيم بن القواس بالعقيبة، ووقف داره مدرسة، وأمسك حاجب مصر سيف الدين إلماس، وأخوه قره تمر، ووجد لهما مال عظيم. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وسبعمائة.

في أول المحرم منها، أفرج عن الأمير بدر الدين القرماني، والأمير سيف الدين إسلام، وأخيه وخلع عليهم، وتوفي بالقدس خطيبه وقاضيه، الشيخ عماد الدين عمر النابلسي.
وفيها في صفر، مات قاضي القضاة جمال الدين أبو الربيع سليمان الأذرعي الشافعي، ويكنى أبا داود، أيضاً بالسكتة، ولي القضاء بمصر، ثم بالشام مدة، وكان عليه سكينة ووقار.
وأحضر ناصر الدين الدواتدار إلى مخدومه سيف الدين تنز، فضرب وأهين، وكمل عليه مال يقوم به.
وحصلت صقعة أتلفت الكروم والخضراوات بغوطة دمشق، ومات الأمير سيف الدين صلعنة الناصري، وكان ديناً يبدأ الناس بالسلام في الطرقات.
ومات بطرابلس نائبها الأمير رحمه الله تعالى.
ومات بحماه قاضي القضاة، نجم الدين أبو القاسم عمر بن الصاحب كمال الدين العقيلي الحنفي، المعروف بابن العديم، وكان له فنون وأدب، وخط وشعر، ومروءة غزيرة وعصبية، لم تحفظ عليه أنه شتم أحداً مدة ولايته، ولا خيب قاصده. قلت:
قد كان نجم الدين شمساً أشرقت ... بحماة للداني بها والقاضي
عدمت ضياء ابن العديم فأنشدت ... مات المطيع فيا هلاك العاصي
وفيها في ربيع الأول، توفي الأمير سيف الدين طرنا الناصري، أمير مائة، مقدم ألف، بدمشق.
ومات جمال الدين فرج بن شمس الدين قره سنقر المنصوري.
ورسم تنكز نائب السلطنة بعمارة باب توما وإصلاحه، فغمر عمارة حسنة ورفع نحو عشرة أذرع، ووسع وجدد بابه.
وفيها في ربيع الآخر، وصل جمال الدين أقوش نائب الكرك إلى طرابلس نائباً بها، عوضا عن قرطاي. رحمه الله تعالى، ووصل سيل إلى ظاهر دمشق، وهدم بعض المساكن، وخاف الناس منه، ثم نقص في يومه، ولطف الله تعالى.
وتوفيت أم الخير خديجة، المدعوة ضوء الصباح، وكانت تكتب بخطها في الإجازات ودفنت بالقرافة.
وفيها في جمادى الأولى، توفي الفاضل بدر الدين محمد بن شرف الدين أبي بكر الحموي المعروف بابن السمين، بحماة، وكان أبوه من فصحاء القراء رحمهما الله تعالى.
وفيها في جمادى الآخرة، توفي بحلب، شرف الدين أبو طالب عبد الرحمن ابن القاضي عماد الدين بن العجمي، سمع الشمائل على والده، وحدث وأقام مع والده بمكة في صباه، أربع سنين، وكان شيخاً محترماً من أعيان العدول، وعنده سلامة صدر، رحمة الله تعالى.
ومات الأمير شمس الدين محمد بن الصيمري بن واقف المارستان بالصالحية.
وفيها في رجب، وصل كتاب من المدينة النبوية، يذكر فيه أن وادي العقيق سال من صفر وإلى الآن، ودخل السيل قبة حمزة رضي الله عنه، وبقي الناس عشرين يوماً ما يصلون إلى القبة، وأخذ نخلاً كثيراً وخرب أماكن.
ومات الأمير عز الدين نقيب العساكر المصرية، ودفن بالقرافة.
ومات الأمين ناصر الدين بن سويد التكريتي، سمع على جماعة من أصحاب ابن طبرزد، وحدث وكان له بر وصدقات، وحج مرات، وجاور بمكة، ومات الشيخ العالم الرباني الزاهد، بقية السلف، نجم الدين اللخمي القبابي الحنبلي بحماة، وكانت جنازته عظيمة، وحمل على الرؤوس. سمع مسند الدارمي، وحدث وكان فاضلاً فقيهاً فرضياً جليل القدر، وفضائله وتقلله من الدنيا، وزهده معروف، نفعنا الله ببركته، والقباب المنسوب إليها قرية من قرى أشموم الرمان متصلة بثغر دمياط.
قلت وقدم مرة إلى الفوعة وأنا بها، فسألني عن الأكدرية إذا كان بدل الأخت خنثى، فأجبت: إنها بتقدير الأنوثة تصح من سبعة وعشرين وبتقدير الذكورة تصح من ستة. والأنوثة تضر الزوج والأم، والذكورة تضر الجد والأخت، وبين المسألتين موافقة بالثلث، فيضرب ثلث السبعة والعشرين، وهو تسعة في الستة، تبلغ أربعة وخمسين، ومنها تصح المسألتان، للزوج ثمانية عشر. وللأم اثنا عشر، وللجد تسعة، ولا يصرف إلى الخنثى شيء والموقوف خمسة عشر، وفي طريقها طول ليس هذا موضعه، فأعجب الشيخ، رحمه الله تعالى بذلك.
وفيها في شعبان مات فجأة، الإمام الحافظ أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد ابن سيد الناس اليعمري. أخذ علم الحديث عن ابن دقيق العيد، والدمياطي، وكان أحد الأذكياء الحفاظ، له النظم والنثر والبلاغة والتصانيف المتقنة، وكان شيخ الظاهرية، وخطيب جامع الخندق.

وفيها يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر رمضان، انفصل القاضي جمال الدين يوسف بن جملة الحجي الشافعي من قضاء دمشق، وعقد له مجلس عند نائب السلطنة تنكز، وحكم بعزله، لكونه عزر الشيخ الظهير الرومي فجاوز في تعزيره الحد، ورسم على القاضي المذكور بالعذراوية ثم نقل إلى القلعة، فإن القاضي المالكي حكم بحبسه، وطولع السلطان بذلك فأمر بتنفيذه.
قلت وأعجب بعض الناس حبسه أولاً، ثم رجع الناس إلى أنفسهم فأكبروا مثل ذلك، ومما قلت فيه:
دمشق لازال ربعها خضر ... بعدلها اليوم يضرب المثل
فضا من المكس مطلق فرح ... فيها وقاضي القضاة معتقل
ونفي الشيخ إلى بلاد المشرق، وكانت مدة ولاية القاضي المذكور سنة ونصفاً سوى أيام، فكان الناس يرون أن حادثة القاضي، وحبسه بالقلعة بقيامه على ابن تيمية جزاء وفاقاً.
ومات الشيخ سيف الدين يحيى بن أحمد بن أبي نصر محمد بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي بحماة، وكان شهماً سخياً رحمه الله تعالى.
وفي منتصف الشهر وجد بالقاهرة يهودي مع مسلمة من بنات الترك، فرجم اليهودي وأحرق وأخذ ماله كله، وكان متمولاً وحبست المرأة. قلت:
هذا تعدى طوره فناله ما ناله ... فأعدموه عرضه وروحه وماله
وحكى لي عدل، أنه أخذ منه ألف ألف درهم وثلاث صواني زمرد وعزل الأمير سيف الدين بلبان عن ثغر دمياط، وأخذ منه مال وحبس.
وفيها في شوال، توفي الصاحب شمس الدين غبريال، وكان قد أخذ منه ألفا ألف درهم، وكان حسن التدبير في الدنيويات، وأسلم سنة إحدى وسبعمائة، هو وأمين الملك معاً.
وفيه بالقاهرة، خصي عبد أسود كان تعرض إلى أولاد الناس، فمات قلت:
يعجبني وفاة من فيه فساد وأذى ... لا حبذا حياته وإن يمت فحبذا
ومات الإمام شمس الدين محمد بن عثمان الأصفهاني المعروف بابن العجمي الحنفي، كان مدرساً بالإقبالية، وحدث بالمدينة النبوية ودرس أيضاً بالمدرسة الشريفة النبوية، وحدث بدمشق، وكان فاضلاً وجمع منسكاً على المذاهب، ومات الشيخ الزاهد ناصر الدين محمد ابن الشرف صالح بحماة، أقام أكثر من ثلاثين سنة لا يأكل الفاكهة ولا اللحم، وكان ملازماً للصوم لا يقبل من أحد شيئاً قلت:
زرته مرتين والحمد لل ... ه فعاينت خير تلك الزياره
كان فيه تواضع وسكون ... وصلاح باد وحسن عباره
وفيه كتب بدمشق محضر بأن الصاحب غبريال، كان احتاط على بيت المال. واشترى أملاكاً ووقفها. وليس له ذلك فشهد بذلك جماعة، منهم ابن الشيرازي وابن أخيه عماد وابن مراجل، وأثبت عند برهان الدين الزرعي، ونفذوه وامتنع المحتسب عز الدين بن الغلانيس من الشهادة بذلك فرسم عليه وعزل من الحسبة. قلت:
فديت امرءاً قد راقب الله ربه ... وأفسد دنياه لإصلاح دينه
وعزل الفتى في الله أكبر منصب ... يقيه الذي يخشى بحسن يقينه
وفيها في ذي القعدة، تولى قضاء قضاة الشافعية بدمشق، شهاب الدين محمد ابن المجد عبد الله ابن الحسين، درس وأفتى قديماً وضاهى الكبار، وتنقلت به الأحوال، وهو على ما فيه غزير المروءة سخي النفس متطلع إلى قضاء حوائج الناس. واستمر قاضياً إلى أن كان ما سنذكر، وتوجه مهنا بن عيسى أمير العرب إلى طاعة السلطان بعد النفرة العظيمة عنه سنين، ومعه صاحب حماة الملك. الأفضل، فأقبل السلطان على مهنا وخلع عليه، وعلى أصحاب مائة وستين خلعة، ورسم له بمال كثير الذهب والفضة والقماش، وأقطعه عدة قرى، وعاد إلى أهله مكرماً. ومات المجود الأديب بدر الدين حسن بن علي بن عدنان الحمداني ابن المحدث. وفيها أظن ذي الحجة مات القاضي مجد الدين حرمي بن قاسم الفاقوسي الشافعي، وكيل بيت المال، ومدرس قبة الشافعي وكان معمراً.

وألزمت النصارى واليهود ببغداد بالغيار، ثم نقضت كنائسهم ودياراتهم، وأسلم منهم ومن أعيانهم خلق كثير، منهم سديد الدولة، وكان ركناً لليهود، عمر في زمن يهوديته مدفناً له، خسر عليه مالاً طائلاً، فخرب مع الكنائس، وجعل بعض الكنائس معبداً للمسلمين، وشرع في عمارة جامع بدرب دينار، وكانت بيعة كبيرة جداً، واشتهر عن جماعة من الشيعة في قرية بتي بالعراق، وأنهم دخلوا على مريض منهم، فجعل يصيح أخذ في المغول، خلصوني منهم، وكرر ذلك فاختلس من بينهم حياً فكان آخر عهدهم به، وكان الرجل من فقهاء الشيعة، يتولى عقود أنكحتهم، إن في ذلك لعبرة.
وأطلق ببغداد مكس الغزل وضمان الخمر، والفاحشة، وأعطيت المواريث لذوي الأرحام دون بيت المال، وخفف كثير من المكوس، ولله الحمد.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وسبعمائة في المحرم منها، رجع حسام الدين مهنا من مصر مكرماً ومات الأمير بدر الدين كيكليدي، عتيق شمس الدين الأعسر بد مشق، وخلف أولاداً وأملاكاً، ومات الأمير بكتمر الحسامي بمصر. وجدد جامع قلعة مصر، ومات الملك العزيز ابن الملك المغيث ابن السلطان الملك العادل ابن الكامل، كتب الكثير وعمر.
وفيها في صفر، وصل إلى دمشق كاتب السر، القاضي جمال الدين عبد الله ابن القاضي كمال الدين ابن الأثير، صاحب ديوان الإنشاء، بدلاً عن شرف الدين حفيد الشهاب محمود.
ومات شيخ المؤذنين وأنداهم صوتاً برهان الدين إبراهيم الواني، سمع من ابن عبد الدائم وجماعة، وحدث.
ومات بدمشق المسند المعمر، بدر الدين عبد الله بن أبي العيش الشاهد، وقد جاوز التسعين، سمع من مكي بن قيس بن علان، وكان يطلب على السماع وتفرد بأشياء.
ومات بدمشق تقي الدين عبد الرحمن بن الفويرة الحنفي.
وفيها في صفر أمر السلطان بتسمير رجل ساحر اسمه إبراهيم.
وفيها في ربيع الأول، مات الشيخ أبو بكر بن غانم بالقدس، وكان له مكارم ونظم.
ومات المحدث أمين الدين محمد بن إبراهيم الواني، روى عن الشرف ابن عساكر وغيره، وكان ذا همة ورحلة. وحج ومجاورة، وكانت جنازته مشهودة، وطاب الثناء عليه.
ومات نظام الدين حسن، ابن عم العلامة كمال الدين بن الزملكاني، وقد جاوز الخمسين، وكان مليح الشكل لطيف الكلام، ناظراً بديوان البر.
ومات كبير المجودين، الخطب بهاء الدين محمود بن خطيب بعلبك السلمي بالعقبة، وتأسف الناس عليه لدينه وتواضعه، وحسن شكله، وبراعة خطه، وعفته، وتصونه، كتب عليه خلق، وكتب صحيح البخاري بخطه.
وعمر الأمير حمزة بدمشق حماماً عند القنوات، وأدير فيه أربعة وعشرون جاناً، وأوجر كل يوم بأربعين درهماً وعظم حمزة، وأقبل عليه تنكز بعد الدواتدار، ثم طغى وتجبر وظلم، وعظم الخطب به فضربه تنكز وحبسه، ونقل إلى القلعة، ثم حبس بحبس باب الصغير، ثم أطلق أياماً وصودر، ثم أهلك سراً بالبقاع، قيل غرق وقطع لسانه من أصله، وهو الذي اتلف أمر الدواتدار، وابن مقلد بن جملة، وله حكايات في ظلمه، ورفع فيه يوم أمسك تسعمائة قصة، وبولغ في ضربه ورمي بالبندق في جسده، وما رق عليه أحد. قلت:
لو يفطن العاتي الظلوم لحاله ... لبكى عليها فهي بئس الحال
يكفيه شؤم وفاته وقبيح ما ... يثنى عليه وبعد ذا أهوال
وفيها في ربيع الآخر، توفي الفقير الصالح الملازم لمجالس الحديث، أبو بكر بن هارون الشيباني الجزري، روى عن ابن البخاري.
وقدم على نيابة طرابلس سيف الدين طينال الناصري عوضاً عن أفوش الكركي، وحبس الكركي بقلعة دمشق، ثم نقل إلى الإسكندرية.
وفيها في جمادى الأولى مات علاء الدين علي بن سلعوس التنوخي، وقد باشر صحابة الديوان لدمشق، ثم ترك واحتيط بمصر على دار الأمير بكتمر الحاجب لامي، ونبشت فأخذ منها شيء عظيم.
وفيها في جمادى الآخرة مات مشددار الطراز، سيف الدين علي بن عمر بن قزل سبط الملك الحافظ، ووقف على كرسي وسيع بالجامع.
ومات ببعلبك الفقيه أبو طاهر، سمع من التاج عبد الخالق وعدة، وكتب وحدث، وعمل ستر ديباج منقوش على المصحف العثماني بدمشق بأربعة آلاف درهم وخمسمائة. قلت:
ستروا المكرم بالحرير وستره ... بالدر والياقوت غير كثير
ستروه وهو من الغواية سترنا ... عجبي لهذا الساتر المستور

ومات فجأة التاجر علاء الدين علي السنجاري بالقاهرة، وهو الذي أنشأ دار القرآن بباب الناطفانيين قلت:
ما مات من هذي صفاته ... فوفاة ذا عندي حياته
إن مات هذا صورة ... أحيت معنى سالفاته
ومات بمصر، الواعظ شمس الدين حسين، وهو آخر أصحاب الحافظ المنذري، سمع من جماعة، وكان عالماً حسن الشكل. ومات الفاضل الأديب زكي الدين المأمون الحميري المصري المالكي بمصر، ولي نظر الكرك والشوبك، وعمر نحو تسعين سنة.
وفيها في رجب مات الفقيه محمد بن محي الدين محمد ابن القاضي شمس الدين ابن الزكي العماني، شابا درس مدة بدمشق.
ومات الحافظ قطب الدين الكلبي بالحسينية حفظ الألفية والشاطبية، وسمع من القاضي شمس الدين بن العماد وغيره، وحج مرات وصنف وكان كيساً حسن الأخلاق؛ مطرحاً للتكلف؛ طاهر اللسان مضبوط الأوقات، شرح معظم البخاري، وعمل تاريخاً لمصر لم يتمه، ودرس الحديث بجامع الحاكم، وخلف تسعة أولاد، ودفن عند خاله الشيخ نصر المنبجي.
وفيه أخرج السلطان من حبس الإسكندرية ثلاثة عشر نفراً منهم تمر الساقي الذي ناب بطرابلس، وبيبرس الحاجب وخلع على الجميع، وفيه طلب قاضي الإسكندرية فخر الدين بن سكين وعزل بسبب فرنجي.
وفيها في شعبان مات المفتي بدر الدين محمد بن الفويرة الحنفي سمع وحدث.
ومات القاضي زين الدين عبد الكافي بن علي بن تمام، روى عن الأنماطي وأخذ عنه ابن رافع وغيره.
ومات عز الدين يوسف الحنفي بمصر، حدث عن إبراهيم، وناب في الحكم.
وفيها في رمضان مات صاحبنا شمس الدين محمد بن يوسف التدمري، خطيب حمص، كان يفتي ويدرس.
وتولى قضاء الإسكندرية العماد محمد بن إسحاق الصوفي.
وفيها في شوال قدم عسكر حلب، والنائب من غزاة بلد سيس، وقد خربوا في بلد أذنة وطرسوس، وأحرقوا الزروع واستاقوا المواشي، وأتوا بمائتين وأربعين أسيراً، وما عدم من المسلمين سوى شخص واحد، غرق في النهر، وكان العسكر عشرة آلاف سوى من تبعهم، فلما علم أهل إياس بذلك أحاطوا بمن عندهم من المسلمين التجار وغيرهم، وحبسوهم في خان ثم أحرقوه، فقل من نجا، فعلوا ذلك بنحو ألفي رجل من التجار البغاددة وغيرهم في يوم عيد الفطر فلله الأمر.
واحترق في حماة مائتان وخمسون حانوتاً، وذهبت الأموال واهتم الملك بعمارة ذلك وكان الحريق عند الفجر إلى طلوع الشمس، وذكر أن شخصاً رأى ملائكة يسوقون النار، فجعل ينادي أمسكوا يا عباد الله، لا ترسلوا، فقالوا أبهذا أمرنا ثم إن رجل توفي لساعته.
وناب بدمشق في القضاء، شهاب الدين أحمد بن شرف الزرعي الشافعي.
قاضي حصن الأكراد.
وورد الخبر بحريق أنطاكية قبل رجوع العسكر، فلم يبق بها إلا القليل، ولم يعلم سبب ذلك.
وفيها في ذي القعدة توفيت زينب بنت الخطيب يحيى ابن الإمام عز الدين بن عبد السلام السلمي، سمعت من جماعة، وكان فيها عبادة وخير وحدثت.
ومات الطبيب جمال الدين عبد الله بن عبد السيد، ودفن في قبر أعده لنفسه، وكان من أطباء المارستان النوري بدمشق، وأسلم مع والده الذبان سنة إحدى وسبعمائة.
ومات حسام الدين مهنا بن عيسى أمير العرب، وحزن عليه آله، وأقاموا مأتماً بليغاً ولبسوا السواد، أناف على الثمانين. وله معروف، من ذلك مارستان جيد بسرمين، ولقد أحسن برجوعه إلى طاعة سلطان الإسلام قبل وفاته، وكانت وفاته بالقرب من سلمية.
ومات المحدث الرئيس العالم شمس الدين محمد بن أبي بكر بن طرخان الحنبلي سمع من ابن عبد الدائم وغيره، وكان بديع الخط، وكتب الطباق، وله نظم.
وفيها في ذي الحجة مات الفقيه الزاهد شرف الدين فضل بن عيسى بن قنديل العجلوني الحنبلي بالمسمارية، كان له اشتغال وفهم ويد في التعبير، وتعفف وقوة نفس، عرض عليه خزن المصحف العثماني فامتنع، رحمه الله تعالى.
وفيها وصل الأمير سيف الدين أبو بكر الباشري إلى حلب، وصحب معه، الرجال والصناع، وتوجه إلى قلعة جعبر، وشرع في عمارتها، وكانت خراباً من زمن هولاكو، وهي من أمنع القلاع، تسبب في عمارتها الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام، ولحق المملكة الحلبية وغيرها بسبب عمارتها ونفوذ ماء الفرات إلى أسفل منها كلفة كثيرة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وسبعمائة.

فيها في المحرم، باشر السيد النقيب الشريف بدر الدين محمد ابن السيد شمس الدين بن زهرة الحسيني، وكالة بيت المال بحلب، مكان شيخنا القاضي فخر الدين أبي عمرو وعثمان بن الخطيب زين الدين علي الجبريني.
وفيها في المحرم نزل نائب الشام الأمير سيف الدين تنكز بعسكر الشام إلى قلعة جعبر وتفقدها، وقرر قواعدها وتصيد حولها، ثم رحل فنزل بمرج بزاعا، ومد له نائب حلب الأمير علاء الدين الطنبغا به سماطاً، ثم سافر إلى جهة دمشق.
وفيها في صفر طلب من البلاد الحلبية رجال للعمل في نهر قلعة جعبر، ورسم أن يخرج من كل قرية نصف أهلها، وجلا كثير من الضياع بسبب ذلك، ثم طلب من أسواق حلب أيضاً رجال، واستخرجت أموال، وتوجه النائب بحلب إلى قلعة جعبر بمن حصل من الرجال، وهم نحو عشرين ألفاً.
وفيها في جمادى الآخرة، وصل البريد إلى حلب بعزل القاضي شمس الدين محمد بن بدر الدين أبي بكر بن إبراهيم ابن النقيب، عن القضاء بالمملكة الحلبية، وبتولية شيخنا قاضي القضاة فخر الدين أبي عمر وعثمان بن خطيب جبرين مكانه، ولبس الخلعة وحكم من ساعته، واستعفيته من مباشرة الحكم بالبر في الحال، فأعفاني وكذلك أخي بعد مدة، فأنشدته ارتجالاً:
جنبتني وأخي تكاليف القضاء ... وكفيتنا مرضين مختلفين
يا حي عالمنا لقد أنصفتنا ... فلك التصرف في دم الأخوين
وفيه أعني ذي الحجة، توجه الأمير عز الدين أزدمر النوري، نائب بهسني، لمحاصرة قلعة درندة بمن عنده من الأمراء والتركمان، وفتحت بالأمان في منتصف المحرم سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
وفيها أعني سنة ست وثلاثين وسبعمائة، توفي الشيخ العارف الزاهد، مهنا ابن الشيخ إبراهيم ابن القدوة مهنا الفوعي، بالفوعة في خامس عشر شوال ورثيته بقصيدة أولها:
أسأل الفوعة الشديدة حزناً ... عن مهنأ هيهات أين مهنا
أين من كان أبهج الناس وجهاً ... فهو أسمى من البدور وأسنى
ومنها:
أين شيخي وقدوتي وصديقي ... وحبيبي وكل ما أتمنى
كيف لا يعظم المصاب لصدر ... نحن منه مودة وهو منا
جعفري السلوك والوضع حتى ... قال عبس عنه مهنا مهنا
أي قلب به ولو كان صخراً ... ليس يحكي الخنساء نوحاً وحزناً
أذكرتنا وفاته بأبيه ... وأخيه أيام كانوا وكنا
وهي طويلة. كان جده مهنا الكبير، من عباد الأمة، ترك أكل اللحم زماناً طويلاً لما رأى اختلاط الحيوانات في أيام هولاكو، لعنه الله، وكان قومه على غير سنة، فهدى الله الشيخ مهنا من بينهم، وأقام مع التركمان راعياً ببرية حران، فبورك للتركمان في مواشيهم ببركته، وعرفوا بركته، وحصل له نصيب من الشيخ حياة بن قيس بحران، وهو في قبره، وجرت له معه كرامات، فرجع مهنا إلى الفوعة وصحب شيخنا تاج الدين جعفراً السراج الحلبي، وتلمذ له وانتفع به، وصرفه مهنا في ماله، وخلفه على السجادة بعد وفاته، ودعا إلى الله تعالى، وجرت له وقائع مع الشيعة، وقاسى معهم شدائد، وبعد صيته، وقصد بالزيارة من البعد، وجاور بمكة شرفها الله تعالى سنين، ثم بالمدينة، على سكانها أفضل الصلاة والسلام، وجرت له هناك كرامات مشهورة بين أصحابه وغيرهم، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم، رد عليه السلام من الحجرة وقال: وعليك السلام يا مهنا، ثم عاد إلى الفوعة وأقام بها إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى، في المحرم، سنة أربع وثمانين وستمائة.
وجلس بعده على سجادته ابنه الشيخ إبراهيم، فسار أحسن سير، ودعا إلى الله تعالى على قاعدة والده، ورجع من أهل بلد سرمين خلق إلى السنة، وقاسى من الشيعة شدائد، وسببه قتل ملك الأمراء بحلب، يومئذ سيف الدين قبجق، الشيخ الزنديق منصوراً، من تار، وجرت بسبب قتله فتن في بلد سرمين، ولم يزل الشيخ إبراهيم على أحسن سيرة، وأصدق سريرة، إلى أن توفي إلى رحمه الله تعالى، في ذي الحجة سنة ست عشرة وسبعمائة.
وجلس بعده على سجادته، ابنه الشيخ الصالح إسماعيل ابن الشيخ إبراهيم ابن القدوة مهنا، فسار أحسن سير، وقاسى من الشيعة غبوناً، ولم يزل على أحسن طريقة إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى، في ثامن صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.

وجلس بعده على السجادة أخوه لأبويه، الشيخ الصالح مهنا بن إبراهيم مهنا، إلى أن توفي في خامس عشر شوال سنة ست وثلاثين وسبعمائة، كما مر، وتأسف الناس لموته، فإنه كان كثير العبادة، حسن الطريقة، عارفاً.
وجلس بعده على السجادة أخوه لأبيه، الشيخ حسن، وكان شيخنا عبس يحب مهنا هذا محبة عظيمة، ويعظمه ويقول عنه:مهنا مهنا، يعني أنه يشبه في الصلاح والخير جده، وهم اليوم ولله الحمد بالفوعة جماعة كثيرة، وكلهم على خير وديانة، وقد أجزل الله عليهم المنة، وجعلهم بتلك الأرض ملجأ لأهل السنة، ولو ذكرت تفاصيل سيرة الشيخ مهنا الكبير وأولاده و أصحابه وكراماتهم، لطال القول والله تعالى أعلم.
وفيها مات القان أبو سعيد بن خربنده بن أرغون بن أبغا بن هولاكو، صاحب الشرق، ودفن بالمدينة السلطانية، وله بضع وثلاثون سنة، وكانت دولته عشرين سنة، وكان فيه دين وعقل وعدل، وكتب خطاً منسوباً، وأجاد ضرب العود.
وباشتغال التتار بوفاته، تمكنا من عمارة قلعة جعبر؛ بعد أن كانت هي وبلدها داثرة من أيام هولاكو، فلله الحمد.
وفيها توفي بدمشق الإمامان، مدرس الناصرية، كمال الدين أحمد بن محمد بن الشيرازي، وله ست وستون سنة، وقد ذكر لقضاء دمشق، ومدرس الأمينية، قاضي العسكر عز الدين علي بن محمد بن القلانسي، وله ثلاث وستون سنة، وناظر الخزانة عز الدين أحمد بن محمد العقلي بن القلانسي المحتسب بها. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
وفيها في ربيع الأول، توفي الأمير الشاب الحسن جمال الدين خضر ابن ملك الأمراء علاء الدين الطنبغا بحلب، ودفن بالمقام، ثم عمل له والده تربة حسنة عند جامعه خارج حلب، ونقل إليها، وكان حسن السيرة، ليس من إعجاب أولاد النواب في شيء، ومما قلت فيه تضميناً:
أيبست أفئدة بالحزن يا خضر ... فالدمع يسقيك إن لم يسقك المطر
منها خلقت فلم يسمح زمانك أن ... يشين حسنك فيه الشيب والكبر
فإن رددت فما في الرد منقصة ... عليك قد رد موسى قبل والخضر
وإن كان يضمن هذا التضمين القول بموت الخضر عليه السلام.
وفيه باشر تاج الدين محمد بن عبد الكريم، أخو الصاحب شرف الدين يعقوب ناظر الجيوش المنصورة بحلب، فما هنئ بذلك، واعترته الأمراض حتى مات، رحمه الله في سابع جمادى الآخرة من السنة المذكورة، قلت:
ما الدهر إلا عجب فاعتبر ... أسرار تصريفاته واعجب
كم باذل في منصب ماله ... مات وما هنيء بالمنصب
وباشر مكانه في شعبان منها، القاضي جمال الدين سليمان بن ريان.
وفيه في رمضان المعظم، وصل إلى حلب من مصر عسكر حسن الهيئة، قدمه الحاج أرقطاي، وعسكر من دمشق مقدمهم قطلبغا الفخري، وعسكر من طرابلس مقدمه بهادر عبد الله، وعسكر من حماة مقدمه الأمير صارم الدين أزبك، المقدم على الكل ملك الأمراء بحلب علاء الدين الطنبغا، ورحل بهم إلى بلاد الأرمن في ثاني شوال منها، ونزل على ميناء إياس، وحاصرها ثلاثة أيام، ثم قدم سول الأرمن من دمشق ومعه كتاب نائب الشام بالكف عنهم، على أن يسلموا البلاد والقلاع التي شرقي نهر جهان، فتسلموا منهم ذلك، وهو ملك كبير، وبلاد كثيرة، كالمصيصة، وكويرا، والهارونية، وسرفندكار، وآياس، وباناس، وبخيمة، والنقبر التي قدم ذكر تخريبها، وغير ذلك. فخرب المسلمون برج آياس الذي في البحر، استنابوا بالبلاد المذكورة نواباً، وعادوا في ذي الحجة منها والحمد لله.
قلت: وهذا فتح اشتمل على فتوح، وترك ملك الأرمن جسداً بلا روح، خائفاً على ما بقي بيده على الإطلاق، وكيف لا؛ ومن خصائص ديننا سرابة الأعناق، فيا له فتحاً كسر صلب الصليب، وقطع يد الزنار، وحكم على كبير أنامهم المزمل في بجاده، بالخفض على الجوار، والله أعلم.
وفيها في ذي الحجة، توفي الأمير العابد الزاهد صارم الدين أزبك المنصور الحموي، بمنزلة نزلها مع العسكر عند آياس، وحمل إلى حماة فدفن بتربته، كان من المعمرين في الإمارة، ومن ذوي العبادة، والمعروف، وبنى خاناً للسبيل بمعرة النعمان، شرقيها، وعمل عنده مسجداً وسبيلاً للماء، وله غير ذلك رحمه الله، ذكر لي جماعة بحلب، وهو مسافر إلى بلاد الأرمن، أنه رؤي له بحماة منام يدل على موته في الجهاد، وحمله إلى حماة وحوله الملائكة.

قلت: ولقد تجمل لهذا الجهاد، وتحمل وتكلف لمهمة، وتكفل حتى كأنه توهم فترة سلاحه عن الكفاح، فرسم أن تحد السيوف، وتعتقل الرماح، فلاح على حركاته الفلاح وسيحمد سراه عند الصباح، والله أعلم.
وفيها وقف الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدواتدار، داره النفيسة بحلب المعروفة أولاً بدار ابن العديم، مدرسة على المذاهب الأربعة، وشرط أن يكون القاضي الشافعي والقاضي الحنفي بحلب مدريسها، وذلك عند عوده من بلد سيس صحبة العسكر، منصرفاً إلى منزله بطرابلس.
قلت: ولقد كانت الدار المذكورة باكية لعدم بني العديم، فصارت راضية بالحديث عن القديم، نزع الله عنها لباس البأس والحزن، وعوضها بحلة يوسف عن شقة الكفن، فكمل رخامها وذهبها، وجعل ثمال اليتامى عصمة للأرامل مكتبها، وكملها بالفروع الموصلة، والأصول المفرعة، وجملها بالمرابع المذهبة، والمذاهب الأربعة، وبالجملة فقد كتبها صلاح الدنيا في صلاح الدين إلى يوم العرض، وتلا لسان حسنها اليوسفي، وكذلك مكنا ليوسف في الأرض، ولما وقف الأمير صلاح الدين المذكور على هذه الترجمة، تهلل وجهه وقال ما معناه يا ليتك زدتنا من هذا.
وفيها توفي الشيخ الكبير الشهير المتزهد، محمد بن عبد الله بن المجد المرشدي بقريته من عمل مصر، له أحوال وطعام يتجاوز الوصف، ويقال إنه كان مخدوماً قيل إنه أنفق في ثلاث ليال، ما يساوي خمسة وعشرين ألفاً، رحمه الله تعالى ونفعنا به.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة.
فيها في المحرم، توفي ناصر الدين محمد بن مجد الدين محمد بن قرناص، دخل بلاد سيس لكشف الفتوحات الجهائية، فتوفي هناك رحمه الله تعالى، ودفن بتربة هناك للمسلمين.
وفيها في صفر، توفي بدر الدين محمد بن إبراهيم بن الدقاق الدمشقي، ناظر الوقف بحلب، وفي أيام نظره فتح الباب المسدود الذي بالجامع بحلب، شرقي المحراب الكبير، لأنه سمع أن بالمكان المذكور رأس زكريا النبي، صلى الله على نبينا وعليه وسلم، فارتاب في ذلك، فأقدم على فتح الباب المذكور بعد أن نهى عن ذلك، فوجد باباً عليه تأزير رخام أبيض، ووجد في ذلك تابوت رخام أبيض، فوقه رخامة بيضاء مربعة، فرقعت الرخامة عن التابوت، فإذا فيها بعض جمجمة، فهرب الحاضرون هيبة لها، ثم رد التابوت وعليه غطاؤه إلى موضعه، وسد عليه الباب، ووضعت خزانة المصحف العزيز على الباب، وما أنجح الناظر المذكور بعد هذه الحركة، وابتلي بالصرع، إلى أن عض لسانه فقطعه ومات. نسأل الله أن يلهمنا حسن الأدب.
وفيها في أواخر ربيع الأول، قدم إلى حلب العلامة القاضي فخر الدين محمد بن علي المصري الشافعي، المعروف بابن كاتب قطلوبك، واحتفل به الحلبيون، وحصل لنا في البحث معه فوائد. منها قولهم إذا طلب الشافعي من القاضي الحنفي شفعة الجار، لم يمنع على الصحيح، لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف.
قال: وهذا مشكل. فإن حكم الحاكم ينفذ ظاهراً، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم، فإنما أقطع له قطعة من نار، وأما كون القاضي لا ينقض هذا الحكم، فتلك سياسة حكيمة.
ومنها قولهم: يقضي الشافعي الصلاة إذا اقتدى بالحنفي، علم أنه ترك واجباً كالبسملة، يعني على صحيح، ولا يقضي المقتدي بحنفي افتصد، ولم يتوضأ.
قال: وهذا مشكل، فإن الحنفي إذا اقتصد ولم يتوضأ وصلى، فهو متلاعب على اعتقاده، فينبغي أن يقضي الشافعي المقتدى به، وإذا ترك البسملة، فصلاته صحيحة. عنده، فينبغي أن لا يقضي الشافعي المقتدى به، وفيه نظر.
ومنها قولهم في الصداق، أن قيمة النصف غير نصف القيمة، هذا معروف.
ولكنه قال قول الشافعي وغيره، أن الزوج في مسائل التشطير يغرمها نصف القيمة، لا قيمة النصف مشكل وكانوا بدمشق لا يساعدونني على استشكاله حتى رأيته لإمام الحرمين، وذلك لأن القيمة خلف لما تلف، وإنما يستحق نصف الصداق فليغرمها قيمة النصف لا نصف القيمة.
ومنها: أنه ذكر أن الشيخ صدر الدين، لما قدم من مصر قال: لقد سألني ابن دقيق العيد عن مسألة أسهرته ليلتين، وصورتها: رجل قال لزوجته: إن ظننت بي كذا فأنت طالق، فظنت به ذلك، قالوا أتطلق ومعلوم أن الظنى لا ينتج قطيعاً فكيف انتج هنا القطعي؟.

قال العلامة فخر الدين، كنت يومئذ صبياً، فقلت: ليس هذا من ذلك، فإن المعنى إن حصل لك الظن بكذا فأنت طالق، والحصول قطعي، فينتج قطعياً، فقال صدر الدين بهذا أجبته.
ومنها قولهم: إذا ادعي على امرأة في حبالة، رجل أنها زوجته، فقالت طلقتني تجعل زوجته، ويحلف أنه لم يطلق. رأى في هذه المسألة ما يراه شيخنا قاضي القضاة شرف الدين بن البارزي. وهو أن المراد بذلك امرأة مبهمة الحال.
ومنها: إنما انعقد السلم بجميع ألفاظ البيع، ولم ينعقد البيع بلفظ السلم، لأن البيع يشمل بيع الأعيان، وبيع ما في الذمة، فصدق البيع عليهما صدق الحيوان على الإنسان والفرس، فإن الحيوان جنى لهذين النوعين، وكذلك البيع جنس لهذين النوعين، بخلاف السلم، فانه بيع ما في الذمة، فلا يصدق على بيع العين، كالنوع لا يصدق على الجنس، ولذلك تسمعهم يقولون: الجنس يصدق على النوع ولا عكس.
ومنها قولهم: يسجد للسهو بنقل ركن ذكري، إن أريد به أنه ترك الفاتحة مثلاً، في القيام، وقرأها في التشهد سهواً، فهذا يطرح غير المنظوم، وإن فعل ذلك عمداً بطلت صلاته.
وإن أريد غير ذلك فما صورته؟ فأجاب إن صورة المسألة أن يقرأ الفاتحة في القيام، ثم يقرأها في التشهد مثلاً، فوافق ذلك جوابنا فيها.
ومنها أنهم قالوا خمس رضعات تحرم، بشرط كون اللبن المحلوب في خمس مرات على الصحيح، ثم ذكروا قطرة اللبن تقع في الحب، وهذا التناقض. فقال: لا تناقض، فالمراد بقطرة اللبن في الحب إذا وقعت تتمة لما قبلها، وهذا حسن مهم، فإن شيخنا لفراره من مثل ذلك، شرط أن يكون اللبن المغلوب بما شيب به، قدراً يمكن أن يسقى منه خمس دفعات، لو انفرد عن الخليط، ولا شك أن هذا قول ضعيف، والصحيح عند الرافعي: أن هذا لا يشترط، والتناقض يندفع بما تقدم من جواب العلامة فخر الدين.
وفيها وأظنه في ربيع الآخر، ورد الخبر إلى حلب بأن نائب الشام تنكز قبض على علم الدين كاتب السر القبطي الأصل بدمشق، وولى موضعه القاضي شهاب الدين يحيى ابن القاضي عماد الدين إسماعيل بن القيسراني الخالدي، وعذب النائب العلم المذكور وعاقبه، وصادره، وبينه وبين العلامة فخر الدين المصري قرابة، فلحقه شؤمه، ولفحه سمومه، وسافر من حلب خائفاً من نائب الشام، فلما وصل دمشق، رسم عليه مدة وعزل عن مدارسه وجهاته، ثم فك الترسيم عنه، وبعد موت تنكز عادت إليه جهاته، وحسنت حاله ولله الحمد.
وفيها في رجب ورد الخبر بوفاة القاضي شهاب الدين محمد ابن المجد عبد الله، قاضي القضاة الشافعي بدمشق، صدمت بغلته به حائطاً فمات بعد أيام، وخلق الناس موضع الصدمة من ذلك الحائط بالخوق ومن لطف الله به أن السلطان عزله بمصر يوم موته بدمشق، وعزل القاضي جلال الدين محمد القزوبني عن قضاء الشافعية بمصر، ونقله إلى القضاء بالشام، موضع ابن المجد، ورسم بمصادرة ابن المجد، فلما مات صودر أهله، وكان ابن المجد فيه خير وشر، ودهاء، ومروءة قلت:
لا ييأسن مخلط ... من رحمة الله العفو
دليل هذا قوله ... وآخرون اعترفوا
وولي بعد جلال الدين قضاء الديار المصرية، قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وأحسن السيرة، وعزل القاضي برهان الدين بن عبد الحق أيضاً عن قضاء الحنفية بالديار المصرية، وولى مكانه القاضي حسام الدين الغوري قاضي القضاة ببغداد، كان الوافد إلى مصر عقيب الفتن الكائنة بالمشرق، لموت أبي سعيد.
وفيها في رجب أيضاً باشر القاضي بهاء الدين حسن ابن القاضي جمال الدين سليمان بن ريان، مكان والده، نظر الجيوش بحلب، في حياة والده وبسعيه له. وفيها في رجب مات بحلب فاضل الحنفية بها الشيخ شهاب الدين أحمد بن البرهان إبراهيم بن داود ولي قضاء عزاز، ثم نيابة القضاء بحلب مدة، ثم انقطع إلى العلم، وله مصنفات، وولى ابنه داود جهاته.
وفيها في رمضان، توفي القاضي محي الدين يحيى بن فضل الله، كاتب السر بمصر، وقد ناف على التسعين، وله نظم ونثر.
وفيها أخرج الخليفة، أبو الربيع سليمان المستكفي بالله من مكانه بمصر عنفاً إلى قوص، وقلت في ذلك مضمناً من القصيدة المشهورة لأبي العلاء بيتاً، وبعض بيت:
أخرجوكم إلى الصعيد لعذر ... غير مجد في ملتي واعتقادي

لا يغيركم الصعيد وكونوا ... فيه مثل السيوف في الأغماد
وفيها في رمضان أيضاً، ورد الخبر إلى حلب بوفاة العلامة زين الدين محمد ابن أخي الشيخ صدر الدين ابن الوكيل، المعروف بابن المرحل، من أكابر الفقهاء المفتين المدرسين الأعيان المتأهلين للقضاء بدمشق.
أدينة تندب أم سمته ... أم عقله الوافر أم عمله
فاق على الأقران في جده ... فمن رآه خاله عمه
وتولى تدريس الشامية البرانية مكانه، القاضي جمال الدين يوسف بن جملة، فمات ابن جملة. قيل إنه ما ألقى فيها إلا درساً أو درسين، لاشتغاله بالمرض. ووليها بعده القاضي شمس الدين محمد بان النقيب، بعد أن نزل عن العادلية.
وفيها في ثالث شوال، ورد الخبر بوفاة العلامة شيخ الإسلام زين الدين محمد ابن الكناني، علم الشافعية بمصر، وصلي عليه بحلب صلاة الغائب، كان مقدماً في الفقه والأصول، معظماً في المحافل، متضلعاً من المنقول، ولولا انجذابه عن علماء عصره، وتبهه على فضلاء دهره، لبكى على فقده أعلامهم، وكسرت له محابرهم وأقلامهم، ولكن طول لسانه عليهم هون فقده لديهم. قلت:
فجعت بكتبانها مصر ... فمثله لا يسمح الدهر
يا زين مذهبه كفى أسفاً ... إن الصدور بموتك انسروا
ما كان من بأس لو أنك بال ... علماء برأيها البحر
وفيها في شوال أيضاً، رسم ملك الأمراء بحلب، الطنبغا، بتوسيع الطرق التي في الأسواق، اقتداء بنائب الشام تنكز، فيما فعله في أسواق دمشق، كما مر، ولعمري قد توقعت عزله عن حلب لما فعل ذلك؛ فقلت حينئذ:
رأى حلبا بلداً داثراً ... فزاد لإصلاحها حرصه
وقاد الجيوش لفتح البلاد ... ودق لقهر العدا فحصه
وما بعد هذا سوى عزله ... إذا أتم أمر بدا نقصه
وفيها في عاشر شوال، ورد الخبر بوفاة الفاضل المفتي الشيخ بدر الدين محمد ابن قاضي بارين الشافعي بحماة، كان عارفاً بالحاوي الصغير، ويعرف نحواً وأصولاً، وعنده ديانة وتقشف، وبيني وبينه صحبة قديمة، في الاشتغال على شيخنا قاضي القضاة شرف الدين ابن البارزي، وسافر مرة إلى اليمن، رحمه الله ونفعنا ببركته قلت:
فجعت حماة ببدرها بل صدرها ... بل بحرها بل حبرها الغواص
الله أكبر كيف حال مدينة ... مات المطيع بها ويبقى العاصي
وفيه ولي قضاء الحنفية بحماة، جمال الدين عبد الله بن القاضي نجم الدين عمر بن العديم، وكان شاباً أمرد. بعد عزل القاضي تقي الدين بن الحكيم، فإن صاحب حماة، آثر أن لا ينقطع هذا الأمر من هذا البيت بحماة، لما حصل لأهل حماة من التأسف على والده القاضي نجم الدين وفضائله وعفته وحسن سيرته، رحمه الله تعالى، وجهز قاضي القضاة ناصر الدين محمد ابن قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم، صاحبنا شهاب الدين أحمد بن المهاجر إلى حماة، نائباً عن القاضي جمال الدين المذكور إلى حين يستقل بالأحكام، وخلع صاحب حماة عليهما في يوم واحد.
وفيه ورد الخبر أن الأمير سيف الدين أبا بكر النابيري قدم من الديار المصرية على ولاية بر دمشق.
وفيها في ذي القعدة، توفي بدمشق العلامة القاضي جمال الدين يوسف بن جملة الشافعي، معزولاً عن الحكم من سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، كان جم الفضائل، غزير المادة، صحيح الاعتقاد، عنده صداقة في الأحكام، وتقديم للمستحقين، وكان قد عطف عليه النائب وولاه تدريس مدارس بدمشق.
قلت:
بكت المجالس والمدارس جملة ... لك يا ابن جملة حين فاجأك الردى
فاصعد إلى درج العلى واسعد فمن ... خدم العلوم جزاؤه أن يصعدا

وفيها في ذي القعدة، توفي شيخي المحسن إلي، ومعلمي المتفضل علي، قاضي القضاة، شرف الدين أبو القاسم هبة الله ابن قاضي القضاة نجم الدين أبي حمد عبد الرحيم ابن قاضي القضاة شمس الدين أبي الطاهر إبراهيم بن هبة الله بن المسلم بن هبة الله بن حسان بن محمد بن منصور بن أحمد بن البارزي الجهني الحموي الشافعي، علم الأئمة، وعلامة الأمة، تعين عليه القضاء بحماة، فقبله، وتورع لذلك عن معلوم الحكم من بيت المال، فما أكله، بل فرش خده لخدمة الناس ووضعه، ولم يتخذ عمره درة ولا مهمازاً، ولا مقرعة، ولا عزر أحداً بضرب، ولا خراق، ولا أسقط شاهداً على الإطلاق، هذا مع نفوذ أحكامه وقبول كلامه، والمهابة الوافرة، والجلالة الظاهرة، والوجه البهي الأبيض المشرب بحمره، واللحية الحسنة التي تملأ صدره، والقامة إقامة، والمكارم العامة، والمحبة العظيمة للصالحين، والتواضع الزائد للفقراء والمساكين، أفنى شبيبته في المجاهدة والتقشف والأوراد، وأنفق كهولته في تحقيق العلوم والإرشاد، وقضى شيخوخته في تصنيف الكتب الجياد، وخطب مرات لقاء الديار المصرية، فأبى وقنع بمصيره، واجتمع له من الكتب ما لم يجتمع لأهل عصره، وكف بصره في آخر عمره، فولى ابن ابنه مكانه، وتفرع للعلوم والتصرف والديانة، وصار كلما علت سنه لطف فكره وجاد ذهنه، وشدت الرحال إليه، وسار المعول في الفتاوى عليه، واشتهرت مصنفاته في حياته بخلاف العادة، ورزق في تصانيفه وتآليفه السعادة.
فمنها في التفسير: كتاب البستان في تفسير القران، مجلدان. وكتاب روضات جنات المحبين اثنا عشر مجلداً. ومنها في الحديث: كتاب المجتبى مختصر جامع الأصول، وكتاب المجتبى، وكتاب الوفا في أحاديث المصطفى، وكتاب المجرد من السند، وكتاب المنضد شرح المجرد، أربع مجلدات. ومنها في الفقه: كتاب شرح الحاوي، المسمى بإظهار الفتاوى من أعوار الحاوي، وكتاب تيسير الفتاوي من تحرير الحاوي، وهما أشهر تصانيفه، وكتاب شرح نظم الحاوي، أربع مجلدات. وكتاب المغنى مختصر التنبيه، وكتاب تمييز التعجيز. ومنها في غير ذلك: كتاب توثيق عرى الإيمان في تفضيل حبيب الرحمن، والسرعة في قراءات السبعة، والدراية لأحكام الرعاية للمحاسبي، وغير ذلك.
حدثني رحمه الله تعالى في ذي القعدة، سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، قال: رأيت الشيخ محي الدين النوري بعد موته في المنام، فقلت له أما تختار في صوم الدهر؟ فقال: فيه اثنا عشر قولاً للعلماء، فظهر لشيخنا أن الأمر كما قال، وإن لم تكن الأقوال مجموعة في كتاب واحد، وذلك أن في صوم الدهر في حق من لم ينذر، ولم يتضرر به أربعة أقوال: الاستحباب، وهو اختيار الغزالي وأكثر الأصحاب. والكراهة، وهو اختيار البغوي صاحب التهذيب والإباحة، وهو ظاهر نص الشافعي، لأنه قال: لا بأس به. والتحريم، وهو اختيار أهل الظاهر، حملاً لقوله صلى الله عليه وسلم فيمن صام الدهر لا صام ولا أفطر، على أنه دعاء عليه.
وفي حق من نذر ولم يتضرر به خمسة أقوال: الوجوب، وهو اختيار أكثر الأصحاب. والاستحباب، والإباحة، والكراهة، والتحريم.
وفي حق من يتضرر بأن تفوته السنن أو الاجتماع بالأهل ثلاثة أقوال: التحريم، والكراهة والإباحة، ولا يجيء الوجوب ولا الاستحباب، فهذه اثنا عشر قولاً في صوم الدهر، وهذا المنام من كرامات الشيخ محي الدين، والقاضي شرف الدين، رضي الله عنهما، والله أعلم.
وأخبرني حين أجازني، أنه أخذ الفقه من طريق العراقيين، عن والده وجده أبي الطاهر إبراهيم، وهو عن القاضي عبد الله بن إبراهيم الحموي، عن القاضي أبي سعد ابن أبي عصرون الموصلي، عن القاضي أبي علي الفارقي، عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، عن القاضي أبي الطيب الطبري، عن أبي الحسن الماسرجسي، عن أبي الحسن المروزي.

ومن طريق الخراسانيين، عن جده المذكور، عن الشيخ فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر الدمشقي، عن الشيخ مطب الدين مسعود النيسابوري، عن عمر بن سهل الدامغاني، عن حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، عن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، عن والده أبي محمد الجويني، عن الإمام أبي بكر القفال المروزى، عن أبي إسحاق المروزي المذكور، عن القاضي أبي العباس بن شريح، عن أبي القاسم الأنماطي، عن أبي إسماعيل المزني والربيع المرادي، كلاهما عن الإمام الأعظم أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وهو أخذ عن إمام حرم الله مسلم بن خالد المزني، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، رضي الله عنهم، وعن إمام حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك، عن نافع، عن ابن عمر وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، عن نبينا سيد المرسلين، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلى الله عليه وعلى آله و أصحابه أفضل صلواته، عدد معلوماته، وله نظم قليل، فمنه ما كتب به إلى صاحب حماة يدعوه إلى وليمة:
طعام العرس مندوب إليه ... وبعض الناس صرح بالوجوب
فجبراً بالتناول منه جرياً ... على المعهود في جبر القلوب
ومن نثره الذي يقرأ طرداً وعكساً قوله: " سور حماة بربها محروس " ولما بلغني خبر وفاته، كتبت كتاباً إلى ابن ابنه القاضي نجم الدين عبد الرحيم ابن القاضي شمس الدين إبراهيم ابن قاضي القضاة شرف الدين المذكور. صورته وينهي أنه بلغ المملوك وفاة الحبر الراسخ، بل انهداد الطود الشامخ، وزوال الجبل الباذخ، الذي بكته السماء والأرض، وقابلت فيه المكروه بالندب، وذلك فرض، فشرقت أجفان المملوك بالدموع، واحترق قلبه بين الضلوع، وساواه في الحزن الصادر والوارد، واجتمعت القلوب لما تم لمأتم واحد، فالعلوم تبكيه، والمحاسن تعزى فيه، والحكم ينعاه، والبر يتفداه، والأقلام تمشي على الرؤوس لفقده، والمصنفات تلبس حداد المداد من بعده.
ولما صلي عليه يوم الجمعة صلاة الغائب بحلب، اشتد الضجيج، وارتفع النشيج، وعلت الأصوات، فلا خاص إلا حزن قلبه، ولا عام إلا طار لبه، فإنه مصاب زلزل الأرض، وهدم الكرم المحض، وسلب الأبدان قواها، ومنع عيون الأعيان كراها، ولكن عزى الناس لفقده، كون مولانا الخليفة من بعده، فإنه بحمد الله خلف عظيم، لسلف كريم، وهو أول من قابل هذا الفادح القادح بالرضا، وسلم إلى الله سبحانه فيما قضى، فإنه سبحانه يحيي ما كانت الحياة أصلح، ويميت إذا كانت الوفاة أروح، وقد نظم المملوك فيه مرثية أعجزه عن تحريرها اضطرام صدره، وحمله على تسطيرها انتهاب صبره، وها هي:
برغمي أن بينكم يضام ... ويبعد عنكم القاضي الإمام
سراج للعلوم أضاء دهراً ... على الدنيا لغيبته ظلام
تعطلت المكارم والمعالي ... ومات العلم وارتفع الطغام
عجبت لفكرتي سمحت بنظم ... أيسعدني على شيخي نظام
وأرثيه رثاء مستقيماً ... ويمكنني القوافي والكلام
ولو أنصفته لقضيت نحبي ... ففي عنقي له نعم جسام
حشا أذني دراً ساقطته ... عيوني يوم حم له الحمام
لقد لؤم الحمام فإن رضينا ... بما يجني فنحن إذاً لئام
ألا يا عامنا لا كنت عاماً ... فمثلك ما مضى في الدهر عائم
أتفجعنا بكتاني مصر ... وكان به لساكنها اعتصام
وتفتك بابن جملة في دمشق ... ويعلوها لمصرعه القتام
وكان ابن المرحل حين يبكي ... لخوف الله تبتسم الشآم
وحبر حماة تجعله ختاماً ... أذاب قلوبنا هذا الختام
ولما قام ناعيه استطارت ... عقول الناس واضطرب الأنام
ولو يبقى سلونا من سواه ... فإن بموته مات الكرام
أألهو بعدهم وأقر عينا ... حلال اللهو بعدهم حرام
فيا قاضي القضاة دعاء صب ... برغمى أن يغيرك الرغام
ويا شرف الفتاوى والدعاوى ... على الدنيا لغيبتك السلام
ويا ابن البارزي إذا برزنا ... بثوب الحزن فيك فلا نلام

سقى قبراً حللت به غمام ... من الأجفان إن بخل الغمام
إلى من ترحل الطلاب يوماً ... وهل يرجى لذي نقص تمام
ومن للمشكلات وللفتاوى ... وفصل الأمر إن عظم الخصام
وكان خليفة في كل فن ... وعيناً للخليفة لا تنام
ألا يا بابه لا زلت قصداً ... لأهل العلم يغشاك الزحام
فإن حفيد شيخ العصر باق ... يقل به على الدهر الملام
أنجم الدين مثلك من تسلى ... إذ افدحت من النوب العظام
وفي بقياك عن ماض عزاء ... قيامك بعده نعم القيام
إذا ولى لبيتكم إمام ... عديم المثل يخلفه إمام
وفي خير الأنام لكم عزاء ... وليس لساكن الدنيا دوام
أنا تلميذ بيتكم قديماً ... بكم فخري إذا افتخر الأنام
وإن كنتم بخير كنت فيه ... ويرضيني رضاكم والسلام
لكم مني الدعاء بكل أرض ... ونشر الذكر ما ناح الحمام
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وسبعمائة.
فيها في المحرم، توفي بمصر شيخنا قاضي القضاة فخر الدين عثمان بن زين الدين علي بن عثمان، المعروف بابن خطيب جبرين، قاضي حلب، وابنه كمال الدين محمد، وذلك أن الشناعات كثرت عليه، فطلبه السلطان على البريد إليه، فحضر عنده، وقد طار لبه، وخرج وقد انقطع قلبه، وتمرض بمصر مدة، وأراحه الله بالموت من تلك الشدة،
وحسب المنايا أن يكنّ أمانياً
ولقد كان رحمه الله فاضلاً في الفقه والأصول، والنحو والتصريف، والقراءات، مشاركاً في المنطق والبيان، وغيرهما، وله الشرح الشامل الصغير، ويدل حله إياه على ذكاء مفرط، وله شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، وشرح البديع لابن الساعاتي في الأصول أيضاً، وفرائض نظم، وفرائض نثر، ومجموع صغير في اللغة، وغير ذلك، كان رحمه الله سريع الغضب، سريع الرضا، كثير الذكر لله تعالى.قلت:
من هو فخر الدين عثمان في ... مراحم الله وإحسانه
مات غريباً خائفاً نازحاً ... عن أنس أهليه وأوطانه
وبعض هذي فيه ما يرتجى ... له به رحمة ديّانه
فقل لشانيه ترفق ففي ... شانك ما يغنيك عن شانه
ورأيت مكتوباً بخطه هذه الكلمات، وكنت سمعتها من لفظه قبل ذلك، وهي: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، فمن جعل السبب موجباً فقد أخطأ، ومن محاه ولم يجعل له أثراً فقد أخطأ، ومن جعل السبب سبباً والمسبب هو الفاعل فقد أصاب. ومولده رحمه الله بمصر في العشر الأواخر من شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وستين وستمائة.
وفيها في العشر الأوسط من ربيع الآخر، توفي السيد الشريف بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني، نقيب الأشراف، وكيل بيت المال بحلب، ومن الاتفاق أنه مات يوم ورود الخبر بعزل ملك الأمراء علاء الدين الطنبغا عن نيابة حلب، وكان بينهما شحناء في الباطن. قلت:
قد كان كل منهما ... يرجو شفا أضغانه
فصاركل واحد ... مشتغلاً بشانه
كان السيد، رحمه الله، حسن الشكل، وافر النعمة، معظماً عند الناس، شهماً ذكياً. وجده الشريف أبو إبراهيم، هو ممدوح أبي العلاء المعري، كتب إلى أبي العلاء القصيدة التي أولها:
غير مستحسن وصال الغواني ... بعد ستين حجة وثمان
ومنها:
كل علم مفرق في البرايا ... جمعته معرة النعمان
فأجابه أبو العلاء بالقصيدة التي أولها:
عللاني فإن بيض الأماني ... فنيت والظلام ليس يفاني
أو منها:
يا أبا إبراهيم قصر عنك ال ... شعر لما وصفت بالقرآن

وفيها في العشر الأول من جمادى الأولى، قدم الأمير سيف الدين طرغاي إلى حلب نائباً بها، وسر الناس بقدومه، وأظهروا الزينة، وصحبته القاضي شهاب الدين أحمد بن القطب، كاتب السر، مكان تاج الدين ابن الزين خضر، المتوجه إلى مصر صحبة الأمير علاء الدين الطنبغا، وكان رنك المنفصل جوكانين، ورنك المتصل خونجا، فقال بعض الناس في ذلك:
كم أتى الدهر بطرد ... وبعكس وببدع
راح عنا رنك ضرب ... وأتانا رنك بلع
وفيها في السابع والعشرين من جمادى الأولى، ورد الخبر إلى حلب بوفاة قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني، قاضي دمشق، بها كان رحمه الله إمام في علم المعاني والبيان له فيه مصنفات جامعة متقنة، وله يد في الأصولين، ويحل الحاوي، وكان كبير القدر، واسع الصدر، ولي أولاً خطابة دمشق، ثم قضاءها، ثم قضاء مصر، ثم قضاء دمشق حتى مات بها، سامحه الله تعالى.
وبلغني أن بينه وبين الإمام الرافعي قرابة، وقرب العهد بسيرته يغني عن الإطالة، وبنى على النيل دارا قيل بما يزيد على ألف الف درهم، فأخذت منه، ثم أخرج إلى دمشق قاضياً كما تقدم.
وفيها في جمادى الآخرة، ورد الخبر إلى حلب بوفاة الشيخ بدر الدين أبي اليسر محمد ابن القاضي عز الدين محمد ابن الصائغ الدمشقي بها، كان نفعنا الله به، عالماً فاضلاً متقللاً من الدنيا، زاهداً، جاءته الخلعة والتقليد بقضاء دمشق، امتنع أتم امتناع، واستعفى بصدق إلى أن أعفي، فمن يومئذ حسن ظن الناس به، وفطن أهل القلم وأهل السيف لجلالة قدره. قلت:
ما قضاء الشام إلا شرف ... ولمن يتركه أعلى شرف
يا أبا اليسر لقد أذكرنا ... فعلك المشكور أفعال السلف
وفيه ورد الخبر أن الأمير علاء الدين الطنبغا وصل من مصر إلى غزة نائباً بها، سبحان من يرفع ويضع الإله الخالق والآمر.
جرت بينه وبين نائب الشام الأمير سيف الدين تنكز شحناء، اقتضت نقلته من حلب، وتوليته بعدها غزة، فإن نائب الشام متمكن عند السلطان رفيع المنزلة.
وفيها في أوائل رجب، توفي بمعرة النعمان ابن شيخنا العابد إبراهيم بن عيسى بن عبد السلام، كان من عباد الأمة، ويعرف الشاطبية والقراءات، وله يد طولى في التفسير، وزهادته مشهورة، كان أولاً يحترف بالنساجة، ثم تركها وأقبل على العبادة والصيام والقيام، ونسخ كتب الرقائق وغيرها، فأكثر ووقف كتبه على زوايا وأماكن، وهو من أصحاب الشيخ القدوة مهنا الفوعي، نفعنا الله ببركتهما، وكان داعياً إلى السنة بتلك البلاد، وتوفي بعده بأيام، الشرف حسين بن داود بن يعقوب الفوعي، بالفوعة، وكان داعياً إلى التشيع بتلك البلاد. قلت:
وقام لنصر مذهبه عظيماً ... وحدد ظفره وأطال نابه
تبارك من أراح الدين منه ... وخلص منه أعراض الصحابه
وفيه ورد الخبر بوفاة الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله، المعروف بابن المهاجر الحنفي بحماة، نائباً عن قاضيها جمال الدين عبد الله بن العديم، حسبما تقدم ذكره، كان فاضلاً في النحو والعروض، وله نظم حسن، ولهج في آخر وقته بمدائح الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفيه ورد الخبر إلى حلب أن الشيخ تقي الدين علي بن السبكي تولى قضاء القضاة الشافعية بدمشق المحروسة، بعد أن حدث لخطيب بدر الدين محمد ابن القاضي جلال الدين نفسه بذلك، وجزم به، وقبل الهناء، فقال فيه بعض أهل دمشق:
قد سبك السبكي قلب الخطيب ... فعيشه من بعدها ما يطيب
وفيه طلب القاضي جمال الدين سليمان بن ريان على البريد، من حلب إلى دمشق، لمباشرة نظر الجيوش بالشام واستمر بدمشق إلى أن نكب تنكز، كما سيأتي، فعزل بالتاج إسحاق، ثم حضر إلى حلب وأقام بداره بالمقام وفيها في شعبان، قدم الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف الدواتدار، شاداً بالمملكة الحلبية.
وفيها في رمضان، ورد الخبر أن الأمير سيف الدين أبا بكر البانيري، باشر النيابة بقلعة الرحبة، وهو الذي كان تولى تجديد عمارة جعبر كما تقدم، فقال فيه بعض الناس:
يا باذلاً في جعبر جهده ... ما خيب السلطان مسعاكا
عوضك الرحبة عن ضيق ما ... قاسيت قد أفرحنا ذاكا
فضاجع البق وناموسها ... ولولا ضجيعاك لزرناكا

وفيه شرع نائب الشام تنكز في الرجوع من متصيده بالمملكة الحلبية، وكان قد حضر إليها من شعبان، ومعه صاحب حماة الملك الأفضل، وحريم وحظايا وحشم وحمام، ولحق الفلاحين والرعية بذلك كلفة وضرر كبير، واجتمع نائب الشام وصاحب حماة على إعادة بذر الدين محمد بن علي، المعروف بابن الحمص، رامي البندق المشهور إلى منزلته من الرماية، بعد أن كان قد أسقط على عادتهم، وأسقطوا من كان أسقطه، واجتمعت أنا بابن الحمص المذكور بحلب، مسألته أن يريني شيئاً من حذقة في البندق، فرمى إلى حائط، فكتب عليه بالبندق ما صورته، محمد بن علي، بخط جيد، ثم أمر غلامه، فصار الغلام يرمي بندقاً إلى الجو، وهو يتلقاه، فيصيبه في سرعة على التوالي، فجاء من ذلك بالعجب العجيب.
وفيه نادى مناد في جامع حلب وأسواقها، وقدامه شاد الوقف، بدر الدين بتليك الأسندمري، من أمراء العشرات، بما صورته " معاشر الفقهاء والمدرسين والمؤذنين، وأرباب وظائف الدين، قد برز المرسوم العالي إن كل من انقطع منكم عن وظيفته، وغمز عليه، يستأهل ما يجرى عليه، فانكسرت لذلك قلوب الخاص والعام، وعظم به تألم الأنام، وطهر مشد الوقف المذكور عن بغض وعناد، لأهل العلم والذين، فوقع منه يوم عيد الفطر كلمة قبيحة، أقامت عليه الناس أجمعين، وعقد له بدار العدل يوم العيد مجلس مشهود، وأفتينا بتجديد إسلامه، وعزله، وضربه، وهو ممدود. ونودي عليه في الملأ جزاء وفاقاً، وقطعنا أن لحوم العلماء مسمومة اتفاقاً، ولولا شفاعة الشافعي فيه، لدخل نار مالك بما خرج من فيه، ولو كان براً لما خاض هذا البحر، ولجمع قلبه ومذبحه بين الفطر والنحر، وبالجملة فقد ذاق مرارة القهر والقسر، فإن نداءه الذي انكسر به القلب انقلب به الكسر " .
وفيها في تاسع شوال، وصل إلى حلب قاضي القضاة زين الدين عمر بن شرف الدين محمد بن البلقيائي المصري الشافعي، وباشر الحكم من يومه، وخرج النائب والأكابر لتلقيه، وسر به الناس لما سمعوا من ديانته، بعد شغور المنصب نحو عشرة أشهر من حاكم شافعي.
وفيها حج الأمير سيف الدين بشتك الناصري من مصر، وأنفق في الحج أموالاً عظيمة، وكان صحبته على ما بلغنا، ستمائة راوية، تكلم الناس في القبض عليه عند عوده بمدينة الكرك، فما أمكن ذلك، ودخل مصر وصعد القلعة، فتلقاه السلطان بالحسنى.
ثم دخلت سنة أربعين وسبعمائة.
فيها في المحرم، ورد الخبر بوفاة الشيخ علم الدين أبي محمد القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي، المحدث الدمشقي، بخليص، مريداً للحج، رحمه الله تعالى، كان حسن الأخلاق، كثير الموافاة للناس، محبوباً إليهم، وله تصانيف في الحديث والتاريخ، والشروط، وكان حسن الأداء، كثير البكاء. في حال قراءة الحديث، فصيحاً، رحمه الله تعالى.
وفيها في المحرم، بلغنا شنق ابن المؤيد شرف الدين أبي بكر الواعظ المحتسب، نائب الوكالة باللاذقية، خافوا بطرابلس من طول لسانه، واتصاله بأعيان المصريين، وقامت عليه بينة بألفاظ تقتضي انحلال العقيدة، فحملوا عبد العزيز المالكي قاضي القدموس على الحكم بقتله، وشارك في واقعته القاضي جلال الدين عبد الحق المالكي، قاضي اللاذقية، فتعب القاضيان بجريرته وقاسيا شدائد.
وفيها في صفر، وردت البشارة بقبض الملك الناصر على النشو شرف الدين، القبطي الأصل، وأنه وأخاه رزق الله تحت العقوبة، ثم قتل أخوه نفسه، وأوقدت لهلاكهما الشموع بالقاهرة، كان النشو قد قهر أهل القاهرة، وبالغ في الطرح والمصادرة، فعظمت به المصيبة، وقتل خلقاً تحت العقوبة، فأتى الناس في هلاكه بيوت المسألة من أبوابها، وبنت الأوتاد نظم الدعوات على أسبابها، وطلبوا لبحر ظلمه المديد من الله خبناً وبتراً، فدارت الدوائر عليه بهذه الفاصلة الكبرى. قلت:
النشو لا عدل ولا معرفه ... قد آن للأقدار أن تصرفه
من أتلف الناس وأموالهم ... يحق للسلطان أن يتلفه
وفيه قدم الأمير المكاس الغشوم - لؤلؤ القندشي - إلى حلب، منفياً من مصر بلا إقطاع. وفيه عزل قاضي القضاة بحلب زين الدين عمر البلفيائي عنها، لوحشة جرت بينه وبين طرغاي نائب حلب، فكاتب فيه فعزل، وهو فقيه كبير مقتصد في المأكل والملبس. قلت:
كان والله عفيفاً نزهاً ... وله عرض عريض ما اتهم

وهو لا يدري مداراة الورى ... ومداراة الهوى أمر مهم
وفيها في ربيع الأول، غزل الأمير صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدواتدار، عن الشد على المال، والوقف بحلب، ونقل إلى طرابلس، فضاق طرغاي من جبرته، فعمل عليه، وكان قد عزم على تحرير الأوقاف بحلب، فما قدر قلت:
لقد قالت لنا حلب مقالاً ... وقد عزم المشد على الرواح
إذا عم الفساد جميع وقفي ... فكيف أكون قابلة الصلاح
وفيها في جمادى الآخرة ولي القاضي برهان الدين إبراهيم بن خليل بن إبراهيم الرسعني قضاء الشافعية بحلب، بذل لطرغاي نائبها مالاً، فكاتب في ولايته، وهو أول من بذل في زماننا على القضاء بحلب، وكان القضاة قبله يخطبون ويعطون من بيت المال، حتى بلوا، ولذلك لم يصادف راحة في ولايته، ويعجبني قول القائل:
فلان لا تحزن إذا ... نكبت واعرف ما السبب
فما تولى حاكم ... بفضة إلا ذهب
وفيها توفي طقتمر الخازن نائب قلعة حلب، كانت تصدر منه في الدين ألفاظ منكرة، واشترى قبل وفاته داراً عند مدرسة الشاذبخت، وعمل فيها تصاوير، وكثر الطعن عليه بسببها. قلت:
ما حل فيها زحل ... إلا لنحس المشتري
فانعدمت صورته ... من شؤم تلك الصور
وخلف مالاً طائلاً.
وفيها في شعبان، توفي الخليفة أبو الربيع سليمان المستكفي بالله، في قوص، وقد أخرج إلى الصعيد سنة ثمان وثلاثين، وخلافته تسع وثلاثون سنة؛ ولله قولي على لسانه: مثلي يعيش بالموت، ويبلغ المنى بالفوت، إلى كم لهم العيشة الرطبة، ولي مجرد الخطبة، فلهم الملك الصريح، ولسليمان الريح:
أحمد الله الذي جنبني ... كلف الملك وأمراً صعباً
لم أجد للملك ماء صافياً ... فتيممت صعيداً طيباً
وفيها بعد موت المستكفي، بويع بالخلافة أبو إسحاق إبراهيم ابن أخي المستكفي. وفيها كان الحريق بدمشق، وذهبت فيه أموال ونفوس، واحترقت المنارة الشرقية، والدهشة، وقيسارية القواسين، وتكرر، وأفرت طائفة من النصارى بدمشق بفعله، فصلب تنكز منهم أحد عشر رجلاً، ثم وسطوا بعد أن أخذ منهم ألف ألف درهم، وأسلم ناس منهم، وبيعت بنت الملين بمال كثير، فاشتراها تنكز، وعملت المقامة الدمشقية في هذا المعنى، وسميتها صفو الرحيق، في وصف الحريق. وختمتها بقولي:
وعادت دمشق فوق ما كان حسنها ... وأمست عروساً في جمال مجدد
وقالت لأهل الكفر موتوا بغيظكم ... فما أنا إلا للنبي محمد
ولا تذكروا عندي معابد دينكم ... فما قصبات السبق إلا لمعبد
وفيها في ذي الحجة، باشر القاضي ناصر الدين محمد ابن الصاحب شرف الدين يعقوب، كتابة السر بحلب، وسررنا به.
وفيه قبض على تنكز نائب للشام، وأهلك بمصر.
رسم السلطان لطشتمر حمص أخضر، وكان نائباً بصفد، أن يأتيه من حيث لا يحتسب، ويقبض عليه، ما أشبه تمكنه عند السلطان الملك الناصر إلا بجعفر عند الرشيد، والرشيد أضمر إهلاك جعفر ست سنين حتى قتله، والملك الناصر أضمر إهلاك تنكز عشر سنين وهو يخوله ويعظمه وينعم عليه، وفي قلبه له ما فيه، حتى قبض عليه، وكان تنكز عظيم السطوة، شديد الغضب، قتل خلقاً منهم: عماد الدين إسماعيل بن مزروع الغوعي، نائب فحليس بدمشق، وعلي بن مقلد حاجب العرب، والأمير حمزة رماه بالبندق، ثم أهلكه سراً، وغيرهم. وله بدمشق والقدس وغيرهما آثار حسنة، وأوقاف، وقتل أكثر الكلاب بدمشق، ثم حبس الباقي، وحال بين إناثها وذكورها، ولما استوحش من السلطان، عزم على نكثه من جهة التتر، وأخذ السلطان من أمواله ما يفرق الحصر، زعم بعضهم أنه يقارب مال قارون، وكان قبل ذلك قد تبرم من نقيق الضفادع، فأخرجها من الماء، فقال بعض الناس فيه:
تنكر تنكز بدمشق تيهاً ... وذلك قد يدل على الذهاب
وقالوا للضفادع ألف بشرى ... بميتته فقلت وللكلاب
وتولى دمشق بعده الطنبغا، الحاجب الصالحي، كان تنكز قد سعى عليه حتى نقل من نيابة حلب إلى نيابة غزة، فأورثه الله أرضه ودياره.

وفيها بعد حادثة تنكز، عوقب أمين الملك، عبد الله الصاحب بدمشق، واستصفي ماله، ومات تحت العقوبة، قبطي الأصل، وكان فيه خير وشر، ووزر بمصر ثلاث مرات، وفيه يقول صاحبنا الشيخ جمال الدين ابن نباتة المصري:
لله كم حال امرئ مقتر ... قصيت في القدس بتنفيسه
كم درهم ولى ولكنه ... قد أخذ الأجر على كيسه
وقال فيه أيضاً:
روت عنك أخبار المعالي محاسن ... كفت بلسان الحال عن السن الحمد
فوجهك عن بشر وكفك عن عطا ... وخلقك عن سهل ورأيك عن سعد
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وسبعمائة.
فيها في المحرم، وسط بدمشق - طغية وجنغية - من أصحاب تنكز، وكانا ظالمين.
وفيها غزل طرغاي عن حلب، وكان على طمعه يصلي ويتلو كثيراً.
وفيها توفي الشيخ محمد بن أحمد بن تمام، زاهد الوقت بدمشق.
وتوفي الملك الوك ابن الملك الناصر وكان عظيم الشكل.
وفيها ضربت رقبة عثمان الزنديق بدمشق على الإلحاد، والباجر بقية، سمع منه من الزندقة ما لم يسمع من غيره، لعنه الله.
وتوفي الأمير صلاح الدين يوسف ابن الملك الأوحد، وكان من أكابر أمراء دمشق، ومن بقايا أجواد بني شيركوه، وكان تنكز على شممة بدمشق ينزل إلى صيافته كل سنة، فينفق على ضيافة تنكز نحو ستين ألف درهم.
وفيها توفي السلطان الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي، رحمه الله تعالى، وله ستون سنة، بعد أن خطب له ببغداد والعراق وديار بكر والموصل والروم، وضرب الدينار والدرهم هناك باسمه، كما يضرب له بالشام ومصر، وحج مرات، وحصل لقلوب الناس بوفاته ألم عظيم، فإنه أبطل مكوساً، وكان يستحيي أن يخيب قاصديه، وأيامه أيام أمن وسكينة، وبنى جوامع وغيرها، لولا تسليط لؤلؤ والنشر على الناس في آخر وقته، وعهد لولده السلطان الملك المنصور أبي بكر، فجلس على الكرسي قبل موت والده، وضربت له البشائر في البلاد. ولي من تهنئة وتعزية في ذلك:
ما أساء الدهر حتى أحسنا ... رق فاستدرك حزناً بهنا
بينما البأساء عمت من هنا ... وإذا النعماء عمت من هنا
فبحق أن يسمى محزناً ... وبصدق حين يدعى محسنا
فلئن أوحشنا بدر السما ... فلقد آنسنا شمس السنا
علماً أبدله من علم ... ظاهر الإعراب مرفوع البنا
فجزى الله بخير من نأى ... ووقى من كل ضبر من دنا
أجل والله، لقد أساء الدهر وأحسن، وأهزل وأسمن، وأحزن وسر، وعق وبر، إذ أصبح الملك وباغه بفقد الناصر قاصراً قد ضعفت أركانه، ومات سلطانه، فماله من قوة ولا ناصر، فأمسى بحمد الله وقد ملأ القصور بالمنصور سروراً، وأطاعه الدهر وأهله، فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً.
وفيها ورد إلى حلب زائراً صاحبنا التاج اليماني عبد الباقي بن عبد المجيد بن عبد الله النحوي اللغوي، الكاتب العروضي، الشاعر المنشئ، وجرت معه بحوث، منها مسألة نفسية، وهي: ما لو قال له: عندي اثنا عشر درهماً وسدساً، كم يلزمه؟ فاستبهمت هذه المسألة على الجماعة، فيسر الله لي حلها فقلت: يلزمه سبعة دراهم، إذ المعنى اثنا عشر دراهم وأسداساً، فيكون النصف دراهم؛ وهي ستة دراهم، والنصف أسداساً وهي ستة أسداس بدرهم، فهذه سبعة.
ولو قال اثنا عشر درهما وربعاً لزمه سبعة ونصف.
ولو قال اثنا عشر درهما وثلثاً، لزمه ثمانية، أو ونصفا فتسعة، وهكذا. ومما أنشدني لنفسه قوله:
تجنب أن تذم بك الليالي ... وحاول أن يذم لك الزمان
ولا تحفل إذا كملت ذاتاً ... أصبت العز أم حصل الهوان
بخلت لواحظ من أتانا مقبلاً ... بسلامها ورموزهن سلام
فعذرت نرجس مقلتيه لأنها ... تخشى العذار فإنه نمام
وفيها نقل طشتمر حمص أخضر، من نيابة صفد إلى نيابة حلب.
وفيها في ذي الحجة، وصل إلى حلب الفيل والزرافة، جهزهما الملك الناصر قبل وفاته لصاحب ماردين.
وفيها فتح علاء الدين أيدغدي الزراق، ومعه بعض عسكر حلب، قلعة خندروس، من الروم كانت عاصية وبها أرمن وتتر يقطعون الطرقات.

وفيها صلي بحلب صلاة الغائب على الشيخ عز الدين عبد المؤمن بن قطب الدين عبد الرحمن ابن العجمي الحلبي، توفي بمصر، وكان عنده تزهد وكتب المنسوب.
وفيها توفي بإياس نائبها الأمير علاء الدين مغلطاي الغزي، تقدمت له نكاية في الأرمن، ونقل إلى تربته بحلب.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
في المحرم منها، بايع السلطان الملك المنصور أبو بكر، الملك الناصر الخليفة الحاكم بأمر الله أبا العباس أحمد ابن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان، كان قد عهد إليه والده بالخلافة، فلم يبايع في حياة الملك الناصر، فلما ولي المنصور، بايعه، وجلس معه على كرسي الملك، وبايعه القضاة وغيرهم. وفيها في صفر، توفي شيخ الإسلام، الحافظ جمال الدين يوسف ابن الزكي عبد الرحمن بن المزي الدمشقي بها، منقطع القرين في معرفة أسماء الرجال، مشاركاً في علوم، وتولى مشيخة دار الحديث بعده قاضي القضاة تقي الدين السبكي.
وفيها في صفر خلع السلطان الملك المنصور أبو بكر ابن الملك، واحتج عليه قوصون الناصري، ولي نعمة أبيه. بحجج، ونسب إليه أموراً وأخرجه إلى قوص، إلى الدار التي أخرج الملك الناصر، والده الخليفة المستكفي إليها، جزاءً وفاقاً، ثم أمر قوصون والي قوص فقتله بها، وأقام في الملك أخاه الملك الأشرف كجك، وهو ابن ثمان سنين فقلت في ذلك:
سلطاننا اليوم طفل والأكابر في ... خلف وبينهم الشيطان قد نزغا
وكيف يطمع من مسته مظلمة ... أن يبلغ السؤل والسلطان ما بلغا
وفيها في جمادى الآخرة، جهز قوصون مع الأمير قطلبغا الفخري الناصري عسكراً لحصار السلطان أحمد ابن الملك الناصر بالكرك، وسار الطنبغا نائب دمشق، والحاج أرقطاي نائب طرابلس، بإشارة قوصون، إلى قتال طشتمر بحلب، لكون طشتمر أنكر على قوصون ما اعتمده في حق أخيه المنصور أبي بكر، ونهب الطنبغا بحلب مال طشتمر، وهرب طشتمر إلى الروم، واجتمع بصاحب الروم أرتنا، ثم إن الفخري عاد عن الكرك إلى دمشق بعد محاصرة أحمد بها أياماً، وبعد أن استمال الناصر، أحمد الفخري، فبايعه، ولما وصل الفخري إلى دمشق، بايع للناصر من بقي من عسكر دمشق المتأخرين عن المضي إلى حلب، صحبة الطنبغا. هذا كله والطنبغا ومن معه بالمملكة الحلبية.
ثم سار الفخري إلى ثنية العقاب، وأخذ من مخزن الأيتام بدمشق أربعمائة ألف درهم، وكان الطنبغا قد استدان منه مائتي ألف درهم، وهو الذي فتح هذا الباب، ولما بلغ الطنبغا ما جرى بدمشق، رجع على عقبه، فلما قرب من دمشق، أرسل الفخري إليه القضاة، وطلب الكف عن القتال في رجب، فقويت نفس الطبنغا وأبى ذلك، وطال الأمر على العسكر، فلما تقاربوا بعضهم من بعض، لحقت ميسرة الطنبغا بالفخري، ثم الميمنة، وبقي الطنبغا والحاج أرقطاي والمرقبي وابن الأبي بكري في قليل من العسكر، فهرب الطنبغا وهؤلاء إلى جهة مصر، فجهز الفخري وأعلم الناصر بالكرك.
وخطب للناصر أحمد بدمشق وغزة والقدس، فلما وصل الطنبغا مصر، وهو قوي النفس بقوصون، قدر الله سبحانه تغير أمر قوصون، وكان قد غلب على الأمر لصغر الأشرف، فاتفق أيدغمش الناصري أمير أخور، ويلبغا الناصري وغيرهما، وقبضوا على قوصون، ونهبت دياره، واختطف الحرافيش وغيرهم من دياره، وخزائنه من الذهب والفضة والجواهر والزركش، والحشر والسروج والآلات ما لا يحصى، لأن قوصون كان قد انتقى عيون ذخائر بيت المال، واستغنى من دار قوصون خلق كثير، وقتل على ذلك خلق، وأرسلوا قوصون إلى الإسكندرية، وأهلك بها.
وقبضوا على الطنبغا وحبسوه بمصر، ولما بلغ طشتمر بالروم ما جرى، رجع من الروم إلى دمشق، فتلقاه الفخري والقضاة، ثم رحل الفخري وطشتمر إلى مصر بمن معهما.
وفيها في شهر رمضان، سافر الملك الناصر أحمد من الكرك، فوصل مصر، وعمل أعزية لوالده وأخيه، وأمر بتسمير والي قوص لقتله المنصور.
وخلع الأشرف كجك الصغير، وجلس الناصر على الكرسي، هو والخليفة، وعقد بيعته قاضي القضاة تقي الدين السبكي، ثم أعدم الطنبغا والمرقبي.
وفيها كسر حسن بن ممرتاش بن جوبان من التتر، طغاي بن سوتاي في الشرق، وتبعه إلى بلد قلعة الروم، فاستشعر الناس لذلك.

وفيها عزل الملك الأفضل محمد ابن السلطان الملك المؤيد، صاحب حماة والمعرة وبارين وبلادهن، ونقل إلى دمشق من جملة أمرائها. تغيرت سيرة الأفضل وما كان فيه من التزهد قبل عزله، وحبس التاج ابن العز طاهر بن قرناص بين حائطين حتى مات، وقطع أشجار بستانه، وظهر في الليل من بعض أعقاب أشجار البستان التي لمعت نور، فما أفلح بعد ذلك.
وتولى نيابة حماة بعده، مملوك أبيه سيف الدين طقزتمر.
وفيها عزل عن قضاء الحنفية بحماة، القاضي جمال الدين عبد الله بن القاضي نجم الدين بن العديم، وتولى مكانه القاضي تقي الدين محمود بن الحكم.
وفيها أهلك طاجار الدواتدار، وكان مسرفاً على نفسه.
وفيها توفي الأفضل صاحب حماة بدمشق، معزولاً، ونقل إلى تربته بحماة، فخرج نائبها للقاء تابوته، وحزن عليه وحلف أنه ما تولى حماة إلا رجاء أن يردها إلى الأفضل، مكافأة لإحسان أبيه.
وفيها في جمادى الأولى، توفي القاضي برهان الدين إبراهيم الرسعني، قاضي الشافعية بحلب، وكان متعففاً، ويعرف فرائض، رحمه الله تعالى.
وفيها في جمادى الأولى أيضاً، عوقب لؤلؤ القندشى، بدار العدل بحلب حتى مات، واستصفى ماله، وشمت به الناس. قلت:
يا لؤلؤ قد ظلمت الناس لكن ... بقدر طلوعك اتفق النزول
كبرت فكنت في تاج فلما ... صغرت سحقت منه كل لولو
وفيها توفي الأمير بدر الدين محمد بن الحاج أبي بكر، أحد الأمراء بحلب، كان من رجال الدنيا، وله مارستان بطرابلس، وارتفع به الدهر وانخفض، ودفن بتربة جامع أنشأه بحلب بباب أنطاكية.
وفيها توفي الخطيب بدر الدين محمد ابن القاضي جلال الدين القزويني، خطيب دمشق، وتولى السبكي الخطابة، وجرى بينه وبين تاج الدين عبد الرحيم أخي الخطيب المتوفي وقائع، وفي آخر الأمر تعصبت الدماشقة مع تاج الدين، فاستمر خطيباً.
وفيها في شهر رمضان، وصل القاضي علاء الدين علي بن عثمان الزرعي، المعروف بالقرع، إلى حلب، قاضي القضاة، ولاه الطاغية الفخري بالبذل، فاجتمع الناس وحملوا المصحف وتضرروا من ولاية مثله، فرفعت يده عن الحكم، فسافر أياماً ثم عاد بكتب، فما التفتوا إليها، فسافر إلى مصر، وحلب خالية عن قاضي شافعي.
وفيها في شوال عم الشام ومصر جراد عظيم، وكان أذاه قليلاً.
وفيها في ذي الحجة، وصل أيدغمش الناصري إلى حلب نائباً بها، في حشمه عظيمة، وأحسن وعدل وخلع على كثير من الناس، وأقام بحلب إلى صفر، ثم نقل إلى نيابة دمشق، وتأسف الحلبيون لانتقاله عنهم. قلت:
يعرف من تقبله أرضنا ... من لزم الأوسط من فعله
لا تقبل المسرف في جوره ... كلا ولا المسرف في عدله
ونقل طقزتمر من حماة إلى حلب، مكان أيدغمش، ودخلها في عشري صفر، وتولى نيابة حماة مكانه الأمير العالم علم الدين الجاولي، ثم نقل الجاولي إلى نيابة غزة، وولي نيابة حماة مكانه آل ملك، ثم بعده الطنبغا المارداني، كل هذا في مدة يسيرة، وجرى في هذه السنة من تقلبات الملوك والنواب، واضطرابهم، ما لم يجر في مئات السنين. قلت:
عجائب عامنا عظمت وجلت ... أعاماً كان أم مائتين عاما
تصول على الملوك صيال قاض ... قليل الدين في مال اليتامى
وفيها في ذي الحجة، وصل إلى حلب القاضي حسام الدين الغوري، قاضي الحنفية بمصر، الوافد إليها من قضاء بغداد، منفياً من القاهرة، لما اعتمده في الأحكام، ولمعاضدته لقوصون، ولسوء سيرته، فإنه قاضي تتر. ولي بيتان في ذم حمام هما:
حمامكم في كل أوصافه ... يشبه شخصاً غير مذكور
شديد برد وسخ موحش ... قليل ماء فاقد النور
فغيرهما بعض الناس فجعل البيت الأول كذا:
حمامكم في كل أوصافه ... يشبه وجه الحاكم الغوري
وتممه بالبيت الثاني على حاله.
وفيها في ذي الحجة، سافر السلطان الناصر أحمد إلى الكرك، وأخذ من ذخائر بيت المال بمصر ما لا يحصى، وصحب طشتمر والفخري مقيدين، فقتلهما بالكرك قتلة شنيعة، وبطول الشرح في وصف جراءة الفخري وإقدامه على الفواحش. حتى في رمضان، ومصادرته للناس، حتى أنه جهز من صادر أهل حلب، فأراح الله العالم منه، وحصن الناصر الكرك، واتخذها مقاماً له.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة.

فيها في المحرم، انقلب عسكر الشام على الملك الناصر أحمد وهو بالكرك، وكاتبوا إلى مصر، فخلع الناصر وأجلس أخوه السلطان الملك الصالح إسماعيل على كرسي بقلعة الجبل، واستناب آل ملك.
وفيها في ربيع الآخر، حوصر السلطان أحمد بالكرك، واحتج عليه أخوه الصالح بما أخذه من أموال بيت المال، وحصل بنواحي الكرك غلاء لذلك.
وفيها في جمادى الآخرة، توفي نائب دمشق أيدغمش، ودفن بالقبيبات، ويقال إن دمشق لم يمت بها من قديم الزمان إلى الآن نائب سواه، وتولاها مكانه طقزتمر نائب حلب.
وفيها في رجب، وصل الأمير علاء الدين الطنبغا المارداني نائباً إلى حلب.
وفيها في شهر رمضان، توفي الشيخ تاج الدين عبد الباقي اليماني، الأديب، وقد أناف على الستين، وتقدم ذكر وفوده إلى حلب، رحمه الله تعالى، وزر باليمن، وتنقلت به الأحوال، وله نظم ونثر كثير، وتصانيف.
وفيها في شوال، خرج الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي من مصر، بعسكر لحصار الكرك، وكذلك من دمشق، فحاصروا الناصر بها بالنفط والمجانيق، وبلغ الخبز أوقية بدرهم، وغلت دمشق لذلك، حتى أكلوا خبز الشعير.
وفيها وصل علاء الدين القرع إلى حلب، قاضياً للشافعية، وأول درس القاه بالمدرسة قال فيه: كتاب الطهارة باب الميات، فأبدل الهاء بالتاء، فقلت أنا للحاضرين: لو كان باب الميات لما وصل القرع إليه، ولكنه باب الألوف. ثم قال: قال الله تعالى " وجعلها كلمة باقية في عنقه، مكان في عقبه " فقلت أنا: لا والله، ولكنها في عنق الذي ولاه. فاشتهرت عني هاتان التنديدتان في الآفاق.
وفيها في ربيع الآخر، عزل الأمير سليمان بن مهنا بن عيسى عن إمارة العرب، ووليها مكانه الأمير عيسى بن فضل بن عيسى، وذلك بعد القبض على فياض ين مهنا بمصر، وكان سليمان قد ظلم وصادر أهل سرمين، وربط بعض النساء في الجنازير، وهجم عبيده على المخدرات، فأغاثهم الله في وسط الشدة، ثم أعيد بعد مدة قريبة إلى الإمارة.
وفيها توفي بحلب الأمير الطاعن في السن، سيف الدين يلبصطي التركماني الأصل، رأس الميمنة بها، وكان قليل الأذى، مجموع الخاطر.
وفيها توفي بحلب طنبغا حجي، كان جهزه الفخري إليها نائباً عنه في أيام خروجه بدمشق، وهو الذي جبى أموالاً من أهل حلب، وحملها إلى الفخري، وأخذ لنفسه بعضها وباء بإثم ذلك.
وفيها توفي بحلب، الشيخ كمال الدين المهمازي، كان له قبول عند الملك الناصر محمد، ووقف عليه حمام السلطان بحلب، وسلم إليه تربة ابن قراسنقر بها، وكان عنده تصون ومروءة. قلت:
لوفاة الكمال في العجم وهن ... فلقد أكثروا عليه التعازي
قل لهم لو يكون فيكم جواد ... كان في غنية عن المهمازي
وفيها في رجب، اعتقل القرع بقلعة حلب معزولاً، ثم فك عنه الترسيم وسافر إلى جهة مصر.
وفيها في رجب، توفي بطرابلس نائبها، ملك تمر الحجازي، ووليها مكانه طرغاي، وفيه تولى نيابة حماة يلبغا التجباوي.
وفيها في شعبان، وصل القاضي بدر الدين إبراهيم بن الخشاب على قضاء الشافعية بحلب، فأحسن السيرة.
وفيها توفي بحلب الحاج علي بن معتوق الدبيسري، وهو الذي عمر الجامع بطرف بانقوسا، ودفن بتربته بجانب الجامع.
وفيها توفي بهادر التمرتاشي بالقاهرة، وكان بعد وفاة الملك الناصر، الأمراء الغالبين على الأمر.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وسبعمائة.
فيها أغارت التركمان مرات على بلاد سيس، فقتلوا ونهبوا وأسروا وشفوا الغليل، بما فتكت الأرمن ببلاد قرمان.
وفيها في صفر، توفي الأمير علاء الدين الطنبغا المارداني نائب حلب رد خارج باب المقام، وله بمصر جامع عظيم، وكان شاباً حسناً عاقلاً ذا سكينة.
وفيها مزقنا كتاب فصوص الحكم، بالمدرسة العصرونية بحلب، غقيب الدرس، وغسلناه، وهو من تصانيف ابن عربي تنبيهاً على تحريم قنيته ومطالعته وقلت فيه:
هذي فصوص لم تكن ... بنفيسة في نفسها
أنا قد قرأت نقوشها ... فصوابها في عكسها
وفيها توفي بحلب، الأمير سيف الدين بهادر، المعروف بحلاوة، أحد الأمراء بها، وله أثر عظيم في القبض على تنكز، وكان عنده ظلم، وتوعد أهل حلب بشر كبير، فأراحهم الله منه. قلت:
حلاوة مر فما ... أملحه أن يدمنا
إلى البلى مسيرا ... وفي الثرى مكفنا

فيها في صفر، بلغنا أنه توفي الشيخ شهاب الدين أحمد بن المرحل النحوي، الحراني الأصل، المصري الدار، والوفاة، كان متضلعاً من العربية، وعنده تواضع وديانة، نقلت له مرة وهو بحلب، أن أبا العباس ثعلباً أجاز الضم في المنادى صاف والشبيه به، الصالحين للألف واللام، فاستغرب ذلك وأنكره جداً، ثم طالع كتبه فرآه كما نقلت؛ فاستحيى من إنكار ذلك، مع دعواه كثرة الاطلاع. فقلت:
من بعد يومك هذا ... لا تنقل النقل تغلب
لو أنك ابن خروف ... ما كنت عندي كثعلب
وفيها في ربيع الأول، وصل يلبغا التجباوي إلى حلب نائباً، وهو شاب حسن، كان الملك الناصر يميل إليه، وأعطاه مرة أربعمائة ألف درهم، ومرة مائة فرس مسومة، وغالب مال تنكز، وتولى نيابة حماة مكانه سيف الدين طقزتمر الأحمدي، وعنده عقل وعدل، وعند يلبغا عفاف عن مال الرعية، وسطوة وحسن أخلاق في الخلوة.
وفيه سافر قاضي القضاة بحلب، بدر الدين إبراهيم بن الخشاب إلى مصر، ذاهباً بنفسه عن مساواة القرع، وذلك حين بلغه تطلب القرع بحلب، ولابن الخشاب يد طولى في الأحكام وفن القضاء، متوسط الفقه.
وفيه توفي سليمان بن مهنا أمير العرب، وفرح أهل إقطاعه بوفاته.
والقاضي شرف الدين أبو بكر بن محمد بن الشهاب محمود الحلبي، كاتب السر وكيل بيت المال بدمشق، توفي بالقدس الشريف، كتب السر بالقاهرة للملك الناصر محمد، أولاً.
وفيه وصل عسكران من حماة وطرابلس، للدخول إلى بلاد سيس. لتمرد صاحبها كند اصطنيل الفرنجي، ولمنعه الحمل، ومقدم عسكر طرابلس، الأمير صلاح الدين يوسف الدواتدار، أنشدني بحلب في سفرته هذين البيتين للإمام الشافعي، قيل إنهما ينفعان لحفظ البصر:
يا ناظري؛ بيعقوب أعيذ كما ... بما استعاذ به إذ خانه البصر
قميص يوسف ألقاه على بصري ... بشير يوسف فاذهب أيها الضرر
فأنشدت بيتين لي، ينفعان إن شاء الله تعالى، لحفظ النفس والدين والأهل والمال، وهما:
أمررت كفا سبحت فيها الحصى ... وروت الركب بماء طاهر
على معاشي ومعادي وعلى ... ذريتي وباطني وظاهري
وفيها في جمادى الأولى، عاد العسكر المجهز إلى بلد سيس، وما ظفروا بطائل، وكانوا قد أشرفوا على أخذ أذنة، وفيها خلق عظيم وأموال عظيمة، وجفال من الأرمن، فتبرطل أقسنقر مقدم عسكر حلب من الأرمن، وثبط الجيش عن فتحها، واحتج بأن السلطان ما رسم بأخذها، وتوفي أقسنقر المذكور بعد مدة يسيرة بحلب مذموماً، وأبى الله أن يتوفاه ببلاد سيس، مغازياً.
وفيها نقلت جثة تنكز من ديار مصر إلى تربته بدمشق، وتلقاها الناس ليلاً بالشمع والمصاحف والبكاء، ورقوا له، ووقع بدمشق عقيب ذلك مطراً، فعدوا ذلك من بركة القدوم بجثته.
وفيها في جمادى الأولى، توفي بدمشق، الإمام العلامة شمس الدين محمد بن عبد الهادي، كان بحراً زاخراً في العلم.
وفيه قتل الزنديق إبراهيم بن يوسف المقساتي بدمشق، لسبه الصحابة، وقذفه عائشة رضي الله عنهم، ووقوعه في حق جبريل عليه السلام. وفيها في العشرين من شهر وجب، توفي بجبرين الشيخ محمد ابن الشيخ نبهان، كان له القبول التام عند الخاص والعام، وناهيك أن طشتمر حمص أخضر، على قوة نفسه وشمعه، وقف على زاويته بجبرين، وحصة من قرية حريثان، لها مغل جيد، وبالجملة فكأنما ماتت بموته مكارم الأخلاق، وكاد الشام يخلو من المشهورين على الإطلاق: قلت:
وكنت إذا قابلت جبرين زائراً ... يكون لقلبي بالمقابلة الجبر
كأن بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر
زرته قبل وفاته، رحمه الله، فحكى لي قال: حضرت عند الشيخ عبس السرجاوي وأنا شاب وهو لا يعرفني، فحين رآني دمعت عينه وقال: مرحباً بشعار نبهان وأنشد:
وما أنت إلا من سليمى لأنني ... أرى شبهاً منها عليك يلوح

وحكى لي مرة أخرى قال أحضرت بالفوعة غسل الشيخ إبراهيم ابن الشيخ لما مات، وقرأنا عنده سورة البقرة وهو يغسل، فلما وصلنا إلى قوله تعالى " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " رفعنا أيدينا للدعاء، فرفع الشيخ إبراهيم يديه معنا للدعاء وهو ميت على المغتسل، ومحاسن الشيخ محمد، وتلقيه للناس، وتواضعه به ومكاشفاته، كثيرة ومشهورة، رحمه الله ورحمنا به آمين.
وفيها في منتصف شعبان، وقعت الزلزلة العظيمة، وخربت بحلب وبلادها أماكن، ولا سيما منبج، فإنها أقلت ساكنها، وأزالت محاسنها، وكذلك قلعة الرواندان، وعملت أنا في ذلك رسالة، أولها نعوذ بالله من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها، ونستعينه في طيب الإقامة بها، وحسن الرحلة عنها، نعم نستعيذ بالله ونستعين من سم هذه السنة، فهي أم أربعة وأربعين، وختمتها بقولي:
منبج أهلها حكوا دود قز ... عندهم تجعل البيوت قبورا
رب نعمهم فقد ألفوا من ... شجر التوت جنة وحريرا
والله أعلم، وصارت الزلازل تعاود حلب وغيرها سنة وبعض أخرى، وفي الحديث أن كثرة الزلازل من أشراط الساعة.
وفيها توفي طرغاي نائب طرابلس. وفيها بلغنا أن أرتنا صاحب الروم، سليمان خان، ملك التتر، قصده بالتتر إلى الروم، فانكسر كسرة شنيعة، ثم إن الشيخ حسن بن تمرتاش بن جوبان قتل، وهذا من سعادة الإسلام، فان المذكور كان فاسد النية، لكون الملك الناصر محمد قتل أباه وأخذ ماله كما تقدم.
وفيها قطع فياض بن مهنا بن عيسى، فقطع ونهب.
وفيها في شهر رمضان، وصل إلى حلب قاضي القضاة نور الدين محمد بن الصائغ، على قضاء الشافعية، وهو قاض عفيف حسن السيرة عابد.
وفيها في شوال، حاصر يلبغا النائب بحلب، زين الدين قراخا بن دلغادر التركماني، بجبل الدلدل، وهو عسر إلى جانب جيحان، فاعتصم منه بالجبل، وقتل في العسكر، وأسر وجرح، وما نالوا منه طائلاً، فكبر قدره بذلك، واشتهر اسمه، وعظم على الناس شره، وكانت هذه حركة رديئة من يلبغا.
وفيها توفي كمال الدين عمر بن شهاب الدين محمد بن العجمي الحلبي، كان قد تفنن وعرف أصولاً وفقهاً، وبحث على شرح الشافية الكافية في النحو مرة، وبعض أخرى، ودفن ببستانه، رحمه الله، وما خرج من بني العجمي مثله.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وسبعمائة.
فيها في صفر، حوصرت الكرك، ونقبت، وأخذ الملك الناصر أحمد، وحمل إلى أخيه الملك الصالح بمصر، فكان آخر العهد به.
وفيها وصل إلى ابن دلغارد أمان من السلطان، وأفرج عن حريمه، وكن بحلب، واستقر في الأبلستين.
وفيها في ربيع الآخر، بلغنا وفاة الشيخ أثير الدين، أبي حيان النحوي المغربي بالقاهرة، كان بحراً زاخراً في النحو، وهو فيه ظاهري، وكان يستهزئ بالفضلاء من أهل القاهرة، ويحتملونه لحقوق اشتغالهم عليه، وكان يقول عن نفسه: أنا أبو حيات - بالتاء - يعني بذلك تلاميذه، وله مصنفات جليلة منها: تفسير القرآن العظيم، وشرح التسهيل، وارتشاف الضرب من ألسنة العرب مجلد كبير جامع، ومختصرات في النحو، وله نظم ليس على قدر فضيلته، فمن أحسنه قوله:
وقابلني في الدرس أبيض ناعم ... وأسمر لدن أورثا جسمي الردى
فذا هز من عطفيه رمحاً مثففاً ... وذال سل من جفنيه عضباً مهندا
وفيها في جمادى الأولى، توفي بحلب، الحاج محمد بن سلمان الحلبي المعزم، كان عنده ديانة وإيثار، وله مع المصروعين وقائع وعجائب.
وفيه توفي بطرابلس الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدواتدار، أحد الأمراء بطرابلس، وهو واقف المدرسة الصلاحية بحلب كما تقدم، وكان من أكمل الأمراء، ذكياً فطناً معظماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حسن الخط، وله نظم، كان كاتباً، ثم صار دواتدار قبجق بحماة، ثم شاد الدواوين بحلب، ثم حاجباً بها، ثم دواتدار الملك الناصر، ثم نائباً بالإسكندرية، ثم أميراً بحلب، وشاد المال والوقف، ثم أميراً بطرابلس رحمه الله تعالى.
وفيها في شعبان، بلغنا وفاة الشيخ نجم الدين القحفيزي بدمشق، فاضل في العربية والأصلين، ظريف حسن الأخلاق، ومن ذلك أنه أنشد مرة قول الشاعر: أيا نخلتي سلمى إلخ. فقال له بعض التلامذة: يا سيدي وما تيس الماء؟ فقال الشيخ: إن شئت أن تنظره فانظر في الخابية تره.

وفيها توفي بدمشق قاضي القضاة جلال الدين الحنفي الأطروش.
وفيها توفي الأمير علاء الدين أيدغدي الزراق، أتابك عسكر حلب، مسناً، وله سماع، وحكى لي أنه حر الأصل من أولاد المسلمين، وهو فاتح قلعة خندروس كما تقدم.
وتوفي كندغدي، العمري نائب البيرة مسناً، عزل عنها قبل موته بأيام، وعزموا على الكشف عليه، فستره الله بالوفاة، ببركة.محبتة للعلماء والفقراء.
وسيف الدين بلبان جركس، نائب قلعة المسلمين، طال مقامه بها وخلف مالاً كثيراً لبيت المال.
وفيها في شهر رمضان، اتفق سيل عظيم بطرابلس، وهلك فيه خلق منهم ابنا القاضي تاج الدين محمد بن البارنباري، كاتب سرها، وكان أحد الابنين الغريقين ناظر الجيش بها، والآخر موقع الدست، ورق الناس لأبيهما، فقلت وفيه تضمين واهتدام:
وارحمتاه له فإن مصابه ... بابن يبرحه فكيف ابنان
ما أنصفته الحادثات رمينه ... بمودعين وما له قلبان
وزاد نهر حماة وغرق دوراً كثيرة، ولطم العاصي خرطلة شيزر فأخذها، وتلفت بساتين البلد لذلك، ويحتاج إعادتها إلى كلفة كبيرة.
وفيها في ذي القعدة، توفي بدمشق القاضي شمس الدين محمد بن النقيب الشافعي، وتولى تدريس الشامية مكانه، تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي، ثم تولاها السبكي بنفسه، خوفاً عليها، كان ابن النقيب بقية الناس، ومن أهل الإيثار، وأقام حرمة المنصب لما كان قاضي حلب فقيهاً كبيراً محدثاً أصولياً متواضعاً مع الضعفاء، شديداً على النواب. قال رحمه الله: دخلت وأنا صبي أشتغل على الشيخ محي الدين النووي، فقال لي: أهلاً بقاضي القضاة، فنظرت فلم أجد عنده أحداً غيري، فقال: اجلس يا مدرس الشامية وهذا من جملة كشف الشيخ محي الدين.
وابن النقيب حكى هذا بحلب قبل توليته الشامية. وحكى لي يوماً، وإن كنت قد وقفت عليه في مواضع من الكتب، أنه رفع إلى أبي يوسف، صاحب أبي حنيفة، رضي الله عنهما، مسلم قتل كافراً، فحكم عليه بالقود، فأتاه رجل برقعة ألقاها إليه. فيها:
يا قاتل المسلم بالكافر ... جرت وما العادل كالجائر
يا من ببغداد وأعمالها ... من علماء الناس أو شاعر
استرجعوا وابكوا على دينكم ... واصطبروا فالأجر للصابر
فبلغ الرشيد ذلك، فقال لأبي يوسف: تدارك هذا الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة. فطالب أبو يوسف أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها، فلم يأتوا بها، فأسقط القود.
وحكى لنا يوماً في بعض دروسه بحلب، أن مسألة ألقيت على المدرسين والفقهاء بدمشق، فما حلها إلا عامل المدرسة، وهي: رجل صلى الخمس بخمسة وضوءات، وبعد ذلك علم أنه ترك مسح الرأس في أحد الوضوءات، فتوضأ خمس وضوءات، وصلى الخمس، ثم تيقن أيضاً أنه ترك مسح الرأس في أحد الوضوءات الجواب: يتوضأ ويصلي العشاء، فيخرج عن العهدة بيقين، لأن الصلاة المتروكة المسح أولاً، إن كانت العشاء، فقد صحت الصلوات الأربع قبلها، وهذه العشاء المأمور بفعلها خاتمة الخمس، وإن كانت غير العشاء، فالعشاء الأولى والصلوات الخمس المعادة، والعشاء الثالثة صحيحة، غايته ترك مسح في تجديد وضوء ولهذا يجب أن يشترط عدم الحدث إلى أن يصلي الخمس. ثانياً قلت: التحقيق أن الوضوء ثانياً كان يغنيه عنه مسح الرأس وغسل الرجلين، لأن الشرط أنه لم يحدث إلى أن يصلي الخمس ثانياً، وكذلك كان ينبغي للمجيب أن يقول له: إن كنت لم تحدث إلى الآن، فامسح رأسك واغسل رجليك وصل العشاء، إذ الجديد عدم وجوب التتابع، وإن كنت محدثاً الآن، فلا بد من الوضوء كما قال.
وفيها استرجع السلطان الملك الصالح ما باعه الملك المؤيد وابنه الأفضل بحماه والمعرة وبلادهما، من أملاك بيت المال، وهو بأموال عظيمة، وكان غالب الملك، قد طرح على الناس غصباً، وقد اشتريت به تقادم إلى الملك الناصر، فقال بعض المعربين في ذلك:
طرحوا علينا الملك طرح مصادر ... ثم استردوه بلا أثمان
وإذا يد السلطان طالت واعتدت ... فيد الإله على يد السلطان
وكأنما كاشف هذا القائل، فإن مدة السلطان لم تطل بعد ذلك.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وسبعمائة.

والتتار مختلفون مقتتلون من حين مات القان أبو سعيد، وبلاد الشرق والعجم في غلاء ونهب، وجور، بسبب الخلف، من حين وفاته إلى هذه السنة.
وفيها في ربيع الآخر، توفي السلطان الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، بوجع المفاصل والقولنج، وكان فيه ديانة، ويقرأ القرآن، آخر يوم موته، جلس مكانه أخوه السلطان الملك الكامل شعبان، وأخرج آل ملك نائب أخيه إلى نيابة صفد، وقماري إلى نيابة طرابلس.
وفيها في ربيع الآخر، نقل يلبغا الناصري من نيابة. حلب إلى نيابة دمشق، مكان طقزتمر وسافر طقزتمر إلى مصر بعد المبالغة في امتناعه من النقلة من الدمشق، فما أجيب إلى ذلك، وتوفي طقزتمر بمصر بعد مدة يسيرة، وكان عنده ديانة.
وفيه وصل الأمير سيف الدين أرقطاي إلى حلب، نائباً. وأبطل الخمور والفجور بعد اشتهارها، ورفع عن القرى الطرح وكثيراً من المظالم، ورخص السعر، وسررنا به.
وفيها عزل سيف بن فضل بن عيسى عن إمارة العرب، ووليها أحمد بن مهنا، وأعيد إقطاع فياض بن مهنا إليه ورضي عنه، واستعيد من أيدي العرب من الإقطاعات والملك شيء كثير، وجعل خاصاً لبيت المال. وفيها في جمادى الأولى صلي بحلب صلاة الغائب على القاضي عز الدين بن المنجا الحنبلي، قاضي دمشق، وهو معري الأصل.
وفيها في شهر رمضان وصل القاضي بهاء الدين حسن بن جمال الدين سليمان بن ريان إلى حلب، ناظراً على الجيش على عادته، عوضاً عن القاضي بدر الدين محمد ابن الشهاب محمود الحلبي، ثم ما مضى شهر حتى أعيد بدر الدين عوضاً عن بهاء الدين، وهكذا صارت المناصب كلها بحلب قصيرة المدة كثيرة الكلفة. قلت:
ساكني مصر أين ذاك التأني ... والتأني وما لكم عنه عذر
يخسر الشخص ماله ويقاسي ... تعب الدهر والولاية شهر
وفيها كتب على باب قلعة حلب وغيرها من القلاع، نقراً في الحجر، ما مضمونه مسامحة الجند بما كان يؤخذ منهم لبيت المال، بعد وفاة الجندي والأمير، وذلك أحد عشر يوماً وبعض يوم في كل سنة، وهذا القدر هو التفاوت بين السنة الشمسية والقمرية، وهذه مسامحة بمال عظيم.
وفيها قتلت الأرمن ملكهم كنداصطبل الفرنجي، كان علجاً لا يداري المسلمين، فخربت بلادهم وملكوا مكانه.
وفيها في أواخرها، ملكت التركمان قلعة كابان وربضها بالحيلة، وهي من أمنع قلاع سيس مما يلي الروم، وقتلوا رجالها، وسبوا النساء والأطفال، فبادر صاحب سيس الجديد لاستنقاذها، فصادفه ابن دلغادر، فأوقع بالأرمن وقتل منهم خلقاً، وانهزم الباقون. قلت:
صاحب سيس الجديد نادى ... كابان عندي عديل روحي
قلنا تأهب لغير هذا ... فذا فتوح على الفتوح
وبعد فتحها، قصد النائب بحلب أن يستنيب فيها من جهة السلطان، فعتا ابن دلغادر عن ذلك، فجهزوا عسكراً لهدمها، ثم أخذتها الأرمن منه بشؤم مخالفته لولي الأمر، وذلك في رجب سنة سبع وأربعين وسبعمائة.
وفيها في ذي الحجة قبض على قماري الناصرية نائب طرابلس، وعلى آل ملك نائب صفد، وولي طرابلس بيدمر البدري، وصفد أرغون الناصري.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وسبعمائة.
والتتار مختلفون كما كانوا.
وفيها في المحرم طلب الحاج أرقطاي نائب حلب إلى مصر، وارتفع شأنه وصار رأس مشورة مكان حسنكلي بن البابا، فإنه توفي قبل ذلك بأيام، وفيه أقبل إلى حلب وبلادها من جهة الشرق جراد عظيم، فكان أذاه قليلاً بحمد الله. قلت:
رجل جراد صدها ... عن الفساد الصمد
فكم وكم للطفه ... في هذا الرجل يد
وفيها في ربيع الأول، وصل إلى حلب الأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي نائباً، نقل إليها من حماة، وولي حماة مكانه أسندمر العمري.
وفيها في جمادى الأولى، سافر القاضي ناصر الدين محمد ابن الصاحب شرف الدين يعقوب، وولي كتابة السر بدمشق، وتولى كتابة السر بحلب مكانه، القاضي جمال الدين إبراهيم ابن الشهاب محمود الحلبي.

وفيها في جمادى الأولى، بلغنا أن نائب الشام يلبغا خرج إلى ظاهر دمشق، خوفاً من القبض عليه، وشق العصا وعاضد أمراء مصر، حتى خلع السلطان الملك الكامل شعبان، وأجلسوا مكانه أخاه السلطان الملك المظفر أمير حاج، وسلموا إليه أخاه الكامل، فكان آخر العهد به، وناب عن المظفر بمصر الحاج أرقطاي المنصور، ولما تم هذا الأمر تصدق يلبغا في المملكة الحلبية وغيرها بمال كثير ذهب وفضة، شكراً لله تعالى، وكان هذا الملك الكامل سيء التصرف، يولي المناصب غير أهلها بالبذل، ويعزلهم عن قريب ببذل غيرهم، وكان يقول عن نفسه أنا ثعبان لا شعبان.
وفيها في رجب، توفي بحلب الأمير شهاب الدين قرطاي الأسندمري، من مقدمي الألوف، أمير عفيف الذيل متصون.
وفيها في مستهل رجب، سافر طقتمر الأحمدي نائب حلب إلى الديار المصرية، وسببه وحشة بينه وبين نائب الشام، فإنه ما ساعده على خلع الكامل وحفظ أيمانه.
وفيها وقع الوباء ببلاد أزبك، وخلت قرى ومدن من الناس، ثم اتصل الوباء بالقرم، حتى صار يخرج منها في اليوم ألف جنازة، أو نحو ذلك، حكى لي ذلك من أثق به من التجار، ثم اتصل الوباء بالروم، وهلك منهم خلق، وأخبرني تاجر من أهل بلدنا قدم من تلك البلاد، أن قاضي القرم قال: أحصينا من مات بالوباء، فكانوا خمسة وثمانين ألف، غير من لا نعرفه، والوباء اليوم بقبرس، والغلاء العظيم أيضاً.
وفيها في شعبان، وصل إلى حلب الأمير سيف الدين بيدمر البدري، نقل إليها من طرابلس، وولي طرابلس مكانه، وهذا البدري عنده حدة، وفيه بدرة، ويكتب على كثير من القصص بخطه، وهو خط قوي.
وفيها توفي بطرابلس قاضيها شهاب الدين أحمد بن شرف الزرعي، وتولى مكانه القاضي شهاب الدين أحمد بن عبد اللطيف الحموي.
وفيها في ذي الحجة، صدرت بحلب واقعة غريبة، وهي أن بنتاً بكراً من أولاد أولاد عمرو التيزيني، كرهت زوجها ابن المقصوص، فلقنت كلمة الكفر لينفسخ نكاحها قبل الدخول، فقالتها وهي لا تعلم معناها، فأحضرها البدري بدار العدل بحلب، وأمر فقطعت أذناها وشعرها، علق ذلك في عنقها، وشق أنفها، وطيف بها على دابة بحلب وبتيزين، وهي من أجمل البنات وأحياهن، فشق ذلك على الناس، وعمل النساء عليها عزاء في كل ناحية بحلب، حتى نساء اليهود، وأنكرت القلوب قبح ذلك، وما أفلح البدري بعدها. قلت:
وضج الناس من بدر منير ... يطوف مشرعاً بين الرجال
ذكرت ولا سواء بها السبايا ... وقد طافوا بهن على الجمال
وفيه ورد البريد بتوليه السيد علاء الدين علي بن زهرة الحسيني نقابة الأشراف بحلب، مكان ابن عمه الأمير شمس الدين حسن بن السيد بدر الدين محمد بن زهرة، وأعطي هذا إمارة طبلخانات بحلب.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.
والتتار مختلفون.
وفيها في ثالث المحرم، وصل إلى حلب القاضي شهاب الدين بن أحمد بن الرياحي على قضاء المالكية بحلب، وهو أول مالكي استقضى بحلب، ولا بد لها من قاض حنبلي بعد مدة، لتكمل به العدة، إسوة مصر ودمشق. وفي السنة التي قبلها تجدد بطرابلس قاض حنفي مع الشافعي.
وفيها في المحرم، صلي بحلب صلاة الغائب على القاضي شرف الدين محمد بن أبي بكر بن ظافر الهمذاني المالكي، قاضي المالكية بدمشق، وقد أناف على الثمانين، كان ديناً خيراً متجملاً في الملبس، وهو الذي عاضد تنكز على نكبة قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن جملة، وها هم قد التقوا عند الله تعالى.
وفيه ظهر بين منبج والباب جراد عظيم صغير، من بزر السنة الماضية، فخرج عسكر من حلب وخلق من فلاحي النواحي الحلبية، نحو أربعة آلاف نفس، لقتله ودفنه، وقامت عندهم أسواق، وصرفت عليهم من الرعية أموال، وهذه سنة ابتدأ بها الطنبغا الحاجب من قبلهم. قلت:
قصد الشام جراد ... سن للغلات سنا
فتصالحنا عليه ... وحفرنا ودفنا
وفيها في المحرم، سافر الأمير ناصر الدين بن المحسني بعسكر من حلب، لتسكين فتنة ببلد شيزر بين العرب والأكراد، قتل فيها من الأكراد نحو خمسمائة نفس، ونهبت أموال، ودواب.
وفيها في المحرم، عزمت الأرمن على نكبة لا بأس، فأوقع بهم أمير إياس، حسام الدين محمود بن داود الشيباني، وقتل من الأرمن خلقاً، وأسر خلقاً، وأحضرت الرؤوس والأسرى إلى حلب في يوم مشهود، فلله الحمد.

وفيها منتصف ربيع الأول، سافر بيدمر البدري نائب حلب إلى مصر معزولاً، أنكروا عليه ما اعتمده في حق البنت من تيزين، المقدم ذكرها، وندم على ذلك حيث لا ينفعه الندم.
وفيه وصل إلى حلب نائبها أرغون شاه الناصري في حشمة عظيمة، نقل إليها من صفد، وفيه قطعت الطرق وأخيفت السبل، بسبب الفتنة بين العرب، لخروج إمرة العرب عن أحمد بن مهنا إلى سيف بن فضل بن عيسى. قلت:
تريد لأهل مصر كل خير ... وقصدهم لنا حتف وحيف
وهل يسمو لأهل الشام رمح ... إذا استولى على العربان سيف
وفيها في ربيع الآخر، قدم على كركر والختا وما يليها عصافير كالجراد منتشر، فتنازع الناس إلى شيل الغلات بداراً، وهذا مما لم يسمع بمثله وفيه وصل تقليد القاضي شرف الدين موسى بن فياض الحنبلي بقضاء حنابلة بحلب، فصار القضاة أربعة، ولما بلغ بعض الظرفاء أن حلب تجدد بها قاضيان، مالكي وحنبلي أنشد قول الحريري في الملحة:
ثم كلا النوعين جاء فضله ... منكراً بعد تمام الجملة
وفيها في جمادى الأولى، هرب يلبغا من دمشق بأمواله وذخائره التي تكاد تفوت الحصر، خشية من القبض عليه، وقصد البر؛ فخانه الدليل وخذله أصحابه، تناوبته العربان من كل جانب، وألزمه أصحابه قهراً بقصد حماة، ملقياً للسلاح، فلقيه نائب حمص مستشعراً منه، أدخله حماة، ثم حضر من تسلمه من جهة السلطان، وساروا به إلى جهة مصر، فقتلوه بقاقون ودفن بها، وهذا من لطف الله بالإسلام، فإنه لو دخل بلاد التتار أتعب الناس، ورسم السلطان بإكمال جامعه الذي أنشأه بدمشق، وأطلق له ما وقفه عليه، وهو جامع حسن بوقف كثير، وكان يلبغا خيراً للناس من حاشيته بكثير، وكان عفيفاً عن أموال الرعية، وما علمنا أن أحداً من الترك ببلادنا حصل له ما حصل ليلبغا، جمع شمله بأبيه وأمه وإخوته، وكل منهم أمير، إلى أن قضى نحبه، رحمه الله تعالى. وفيها في جمادى الآخرة نقل أرغون شاه من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، فسافر عاشر الشهر وبلغنا أنه وسّط في طريقه مسلمين، وهذا أرغون شاه في غاية السطوة، مقدم على سفك الدم بلا تثبت، قتل بحلب خلقاً ووسط وسمر وقطع بدوياً سبع قطع، بمجرد الظن بحضرته.
وغضب على فرس له قيمة كثيرة، مرح بالعلافة، فضربه حتى سقط، ثم قام فضربه حتى سقط، وهكذا مرات، حتى عجز عن القيام، فبكى الحاضرون على هذا الفرس فقيل فيه:
عقلت طرفك حتى ... أظهرت للناس عقلك
لا كان دهر يولي ... على بني الناس مثلك
وفيه اقتتل سيف بن فضل أمير العرب وأتباعه، أحمد وفياض. في جمع عظيم قرب سلمية، فانكسر سيف ونهبت جماله وماله، ونجا بعد اللتيا والتي في عشرين فارساً، وجرى على بلد المعرة وحماة وغيرهما في هذه السنة، بل في هذا الشهر، من العرب، أصحاب سيف وأحمد وفياض من النهب وقطع الطرق، ورعي الكروم، والزروع، والقطن، والمقاتي، ما لا يوصف.
وفيه انكسر الملك الأستر بن تمرتاش ببلاد الشرق كسرة شنيعة، ثم شربوا من نهر مسموم فمات أكثرهم، ومزقهم الله كل ممزق، وكان هذا المذكور رديء النية، فذاق وبال أمره.
وفيها في أواخرها، وصل إلى حلب نائباً فخر الدين أياز نقل إليها من صفد.
وفيها في رمضان، قتل السلطان الملك المظفر أمير حاج ابن الملك الناصر بن قلاوون بمصر، وأقيم مكانه أخوه السلطان الملك الناصر حسن، كان الملك المظفر قد أعدم أخاه الأشرف كجك، وفتك بالأمراء، وقتل من أعيانهم نحو أربعين أميراً، مثل بيدمر البدري نائب حلب، ويلبغا نائب الشام، وطقتمر النجمي الدواتدار، وأقسنقر الذي كان نائب طرابلس، ثم صار الغالب على الأمر بمصر أرغون العلائي، والكتمر، الحجازي، وتتمش عبد الغني، أمير مائة، مقدم ألف، وشجاع الدين غرلو، وهو أظلمهم، ونجم الدين محمود بن شروين وزير بغداد، ثم وزير مصر، وهو أجودهم وأكثرهم براً ومعروفاً، حكى لنا أن النور شوهد على قبره بغزة، وكان المظفر قد رسم لعبد أسود صورة أن يأخذ على كل رأس غنم تباع بحلب وحماة ودمشق نصف درهم، فيوم وصول الأسود إلى حلب، وصل الخبر بقتل السلطان، فسر الناس بخيبة الأسود.

وفيها في شوال طلب السلطان فخر الدين أياز نائب حلب، إلى مصر، وخافت الأمراء أن يهرب، فركبوا من أول الليل وأحاطوا به، فخرج من دار العدل وسلم نفسه إليهم، فأودعوه القلعة، ثم حمل إلى مصر، فحبس، وهو أحد الساعين في نكبة يلبغا، وأيضاً فإنه من الجركس، وهو أضداد الجنس التتار بمصر، وكان المظفر قد مال عن جنس التتار إلى الجركس ونحوهم، فكان ذلك أحد ذنوبه عندهم، فانظر إلى هذه الدول القصار، التي ما سمع بمثلها في الإعصار قلت:
هذي أمور عظام ... من بعضها القلب ذائب
ما حال قطر يليه ... في كل شهرين نائب
وفيها في ذي الحجة، وصل إلى حلب الحاج أرقطاي، نائباً، بعد أن خطبوه إلى السلطنة. والجلوس على الكرسي بمصر، فأبى، وخطبوا قبله إلى ذلك الخليفة الحاكم بأمر الله، فامتنع، كل هذا خوفاً من القتل، فلما جلس الملك الناصر حسن على الكرسي، طلب الحاج أرقطاي منه نيابة حلب فأجيب، وأعفى الناس من زينة الأسواق بحلب، لأنها تكررت حتى سمجت قلت:
كم ملك جاءوكم نائب ... يا زينة الأسواق حتى متى
قد كرروا الزينة حتى اللحى ... ما بقيت تلحق أن تنبتا
وفيه بلغنا أن السلطان أبا الحسن المريني صاحب المغرب، انتقل من المغرب الجواني من فاس، إلى مدينة تونس، وهي أقرب إلينا من فاس بثلاثة أشهر، وذلك بعد موت ملكها أبي بكر من الحفصيين بالفالج، وبعد أن أجلس أبو الحسن ابنه على الكرسي بالغرب الجواني، وقد أوجس المصريون من ذلك خيفة، فإن بعض الأمراء المصريين الأذكياء، أخبرني أن الملك الناصر محمداً كان يقول: رأيت في بعض الملاحم أن المغاربة تملك مصر، وتبيع أولاد الترك في سويقة مازن، وهذا السلطان أبو الحسن ملك عالم مجاهد عادل، كتب من مدة قريبة بخطه ثلاثة مصاحف، ووقفها على الحرمين، وعلى حرم القدس، وجهز معها عشرة آلاف دينار، اشترى بها أملاكاً بالشام، و ووقفت على القراء والخزنة للمصاحف المذكورة.
ووقفت على نسخة توقيع بمسامحة الأوقاف المذكورة، بمؤن وكلف وأحكار، أنشأه صاحبنا الشيخ جمال الدين بن نباته المصري، أحد الموقعين الآن بدمشق، أوله: الحمد لله الذي أرهف لعزائم الموحدين غرباً، وأطلعهم بهممهم حتى في مطالع الغرب شهباً، وعرف بين قلوب المؤمنين حتى كان البعد قرباً، وكان القلبان قلباً، وأيد بولاء هذا البيت الناصري ملوك الأرض، وعبيد الحق سلماً وحرباً، وعضد ببقائه كل ملك إذا نزل البر أنبته يوم الكفاح أسلاً، ويوم السماح عشباً، وإذا ركب البحر لنهب الأعداء، كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً، وإذا بعث هداياه المتنوعة، كانت عراباً تصحب عرباً ورياضاً تسحب سحباً، وإذا وقف أوقاف البر، سمعت الآفاق من خط يده قرآناً عجباً، واهتزت بذكراه عجباً.
ومنها: وذو الولاء قريب وإن نأت داره، ودان بالمحبة وإن شط شط بحره ومزاره، وهو بأخباره النيرة محبوب، كالجنة قبل أن ترى، موصوف كوصف المشاهد، وإن حالت عن الاكتحال بطلعته أميال السرى، ولما كان السلطان أبو الحسن سر الله ببقائه الإسلام والمسلمين، وسره بما كتب من اسمه في أصحاب اليمين وما أدراك ما أصحاب اليمين، هو الذي مد اليمين بالسيف والقلم، فكتب في أصحابها، وسطر الختمات الشريفة، فنصر الله حزبه بما سطر من أحزابها، ومد الرماح أرشية فاشتقت من قلوب الأعداء قليباً، والأقلام أروية فشفت ضعف البصائر، وحسبك بالذكر الحكيم طبياً.
ومنها ثم وصلت ختمات شريفة كتبها بقلمه المجيد المجدي، وخط سطورها بالعربي، وطالما خط في صفوف الأعداء بالهندي.
ومنها وأمر بترتيب خزنة وقراء على مطالع أفقها، ووقف أوقافها، تجري أقلام الحسنات في أطلاقها وطلقها، وحبس أملاكاً شامية تحدث بنعم الأملاك التي سرت من مغرب الشمس إلى مشرقها، ورغب في المسامحة على تلك الأملاك، من أحكار ومؤونات وأوضاع ديوانية، وضع بها خط المسامحة في دواوين الحسنات المسطرات، فأجيب على البعد داعيه، وقوبل بالإسعاف والإسعاد وقفه ومساعيه، وختمها بقوله: والله تعالى يمتع من وقف هذه الجهات بما سطر له في أكرم الصحائف وينفع الجالس من ولاة الأمور في تقريرها، ويتقبل من الواقف.

وفيه صلي بحلب صلاة الغائب على الشيخ شمس الدين بن محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي الدمشقي، منقطع القرين في معرفة أسماء الرجال، محدث كبير، مؤرخ، من مصنفاته كتاب تاريخ الإسلام، وكتاب الموت وما بعده، وكف بصره في آخر عمره، ومولده سنه ثلاث وسبعين وستمائة، واستعجل قبل موته فترجم في تواريخه الأحياء المشهورين بدمشق وغيرها، واعتمد في ذكر سير الناس على أحداث يجتمعون به، وكان في أنفسهم من الناس، فآذى بهذا السبب في مصنفاته أعراض خلق من المشهورين.
وفيها كان الغلاء بمصر ودمشق وحلب وبلادهن، والأمر بدمشق أشد، حتى انكشفت فيه أحوال خلق، وجلا كثيرون منها إلى حلب وغيرها، وأخبرني بعض بني تيمية، أن الغرارة وصلت بدمشق إلى ثلاثمائة، وبيع البيض كل خمسة بيضات بدرهم، واللحم رطل بخمسة وأكثر، والزيت رطل بستة أو سبعة.
وفيها في ذي الحجة، قيد الأمير شهاب الدين أحمد ابن الحاج مغلطاي القره سنقري، وحمل إلى دمشق، فسجن بالقلعة، وكان مشد الوقف بحلب، وحاجباً، وكان قبل هذه الحادثة، قد سعى في بعض القضاة، وقصد له إهانة بدار العدل، فسلم الله القاضي، وأصيب الساعي المذكور، وربما كان طلبه من مصر يوم سعيد في القاضي، ثم خلص بعد ذلك وأعيد إلى حلب، وصلح حاله.
وفيها توفي بدمشق ابن علوي، أوصى بثلاثين ألف درهم، تفرق صدقة، وبمائتي ألف وخمسين ألفاً تشترى بها أملاك وتوقف على البر، فاجتمع خلق من الحرافيش والضعفاء لتفريق الثلاثين ألفاً، ونهبوا خبزاً من قدام الخبازين، فقطع أرغون شاه نائب دمشق منهم أيدي خلق، وسمر خلقاً بسبب ذلك، فخرج منهم خلق من دمشق وتفرقوا ببلاد الشمال.
وفيها في ذي الحجة، ضرب نيرون - بالنون - نائب قلعة المسلمين، قاضيها برهان الدين إبراهيم بن محمد بن ممدود، واعتقله ظلماً وتجبراً، فبعد أيام قليلة طلب النائب إلى مصر معزولاً، ويغلب على ظني أنه طلب يوم تعرضه للقاضي، فسبحان رب الأرض والسماء الذي لا يمهل من استطال على العلماء. قلت:
قل لأهل الحياة مهما ... رمتم عزاً وطاعه
لا تهينوا أهل علم ... فإذا هم سم ساعه
وفيه في العشر الأوسط من آذار، وقع بحلب وبلادها ثلج عظيم، وتكرر، أغاث الله به البلاد، واطمأنت به قلوب العباد، وجاء عقيب غلاء أسعار، وقلة أمطار. قلت:
ثلج بآذار أم الكافور في ... مزاجه ولونه والمطعم
لولاه سالت بالغلاء دماؤنا ... من عادة الكافور إمساك الدم
وفيها جاءت ريح عظيمة قلعت أشجاراً كثيرة، وكانت مراكب للفرنج قد لججت للوثوب على سواحل المسلمين، فغرقت بهذه الريح، وكفى الله المؤمنين القتال. قلت:
قل للفرنج تأدبوا وتجنبوا ... فالريح جند نبينا اجماعا
إن قلعت في البر أشجاراً فكم ... في البحر يوماً شجرت أقلاعا
وفيها توفي الحاج إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي بعزاز، كان له منزلة عند الطنبغا الحاجب نائب حلب، وبنى بعزاز مدرسة حسنة، وساق إليها القناة الحلوة، وانتفع الجامع وكثير من المساجد بهذه القناة، وله آثار حسنة غير ذلك، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
وقراجا بن دلغادر التركماني وجمائعه قد شغبوا، واستطالوا ونهبوا، وتسمى بالملك القاهر، وأبان عن فجور وحمق ظاهر، ودلاه بغروره الشيطان، حتى طلب من صاحب سيس الحمل الذي يحمل إلى السلطان.
وفيها في شهر رجب، وصل الوباء إلى حلب، كفانا الله شره، وهذا الوباء قيل لنا إنه ابتدأ من الظلمات، من خمس عشرة سنة متقدمة، على تاريخه، وعملت فيه رسالة سميتها، النبا عن الوبا.
فمنها: اللهم صل على سيدنا محمد وسلم، ونجنا بجاهه من طغيان الطاعون وسلم، طاعون روع وأمات، وابتدأ خبره من الظلمات، فواهاً له من زائر، من خمس عشرة سنة دائر، ما صين عنه الصين، ولا منع منه حصن حصين، سل هندياً في الهند، واشتد على السند، وقبض بكفيه وشبك، على بلاد أزبك، وكم قصم من ظهر، فيما وراء النهر، ثم ارتفع ونجم، وهجم على العجم، وأوسع الخطا، إلى أرض الخطا، وقرم القرم، ورمى الروم بجمر مضطرم، وجر الجرائر، إلى قبرس والجزائر، ثم قهر خلقاً بالقاهرة، وتنبهت عينه لمصر فإذا هم بالساهرة، وأسكن حركة الإسكندرية، فعمل شغل الفقراء مع الحريرية.
ومنها:

إسكندرية ذا الوباء ... سبع يمد إليك ضبعه
صبراً لقسمته التي ... تركت من السبعين سبعه
ثم تيمم الصعيد الطيب، وأبرق على برقة منه صيب، ثم غزا غزة، وهز عسقلان هزة، وعك إلى عكا، واستشهد بالقدس وزكى، فلحق من النهار بين الأقصى بقلب كالصخرة، ولولا فتح باب الرحمة لقامت القيامة في مرة، ثم طوى المراحل، ونوى أن يحلق الساحل، فصاد صيداً، وبغت بيروت كيداً، ثم صدد الرشق، إلى جهة دمشق، فتربع ثم وتميد، وفتك كل يوم بألف وأزيد، فأقل الكثرة، وقتل خلقاً ببثرة. ومنها:
أصلح الله دمشقاً ... وحماها من مسبه
نفسها خست إلى أن ... تقتل النفس بحبه
ثم أمر المزه، وبرز إلى برزة، وركب تركيب مزج على بعلبك، وأنضد في قارة قفا نبك، ورمى حمص بجلل، وصرفها مع علمه أن فيها ثلاث علل، ثم طلق الكنة في حماة، فبردت أطراف عاصيها من حماة:
يا أيها الطاعون إن حماة من ... خير البلاد ومن أعز حصونها
لا كنت حين شممتها فسممتها ... ولثمت فاها آخذاً بقرونها
ثم دخل معرة النعمان، فقال لها أنت مني في أمان، حماة تكفيك، فلا حاجة لي فيك:
رأى المعرة عيناً زانها حور ... لكن حاجبها بالجور مقرون
ماذا الذي يصنع الطاعون في بلد ... في كل يوم له بالظلم طاعون
ثم سرى إلى سرمين والفوعة، فشعث عن السنة والشيعة، فسن للسنة أسنته شرعاً، وشيع في منازل الشيعة مصرعاً، ثم أنطى أنطاكية بعض نصيب، ورحل عنه حياء من نسيانه ذكرى حبيب، ثم قال لشيزر وحارم لا تخافا مني، فأنتما من قبل ومن بعد في غنى عني، فالأمكنة الردية، تصح في الأزمنة الردية، ثم أذل عزاز وكلزه، وأصبح في بيوتها الحارث ولا أغنى ابن حلزة، وأخذ من أهل الباب، أهل الألباب، وباشر تل باشر، ودلك دلوك وحاشر، وقصد الوهاد والتلاع، وقلع خلقاً من القلاع، ثم طلب حلب، ولكنه ما غلب.
ومنها ومن الأقدار، أنه يتتبع أهل الدار، فمتى بصق أحد منهم دماً، تحققوا كلهم عدماً، ثم يسكن الباصق الأجداث، بعد ليلتين أو ثلاث.
سألت بارئ النسم، في دفع طاعون صدم، فمن أحس بلع دم، فقد أحس بالعدم، ومنها:
حلب والله يكفي ... شرها أرض مشقه
أصبحت حية سوء ... تقتل الناس ببزقه
فلقد كثرت فيها أرزاق الجنائزية فلا رزقوا، وعاشوا بهذا الموسم وعرقوا، من الحمل فلا عاشوا ولا عرفوا، فهم يلهون ويلعبون، ويتقاعدون على الزبون:
اسودت الشهباء في ... عيني من وهم وغش
كادت بنو نعش بها ... أن يلحقوا ببنات نعش
ومما أغضب الإسلام، وأوجب الآلام، أن أهل سيس الملاعين، مسرورون لبلادنا بالطواعين:
سكان سيس يسرهم ما ساءنا ... وكذا العوائد من عدو الدين
فالله ينقله إليهم عاجلاً ... ليمزق الطاغوت بالطاعون
ومنها فإن قال قائل هو يعدي ويبيد، قلت بل الله يبدي ويعيد، فإن جادل الكاذب في دعوى العدوى وتأول، قلنا فقد قال الصادق صلى الله عليه وسلم فمن أعدى الأول، استرسل ثعبانه وانساب، وسمى طاعون الأنساب، وهو سادس طاعون وقع في الإسلام، وعندي أنه الموتان الذي أنذر به نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام.
كان وكان:
أعوذ بالله ربي من شر طاعون النسب ... باروده المستعلي قد طار في الأقطار
دولاب دهاشانه ساعي لصارخ ما رثى ... ولا فدا بذخيره فناشه الطيار
يدخل إلى الدار يحلف ما أخرج إلا بأهلها ... معي كتاب القاضي بكل من في الدار
وفي هذا كفاية، ففي الرسالة طول.
وفيها أسقط القاضي المالكي الرياحي بحلب تسعة من الشهود ضربة وحدة، فاستهجن منه ذلك، وأعيدوا إلى عدالتهم ووظائفهم.
وفيها قتل بحلب زنديقان أعجميان، كانا مقيمين بدلوك.
وفيها بلغنا وفاة القاضي زين الدين عمر البلقيائي بصفد بالوباء، والشيخ ناصر الدين العطار بطرابلس بالوباء، وهو واقف الجامع المعروف به، بها وفيها توفي القاضي جمال الدين سليمان بن ريان الطائي بحلب، منقطعاً تاركاً للخدم، ملازماً للتلاوة.
وفيها بلغنا أن أرغون شاه، وسط بدمشق كثيراً من الكلاب.

وفيها توفي الأمير أحمد بن مهنا أمير العرب، وفتّ ذلك في أعضاد آل مهنا، وتوجه أخوه فياض الغشوم القاطع للطرق، الظالم للرعية إلى مصر، ليتولى الإمارة على العرب، مكان أخيه أحمد، فأجيب إلى ذلك، فشكا عليه رجل شريف، أنه قطع عليه الطريق، وأخذ ماله، وتعرض إلى حريمه، فرسم السلطان بإنصافه منه، فأغلظ فياض في القول طمعاً بصغر سن السلطان، فقبضوا عليه قبضاً شنيعاً.
وفيها في سلخ شوال، توفي قاضي القضاة نور الدين محمد بن الصائغ بحلب، وكان صالحاً عفيفاً ديناً، لم يكسر قلب أحد، ولكنه لخيريته طمع قضاة السوء في المناصب، وصار المناحيس يطلعون إلى مصر ويتولون القضاء في النواحي بالبذل، وحصل بذلك وهن في الأحكام الشرعية. قلت:
مريد قضا بلدة ... له حلب قاعده
فيطلع في ألفه ... وينزل في واحده
وكان رحمه الله من أكبر أصحاب ابن تيمية، وكان حامل رايته في وقعة الكسروان المشهورة.
وفيها في عاشر ذي القعدة، توفي بحلب صاحبنا الشيخ الصالح زين الدين عبد الرحمن بن هبة الله المعري، المعروف بإمام الزجاجية، من أهل القرآن والفقه والحديث، عزب منقطع عن الناس، كان له بحلب دويرات، وقفهن على بني عمه، وظهر له بعد موته كرامات، منها أنه لما وضع في الجامع ليصلى عليه بعد العصر، ظهر من جنازته نور، شاهده الحاضرون، ولما حمل لم يجد حاملوه عليهم منه ثقلاً، حتى كأنه محمول عنهم، فتعجبوا لذلك، ولما دفن وجلسنا نقرأ عنده سورة الأنعام، شممنا من قبره رائحة طيبة، تغلب رائحة المسك والعنبر، وتكرر ذلك، فتواجد الناس وبكوا، وغلبتهم العبرة، وله محاسن كثيرة رحمه الله، ورحمنا به آمين، ومكاشفاته معروفة عند أصحابه.
وفي العشر الأوسط منه، توفي أخي الشقيق وشيخي الشفيق، القاضي جمال الدين يوسف، ترك في آخر عمره الحكم، وأقبل على التدريس والإفتاء، وكان من كثرة الفقه والكرم وسعة النفس وسلامة الصدر بالمحل الرفيع، رحمة الله تعالى، ودفن بمقابر الصالحين قبلي المقام بحلب. قلت:
أخ أبقي ببذل المال ذكراً ... وإن لاموه فيه ووبخوه
أزال فراقه لذات عبشى ... وكل أخ مفارقه أخوه
وفيه توفي الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن القدوة نبهان الجبريني بجبرين، وجلس على السجادة ابنه الشيخ محمد الصوفي، كان الشيخ علي بحراً في الكرم، رحمه الله ورحمنا بهم آمين.
وفي الثامن والعشرين من ذي القعدة، ورد البريد من مصر بتولية قاضي القضاة نجم الدين عبد القاهر بن أبي السفاح، قضاء الشافعية بالمملكة الحلبية، وسررنا بذلك ولله الحمد.
وفيه ظهر بمنبج على قبر النبي متى، وقبر حنظلة بن خويلد أخي خديجة، رضى الله عنها، وهذان القبران بمشهد النور خارج منبج، وعلى قبر الشيخ عقيل المنبجي، وعلى قبر الشيخ ينبوب، وهما داخل منبج، وعلى قبر الشيخ علي، وعلى مشهد المسيحات شمالي منبج، أنوار عظيمة، وصارت الأنوار تنتقل من قبر بعضهم إلى قبر بعض، وتجتمع وتتراكم، ودام ذلك إلى ربع الليل، حتى انبهر لذلك أهل منبج، وكتب ماضيهم بذلك محضراً وجهزه إلى دار العدل بحلب، ثم أخبرني القاضي بمشاهدة ذلك أكابر وأعيان من أهل منبج أيضاً، وهؤلاء السادة هم خفراء الشام، ونرجوا من الله تعالى ارتفاع هذا الوباء الذي كاد يفني العالم ببركتهم، إن شاء الله تعالى. قلت:
اشفعوا يا رجال منبج فينا ... لارتفاع الوباء عن البلدان
نزل النور في الظلام عليكم ... إن هذا يزيذ في الأيمان
وفيها في ذي الحجة، بلغنا وفاة القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري بدمشق، بالطاعون، منزلته في الإنشاء معروفه، وفضيلته في النظم والنثر موصوفه، كتب السر للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بالقاهرة، بعد أبيه محي الدين، ثم عزل بأخيه القاضي علاء الدين، وكتب السر بدمشق، ثم عزل وتفرغ للتأليف والتصنيف، حتى مات عن نعمة وافرة، دخل رحمه الله قبل وفاته بمدة معرة النعمان، فنزل بالمدرسة التي أنشأتها، ففرح لي بها، وأنشد فيها ببتين أرسلهما إلى بخطه وهما:
وفي بلد المعرة دار علم ... بني الوردي منها كل مجد
هي الوردية الحلواء حسناً ... وماء البئر منها ماء ورد
فأجبته بقولي:

أمولانا شهاب الدين إني ... حمدت الله إذ بك تم مجدي
جميع الناس عندكم نزول ... وأنت جبرتني ونزلت عندي
قد تم بعون الله تعالى تاريخ العلامة الملك المؤيد إسماعيل أبي الفداء.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8