كتاب : المختصر في أخبار البشر
المؤلف : أبو الفداء
النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب جميع أعمام
رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وهم حمزة والعباس وأبو طالب وأبو لهب والغيداق، ومنهم من يقول هو حجل الذي سنذكره. والحارث وحجل والمقوم وضرار والزبير وقثم، درج صغيراً وعبد الكعبة، ومنهم من يقول: إِن عبد الكعبة هو المقوم، ثم ولد لعبد الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في عام الفيل. وولد له خارجاً عن عمود النسب جميع أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم حمزة والعباس وأبو طالب وأبو لهب والغيداق، ومنهم من يقول هو حجل الذي سنذكره. والحارث وحجل والمقوم وضرار والزبير وقثم، درج صغيراً وعبد الكعبة، ومنهم من يقول: إِن عبد الكعبة هو المقوم، ثم ولد لعبد الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في عام الفيل.ولنذكر أولاً قصة الفيل، ثم مولده صلى الله عليه وسلم. من الكامل لابن الأثير قال: إِنّ الحبشة ملكوا اليمن بعد حمير، فلما صار الملك إِلى أبرهة منهم بنى كنيسة عظيمة، وقصد أن يصرف حج العرب إِليها ويبطل الكعبة الحرام، فجاء شخص من العرب وأحدث في تلك الكنيسة، فغضب أبرهة لذلك، وسار بجيشه ومعه الفيل، وقيل كان معه ثلاثة عشر فيلاً ليهدم الكعبة، فلما وصل إِلى الطائف، بعث الأسود بن مقصود إِلى مكة، فساق أموال أهلها وأحضرها إِلى أبرهة، وأرسل أبرهة إِلى قريش وقال لهم: لست أقصد الحرب، بل جئت لأهدم الكعبة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، هذا بيت الله، فإِن منع عنه فهو بيته وحرمه، وإن خلا بينه وبينه، فوالله ما عندنا من دفع، ثم انطلق عبد المطلب مع رسول أبرهة إليه، فلما استؤذن لعبد المطلب قالوا لأبرهة: هذا سيد قريش، فأذن له أبرهة وأكرمه، ونزل عن سريره وجلس معه، وسأله في حاجته، فذكر عبد المطلب أباعره التي أخذت له، فقال أبرهة: إِني كنت أظن أنك تطلب مني أن لا أخرب الكعبة التي هي دينك: فقال عبد المطلب: أنا رب الأباعر فأطلبها، وللبيت رب يمنعه فأمر أبرهة برد أباعره عليه، فأخذها عبد المطلب وانصرف إِلى قريش، ولما قارب أبرهة مكة وتهيأ لدخولها، بقي كلما أقبل فيله مكة، وكان اسم الفيل محموداً ينام ويرمي بنفسه إِلى الأرض، ولم يسر، فإِذا أقبلوه غير مكة قام يهرول، وبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيراً أبابيل، أمثال الخطاطيف، مع كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه فقذفتهم بها، وهي مثل الحمص والعدس، فلم يصب أحداً منهم، إلا هلك. وليس كلهم أصابت، ثم أرسل الله تعالى سيلاً، فألقاهم في البحر، والذي سلم منهم ولى هارباً مع أبرهة إِلى اليمن يبتدر الطريقَ، وصاروا يتساقطون بكل منهل وأصيب أبرهة في جسده وسقطت أعضاؤه، ووصل إِلى صنعاء كذلك ومات، ولما جرى ذلك خرجت قريش إلى منازلهم، وغنموا من أموالهم شيئاً كثيراً، ولما هلك أبرهة، ملك بعده ابنه يكسوم، ثم أخوه مسروق بن أبرهة، ومنه أخذت العجم اليمن.
انتهى الكلام في الفصل الخامس وهو آخر التواريخ القديمة ومن هنا نشرع في التواريخ الإسلامية.
الفصل السادس
التاريخ الإسلامي
رسول اللّهمولده
صلى الله عليه وسلم وذكر شيء من شرف بيته الطاهر
أما أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عبد الله بن عبد المُطلب المذكور، وكانتولادة عَبْد الله المذكور قبل الفيل بخمس وعشرين سنة، وكان أبوه يحبه لأنه كان أحسن أولاده وأعفهم، وكان أبوه قد بعثه يمتار له، فمر عبد الله المذكور بيثرب فمات بها، ولرسول اللّه صلى الله عليه وسلم شهران، وقيل كان حملاً، ودفن عبد الله في دار الحارث بن إِبراهيم بن سراقة العدوي، وهم أخوال عبد المطلب، وقيل دفن بدار النابغة ببني النجار. وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال وجارية حبشية، اسمها بركة وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوج عبد الله، وأبوه عبد المطلب، وأمّا آمنة أمّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، وهو قريش، فخطب عبد المطلب من وهب المذكور - وكان وهب حينئذ سيد بني زهرة - ابنته آمنة، لعبد الله، فزوّجه بها، فولدت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، يوم الاثنين، لعشر خلون من ربيع الأول، من عام الفيل. وكان قدوم الفيل في منتصف المحرّم تلك السنة، وهي السنة الثامنة والأربعون من ملك كسرى أنوشروان، وهي سنة إِحدى وثمانين وثمانمائة لغلبة الإِسكندر على دارا، وهي سنة ألف وثلاثمائة وست عشرة لبخت نصر.
ومن دلائل النبوة للحافظ أبي بكر أحمد البيهقي الشافعي قال: وفي اليوم السابع من ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذبح جده عبد المطلب عنه، ودعا له قريشاً، فلما أكلوا قالوا: يا عبد المطلب، أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه، ما سميته؟ قال: سميته محمداً. قالوا: فيم رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله تعالى في السماء، وخلقه في الأرض، وروى الحافظ المذكور بإِسناده المتصل بالعباس رضي الله عنه قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً. قال: فأعجب جده عبد المطلب، وحظي عنده، وقال: ليكونن لابني هذا شأن.
وذكر الحافظ المذكور إِسناداً ينتهي إلى مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الَله صلى الله عليه وسلم، ارتجس إِيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان وهو قاضي الفرس في منامه إِبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك، واجتمع بالموبذان فقص عليه ما رأى، فقال كسرى: أي شيء يكون هذا، فقال الموبذان: وكان عالماً بما يكون، حدث من جهة العرب أمر. فكتب كسرى إِلى النعمان بن المنذر: أما بعد: فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجّه النعمان بعبد المسيح بن عمرو بن حنان الغساني. فأخبره كسرى بما كان من ارتجاس الإِيوان وغيره فقال له: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح. قال كسرى فاذهب إِليه وسله وأتني بتأويل ما عنده. فسار عبد المسيح حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت، فسلم عليه وحياه، فلم يحر جواباً فأنشد عبد المسيح يقول:
أصمّ أمْ يسمع غطريف اليمن ... أمْ فاد فازلَمَ به شأو العنن
يا فاضِلَ الخطةَ أعيت مَنْ ومَنْ ... وكاشِفَ الكُربَة عن وجه الغضن
أتاكَ شيخُ الحيِّ من آل سنن ... وأمه من آل ذيب بن حجن
أبيضَ فضفاضِ الرداءِ والبدن ... رسول قيلَ العجمُ يسري بالوسن
لا يرهبُ الرعدَ ولا ريبَ الزمنْ ... تجوب في الأرض علنِدات شجن
ترفعني وجناً وتهوي بي وجن
قال: ففتح سطيح عينيه ثم قال: عبد المسيح، على جمل مشيح، أتى إِلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إِبلاً صعاباً تقوم خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها. يا عبد المسيح إِذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وخمدت نار فارس، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، فليس الشام لسطيح شاماً، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه، ثم قدم عبد المسيح على كسرى وأخبره بقول سطيح، فقال: إِلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً كانت أمور فملك منهم عشرة في أربع سنين، وذكر في العقد أن سطيحاً كان على زمن نزار بن معد بن عدنان، وهو الذي قسم الميراث بين بني نزار وهم مضر وأخوته.
وأما شرف النبي صلى الله عليه وسلم، وشرف أهل بيته، فقد روى الحافظ البيهقي المذكور، بإِسناد يرفعه إلى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم. قال: قلت يا رسول الله، إِن قريشاً إِذا التقوا، لقي بعضهم بعضاً بالبشاشة، وإذا لقونا، لقونا بوجوه لا نعرفها. فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، عند ذلك غضباً شديداً، ثم قال: " والذي نفس محمد بيده، لا يدخل قلب رجل الإِيمان، حتى يحبكم لله ولرسوله " .
وذكر في موضع آخر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إِنا لقعود بفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِذ مرت به امرأة، فقال بعض القوم: هذه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سُفيان: مثل محمد في بني هشام مثل الريحانة في وسط النتن. فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال: " ما بال أقوام تبلغني عن أقوام، إِنَّ الله عز وجل خلق السموات سبعاً، فاختار العُلى منها، فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق، فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم " .
وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جبرائيل، قلبت الأرض مشارقها ومغاربها، فلم أجد رجلاً أفضل من مُحمد، وقلبت الأرضَ مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم.
نسب رسول اللّه
صلى الله عليه وسلمقد تقدم في آخر الفصل الخامس ذكر بني إِسماعيل عليه السلام الذين على عمود
نسب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، والخارجين عن عمود النسب. وأما نسبة عليه السلام سرداً، فهو أبو القاسم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إِلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.ونسبه صلى الله عليه وسلم إِلى عدنان، متفق عليه من غير خلاف، وعدنان من ولد إِسماعيل ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام من غير خلاف، ولكن الخلاف في عدة الآباء الذين بين عدنان وإسماعيل عليه السلام فعد بعضهم بينهما نحو أربعين رجلاً، وعد بعضهم سبعة، وروي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عدنان بن أدد بن زيد بن برا بن أعراق الثرى. فقالت أم سلمة: زيد هميسع وبرا نبت وإسماعيل أعراق الثرى.
والذي ذكره البيهقي قال: عدنان بن أدد بن المقوم بن ناحور بن تارح بن يعرب بن يشحب بن نابت بن إِسماعيل بن إِبراهيم الخليل عليهما السلام.
وأما الذي ذكره الجواني النسابة في شجرة النسب وهو المختار: فهو عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار بن إِسماعيل عليه السلام، وقد تقدم نسب إِسماعيل مع نسب إِبراهيم الخليل عليهما السلام، مستقصى في موضعه من الفصل الأول فأغنى عن الإعادة. قال: البيهقي المذكور وكان شيخنا أبو عبد الله الحافظ يقول نسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة إِلى عدنان وما وراء عدنان فليس فيه شيء يعتمد عليه.
رضاع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأول من أرضعته بعد أمه ثويبة مولاة عمه أبي لهب، وكان لثويبة المذكورة ابن اسمه مسروح، فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن ابنها مسموح المذكور، وأرضعت أيضاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن مسروح المذكور، حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا سلمة ابن عبد الأسد المخزومي، فهما أخوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع.
رضاعه من حليمة السعديةصلى الله عليه وسلم من حليمة السعدية كانت المراضع يقدمن من البادية إِلى مكة، يطلبن أن يرضعن الأطفال فقدمت عدة منهن، وأخذت كل واحدة طفلاً، ولم تجد حليمة طفلاً تأخذه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يتيماً قد مات أبوه عبد الله، فلذلك لم يرغبن في أخذه، لأنهن كن يرجين الخير من أبي الطفل، ولا يرجين أمه، فأخذته حليمة بنت أبي ذؤيب بن الحارث السعدية، وتسلمته من أمه آمنة وأرضعته، ومضت به إِلى بلادها، وهي بادية بني سعد، فوجدت من الخير والبركة ما لم تعهده قبل ذلك، ثم قدمت به إِلى مكة، وهي أحرص الناس على مكثه عندها، فقالت لأمه آمنة: لو تركت ابنك عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، ولم تزل بها حتى تركته معها، فأخذته وعادت به إلى بلاد بني سعد، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، ولما كان بعض الأيام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيه. الرضاع، خارجاً عن البيوت، إِذ أتى ابن حليمة أمه وقال لها: ذلك القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجت حليمة وزوجها نحوه، فوجداه قائماً، فقالا: مالك يا بني فقال: " جاءني رجلان فأضجعاني وشقا بطني. فقال زوج حليمة لها: قد حسبت أن هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله. فاحتملته حليمة وقدمت به على أمه آمنة. فقالت آمنة: ما أقدمك به وكنت حريصة عليه، فأبدت حليمة عذراً لم تقبله آمنة منها، وسألتها عن الصحيح. فقالت حليمة: أتخوف عليه من الشيطان. فقالت أمه آمنة: كلا، والله ما للشيطان عليه من سبيل، إِن لابني شأناً، وأخوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع، عبد الله وأنيسة وجذامة وهي الشيماء غلب ذلك على اسمها، وأمهم حليمة السعدية، وأبوهم الحارث بن عبد العزى السعدي وهو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع.
وقدمت حليمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن تزوج بخديجة، وشكت الجدب، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها خديجة، فأعطتها أربعين شاة. ثم قدمت حليمة وزوجها الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النبوة، فأسلمت هي وزوجها الحارث، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مح أمه آمنة، فلما بلغ ست سنين توفيت أمه بالأبواء، بين مكة والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار، تزيره إِياهم فماتت وهي راجعة إِلى مكة، وكفله جده عبد المطلب، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين، توفي جده عبد المطلب، ثم قام بكفالته عمه أبو طالب بن عبد المطلب، وكان أبو طالب شقيق عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خرج به أبو طالب في تجارة إِلى الشام، حتى وصل إِلى بصرى، وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ ذاك ثلاث عشرة سنة، وكان بها راهب يقال له بحيرا، فقال لأبي طالب: ارجع بهذا الغلام، واحذر عليه من اليهود، فإِنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فخرج به عمه أبو طالب حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته، وشب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ، فكان أعظم الناس مهرة وحلماً، وأحسنهم جواباً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش، حتى صار اسمه في قومه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة، وحضر مع عمومته حرب الفجار وعمره أربع عشرة سنة؛ وهي حرب كانت بين قريش وكنانة وبين هوازن، وسميت بالفجار لما انتهكت فيها هوازن حرمة الحرم، وكانت الكرة في هذه الحرب أولاً على قريش وكنانة، ثم كانت على هوازن، وانتصر قريش.
سفرة رسول اللهصلى الله عليه وسلم إِلى الشام في تجارة لخديجة
كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب تاجرة ذات شرف ومال، وكانت قريش قوماً تجاراً، فلما بلغها صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمانته، عرضت عليه الخروج في تجارتها إِلى الشام، مع غلام لها يقال له ميسرة، فأجاب إِلى ذلك وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم الشام، ومعه ميسرة، وباع ما كان معه، واشترى عوضه، ثم أقبل قافلاً إِلى مكة، ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال خديجة، وحدثها ميسرة بما شاهده من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يشاهد ملكين يظلانه وقت الحر، فعرضت خديجة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فتزوجها، وأصدقها عشرين بكرة، وهي أول امرأة تزوجها، ولم يتوج غيرها حتى ماتت، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها خمساً وعشرين سنة، وكان عمرها يومئذ أربعين سنة، وكانت أيماً ولم يترج رسول الله فَي بكراً غير عائشة، وخديجة أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقيت معه بعد مبعثه عشر سنين، وتوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين.
تجديد قريش عمارة الكعبةقيل لما مات إِسماعيل عليه السلام ولي البيت بعده ابنه نابت، ثم صارت ولاية البيت إِلى جرهم، قال عامر بن الحارث الجرهمي:
وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والأمر ظاهر
ومنها:
كأن لم يكن بين الحجون إِلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
إلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
ثم إِن جرهماً بغت، واستحلت المحارم، فأبيدوا، وصارت ولاية البيت إِلى خزاعة، ثم صارت من بعدهم إِلى قريش، وكانت الكعبة قصيرة البناء، فأرادت قريش رفعها، فهدموها ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، فاختصموا فيه، لأن كل قبيلة أرادت أن ترفعه إِلى موضعه، ثم اتفقوا على أن يحكّموا أول داخل من باب الحرم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول داخل، فحكموه، فأمرهم أن يضعوا الحجر في ثوب، وأن يمسك كل قبيلة بطرف من أطرافه، وأن يرفعوه إِلى موضعه، ففعلوا ذلك، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وصوله إِلى موضعه، فوضعه بيده موضعه، ثم أتموا بناء الكعبة، وكانت تكسى القباطي ثم كسيت البرود، وأول من كساها الديباج الحجاج ابن يوسف، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم حين رضيت قريش بحكمه خمساً وثلاثين سنة قبل مبعثه بخمس سنين.
مبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة، بعثه الله تعالى إِلى الأسود والأحمر، رسولاً ناسخاً بشريعته الشرائع الماضية، فكان أول ما ابتدئ به من النبوة الرؤيا الصادقة، وحبب الله تعالى إليه الخلوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في جبل حراء من كل سنة شهراً، فلما كانت سنة مبعثه، خرج إِلى حراء في رمضان للمجاورة فيه، ومعه أهله. حتى إِذا كانت الليلة التي أكرمه الله سبحانه وتعالى فيها جاءه جبريل عليه السلام فقال له: اقرأ. قال له فما أقرأ قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " العلق: 1 " إِلى قوله " علم الإِنسان ما لم يعلم " " العلق: 5 " فقرأها. ثم إِن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إِلى وسط الجبل، فسمع صوتاً من جهة السماء: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبرائيل، فبقي واقفاً في موضعه يشاهد جبرائيل حتى انصرف جبرائيل، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم، وأتى خديجة فحكى لها ما رأى، فقالت: أبشر فوالذي نفس خديجة بيده، إنفي لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم انطلقت خديجة إِلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها، وكان ورقة قد نظر في الكتب وقرأها، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته ما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة: قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران، وإنه نبي هذه الأمة، فرجعت خديجة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة. ولما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف، طاف بالبيت أسبوعاً، ثم انصرف إِلى منزله، ثم تواتر الوحي إِليه أولاً فأولاً، وكان أول الناس إِسلاماً خديجة، لم يتقدمها أحد، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إِلا أربع: آسية زوجة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد " .
أول من أسلم من الناسلا خلاف في أن خديجة أول من أسلم، واختلف فيمن أسلم بعدها، فذكر صاحب السيرة وكثير من أهل العلم، أن أول الناس إِسلاماً بعدها، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعمره تسع سنين، وقيل عشر سنين، وقيل إِحدى عشرة سنة، وكان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل الإسلام، وذلك أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب كثير العيال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس: " إِن أخاك أبا طالب كثير العيال، فأنطلق لنأخذ من بنيه ما يخفف عنه به " فأتيا أبا طالب وقالا: نريد أن نخفف عنك، فقال أبو طالب: اتركا لي عقيلاً واصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، فضمه إِليه، وأخذ العباس جعفراً، فلم يزل علي مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبياً، فصدقه علي، ولم يزل جعفر مع العباس حتى أسلم، من شعر علي في سبقه:
سبقتكم إِلى الإسلام طراً ... غلاماً ما بلغت أوان حلمي
وذكر صاحب السيرة، أن الذي أسلم بعد علي زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشتراه وأعتقه، ثم أسلم بعد زيد أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، وهو عبد اللّه بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة عثمان، وذهب آخرون إِلى أن أول الناس إِسلاماً أبو بكر، ثم أسلم بعد أبي بكر عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وكان إِسلامهم بأن دعاهم أبو بكر إِلى الإسلام، وجاء بهمٍ إِلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوه، رضي الله عنهم، فهؤلاء أول الناس إيماناً، ثم أسلم أبو عبيدة، واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد بن عمرو، وابن نفيل بن عبد العزى، وهو ابن عم عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر.
وكانت دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إِلى الإسلام سراً ثلاث سنين، ثم بعدها أمر الله رسوله بإِظهار الدعوة، ولما نزل " وأنذر عشيرتك الأقربين " " الشعراء: 214 " دعا النبي صلى الله عليه وسلم علياً فقال: " اصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملا لنا عساً من لبن، واجمع لي بني المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به " . ففعل ما أمره ودعاهم، وهم أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس، وأحضر علي الطعام فأكلوا حتى شبعوا. قال علي: لقد كان الرجل الواحد منهم ليأكل جميع ما شبعوا كلهم منه، فلما فرغوا من الأكل، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم، بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: أشد ما سحركم صاحبكم، فتفرق القوم، ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: " يا علي قد رأيت كيف سبقني هذا الرجل إِلى الكلام فاصنع لنا في غد كما صنعت اليوم، واجمعهم ثانياً " فصنع علي في الغد كذلك، فلما أكلوا وشربوا اللبن، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أعلم إِنساناً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إِليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم " فأحجم القوم جميعاً. قال علي: فقلت وإني لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً وأنا يا نبي الله أكون وزيرك عليهم. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برقبة علي وقال: " إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا " ، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك، وتطيع، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم على ما أمره الله، ولم يبعد عنه قومه في أول الأمر، ولم يردوا عليه حتى عاب آلهتهم، ونسب قومه وآباءهم إِلى الكفر والضلال، فأجمعوا على عداوته، إِلا من عصمه اللّه بالإسلام، وذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب، فجاء رجال من أشراف قريش إِلى أبي طالب، منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد مناف، وأبو سفيان بن أمية بن عبد شمس، وأبو البختري بن هشام ابن الحارث بن أسد، والأسود بن المطلب بن أسد، وأبو جهل بن هشام بن المغيرة، والوليد بن المغيرة المخزومي عم أبي جهل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، والعاص بن وائِل السهمي، وهو أبو عمرو بن العاص فقالوا: يا أبا طالب إِنّ ابن أخيك قد عاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا فانْهِه عنا، أو خلِّ بيننا وبينه، فردهم أبو طالب رداً حسناً، واستمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على مَا هو عليه، فعظم عليهم، وأتوا أبا طالب ثانياً وقالوا له ما قالوه أولاً. وقالوا: إِن لم تنهه وإِلا نازلناك وِإياه حتى يهلك أحد الفريقين، فعظم على أبي طالب ذلك، وقال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، إِنَّ قومك قالوا إِلي كذا وكذا، فظن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " واللّه يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، ما تركت هذا الأمر " ، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى وقام، فولى، فناداه أبو طالب أقبل يا ابن أخي وقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً، فأخذت كل قبيلة تعذب من أسلم منها، ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب.
إسلام حمزة
رضي الله عنهكان النبي صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فمر به أبو جهل بن هشام، فشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكلمه صلى الله عليه وسلم، وكان حمزة في القنص، فلما حضر أنبأته مولاة لعبد اللّه بن جدعان بشتم أبي جهل لابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، فغضب حمزة وقصد البيت ليطوف به وهو متوشح قوسه، فوجد ابن هشام قاعداً مع جماعة، فضربه حمزة بالقوس فضجه، ثم قال: أتشتم محمداً وأنا على دينه؟ فقامت رجال من بني مخزوم إِلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل دعوه فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحاً، وتم حمزة على إِسلامه، وعلمت قريش أن رسول اَلله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع بإِسلام حمزة.
إِسلام عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى
وكان شديد البأس والعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، فروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، أو بأبي الحكم بن هشام " وهو أبو جهل، فهدى الله تعالى عمر، وكان قد أخذ سيفه وقصد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه نعيم بن عبد الله النحام، فقال: ما تريد يا عمر: فأخبره، فقال له نعيم: لأن فعلت ذلك لن يتركك بنو عبد مناف تمشي على الأرض، ولكن اردع أختك وابن عمك سعيد بن زيد وخباب، فإِنهم قد أسلموا، فقصدهم عمر وهم يتلون سورة طه من صحيفة، فسمع شيئاً منها، فلما علموا به أخفوا الصحيفة وسكتوا، فسألهم عما سمعه فأنكروه، فضرب أخته فشجهما وقال: أريني ما كنتم تقرؤونه، وكان عمر قارئاً كاتباً، فخافت أخته على الصحيفة وقالت: تعدمها، فأعطاها العهد على أنَه يردها إِليها، فدفعتها إِليه وقال: ما أحسن هذا وأكرمه، فطمعت في إِسلامه، وكان خباب قد استخفى منه، فلما سمع ذلك خرج إِليه، فسألهم عمر عن موضع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: هو بدار عند الصفا، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هناك، وعنده قريب أربعين نفساً، ما بين رجال ونساء، منهم حمزة وأبو بكر الصديق وعلي ابن أبي طالب، فقصدهم عمر وهو متوشح بسيفه، فاستأذن في الدخول، فأذن له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فلما دخل نهض إِليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأخذ بمجمع ردائه، وجبذه جبذة شديدة وقال: " ما جاء بك يا ابن الخطاب، أو ما تزال حتى تنزل بك القارعة " فقال عمر: يا رسول الله جئت لأؤمن باللّه وبرسوله، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتم إِسلام عمر.
الهجرة الأولىوهي هجرة المسلمين إِلى أرض الحبشة
ولما اشتد إِيذاء قريش لأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أذن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لمن ليس له عشيرة تحميه، في الهجرة إِلى أرض الحبشة، فأول من خرج اثنا عشر رجلاً، وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان ومعه زوجة رقيه بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والزبير بن العوام، وعثمان بن مظعون، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وركبوا البحر وتوجهوا إِلى النجاشي، وأقاموا عنده، ثم خرج جعفر بن أبي طالب مهاجراً، وتتابع المسلمون أولاً فأولاً، فكان جميع من هاجر من المسلمين إِلى أرض الحبشة ثلاثة وثمانين رجلاً، وثماني عشرة نسوة سوى الصغار، ومن ولد بها، فأرسلت قريش في طلبهم عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأرسلوا معهما هدية من الأدم إِلى النجاشي، فوصلا وطلبا من النجاشي المهاجرين، فلم يجبهما النجاشي. وقال عمرو بن العاص: سلهم عما يقولون في عيسى، فسألهم النجاشي فقالوا ما قاله الله تعالى من أنه كلمة الله ألقاها إِلى مريم العذراء، فلم ينكر النجاشي ذلك. فأقام المهاجرون في جوار النجاشي آمنين، ورجع عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة خائبين، بعد أن ردّ النجاشي عليهما الهدية.
ولما رأت قريش ذلك وأن الإسلام قد جعل يفشو في القبائل، تعاهدوا على بني هاشم وبني المطلب، أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، وكتبوا بذلك صحيفة وتركوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، وانحازت بنو هاشم، كافرهم ومسلمهم إلى أبي طالب، ودخلوا معه في شعبه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إِلى قريش مظاهراً لهم، وكانت امرأته أم جميل بنت حرب، وهي أخت أبي سفيان، على رأيه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي سماها الله تعالى: حمالة الحطب، لأنها كانت تحمل الشوك، فتضعه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقامت بنو هاشم في الشعب، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحو ثلاث سنين، وبلغ المهاجرين الذين في الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فقدم منهم ثلاثة وثلاثون رجلا، ولما قربوا من مكة، لم يجدوا ذلك صحيحاً، فلم يدخل أحد منهم مكة إلا متخفياً، وكان من الذين قدموا عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعثمان بن مظعون.
نقض الصحيفة
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: " يا عم إِن ربي سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها غير أسماء الله، ونفت منها الظلم والقطيعة " . فخرج أبو طالب إِلى قريش وأعلمهم بذلك وقال: إِن كان ذلك صحيحاً، فانتهوا عن قطيعتنا، وإن كان كذباً دفعت إِليكم ابن أخي، فرضوا بذلك، ثم نظروا فإذا الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزادهم ذلك شراً، فاتفق جماعة من قريش ونقضوا ما تعاهدوا عليه في الصحيفة، من قطيعة بني المطلب.
الإسراءذكر صاحب السيرة أن الإسراء كان قبل موت أبي طالب، وذكر ابن الجوزي، أنه كان بعد موت أبي طالب، في سنة اثنتي عشرة للنبوة، واختلف فيه فقيل: كان ليلة السبت، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، في السنة الثالثة عشرة للنبوة، وقيل كان في ربيع الأول، وقيل: كان في رجب، وقد اختلف أهل العلم فيه، هل كان بجسده أم كان رؤيا صادقة، فالذي عليه الجمهور أنه كان بجسده، وذهب آخرون إلى أنه كان رؤيا صادقة، ورووا عن عائشة رضي الله عنها أنفاً كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه، ونقلوا عن معاوية أيضاً أنه كان يقول: إِنّ الإسراء كان رؤيا صادقة، ومنهم من جعل الإسراء إِلى بيت المقدس جسدانياً، ومنه إِلى السموات السبع وسدرة المنتهى روحانياً.
وفاة أبي طالبتوفي في شوال، سنة عشر من النبوة، ولما اشتد مرضه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عم قلها استحل لك بها الشفاعة يوم القيامة " يعني الشهادة. فقال له أبو طالب يا ابن أخي لولا مخافة السبة، وأن تظن قريش إِنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها، فلما تقارب من أبي طالب الموت، جعل يحرك شفتيه، فأصغى إِليه العباس بأذنه، وقال: واللّه يا ابن أخي لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذي هداك يا عم " . هكذا روي عن ابن عباس، والمشهور أنه مات كافراً، ومن شعر أبي طالب مما يدل على أنه كان مصدقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:
ودعوتني وعلمتْ أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا
والله لن يصلوا إِليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
وكان عمر أبي طالب بضعاً وثمانين سنة.
وفاة خديجة
رضي الله عنها
ثم توفيت خديجة بعد أبي طالب، وكان موتهما قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين. وتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بموتهما المصائب، ونالت منه قريش، خصوصاً أبو لهب بن عبد المطلب، والحكم بن العاص، وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية، فإِنهم كانوا جيران النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤذونه بما يلقون عليه وقت صلاته، وفي طعامه من القاذورات.سفره إلى الطائفولما نالت قريش من رسول الله بعد وفاة عمه، سافر إلى الطائف يتلمس من ثقيف النصرة، ورجاء أن يقبلوا ما جاء به من الله، فوصل إِلى الطائف، وعمد إلى جماعة من أشراف ثقيف، مثل مسعود وحبيب ابني عمرو، فجلس إِليهم ودعاهم إِلى الله وقال له واحد منهم: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك، وقال الآخر: والله لا أكلمك أبداً، لأنك إِن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك، فقام رسول الله من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه إِلى حائط، ورجع عنه سفهاء ثقيف فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إِليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، على من تكلني إِن لم تكن علي غضباناً فلا أبالي " ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى مكة، وقومه أشد مما كانوا عليه من خلافه.
عرض رسول اللّه نفسه على القبائل
صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج، ويدعوهم إِلى الله، فيقول: " يا بني فلان إِني رسول الله إِليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تخلعوا ما يعبد من دونه، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني " .
وعمه أبو لهب ينادي إِنما يدعوكم إِلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، وكان أبو لهب أحول له غديرتان.
ابتداء أمر الأنصاررضي اللّه عنهم
ولما أراد الله تعالى إِظهار أمر دينه، وإعزاز نبيه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم يعرض نفسه على القبائل كما كان يصنع، فبينما هو عند العقبة، إِذ لقي نفراً من الخزرج، من أهل مدينة يثرب، وأهلها قبيلتان، الأوس والخزرج، يجمعهم أب واحد، وهم يمانيون، وبين القبيلتين حروب، وهم حلف قبيلتين من اليهود يقال لهما قريظة والنضير من نسل هارون بن عمران، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام عليهم، وتلى عليهم القرآن، وكانوا ستة رجال فآمنوا به وصدقوه ثم انصرفوا إِلى يثرب، وذكروا ذلك لقومهم ودعوهم إِلى الإسلام، حتى فشا فيهم فلم تبق دار إلا وفيها ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
بيعة العقبة الأولى ولما كان العام المقبل، وافى الموسم اثنا عشر رجلاً من الأنصار، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، وبيعة النساء هي المبايعة على أن لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، فبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ليعلمهم شرائع الإسلام والقرآن. ولما قدم مصعب المدينة، دخل به أسعد بن زرارة وهو أحد الستة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة حائطاً من حوائطم بني ظفر، وكان سعد ابن معاذ سيد الأوس، ابن خالة أسعد بن زرارة، وكان أسيد بن حصين أيضاً سيداً، فأخذ أسيد بن حصين حربته ووقف على مصعب وأسعد، وقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا اعتزلا إِنْ كان لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فجلس أسيد وأسمعه مصعب القرآن، وعرّفه الإسلام، فقال سيد: ما أحسن هذا، كيف تصنعون إِذا أردتم الدخول في هذا الدين، فعلمه مصعب، فأسلم وقال: ورائي رجل إِن اتبعكما، لم يتخلف عنه أحد، وسأرسله إِليكما، يعني سعد بن معاذ، ثم أخذ أسيد حربته وانصرف إِلى سعد بن معاذ، وبعث به إِلى مصعب وأسعد، فلما أقبل قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه، فلما وقف عليهما سعد بن معاذ تهدد أسعد وقال: لولا قرابتك مني ما صبرت على أن تغشانا في دارنا بما نكره، فقال له مصعب: أو ما تسمع، فإِن رضيت أمراً قبلته، وإلا عزلنا عنك ما تكره، فقال: أنصفت. فعرض مصعب عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآنَ. قال فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم. ثم قال: كيف تصنعون إِذا أنتم أسلمتم؟ فعرفاه ذلك فأسلم وانصرف إِلى النادي، حتى وقف عليه ومعه أسيد بن حصين، فلما رآه قومه مقبلاً، قالوا نحلف بالله لقد رجع سعد بغير الوجه الذي ذهب به، فقال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا سيدنا وأفضلنا. قال: فإِن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام، حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى في دار بني عبد الأشهل أحد حتى أسلم، ونزل سعد بن معاذ ومصعب في دار أسعد بن زرارة يدعون الناس إِلى الإسلام، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إِلا وبّها مسلمون، إِلا ما كان من دار بني أمية بن زيد.
بيعة العقبة الثانية
وكانت في سنة ثلاث عشرة من المبعث، وذلك أن مصعب بن عمير عاد إِلى مكة ومعه من الذين أسلموا ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، بعضهم من الأوس وبعضهم من الخزرج، مع كفار من قومهم، وهم مستخفون من الكفار، فلما وصلوا إِلى مكة وأعدوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يجتمعوا به ليلاً في أوسط أيام التشريق بالعقبة وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس وهو مشرك، إِلا أنه أحب أن يتوثق منهم لابن أخيه، فقال العباس: يا معشر الخزرج؛ إِن محمداً منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا وهو في عز ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إِلا الانحياز إِليكم واللحوق بكم، فإن كنتم تقفون عند ما دعوتموه إِليه؛ وتمنعونه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه فمن الآن فدعوه. فقالوا: قد سمعنا العباس، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا القرآن ثم قال: " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأولادكم " . ودار الكلام بينهم؛ واستوثق كل فريق من الآخر، ثم سألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: إِن قتلنا دونك ما لنا؟ قال: الجنة. قالوا: فابسط يدك، فبسط يده وبايعوه، ثم انصرفوا راجعين إِلى المدينة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إِلى المدينة، فخرجوا أرسالاً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
الهجرة النبوية
على صاحبها أفضل الصلاة والسلام
وهي ابتداء التاريخ الإسلامي، أما لفظة التاريخ فإِنه محدث في لغة العرب؛ لأنه معرب من ماه روز، وبذلك جاءت الرواية، روى ابن سليمان عن ميمون بن مهران أنه رفع إِلى عمر بن الخطاب في خلافته رضي الله تعالى عنه صك محله شعبان فقال: أي شعبان؟ أهذا هو الذي نحن فيه؟ أو الذي هو آت؟ ثم جمع وجوه الصحابة وقال: إن الأموال قد كثرت وما قسمنا منها غير موقت، فكيف التوصل إِلى ما نضبط به ذلك؟ فقالوا: نحب أن نتعرف ذلك من رسوم الفرس، فعندها استحضر عمر الهرمزان سأله عن ذلك، فقال: إِن لنا به حساباً نسميه ماه روز، وَمعناه حساب الشهور والأيام، فعربوا الكلمة فقالوا مؤرخ، ثم جعلوا اسمه التاريخ واستعملوه، ثم طلبوا وقتاً يجعلونه أولاً لتاريخ دولة الإسلام، واتفقوا على أن يكون المبدأ سنة هذه الهجرة، وكانت الهجرة من مكة إِلى المدينة شرفهما الله، وقد تصوم من شهور هذه السنة وأيامها المحرم وصفر وثمانية أيام من ربيع الأول. فلما عزموا على تأسيس الهجرة رجعوا القهقري ثمانية وستين يوماً، وجعلوا مبدأ التاريخ أول المحرم من هذه السنة، ثم أحصوا من أول يوم في المحرم إِلى آخر يوم من عمر النبي صلى الله عليه وسلم فكان عشر سنين وشهرين، وأما إِذا حسب عمره من الهجرة حقيقة فيكون قد عاش بعدها تسع سنين وأحد عشر شهراً واثنين وعشرين يوماً وقد وضعنا زايجة تتضمن ما بين الهجرة وبين التواريخ القديمة المشهورة من السنين، وإذا أردت أن تعرف ما بين أي تاريخين شئت منها فانظر إلى ما بينهما وبين الهجرة، وأنقص أقلهما من أكثرهما؛ فمهما بقي يكون ذلك هو ما بينهما مثاله إِذا أردنا أن نعرف ما بين مولد المسيح ومولد رسول الله صلوات الله عليهما وسلامه نقصنا ما بين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الهجرة وهو ثلاث وخمسون سنة وشهران وثمانية أيام من ستمائة وإحدى وثلاثين سنة، يبقى خمسمائة وثمان وسبعون سنة تنقص شهرين وثمانية أيام هي جملة ما بين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مولد المسيح ابن مريم صلوات الله وسلامه عليهما وكذلك أي تاريخين أردت من هذه الدائرة.التواريخ القديمة المشهورة، من السنين بين الهجرة وبين آدم، على مقتضى التوراة اليونانية، واختيار المؤرخين، ستة آلاف ومائتان وست عشرة سنة، وعلى مقتضى التوراة اليونانية، واختيار المنجمين، حسبما أثبتوا في الزيجات، خمسة آلاف وتسعمائة وسبع وستون سنة، وعلى مقتضى التوراة العبرانية، واختيار المؤرخين، أربعة آلاف وسبعمائة وإحدى وأربعون سنة، وأما على اختيار المنجمين، ينقص عنه مائتان وتسع وأربعون سنة، وعلى مقتضى التوراة السامرية، واختيار المؤرخين، خمسة آلاف ومائة وسبع وثلاثون سنة، وأما على اختيار المنجمين، فينقص ما ذكر، كذلك جاء الأمر في جميع التواريخ إلى قبل بخت نصر.
بين الهجرة وبين الطوفان على اختيار المؤرخين، ثلاث آلاف وتسعمائة وأربع وسبعون سنة، وكان الطوفان لستمائة سنة مضت من عمر نوح، وعاش نوح بعده ثلاثمائة وخمسين سنة، وعلى اختيار المنجمين، ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وعشرون سنة، حسبما قرره أبو معشر وكوشيار وغيرهما في الزيجات والتقاويم، بين الهجرة وبين تبلبل الألسن على اختيار المؤرخين، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربع سنين وأما على اختيار المنجمين، فتنقص عنه مائتين وتسعاً وأربعين سنة، حسبما تقدم ذكره.
بين الهجرة وبين مولد إِبراهيم الخليل على اختيار المؤرخين ألفان وثمانمائة وثلاثة وتسعون سنة، وأما على اختيار المنجمين، فتنقص عته مائتين وتسعاً وأربعين سنة بين الهجرة وبين بناء الكعبة على يد إِبراهيم الخليل وولده إِسماعيل، ألفان وسبعمائة ونحو ثلاث وتسعين سنة، وكان ذلك بعد مضي مائة سنة من عمر إبراهيم وهو القريب والله أعلم.
بين الهجرة وبين وفاة موسى عليه السلام، على اختيار المؤرخين، ألفان وثلاثمائة وثمان وأربعون سنة، وأما على اختيار المنجمين فتنقص عنه مائتين وتسعاً وأربعين سنة، بين الهجرة وبين عمارة بيت المقدس على اختيار المؤرخين، ألف وثمانمائة وقريب سنتين وكان فراغه لمضي أحد عشر سنة من ملك سليمان، ولمضي خمسمائة وست وأربعين سنة لوفاة موسى، وأما على اختيار المنجمين، فتنقص عنه مائتين وتسعاً وأربعين سنة.
بين الهجرة وبين ابتداء ملك بختنصر ألف وثلاثمائة وتسع وستون سنة، وليس فيه خلاف، بين الهجرة وبين خراب بيت المقدس ألف وثلاثمائة وخمسون سنة، وكان لمضي تسعهَ عشرة سنة لبختنصر واستمر خراباً سبعين سنة ثم عمر.
بين الهجرة وبين غلبة الإِسكندر على دارا ملك الفرس، تسعمائة وأربع وثلاثون سنة وكانت أيضاً ابتداء ملكه على الفرس. وبقي الإسكندر بعد غلبته على دارا نحو سبع سنين.
بين الهجرة وبين فيلبس تسعمائة وسبع وعشرون سنة، وهو أخو الإسكندر أصغر منه باثني عشر سنة، وملك بعده على مقدونية ذكره ببطلميوس.
بين الهجرة وبين غلبة أغسطس على قلوبطرا ملكة مصر، ستمائة واثنان وخمسون سنة، وكانت بسنة اثنتي عشرة من ملك أغسطس.
بين الهجرة وبين مولد المسيح عليه السلام، ستمائة وإحدى وثلاثون سنة وكان بسنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر، ولإِحدى وعشرين سنة مضت من غلبة أغسطس على قلوبطرا.
بين الهجرة وبين خراب بيت المقدس الثاني، خمسمائة وثمان وخمسون سنة وكان لمضي أربعين سنة من رفع المسيح عليه السلام وهو تاريخ لشتة اليهود إِلى الآن.
بين الهجرة وبين أول ملك أدريانس خمسمائة وسبع سنين. بين الهجرة وبين قيام أزدشير بن بابك، أربعمائة واثنان وعشرون سنة، وهو أيضاً تاريخ انقراض ملوك الطوائف.
بين الهجرة وبين أول ملك دوقلطيانس ثلاثمائة وتسع وثلاثون سنة وهو آخر عبدة الأصنام ملوك الروم.
بين الهجرة وبين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاثة وخمسون سنة وشهرين وثمانية أيام.
بين الهجرة وبين مبعث رسول الله، ثلاث عشرة سنة وشهران وثمانية أيام.
بين الهجرة وبين وفاة رسول الله، تسع سنين وأحد عشر شهراً واثنان وعشرون يوماً وهي بعد الهجرة.
حديث الهجرة
وأما ما كان من حديث الهجرة، فإِنه لما علمت قريش أنه قد صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنصار، وأن أصحابه بمكة قد لحقوا بهم، خافوا من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، فاجتمعوا واتفقوا على أن يأخذوا من كل قبيلة رجلاً، ليضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد، ليضيع دمه في القبائل، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر علياً أن ينام على فراشه، وأن يتشح ببرده الأخضر، وأن يتخلف عنه ليؤدي ما كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الودائع إِلى أربابها، وكان الكفار قد اجتمعوا على باب النبي صلى الله عليه وسلم يرصدونه، ليثبوا عليه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة تراب وتلا أول " يس " ، وجعل ذلك التراب على رؤوس الكفار، فلم يروه، فأتاهم آت وقال: إِن محمداً خرج ووضع على رؤوسكم التراب، وجعلوا ينظرون فيرون علياً عليه برد النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون محمد نائم، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي فعرفوه. وأقام علي بمكة حتى أدّى ودائع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقصد النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من داره، دار أبي بكر رضي الله عنه، وأعلمه بأنّ الله قد أذن بالهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال الصحبة: فبكى أبو بكر رضي الله عنه فرحاً، واستأجرا عبد الله بن أرقط، وكان مشركاً، ليدلهما على الطريق، ومضى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إِلى غار ثور، وهو جبل أسفل مكة، فأقاما فيه ثم خرجا من الغار بعد ثلاثة أيام، وتوجها إِلى المدينة ومعهما عامر بن فهير مولى أبي بكر الصدّيق، وعبد الله بن أرقط الدليل، وهو كافر.
وجدت قريش في طلبه، فتبعه سراقة بن مالك المدلجي، فلحق النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله أدركنا الطلب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إِن الله معنا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على سراقة، فارتطمت فرسه إِلى بطنها في أرض صلبة. فقال سراقة: ادع الله يا محمد أن يخلصني، ولك أنْ أرد الطلب عنك، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فخلص، ثم تبعه، فدعا عليه صلى الله عليه وسلم فترطم ثانياً، وسأل الخلاص وأن يرد الطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، وقال: كيف بك يا سراقة إِذا سورت بسوار كسرى برويز، فرجع سراقة ورد كل من لقيه عن الطلب. أن يقول كفيتم ما هاهنا.
وقدم المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من سنة إِحدى، وذلك يوم الاثنين الظهر، فنزل قباءْ على كلثوم بن الهدم، وأقام بقباء الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجد قباء وهو الذي نزل فيه: " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه " " التوبة: 108 " وخرج من قباء يوم الجمعة، فما مر على دار من دور الأنصار إِلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة، ويعترضون ناقته فيقول: " خلوا سبيلها فإِنها مأمورة " حتى انتهت إِلى موضع مسجده صلى الله عليه وسلم، وكان مربداً لسهل وسهيل ابني عمرو، يتيمين في حجر معاذ بن أعفر فبركت هناك ووضعت جرانها، فنزل عنها النبي صلى الله عليه وسلم، واحتمل أبو أيوب الأنصاري رحل الناقة إِلى بيته، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب الأنصاري حتى بنى مسجده ومساكنه، وقيل بل كان موضع المسجد لبني النجار، وفيه نخل وخرب وقبور المشركين.
تزويج النبي بعائشةصلى الله عليه وسلم بعائشة بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما
وتزوجها قبل الهجرة، بعد وفاة خديجة، ودخل بها بعد الهجرة بثمانية أشهر، وهي ابنة تسع سنين، وتوفي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة.
المؤاخاة بين المسلمين
آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتخذ رسول الله، علي بن أبي طالب أخاً، وكان علي يقول على منبر الكوفةِ، أيام خلافته: أنا عبد اللِّه وأخو رسول الله، وصار أبو بكر وخارجة بن زيد بن أبي زهير الأنصاري، أخوين، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ الأنصاري أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك الأنصاري أخوين، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ربيع الأنصاري أخوين، وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت الأنصاري أخوين، وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك الأنصاري أخوين، وسعيد ابن زيد وأبي بن كعب الأنصاري أخوين، وأول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة، عبد الله بن الزبير، وأول مولود ولد للأنصار النعمان بن بشير.
ثم دخلت سنة اثنتين من الهجرة فيها حولت الصلاة إِلى الكعبة، وكانت الصلاة بمكة، وبعد مقدمه إِلى المدينة بثمانية عشر شهراً، إِلى بيت المقدس، وذلك يوم الثلاثاء منتصف شعبان، فاستقبل الكعبة في صلاة الظهر وبلغَ أهل قباء ذلك، فتحولوا إِلى جهة الكعبة وهم في الصلاة، وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين فرض صيام رمضان. وفي هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسدي، في ثمانية أنفس إِلى نخلة بين مكة والطائف، ليتعرفوا أخبار قريش فمر بهم عير لقريش فغنموها وأسروا اثنين، وحضروا بذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أول غنيمة غنمها المسلمون. من الأشراف للمسعودي، وفي هذه السنة أري عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري صورة الأذان في النوم، فورد الوحي به.
غزوة بدر الكبرى
وهي الغزوة التي أظهر الله بها الدين، وكان من خبرها، أنه لما قدم لقريش قفل من الشام، مع أبي سفيان بن حرب، ومعه ثلاثون رجلاً، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليهم، وبلغ أبا سفيان ذلك فبعث إِلى مكة، وأعلم قريشاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصده، فخرج الناس من مكة سراعاً، ولم يتخلف من الأشراف غير أبي لهب، وبعث مكانه العاص بن هشام، وكانت عدتهم تسعمائة وخمسين رجلاً، فيهم مائة فارس، وخرج محمد عليه السلام من المدينة، لثلاث خلون من رمضان سنة اثنتين للهجرة، ومعه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، منهم سبعة وسبعون من المهاجرين، والباقون من الأنصار، ولم يكن فيهم إِلا فارسان، أحدهما المقداد بن عمرو الكندي، بلا خلاف، والثاني قيل هو الزبير بن العوام، وقيل غيره، وكانت الإِبل سبعين، يتعاقبون عليها، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء، وجاءته الأخبار بأن العير قد قاربت بدراً، وأن المشركين قد خرجوا، ليمنعوا عنها، ثم ارتحل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونزل في بدر، على أدنى ماء من القوم، وأشار سعد بن معاذ ببناء عريش لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فعمل وجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر، وأقبلت قريش، فلما رآهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: اللهّم هذه قريش، قد أقبلت بخيلائها وفخرها. تكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، وتقاربوا، وبرز من المشركين عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب عتبة، وحمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم شيبة، وعلي بن أبي طالب الوليد بن عتبة، فقتل حمزة شيبة، وعلي الوليد، وضرب كل واحد من عبيدة وعتبة صاحبه، وكَّر علي وحمزة على عتبة فقتلاه، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله ثم مات، وتزاحفت القوم ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر على العريش، وهو يدعو ويقول: " اللهم إِن تهلك هذه العصابة، لا تعبد في الأرض، اللهم أنجز لي ما وعدتني " ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه، فوضعها أبو بكر عليه، وخفق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خفقة، ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر فقد أتى نصر اللّه، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش يحرض الناس على القتال، وأخذ حفنة من الحصباء ورمى بها قريشاً وقال: شاهت الوجوه، ثم قال لأصحابه: شدوا عليهم فكانت الهزيمة، وكانت الوقعة صبيحة الجمعة، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وحَمَل عبد الله ابن مسعود رأس أبي جهل بن هشام إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسجد شكراً لله تعالى، وقتل أبو جهل وله سبعون سنة، واسم أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكذلك قتل أخو أبي جهل، وهو العاص بن هشام، ونصر الله نبيه بالملائكة. قال الله تعالى: " إِذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إِني ممدكم بألف من الملائكة " " الأنفال: 9 " وجاء الخبر إِلى أبي لهب بمكة عن مصاب أهل بدر، فلم يبق غير سبع ليال ومات كمداً، وكانت عدة قتلى بدر من المشركين سبعين رجلاً، والأسرى كذلك، فمن القتلى غير من ذكرنا حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، وعبيدة بن سعيد بن العاص بن أمية، قتله علي بن أبي طالب، وزمعة بن الأسود قتله حمزة وعلي، وأبو البحتري بن هشام، قتله المجدر بن زياد ونوفل بن خويلد، أخو خديجة، وكان من شياطين قريش، وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة بن خويلد لما أسلما في حبل، قتله علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعمير بن عثمان بن عمر التميمي، قتله علي أيضاً ومسعود بن أبي أمية المخزومي، قتله حمزة، وعبد الله بن المنذر المخزومي، قتله علي بن أبي طالب، ومنبه بن الحجاج السهمي، قتله أبو يسر الأنصاري، وابنه العاص بن منبه، قتله علي بن أبي طالب، وأخوه نبيه بن الحجاج، اشترك فيه حمزة وسعد بن أبي وقاص، وأبو العاص بن قيس السهمي، قتله علي بن أبي طالب.
وكان من جملة الأسرى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وابنا أخويه، عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ولما انقضى القتال، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسحب القتلى إِلى القليب، وكانوا أربعة وعشرين رجلاً، من صناديد قريش، فقذفوا فيه، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرصة بدر ثلاث ليال، وجميع من استشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار، ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفراء راجعاً من بدر، أمر علياً فضرب عنق النضر بن الحارث، وكان من شدة عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم، إِذا تلا النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، يقول لقريش: ما يأتيكم محمد إِلا بأساطير الأولين، ثم أمر بضرب عنق عقبة بن أبي معيط بن أمية، وكان عثمان بن عفان قد تخلف عن رسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بأمره، بسبب مرضِ زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماتت رقية في غيبة رسول صلى الله عليه وسلم، وكانت مدة غيبة رسول فَي تسعة عشر يوماً.
غزوة بني قينقاع من اليهودوهم أول يهود نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، فخرج إِليهم في منتصف شوال سنة اثنتين، فتحصنوا، فحاصرهم خمس عشرة ليلة، ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتفوا وهو يريد قتلهم، فكلمه عبد الله بن أبي بن أبي سلول الخزرجي المنافق، وكان هؤلاء اليهود خلفاء الخزرج، فأعرض النبي عنه، فأعاد السؤال، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أحسن. فقال: " ويحك أرسلني " فقال لا والله حتى تحسن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هم لك " ثم أمر بإِجلائهم، وغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون جميع أموالهم.
ثم كانت غزوة السويق وكان من أمرها، أن أبا سفيان حلف أن لا يمس الطيب والنساء حتى يغزو محمد صلى الله عليه وسلم، بسبب قتلى بدر، فخرج في مائتي راكب، وبعث قدامه رجال إِلى المدينة، فوصلوا إِلى العريض وقتلوا رجالاً من الأنصار، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ركب في طلبه، وهرب أبو سفيان وأصحابه، وجعلوا يلقونْ جرب سويق تخفيفاٌ، فسميت لذلك غزوة السويق.
غزوة قرترة الكدروقيل كانت سنة ثلاث، وقرقرة الكدر، ماء مما يلي جادة العراق إِلى مكة، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بهذا المرضع جمعاً من سليم وغطفان، فخرج لقتالهم، فلم يجد أحداً، فاستاق ما وجد من النعم، ثم قدم المدينة. وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين، مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه. وفي هذه السنة تزوج علي بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها كانت الوقعة بذي قار بين بكر بن وائل وبين جيش كسرى برويز، وعليه الهامرز، واقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزمت الفرس ومن كان معهم من العرب، وقتل الهامرز. وفيها هلك أمية بن أبي الصلت، واسم أبي الصلت عبد الله ابن ربيعة، وكان أميةْ المذكور من رؤساء الكفار، وكان قد قرأ في الكتب واطلع على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فكفر به حسداً، وكان يرتجي أن يكون هو المبعوث، وكان أمية قد سافر إلى الشام، وعاد إِلى الحجاز عقب وقعة بدر، ولما مر بالقليب قيل له أن فيه قتلى بدر، ومنهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وهما ابنا خال أمية المذكور، فجدع أذني ناقته ووقف على القليب وقال قصيدة طويلة منها:
ألا بكيتَ على الكرا ... م بني الكرامِ أولى الممادح
كبكا الحمام على فرو ... ع الأيك في الغصن الجوانح
يبكين حزني مستكي ... نات يرحن مع الروايح
أمثالهن الباكيا ... تُ المعولات من النوايح
ماذا ببدرٍ والعتن ... قل من مرازبة حجاجح
شمطٌ وشبانٌ بها ... ليل مغاوير وحاوح
إِن قد تغير بطن مكة ... فهي موحشة الأباطح
ثم دخلت سنة ثلاث وفيها في رمضان ولد الحسن بن علي. وفيها قتل كعب بن الأشرف اليهودي قتله محمد بن مسلمة الأنصاري.
غزوة أحد
وكان من حديثها أنه اجتمعت قريش في ثلاثة آلاف، فيهم سبعمائة دارع، ومعهم مائتا فرس، وقائدهم أبو سفيان بن حرب، ومعه زوجته هند بنت عتبة: وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة ومعهن الدفوف يضربن بها، ويبكين على قتلى بدر، ويحرضن المشركين على حرب المسلمين. وساروا من مكة حتى نزلوا ذا الحليفة، مقابل المدينة وكان وصولهم يوم الأربعاء لأربع ليال مضين من شوال، سنة ثلاث، وكان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم المقام في المدينة، وقتالهم بها، وكذلك رأي عبد الله بن أبي بن أبي سلول المنافق، وكان رأي باقي الصحابة الخروج لقتالهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ألف من الصحابة، إِلى أن صار بين المدينة وأحد، فانخزل عنه عبد الله بن أبي بن أبي سلول في ثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا هاهنا، ورجع بمن تبعه من أهل النفاق، ونزل رسول الله كلَ الشعب من أحد، وجعل ظهره إِلى أُحد، ثم كانت الوقعة يوم السبت، لسبع مضين من شوال، وعدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعمائة فيهم مائة دارع، ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين، فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرس لأبي بردة، وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مصعب بن عمير من بني عبد الدار، وكان على ميمنة المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ولواؤهم مع بني عبد الدار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرماة، وهم خمسون رجلاً، وراءه، ولما التقى الناس، وعنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان في النسوة اللاتي معها، وضربن بالدفوف خلف الرجال، وهند تقول:
وبها بني عبد الدار ... وبها حماة الأدبار
ضرباً بكل بتار
وقاتل حمزة عم النبي عليه السلام قتالاً شديداً يومئذ، فقتل أرطأة حامل لواء المشركين، ومر به سباع بن عبد العزى، وكانت أمه ختانة بمكة، فقال له حمزة هلم يا ابن مقطعة البظور، وضربه، فكأنما أخطأ رأسه، فبينما هو مشتغل بسباع، إِذ ضربه وحشي عبد جبير بن مطعم، وكان وحشي حبشياً بحربة، فقتل حمزة، وقتل ابن قمية الليثي مصعب بن عمير حامل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لقريش: إِني قتلت محمداً، ولما قتل مصعب بن عمير، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم، الراية لعلي بن أبي طالب.
الكرة على المسلمين
وانهزمت المشركون، فطمعت الرماة في الغنيمة، وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بملازمته، فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين، ووقع الصراخ أن محمداً قتل، وانكشفت المسلمون، وأصاب فيهم العدو، وكان يوم بلاء على المسلمين، وكانت عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلاً، وعدة قتلى المشركين اثنين وعشرين رجلاً، ووصل العدو إِلى رسول الله عليه السلام، وأصابته حجارتهم حتى وقع، وأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، وكان الذي أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص، أخو سعد بن أبي وقاص، وجعل الدم يسيل على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إِلى ربهم، فنزل في ذلك قوله تعالى: " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإِنهم ظالمون " " آل عمران: 128 " ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشجة، ونزع أبو عبيدة بن الجراح إِحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه وسلم، فسقطت ثنيته الواحدة، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، فكان أبو عبيدة ساقط الثنيتين، ومص سنان أبو سعيد الخدري الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وازدرده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من مس دمي دمه لم تصبه النار " . وروى أن طلحة أصابته يومئذ ضربة فشلت يده وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظاهر بين درعين، ومثلت هند وصواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجدعن الآذان والأنوف، واتخذن منها قلائد، وبقرت هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تسغها، وضرب أبو سفيان زوجها، بزج الرمح شدق حمزة، وصعد الجبل وصرخ بأعلى صوته: الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل، أي ظهر دينك، ولما انصرف أبو سفيان ومن معه، نادى إِنَّ موعدكم بدراً العام القابل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لواحد قل: " هو بيننا وبينكم " . ثم سار المشركون إِلى مكة، ثم التمس رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة، فوجده وقد بقر بطنه وجدع أنفه وأذناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين منهم " . ثم قال: " جاءني جبرائيل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع، حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله " ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجى ببرده، ثم صلى عليه، فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يوضعون إِلى حمزة، فيصلي عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة، وهذا دليل لأبي حنيفة، فإنه يرى الصلاة على الشهيد خلافاً للشافعي رحمهما الله تعالى، ثم أمر بحمزة فدفن، واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إِلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ذلك وقال: " ادفنوهم حيث صرعوا " .
ثم دخلت سنة أربع فيها في صفر قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم من عضل والقارة، وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم من يفقه قومهم في الدين، فبعث معهم ستة نفر، وهم: ثابت بن أبي الأقلح، وخبيب بن عدي، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكير الليثي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، وقدم عليهم مرثد بن أبي مرثد.
فلما وصلوا إِلى الرجيع، وهو ماء لهذيل، على أربعة عشر ميلاً من عسفان، غدروا بهم، فقاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل ثلاثة وأسر ثلاثة، وهم زيد بن الدثنة، وخبيب، وعبد الله بن طارق، فأخذوهم إِلى مكة، وانفلت عبد الله بن طارق في الطريق، فقاتل إِلى أن قتلوه بالحجارة، ووصلوا بزيد بن الدثنة، وخبيب إِلى مكة، وباعوهما من قريش فقتلوهما صبراً.
وفي صفر سنة أربع أيضاً قدم أبو برا عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو بعثت من أصحابك رجالاً إِلى أهل نجد يدعونهم، رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخاف على أصحابي " فقال أبو برا: أنا لهم جار. فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، المنذر بن عمر الأنصاري في أربعين رجلا من خيار المسلمين، فيهم عامر بن فهير مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فمضوا ونزلوا بئر معونة على أربع مراحل من المدينة، وبعثوا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى عدو الله عامر بن الطفيل، فقتل الذي أحضر الكتاب، وجمع الجموع وقصد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقاتلوا وقُتلوا عن آخرهم، إِلا كعب بن زيد، فإنه بقي فيه رمق وتوارى بين القتلى، ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم الخندق، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار، فرأيا الطيور تحوم حول العسكر فقصدا العسكر، فوجدا القوم مقتولين، فقاتل الأنصاري وقتل، وأما عمرو بن أمية فأخذا أسيراً، وأعتقه عامر ابن الطفيل لكونه من مضر، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بالخبر فشق عليه.
غزوة بني النضير من اليهودوسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليهم وحاصرهم، في ربيع الأول سنة أربع. ونزل تحريم الخمر، وهو محاصر لهم، فلما مضى ست ليال محاصراً لهم، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخْليهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إِلا السلاح، فأجابهم إِلى ذلك، فخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير، مظهرين بذلك تجلداً، وكانت أموالهم فيئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يقسمها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين دون الأنصار، إِلا أنّ سهل بن حنيفة وأبا دجانة ذكراً فقراً، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيئاً، ومضى إِلى خيبر من بني النضير ناس، وإلى الشام ناس.
غزوة ذات الرقاعثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجداً، فلقي جمعاً من غطفان في ذات الرقاع، وسميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وكان ذلك في جمادى الأولى، سنة أربع، وفي هذه الغزوة قال رجل من غطفان لقومه: ألا أقتل لكم محمداً؟ قالوا: إلى، وحضر إِلى عند النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد أريد أنظر إِلى سيفك هذا، وكان محّلى بفضة، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إِليه، فأخذه واستله، ثم جعل يهزه ويهم، ويكبته الله، ثم قال يا محمد: ما تخافني؟ فقال له: لا أخاف منك ثم رد سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليه، فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إِذ هم قوم أن يبسطوا إِليكم أيديهم فكيف أيديهم عنكم " " المائدة: 11 " .
غزوة بدر الثانيةوفي شعبان سنة أربع، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لميعاد أبي سفيان، وأتى بدراً وأقام ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان من مكة، ثم رجع من أثناء الطريق إِلى مكة، فلما لم يأت انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، وفي هذه السنة ولد الحسين بن علي رضي الله عنهما. ثم دخلت سنة خمس.
غزوة الخندق
وهي غزوة الأحزاب
وكانت في شوال من هذه السنة، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحزب قبائل العرب، فأمر بحفر الخندق حول المدينة، قيل: إِنه كان بإِشارة سلمان الفارسي، وهو أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت للنبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق عدة معجزات.منها: ما رواه جابر قال: اشتدت عليهم كدية أي صخرة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وسلم بماء وتفل فيه ونضحه عليها، فانهالت تحت المساحي، ومنها أن ابنة بشير بن سعد الأنصاري، وهي أخت النعمان بن بشير، بعثتها أمها بقليل تمر غذاء أبيها بشير، وخالها عبد الله بن رواحة، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاها وقال: " هاتي ما معك يا بنية " قالت: فصببت ذلك التمر في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما امتلأتا، ثم دعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بثوب، وبدد ذلك التمر عليه، ثم قال لإِنسان: اصرخ في أهل الخندق أنْ هلموا إِلى الغداء، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
ومنها ما رواه جابر قال: كانت عندي شويهة غير سمينة، فأمرت امرأتي أن تخبز قرص شعير، وأن تشوي تلك الشاة لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وكنا نعمل في الخندق نهاراً، وننصرف إذا أمسينا، فلما انصرفنا من الخندق، قلت: يا رسول الله صنعت لك شويهة ومعها شيئاً من خبز الشعير، وأنا أحب أن تنصرف إِلى منزلي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصرخ في الناس، أن انصرفوا مع رسول صلى الله عليه وسلم إِلى بيت جابر، قال جابر: فقلت إِنّا لله وإنّا إِليه راجعون، وكان قصده أن يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، وقدّمنا له ذلك، فبرك وسمى، ثم أكل، وتواردها الناس، كلما صدر عنها قوم جاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.
وروى سلمان الفارسي قال: كنت قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أعمل في الخندق، فتغلظ علي الموضع الذي كنت أعمل فيه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة المكان، أخذ المعول وضرب ضربة، فلمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب أخرى فلمعت برقة أخرى، ثم ضرب أخرى فلمعت برقة أخرى، قال: فقلت بأبي أنت وأمي، ما هذا الذي يلمع تحت المعول، فقال: " أرأيت ذلك يا سلمان فقلت: نعم. فقال: " أما الأولى، فإن الله فتح علي بها اليمن، وأما الثانية: فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب، وأما الثالثة: فإن الله فتح علي بها المشرق " ، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، وأقبلت قريش في أحابيشها ومن تبعها من كنانة، في عشرة آلاف وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد، وكان بنو قريظة وكبيرهم كعب بن أسد، قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم فما زال عليهم أصحابهم من اليهود حتى نقضوا العهد، وصاروا مع الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم عند ذلك الخطب واشتد البلاء، حتى ظن المؤمنون كل الظن، ونجم النفاق، حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط وأقام المشركون بضعاً وعشرين ليلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقابلهم، وليس بينهم قتال غير المراماة بالنبل، ثم خرج عمرو بن عبد ود من ولد لؤي بن غالب يريد المبارزة، فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له عمرو: يا ابن أخي والله ما أحب أن أقتلك. فقال علي: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك ونزل عن فرسه فعقره، وأقبل إلى علي وتجاولا وعلا عليهما الغبرة، وسمع المسلمون التكبير، فعلموا أن علياً قتله، وانكشفت الغبرة وعلي على صدر عمرو يذبحه، ثم إن الله تعالى أهب ريح الصبا، كما قال الله عزّ وجل: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها " " الأحزاب: " وكان ذلك في أيام شاتية. فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنيتهم، ورمى الله الاختلاف بينهم، فرحلت قريش مع أبي سفيان، وسمعت غطفان ما فعلت قريش فرحلوا راجعين إلى بلادهم.
غزوة بني قريظة
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، انصرف عن الخندق راجعاً إلى المدينة، ووضع المسلمون السلاح، فلما كان الظهر، أتى جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا ببني قريظة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه برايته إلى بني قريظة، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئر من آبارهم، وتلاحق الناس، وأتى قوم بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصل أحد العصر إلا ببني قريظة، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك، وحاصر بني قريظة خمساً وعشرين ليلة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، ولما اشتد بهم الحصار، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا حلفاء الأوس، فسأل الأوس رسول الله صلى الله عليه وسلم في إطلاقهم، كما أطلق بني قينقاع، حلفاء الخزرج بسؤال عبد الله بن أبي بن أبي سلول المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا ترضون أن يحكم فيهم سعد بن معاذ وهو سيد الأوس " ،. فقالوا: إلى، ظناً منهم أن يحكم بإطلاقهم، فأمر بإحضار سعد، وكان به جرح في أكحله من الخندق، فحملت الأوس سعداً على حمار قد وطأوا له عليه بوسادة، وكان رجلاً جسيماً، ثم أقبلوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون لسعد: يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم. والمهاجرون يقولون: إنما أراد صلى الله عليه وسلم الأنصار، والأنصار يقولون: قد عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، فقاموا إليه وقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله قد حكمك في مواليك. فقال سعد: أحكم فيهم، أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة " ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وحبس بني قريظة في بعض دور الأنصار، وأمر فحفر لهم خنادق، ثم بعث بهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، وكانوا سبعمائة رجل يزيدون أو ينقصون عنها قليلاً. ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني قريظة فأخرج الخمس، واصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو، فكانت في ملكه حتى ماتت، ولما انقضى أمر بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فمات، رضي الله عنه، وجميع من استشهد من المسلمين في حرب الخندق ستة نفر، منهم سعد بن معاذ، ما بعد حرب بني قريظة على ما وصفناه، وكان سعد بن معاذ لما جرح على الخندق، قد سأل الله تعالى أن لا يميته حتى يغزو بني قريظة، لغدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاندمل جرحه حتى فرغ من غزو بني قريظة كما سأل الله تعالى، ثم انتقض جرحه ومات، رحمه الله تعالى، وفي حرب بني قريظة، لم يستشهد غير رجل واحد، وكانت غزوة بني قريظة في ذي القعدة، سنة خمس، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حتى خرجت السنة.
ثم دخلت سنة ستة فيها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى إلى بني لحيان، طلباً بثأر أهل الرجيع فتحصنوا برؤوس الجبال، فنزل عسفان تخويفاً لأهل مكة، ثم رجع إلى المدينة.
غزوة ذي قردثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أياماً، فأغار عيينة بن حصين الفزاري على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بالغابة، فخرج رسول الله يوم الأربعاء، حتى وصل إلى ذي قرد، لأربع خلون من ربيع الأول، فاستنقذ بعضها، وعاد إلى المدينة، وكانت غيبته خمس ليال، وذو قرد موضع على ليلتين من المدينة على طريق خيبر.
غزوة بني المصطلق
وكانت في شعبان من هذه السنة، أعني سنة ست، وقيل سنة خمس، وكان قائد بني المصطلق الحارث بن أبي ضرار، ولقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ماء لهم يقال له المريسيع، واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق، فقتل وسبى وغنم الأموال ووقعت جويرة بنت قائدهم، الحارث بن أبي ضرار، في سهم ثابت بن قيس، فكاتبته على نفسها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتق بتزوجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فكانت عظيمة البركة على قومها، وفي هذه الغزوة قتل رجل من الأنصار، رجلاً من المسلمين خطأ، يظنه كافراً، وكان المقتول من بني ليث بن بكر، واسمه هشام، وكان أخوه مقيس مشركاً، فلما بلغه قتل أخيه خطأ، قدم من مكة مظهراً الإسلام، وأنه يطلب دية أخيه، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كثير ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم رجع إلى مكة مرتداً، وقال من أبيات لعنه الله:
حللت به وترى وأدركت ثورتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
وهو ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة، وفي هذه الغزوة ازدحم جهجاه الغفاري، أجير عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسنان الجهني، حليف الأنصار، على الماء، وتقاتلا، فصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين، وصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، فغضب عبد الله بن أُبي بن أبي سلول المنافق، وعنده رهط من قومه، فيه زيد بن أرقم، فقال عبد الله المنافق: لقد فعلوها قد كاثرونا في بلادنا، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة، لنخرجن الأعز منها الأذل، ثم قال لمن حضر من قومه: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، ولو مسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا عنكم، فأخبر زيد بن أرقم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال يا رسول الله: مر به عبد الله بن بشير فليقتله، فقالي النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يتحدث الناس إذن أن محمداً يقتل أصحابه، ثم أمر بالرحيل، في وقت لم يكن ليرحل فيه، ليقطع ما الناس فيه، فلقيه أسيد بن حصين وقال: يا رسول الله، رحت في ساعة لم تكن لتروح فيها، فقال: أوما بلغك ما قاله عبد الله بن أبي؟ فقال: وماذا قال: فأخبره رسول الله بمقاله. فقال أسيد: أنت والله تخرجه إن شئت، أنت العزيز وهو الذليل، وبلغ ابن عبد الله المنافق، واسمه أيضاً عبد الله وكان حسن الإسلام، مقال أبيه، فقال يا رسول الله: بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلاً فمرني، فأنا أحمل إليك رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل ترفق به وتحسن صحبته.
قصة الإفك ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة، وكان ببعض الطريق، قال أهل الإفك ما قالوا: وهم مسطح بن إثاثة بن عباد بن عبد المطلب، وهو ابن خالة أبي بكر، وحسان بن ثابت، وعبد الله بن أبي بن أبي سلول الخزرجي المنافق، وأم حسنة ابنة جحش فرموا عائشة بالإفك مع صفوان بن المعطل، وكان صاحب الناقة، فلما نزلت براءتها، جلدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانين ثمانين إلا عبد الله بن أبي فإنه لم يجلده.
من الأشراف للمسعودي، وفي هذه الغزوة، أعني غزوة بني المصطلق نزلت آية التيمم.
عمرة الحديبية
وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ذي القعدة، سنة ست، معتمراً لا يريد حرباً بالمهاجرين والأنصار في ألف وأربعمائة، وساق الهدي وأحرم بالعمرة، وسار حتى وصل إِلى ثنية المرار مهبط الحديبية أسفل مكة، وأمر بالنزول فقالوا: لينزل على غير ماء، فأعطى رجلاً سهماً من كنانته، وغرره في بعض تلك القلب في جوفه، فجاش حتى ضرب الناس عنه، وهذا من مشاهير معجزاته صلى الله عليه وسلم، فبعث قريش عروة بن مسعود الثقفي، وهو سيد أهل الطائف، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إِنّ قريشاً لبسوا جلود النمور، وعاهدوا الله أن لا تدخل عليهم مكة عنوة أبداً. ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقرع يده ويقول: كف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إِليك. فقال له عروة: ما أفظك وأغلظك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام عروة، من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرى ما يصنع أصحابه لا يتوضأ إِلا ابتدروا وضوءه ولا يبصق إِلا ابتدروا بصاقه، ولا يسقط من شعره شيء إِلا أخذوه، ورجع إِلى قريش وقال لهم: أني جئت: كسرى وقيصر في ملكهما، فوالله ما رأيت ملكاً في قومه مثل محمد في أصحابه، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إِلى قريش، ليعلمهم بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأت لحرب، فقال عمر: أني أخاف قريشاً لغلظي عليهم، وعدواتي لهم، فبعث رسول الله عثمان بن عفان إِلى أبي سفيان وأشراف قريش، أنه لم يأت لحرب، إنما جاء زائراً ومعظماً لهذا البيت، فلما وصل إِليهم عثمان وعرفهم بذلك، قالوا له: إِن أحببت أنك تطوف بالبيت فطف، فقال: ما كنت لأفعله حتى يطوف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأمسكوه وحبسوه، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ عثمان قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى البيعة،، فكانت بيعة الرضوان، تحت الشجرة، وكان الناس يقولون بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وكان جابر يقول: لم يبايعنا إِلا على أننا لا نفر، فبايع رسول الله عليه السلام الناس، ولم يتخلف أحد من المسلمين إِلا الجد بن قيس استتر بناقته، وبايع رسول الله عليه السلام لعثمان في غيبته، فضرب بإِحدى يديه على الأخرى، ثم أتى النبي الخبر أن عثمان لم يقتل.
الصلح بين النبي وقريش
صلى الله عليه وسلم وقريش
ثم إِن قريشاً بعثوا سهيل بن عمرو في الصلح، وتكلمّ مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فلما أجاب إِلى الصلح، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أو لست برسول الله، أولسنا بالمسلمين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى، قال: فعلام نعُطي لبينة في ديننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره، ولن يضيعني " ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن أكتب باسمك اللهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله، لم أقاتلك، ولكن أكتب اسمك واسم أبيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، سهيل بن عمرو، على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، وأنّه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأشْهد في الكتاب على الصلح، رجالاً من المسلمين والمشركين، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما خرجوا من المدينة، لا يشكون في فتح مكة، لرؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح، والرجوع، داخل الناس من ذلك، أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، نحر هديه وحلق رأسه، وقام الناس أيضاً فنحروا وحلقوا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يومئذ " يرحم الله المحلقين " ، قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " رحم الله المحلقين حتى أعادوا، وأعاد ذلك ثلاث مرات، ثم قال: " والمقصرين " ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، وأقام بها حتى خرجت السنة ثم دخلت سنة سبع.
غزوة خيبرثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، في منتصف المحرم من هذه السنة، أعني سنة سبع، إلى خيبر، وحاصرهم وأخذ الأموال، وفتحها حصناً حصناً، فأول ما فُتح، حصن ناعم، ثم افتتح حصن القموص، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما سبايا، منهن صفية بنت كبيرهم، حيي بن أخطب، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عتقها صداقها، وهي من خواصه عليه السلام، ثم افتتح حصن المصعب، وما كان بخيبر حصن أكثر طعاماً وودكاً منه، ثم انتهى إِلى الوطيح والسلالم، وكانا آخر حصون خيبر افتتاحاً.
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ربما كانت تأخذه الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لا يخرج، فلما نزل خيبر أخذته، فأخذ أبو بكر الصدّيق الراية، فقاتل قتالاً شديداً، ثم رجع فأخذها عمر بن الخطاب، فقاتل قتالاً أشد من الأول، ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أما والله لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. كراراً غير فرار، يأخذها عنوة " فتطاول المهاجرون والأنصار، وكان علي بن أبي طالب غائباً، فجاء وهو أرمد قد عصب عينيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادن مني، فدنا منه، فتفل في عينيه، فزال وجعهما، ثم أعطاه الراية، فنهض بها، وعليه حلة حمراء، وخرج مرحب صاحب الحصن، وعليه مغفرة، وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
فقال علي:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... أكيلكم بالسيف كيل السندره
فاختلفا بضربتين، فقدت ضربة علي المغفر ورأس مرحب، وسقط على الأرض. وروى ابن إسحاق خلاف ذلك، والذي ذكرنا هو الأصح، وفتحت المدينة على يد علي رضى الله عنه، وذلك بعد حصار بضع عشرة ليلة، وحكى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرجنا مع علي رضي الله عنه، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى خيبر، فخرج إِليه أهل الحصن، وقاتلهم علي رضي الله عنه، فضربه رجل من اليهود، فطرح ترس علي من يده، فتناول باباً كان عند الحصن، فتترس به، ولم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده.
فلقد رأيتني في سبعة نُفر أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.
وكان فتح خيبر في صفر، سنة سبع للهجرة، وسأل أهل خيبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح، على أن يساقيهم على النصف من ثمارهم، ويخرجهم متى شاء، ففعل ذلك، وفعل ذلك أهل فدك فكانت خيبر للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها فتحت بغير إيجاف خيل، ولم يزل يهود خيبر كذلك إِلى خلافة عمر رضي الله عنه، فأجلاهم منها، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، انصرف إِلى وادي القرى، فحاصره ليلة وافتتحه عنوة، ثم سار إِلى المدينة، ولما قدمها وصل إليه من الحبشة بقية المهاجرين، ومنهم جعفر بن أبي طالب، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أدري بأيهما أسَر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إِلى النجاشي يطلبهم، ويخطب أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت قد هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش، فتنصر عبيد الله المذكور، وأقام بالحبشة، فزوجها للنبي صلى الله عليه وسلم ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وكان بالحبشة من جملة المهاجرين، وأصدقها النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، ولما بلغ أباها أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها قال: ذلك الفحل الذي لا يقرع أنفه، فقدمت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، في أن يدخلوا الذين حضروا من الحبشة في سهامهم من مغنم خيبر ففعلوا، وفي غزوة خيبر هدت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت الحارث اليهودية شاة مسمومة، فأخذ منها قطعة ولاكها. ثم لفظها، وقال: تخبرني هذه الشاة أنها مسمومة، ثم قال في مرض موته أن أكلة خيبر لم تزل تعاودني، وهذا زمان انقطاع أبهري.
رسل النبي إلى الملوكصلى الله عليه وسلم إِلى الملوك
في هذه السنة أعني سنة سبع، بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتبه ورسله إِلى الملوك، يدعوهم إِلى الإسلام، فأرسل إلى كسرى برويز بن هرمز، عبد الله بن حذافة، فمزَق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يكاتبني بهذا وهو عبدي، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: مزق الله ملكه، ثم بعث كسرى إلى باذان عامله باليمن، أن ابعث إِلى هذا الرجل الذي في الحجاز، فبعث باذان إِلى النبي صلى الله عليه وسلم اثنين، أحدهما يقال له خرخسره، وكتب معهما يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير إِلى كسرى، فدخلا على النبي عليه السلامُ وقد حلقا لحاهما وشواربهما، فكره النبي النظر إِليهما وقال: ويلكما من أمركما بهذا قالا: ربنا. يعنيان كسرى. فقال النبي عليه السلام: لكنّ ربي أمرني أن أعف عن لحيتي وأقص شاربي فأعلماه بما قَدما له وقالا: إِن فعلت، كتب فيك، باذان إِلى كسرى، وإن أبيت فهو يهلكك.
فأخر النبي صلى الله عليه وسلم الجواب إِلى الغد، وأتى الخبر من السماء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنّ الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله. فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهما بذلك، وقال لهما: " إِن ديني وسلطاني سيبلغ ما يبلغ ملكَ كسرى، فقولا لباذان أسلم، فرجعا إِلى بأذان وأخبراه بذلك، ثم ورد مكاتبةَ شيرويه إِلى باذان بقتل أبيه كسرى، وأن لا يتعرض إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم باذان وأسلم معه ناس من فارس.
فأرسل دحية بن خليفة الكلبي إِلى قيصر ملك الروم، فأكرم قيصر دحية وضع كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مخدة، ورد دحية رداً جميلاً.
وأرسل حاطب بن أبي بلتعة، وهو بالحاء المهملة، إلى صاحب مصر، وهو المقوقس جريج بن متى، فأكرم حاطباً، وأهدى إِلى النبي صلى الله عليه وسلم أربع جوار، وقيل جاريتين، إِحداهما مارية، وولدت من النبي صلى الله عليه وسلم إِبراهيم ابنه، وأهدى أيضاً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم دلدل، وحماره يعفور.
وكان قد أرسل إِلى النجاشي عمرو بن أمية، فقبّل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، حيث كان عنده في الهجرة.
وأرسل شجاع بن وهب الأسدي إِلى الحارث بن أبي شمرّ الغساني. فلما قرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ها أنا سائر إِليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك: " باد ملكه " .
وأرسل سليط بن عمرو إِلى هوذة بن علي ملك اليمامة، وكان نصرانياً فقال هوذة: إِن جعل الأمر لي من بعده سرت إِليه، وأسلمت، ونصرته، وإلا قصدت حربه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ولا كرامة، اللهم اكفنيه " فمات بعد قليل.
وكان قد أرسل هوذة رجلاً يقال له الرحال بالحاء، وقيل بالجيم، إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقدم وأسلم وقرأ سورة البقرة، وتفقه ورجع إِلى اليمامة، وارتد وشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرك معه مسيلمة الكذاب في النبوة.
وأرسل العلاء بن الحضرمي إِلى ملك البحرين وهو المنذر بن ساوي، فأسلم وهو من قبل الفرس، وأسلم جميع العرب بالبحرين.
عمرة القضاءثم خرج رسول صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة من سنة سبع، معتمراً عمرة القضاء وساق معه سبعين بدنة، ولما قرب من مكة خرجت له قريش عنها، وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في عسر وجهد، فاصطفوا له عند دار الندوة، فلما دخل المسجد اضطبع، بأن جعل وسط ردائه تحت عضده الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، ثم قال رحم الله أمرأ أراهم اليوم قوة ورمل في أربعة أشواط من الطواف، ثم خرج إِلى الصفا والمروة فسعى بينهما، وتزوج في سفره هذا ميمونة بنت الحارث، زوجه إِياها عمه العباس، وذكر أنه تزوجها محرماً، وهي من خواصه، ثم رجع إِلى المدينة ثم دخلت سنة ثمان من الهجرة وهو بالمدينة.
إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاصوفي سنة ثمان قدم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص السهمي، وعثمان بن طلحة بن عبد الدار فأسلموا، ثم كانت غزوة مؤتة وهي أول الغزوات بين المسلمِين والروم، وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف وأمر عليهم مولاه زيد بن حارثة، وقال: " إِن قتل فأمير الناس جعفر بن أبي طالب فإن قتل فأميرهم عبد الله بن رواحة " ووصلوا إلى مؤتة من أرض الشام وهي قبلي الكرك، فاجتمعت عليهم الروم والعرب المنتصرة في نحو مائة ألف والتقوا بمؤته، وكانت الراية مع زيد فقتل، فأخذها جعفر فقتل، فأخذها عبد اللهّ بن رواحة فقتل، واتفق العسكر على خالد بن الوليد، فأخذ الراية ورجع بالناس وقدم الِمدينة، وكان سبب هذه الغزوة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير رسولاً إِلى ملك بصرى بكتاب، كما بعث إِلى سائر الملوك، فلما نزل مؤتة عرض له عمرو بن شرحبيل الغساني فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غيره.
نقض الصلح وفتح مكة
كان السبب في نقض الصلح، أنّ بني بكر كانوا في عقد قريش. وعهدهم، وخزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وفي هذه السنة. أعني سنة ثمان، لقيت بنو بكر خزاعة فقتلوا منهم، وأعانهم على ذلك جماعة من قريش فانتقض بذلك عهد قريش، وندمت قريش على نقض العهد، فقدم أبو سفيان بن حرب إِلى المدينة لتجديد العهد، ودخل على ابنته أمّ حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يجلس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فطوته عنه، فقال: يا بنية أرغبت به عني. فقالت: هو فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس، فقال: لقد أصابك بعدي شر، ثم أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد شيئاً وأتى كبار الصحابة مثل أبي بكر الصديق، وعلي رضي الله عنه، فتحدث معهما فأجاباه إلى ذلك، فعاد إِلى مكة وأخبر قريشاً بما جرى، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصد أن يبغت قريشاً بمكة من قبل أن يعلموا به، فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إِلى قريش مع سارة مولاة بني هاشم يعلمهم بقصد النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك. وأرسل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فأدركا سارة، وأخذا منها الكتاب، وأحضرا النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال: ما حملك على هذا؟ فقال: والله إني مؤمن ما بدلت ولا غيرت، ولكن لي بين أظهرهم أهل وولد، وليس لي عشيرة فصانعتهم. فقال عمر بن الخطاب دعني أضرب عنقه فإِنه منافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ثم خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من المدينة لعشر مضين من رمضان، سنة ثمان، ومعه المهاجرون والأنصار وطوائف من العرب، فكان جيشه عشرة آلاف حتى قارب مكة فركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لعلي أجد حطاباً أو رجلاً يعلم قريشاً بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتونه ويستأمنونه، وإلا هلكوا عن آخرهم. قال: فلما خرجت سمعت صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء الخزاعي: قد خرجوا يتجسسون، فقال العباس: أبا حنظلة، يعني أبا سفيان، فقال أبا الفضل قلت نعم، قال لبيك فداك أبي وأمي ما وراءك، فقلت: قد أتاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف من المسلمين. فقال أبو سفيان: ما تأمرني به؟ قلت تركب لأستأمن لك رسول اللّه وإِلا يضرب عنقك، فردفني وجئت به إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت طريقي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمرو: أبا سفيان الحمد للهّ الذي أمكنني منك بغير عقد ولا عهد، ثم اشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركته، فقال: يا رسول الله دعني اًضرب عنقه، وسأل العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فقال: النبي صلى الله عليه وسلم قد أمنته، وأحضره يا عباس بالغداة، فرجع به العباس إِلى منزله، وأتى به إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغداة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا سفيان أما آن أن تعلم أن لا إِله إِلا الله؟ قال إلى: قال: ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله " فقال: بأبي أنت وأمي، أما هذه ففي النفس منها شيء، فقال له العباس: ويحك تشهّد قبل أن تُضرب عنقك، فتشاهد وأسلم معه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس " اذهب بأبي سفيان إِلى مضيق الوادي ليشاهد جنود الله " ، فقال العباس يا رسول الله إِنه يحب الفخر، فاجعل له شيئاً يكون في قومه، فقال: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن " . قال: فخرجت به كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت عليه القبائل وهو يسأل عن قبيلة، وأنا أعلمه حتّى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، لا يبين منهم إِلا الحدق، فقال من هؤلاء. فقلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. فقال: لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكاً عظيماً. قال: فقلت ويحك إِنها النبوة، فقال نعم.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام أن يدخل ببعض الناس من كداء وأمر
سعد بن عبادة سيد الخزرج أن يدخل ببعض الناس من ثنية كداء، ثم أمر عليّاً أن يأخذ الراية منه فيدخل بها لما بلغه من قول سعد: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة.
وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة في بعض الناس، وكل هؤلاء الجنود لم يقاتلوا، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القتال، إِلا أن خالد بن الوليد لقيه جماعة من قريش، فرموه بالنبل ومنعوه من الدخول، فقاتلهم خالد فقتل من المشركين ثمانية وعشرين رجلاً، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك قال: ألم أنه عن القتال؟ فقالوا: إِن خالد قوتل فقاتل وقُتل من المسلمين رجلان. وكان فتح مكة يوم الجمعة، لعشر بقين من رمضان، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وملكها صلحاً، وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة إِنها فتحت عنوة، ولما أمكن الله رسوله من رقاب قريش عنوة، قال لهم: ما تروني فاعلاً بكم قالوا له: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، قال " فاذهبوا فأنتم الطلقاء " و لما اطمأن الناس، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إِلى الطواف، فطاف بالبيت سبعاً على راحلته، واستلم الركن بمحجن كان في يده، ودخل الكعبة ورأى فيها الشخوص على صور الملائكة، وصورة إِبراهيم وفي يده الأزلام يستقسم ،، فقال: قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إِبراهيم والأزلام، ثم أمر بتلك الصور فطمست، وصلى في البيت وأهدر دم ستة رجال وأربع نسوة، أحدهم عكرمة بن أبي جهل، ثم استأمنت له زوجته أم حكيم، فأمنّه فقدم عكرمة فأسلم. وثانيهم هبار بن الأسود، وثالثهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، فأتى عثمان به النبي صلى الله عليه وسلم وسأله فيه، فصمت النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً ثم أمنّه فأسلم، وقال لأصحابه: " إِنما صمت ليقوم أحدكم فيقتله " فقالوا: هلا أومأت إِلينا، فقال: " إِن الأنبياء لا تكون لهم خائنة الأعين " وكان عبد الله المذكور قد أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، فكان يبدل القرآن، ثم ارتد، وعاش إلى خلافة عثمان رضي الله عنه، وولاه مصر.
ورابعهم مقيس بن صبابة لقتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطأ، وارتد، وخامسهم عبد الله بن هلال كان قد أسلم ثم قتل مسلماً وارتد. وسادسهم الحويرث بن نفيل، كان يؤذي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويهجوه، فلقيه علي بن أبي طالب فقتله. وأما النساء فإِحداهن هند زوج أبي سفيان أم معاوية التي أكلت من كبد حمزة، فتفكرت مع نساء قريش وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما عرفها قالت: أنا هند فاعف عما سلف فعفا، ولما جاء وقت الظهر يوم الفتح، أذن بلال على ظهر الكعبة، فقالت جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم اللّه أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة، وقال الحارث بن هشام ليتني مت قبل هذا، وقال خالد بن أسيد: لقد أكرم الله أبي فلم ير هذا اليوم، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر لهم ما قالوه، فقال الحارث بن هشام أشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد فنقول أخبرك، ومن النساء المهدرات الدم سارة مولاة بني هاشم التي حملت كتاب حاطب.
غزوة خالد بن الوليد على بني خزيمة
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث السرايا حول مكة إِلى الناس يدعوهم إِلى الإسلام، ولم يأمرهم بقتال، وكان بنو خزيمة قد قتلوا في الجاهلية عوفاً أبا عبد الرحمن بن عوف، وعم خالد بن الوليد، كانا أقبلا من اليمن، وأخذوا ما كان معهما، وكان من السرايا التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الناس ليدعوهم إِلى الإسلام، سرية مع خالد بن الوليد، فنزل على ماء لبني خزيمة المذكورين، فلما نزل عليه أقبلت بنو خزيمة بالسلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح، فإِن الناس قد أسلموا، فوضعوه، وأمر بهم فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله خالد، رفع يديه إِلى السماء حتى بان بياض إبطيه وقال: " اللهم إِني أبرأ إِليك مما صنع خالد " ثم أرسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بمال، وأمر أن يؤدي لهم الدماء والأموال، ففعل علي ذلك، ثم سألهم هل بقي لكم مال أو دم؟ فقالوا لا، وكان قد فضل مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قليل مال، فدفعه إليهم زيادة، تطييباً لقلوبهم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأعجبه وأنكر عبد الرحمن بن عوف على خالد فعله ذلك، فقال خالد: ثأرتُ أباك. فقال عبد الرحمن: بل ثأرت عمك الفاكه، وفعلت فعل الجاهلية في الإسلام، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خصامهما فقال: يا خالد دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أُحدٌ ذَهَبَاً، ثم أنفقته في سبيل الله تعالى ما أدركت غدوة أحدهم ولا روحته.
غزوة حنينوكانت في شوال سنة ثمان، وحنين واد بين مكة والطائف، وهو إِلى الطائف أقرب. لما فُتحت مكة تجمّعت هوازن بحريمهم وأموالهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقدمهم مالك بن عوف النضري، وانضمت إِليهم ثقيف، وهم أهل الطائف، وبنو سعد بن بكر، وهم الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم مرتضعاً عندهم، وحضر مع بني جشم دريد ابن الصمة، وهو شيخ كبير قد جاوز المائة، وليس يراد منه التيمن برأيه، وقال رجزاً:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم، خرج من مكة لست خلون من شوال ثمان، وكان يقصر الصلاة بمكة، من يرم الفتح إِلى حين خرج للقاء هوازن، وخرج معه اثنا عشر ألفاً، ألفان من أهل مكة، وعشرة آلاف كانت معه، وكان صفوان ابن أمية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر لم يُسلم، سأل أن يُمهل بالإسلام شهرين، وأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِلى ذلك، واستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم منه مائة درع في هذه الغزوة، وحضرها أيضاً جماعة كثيرة من المشركين وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى حنين، والمشركون بأوطاس، فقال دريد بن الصمة: بأي واد أنتم. قالوا: بأوطاس. قال: نعْمَ مجال الخيل، لا حَزن ضرس ولا سهل دَهِس، وركب النبي صلى الله عليه وسلم بغلته الدُلَدُل، وقال رجل من المسلمين لما رأى كثرة جيش النبي صلى الله عليه وسلم: " لن يغلب هؤلاء من قلة " وفي ذلك نزل قوله تعالى: " ويوم حنين إِذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً " " التوبة: 25 " ولما التقوا انكشف المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين في نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، ولما انهزم المسلمون أظهر أهل مكة ما في نفوسهم من الحقد، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وكانت الأزلام معه في كناتته، وصرخ كلدة: الآن بطل السحر، وكلدة أخو صفوان بن أمية لأمه، وكان صفوان حينئذ مشركاً، فقال له صفوان: اسكت فضّ الله تعالى فاك. قال والله لئن يُربني رجل من قريش أحبّ إِلي من أن يُربني رجل من هوازن، واستمر رسول الله ثابتاً وتراجع المسلمون واقتتلوا قتالاً شديداً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لبغلته الدلدل: البدي البدي فوضعت بطنها على الأرض، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة تراب فرمى بها في وجه المشركين فكانت الهزيمة، ونَصَر الله تعالى المسلمين، واتبع المسلمون المشركين يقتلونهم ويأسرونهم، وكان في السبي الشيماء بنت الحارث وأمها، حليمة السعدية، وكانت أخت رسول الله من الرضاع، فعرفته بذلك وأرته العلامة، وهي عضة النبي صلى الله عليه وسلم في ظهرها، فعرفها وبسط لها رداءه، وزودها وردها إِلى قومها حسبما سألت.
حصار الطائفولما انهزمت ثقيف من حنين إِلى الطائف، سار النبي صلى الله عليه وسلم إِليهم، فأغلقوا باب مدينتهم، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم نيفاً وعشرين يوماً، وقاتلهم بالمنجنيق، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف فقطعت، ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل، فرحل عنهم حتى نزل الجعرانة، وكان قد ترك بها غنائم هوازن، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض هوازن ودخلوا عليه، فرد عليهم نصيبه ونصيب بني عبد المطلب، ورد على الناس بناءهم ونساءهم، ثم لحق مالك بن عوف مقدم هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم وحسن إِسلامه، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل، وكان عدة السبي الذي أطلعه ستة آلاف رأس، ثم قسم الأموال، وكانت عدة الإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، ومن الفضة أربعة آلاف أوقية، وأعطى المؤلفة قلوبهم مثل: أبي سفيان وابنيه يزيد ومعاوية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام أخي أبي جهل وصفوان بن أمية وهؤلاء من قريش، وأعطى الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الذبياني وملك بن عوف مقدم هوازن وأمثالهم، فأعطى لكل واحد من الأشراف مائة من الإبل، وأعطى للآخرين أربعين أربعين، وأعطى للعباس بن مرداس السلمي أباعر لهم يرضها، وقال في ذلك من أبيات:
فأصبح نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن يضع اليوم لا يرفع
فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقطعوا عني لسانه فأعطي حتى رضي. ولما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم، لم يعط الأنصار شيئاً، فوجدوا في نفوسهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم: " أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا ألفت بها قوماً ليسلموا وكلتكم إِلى إِسلامكم، أما ترضون أن يذهب الناس بالبعير والشاة، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، أما والذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً لسلكت شعْب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار " .
ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة هوازن، وأعطى عيينة بن حصن وأبا سفيان ابن حرب وغيرهما ما ذكرنا، قال ذو الخويصرة من بني تميم للنبي صلى الله عليه وسلم: لم أرك عدلت، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: " ويحك إِذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون " فقال عمر: يا رسول الله ألا أقتله؟ قال: " لا، دعوه فإِنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة " وهذه الرواية عن محمد بن إِسحاق.
وروى غيره أن ذا الخويصرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم في وقت قسم الغنيمة المذكورة: لم تعدل، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرميّة، لا يجاوز إِيمانهم تراقيهم " . فكان كما قاله صلى الله عليه وسلم، فإِنه خرج من ذي الخويصرة المذكور حرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية، وهو أوّل من بويع من الخوارج بالإمامة، وأول مارق من الدين، وذو الخويصرة تسمية سماه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاد إِلى المدينة، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وهو شاب لم يبلغ عشرين سنة، وترك معه معاذ بن جبل يفقه الناس، وحج بالناس في هذه السنة عتاب بن أسيد على ما كانت العرب تحج.
وفي ذي الحجة سنة ثمان، ولد إِبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية. وفيها أعني سنة ثمان مات حاتم الطائي، وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج من ولد طي بن أدد، وكان حاتم يكنى أبا سفانة وهو اسم ابنته، كني بها، وسفانة المذكورة أتت النبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته، وشكت إِليه حالها، وحاتم المذكور كان يضرب بجرده وكرمه المثل، وكان من الشعراء المجيدين. ثم دخلت سنة تسع والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وترادفت عليه وفود العرب فممن ورد عليه عروة بن مسعود الثقفي، وكان سيد ثقيف، وكان غائباً عن الطائف لما حاصرها النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم وحسن إِسلامه، وقال: يا رسول الله أمضي إِلى قومي بالطائف فأدعوهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنهم قاتلوك " فاختار المضي فمضى إلى الطائف ودعاهم إِلى الإسلام، فرماه أحدهم بسهم فوقع في أكحله فمات، رحمه الله تعالى، ووفد كعب بن زهير ابن أبي سلمى بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدته المشهورة وهي:
بانت سعادُ فقلبي اليوم متبول
وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بردته، فاشتراها معاوية في خلافته من أهل كعب بأربعين ألف درهم، ثم توارثها الخلفاء الأمويون والعباسيون حتى أخذها التتر.
غزوة تبوكوفي رجب من هذه السنة أعني سنة تسع، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم
وأعلم الناس مقصدهم لبعد الطريق وقوة العدو، وكان قبل ذلك إِذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، وكان الحر شديداً والبلاد مجدبة والناس في عسرة، ولذلك سمي ذلك الجيش جيش العسرة، وكانت الثمار قد طابت، فأحب الناس المقام في ثمارهم، فتجهزوا على كره، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالنفقة، فأنفق أبو بكر جميع ماله، وأنفق عثمان نفقة عظيمة، قيل كانت ثلاثمائة بعير طعاماً. وألف دينار، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يضر عثمان ما صنع بعد اليوم، وتخلف عبد الله بن أبي المنافق، ومن تبعه من أهل النفاق، وتخلف ثلاثة من عين الأنصار، وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إِلا استثقالا له، فلما سمع ذلك علي أخذ سلاحه، ولحق النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قال المنافقون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " كذبوا، وإنما خلفتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إِلا أنه لا نبي بعدي. وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثون ألفاً فكانت الخيل عشرة آلاف فرس، ولقوا في الطريق شدة عظيمة من العطش والحر، ولما وصلوا إِلى الحجر وهي أرض ثمود، نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورود ذلك الماء، وأمرهم إن يريقوا ما استقوه من مائه، وأن يطعموا العجين الذي عجن بذلك الماء الإبل، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى تبوك وأقام بها عشرين ليلة، وقدم عليه بها يوحنا صاحب أيلة فصالحه على الجزية، فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار، وصالح أهل أذرج على مائة دنيار في كل رجب، وأرسل خالد بن الوليد إِلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، وكان نصرانياً من كندة، فأخذه خالد وقتل أخاه، وأخذ منه خالد قباء ديباج مخوصاً بالذهب، فأرسله إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل المسلمون يتعجبون منه، وقدم خالد بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وصالحه على الجزية وخلى سبيله، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، فاعتذر إِليه الثلاثة الذي تخلفوا عنه، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامهم، وأمر باعتزالهم، فاعتزلهم الناس فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وبقوا كذلك خمسين ليلة، ثم أنزل اللّه تعالى توبتهم، فقال تعالى: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إِذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إِلا إِليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إِن الله هو التواب الرحيم " " التوبة: 81 " وكان قدوم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في رمضان، ولما دخلها قدم عليه وفد الطائف من ثقيف، ثم إِنهم أسلموا، وكان فيما سألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم اللات التي كانوا يعبدونها، لا يهدمها إِلى ثلاث سنين، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فغزِلوا إلى شهر واحد فلم يجبهم، وسألوه أن يعفيهم من الصلاة فقال: " لا خير في دين لا صلاة فيه " فأجابوا وأسلموا، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب، ليهدما اللات، فتقدم المغيرة فهدمها، وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها.
حج أبي بكر الصديق
رضي الله عنه بالناس
وبعث النبيِ صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق في سنة تسع ليحج بالناس، ومعه عشرون بدنة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومعه ثلاثمائة رجل، فلما كان بذي الحُلَيْفَة، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في إثره علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمره بقراءة آيات من أول سورة براءة على الناس، وأن ينادي أن لا يطوف بالبيت بعد السنة عريان، ولا يحج مشرك، فعاد أبو بكر وقال: يا رسول الله أنزل فيّ شيء، قال: " لا ولكن لا يبلغ عني إِلا أنا أو رجل مني ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وصاحبي على الحوض؟ " قال: إلى، فسار أبو بكر رضي الله عنه أميراً على الموسم، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يؤذن براءة يوم الأضحى، وأن لا يحج مشرك ولا يطوف عريان، من الأشراف للمسعودي. وفي ذي القعدة سنة تسع، كانت وفاة عبد الله بن أُبي بن أبي المنافق، ثم دخلت سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وجاءته وفود العرب قاطبة، ودخل الناس في الدين أفواجاً كما قال اللّه: " إِذا جاء نصر الله والفتح " النصر: 1 " ، وأسلم أهل اليمن وملوك حمير.
إرسال علي بن أبي طالب إِلى اليمن
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً كرم الله وجهه إِلى اليمن، فسار إليها وقرأ كتاب رسول الله على أهل اليمن، فأسلمت همذان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام، وكتب بذلك إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسجد شكراً لله تعالى، ثم أمر علياً بأخذ صدقات نجران وجزيتهم، ففعل وعاد فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في حجة الوداع.
حجة الوداعوخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً لخمس بقين من ذي القعدة، وقد اختلف في حجه، هل كان قراناً أم تمتعاً أم إِفراداً، والأظهر الذي اشتهر أنه كان قارناً، وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، ولقي علي بن أبي طالب محرماً، فقال: " حل كما حل أصحابك " فقال: إِني أُهللت بما أُهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبقي على إِحرامه، ونحر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الهدي عنه، وعلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مناسك الحج والسنن، ونزل قوله تعالى: " اليوم يئس الذي كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " " المائدة: 3 " فبكى أبو بكر رضي الله عنه لما سمعها، فكأنه استشعر أنه ليس بمعد الكمال إِلا النقصان، وأنه قد نعيت إِلى النبيَ صلى الله عليه وسلم نفسه، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس خطبة، بين فيها الأحكام، منها: " يا أيها الناس إِنما النسيء زيادة في الكفر، فإِن الزمان استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً " وتمم حجته وسميت حجة الوداع، لأنه لم يحج بعدها، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ وأقام بها حتى خرجت السنة. ثم دخلت سنة إِحدى عشَرة.
وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، أقام بالمدينة حتى خرجت سنة عشر، والمحرم من سنة إِحدى عشرة، ومعظم صفر، وابتدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه في أواخر صفر، قيل لليلتين بقيتا منه، وهو في بيت زينب بنت جحش، وكان يدور على نسائه، حتى اشتد مرضه وهو في بيت ميمونة بنت الحاِرث، فجمع نساءه واستأذنهن في أن يمرض في بيت إحداهن، فأذن له أن يمرض في بيت عائشة، فانتقل إِليها، كان قد جهز جيشاً مع مولاه أسامة بن زيد، وأكد في مسيره في مرضه، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي صداع وأنا أقول وارأساه، فقال: " بل أنا والله يا عائشة أقول وارأساه " ثم قال ما ضرك لو متّ قبلي فقمت عليكِ وكفنتك وصليت عليك ودفنتك " قالت: فقلت كأني بك والله لو فعلت ذلك ورجعت إِلى بيتي وتعزيت ببعض. نسائك، فتبسم صلى الله عليه وسلم. وفي أثناء مرضه، وهو في بيت عائشة، خرج بين الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب، حتى جلس على المنبر، فحمد الله ثم قال: " أيّها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقدمني، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستفد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخشى الشحناء من قبلي فإِنها ليست من شأني " . ثم نزل وصلى الظهر ثم رجع إِلى المنبر، فعاد إِلى مقالته، فادعى عليه رجل ثلاثة دراهم فأعطاه عوضها، ثم قال: " ألا إِن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة " ثم صلى على أصحاب أُحد واستغفر لهم ثم قال: " إِنّ عبداً خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده " فبكى أبو بكر ثم قال: فديناك بأنفسنا. ثم أوصى بالأنصار فقال: يا معشر المهاجرين أصبحتم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد، والأنصار عيبتي التي أويت إِليها فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم. ثم إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أيام مرضه يصلي بالناس، وإنما انقطع ثلاثة أيام، فلما أذن بالصلاة أول ما انقطع فقال: " مروا أبا بكر فليصل بالناس " وتزايد به مرضه حتى توفي يوم الاثنين ضحوة النهار، وقيل نصف النهار، وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء، يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: " اللهم أعني على سكرات الموت " . قالت: وثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه وإذا بصره قد شخص وهو يقول: " بل الرفيق الأعلى " . قالت: فلما قبض، وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي مع النساء، وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فعلى هذه الرواية يكون يوم وفاته موافقاً ليوم مولده.
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد أكثر العرب، إِلا أهل المدينة ومكة والطائف
فإِنه لم يدخلها ردة، وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، فاستخفى عتاب خوفاً على نفسه، فارتجت مكة، وكاد أهلها يرتدون، فقام سهيل بن عمرو على باب الكعبة وصاح بقريش وغيرهم، فاجتمعوا إِليه فقال: يا أهل مكة، كنتم آخر من أسلم، فلا تكونوا أول من ارتدّ، والله ليتمن الله هذا الأمر كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، فامتنع أهل مكة من الردة، وحكى القاضي شهاب الدين بن أبي الدم في تاريخه قال: فاقتحم جماعة على النبي صلى الله عليه وسلم ينظرون إِليه وقالوا: كيف يموت وهو شهيد علينا. لا والله ما مات بل رفع كما رفع عيسى، ونادوا على الباب لا تدفنوه؛ فإن رسول الله لم يمت؛ فتربصوا به حتى خرج عمه العباس وقال: والله الذي لا إِله إِلاَ هو لقد ذاق رسول الله الموت. وقيل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء ثاني يوم موته، وقيل ليلة الأربعاء وهو الأصح، وقيل بقي ثلاثاً لم يدفن، وكان الذي تولى غسله علي بن أبي طالب والعباس والفضل وقثم ابنا العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، فكان العباس وابناه يقلبونه وأسامة بن زيد وشقران يصبان الماء وعلي يغسله وعليه قميصه وهو يقول بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، ولم ير منه ما يرى من ميت، وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب، ثوبين صحاريين وبرد حبرة درج فيها أدراجاً، وصلوا عليه ودفن تحت فراشه الذي مات عليه، وحفر له أبو طلحة الأنصاري ونزل في قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم أبناء العباس.
عمره واختلف في مدة عمره، فالمشهور أنه ثلاث وستون سنة، وقيل خمس وستون سنة، وقيل ستون سنة، والمختار أنه بعث لأربعين سنة، وأقام بمكة يدعو إِلى الإسلام ثلاث عشرة سنة وكسراً، وأقام بالمدينة بعد الهجرة قريب عشر سنين، فذلك ثلاث وستون سنة وكسور، وقد مضى ذكره وتحقيقه عند ذكر الهجرة.
صفته وصفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا بالقصير، ضخم الرأس، كثّ اللحية، شثن الكفين والقدمين، ضخم الكراديس، مشرباً وجهه حمرة، وقيل كان أدعج العين، سبط الشعر، سهل الخدين، كأن عنقه إِبريق فضة، وقال أنس: لم يشنه الله بالشيب، وكان في مقدم لحيته عشرون شعرة بيضاء، وفي مفرق رأسه شعرات بيض، وروي أنه كان يخضب بالحناء والكتم، وكان بين كتفيه خاتم النبوة، وهو بضعة ناشزة حولها شعر مثل بيضة الحمامة تشبه جسده وقيل كان لونه أحمر، قال القاضي شهاب الدين بن أبي الدم في تاريخه المظفري وكان أبو رثمة طبيباً في الجاهلية فقال: يا رسول الله إِني أداوي فدعني أطب ما بكتفك فقال: يداريها الذي خلقها.
خلقه كان صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلاً وأفضلهم رأياً، يكثر الذكر ويقل اللغو دائم البشر، مطيل الصمت لين الجنب، سهل الخلق، وكان عنده القريب والبعيد، والقوي والضعيف، في الحق سواء، وكان يحب المساكين ولا يحقر فقيراً لفقره، ولا يهاب ملكاً لملكه، وكان يؤلف قلوب أهل الشرف، وكان يؤلف أصحابه ولا ينفرهم، ويصابر من جالسه ولا يحيد عنه، حتى يكون الرجل هو المنصرف، وما صافحه أحد فيترك يده حتى يكون ذلك الرجل هو الذي يترك يده، وكذلك من قاومه لحاجة، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم معه حتى يكون الرجل هو المنصرف، وكان يتفقد أصحابه، يسأل الناس عما في الناس، وكان يحب العنز، ويجلس على الأرض، وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويلبس المخصوف، والمرقوع، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، وكان يأتي على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار، وكان قوتهم التمر والماء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعصب على بطنه الحجر من الجوع.
أولاده
وكل أولاده عليه السلام من خديجة، إِلا إِبراهيم فإِنه من ماريّة، وولد إبراهيم في سنة ثمان من الهجرة في ذي الحجة، وتوفي سنة عشر من الأشراف للمسعودي قال: عاش إِبراهيم سنة وعشرة أشهر، وأولاده الذكور من خديجة القاسم وبه كان يكنى، والطيب والطاهر وعبد الله ماتوا صغاراً، والإِناث أربع، فاطمة زوج علي رضي اللّه عنهما وزينب زوج أبي العاص، وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بالإسلام، ثم ردها إِلى أبي العاص بالنكاح الأول لما أسلم، ورقية وأم كلثوم تزوج بهما عثمان واحدة بعد أخرى.
زوجاته وتزوج صلى الله عليه وسلم خمس عشرة امرأة، دخل بثلاث عشرة، وجمع بين إِحدى عشرة، وقيل أنه دخل بإِحدى عشرة، ولم يدخل بأربع، وتوفي عن تسع غير مارية القبطية سريته، والتسع هن عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، سودة بنت زمعة، وزينب بنت جحش، وميمونةِ، وصفية، وجويرية، وأم حبيبة، وأم سلمة رضي الله عنهن.
كتّابه وكان يكتب له عثمان بن عفان أحياناً، وعلي بن أبي طالب، وكتب له خالد بن سعيد بن العاص، وأبان بن سعيد، والعلا بن الحضرمي، وأول من كتب له أبي بن كعب، وكتب له زيد بن ثابت، وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وارتد ثم أسلم بوم الفتح، وكتب له بعد الفتح معاوية بن أبي سفيان.
سلاحه وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من السلاح سيفه المسمى ذا الفقار؛ غنمه يوم بدر، وكان لمنبه بن الحجاج السهمي، وقيل لغيره، وسمي ذا الفقار لحفر فيه، وغنم من بني قينقاع ثلاثة أسياف، وقدم معه إِلى المدينة لما هاجر سفيان، شهد بأحدهما بدراً، وكان له أرماح ثلاثة وثلاثة قسي، ودرعان غنمهما من بني قينقاع، وكان له ترس فيه تمثال، فأصبح وقد أذهبه اللّه تعالى.
عدد غزواته وسراياه
صلى الله عليه وسلمقيل كانت غزواته تسع عشرة، وقيل ستاً وعشرين، وقيل سبعاً وعشرين غزوة، وآخر غزواته غزوة تبوك، ووقع القتال منها في تسع وهي بدر وأحد والخندق وقريظة والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف، وباقي الغزوات لم يجر فيها قتال، وأما السرايا والبعوث فقيل خمس وثلاثون وقيل ثمان وأربعون.
أصحابه قد اختلف الناس فيمن يستحق أن يطلق عليه صحابي، فكان سعيد بن المسيب لا يعد الصحابي إِلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة وأكثر، وغزا معه، وقال بعضهم كل من أدرك الحلم وأسلم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو صحابي، ولو أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة، وقال بعضهم لا يكون صحابياً إِلا من تخصص به الرسول صلى الله عليه وسلم وتخصص هو بالرسول صلى الله عليه وسلم، بأن يثق رسول الله صلى الله عليه وسلم بسريرته، ويلازم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، والأكثر على أن الصحابي: هو كل من أسلم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ولو أقل زمان، وأما عددهم على هذا القول الأخير، فقد روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سار في عام فتح مكة في عشرة آلاف مسلم، وسار إِلى حنين في اثني عشر ألفاً، وسار إِلى حجة الوداع في أربعين ألفاً وأنهم كانوا عند وفاته صلى الله عليه وسلم مائة ألف، وأربعة وعشرين ألفاً.
وأما مراتبهم فالمهاجرون أفضل من الأنصار على الإِجمال، وأما على التفضيل فسبْاق الأنصار أفضل من متأخري المهاجرين، وقد رتب أهل التواريخ والصحابة على طبقات، فالطبقة الأولى أول الناس إِسلاماً كخديجة وعلي وزيد وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم ومن تلاهم ولم يتأخر إِلى دار الندوة. الطبقة الثانية أصحاب دار الندوة، وفيها أسلم عمر رضي الله عنه. الطبقة الثالثة المهاجرون إلى الحبشة، الرابعة أصحاب العقبة الأولى وهم سباق الأنصار، الخامسة أصحاب العقبة الثانية، السادسة أصحاب العقبة الثالثة وكانوا سبعين، السابعة المهاجرون الذين وصلوا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته وهو بقباء قبل بناء مسجده، الثامنة أهل بدر الكبرى، التاسعة الذين هاجروا بين بدر والحديبية، العاشرة أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا بالحديبية تحت الشجرة، الحادية عشرة الذين هاجروا بعد الحديبية وقبل الفتح، الثانية عشرة الذين أسلموا يوم الفتح، الثالثة عشرة صبيان أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه، ومن الصحابة أهل الصفة وكانوا أناساً فقراء لا منازل لهم ولا عشائر، ينامون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ويظلون فيه، وكان صفة المسجد مثواهم فنسبوا إِليها، وكان إِذا تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو منهم طائفة يتعشون معه، ويفرق منهم طائفة على الصحابة ليعشوهم، وكان من مشاهيرهم أبو هريرة وواثلة بن الأسقع وأبو ذر رضي الله عنهم.
خبر الأسود العنسيوفي مدة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل الأسود العنسي، واسمه عيهلة بن كعب، ويقال له ذو الخمار، لأنه كان يقول يأتيني ذو خمار، وكان الأسود المذكور يشعبذُ ويُري الجهال الأعاجيب، ويسبي بمنطقه قلب من يسمعه، وهو ممن ارتد وتنبأ من الكذابين، وكاتبه أهل نجران، وكان هناك من المسلمين عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص، فأخرجهما أهل نجران وسلموهما إِلى الأسود، ثم سار الأسود من نجران إِلى صنعاء فملكها، وصفي له ملك اليمن واستفحل أمره وكان خليفته في مذحج عمرو بن معدي كرب، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بعث رسولاً إلى الأبناء وأمرهم أن يخاذلوا الأسود إما غيلة وإما مصادمة، وأن يستنجدوا رجالاً من حمير وهمذان، وكان الأسود قد تغير على قيس بن عبد يغوث، فاجتمع به جماعة ممن كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحدثوا معه في قتل الأسود فوافقهم، واجتمعوا بامرأة الأسود، وكان الأسود قد قتل أباها فقالت: والله إِنه لأبغض الناس إليّ، ولكن الحرس محيطون بقصره، فانقبوا عليه البيت، فواعدوها على ذلك ونقبوا عليه البيت، ودخل عليه شخص اسمه فيروز، فقتل الأسود وأحز رأسه فخار خوار الثور، فابتدر الحرس الباب، فقالت زوجته: هذا النبي يوحى إِليه، فلما طلع الفجر، أمروا المؤذن فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، وأن عيهلة كذاب، وكتب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فورد الخبر من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلم أصحابه بقتل الأسود المذكور، ووصل الكتاب بقتل الأسود في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فكان كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيها الناس إِني قد رأيت ليلة القدر، ثم انتزعت مني، ورأيت في يدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمامة وصاحب صنعاء، ولن تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالاً كل منهم يزعم أنه نبي " وكان قتل الأسود المذكور قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة، وكان من أول خروج الأسود إِلى أن قتل أربعة أشهر، وأما صاحب اليمامة فهو مسيلمة الكذاب، وسنذكر خبره ومقتله في خلافة أبي بكر رضي الله عنه.
أخبار أبي بكر الصديق وخلافته
رضي الله عنه
لما قبض الله نبيه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات علوت رأسه بسيفي هذا، وإنما ارتفع إِلى السماء، فقرأ أبو بكر " وما محمد إِلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإِن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " " آل عمران: 144 " فرجع القوم إِلى قوله وبادروا سقيفة بني ساعدة، فبايع عمر أبا بكر رضي الله عنهما، وانثال الناس عليه يبايعونه، في العشر الأوسط من ربيع الأول سنة إِحدى عشرة، خلا جماعة من بني هاشم والزبير وعتبة بن أبي لهب وخالد بن سعيد ابن العاص والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي وأبي ذر وعمار بن ياسر والبر بن عازب وأبي بن كعب ومالوا مع علي بن أبي طالب، وقال في ذلك عتبة بن أبي لهب:
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف ... عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن
عن أول الناس إِيماناً وسابقه ... وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وآخر الناس عهداً بالنبي من ... جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما فيهم لا يمترون به ... وليس في القوم ما فيه من الحسن
وكذلك تخلف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان من بني أمية ثم إن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إِلى علي ومن معه ليخرجهم من بيت فاطمة رضي الله عنها، وقال: إِن أبوا عليك فقاتلهم. فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار، فلقيته فاطمة رضي الله عنها وقالت: إِلى أين يا ابن الخطاب؟ أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخل فيه الأمة فخرج علي حتى أتى أبا بكر فبايعه، كذا نقله القاضي جمال الدين بن واصل، وأسنده إِلى ابن عبد ربه المغربي. وروى الزهري عن عائشة قالت: لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة، وذلك بعد ستة أشهر لموت أبيها صلى الله عليه وسلم، فأرسل علي إِلى أبي بكر رضي الله عنهما فأتاه في منزله فبايعه وقال علي: ما نفسنا عليك ما ساقه الله إِليك من فضل وخير ولكنا نرى أنّ لنا في هذا الأمر شيئاً فاستبددت به دوننا، وما ننكر فضلك.
ولما تولى أبو بكر كان أسامة بن زيد مبرزاً، وكان عمر بن الخطاب من جملة جيش أسامة علي ما عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر لأبي بكر: إِن الأنصار تطلب رجلا أقدم سناً من أسامة، فوثب أبو بكر وكان جالساً وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله وتأمرني أن أعزله، ثم خرج أبو بكر معسكر أسامه، وأشخصهم، وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لتركبن أو لأنزلن، فقال أبو بكر: والله لا تنزل ولا ركبت، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله، ولما أراد الرجوع قال أبو بكر لأسامة: إِن رأيت أن تعينني بعمر فافعل، فأذن أسامة لعمر بالمقام.
وفي أيام أبي بكر ادعت سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية النبوة، واتبعها بنو تميم وأخوالها من تغلب وغيرهم من بني ربيعة، وقصدت مسيلمة الكذاب، ولما وصلت إِليه قصدت الاجتماع به، فقال لها: أبعدي أصحابك، ففعلت، فنزل وضرب لها قبة وطيبها بالبخور واجتمع بها، وقالت: له ماذا أوحي إِليك؟ فقال: ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى. أخرج منها نسمة تسعى. من بين صفاق وغشى. قالت: وما أنزل الله عليك أيضاً. قال: ألم تر أن الله خلق النساء أفواجاً. وجعل الرجال لهن أزواجاً، فتولج فيهن إِيلاجاً. ثم نخرج ما شئنا إِخراجاً. فينتجن لنا إنتاجاً. فقالت: أشهد أنك نبي، فقال: هل لك أن أتزوجك؟ قالت: نعم. فقال لها:
ألا قومي إلى النيك ... فقد هيي لك المضجع
فإِن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقناَك ... وإن شئت على أربع
وإنْ شئتِ بثلثيه ... وإن شئت به أجمع
فقالت: بل به أجمع يا رسول الله. فقال: بذلك أُوحي إِلي، فأقامت عنده ثم انصرفت إِلى قومها، ولم تزل سجاح في أخوالها من تغلب حتى نفاهم معاوية عام بويع فيه، فأسلمت سجاح وحسن إِسلامها، وانتقلت إِلى البصرة وماتت بها.
وفي أيام أبي بكر قتل مسيلمة الكذاب، وكان أبو بكر قد أرسل إلى قتاله جيشاً، وقدَّم عليهم خالد بن الوليد، فجرى بينهم قتال شديد وآخره انتصر المسلمون وهزموا المشركين، وقتل مسيلمة الكذاب، قتله وحشي بالحربة التي قتل بها حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم، وشاركه في قتله رجل من الأنصار، وكان مقام مسيلمة باليمامة، وكان مسيلمة قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد بني حنيفة فأسلم؛ ثم ارتد وادعى النبوة استقلالاً، ثم مشاركة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل من المسلمين في قتال مسيلمة جماعة من القرّاء من المهاجرين والأنصار، ولما رأى أبو بكر كثرة من قتل أمر بجمع القرآن من أفواه الرجال وجريد النخل والجلود، وترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولما تولى عثمان ورأى اختلاف الناس في القرآن، كتب من ذلك المكتوب الذي كان عند حفصة نسخاً وأرسلها إلى الأمصار وأبطل ما سواها.
وفي أيام أبي بكر منعت بنو يربرع الزكاة، وكان كبيرهم مالك بن نويرة، وكان ملكاً فارساً مطاعاً شاعراً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، فولاه صدقه قومه، فلما منع الزكاة أرسل أبو بكر إِلى مالك المذكور خالد بن الوليد في معنى الزكاة، فقال مالك: أنا آتي بالصلاة دون الزكاة: فقال خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معاً؛ لا تقبل واحدة دون الأخرى فقال مالك: قد كان صاحبكم يقول ذلك. قال خالد: أوما تراه لك صاحبا؟ والله لقد هممت أن أضرب عنقك، ثم تجاولا في الكلام فقال له خالد: إِني قاتلك. فقال له: أو بذلك أمرك صاحبك؟ قال: وهذه بعد تلك، وكان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري حاضرين، فكلما خالداً في أمره، فكره كلامهما. فقال مالك: يا خالد، ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا. فقال خالد: لا أقالني الله إِنْ أقلتك، وتقدم إِلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه، فالتفت مالك إِلى زوجته وقال لخالد: هذه التي قتلتني، وكانت في غاية الجمال، فقال خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام. فقال مالك: أنا على الإسلام، فقال خالد: يا ضرار اضرب عنقه. فضرب عنقه وجعل رأسه اثفية القدر، وكان من أكثر الناس شعراً، وقبض خالد امرأته؛ قيل: إِنه اشتراها من الفيء وتزوج بها، وقيل إِنها اعتدت بثلاث حيض وتزوج بها، وقال لابن عمر ولأبي قتادة: احضرا النكاح فأبيا، وقال له ابن عمر: نكتب إِلى أبي بكر ونعلمه بأمرها وتتزوج بها، فأبى وتزوجها. وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي:
ألا قل لحي أوطؤا بالسنابك ... تطاول هذا الليل من بعد مالك
قضى خالد بغياً عليه بعرسه ... وكان له فيها هوى قبل ذلك
فأمضى هواه خالد غير عاطف ... عنان الهوى عنها ولا متمالك
فأصبح ذا أهل وأصبح مالك ... إِلى غير أهل هالكاً في الهوالك
ولما بلغ ذلك أبا بكر وعمر، قال عمر لأبي بكر: إِن خالداً قد زنى فارجمه، قال: ما كنت أرجمه؛ فإِنه تأول فأخطأ. قال: فإِنه قد قتل مسلماً فاقتله، قال: ما كنت أقتله فإِنه تأول فأخطأ. قال فاعزله، قال ما كنت أغمد سيفاً سله الله عليهم. ولما بلغ متمم بن نويرة أخا مالك المذكور مقتل أخيه، بكاه وندبه بالأشعار الكثيرة، فمن ذلك قصيدة متمم العينية المشهورة التي منها:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول ... اجتماع لم نبت ليلة معا
وفي أيام أبي بكر فتحت الحيرة بالأمان على الجزية.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وسنة ثلاثة عشرة فيها كانت وقعة اليرموك، وهي الوقعة العظيمة التي كانت سبب فتوح الشام، وكانت سنة ثلاث عشرة للهجرة، وكان هرقل إذ ذاك بحمص فلما بلغه هزيمة الروم باليرموك رحل عن حمص؛ وجعلها بينه وبين المسلمين، ولما فرغ خالد بن الوليد وأبو عبيدة من رقعة اليرموك قصدا بصرى، فجمع صاحب بصرى الجموع للملتقى، ثم إِن الروم طلبوا الصلح؛ فصولحوا على كل رأس دينار وجريب حنطة.
وفاة أبي بكر
رضي الله عنه
وقد اختلف في سبب موته، فقيل إِن اليهود سمته في أرز، وقيل في حسوٍ فأكل هو والحارث بن كلدة فقال الحارث: أكلنا طعاماً مسموماً سُم سنة، فماتا بعد سنة، وعن عائشة رضي الله عنها، أنه اغتسل وكان يوماً بارداً، فحم خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة، وأمر عمر أن يصلي بالناس، وعهد بالخلافة إِلى عمر، ثم توفي في مساء ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان بقين من جمادى الآخر، سنة ثلاث عشرة، فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال، وعمره ثلاث وستون سنة، وغسلته زوجته أسماء بنت عميس، وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه عمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبر والمنبر، وأوصى أن يدفن إِلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفر له وجعل رأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حسن القامة؛ خفيف العارضين؛ معروق الوجه؛ غائر العينين؛ ناتئ الجبهة؛ أحنى؛ عاري الأشاجع؛ يخضب بالحناء والكتيم.
خلافة عمر بن الخطاب
بن نفيل بن عبد العزى رضي الله عنه
بويع بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأول خطبة خطبها قال: يا أيها الناس، والله ما فيكم أحداً أقوى عندي من الضعيف بم حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه. ثم أول شيء أمر به أن عزل خالد بن الوليد عن الإِمرة، وولى أبا عبيدة على الجيش والشام، وأرسل بذلك إِليهما، وهو أول من سميَّ بأمير المؤمنين. وكان أبو بكر يخاطب بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.ثم سار أبو عبيدة ونازل دمشق، وكانت منزلته من جهة باب الجابية، ونزل خالد من جهة باب توما وباب شرقي، ونزل عمرو بن العاص بناحية أخرى، وحاصروهما قريباً من سبعين ليلة، وفتح خالد ما يليه بالسيف، فخرج أهل دمشق وبذلوا الصلح لأبي عبيدة من الجانب الآخرة وفتحوا له الباب، فأمنهم ودخل والتقى مع خالد في وسط البلد، وبعث أبو عبيدة بالفتح إِلى عمر، وفي أيامه فتح العراق.
ثم دخلت سنة أربع عشرة، فيها في المحرم أمر عمر ببناء البصرة، فاختطت، وقيل في سنة خمس عشرة، وفيها توفي أبو قحافة أبو أبي بكر الصديق وعمره سبع وتسعون سنة، وكانت وفاته بعد وفاة ابنه أبي بكر.
ثم دخلت سنة خمس عشرة فيها فتحت حمص بعد دمشق؛ بعد حصار طويل، حتى طلب الروم الصلح، فصالحهم أبو عبيدة على ما صالح أهل دمشق، ثم سار إِلى حماة، قال القاضي جمال الدين ابن واصل رحمه الله تعالى في التاريخ الذي نقلنا هذا منه: إِن حماة كانت في زمن داود وسليمان عليهما السلام مدينة عظيمة، قال: وقد وجدت ذكرها في أخبار داود وسليمان في كتاب أسفار الملوك الذي بأيدي اليهود، وكذلك كانت في زمن اليونان، إِلا أنها في زمن الفتوح وقبله كانت صغيرة هي وشيرز، وكانا من عمل حمص، وكانت حِمص كرسي مملكة هذه البلاد، وقد ذكرهما امرؤ القيس في قصيدته التي أولها:
سما لك شوق بعدما كان اقصرا
ويقول من جملتها:
تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا
قال بعض الشراح: حماة شيزر قريتان من قرى حمص، ولما وصل أبو عُبيدة إِلى حماة خرجت الروم التي بها إِليه يطلبون الصلحَ، فصالحهم على الجزية لرؤوسهم، والخراج على أرضهم، وجعل كنيستهم العظمى جامعاً، وهو جامع السوق الأعلى من حماة، ثم جدد في خلافة المهدي من بني العباس، وكان على لوح منه مكتوب أنه جدد من خراج حمص، ثم سار أبو عبيدة إِلى شيزر فصالحه أهلها على صلح أهل حماة، وكذلك صالح أهل المعرة، وكان يقال لها معرة حمص، ثم قيل لها معرة النعمان بن بشير الأنصاري، لأنها كانت مضافة إِليه مع حمص في خلافة معاوية، ثم سار أبو عبيدة إِلى اللاذقية ففتحهما عنوة، وفتح جبلة وطرطوس، ثم سار أبو عبيدة إِلى قنسرين وكانت كرسي المملكة المنسوبة. اليوم إِلى حلب، وكانت حلب من جملة أعمال قنسرين، ولما نازلها أبو عبيدة وخالد بن الوليد، كان بها جمع عظيم من الروم، فجرى بينهم قتال شديد انتصر فيه المسلمون، ثم بعد ذلك طلب أهلها الصلح على صلح أهل حمص، فأجابهم على أن يخربوا المدينة، فخربت. ثم فتح بعد ذلك حلب وإنطاكية ومنبج ودلوك وسرمين وتنزين وعزاز، واستولى على الشام من هذه الناحية، ثم سار خالد إِلى مرعش ففتحها وأجلى أهلها وأخربها، وفتح حصن الحدث، وفي هذه السنة لما فتحت هذه البلاد وهي سنة خمس عشرة وقيل ست عشرة، أيس هرقل من الشام وسار إِلى قسطنطينية من إثرها، ولما سار هرقل على نشر من الأرض، ثم التفت إِلى الشام وقال: السلام عليك يا سوريا، سلام لا اجتماع بعده، ولا يعود إِليك رومي بعدها إِلا خائفاً، حتى يولد لولد المشؤوم وليته لم يولد، فأجل فعله فتنته على الروم، ثم. فتحت قيسارية وصبصطية، وبها قبر يحيى بن زكريا، ونابلس واللد ويافا، وتلك البلاد جميعها.
وأما بيت المقدس فطال حصاره، وطلب أهله من أبي عبيدة أن يصالحهم على صلح أهل الشام، بشرط أنْ يكون عمر بن الخطاب متولي أمر الصلح، فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك، فقدم عمر رضي الله عنه إلى القدس وفتحها، واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وفي هذه السنة أعني سنة خمس عشرة، وضع عمر بن الخطاب الدواوين، وفرض العطاء للمسلمين، ولم يكن قبل ذلك، وقيل: كان ذلك سنة عشرين، فقيل له: ابدأ بنفسك. فامتنع وبدأ بالعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرض له خمسة وعشرين ألفاً، ثم بدأ بالأقرب فالأقرب من رسول من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، وفرض لمن بعدهم إِلى الحديبية وبيعة الرضوان أربعة آلاف أربعة آلاف، ثم لمن بعدهم ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، وفرض لأهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين، وفرض لمن بعد القادسية واليرموك ألفاً ألفاً، ولروادفهم خمس مائهَ خمس مائة، ثم ثلاثمائة ثلاثمائة ثم مائتين وخمسين مائتين وخمسين.
وكان في هذه السنة أعني سنة خمس عشرة وقعة القادسية، وكان المتولي لحرب الأعاجم فيها سعد بن أبي وقاص، وكان مقدم العجم رستم، وجرى بين المسلمين وبين الأعاجم إِذ ذاك قتال عظيم دام أياماً، فكان اليوم الأول يوم أغواث، ثم يوم غماس، ثم ليلة الهرير، لتركهم الكلام فيها، وإنما كانوا يهرون هريراً حتى أصبح الصباح، ودام القتال إلى الظهيرة، وهبت ريح عاصفة، فأكل الغبار على المشركين فانكسروا، وانتهى القعقاع وأصحابه إِلى سرير رستم، وقد قام رستم عنه، واستظل تحت بغال عليها مال وصلت من كسرى للنفقة، فلما شدوا على رستم هرب، ولحقه هلال بن علقمة، فأخذ برجله وقتله، ثم جاء به حتى رُمي به بين أرجل البغال، وصعد السرير ونادى: قتلت رستم ورب الكعبة، وتمت الهزيمة على العجم، وقتل منهم ما لا يحصى، ثم ارتحل سعد ونزل غربي دجلة، على نهر شير، قبالة مدائن كسرى، وديوانه المشهور، ولما شاهد المسلمون إيوان كسرى، كبروا وقالوا: هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد الله ورسوله.
ثم دخلت سنة ست عشرة وأقام سعد على نهر شير إِلى أيام من صفر، ثم عبروا دجلة، وهربت الفرس من المدائن نحو حلوان، وكان يزد جرد قد قدم عياله إِلى حلوان، وخرج هو ومن معه بما قدروا عليه من المتاع، ودخل المسلمون المدائن، وقتلوا كل من وجدوه، واحتاطوا بالقصر الأبيض، ونزل به سعد، واتخذوا إِيران كسرى مصلى، واحتاطوا على أموال من ذهب والآنية والثياب، تخرج عن الإحصاء، وأدرك بعض المسلمين بغلاً وقع في الماء فوجد عليه حلية كسرى، من التاج والمنطقة والدرع، وغير ذلك، كله مكلل بالجوهر، ووجدوا أشياء يطول شرحها. وكان لكسرى بساط طوله ستون ذراعاً في ستين ذراعاً، وكان على هيئة روضة، قد صورت فيه الزهور بالجوهر على قضبان الذهب، فاستوهب سعد ما يخص أصحابه منه، وبعث به إِلى عمر، فقطعه عمر وقسمه بين المسلمين، فأصاب علي بن أبي طالب منه قطعة، فباعها بعشرين ألف درهم.
وأقام سعد بالمدائن، وأرسل جيشاً إلى جلولاء وكان قد اجتمع بها الفرس، فانتصر المسلمون، وقتلوا من الفرس ما لا يحصى، وهذه الوقعة هي المعروفة بوقعة جلولاء، وكان يزد جرد بحلوان، فسار عنها وقصدها المسلمون واستولوا عليها ثم فتح المسلمون تكريت والموصل. ثم فتحوا ما سبذان عنوة، وكذلك قرقيسيا.
وفي هذه السنة أعني سنة ست عشرة للهجرة، قدم جبلة بن الأيهم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فتلقاه جماعة من المسلمين، ودخل في زي حسن، وبين يديه جنائب مقادة، ولبس أصحابه الديباج، ثم خرج عمر إِلى الحج في هذه السنة فحج جبلة معه، فبينما جبلة طائفاً إِذ وطئ رجل من فزازة على إِزاره، فلطمه جبلة فهشم أنفه، فأقبل الفزاري إِلى عمر وشكاه، فأحضره عمر وقال: افتد نفسك وإلا أمرته أن يلطمك، فقال جبلة: كيف ذلك وأنا ملك وهو سوقة، فقال عمر: إِن الإسلام جمعكما وسوى بين الملك والسوقة في الحد. فقال جبلة: كنت أظن أني بالإسلام أعز مني في الجاهلية. فقال عمر: دع عنك هذا. فقال جبلة أتنصر. فقال عمر: إِن تنصرت ضربت عنقك. فقال أنظرني ليلتي هذه، فأنظره، فلما جاء الليل سار جبلة بخيله ورجاله إِلى الشام، ثم صار إِلى القسطنطينية، وتبعه خمس مائة رجل من قومه، فتنصروا عن آخرهم، وفرح هرقل بهم وأكرمه، ثم ندم جبلة على فعله ذلك وقال:
تنصرت الأشراف مِنْ عار لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفنيَ فيها لجاج ونخوة ... وبعت لها العينَ الصحيحة بالعورْ
فيا ليتَ أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إِلى القولِ الذي قاله عمرْ
وكان قد مضى رسول عمر إلى هرقل، وشاهد ما هو فيه جبلة من النعمة، فأرسل جبلة خمس مائة دينار لحسان ابن ثابت، وأوصلها عمر إليه، ومدحه حسان ابن ثابت بأبيات منها:
إِن ابن جفنة من بقية معشرِ ... لم يعرُّهم أباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ هَو ربها ... كلا ولا متنصراً بالروم
يعطي الجزيل ولا يراه عنده ... إِلا كبعض عطية المذموم
ثم دخلت سنة سبع عشرة فيها اختطت الكوفة، وتحوّل سعد إليها، وفي هذه السنة اعتمر عمر وأقام بمكة عشرين ليلة، ووسع في المسجد الحرام، وهدم منازل قوم أبوا أن يبيعوها، وجعل أثمانها في بيت المال، وتوج أم كلثوم بنت علي ابن أبي طالب، وأمها فاطمة رضي الله عنهما.
وفي هذه السنة كانت واقعة المغيرة بن شعبة، وهي أن المغيرة كان عمر قد ولاه البصرة، وكان في قبالة العليّة التي فيها المغيرة بن شعبة، علية فيها أربعة وهم: أبو بكرة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوه لأمه زياد بن أبيه، ونافع بن كلدة، وشبل بن معبد، فرفعت الريح الكوة عن العلية، فنظروا إِلى المغيرة وهو على أم جميل بنت الأرقم بن عامر بن صعصعة، وكانت تغشى المغيرة، فكتبوا إلى عمر بذلك، فعزل المغيرة واستقدمه مع الشهود، وولى البصرة أبا موسى الأشعري، فلما قدم إِلى عمر، شهد أبو بكرة ونافع وشبل على المغيرة بالزنا، وأما زياد بن أبيه فلم يفصح شهادة الزنا، وكان عمر قد قال، قبل أن يشهد: أرى رجلاً أرجو أن لا يفضح الله به رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال زياد: رأيته جالساً بين رجلي امرأة ورأيت رِجلين مرفوعتين كأذني حمار، ونفساً يعلو وإستاً تنبو عن ذكر، ولا أعرف ما وراء ذلك. فقال عمر هل رأيت الميل في المكحلة؟ قال: لا. فقال: هل تعرف المرأة؟ قال: لا. ولكن أشبهها. فأمر عمر بالثلاثة الذين شهدوا بالزنا أن يحدوا حد القذف، فجلدوا، وكان زياد أخا أبي بكرة لأمه، فلم يكلمه أبو بكرة بعدها.
وفيها فتح المسلمون الأهواز، وكان قد استولى عليها الهرمزان، وكان من عظماء الفرس، ثم فتحوا رام هرمز، وتستر وتحصن الهرمزان في القلعة، وحاصروه، فطلب الصلح على حكم عمر، فأنزل على ذلك، وأرسلوا به إِلى عمر ومعه وفد، منهم أنس بن مالك، والأحنف بن قيس، فلما وصلوا به إِلى المدينة، ألبسوه كسوته من الديباج المذهب، ووضعوا على رأسه تاجه وهو مكلل بالياقوت، ليراه عمر والمسلمون، فطلبوا عمر فلم يجدوه، فسألوا عنه، فقيل جالس في المسجد، فأتوه وهو نائم فجلسوا دونه، فقال الهرمزان: أين هو عمر: قالوا: هوذا. قال: فأين حرسه وحجابه، قالوا ليس له حارس ولا حاجب، واستيقظ عمر على جلبة الناس، فنظر إِلى الهرمزان وقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشباهه وأمر بنزع ما عليه، فنزعوه وألبسوه ثوباً ضيقاً، فقال له عمر: كيف رأيت عاقبة الغدر، وعاقبة أمر الله، فقال الهرمزان: نحن وإياكم في الجاهلية لما خلى الله بيننا وبينكم غلبناكم، ولما كان الله الآن معكم غلبتمونا.
ودار بينهما الكلام، وطلب الهرمزان ماء فأتي به، فقال: أخاف أن تقتلني ولنا أشرب، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشرب، فرمى بالإناء فانكسر، فقصد عمر قتله، فقالت الصحابة: إِنك أمنته بقولك لا بأس عليك إِلى أن تشرب، ولم يشرب ذلك الماء، وآخر الأمر أنّ الهرمزان أسلم وفرض له عمر ألفين.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة فيها حصل في المدينة والحجاز قحط عظيم، فكتب عمر إِلى سائر الأمصار يستعينهم، فكان ممن قدم عليه، أبو عبيدة من الشام، بأربعة آلاف راحلة من الزاد، وقسم عمر ذلك على المسلمين، حتى رخص الطعام بالمدينة، ولما اشتد القحط، خرج عمر ومعه العباس وجمع الناس واستسقى مستشفعاً بالعباس، فما رجع الناس حتى تداركت السحب وأمطروا، وأقبل الناس يتمسحون بأذيال العباس رضي الله عنه.
وفي هذه السنة أعني سنة ثمان عشرة، كان طاعون عم الناس بالشام، مات به أبو عبيدة بن الجراح، واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، واستخلف أبو عبيدة على الناس معاذ بن جبل الأنصاري، فمات أيضاً بالطاعون، واستخلف عمرو بن العاص، ومات من الناس في هذا الطاعون خمسة وعشرون ألف نفس، فطال مكثه شهراً، وطمع العدو في المسلمين، وأصاب بالبصرة مثله.
وفي هذه السنة سار عمر إِلى الشام فقسم مواريث الذين ماتوا ثم رجع إِلى المدينة في ذي القعدة.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وسنة عشرين فيها فتحت مصر والإسكندرية على يد عمرو بن العاص والزبير بن العوام، فنازلا عين شمس، وهي بقرب المطرية، وكان لها جمعهم، ففتحاها، وبعث عمرو بن العاص أبرهة بن الصباح إلى الفرماء، وضرب عمرو فسطاطه موضع جامع عمرو بمصر الآن واختطت مصر، وبني موضع الفسطاط الجامع المعروف بجامع عمرو بن العاص.
ثم توجه إِلى الإِسكندرية ففتحها عنوة بعد قتال كثير، وفيها أعني سنة عشرين توفي بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مولى أبي بكر الصديق، واسم أمه حمامة، وهو من مولدي الحبشة، أسلم بعد إِسلام أبي بكر الصديق، ولم يؤذن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب من أبي بكر أن يرسله إِلى الجهاد، فسأله أبو بكر أن يقيم معه فأقام معه حتى تولى عمر، فسأله عمر ذلك، فأبى بلال وسار إِلى دمشق وأقام بها حتى مات ودفن عند الباب الصغير.
ثم دخلت سنة إِحدى وعشرين فيها كانت وقعة نهاوند مع الأعاجم وكان قد اجتمعوا في مائة وخمسين ألفاً ومقدمهم الفيرزان، فجرى بينهم وبين المسلمين حروب كثيرة آخرها أن المسلمين هزموا الأعاجم وأفنوهم قتلاً، وهرب الفيرزان مقدم جيش الأعاجم، فلما وصل إِلى ثنية همذان، وجد بغالاً محملة عسلاً، فلم يقدر على المضي، فنزل عن فرسه وهرب في الجبل، فتبعه القعقاع راجلاً وقتله فقال المسلمون إِن لله جنداً من عسل.
وفي هذه السنة فتحت الدينور والصيميرة وهمذان وأصفهان. وفي هذه السنة توفي خالد بن الوليد، واختلف في موضع قبره، فقيل بحمص، وقيل بالمدينة.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين فيها فتحت أذربيجان والري وجرجان فزوين وزنجان وطبرستان.
وفيها سار عمرو بن العاص إِلى برقة، فصالحه أهلها على الجزية، ثم سار إِلى طرابلس الغرب، فحاصرها وفتحها عنوة.
وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس خراسان، وحارب يزد جرد وافتتح هراة عنوة، ثم سار إِلى مرو روز، وكتب يزد جرد إِلى ملك الترك يستمده، وإلى ملك الصغد وإلى ملك الصين يستمدهما، وانهزم يزد جرد إلى بلخ ثم سار إِليه المسلمون فهزموه، وعبر يزد جرد نهر جيحون، ثم إِن يزد جرد اختلف هو وعسكره، فإِنه أشار بالمقام مع الترك، وأشار عسكره بمصالحة المسلمين والدخول في حكمهم، فأبى يزد جرد ذلك، فطرده عسكره، وأخذوا خزانته، وسار يزد جرد مع الترك في حاشيته، وأقام بفرغانة زمن عمر كله، وبقي عسكره في أماكنهم وصالحوا المسلمين.
وفيها توفي أبي بن كعب بن قيس، وهو من ولد مالك بن النجار، وكان يكنى أبا المنذر، أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمر الله تعالى رسوله عليه السلام أن يقرأ القرآن على أبي بن كعب المذكور، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرأ أمتي أُبي بعدي، وقيل مات في سنة ثلاثين في خلافة عثمان، ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين.
مقتل عمر
رضي الله عنه
وفي هذه السنة طعن أبو لؤلؤة واسمه فيروز عبد المغيرة بن شعبة عمرَ بن الخطاب وهو في الصلاة، بخنجر في خاصرته، وتحت سرته، وذلك لست بقين من ذي الحجة من السنة المذكورة، وتوفي يوم السبت سلخ ذي الحجة، ودفن يوم الأحد هلال المحرم سنة أربع وعشرين، وكانت مدة خلافته عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام، ودفن عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وعهد بالخلافة إِلى النفر الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وهم علي وعثمان وطلحة والزبير وسعد رضي الله عنهم، بعد أن عرضها على عبد الرحمن بن عوف فأبى.وكان عمر رضي الله عنه طويل القامة أبيض أصلع أشيب، وكان عمره خمساً وخمسين سنة، وقيل ستين، وقيل ثلاثاً وستين، وكان له من الفضل والزهد والعدل والشفقة على المسلمين القدر الوافر، فمن ذلك أنه جاء إِلى عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي في بيته ليلاً؛ فقال عبد الرحمن: ما جاء بك يا أمير المؤمنين في هذه الساعة؟ فقال: إِن رفقة نزلوا في ناحية السوق، خشيت عليهم سراق المدينة، فانطلق لنحرسهم، فأتيا السوق، وقعدا على نشز من الأرض يتحدثان ويحرسانهم.
وعمر أول من سمي بأمير المؤمنين، وأول من كتب التاريخ، وأرّخ من السنة التي هاجر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من عس بالليل، وأول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وأول من جمع الناس في صلاة الجنازة على أربع تكبيرات، وكانوا قبل ذلك يكبرون أربعاً وخمساً وستاً، وأول من جمع الناس على إمام يصلي بهم التراويح في رمضان، وكتب بذلك إلى سائر البلدان وأمرهم به، وأول من حمل الدرة وضرب بها، ودون الدواوين.
وخطب مرة الناس وعليه إِزار فيه اثنتا عشرة رقعة، وكان مرة في بعض حجته فلما مر بضحيان قال لا إِله إِلا الله، المعطي ما شاء من شاء، كنت أرعى إبل الخطاب في هذا الوادي في مدرعة صوف، وكان فظاً يرعبني إِذا عملت؛ ويضربني إذا قصرت، وقد أصبحت وليس بيني وبين الله أحد. وفضائله رضي الله عنه أكثر من أن تحصى.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين فيها عَقِبَ موت عمر، اجتمع أهل الشورى، وهم علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وكان قد شرط عمر أن يكون ابنه عبد الله شريكاً في الرأي، ولا يكون له حظ في الخلافة، وطال الأمر بينهم، وكان قد جعل لهم عمر مدة ثلاثة أيام، وقال لا يمضي اليوم الرابع إِلا ولكم أمير، وإن اختلفتم فكونوا مع الذي معه عبد الرحمن. فمضى علي إِلى العباس رضي الله عنهما؛ وقال له: عدل عنا لأن سعداً لا يخالف عبد الرحمن، لأنه ابن عمه، وعبد الرحمن صهر عثمان، فلا يختلفون فيوليها أحدهم الآخر. فقال العباس: لم أدفعك عن شيء إِلا رجعت إِلى مستأخر، أشرت عليك قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسأله فيمن يجعل هذا الأمر فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل هذا الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل فيهم فأبيت، وهذا الرهط لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر؛ حتى يقوم له غيرنا، وأيم الله لا يناله إِلا بشر لا ينفع معه خير.
ثم جمع عبد الرحمن الناس بعد أن أخرج نفسه عن الخلافة، فدعا علياً فقال: عليك عهد الله وميثاقه، لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده فقال: أرجو أن أفعل وأعمل مبلغ علمي وطاقتي، ودعا بعثمان وقال له مثل ما قال لعلي، فرفع عبد الرحمن رأسه إِلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال: اسمع وأشهد، اللهم إِني جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان وبايعه، فقال علي ليس هذا أول يوم تظاهرتم علينا فيه، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إِلا ليرد الأمر إِليك، والله كل يوم هو في شأن. فقال عبد الرحمن: يا علي، لا تجعل على نفسك حجةً وسبيلاً، فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد بن الأسود لعبد الرحمن: والله لقد تركته، يعني علياً، وإنه من الذين يقضون بالحق، وبه يعدلون. فقال: يا مقداد لقد اجتهدت للمسلمين، فقال المقداد: إني لأعجب من قريش، إِنهم تركوا رجلاً ما أقول ولا أعلم أن رجلا أقضى بالحق، ولا أعلم منه، فقال عبد الرحمن: يا مقداد، اتق الله، فإني أخاف عليك الفتنة، ثم لما أحدث عثمان رضي الله ما أحدث من توليته الأمصار للأحداث من أقاربه، روي أنه قيل لعبد الرحمن بن عوف: هذا كله فعلك. فقال: لم أظن هذا به؛ لكن لله علي أن لا أكلمه أبداً، ومات عبد الرحمن وهو مهاجر لعثمان رضي الله عنهما، ودخل عليه عثمان عائداً في مرضه فتحول إِلى الحائط ولم يكلمه.
خلافة عثمان
رضي الله عنه
وبويع عثمان رضي الله عنه لثلاث مضين من المحرم، من هذه السنة، أعني سنة أربع وعشرين، وهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة. ولما بويع رقي المنبر وقام خطيباً فحمد الله وتشهد ثم أرتج عليه فقال: إِن أول كل أمر صعب، وإن أعش فسآتيكم الخطب على وجهها، ثم نزل وأقر عثمان ولاة عمر سنة، لأنه كان أوصى بذلك، ثم عزل المغير بن شعبة عن الكوفة، وولاها سعد بن أبي وقاص، ثم عزله وولى الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان أخا عثمان من أمه.ثم دخلت سنة خمس وعشرين فيها توفي أبو ذر الغفاري واسمه جندب بن جنادة، وكان بالشام ينكر على معاوية جمع المال، ويتلو " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله " " التوبة: 34، " الآية، فكتب معاوية إِلى عثمان يشكوه، فكتب إِليه عثمان أن أقدم المدينة، فقدم إِلى المدينة، واجتمع الناس عليه، فصار يذكر ذلك ويكثر الشناعة على من كنز الذهب والفضة، فنفاه عثمان إِلى الربدة وقيل كانت وفاته بالربدة سنة إِحدى وثلاثين.
ثم دخلت سنة ست وعشرين فيها عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولاها عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، وكان أخا عثمان من الرضاعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دم عبد الله بن سعد المذكور يوم الفتح، وشفع فيه عثمان، حتى أطلقه رسول اللَه صلى الله عليه وسلم.
وفي أيام عثمان فتحت إِفريقية، وكان المتولي لذلك عبد الله بن سعد بن أبي سرح المذكور، وبعث بالخمس إِلى عثمان، فاشتراه مروان بن الحكم بخمس مائة ألف دينار، فوضعها عنه عثمان، وهذا من الأمور التي أنكرت عليه، ولما فتحت إِفريقية، أمر عثمان عبد الله نافع بن الحصين أن يسير إِلى جهة الأندلس، فغزى تلك الجهة، وعاد عبد الله بن نافع إِلى إِفريقية، فأقام بها من جهة عثمان، ورجع عبد الله ابن سعد إِلى مصر.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وسنة ثمان وعشرين فيها استأذن معاوية عثمان في غزو البحر، فأذن له، فسير معاوية إِلى قبرس جيشاً وسار إِليها أيضاً عبد الله ابن سعد من مصر، فاجتمعوا عليها وقاتلوا أهلها، ثم صولحوا على جزية سبعة آلاف دينار في كل سنة، وكان هذا الصلح بعد قتل وسبي كثير من أهل قبرس.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين فيها عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة، وولاها ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز، ثم عزل الوليد بن عقبة من الكوفة، بسبب أنه شرب الخمر وصلى بالمسلمين الفجر أربع ركعات وهو سكران، ثم التفت إِلى الناس وقال: هل أزيدكم؟ فقال ابن مسعود: مازلنا معك في زيادة منذ اليوم، وفي ذلك يقول الحطيئة:
شهدا الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد فرغت صلاتهم ... أأزيدكم سكراً وما يدري
فأبوا أبا وهب ولو أذنوا ... لقرنت بين الشفع والوتر
ثم دخلت سنة ثلاثين فيها بلغ عثمان ما وقع في أمر القرآن من أهل العراق، فإنهم يقولون: قرآننا أصح من قرآن أهل الشام، لأننا قرأنا على أبي موسى الأشعري، وأهل الشام: يقولون قرآننا أصح لأنّا قرأنا على المقداد بن الأسود، وكذلك غيرهم من الأمصار فأجمع رأيه ورأي الصحابة، على أن يحمل الناس على المصحف الذي كتب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وكان مودعاً عند حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وتحرق ما سواه من المصاحف التي بأيدي الناس، ففعل ذلك ونسخ من ذلك المصحف مصاحف، وحمل كلاً منها إِلى مصر من الأمصار، وكان الذي تولى نسخ المصاحف العثمانية بأمر عثمان، زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي.
وقال عثمان: إِن اختلفتم في كلمة فاكتبوها بلسان قريش، فإِنما نزل القرآن بلسانهم.
وفي هذه السنة سقط من يد عثمان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من فضة فيه ثلاثة أسطر، محمد رسول الله، كان النبي يتختم به، ويختم به الكتب التي كان يرسلها إِلى الملوك. ثم ختم به بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، إِلى أن سقط في بئر أريس ثم دخلت سنة إِحدى وثلاثين.
مهلك يزد جرد بن شهريار بن برويزوهو آخر ملوك الفرس، في هذه السنة هلك يزد جرد، وقد اختلف في ذلك، فقيل إنه نزل بمرو، فثار عليه أهلها وقتلوه، وقيل بغته الترك وقتلوا أصحابه، فهرب يزد جرد إلى بيت رجل ينقر الأرحا فقتله ذلك الرجل، واتبع الفرس أثر يزد جرد إِلى بيت النقار، وعذبوا النقار فأقر بقتله فقتلوه.
وفيها عصت خراسان، واجتمع أهلها في خلق عظيم، وسار إِليهم المسلمون، وذلك في أيام عثمان ففتحوها فتحاً ثانياً.
وفي هذه السنة مات أبو سفيان بن حرب بن أمية أبو معاوية.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين فيها توفي عبد الله بن مسعود ابن غافل بن حبيب بن شمخ من ولد مدركة بن إِلياس بن مضر، وفي مدركة يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في بعض الروايات أن عبد الله بن مسعود المذكور، أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، والذي روى أنه من العشرة، أسقط أبا عبيدة بن الجراح، وجعل عبد الله المذكور بدله، وكان جليل القدر، عظيماً في الصحابة، وهو أحد القراء رحمه الله تعالى ورضي عنه.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين فيها تكلم جماعة من الكوفة في حق عثمان، بأنه ولى جماعة من أهل بيته، لا يصلحون للولاية، فكتب سعيد بن العاص والي الكوفة من قبل عثمان إِليه بذلك، فأمره عثمان بأن يسير الذين تكلموا بذلك إِلى معاوية بالشام، فأرسلهم وفيهم الحارث بن مالك المعروف بالأشتر النخعي، وثابت ابن قيس النخعي، وجميل بن زياد، وزيد بن صوحان العبدي، وأخوه صعصعة، وجندب بن زهير، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق، فقدموا على معاوية وجرى بينهم كلام كثير، وحذرهم الفتنة، فوثبوا وأخذوا بلحية معاوية ورأسه، فكتب بذلك إِلى عثمان، فكتب إِليه عثمان أن يردهم إِلى سعيد بن العاص، فردهم إِلى سعيد، فأطلقوا ألسنتهم في عثمان، واجتمع أهل الكوفة.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين فيها قدم سعيد إِلى عثمان، وأخبره بما فعله أهل الكوفة، وأنهم يختارون أبا موسى الأشعري فولى عثمان أبا موسى الكوفة، فخطبهم أبو موسى وأمرهم بطاعة عثمان، فأجابوا إِلى ذلك، وتكاتب نفر من الصحابة بعضهم إِلى بعض، أن أقدموا فالجهاد عندنا، ونال الناس من عثمان، وليس أحد من الصحابة ينهي عن ذلك، ولا يذب إِلا نفر، منهم زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، ومما نقم الناس عليه رده الحكم بن العاص، طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريد أبي بكر وعمر أيضاً، وإعطاء مروان بن الحكم خمس غنائم إِفريقية، وهو خمس مائة ألف دينار، وفي ذلك يقول عبد الرحمن الكندي:
سأحلف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله أمراً سدا
ولكن خلقت لنا فتنة ... لكي نبتلى بك أو تبتلى
فإِن الأمينين قد بنيا ... منار الطريق عليه الهدى
فما أَخذا درهمًا غيلة ... وما جعلا درهماً في الهوى
دعوت اللعين فأدنيته ... خلافاً لسنة من قد مضى
وأعطيت مروان خمس العباد ... ظلماً لهم وحميت الحمى
وأقطع مروان بن الحكم فدك، وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي طلبتها فاطمة ميراثاً، فروى أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة " ، ولم تزل فدك في يد مروان وبنيه، إِلى أن تولى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله، وردها صدقة.
وفي هذه السنة توفي المقداد بن الأسود، وهو المقداد بن عمرو بن ثعلبة، ونسب إِلى الأسود بن عبد يغوث، لأنه كان قد حالف الأسود المذكور في الجاهلية، فتبناهُ، فعرف بالمقداد بن الأسود، فلما نزل قوله تعالى " أدعوهم لآبائهم " " الأحزاب: ه " الآية، قيل له المقداد بن عمرو، ولم يكن في يوم بدر من المسلمين صاحب فرس غير المقداد، في قول، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، وكان عمره نحو سبعين سنة.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين فيها قدم من مصر جمع، قيل ألف، وقيل سبع مائة، وقيل خمس مائة، وكذلك قدم من الكوفة جمع، وكذلك من البصرة، وكان هوى المصريين مع علي، وهوى الكوفيين مع الزبير، وهوى البصريين مع طلحة، فدخلوا المدينة، ولما جاءت الجمعة التي تلي دخولهم المدينة، خرج عثمان فصلى بالناس، ثم قام على المنبر وقال للجموع المذكورة: يا هؤلاء، الله يعلم وأهل المدينة يعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال: أنا أشهد بذلك، فثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصب عثمان حتى خر على المنبر مغشياً عليه، فأدخل داره، وقاتل
جماعة من أهل المدينة عن عثمان، منهم سعد بن أبي وقاص، والحسن بن علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة رضي الله عنهم، فأرسل إِليهم عثمان يعزم عليهم بالانْصراف فانصرفوا، وصلى عثمان بالناس بعد ما نزلت الجموع المذكورة في الّمسجد ثلاثين يوماً ثم منعوه الصلاة، فصلى بالناس أميرهم الغافقي أمير جمع مصر، ولزم أهل المدينة بيوتهم، وعثمان محصور في داره، ودام ذلك أربعين يوماً، وقيل خمسين، ثم إِن علياً اتفق مع عثمان على ما تطلبه الناس منه من عزل مروان عن كتابته، وعبد الله بن أبي سرح عن مصر، فأجاب عثمان إِلى ذلك، وفرق علي الناس عنه، ثم اجتمع عثمان بمروان فرده عن ذلك، ثم اضطره الحال حتى عزل ابن أبي سرح عن مصر، وولاها محمد بن أبي بكر الصديق، وتوجه مع محمد بن أبي بكر عدة من المهاجرين والأنصار، فبينما هم في أثناء الطريق، وإذا بعبد على هجين يجهده، فقالوا له: إِلى أين؟ قال: إِلى العامل بمصر. فقالوا: هذا عامل مصر، يعنون محمد بن أبي بكر، فقال: بل العامل الآخر، يعني ابن أبي سرح فأمسكوه وفتشوه، فوجدوا معه كتاباً مختوماً بختم عثمان يقول: إِذا جاءك محمد بن أبي بكر ومن معه، بأنك معزول فلا تقبل، واحتل بقتلهم، وأبطل كتابهم، وقر في عملك.
فرجع محمد بن أبي بكر ومن معه من المهاجرين والأنصار إِلى المدينة وجمعوا الصحابة وأوقفوهم على الكتاب، وسألوا عثمان عن ذلك فاعترف بالختم وخط كاتبه، وحلف بالله أنه لم يأمر بذلك، فطلبوا منه مروان ليسلمه إِليهم بسبب ذلك فامتنع.
فازداد حنق الناس على عثمان وجدوا في قتاله، فأقام علي ابنه الحسن يذب عنه، وأقام الزبير ابنه عبد الله وطلحة ابنه محمد يذبون عنه، بحيث خرج الحسن وانصبغ بالدم، وآخر الحال أنهم تسوروا على عثمان من دار لزق داره، ونزل عليه جماعة فيهم محمد بن أبي بكر فقتلوه. وكان عثمان رضي الله عنه حين قتل صائماً يتلو في المصحف، وكان مقتله لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وكانت مدة خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً.
واختلف في عمره، فقيل خمس وسبعون، وقيل اثنتان وثمانون، وقيل تسعون، وقيل غير ذلك، ومكث ثلاثة أيام لم يدفن، لأن المحاربين له منعوا من ذلك، ثم أمر علي بدفنه، وكان عثمان معتدل القامة، حسن الوجه، بوجهه أثر جدري، عظيم اللحية، أسمر اللون، أصلع يصفر لحيته، وتزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسبب ذلك قيل له ذو النورين، وكان كاتبه مروان بن الحكم بن العاص ابن عمه، وقاضيه زيد بن ثابت.
وأما فضائله: فإِنه الذي جهز جيش العسرة بجملة من المال، وكان قد أصاب الناس مجاعة في غزوة تبوك، فاشترى عثمان طعاماً يصلح العسكر، وجهز به عيراً.
فلما وصل ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رفع يده إِلى السماء وقال: " اللهم إِني قد رضيت عن عثمان، فارضَ عنه " ، وروى الشعبي أن عثمان دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف لا أستحي ممن تستحي منه الملائكة " ، وانفتح بقتل عثمان باب الشر والفتن.
أخبار علي بن أبي طالب
رضي الله عنه
واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم علي فاطمة بنت أسد بن هاشم، فهو هاشمي ابن هاشميين، بويع بالخلافة يوم قتل عثمان، وقد اختلف في كيفية بيعته، فقيل: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم طلحة والزبير، فأتوا علياً وسألوه البيعة له، فقال: لا حاجة لي في أمركم، من اخترتم رضيت به، فقالوا: ما نختار غيرك، وترددوا إليه مراراً. وقالوا: إنا لا نعلم أحداً أحق بالأمر منك، ولا أقدمٍ منك سابقة ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أكون وزيراً خير من أنْ أكون أميراً. فأتوا عليه، فأتى المسجد، فبايعوه.وقيل: بايعوه في بيته، وأول من بايعه طلحة بن عبد الله، وكانت يد طلحة مشلولة من نوبة أحد، فقال حبيب بن ذؤيب: إِنا لله، أول من بدأ بالبيعة يد شلاء، لا يتم هذا الأمر، وبايعه الزبير، وقال علي لهما: إنْ أحببتما أنْ تبايعا لي بايعا، وإن أحببتما بايعتكما فقالا: بل نبايعك، وقيل إِنهما قالا بعد ذلك: إنما بايعنا خشية على نفوسنا، ثم هربا إِلى مكة بعد مبايعة علي بأربعة أشهر، وجاءوا بسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، فقال له علي: بايع، فقال: لا، حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس فقال خلوا سبيله.
وكذلك تأخر عن البيعة عبد الله بن عمر، وبايعته الأنصار إِلا نفراً قليلاً، منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، والنعمان ابن بشير، ومحمد بن مسلمة، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة وزيد بن ثابت وكان هؤلاء قد ولاهم عثمان على الصدقات وغيرها، وكذلك لم يبايع علياً سعيد بن زيد وعبد الله بن سلام،، صهيب بن سنان، وأسامة بن زيد، قدامة بن مطعون، والمغيرة بن شعبة،، سموا هؤلاء المعتزلة، لاعتزالهم بيعة علي.
وسار النعمان بن بشير إِلى الشام، ومعه ثوب عثمان الملطخ بالدم، فكان معاوية يعلق قميص عثمان على المنبر؛ ليحرض أهل الشام على قتال علي وأصحابه، وكلما رأى أهل الشام ذلك، ازدادوا غيظاً.
وقد روي في بيعة علي غير ذلك، فقيل: لما قتل عثمان، بقيصص المدينة خمسة أيام، والغافقي أمير المصريين ومن معه، يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، ووجدوا طلحة في حائط له ووجدوا سعداً والزبير قد خرجا من المدينة، ووجدوا بني أمية قد هربوا، وأتى المصريون علياً فباعدهم، وكذلك أتى الكوفيون الزبير، والبصريون طلحة فباعداهم، وكانواٍ مع اجتماعهم على قتل عثمان، مختلفين فيمن يلي الخلافة، حتى غشى الناس علياً فقالوا: نبايعك، فقد ترى ما نزل بالإسلام، وما ابتلينا به، فامتنع علي، فألحوا عليه، فقال: قد أجبتكم، واعلموا أني إِنْ أجبتكم، ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني، فإِنّما أنا كأحدكم. وافترق الناس على ذلك، وتشاوروا فيما بينهم، وقالوا: إن دخل طلحة والزبير فقد استَقامت البيعة، فبعث البصريون إِلى الزبير حكيم بن جبلة، ومعه نفر فجاءوا بالزبير كرهاً بالسيف، فبايع، وبعثوا إِلى طلحة الأشتر ومعه نفر، فأتوا بطلحة ولم يزالوا به حتى بايع، ولما أصبحوا يوم الجمعة، اجتمع الناس في المسجد، وصعد علي المنبر واستعفى من ذلك، فلم يعفوه، فبايعه أولاً طلحة، وقال: أنا أبايع مكرهاً، وكانت يد طلحة شلاء، فقيل هذا الأمر لا يتم، كما ذكرنا، وبايعه أهل المدينة من المهاجرين والأنصار، خلا من لم يبايع ممن ذكرنا. وكان ذلك يوم الجمعة، لخمس بقين من ذي الحجة، من سنة خمس وثلاثين. ثم فارقه طلحة والزبير ولحقا بمكة، واتفقا مع عائشة رضي الله عنهم وكانت قد مضت إِلى الحج وعثمان محصور، وكانت عائشة تنكر على عثمان مع من ينكر عليه، وكانت تخرج قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم وشعره وتقول: هذا قميصه وشعره لم يبل، وقد بلي دينه، لكنها لم تظن أن الأمر ينتهي إِلى ما انتهى إِليه.
وكان ابن عباس بمكة لما قتل عثمان، ثم قدم المدينة بعد البيعة لعلي فوجد علياً مسخلياً بالمغيرة بن شعبة، قال: فسألته عما قال له، فقال علي: أشار علي بإقرار معاوية وغيره من عمال عثمان إِلى أنْ يبايعوا ويستقر الأمر، فأبيت ثم أتاني الآن وقال: الرأي ما رأيته. فقال ابن عباس: نصحك في المرة الأولى وغشك في الثانية، وإني أخشى أن ينتقض عليك الشام، مع أني لا آمن طلحة والزبير أنْ يخرجا عليك، وأنا أشير عليك أن تقر معاوية، فإِن بايع لك، فعلي أن اقتلعه لك من منزله متى شئت. فقال علي والله لا أعطيه إِلا السيف، ثم تمثل:
وما ميتةٌ أن مِتُّها غير َعاجز ... بعار إذا ما غالتِ النفسُ غولُها
فقلت: يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع، ولست صاحب رأي. فقال علي: إِذا عصيتك فأطعني. فقال ابن عباس: أفعل، إِن أيسر مالك عندي الطاعة، وخرج المغيرة ولحق بمكة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين فيها أرسل علي إِلى البلاد عماله، فبعث إِلى الكوفة عمارة بن شهاب، وكان من المهاجرين، ووالى عثمان بن حنيف الأنصاري البصرة، وعبد الله بن عباس اليمن، وكان من المشهورين بالجود، وولى قيس ابن سعد بن عبادة الأنصاري مصر، وسهل بن حنيف الأنصاري الشام، فلما وصل تبوك، لقيته خيل، فقالوا من أنت: قال أمير على الشام. فقالوا إِن كان بعثك غير عثمان فارجع. قال: أو ما سمعتم بالذي كان قالوا: إلى. فرجع إِلى علي، ومضى قيس بن سعد إِلى مصر فوليها، واعتزلت عنه فرقة، كانوا عثمانية، وأبوا أن يدخلوا في طاعة علي، إِلا أن يقتل قاتل عثمان، ومضى عثمان بن حنيف إِلى البصرة فدخلها، واتبعته فرقة وخالفته فرقة، ومضى عمارة إِلى الكوفة فلقيه طلحة بن خويلد الأسدي، الذي كان ادعى النبوة في خلافة أبي بكر، فقال له: إِن هل الكوفة لا يستبدلون بأميرهم، فرجع إِلى علي وكان على الكوفة من قبل عثمان، أبو موسى الأشعري، ومضى عبد الله إِلى اليمن، وكان العامل بها من جهة عثمان، يعلى بن منبه، فوليها عبد الله وخرج يعلى، وأخذ ما كان حاصلاً من المال، ولحق بمكة وصار مع عائشة وطلحة والزبير، وسلم إِليهم المال.
مسير عائشة وطلحة والزبير إلى البصرةولما بلغ عائشة قتل عثمان، أعظمت ذلك، ودعت إِلى الطلب بدمه، وساعدها على ذلك طلحة والزبير وعبد الله بن عمر، وجماعة من بني أمية، وجمعوا جمعاً عظيماً، واتفق رأيها على المضي إِلى البصرة للاستيلاء عليها، وقالوا معاوية بالشام، قد كفانا أمرها، وكان عبد الله بن عمر قد قدم من المدينة، فدعوه إِلى المسير معهم فامتنع، وساروا، وأعطى يعلى بن منبه عائشة الجمل المسمى بعسكر، اشتراه بمائة دينار، وقيل بثمانين ديناراً، فركبته، وضربوا في طريقهم مكاناً يقال له الحوأب فنبحتهم كلابه، فقالت عائشة: أي ماء هو هذا؟ فقيل: هذا ماء الحوأب، فصرخت عائشة بأعلى صوتها وقالت: إِنّا لله وإنا إِليه راجعون، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه: " ليت شعري أيتّكن ينبحها كلاب الحوأب " ، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت: ردوني، أنا والله صاحبة ماء الحوأب، فأناخوا يوماً وليله، وقال لها عبد الله بن الزبير إِنه كذب، يعني ليس هذا ماء الحوأب، ولم يزل بها وهي تمتنع، فقال لها: النجاء النجاء فقد أدرككم علي بن أبي طالب، فارتحلوا نحو البصرة، فاستولوا عليها بعد قتال مع عثمان بن حنيف، فقتل من أصحاب عثمان بن حنيف أربعون رجلاً، وأُمسك عثمان بن حنيف، فنتفت لحيته وحواجبه، وسجن ثم أطلقته.
مسيرة علي إلى البصرةولما بلغ علياً مسير عائشة وطلحة والزبير إِلى البصرة، سار نحوهم في أربعة آلاف من أهل المدينة، فيهم أربع مائة ممن بايع تحت الشجرة، وثمانمائة من الأنصار، ورأته مع ابنه محمد بن الحنفية، وعلى ميمنته الحسن، وعلى ميسرته الحسين، وعلى الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرجالة محمد بن أبي بكر الصديق، وعلى مقدمته عبد الله بن العباس.
وكان مسيره في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، ولمّا وصل علي إِلى ذي قار، أتاه عثمان بنٍ حنيف وقال له: يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية، وجئتك أمرد. فقال أصبت أجراً وخيراً، وقال علي: إِن الناس وليهم قبلي رجلان، فعملا بالكتاب والسنة، ثم وليهم ثالث، فقالوا في حقه وفعلوا، ثم بايعوني وبايعني طلحة والزبير ثم نكثا، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان، وخلافهما علي، والله إِنهما يعلمان أني لست بدون رجل ممن تقدم.
وقعة الجمل
واجتمع إِلى علي من أهل الكوفة جمع، واجتمع إلى عائشة وطلحة والزبير جمع، وسار بعضهم إلى بعض، فالتقوا بمكان يقال له الخريبة في النصف من جمادى الآخرة، من هذه السنة، ودعي على الزبير إِلى الاجتماع به، فاجتمع به، فذكره علي وقال: أتذكر يوماً مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غنم، فنظر إِلي فضحكت وضحك إِليّ فقلت: لا يدع ابن أبي طالب زَهوَه. فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنه ليس بِمُزْه ولتقاتلنه وأنت ظالم له " فقال الزبير: اللهم نعم، ولو ذكرته ما سرت مسيري هذا. فقيل إنه اعتزل القتال، وقيل بل غيره ولده عبد الله، وقال خفت من رايات ابن أبي طالب. فقال الزبير إِني حلفت أن لا أقاتله. فقال له ابنه: كفرْ عن يمينك، فعتق غلامه مكحولاً وقاتل، ووقع القتال وعائشة راكبة الجمل المسمى عسكر في هودج، وقد صار كالقنفذ من النشاب، وتمت الهزيمة على أصحاب عائشة وطلحة والزبير، ورمى مروان بن الحكم طلحة بسهم فقتلة، وكلاهما كانا مع عائشة، قيل إنه طلب بذلك أخذ ثأر عثمان منه، لأنه نسبه إِلى أنه أعان على قتل عثمان، وانهزم الزبير طالباً المدينة، وقطعت على خطام الجمل أيد كثيرة، وقتل أيضاً بين الفريقين خلق كثير، ولما كثر القتل على خطام الجمل، قال علي: اعقروا الجمل فضربه رجل فسقط، فبقيت عائشة في هودجها إِلى الليل، وأدخلها محمد بن أبي بكر أخوها إِلى البصرة، وأنزلها في دار عبد الله بن خلف، وطاف علي على القتلى من أصحاب الجمل وصلى عليهم ودفنهم. ولما رأى طلحة قتيلاً قال: إنا لله وإنا إِليه راجعون، والله لقد كنت أكره أن أرى قريشاً صرعى، أنت والله كما قال الشاعر:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إِذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
وصلى عليه، ولم ينقل عنه أنه صلى على قتلى الشام بصفين، ولما انصرف الزبير من وقعة الجمل طالباً المدينة، مر بماء لبني تميم وبه الأحنف بن قيس، فقيل للأحنف وكان معتزلاً القتال: هذا الزبير قد أقبل، فقال: قد جمع بين هذين العارين، يعني العسكرين وتركهم وأقبل، وفي مجلسه عمرو بن جرموز المجاشعي، فلما سمع كلامه قام من مجلسه واتبع الزبير؛ حتى وجده بوادي السباع نائماً، فقتله؛ ثم أقبل برأسه إِلى علي بن أبي طالب. فقال علي: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بشروا قاتل الزبير بالنار " . قال عمرو بن جرموز المذكور لعنه الله:
أتيت علياً برأس الزبير ... وقد كنت أحسبها زلفة
فبشر بالنار قبل العيان ... فبئس البشارة والتحفه
وسيان عندي قتل الزبير ... وضَرطة عير بذي الجحفة
ثم أمر علي عائشة بالرجوع إِلى المدينة، وأن تقر في بيتها، فسارت مستهل رجب من هذه السنة، وشيعها الناس، وجهزها علي بما احتاجت إليه، وسير معها أولاده مسيرة يوم، وتوجهت إِلى مكة، فأقامت للحج تلك السنة، ثم رجعت إِلى المدينة.
وقيل كانت عدة القتلى يوم الجمل من الفريقين، عشرة آلاف، واستعمل علي على البصرة عبد الله بن العباس، وسار على الكوفة فنزلها، وانتظم له الأمر بالعراق ومصر واليمن والحرمين وفارس وخراسان، ولم يبق خارج عنه إِلا الشام، وفيه معاوية وأهل الشام مطيعون له، فأرسل إِليه علي جريرَ بن عبد الله البجلي، ليأخذ البيعة على معاوية، ويطلب منه الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار.
فسار جرير إِلى معاوية، فماطله معاوية، وكان عمرو بن العاص بفلسطين، حتى قدم عمرو إِلى معاوية، فوجد أهل الشام يحضون على الطلب بدم عثمان، فقال لهم عمرو: أنتم على الحق، واتفق عمرو ومعاوية على قتال علي، وشرط عمرو، على معاوية إِذا ظفر، أن يوليه مصر، فأجابه إلى ذلك، وكان قيس بن سعد بن عبادة متولياً على مصر من جهة علي، على ما ذكرناه، فقد اعتزل عنه جماعة عثمانية إِلى قرية من بلد مصر يقال لها خربتا، وكان قيس المذكور من دهاة العرب، فرأى من المصلحة مداهنة المذكورين، وكف الحرب عنهم لئلا ينضموا إِلى معاوية، وكتب معاوية إِلى قيس المذكور يستميله، ويبذل له الولايات العظام، فلم يفد فيه، فزور عليه معاوية كتاباً وقرأه على الناس، يوهمهم أن قيساً معه، ولذلك لم يقاتل المعتزلين عنه بخربتا، فبلغ علياً ذلك، فعزل قيساً عن مصر؛ وولى عليها محمد بن أبي بكر، ولحق قيس بالمدينة، ثم وصل إِلى علي وحضر معه حرب صفين، وحكى لعلي ما جرى له مع معاوية، فعلم صحة ذلك، وبقي قيس المذكور مع علي ثم مع الحسن على ذلك، إِلى أن سلم الأمر إِلى معاوية، وأما محمد بن أبي بكر، فوصل إلى مصر وتولى عليها، ووصاه قيس في أنه لا يتعرض إِلى أهل خربتا، فلم يقبل محمد ذلك، وبعث إلى أهل خربتا يأمرهم بالدخول في بيعة علي، أو الخروج من أرض مصر، فأجابوه أن لا نفعل، ودعنا ننظر إلى ما يصير إِليه أمرنا، فأبى عليهم.
وقعة صفينولما قدم عمرو على معاوية كما ذكرنا واتفقا على حرب علي، قدم جرير بن عبد الله البجلي على علي، فأعلمه بذلك، فسار علي من الكوفة إِلى جهة معاوية، وقدم عليه عبد الله بن عباس ومن معه من أهل البصرة، فقال علي رضي الله عنه:
لأصبحن العاص وابن العاصي ... سبعين ألفاً عاقدي النواصي
مجنبين الخيل بالقلاص ... مستحقبين حلق الدلاص
وحدا بعلي نابغة بني جعد الشاعر فقال:
قد علم المصران والعراق ... أن علياً فحْلها العتاقُ
أبيض جحجاح له رواقَ ... إِن الأولى جاروك لا أفاقوا
لكم سباق ولهم سباق ... قد سلمتْ ذلكم الرفاق
وسار عمر ومعاوية من دمشق بأهل الشام إِلى جهة علي، وتأنى معاوية في مسيره، حتى اجتمعت الجموع بصفين، وخرجت سنة ست وثلاثين والأمر على ذلك.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين والجيشان بصفين، ومضى المحرم ولم يكن بينهم قتال، بل مراسلات يطول ذكرها، لم ينتظم بها أمر، ولما دخل صفر وقع بينهما القتال فيه، وكانت بينهم وقعات كثيرة بصفين، قيل كانت تسعين وقعة، وكان مدة مقامهم بصفين مائة وعشرة أيام، وكانت عدة القتلى بصفين من أهل الشام خمسة وأربعين ألفاً، ومن أهل العراق خمسة وعشرين ألفاً، منهم ستة وعشرون رجلا من أهل بدر، وكان علي قد تقدم إِلى أصحابه أن لا يقاتلوهم حتى يبدؤوا بالقتال، وأن لا يقتلوا مدبراً وألا يأخذوا شيئاً من أموالهم وأن لا يكشفوا عورة. قال معاوية، أردت الانهزام بصفين، فتذكرت قول ابن الإطنابة فثبت، وكان جاهلياً، والإطنابة مرة وهو قوله:
أبت لي همتي وحياء نفسي ... وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جاشت وجاشت ... رويدك تحمدي أو تستريحي
وقاتل عمار بن ياسر رضي الله عنه مع علي قتالاً عظيماً، وكان قد نيف عمره على تسعين سنة، وكانت الحربة في يده ترعد؛ وقال: هذه راية قاتلت بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، وهذه الرابعة، ودعى بقدح من لبن فشرب منه ثم قال: صدق الله ورسوله:
اليوم ألقى الأحبة ... محمداً وحزبه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن آخر رزقي من الدنيا ضيحة لبن " ، والضيحُ: اللبن الرقيق الممزوج. وروي أنه كان يرتجز:
نحن قتلناكم على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
ولم يزل عمار المذكور يقاتل حتى استشهد رضي الله عنه، وفي الصحيح المتفق عليه، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: " يقتل عمار الفئة الباغية، قيل: إِن الذي قتله، أبو عادية برمح، فسقط عمار، فجاء آخر فاحتز رأسه " ، وأقبلا يختصمان إِلى عمرو ومعاوية، كل منهما يقول: أنا قتلته. فقال عمرو: إِنكما في النار، فلما انصرفا قال معاوية لعمرو: ما رأيت مثل ما رأيت اليوم، صرفت قوماً بذلوا أنفسهم دوننا. فقال عمرو: هو والله ذلك، والله إِنك لتعلمه، ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة.
وبعد قتل عمار رضي الله عنه انتدب علي اثني عشر ألفاً، وحمل بهم على عسكر معاوية، فلم يبق لأهل الشام صف إِلا انتقض وعلي يقول:
أقتلهم ولا أرى معاويه ... الجاحظ العين العظيم الخاويه
ثم نادى: يا معاوية، علام تقتل الناس ما بيننا، هلم أحاكمك إِلى الله، فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال عمرو: أنصفك ابن عمك، فقال معاوية: ما أنصف، إِنك تعلم أنه لم يبرز إِليه أحد إِلا قتله. فقال عمرو وما يحسن بك ترك مبارزته. فقال معاوية: طمعتَ في الأمر بعدي.
ثم تقاتلوا ليلة الهرير، شبهت بليلة القادسية، وكانت ليلة الجمعة، واستمر القتال إِلى الصبح، وقد روى أن علياً كبر تلك الليلة أربعمائة تكبيرة، وكانت عادته أنه كلما قتل قتيلاً كبر، ودام القتال إِلى ضحى يوم الجمعة.
وقاتل الأشتر قتالاً عظيماً، حتى انتهى إِلى معسكرهم، وأمده علي بالرجال، ولما رأى عمرو ذلك، قال لمعاوية: هلم نرفع المصاحف على الرماح، ونقول هذا كتاب الله بيننا وبينكم، ففعلوا ذلك، ولما رأى، أهل العراق ذلك قالوا لعلي: لا نجيب إِلى كتاب الله؟ فقال علي: امضوا على حقكم وصدقكم في قتال عدوكم، فإِن عمراً ومعاوية وابن أبي معيط وابن أبي سرح والضحاك بن قيس، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأنا أعرف بهم منكم، ويحكم، والله ما رفعوها إِلا خديعة ومكيدة.
فقالوا: لا تمنعنا أن ندعي إِلى كتاب الله، فنأبى. فقال علي: إِني إِنما قاتلتهم ليدينوا بحكم كتاب الله، فإِنهم قد عصوا الله فيما أمرهم.
فقال له مسعود بن فدك التميمي، وزيد بن حصين الطائي في عصابة من الذين صاروا خوارج: يا علي أجب إِلى كتاب الله إِذا دعيتُ إِليه، وإلا دفعناك برمتك إِلى القرم، نفعل بك ما فعلنا بابن عفان.
فقال علي: إِن تطيعوني فقاتلوا، وإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم. قالوا فابعث إِلى الأشتر فليأتك، فبعث إِليه يدعوه، فقال الأشتر: ليس هذه الساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، فرجع الرسول وأخبره بالخبر، وارتفعت الأصوات وكثر الرهج من جهة الأشتر، فقالوا لعلي: ما نراك أمرته إِلا بالقتال؟ فقال: هل رأيتموني ساررت الرسول إِليه، أليس كلمته وأنتم تسمعون؟ فقالوا: فابعث إِليه ليأتك وإلا اعتزلناك فرجع الرسول إِلى الأشتر وأعلمه.
فقال: قد علمت والله أن رفع المصاحف يوقع اختلافاً، وإنها مشورة ابن العاهر فرجع الأشتر إِلى علي وقال: خدعتم فانخدعتم، وكان غالب تلك العصابة الذين نهوا عن القتال قراء، ولما كفوا عن القتال سألوا معاوية: لأي شيء رفعت المصاحف؟ فقال: تنصبوا حكماً منكم وحكماً منا، ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله، ثم نتبع ما اتفقا عليه، فوقعت الإجابة من الفريقين إِلى ذلك.
فقال الأشعث بن قيس وهو من أكبر الخوارج: إِنا قد رضينا بأبي موسى الأشعري.
فقال علي: قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن. لا أرى أن أولي أبا موسى.
فقالوا: لا نرضى إِلا به.
فقال علي: إِنه ليس بثقة؛ قد فارقني وخذل عني الناس، ثم هرب مني حتى أمنته بعد أشهر، ولكن ابن عباس أولى منه.
فقالوا: ابن عباس ابن عمك، ولا نريد إِلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء.
قال علي: فالأشتر. فأبوا وقالوا: هل أسعرها إِلا الأشتر.
فاضطر علي إِلى إِجابتهم، وأخرج أبا موسى، وأخرج معاوية عمرو بن العاص بن وائل، واجتمع الحكمان عند علي رضي الله عنه، وكتب بحضوره كتاب القصة وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى أمير المؤمنين علي. فقال عمرو: هو أميركم، وأما أميرنا فلا. فقال الأحنف: لا تمح اسم أمير المؤمنين. فقال الأشعث بن قيس امح هذا الاسم فأجاب علي ومحاه.
وقال علي: الله أكبر سنة بسنة، والله إِني لكاتب رسول الله يوم الحديبية، فكتبت محمد رسول الله، فقالوا لست برسول الله، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحو، فقلت: لا أستطيع، فقال: فأرني، فأريته فمحاه بيده، فقال لي: " إِنك ستدعى إِلى مثلها فتجيب " .
فقال عمرو: سبحان الله تشبهنا بالكفار ونحن مؤمنون.
فقال علي رضي الله عنه: يا ابن النابغة، ومتى لم تكن للفاسقين، ولياً وللمؤمنين عدواً.
فقال عمرو: والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم. فقال علي: إني لأرجو أن يطهر الله مجلسي منك، ومن أشباهك.
وكتب الكتاب؛ فمنه: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، قاضي علي على أهل الكوفة ومن معهم، وقاضي معاوية على أهل الشام ومن معهم أنا ننزل عند حكم الله وكتابه، نحيي ما أحيى، ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله - وهما أبو موسى الأشعري عبد الله قيس وعمرو بن العاص - عملاً به، وما لم يجدا في كتاب الله فبألسنة العادلة.
وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين المواثيق، أنهما أمينان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وأجلا القضاء إلى رمضان، من هذه السنة، وإن أحبا أن يؤخّرا ذلك أخراه. وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين، بدومة الجندل، في رمضان، فإِن لم يجتمعا لذلك، اجتمعا في العام المقبل بإِذرح.
ثم سار علي إلى العراق، وقدم إِلى الكوفة ولم تدخل الخوارج معه إِلى الكوفة؛ واعتزلوا عنه، ثم في هذه السنة، بعث علي للميعاد أربعمائة رجل، فيهم أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس ليصلي بهم، ولم يحضر علي. وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة رجل، ثم جاء معاوية، واجتمعوا بإِذرح وشهد معهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة.
والتقى الحكمان؛ فدعى عمرو أبا موسى إِلى أن تجعل الأمر إِلى معاوية، فأبى وقال: لم أكن لأوليه وأدع المهاجرين الأولين، ودعى أبو موسى عمر، إِلى أن يجعل الأمر إِلى عبد الله بن عمر بن الخطاب، فأبى عمرو، ثم قال عمرو: ما ترى أنت؟ فقال أرى أن نخلع علياً ومعاوية؛ ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فأظهر لهم عمرو أن هذا هو الرأي؛ ووافقه عليه.
ثم أقبلا إِلى الناس وقد اجتمعوا، فقال أبو موسى: إِن رأينا قد اتفق على أمر نرجو به صلاح هذه الأمة. فقال عمرو: تقدّم فتكلم يا أبا موسى. فلما تقدّم لحقه عبد الله بن عباس وقال: ويحك والله إِني أظن أنه خدعك إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه قبلك. فإِني لا آمن أن يخالفك. فقال أبو موسى: إِنا قد اتفقنا فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إِنا لم نر أصلح لأمر هذه الأمة من أمر قد اجتمع عليه رأيي ورأي عمرو، وهو أن نخلع علياً ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر، فيولوا منهم من أحبوا وإِني قد خلعت علياً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً.
ثم تنحى وأقبل عمرو فقام مقامه: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي فإنه ولي عثمان، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه. فقال له أبو موسى: ما لك لا وفقك الله غدرت وفجرت.
وركب أبو موسى ولحق بمكة حياء من الناس، وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة، ومن ذلك الوقت أخذ أمر علي في الضعف، وأمر معاوية في القوة.
ولما اعتزلت الخوارج علياً دعاهم إِلى الحق؛ فامتنعوا وقتلوا كل من أرسله إِليهم، فسار إليهم وكانوا أربعة آلاف، ووعظهم ونهاهم عن القتل، فتفرقت منهم جماعة، وبقي مع عبد الله بن وهب جماعة على ضلالتهم، وقاتلوا فقتلوا عن آخرهم، ولم يقتل من أصحاب علي سوى سبعة أنفس، أولهم يزيد بن نويرة، وهو ممن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أُحد.
ولما رجع علي إِلى الكوفة، حض الناس على المسير إِلى قتال معاوية، فتقاعدوا وقالوا: نستريح ونصلح عدتنا، فاحتاج لذلك علي أن يدخل الكوفة.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين فيها جهز معاوية عمرو بن العاص بعسكر إِلى مصر، وكتب محمد بن أبي بكر يستنجد علياً، فأرسل إليه الأشتر فلما وصل الأشتر إِلى القلزم، سقاه رجل عسلاً مسموماً فمات منه، فقال معاوية: إِن لله جنداً من عسل، وسار عمرو حتى وصل إِلى مصر، وقاتله أصحاب محمد بن أبي بكر، فهزمهم عمرو، وتفرق عن محمد أصحابه، وأقبل محمد يمشي حتى انتهى إِلى خربة فقبض عليه وأتوا به إِلى معاوية بن خديح فقتله، وألقاه في جيفة حمار وأحرقه بالنار، ودخل عمرو مصر وبايع أهلها لمعاوية.
ولما بلغ عائشة قتل أخيها محمد جزعت عليه وقنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية وعمرو بن العاص، وضمت عيال أخيها محمد إِليها، ولما بلغ علياً مقتله جزع عليه وقال: عند الله نحتسبه، وكان ذلك في هذه السنة أعني سنة ثمان وثلاثين ثم بث معاوية سراياه بالغارات على أعمال علي، فبعث النعمان بن بشير الأنصاري إِلى عين التمر، فنهب وهزم كل من كان بها من أصحاب علي، وبعث سفيان بن عوف إِلى هيت والأنبار والمدائن، فنهب وحمل كل ما كان بالأنبار من الأموال، ورجع بها إِلى معاوية، وسير عبد الله بن مسعدة الفزاري إِلى الحجاز، فجهز إِليه علي خيلا، فالتقوا بتيماء؛ وانهزم أصحاب معاوية ولحقوا بالشام، وتتابعت الغارات على بلاد علي رضي الله عنه، وهو في ذلك يخطب الناس الخطب البليغة، ويجتهد بحضّهم على الخروج إِلى قتال معاوية، فيتقاعد عنه عسكره.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين والأمر على ذلك، وفيها سير عبد الله بن عباس، وكان عامل البصرة، زياداً إِلى فارس، وكانت قد اضطربت لما حصل من قتال علي ومعاوية، فوصل إِليها زياد وضبطها أحسن ضبط حتى قالت الفرس: ما رأينا مثل سياسة أنوشروان إِلا سياسة هذا العربي.
ثم دخلت سنة أربعين وعلي بالعراق ومعاوية بالشام، وله معها مصر، وكان علي يقنت في الصلاة ويدعو على معاوية، وعلى عمرو بن العاص، وعلى الضحاك، وعلى الوليد بن عقبة، وعلى الأعور السلمي.
ومعاوية يقنت في الصلاة ويدعو على علي، وعلى الحسن وعلى الحسين، وعلى عبد الله بن جعفر.
وفي هذه السنة سير معاوية بشر بن أرطأة في عسكر إلى الحجاز، فأتى المدينة وبها أبو أيوب الأنصاري عاملا لعلي، فهرب ولحق بعلي، ودخل بشر المدينة وسفك فيها الدماء واستكره الناس على البيعة لمعاوية، ثم سار إِلى اليمن وقتل ألوفاً من الناس، فهرب منه عبيد الله بن العباس، عامل علي باليمن، فوجد لعبيد الله ابنين صبيين فذبحهما، وأتى في ذلك بعظيمة فقالت أمهما - وهي عائشة بنت عبد الله ابن عبد المدان - تبكيهما:
ها من أحسّ بابني اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف
ها من أحس بابني اللذين هما ... قلبي وسمعي فقبلي اليوم مختطف
من ذل والهة حيرى مدلهة ... على صبيين ذلا إِذ غدا السلف
خبرت بشراً وما صدقت ما زعموا ... من إِفكهم ومن القول الذي اقترفوا
أنحا على ودجي ابني مرهفة ... مشحوذة وكذاك الإثم يقترف
مقتل علي بن أبي طالب
رضي الله عنه
قيل اجتمع ثلاثة من الخوارج منهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي، وعمرو بن بكر التميمي، والبرُك بن عبد الله التميمي، ويقال إِن اسمه الحجاج، فذكروا أخوانهم من المارقة المقتولين بالنهروان، فقالوا: لو قتلنا أئمة الضلالة أرحنا منهم البلاد، فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم علياً، وقال البرك: أنا أكفيكم معاوية، وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص، وتعاهدوا أن لا يفر أحد منهم عن صاحبه الذي توجه إِليه واستصحبوا سيوفاً مسمومة، وتواعدوا لسبع عشرة ليلة تمضي من رمضان، من هذه السنة، أعني سنة أربعين، أن يثب كل واحد منهم بصاحبه.واتفق مع عبد الرحمن بن ملجم رجلان، أحدهما يقال له وردان من تيم الرباب، والآخر شبيب من أشجع، ووثبوا على علي وقد خرج إِلى صلاة الغداة، فضربه شبيب فوقع سيفه في الطاق، وهرب شبيب فنجا في غمار الناس، وضربه ابن ملجم في جبهته، وأما وردان فهرب.
وأمسك ابن ملجم وأحضر مكتوفاً بين يدي علي، ودعا علي الحسن والحسين وقال: أوصيكما بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا، ولا تبكيا على شيء زوى عنكما منها، ثم لم ينطق إِلا بلا إِله إِلا الله، حتى قبض رضي الله عنه.
وأما البرك فوثب على معاوية في تلك الليلة، وضربه بالسيف فوقع في إلية معاوية، وأمسك البرك فقال له: إني أبشرك فلا تقتلني، فقال بماذا؟ قال إن رفيقي قتل علياً هذه الليلة، فقال معاوية: لعله لم يقدر، فقال إلى، إن علياً ليس معه من يحرسه، فقتله معاوية.
وأما عمرو بن بكر، فإِنه جلس تلك الليلة لعمرو بن العاص، فلم يخرج عمرو إِلى الصلاة، وكان قد أمر خارجة بن أبي حبيبة، صاحب شرطته، أن يصلي بالناس، فخرج خارجة ليصلي بالناس، فشد عليه عمرو بن بكر، وهو يظن أنه عمرو ابن العاص فقتله، فأخذه الناس وأتوا به عمراً، فقال: من هذا؟ قالوا عمرو. فقال: أنا مَن قتلت؟ قالوا: خارجة. فقال عمرو: أردت عمراً وأراد الله خارجة.
ولما مات علي أخُرج عبد الرحمن بن ملجم من الحبس، فقطع عبد الله بن جعفر يده، ثم رجله، وكحلت عيناه بمسمار محمى، وقطع لسانه، وأحرق، لعنه الله.
ولبعض الخوارج، وهو عمران بن حطان لعنه الله، يرثي ابن ملجم المذكور لعنه الله:
لله در المرادي الذي فتكت ... كفاه مهجة شر الخلق إِنسانا
يا ضربة من ولي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إِني لأذكره يوماً فأحسبه ... أو فالخليقة عند الله ميزانا
واختلف في عمر علي رضي الله عنه، فقيل كان ثلاثاً وستين سنة، وقيل خمساً وستين، وقيل تسعاً وخمسين، وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر، وكان قتله ما ذكرنا صبيحة يوم الجمعة، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، سنة أربعين، واختلف في موضع قبره، فقيل دفن مما يلي قبلة المسجد بالكوفة، وقيل عند قصر الإِمارة، وقيل حوله ابنه الحسن إِلى المدينة، ودفنه بالبقيع عند قبر زوجته فاطمة رضي الله عنهما، والأصح وهو الذي ارتضاه ابن الأثير وغيره، أن قبره هو المشهور بالنجف، وهو الذي يزار اليوم.
صفته
رضي الله عنه
كان شديد الأدمة، عظيم العينين، أصلع، عظيم اللحية، كثير شعر الصدر، مائلاً إِلى القصر، حسن الوجه، لا يغير شيبه، كثير التبسم.وكان حاجبه قنبر مولاه وصاحب شرطته نعثل بن قيس الرباحي، وكان قاضيه شريح، وكان قد ولاه عمر قضاء الكوفة، ولم يزل قاضياً بها إِلى أيام الحجاج بن يوسف، وأول زوجة تزوج بها علي رضي الله عنه، فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج غيرها في حياتها، وولد له منها الحسن والحسين ومحسن، ومات صغيراً، وزينب وأم كلثوم التي تزوجها عمر بن الخطاب، ثم بعد موت فاطمة تزوج أم البنين بنت حزام الكلابية، فولد له منها العباس وجعفر وعبد الله وعثمان، قتل هؤلاء الأربعة مع أخيهم الحسين، ولم يعقب منهم غير العباس، وتزوج ليلى بنت مسعود ابن خالد النهشلي التميمي، وولد له منها عبيد الله، وأبو بكر قتلا مع الحسين أيضاً، وتزوج أسماء بنت عميس، وولد له منها محمد الأصغر ويحيى، ولا عقب لهما، وولد له من الصهباء بنت ربيعة التغلبية وهي من السبي الذي أغار عليهم خالد ابن الوليد بعين التمر عمر ورقية، وعاش عمر المذكور حتى بلغ من العمر خمساً وثمانين سنة، وجاز نصف ميراث أبيه علي؛ ومات بينبع وله عقب، وتزوج علي أيضاً أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولد له منها محمد الأوسط، ولا عقب له، وولد له من خولة بنت جعفر الحنفية محمد الأكبر المعروف بابن الحنفية، وله عقب، وكان له بنات من أمهات شتى، منهن: أم حسن ورملة الكبرى من أم سعيد بنت عروة، ومن بناته أم هاني وميمونة وزينب الصغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة، فجمع بنيه الذكور أربعة عشر، لم يعقب منهم إِلا خمسة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس وعمر.
شيء من فضائله
من ذلك مشاهده المشهورة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبق إِسلامه، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه " ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه في غزوة حنين: لأبعثن الراية غداً مع رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وقوله صلى الله عليه وسلم له: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى " وقال عليه السلام " أقضاكم علي " والقضاء يستدعي معرفة أبواب الفقه كلها، بخلاف قوله: " أفرضكم زيد " ، وأقرأكم أبي، ولم يبن علي بناء أصلاً، وكان قد ضاع لعلي درع فوجده مع نصراني، فأقبل به إِلى شريح القاضي وجلس إِلى جانبه وقال: لو كان خصمي مسلماً لساويته، وقال: هذه درعي، فقال النصراني ما هي إلا درعي فقال شريح لعلي: ألك بينة؟ فقال علي لا، وهو يضحك. فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيراً ثم عاد وقال: أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، ثم أسلم واعترف أن الدرع سقطت من علي عند مسيره إِلى صفين، ففرح علي بإسلامه ووهبه الدرع وفرساً. وشهد مع علي قتال الخوارج، فقتل رحمه الله تعالى.
وحمل علي في ملحفته تمراً اشتراه بدرهم، فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك، فقال: أبو العيال أحق بحمله.
وكان يقسم ما في بيت المال كل جمعة، حتى لا يترك فيه شيئاً، ودخل مرة إلى بيت المال فوجد الذهب والفضة، فقال: يا صفراء اصفري ويا بيضاء ابيضي وأغري غيري، لا حاجة لي فيك.
وقصده أخوه لأبيه وأمه عقيل بن أبي طالب يسترفده، فلم يجد عنده ما يطلب، ففارقه ولحق بمعاوية حباً للدنيا، وكان مع معاوية يوم صفين، فقال له معاوية يمازحه: يا أبا يزيد أنت اليوم معنا. فقال عقيل: ويوم بدر كنت أيضاً معكم، وكان عقيل يوم بدر مع المشركين هو وعمه العباس.
أخبار الحسن ابنه ولما توفي علي رضي الله عنه بايع الناس ابنه الحسن، وكان عبد الله بن العباس قد فارق علياً قبل مقتله، وأخذ من البصرة مالاً وذهب إِلى مكة، وجرت بينه وبين علي مكاتبات في ذلك، ولما تولى الحسن الخلافة، كتب إليه ابن عباس يقوي عزيمته على جهاد عدوه، وكان أول من بايع الحسن، قيس ابن سعد بن عبادة الأنصاري، فقال: أبسط يدك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال المخالفين، فقال الحسن: على كتاب الله وسنة رسوله، فإنهما ثابتان، وبايعه الناس، وكان الحسن يشترط أنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت، فارتابوا من ذلك وقالوا: ما هذا لكم بصاحب، وما يريد إِلا القتال. ثم دخلت سنة إِحدى وأربعين.
تسليم الحسن الأمر إِلى معاوية
قيل: كان علي قبيل موته، قد بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت، وأخذ في التجهز إِلى قتال معاوية، فاتفق مقتله، ولما بويع الحسن، بلغه مسير أهل الشام إِلى قتاله مع معاوية، فتجهز الحسن في ذلك الجيش، الذين كانوا قد بايعوا أباه، وسار عن الكوفة إِلى لقاء معاوية، ووصل إِلى المدائن، وجعل الحسن على مقدمته قيس بن سعد في اثني عشر ألفاً، وقيل بل الذي جعله على مقدمته عبيد الله ابن عباس، وجرى في عسكره فتنة، قيل حتى نازعوا الحسن بساطاً كان تحته، فدخل المقصورة البيضاء بالمدائن، وازداد لذلك العسكر بغضاً ومنهم ذعراً.
ولما رأى الحسن ذلك، كتب إِلى معاوية، واشترط عليه شروطاً وقال إِن أجبت إليها فأنا سامع مطيع، فأجاب معاوية إِليها، وكان الذي طلبه الحسن أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة، وخراج دارا بجرد من فارس، وأن لا يسب علياً، فلم يجبه إلى الكف عن سبّ علي، فطلب الحسن أن لا يشتم علياً، وهو يسمع، فأجابه إِلى ذلكَ، ثم لم يف له به، وقيل إِنه وصله بأربعمائة ألف درهم، ولم يصل إِليه شيء من خراج دارا بجرد، ودخل معاوية الكوفة، فبايعه الناس، وكتب الحسن إِلى قيس بن سعد، يأمره بالدخول في طاعة معاوية، ثم جرت بين قيس وعبيد الله بن عباس، وبين معاوية، مراسلات، وآخر الأمر أنهما بايعا ومن معهما، وشرطا أن لا يطالبا بمال ولا دم، ووفى لهما معاوية بذلك، ولحق الحسن بالمدينة وأهل بيته، وقيل كان تسليم حسن الأمر إِلى معاوية في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وقيل في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى، وعلى هذا فتكون خلافته على القول الأول، خمسة أشهر ونحو نصف شهر، وعلى الثاني ستة أشهر وكسراً، وعلى الثالث سبعة أشهر وكسراً.
روى سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يعود ملكاً عضوضاً " . وكان آخر الثلاثين يوم خلع الحسن نفسه من الخلافة، وأقام الحسن بالمدينة إِلى أن توفي بها في ربيع الأول، سنة تسع وأربعين، وكان مولده بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة، وهو أكبر من الحسين بسنة، وتزوج الحسن كثيراً من النساء، وكان مطلاقاً، وكان له خمسة عشر ولداً ذكراً، وثماني بنات، وكان يشبه جده رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأسه إلى سرته، وكان الحسين يشبه جده رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرته إِلى قدمه.
وتوفي الحسن من سم سقته زوجته جعدة بنت الأشعث، قيل فعلت ذلك بأمر معاوية، وقيل بأمر يزيد بن معاوية، ووعدها أنه يتزوجها إِن فعلت ذلك، فسقته السم وطالبت يزيد أن يتزوجها فأبى.
وكان الحسن قد أوصى أن يدفن عند جده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي أرادوا ذلك، وكان على المدينة مروان بن الحكم من قبل معاوية، فمنع من ذلك، وكاد يقع بين بني أمية وبين بني هاشم بسبب ذلك فتنة، فقالت عائشة رضي الله عنها: البيت بيتي ولا آذن أن يدفن فيه، فدفن بالبقيع، ولما بلغ معاوية موت الحسن خر ساجداً. فقال بعض الشعراء:
أصبح اليوم ابن هند شامتاً ... ظاهر النخوة إِذ مات الحسن
يا ابن هند إِن تذق كأس الردى ... تكُ في الدهر كشيء لم يكن
لست بالباقي فلا تشمت به ... كل حي للمنايا مرتهن
ومن فضائل الحسن في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما " ، وروى أنه قال عن الحسن: " إِن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين " ، وروي أنه مر بالحسن والحسين وهما يلعبان، فطأطأ لهما عنقه وحملهما، وقال: " نعم المطية مطيتهما، ونعم الراكبان هما " .
خلفاء بني أميةوهم أربعة عشر خليفة، أولهم معاوية بن أبي سفيان، وآخرهم مروان الجعدي وكان مدة ملكهم نيفاً وتسعين سنة، وهي ألف شهر تقريباً، قال القاضي جمال الدين ابن واصل رحمه الله: إِن ابن الأثير قال في تاريخه، إِنه لما سار الحسن من الكوفة، عرض له رجل فقال: يا مسِّود وجوه المؤمنين. فقال لا تعذلني فإِن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري في منامه، أن بني أمية ينزّون على منبره رجلاَ فرجلا، فساءه ذلك، فأنزل الله تعالى " إِنا أعطيناك الكوثر " " الكوثر: 1 " " وإنا أنزلناه في ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر " " القدر: 1 " يملكها بعد بنو أمية.
أخبار معاوية بن أبي سفيانابن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وأمه هند بنت عتبة، ويكنى أبا عبد الرحمن، وبويع بالخلافة يوم اجتماع الحكمين، وقيل ببيت المقدس بعد قتل علي، وبويع البيعة التامة لما خلع الحسن نفسه، وسلم الأمر إِليه، واستمر معاوية في الخلافة.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وسنة ثلاث وأربعين، فيها توفي عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي القرشي السهمي، وعمرو المذكور، هو أحد الثلاثة الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم عمرو بن العاص، وأبو سفيان بن حرب، وعبد الله بن الزبعري، وكان يجيبهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيضاً، وهم حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وكانت مصر طمعة لعمرو من معاوية، بعد رزق جندها، حسب ما كان شرطه له لمعاوية، عند اتفاقه معه على حرب علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وفي ذلك يقول عمرو:
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل ... به منك دنيا فانظرن كيف تصنعُ
فإِن تعطني مصرا ربحت بصفقة ... أخذت بها شيخاً يضر وينفع
ولما مات عمرو ولى معاوية مصر ابنه عبد الله بن عمرو، ثم عزله عنها، ثم دخلت سنة أربع وأربعين.
استلحاق معاوية زياداً وفي هذه السنة، استلحق معاوية زياد بن سمية، وكانت سمية جارية للحارث بن كلدة الثقفي، فزوجها بعبد له رومي، يقال له عبيد، فولدت سمية زياداً على فراشه، فهو ولد عبيد شرعاً.
وكان أبو سفيان قد سار في الجاهلية إلى الطائِف، فنزل على إِنسان يبيع الخمر، يقال له أبو مريم، أسلم بعد ذلك، وكانت له صحبة فقال له أبو سفيان: قد اشتهيت النساء، فمال أبو مريم: هل لك في سمية؟ فقال أبو سفيان: هاتها على طول ثدييها، وذفرة بطنها. فأتاه بها، فوقع عليها، فيقال إِنها علقت منه بزياد ثم وضعته في السنة التي هاجر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونشأ زياد فصيحاً، وحضر زياد يوماً بمحضر من جماعة من الصحابة، في خلافة عمر، فقال عمرو بن العاص، لو كان أبو هذا الغلام من قريش، لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان لعلي بن أبي طالب: إِني لأعرف من وضعه في رحم أمه. فقال علي فما يمنعك من استلحاقه؟ قال: أخاف الأصلع، يعني عمر، أن يقطع إِهابي بالدرة.
ثم لما كان قضية شهادة الشهود على المغيرة بالزنا، وجلدهم، ومنهم أبو بكرة أخو زياد لأمه، وامتناع زياد عن التصريح كما ذكرنا، اتخذ المغيرة بذلك لزياد يداً، ثم لما ولي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة، استعمل زياداً على فارس، فقام بولايتها أحسن قيام، ولما سلم الحسن الأمر إلى معاوية، امتنع زياد بفارس، ولم يدخل في طاعة معاوية، وأهمل معاوية أمره، وخاف أن يدعو إِلى أحد من بني هاشم، ويعيد الحرب، وكان معاوية قد ولى المغيرة بن شعبة الكوفة، فقدم المغيرة على معاوية، سنة اثنتين وأربعين، فشكا إِليه معاوية امتناع زياد بفارس، فقال المغيرة: أتأذن لي في المسير إِليه: فأذن له. وكتب معاوية لزياد أماناً، فتوجّه المغيرة إِليه، لما بينهما من المودة، وما زال عليه حتى أحضره إِلى معاوية، وبايعه، وكان المغيرة يكرم زياداً ويعظمه، من حين كان منه في شهادة الزنا ما كان.
فلما كانت هذه السنة، أعني سنة أربع وأربعين، استلحق معاوية زياداً، فأحضر الناس، وحضر من يشهد لزياد بالنسب، وكان ممن حضر لذلك، أبو مريم الخمار، الذي أحضر سمية إلى أبي سفيان بالطائف، فشهد بنسب زياد من أبي سفيان، قال: إني رأيت اسكتي سمية، يقطران من مني أبي سفيان، فقال زياد: رويدك، طلبت شاهداً ولم تطلب شتاماً، فاستلحقه معاوية، وهذه أول واقعة خولفت فيها الشريعة علانية، لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم، " الولد للفراش، وللعاهر الحجر " ، وأعظمَ الناس ذلك وأنكروه، خصوصاً بنو أمية، لكون زياد بن عبيد الرومي، صار من بني أمية بن عبد شمس، وقال عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان في ذلك:
ألا أبلغ معاوية بن صخر ... لقد ضاقت بما تأتي اليدان
أتغضبُ أن يقال أبو عف ... وترضى أن يقال أبوك زاني
وأشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان
ثم ولى معاوية زياداً البصرة، وأضاف إِليه خراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعُمان.
وفيها أعني سنة أربع وأربعين، توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين، فيها قدم زياد إِلى البصرة، فشدد أمر السلطنة، وأكد الملك لمعاوية؛ وجرد السيف، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، فخاف الناس خوفاً شديداً، وذكر أنه لم يخطب أحد بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل زياد.
ولما مات المغيرة سنة خمسين وكان عاملا لمعاوية على الكوفة، ولى معاوية الكوفة أيضاً زياداً، فسار زياد إِليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، فحذا حذو زياد في سفك الدماء، وكان زياد يقيم بالكوفة ستة أشهر، وفي البصرة مثلها، وهو أول من سير بين يديه بالحراب والعمد، واتخذ الحرس خمس مائة لا يفارقون مكانه.
وكان معاوية وعماله يدعون لعثمان في الخطبة يوم الجمعة، ويسبون علياً، ويقعون فيه، ولما كان المغيرة متولي الكوفة، كان يفعل ذلك طاعة لمعاوية، فكان يقوم حجر وجماعة معه، فيردون عليه سبّه لعليٍ رضي الله عنه، وكان المغيرة يتجاوز عنهم، فلما ولي زياد، دعا لعثمان وسب علياً، وما كانوا يذكرون علياً باسمه، وإنما كانوا يسمونه بأبي تراب، وكانت هذه الكنية أحب الكنى إِلى علي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كناه بها، فقام حجر وقال: كما كان يقول من الثناء على علي، فغضب زياد وأمسكه، وأوثقه بالحديد، وثلاثة عشر نفراً معه، وأرسلهم إِلى معاوية، فشفع في ستة منهم عشائِرهم، وبقي ثمانية، منهم: حجر، فأرسل معاوية من قتلهم بعذرا، وهي قرية بظاهر دمشق، رضي الله عنهم، وكان حجر من عظم الناس ديناً وصلاة، وأرسلت عائشة تتشفع في حجر، فلم يصل رسولها إِلا بعد قتله.
قال القاضي جمال الدين بن واصل، وروى ابن الجوزي بإِسناده عن الحسن البصري أنه قال: أربع خصال كن في معاوية، لو لم يكن فيه إِلا واحدة لكانت موبقة، وهي أخذه الخلافة بالسيف من غير مشاورة، وفي الناس بقايا الصحابة، وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه يزيد، وكان سكيراً خميراً يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش، والعاهر للحجر، وقتله حجر بن عدي وأصحابه، فيا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر.
وروي عن الشافعي رحمة الله عليه، أنه أسرّ إِلى الربيع، أنّه لا يقبل شهادة أربعة من الصحابة، وهم معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد.
وفيها أعني سنة خمسٍ وأربعين، توفي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان أهل الشام قد مالوا إليه جداً، فدس إليه معاوية سماً مع نصراني يقال له أثال، فاغتاله به.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وسنة سبع وأربعين فيها توفي قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر، وإليه ينسب، فيقال المنقري، وفد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في وفد بني تميم فأسلم، وكان قيس المذكور موصوفاً بمكارم الأخلاق.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين غزوة القسطنطينية في هذه السنة، أعني سنة ثمان وأربعين، صبر معاوية جيشاً كثيفاً مع سفيان ابن عوف، إلى القسطنطينية، فأوغلوا في بلاد الروم، وحاصروا القسطنطينية، وكان في ذلك الجيش ابن عباس، وعمرو بن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري.
وتوفي في مدة الحصار أبو أيوب الأنصاري، ودفن بالقرب من سورها، وشهد أبو أيوب مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً، وشهد مع علي صفين، وغيرها من حروبه.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وسنة خمسين، فيها بنيت القيروان، وكمل بناؤها في سنة خمس وخمسين، وكان من حديثها أنَّ معاوية ولى عقبة بن نافع إفريقية وكان عقبة المذكور صحابياً من الصالحين، فوضع السيف في هل إِفريقية، لأنهم كانوا يرتدون إِذا فارقهم العسكر، وكان مقام الولاة بزويلة وبرقة، فرأى عقبة أن يتخذ مدينة بتلك البلاد، تكون مقراً للعسكر، واختار موضع القيروان، وكان دخلة مشتبكة فقطع أشجارها وبناها مدينة، وهي مدينة القيروان.
وفيها أعني في سنة خمسين، توفي دحية الكلبي، وهو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة، منسوب إِلى كلب بن وبرة، أسلم قديماً، ولم يشهد بدراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أشبه من رأيت بجبريل، دحية الكلبي " .
ثم دخلت سنة إِحدى وخمسين، فيها توفي سعيد بن زيد أحد العشرة المشهود له بالجنة، رضي الله عنهم.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وسنة ثلاث وخمسين. فيها هلك زياد ابن أبيه، في رمضان، من أكلةِ في إِصبعه وكان مولده عام الهجرة.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وسنة خمس وخمسين وسنة ست وخمسين وفيها ولى معاوية سعيد بن عثمان بن عفان، خراسان، فقطع نهر جيحون إلى سمرقند، والصغدِ، وهزم الكفار، وسار إلى ترمذ ففتحها صلحاً.
وممن قتل معه في هذه الغزوة قثم بن العباس، ودفن بسمرقند، ومات أخوه عبد الله بن العباس بالطائف، والفضل بالشام، ومعبد بإِفريقية، فيقال: لم ير قبور أخوة أبعد من قبور هؤلاء الأخوة بني العباس.
وفي هذه السنة بايع معاوية الناس لابنه يزيد بولاية العهد بعده، وبايعه أهل الشام والعراق، وكان المتولي على المدينة من جهة معاوية، مروان بن الحكم، فأراد البيعة له، فامتنع من ذلك الحسين، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، وامتنع الناس لامتناعهم، وآخر الأمر أن معاوية قدم بنفسه إِلى الحجاز، ومعه ألف فارس، وتحدث مع عائشة في أمرهم، وآخر الأمر، أنه بايع ليزيد أهل الحجاز، وتأخر المذكورون عن البيعة.
ويروى أنّ معاوية قال لابنه يزيد: إِني مهدت لك الأمور، ولم يبق أحد لم يبايعك غير هؤلاء الأربعة، فأمّا عبد الرحمن، فرجل كبير، تهابه اليوم وغداً، وأما ابن عمر، فرجل قد غلب عليه الورع، وأمّا الحسين فله قرابة، فإِن ظفرت به، فاصفح عنه، وأما ابن الزبير، فإِن ظفرت به، فقطعه إرْباً إِرْباً.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وسنة ثمان وخمسين فيها توفيت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، رضي اللّه عنها.
وفيها، توفي أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين، فيها توفي سعيد بن العاص بن أمية، ولد عام الهجرة، وقتل أبوه العاص يوم بدر كافراً، وكان سعيد من أجواد بني أمية. وفي هذه السنة أعني سنة تسع وخمسين مات الحطيئة، واسمه جرول بن مالك، لقب الحطيئة لقصره، أسلم ثم ارتد، ثم أسلم، وقال عند موت النبي صلى الله عليه وسلم وارتداد العرب:
أطعنا رسول اللّه ما كان بيننا ... فيا لعباد الله ما لأبي بكر
أيورثها بكراً إِذا مات بعده ... وتلك لعمر اللّه قاصمة الظهر
وفيها توفي أبو هريرة، واختلف في اسمه ونسبه، وهو ممن لازم خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه الكثير، فاتهمه بعض الناس لكثرة ما رواه من الأحاديث، والأكثر يصححون روايته ولا يشكون فيها.
ثم دخلت سنة ستين وفاة معاوية وفيها في رجب توفي معاوية بن أبي سفيان، وكانت مدة خلافته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوماً، منذ اجتمع له الأمر، وبايعه الحسن بن علي، وكان عمره خمساً وسبعين، وقيل سبعين، وقيل غير ذلك، وأنشد معاوية وقد تجلد للعائدين:
وتجلدي للشامتين أريهُم ... أني لريبِ الدهرِ لا تضَعْضَع
وإذا المنيّةُ أنضبتْ أظفارها ... ألفيت كلّ تميمةٍ لا تنفعُ
ولما توفي معاوية، خرج الضحاك بن قيس حتى أتى المنبر، فصعده ومعه أكفان معاوية فأثنى على معاوية، وأعلم الناس بموته، وأنّ هذه أكفانه، ثم صلى عليه الضحاك، وكان يزيد غائباً بقرية حوارين من عمل حمص، فكتبوا إِليه وطلبوه، فحضر بعد دفن أبيه فصلى على قبره.
أخبار معاوية أسلم معاوية مع أبيه عام الفتح، واستكتبه النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمله عمر على الشام أربع سنين من خلافته، وأقره عثمان مدة خلافته، نحو اثنتي عشرة سنة، وتغلب على الشام محارباً لعلي أربع سنين، فكان أميراً وملكاً على الشام نحو أربعين سنة، وكان حليماً حازماً داهية، عالماً بسياسة الملك، وكان حلمه قاهراً لغضبه، وجوده غالباً على منعه، يصل ولا يقطع.
ومما يحكى عن حلمه من تاريخ القاضي جمال الدين بن واصل، أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة، فقال لها معاوية: مرحباً بك يا خالة، كيف أنت؟ فقالت بخير يا ابن أختي، لقد كفرت النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، وكنا أهل البيت أعظم الناس في هذا الدين بلاء، حتى قبض الله نبيه، مشكوراً سعيه، مرفوعاً منزلته، فوثبت علينا بعده تيم وعدي وأمية، فابتزونا حقنا، ووليتم علينا، فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب بعد نبينا، بمنزلة هارون من موسى.
فقال لها عمرو بن العاص: كفي أيتها العجوز الضالة، واقصري عن قولك مع ذهاب عقلك. فقالت: وأنت يا ابن النابغة، تتكلم وأمك كانت أشهر بغي بمكة، وأرخصهن أجرة، وادعاك خمسة من قريش، فسُئلتْ أمك عنهم فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به، فالحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائِل، فألحقوك به.
فقال لها معاوية: عفا الله عما سلف، هاتي حاجتك. فقالت: أريد ألفي دينار، لأشتري بها عيناً فوارة، في أرض خرارة، تكون الفقراء بني الحارث بن عبد المطلب: وألفي دينار أخرى، أزوّج بها فقراء بني الحارث، وألفي دينار أخرى، أستعين بها على شدة الزمان، فأمر لها معاوية بستة آلاف دينار، فقبضتها وانصرفت.
ومعاوية أول خليفة بايع لولده، وأول من وضع البريد، وأول من عمل المقصورة في مسجد، وأول من خطب جالساً، في قول بعضهم، وكان عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ممن يرى سماع الأوتار والغناء، وهو رأى أهل المدينة، وكان معاوية ينكر ذلك عليه، فدخل ابن جعفر يوماً على معاوية ومعه بديح المغني، فقال ابن جعفر لبديح: غنِّ، فغنى بشعر كان يحبه معاوية وهو:
يا لُبينى أوقدي النارا ... إِن من تهوين قد حارا
رب نار بِتُ أرمقها ... تقضم الهندي والغارا
ولها ظبي يؤججها ... عاقد في الخصر زنارا
فطرب معاوية وتحرك، وضرب برجله الأرض، فقال له ابن جعفر: مَهْ يا أمير المؤمنين. فقال معاوية: إِنّ الكريم لطروب، وقال معاوية: أعنت على علي بثلاث كان رجلاً ظهرت علته، وكنت كتوماً لسري. وكان في أخبث جند، وأشده خلافاً وكنت في أطوع جند وأقله خلافاً. وخلا بأصحاب الجمل فقلت: إِن ظفر بهم أعددت ذلك عليه وَهْنا، وإن ظفروا به، كانوا أهوَنَ شوكهَ عليّ منه.
أخبار يزيد
ابنه وهو ثاني خلفائهم، وأم يزيد ميسون بنت بحدل الكليبة، بويع بالخلافة
لما مات أبوه في رجب سنة ستين، ولما استقر يزيد في الخلافة، أرسل إِلى عامله بالمدينة بإِلزام الحسين وعبد الله بن الزبير وابن عمر بالبيعة، فأما ابن عمر فقال: إِن أجمع الناس على بيعته بايعته، وأما الحسين وابن الزبير فلحقا بمكة، ولم يبايعا، وأرسل عامل المدينة جيشاً مع عمرو بن الزبير، أخي عبد الله بن الزبير، وكان شديد العداوة لأخيه عبد اللّه، لقتال أخيه عبد الله، فانتصر عبد الله بن الزبير، وهزم الجمع الذي مع أخيه، وأمسك أخاه عمراً وحبسه حتى مات في حبسه.مسير الحسين إِلى الكوفة وورد على الحسين مكاتبات أهل الكوفة، يحثونه على المسير إِليهم ليبايعوه، وكان العامل عليها النعمان بن بشير الأنصاري، فأرسل الحسين إِلى الكوفة، ابن عمه مسلم بن عقيلٍ بن أبي طالب، ليأخذ البيعة عليهم، فوصل إِلى الكوفة، وبايعه بها قيل ثلاثون ألفاً، وقيل ثمانية وعشرون ألف نفس.
وبلغ يزيد عن النعمان بن بشير ما لا يرضيه، فولى على الكوفة عبيد الله بن زياد، وكان والياً على البصرة، فقدم الكوفة، ورأى ما الناس عليه، فخطبهم وحثهم على طاعة يزيد بن معاوية، واستمر مسلم بن عقيل عند قدوم عبيد الله بن زياد على ما كان، ثم اجتمع إِلى مسلم بن عقيل من كان بايعه للحسين، وحصروا عبيد الله بن زياد بقصره، ولم يكن مع عبيد اللّه في القصر أكثر من ثلاثين رجلاً، ثم إِن عبيد الله أمر أصحابه أن يشرفوا من القصر، ويمنّوا أهل الطاعة، ويخذلوا أهل المعصية، حتى أن المرأة ليأتي ابنها وأخاها فتقول: انصرف إِن الناس يكفونك، قتفرق الناس عن مسلم، ولم يبق مع مسلم غير ثلاثين رجلاً، فانهزم واستتر، ونادى منادي عبيد الله ابن زياد، من أتى بمسلم بن عقيل فله ديته، فأمسك مسلم وأُحضر إِليه، ولما حضر مسلم بين يدي عبيد اللّه، شتمه وشتم الحسين وعلياً، وضرب عنقه في تلك الساعة، ورميت جيفته من القصر، ثم أحضر هانئ بن عروة، وكان ممن أخذ البيعة للحسين، فضرب عنقه أيضاً، وبعث برأسيهما إِلى يزيد بن معاوية، وكان مقتل مسلم بن عقيل، لثمان مضين من ذي الحجة، سنة ستين.
وأخذ الحسين وهو بمكة في التوجه إِلى العراق، وكان عبد الله بن عباس يكره ذهاب الحسين إلى العراق، خوفاً عليه، وقال للحسين: يا ابن العم، إِني أخاف عليك أهل العراق، فإِنهم قوم أهل غدر، وأقم بهذا البلد، فإِنك سيد أهل الحجاز، وإن أبيت إِلا أن تخرج، فسر إِلى اليمن، فإِن بها شيعة لأبيك، وبها حصون وشعاب.
فقال الحسين: يا ابن العم، إِني أعلم والله أنك ناصح مشفق، ولقد أزمعت وأجمعت، ثم خرج ابن عباس من عنده، وخرج الحسين من مكة يوم التروية، سنة ستين، واجتمع عليه جمائع من العرب، ثم لما بلغه مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه، وأعلم الحسين من معه بذلك وقال: من أحب أن ينصرف فلينصرف، فتفرق الناس عنه يميناً وشمالاً، ولما وصل الحسين إِلى مكان يقال له سراف، وصل إِليه الحر، صاحب شرطة عبد الله بن زياد في ألفي فارس، حتى وقفوا مقابل الحسين، في حرّ الظهيرة، فقال لهم الحسين: ما أتيت إلا يكتبكم، فإن رجعتم رجعت من هنا، فقال له صاحب شرطة ابن زياد: إِنا أُمرنا أن لا نفارقك. حتى نوصلك الكوفة بين يدي عبيد الله بن زياد، فقال الحسين: الموت أهون من ذلك، وما زالوا عليه حتى سار مع صاحب شرطة ابن زياد.
ثم دخلت سنة إِحدى وستين.
مقتل الحسين ولما سار الحسين مع الحر، ورد كتاب من عبيد الله بن زياد إِلى الحر، يأمره أن يُنزل الحسين ومن معه على غير ماء، فأنزلهم في الموضع المعروف بكربلاء، وذلك يوم الخميس، ثاني المحرم من هذه السنة، أعني سنة إِحدى وستين.
ولما كان من الغد، قدم من الكوفة عمر بن سعد بن أبي وقاص بأربعة آلاف فارس، أرسله ابن زياد لحرب الحسين، فسأله الحسين في أن يُمكَّن إما من العود من حيثُ أتى، وإمّا أن يجهّز إِلى يزيد بن معاوية، وإما أن يُمكّن أن يلحق بالثغور.
فكتب عمر إِلى ابن زياد يسأل أن يجاب الحسين إِلى أحد هذه الأمور، فاغتاط ابن زياد فقال: لا ولا كرامة، فأرسل مع شمّر بن ذي الجوشن، إِلى عمر بن سعد إما أن تقاتل الحسين وتقتله، وتطأ الخيل جثته، وإِمّا أن تعتزل، ويكون الأمير على الجيش شمر. فقال عمر بن سعد بل أقاتله، ونهض عشية الخميس، تاسع المحرم هذه السنة، والحسين جالس أمام بيته بعد صلاة العصر، فلما قرب الجيش منه، سألهم مع أخيه العباس، أن يمهلوه إلى الغد، وأنه يجيبهم إِلى ما يختارونه فأجابوه إِلى ذلك.
وقال الحسين لأصحابه، إِني قد أذنت لكم فانطلقوا في هذا الليل، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم. فقال أخوه العباس: لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك، لا أرنا الله ذلك أبداً، ثم تكلم أخوته وبنو أخيه وبنو عبد الله بن جعفر، بنحو ذلك، وكان الحسين وأصحابه يصلون الليل كله، ويدعون، فلما أصبحوا، ركب عمر بن سعد في أصحابه، وذلك يوم عاشوراء من السنة المذكورة، وعبأ الحسين أصحابه وهم اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، ثم حملوا على الحسين وأصحابه، واستمر القتال إلى وقت الظهر من ذلك اليوم، فصلى الحسين وأصحابه صلاة الخوف، واشتد بالحسين العطش، قتقدم ليشرب، فرُمي بسهم فوقع في فمه، ونادى شمر: ويحكم ما تنتظرون بالرجل اقتلوه، فضربه زرعة بن شريك على كفه، وضربه آخر على عاتقه، وطعنه سنان ابن أنس النخعي بالرمح، فوقع فنزل إِليه فذبحه واحتز رأسه، وقيل إِن الذي نزل واحتز رأسه هو شمر المذكور، وجاء به إِلى عمر بن سعد، فأمر عمر بن سعد جماعة فوطئوا صدر الحسين، وظهره بخيولهم.
ثم بعث بالرؤوس والنساء والأطفال إلى عبيد الله بن زياد، فجعل ابن زياد يقرع فم الحسين بقضيب في يده، فقال له زيد بن أرقم: ارفع هذا القضيب، فوالذي لا إِله غيره، لقد رأيت شفتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين، ثم بكى، وروي أنّه قتل مع الحسين من أولاد علي أربعة، هم العباس وجعفر ومحمد وأبو بكر، ومن أولاد الحسين أربعة، وقتل عدة من أولاد عبد الله بن جعفر، ومن أولاد عقيل.
ثم بعث ابن زياد بالرؤوس وبالنساء وبالأطفال، إلى يزيد بن معاوية، فوضع يزيد رأس الحسين بين يديه، واستحضر النساء والأطفال، ثم أمر النعمان بن بشير أن يجهزهم بما يصلحهم، وأن يبعث معهم أميناً يوصلهم إلى المدينة، فجهزهم إِلى المدينة، ولما وصلوا إليها لقيهم نساء بني هاشم حاسرات، وفيهن ابنة عقيل بن أبي طالب وهي تبكي وتقول.
ماذا تقولونَ إِنْ قالَ النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى وصرعى ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
واختلف في موضع رأس الحسين، فقيل: جهز إِلى المدينة ودفن عند أمه، وقيل دفن عند باب الفراديس، وقيل: أن خلفاء مصر نقلوا من عسقلان رأساً إِلى القاهرة ودفنوه بها، وبنوا عليه مشهداً يعرف بمشهد الحسين، وقد اختلف في عمره، والصحيح أنه خمس وخمسون سنة وأشهر، وقيل حج الحسين خمساً وعشرين حجة وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة.
وأما عبد الله بن الزبير فإِنه استمر بمكة ممتنعاً عن الدخول في طاعة يزيد ابن معاوية.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وسنة ثلاث وستين، فيها اتفق أهل المدينة على خلع يزيد بن معاوية، وأخرجوا نائبه عثمان بن محمد بن أبي سفيان منها، فجهز يزيد جيشاً مع مسلم بن عقبة، وأمره يزيد أن يقاتل أهل المدينة، فإِذا ظفر بهم، أباحها للجند ثلاثة أيام، يسفكون فيها الدماء، ويأخذون ما يجدون من الأموال، وأن يبايعهم على أنهم خوّل وعبيد ليزيد، وإذا فرغ من المدينة، يسير إِلى مكة.
فسار مسلم المذكور في عشرة آلاف فارس من أهل الشام، حتى نزل على المدينة من جهة الحرة، وأصر أهل المدينة من المهاجرين والأنصار وغيرهم على قتاله وعملوا خندقاً واقتتلوا، فقتل الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، بعد أن قاتل قتالاً عظيماً، وكذلك قتل جماعة من الأشراف والأنصار، ودام قتالهم، ثم انهزم أهل المدينة، وأباح مسلم مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، يقتلون فيها الناس ويأخذون ما بها من الأموال، ويفسقون بالنساء.
وعن الزهري أنّ قتلى الحرة، كانوا سبعمائة من وجوه الناس، من قريش والمهاجرين والأنصار، وعشرة آلاف من وجوه الموالي، وممن لا يعرف، وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، ثم إِنّ مسلماً بايع من بقي من الناس على أنهم خوّل وعبيد ليزيد بن معاوية، ولما فرغ مسلم بن عقبة من المدينة سار بالجيش إلى مكة.
ثم دخلت سنة أربع وستين حصار الكعبة ولما فرغ مسلم من المدينة وسار إِلى مكة كان مريضاً، فمات قبل أن يصل إِلى مكة، وأقام على الجيش مقامه الحصين بن نمير السكوني، وذلك في المحرم من هذه السنة، فقدم الحصين مكة وحاصر عبد الله بن الزبير أربعين يوماً، حتى جاءهم الخبر بموت يزيد بن معاوية، على ما سنذكره بعد رمي البيت الحرام بالمنجنيق، وإحراقه بالنار، ولما علم الحصين بموت يزيد، قال لعبد الله بن الزبير: من الرأي أن ندع دماء القتلى بيننا، وأقبل لأبايعك، وأقدم إِلى الشام، فامتنع عبد الله بن الزبير من ذلك، فارتحل الحصين راجعاً إلى الشام، ثم ندم ابن الزبير على عدم الموافقة، وسار مع الحصين من كان المدينة من بني أمية، وقدموا إِلى الشام.
وفاة يزيد
بن معاوية
بحوارين من عمل حمص
لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، من هذه السنة، أعني سنة أربع وستين وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وكان مدة خلافته ثلاث سنين وستة أشهر، وكان آدم جعداً أحور العينين، بوجهه آثار جدري، حسن اللحية خفيفها، طويلا، وخلف عدة بنين وبنات، وكانت أمه ميسون بنت بحدل الكلبية، أقام يزيد معها بين أهلها في البادية، وتعلم الفصاحة، ونظم الشعر هناك في بادية بني كلب، وكان سبب إِرساله مع أمه هناك، أن معاوية سمع ميسون بنت بحدل تنشد هذه الأبيات وهي:للبس عباءة وتقر عيني ... أحبُّ إِليَّ من لبسِ الشفوفِ
وبيت تخفق الأرياح فيه ... أحب إِليّ من قصر منيف
وبكر تتبع الأظعان صعب ... أحبّ إِلي من بغل زفوفِ
وكلب ينبح الأضياف دوني ... أحب إِليّ من هر ألوفِ
وخرق من بني عمي فقير ... أحبّ إلي من علج عنيفِ
فقال لها معاوية: ما رضيت يا ابنة بحدل، حتى جعلتني علجاً عنيفاً، الحقي بأهلك فمضت إِلى بادية بني كلب ويزيد معها.
أخبار معاوية بن يزيدبن معاوية
وهو ثالث خلفائهم، ولما توفي يزيد بن معاوية، بويع بالخلافة ولده معاوية في رابع عشر ربيع الأول من هذه السنة، وكان شاباً ديناً، فلم تكن ولايته غير ثلاثة أشهر وقيل: أربعين يوماً، ومات وعمره إِحدى وعشرون سنة، وفي أواخر أيامه جمع الناس وقال: قد ضعفت عن أمركم، ولم أجد لكم مثل عمر بن الخطاب لأستخلفه، ولا مثل أهل الشورى، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا من أحببتم، ثم دخل منزله وتغيب فيه حتى مات، وقيل إِنه أوصى أن يصلي بالناس الضحاك بن قيس حتى يقوم لهم خليفة.
البيعة لعبد اللّه بن الزبير ولما مات يزيد بن معاوية، بايع الناس بمكة ابن الزبير، وكان مروان بن الحكم مدينة، فقصد المسير إِلى عبد اللّه بن الزبير ومبايعته، ثم توجّه مع من ترجّه من بني أمية إِلى الشام، وقيل إِن ابن الزبير كتب إِلى عامله بالمدينة، أن لا يترك بها من بني أمية أحداً.
ولو سار ابن الزبير مع الحصين إِلى الشام، أو صانع بني أمية ومروان، لاستقر أمره، ولكن لا مرد لما قدره الله تعالى، ولما بويع عبد الله بن الزبير بمكة، كان عبيد الله بن زياد بالبصرة، فهرب إِلى الشام، وبايع أهل البصرة ابن الزبير، واجتمعت له العراق والحجاز واليمن، وبعث إِلى مصر فبايعه أهلها، وبايع له في الشام سراً الضحاك ابن قيس، وبايع له بحمص النعمان بن بشير الأنصاري، وبايع له بقنسرين زفر بن الحارث الكلابي، وكاد يتم له الأمر بالكلية، وكان عبد الله بن الزبير شجاعاً، كثير العبادة، وكان به البخل وضعف الرأي.
أخبار مروان بن الحكموهو رابع خلفائهم، وقام مروان بالشام في أيام ابن الزبير، واجتمعت إِليه بنو أمية، وصار الناس بالشام فرقتين، اليمانية مع مروان، والقيسية مع الضحاك بن قيس، وهم يبايعون لابن الزبير، وجرت مقاولات وأمور يطول شرحها.
وقعة مرج راهط وآخر ذلك، أن الفريقين التقوا بمرج راهط، في غوطة دمشق، واقتتلوا، وكانت الكرة على الضحاك والقيسية، وانهزموا أقبح هزيمة، وقتل الضحاك بن قيس، وقتل جمع كثير من فرسان قيس.
ولما انهزمت قيس يوم المرج، نادى منادي مروان بن الحكم، ألا لا يتبع أحد، ودخل دمشق مروان، ونزل في دار معاوية بن أبي سفيان، واجتمع عليه الناس، وتزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية، لخوفه من خالد.
ولما انهزمت القيسية وقتل الضحاك وبلغ ذلك أهل حمص، وعليها النعمان ابن بشير الأنصاري، خرج هارباً بامرأته وأهله، فخرج أهل حمص وقتلوا النعمان بن بشير وردوا برأس النعمان وأهله إِلى حمص.
ولما بلغ زفر بن الحارث، وهو بقنسرين، يدعو لابن الزبير، خبر الهزيمة، خرج من قنسرين وأتى قرقيسيا، فغلب عليها، واستوسق الشام لمروان بن الحكم، ثم خرج إِلى جهة مصر وبعث قدامه عمرو بن سعيد بن العاص، فدخل مصر وطرد عامل ابن الزبير عنها، وبايع لمروان بن الحكم أهلها، ولما ملك مروان مصر، رجع إِلى دمشق، وخرجت سنة أربع وستين ومروان خليفة بالشام ومصر، وابن الزبير خليفة في الحجاز والعراق واليمن.
وفي هذه السنة أعني سنة أربع وستين هدم ابن الزبير الكعبة، وكانت حيطانها قد مالت من ضرب المنجنيق، فهدمها وحفر أساسها، وأدخل الحجر فيها، أعادها على ما كانت عليه أولاً.
ثم دخلت سنة خمس وستين وفاة مروان بن الحكم وتوفي بأن خنقته أم خالد بن يزيد بن معاوية زوجته، وصاحت مات فجأة، وذلك لثلاث خلون من رمضان، من هذه السنة، أعني سنة خمس وستين، ودفن بدمشق، وعمره ثلاث وستون سنة، وكانت مدة خلافته تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً.
شيء من أخباره كان النبي صلى الله عليه وسلم، قد طرد أباه الحكم، إِلى الطائف، ولم يزل طريداً في أيام أبي بكر وعمر، إِلى أن رده عثمان، كما ذكرنا، ومروان هو الذي قتل طلحة بسهم نشاب في حرب الجمل.
أخبار عبد الملكوهو خامس خلفائهم، لما مات مروان، بويع ابنه عبد الملك بن مروان، في ثالث رمضان من هذه السنة، عني سنة خمس وستين، عقب موت مروان، واستثبت له الأمر بالشام ومصر، وقيل إِنه لما أتته الخلافة، كان قاعداً والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك. ثم دخلت سنة ست وستين.
خروج المختار بن أبي عبيد الثقفي
وفي هذه السنة، خرج المختار بالكوفة، طالباً بثأر الحسين، واجتمع إِليه جمع كثير، واستولى على الكوفة، وبايعه الناس بها على كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بدم أهل البيت وتجرد المختار لقتال قتلة الحسين، وطلب شمر بن ذي الجوشن حتى ظفر به وقتله، وبعث إِلى خولي الأصبحي، وهو صاحب رأس الحسين، فاحتاط بداره، وقتله وأحرقه بالنار، ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص، صاحب الجيش، الذين قتلوا الحسين، وهو الذي أمر أن يداس صدر الحسين وظهره بالخيل، وقتل ابن عمر المذكور، واسمه حفص، وبعث برأسهما إلى محمد بن الحنفية بالحجاز، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة، ثم إِن المختار اتخذ كرسياً، وادعى أن فيه سراً، وأنه لهم مثل التابوت لبني إِسرائيل ولما أرسل المختار الجنود لقتال عبيد الله بن زياد، خرج بالكرسي على بغل يحمله في القتال. ثم دخلت سنة سبع وستين.
مقتل عبيد اللّه بن زياد وفي هذه السنة في المحرم، أرسل المختار الجنود لقتال عبيد الله بن زياد، وكان قد استولى على الموصل، وقدم على الجيش إِبراهيم بن الأشتر النخعي، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزمت أصحاب ابن زياد، وقتل عبيد اللّه بن زياد، قتله إِبراهيم بن الأشتر في المعركة، وأخذ رأسه وأحرق جثته، وغرق في الزاب من أصحاب ابن زياد المنهزمين أكثر ممن قتل، وبعث إِبراهيم برأس ابن زياد، وبعدة رؤوس معه إِلى المختار، وانتقم اللّه للحسين بالمختار، وإن لم تكن نية المختار جميلة.
وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وستين، ولى ابن الزبير أخاه مصعباً البصرة، ثم سار مصعب إِلى البصرة، بعد أن طلب المهلب بن أبي صفرة من خراسان، فقدم إِليه بمال وعسكر كثير، فسارا جميعاً إلى قتال المختار بالكوفة، وجمع المختار جموعه والتقيا، فتمت الهزيمة بعد قتال شديد على المختار وأصحابه، وانحصر المختار في قصر الإِمارة بالكوفة، ودخل مصعب الكوفة وحاصر المختار، وما زال المختار يقاتل حتى قتل، ثم نزل أصحابه من القصر على حكم مصعب، فقتلهم جميعهم، وكانوا سبعة آلاف نفس، وكان مقتل المختار في رمضان سنة سبع وستين، وعمره سبع وستون سنة.
وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وستين للهجرة، وقيل سنة إِحدى وسبعين، وقيل سنة تسع وستين، وقيل سنة ثمان وستين، توفي بالكوفة أبو بحر الضحاك بن قيس بن معاوية بن حصين بن عبادة، وكان يعرف الضحاك المذكور بالأحنف، وهو الذي يضرب به المثل في الحلم، وكان سيد قومه، موصوفاً بالعقل، والدهاء والعلم، والحلم والذكاء، أدرك عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يصحبه، ووفد على عمر بن الخطاب في أيام خلافته، وكان من كبار التابعين، وشهد مع علي وقعة صفين، ولم يشهد وقعة الجمل، مع حد الفريقين، والأحنف: المائل؛ سمي بذلك لأنه كان أحنف الرجل، يطأ على جانبها الوحشي، وقدِم الأحنف المذكور على معاوية في خلافته، وحضر عنده في وجوه الناس، فدخل رجل من أهل الشام، وقال خطيباً، وكان آخر كلامه أن لعن علي بن أبي طالب، فأطرق الناس، وتكلم الأحنف، فقال: يا أمير المؤمنين، إِن هذا القائل لو يعلم أن رِضاك في لعن المرسلين، للعنهم، فاتق الله ودع عنك علياً، فقد لقي ربه، وأفرد في قبره، وكان والله الميمونة نقيبته العظيمة مصيبته، فقال معاوية: يا أحنف لقد أغضيت العين على القذى، فأيم الله لتصعدنّ المنبر ولتلعنه، وطوعاً أو كرهاً، فقال الأحنف: أو تعفيني فهو خير لك، فألح عليه معاوية، فقال الأحنف: أما والله لا نصفنك في القول، قال: وما أنت قائل، قال أحمد الله بما هو أهله وأصلي على رسوله وأقول: أيها الناس، إِن أمير المؤمنين معاوية، أمرني أن ألعن علياً، ألا وِإن علياً ومعاوية اختلفا فاقتتلا، وادّعى كل منهما أنه مبغي عليه، فإِذا دعوت فأمنوا. ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك ملك وجميع خلقك، الباغي منهما على صاحبه، والعن الفئة الباغية، اللهم العنهم لعناً كثيراً، أمنوا رحمكم الله. يا معاوية أقوله ولو كان فيه ذهاب روحي، فقال معاوية: إِذن نعفيك من ذلك، ولم يلزمه به.
ثم دخلت سنة ثمان وستين فيها توفي عبد الله بن عباس بالطائف، وكان محمد ابن الحنفية مقيماً بالطائف أيضاً، فصلى على ابن عباس، وأقام محمد بن الحنفية بالطائف إِلى أن قدم الحجاج بن يوسف إِلى مكة، وكان مولد عبد الله بن عباس قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه الكلمة والتأويل، فكان كذلك، وكان يسمى الحبر، لكثرة علومه. ثم دخلت سنة تسع وستين وما بعدها إِلى سنة إِحدى وسبعين.
مقتل مُصعب بن الزَّبير في هذه السنة، أعني سنة إِحدى وسبعين، تجهز عبد الملك، وسار إِلى العراق، وتجهز مصعب لملتقاه، واقتتل الجمعان، وكان أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك، وصاروا معه في الباطن، فتخلوا عن مصعب، وقاتل مصعب حتى قتل، هو وولده وكان مقتل مصعب بدير الجاثليق، عند نهر دجيل، وكان عمر مصعب ستاً وثلاثين سنة: وكان مقتله في جمادى الآخرة سنة. إِحدى وسبعين.
وكان مصعب صديق عبد الملك بن مروان قبل خلافته، وتزوج مصعب سكينة الحسين، وعائشة بنت طلحة، وجمع بينهما في عقد نكاحه.
ثم دخل عبد الملك الكوفة وبايعه الناس، واستوسق له ملك العراقين.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين، فيها جهز عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي في جيش إِلى مكة، لقتال عبد الله بن الزبير، فسار الحجاج في جمادى الأولى من هذه السنة، ونزل الطائف، وجرى بينه وبين أصحاب ابن الزبير حروب، كانت الكرة فيها على أصحاب ابن الزبير، وآخر الأمر أنه حصر ابن الزبير بمكة، ورمى البيت الحرام بالمنجنيق، ودام الحصار حتى خرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين، والحجاج محاصر لابن الزبير، وأبى ابن الزبير أن يسلم نفسه، وقاتل حتى قتل، في جمادى الآخرة، من هذه السنة، بعد قتال سبعة أشهر، وكان عمر ابن الزبير حين قتل نحو ثلاث وسبعين سنة، وهو أول من ولد من المهاجرين بعد الهجرة، وكانت مدة خلافته تسع سنين، لأنه بويع له سنة أربع وستين، لما مات يزيد بن معاوية، وكان عبد الله بن الزبير كثير العبادة، مكث أربعين سنة لم ينزع ثوبه عن ظهره.
وفي هذه السنة، بعد مقتل ابن الزبير، بويع لعبد الملك بالحجاز واليمن، واجتمع الناس، على طاعته.
وفي هذه السنة أعني سنة ثلاث وسبعين، توفي عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، وكان موته بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر، وعمره سبع وثمانون سنة.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين، فيها هدم الحجاج الكعبة، وأخرج الحجر عن البيت، وبنى البيت على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو على ذلك إلى الآن، واستمر الحجاج أميراً على الحجاز.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين، فيها أرسل عبد الملك إِلى الحجاج بولاية العراق، فسار من المدينة إِلى الكوفة، وخرج في أيام ولاية الحجاج العراق شبيب الخارجي، وكثرت جموعه، وجرى له مع الحجاج حروب كثيرة، آخرها أن جموع شبيب تفرقت، وتردّى به فرسه من فوق جسر، وسقط شبيب في الماء وغرق، وكذلك خرج على الحجاج، عبد الرحمن بن الأشعث، واستولى على خراسان، ثم سار إِلى جهة الحجاج، وغلب على الكوفة، وكثرت جموعه وقويت شوكته، وفي ذلك يقول بعض أصحابه:
شطب نوى من داره بالإِيوان ... إِيوان كسرى ذي القرى والزنجان
من عاشق أضحى بزابلستان ... إِن ثقيفاً منهم الكذابات
كذابها الماضي وكذاب ثان ... إنا سمونا للكفور الفتان
حتى طغى في الكفر بعد الإِيمان ... بالسيد الغطريف عبد الرحمن
سار بجمع كالدبا من قحطان ... بجحفل جم شديد الأركان
فقل الحجاج ولي الشيطان ... يثبت لجمع مذحج وهمذان
فإِنهم ساقوه كأس الديفان ... وملحقوه بقرى ابن مروان
ثم أمد عبد الملك الحجاج بالجيوش من الشام، وآخر الأمر أن جموع عبد الرحمن تفرقت، وانهزم، ولحق بملك الترك، وأرسل الحجاج يطلبه من ملك الترك، ويتهدده بالغزو إِن أخره، فقبض ملك الترك على عبد الرحمن المذكور، وعلى أربعين من أصحابه، وبعث بهم إِلى الحجاج، فلما نزل في مكان في الطريق، ألقى عبد الرحمن نفسه من سطح فمات.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وما بعدها إلى إحدى وثمانين، فيها توفي أبو القاسم محمد بن علي بن أبي طالب، المعروف بابن الحنفية.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين فيها توفي المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وكان من الأجواد المشهورين بالكرم والشهامة، وكان الحجاج قد ولى المهلب خراسان، ومات المهلب بمرو الرود، واستخلفَ بعده ابنه يزيد بن المهلب، ولما دنت من المهلب الوفاة، أحضر السهام لأولاده وقال: أتكسرونها مجتمعة؟ قالوا: لا قال أتكسرونها متفرقة؟ قالوا: نعم، قال هكذا أنتم.
وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين وثمانين توفي خالد بن يزيد بن معاوية، وكان من المعدودين في بني أمية بالسخاء والفصاحة والعقل.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين، فيها بنى الحجاج مدينة واسط.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وسنة خمس وثمانين، فيها أعني سنة خمس وثمانين، توفي عبد العزيز بن مروان بمصر. ثم دخلت سنة كست وثمانين.
وفاة عبد الملك بن مروان وفي منتصف شوال، من هذه السنة، توفي عبد الملك بن مروان وعمره ستون سنة، وكانت مدة خلافته، منذ قتل ابن الزبير، واجتمع له الناس، ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر، تنقص سبع ليال، وكان شديد البخر، وكنّي لذلك بأبي الذبّان، وكان يلقب لبخله برشح الحجر، وكان حازماً، عاقلاً، فقيهاً، عالماً، وكان ديناً، فلما تولى الخلافة استهوته الدنيا، فتغير عن ذلك، وفيه يقول الحسن البصري، ماذا أقول في رجل، الحجاج سيئة من سيئاته.
ولاية الوليد بن عبد الملكوهو سادس خلفائهم، لما توفي عبد الملك، بويع الوليد بالخلافة، في منتصف شوال من هذه السنة، أعني سنة ست وثمانين، بعهد من أبيه إِليه، وكان مغرماً بالبناء، واستوثقت له الأمور، وفتحت في أيامه الفتوحات الكثيرة، من ذلك جزيرة الأندلس، وما وراء النهر، وولى الحجاج خراسان مع العراقين، فتغلغل في بلاد الترك، وتغلغل مسلمة بن عبد الملك في بلاد الروم، ففتح وسبى، وفتح محمد بن القاسم الثقفي بلاد الهند.
وفي هذه السنة أعني سنة ست وثمانين، ولى الوليد ابن عمه، عمر بن عبد العزيز المدينة، فقدم إِليها ونزل في دار جده مروان، ودعا عشرة من فقهاء المدينة، وهم عروة بن الزبير بن العوام، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وأبو بكر ابن عبد الرحمن، وأبو بكر بن سليمان، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد.
فقال لهم عمر بن عبد العزيز: أريد أن لا أقطع أمراً إِلا برأيكم، فما علمتموه من تعدي عامل، أو من ظلامة، فعرفوني به، فجزوه خيراً.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وسنة ثمان وثمانين فيها كتب الوليد إِلى عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهدم بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يدخل البيوت في المسجد، بحيث تصير مساحة المسجد مائتي ذراع، في مائتي ذراع، وأن يضع أثمان البيوت في بيت المال، فأجابه أهل المدينة إِلى ذلك، وقدمت الفعلة والصناع من عند الوليد، لعمارة المسجد، وتجرد لذلك عمر بن عبد العزيز.
وفي هذه السنة أيضاً أعني سنة ثمان وثمانين، أمر الوليد ببناء جامع دمشق فأنفق عليه أموالاً عظيمة، تجل عن الوصف.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وما بعدها حتى دخلت سنة ثلاث وتسعين، فيها عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن المدينة.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين، فيها قتل الحجاج سعيد بن جبير، بسبب أن سعيداً كان خلع الحجاج، وصار مع عبد الرحمن بن الأشعث، وكان سعيد بن جبير قد هرب من الحجاج، وأقام في مكة، فأرسل الحجاج يطلب جماعة من الوليد قد التجأوا إِلى مكة، فكتب الوليد إلى عامله على مكة، وهو خالد بن عبد الله القسري، يأمره بإِرسال من يطلبه الحجاج، وطلب الحجاج سعيد بن جبير وغيره، فبعث بهم إليه فضرب عنق سعيد بن جبير، وسعيد بن جبير المذكور، كان من أعلام التابعين، أخذ العلم عن عبد اللّه بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعنه روى القرآن أبو عمرو، وقال أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيد بن جبير، وما على وجه الأرض أحد إلا مفتقر إِلى علمه.
وفي هذه السنة أعني سنة أربع وتسعين، توفي سعيد بن المسيب، وكان من كبار التابعين، وفقهائهم.
وفيها وقيل في سنة خمس وتسعين توفي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف بزين العابدين، وكان مع أبيه الحسين لمّا قتل، وسلم من القتل، لأنه كان مريضاً على الفراش، وكان كثير العبادة، ولهذا قيل له زين العابدين، وتوقي بالمدينة، ودفن بالبقيع وعمره اثنان وخمسون سنة.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين، فيها توفي الحجاج بن يوسف الثقفي، والي العراقين وخراسان، وعمره أربع وخمسون سنة، وكانت مدة ولايته العراق نحو عشرين سنة، وكان الحجاج، أخفش، رقيق الصوت، في غاية الفصاحة، قيل إِنه أحصي من جملة الذين قتلهم الحجاج، فكانوا مائة ألف وعشرين ألف.
ثم دخلت سنة ست وتسعين وفاة الوليد وفي جمادى الآخرة، من هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين، توفي الوليد بن عبد الملك بن مروان، وكانت مدة خلافته تسع سنين وسبعة أشهر، وكانت وفاته بدير مران، ودفن بدمشق، خارج الباب الصغير، وصلى عليه ابن عمه عمر بن عبد العزيز، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وستة أشهر، وكان سائل الأنف جداً، وكان له من الولد ثمانية عشر ابناً، وهو الذي بنى مسجد دمشق، واحتمل له الصناع من بلاد الروم، ومن سائر بلاد الإسلام، وكان في جانب الجامع كنيسة، قد سلمت للنصارى، بسبب أنها في نصف البلد الذي أخذ بالصلح، وكانت تعرف بكنيسة ماريحنا فهدمها الوليد، وأدخلها في الجامع، وكان الوليد لحاناً، دخل عليه أعرابي يشكو صهراً له، فقال له الوليد: ما شأنك، بفتح النون. فقال الأعرابي أعوذ بالله من الشين، فقال له سليمان بن عبد الملك: أمير المؤمنين يقول: ما شأنك بضم النون. فقال الأعرابي: ختني ظلمني، فقال الوليد: من ختنَك بالفتح. فقال الأعرابي: إِنما ختنني الحجام، ولست أريد ذا. فقال سليمان بن عبد الملك: أمير المؤمنين يقول من ختنُك بالضم؟ فقال: هذا وأشار إلى خصمه، وكان أبوه عبد الملك فصيحاً، وعرف بلحن ابنه، فقال له: إِنك يا بني لا تصلح للولاية على العرب، وأنت تلحن، وجعله في بيت؛ وجعل معه من يعلمه الإعراب، فمكث الوليد كذلك مدة، ثم خرج وهو أجهل مما دخل.
أخبار سليمان بن عبد الملك
بن مروان
وهو سابعهم، بويع بالخلافة لما مات أخوه الوليد، في جمادى الآخرة من هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين، وكان سليمان لما مات الوليد في مدينة الرملة، فلما وصل إِليه الخبر بعد سبعة أيام، سار إلى دمشق ودخلها، وأحسن السيرة، وردّ المظالم، واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيراً.وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وسنة ثمان وتسعين، فيها خرج سليمان ابن عبد الملك بالجيوش لغزو قسطنطينية، ونزل بمرج دابق، وسير أخاه مسلمة إِلى قسطنطينية، وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها، فشتى مسلمة على قسطنطينية، وزرع الناس بها الزرع، وأكلوه، وأقام مسلمة قاهراً لأهل قسطنطينية، حتى جاءه الخبر بموت سليمان.
وفيها أعني سنة ثمان وتسعين، فتح يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، الوالي على خراسان، من قبل سليمان بن عبد الملك، جرجان وطبرستان.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وفاة سليمان بن عبد الملك وفي هذه السنة عني سنة تسع وتسعين، توفي سليمان بن عبد الملك، في صفر، وكانت مدة خلافته سنتين وثمانية أشهر، وعمره خمس وأربعون سنة، ومات بدابق، من أرض قنسرين، مرابطاً، وأخوه مسلمه منازل قسطنطينية، وكان سليمان طويلاً أسمر، جميل الصورة، وكان به عرج، وكان حسن السيرة، وكان مُغْرماً بالنساء، كثير الأكل، حج مرة، وكان الحر في الحجاز إِذ ذاك شديداً، فتوجه إِلى الطائف طلباً للبرودة، وأتي برمان فأكل سبعين رمانهَ، ثم أتي بجدي وست دجاجات فأكلها، ثم أتي بزبيب من زبيب الطائف فأكل منه كثيراً، ونعس فنام، ثم انتبه فأتوا بالغداء فأكل على عادته، وقيل كان سبب موته أنه أتاه نصراني وهو نازل على دابق، بزنبيلين مملوءين تيناً وبيضاً، فأمر من يقشر له البيض، وجعل يأكل بيضة وتينة، حتى أتى على الزنبيلين، ثم أتوه بمخ وسكر، فأكله فاتخم، ومرض ومات، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، ودفن، وكان شديد الغيرة، أمر بخصي المخنثين الذين كانوا بالمدينة، فخصاهم عامله على المدينة، وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو الأنصاري.
أخبار عمر بن عبد العزيز
بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف.
وهو ثامن خلفائهم، وأم عمر بن عبد العزيز، بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وأوصى إِليه بالخلافة سليمان بن عبد الملك، لما اشتد مرضه بدابق، وبويع عمر بن عبد العزيز بالخلافة في صفر، من هذه السنة، أعني سنة تسع وتسعين بعد موت سليمان.إبطال عمر سب علي إبطال عمر بن عبد العزيز سب علي بن أبي طالب على المنابر كان خلفاء بني أمية يسبون علياً
رضي الله عنه
، من سنة إِحدى وأربعين، وهي السنة التي خلع الحسن فيها نفسه من الخلافة، إلى أول سنة تسع وتسعين، آخر أيام سليمان بن عبد الملك، فلما ولي عمر، أبطل ذلك، وكتب إِلى نوابه: بإبطاله، ولما خطب يوم الجمعة، أبدل السب في آخر الخطبة بقراءة قوله تعالى " إِن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي لعلكم تذكرون " " النمل: 90 " فلم يسب علي بعد ذلك. واستمرت الخطباء على قراءة هذه الآية، ومدحه كثير بن عبد الرحمن الخزاعي فقال:وليت فلم تشتم علياً ولم تخفْ ... برياً ولم تتبع سجية مجرمِ
وقلتَ فصدقتَ الذي قلتَ بالذي ... فعلتَ فأضحى راضياً كل مسلم
ثم دخلت سنة مائة وسنة إِحدى ومائة وفاة عمر بن عبد العزيز
رضي اللّه عنه
وفي هذه السنة، أعني سنة إِحدى ومائة، توفي عمر بن عبد العزيز، لخمس بقين من رجب، يوم الجمعة، بخناصرة، ودفن بدير سمعان، وقيل: توفي بدير سمعان ودفن به، قال القاضي جمال الدين بن واصل، مؤلف التاريخ المنقول هذا الكلام منه: والظاهر عندي أن دير سمعان، هو المعروف الآن بدير النقيرة، من عمل معرة النعمان، وأن قبره هو هذا المشهور، وكان موته بالسم، عند أكثر أهل النقل، فإِن بني أمية علموا أنه إِن امتدت أيامه، أخرج الأمر من أيديهم، وأنه لا يعهده بعده إِلا لمن يصلح للأمر. فعالجوه وما أمهلوه، وكان مولده بمصر على ما قيل، سنة إِحدى وستين، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، وكان عمره أربعين سنة وأشهراً، وكان في وجهه شجة من رمح دابة، وهو غلام، ولهذا كان يدعى بالأشج، وكان متحرياً سيرة الخلفاء الراشدين.
أخبار يزيد بن عبد الملك
بن مروان بن الحكم بن أبي العاص
ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وهو تاسعهم، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، بويع بالخلافة لما مات عمر بن عبد العزيز، في رجب سنة إِحدى ومائة، بعهد من سليمان بن عبد الملك إِليه بعد عمر.وفي أيام يزيد بن عبد الملك خرج يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، واجتمع إِليه جمع، وأرسل يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة فقاتله، وقتل يزيد بن المهلب، وجميع آل المهلب بن أبي صفرة، وكانوا مشهورين بالكرم والشجاعة، وفيهم يقول الشاعر:
نزلت على آل المهلب شاتياً ... غريباً عن الأوطان في زمن المحل
فما زال بي إِحسانهم وافتقادهم ... وبرهم حتى حسبتهم أهلي
ثم دخلت سنة اثنتين ومائة، فيها أعني في سنة اثنتين ومائة، توفي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وعبيد الله المذكور، هو ابن أخي عبد الله بن مسعود الصحابي، وهؤلاء الفقهاء السبعة، هم الذين انتشر عنهم الفقه والفتيا، وقد نظم بعض الفضلاء أسماءهم فقال:
ألا كُلّ من لا يقتدي بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد سليمان أبو بكر خارجه
ولنذكرهم على ترتيبهم في النظم، فأولهم عبيد الله المذكور، وكان من أعلام التابعين، ولقي خلقاً كثيراً من الصحابة.
الثاني عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد القرشي، أبوه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأم عروة أسماء بنت أبي بكر، وهي ذات النطاقين، وهو شقيق عبد الله بن الزبير، الذي تولى الخلافة، وتوفي عروة المذكور، في سنة ثلاث وتسعين للهجرة، وقيل أربع وتسعين، وكان مولده سنة اثنتين وعشرين.
الثالث قاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وكان من أفضل أهل زمانه، وأبوه محمد بن أبي بكر، الذي قتل بمصر على ما شرحنا.
الرابع سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب القرشي، جمع بين الحديث والفقه، والزهد والعبادة، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، وتوفي في سنة إِحدى وقيل اثنتين، وقيل ثلاث، وقيل أربع وقيل خمس وتسعين.
الخامس سليمان بن يسار، مولي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، روى عن ابن عباس، وعن أبي هريرة، وأم سلمة، وتوفي في سنة سبع ومائة، وقيل غير ذلك، وعمره ثلاث وسبعون سنة.
السادس أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، وكنيته اسمه، كان من سادات التابعين، وسمي راهب قريش، وجده الحارث، هو أخو أبي جهل بن هشام، وتوفي أبو بكر المذكور في سنة أربع وتسعين للهجرة، وولد في خلافة عمر بن الخطاب.
السابع خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، وأبوه زيد بن ثابت من أكابر الصحابة، الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه أفرضكم زيد. وتوفي خارجة المذكور، في سنة تسع وتسعين للهجرة، وقيل سنة مائة بالمدينة، وأدرك زمن عثمان ابن عفان، فهؤلاء السبعة هم المعروفون بفقهاء المدينة السبعة، وانتشرت عنهم الفتيا والفقه، وكان في زمانهم من هو في طبقتهم في الفضيلة، ولم يذكر معهم، مثل سالم ابن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب، وغيره، وتوفي سالم المذكور في سنة ست ومائة، وقيل غير ذلك، وكان من أعلام التابعيين أيضاً، وقد ذكر في موضع آخر وفاة بعض المذكورين، وإنما ذكرناهم جملة لأنه أقرب للضبط، ثم دخلت سنة ثلاث وسنة أربع وسنة خمس ومائة.
وفاة يزيد بن عبد الملك وفيها، أعني سنة خمس ومائة، لخمس بقين من شعبان، توفي يزيد بن عبد الملك، وعمره أربعون سنة، وقيل غير ذلك، وكانت مدة خلافته أربع سنين وشهراً، وكان يزيد المذكور، قد عهد بالخلافة إِلى أخيه هشام، ثم من بعده إِلى ابنه الوليد ابن يزيد بن عبد الملك.
وكان يزيد صاحب لهو وطرب، وهو صاحب حبابة، وسلامة القس، وكان مغرماً بهما جداً، وماتت حبابة، فمات بعدها بسبعة عشر يوماً، وإنما سميت سلامة القس، لأن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمار، كان يسمى القس، لعبادته، وكان فقيهاً، فمرّ بمنزل أستاذ سلامة، فسمع غناءها، فهويها وهويته، واجتمعا، فقالت له سلامة: إِني أحبك، فقال: وأنا أيضاً. وقالت: وأشتهي أن أقبلك. قال: وأنا أيضاً. فقالت له: ما يمنعك: قال تقوى الله، وقام وانصرف عنها، فسميت سلامة القس، بسبب عبد الرحمن المذكور.
أخبار هشام بن عبد الملكوهو عاشرهم، وكان عمره لما ولي الخلافة، أربعاً وثلاثين سنة وأشهراً، وكان هشام بالرصافة لما مات يزيد بن عبد الملك، في دويرة له صغيرة، فجاءته الخلافة على البريد، فركب من الرصافة وسار إِلى دمشق.
ثم دخلت سنة ست ومائة وما بعدها، حتى دخلت سنة عشر ومائة، فيها توفي الإمام المشهور الحسن بن أبي الحسن البصري، وكان مولده في خلافة عمر بن الخطاب، وهو من أكابر التابعين.
وفيها توفي محمد بن سيرين، وكان أبوه سيرين، عبداً لأنس بن مالك، فكاتبه أنس على مال، وحمله سيرين وعتق، وكان من سبي خالد بن الوليد، وروى محمد بن سيرين المذكور، عن جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم، وكان من كبار التابعين، وله اليد الطولى في تعبير الرؤيا.
ثم دخلت سنة إِحدى عشرة ومائة ودخلت سنة اثنتي عشرة ومائة وما بعدها، حتى دخلت سنة ست عشرة ومائة، فيها توفي الباقر محمد بن زين العابدين، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المقدم ذكره، وقيل كانت وفاته سنة أربع عشرة، وقيل سنة سبع عشرة، وقيل سنة ثماني عشرة ومائة، وكان عمر الباقر المذكور ثلاثاً وسبعين سنة، وأوصى أن يكفن بقميصه الذي كان يصلي فيه، وقيل له الباقر: لتبقره في العلم، أي توسعه فيه، وولد الباقر المذكور في سنة سبع وخمسين، وكان عمره لما قتل جده الحسين ثلاث سنين، وتوفي بالحميمة من الشراة، ونقل ودفن بالبقيع.
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة، فيها أعني في سنة سبع عشرة، وقيل سنة عشرين ومائة، توفي نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، أصابه عبد الله في بعض غزواته، وكان نافع من كبار التابعين، سمع مولاه عبد الله، وأبا سعيد الخدري، وروى عن نافع الزهري، ومالك بن أنس، وأهل الحديث يقولون: رواية الشافعي عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، سلسلة الذهب لجلالة كل واحد من هؤلاء الرواة.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة ومائة وسنة تسع عشرة ومائة فيها غزا المسلمون بلاد الترك، فانتصروا وغنموا أشياء كثيرة، وقتلوا من الأتراك مقتلة عظيمة، وقتلوا خاقان، ملك الترك، وكان المتولي لحرب الترك، أسد بن عبد الله القسري.
ثم دخلت سنة عشرين ومائة فيها توفي أبو سعيد عبد الله بن كثير أحد القراء السبعة.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة، فيها غزا مروان بن محمد بن مروان، وكان على الجزيرة وأرمينية، بلاد صاحب السرير، فأجاب صاحب السرير إِلى الجزية، في كل سنة سبعين ألف رأس، يؤديها.
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم، فافتتح حصونها وغَنمَ. وفيها غزا نصر بن سيار بلاد ما وراء النهر، وقتل ملك الترك، ثم مضى إِلى فرغانة فسبى بها سبياً كثيراً.
وفيها أعني سنة إِحدى وعشرين، وقيل اثنتين وعشرين ومائة، خرج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي اللّه عنهم، بالكوفة، ودعا إلى نفسه، وبايعه جمع كثير، وكان الوالي على الكوفة من قبل هشام، يوسف بن عمر الثقفي، فجمع العسكر وقاتل زيداً، فأصاب زيداً سهم في جبهته، فأدخل بعض الدور، ونزعوا السهم من جبهته، ثم مات.
ولما علم يوسف بن عمر بمقتله، تطلبه حتى دل عليه واستخرجه وصلب جثته، وبعث برأسه إِلى هشام بن عبد الملك، فأمر بنصب الرأس بدمشق، ولم تزل جثته مصلوبة حتى مات هشام، وولي الوليد، فأمر بحرق جثته، فأحرقت، وكان عمر زيد لما قتل، اثنتين وأربعين سنة.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة فيها توفي إِياس بن معاوية بن قرة المزني، المشهور بالفراسة والذكاء، وكان ولي قضاء البصرة في أيام عمر بن عبد العزيز.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة وسنة أربع وعشرين ومائة، فيها وقيل غير ذلك، توفي محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشي، وعمره ثلاث وسبعون سنة، المعروف بالزُهري، بضم الزاي المنقوطة، وسكون الهاء، وبعدها راء، هذه النسبة إلى زهرة بن كلاب بن مرة، وكان الزُهري المذكور، من أعلام التابعين، رأى عشرة من أصحاب النبي، وروى عن الزهري المذكور، جماعة من الأئمة، مثل مالك وسفيان الثوري وغيرهما، وكان الزهري، إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله مشتغلا بها عن كل أحد فقالت له زوجته: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر. ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة.
وفاة هشام وفي هذه السنة، أعني سنة خمس وعشرين ومائة، توفي هشام بن عبد الملك بالرصافة، لست خلون من ربيع الأول، فكانت مدة خلافته تسع عشرة سنة وتسعة أشهر، وكسراً، وكان مرضه الذبحة، وكان عمره خمساً وخمسين سنة، ولما مات طلبوا له ما يسخنون فيه الماء، فلم يعطهم عياض كاتب الوليد، ما يسخنون فيه الماء، فإِنه ختم على جميع موجوده للوليد، فاستعاروا له من الجيران قمقساً لتسخين الماء، ودفن بالرصافة، وكان أحول بين الحول، وخلف عدة بنين، منهم معاوية أبو عبد الرحمن، الذي دخل الأندلس، وملكها لما زال ملك بني أمية، وكان هشام حازماً سد يد الرأي، غزير العقل، عالماً بالسياسة، واختار هشام الرصافة، وبناها، وإليه تنسب فيقال رصافة هشام، وكانت مدينة رومية، ثم خرجت وهي صحيحة الهواء، وإنما اختارها لأن خلفاء بني أمية، كانوا يهربون من الطاعون، وينزلون في البرية، فأقام هشام بالرصافة، وهي في تربة صحيحة، وابتنى بها قصرين وكان بها دير معروف.
أخبار الوليد بن يزيد
بن عبد الملك بن مروان
وهو حادي عشر خلفاء بني أمية، لما مات هشام، نفذت الكتب إِلى الوليد، وكان الوليد مقيماً في البريّة بالأزرق خوفاً من هشام، وكان الوليد وأصحابه في ذلك الموضع في أسوأ حال، ولما اشتد به الضيق، أتاه الفرج بموت هشام، وكانت البيعة للوليد يوم الأربعاء، لثلاث خلون من ربيع الآخر، من هذه السنة أعني سنة خمس وعشرين ومائة، وعكف الوليد على شرب الخمر، وسماع الغناء ومعاشرة النساء، وزاد الناس في أعطيتهم عشرات، ثم زاد أهل الشام بعد زيادة العشرات عشرة أخرى، ولم يقل في شيء سُئله لا.
انتهى اَلنقل من تاريخ القاضي جمال الدين بن واصل، وابتدأت من هنا من تاريخ ابن الأثير الكامل، وفي هذه السنة أعني سنة خمس وعشرين ومائة، توفي القاسم بن أبي برة، وهو من المشهورين بالقراءة.
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة، فيها سلم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، خالد بن عبد الله القسري. إِلى يوسف بن عمر، عامله على العراق، فعذبه وقتله.
قتل الوليد بن يزيد
بن عبد الملكفي هذه السنة، قتل الوليد، قتله يزيد بن الوليد بن عبد الملك، الذي يقال له يزيد الناقص، وكان مقتله في جمادى الآخرة، سنه ست وعشرين ومائة، بسبب كثرة مجونه ولهوه وشربه الخمر، ومنادمة الفساق، فثقل ذلك على الرعية والجند، وأذى بني عميه هشام والوليد، فرمره بالكفر، وغشيان أمهات أولاد أبيه، ودعا يزيد إلى نفسه، واجتمعت عليه اليمانية، ونهاه أخوه العباس بن الوليد بن عبد الملك عن ذلك، وتهدده، فأخفى يزيد الأمر عن أخيه، وكان يزيد مقيماً بالبادية، لوخم دمشق، فلما، اجتمع له أمره، قصد دمشق متخفياً في سبعة نفر، وكان بينه وبينها مسيرة أربعة أيام، ونزل بجيرود على مرحلة من دمشق، ثم دخل دمشق ليلاً، وقد بايع له أكثر أهلها، وكان عامل الوليد على دمشق، عبد الملك بن محمد بن الحجاج، وجاء الوباء بدمشق فخرج منها، ونزل قرية قطنا، وظهر يزيد في دمشق، واجتمعت عليه الجند وغيرهم، وأرسل إِلى قطنا مائتي فارس، فأخذوا عبد الملك المذكور، عامل الوليد على دمشق بالأمان، ثم جهز يزيد جيشاً إِلى الوليد بن زيد بن عبد الملك، ومقدمهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، ولما ظهر يزيد بن الوليد بدمشق، سار بعض موالي الوليد إِليه، وأعلمه، وهو بالأغذف من عمان، فسار الوليد حتى أتى البحرة، إِلى قصر النعمان بن بشير، ونازله عبد العزيز، وجرى بينه وبين الوليد قتال كثير، وقصد العباس بن الوليد بن عبد الملك، أخوه يزيد المذكور، اللحوق بالوليد ونصرته على أخيه، فأرسل عبد العزيز، منصور بن جمهور، إلى العباس، فأخذه قهراً، وأتى به إِلى عبد العزيز، فقال له: بايع لأخيك، فبايع، ونصب عبد العزيز راية وقال: هذه راية العباس، قد بايع لأمير المؤمنين يزيد، فتفرق الناس عن الوليد، فركب الوليد بمن بقي معه، وقاتل قتالاً شديداً، ثم انهزم عنه أصحابه، فدخل القصر وأغلقه، وحاصروه ودخلوا إِليه وقتلوه، واحتزوا رأسه، وسيروه إلى يزيد بن الوليد، فسجد يزيد شكراً لله، ووضع الرأس على رمح، وطيف به في دمشق، وكان قتله لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، سنة ست وعشرين ومائة، فكانت مدة خلافته سنة وثلاثة أشهر، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وقيل غير ذلك، وكان الوليد من فتيان بني أمية وظرفائهم، منهمكاً في اللهو والشرب وسماع الغناء.
أخبار يزيد بن الوليد
بن عبد الملك
وهو ثاني عشر خلفائهم، استقر يزيد الناقص في الخلافة، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، سنة ست وعشرين ومائة، وسمي يزيد الناقص، لأنه نقص الناس العشرات التي زادها الوليد، وقررهم على ما كانوا عليه أيام هشام، ولما قتل الوليد وتولى يزيد الخلافة خالفه أهل حمص، وهجموا دار أخيه العباس بحمص، ونهبوا ما بها، وسلبوا حرمه، وأجمعوا على المسير إِلى دمشق لحرب يزيد، فأرسل إِليهم يزيد عسكراً، والتقوا قرب ثنية العقاب، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم أهل حمص، واستولى عليها يزيد، وأخذ البيعة عليهم.ثم اجتمع أهل فلسطين، فوثبوا على عامل يزيد، فأخرجوه من فلسطين، وأحضروا يزيد بن سليمان بن عبد الملك، فجعلوه عليهم، ودعا الناس إِلى قتال يزيد الناقص، فأجابوه إِلى ذلك، وبلغ يزيد ذلك، فأرسل إِليهم جيشاً مع سليمان بن هشام ابن عبد الملك، ووعد كبراء فلسطين ومناهم، فتخاذلوا عن صاحبهم، فلما قرب منهم الجيش تفرقوا، وقدم جيش سليمان في أثر يزيد بن سليمان بن عبد الملك، فنهبوه، وسار سليمان بن هشام بن عبد الملك حتى نزل طبرية، وأخذ البيعة بها ليزيد الناقص، ثم سار حتى نزل الرملة، وأخذ البيعة على أهلها أيضاً للمذكور.
ثم أن يزيداً عزل يوسف بن عمر عن العراق، واستعمل عليه منصور بن جمهور، وضم إِليه مع العراق خراسان، فامتنع نصر بن سيار في خراسان، ولم يجب إِلى ذلك، ثم عزل يزيد بن الوليد، منصور بن جمهور عن العراق، وولاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز.
وفي هذه السنة أعني سنة ست وعشرين ومائة، أظهر مروان بن محمد الخلاف ليزيد بن الوليد.
وفاة يزيد بن الوليد بن عبد الملك وفي هذه السنة، توفي يزيد الناقص المذكور، لعشر بقين من ذي الحجة، وكانت خلافته خمسة أشهر واثني عشر يوماً، وكان موته بدمشق، وكان عمره ستاً وأربعين سنة، وقيل ثلاثون سنة، وقيل غير ذلك.
وكان أسمر طويلاً، صغير الرأس جميلاً، ولما مات يزيد بن الوليد، قام بالأمر بعده إبراهيم أخوه وهو ثالث عشر خلفائهم، غير أنه لم يتم له الأمر، وكان يسلم عليه بالخلافة تارة، وتارة بالإمارة، فمكث أربعة أشهر وقيل سبعين يوماً.
وفيها توفي عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
وفيها توفي أبو جمرة صاحب ابن عباس، جمرة بالجيم والراء المهملة.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة، فيها سار مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، أمير ديار الجزيرة، إِلى الشام لخلع إبراهيم بن الوليد، ولما وصل إِلى قنسرين، اتفق معه أهلها، وساروا معه، ولما وصل مروان إِلى حمص، بايعه أهلها، وصاروا معه أيضاً، ولما قرب مروان من دمشق، بعث إِبراهيم إِلى قتاله الجنود، مع سليمان بن هشام بن عبد الملك، وكانت عدتهم مائة وعشرين ألفاً، وعدة عسكر مروان بن محمد ثمانين ألفاً، فاقتتلوا من ارتفاع النهار إلى العصر، وكثر القتل بينهم، وانهزم عسكر إبراهيم، ووقع القتل فيهم والأسر، وهرب سليمان فيمن هرب إلى دمشق، واجتمعوا مع إِبراهيم، وقتلوا ابني الوليد بن يزيد وكانا في السجن، ثم هرب إبراهيم واختفى، ونهب سليمان بن هشام بيت المال، وقسمه في أصحابه، وخرج من دمشق.
بيعة مروان بن محمد
بن مروان بن الحكم
وهو رابع عشر خلفاء بني أمية وآخرهم، وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وعشرين ومائة، بويع لمروان المذكور في دمشق بالخلافة، ولما استقر له الآمر، رجع إِلى منزله بحران، وأرسل إِبراهيم المخلوع بن الوليد، وسليمان بن هشام، فطلبا من مروان الأمان، فأمنهما، فقدما عليه ومع سليمان أخوته وأهل بيته فبايعوا مروان بن محمد.وفي هذه السنة، عصي أهل حمص على مروان، فسار مروان من حران إلى حمص، وقد سد أهلها أبوابها، فأحدق بالمدينة، ثم فتحوا له الأبواب وأظهروا طاعته، ثم وقع بينهم قتال، فقتل من أهل حمص مقتلة، وهدم بعض سورها، وصلب جماعة من أهلها.
ولما فتح حمص جاءه الخبر بخلاف أهل الغوطة، وأنهم ولوا عليهم يزيد بن خالد القسري، وأنهم قد حصروا دمشق، فأرسل مروان عشرة آلاف فارس، مع أبي الورد بن الكوثر، وعمرو بن الصباح، وساروا من حمص، ولما وصلوا إلى قرب دمشق، حملوا على أهل الغوطة، وخرج من بالبلد عليهم أيضاً، فانهزم أهل الغوطة، ونهبهم العسكر وأحرقوا المزة وقرى غيرها.
ثم عقيب ذلك خالفت أهل فلسطين، ومقدمهم ثابت بن نعيم، فكتب مروان إِلى أبي الورد يأمره بالسير إليه، فسار إِليه وهزمه على طبرية، ثم اقتتلوا على فلسطين، فانهزم ثابت بن نعيم، وتفرق أصحابه، وأسر ثلاثة من أولاده، فبعث بهم أبو الورد إِلى مروان، وأعلمه بالنصر.
ثم سار مروان بن محمد إِلى قرقيسيا، فخلعه سليمان بن هشام بن عبد الملك، واجتمع إِليه من أهل الشام سبعون ألفاً، وعسكر بقنسرين، وسار إِليه مروان من قرقيسيا، والتقوا بأرض قنسرين، وجرى بينهم قتال شديد، ثم انهزم سليمان بن هشام وعسكره، واتبعهم خيل مروان يقتلون ويأسرون، فكانت القتلى من عسكر سليمان تزيد على ثلاثين ألفاً، ثم إِن سليمان وصل إِلى حمص، واجتمع إِليه أهلها وبقية المنهزمين، فسار إِليهم مروان وهزمهم ثانية، وهرب سليمان إلى تدمر، وعصى أهل حمص، فحاصرهم مروان مدة طويلة، ثم طلبوا الأمان، وسلموا إِلى مروان من كان عليهم من الولاة، من جهة سليمان، فأجابهم إِلى ذلك ومنهم.
وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وعشرين ومائة، مات محمد بن واسع الأزدي الزاهد.
وفيها مات عبد الله بن إسحاق. مولى الحضرمي من خلفاء عبد شمس، وكنيته أبو بحر، وكان إِماماً في النحو واللغة، وكان يعيب الفرزدق في شعره، وينسبه إلى اللحن، فهجاه الفرزدق بقوله:
ولو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا
فقال له عبد الله: وقد لحنت أيضاً في قولك مولى مواليا، يل ينبغي أن تقول مولى موالي.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة، فيها أرسل مروان بن محمد، يزيد بن هبيرة إِلى العراق، لقتال من به من الخوارج، وكان بخراسان نصر بن سيار، والفتنة بها قائمة، بسبب دعاة بني العباس.
وفيها مات عاصم بن أبي النجود، صاحب القراة، والنجود الحمارة الوحشية.
ظهور دعوة بني العباس ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة، فيها ظهرت دعوة بني العباس بخراسان، وكان يختلف أبو مسلم الخراساني من خراسان، إلى إِبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان يُسمى إِبراهيم الإمام، ومنه إلى خراسان، ليستلم منه إِبراهيم الأحوال، فلما كانت هذه السنة، استدعى إِبراهيم أبا مسلم من خراسان، فسار إِليه، ثم أرسل إليه إِبراهيم أن ابعث إِلي بما معك من المال مع قحطبة، وارجع إلى أمرك من حيث وافاك كتابي، ووافاه الكتاب بقومس، فامتثل أبو مسلم ذلك، وأرسل ما معه إِلى إِبراهيم مع قحطبة، ورجع أبو مسلم إلى خراسان، فلما وصل إِلى مرو أظهر الدعوة لبني العباس، فأجابه الناس، وأرسل إِلى بلاد خراسان بإظهار ذلك، وذلك بعد أن كان قد سعى في ذلك سراً مدة طويلة، ووافقه الناس في الباطن، وأظهروا ذلك في هذه السنة، وجرى بين أبي مسلم، وبين نصر بن سيار، أمير خراسان من جهة بني أمية، مكاتبات ومراسلات يطول شرحها، ثم جرى بينهما قتال، فقتل أبو مسلم بعض عمال نصر بن سيار، على بعض بلاد خراسان، واستولى على ما بأيديهم، وكان أبو مسلم من أهل خطرنية من سواد الكوفة، وكان قهرماناً لإِدريس معقل العجلي، ثم صار إِلى أن ولاه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الأمر في استدعاء الناس في الباطن، ثم مات محمد، فولاه ابنه إِبراهيم الإمام بن محمد ذلك، ثم الأئمة من ولد محمد، ولما قوى أبو مسلم على نصر بن سيار، ورأى نصر أن أمر أبي مسلم كلما جاء في قوة، كتب إلى مروان بن محمد يعلمه بالحال، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكتب أبيات شعر وهي:
أرى تحتَ الرماد وميضَ نارٍ ... وأوشك أن تكون لها ضرامُ
فإِن لم يُطفها عقلاءُ قوم ... يكون وقودها جثث وهامُ
فقلت من التعجب ليتَ شعري ... أأيقاظ أمية أم نيامُ
وكان مقام إِبراهيم الإمام وأهله بالشراة، من الشام، بقرية يقال لها الحميمة، والحميمة، بضم الحاء المهملة، وميم مفتوحة، وياء مثناهْ من تحتها ساكنة، ثم ميم وهاء، هي عن الشوبك أقل من مسيرة يوم، بينها وبين الشوبك وادي موسى، وهي من الشوبك قبلة بغرب، وتلك البقعة التي هي من الشوبك، إِلى جهة الغرب، والقبلة، يقال لها الشراة.
ولما بلغ مروان الحال، أرسل إِلى عامله بالبلقاء، أن يسير إِليه إبراهيم بن محمد المذكور، فشدّه وثاقاً، وبعث به إِليه، فأخذه مروان وحبسه في حران، حتى مات إِبراهيم في حبسه، وكان مولده في سنة اثنتين وثمانين.