كتاب : المختصر في أخبار البشر
المؤلف : أبو الفداء

وأولهم محمد خوارزم شاه بن أنوش تكين، وكان أنوش تكين مملوكاً لرجل من غرشتان ولذلك قيل له أنوش تكين غرشه، فاشتراه منه أمير من السلجوقية اسمه بلكابل وكان أنوشتكين حسن الطريقة فكبر وعلا محله، وصار أنوشتكين مقدماً مرجوعاً إليه، وولد له محمد خوارزم شاه المذكور، فرباه والده أنوشتكين وأحسن تأديبه، فانتشأ محمد عارفاً أديباً، وتقدم بالعناية الأزلية، واشتهر بالكفاية وحسن التدبير، فلما قدم الأمير داذا الحبشي إلى خراسان وهو من أمراء بركيارق؛ كان قد أرسله بركيارق لتهدئة أمر خراسان؛ بسبب فتنة كانت قد وقعت فيها من الأتراك، قتل فيها النائب على خوارزم، فوصل داذا وأصلح أمر خوارزم، واستعمل على خوارزم في هذه السنة محمد بن أنوشتكين المذكور، ولقبه خوارزم فقصر محمد أوقاته على معدلة ينشرها ومكرمة يفعلها، وقرب أهل العلم والدين، فعلا محله وعظم ذكره، ثم أقره السلطان سنجر على ولاية خوارزم، وعظمت منزلة محمد خوارزم شاه المذكور عند السلطان سنجر، ولما توفي خوارزم شاه محمد، ولي بعده ابنه أطسز فمد غلال الأمن وأفاض العدل.
ذكر الحرب بين رضوان وأخيه دقاق فيها سار رضوان من حلب إلى دمشق ليأخذها من أخيه دقاق، وسار مع رضوان باغي سيان ابن محمد التركماني صاحب أنطاكية وجناح الدولة، ووصلوا إلى دمشق فلم ينل منها غرضاً، فارتحل منها رضوان إلى القدس فلم يملكها وتراجعت عنه عساكره فرجع إلى حلب، ثم فارق باغي سيان رضوان وسار إلى دقاق، وحسن له قصد أخيه رضوان وأخذ حلب منه، فسار دقاق إلى رضوان وجمع رضوان العسكر والترك والتراكمين والتقى مع أخيه على قنسرين، فانهزم دقاق وعسكره ونهبت خيامهم، وعاد رضوان إلى حلب منصوراً، ثم اتفقا على أن يخطب لرضوان بدمشق قبل دقاق.
ذكر غير ذلك من الحوادث:في هذه السنة، خطب الملك رضوان للمستعلي بأمر الله العلوي خليفة مصر أربع جمع، ثم خشي من عاقبة ذلك فقطعها، وأعاد الخطبة العباسية. وفيها قتلت الباطنية أرغش النظامي بالري، وكان قد بلغ مبلغاً عظيماً بحيث أنه تزوج بابنة ياقوتي عم السلطان بركيارق، وفيها قتلت الباطنية أيضاً الأمير برسق، وكان برسق من أصحاب طغريل بك، وهو أول شحنة كان من جهة السلجوقية ببغداد.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمائة ذكر مسير الفرنج إلى الشام
وملكهم أنطاكية وغيرهاوكان مبتدأ خروجهم في سنة تسعين وأربعمائة، فعبروا خليج قسطنطينية وولوا إلى بلاد قليج أرسلان بن سليمان بن قطلمش، وهي قونية وغيرها، وجرى بين قليج أرسلان وبين الفرنج قتال، فانهزم قليج أرسلان من بين يديهم. ثم ساروا إلى بلاد ليون الأرمني وخرجوا إلى أنطاكية فحصروها تسعة أشهر، وظهر لباغي سان في ذلك شجاعة عظيمة، ثم هجموا أنطاكية عنوة، وخرج باغي سيان بالليل من أنطاكية هارباً مرعوباً، فلما أصبح ورجع وعيه أخذ يتلهف على أهله وأولاده وعلى المسلمين، فلشدة ما لحقه سقط مغشياً عليه، فأراد من معه أن يركبه، فلم يكن فيه من المسكة ما يثبت على الفرس، فتركوه مرمياً واجتاز إنسان أرمني كان يقطع الخشب بباغي سيان بن محمد بن ألب أرسلان التركماني صاحب أنطاكية المذكور، وهو على آخر رمق، فقطع رأسه وحمله إلى الفرنج بأنطاكية، وأما الفرنج فإنهم ملكوا أنطاكية، وكان ذلك في جمادى الأولى من هذه السنة، ووضعوا السيف في المسلمين الذين بها ونهبوا أموالهم.
ذكر مسير المسلمين إلى حرب الفرنج بأنطاكية

لما بلغ كربوغا صاحب الموصل ما فعله الفرنج بأنطاكية، جمع عسكره وسار إلى مرج دابق، واجتمع إليه دقاق بن تنش صاحب دمشق، وطغتكين أتابك، وجناح الدولة صاحب حمص وهو زوج أم الملك رضوان، فإنه كان قد فارق رضوان من حلب وسار إلى حمص فملكها، وغيرهم من الأمراء والقواد، وساروا حتى نازلوا أنطاكية، وانحصر الفرنج بها، وعظم خوفهم حتى طلبوا من كربوغا أن يطلقهم فامتنع، ثم إن كربوغا أساء السيرة فيمن اجتمع معه من الملوك والأمراء المذكورين، وتكبر عليهم، فخبثت نياتهم على كربوغا، ولما ضاق على الفرنج الأمر وقلت الأقوات عندهم، خرجوا من أنطاكية واقتتلوا مع المسلمين، فولى المسلمون هاربين، وكثر القتل فيهم، ونهبت الفرنج خيامهم، وتقووا بالأقوات والسلاح ولما انهزمت المسلمون من بين أيديهم سار الفرنج إلى المعرة فاستولوا عليها، ووضعوا السيف في أهلها، فقتلوا فيها ما يزيد على مائة ألف إنسان وسبوا السبي الكثير، وأقاموا بالمعرة أربعين يوماً وساروا إلى حمص فصالحهم أهلها.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ذكر ملك الفرنج بيت المقدس كان تنش قد أقطع بيت المقدس للأمير أرتق، فلما توفي صارت القدس لولديه أيلغازي وسقمان ابني أرتق، حتى خرج عسكر خليفة مصر فاستولوا على القدس بالأمان، في شعبان سنة تسع وثمانين وأربعمائة وسار سقمان وأخوه أيلغازي من القدس فأقام سقمان ببلد الرها، وسار أيلغازي إلى العراق، وبقي القدس في يد المصريين إلى الآن فقصده الفرنج وحصروا القدس نيفاً وأربعين يوماً وملكوه يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان من هذه السنة، ولبث الفرنج يقتلون في المسلمين بالقدس أسبوعاً، وقتل من المسلمين في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألف نفس، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن جاور في ذلك الموضع الشريف، وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء، ووصل المستنفرون إلى بغداد في رمضان، فاجتمع أهل بغداد في الجوامع واستغاثوا وبكوا، حتى أنهم أفطروا من عظم ما جرى عليهم، ووقع الخلاف بين السلاطين السلجوقية، فتمكن الفرنج من البلاد، وقال في ذلك المظفر الأبيوردي أبياتاً منها:
مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دمع يفيضه ... إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
يسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وكم من دماء قد أبيحت ومن دم ... توارى حياء حسنها بالمعاصم
أترضى صناديد الأعاريب بالأذى ... وتغضى على ذل كماة الأعاجم
فليتهم إذ لم يذودوا حمية ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
ذكر غير ذلك من الحوادث:في هذه السنة قوي أمر محمد بن ملكشاه أخي الملك بركيارق، وهو أخو السلطان لأب وأم، وأمهما أم ولد، واجتمع إليه العساكر واستوزر محمد مؤيد الملك عبيد الله بن نظام الملك وقصد أخاه السلطان بركيارق، وهو بالري فسار بركيارق عن الري، ووصل إليها محمد ووجد والدة أخيه بركيارق زبيدة خاتون قد تخلفت بالري عن ابنها، فقبض عليها مؤيد الملك وأخذ خطها بمال، ثم خنقها، ثم اجتمع إلى محمد كوهرابين شحنة بغداد وكربوغا صاحب الموصل، وأرسل يطلب الخطبة ببغداد، فخطب له بها نهار الجمعة سابع عشر ذي الحجة من هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة فيها سار بركيارق ودخل بغداد وأعيدت الخطبة له في صفر، ثم سار بركيارق إلى أخيه محمد وجمع كل منهما عساكره واقتتلوا رابع رجب، عند النهر الأبيض وهو على عدة فراسخ من همذان، فانهزم بركيارق وأرسل السلطان محمد إلى بغداد بذلك، فأعيدت خطبته، ولما انهزم بركيارق سار إلى الري واجتمع عليه أصحابه وقصد خراسان واجتمع مع الأمير داذا أمير جيش خراسان، ووقع بين بركيارق وبين أخيه السلطان سنجر القتال، فانهزم بركيارق وعسكره، وسار بركيارق إلى جرجان، ثم إلى دامغان.
ذكر غير ذلك من الحوادث:

فيها جمع صاحب ملطية وسيواس وغيرهما، وهو كمشتكين بن طيلو المعروف بابن الدانشمند، وإنما قيل له ابن الدانشمند لأن أباه كان معلم التركمان والمعلم عندهم اسمه الدانشمند، فترقى ابنه حتى ملك هذه البلاد، وقصد الفرنج وكانوا قد ساروا إلى قرب ملطية، وأوقع بهم وأسر ملكهم.
وفي هذه السنة توفي أبو علي يحيى بن عيسى بن جذلة الطبيب، صاحب كتاب المنهاج الذي جمع فيه الأدوية والأغذية المفردة والمركبة، كان نصرانياً ثم أسلم، وصنف رسالة في الرد على النصارى وبيان عوار مذهبهم، ومدح فيها الإسلام وأقام الحجة على أنه الدين الحق، وذكر فيها ما قرأه في التوراة والإنجيل في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وأن اليهود والنصارى أخفوا ذلك، وهي رسالة حسنة، وصنف أيضاً في الطب كتاب تقويم الأبدان، وغير ذلك، ووقف كتبه قبل موته، وجعلها في مشهد أبي حنيفة رضي الله عنه.
ذكر ابتداء دولة بيت شاهرمن من ملوك خلاط وفي هذه السنة أعمي سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، كان استيلاء سقمان القطبي، وقيل سكمان بالكاف، على خلاط، وكان سكمان المذكور مملوكاً للملك إسماعيل صاحب مدينة مرند من أذربيجان، ولقب إسماعيل المذكور قطب الدين وكان من بني سلجوق. ولذلك قيل لسكمان المذكور القطبي نسبة إلى مولاه قطب الدين إسماعيل المذكور، وانتشأ سكمان المذكور في غاية الشهامة والكفاية، وكان تركي الجنس وكانت خلاط لبني مروان ملوك ديار بكر، وكان قد كثر ظلمهم لأهل خلاط واتفقوا معه، فسار إليهم سكمان وفتحوا له باب خلاط، وسلموها إليه، وهرب عنها بنو مروان في هذه السنة، واستمر سكمان القطبي مالكاً لخلاط حتى توفي في سنة ست وخمسمائة، وملك خلاط بعده ولده ظهير الدين إبراهيم بن سكمان على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة ذكر الحرب بين الأخوين بركيارق ومحمد قد تقدم ذكر هزيمة بركيارق من أخيه محمد، ثم قتال بركيارق مع أخيه سنجر بخراسان، وهزيمة بركيارق أيضاً، فلما انهزم بركيارق صار إلى خورستان واجتمع عليه أصحابه، ثم أتى عسكر مكرم وكثر جمعه، ثم سار إلى همذان فلحق به الأمير إياز ومعه خمسة آلاف فارس، وسار أخوه محمد إلى قتاله، واقتتلوا ثالث جمادى الآخرة من هذه السنة، وهو المصاف الثاني، واشتد القتال بينهم طول النهار، فانهزم محمد وعسكره، وأسر مؤيد الملك بن نظام الملك وزير محمد، وأحضر إلى السلطان بركيارق فوافقه على ما جرى منه في حق والدته، وقتله السلطان بركيارق بيده، وكان عمر مؤيد الملك لما قتل قريب خمسين سنة، ثم سار السلطان بركيارق إلى الري، وأما محمد فإنه هرب إلى خراسان واجتمع بأخيه سنجر وتحالفا واتفقا، وجمعا الجموع وقصدا أخاهما بركيارق، وكان بالري، فلما بلغه جمعهما سار من الري إلى بغداد وضاقت الأموال على بركيارق، فطلب من الخليفة مالاً، وترددت الرسل بينهما، فحمل الخليفة إليه خمسين ألف دينار، ومد بركيارق يده إلى أموال الرعية، ومرض وقوي به المرض، وأما محمد وسنجر فإنهما استوليا على بلاد أخيهما بركيارق وسارا في طلبه حتى وصلا إلى بغداد، وبركيارق مريض، وقد أيس منه، فتحول إلى الجانب الغربي محمولاً، ثم وجد خفة فسار عن بغداد إلى جهة واسط، ووصل السلطان محمد وأخوه سنجر إلى بغداد فشكى الخليفة المستظهر إليهما سوء سيرة بركيارق، وخطب لمحمد، ثم كان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك ابن عمار مدينة جبل

كان قد استولى على جبلة القاضي أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة، وحاصره الفرنج بها، فأرسل إلى طغتكين أتابك دقاق صاحب دمشق يطلب منه أن يرسل إليه من يتسلم منه جبلة ويحفظها، فأرسل إليها طغتكين ابنه تاج الملوك توري، فتسلم جبلة وأساء السيرة في أهلها، فكاتب أهل جبلة أبا علي ابن محمد بن عمار صاحب طرابلس، وشكوا إليه ما يفعله توري بهم، فأرسل إليهم عسكراً فاجتمعوا وقاتلوا توري فانهزم أصحابه، وملك عسكر ابن عمار جبلة، وأخذ توري أسيراً وحملوه إلى طرابلس، فأحسن إليه ابن عمار وسيره إلى أبيه طغتكين وأما القاضي أبو محمد الذي كان صاحب جبلة المعروف بابن صليحة المذكور، فإنه سار بماله وأهله إلى دمشق، ثم إلى بغداد وبها بركيارق، وقد ضاقت الأموال عليه، فأحضره بركيارق وطلب منه مالاً، فحمل أبو محمد بن صليحة جملة طائلة إلى بركيارق.
ذكر أحوال الباطنية ويسمون الإسماعيلية أول ما عظم أمرهم بعد وفاة السلطان ملكشاه، وملكوا القلاع فمنها قلعة أصفهان وهي مستجدة بناها السلطان ملكشاه، وكان سبب بنائها: أنه كان في الصيد ومعه رسول ملك الروم، فهرب منه كلب وصعد إلى موضع قلعة أصفهان، فقال رسول الروم لملكشاه: لو كان هذا الموضع ببلادنا لبنينا عليه قلعة، فأمر السلطان ببنائها، وتواردت عليها النواب حتى ملكها الباطنية، وعظم ضررهم بسببها وكان يقول الناس: قلعة يدل عليها كلب، ويشير بها كافر، لا بد وأن يكون آخرها إلى شر. ومن القلاع التي ملكوها: ألموت، وهي من نواحي قزوين، قيل إن بعض ملوك الديلم، أرسل عقاباً على الصيد، فقعد على موضع ألموت، فرآه حصيناً فبنى عليه قلعة وسماها إله الراموت. ومعناه بلسان الديلم تعليم العقاب، ويقال لذلك الموضع وما يجاوره طالقان، وكان الحسن بن الصباح رجلاً شهماً عالماً بالهندسة والحساب والجبر وغير ذلك، وطاف البلاد ودخل على المستنصر العلوي خليفة مصر، ثم عاد إلى خراسان وعبر النهر ودخل كاشغر ثم عاد إلى جهة الموت فاستغوى أهله وملكه. ومن القلاع التي ملكوها قلعة طبس وقهستان، ثم ملكوا قلعة وستمكوه، وهي بقرب أبهر سنة أربع وثمانين وأربعمائة واستولوا على قلعة خاليجان، وهي على خمس فراسخ من أصفهان، وعلى قلعة أزدهن ملكها أبو الفتوح ابن أخت الحسن بن الصباح، واستولوا على قلعة كردكوه، وقلعة الطنبور، وقلعة خلا وخان وهي بين فارس وخورستان، وامتدوا إلى قتل الأمراء الأكابر غيلة، فخافهم الناس وعظم صيتهم، فاجتهد السلطان بركيارق على تتبعهم وقتلهم، فقتل كل من عرف من الباطنية.
ذكر غير ذلك:وفي هذه السنة ملك الفرنج مدينة سروج من ديار الجزيرة، فقتلوا أهلها وسبوهم. وفيها ملك الفرنج أيضاً أرسوف بساحل عكا وقبسارية.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة ذكر وفاة المستعلي وخلافة الآمر وفي هذه السنة توفي المستعلي بأمر الله أبو القاسم أحمد بن المستنصر معد العلوي خليفة مصر لسبع عشرة خلت من صفر، وكان مولده في العشرين من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وكانت خلافته سبع سنين وقريب شهرين، وكان المدبر لدولته الأفضل بن بدر الجمالي أمير الجيوش، ولما توفي بويع بالخلافة لابنه أبي علي منصور، ولقب الآمر بأحكام الله، وكان عمر الآمر لما بويع خمس سنين وشهراً وأياماً، وقام بتدبير الدولة الأفضل بن بدر الجمالي المذكور.
ذكر الحرب بين بركيارق وأخيه محمد

كان بركيارق بواسط ومحمد ببغداد على ما تقدم ذكره، فلما سار محمد عن بغداد سار بركيارق من واسط إليه والتقوا بروذراور، وكان العسكران متقاربين في العدة فتصافوا ولم يجر بينهما قتال ومشى الأمراء بينهما في الصلح، فاستقرت القاعدة على أن يكون بركيارق هو السلطان ومحمد هو الملك، ويكون لمحمد من البلاد أذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وتفرق الفريقان من المصاف رابع ربيع الأول من هذه السنة، ثم انتقض الصلح وسار كل منهما إلى صاحبه في جمادى الأولى، واقتتلوا عند الري وهو المصاف الرابع، فانهزم عسكر محمد ونهبت خزانته، ومضى محمد في نفر يسير إلى أصفهان وتتبع بركيارق أصحاب أخيه محمد فأخذ أموالهم، ثم سار بركيارق فحصر أخاه محمداً بأصفهان وضيق عليه، وعدمت الأقوات في أصفهان، ودام الحصار على محمد إلى عاشر ذي الحجة، فخرج محمد من أصفهان هارباً مستخفياً، وأرسل بركيارق خلفه عسكراً فلم يظفروا به، ثم رحل بركيارق عن أصفهان ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة وسار إلى همذان.
ذكر أحوال الموصل في هذه السنة مات كربوغا بخوي من أذربيجان، كان قد أمره بركيارق بالمسير إليها فمات في خوي في ذي القعدة، واستولى على الموصل موسى التركماني. وكان عاملاً لكربوغا على حصن كيفا فكاتبه أهل الموصل فسار وملك الموصل، وكان صاحب جزيرة ابن عمر رجلاً تركياً يقال له شمس الدولة جكرمش، فقصد الموصل واستولى في طريقه على نصيبين، فخرج موسى التركماني من الموصل إلى قتال جكرمش، فغدر بموسى عسكره وصاروا مع جكرمش، فعاد موسى إلى الموصل، وحصره جكرمش بها مدة طويلة، فاستعان موسى بسقمان بن أرتق، وكان سقمان بديار بكر، وأعطاه حصن كيفا، فاستمر الحصن لسقمان وأولاده إلى آخر وقت، فسار سقمان إليه، فرحل جكرش عن الموصل، وخرج موسى لتلقي سقمان، فوثب على موسى جماعة من أصحابه فقتلوه عند قرية تسمى كوانا ودفن على تل هناك يعرف بتل موسى إلى الآن ورجع سقمان إلى حصن كيفا، ثم عاد جكرمش صاحب الجزيرة إلى الموصل وحصرها، ثم تسلمها صلحاً، وملك جكرمش الموصل وأحسن السيرة فيها.
ذكر ما فعله الفرنج
لعنهم الله تعالى وقتل جناح الدولة صاحب حمصفي هذه السنة سار صنجيل الأفرنجي في جمع قليل وحصر ابن عمار بطرابلس ثم وقع الصلح على مال حمله أهل طرابلس إليه، فسار صنجيل إلى أنطرطوس ففتحها وقتل من بها من المسلمين، ثم سار صنجيل وحصر حصن الأكراد، فجمع جناح الدولة صاحب حمص العسكر ليسير إليه، فوثب باطني على جناح الدولة وهو بالجامع فقتله، ولما بلغ صنجيل قتل جناح الدولة رحل عن حصن الأكراد إلى حمص ونازلها وملك أعمالها.
ذكر غير ذلكفيها قتل المؤيد بن مسلم بن قريش أمير بني عقيل قتله بنو نمير عند هيت، وفيها توفي الأمير منصور بن عمارة الحسيني أمير مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وقام ولده مقامه وهم من ولد المهنا.
ثم دخلت سنة ست وتسعين وأربعمائة في هذه السنة في جمادى الآخرة، كان المصاف الخامس بين الأخوين بركيارق ومحمد، ابني ملكشاه فانهزم عسكر محمد أيضاً، وكانت الوقعة على باب خري، وسار بركيارق بعد الوقعة إلى جبل بين مراغة وتبريز كثير العشب والماء، فأقاما به أيام ثم سار إلى زنجان وأما محمد فسار إلى أرجيش على أربعين فرسخاً من موضع الوقعة وهي من أعمال خلاط، ثم سار من أرجيش إلى خلاط.
ذكر ملك دقاق الرحبة فيها سار دقاق بن تنش بن ألب أرسلان صاحب دمشق إلى الرحبة فاستولى عليها وملكها وقرر أمرها، ثم عاد إلى دمشق.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة فيها استولى بلك بن بهرام بن أرتق بن أكسك، وهو ابن أخي سقمان وأيلغازي، على مدينتي عانة والحديثة، وكان لبلك المذكور سروج فأخذها منه الفرنج، فسار واستولى على عانة الحديثة، وأخذهما من بني عيس بن عيسى. وفي هذه السنة في صفر غارت الفرنج على قلعة جعبر والرقة واستاقوا المواشي وأسروا من وجدوه، وكانت الرقة وقلعة جعبر لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي، سلمها إليه السلطان ملكشاه كما تقدم ذكره في سنة تسع وسبعين وأربعمائة لما تسلم منه حلب.
ذكر الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه

في هذه السنة في ربيع الأول وقع الصلح بين بركيارق ومحمد، وكان بركيارق حينئذ بالري والخطبة له بها وبالجبل وطبرستان وفارس وديار بكر وبالجزيرة والحرمين الشريفين، وكان محمد بأذربيجان والخطبة له بها وببلاد سنجر، فإنه كان يخطب لشقيقه محمد إلى ما وراء النهر، ثم إن بركيارق ومحمداً تراسلاً في الصلح واستقر بينهما، وحلفا على ذلك في التاريخ المذكور، وكان الصلح على أن لا يذكر بركيارق في البلاد التي استقرت لمحمد، وأن لا يتكاتبا بل تكون المكاتبة بين وزيريهما، وأن لا يعارض العسكر في قصد أيهما شاء، وأما البلاد التي استقرت لمحمد، ووقع عليها الصلح فهي: من النهر المعروف باسبيدز إلى باب الأبواب وديار بكر والجزيرة والموصل والشام، ويكون له من العراق بلاد صدقة بن مزيد، ولما وصلت الرسل إلى المستظهر الخليفة بالصلح وما استقر عليه الحال، خطب لبركيارق ببغداد وكان شحنة بركيارق ببغداد أيلغازي بن أرتق.
ذكر ملك الفرنج جبيل وعكا من الشام في هذه السنة سار صنجيل وقد وصله مدد الفرنج من البحر إلى طرابلس وحاصرها براً وبحراً، فلم يجد فيها مطمعاً، فعاد عنها إلى جبيل وحاصرها وتسلمها بالأمان، ثم سار إلى عكا، ووصل إليه من الفرنج جمع آخر من القدس، وحصروا عكا في البر والبحر، وكان الوالي بعكا من جهة خليفة مصر، اسمه بنا ولقبه زهر الدولة الجيوشي، نسبة إلى أمير الجيوش، وجرى بينهم قتال طويل حتى ملك الفرنج عكا بالسيف وفعلوا بأهلها الأفعال الشنيعة، وهرب من عكا بنا المذكور إلى الشام ثم سار إلى مصر، وملوك الإسلام إذ ذاك مشتغلون بقتال بعضهم بعضاً، وقد تفرقت الآراء واختلفت الأهواء وتمزقت الأموال، ثم إن الفرنج قصدوا حران فاتفق جكرمش صاحب الموصل وسقمان بن أرتق ومعه التركمان فتحالفا واتفقا وقصدا الفرنج واجتمعا على الخابور، والتقيا مع الفرنج على نهر البليخ، فنصر الله تعالى المسلمين وانهزمت الفرنج، وقتل منهم خلق كثير وأسر ملكهم القومص.
ذكر وفاة دقاق في هذه السنة في رمضان توفي الملك دقاق بن تنش بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق صاحب دمشق، فخطب طغتكين الأتابك بدمشق لابن دقاق وكان طفلاً له سنة واحدة، ثم قطع خطبته وخطب لبلتاش بن تنش عم هذا الطفل في ذي الحجة، ثم قطع خطبة بلتاش وأعاد خطبة الطفل، واستقر طغتكين في ملك دمشق.
ذكر غير ذلك من الحوادثفي هذه السنة سار صدقة بن مزيد صاحب الحلة إلى واسط واستولى عليها، وضمن البطيحة لمهذب الدولة بن أبي الخير بخمسين ألف دينار. وفيها توفي أمين الدولة أبو سعد الحسن بن موصلايا فجأة، وكان قد أضر، وكان بليغاً فصيحاً، خدم الخلفاء خمساً وستين سنة، لأنه خدم القائم سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وكان نصرانياً فأسلم سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وكان كل يوم تزداد منزلته حتى تاب عن الوزارة، وكان كثير الصدقة جميل السيرة ووقف أملاكه على وجوه البر.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة ذكر وفاة بركيارق في هذه السنة ثاني ربيع الآخر توفي السلطان بركيارق بن ملكشماه بن ألب أرسلان بن داود ابن ميكائيل بن سلجوق، وكان مرضه السل والبواسير، وكان بأصفهان، فسار طالباً بغداد، فقوي به المرض في بروجرد، فجمع العسكر وحلفهم لولده ملكشاه وعمره حينئذ أربع سنين وثمانية أشهر، وجعل الأمير أياز أتابكه فحلف العسكر له، وأمرهم بالمسير إلى بغداد وتوفي بركيارق ببروجرد ونقل إلى أصفهان فدفن بها في تربة عملتها له سريته، ثم ماتت عن قريب فدفنت بإزإئه. وكان عمر بركيارق خمساً وعشرين سنة، وكانت مدة وقوع السلطنة عليه اثنتي عشرة سنة وأربعة أشهر، وقاسى من الحروب واختلاف الأمور عليه ما لم يقاسه أحد، واختلفت به الأحوال بين رخاء وشدة، وملك وزواله، وأشرف عدة مرات على ذهاب مهجته في الأمور التي تقلبت به، ولما استقام أمره وأطاعه المخالفون أدركته منيته، واتفق أنه كلما خطب له ببغداد وقع فيها الغلاء وقاسى من طمع أمرائه فيه شدائد، حتى إنهم كانوا يحضرون نوابه ليقتلوهم، وكان صابراً حليماً كريماً حسن المداراة كثير التجاوز، ولما مات بركيارق سار أياز بالعسكر ومعه ملكشاه بن بركيارق، ودخلوا بغداد سابع عشر ربيع الآخر من هذه السنة وخطب لملكشاه بجوامع بغداد على قاعدة أبيه بركيارق.

ذكر قدوم السلطان محمد إلى بغداد لما بلغ محمداً موت أخيه بركيارق، سار إلى بغداد ونزل بالجانب الغربي وبقي أياز وملكشاه بالجانب الشرقي، وجمع أياز العسكر لقتال محمد، ثم إن وزير أياز أشار عليه بالصلح ومشى بينهما، واتفق الصلح، وحضر الكيا الهراس مدرس النظامية والفقهاء وحلفوا محمد الأياز وللأمراء الذين معه، وحضر أياز والأمراء إلى عند محمد وأحضروا ملكشاه، فأكرمه وأكرمهم وصارت السلطنة لمحمد، وكان ذلك لسبع بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، واستمر الأمر على ذلك إلى ثامن جمادى الآخرة فعمل أياز دعوة عظيمة للسلطان محمد في داره ببغداد، فحضر إليه وقدم له أياز أموالاً عظيمة، وفي ثالث عشر جمادى الآخرة طلب السلطان أيازاً وأوقف له في الدهليز جماعة، فلما دخل ضربوه بسيوفهم حتى قتلوه، وكان عمر أياز قد جاوز أربعين سنة، وهو من جملة مماليك السلطان ملكشاه، وكان غزير المروة شجاعاً، وأمسك الصفي وزير أياز وقتل في رمضان وعمره ست وثلاثون، سنة وكان من بيت رئاسة بهمذان.
ذكر وفاة سقمان في هذه السنة توفي سقمان بن أرتق بن أكسب، كذا ذكره ابن الأثير أنه أكسب بالباء، وصوابه أكسك بكافين، ذكر ذلك أيضاً ابن خلكان، وكان وفاة سقمان في القريتين لأنه كان متوجهاً إلى دمشق، باستدعاء طغتكين بسبب الفرنج، ليجعله مقابلتهم بحكم مرض طغتكين، فلحق سقمان الخوانيق في مسيره فتوفي في القريتين في صفر من هذه السنة، وخلف سقمان اثنين هما إبراهيم وداود، وحمل سقمان في تابوت إلى حصن كيفا فدفن به، ولما مات سقمان كان مالكاً لحصن كيفا ماردين، أما ملكه لحصن كيفا فقد ذكرنا ذلك، وصورة تسليم موسى التركماني صاحب الموصل الحصن له لما استنجد به على جكرمش، وأما ملكه ماردين فنحن نورده من أول الحال.
وهو أن ماردين كان قد وهبها هي وأعمالها، السلطان بركيارق لإنسان مغن، ووقع حرب بين كربوغا صاحب الموصل وبين سقمان، وكان مع سقمان ابن أخيه ياقوتي وعماد الدين زنكي ابن أقسنقر، وهو إذ ذاك صبي، فانهزم سقمان وأخذ ابن أخيه ياقوتي أسيراً، فحبسه كربوغا في قلعة ماردين، وبقي ياقوتي في حبسه مدة، فمضت زوجة أرتق إلى كربوغا وسألته في إطلاق ابن ابنها ياقوتي، فأجابها كربوغا إلى ذلك وأطلقه، فأعجبت ياقوتي ماردين، وأرسل يقول لصاحبها المغني إن أذنت لي سكنت في ربض قلعتك وجلبت إليها الكوبات وحميتها من المفسدين، ويحصل لك بذلك النفع، فأذن له المغني بالمقام في الربض فأقام ياقوتي بماردين.
وجعل يغير من باب خلاط إلى بغداد ويستصحب معه حفاظ قلعة ماردين ويحسن إليهم ويؤثرهم على نفسه، فاطمأنوا إليه، وسار مرة ونزل معه أكثرهم، فقيدهم وقبضهم وأتى إلى باب قلعة ماردين ونادى من بها من أهليهم إن فتحتم الباب وسلمتم إلي القلعة وإلا ضربت أعناقهم جميعهم، فامتنعوا، فأحضر واحداً منهم وضرب عنقه، ففتحوا له باب القلعة وتسلمها ياقوتي وأقام بها، ثم جمع ياقوتي جمعاً وقصد نصيبين، ولحقه مرض حتى عجز عن لبس السلاح وركوب الخيل، وحمل على فرسه وركبه، فأصابه سهم فسقط ياقوتي منه ومات، ثم ملك ماردين بعد ياقوتي أخوه علي، وصار في طاعته جكرمش صاحب الموصل، واستخلف على ماردين بعض أصحابه وكان اسمه علياً أيضاً، فأرسل علي يقول لسقمان: إن ابن أخيك يريد أن يسلم ماردين إلى جكرمش، فسار سقمان بنفسه وتسلم ماردين، فطالبه ابن أخيه علي بردها إليه، فلم يفعل سقمان ذلك، وأعطاه جبل جور عوضها، واستقرت ماردين وحصن كيفا لسقمان حتى سار إلى دمشق ومات بالقريتين، فصارت ماردين لأخيه أيلغازي بن أرتق، وصارت حصن كيفا لابنه إبراهيم بن سقمان المذكور، وبقي إبراهيم بن سقمان مالكاً لحصن كيفا حتى توفي، وملكها بعده أخوه داود بن سقمان حتى توفي، وملكها بعدهما قرا أرسلان بن داود حتى توفي في سنة اثنتين وستين وخمسمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلك:

وفي هذه السنة اجتمعت الحجاج من الهند وما وراء النهر وخراسان وغيرها، وساروا فلما وصلوا جوار الري، أتاهم الباطنية وقت السحر، فوضعوا فيهم السيف وقتلوهم، ونهبوا أموالهم ودوابهم، وفيها كانت وقعة بين فرنج أنطاكية والملك رضوان بن تنش صاحب حلب، عند شيزر، فانهزم المسلمون وأسر وقتل منهم كثير، واستولى الفرنج على أرتاح. وفيها توفي محمد بن علي بن الحسن المعروف بابن أبي الصقر، كان فقيهاً شافعياً، وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وغلب عليه الشعر فاشتهر به، فمن قوله لما كبر.
ابن أبي الصقر افتكر ... وقال في حال الكبر
والله لولا بولة ... تحرقني وقت السحر
لما ذكرت أن لي ... ما بين فخذي ذكر
وكانت ولادته في نحو سنة سبع وأربعمائة.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة في هذه السنة سار سيف الدولة صدقة بن مزيد من الحلة إلى البصرة فملكها.
ذكر اتصال ابن ملاعب بملك أفامية
واستيلاء الفرنج عليها:كان خلف بن ملاعب الكلابي صاحب حمص، وكان رجاله وأصحابه يقطعون الطريق على الناس، فكان الضرر بهم عظيماً، فسار صاحب دمشق تنش بن ألب أرسلان إليه، وأخذ حمص منه، كما تقدم ذكره في سنة خمس وثمانين وأربعمائة ثم تقلبت بخلف بن ملاعب المذكور الأحوال، إلى أن دخل مصر وأقام بها، واتفق أن متولي أفامية من جهة رضوان بن تنش صاحب حلب، كان يميل إلى مذهب خلفاء مصر، فكاتبهم في الباطن في أن يرسلوا من يسلم إليه أفامية وقلعتها، فطلب ابن ملاعب أن يكون هو الذي يرسلونه لتسليم أفامية فأرسلوه، وتسلم أفامية وقلعتها، فلما استقر خلف بن ملاعب الكلابي المذكور بأفامية، خلع طاعة المصريين ولم يرع حقهم، وأقام بأفامية يقطع الطريق ويخيف السبيل، فاتفق قاضي أفامية وجماعة من أهلها وكاتبوا الملك رضوان صاحب حلب؛ في أن يرسل إليهم جماعة ليكبسوا أفامية بالليل، وأنهم يسلمونها إليهم، فأرسل رضوان مائة، فأصعدهم القاضي والمتفقون معه بالحبال إلى القلعة، فقتلوا ابن ملاعب وبعض أولاده، وهرب البعض، واستولوا على قلعة أفامية، ثم سار الفرنج إلى أفامية وحاصروها وملكوا البلد والقلعة وقتلوا القاضي المتغلب عليها.
ذكر حال طرابلس مع الفرنج كان صنجيل قد ملك مدينة جبلة، ثم سار وأقام على طرابلس، فحصرها وبنى بالقرب منها حصناً، وبنى تحته ربضاً، وهو المعروف بحصن صنجيل، فخرج الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس فأحرق الربض، ووقف صنجيل على بعض سقوفه المحرقة، فانخسف به، فمرض صنجيل، لعنه الله، من ذلك، وبقي عشرة أيام ومات وحمل إلى القدس ودفن فيها، ودام الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين، وظهر من صاحبها ابن عمار صبر عظيم، وقلت الأقوات بها، وافتقرت الأغنياء.
ثم دخلت سنة خمسمائة.
ذكر وفاة يوسف بن تاشفين في هذه السنة توفي أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ملك الغرب والأندلس وكان حسن السيرة، وكان قد أرسل إلى بغداد فطلب التقليد من المستظهر خليفة بغداد، فأرسل إليه الخلع والتقليد، ويوسف المذكور هو الذي بنى مدينة مراكش، ولما مات يوسف ملك البلاد بعده ابنه علي بن يوسف بن تاشفين، وتلقب أيضاً بأمير المسلمين.
ذكر قتل فخر الدولة بن نظام الملك في هذه السنة قتل فخر الدولة أبو المظفر علي بن نظام الملك، يوم عاشوراء، وكان أكبر أولاد نظام الملك، وزّر لبركيارق، ثم لأخيه سنجر بن ملكشاه، وكان قد أصبح في يوم قتل صائماً بنيسابور. وقال لأصحابه: رأيت الليلة في المنام الحسين بن علي وهو يقول: عجل إلينا وليكن إفطارك عندنا، وقد اشتغل فكري ولا محيد عن قضاء الله تعالى. فقالوا الصواب أن لا تخرج اليوم، فأقام يومه يصلي ويقرأ القران، وتصدق بشيء كثير، وخرج العصر من الدار التي كان بها، يريد دار النساء، فسمع صياح متظلم شديد الحرقة، فأحضره وقال: ما حالك؟ فدفع رقعة، فبينما فخر الدولة يتأملها إذ ضربه بسكين فقتله. وأمسك الباطني وحمل إلى السلطان سنجر فقرره، فأقر على جماعة كذباً فقتل هو وتلك الجماعة.
ذكر ملك صدقة تكريت

في هذه السنة ملك سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد قلعة تكريت، سلمها إليه كيقباذ بن هزارسب الديلمي، وكانت تكريت لبني مقن، برهة من الزمان، ثم خرجت عنهم وتنقلت في أيدي غيرهم، حتى صارت لأقسنقر صاحب حلب، ثم لكوهراتين ثم لمجد الملك البلاساني، فولى عليها كيقباذ المذكور، وبقيت في يده حتى سلمها في هذه السنة لصدقة المذكور.
ذكر ملك جاولي الموصلي
وموت جكرمش وقليج أرسلانفي هذه السنة أقطع السلطان محمد جاولي، سقاوة الموصل، والأعمال التي بيد جكرمش فسار، جاولي حتى قارب الموصل فخرج جكرمش لقتاله في محفة، لأنه كان قد لحقه طرف فالج، واقتتلا، وانهزم عسكر جكرمش، وأخذ جكرمش أسيراً من المحفة، وسار جاتولي بعد الوقعة، وحصر الموصل، وكان قد أقام أصحاب جكرمش زنكي بن جكرمش، وملك الموصل، وله إحدى عشرة سنة، وبقي جاولي يطوف بجكرمش حول الموصل أسيراً وهو يأمرهم بتسليم البلد، فلم يقبلوا منه، ومات جكرمش في تلك الحال وعمره نحو ستين سنة، وكان قد عظم ملك جكرمش، وهو الذي على سور الموصل وحصنها، وكاتب أهل الموصل قليج أرسلان بن سليمان بن قطلمش السلجوقي صاحب بلاد الروم، يستدعونه، فسار قاصد الموصل. فلما وصل إلى نصيبين رحل جاولي عن الموصل خوفاً منه، وسار إلى الرحبة، ووصل قليج أرسلان إلى الموصل وتسلمها في الخامس والعشرين من رجب من هذه السنة، ثم استخلف قليج أرسلان ابنه ملكشاه بن قليج أرسلان على الموصل، وعمره إحدى عشرة سنة، وأقام معه أميراً يدبره، وسار قليج أرسلان إلى جاولي، وكان قد كثر جمع جاولي، واجتمع إليه رضوان صاحب حلب وغيره، ولما وصل قليج أرسلان إلى الخابور وصل إليه جاولي واقتتلوا في العشرين من ذي القعدة، وقاتل قليج أرسلان بنفسه قتالاً عظيماً، فانهزم عسكره واضطر قليج أرسلان إلى الهروب، فألقى نفسه في الخابور فغرق وظهر بعد أيام، ودفن بالشميسانية، وهي من قرى الخابور، ولما فرغ جاولي من الوقعة سار إلى الموصل فسلمت إليه بالأمان، وسار ملكشاه بن قليج أرسلان إلى عند السلطان محمد.
ذكر قتل الباطنية في هذه السنة حاصر السلطان محمد قلعة الباطنية التي بالقرب من أصفهان، التي بناها ملكشاه بإشارة رسول ملك الروم، على ما قدمنا ذكره، وكان اسم القلعة شاه دز وكانت المضرة بها عظيمة، وأطال عليها الحصار، ونزل بعض الباطنية بالأمان وساروا إلى باقي قلاعهم، وبقي صاحب شاه دز واسمه أحمد بن عبد الملك بن عطاش مع جماعة يسيرة، فزحف السلطان عليه وقتله وقتل جماعة كثيرة من الباطنية، وملك القلعة وخربها.
وفي هذه السنة توفي الأمير شرخاب بن بدر بن مهلهل المعروف بابن أبي الشوك الكردي، وكان له أموال وخيول لا تحصى، وقام مقامه بعده أخوه منصور بن بدر، وبقيت الإمارة في بيته مائة وثلاثين سنة.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة.
ذكر مقتل صدقة في هذه السنة في رجب قتل سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأسدي أمير العرب، في قتال جرى بينه وبين السلطان محمد، واشتد القتال بينهم، وقتل صدقه في المعركة بعد أن قاتل قتالاً شديداً، وحمل رأسه إلى السلطان محمد، وكان عمر صدقة تسعاً وخمسين سنة، وإمارته إحدى وعشرين سنة، وقتل من أصحابه ما يزيد على ثلاثة آلاف فارس، وكان صدقة متشيعاً وهو الذي بنى الحلة بالعراق. وأقول: إنه قد تقدم ذكر الحلة قبل وجود صدقة المذكور، فكيف يكون هو الذي بناها؟ لكن كنا نقلناه من الكامل لابن الأثير، وكان قد عظم شأنه وعلا قدره واتسع جاهه واستجار به صغار الناس وكبارهم، وكان مجتهداً في النصح للسلطان محمد، حتى أنه جاهر بركيارق بالعداوة ولم يبرح على مصافاة محمد، ثم فسد ما بينهما حتى قتل صدقة كما ذكرنا، وكان سبب الفساد بينهما حماية صدقة لكل من خاف من السلطان، واتفق أن السلطان محمد أغضب على أبي دلف شرخاب بن كيخسرو صاحب ساوة، فهرب صاحب ساوة المذكور واستجار بصدقة، وأرسل السلطان يؤكد في إرساله وطلبه، فلم يفعل صدقة أن يسلمه، فسار إليه السلطان واقتتلوا كما ذكرنا، فقتل صدقة وأسر ابنه دبيس بن صدقة، وأسر شرخاب صاحب سارة المذكور.
ذكر وفاة تميم بن المعز

في هذه السنة في رجب توفي تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية وكان تميم ذكياً حليماً، وكان ينظم الشعر، وكان عمره تسعاً وسبعين سنة، وكانت ولايته ستاً وأربعين سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً، وخلّف من الأولاد مائة ابن، أربعين ذكراً وستين بنتاً. ولما توفي ملك بعده ابنه يحيى بن تميم، وكان عمر يحيى حين ولي ثلاثاً وأربعين سنة وستة أشهر.
ذكر غير ذلك من الحوادثفي هذه السنة توجه فخر الملك أبو علي بن عمار من طرابلس إلى بغداد مستنفراً لما حل بطرابلس وبالشام من الفرنج، واجتمع بالسلطان محمد وبالخليفة المستظهر، فلم يحصل منهما غرض، فعاد إلى دمشق وأقام عند طغتكين، وأقطعه الزبداني، وأما طرابلس فإن أهلها دخلوا في طاعة خليفة مصر، وخرجوا عن طاعة ابن عمار، وكان من أمر طرابلس ما سنذكره.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسمائة في هذه السنة أرسل السلطان محمد عسكراً فيهم عدة من أمرائه الكبار، مع أمير يقال له مودود بن الطغتكين إلى الموصل ليأخذوها من جاولي، فوصلوا إلى الموصل وحصروها، وتسلمها الأمير مودود في صفر، وأما جاولي فإنه لم ينحصر بالموصل وهرب إلى الرحبة قبل نزول العسكر عليها، ثم سار جاولي مجداً ولحق السلطان محمداً قريب أصفهان، وأخذ كفنه معه ودخل عليه، وطلب العفو، فعفا عنه وأمّنه.
ذكر غير ذلك من الحوادثفي هذه السنة تولى مجاهد الدين بهروز شحنكية بغداد، ولاه إياها السلطان محمد، وأمر بهروز بعمارة دار المملكة ببغداد، ففعل بهروز ذلك وأحسن إلى الناس وكان السلطان لما ولاه، في أصفهان، ثم لما قدم السلطان إلى بغداد، ولى بهروز شحنكية العراق جميعه.
وفي هذه السنة في فصح النصارى نزل الأمراء بنو منقذ أصحاب شيزر منها، للتفرج على عيد النصارى فثار جماعة من الباطنية في حصن شيزر، فملكوا قلعة شيزر، وبادر أهل المدينة إلى الباشورة، وأصعدهم النساء بالحبال من الطاقات وأدركهم الأمراء بنو منقذ ووقع بينهم القتال، فانخذل الباطنية وأخذهم السيف كل جانب، فلم يسلم منهم أحد. وفي هذه السنة في جمادى الآخرة توفي الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي أحد أئمة اللغة. قرأ على أبي العلاء سليمان المعري، وضيره، وسمع الحديث بمدينة صور من الفقيه سليم بن أبو الرازي وغيره. وروى عنه أبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي وغيره، وتخرج عليه خلق كثير، وتتلمذوا له، قال في وفيات الأعيان: وقد روي أنه لم يكن بمرضي الطريقة، وشرح الحماسة، وديوان المتنبي، وله في النحو مقدمة وهي عزيزة الوجود وله في إعراب القرآن كتاب سماه المخلص في أربع مجلدات، وله غير ذلك التواليف الحسنة المفيدة، سافر من تبريز إلى المعرة لقصد أبي العلاء ودخل مصر في عنفوان شبابه، وقرأ بها على طاهر بن بايشاذ، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها إلى الممات، وكانت ولادته سنة إحدى وعشرين وأربعمائة وتوفي فجأة في التاريخ المذكور ببغداد. وفيها توفي أبو الفوارس الحسن بن علي الخازن المشهور بجودة الخط وله شعر حسن.
ثم دخلت سنة ثلاث. وخمسمائة.
ذكر ملك الفرنج طرابلس في هذه السنة في حادي عشر ذي الحجة، ملك الفرنج مدينة طرابلس، لأنهم ساروا إليها من كل جهة، وحصروها في البر والبحر، وضايقوها من أول رمضان، وكانت في يد نواب خليفة مصر العلوي، وأرسل إليها خليفة مصر أسطولاً، فرده الهواء ولم يقدر على الوصول إلى طرابلس، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وملكوها بالسيف فقتلوا ونهبوا وسبوا، وكان بعض أهل طرابلس، قد طلبوا الأمان، وخرجوا منها إلى دمشق قبل أن يملكها الفرنج.

ثم في دخلت سنة أربع وخمسمائة في هذه السنة ملك الفرنج مدينة صيدا في ربيع الآخر، وملكوها بالأمان، وفيها سار صاحب. أنطاكية مع من اجتمع إليه من الفرنج إلى الأثارب، وهي بالقرب من حلب، وحصروها، ودام القتال بينهم، ثم ملكوها بالسيف وقتلوا من أهلها ألفي رجل وأسروا الباقين، ثم ساروا إلى ذردنا فملكوها بالسيف، وجرى لهم كما جرى لأهل الأثارب، ثم سار الفرنج إلى منبج وبالس، فوجدوهما قد أخلاهما أهلهما فعادوا عنهما، وصالح الملك رضوان صاحب حلب الفرنج على اثنين وثلاثين ألف دينار، يحملها إليهم مع خيول وثياب، ووقع الخوف في قلوب أهل الشام من الفرنج، فبذلت لهم أصحاب البلاد أموالاً، وصالحوهم، فصالحهم أهل مدينة صور على سبعة آلاف دينار، وصالحهم إبن منقذ صاحب شيزر على أربعة آلاف دينار، وصالحهم علي الكردي صاحب حماه على ألفي دينار.
ذكر غير ذلكوفي هذه السنة توفي الكيا الهراسي الطبري، والكيا بالعجمية: الكبير القدر المقدّم بين الناس، واسمه أبو الحسن علي بن محمد بن علي، ومولده سنة خمسين وأربعمائة وكان من أهل طبرستان، وخرج إلى نيسابور وتفقه على إمام الحرمين، وكان حسن الصورة، جهوري الصوت، فصيح العبارة،، ثم خرج إلى للعراق وتولى تدريس النظامية.
وفي هذه السنة أعني سنة أربع وخمسمائة، قال ابن خلكان في ترجمة الآمر منصور العلوي، وقيل في سنة إحدى عشرة وخمسمائة قصد بردويل الفرنجي الديار المصرية، فانتهى إلى الفرما، ودخلها وأحرقها، وأحرق جامعها ومساجدها، ورحل عنها راجعاً إلى الشام وهو مريض، فهلك في الطريق قبل وصوله إلى العريش، فشقه أصحابه ورموا حشوته هناك، فهي ترجم إلى اليرم، ورحلوا بجثته فدفنوها بقمامة، وسبخة بردويل التي في وسط الرمل على طريق الشام منسوبة إلى بردويل المذكور، والناس يقولون عن الحجارة الملقاة هناك إنها قبر بردويل، وإنما هي هذه الحشوة، وكان بردويل المذكور صاحب بيت المقدس وعكا ويافا وعدة من بلاد ساحل الشام، وهو الذي أخذ هذه البلاد المذكورة من المسلمين.
ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة فيها جهز السلطان محمد عسكراً فيه صاحب الموصل مودود، وغيره من صحاب الأطراف إلى قتال الفرنج بالشام، فساروا ونزلوا على الرها، فلم يملكوها، فرحلوا ووصلوا إلى حلب، فخاف منهم الملك رضوان بن تنش صاحب حلب، وغلق بواب حلب ولم يجتمع بهم، ولا فتح لهم أبواب المدينة، فساروا إلى المعرة ثم افترقوا، ولم يحصل لهم غرض.
وفي هذه السنة في جمادى الآخرة توفي الإمام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الملقب حجة الإسلام زين الدين الطوسي، اشتغل بطوس، ثم قدم نيسابور، واشتغل على إمام الحرمين، واجتمع بنظام الملك فأكرمه وفوض إليه تدريس مدرسة النظامية ببغداد، في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ثم ترك جميع ما كان عليه في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وسلك طريق التزهد والانقطاع، وحج وقصد دمشق وأقام بها مدة، ثم انتقل إلى القدس واجتهد في العبادة، ثم قصد مصر وأقام بإسكندرية مدة، ثم عاد إلى وطنه بطوس وصنف الكتب المفيدة المشهورة، منها البسيط، والوسيط، والوجيز، والمنخول والمنتخل في علم الجدل، وكانت ولادته سنة خمسين وأربعمائة ونسبه إلى طوس من خراسان، وطوس مدينتان، تسمى إحداهما طابران، والأخرى نوقان، والغزالي نسبة إلى الغرال، والعجم تقول في القصّار قصاري، وفي الغزال غزالي وفي العطار عطاري.
ثم دخلت سنة ست وخمسمائة فيها توفي بسيل الأرميني صاحب بلاد الأرمني، فقصدها صاحب أنطاكية الفرنجي ليملك بلاد الأرمن المعروفة الآن ببلاد سيس، فمات في الطريق وملكها سيرجال.
وفيها توفي قراجا صاحب حمص، وقام بعده ولده قيرخان.

وفيها توفي سكمان أو سقمان القطبي، صاحب خلاط، وكان قد ملك خلاط في سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة حسبما تقدم ذكره هناك، ولما توفي سكمان ملك خلاط بعده ولده ظهير الدين إبراهيم بن سكمان وسلك سيرة أبيه، وبقي في ملك خلاط حتى توفي في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، فتولى مكانه أخوه أحمد بن سكمان، وبقي أحمد في الولاية عشرة أشهر وتوفي، فحكمت والدتهما وهي إينانج خاتون، وهي ابنه أركمان على وزن أفخران، وبقيت مستبدة بمملكة خلاط، ومعها ولد ولدها سكمان بن إبراهيم بن سكمان، وكان عمره ست سنين، فقصدت جدته إينانج المذكورة إعدامه، لتنفرد بالمملكة، فلما رأى كبراء الدولة سوء نيتها لولد ولدها المذكور، اتفق جماعة وخنقوا إينانج المذكورة في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، واستقر ابن ابنها شاهرمن سكمان بن إبراهيم المذكور بن سكمان في الملك حتى توفي في سنة تسع وسبعين وخمسمائة حسبما نذكره إن شاء الله تعالى.
أثم دخلت سنة سبع وخمسمائة.
ذكر الحرب مع الفرنج
وقتل مودود بن الطونطاش صاحب الموصل:في هذه السنة اجتمع المسلمون وفيهم مودود صاحب الموصل، وتميرك صاحب سنجار، والأمير أياز بن أيلغازي وطغتكين صاحب دمشق، وكان مودود قد سار من الموصل إلى دمشق، فخرج طغتكين والتقاه بسلمية، وسار معه إلى دمشق واجتمعت الفرنج وفيهم بغدوين صاحب القدس، وجوسلين صاحب الحلس واقتتلوا بالقرب من طبرية، ثالث عشر المحرم، وهزم الله الفرنج وكثر القتل فيهم، ورجع المسلمون منصورين إلى دمشق ودخلوها في ربيع الأول، ودخل الجامع مودود وطغتكين وأصحابهما وصلوا الجمعة، وخرج طغتكين ومودود يتمشيان في بعض صحن الجامع، فوثب باطني على مودود وضربه بسكين، وقتل الباطني وأخذ رأسه، وحمل مودود إلى دار طغتكين وكان صائماً واجتهدوا به أن يفطر فلم يفعل، ومات من يومه رحمه الله تعالى، وكان خيرّاً عادلاً، قيل إن الباطنية الذين بالشام خافوه فقتلوه، وقيل: إن طغتكين خافه فوضع عليه من قتله ودفن مودود بدمشق في تربة دقاق بن تنش، ثم نقل إلى بغداد فدفن في جوار أبي حنيفة ثم نقل إلى أصفهان.
ذكر وفاة رضوان في هذه السنة توفي الملك رضوان بن تنش بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق صاحب حلب، وقام بملك حلب بعده ابنه ألب أرسلان الأخرس ابن رضوان، وكانت سيرة رضوان غير محمودة، وقتل رضوان قبل موته أخويه أبا طالب وبهرام، وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقلة دينه، وكانت ولاية رضوان في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة في سنة قتل أبوه تنش، ولما ملك الأخرس بن رضوان استولى على الأمور لؤلؤ الخادم، وكان الحكم والأمر إليه، ولم يكن ألب أرسلان المذكور أخرس حقيقة، وإنما كان في لسانه حبسة وتمتمة، وكانت أم الأخرس بنت باغي سيان صاحب أنطاكية، وكان عمره حين ولي ست عشرة سنة، ولما مات رضوان ملك ألب أرسلان، قتلت الباطنية الذين كانوا بحلب، وكانوا جماعته ولهم صورة ونهبت أموالهم.
ذكر غير ذلكفي هذه السنة توفي إسماعيل بن أحمد الحسين البيهقي الإمام ابن الإمام وتوفي ببيهق، ومولده سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وفيها توفي محمد بن أحمد بن محمد الأبيوردي الأديب الشاعر وله شعر حسن فمنه:
تنكر لي دهري ولم يدر أنني ... أعز وأهوال الزمان تهون
وظل يريني الخطب كيف اعتداؤه وبت أريه الصبر كيف يكون وكانت وفاته بأصفهان وهو من بني أمية.
وفيها توفي محمد بن أحمد بن أبي الحسن بن عمر، وكنيته أبو بكر الشاشي الفقيه الشافعي، ومولده سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وتفقه على أبي إسحق الشيرازي ببغداد، وعلى أبي نصر بن الصباغ، وصنف المستظهر بالله كتابه المعروف بالمستظهري.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة فيها أرسل السلطان محمد بن ملكشاه أقسنقر البرسقي والياً على الموصل لما بلغه قتل مودود بن الطنطاش صاحب الموصل، وأمر السلطان الأمراء وأصحاب الأطراف بالسير بصحبة البرسقي لقتال الفرنج، وجرى بين البرسقي وأيلغازي بن أرتق صاحب ماردين قتال انتصر فيه

أيلغازي وهرب البرسقي، ثم خاف أيلغازي من السلطان فسار إلى طغتكين صاحب دمشق، فاتفق معه وكاتباً الفرنج واعتضدا بهم، ثم عاد أيلغازي من دمشق إلى جهة بلاده، فلما قرب من حمص وكان في جماعة قليلة، خرج قيرخان بن قراجا صاحب حمص، وأمسك أيلغازي وبقي في أسره مدة، ثم تحالفا وأطلقه.
ذكر وفاة صاحب غزنة في هذه السنة في شوال، توفي الملك علاء الدولة أبو سعد مسعود بن إبراهيم ابن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة، كان ملكه في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وملك بعده ابنه أرسلان شاه بن مسعود، وأمسك إخوته، وهرب، من إخوته بهرام شاه، واستجار بالسلطان سنجر بن ملكشاه صاحب خراسان، وأرسل سنجر إلى أرسلان شاه يشفع في بهرام شاه فلم يقبل منه، فسار السلطان سنجر إلى غزنة، وجمع أرسلان شاه عساكره وخيوله، واقتتلوا واشتد القتال بينهم، فانهزم عسكر غزنة، وانهزم أرسلان شاه، ودخل سنجر غزنة واستولى عليها في سنة عشر وخمسمائة، وأخذ منها أموالاً عظيمة، وقرر السلطنة لبهرام شاه بن مسعود، وأن يخطب في مملكته للسلطان محمد، ثم للملك سنجر ثم للسلطان وبهرام شاه المذكور، ثم عاد سنجر إلى بلاده، وكان أرسلان شاه قد هرب إلى جهة هندستان، ثم جمع جمعاً وعاد إلى غزنة فاستنجد بهرام شاه بسنجر ثانياً، فأرسل إليه عسكراً، فلما قاربوا أرسلان شاه هرب من غير قتال، وتبعوه حتى أمسكوه، فخنق بهرام شاه أخاه أرسلان شاه، ودفنه بتربة أبيه بغزنة، وكان قتل أرسلان شاه في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وقدمنا ذكره لنتبع الحادثة بعضها بعضاً، وكان عمر أرسلان شاه لما قتل سبعاً وعشرين سنة.
ذكر مقتل صاحب حلب في هذه السنة قتل تاج الدولة ألب أرسلان الأخرس، صاحب حلب ابن الملك رضوان بن تنش بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، قتلة غلمانه بقلعة حلب، وأقاموا بعده أخاه سلطان شاه بن رضوان، وكان المتولي على الأمر لؤلؤ الخادم.
ثم دخلت سنة تسع وخمسمائة فيها أرسل السلطان محمد بن ملكشاه عسكراً ضخماً لقتال طغتكين صاحب دمشق، وأيلغازي صاحب ماردين، فعبر العسكر الفرات من الرقة وقصدوا حلب، فعصت عليهم، فساروا إلى حماة وهي لطغتكين، فحصروها وفتحوها عنوة، ونهبوا الأموال ثلاثة أيام، ثم سلموا حماة إلى الأمير قيرخان بن قراجا صاحب حمص، وأقام العسكر بحماة واجتمع بأفامية أيلغازي وطغتكين وملوك الفرنج، وهم صاحب أنطاكية، وصاحب طرابلس وغيرهما، وأقاموا بأفامية ينتظرون تفرق المسلمين، فلما أقام عسكر المسلمين إلى الشتاء، تفرق الفرنج وسار طغتكين إلى دمشق، وأيلغازي إلى ماردين، ثم سار المسلمون من حماة إلى كفرطاب وهي للفرنج، فاستولوا عليها وقتلوا من بها من الفرنج ونهبوهم، ثم سار المسلمون إلى المعرة، وهي للفرنج، ثم ساروا منها إلى حلب، فكبسهم صاحب أنطاكية في أثناء الطريق، فانهزمت المسلمون، وقتل الفرنج فيهم، ونهبوهم، وهرب من سلم منهم إلى بلاده.
وفي هذه السنة: استولى الفرنج على رفنية، وكانت لطغتكين أيضاً ثم سار طغتكين من دمشق واسترجعها إلى ملكه وقتل من بها من الفرنج.
ذكر وفاة صاحب إفريقية في هذه السنة توفي يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية يوم عيد الأضحى فجأة، وتولى بعده ابنه علي بن يحيى، وكان عمر يحيى اثنتين وخمسين سنة، وولايته ثمان سنين وخمسة أشهر وخلّف ثلاثين ولداً.
ذكر غير ذلكفيها قدم السلطان محمد إلى بغداد، فسار إليه طغتكين من دمشق ودخل عليه وسأل الرضى عنه، فرضي عنه ورده إلى دمشق، وفيها أخذ السلطان الموصل وما كان معها من أقسنقر البرسقي، وأقطعها للأمير جيوش بك وبقي البرسقي في الرحبة وكانت أقطاعه.
ثم دخلت سنة عشرة وخمسمائة في هذه السنة مات جاولي سقاوه بفارس وكان السلطان محمد بن ملكشاه قد ولاه فارس، بعد أخذ الموصل منه علي ما تقدم ذكره. وفيها وقيل بل في سنة ست عشرة وخمسمائة توفي بمروالروز أبو محمد الحسن بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي الفقيه المحدث، كان بحراً في العلوم صنف كتباً عدة منها: التهذيب في الفقه، والمصابيح في الحديث، والجمع بين الصحيحين، وغير ذلك، والفراء نسبة إلى عمل الفراء والبغوي نسبة إلى بلدة بخراسان يقال لها بغ وبغشور أيضاً.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وخمسمائة.

ذكر وفاة السلطان محمد في هذه السنة في رابع وعشرين ذي الحجة توفي السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وابتدأ مرضه من شعبان، ومولده ثامن عشر شعبان من سنة أربع وسبعين وأربعمائة، فكان عمره ستاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وأول ما خطب له ببغداد في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وقطعت خطبته عدة دفعات، ولقي من المشاق والأخطار ما لا زيادة عليه، وكان عادلاً حسن السيرة، أطلق المكوس والضرائب في جميع بلاده، وعهد بالملك إلى ولده محمود وعمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة. ولما عهد عليه اعتنقه، وقبله وبكى كل واحد منهما، وجلس محمود على تخت السلطنة بالتاج والسوارين يوم وفاة أبيه في الرابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وخطب لمحمود بالسلطنة في يوم الجمعة الثامن والعشرين من ذي الحجة.
ذكر قتل صاحب حلب
واستيلاء أيلغازي عليها:في هذه السنة قتل لؤلؤ الخادم، وكان قد استولى على حلب وأعمالها. وكان قد أقام لؤلؤ المذكور، بعد رضوان ابنه، ألب أرسلان الأخرس بن رضوان، فلما قتل كما تقدم ذكره، أقام أخاه سلطان شاه، وليس له من الحكم شيء، وبقي لؤلؤ المذكور هو المتحكم في البلاد، فلما كانت هذه السنة سار لؤلؤ إلى قلعة جعبر، ليجتمع بسالم بن مالك العقيلي صاحب قلعة جعبر، فوثب جماعة من الأتراك أصاب لؤلؤ على لؤلؤ وقد نزل يريق الماء، وصاحوا أرنب أرنب، وقتلوه بالنشاب، ونهبوا خزانته وعادوا إلى حلب، فاتفق أهل حلب واستعادوا منهم المال، وقام بأتابكية سلطان شاه بن رضوان شمس الخواص يارقطاش، وبقي يارقطاش شهراً، ثم اجتمع كبراء الدولة وعزلوه وولوا أبا المعالي بن الملحي الدمشقي، ثم غزوه وصادروه، ثم خاف أهل حلب من الفرنج، فسلموا البلد إلى أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، فسار أيلغازي وتسلم حلب، وجعل فيها ولده حسام الدين تمرتاش، وعاد أيلغازي إلى ماردين.
ذكر غير ذلك:في هذه السنة جاء سيل فغرق مدينة سنجار، وغرق من الناس خلق كثير، وهدم المنازل، ومن عجيب ما يحكى أن الماء حمل مهداً فيه مولود، فتعلق المهد بشجرة زيتون ثم نقص الماء والمهد معلق بالشجرة فسلم الطفل. وفيه هجم الفرنج على ربض حماة وقتلوا من أهلها ما يزيد على مائة رجل، ثم عادوا عنها.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وخمسمائة في هذه السنة عزل السلطان محمود مجاهد الدين بهروز عن شحنكية بغداد، وجعل أقسنقر البرسقي شحنة بغداد، وسار بهروز إلى تكريت، وكانت أقطاعه، وكان المدبر لدولة السلطان محمود، الوزير الربيب أبو منصور.
وفيها سار الأمير دبيس بن صدقة إلى الحلة بإذن السلطان محمود، وكان دبيس معتقلاً مع السلطان محمد، من حين قتل أبوه صدقة، إلى الان، فلما أطلق توجه إلى الحلة، واجتمعت عليه العرب والأكراد.
ذكر وفاة المستظهر في هذه السنة، في سادس عشر ربيع الآخر، توفي المستظهر بالله أحمد بن المقتدي بأمر الله عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم، وكان عمره إحدى وأربعين سنة وستة أشهر وأياماً، وخلافته أربعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً. ومن الاتفاق الغريب، أنه لما توفي السلطان ألب أرسلان توفي بعده القائم بأمر الله، ولما توفي ملكشاه توفي بعده المقتدي، ولما توفي محمد، توفي بعده المستظهر.
خلافة المسترشدوهو تاسع عشرينهم، ولما توفي المستظهر بويع ولده المسترشد بالله أبو منصور فضل بن أحمد المستظهر، وأخذ البيعة على الناس للمسترشد. القاضي أبو الحسن الدامغاني.
ذكر غير ذلك: وفي هذه السنة توفي أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن منده الأصفهاني المحدث المشهور، وله في الحديث تصانيف حسنة. وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن محمد بن الخازن وكان أديباً وله شعر حسن. وفيهما قتل أرسلان شاه ابن مسعود السبكتكيني قتله أخوه بهرام شاه بن مسعود، واستقر بهرام شاه في ملك غزنة، حسبما قدمنا ذكره في سنة ثمان وخمسمائة.

ثم دخلت سنة ثلاث عشر وخمسمائة فيها سار السلطان سنجر إلى حرب ابن أخيه السلطان محمود، والتقيا بالري بالقرب من ساوة، فانهزم محمود. ونزل السلطان سنجر في خيامه، ثم وقع الصلح بينهما، على أن يخطب للسلطان سنجر ثم بعده للسلطان محمود، واستولى سنجر على الري وأضافها إلى ما بيده، وقدم السلطان محمود إلى عمه السلطان سنجر بالري فأكرمه سنجر وأحسن إليه.
ذكر غير ذلك: فيها كانت وقعة بين أيلغازي بن أرتق، وبين الفرنج، بأرض حلب، فهزم الفرنج وقتل منهم عدة كثيرة، وأسر عدة، وكان فيمن قتل، سرجال صاحب أنطاكية، ثم سار أيلغازي وفتح عقيب الوقعة الأثارب وزردنا. وكانت الوقعة في منتصف ربيع الأول عند عفرين، ومما مدح أيلغازي به بسبب هذه الوقعة.
قل ما تشاء فقولك المقبول ... وعليك بعد الخالق التعويل
واستبشر القرآن حين نصرته ... وبكى لفقد رجاله الإنجيل
وفي هذه السنة سار جوسلين صاحب تل باشر إلى، بلاد دمشق ليكبس العرب بني ربيعة، وأميرهم إذ ذاك مر بن ربيعة، فتقدم عسكر جوسين قدامه، فضل جوسلين عنهم، ووقع عسكره على العرب. وجرى بينهم قتال شديد انتصر فيه مر بن ربيعة، وقتل وأسر من الفرنج عدة كثيرة.
ذكر غير ذلك:في هذه السنة أمر السلطان سنجر بإعادة بهروز إلى شحنكية العراق، فعاد إليها. وفيها ظهر قير إبراهيم الخليل، وقبور ولديه إسحاق ويعقوب عليهم السلام بالقرب من بيت المقدس، ورآهم كثير من الناس لم تبل أجسادهم، وعندهم في المغارة قناديل من ذهب وفضة، قال ابن الأثير مؤلف الكامل: هكذا ذكره حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي في تاريخه.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة.
ذكر الحرب بين السلطان محمود وأخيه مسعود كان مسعود ابن السلطان محمد له الموصل وأذربيجان، فكاتب دبيس بن صدقة، جيوش بك أتابك مسعود، يشير عليه بطلب السلطنة لمسعود، ووعده دبيس بأن يسير إليه وينجده وكان غرض دبيس أن يقع بين محمود ومسعود، لينال دبيس علو المنزلة، كما نالها، أبوه صدقة، بسبب وقوع الخلاف بين بركيارق وأخيه محمد. فأجاب مسعود إلى ذلك، وخطب لنفسه بالسلطنة، وجمع عسكره وسار إلى أخيه محمود والتقوا عند عقبة أستراباذ، منتصف ربيع الأول من هذه السنة واشتد القتال بينهم، فانهزم مسعود وعسكره، ولما انهزم مسعود اختفى في جبل، وأرسل يطلب من أخيه محمود الأمان فبذله له، وقدم مسعود إلى أخيه محمود فأمر محمود بخروج العسكر إلى تلقيه، ولما التقيا اعتنقا وبكيا، وبالغ محمود في الإحسان إلى أخيه مسعود، وفى له، ثم قسم جيوش بك أتابك مسعود على محمود فأحسن إليه أيضاً، وأما دبيس بن صدقة، فإنه لما بلغه انهزام مسعود أخذ في إفساد البلاد ونهبها، وكاتبه محمود فلم يلتفت إليه. فسار السلطان محمود إليه، ولما قرب منه خرج دبيس عن الحلة والتجأ إلى أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، ثم اتفق الحال على أن يرسل دبيس أخاه منصوراً رهينة، ويعود إلى الحلة، فأجيب إلى ذلك.
وفي هذه السنة خرجت الكرج إلى بلاد الإسلام وملكو تقليس بسيف،وقتلوا ونهبوا من المسلمين شيئاً كثيراً.
وفي هذه السنة أيضاً جمع أيلغازي التركمان وغيرهم، والتقى مع الفرنج عند ذات البقل، من بلد سرمين، وجرى بينهم، قتال شديد، فانتصر أيلغازي وانهزم الفرنج.
ذكر ابتداء أمر محمد بن تومرت وملك عبد المؤمن

كان محمد بن عبد الله بن تومرت العلوي الحسيني من قبيلة من المصامدة، من أهل جبل السوس، من بلاد المغرب، فرحل ابن تومرت إلى بلاد المشرق في طلب العلم، وأتقن علم الأصولين والعربية، والفقه والحديث، واجتمع بالغزالي والكيا الهراسي في العراق، واجتمع بأبي بكر الطرطوشي بالإسكندرية، وقيل إنه لم يجتمع بالغزالي. ثم حج ابن تومرت وعاد إلى المغرب، وأخذ في الإنكار على الناس وإلزامهم بإقامة الصلوات وغير ذلك من أحكام الشريعة، وتغيير المنكرات، ولما وصل إلى قرية اسمها ملالة بالقرب من بجاية اتصل به عبد المؤمن بن علي الكومي، وتفرس ابن تومرت النجاية في عبد المؤمن المذكور، وسار معه، وتلقب ابن تومرت بالمهدي. واستمر المهدي المذكور على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووصل الى مراكش، وشدد في النهي عن المنكرات وكثرت أتباعه، وحسنت ظنون الناس به، ولما اشتهر أمره استحضره أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بحضرة الفقهاء فناظرهم وقطعهم، وأشار بعض وزراء علي بن يوسف بن تاشفين عليه بقتل ابن تومرت المهدي وقال: والله ماغرضه النهي عن المنكر والأمر بالمعروف بل غرضه التغلب على البلاد، فلم يقبل علي ذلك. فقال الوزير: وكان اسمه مالك بن وهيب من أهل قرطبة: فإذا لم تقتله فخلده في الحبس. فلم يفعل، وأمر بإخراجه من مراكش، فسار المهدي إلى أغمات ولحق بالجبل واجتمع عليه الناس وعرفهم أنه هو المهدي الذي وعد النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه، فكثرت أتباعه واشتدت شوكته، وقام إليه عبد المؤمن بن علي في عشرة أنفس، وقالوا له: أنت المهدي، وبايعوه على ذلك وتبعهم غيرهم، فأرسل أمير المسلمين علي إليه جيشاً فهزمه المهدي، وقويت نفوس أصحابه، وأقبلت إليه القبائل يبايعونه وعظم أمره، وتوجه إلى جبل عند تينمليل واستوطنه، ثم إن المهدي رأى من بعض جموعه قوماً خافهم. فقال: إن الله أعطان نوراً أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وجمع الناس إلى رأس جبل، وجعل يقول: عن كل من يخافه هذا من أهل النار، فيلقى من رأس الشاهق ميتاً، وكل من لا يخافه، هذا من أهل الجنة ويجعله عن يمينه، حتى قتل خلقاً كثيراً واستقام أمره وأمن على نفسه. وقيل: إن عدة الذين قتلهم سبعون ألفاً وسمي عامة أصحابه الداخلين في طاعته الموحدين، ولم يزل أمر ابن تومرت المهدي يعلو، إلى سنة أربع وعشرين وخمسمائة فجهز جيشاً يبلغون أربعين ألفاً فيهم الونشريسي وعبد المؤمن إلى مراكش، فحصروا أمير المسلمين بمراكش عشرين يوماً، ثم سار متولي سجلماسة بالعساكر للكشف عن مراكش وطلع أهل مراكش وأمير المسلمين واقتتلوا فقتل الونشريبسي، وصار عبد المؤمن مقدم العسكر، واشتد بينهم القتال إلى الليل، فانهزم عبد المؤمن بالعسكر إلى الجبل، ولما بلغ المهدي بن تومرت خبر هزيمة عسكره وكان مريضاً فاشتد مرضه، وسأل عن عبد المؤمن فقالوا سالم، فقال المهدي لم يمت أحد، وأوصى أصحابه باتباع عبد المؤمن وعرفهم أنه هو الذي يفتح البلاد، وسماه أمير المؤمنين، ثم مات المهدي في مرضه المذكور وكان عمره إحدى وخمسين سنة، ومدة ولايته عشر سنين، وعاد عبد المؤمن إلى تينمليل وأقام بها يؤلف قلوب الناس، إلى سنة ثمان وعشرين وخسمائة ثم سار عبد المومن واستولى على الجبال، وجعل أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ابنه تاشفين بن علي يسير في الوطاة قبالة عبد المؤمن، وفي سنة عائشة تسع وثلاثين سار عسكر عبد المؤمن إلى مدينة وهران، وسار تاشفين إليهم، وقرب الجمعان بعضهم من بعض، فلما كان ليلة تسع وعشرين من رمضان من هذه السنة وهي ليلة يعظمها المغاربة، سار تاشفين في جماعة يسيرة متخفياً. ليزور مكاناً على البحر، فيه متعبدون وصالحون، وقصد التبرك وبلغ الخبر مقدم جيش عبد المؤمن واسمه عمر بن يحيى الهنتماتي، فسار وأحاط بتاشفين بن علي بن يوسف، فركب تاشفين فرسه وحمل ليهرب، فسقط من جرف عال فهلك، وأخذ ميتاً، وعلت جثته على خشبة، وقتل كل من كان معه وتفرق عسكر تاشفين، وسار عبد المؤمن إلى تلمسان وهي مدينتان بينهما شوط فرس، إحداهما اسمها قاروت بها أصحاب السلطان، والأخرى اسمها أفادير فملك عبد المؤمن قاروت أولاً، ثم قرر أمرها وجعل على أفادير جيشاً يحصرها، ثم سار عبد المؤمن إلى فاس وملكها بالأمان في آخر سنة أربعين وخمسمائة ورتب أمرها، ثم سار إلى سلا ففتحها

في سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وفتح عسكره أفادير بعد حصار سنة، وقتلوا أهلها، ثم سار عبد المؤمن ونازل مراكش، وكان قد مات علي بن يوسف صاحبها، وملك بعده ابنه تاشفين بن علي، ثم ملك بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين وهو صبي، فحاصرها عبد المؤمن أحد عشر شهراً وفتحها بالسيف وأمسك الأمير إسحاق وجماعة من أمراء المرابطين وجعل إسحاق يرتعد ويسأل العفو عنه، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقال له سير وهو من أكبر أمراء المرابطين وكان مكتوفاً: تبكي على أبيك وأمك، اصبر صبر الرجال، وبزق في وجه إسحاق، ثم قال عبد المؤمن إن هذا الرجل لا يدين الله بدين، فنهض الموحدون وقتلوا سير المذكور بالخشب، وقدم إسحاق على صغر سنه فضربت عنقه، سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وهو آخر ملوك المرابطين،. وبه انقرضت دولتهم، وكانت مدة ملكهم ثمانين سنة، لأن يوسف بن تاشفين حكم في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وانقرضت دولتهم في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وولى منهم أربعة: يوسف بن تاشفين وابنه علي بن يوسف وتاشفين بن علي، وإسحاق بن علي. ولما فتح عبد المؤمن مراكش استوطنها وبنى بقصر ملوك مراكش جامعاً وزخرفه، وهدم الجامع الذي بناه يوسف بن تاشفين، وكان ينبغي ذكر هذه الوقائع في مواضعها، وإنما قدمت لتتبع الأحاديث بعضها بعضاً. سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وفتح عسكره أفادير بعد حصار سنة، وقتلوا أهلها، ثم سار عبد المؤمن ونازل مراكش، وكان قد مات علي بن يوسف صاحبها، وملك بعده ابنه تاشفين بن علي، ثم ملك بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين وهو صبي، فحاصرها عبد المؤمن أحد عشر شهراً وفتحها بالسيف وأمسك الأمير إسحاق وجماعة من أمراء المرابطين وجعل إسحاق يرتعد ويسأل العفو عنه، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقال له سير وهو من أكبر أمراء المرابطين وكان مكتوفاً: تبكي على أبيك وأمك، اصبر صبر الرجال، وبزق في وجه إسحاق، ثم قال عبد المؤمن إن هذا الرجل لا يدين الله بدين، فنهض الموحدون وقتلوا سير المذكور بالخشب، وقدم إسحاق على صغر سنه فضربت عنقه، سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وهو آخر ملوك المرابطين،. وبه انقرضت دولتهم، وكانت مدة ملكهم ثمانين سنة، لأن يوسف بن تاشفين حكم في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وانقرضت دولتهم في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وولى منهم أربعة: يوسف بن تاشفين وابنه علي بن يوسف وتاشفين بن علي، وإسحاق بن علي. ولما فتح عبد المؤمن مراكش استوطنها وبنى بقصر ملوك مراكش جامعاً وزخرفه، وهدم الجامع الذي بناه يوسف بن تاشفين، وكان ينبغي ذكر هذه الوقائع في مواضعها، وإنما قدمت لتتبع الأحاديث بعضها بعضاً.
ذكر غير ذلك:وفي هذه السنة أعني سنة أربع عشرة وخمسمائة أغار جوسلين الفرنجي صاحب الرها على جموع العرب والتركمان وكانوا نازلين بصفين، فغنم من أموالهم ومواشيهم شيئاً كثيراً، ثم عاد جوسلين إلى بزاعة فخر بها. وفيها في جمادى توفي أبو سعد عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري الإمام ابن الإمام، ولما توفي جلس الناس في البلاد البعيدة لعزائه.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وخمسمائة.
ذكر وفاة صاحب إفريقية في هذه السنة توفي الأمير علي بن يحيى بن تميم صاحب إفريقية، في ربيع الآخر، وكانت إمارته خمس سنين وأربعة أشهر، وولي بعده ابنه الحسن بن علي وعمره اثنتا عشرة سنة، بعهد من أبيه، وقام بتدبير دولته صندل الخصي، وبقي صندل مدة ومات، وصار مدبر دولته القائد أبا غر بن موفق.
ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة أقطع السلطان محمود الموصل وأعمالها كالجزيرة وسنجار، للأمير أقسنقر البرسقي. وفيها قتل بمصر أمير الجيوش الأفضل بن بدر الجمالي، وكان قد ركب بمصر ومعه جمع كثير، فتأذى من الغبار، فسار قدامهم ومعه نفران، فوثب عليه ثلاثة بسوق الصياقلة وضربوه بالسكاكين، وأدركهم أصحابه فقتلوا الثلاثة، وحمل الأفضل إلى داره فمات بها وبقي الآمر بأحكام الله الخليفة العلوي صاحب مصر، ينقل من دار الأفضل الأموال ليلاً ونهاراً أربعين يوماً، ووجد له من الأموال والتحف ما لا يحصى، وكان عمر الأفضل سبعً وخمسين سنة وولايته ثمانياً وعشرين سنة، وقيل إن الآمر هو الذي جهز عليه من قتله، ولما قتل الأفضل ولي الآمر بأحكام الله بعده أبا عبد الله البطائحي.

وفيها عصى سليمان بن أيلغازي بن أرتق على أبيه بحلب وكان فيمن حسن له ذلك إنسان من أهل حماة من بيت قرناص، وكان قد قدمه أيلغازي على أهل حلب، فجاراه بذلك، ولما سمع أيلغازي بذلك سار مجدّاً من ماردين وهاجم حلب وقطع يدي ابن قرناص ورجليه وسمل عينيه فمات، وأحضر ولده سليمان وأراد قتله فلحقته رقة الوالد فاستبقاه، وهرب سليمان إلى عند طغتكين بدمشق، واستناب أيلغازي على حلب ابن أخيه واسمه سليمان أيضاً بن عبد الجبار بن أرتق، وعاد أيلغازي إلى ماردين.
وفيها أقطع السلطان محمود ميافارقين للأمير أيلغازي المذكور، وفيها كان بين بلك بن بهرام بن أرتق وبين جوسلين حرب، انتصر فيها بلك وقتل من الفرنج وأسر جوسلين وأسر معه ابن خالته كليام وأسر جماعة من فرسانه المشهورين، وبذل جوسلين في نفسه أموالاً كثيرة فلم يقبلها بلك، وسجنهم في قلعة خرتبرت. وفيها تضعضع الركن اليماني من البيت الحرام شرفه الله تعالى، من زلزلة وانهدم بعضه. وفيها توفي أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري مصنف كتاب المقامات المشهورة، ولد في حدود سنة ست وأربعين وأربعمائة، وكان إماماً في النحو واللغة، وصنف عدة مصنفات منها: المقامات التي طبق الأرض شهرتها، وكان الذي أمره بتصنيفها أنوشروان بن خالد بن محمد وزير السلطان محمود، فإن الحريري عمل مقامه واحدة على وضع مقامات البديع وعرضها على أنوشروان، وكان الحريري قد أولع بنتف لحيته والعبث بها، وقدم بغداد وسكن في الحريم، ووقع بينه وبين ابن جكينا مهاجاة، ثم نفي الحريري إلى المشان فقال فيه ابن جكينا يهجوه:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله في المشان وقد ... ألجمه في الحريم بالخرس
والمشان موضع من أعمال بغداد، وكان إذا غضب على شخص نفي إليه، وكان الحريري بصرى المولد والمنشأ وينتسب إلى ربيعة الفرس وخلف ولدين أحدهما عبيد الله، وهو أحد رواة المقامات عن والده، والثاني كان متفقهاً.
وفيها أعني سنة خمس عشرة وخمسمائة قتل مؤيد الدين الحسين بن علي ابن محمد الطغرائي المنشي الدؤلي من ولد أبي الأسود الدؤلي من أهل أصفهان وكان عالماً فاضلاً شاعراً كاتباً منشئاً، خدم السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان وكان متولياً ديوان الطغر، ثم بقي على علو منزلته حتى استوزره السلطان مسعود، وجرى بينه وبين أخيه محمود الحرب، وانهزم مسعود فأخذ الطغرائي أسيراً وقتل صبراً، ومن شعره قصيدته المشهورة التي أولها:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتي لدى العطل
هكذا ذكره القاضي شهاب الدين. وما الشيخ عز الدين علي بن الأثير فذكر أن قتل الطغرائي كان في سنة أربع عشرة وخمسمائة، وقال عنه السلطان محمود: قد ثبت عندي فساد عقيدته، وأمر بقتله وكان الطغرائي قد جاوز ستين سنة، وكان يميل إلى عمل الكيمياء.
وفيها أعني سنة خمس عشرة وخمسمائة، توفي بمصر علي بن جعفر بن علي محمد، المعروف بابن القطاع النحوي العروضي. وكان أحد الأئمة في علم الأدب واللغة، وله عدة مصنفات، ولد في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
ثم دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة فيها قتل السلطان محمود جيوش بك، وهو الذي كان قد خرج على السلطان مع مسعود أخي السلطان ولما أمن محمود أخاه جيوش بك وأقطعه أذربيجان، سعت به الأمراء إلى محمود فقتله في رمضان على باب تبريز.
ذكر وفاة أيلغازي في هذه السنة في رمضان، توفي أيلغازي بن أرتق، وملك بعده ابنه تمرتاق قلعة ماردين، وملك ابنه سليمان ميافارقين، وكان بحلب ابن أخيه سليمان بن عبد الجبار بن أرتق، فبقي بها حاكماً إلى أن أخذها منه ابن عمه بلك بن بهرام بن رتق. وفيها أقطع السلطان محمود مدينة واسط لأقسنقر. البرسقي، زيادة على ما بيده من الموصل وأعمالها، فاستعمل البرسقي على واسط عماد الدين زنكي بن أقسنقر.
وفيها توفي عبد القادر بن محمد بن عبد القادر بن محمد ومولده سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وكان ثقة حافظاً للحديث.

ثم دخلت سنة سبع عشرة وخمسمائة في هذه السنة كان الحرب بين الخليفة المسترشد بالله وبين دبيس بن صدقة، فخرج الخليفة بنفسه، مع من اجتمع إليه، واشتد القتال بينه وبين دبيس، فانهزم دبيس وعسكره، وسار دبيس إلى غزية من العرب فلم يطيعوه فراح إلى المنتفق واتفقوا معه، وسار إلى البصرة، ونهبها، ثم سار دبيس إلى الشام وصار مع الفرنج، وأطمعهم في ملك حلب.
وفيها سلم سليمان بن عبد الجبار بن أرتق حصن الأثارب إلى الفرنج ليهادنوه على حلب، لعجزه عن مقاومتهم. وفيها سار بلك بن بهرام بن أرتق إلى حران وملكهما، ثم بلغه عجز ابن عمه سليمان عن حلب، فسار إلى حلب وملكها في جمادى الأولى.
وفيها استولى الفرنج على خرتبرت وكان بها جوسلين وغيره من الفرنج محبوسين، وخلصوهم من خرتبرت، وكانت لبلك، ثم سار إليها بلك واسترجعهما من الفرنج.
وفيها توفي قاسم بن هاشم العلوي الحسني، أمير مكة، شرفها الله تعالى،وولي بعده ابنه أبو فليتة وفيها سار طغتكين صاحب دمشق إلى حمص، وهجم المدينة ونهبها وحصر صاحبها قيرخان بن قراجا بالقلعة، ثم رحل عنه وعاد إلى دمشق.
وفيها سار الأمير محمود بن قراجا صاحب حماة إلى أفامية، وهجم ربضها فأصابه سهم من القلعة في يده فعاد إلى حماة وعملت عليه يده فمات من ذلك، واستراح أهل حماة من ظلمه، فلما سمع طغتكين الخبر، أرسل إلى حماة عسكراً وملكها، وصارت حماة من جملة بلاده، وفيها توفي أحمد بن محمد بن علي، المعروف بابن الخياط الشاعر الدمشقي وله أشعار فائقة منها قصيدته التي منها:
سلوا سيف ألحاظه الممتشق ... أعند القلوب دم للحدق
من الترك ما سهمه إذ رمي ... بأفتك من طرفه إذ رمق
ومنها:
وللحب ما عزمني وهان ... وللحسن ما جل منه ودق
وكانت ولادته في سنة خمس وأربعمائة بدمشق رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة وخمسمائة.
ذكر قتل بلك:في هذه السنة قتل بلك بن بهرام بن أرتق صاحب حلب، وسببه أنه قبض على الأمير حسان البعلبكي صاحب منبج، وسار إلى منبج فملك المدينة وحصر القلعة، فبينما هو يقاتل إذ أتاه سهم فقتله لا يدري من رماه، فاضطرب عسكره وتفرقوا، وخلص حسان صاحب منبج وعاد إليها وملكها وكان في جملة عسكر بلك ابن عمه تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، فحمل بلك مقتولاً إلى حلب وتسلمها واستقر تمرتاش في ملك حلب في عشرين من ربيع الأول من هذه السنة، ورتب أمرها وعاد إلى ماردين.
وفي هذه السنة ملك الفرنج مدينة صور بعد حصار طويل، وكانت للخلفاء العلويين أصحاب مصر، وكان ملكها بالأمان، وخرج المسلمون منها في العشرين من جمادى الأولى بما قدروا على حمله من أموالهم.
وفيها اجتمعت الفرنج وانضم إليهم دبيس بن صدقة وحاصروا حلب، وأخذوا في بناء بيوت لهم بظاهرها فعظم الأمر على أهلها، ولم ينجدهم صاحبها تمرتاش لإيثاره الرفاهة والدعة، فكاتب أهل حلب أقسنقر البرسقي صاحب الموصل في تسلميها إليه، فسار إليهم فلما قرب من حلب رحلت الفرنج عنها، وسلم أهل حلب المدينة والقلعة إليه، واستقرت في ملك البرسقي مع الموصل وغيرها.
وفي هذه السنة مات الحسن بن الصباح مقدم الإسماعيلية صاحب الألموت وقد تقدم ذكره في ظهوره في سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وخمسمائة في هذه السنة سار البرسقي إلى كفر طاب وأخذها من الفرنج، ثم سار إلى أعزاز وكانت لجوسلين، فاجتمعت الفرنج لقتاله، فاقتتلوا فانهزم البرسقي، وقتل من المسلمين خلق كثير.
وفيها مات سالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب صاحب قلعة جعبر وملكهما بعده ابنه مالك بن سالم.
ثم دخلت سنة عشرين وخمسمائة.
ذكر مقتل البرسقي في هذه السنة ثامن ذي القعدة، قتلت الباطنية قسيم الدولة أقنسقر البرسقي صاحب الموصل يوم الجمعة في الجامع بالموصل، وهو في الصلاة، فوثب عليه منهم بضعة عشر نفساً، وكان البرسقي مملوكاً تركياً شجاعاً ديناً حسن السيرة، من خيار الولاة، رحمه الله تعالى، وكان ابنه عز الدين مسعود في حلب، فلما بلغه قتل أبيه سار إلى الموصل واستقر في ملكها.
ذكر الحرب بين طغتكين والفرنج

في هذه السنة اجتمعت الفرنج وقصدوا دمشق، نزولاً في مرج الصفر عند قرية شقحب، وأرسل طغتكين وجمع التراكمين وغيرهم، وخرج إلى الفرنج والتقى معهم في أواخر ذي الحجة، وكان مع طغتكين رجالة كثيرة من التركمان واشتد القتال، فانهزم طغتكين والخيالة؛ وتبعهم الفرنج، ولم يقدر رجالة التركمان على الهرب، فقصدوا مخيم الفرنج وقتلوا كل من وجدوه من الفرنج، ونهبوا أموال الفرنج وأثقالهم، وسلموا بذلك. ولما عاد الفرنج من وراء المنهزمين وجدوا أثقالهم وخيمهم قد نهبت فانهزم أيضاً وفيها حصر الفرنج رفنية وملكوها وفيها توفي أبو الفتوح أحمد بن محمد بن محمد الغزالي الواعظ أخو أبي حامد الغزالي، وكانت له كرامات. وقد ذمه أبو الفرج ابن الجوزي بأشياء كثيرة، منها روايته في وعظه الأحاديث التي ليست بصحيحة. وكان من الفقهاء، غير أنه مال إلى الوعظ فغلب عليه، واختصر كتاب أخيه إحياء علوم الدين في مجلد وسماه لباب الأحياء ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وخمسمائة في هذه السنة ولى السلطان محمود شحنكية العراق عماد الدين زنكي بن أقنسقر مضافاً إلى ما بيده من ولاية واسط وفيها سار السلطان محمود عن بغداد وفي هذه السنة سار صاحب الموصل مسعود بن أقسنقر البرسقي إلى الرحبة واستولى عليها؛ ومرض وهو محاصرها؛ ومات مسعود يوم تسليم الرحبة إليه، وقام بالأمر بعد مسعود مملوك البرسقي اسمه جاولي أقام أخاً لمسعود صغيراً في الملك؛ وأرسل إلى السلطان محمود يسأله في توليته فلم يجب إلى ذلك، وولى على الموصل عماد الدين زنكي بن أقسنقر، فسار عماد الدين من بغداد ورتب أمر الموصل، وأقطع جاولي مملوك البرسقي المذكور مدينة الرحبة، ثم سار عماد الدين واستولى على نصيبين وسنجار وحران وجزيرة ابن عمر. وفيها ولي السلطان محمود شحنكية العراق لمجاهد الدين بهروز بعد مسير عماد الدين زنكي عنها إلى الموصل. وفيها توفي محمد بن عبد الملك بن إبراهيم الفرضي الهمذاني صاحب التاريخ. وفيها توفي ظهير الدين إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط، وملك بعده أخوه أحمد بن سكمان، وبقي عشرة أشهر، وتوفي أحمد المذكور؛ فحكمت والدة إبراهيم وأحمد المذكورين؛ وهي إينانج خاتون بنت أركمان؛ وأقامت في المملكة معها ولد ولدها؛ وهو سكمان بن إبراهيم بن سكمان؛ وعمره حينئذ ست سنين، واستبدت إينانج بالحكم حسبما تقدم ذكره في سنة ست وخمسمائة ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
ذكر ملك عماد الدين زنكي حلب كانت حلب للبرسقي وكان بها ولده مسعود، فلما قتل البرسقي وسار مسعود إلى الموصل استخلف على حلب أميراً اسمه قومار، كذا رأيته مكتوباً، وصوا به قيماز، ثم استخلف مسعود على حلب قتلغ بعد قيماز؛ فاستولى على حلب بعد موت مسعود على الرحبة كما ذكرنا، وأساء قتلغ السيرة، وكان مقيماً بحلب سليمان بن عبد الجبار بن أرتق الذي كان صاحبها أولاً، فاجتمع أهل حلب عليه لسوء سيرة قتلغ وملكوه مدينة حلب، وعصى قتلغ في القلعة؛ وسمع الفرنج باختلاف أهل حلب؛ فسار إليهم جوسلين فصالحوه بمال فرحل عنهم، وكان قد استقر عماد الدين زنكي في ملك الموصل؛ فأرسل عسكراً مع بعض قواده واسمه قراقوش إلى حلب ومعه توقيع السلطان محمود بالشام، فأجاب أهل حلب إليه، وتقدم عسكر عماد الدين إلى سليمان وقتلغ بالمسير إلى عماد الدين زنكي، فسار إليه إلى الموصل، فلما وصلا إلى عماد الدين زنكي أصلح بين سليمان وقتلغ ولم يرد واحداً منهما إلى حلب، وسار عماد الدين إلى حلب وملك في طريقه منبج وبزاغة، وطلع أهل حلب إلى تلقيه واستبشروا بقدومه، فدخل عماد الدين البلد ورتب أموره، ثم إن عماد الدين قبض على قتلغ وكحله فمات، وكان ملك عماد الدين زنكي حلب وقلعتها في المحرم من هذه السنة.
ذكر غير ذلك

وفي هذه السنة سار السلطان سنجر من خراسان إلى الري ومعه دبيس بن صدقة، وكان قد سار إلى سنجر واستجار به، فلما وصل سنجر إلى الري أرسل يستدعي ابن أخيه السلطان محمود، فحضر محمود إلى عمه سنجر فأكرمه سنجر وأجلسه معه على السرير، وأمره بالإحسان إلى دبيس وإعادته إلى بلده، فامتثل السلطان محمود ذلك، وعاد سنجر إلى خراسان وفيها في صفر مات طغتكين صاحب دمشق، وهو من مماليك تنش بن ألب أرسلان، وكان طغتكين عاقلاً خيراً، وكان لقبه ظهير الدين، ولما توفي ملك دمشق بعده ابنه تاج الملوك توري بن طغتكين بعهد من والده، وكان توري أكبر أولاده. ثم دخلت ثلاث وعشرين وخمسمائة وفيها عاود دبيس العصيان على السلطان والخليفة، وترددت بينهم الرسل، فلم يحصل الصلح، فسار السلطان محمود إلى بغداد وجهز جيشاً كثيفاً في أمر دبيس، فعبر دبيس البرية بعد أن نهب البصرة وأموال الخليفة والسلطان.
ذكر أخبار الإسماعلية بالشام
وقتلهم وحصر الفرنج دمشق:كان قد سار رجل من الإسماعلية يسمى بهرام، بعد قتل خاله إبراهيم الأسترابادي ببغداد، إلى الشام، ودخل دمشق، ودعى الناس إلى مذهبه. وأعانه وزير توري صاحب دمشق، وهو طاهر ابن معد المزدغاني وسلم إلى بهرام قلعة بانياس، فعظم أمر بهرام بالشام، وملك عدة حصون بالجبال، وجرى بين بهرام وبين أهل وادي النيم مقاتلة فقتل فيها بهرام، وقام مقامه بقلعة بانياس رجل منهم يسمى إسماعيل.
وأقام الوزير المزدغاني عوض بهرام بدمشق رجلاً منهم تسمى أبا الوفا، وعظم أمر أبي الوفا حتى صار الحكم له بدمشق، فكاتب أبو الوفا الفرنج، على أن يسلم إليهم دمشق، ويسلموا إليه عوضها مدينة صور، واتفقوا على ذلك. وأن يكون قدوم الفرنج إلى دمشق يوم الجمعة، ليجعل أبو الوفا أصحابه على أبواب جامع دمشق. وعلم تاج الملوك توري صاحب دمشق بذلك، فاستدعى وزيره المزدغاني وقتله، وأمر بقتل الإسماعلية الذين بدمشق، فثأر بهم أهل دمشق، وقتلوا من الإسماعلية ستة آلاف نفر، ووصل الفرنج إلى الميعاد وحصروا دمشق، فلم يظفروا بشيء، وكان البرد والشتاء شديداً، فرحلوا عن دمشق شبه المنهزمين، وخرج توري بعسكر دمشق في إثرهم، وقتلوا منهم عدة كثيرة، وأما إسماعيل الباطني الذي كان في قلعة بانياس، فإنه سلم قلعة بانياس إلى الفرنج وصار معهم.
ذكر ملك عماد الدين زنكي حماة في هذه السنة ملك عماد الدين زنكي حماة، وسببه أنه كان بحماة سونج بن توري نائباً بها عن أبيه توري، وكان قد سار عماد الدين زنكي من الموصل إلى جهة الشام، وعبر الفرات، وأرسل إلى توري يستنجده على الفرنج، فأرسل توري إلى ولده سونج بحماة يأمره بالمسير إلى عماد الدين زنكي، فسار سونج إليه، فغدر عماد الدين زنكي بسونج، وقبض عليه، وارتكب أمراً شنيعاً من الغدر، ونهب خيامه والعسكر الذين كانوا صحبته، واعتقل سونج وجماعة من مقدمي عسكره بحلب، ولما قبض عماد الدين زنكي على سونج، سار من وقته إلى حماة وملكها، لخلوها من الجند. ثم رحل عنها إلى حمص وحاصرها مدة، وكان قد غدر أيضاً بصاحبها قيرخان بن قراجا وقبض عليه، وأحضره صحبته إلى حمص ممسوكاً، وأمره أن يأمر ابنه وعسكره بتسليم حمص. فأمرهم قيرخان، فلم يلتفتوا إليه، فلما أيس زنكي منها رحل عنها عائداً إلى الموصل، واستصحب سونج وأمراء دمشق معه، واستمر بهم معتقلين، وكتب توري إليه، وبذل له مالاً في ابنه سونج فلم يتفق له حال.
ذكر غير ذلك:وفي هذه السنة ملك الفرنج حصن القدموس. وفيها توفي أبو الفتح أسعد بن أبي نصر، الفقيه الشافعي، مدرس النظامية، وله طريقة مشهورة في الخلاف، وكان له قبول عظيم عند الخليفة والناس.
وفيها توفي الشريف حمزة بن هبة الله بن محمد العلوي الحسيني النيسابوري، سمع الحديث الكثير ورواه. ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وجمع بين شرف النسب وشرف النفس، والتقوى، وكان زيدي المذهب.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وخمسمائة.
ذكر فتح الأثارب

فيها جمع عماد الدين زنكي عساكره وسار من الموصل إلى الشام، وقصد حصن الأثارب لشدة ضرره على المسلمين، فإن أهله الفرنج كانوا يقاسمون أهل حلب على جميع أعمال حلب الغربية، حتى على رحى بظاهر باب الجنان، بينها وبين سور حلب عرض الطريق. وأظن أن اسمها العريبة، وكان أهل حلب معهم في ضيق شديد، فسار عماد الدين إليه ونازله، وجمع الفرنج فارسهم وراجلهم وقصدوا عماد الدين، فرحل عماد الدين عن الأثارب وسار إلى ملتقاهم، فالتقوا واقتتلوا أشد قتال، ونصر الله المسلمين وانهزم الفرنج، ووقع كثير من فرسانهم في الأسر، وكثر القتل فيهم ولما فرغ المسلمون من ظفرهم عادوا إلى الأثارب فأخذوه عنوة، وقتلوا وأسموا كل من فيه، وخرب عماد الدين في ذلك الوقت حصن الأثارب المذكور، وجعله دكاً وبقي خراباً إلى الآن.
ذكر وفاة الآمر بأحكام الله العلوي في هذه السنة في ذي القعدة قتل الآمر بأحكام الله العلوي أبو علي منصور بن المستعلي أحمد بن المستنصر معد العلوي صاحب مصر، وكان قد خرج إلى مستنزه له، فلما عاد وثب عليه الباطنية فقتلوه، وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنه وخمسة أشهر وخمسة عشر يوماً. وعمره أربعاً وثلاثين سنة.
وهو العاشر من ولد المهدي عبيد الله. وهو العاشر من الخلفاء العلويين. ولما قتل الآمر لم يكن له ولد، فولى بعده ابن عمه الحافظ، عبد المجيد بن أبي القاسم بن المستنصر بالله، ولم يبايع أولاً بالخلافة، بل كان على صورة نائب لانتظار حمل إن ظهر للآمر.
ولما تولى الحافظ، استوزر أبا علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي، فاستبد بالأمر، وتغلب على الحافظ وحجر عليه، ونقل أبو علي ما كان بالقصر من الأموال إلى داره، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن قتل أبو علي سنة ست وعشرين على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلك:في هذه السنة كان الرصد في دار السلطنة شرقي بغداد، تولاه البديع الإسطرلابي ولم يتم. وفي هذه السنة ملك السلطان مسعود قلعة ألموت. وفيها توفي إبراهيم بن عثمان بن محمد الغزي عند قلعة بلخ ودفن فيها، وهو من أهل غزة، ومولده سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وهو من الشعراء المجيدين فمن قصائده المشهورة قصيدته التي مدح فيها الترك التي أولها:
أمط عن الدرر الزهر اليواقيتا ... وأجعل لحج تلاقينا مواقيتا
ومنها:
في فتية من جيوش الترك ما تركت ... للرعد كراتهم صوتاً ولا صيتا
قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة ... حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
ثم ترك الغزي قول الشعر وغسل كثيراً منه وقال:
قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة ... باب البواعث والدواعي مغلق
خلت البلاد فلا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق
ومن العجائب أنه لا يشترى ... ويخان فيه مع الكساد ويسرق
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وخمسمائة.
فيها أسر دبيس بن صدقة وسبب ذلك مسيره من العراق إلى صرخد، لأن صرخد كان صاحبها خصياً، وكانت له سرية، فتوفي الخصي في هذه السنة، واستولت سريته على قلعة صرخد وما فيها، وعلمت أنه لا يتم لها ذلك إن لم تتصل برجل يحميها، فأرسلت إلى دبيس ابن صدقة تستدعيه للتزوج به، وتسلم إليه صرخد وما فيها من مال وغيره.
فسار دبيس من العراق إليها، فضل به الأدلاء بنواحي دمشق، فنزل بناس من كلب كانوا شرقي الغوطة، فأخذوه وحملوه إلى تاج الملوك توري بن طغتكين صاحب دمشق، في شعبان من هذه السنة، فحبسه توري، وسمع عماد الدين زنكي بأسر دبيس، فأرسل إلى توري يطلبه، ويبذل له إطلاق ولده سونج ومن معه من الأمراء الذين غدر بهم زنكي وقبضهم. كما تقدم ذكره.

فأجاب توري إلى ذلك، وأفرج زنكي عن المذكورين، وتسلم دبيس، فأيقن دبيس بالهلاك، لأنه كان كثير الوقيعة في عماد الدين زنكي، ففعل معه الزنكي بخلاف ما كان يظن، وأحسن إلى دبيس، وحمل إليه الأموال والسلاح والدواب، وقدمه على نفسه، ولم يزل دبيس مع عماد الدين زنكي حتى انحدر معه إلى العراق على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وسمع الخليفة المسترشد بقبض دبيس، فأرسل يطلبه مع سديد الدولة ابن الأنباري، وأبي بكر بن بشر الجزري. فأمسكهما عماد الدين زنكي، وسجن ابن الأنباري، ووقع منه في حق ابن بشر مكروه قوي، ثم شفع المسترشد في ابن الأنباري فأطلقه.
ذكر وفاة السلطان محمود وملك ابنه داود في هذه السنة في شوال، توفي السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود ابن ميكائيل بن سلجوق بهمدان. فأقعد وزيره أبو القاسم النساباذي. ابنه داود بن محمود في السلطنة، وصار أتابكه أقسنقر الأحمديلي. وكان عمر السلطان محمود لما توفي، نحو سبع وعشرين سنة، وكانت ولايته السلطنة اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرين يوماً، وكان حليماً عاقلاً يسمع المكروه ولا يعاقب عليه، مع قدرته عليه.
ذكر غير ذلكفي هذه السنة وثب الباطنية على تاج الملوك توري بن طغتكين صاحب دمشق. فجرحوه جرحين، برئ أحدهما وبقي الآخر ينسر عليه، إلا أنه يجلس للناس ويركب على ضعف فيه. وفيها توفي حماد بن مسلم الرحبي الرياشي الزاهد المشهور، صاحب الكرامات، وسمع الحديث، وله أصحاب وتلاميذ كثيرة، وكان أبو الفرج ابن الجوزي يذمه ويثلبه.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وخمسمائة فيها قتل أبو علي بن الفضل بن بدر الجمالي، وزير الحافظ لدين الله العلوي. وكان أبو علي المذكور قد حجر على الحافظ، وقطع خطبة العلويين وخطب لنفسه خاصة، وقطع من الأذان " حي على خير العمل " ، فنفرت منه قلوب شيعة العلويين، وثار به جماعة من المماليك، وهو يلعب الكرة فقتلوه، ونهبت داره.
وخرج الحافظ من الاعتقال ونقل ما بقي في دار أبي علي إلى القصر، وبويع الحافظ في يوم قتل أبي علي بالخلافة، واستوزر أبا الفتح يانس الحافظي، وبقي يانس مدة قليلة ومات، فاستوزر الحافظ ابنه الحسن بن الحافظ، وخطب له بولاية العهد، ثم قتل الحسن المذكور سنة تسع وعشرين وخمسمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة تحرك السلطان مسعود بن محمد في طلب السلطنة وأخذها من ابن أخيه داود ابن محمود، وكذلك تحرك سلجوق بن محمد صاحب فارس، أخو مسعود، وأتابكه قراجا الساقي، في طلب السلطنة، وقدم سلجوق إلى بغداد، واتفق الخليفة المسترشد معه، واستنجد مسعود بعماد الدين زنكي، فسار إلى بغداد لقتال الخليفة وسلجوق، فقاتله قراجا أتابك سلجوق وانهزم زنكي إلى تكريت، وعبر منها، وكان الدزدار بها إذ ذاك نجم الدين أيوب فأقام له المعابر فعبر عماد الدين وسار إلى بلاده، وكان هذا الفعل من نجم الدين أيوب سبباً للاتصال بعماد الدين زنكي، حتى ملك أيوب البلاد.
ثم اتفق الحال بين مسعود وأخيه سلجوق والخليفة المسترشد على أن تكون السلطنة لمسعود، ويكون أخوه سلجوق شاه ولي عهده، وعادوا إلى بغداد، ونزل مسعود بدار السلطنة وسلجوق بدار الشحنكية، وكان اجتماعهم في جمادى الأولى من هذه السنة، ثم إن السلطان سنجر سار من خراسان ومعه طغريل ابن أخيه السلطان محمد، لأخذ السلطنة من مسعود، وجرى المصاف بينه وبين مسعود وسلجوق، فانهزم مسعود ثم إن السلطان سنجر بذل الأمان لمسعود، فحضر عنده، وكان قد بلغ خونج فلما رآه سنجر قبله وأكرمه وعاتبه وأعاده إلى كنجه، وأجلس الملك طغريل في السلطنة، وخطب له في جميع البلاد، ثم عاد إلى خراسان، فوصل إلى نيسابور في رمضان من هذه السنة.
ذكر الحرب بين المسترشد الخليفة
وبين عماد الدين زنكي:في هذه السنة سار عماد الدين زنكي ومعه دبيس بن صدقة وعدى الخليفة إلى الجانب الغربي، وسار ونزل بالعباسية ونزل عماد الدين بالمنارية من دجيل. والتقيا بحصن البرامكة في سابع وعشرين رجب، فحمل عماد الدين على ميمنة الخليفة فهزمها، وحمل الخليفة بنفسه وبقية العسكر، فانهزم دبيس ثم انهزم عماد الدين، وقتل بينهم خلق كثير.
ذكر وفاة توري صاحب دمشق

في هذه السنة توفي تاج الملوك بن طغتكين صاحب دمشق، بسبب الجرح الذي كان به من الباطنية، على ما تقدم ذكره، فتوفي في حادي وعشرين رجب وكانت إمارته أربع سنين وخمسة أشهر وأياماً. ووصى بالملك بعده لولده شمس الملوك إسماعيل، ووصى ببعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد، وكان توري شجاعاً سد مسد أبيه.
ولما استقر إسماعيل بن توري في ملك دمشق وأعمالها، واستقر أخوه محمد في ملك بعلبك، واستولى محمد على حصن الرأس وحصن اللبوة، وكاتب إسماعيل صاحب دمشق أخاه محمداً صاحب بعلبك في إعادتهما، فلم يقبل محمد ذلك، فسار إسماعيل وفتح حصن اللبوة، ثم حصن الرأس، وقرر أمرهما، ثم سار إلى أخيه محمد وحصره ببعلبك وملك المدينة، وحصر القلعة، فسأله محمد في الصلح فأجابه، وأعاد عليه بعلبك وأعمالها. واستقرت أمورهما، وعاد إسماعيل إلى دمشق مؤيداً منصوراً.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وخمسمائة.
فيها سار شمس الملوك إسماعيل بن توري صاحب دمشق على غفلة من الفرنج إلى حصن بانياس، فملك مدينة بانياس بالسيف، وقتل وأسر من كان بها، وحاصر قلعة بانياس وتسلمها بالأمان.
وفي هذه السنة جمع السلطان مسعود العساكر وانضم إليه ابن أخيه داود بن محمود، وسار السلطان مسعود إلى أخيه طغريل وجرى بينهما قتال شديد، انهزم فيه طغريل، واستولى مسعود على السلطنة، وتبع أخاه طغريل يطرده من موضع إلى موضع، حتى وصل إلى الري. واقتتلا ثانياً فانهزم طغريل أيضاً وأسر جماعة من أمرائه.
وفيها سار الخليفة المسترشد بعساكر بغداد، وحصر الموصل ثلاثة أشهر، وكان عماد الدين زنكي قد خرج من الموصل إلى سنجار، وحصن الموصل بالرجال والذخائر، ثم رحل الخليفة عن الموصل وعاد إلى بغداد ووصل إليها في يوم عرفة، ولم يظفر منها بطائل.
ذكر ملك شمس الملوك إسماعيل مدينة حماة وفي هذه السنة، سار إسماعيل بن توري صاحب دمشق من دمشق في العشر الآخر من رمضان إلى حماة، وهي لعماد الدين زنكي، من حين غدر بسونج بن توري وأخذها منه، حسبما تقدم ذكره في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة فحصرها شمس الملوك إسماعيل، وقاتل من بها يوم عيد الفطر، وعاد ولم يملكها فلما كان الغد، بكر إليهم وزحف من جميع جوانب البلد فملكه عنوة، وطلب من به الأمان فأمنهم، وحصر القلعة ولم تكن إذ ذاك حصينة، فإنها حصنت فيما بعد، لأن تقي الدين عمر ابن أخي السلطان صلاح الدين، قطع جبلها وعملها على ما هي عليه الآن، في سنين كثيرة، فلما حصرها شمس الملوك إسماعيل، وعجز النائب بها عن حفظها، فسلمها إليه، فاستولى عليها وعلى ما بها من ذخائر وسلاح، وذلك في شوال من هذه السنة.، لما فرغ شمس الملوك إسماعيل من حماة، سار إلى شيزر وبها صاحبها من بني منقذ، فنهب بلدها وحصر القلعة، فصالحه صاحبها بمال حمله إليه، فعاد عنها وسار إلى دمشق، ووصل إليها في ذي القعدة من هذه السنة.
ذكر غير ذلك من الحوادثفي هذه السنة اجتمعت التراكمين وقصدوا طرابلس، فخرج من بها من الفرنج إليهم واقتتلوا، فانهزم الفرنج وسار القومص صاحب طرابلس ومن في صحبته، فانحصروا في حصن بعرين وحصرهم التركمان بها، ثم هرب القومص من الحصن في عشرين فارساً، وخلى بحصن بعرين من يحفظه ثم جمع الفرنج وقصدوا التركمان، ليرحلوهم عن بعرين، فاقتتلوا فانحاز الفرنج إلى نحور فنية وعاد التركمان عنهم.
وفيها اشترى الإسماعلية حصن القدموس من صاحبه ابن عمرون. وفيها وفي ربيع الآخر، وثب على شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق، بعض مماليك جده طغتكين، فضربه بسيف فلم يعمل فيه، وتكاثر على ذلك الشخص مماليك شمس الملوك فقبضوه، وقرره شمس الملوك فقال ما أردت إلا إراحة المسلمين من شرك وظلمك، ثم أقر على جماعة من شدة الضرب، فقتلهم من غير تحقيق، وقتل شمس الملوك إسماعيل أيضاً مع ذلك الشخص أخاه سونج بن توري، الذي كان بحماة وأسره زنكي، على ما تقدم ذكره في سنة ثلاثة وعشرين وخمسمائة، فعظم ذلك على الناس ونفروا من شمس الملوك إسماعيل المذكور.
وفيها توفي علي بن يعلي بن عوض الهروي، وكان واعظاً، وله بخراسان قبول كثير، وسمع الحديث فأكثر. وفيها توفي أبو فليتة أمير مكة، وولي إمارة مكة بعده أبو القاسم.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.

فيها في المحرم سار شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق إلى حصن الشقيق، وكان بيد الضحاك بن جندل، رئيس وادي التيم، قد تغلب عليه وامتنع به، فأخذه شمس الملوك منه، وعظم ذلك على الفرنج، وقصدوا بلد حوران، وجمع شمس الملوك الجموع وناوشهم، ثم أغار على بلادهم من جهة طبرية، ففت ذلك في أعضاد الفرنج؛ ورحلوا عائدين إلى بلادهم، ثم وقعت الهدنة بينهم وبين شمس الملوك.
وفي هذه السنة استولى عماد الدين زنكي على جميع قلاع الأكراد الحميدية، منها قلعة العقير، قلعة شوش وغيرهما ثم استولى على قلاع الهكارية وكواشي.
وفيها أوقع ابن دانشمند صاحب ملطية بالفرنج الذين بالشام، فقتل كثيراً منهم. وفيها اصطلح الخليفة المسترشد وعماد الدين زنكي.
ثم دخلت سنة تسمع وعشرين وخمسمائة.
فيها مات السلطان طغريل ابن السلطان محمد، وكان بعد هزيمته من أخيه مسعود، قد استولى على بلاد الجبل فمات في هذه السنة في المحرم، وقيل إن وفاته كانت في أول سنة ثمان وعشرين، وهو الأصح في ظني، وكان مولده سنة ثلاث وخمسمائة في المحرم أيضاً وكان خيراً عاقلاً، ولما بلغ أخاه مسعوداً خبر وفاته، سار نحو همذان، وأقبلت العساكر جميعاً إليه، واستولى على همذان وطاعته البلاد جميعها.
ذكر قتل إسماعيل صاحب دمشق في هذه السنة في رابع عشر ربيع الآخر، قتل شمس الملوك إسماعيل بن توري بن طغتكين، وكان مولده في سابع جمادى الآخرة، سنة ست وخمسمائة، قتله على غفلة جماعة باتفاق من والدته، وقد اختلف في سببه فقيل إن الناس لفرط جور إسماعيل المذكور، وظلمه ومصادرته، كرهوه وشكوه لأمه، فاتفقت مع من قتله، وقيل بل إن أمه اتهمت بشخص من أصحاب والده يقال له يوسف بن فيروز، فأراد قتل أمه فاتفقت مع من قتله. وسر الناس بقتله، ولما قتل ملك بعده أخوه شهاب الدين محمود بن توري، وحلف له الناس.
وفيها بعد قتل شمس الملوك، وصل عماد الدين زنكي إلى دمشق، وحصرها وضيق عليها، وقام في حفظ البلد معين الدين أنز مملوك طغتكين، القيام التام الذي تقدم به، واستولى على الأمر بسببه، فلما لم ير زنكي في أخذ دمشق مطمعه اصطلح مع أهلها ورحل عنها عائداً إلى بلاده.
ذكر قتل حسن بن الحافظ لدين الله العلوي قد تقدم في سنة ست وعشرين وخمسمائة أن أباه استوزره، فتغلب حسن المذكور على الأمر واستبد به، وأساء السيرة وأكثر من قتل الأمراء وغيرهم ظلماً وعدواناً، وأكثر من مصادرات الناس، فأراد العسكر الإيقاع به وبأبيه، فعلم أبوه الحافظ ذلك، فسقاه سماً فمات، ولما مات حسن، استوزر الحافظ، تاج الدولة بهرام، وكان نصرانياً فتحكم واستعمل الأرمن على الناس، فكان ما سنذكره.
الحرب بين الخليفة المسترشد وبين السلطان مسعود
وأسر الخليفة وقتله:في هذه السنة، كانت الحرب بين الخليفة المسترشد وبين السلطان مسعود، وسببه أن جماعة من عسكر مسعود فارقوه مغاضبين، واتصلوا بالخليفة المسترشد، وهونوا عليه قتال السلطان مسعود، فاغتر بكلامهم وسار من بغداد إلى قتال السلطان مسعود، وسار مسعود إليه واتقعوا عاشر رمضان من هذه السنة، فصار غالب عسكر الخليفة مع مسعود، وانهزم الباقون، وأخذ الخليفة المسترشد أسيراً ونهب عسكره، وأسروا وبقى المسترشد مع مسعود أسيراً، ثم سار به مسعود من همذان إلى مراغة، في شوال، لقتال ابن أخيه داود بن محمود فنزل على فرسخين من مراغة والمسترشد معه في خيمة منفردة، وكان قد اتفق مسعود مع الخليفة على مال يحمله الخليفة إليه وأن لا يعود يخرج من بغداد، واتفق وصول رسول السلطان سنجر إلى مسعود، فركب مسعود والعساكر لملتقاه، فوثبت الباطنية على المسترشد، وهو في تلك الخيمة فقتلوه ومثلوا به، فجدعوا أنفه وأذنيه، وقتل معه نفر من أصحابه، وكان قتل المسترشد يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة بظاهر مراغة، وكان عمره لما قتل ثلاثاً وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وكانت خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوماً. وأمه أم ولد، وكان فصيحاً حسن الخط شهماً.
ذكر خلافة الراشد وهو الثلاثون من خلفاء بني العباس

لما قتل المسترشد بالله، بويع ابنه الراشد بالله أبو جعفر المنصور بن المسترشد فضل بن المستظهر أحمد، وكان أبوه قد بايع له بولاية العهد في حياته، ثم بعد قتله جددت له بيعة في يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي القعدة، من هذه السنة، وكتب مسعود إلى بغداد بذلك، فحضر بيعته أحد وعشرين رجلاً من أولاد الخلفاء.
ذكر قتل دبيس في هذه السنة قتل السلطان مسعود، دبيس بن صدقة على باب سرداقه، بظاهر مدينة خوى، أمر غلاماً أرمنياً بقتله، فوقف على رأس دبيس وهو ينكث في الأرض بإصبعه، فضرب رقبته وهو لا يشعر، وكان ابنه صدقة بن دبيس بالجيلة، فلما بلغه الخبر، اجتمع عليه عسكر أبيه، وكثر جمعه، وما أكثر ما يتفق قرب موت المتعاديين فإن دبيساً كان يعادي المسترشد بالله، فاتفق قتل أحدهما عقيب قتل الآخر.
ذكر غير ذلك: في هذه السنة استولى الفرنج على جزيرة جربة، من أعمال إفريقية، وهرب وأسر من كان بها من المسلمين.
وفيها صالح المستنصر بن هود الفرنج على تسليم حصن زوطة من بلاد الأندلس، وسلمه إلى صاحب طليطلة الفرنجي.
ثم دخلت سنة ثلاثين وخمسمائة.
ذكر ملك شهاب الدين حمص في هذه السنة في الثاني والعشرين من ربيع الأول، تسلم شهاب الدين محمود بن توري صاحب دمشق مدينة حمص وقلعتها، وسبب ذلك أن أصحابها أولاد الأمير قيرخان بن قراجا، والوالي بها من قبلهم، ضجروا من كثرة تعرض عماد الدين زنكي إليها وإلى أعمالها، فراسلوا شهاب الدين في أن يسلموها إليه، ويعطيهم عوضها تدمر، فأجابهم إلى ذلك وتسلم حمص، وأقطعها المملوك جده معين الدين أنز، وسلم إليهم تدمر. فلما رأى عسكر زنكي بحلب وحماة خروج حمص إلى صاحب دمشق، تابعوا الغارات على بلدها، فأرسل شهاب الدين محمود إلى عماد الدين زنكي في الصلح، فاستقر بينهما، وكف عسكر عماد الدين عن حمص.
ذكر غير ذلكفيها سارت عساكر عماد الدين زنكي الذين بحلب وحماة، ومقدمهم إسوار نائب زنكي بحلب إلى بلاد الفرنج بنواحي اللاذقية، وأوقعوا بمن هناك من الفرنج، وكسبوا من الجواري والمماليك والأسرى والدواب ما ملأ الشام من الغنائم، وعادوا سالمين.
ذكر خلع الراشد وخلافة المقتفي
وهو حادي ثلاثينهمكان الراشد قد اتفق مع بعض ملوك الأطراف، مثل عماد الدين زنكي وغيره، على خلاف السلطان مسعود، وطاعة داود بن السلطان محمود، فلما بلغ مسعوداً ذلك، جمع العساكر وسار إلى بغداد، ونزل عليها وحصرها، ووقع في بغداد النهب من العيارين والمفسدين، ودام مسعود محاصرها نيفاً وخمسين يوماً فلم يظفر بهم، فارتحل إلى النهروان.
ثم وصل طرنطي صاحب واسط بسفن كثيرة فعاد مسعود إلى بغداد وعبر إلى غربي دجلة، واختلفت كلمة عساكر بغداد، فعاد الملك داود إلى بلاده أذربيجان في ذي القعدة، وسار الخليفة الراشد من بغداد مع عماد الدين زنكي إلى الموصل، ولما سمع مسعود بمسير الخليفة وزنكي، سار إلى بغداد واستقر بها في منتصف ذي القعدة، وجمع مسعود القضاة وكبراء بغداد، وأجمعوا على خلع الراشد، بسبب أنه كان قد عاهد مسعود على أنه لا يقاتله، ومتى خالف ذلك فقد خلع نفسه، وبسبب أمور ارتكبها، فخلع وحكم بفسقه وخلعه.
وكانت مدة خلافة الراشد أحد عشر شهراً وأحد عشر يوماً، تم استشار السلطان مسعود فيمن يقيمه في الخلافة، فوقع الاتفاق على محمد بن المستظهر فأحضر وأجلس في الميمنة، ودخل إليه السلطان مسعود وتحالفا، ثم خرج السلطان وأحضر الأمراء وأرباب المناصب والقضاة والفقهاء وبايعوه، ولقبوه المقتفي لأمر الله، والمقتفي عم الراشد المذكور، وهو والمسترشد أبناء المستظهر، وليا الخلافة، وكذلك السفاح والمنصور أخوان، وكذلك المهدي والرشيد أخوان، وكذلك الواثق والمتوكل، وأما ثلاثة أخوة ولوا الخلافة، فالأمين والمأمون والمعتصم أولاد الرشيد، وكذلك المكتفي والمقتدر والقاهر، والمعتضد والراضي والمتقي والمطيع بنو المقتدر.
وأما أربعة إخوة ولوها، فالوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك بن مروان، لا يعرف غيرهم. وعمل محضر بخلع الراشد، وأرسل إلى الموصل، وزاد المتقي في إقطاع عماد الدين زنكي وألقابه، وأرسل المحضر، فحكم به قاضي القضاة الزينبي بالموصل، وخطب للمقتفي في الموصل في رجب سنة إحدى وثلاثين.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة.
فيها عزل الحافظ وزيره بهرام النصراني الأرمني، بسبب ما اعتقد من تولية الأرمن على المسلمين وإهانتهم لهم، فأنف من ذلك شخص يسمى رضوان بن الوكحشي، وجمع جمعاً وقصد بهرام، فهرب بهرام إلى الصعيد. ثم عاد وأمسكه الحافظ وحبسه في القصر. ثم إن بهرام المذكور ترهب وأطلقه الحافظ، ولما هرب بهرام، استوزر الحافظ رضوان المذكور، ولقبه الملك الأفضل، وهو أول وزير للمصريين لقب بالملك. ثم إنه فسد ما بين رضوان والحافظ، فهرب رضوان وجرى له أمور يطول شرحها، آخرها أن الحافظ قتل رضوان المذكور، ولم يستوزر بعده أحداً، وباشر الأمور بنفسه إلى أن مات.
حصر زنكي حمص ورحيله إلى بارين وفتحها في هذه السنة نزل عماد الدين زنكي حمص، وبها صاحبها معين الدين أتز فلم يظفر بها، فرحل عنها في العشرين من شوال إلى بعرين، وحصر قلعتها، وهي للفرنج، وضيق عليها، فجمع الفرنج ملوكهم ورجالهم وساروا إلى زنكي ليرحلوه عن بعرين، فلما وصلوا إليه لقيهم وجرى بينهم قتال شديد، فانهزمت الفرنج، ودخل كثير من ملوكهم لما هربوا إلى حصن بعرين، وعاود عماد الدين زنكي حصار الحصن وضيق عليه، وطلب الفرنج الأمان، فقرر عليهم تسليم حصن بعرين وخمسين ألف دينار يحملونها إليه، فأجابوا إلى ذلك، فأطلقهم وتسلم الحصن وخمسين ألف دينار.
وكان زنكي في مدة مقامه على حصار بعرين قد فتح المعرة وكفر طاب وأخذهما من الفرنج. وحضر أهل المعرة وطلبوا تسليم أملاكهم التي كان قد أخذها الفرنج، فطلب زنكي منهم كتب أملاكهم، فذكروا أنها عدمت، فكشف من ديوان حلب عن الخراج، وأفرج عن كل ملك كان عليه الخراج لأصحابه.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.
ملك عماد الدين زنكي حمص وغيرها في هذه السنة في المحرم، وصل زنكي حماة وسار منها إلى بقاع بعلبك، فملك حصن المجدل، وكان لصاحب دمشق، وراسله مستحفظ بانياس وأطاعه، وسار إلى حمص وحصرها. ثم رحل عنها إلى سلمية بسبب نزول الروم على حلب، على ما نذكره. ثم عاد إلى منازلة حمص فسلمت إليه المدينة والقلعة.
وأرسل عماد الدين زنكي وخطب أم شهاب الدين محمود، صاحب دمشق، وتوجها واسمها مردخاتون بنت جاولي، وهي التي قتلت ابنها شمس الملوك إسماعيل بن توري، وهي التي بنت المدرسة المطلة على وادي الشقرا بظاهر دمشق، وحملت الخاتون إلى عماد الدين في رمضان، وإنما تزوجها طمعاً على الاستيلاء على دمشق، لما رأى من تحكمها، فلما خاب ما أمله ولم يحصل على شيء، أعرض عنها.
وصول ملك الروم إلى الشام وما فعله كان قد خرج ملك الروم متجهزاً من بلاده في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، فاشتغل بقتال الأرمن وصاحب أنطاكية وغيره من الفرنج، فلما دخلت هذه السنة، وصل إلى الشام وسار إلى بزاعة وهي على ستة فراسخ من حلب، وحاصرها وملكها بالأمان في الخامس والعشرين من رجب، ثم غدر بأهلها وأسر وسبى، وتنصر قاضيها، وقدر أربعمائة نفس من أهلها، وأقام على بزاعة بعد أخذها عشرة أيام، ثم رحل عنها بمن معه من الفرنج إلى حلب، ونزل على قويق، وزحف على حلب، وجرى بين أهلها وبينهم قتال كثير، فقتل من الروم بطريق عظيم القدر عندهم، فعادوا خاسرين، وأقاموا ثلاثة أيام ورحلوا إلى الأثارب وملكوها، وتركوا فيها سبايا بزاعة وتركوا عندهم من الروم من يحفظهم.
وسار ملك الروم بمجموعة من الأثارب نحو شيزر، فخرج الأمير أسوار نائب زنكي بحلب بمن عنده، وأوقع بمن في الأثارب من الروم فقتلهم واستفكت أسرى بزاعة وسباياها، وسار ملك الروم بجموعه إلى شيزر وحصرها، ونصب عليها ثمانية عشر منجنيقاً، وأرسل صاحب شيزر أبو العساكر سلطان بن علي بن مقلد بن نصر ابن منقذ الكناني إلى زنكي يستنجده، فسار زنكي ونزل على العاصي بين حماة وشيزر، وكان يركب عماد الدين زنكي وعسكره كل يوم، ويشرفون على الروم وهم محاصرون لشيزر، بحيث يراهم الروم ويرسل السرايا فيأخذون كل ما يظفرون به منهم، وأقام ملك الروم محاصراً شيزر أربعة وعشرون يوماً، ثم رحل عنها من غير أن ينال منها غرضاً، وسار زنكي في أثر الروم، فظفر بكثير ممن تخلف منهم، ومدح الشعراء زنكي بسبب ذلك، فأكثروا، فمن ذلك ما قاله مسلم بن خضر بن قسيم الحموي من أبيات:

لعزمك أيها الملك العظيم ... تذل لك الصعاب وتستقيم
ألم تر أن كلب الروم لما ... تبين أنه الملك الرحيم
وقد نزل الزمان على رضاء ... ودان لخطبه الخطب العظيم
فحين رميته بك عن خميس ... تيقن فوت ما أمسى يروم
كأنك في العجاج شهاب نور ... توقد وهو شيطان رجيم
أراد بقاء مهجته فولى ... وليس سوى الحمام له حميم
ذكر مقتل الراشد كان الراشد قد سار من بغداد إلى الموصل مع عماد الدين زنكي وخلع كما تقدم ذكره. ثم فارق الراشد زنكي وسار من الموصل إلى مراغة، واتفق الملك داود بن السلطان محمود وملوك تلك الأطراف، على خلاف السلطان مسعود وقتاله، وإعادة الراشد إلى الخلافة، وسار السلطان مسعود إليهم واقتتلوا، فانهزم داود وغيره، واشتغل أصحاب السلطان مسعود بالكسب، وبقي وحده، فعمل عليه أميران يقال لهما بوزايه وعبد الرحمن طغايرك، فانهزم مسعود من بين أيديهما، وقبض بوزايه على جماعة من أمرائه، وعلى صدقة بن دبيس صاحب الحلة، ثم قتلهم أجمعين.
وكان الراشد إذ ذاك بهمذان، فلما كان من الوقعة ما كان سار الملك داود إلى فارس، وتفرقت تلك الجموع وبقي الراشد وحده، فسار إلى أصفهان، فلما كان الخامس والعشرون من رمضان، وثب عليه نفر من الخرسانية الذين كانوا في خدمته، فقتلوه وهو يريد القيلولة، وكان من أعقاب مرض قد برئ منه، ودفن بظاهر أصفهان بشهرستان، ولما وصل خبر قتل الراشد إلى بغداد، جلسوا لعزائه يوماً واحداً.
ذكر غير ذلك:في هذه السنة ملك حسام الدين تمرتاش بن أيلغازي صاحب ماردين، قلعة الهتاخ من ديار بكر، أخذها من بعض بني مروان الذين كانوا ملوك ديار بكر جميعها وهو آخر من بقي منهم.
وفيها قتل السلطان مسعود البقش، شحنة بغداد.
وفيها جاءت زلزلة عظيمة بالشام والعراق وغيرهما من البلاد فخربت كثيراً هلك تحت الهدم عالم كثير.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه في هذه السنة في المحرم، شار سنجر بجموعه إلى خوارزم شاه أطسز بن محمد بن أنوش تكين، وقد تقدم ذكر ابتداء أمر محمد بن أنوش تكين في سنة تسعين وأربعمائة. ووصل سنجر إلى خوارزم، وخرج خوارزم شاه لقتاله، واقتتلوا، فانهزم أطسز خوارزم شاه، واستولى سنجر على خوارزم وأقام بها من يحفظها، وعاد إلى مرو في جمادى الآخرة من هذه السنة، وبعد أن عاد سنجر إلى بلاده، عاد أطسز إلى خوارزم واستولى عليها.
قتل محمود صاحب دمشق في هذه السنة في شوال قتل شهاب الدين محمود بن توري بن طغتكين صاحب دمشق، قتله غيلة على فراشه ثلاثة من خواص غلمانه وأقرب الناس منه، كانوا ينامون عنده، فقتلوه وخرجوا من القلعة وهربوا فنجا أحدهم وأخذ الاثنان وصلبا، واستدعى معين الدين أتز أخاه جمال الدين محمد بن توري، وكان صاحب بعلبك فحضر إلى دمشق وملكها.
ذكر ملك زنكي بعلبك في هذه السنة في ذي القعدة، سار عماد الدين زنكي إلى بعلبك، ووصل إليها في العشرين من ذي الحجة وحصرها ونصب عليها أربعة عشر منجنيقاً فطلب أهلها الأمان فأمنهم، وسلموا إليه المدينة، واستمر الحصار على القلعة حتى طلبوا الأمان أيضاً فأمنهم وسلموا إليه القلعة، فلما نزلوا منها وملكها، غدر بهم وأمر بهم فصلبوا عن آخرهم، فاستقبح الناس ذلك واستعظموه، وحذره الناس، وكانت بعلبك لمعين الدين أتز، أعطاه إياها جمال الدين محمد لما ملك دمشق، وكان أتز قد تزوج بأم جمال الدين محمد صاحب دمشق، وكان له جارية يحبها، فأخرجها أتز إلى بعلبك. فلما ملك زنكي بعلبك أخذ الجارية المذكورة وتزوجها في حلب، وبقيت مع زنكي حتى قتل على قلعة جعبر، فأرسلها ابنه نور الدين محمود بن زنكي إلى أتز وهي كانت أعظم الأسباب في المودة بين نور الدين وأتز.
ذكر غير ذلك في هذه السنة توالت الزلازل بالشام، وخربت كثيراً من البلاد لا سيما حلب. فإن أهلها فارقوا بيوتهم، وخرجوا إلى الصحراء. ودامت من رابع صفر إلى تاسع عشر.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وخمسمائة.

في هذه السنة سار عماد الدين زنكي إلى دمشق وحصرها، وزحف عليها، وبذل لصاحبها جمال الدين محمد بعلبك وحمص، فلم يأمنوا إليه بسبب غدره بأهل بعلبك، وكان نزوله على داريا في ثالث عشر ربيع الأول، واستمر منازلاً لدمشق، فمرض في تلك المدة جمال الدين محمد بن توري صاحب دمشق ومات، في ثامن شعبان.
فطمع زنكي حينئذ في ملك دمشق وزحف إليها واشتد القتال فلم ينل غرضاً. ولما مات جمال الدين محمد، أقام معين الدين أتز في الملك، ولده مجير الدين أتق بن محمد بن توري بن طغتكين، واستمر أتز يدبر الدولة، فلم يظهر لموت جمال الدين محمد أثر.
ثم رحل زنكي ونزل بعذرا من المرج في سادس شوال وأحرق عدة من قرى المرج ورحل عائداً إلى بلاده.
وفي هذه السنة ملك زنكي شهر زور وأخذها من صاحبها قبجق بن ألب أرسلان شاه التركماني، وبقي في طاعة زنكي، ومن جملة عسكره وفيها قتل المقرب جوهر من كبراء عسكر سنجر، وكان قد عظم في الدولة، وكان من جملة إقطاع المقرب المذكور الري. قتله الباطنية، ووقفوا له في زي النساء؛ واستغثن به، فوقف يسمع كلامهم فقتلوه.
وفيها توفي هبة الله بن الحسين بن يوسف المعروف بالبديع الإسطرلابي، وكانت له اليد الطولى في عمل الإسطرلاب والآلات الفلكية، وله شعر جيد؛ وأكثره في الهزل.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. في هذه السنة وصل رسول السلطان سنجر ومعه بردة النبي صلى الله عليه وسلم والقضيب، وكانا أخذا من المسترشد، فأعادهما الآن إلى المقتفي.
وفي هذه السنة ملك الإسماعيلية حصن مصياف بالشام، وكان واليه مملوكاً لبني منقذ صاحب شيزر فاحتال عليه الإسماعيلية ومكروا به حتى صعدوا إليه وقتلوه وملكوا الحصن.
وفيها توفي الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان، قتيلاً في فندق بمراكش، وكان فاضلاً في الأدب، وألف عدة كتب منها: قلائد العقيان، ذكر فيه عدة من الفضلاء وأشعارهم، ولقد أجاد فيه.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة. في هذه السنة في المحرم، وقيل في صفر كان المصاف العظيم بين الترك الكفار من الخطا وبين السلطان سنجر. فإن خوارزم شاه أطسز بن محمد لما هزمه سنجر وقتل ولد أطسز، عظم ذلك عليه، وكاتب الخطا وأطمعهم في ملك ما وراء النهر فساروا في جمع عظيم، وسار إليهم السلطان سنجر في جمع عظيم، والتقوا بما وراء النهر، فانهزم عسكر سنجر، وقتل منهم خلق عظيم، وأسرت امرأة سنجر، ولما تمت الهزيمة على المسلمين، سار خوارزم شاه أطسز إلى خراسان، ونهب أموال سنجر، ومن بلادها شيئاً كثيراً، واستقرت دولة الخطا والترك الكفار بما وراء النهر.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وخمسمائة. في هذه السنة بعث عماد الدين زنكي جيشاً ففتحوا قلعة أشب، وكانت من أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها، ولما ملكها زنكي أمر بإخرابها وبناء القلعة المعروفة بالعمادية عوضاً عنها، وكانت العمادية حصنا عظيماً خراباً، فلما عمره عماد الدين زنكي سمي العمادية نسبه إليه.
وفيها سارت الفرنج في البحر من صقلية إلى طرابلس الغرب، فحصروها ثم عادوا عنها. وفيها توفي محمد بن الدانشمند صاحب ملطية والثغر، واستولى على بلاده الملك مسعود بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب قونية.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة في هذه السنة كان الصلح بين السلطان مسعود وبين عماد الدين زنكي. وفيها سار زنكي بعساكره إلى ديار بكر، ففتح منها طنزة واستعرد، وحيزان وحصن الروق، وحصن قطليس وحصن باتاسا وحصن ذي القرنين، وأخذ من بلد ماردين مما هو بيد الفرنج، جملين والموزر وتل موزر من حصون شنحتان.
وفيها سار السلطان سنجر بعسكره إلى خوارزم، وحصر أطسز بها، فبذل خوارزم شاه أطسز الطاعة، فأجابه سنجر إلى ذلك واصطلحا، وعاد سنجر إلى مرو.
وفيها ملك زنكي عانة من أعمال الفرات.
وفيها قتل داود ابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، قتله جماعة اغتالوه ولم يعرفوا.

وفيها توفي أبو القاسم محمود بن عمر النحوي الزمخشري، ولد في رجب سنة سبع وستين وأربعمائة. وهو من زمخشر، قرية من قرى خوارزم. كان إماماً في العلوم، صنف المفصل في النحو والكشاف في التفسير، وجهر القول فيه بالاعتزال، وافتتحه بقوله: الحمد لله الذي خلق القرآن منجماً. ثم أصلحه أصحابه فكتبوا: الحمد لله الذي أنزل القرآن. وله غير ذلك من المصنفات، فمنها: كتاب الفائق في غريب الحديث. وقدم الزمخشري بغداد وناظر بها، ثم حج وجاور بمكة سينين كثيرة، فسمي لذلك جار الله. وكان حنفي الفروع، معتزلي الأصول، وللزمخشري نظم حسن، فمنه من جملة أبيات:
فإنا اقتصرنا بالذين تضايقت ... عيونهم والله يجزي من اقتصر
مليح ولكن عنده كل جفوة ... ولم أر في الدنيا صفاءً بلا كدر
ومن شعره يرثي شيخه أبا مضر منصوراً:
وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقط من عينيك سمطين سمطين
فقلت لها الدر الذي كان قد حشا ... أبو مضر أذني تساقط من عيني
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة في هذه السنة فتح عماد الدين زنكي الرها من الفرنج بالسيف بعد حصار ثمانية وعشرين يوماً. ثم تسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقي الفرات، وأما البيرة فنزل علمها وحاصرها، ثم رحل عنها بسبب قتل نائبه بالموصل وهو نصير الدين جقر. وسبب قتله: أنه كان عند زنكي، ألب أرسلان ابن السلطان محمود بن محمد السنجوقي، وكان زنكي يقول: إن البلاد التي بيدي إنما هي لهذا الملك. ألب أرسلان المذكور، وأنا أتابكه، ولهذا أسمى أتابك زنكي، وكان ألب أرسلان المذكور بالموصل، وجقر يقوم بوظائف خدمته، فحسن بعض المناحيس لألب أرسلان المذكور قتل جقر وأخذ البلاد من عماد الدين زنكي، فلما دخل جقر إلى ألب أرسلان على عادته، وثب عليه من عند ألب أرسلان فقتلوه، فاجتمعت كبراء دولة زنكي وأمسكوا ألب أرسلان ولم يطعه أحد. ولما بلغ زنكي ذلك وهو محاصر للبيرة، عظم عليه قتل جقر، وخشي من الفتن، فرحل عن البيرة لذلك.
وخشي الفرنج الذين بها من معاودة الحصار، وعلموا بضعفهم عن عماد الدين فراسلوا نجم الدين صاحب ماردين وسلموا البيرة إليه وصارت للمسلمين.
وفيها خرج أسطول الفرنج من صقلية إلى ساحل إفريقية، وملكوا مدينة برسك، وقتلوا أهلها، وسبوا الحريم.
وفيها توفي تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين صاحب المغرب، وولي بعده أخوه إسحاق ابن علي، وضعف أمر الملثمين وقوي عبد المؤمن، وقد تقدم ذكر ذلك في سنة أربع عشرة وخمسمائة.
ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة. فيها هرب علي بن دبيس بن صدقة من السلطان مسعود، وكان قد أراد حبسه في قلعة تكريت، فهرب إلى الحلة واستولى عليهما، وكثر جمعه وقويت شوكته.
وفيها اعتقل الخليفة المقتفي أخاه أبا طالب، وضيق عليه، وكذلك احتاط على غيره من أقاربه.
وفيها ملك الفرنج شنترين وتاجر وماردة وأشبونة وسائر المعاقل المجاورة لها من بلاد الأندلس.
وفيهما توفي مجاهد الدين بهروز، وحكم في العراق نيفاً وثلاثين سنة وكان بهروز خصياً أبيض.
وفيها توفي الشيخ أبو منصور، مرهوب بن أحمد الجواليقي اللغوي ومولده في ذي الحجة سنة خمس وستين وأربعمائة، أخذ اللغة عن أبي زكريا التبريزي، وكان يؤم بالخليفة المقتفي، وكان طويل الصمت كثير التحقيق، لا يقول الشيء إلا بعد فكر كثير. وكان يقول إذا سئل لا أدري، وأخذ العلم عنه جماعة منهم تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي، ومحب الدين أبو البقا، وعبد الوهاب بن سكينه.
وفيها توفي أبو بكر يحيى بن عبد الرحمن بن بقي الأندلسي القرطبي الشاعر المشهور صاحب الموشحات البديعة، ومن شعره ما أورده في قلائد العقيان:
يا أفتك الناس ألحاظاً وأطيبهم ... ريقاً متى كان فيك الصاب والعسل
في صحن خدك وهو الشمس طالعة ... ورد يزيدك فيه الراح والخجل
إيمان حبك في قلبي مجددة ... من خدك الكتب أو من لحظك الرسل
إن كنت تجهل أني عبد مملكة ... مرني بما شئت آتيه وأمتثل
لو اطلعت على قلبي وجدت به ... من فعل عينيك جرحاً ليس يندمل
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة.
ذكر ملك الفرنج طرابلس الغرب

وسبب ملكها أنهم نزلوا عليها وحصروها، فلما كان اليوم الثالث من نزولهم، سمع الفرنج في المدينة ضجة عظيمة، وخلت الأسوار من المقاتلة، وكان سببه أن أهل طرابلس اختلفوا، فأراد طائفة منهم تقديم رجل من الملثمين ليكون أميرهم، وأرادت طائفة أخرى تقديم بني مطروح، فوقعت الحرب بين الطائفتين وخلت الأسوار، فانتهز الفرنج الفرصة، وصعدوا بالسلالم وملكوها بالسيف. في المحرم من هذه السنة، وسفكوا دماء أهلها، وبعد أن استقر الفرنج في ملك طرابلس بذلوا الأمان لمن بقي من أهل طرابلس، وتراجعت إليها الناس وحسن حالها.
حصار عماد الدين زنكي حصني جعبر وفنك
ومقتله:في هذه السنة سار زنكي ونزل على قلعة جعبر وحصرها، وصاحبها علي بن مالك بن سالم ابن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي. وأرسل عسكراً إلى قلعة فنك، وهي تجاور جزيرة ابن عمر، فحصرها أيضاً وصاحبها حسام الدولة الكردي البشنوي.
ولما طال على زنكي منازلة قلعة جعبر، أرسل مع حسام البعلبكي الذي كان صاحب منبج، يقول لصاحب قلعة جعبر: قل لي من يخلصك مني، فقال صاحب قلعة جعبر لحسان: يخلصني منه الذي خلصك من بلك بن بهرام بن أرتق. وكان بلك محاصراً المنبج، فجاءه سهم فقتله، فرجع حسان إلى زنكي ولم يخبره بذلك، فاستمر زنكي منازلاً قلعة جعبر، فوثب عليه جماعة من مماليكه وقتلوه في خامس في ربيع الآخر من هذه السنة بالليل، وهربوا إلى قلعة جعبر، فصاح من بها على العسكر وأعلموهم بقتل زنكي، فدخل أصحابه إليه وبه رمق، وكان عماد الدين زنكي حسن الصورة، أسمر اللون، مليح العينين، قد وخطه الشيب. وكان قد زاد عمره على ستين سنة ودفن بالرقة.
وكان شديد الهيبة على عسكره عظيمها. وكان له الموصل وما معها من البلاد، وملك الشام خلا دمشق. وكان شجاعاً وكانت الأعداء محيطة بمملكته من كل جهة، وهو ينتصف منهم ويستولي على بلادهم، ولما قتل زنكي كان ولده نور الدين محمود حاضراً عنده، فأخذ خاتم والده وهو ميت من إصبعه، وسار إلى حلب فملكها، وكان صحبة زنكي أيضاً الملك ألب أرسلان بن محمود ابن السلطان محمد السلجوقي، فركب في يوم قتل زنكي، واجتمعت عليه العساكر، فحسن له بعض أصحاب زنكي الأكل والشرب وسماع المغاني، فسار ألب أرسلان إلى الرقة وأقام بها منعكفاً على ذلك وأرسل كبراء دولة زنكي إلى ولده سيف الدين غازي بن زنكي يعلمونه بالحال وهو بشهرزور، فسار إلى الموصل واستقر في ملكها وأما ألب أرسلان فتفرقت عنه العساكر، وسار إلى الموصل يريد ملكها، فلما وصلها قبض عليه غازي بن زنكي وحبسه في قلعة الموصل، واستقر ملك سيف الدين غازي للموصل وغيرها.
ذكر غير ذلك من الحوادثفي هذه السنة أرسل عبد المؤمن بن علي جيشاً إلى جزيرة الأندلس، فملكوا ما فيها من بلاد الإسلام واستولوا عليها.
وفيها بعد قتل عماد الدين زنكي، قصد صاحب دمشق مجير الدين أبق حصن بعلبك وحصره، وكان به نجم الدين أيوب بن شاذي، مستحفظاً، فخاف أن أولاد زنكي لا يمكنهم إنجاده بالعاجل، فصالحه وسلم القلعة إليه، وأخذ منه قطاعاً وملكه عدة قرى من بلاد دمشق، وانتقل أيوب إلى دمشق وسكنها وأقام بها.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة في هذه السنة دخل نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلاد الفرنج، ففتح منها مدينة أرتاح بالسف، وحصر مامولة وبصر فوت وكفر لاثا.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
ملك الفرنج المهدية بإفريقية
وحال مملكة بني باديس

كان قد حصل بإفريقية غلاء شديد حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، ودام من سنة سبع وثلاثين وخمسمائة إلى هذه السنة، ففارق الناس القرى ودخل أكثرهم إلى جزيرة صقلية. فاغتنم رجار الفرنجي صاحب صقلية هذه الفرصة، وجهز أسطولاً نحو مائتين وخمسين شينياً مملوءة رجالاً وسلاحاً، واسم مقدمهم جرج، وساروا من صقلية إلى جزيرة قوصرة وهي ما بين المهدية وصقلية، وساروا منها وأشرفوا على المهدية ثاني صفر من هذه السنة. وكان في المهدية الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية. فجمع كبراء البلد واستشارهم، فرأوا ضعف حالهم وقلة المؤنة عندهم، فاتفق رأي الأمير حسن ابن علي على إخلاء المهدية، فخرج منها وأخذ معه ما خف حمله، وخرج أهل المهدية على وجوههم بأهليهم وأولادهم، وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية.
ثم دخلوا المهدية بعد مضي ثلثي النهار المذكور بغير ممانع ولا مدافع، ولم يكن قد بقي من المسلمين بالمهدية ممن عزم على الخروج أحد، ودخل جرج مقدم الفرنج إلى قصر الأمير حسن بن علي، فوجده على حاله لم يعدم منه إلا ما خف حمله، ووجد فيه جماعة من حظايا الحسن بن علي، ووجد الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة من كل شيء غريب، يقل وجود مثله، وسار الأمير حسن بأهله وأولاده إلى بعض أمراء العرب، ممن كان يحسن إليه وأقام عنده، وأراد الحسن المسير إلى الخليفة العلوي الحافظ صاحب مصر، فلم يقدر على المسير لخوف الطرق، فسار إلى ملك بجاية يحيى بن العزيز من بني حماد، فوكل يحيى المذكور على الحسن وعلى أولاده من يمنعهم من التصرف، ولم يجتمع يحيى بهم، وأنزلهم في جزائر بني مزغنان، وبقي الحسن كذلك حتى ملك عبد المؤمن بن علي بجاية في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وأخذها هي وجميع ممالك بني حماد، فحضر الأمير الحسن عنده، فأحسن إليه عبد المؤمن وأكرمه، واستمر على ذلك في خدمة عبد المؤمن إلى أن فتح المهدية، فأقام فيها والياً من جهته وأمره أن يقتدي برأي الأمير حسن ويرجع إلى قوله، وكان عدة من ملك من بني باديس بن مناذ إلى الحسن، تسعة ملوك. وكانت ولايتهم في سنج إحدى وستين وثلاث مائة، وانقضت في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ثم إن جرج بذل الأمان لأهل المهدية وأرسل وراءهم بذلك، وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع فتراجعوا إلى المهدية.
حصر الفرنج لدمشق في هذه السنة سار ملك الألمان، والألمان بلادهم وراء القسطنطينية، حتى وصل إلى الشام في جمع عظيم، ونزل على دمشق وحصرها، وصاحبها مجير الدين أتق بن محمد بن توري بن طغتكين. والحكم وتدبير المملكة إنما هو لمعين الدين أتز مملوك جده طغتكين. وفي سادس ربيع الأول زحفوا على مدينة دمشق، ونزل ملك الألمان بالميدان الأخضر، وأرسل أتز إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده، فسار بعسكره من الموصل إلى الشام، وسار معه أخوه نور الدين محمود بعسكره، ونزلوا على حمص ففت ذلك في أعضاد الفرنج وأرسل أتز إلى فرنج الشام يبذل لهم تسليم قلعة بانياس، فتخلوا عن ملك الألمان وأشاروا عليه بالرحيل وخوفوه من إمداد المسلمين، فرحل عن دمشق وعاد إلى بلاده، وسلم أتز قلعة بانياس إلى الفرنج حسبما شرطه لهم.
ذكر غير ذلك من الحوادث:في هذه السنة كان بين نور الدين محمود وبين الفرنج مصاف بأرض يغرى من العمق، فانهزم الفرنج وقتل منهم وأسر جماعة كثيرة، وأرسل من الأسرى والغنيمة إلى أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل.
وفيها ملك الفرنج من الأندلس مدينة طرطوشة، وجميع قلاعها، وحصون لارده وفيها كان الغلاء العام من خراسان إلى العراق إلى الشام إلى بلاد المغرب. وفي ربيع الأول من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، قتل نور الدولة شاهنشاه بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين قتله الفرنج لما كانوا منازلين دمشق، فجرى بينهم وبين المسلمين مصاف، قتل فيه شاهنشاه المذكور، وهو أبو الملك المظفر عمر صاحب حماة، وأبو فرخشاه صاحب بعلبك، وكان شاهنشاه أكبر من صلاح الدين، وكانا شقيقين.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
وفاة غازي بن زنكي

في هذه السنة توفي سيف الدين غازي بن عماد الدين، أتابك زنكي صاحب الموصل، بمرض حاد في أواخر جمادى الآخرة، وكانت ولايته ثلاث سنين وشهراً وعشرين يوماً. وكان حسن الصورة، ومولده سنة خمسمائة. وخلف ولدا ذكراً، فرباه عمه نور الدين، وأحسن تربيته. وتوفي المذكور شاباً، وانقرض بموته عقب سيف الدين غازي.
وكان سيف الدين المذكور كريماً، يصنع لعسكره كل يوم طعاماً كثيراً بكرة وعشية، وهو أول من حمل على رأسه السنجق في ركوبه، وأمر الأجناد أن لا يركبوا إلا بالسيوف في أوساطهم، والدبوس تحت ركبهم. فلما فعل ذلك، اقتدى به أصحاب الأطراف، ولما توفي سيف الدين غازي، كان أخره قطب الدين مودود بن زنكي مقيماً بالموصل، فاتفق جمال الدين الوزير، وزين الدين علي أمير الجيش، على تمليكه، فحلفاه وحلفا له، وكذلك باقي العسكر، وأطاعه جميع بلاد أخيه سيف الدين. ولما تملك، تزوج الخاتون ابنة تمرتاش صاحب ماردين، وكان أخوه سيف الدين قد تزوجها، ومات قبل الدخول بها، وهي أم أولاد قطب الدين.
وفاة الحافظ لدين الله العلوي
وولاية الظافر:وفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، توفي الحافظ لدين الله عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم بن المستنصر العلوي، صاحب مصر، وكانت خلافته عشرين سنة إلا خمسة أشهر. وكان عمره نحو سبع وسبعين سنة، ولم يل الخلافة من العلويين المصريين - من أبوه غير خليفة - غير الحافظ والعاضد، على ما سنذكره. ولما توفي الحافظ، بويع بعده ابنه الظافر بأمر الله أبو منصور إسماعيل بن الحافظ عبد المجيد. واستوزر ابن مصال، فبقي أربعين يوماً، وحضر من الإسكندرية العادل بن السلار، وكان قد خرج ابن مصال من القاهرة في طلب بعض المفسدين، فأرسل العادل بن السلار ربيبه عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، وكان أبوه أبو الفتوح. قد فارق أخاه علي بن يحيى صاحب إفريقية، وقدم إلى الديار المصرية وتوفي بها، فتزوج العادل بن السلار بزوجة أبي الفتوح المذكور، ومعها ولدها عباس بن أبي الفتوح، فرباه العادل وأحسن تربيته، ولما قدم العادل إلى مصر يريد الاستيلاء على الوزارة، أرسل ربيبه عباساً في عسكر إلى ابن مصال، فظفر به عباس وقتله، وعاد إلى العادل بالقاهرة، فاستقر العادل في الوزارة وتمكن، ولم يكن للخليفة الظافر معه حكم، وبقي العادل كذلك إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فقتله ربيبه عباس المذكور وتولى الوزارة على ما سنذكره.
ذكر غير ذلك من الحوادث:وفي هذه السنة حصر نور الدين محمود بن زنكي حصن حارم، فجمع البرنس صاحب أنطاكية الفرنج وسار إلى نور الدين، واقتتلوا، فانتصر نور الدين وقتل البرنس، وانهزم الفرنج، وكثر القتل فيهم، ولما قتل البرنس، ملك بعده ابنه بيمند وهو طفل، وتزوجت أمه برجل آخر، وتسمى بالبرنس. ثم إن نور الدين غزاهم غزوة أخرى، فهزمهم وقتل فيهم وأسر، وكان فيمن أسر البرنس الثاني زوج أم بيمند، فتمكن بيمند في ملك أنطاكية.
وفيها زلزلت الأرض زلزلة شديدة. وفيها توفي معين الدين أنز، صاحب دمشق، وهو الذي كان إليه الحكم فيها، وإليه ينسب قصير معين الدين الذي في الغور.
وفيها تولى أبو المظفر يحيى بن هبيرة وزارة الخليفة المقتفي، يوم الأربعاء، رابع ربيع الآخر، وكان قبل ذلك صاحب ديوان الزمام. وفيها توفي القاضي ناصح الدين الأرجاني، وأرجان من أعمال تستر، وتولى المذكور قضاء تستر، واسمه أحمد بن محمد بن الحسين، وله الشعر الفائق، فمن ذلك قوله:
ولما بلوت الناس أطلب عندهم ... أخاً ثقة عند اعتراض الشدائد
تطلعت في حالي رخاء وشدة ... وناديت في الأحياء هل من مساعد
فلم أر فيما ساءني غير شامت ... ولم أر فيما سرني غير حاسد
تمتعتما يا ناظري بنظرة ... وأوردتما قلبي أمر الموارد
أعيني كفا عن فؤادي فإنه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحد
وفيها توفي بمراكش، القاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي، ومولده بها في سنة ست وسبعين وأربعمائة أحد الأئمة الحفاظ الفقهاء المحدثين الأدباء، وتكيفه وأشعاره شاهدة بذلك، ومن تصانيفه: الإجمال في شرح كتاب مسلم. ومشارق الأنوار في تفسير غريب الحديث.

ثم دخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة في هذه السنة رابع عشر المحرم، أخذت العرب جميع الحجاج بين مكة والمدينة، ذكر أن اسم ذلك المكان الغرابي، فهلك أكثرهم، ولم يصل منهم إلى البلاد إلا القليل. وفيها سار نور الدين محمود بن زنكي إلى أفامية، وحصر قلعتها وتسلمها من الفرنج، وحصنها بالرجال والذخائر، وكان قد اجتمع الفرنج وساروا ليرحلوه عنها، فملكها قبل وصولهم، فلما بلغهم فتحها تفرقوا.
وفيها سار الأذفونش صاحب طليطلة بجموع الفرنج إلى قرطبة وحصرها ثلاث أشهر، ثم رحل عنها ولم يملكها. وفيها مات الأمير علي بن دبيس بن صدقة صاحب الحلة.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة.
هزيمة نور الدين بن جوسلين ثم أسر جوسلين كان جوسلين من أعظم فرسان الفرنج، قد جمع بين الشجاعة وجودة الرأي، وكان نور الدين قد عزم على قصد بلاده، فجمع جوسلين الفرنج، فأكثر، وسار نحو نور الدين، والتقوا، فانهزم المسلمون، وقتل وأسر منهم جمع كثير، وكان من جملة من أسر، السلاح دار، ومعه سلاح نور الدين، فأرسله جوسلين إلى مسعود بن قليج أرسلان، صاحب قونية، وأقسرا، وقال: هذا سلاح زوج ابنتك، وسآتيك بعده بما هو أعظم منه، فعظم ذلك على نور الدين، وهجر الملاذ، وفكر في أمر جوسلين، وجمع التركمان وبذل لهم الوعود إن ظفروا به، إما بإمساك أو بقتل، فاتفق أن جوسلين طلع إلى الصيد، فكبسه التركمان وأمسكوه، فبذل لهم مالاً فأجابوه إلى إطلاقه، فسار بعض التركمان وأعلم أبا بكر ابن الداية نائب نور الدين بحلب، فأرسل عسكراً كبسوا التركمان الذين عندهم جوسلين، وأحضروه إلى نور الدين أسيراً. وكان أسر جوسلين من أعظم الفتوح، وأصيبت النصرانية كافة بأسره، ولما أسر سار نور الدين إلى بلاد جوسلين وقلاعه، فملكها، وهي تل باشر، وعين تاب، وذلوك، وعزاز، وتل خالد، وقورس، والرواندان، وبرج الرصاص، وحصن الباره، وكفر سود، وكفر لاثا، ومرعش، ونهر الجوز، وغير ذلك. في مدة يسيرة. وكان نور الدين كلما فتح منه موضعاً حصنه بما يحتاج إليه من الرجال والذخائر.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة من الكامل في هذه السنة سار عبد المؤمن بن علي إلى بجاية وملكها، وملك جميع ممالك بني حماد، وأخذها من صاحبها يحيى بن العزيز بن حماد، آخر ملوك بني حماد، وكان يحيى المذكور مولعاً بالصيد واللهو، لا ينظر في شيء من أمور مملكته، ولما هزم عبد المؤمن عسكر يحيى، هرب يحيى وتحصن بقلعة قسطنطينية من بلاد بجاية، ثم نزل يحيى إلى عبد المؤمن بالأمان فأمنه، وأرسله إلى بلاد المغرب، وأقام بها، وأجرى عبد المؤمن عليه شيئاً كثيراً. وقد ذكر في تاريخ القيروان: أن مسير عبد المؤمن وملكة تونس وإفريقية إنما كان في سنة أربع وخمسين وخمسمائة.
وفاة السلطان مسعود
بن محمد بن ملكشاه وملك ملكشاه ومحمد، ابني محمود:وفي هذه السنة، وقيل في أواخر سنة ست وأربعين، في أول رجب، توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بهمدان، ومولده سنة اثنتين وخمسمائة، في ذي القعدة، ومات معه سعادة البيت السلجوقي، فلم يقم لهم بعده راية يعتد بها، وكان حسن الأخلاق، كثير المزاح والانبساط مع الناس، كريماً، عفيفاً عن أموال الرعايا.
ولما مات عهد بالملك إلى ابن أخيه ملكشاه بن محمود، فقعد في السلطنة وخطب له، وكان المتغلب على المملكة أميراً يقال له خاص بك، وأصله صبي تركماني اتصل بخدمة السلطان مسعود، فتقدم على سائر أمرائه، ثم إن خاص بك المذكور، قبض على السلطان ملكشاه بن محمود وسجنه، وأرسل إلى أخيه محمد ابن محمود وهو بخورستان، فأحضره وتولى السلطنة، وجلس على السرير، وكان قصد خاص بك، أن يمسكه ويخطب لنفسه بالسلطنة، فبدره السلطان محمد في ثاني يوم وصوله، فقتل خاص بك وقتل معه زنكي الجاندار، وألقى برأسيهما، فتفرق أصحابهما.
فتح دلوك في هذه السنة جمعت الفرنج وساروا إلى نور الدين، وهو محاصر دلوك، فرحل عنها وقاتلهم أشد قتال الناس، وانهزمت الفرنج، وقتل وأسر كثير منهم، ثم عاد نور الدين إلى دلوك فملكها ومما مدح به في ذلك:
أعدت بعصرك هذا الجديد ... فتوح النبي وأعصارها
وفي تل باشر باشرتهم ... بزحف تسور أسوارها
وإن دالكتهم دلوك فقد ... سددت فصدقت أخبارها

ذكر ابتداء ظهور الملوك الغورية وانقراض دولة آل سبكتكتين: أول من اشتهر من الملوك الغورية، أولاد الحسين. وأولهم محمد بن الحسين، وكان قد صاهر بهرام شاه بن مسعود، صاحب غزنة، من آل سبكتكين، وسار محمد بن الحسين المذكور إلى غزنة، تظهر الطاعة لبهرام شاه، ويبطن الغدر، فأمسكه بهرام شاه وقتله. فتولى بعده في ملك الغورية أخوه سودي بن الحسين، وسار إلى غزنة طالباً بثأر أخيه، وجرى القتال بينه وبين بهرام شاه، فظفر بهرام شاه بسودي وقتله أيضاً، وانهزم عسكره.
ثم ملك بعدهما أخوهما علاء الدين الحسين بن الحسين، وسار إلى غزنة، فانهزم عنها صاحبها بهرام شاه، واستولى علاء الدين الحسين على غزنة، وأقام فيها أخاه سيف الدين سام بن الحسين، وعاد علاء الدين الحسين بن الحسين إلى الغور فكاتب أهل غزنة بهرام شاه، فسار إليهم واقتتل مع سيف الدين الغوري، فانتصر بهرام شاه وظفر بسيف الدين سام فقتله، واستقر بهرام شاه في ملك غزنة. ثم توفي بهرام شاه وملك بعده ابنه خسروشاه، وتجهز علاء الدين الحسين ملك الغورية وسار إلى غزنة، في سنة خمسين وخمسمائة، فلما قرب منها فارقها صاحبها خسروشاه بن بهرام شاه، وسار إلى لهاوور وملك علاء الدين الحسين بن الحسين غزنة ونهبها ثلاثة أيام، وتلقب علاء الدين بالسلطان المعظم، وحمل الجتر على عادة السلاطين السلجوقية.
وأقام الحسين على ذلك مدة، واستعمل على غزنة ابني أخبه، وهما غياث الدين محمد بن سام، وأخوه شهاب الدين محمد بن سام. ثم جرى بينهما وبين عمهما علاء الدين الحسين حرب، انتصر فيه على عمهما وأسراه، ولما أسراه أطلقاه وأجلساه على التخت، ووقفا في خدمته، واستمر عمهما في السلطنة، وزوج غياث الدين بابنته، وجعله ولي عهده، وبقي كذلك إلى أن مات علاء الدين الحسين بن الحسين، في سنة ست وخمسين وخمسمائة، على ما نذكره.
وملك بعده غياث الدين محمد بن سام بن الحسين، وخطب لنفسه في الغور وغزنة بالملك، ثم استولى الغز على غزنة، وملكوها منه مدة خمس عشرة سنة ثم أرسل غياث الدين أخاه شهاب الدين إلى غزنة، فسار إليها وهزم الغز، وقتل منهم خلقاً كثيراً، واستولى على غزنة وما جاورها من البلاد، مثل كرمان وشنوران وماه السند، وقصد لهاوور، وبها يومئذ خسرو شاه بن بهرام شاه السبكتكيني، فملكها شهاب الدين في سنة تسع وسبعين وخمسمائة، بعد حصار، وأعطى خسروشاه الأمان، وحلف له، فحضر خسروشاه عند شهاب الدين بن سام المذكور، فأكرمه شهاب الدين، وأقام خسروشاه على ذلك شهرين، ولما بلغ غياث الدين بن سام ذلك، أرسل إلى أخيه شهاب الدين يطلب منه خسروشاه، فأمره شهاب الدين بالتوجه، فقال خسروشاه: أنا ما أعرف أخاك ولا سلمت نفسي إلا إليك، فطيب شهاب الدين خاطره، وأرسله وأرسل أيضاً ابن خسروشاه مع أبيه إلى غياث الدين، وأرسل معهما عسكراً يحفظونهما، فلما وصلوا إلى الغور، لم يجتمع بهما غياث الدين، بل أمر بهما فرفعا إلى بعض. القلاع، وكان آخر العهد بهما، وخسروشاه المذكور هو ابن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، وهو آخر ملوك آل سبكتكين.
وكان ابتداء دولتهم سنة ست وستين وثلاثمائة، وملكوا مائتي سنة وثلاث عشرة سنة تقريباً، فيكون انقراض دولتهم في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. وقدمنا ذلك لتتصل أخبارهم، وكان ملوكهم من أحسن الملوك سيرة، وقيل إن خسروشاه توفي في الملك، وملك بعده ابنه ملكشاه على ما نشير إليه في مواضعه، إن شاء الله تعالى. ولما استقر ملك الغورية بلهاوور، واتسعت مملكتهم وكثرت عساكرهم، كتب غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين بإقامة الخطبة له بالسلطنة، وتلقب بألقاب منها: معين الإسلام. قسيم أمير المؤمنين.
ولما استقر ذلك، سار شهاب الدين إلى أخيه غياث الدين، واجتمعا وسار إلى خراسان، وقصدا مدينة هراة وحصراها، وتسلمها غياث الدين بالأمان. ثم سار ومعه شهاب الدين في عساكرهما إلى بوشنج، فملكها ثم عاد إلى باذغيس، وكالين، وبيوار، فملكها.

ثم رجع غياث الدين إلى بلدة فيروزكوه، ورجع أخوه شهاب الدين إلى غزنة، ولما استقر شهاب الدين بغزنة، قصد بلاد الهند وفتح مدينة آجر. ثم عاد إلى غزنة، ثم قصد الهند، فذلل صعابها، وتيسر له فتح الكثير من بلادهم ودوخ ملوكهم، وبلغ منهم ما لم يبلغ أحد من ملوك المسلمين، ولما كثر فتوحه في الهند، اجتمعت الهنود مع ملوكهم في خلق كثير، والتقوا مع شهاب الدين، وجرى بينهم قتال عظيم، فانهزم المسلمون وجرح شهاب الدين، وبقي بين القتلى. ثم اجتمعت عليه أصحابه وحملوه إلى مدينة آجر، واجتمعت عليه عساكره، وأقام شهاب الدين في آجر حتى آتاه المدد من أخيه غياث الدين. ثم اجتمعت الهنود، وتنازل الجمعان، وبينهما نهر، فكبس عساكر المسلمين الهنود، وتمت الهزيمة عليهم، وقتل المسلمون من الهنود ما يفوق الحصر، وقتلت ملكتهم، وتمكن شهاب الدين بعد هذه الوقعة من بلاد الهند، وأقطع مملوكه قطب الدين أيبك مدينة دهلي، وهي من كراسي ممالك الهند، فأرسل أيبك عسكراً مع مقدم يقال له محمد بن بختيار، فملكوا من الهند مواضع ما وصلها مسلم قبله، حتى قاربوا جهة الصين.
ذكر وفاة صاحب ماردين في هذه السنة توفي حسام الدين تمرتاش بن أيلغازي، صاحب ماردين وميافارقين، وكانت ولايته نيفاً وثلاثين سنة، لأنه ولي بعد موت أبيه في سنة ست عشرة وخمسمائة حسبما تقدم ذكره، وتولى بعده ابنه نجم الدين البلي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
ذكر أخبار الغز
وهزيمة السلطان سنجر منهم، وأسره:في هذه السنة في المحرم، انهزم السلطان سنجر من الأتراك الغز، وهم طائفة من الترك، وكانوا بما وراء النهر، فلما ملكه الخطا، أخرجوهم منه، فقصدوا خراسان، وكانوا كفاراً، وكان من أسلم منهم وخالط المسلمين، يصير ترجماناً بين الفريقين، حتى صار من أسلم منهم قيل عنه إنه صار ترجماناً، ثم قيل تركماناً بالكاف العجمية، وجمع على تراكمين، ثم أسلم الغز جميعهم، فقيل لهم تراكمين، ولما قدموا إلى خراسان أقاموا بنواحي بلخ مدة طويلة، ثم عن للأمير قماج مقطع بلخ، أن يخرجهم من بلاده، فامتنعوا، فسار قماج إليهم في عشرة آلاف فارس، فحضر إليه كبراء الغز، وسألوه أن يكف عنهم ويتركهم في مراعيهم، ويعطوه عن كل بيت مائتي درهم، فلم يجبهم إلى ذلك، وأصر على إخراجهم أو قتالهم، فاجتمعوا واقتتلوا، فانهزم قماج وتبعه الغز يقتلون ويأسرون، ثم عاثوا في البلاد، فاسترقوا النساء، والأطفال، وخربوا المدارس، وقتلوا الفقهاء، وعملوا كل عظيمة، ووصل قماج إلى السلطان سنجر منهزماً، وأعلمه بالحال، فجمع سنجر عساكره وسار إليهم في مائة ألف فارس، فأرسل الغز يعتذرون إليه مما وقع منهم، وبذلوا له بذلاً كثيراً ليكف عنهم، فلم يجبهم وقصدهم، ووقعت بينهم حرب شديدة، فانهزمت عساكر سنجر، وتبعه الغز يقتلون فيهم ويأسرون، فقتل علاء الدين قماج، وأسر السلطان سنجر، وأسر معه جماعة من الأمراء، فضربوا أعناقهم. وأما سنجر فلما أسروه اجتمع أمراء الغز وأقبلوا الأرض بين يديه وقالوا له: نحن عبيدك لا نخرج عن طاعتك. وبقي معهم كذلك شهرين أو ثلاث.
ودخلوا معه إلى مرو، وهي كرسي ملك خراسان، فطلبها منه بختيار إقطاعاً، وهو من أكبر أمراء الغز، فقال سنجر: هذه دار الملك ولا يجوز أن تكون إقطاعاً لأحد، فضحكوا منه، وحبق له بختيار بفمه، فلما رأى سنجر ذلك، نزل عن سرير الملك ودخل خانقاه مرو وتاب من الملك، واستولى الغز على البلاد، فنهبوا نيسابور، وقتلوا الكبار والصغار، وقتلوا القضاة والعلماء والصلحاء، الذين بتلك البلاد، فقتل الحسين بن محمد الأرسانيدي، والقاضي علي بن مسعود، والشيخ محي الدين محمد بن يحيى، الفقيه الشافعي، الذي لم يكن في زمانه مثله، وكان رحلة الناس من الشرق والغرب، وغيرهم من الأئمة والفضلاء، ولم يسلم شيء من خراسان من النهب غير هراة، ودهستان، لحصانتهما.
ولما كان من هزيمة سنجر وأسره ما كان، اجتمع عسكره على مملوك لسنجر يقال له أي به، ولقبه المؤيد، واستولى المؤيد على نيسابور، وطوس، ونسا، وأبيورد، وشهرستان، والدامغان، وأزاح الغز عنها، وأحسن السيرة في الناس، وكذلك استولى في السنة المذكورة على الري مملوك لسنجر يقال له إينانج، وهادى الملوك واستقر قدمه وعظم شأنه.
ذكر غير ذلك من الحوادث

في هذه السنة قتل العادل بن السلار، وزير الظافر العلوي. قتله ربيبه عباس بن أبي الفتوح الصنهاجي، بإشارة أسامة بن منقذ، وكان العادل قد تزوج بأم عباس المذكور، وأحسن تربية عباس، فجازاه بأن قتله وولي مكانه، وكانت الوزارة في مصر لمن غلب. وفيها كان بين عبد المؤمن ملك الغرب، وبين العرب، حرب شديد، انتصر فيها عبد المؤمن. وفيها مات رجار الفرنجي ملك صقلية بالخوانيق، وكان عمره قريب ثمانين سنة، وملكه نحو عشرين سنة، وملك بعده ابنه غليالم.
وفيها في رجب توفي بغزنة بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم السبكتكيني، صاحب غزنة، وقام بالملك بعده ولده نظام الدين خسروشاه، وكانت مدة ملك بهرام شاه نحو ست وثلاثين سنة، وذلك من حين قتل أخاه أرسلان شاه بن مسعود، في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وكان ابتداء ولايته من حين انهزم أخوه قبل ذلك، في سنة ثمان وخمسمائة حسبما تقدم ذكره، في السنة المذكورة، وكان بهرام شاه حسن السيرة.
وفيها ملك الفرنج مدينة عسقلان، وكانت لخلفاء مصر، والوزراء يجهزون إليها فلما كانت هذه السنة، قتل العادل بن السلار، واختلفت الأهواء في مصر، فتمكن الفرنج من عسقلان وحاصروها وملكوها.
وفيها وصلت مراكب من صقلية، فنهبوا مدينة تنيس بالديار المصرية.
وفيها توفي أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني المتكلم على مذهب الأشعري، وكان إماماً في علم الكلام والفقه، وله عدة مصنفات منها: نهاية الإقدام في علم الكلام، والملل والنحل، والمناهج، وتلخيص الأقسام لمذاهب الأنام. ودخل بغداد سنة عشر وخمسمائة، وكانت ولادته سنة سبع وستين وأربعمائة بشهرستان. وتوفي بها، وشهرستان اسم لثلاث مدن: الأولى شهرستان خراسان، بين نيسابور وخوارزم، عند أول الرمل المتصل بناحية خوارزم، وهي التي منها محمد الشهرستاني المذكور، وبناها عبد الله بن طاهر أمير خراسان. والثانية شهرستان بأرض فارس. والثالثة مدينة جي بأصفهان، يقال لها شهرستان، وبينها وبين اليهودية مدينة أصفهان نحو ميل، ومعنى هذه الكلمة مدينة الناحية بالعجمي، لأن شهر اسم المدينة راستان الناحية.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
قتل الظافر وولاية ابنه الفائز

في هذه السنة في المحرم، قتل الظافر بالله أبو منصور إسماعيل ابن الحافظ لدين الله عبد المجيد العلوي، قتله وزيره عباس الصنهاجي، وسببه أنه كان لعباس ولد حسن الصورة، يقال له نصر، فأحبه الظافر وما بقي يفارقه، وكان قد قدم من الشام مؤيد الدولة أسامة بن منقذ الكناني، في وزارة العدل، فحسن لعباس قتل العادل، فقتله وتولى مكانه، ثم حسن لعباس أيضاً قتل الظافر، فإنه قال له: كيف تعبر على ما أسمع من قبيح القول؟ فقال له عباس: ما هو؟ فقال: إن الناس يقولون إن الظافر يفعل بابنك نصر. فأنف عباس، وأمر ابنه نصراً، فدعا الظافر إلى بيته وقتلاه، وقتلا كل من معه، وسلم خادم صغير فحضر إلى القصر وأعلمهم بقتل الظافر، ثم حضر عباس إلى القصر وطلب الاجتماع بالظافر، وطلبه من أهل القصر، فلم يجدوه، فقال: أنتم قد قتلتموه، فأحضر أخوين للظافر يقال لهما يوسف وجبريل، وقتلهما عباس المذكور أيضاً. ثم أحضر الفائز بنصر الله أبا القاسم عيسى بن الظافر إسماعيل ثاني يوم قتل أبوه، وله من العمر ثلاث سنين، فحمله عباس على كتفه وأجلسه على سرير الملك، وبايع له الناس، وأخذ عباس من القصر من الأموال والجواهر النفيسة شيئاً كثيراً، ولما فعل عباس ذلك، اختلفت عليه الكلمة، وثارت الجند والسودان، وكان طلائع بن رزيك في منية ابن خصيب، والياً عليها، فأرسل إليه أهل القصر من النساء والخدم يستغيثون به، وكان فيه شهامة، فجمع جمعه وقصد عباساً، فهرب عباس إلى نحو الشام بما معه من الأموال والتحف التي لا يوجد مثلها، ولما كان في أثناء الطريق، خرجت الفرنج على عباس المذكور فقتلوه وأخذوا ما كان معه، وأسروا ابنه نصراً وكان قد استقر طلائع بن رزيك بعد هرب عباس في الوزارة، ولقب الملك الصالح، فأرسل الصالح بن رزيك إلى الفرنج، وبذل لهم مالاً، وأخذ منهم نصر بن عباس وأحضره إلى مصر، وأدخل القصر، فقتل وصلب على باب زويلة، وأما أسامة ابن منقذ فإنه كان مع عباس، فلما قتل عباس هرب أسامة ونجا إلى الشام، ولما استقر أمر الصالح بن رزيك، وقع في الأعيان بالديار المصرية، فأبادهم بالقتل والهروب إلى البلاد البعيدة.
ذكر حصر تكريت في هذه السنة سار المقتفي لأمر الله الخليفة، بعساكر بغداد، وحصر تكريت وأقام عليها عدة مجانيق، ثم رحل عنها ولم يظفر بها.
ملك نور الدين محمود بن زنكي دمشق وأخذها من صاحبها مجير الدين أبق بن محمد بن توري بن طغتكين، كان الفرنج قد تغلبوا بتلك الناحية بعد ملكهم مدينة عسقلان، حتى أنهم استعرضوا كل مملوك وجارية بدمشق من النصارى، وأطلقوا قهراً كل من أراد منهم الخروج من دمشق واللحوق بوطنه، شاء صاحبه أو أبى، فخشي نور الدين أن يملكوا دمشق، فكاتب أهل دمشق واستمالهم في الباطن، ثم سار إليها وحصرها، ففتح له باب الشرقي فدخل منه، وملك المدينة، وحصر مجير الدين في القلعة، وبذل له إقطاعاً من جملته مدينة حمص، فسلم مجير الدين القلعة إلى نور الدين، وسار إلى حمص، فلم يعطه إياها نور الدين وأعطاه عوضها بالس، فلم يرضها مجير الدين وسار عنها إلى العراق، وأقام ببغداد، وابتنى داراً بقرب النظامية، وسكنها حتى مات بها.
وفي هذه السنة والتي بعدها، ملك نور الدين قلعة تل باشر وأخذها من الفرنج.
ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائة في هذه السنة سار الخليفة المقتفي إلى دقوقا فحصرها، وبلغه حركة عسكر الموصل إليه، فرحل عنها ولم يبلغ غرضاً. وفيها هجم الغز تيسابور بالسيف، وقيل كان معهم السلطان سنجر معتقلاً، وله اسم السلطنة ولكن لا يلتفت إليه، وكان إذا قدم إليه الطعام يدخر منه ما يأكله وقتاً آخر، خوفاً من انقطاعه عنه، لتقصيرهم في حقه.
ثم في دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة في هذه السنة ثارت أهل بلاد إفريقية على من بها من الفرنج، فقتلوهم، وسار عسكر عبد المؤمن فملك بونة، وخرجت جميع إفريقية عن حكم الفرنج، ما عدا المهدية وسوسة.

وفيها قبض زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب الموصل، على الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي، وكان سليمان المذكور قد قدم إلى بغداد، وخطب له بالسلطنة في هذه السنة، وخلع عليه الخليفة المقتفي، وقلده السلطنة على عادتهم، وخرج من بغداد بعسكر الخليفة ليملك به بلاد الجبل، فاقتتل هو وابن عمه السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه، فانهزم سليمان شاه، وسار يريد بغداد على شهرزور، فخرج إليه علي كوجك بعسكر الموصل، فأسره وحبسه بقلعة الموصل، مكرماً، إلى أن كان منه ما نذكره في سنة خمس وخمسين.
ذكر وفاة خوارزم شاه في هذه السنة، تاسع جمادى الآخرة، توفي خوارزم شاه أطسز بن محمد بن أنوش تكين، وكان قد أصابه فالج، فاستعمل أدوية شديدة الحرارة، فاشتد مرضه وتوفي، وكانت ولادته في رجب سنة تسعين وأربعمائة، وكان حسن السيرة، ولما توفي ملك بعده ابنه أرسلان بن أطسز.
ذكر وفاة ملك الروم وفي هذه السنة توفي الملك مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق، صاحب قونية وغيرها من بلاد الروم، ولما توفي ملك بعده ابنه قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان المذكور.
ذكر هرب السلطان سنجر من أسر الغز في هذه السنة في رمضان، هرب السلطان سنجر بن ملكشاه من أسر الغز. وسار إلى قلعة ترمذ، ثم سار من ترمذ إلى جيحون، ووصل إلى دار ملكه بمرو في رمضان من هذه السنة، فكانت مدة أسره من سادس جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين إلى رمضان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة بايع عبد المؤمن لولده محمد بولاية العهد بعده، وكانت ولاية العهد لأبي حفص عمر، وكان من أصحاب ابن تومرت، وهو من أكبر الموحدين، فأجاب إلى خلع نفسه والبيعة لابن عبد المؤمن.
وفيها استعمل عبد المؤمن أولاده على البلاد، فاستعمل ابنه عبد الله على بجاية وأعمالها، وابنه عمر على تلمسان وأعمالها، وابنه علياً على فارس وأعمالها، وابنه أبا سعيد على سبتة والجزيرة الخضراء ومالقة، وكذلك غيرهم.
وفي هذه السنة سار الملك محمد ابن السلطان محمود السلجوقي، من همذان بعساكر كثيرة إلى بغداد، وحصرها، وجرى بينهم قتال، وحصن الخليفة المقتفي دار الخلافة، واعتد للحصار، واشتد الأمر على أهل بغداد، وبينما الملك محمد على ذلك، إذ وصل إليه الخبر، أن أخاه ملكشاه ابن السلطان محمود، والدكز صاحب بلاد أران، ومعه الملك أرسلان ابن الملك طغريل بن محمد، وكان الدكز مزوجاً بأم أرسلان المذكور، قد دخلوا إلى همذان، فرحل الملك محمد عن بغداد وسار نحوهم، في الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة اثنين وخمسين وخمسمائة.
وفيها احترقت بغداد، فاحترق درب فراشا، ودرب الدواب، ودرب اللبان، وخرابة ابن جردة، والظفرية، والخاتونية، ودار الخلافة، وباب الأدج، وسوق السلطان، وغير ذلك.
وفيها توفي أبو الحسن بن الخل، شيخ الشافعية في بغداد، وهو من أصحاب الشاشي، وجمع بين العلم والعمل.
وتوفي ابن الآمدي الشاعر، وهو من أهل النيل، في طبقة الغزي والأرجاني، وكان عمره قد زاد على تسعين سنة. وفيها قتل مظفر بن حماد، صاحب البطيحة، قتل في الحمام، وتولى بعده ابنه. وفيها توفي الوأواء الحلبي، الشاعر المشهور.
وفيها توفي الحكيم أبو جعفر بن محمد البخاري، بإسفرائين، وكان عالماً بعلوم الفلسفة.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
ذكر الزلازل بالشام
وأخبار بني منقذ أصحاب شيزر إلى أن ملك نور الدين شيزر:

في هذه السنة في رجب، كان بالشام زلازل قوية، فخربت بها حماة وشيزر وحمص وحصن الأكراد وطرابلس وأنطاكية، وغيرها من البلاد المجاورة لها، حتى وقعت الأسوار والقلاع، فقام نور الدين محمود بن زنكي في ذلك الوقت، المقام المرضي، من تداركها بالعمارة، وإغارته على الفرنج ليشغلهم عن قصد البلاد، هلك تحت الهدم ما لا يحصى، ويكفي أن معلم كتاب كان بمدينة حماة، فارق المكتب، وجاءت الزلزلة، فسقط المكتب على الصبيان جميعهم، قال المعلم: فلم يحضر أحد يسأل عن صبي كان له هناك، ولما خربت قلعة شيزر بهذه الزلزلة، ومات بنو منقذ تحت الردم سار الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي إلى شيزر، وملكها يوم الثلاثاء، ثالث جمادى الأولى، من سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، واستولى على كل من فيها لبني منقذ، سلمها إلى مجد الدين أبي بكر ابن الداية، وقد ذكر ابن الأثير، أن شيزر لم تزل لبني منقذ، يتوارثونها من أيام صالح بن مرداس صاحب حلب، وليس الأمر كذلك، فإن صالح المذكور، كانت وفاته في سنة عشرين وأربعمائة، وملك بني منقذ لشيزر، كان في سنة أربع وسبعين وأربعمائة، فيكون ملكهم لشيزر بعد وفاة صالح بن مرداس بأربع وخمسين سنة، ونحن نورد أخبار بني منقذ محققة حسبما نقلناها من تاريخ مؤيد الدولة سامة ابن مرشد، وكان المذكور أفضل بني منقذ، قال: وفي سنة ثمان وستين وأربعمائة، بدأ جدي سديد الملك أبو الحسن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني بعمارة حصن الجسر، وحصر به حصن شيزر. - أقول ويعرف الجسر المذكور في زماننا بجسر ابن منقذ، وموضع الحصن اليوم تل خال من العمارة، وهو غربي شيزر، على مسافة قريبة منها - رجعنا إلى كلام ابن منقذ قال: وكان في شيزر وال للروم، اسمه دمتري، فلما طالت المضايقة لدمتري المذكور، راسل جدي، هو ومن عنده من الروم، في تسليم حصن شيزر إليه، باقتراحات اقترحوها عليه، منها مال يدفعه إلى دمتري المذكور، ومنها إبقاء أملاك الأسقف الذي بها عليه، فإنه استمر مقيماً تحت يد جدي حتى مات بشيزر، ومنها أن القنطارية، وهم رجالة الروم، يُسلّفهم ديوانهم لثلاث سنين، فسلم إليهم جدي ما التمسوه، وتسلم حصن شيزر يوم الأحد، في رجب، سنة أربع وسبعين وأربعمائة، واستمر سديد الملك علي بن مقلد المذكور مالكها إلى أن توفي فيها، في سادس المحرم سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وتولى بعده ولده أبو المرهف نصر بن علي إلى أن توفي، سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. وتولى بعده أخره أبو العساكر سلطان بن علي إلى أن توفي فيها، وتولى ولده محمد بن سلطان إلى أن مات تحت الردم، هو وثلاثة أولاده بالزلزلة، في هذه السنة المذكورة، أعني سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، في يوم الاثنين ثالث رجب.
انتهى ما نقلناه من تاريخ ابن منقذ، ولنرجع إلى كلام ابن الأثير.
قال: فلما انتهى ملك شيزر إلى نصر بن علي بن نصر بن منقذ، استمر فيها إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، فلما حضره الموت، استخلف أخاه مرشد بن علي على حصن شيزر، فقال مرشد: والله لا وليته، ولأخرجن من الدنيا كما دخلتها، ومرشد هو والد مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، فلما امتنع مرشد من الولاية، ولاّها نصر، أخاه الصغير سلطان بن علي، واستمر مرشد مع أخيه سلطان على أجمل صحبة مدة من الزمان، وكان لمرشد عدة أولاد نجباً، ولم يكن لسلطان ولد، ثم جاء لسلطان الأولاد، فخشي على أولاده من أولاد أخيه مرشد، وسعى المفسدون بين مرشد وسلطان، فتغير كل منهما على صاحبه، فكتب سلطان إلى أخيه مرشد أبياتاً يعتبه، وكان مرشد عالماً بالأدب والشعر، فأجابه مرشد بقصيدة طويلة منها:
شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها ... فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين في وطال ما ... عصيت عذولاً في هواها وواشيا
ومال بها تيه الجمال إلى القلى ... وهيهات أن أمسى لها الدهر قانيا
ومنها:
ولما أتاني من قريظك جوهر ... جمعت المعالي فيه لي والمعانيا
وكنت هجرت الشعر حيناً لأنه ... تولى برغمي حين ولى شبابيا
ومنها:
وقلت أخي يرعى بنيّ وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا
فمالك لما أن حنى الدهر صعدتي ... وثلم مني صارماً كان ماضيا

تنكرت حتى صار برُّكَ قسوة ... وقربُك منهم جفوةً وتنائيا
على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذي السنون وداديا
وكان الأمر بين مرشد وأخيه سلطان فيه تماسك، إلى أن توفي مرشد، سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، فأظهر سلطان التغير على أولاد أخيه مرشد المذكور، وجاهرهم بالعداوة، ففارقوا شيزر، وقصد أكثرهم نور الدين محمود بن زنكي، وشكوا إليه من عمهم سلطان، فغاظه ذلك، ولم يمكنه قصده لاشتغاله بجهاد الفرنج، وبقي سلطان كذلك إلى أن توفي، وولي بعده أولاده.
فلما خربت القلعة في هذه السنة بالزلزلة، لم ينج من بني منقذ الذين كانوا بها أحد، فإن صاحبها منهم كان قد ختن ولده، وعمل دعوة للناس، وأحضر جميع بني منقذ في داره، فجاءت الزلزلة، فسقطت الدار والقلعة عليهم، فهلكوا عن آخرهم، وكان لصاحب شيزر بن منقذ المذكور حصان يحبه، ولا يزال على باب داره، فلما جاءت الزلزلة وهلك بنو منقذ تحت الهدم، سلم منهم واحد، وهرب يطلب باب الدار، فلما خرج من الباب رفسه الحصان المذكور فقتله، وتسلم نور الدين القلعة والمدينة.
ذكر وفاة السلطان سنجر في هذه السنة في ربيع الأول، توفي السلطان سنجر بن ملكشاه بن أبى أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، أصابه قولنج، ثم إسهال، فمات منه. ومولده بسنجار في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة، واستوطن مدينة مرو من خراسان وقدم إلى بغداد مع أخيه السلطان محمد، واجتمع معه بالخليفة المستظهر، فلما مات محمد، خوطب سنجر بالسلطان، واستقام أمره، وأطاعته السلاطين، وخطب له على أكثر منابر الإسلام بالسلطنة، نحو أربعين سنة، وكان قبلها يخاطب بالملك نحو عشرين سنة، ولم يزل أمره عالياً إلى أن أسره الغز، ولما خلص من أسرهم، وكاد أن يعود إليه ملكه، أدركه أجله. وكان مهيباً كريماً، وكانت البلاد في زمانه آمنة، ولما وصل خبر موته إلى بغداد، قطعت خطبته، ولما حضر سنجر الموت، استخلف على خراسان الملك محمود بن محمد بن بغراخان، وهو ابن أخت سنجر، فأقام خائفاً من الغز.
ذكر غير ذلك من الحوادث:في هذه السنة، استولى أبو سعيد بن عبد المؤمن على غرناطة من الأندلس، وأخذها من الملثمين، وانقرضت دولة الملثمين ولم يبق لهم غير جزيرة ميورقة. ثم سار أبو سعيد في جزيرة الأندلس، وفتح المرية، وكانت بأيدي الفرنج مدة عشر سنين. وفيها ملك نور الدين بعلبك، وأخذها من إنسان كان قد استولى عليهما من أهل البضع يقال له ضحاك البقاعي، كان قد ولاه صاحب دمشق عليها، فلما ملك نور الدين دمشق، استولى ضحاك المذكور على بعلبك.
وفيها قلع المقتفي الخليفة باب الكعبة، وعمل عوضه باباً مصفحاً بالفضة المذهبة، وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتاً يدفن فيه.
وفيها مات محمد بن عبد اللطيف بن محمد الخجندي، رئيس أصحاب الشافعي بأصفهان، وكان صدراً مقدماً عند السلاطين.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة فيها قصد ملكشاه بن السلطان محمود السلجوقي قم وقاشان ونهبهما، وكان أخوه السلطان محمد بن محمود، بعد رحيله عن حصار بغداد، قد مرض، فطال مرضه، فأرسل إلى أخيه ملكشاه أن يكف عن النهب، ويجعله ولي عهده، فلم يقبل ملكشاه ذلك، ثم سار ملكشاه إلى خورشان واستولى عليها، وأخذها من صاحبها شملة التركماني.
وفي هذه السنة توفي يحيى بن سلامة بن الحسن، بميافارقين، الحصكفي الشاعر وكان يتشيع. ومن شعره:
وخليع بتُّ أعذله ... ويرى عذلي من العبث
قلت إن الخمر مخبثة ... قال حاشاها من الخبث
قلت فالأرفاث تتبعها ... قال طيب العيش في الرفث
قلت منها القيء قال أجل ... شرفت عن مخرج الخبث
وسأسلوها، فقلت متى؟ قال عند الكون في الجدث ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة.
ذكر فتح المهدية

في أواخر هذه السنة، نزل عبد المؤمن على مدينة المهدية، وأخذها من الفرنج يوم عاشورا، سنة خمسين وخمسمائة، وملك جميع إفريقية، وكان قد ملك الفرنج المهدية في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وأخذوها من صاحبها الحسن بن علي بن يحيى بن تميم الصنهاجي، وبقيت في أيديهم إلى هذه السنة، ففتحه عبد المؤمن، فكان ملك الفرنج المهدية اثنتي عشرة سنة تقريباً، ولما ملكها عبد المؤمن، أصلح أحوالها، واستعمل عليها بعض أصحابه، وجعل معه الحسن بن علي الصنهاجي، الذي كان صاحبها، وكان قد سار إلى بني حماد ملوك بجاية، ثم اتصل بعبد المؤمن حسبما تقدم ذكر ذلك، فأقام عنده مكرماً إلى هذه السنة، فأعاده عبد المؤمن إلى المهدية، وأعطاه بها دوراً نفيسة وإقطاعاً، ثم رحل عبد المؤمن عنها إلى الغرب.
ذكر وفاة السلطان محمد وفي هذه السنة، وقيل في سنة خمس وخمسين، توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه. السلجوقي، في ذي الحجة، وهو الذي حاصر بغداد، ولما عاد عنها لحقه سل، وطال به فمات بباب همدان، وكان مولده في ربيع الآخر سنة اثنين وعشرين وخمسمائة، وكان كريماً عاقلاً، وخلف ولداً صغيراً، ولما حضره الموت، سلم ولده إلى أقسنقر الأحمديلي وقال: أنا أعلم أن العساكر لا تطيع مثل هذا الطفل، فهو وديعة عندك، فارحل به إلى بلادك. فرحل به أقسنقر إلى بلدة مرأغا. ولما مات السلطان محمد، اختلفت الأمراء، فطائفة طلبوا ملكشاه أخاه، وطائفة طلبوا سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان، الذي كان قد اعتقل في الموصل، وهم الأكثر، ومنهم من طلب أرسلان بن طغريل، الذي كان مع الدكز. وبعد موت محمد سار أخوه ملكشاه إلى أصفهان فملكها.
ذكر مرض نور الدين وفي هذه السنة مرض نور الدين بن زنكي مرضاً شديداً، أرجف بموته، وكان بقلعة حلب، فجمع أخوه أمير ميران بن زنكي جمعاً وحصر قلعة حلب، وكان شيركوه بحمص، وهو من أكبر أمراء نور الدين، فسار إلى دمشق ليستولي عليها، وبها أخوه نجم الدين أيوب، فأنكر عليه أيوب ذلك وقال: أهلكتنا، والمصلحة أن تعود إلى حلب، فإن كان نور الدين حياً، خدمته في هذا الوقت، وإن كان قد مات، فإنا في دمشق نفعل ما تريد من ملكها. فعاد شيركوه إلى حلب مجداً، وجلس نور الدين في شباك يراه الناس، فلما رأوه حياً تفرقوا عن أخيه أمير ميران، واستقامت الأحوال ذكر أخبار اليمن من تاريخ اليمن لعمارة وفي هذه السنة استقر في ملك اليمن علي بن مهدي، وأزال ملك بني نجاح، على ما قدمنا ذكره في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وعلي بن مهدي المذكور، من حمير من أهل قرية يقال لها الغبرة، من سواحل زبيد، كان أبوه مهدي المذكور، رجلاً صالحاً، ونشأ ابنه على طريقة أبيه في العزلة والتمسك بالصلاح، ثم حج، واجتمع بالعراقيين، وتضلع من معارفهم، ثم صار علي بن مهدي المذكور واعظاً، وكان فصيحاً صبيحاً حسن الصوت، عالماً بالتفسير، غزير المحفوظات، وكان يتحدث في شيء من أحوال المستقبل، فيصدق، فمالت إليه القلوب، واستفحل أمره، وصار له جموع، فقصد الجبال وأقام بها إلى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. ثم عاد إلى أملاكه، وكان يقول في وعظه: أيها الناس، دنا الوقت، أزف الأمر، كأنكم بما أقول لكم وقد رأيتموه عياناً. ثم عاد إلى الجبال إلى حصن يقال له الشرف، وهو لبطن من خولان، فأطاعوه وسماهم الأنصار، وسمى كل من صعد معه من تهامة، المهاجرين، وأقام على خولان رجلاً اسمه سبأ، وعلى المهاجرين رجلاً اسمه التويتي، وسمى كلا من الرجلين شيخ الإسلام، وجعلهما نقيبين على الطائفتين فلا يخاطبه أحد غيرهما، وهما يوصلان كلامه إلى الطائفتين، وكلام الطائفتين وحوائجهما إليه، وأخذ يغادي الغارات ويراوحها على التهايم، حتى أخلى البوادي، وقطع الحرث والقوافل.

ثم إنه حاصر زبيد، واستمر مقيماً عليها حتى قتل فاتك بن محمد، آخر ملوك بني نجاح، قتله عبيدة، وجرى بين ابن مهدي وعبيد فاتك حروب كثيرة، وآخرها أن ابن مهدي انتصر عليهم، وملك زبيد، واستقر في دار الملك يوم الجمعة، رابع عشر رجب من هذه السنة، أعني سنة أربع وخمسين وخمسمائة. وبقي ابن مهدي في الملك شهرين وإحدى وعشرين يوماً، ثم مات علي بن مهدي المذكور في السنة التي ملك فيها في شوال، ثم ملك اليمن بعده ولده مهدي بن علي بن مهدي، ولم يقع تاريخ وفاته، ثم ملك اليمن بعده ولده عبد النبي بن مهدي، ثم خرجت المملكة عن عبد النبي المذكور إلى أخيه عبد الله، ثم عادت إلى عبد النبي واستقر فيها حتى سار إليه توران شاه بن أيوب من مصر في سنة تسع وستين وخمسمائة، وفتح اليمن واستقر في ملكه، وأسر عبد النبي المذكور، وهو عبد النبي بن مهدي بن علي بن مهدي الحميري، وهو من ملك اليمن من بني حمير، وكان مذهب علي بن مهدي التكفير بالمعاصي، وقتل من خلف اعتقاده من أهل القبلة واستباحة وطء سباياهم، واسترقاق ذراريهم، وكان حنفي الفروع، وكان أصحابه يعتقدون فيه فوق ما يعتقده الناس في الأنبياء، صلوات الله عليهم، ومن سيرته قتل من شرب ومن سمع الغناء.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
ذكر مسير سليمان شاه إلى همذان
وما كان منه إلى أن قتلمات محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان، أرسلت الأمراء وطلبوا عمه سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه ليولوه السلطنة، وكان قد اعتقل في الموصل مكرماً، فجهزه قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، بشيء كثير، وجهاز يليق بالسلطنة، وسار معه زين الدين علي كجك بعسكر الموصل إلى همذان، وأقبلت العساكر إليهم، كل يوم تلقاه طائفة، وأميره ثم تسلطت العساكر عليه ولم يبق له حكم، وكان سليمان فيه تهور وخرق، وكان يدمن شرب الخمر، حتى أنه شرب في رمضان نهاراً، وكان يجمع عنده المساخر، ولا يلتفت إلى الأمراء، فأهمل العسكر أمره، وصاروا لا يحضرون بابه، وكان قد رد جميع الأمور إلى شرف الدين كردبازو الخادم، وهو من مشايخ الخدم السلجوقية، يرجع الأمور إلى دين وحسن تدبير.
فاتفق يوماً أن سليمان شرب بظاهر همذان بالكشك، فحضر إليه كردياز ولامه، فأمر سليمان من عنده من المساخر فعبثوا بكردبازو، حتى أن بعضهم كشف له سوءته، فاتفق كردبازو مع الأمراء على قبضه، وعمل كردبازو دعوة عظيمة، فلما حضرها الملك سليمان في داره، قبض عليه كردبازو وحبسه، وبقي في الحبس مدة، ثم أرسل إليه كردبازو من خنقه، وقيل سقاه سماً؟، فمات في ربيع الآخر سنة ست وخمسين وخمسمائة.
ولما مات سار الدكز في عساكر تزيد على عشرين ألفاً، ومعه أرسلان شاه بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان، ووصل إلى همذان، فلقيه كردبازو وأنزله في دار المملكة، وخطب لأرسلان شاه بالسلطنة، وكان الدكز مزوجاً بأم أرسلان شاه، فولدت للدكز أولاداً منهم: البهلوان محمد، وقزل أرسلان عثمان، أبناء الدكز. وبقي الدكز أتابك أرسلان وابنه البهلوان، وهو أخو أرسلان لأمه حاجبه، وكان هذا الدكز أحد مماليك السلطان مسعود، اشتراه في أول أمره، ثم أقطعه آران وبعض بلاد أذربيجان، فعظم شأنه وقوي أمره، ولما خطب لأرسلان شاه بالسلطنة في تلك البلاد، أرسل الدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه بالسلطنة، على عادة الملوك السلجوقية، فلم يجب إلى ذلك، ونحن قد قدمنا ذكر موت سليمان وولاية أرسلان ليتصل ذكر الحادثة، وهي في الكامل مذكورة في موضعين، في سنة خمس وسنة ست وخمسمائة.
ذكر وفاة الفائز وولاية العاضد العلويين في هذه السنة توفي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر، خليفة مصر، وكانت خلافته ست سنين ونحو شهرين، وكان عمره لما ولي ثلاث سنين، وقيل خمس سنين، ولما مات دخل الصالح بن رزيك القصر، وسأل عمن يصلح، فأحضر له منهم إنسان كبير السن، فقال بعض أصحاب الصالح له سراً: لا يكون عباس أحزم منك. حيث اختار الصغير، فأعاد الصالح الرجل إلى موضعه، وأمر بإحضار العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ، ولم يكن أبوه خليفة، وكان العاضد ذلك الوقت مراهقاً، فبايع له بالخلافة، وزوجه الصالح بابنته، ونقل معها من الجهاز ما لا يسمع بمثله.

وفاة المقتفي لأمر الله في هذه السنة ثاني ربيع الأرل، توفي الخليفة المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر أبي العباس أحمد، بعلة التراقي، وكان مولده ثاني ربيع الآخر، سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وأمه أم ولد، وكانت خلافته أربعاً وعشرين سنة، وثلاثة أشهر وستة عشر يوماً، وكان حسن السيرة، وهو أول من استبد بالعراق منفرداً عن سلطان يكون معه، وكان يبذل الأموال العظيمة لأصحاب الأخبار في جميع البلاد، حتى كان لا يفوته منها شيء.
خلافة المستنجدوهو ثاني ثلاثينهم ولما توفي المقتفي لأمر الله محمد، بويع ابنه يوسف، ولقب المستنجد بالله، وأم المستنجد أم ولد تدعى طاووس، ولما بويع المستنجد بالخلافة، بايعه أهله وأقاربه، فمنهم عمه أبو طالب، ثم أخوه أبو جعفر بن المقتفي، وكان أكبر من المستنجد، ثم بايعه الوزير ابن هبيرة، وقاضي القضاة وغيرهم.
ذكر وفاة صاحب غزنة في هذه السنة في رجب توفي السلطان خسروشاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمد بن سبكتكين، صاحب غزنة، وكان عادلاً حسن السيرة، وكانت ولايته في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ولما مات ملك بعده ابنه ملكشاه بن خسروشاه، وقيل والده خسروشاه المذكور توفي في حبس غياث الدين الغوري، وأنه آخر ملوك بني سبكتكين حسبما تقدم ذكره، في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، والله أعلم بالصواب.
ذكر وفاة ملكشاه والسلجوقي في هذه السنة توفي السلطان ملكشاه بن محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان، بأصفهان، مسموماً.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة حج أسد الدين شيركوه بن شاذي، مقدم جيش نور الدين محمود بن زنكي.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة في هذه السنة في ربيع الآخر، توفي الملك علاء الدين الحسين بن الحسين الغوري، ملك الغور، وكان عادلاً حسن السيرة، ولما مات، ملك بعده ابن أخيه غياث الدين محمد، وقد تقدم ذكر ذلك في سنة سبع وأربعين وخمسمائة.
ذكر نهب نيسابور وتخريبها وعمارة الشاذباخ في هذه السنة تقدم المؤيد أي به بإمساك أعيان نيسابور، لأنهم كانوا رؤساء للحرامية والمفسدين، وأخذ المؤيد يقتل المفسدين، فخربت نيسابور، وكان من جملة ما خرب مسجد عقيل، وكان مجمعاً لأهل العلم، وكان فيه خزائن الكتب الموقوفة، وخرب من مدارس الحنفية سبع عشرة مدرسة، وأحرق ونهب عدة من خزائن الكتب. وأما الشاذباخ، فإن عبد الله بن طاهر بن الحسين بناها لما كان أميراً على خراسان، للمأمون، وسكنها هو والجند، ثم خربت بعد ذلك، ثم جددت في أيام السلطان ألب أرسلان السلجوقي، ثم تشعثت بعد ذلك، فلما كان الآن وخربت نيسابور، أمر المؤيد أمح أي به بإصلاح سور الشاذباخ، وسكنها هو والناس، فخربت نيسابور كل الخراب، ولم يبق بها أحد.
ذكر قتل الصالح بن رزيك في هذه السنة في رمضان قتل الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك الأرمني، وزير العاضد العلوي، جهزت عليه عمة العاضد من قتله، وهو داخل في القصر، بالسكاكين، ولم يمت في تلك الساعة، بل حمل إلى بيته، وأرسل يعتب على العاضد. فأرسل العاضد إلى طلائع المذكور يحلف له، أنه لم يرض، ولا علم بذلك، وأمسك العاضد عمته وأرسلها إلى طلائع فقتلها، وسأل العاضد أن يولى ابنه رزيك الوزارة، ولقب العادل، ومات طلائع واستقر ابنه العادل رزيك في الوزارة، وكان للصالح طلائع شعر حسن، فمنه في الفخر:
أبى الله إلا أن يدين لنا الدهر ... ويخدمنا في ملكنا العز والنصر
علمنا بأن المال تفنى ألوفه ... ويبقى لنا من بعده الأجر والذكر
خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا ... سحاب لديه البرق والرعد والقطر
ذكر ملك عيسى مكة
حرسها الله تعالى:

كان أمير مكة قاسم بن أبي فليتة بن قاسم بن أبي هاشم العلوي الحسيني، فلما سمع بقرب الحاج من مكة، صادر المجاورين، وأعيان مكة، وأخذ أموالهم، وهرب إلى البرية. فلما وصل الحاج إلى مكة، رتب أمير الحاج، مكان قاسم، عمه عيسى بن قاسم بن أبي هاشم، فبقي كذلك إلى شهر رمضان، ثم إن قاسم بن أبي فليتة، جمع العرب وقصد عمه عيسى، فلما قارب مكة، رحل عنها عيسى، فعاد قاسم فملكها، ولم يكن معه ما يرضى به العرب، فكاتبوا عمه عيسى وصاروا معه، فقدم عيسى إليهم، فهرب قاسم وصعد إلى جبل أبى قبيس، فسقط عن فرسه، فأخذه أصحاب عمه عيسى وقتلوه، فغسله عمه عيسى ودفنه بالمعلى عند ابنه أبي فليتة. واستقرت مكة لعيسى.
ذكر غير ذلك في هذه السنة عبر عبد المؤمن بن علي المجاز إلى الأندلس، وبنى على جبل طارق من الأندلس مدينة حصينة، وأقام بها عدة أشهر، ثم عاد إلى مراكش. وفيها ملك قرا أرسلان صاحب حصن كيفا، قلعة شاتان، وكانت لطائفة من الأكراد، ولما ملكها خربها، وأضاف أعمالها إلى حصن طالب.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائة. في هذه السنة، نازل نور الدين محمود بن زنكي قلعة حارم، وهي للفرنج مدة، ثم رحل عنها ولم يملكها.
وفيها سارت الكرج في جمع عظيم ودخلوا بلاد الإسلام، وملكوا مدينة دوين من أعمال أذربيجان، ونهبوها. ثم جمع الدكز صاحب أذربيجان جمعاً عظيماً، وغزا الكرج وانتصر عليهم.
وفيها حج الناس، فوقعت فتنة، وقتال بين صاحب مكة وأمير الحاج، فرحل الحاج ولم يقدر بعضهم على الطواف بعد الوقفة. قال ابن الأثير: وكان ممن حج ولم يطف، جدته أم أبيه، فوصلت إلى بلادها وهي على إحرامها، واستفتت الشيخ أبا القاسم بن البرزي، فأفتى أنها إذا دامت على ما بقي من إحرامها إلى قابل، وطافت، كمل حجها الأول، ثم تفدي وتحل، ثم تحرم إحراماً ثانياً، وتقف بعرفات، وتكمل مناسك الحج، فيصير لها حجة ثانية. فبقيت على إحرامها إلى قابل، وفعلت كما قال، فتم حجها الأول والثاني.
وفيها مات الكيا الصنهاجي، صاحب الألموت، مقدم الإسماعلية، وقام ابنه مقامه، فأظهر التوبة.
وفيها في المحرم، توفي الشيخ عدي بن مسافر الزاهد، المقيم ببلد الهكارية، من أعمال الموصل، وأصل الشيخ عدي من الشام، من بلد بعلبك، فانتقل إلى الموصل، وتبعه أهل السواد والجبال بتلك النواحي، وأطاعوه وأحسنوا الظن به. ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.
ذكر وزارة شاور ثم الضرغام في هذه السنة، في صفر، وزر شاور للعاضد لدين الله العلوي، وكان شاور يخدم الصالح طلائع بن رزيك، فولاه الصعيد، وكانت ولاية الصعيد أكبر المناصب هد الوزارة، ولما خرج الصالح، أوصى ابنه العادل أن لا يغير على شاور شيئاً، لعلمه بقوة شاور، فلما تولى العادل ابن الصالح الوزارة، كتب إلى شاور بالعزل، فجمع شاور جموعه، وسار نحو العادل إلى القاهرة، فهرب العادل، وطرد وراءه شاور، وأمسكه وقتله، وهو العادل رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك، وانقرضت بمقتله دولة بني رزيك، وفيهم يقول عمارة التميمي من أبيات طويلة:
ولت ليالي بني رزيك وانصرمت ... والمدح والشكر فيهم غير منصرم
كأن صالحهم يوماً وعادلهم ... في صدر ذا الدست لم يقعد ولم يقم
واستقر شاور في الوزارة، وتلقب بأمير الجيوش، وأخذ أموال بني رزيك وودائعهم، ثم إن الضرغام، جمع جمعاً ونازع شاور في الوزارة، في شهر رمضان، وقوى على شاور، فانهزم شاور إلى الشام، مستنجداً بنور الدين، ولما تمكن ضرغام في الوزارة، قتل كثيراً من الأمراء المصريين، لتخلو له البلاد، فضعفت الدولة لهذا لسبب، حتى خرجت البلاد من أيديهم.
ذكر وفاة عبد المؤمن

في هذه السنة، في العشرين من جمادى الآخرة، توفي عبد المؤمن بن علي، صاحب بلاد المغرب وإفريقية والأندلس، وكان قد سار من مراكش إلى سلا، فمرض بها ومات، ولما حضره الموت، جمع شيوخ الموحدين وقال لهم: قد جربت ابني محمداً فلم أره يصلح لهذا الأمر، وإنما يصلح له ابني يوسف، فقدموه، فبايعوه، ودعى بأمير المؤمنين، واستقرت قواعد ملكه، وكانت مدة ولاية عبد المؤمن ثلاث وثلاثين سنة وشهوراً. وكان حازماً سديد الرأي، حسن السياسة للأمور، كثير سفك الدم على الذنب الصغير، وكان يعظم أمر الدين ويقويه، ويلزم الناس بالصلاة بحيث أنه من رآه وقت الصلاة غير مصل قتل، وجمع الناس في المغرب على مذهب مالك في الفروع، وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، ملك المؤيد أي به قومس، ولما ملكها أرسل إليه السلطان أرسلان بن طغريل ابن ملكشاه خلعة وألوية، وهدية جليلة، فلبس المؤيد أي به الخلع، وخطب له في بلاده.
وفي هذه السنة كبس الفرنج نور الدين محمود، وهو نازل بعسكره في البقيعة، تحت حصن الأكراد، فلم يشعر نور الدين وعسكره إلا وقد أظلت عليهم صلبان الفرنج، وقصدوا خيمة نور الدين، فلسرعة ذلك ركب نور الدين فرسه وفي رجله السنجة، فنزل إنسان كردي فقطعها، فنجا نور الدين، وقتل الكردي، فأحسن نور الدين إلى مخلفيه، ووقف عليهم الوقوف، وسار نور الدين إلى بحيرة حمص، فنزل عليها، وتلاحق به من سلم من المسلمين. وفيها أمر الخليفة المستنجد بإخلاء بني أسد، وهم أهل الحلة المزيدية، فقتل منهم جماعة، وهرب الباقون، وتشتتوا في البلاد، وذلك لفسادهم في البلاد، وسلمت بطائحهم وبلادهم إلى رجل يقال له ابن معروف.
وفيها توفي سديد الدولة محمد بن عبد الكريم بن إبراهيم، المعروف بابن الأنباري، كاتب الإنشاء بدار الخلافة، وكان فاضلاً أديباً، وكان عمره قريب تسعين سنة.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائة في هذه السنة سير نور الدين محمود بن زنكي، عسكراً، مقدمهم أسد الدين شيركوه بن شاذي، إلى الديار المصرية، ومعهم شاور، وكان قد سار من مصر هارباً من ضرغام الوزير، فلحق شاور بنور الدين واستنجده، وبذل له ثلث أموال مصر، بعد رزق جندها، إن أعاده إلى الوزارة، فأرسل نور الدين شيركوه إلى مصر، فوصل إليها وهزم عسكر ضرغام، وقتل ضرغام عند قبر السيدة نفيسة، وأعاد شاور إلى وزارة العاضد العلوي.
وكان مسير أسد الدين في جمادى الأولى من هذه السنة. واستقر شاور في الوزارة، وخرجت إليه الخلع في مستهل رجب من هذه السنة، ثم غدر شاور بنور الدين ولم يف له بشيء مما شرط، فسار أسد الدين واستولى على بلبيس والشرقية، فأرسل شاور واستنجد بالفرنج، على إخراج أسد الدين شيركوه من البلاد، فسار الفرنج، واجتمع معهم شاور بعسكر مصر، وعمروا شيركوه ببلبيس، ودام الحصار مدة ثلاث أشهر، وبلغ الفرنج حركة نور الدين وأخذه حارم، فراسلوا شيركوه في الصلح، وفتحوا له، فخرج من بلبيس بمن معه من العسكر، وسار بهم ووصلوا إلى الشام سالمين.
وفي هذه السنة في رمضان، فتح نور الدين محمود قلعة حارم، وأخذها من الفرنج، بعد مصاف جرى بين نور الدين والفرنج، انتصر فيه نور الدين، وقتل وأسر من الفرنج عالماً كثيراً، وكان في جملة الأسرى البرنس، صاحب أنطاكية، والقومص صاحب طرابلس، وغنم منهم المسلمون شيئاً كثيراً.
وفي هذه السنة أيضاً في ذي الحجة، سار نور الدين إلى بانياس وفتحها، وكان بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلى هذه السنة.
في هذه السنة توفي جمال الدين أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور لأصفهاني، وزير قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، في شعبان، مبوضاً عليه، وكان قد قبض عليه قطب الدين، في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وكان قد تعاهد جمال الدين المذكور، وأسد الدين شيركوه، أنهما من مات منهما قبل الآخر، ينقله الآخر إلى مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، فيدفنه فيها، فنقله شيركوه، واكترى له من يقرأ القرآن عند شيله وحطه، وكان ينادي في كل بلد ينزلونه بها بالصلاة عليه، ولما أرادوا الصلاة عليه بالحلة، صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد:
سرى نعشه فوق الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله

يمر على الوادي فتثني رماله ... عليه، وبالنادي فتثني أرامله
وطيف به حول الكعبة، ودفن في رباط بالمدينة بناه لنفسه، وبينه وبين قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، نحو خمسة عشر ذراعاً، وهذا جمال الدين، هو الذي جدد مسجد الخيف بمنى، وبنى الحجر بجانب الكعبة، وزخرف الكعبة، وغرم جملة طائلة لصاحب مكة، وللمقتفي، حتى مكنه من ذلك، وهو الذي بنى المسجد الذي على جبل عرفات، وعمل الدرج إليه، وعمل بعرفات مصانع الماء، وبنى سوراً على مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، وبنى على دجلة جسراً، عند جزيرة ابن عمر، بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلس، فقبض قبل أن يفرغ، وبنى الربط وغيرها.
وفي هذه السنة توفي نصر بن خلف، ملك سجستان، وعمره أكثر من مائة سنة، ومدة ملكه ثمانون سنة، وملك بعده ابنه أبو الفتح أحمد بن نصر.
وفيها توفي الإمام عمر الخوارزمي، خطيب بلخ، ومفتيها، والقاضي أبو بكر المحمودي صاحب التصانيف والأشعار، وله مقامات بالفارسية على نمط مقامات الحريري.
ثم دخلت سنة ستين وخمسمائة في هذه السنة، في ربيع الأول، توفي شاه مازندران رستم بن علي بن شهريار بن قارن، وملك بعده ابنه علاء الدين الحسن، وفيها ملك المؤيد أي به مدينة هراة.
وفيها كان بين قليج أرسلان صاحب قونية، وما جاورها من بلاد الروم، وبين باغي أرسلان بن الدانشمند صاحب ملطية، وما يجاورها من بلاد الروم، حروب شديدة، انهزم فيها قليج أرسلان، واتفق موت باغي أرسلان صاحب ملطية في تلك المدة، وملك بعده ملطية ابن أخيه إبراهيم بن محمد بن الدانشمند، واستولى ذو النون بن محمد بن الدانشمند على قيساربة، وملك شاهان شاه بن مسعود أخو قليج أرسلان مدينة أنكورية، واصطلح المذكورون على ذلك، واستقرت بينهم القواعد واتفقوا.
وفيها توفي عون الدين الوزير ابن هبيرة، واسمه يحيى بن محمد بن المظفر، وكان موته في جمادى الأولى، ومولده سنة سبعين وأربعمائة، ودفن بالمدرسة التي بناها الحنابلة، بباب البصرة، وكان حنبلي المذهب، وأنفق على المقتفي نفاقاً عظيماً، حتى أن المقتفي كان يقول: لم يتوزر لبني العباس مثله، ولما مات قبض على أولاده وأهله.
وفيها توفي الشيخ الأمام أبو القاسم عمر بن عكرمة بن البرزي، الفقيه الشافعي، تفقه على الكيا الهراسي، وكان أوحد زمانه في الفقه، وهو من جزيرة ابن عمر.
وفيها توفي أبو الحسن هبة الله بن صاعد بن هبة الله، المعروف بأمين الدولة ابن التلميذ، وقد ناهز المائة من عمره، وكان طبيب دار الخلافة ببغداد، ومحظياً عند المقتفي، وكان حاذقاً، فاضلاً، ظريف الشخص، عالي الهمة، مصيب الفكر، شيخ النصارى، وقسيسهم، وكان له في الأدب يد طولي، وكان متفنناً في العلوم، وكان فضلاء عصره يتعجبون كيف حرم الإسلام مع كمال فهمه، وغزارة علمه، والله يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يريد بحكمه.
وكان أوحد الزمان، أبو البركات، هبة الله بن ملكان الحكيم، المشهور، صاحب كتاب المعتبر في الحكمة، معاصراً لابن التلميذ المذكور، وكان بينهما تنافس، كما يقع كثير بين أهل كل فضيلة وصنعة، وكان أبو البركات المذكور يهودياً، ثم أسلم في آخر عمره، وأصابه الجذام وتداوى وبرئ منه، وذهب بصره، وبقي أعمى، وكان متكبراً، وكان ابن التلميذ متواضعاً، فعمل ابن التلميذ في أبي البركات المذكور:
لنا صديق يهودي حماقته ... إذا تكلم تبدو فيه من فيه
يتيه والكلب أعلى منه منزلة ... كأنه بعد لم يخرج من التيه
ولابن التلميذ أيضاً:
يا من رماني عن قوس فرقته ... بسهم هجر على تلافيه
أرض لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنب عقابه فيه
وله التصانيف الحسنة منها كتاب، اقرأ باذين، وله على كليات القانون حواشي، وكتاب اقرأ باذين ابن التلميذ المذكور، هو المعتمد عليه عند الأطباء، كان شيخه في الطب، أبا الحسن هبة الله بن سعيد، صاحب المغني في الطب، ولابن سعيد المذكور أيضاً، الإقناع في الطب، وهو كتاب جيد في أربعة أجزاء.

ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة. في هذه السنة، فتح نور الدين محمود حصن المنطرة من الشمام، وكان بيد الفرنج. وفيها في ربيع الآخر توفي الشيخ عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، وكنيته أبو محمد، وكان مقيماً ببغداد، ومولده سنة سبعين وأربعمائة. قال ابن الأثير: كان من الصلاح على حال عظيم، وهو حنبلي المذهب، ومدرسته ورباطه مشهوران ببغداد.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائة، في هذه السنة عاد أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية، وجهزه نور الدين بعسكر جيد، عدتهم ألفا فارس، فوصل إلى ديار مصر واستولى على الجيزة، وأرسل شاور إلى الفرنج واستنجدهم، وجمعهم وساروا في أثر شيركوه إلى جهة الصعيد، والتقوا على بلد يقال له أيوان، فانهزم الفرنج والمصريون، واستولى شيركوه على بلاد الجيزة، واستغلها. ثم سار إلى الإسكندرية وملكها، وجعل فيها ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعاد شيركوه إلى جهة الصعيد فاجتمع عسكر مصر والفرنج، وحصروا صلاح الدين بالإسكندرية مدة ثلاث أشهر، فسار شيركوه إليهم، فاتفقوا على الصلح، على مال يحملونه إلى شيركوه، ويسلم إليهم الإسكندرية، ويعود إلى الشام، فتسلم المصريون الإسكندرية في منتصف شوال من هذه السنة، وسار شيركوه إلى الشام، فوصل إلى دمشق في ثامن عشر ذي القعدة، واستقر الصلح بين الفرنج والمصريين، على أن يكون للفرنج بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بيد فرسانهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار.
وفي هذه السنة، فتح نور الدين صافيتا والغربية. وفيها عصا غازي بن حسان صاحب منبج، على نور الدين بمنبج، فسير إليه نور الدين عسكراً وأخذوا منه منبج، ثم أقطع نور الدين منبج، قطب الدين ينال بن حسان، أخا غازي المذكور، فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب، سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
وفيها توفي فخر الدين قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، صاحب حصن كيفا، وملك بعده ولده نور الدين محمود بن قرا أرسلان بن داود. وفيها توفي عبد الكريم أبو سعيد بن محمد بن منصور بن أبو بكر المظفر السمعاني المروزي، الفقيه الشافعي، وكان مكثراً من سماع الحديث، سافر في طلبه إلى ما وراء النهر، وسمع منه ما لم يسمعه غيره، وله التصانيف المشهورة الحسنة، منها: ذيل تاريخ بغداد، وتاريخ مدينة مرو، وكتاب الأنساب، في ثمان مجلدات. وقد اختصر كتاب الأنساب المذكور، الشيخ عز الدين علي بن الأثير، في ثلاث مجلدات، والمختصر المذكور، هو الموجود في أيدي الناس، والأصل قليل الوجود، وله غير ذلك، وقد جمع مشيخته، فزادت عدتهم على أربعة آلاف شيخ، وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي، فأوقع فيه، فمن جملة قوله فيه: أنه كان يأخذ الشيخ ببغداد، ويعبر به إلى فوق نهر عيسى، ويقول حدثني فلان بما وراء النهر، هذا بارد جداً، لأن السمعاني المذكور، سافر إلى ما وراء النهر حقاً، فأي حاجة إلى هذا التدليس، وإنما ذنبه عند ابن الجوزي، أنه شافعي، وله أسوة بغيره، فإن ابن الجوزي، لم يبق على أحد غير الحنابلة، وكانت ولادة أبي سعيد السمعاني المذكور، في شعبان سنة ست وخمسمائة، وكان أبوه وجده فاضلين، والسمعاني منسوب إلى سمعان، وهو بطن من تميم.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة في هذه السنة فارق زين الدين علي كجك بن بكتكين، نائب قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، خدمه قطب الدين، واستقر بإربل، وكانت في إقطاع زين الدين علي المذكور وكانت له إربل مع غيرها، فاقتصر على إربل وسكنها، وسلم ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين مودود، وكان زين الدين علي المذكور، قد عمي وطرش.
ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة.
ذكر ملك نور الدين قلعة جعبر

في هذه السنة ملك نور الدين محمود قلعه جعبر، وأخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي، وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه، ولم يقدر نور الدين على أخذها، إلا بعد أن أسر صاحبها مالك المذكور بنو كلاب، وأحضروه إلى نور الدين محمود، واجتهد به على تسليمها فلم يفعل، فأرسل عسكراً مقدمهم فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، وردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر، المعروف بابن الداية، وكان رضيع نور الدين، وحصروا قلعة جعبر، فلم يظفروا منها بشيء، وما زالوا على صاحبها مالك حتى سلمها، وأخذ عنها عوضاً مدينة بأعمالها، والملوحة، من بلد حلب، وعشرين ألف دينار، معجلة، وباب بزاعة.
ذكر ملك أسد الدين شيركوه مصر
وقتل شاورثم ملك صلاح الدين، وهو ابتداء الدولة الأيوبية. في هذه السنة أعني سنة أربع وستين وخمسمائة، في ربيع الأول سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى دار مصر، ومعه العساكر النورية، وسبب ذلك تمكن الفرنج من البلاد المصرية، وتحكمهم على المسلمين بها، حتى ملكوا بلبيس قهراً في مستهل صفر من هذه السنة، ونهبوها وقتلوا أهلها وأسروهم، ثم ساروا من بلبيس، ونزلوا على القاهرة، عاشر صفر وحاصروها، فأحرق شاور مدينة مصر، خوفاً من أن يملكها الفرنج، وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً، فأرسل العاضد الخليفة إلى نور الدين يستغيث به، وأرسل في الكتب شعور النساء، وصانع شاور الفرنج على ألف ألف دينار، يحملها إليهم، فحمل إليهم مائة ألف دينار، وسألهم أن يرحلوا عن القاهرة، ليقدر على جمع المال وحمله، فرحلوا، فجهز نور الدين العسكر مع شيركوه، وأنفق فيهم المال، وأعطى شيركوه مائتي ألف دينار، سوى الثياب والدواب والأسلحة وغير ذلك، وأرسل معه عدة أمراء، منهم ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على كره منه، أحب نور الدين مسير صلاح الدين، وفيه ذهاب الملك من بيته، وكره صلاح الدين المسير، وفيه سعادته وملكه " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم " البقرة 216، ولما قارب شيركوه مصر رحل الفرنج من ديار مصر على أعقابهم إلى بلادهم، فكان هذا لمصر فتحاً جديداً، ووصل أسد الدين شيركوه إلى القاهرة، في رابع ربيع الآخر، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه، وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية، وأجرى عليه، وعلى عسكره الإقامات الوافرة، وشرع شاور يماطل شيركوه، فيما بذله لنور الدين من تقرير المال، وإفراد ثلث البلاد له، ومع ذلك فكان شاور يركب كل يوم إلى أسد الدين شيركوه، ويعده ويمنيه " وما يعدهم الشيطان إلا غروراً " النساء 125، ثم إن شاور عزم على أن يعمل دعوة لشيركوه وأمرائه، ويقبض عليهم، فمنعه ابنه الكامل ابن شاور من ذلك، ولما رأى عسكر نور الدين من شاور ذلك، عزموا على الفتك بشاور، واتفق على ذلك صلاح الدين يوسف، وعز الدين جرديك، وغيرهما. وعرفوا شيركوه بذلك، فنهاهم عنه واتفق أن شاور قصد شيركوه على عادته فلم يجده في المخيم وكان قد مضى لزيارة قبر الشافعي، فلقي صلاح الدين وجرديق شاور، وأعلماه برواح شيركوه إلى زيارة الشافعي، فساروا جميعاً إلى شيركوه، فوثب صلاح الدين وجرديك ومن معهما على شاور، وألقوه إلى الأرض عن فرسه، وأمسكوه في سابع ربيع الآخر من هذه السنة، أعني سنة أربع وستين وخمسمائة، فهرب أصحابه عنه، وأرسلوا أعلموا شيركوه بما فعلوه، فحضر ولم يمكنه إلا إتمام ذلك.

وسمع العاضد الخبر، فأرسل إلى شيركوه يطلب منه إنفاذ رأس شاور، فقتله وأرسل رأسه إلى العاضد، دخل بعد ذلك شيركوه إلى القصر عند العاضد، فخلع عليه العاضد خلع الوزارة، ولقبه الملك المنصور، أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة، وهي التي كان فيها شاور، واستقر في الأمر، وكتب له منشور بالإنشاء الفاضلي، أوله بعد البسملة: من عبد الله ووليه أبي محمد، الإمام العاضد لدين الله، أمير المؤمنين، إلى السيد الأجل الملك المنصور، سلطان الجيوش، ولي الأئمة، مجير الأمة، أسد الدين أبي الحارث شيركوه العاضدي، عضد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته. سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يصلي على محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين، والأئمة المهديين، سلم تسليماً. ثم ذكر تفويض أمور الخلافة إليه، ووصايا أضربنا عنها للاختصار، وكتب العاضد بخطه على طرة المنشور، هذا عهد لم يعهد لوزير بمثله، فتقلد أمانة رآك أمير المؤمنين أهلاً لحملها، فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار، بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبرة، مدحت الشعراء أسد الدين، ووصل إليه من الشام مديح لعماد الكاتب، قصيدة أولها:
بالجد أدركت ما أدركت لا اللعب ... كم راحة جنيت من دوحة التعب
يا شيركوه بن شاذي الملك دعوة من ... نادي فعرف خير ابن لخير أب
جرى الملوك وما حازوا بركضهم ... من المدى في العلى ما حزت بالخبب
تمل من ملك مصر رتبة قصرت ... عنها الملوك فطالت سائر الرتب
قد أمكنت أسد الدين الفريسة من ... فتح البلاد فبادر نحوها وثب
وفي شيركوه وقتل شاور يقول عرقلة الدمشقي:
لقد فاز بالملك العقيم خليفة ... له شيركوه العاضدي وزير
هو الأسد الضاري الذي جل خطبه ... وشاور كلب للرجال عقور
بغى وطغى حتى لقد قال صحبه ... على مثلها كان اللعين يدور
فلا رحم الرحمن تربة قبره ... ولا زال فيها منكر ونكير

وأما الكامل بن شاور، فلما قتل أبوه دخل القصر، فكان آخر العهد به، ولما لم يبق لأسد الدين شيركوه منازع، أتاه أجله " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " الأنعام: 144، وتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، سنة أربع وستين وخمسمائة. فكانت ولايته شهرين وخمسة أيام، وكان شيركوه وأيوب ابني شاذي من بلد دوين، قال ابن الأثير: وأصلهما من الأكراد الروادية، فقصدا العراق وخدما بهروز شحنة السلجوقية ببغداد، وكان أيوب أكبر من شيركوه، فجعله بهروز مستحفظاً لقلعة تكريت، ولما انكسر عماد الدين زنكي من عسكر الخليفة، ومر على تكريت، خدمه أيوب وشيركوه، ثم، إن شيركوه قتل إنساناً بتكريت، فأخرجهما بهروز من تكريت، فلحقا بخدمة عماد الدين زنكي، فأحسن إليهما وأعطاهما إقطاعات جليلة، ولما ملك عماد الدين زنكي قلعة بعلبك، جعل أيوب مستحفظاً لها، ولما حاصره عسكر دمشق بعد موت زنكي، سلمها أيوب إليهم، على إقطاع كبير شرطوه له، وبقي أيوب من أكبر أمراء عسكر دمشق، وبقي شيركوه مع نور الدين محمود بعد قتل أبيه زنكي، وأقطعه نور الدين حمص والرحبة، لما رأى من شجاعته، وزاده عليهما، وجعله مقدم عسكره، فلما أراد نور الدين ملك دمشق، أمر شيركوه فكاتب أخاه أيوب، فساعد أيوب نور الدين على ملك دمشق، وبقيا مع نور الدين إلى أن أرسل شيركوه إلى مصر مرة بعد أخرى حتى ملكها، وتوفي فيها في هذه السنة، على ما ذكرناه ولما توفي شيركوه، كان معه صلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب ابن شاذي، وكان قد سار معه على كره قال صلاح الدين: أمرني نور الدين بالمسير مع عمي شيركوه، وكان قد قال شيركوه بحضرته لي: تجهز يا يوسف للمسير، فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبداً، فقال لنور الدين لا بد من مسيره معي فأمرني نور الدين وأنا أستقيل. فقال نور الدين: لا بد من مسيرك مع عمك. فشكوت الضائقة، فأعطاني ما تجهزت به، فكأنما أنساق إلى الموت، فلما مات شيركوه، طلب جماعة من الأمراء النورية التقدم على العسكر، وولاية الوزارة العاضدية، منهم عين الدولة الياروقي، وقطب الدين ينال المنبجي، وسيف الدين علي بن أحمد المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي، وهو خال صلاح الدين، فأرسل العاضد، أحضر صلاح الدين وولاه الوزارة، ولقبه بالملك الناصر، فلم تطعه الأمراء المذكورون، وكان مع صلاح الدين، الفقيه عيسى الهكاري، فسعى مع المشطوب حتى أماله إلى صلاح الدين، ثم قصد الحارمي، وقال: هذا ابن أختك، وعزة وملكه لك، فمال إليه أيضاً، ثم فعل بالباقين كذلك، فكلهم أطاع، غير عين الدولة الياروقي، فإنه قال: أنا لا أخدم يوسف، وعاد إلى نور الدين بالشام.
وثبت قدم صلاح الدين، على أنه نائب لنور الدين، وكان نور الدين يكاتب صلاح الدين بالأمير الأسفهسلار، ويكتب علامته على رأس الكتاب، تعظيماً عن أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بكتاب، بل إلى الأمير صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية، يفعلون كذا وكذا، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين، أباه أيوب وأهله، فأرسلهم إليه نور الدين، فأعطاهم صلاح الدين الإقطاعات بمصر، وتمكن من البلاد، وضعف أمر العاضد، ولما فوض الأمر إلى صلاح الدين، تاب عن شرب الخمر وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص لباس الجد، ودام على ذلك إلى أن توفاه الله تعالى.
قال ابن الأثير مؤلف الكامل: رأيت كثيراً من ابتدى بالملك ينتقل إلى غيره عقبه، فإن معاوية تغلب وملك، فانتقل الملك إلى بني مروان، ثم ملك السفاح من بني العباس، فانتقل الملك إلى أخيه المنصور وعقبه، ثم السامانية أول من ابتدى بالملك منهم نصر بن أحمد، فانتقل الملك إلى أخيه إسماعيل وعقبه، ثم عماد الدولة بن بوية، ملك فانتقل الملك إلى عقب أخيه ركن الدولة، ثم ملك طغريل بك السلجوقي، فانتقل الملك إلى عقب أخيه داود، ثم شيركوه ملك، فانتقل الملك إلى ابن أخيه، ولما قام صلاح الدين بالملك، لم يبق الملك في عقبه، بل انتقل إلى أخيه العادل، وعقبه، ولم يبق لأولاد صلاح الدين غير حلب، وكان سبب ذلك كثرة قتل من يتولى ذلك أولاً وأخذه الملك، وعيون أهله وقلوبهم متعلقة به، فيحرم عقبه ذلك.

ولما استقر قدم صلاح الدين في الوزارة، قتل مؤتمن الخلافة، وكان مقدم السودان، فاجتمعت السودان، وهم حفاظ القصر، في عدد كثير، وجرى بينهم وبين صلاح الدين وعسكره وقعة عظيمة، بين القصرين، انهزم فيها السودان، وقتل منهم خلق كثير، وتبعهم صلاح الدين فأجلاهم قتلاً وتهجيجاً، وحكم صلاح الدين على القصر، وأقام فيه بهاء الدين قراقوش الأسدي، وكان خصياً أبيض، وبقي لا يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلا بأمر صلاح الدين.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، كان بين إينانج صاحب الري، وبين الدكز، حرب انتصر فيها الدكز، وملك الري، وهرب إينانج وانحصر في بعض القلاع، فأرسل الدكز ورغب غلمان إينانج في الإقطاعات إن قتلوا إيناج أستاذهم، فقتلوه ولحقوا بالدكز، فلم يف لهم وقال: مثل هؤلاء لا ينبغي الإبقاء عليهم، فهربوا إلى البلاد، ولحق بعضهم، وهو الذي قتل أستاذه بخوارزم شاه، فصلبه لخيانته أستاذه.
وفيها توفي الشيخ أبو محمد الفارقي، وكان أحد الزهاد، وله كرامات كثيرة، كان يتكلم على الخاطر، وكلامه مجموع مشهور. وفيها توفي ياروق أرسلان التركماني، وكان مقدماً كبيراً، وإليه تنسب الطائفة الياروقية من التركمان، وكان عظيم الخلقة، يسكن بظاهر حلب، وبنى على شاطئ قويق هو وأتباعه عماير كثيرة، وتعرف الآن بالياروقية، وهي مشهورة هنا.
ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة.
فيها سارت الفرنج إلى دمياط وحصروها، وشحنها صلاح الدين بالرجال والسلاح والذخائر، وأخرج على ذلك أموالاً عظيمة، فحصروها خمسين يوماً، وخرج نور الدين فأغار على بلادهم بالشام، فرحلوا عائدين على أعقابهم، ولم يظفروا بشيء منها. قال صلاح الدين: ما رأيت أكرم من العاضد، أرسل إلي مدة مقام الفرنج على دمياط، ألف ألف دينار مصرية، سوى الثياب وغيرها.
وفيها سار نور الدين وحاصر الكرك مدة، ثم رحل عنه.
وفيها كانت زلزلة عظيمة خربت الشام، فقام نور الدين في عمارة الأسواق، وحفظ البلاد أتم قيام، وكذلك خربت بلاد الفرنج، فخافوا من نور الدين، واشتغل كل منهم عن قصد الآخر، بعمارة ما خرب من بلاده.
وفيها في ذي الحجة، مات قطب الدين مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب الموصل، وكان مرضه حمى حادة، ولما مات صرف أرباب الدولة الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود، إلى أخيه الذي هو أصغر منه، وهو سيف الدين غازي بن مودود، فسار عماد الدين زنكي إلى عمه نور الدين مستنصراً به، وتوفي قطب الدين وعمره أربعين سنة تقريباً، وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً. وكان من أحسن الملوك سيرة.
وفي هذه السنة توفي الملك طغريل بك بن قاورت بك، صاحب كرمان، واختلف أولاده، بهرام شاه، وأرسلان شاه وهو الأكبر، واستنجد كل منهم، وطلب الملك، فاتفق في تلك المدة أن أرسلان شاه الأكبر مات، فاستقر بهرام شاه في ملك كرمان.
وفيها توفي مجد الدين أبو بكر بن الداية رضيع نور الدين، وكانت حلب وحارم وقلعة جعبر إقطاعه، فأقر نور الدين أخاه علياً بن الداية على إقطاعه.
وفيها توفي محمد بن محمد بن ظفر، صاحب كتاب سلوان المطاع، صنفه لبعض القواد بصقلية، سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وله أيضاً كتاب نجباء الأبناء، وشرح مقامات الحريري، ومولده بصقلية، وتنقل بالبلاد وأقام بمكة، شرفها الله تعالى، وسكن آخر وقت مدينة حماة، وتوفي بها، ولم يزل يكابد الفقر حتى مات، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة.
وفاة المستنجد

خلافة المستضيء
وهو ثالث ثلاثينهم:

في هذه السنة، تاسع ربيع الآخر، توفي المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله، ومولده مستهل ربيع الآخر سنة عشر وخمسمائة، وكان أسمر تام القامة، طويل اللحية، وكان سبب موته أنه مرض واشتد مرضه، وكان قد خاف منه أستاذ داره عضد الدين أبو الفرج، ابن رئيس الرؤساء، وقطب الدين قيماز المقتنوي، وهو حينئذ أكبر أمراء بغداد، فاتفقا ووضعا الطبيب على أن يصف له ما يهلكه، فوصف له دخول الحمام، فامتنع منه لضعفه، ثم أنه دخلها وغلق عليه الباب فصات، ولما مات المستنجد، أحضر عضد الدين وقطب الدين المستضيء بأمر الله ابن المستنجد، واشترطا عليه شروطاً، أن يكون عضد الدين وزيراً، وابنه كمال الدين أستاذ داره، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك. واسم المستضيء الحسن، وكنيته أبو محمد، ولم يل الخلافة من اسمه حسن، غير الحسن بن علي المستضيء، فبايعوه بالخلافة يوم مات أبوه بيعة خاصة، وفي غده بيعة عامة، وكان المستنجد حسن السيرة، أطلق كثيراً من المكوس، وكان شديداً على أهل العبث والفساد.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، سار نور الدين محمود بن زنكي إلى الموصل، وهي بيد ابن أخيه غازي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، فاستولى عليها نور الدين وملكها. ولما ملك نور الدين الموصل، قرر أمرها وأطلق المكوس منها، ثم وهبها لابن أخيه سيف الدين غازي المذكور، وأعطى سنجار لعماد الدين زنكي بن مردود، وهو أكبر من أخيه سيف الدين غازي، فقال كمال الدين الشهرزوري في هذا طريق إلى أذى، يحصل للبيت الأتابكي، لأن عماد الدين كبير، ولا يرى طاعة أخيه سيف الدين، وسيف الدين هو الملك، لا يرى الإغضاء لعماد الدين، فيحصل الخلف وتطمع الأعداء.
وفي هذه السنة سار صلاح الدين عن مصر فغزا بلاد الفرنج قرب عسقلان والرملة، وعاد إلى مصر، ثم خرج إلى أيلة وحصرها، وهي للفرنج على ساحل البحر الشرقي، ونقل إليها المراكب، وحصرها براً وبحراً، وفتحها في العشر الأول من ربيع الآخر، واستباح أهلها، وما فيها، وعاد إلى مصر، ولما استقر صلاح الدين بمصر، كان لمصر دار للشحنة تسمى دار المعونة، يحبس فيها، فهدمها صلاح الدين، وبناها مدرسة للشافعية، وكذلك بنى دار الغزل مدرسة للشافعية، وعزل قضاة المصريين، وكانوا شيعة، ورتب قضاة شافعية، وذلك في العشرين من جمادى الآخرة، وكذلك اشترى تقي الدين عمر بن أخي صلاح الدين منازل العز، وبناها مدرسة للشافعية. وفي هذه السنة توفي القاضي ابن الخلال، من أعيان الكتاب المصريين وفضلائهم، وكان صاحب ديوان الإنشاء بها.
ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة.
ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر، وانقراض الدولة العلوية

في هذه السنة، ثاني جمعة من المحرم، قطعت خطبة العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله ابن الأمير يوسف ابن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد ابن أبي القاسم محمد، ولم يل الخلافة ابن المستنصر بالله أبي تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله، أبي الحسن علي ابن الحاكم بأمر الله أبي علي المنصور بن العزيز بالله أبي منصور ابن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بالله أبي الطاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي بالله أبي محمد عبيد الله، أول الخلفاء العلويين من هذا البيت، وقد مر ذكرنسبه في ابتداء دولتهم. وكان سبب الخطبة العباسية بمصر، أنه لما تمكن صلاح الدين من مصر، وحكم على القصر، وأقام فيه قراقوش الأسدي، وكان خصياً أبيض، وبلغ نور الدين ذلك، أرسل إلى صلاح الدين يأمره حتماً جزماً بقطع الخطبة العلوية، لا إقامة الخطبة العباسية، فراجعه صلاح الدين في ذلك خوف الفتنة، فلم يلتفت نور الدين إلى ذلك، وأصر عليه، وكان العاضد قد مرض فأمر صلاح الدين الخطباء أن يخطبوا للمستضيء، ويقطعوا خطبة العاضد، فامتثلوا ذلك، ولم ينتطح فيها عنزان، وكان العاضد قد اشتد مرضه، فلم يعلمه أحد من أهله بقطع خطبته، فتوفي العاضد يوم عاشوراء، ولم يعلم بقطع خطبته، ولما توفي العاضد، جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصر الخلافة وعلى جميع ما فيه، وكان كثرته تخرج عن الإحصاء، وكان فيه أشياء نفيسة من الأعلاق المثمنة، والكتب والتحف، فمن ذلك، الحبل الياقوت، وكان وزنه سبعة عشر درهماً، أو سبعة عشر مثقالاً. قال ابن الأثير مؤلف الكامل: أنا رأيته، ووزنته، ومما حكي: أنه كان بالقصر طبل للقولنج، إذا ضرب الإنسان به ضرط، فكسر، ولم يعلموا به إلا بعد ذلك، ونقل صلاح الدين أهل العاضد إلى موضع من القصر، ووكل بهم من يحفظهم، وأخرج جميع من فيه من عبد وأمة، فباع البعض، وعتق البعض، ووهب البعض، وخلا القصر من سكانه، كأن لم يغن بالأمس.
ولما اشتد مرض العاضد، أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه فظن ذلك خديعة، فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه، فندم لتخلفه عنه، وجميع من خطب له منهم بالخلافة أربع عشرة خليفة، المهدي، والقائم، المنصور، والمعز، والعزيز، والحاكم، والطاهر، والمستنصر، والمستعلي، والآمر، والحافظ، والظافر، والفائز، والعاضد. وجميع مدة خلافتهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة، سنة ست وتسعين ومائتين، إلى أن توفي العاضد في هذه السنة، أعني سنة سبع وستين وخمسمائة، مائتان واثنتان وسبعون سنة تقريباً، وهذا دأب الدنيا، لم تعط إلا واستردت، ولم تحل إلا وتمررت، ولم تصف إلا وتكدرت، بل صفوها لا يخلو من الكدر.
ولما وصل خبر الخطبة العباسية بمصر إلى بغداد، ضربت لها البشائر عدة أيام، وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل، وهو من خواص الخدم المقتفوية، إلى نور الدين، وصلاح الدين، والخطباء، وسيرت الأعلام السود، وكان العاضد المذكور، قد رأى في منامه: أن عقرباً خرجت من مسجد بمصر، معروف ذلك المسجد للعاضد، ولدغته، فاستيقظ العاضد مرعوباً، واستدعى من يعبر الرؤيا، وقص ما رآه عليه، فعبره له بوصول أذى إليه من شخص بذلك المسجد، فتقدم العاضد إلى والي مصر، بإحضار من بذلك المسجد، فأحضر إليه شخصاً صوفياً يقال له نجم الدين الخويشاني، فاستخبره العاضد عن مقدمه، وسبب مقامه بالمسجد المذكور، فأخبره بالصحيح في ذلك، فرآه العاضد أضعف من أن يناله بمكروه، فوصله بمال وقال له: ادع لنا يا شيخ، وأمره بالإنصراف، فلما أراد السلطان صلاح الدين إزالة الدولة العلوية، والقبض عليهم، استفتى في ذلك، فأفتاه بذلك جماعة من الفقهاء، وكان نجم الدين الخويشاني المذكور من جملتهم، فبالغ في الفتيا، وصرح في خطه بتعديد مساوئهم، وسلب عنهم الإيمان، وأطال الكلام في ذلك، فصح بذلك رؤيا العاضد.
ذكر غير ذلك

وفي هذه السنة جرى بين نور الدين وصلاح الدين الوحشة في الباطن، فإن صلاح الدين سار ونازل الشوبك، وهي للفرنج، ثم رحل عنه خوفاً أن يأخذه، فلم يبق ما يعوق نور الدين عن قصد مصر، فتركه ولم يفتحه لذلك، وبلغ نور الدين ذلك فكتمه، وتوحش باطنه لصلاح الدين، ولما استقر صلاح الدين بمصر، جمع أقاربه وكبراء دولته وقال: بلغني أن نور الدين يقصدنا، فما الرأي؟ فقال تقي الدين عمر ابن أخيه: نقاتله ونصده، وكان ذلك بحضرة أبيهم نجم الدين أيوب، فأنكر على تقي الدين ذلك وقال: أنا والدكم، لو رأيت نور الدين نزلت وقبلت الأرض بين يديه، بل اكتب وقل لنور الدين: أنه لو جاءني من عندك إنسان واحد، وربط المنديل في عنقي وجرني إليك، سارعت إلى ذلك.
وانفضوا على ذلك، ثم اجتمع أيوب بابنه صلاح الدين خلوة وقال له: لو قصدنا نور الدين، أنا كنت أول من يمنعه ويقاتله، ولكن إذا أظهرنا ذلك، يترك نور الدين جميع ما هو فيه ويقصدنا، ولا ندري ما يكون من ذلك، وإذا أظهرنا له الطاعة، تمادى الوقت بما يحصل به الكفاية من عند الله، فكان كما قال.
وفي هذه السنة توفي الأمير محمد بن مردنيش صاحب شرقي بلاد الأندلس، وهي مرسية وبلنسية وغيرهما، فقصد أولاده أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، ملك الغرب، وسلموا إليه بلادهم، فسر يوسف بذلك وتسلمها منهم وتزوج بأختهم، وأكرمهم ووصلهم بالأموال الجزيلة، وكان قد قصدهم يوسف المذكور في مائة ألف مقاتل، فأجابوا بدون قتال كما ذكرنا.
وفي هذه السنة عبر الخطا نهر جيحون، فجمع خوارزم شاه أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين عساكره وسار إلى لقائهم، فمرض خوارزم شاه ورجع مريضاً، وأرسل عسكراً مع بعض المقدمين، فاقتتلوا مع الخطا، وانهزم عسكر خوارزم شاه، وأسر مقدمهم، ورجع الخطا إلى بلادهم بعد ذلك.
وفي هذه السنة اتخذ نور الدين بالشام الحمام الهوادي، وتسئى المناسيب، لنقل البطائق والأخبار. وفيها عزل المستضيء وزيره عضد الدين ابن رئيس الرؤساء مكرهاً، لأن قطب الدين قيماز ألزمه بعزله، فلم يمكنه مخالفته. وفيها مات يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي الأندلسي القرطبي، وكان إماماً في القراءة والنحو وغيره من العلوم، توفي بالموصل. وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد، المعروف بابن الخشاب البغدادي، العالم المشهور في الأدب والنحو التفسير والحديث، وكان متضلعاً من العلوم، وكان قليل الاكتراث بالمأكل والملبس.
وفيها توفي نصر الله بن عبد الله بن مخلوف بن علي بن عبد النور بن قلاقس، الشاعر المشهور، الإسكندري، مدح القاضي الفاضل، وكان كثير الأسفار، سار إلى صقلية في سنة ثلاث وخمسين، ثم عاد وسار إلى اليمن في سنة خمس وستين وخمسمائة، وفي كثرة أسفاره يقول:
الناس كثر ولكن لا يقد لي ... إلا مرافقة الملاح والحادي
ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة في هذه السنة توفي خوارزم شاه أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين، وكان قد عاد من قتال الخطا مريضاً، ولما مات ملك بعده ابنه الصغير سلطان شاه محمود، ودبرت والدته المملكة، وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكين مقيماً في جند قد أقطعه أبوه إياها، فلما بلغه موت أبيه، وولاية أخيه الصغير، أنف من ذلك واستنجد بالخطا، وسار إلى خيه سلطان شاه وطرده، ثم إن سلطان شاه، قصد ملوك الأطراف، واستنجدهم على أخيه تكش وطرده، وكانت الحرب بينهم سجالاً حتى مات سلطان شاه، في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، واستقر في ملك خوارزم أخوه تكش بن أرسلان، وفي تلك الحروب بين الأخوين، قتل المؤيد أي به، قتله تكش صبراً، وملك بعده ابنه طغانشاه ابن المؤيد أي به.
وفي هذه السنة سار شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر من مصرالى النوبة، للتغلب عليها، فلم تعجبه تلك البلاد، فغنم وعاد إلى مصر.
وفي هذه السنة توفي شمس الدين الدكز بهمذان، وملك بعده ابنه محمد البهلوان، ولم يختلف عليه أحد، وكان الدكز هذا مملوكاً للكمال السميري وزير السلطان محمود، ثم صار للسلطان محمود، فلما ولي السلطان مسعود، ولاه وكبره حتى صار ملك أذربيجان وغيرها من بلاد الجبل، وأصفهان والري، وكان عسكره خمسين ألف فارس، وكان يخطب في بلاده بالسلطنة للسلطان أرسلان بن طغريل، ولم يكن لأرسلان معه حكم، وكان الدكز حسن السيرة.

وفي هذه السنة سار طائفة من الترك من ديار مصر، مع مملوك لتقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، اسمه قراقوش، إلى إفريقية، ونزلوا على طرابلس الغرب فحاصرها مدة، ثم فتحها واستولى عليها قراقوش المذكور، وملك كثيراً من بلاد إفريقية.
وفيها غزا أبو يعقوب بن عبد المؤمن بلاد الفرنج في الأندلس. وفيها سار نور الدين محمود بن زنكي إلى بلاد قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان، واستولى على مرعش، وبهنسا، ومرزبان، وسيواس، فأرسل إليه قليج أرسلان يستعطفه ويطلب الصلح، فقال نور الدين: لا أرضى إلا بأن ترد ملطية على ذي النون ابن الدانشمند، وكان قليج أرسلان قد أخذها منه، فبذل له سيواس واصطلح معه نور الدين، فلما مات نور الدين، عاد قليج أرسلان واستولى على سيواس وطرد ابن الدانشمند.
وفيها سار صلاح الدين من مصر إلى الكرك:، وحصرها، وكان قد واعد نور الدين أن يجتمعا على الكرك، وسار نور الدين من دمشق حتى وصل إلى الرقيم، وهو بالقرب من الكرك، فخاف صلاح الدين من الاجتماع بنور الدين، فرحل صلاح الدين عن الكرك عائداً إلى مصر، وأرسل تحفاً إلى نور الدين، واعتذر أن أباه أيوب مريض، ويخشى أن يموت فتذهب مصر، فقبل نور الدين عذره في الظاهر، وعلم المقصود، ولما وصل صلاح الدين إلى مصر، وجد أباه أيوب قد مات، وكان سبب موت نجم الدين أيوب بن شاذي المذكور، أنه ركب بمصر، فنفرت به فرسه فوقع، وحمل إلى قصره، وبقي أياماً ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة؟ وكان أيوب خبيراً عاقلاً حسن السيرة، كريماً كثير الإحسان.
وفيها توفي أبو نزار حسن بن أبي الحسن صافي بن عبد الله بن نزار النحوي، وقد ناهز الثمانين، وهو المعروف بملك النحاة، وبرع في النحو حتى فاق فيه أهل طبقته، وكان معجباً بنفسه، ولقب نفسه بملك النحاة، وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك، وقرأ الفقه على مذهب الشافعي، وكذلك قرأ الأصولين والخلاف، وسافر إلى خراسان وكرمان وغزنة، ثم رحل إلى الشام، واستوطن دمشق.
ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة.
ذكر ملك شمس الدولة توران شاه بن أيوب اليمن كان صلاح الدين وأهله، خائفين من نور الدين، فاتفق رأيهم على تحصيل مملكة غير مصر، بحيث إن قصدهم نور الدين قاتلوه، فإن هزمهم التجأوا إلى تلك المملكة، فجهز صلاح الدين أخاه توران شاه إلى النوبة، فلم تعجبهم بلادها، ثم سيره في هذه السنة بعسكر إلى اليمن، وكان صاحب اليمن حينئذ إنساناً يسمى عبد النبي، المقدم الذكر في سنة أربع وخمسين وخمسمائة، فتجهز توران شاه ووصل إلى اليمن، وجرى بينه وبين عبد النبي قتال، فانتصر توران شاه وهزم عبد النبي، وهجم زبيد وملكها، وأسر عبد النبي، ثم قصد عدن، وكان صاحبها إنساناً اسمه ياسر، فخرج لقتال توران شاه، فهزمه توران شاه، وهجم عدن وملكها، وأسر ياسر أيضاً، واستولى توران شاه على بلاد اليمن، واستقرت في ملك صلاح الدين، واستولى على أموال عظيمة لعبد النبي، وكذلك من عدن.
ذكر قتل جماعة من المصريين وعمارة اليمني في هذه السنة في رمضان، صلب صلاح الدين جماعة من أعيان المصريين، فإنهم قصدوا الوثوب عليه، وإعادة الدولة العلوية، فعلم بهم وصلبهم عن آخرهم، فمنهم عبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وعمارة بما علي اليمني، الشاعر الفقيه، وله أشعار حسنة، فمنها ما يتعلق بأحوال العلويين، وانقراض دولتهم، قوله قصيدة منها:
رميت يا دهر كف المجد بالشلل ... وجيده بعد حسن الحلي بالعطل
جدعت ما رنك الأقني فأنفك لا ... ينفك ما بين أمر الشين والخجل
لهفي ولهف بني الآمال قاطبةً ... على فجيعتها في أكرم الدول
يا عاذلي في هوى أنباء فاطمة ... لك الملامة إن أقصرت في عذل
بالله زر ساحة القصرين وابك معي ... عليهما لا على صفين والجمل
وقل لأهلهما والله لا التحمت ... فيكم جروحي ولا قرحي بمندمل
ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلةً ... في نسل آل أمير المؤمنين علي
ومنها:
وقد حصلتم عليها واسم جدكم ... محمد وأبوكم خير منتعل

مررت بالقصر والأركان خالية ... من الوفود وكانت قبلة القبل
ومنها:
والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم ... ولا نجا من عذاب الله غير ولي
أئمتي وهدأتي وألذ خيرة لي ... إذا ارتهنت بما قدمت من عمل
والله لا حلت عني حبي لهم أبداً ... ما أخر الله لي في مدة الأجل
وأيضاً له فيهم:
غصبت أمية إرث آل محمد ... سفهاً وشنت غارة الشنئآن
وغدت تخالف في الخلافة أهلها ... وتقابل البرهان بالبهتان
لم تقتنع حكامهم بركوبهم ... ظهر النفاق وغارب العدوان
وقعودهم في رتبة نبوية لم يبنها لهم أبو سفيان
حتى أضافوا بعد ذلك أنهم ... أخذوا بثأر الكفر في الإيمان
فأتى زياد في القبيح زيادة ... تركت يزيدَ يزيدُ في النقصان
ذكر وفاة نور الدين محمود وفي هذه السنة، توفي الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي أقسنقر، صاحب الشام وديار الجزيرة وغير ذلك، يوم الأربعاء حادي عشر شوال، بعلة الخوانيق، بقلعة دمشق المحروسة، وكان نور الدين قد شرع يتجهز للدخول إلى مصر، لأخذها من صلاح الدين، وكان يريد أن يخلي ابن أخيه سيف الدولة غازي بن مودود في الشام، قبالة الفرنج، ويسير هو بنفسه إلى مصر، فأتاه أمر الله الذي لا مرد له، وكان نور الدين أسمر، طويل القامة، ليس له لحية إلا في حنكه، حسن الصورة، كان قد اتسع ملكه جداً، وخطب له بالحرمين واليمن، لما ملكها توران شاه بن أيوب، وكذلك كان يخطب له بمصر.
وكان مولد نور الدين سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وطبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله، وكان من الزهد والعبادة على قدم عظيم، وكان يصلي كثيراً من الليل، كان كما قيل:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب
وكان عارفاً بالفقه على مذهب أبي حنيفة، وليس عنده فيه تعصب، وهو الذي بنى أسوار مدن الشام مثل: دمشمق، وحمص، وحماة، وحلب، وشيزر، وبعلبك، وغيرها. لما تهدمت بالزلازل. وبنى المد ارس الكثيرة، الحنفية والشافعية، ولا يحتمل هذا المختصر ذكر فضائله. ولما توفي نور الدين. قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بالملك بعده، وعمره إحدى عشرة سنة، وحلف له العسكر بدمشق، وأقام بها، وأطاعه صلاح الدين بمصر، خطب له بها. وضربت السكة باسمه، وكان المتولي لتدبير الملك الصالح، وتدبير دولته، الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك، المعروف بابن المقدم. ولما مات نور الدين، وتملك ابنه الملك الصالح، سار من الموصل، سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي، وملك جميع البلاد الجزرية.
ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة.
ذكر خلاف الكنز بصعيد مصر في أول هذه السنة اجتمع على رجل من أهل الصعيد يقال له الكنز، جمع كثير، أظهر الخلاف على صلاح الدين، فأرسل صلاح الدين إليه عسكراً، فاقتتلوا، وقتل الكنز وجماعة معه، وانهزم الباقون.
ذكر ملك صلاح الدين دمشق وغيرها في هذه السنة سلخ ربيع الأول، ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب مدينة دمشق، وحمص، وحماة، وسببه أن شمس الدين ابن الداية المقيم بحلب، أرسل سعد الدين كمشتكين يستدعي الملك الصالح بن نور الدين، من دمشق إلى حلب، ليكون مقامه بها، فسار الملك الصالح إلى حلب مع سعد الدين كمشتكين، ولما استقر بحلب وتمكن كمشتكين، قبض على شمس الدين ابن الداية وإخوته، وقبض على الرئيس ابن الخشاب وإخوته، وهو رئيس حلب، واستبد سعد الدين بتدبير الملك الصالح، فخافه ابن المقدم، وغيره من الأمراء الذين بدمشق، وكاتبوا صلاح الدين بن أيوب صاحب مصر، واستدعوه ليملكوه عليهم، فسار صلاح الدين جريدة في سبعمائة فارس، ولم يلبث، ووصل إلى دمشق، فخرج كل من كان بها من العسكر، والتقوه وخدموه، ونزل بدار والده أيوب، المعروفة بدار العقيقي، وعصت عليه القلعة، وكان فيها من جهة الملك الصالح خادم اسمه ريحان، فراسله صلاح الدين واستماله، فسلم القلعة إليه، فصعد إليها صلاح الدين وأخذ ما فيها من الأموال، ولما ثبت قدمه وقرر أمر دمشق، استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب.

وسار إلى حمص مستهل جمادى الأولى، وكانت حمص وحماة وقلعة بارين وسلمية وتل خالد والرها من بلد الجزيرة، في إقطاع فخر الدين مسعود بن الزعفراني، فلما مات نور الدين، لم يمكن فخر الدين مسعود المقام بحمص وحماه، لسوء سيرته مع الناس، وكانت هذه البلاد له بغير قلاعها، فإن قلاعها كان فيها ولاة لنور الدين، وليس لفخر الدين معهم في القلاع حكم الأبارين، فإن قلعتها كانت له أيضاً، ونزل صلاح الدين على حمص، في حادي عشر جمادى الأولى، وملك المدينة، وعصت عليه القلعة فترك عليها من يضيق عليها، ورحل إلى حماة، فملك مدينتها مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة، وكان بقلعتها الأمير عز الدين جرديك، أحد المماليك النورية، فامتنع في القلعة، فذكر له صلاح الدين أنه ليس له غرض سوى حفظ البلاد للملك الصالح إسماعيل، إنما هو نائبه، وقصده من جرديك المسير إلى حلب، في رسالة، فاستحلفه جرديك على ذلك، وسار جرديك إلى حلب برسالة صلاح الدين، واستخلف في قلعة حماة أخاه، فلما وصل جرديك إلى حلب، قبض عليه كمشتكين وسجنه، فلما علم أخوه بذلك، سلم قلعة حماة إلى صلاح الدين فملكها، ثم سار صلاح الدين إلى حلب وحصرها، وبها الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين، فجمع أهل حلب وقاتلوا صلاح الدين، وصدوه عن حلب، وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية أموالاً عظيمة، ليقتلوا صلاح الدين، فأرسل سنان جماعة، فوثبوا على صلاح الدين فقتلوا دونه، واستمر صلاح الدين محاصراً لحلب إلى مستهل رجب، ورحل عنها بسبب نزول الفرنج على حمص، ووصل صلاح الدين إلى حماة ثامن رجب، وسار إلى حمص، فرحل الفرنج عنها، ووصل صلاح الدين إلى حمص وحصر قلعتها، وملكها في الحادي والعشرين من شعبان، من هذه السنة.
ثم سار إلى بعلبك فملكها، ولما استقر ملك صلاح الدين لهذه البلاد، أرسل الملك الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي، صاحب الموصل، يستنجده على صلاح الدين، فجهز جيشه صحبة أخيه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، وجعل مقدم الجيش أكبر أمرائه، وهو عز الدين محمود، ولقبه سلقندار، وطلب أخاه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار، ليسير في النجدة أيضاً فامتنع، مصانعة لصلاح الدين، فسار سيف الدين غازي وحصره بسنجار، ووصل عسكر الموصل صحبة مسعود بن مودود وسلقندار إلى حلب، وانضم إليهم عسكر حلب، وساروا إلى صلاح الدين، فأرسل صلاح الدين ببذل حمص وحماة، وأن تقر بيده دمشق، وأن يكون فيها نائباً للملك الصالح، فلم يجيبوا إلى ذلك، وساروا إلى قتاله، واقتتلوا عند قرون حماة، فانهزم عسكر الموصل وحلب، وغنم صلاح الدين وعسكره أموالهم، وتبعهم صلاح الدين حتى حصرهم في حلب، وقطع صلاح الدين حينئذ خطبة الملك الصالح بن نور الدين، وأزال اسمه عن السكة، واستبد بالسلطنة، فراسلوا صلاح الدين في الصلح، على أن يكون له ما بيده من الشام، وللملك الصالح ما.بقي بيده منه، فصالحهم على ذلك ورحل عن حلب، في العشر الأول من شوال من هذه السنة، أعني سنة سبعين وخمسمائة وفي العشر الأخير من شوال من هذه السنة، ملك السلطان صلاح الدين قلعة بارين، وأخذها من صاحبها فخر الدين مسعود بن الزعفراني، وكان فخر الدين المذكور، من أكابر الأمراء النورية.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة ملك البهلوان بن الدكز مدينة تبريز، وأخذها من ابن أقسنقر الحمديلي وفيها مات شملة التركماني، صاحب خورستان، وملك ابنه بعده. وفيها وقع بين الخليفة وبين قطب الدين قيماز، مقدم عسكر بغداد، فتنة، فنهبت دار قيماز، وهرب إلى الحلة، ثم إلى الموصل، فلحق قيماز في الطريق عطش شديد، فهلك أكثر أصحابه، ومات قطب الدين قيماز، قبل أن يصل إلى الموصل، فحمل ودفن بظاهر باب العمادي، ولما هرب قيماز، خلع الخليفة على عضد الدولة الوزير، وعاده إلى الوزارة.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة: ذكر انهزام سيف الدين غازي صاحب الموصل من السلطان صلاح الدين

في هذه السنة عاشر شوال، كان المصاف بين السلطان صلاح الدين، وبين سيف الدين غازي ابن مودود بن زنكي بتل السلطان، فهرب سيف الدين غازي والعساكر التي كانت معه، فإنه كان قد استنجد بصاحب حصن كيفا، وصاحب ماردين، وغيرهما، وتمت على سيف الدين غازي الهزيمة، حتى وصل الموصل مرعوباًن وقصد الهروب منها إلى بعض القلاع، فثبته وزيره، وأقام بالموصل. واستولى السلطان صلاح الدين على أثقال عسكر الموصل وغيرهم، وغنم ما فيها، ثم سار السلطان صلاح الدين إلى بزاعة، فحصرها وتسلمها.
ثم سار إلى منبج فحصرها في آخر شوال، وصاحبها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، وكان شديد البغض لصلاح الدين، وفتحها عنوة، وأسر ينال، وأخذ جميع موجوده ثم أطلقه، فسار ينال إلى الموصل، فأقطعه سيف الدين غازي مدينة الرقة، ثم سار السلطان صلاح الدين إلى إعزاز، ونازلها ثالث ذي القعدة، وتسلمها حادي عشر ذي الحجة، فوثب إسماعيلي على صلاح الدين في حصاره إعزاز، فضربه بسكين في رأسه فجرحه، فأمسك صلاح الدين يدي الإسماعيلي، وبقي يضرب بالسكين فلا يؤثر، حتى قتل الإسماعيلي على تلك الحال، ووثب آخر عليه فقتل أيضاً، وجاء السلطان إلى خيمته مذعوراً، وأعرض جنده، وأبعد من أنكره منهم. ولما ملك السلطان إعزاز رحل عنها، ونازل حلب في منتصف ذي الحجة، وحصرها وبها الملك الصالح بن نور الدين، وانقضت هذه السنة وهو محاصر لحلب، فسألوا صلاح الدين في الصلح، فأجابم إليه، وأخرجوا إليه بنتاً صغيرة لنور الدين محمود، فأكرمها السلطان صلاح الدين، وأعطاها شيئاً كثيراً، وقال لها: ما تريدين؟ فقالت: أريد قلعة إعزاز، وكانوا قد علموها ذلك، فسلمها إليهم، واستقر الصلح، ورحل السلطان صلاح الدين عن حلب، في العشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
ذكر غير ذلك في هذه السنة سار أمير الحاج العراقي طاشتكين، وأمره الخليفة بعزل صاحب مكة، مكثر بن عيسى، فجرى بين الحجاج وبينه قتال، فانهزم مكثر في البرية، وأقام أخاه داود مكانه بمكة. وفيها في رمضان قدم شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن إلى الشام، وأرسل إلى أخيه صلاح الدين يعلمه بوصوله، وكتب إليه أبياتاً من شعر ابن النجم المصري:
وإلى صلاح الدين أشكو أنني ... من بعده مضنى الجوانح مولع
جزعاً لبعد الدار عنه ولم أكن ... لولا هواه لبعد دار أجزع
ولأركبن إليه متن عزائمي ... ويخب بي ركب الغرام ويوسع
ولأسرين الليل لا يسرى به ... طيف الخيال ولا البروق اللمع
وأقدمن إليه قلبي مخبراً ... أني بجسمي عن قريب أتبغ
حتى أشاهد منه أسعد طلعة ... من أفقها صبح السعادة يطلع
وفيها توفي الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، المعروف بابن عساكر الدمشقي، الملقب نور الدين، كان إماماً في الحديث، ومن أعيان الفقهاء الشافعية، صنف تاريخ دمشق في ثمانين مجلدة، على وضع تاريخ بغداد، أتى فيه بالغرائب، ومولد المذكور في أول سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة فيها قصد السلطان صلاح الدين، بلد الإسماعيلية، في المحرم، فنهب بلدهم وخربه وأحرقه، وحصر قلعة مصياف، فأرسل سنان مقدم الإسماعيلية إلى خال صلاح الدين، وهو شهاب الدين الحارمي صاحب حماة، يسأله أن يسعى في الصلح، فسأل الحارمي الصفح عنهم، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وصالحهم ورحل عنهم، وأتم السلطان صلاح الدين مسيره، ووصل إلى مصر فإنه كان قد بعد عهده بها، بعد أن استقر له ملك الشمام، ولما وصل إلى مصر في هذه السنة، أمر ببناء السور الدائر على مصر والقاهرة والقلعة، التي على جبل المقطم، ودور ذلك تسعة وعشرون ألف ذراع، وثلاث مائة ذراع، بالذراع الهاشمي، ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين.
وفي هذه السنة أمر صلاح الدين ببناء المدرسة التي على الشافعي بالقرافة بمصر، وعمل بالقاهرة مرستان.
وفيها توفي القاضي جمال الدين محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، قاضي دمشق، وجميع الشام.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة في هذه السنة في جمادى الأولى، سار السلطان صلاح الدين من مصر إلى ساحل الشام، لغزو الفرنج، فوصل إلى عسقلان في الرابع والعشرين من الشهر، فنهب، وتفرق عسكره في الإغارات، وبقي السلطان في بعض العسكر، فلم يشعر إلا بالفرنج قد طلعت عليه، فقاتلهم أشد قتال، وكان لتقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ولد اسمه أحمد، وهو من أحسن الشباب، أول ما قد تكاملت لحيته، فأمره أبوه تقي الدين بالحملة على الفرنج، فحمل عليهم، وقاتلهم، فأثر فيهم أثراً كبيراً، وعاد سالماً، فأمره أبوه بالعود إليهم ثانية، فحمل عليهم فقتل شهيداً، وتمت الهزيمة على المسلمين، وقاربت حملات الفرنج السلطان، فمضى منهزماً إلى مصر على البرية، ومعه من سلم، فلقوا في طريقهم مشقة وعطشاً شديداً، وهلك كثير من الدواب، وأخذت الفرنج العسكر الذين كانوا يتفرقون في الإغارات أسرى، وأسر الفقيه عيسى، وكان من أكبر أصحاب السلطان صلاح الدين، فافتداه السلطان من الأسر بعد سنتين، بستين ألف دينار، ووصل السلطان إلى القاهرة نصف جمادى الآخرة، قال الشيخ عز الدين علي بن الأثير مؤلف الكامل: ورأيت كتاباً بخط يد صلاح الدين، إلى أخيه توران شاه، نائبه بدمشق، يذكر له الوقعة، وفي أوله:
ذكرتك والخطي تخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السمر
ويقول فيه: لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة، وما نجانا الله منه إلا لأمر يريده سبحانه وتعالى.
وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر.
وفي هذه السنة سار الفرنج وحصروا مدينة حماة، في جمادى الأولى، وطمع الفرنج بسبب بعد السلطان بمصر، وهزيمته من الفرنج، ولم يكن غير توران شاه بدمشق، ينوب عن أخيه صلاح الدين، وليس عنده كثير من العسكر، وكان توران شاه أيضاً كثير الانهماك في اللذات، مائلاً إلى الراحات، ولما حصروا حماة، كان بها صاحبها شهاب الدين الحارمي، خال صلاح الدين، وهو مريض، واشتد حصار الفرنج لحماة، وطال زحفهم عليها، حتى أنهم هجموا بعض أطراف المدينة، وكادوا يملكون البلد قهراً، ثم جد المسلمون في القتال، وأخرجوا الفرنج إلى ظاهر السور، وأقام الفرنج كذلك على حماة أربعة أيام، ثم رحلوا عنها إلى حارم، وعقيب رحيلهم عنها مات صاحبها شهاب الدين الحارمي، وكان له ابن من أسن الناس شباباً، مات قبله بثلاثة أيام.
وفي هذه السنة قبض الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين، صاحب حلب، على سعد الدين بن كمشتكين، وكان قد تغلب على الأمر. وكانت حارم لكمشتكين، فأرسل الملك الصالح إليهم، فلم يسلموها إليه فأمر كمشتكين أن يسلمها، فأمرهم بذلك، فلم يقبلوا منه، فأمر بتعذيب كمشتكين ليسلموا القلعة، فعذب و أصحابه يرونه ولا يرحمونه، فمات في العذاب، وأصر أصحابه على الامتناع، ووصل الفرنج إلى حارم بعد رحيلهم عن حماة، وحصروا حارم مدة أربعة أشهر، فأرسل الملك الصالح مالاً للفرنج وصالحهم، فرحلوا عن حارم، وقد بلغ بأهلها الجهد، وبعد أن رحل الفرنج عنها، أرسل إليها الملك الصالح عسكراً وحصروها، فلم يبق بأهلها ممانعة، فسلموها إلى الملك الصالح، فاستناب بقلعة حارم مملوكاً كان لأبيه، اسمه سرخك.
وفي هذه السنة في المحرم خطب للسلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل ابن السلطان محمد ابن السلطان ملكشاه، المقيم ببلاد الدكز، وكان أبوه أرسلان الذي تقدم خبره، قد توفي، ولم يذكر ابن الأثير وفاة أرسلان بن طغريل إلا في هذا الموضع، وكان ينبغي أن يذكره قبل هذه السنة.
وفيها في ذي الحجة قتل عضد الدين محمد بن عبد الله بن هبة الله، وزير الخليفة، وكان قد عبر دجلة عازماً على الحج، فقتله الإسماعيلية، وحمل مجروحاً إلى منزله فمات به، وكان مولده في جمادى الأولى سنة أربع عشرة وخمسمائة.
وفيها توفي صدقة بن الحسين الحداد، الذي ذيل تاريخ ابن الزعفراني ببغداد.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين وخمسمائة في هذه السنة، طلب توران شاه من أخيه السلطان صلاح الدين بعلبك، وكان السلطان أعطاها شمس الدين محمد ابن عبد الملك المقدم، لما سلم دمشق إلى صلاح الدين، فلم يمكن صلاح الدين منع أخيه من ذلك، فأرسل إلى ابن المقدم ليسلم بعلبك، فعصي بها ولم يسلمها، فأرسل السلطان وحصره ببعلبك، وطال حصارها، فأجاب ابن المقدم إلى تسليمها على عوض، فعوض عنها، وتسلمها السلطان وأقطعها أخاه توران شاه.
رفيها كان بالبلاد غلاء عام، وتبعه وباء شديد، وفيها سير السلطان صلاح الدين ابن أخيه تقي الدين عمر إلى حماة، وابن عمه محمد بن شيركوه إلى حمص، وأمرهما بحفظ بلادهما، فاستقر كل منهما ببلده.
وفيها توفي الحصيص الشاعر، واسمه سعد بن محمد بن سعد، وشعره مشهور فمنه:
لا تلمني في سقامي بالعلى ... رغد العيش لريات الحجال
سيف عز زانه رونقه ... فهو بالطبع غني عن صقال
وفيها ماتت شهدة بنت أحمد بن عمر الأبري، سمعت الحديث من السراج، وطراد، وغيرهما، وعمرت حتى قاربت مائة سنة، وسمع عليها خلق كثير لعلو إسنادها.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة.، فيها سار السلطان صلاح الدين، وفتح حصناً كان بناه الفرنج عند مخاضة الأحزان، بالقرب من بانياس، عند بيت يعقوب، وفي ذلك يقول علي بن محمد الساعاتي الدمشقي:
أتسكن أوطان النبيين عصبة ... تمين لدى أيمانها وهي تحلف
نصحتكم والنصح للدين واجب ... ذرواً بيت يعقوب فقد جاء يوسف
وفيها كان حرب بين عسكر السلطان صلاح الدين، ومقدمهم ابن أخيه تقي الدين، عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وبين عسكر قليج أرسلان بن. مسعود بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم، وسببها أن حصن رعبان كان بيد شمس الدين بن المقدم، فطمع فيه قليج أرسلان، وأرسل إليه عسكراً كثيراً ليحصروه، وكانوا قريب عشرين ألفاً، فسار إليهم تقي الدين في ألف فارس، فهزمهم، وكان تقي الدين يفتخر ويقول: هزمت بألف عشرين ألفاً.
ذكر وفاة المستضيء

خلافة الإمام الناصر
وهو رابع ثلاثينهم:
في هذه السنة ثاني ذي القعدة، توفي المستضيء بأمر الله أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد، وأمه أم ولد أرمنية، وكانت خلافته نحو تسع سنين وسبعة أشهر. وكان مولده سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وكان عادلاً حسن السيرة، وكان قد حكم في دولة ظهير الدين أبو بكر منصور بن نصر، المعروف بابن العطار، بعد قتل عضد الدين الوزير، فلما مات المستضيء، قام ظهير الدين بن العطار، وأخذ البيعة لولده، الإمام الناصر لدين الله، ولما استقرت البيعة للإمام الناصر، حكم أستاذ الدار مجد الدين أبو الفضل، فقبض في سابع ذي القعدة على ظهير الدين بن العطار، ونقل إلى التاج، وأخرج ظهير الدين المذكور ميتاً على رأس حمال، ليلة الأربعاء، ثاني عشر ذي القعدة، فثارت به العامة، والقوه عن رأس الحمال، وشدوا في ذكره حبلاً وسحبوه في البلد، وكانوا يضعون في يده مغرفة، يعني أنها قلم، وقد غمس تلك المغرفة في العذرة، ويقولون وقع لنا يا مولانا، هذا فعلهم به، مع حسن سيرته فيهم، وكفه عن أموالهم، ثم خلص منهم ودفن.
وفي هذه السنة في ذي القعدة، نزل توران شاه أخو السلطان عن بعلبك، وطلب عوضها الإسكندرية، فأجابه السلطان صلاح الدين إلى ذلك، وأقطع بعلبك لعز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، فسار إليها فرخشاه، وسار شمس الدولة توران شاه إلى الإسكندرية، وأقام بها إلى ن مات بها.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة.
ذكر وفاة سيف الدين صاحب الموصل

في هذه السنة ثالث صفر، توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب الموصل، والديار الجزرية، وكان مرضه السل، وطال، وكان عمره نحو ثلاثين سنة، وكانت ولايته عشر سنين ونحو ثلاثة شهر، وكان حسن الصورة مليح الشباب، تام القامة أبيض اللون، عاقلاً عادلاً، عفيفاً شديد الغيرة، لا يدخل بيته غير الخدم إذا كانوا صغاراً، فإذا كبر أحدهم منعه، وكان عفيفاً عن أموال الرعية، مع شح كان فيه، وحين حضره الموت، أوصى بالمملكة بعده إلى أخيه عز الدين مسعود بن مودود، وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده سنجرشاه بن غازي، فاستقر ذلك بعد موته حسبما قرره، وكان مدير الدولة والحاكم فيها مجاهد الدين قيماز.
وفي هذه السنة، سار السلطان صلاح الدين إلى جهة قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان، صاحب بلاد الروم، ووصل إلى رعبان، ثم اصطلحوا. فقصد صلاح الدين بلاد ابن ليون الأرمني، وشن فيها الغارات، فصالحه ابن ليون على مال حمله، وأسرى أطلقهم.
وفيها توفي شمس الدولة توران شاه بن أيوب، أخو صلاح الدين الأكبر، بالإسكندرية، وكان له معها أكثر بلاد اليمن، ونوابه هناك يحملون إليه الأموال من زبيد وعدن وغيرهما، وكان أجود الناس وأسخاهم كفاً، يخرج كل ما يحمل إليه من أموال اليمن، ودخل الإسكندرية، ومع هذا، فلما مات، كان عليه نحو مائتي ألف دينار مصرية، ديناً عليه، فوفّاها أخوه صلاح الدين عنه، لما وصل إلى مصر، ووصل السلطان صلاح الدين إلى مصر في هذه السنة، في شعبان، واستخلف بالشام ابن أخيه عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة في هذه السنة، عزم البرنس صاحب الكرك، على المسير إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، للاستيلاء على تلك النواحي الشريفة، وسمع ذلك عز الدين فرخشاه، نائب عمه السلطان صلاح الدين بدمشق، فجمع وقصد بلاد الكرك، وأغار عليها وأقام في مقابلة البرنس، ففرق البرنس جموعه، وانقطع عزمه عن الحركة. وفيها وقع بين نواب توران شاه باليمن بعد موته اختلاف، فخشي السلطان صلاح الدين على اليمن، فجهز إليه عسكراً مع جماعة من أمرائه، فوصلوا إلى اليمن واستولوا عليه، وكان نواب توران شاه على عدن، عز الدين عثمان بن الزنجيلي، وعلى زبيد، حطان بن كامل بن منقذ الكناني، من بيت صاحب شيزر.
ذكر وفاة الملك الصالح صاحب حلب في هذه السنة في رجب، توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب حلب، وعمره نحو تسع عشرة سنة، ولما اشتد به مرض القولنج، وصف له الأطباء الخمر فمات ولم يستعمله، وكان حليماً عفيف اليد والفرج واللسان، ملازماً لأمور الدين، لا يعرف له شيء مما يتعاطاه الشباب، ووصى بملك حلب إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، صاحب الموصل، فلما مات سار مسعود ومجاهد الدين قيماز من الموصل إلى حلب، واستقر في ملكها. ولما استقر مسعود بن مودود في ملك حلب، كاتبه أخوه عماد الدين زنكي بن مودود، صاحب سنجار، في أن يعطيه حلب ويأخذ منه سنجار، فأشار قيماز بذلك، فلم يمكن مسعود إلا موافقته، فأجاب إلى ذلك، فسار عماد الدين إلى حلب وتسلمها، وسلّم سنجار إلى أخيه مسعود، وعاد مسعود إلى الموصل.
وفي هذه السنة في شعبان توفي أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد النحوي، المعروف بابن الأنباري، ببغداد، وله تصانيف حسنة في النحو، وكان فقيها.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة.
ذكر مسير السلطان صلاح الدين إلى الشام في هذه السنة خامس المحرم، سار السلطان صلاح الدين عن مصر إلى الشام، ومن عجيب الإتفاق، أنه لما برز من القاهرة، وخرجت أعيان الناس لوداعه، أخذ كل منهم يقول شيئاً في الوداع وفراقه، وفي الحاضرين معلم لبعض أولاد السلطان، فأخرج رأسه من بين الحاضرين وأنشد:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار

فتطير صلاح الدين وانقبض بعد انبساطه، وتنكد المجلس على الحاضرين، فلم يعد صلاح الدين بعدها إلى مصر مع طول المدة، وسار السلطان صلاح الدين وأغار في طريقه على بلاد الفرنج، وغنم، ووصل إلى دمشق في حادي عشر صفر من هذه السنة، ولما سار السلطان إلى الشام، اجتمعت الفرنج قرب الكرك، ليكونوا على طريقه، فانتهز فرخشاه ابن أخي السلطان صلاح الدين ونائبه بدمشق الفرصة، وسار إلى الشقيف بعساكر الشام، وفتحه، وغار على ما يجاوره من بلاد الفرنج، وأرسل إلى السلطان وبشره بذلك.
ذكر إرسال سيف الإسلام إلى اليمن في هذه السنة سير السلطان أخاه سيف الإسلام طغتكين إلى بلاد اليمن ليملكهما، ويقطع الفتن منها، وكان بها حطان بن منقذ الكناني، وعز الدين عثمان الزنجيلي، وقد عادا إلى ولايتهما، فإن الأمير الذي كان سيره السلطان نائباً إلى اليمن، تولى وعزلهما، ثم توفي، فعادت بين حطان وعثمان الفتن قائمة، فوصل سيف الإسلام إلى زبيد، فتحصن حطان في بعض القلاع، فلم يزل سيف الإسلام يتلطف به حتى نزل إليه، فأحسن صحبته، ثم إن حطان طلب دستوراً ليسير إلى الشام، فلم يجبه إلا بعد جهد، فجهز حطان أثقاله قدامه ودخل حطان ليودع سيف الإسلام، فقبض عليه وأرسل واسترجع أثقاله، وأخذ جميع أمواله، وكان في جملة ما أخذه سيف الإسلام من حطان، سبعين غلاف زردية مملوءة ذهباً عيناً، ثم سجن حطان في بعض قلاع اليمن، فكان آخر العهد به، وأما عثمان الزنجيلي فإنه لما جرى لحطان ذلك، خاف وسار نحو الشام، وسيّر أمواله في البحر، فصادفهم مراكب أصحاب سيف الإسلام، فأخذوا كل ما لعثمان الزنجيلي، وصفت بلاد اليمن لسيف الإسلام.
ذكر غارات السلطان الملك صلاح الدين وما استولى عليه من البلاد في هذه السنة سار السلطان صلاح الدين من دمشق، في ربيع الأول، ونزل قرب طبرية، وشن الإغارة على بلاد الفرنج، مثل بانياس وجينين والغور، فغنم وقتل وعاد إلى دمشق، ثم سار عنها إلى بيروت وحصرها، وأغار على بلادها، ثم عاد إلى دمشق، ثم سار من دمشق إلى البلاد الجزرية، وعبر الفرات من البيرة، فصار معه مظفر الدين كوكبوركي بن زين الدين علي بن بكتكين، وكان حينئذ صاحب حران، وكاتب السلطان صلاح الدين ملوك تلك الأطراف واستمالهم، فأجابه نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا، وصار معه، ونازل السلطان الرها وحاصرها وملكها، وسلمها إلى مظفر الدين كوكبوري صاحب حران، ثم سار السلطان إلى الرقة وأخذها من صاحبها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، فسار ينال إلى عز الدين مسعود صاحب الموصل.
ثم سار صلاح الدين إلى الخابور، وملك قرقيسيا وماكسين وعربان والخابور، واستولى على الخابور جميعه، ثم سار إلى نصيبين وحاصرها، وملك المدينة، ثم ملك القلعة، ثم أقطع نصيبين أميراً كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين، ثم سار عن نصيبين وقصد الموصل، وقد استعد صاحبها عز الدين مسعود ومجاهد الدين قيماز للحصار، وشحنوها بالرجال والسلاح، فحصر الموصل وأقام عليها منجنيقاً، فأقاموا عليه من داخل المدينة تسعة مناجنيق، وضايق الموصل، فنزل السلطان صلاح الدين محاذاة باب كندة، ونزل صاحب حصن كيفا على باب الجسر، ونزل تاج الملوك بوري أخو صلاح الدين على باب العمادي، وجرى القتال بينهم، وكان ذلك في شهر رجب من هذه السنة، فلما رأى أن حصارها يطول، رحل عن الموصل إلى سنجار وحاصرها وملكها، واستناب بها سعد الدين بن معين الدين أتز، وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة، ومعنى، ثم سار السلطان صلاح الدين إلى حران وعزل في طريقه عن نصيبين أبا الهيجاء السمين.
ذكر غير ذلك من الحوادث

في هذه السنة عمل البرنس صاحب الكرك أسطولاً في بحر إيلة، وساروا في البحر فرقتين، فرقة أقامت على حصن إيلة يحصرونه، وفرقة سارت نحو عيذاب يفسدون في السواحل، وبغتوا المسلمين في تلك النواحي، فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجاً قط، وكان بمصر الملك العادل أبو بكر نائباً عن أخيه السلطان صلاح الدين، فعمر أسطولاً في بحر عيذاب، وأرسله مع حسام الدين الحاجب لؤلؤ، وهو متولي الأسطول بديار مصر، وكان مظفراً فيه، وشجاعاً، فسار لؤلؤ مجداً في طلبهم، وأوقع بالذين يحاصرون إيلة، فقتلهم وأسرهم، ثم سار في طلب الفرقة الثانية، وكانوا قد عزموا على الدخول إلى الحجاز ومكة والمدينة، حرسهما الله تعالى، وسار لؤلؤ يقفو أثرهم، فبلغ رابغ، فأدركهم بساحل الحورا، وتقاتلوا أشد قتال، فظفر الله تعالى بهم، وقتل لؤلؤ أكثرهم، وأخذ الباقين أسرى، وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها، وعاد بالباقين إلى مصر، فقتلوا عن آخرهم.
وفي هذه السنة توفي عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب بعلبك، وكان ينوب عن صلاح الدين بدمشق، وهو ثقته من بين أهله، وكان فرخشاه شجاعاً كريماً فاضلاً، وله شعر جيد، ووصل خبر موته إلى صلاح الدين، وهو في البلاد الجزرية، فأرسل إلى دمشق شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم، ليكون بها، وأقر بعلبك على بهرام شاه بن فرخشاه المذكور.
وفيها توفي أبو العباس أحمد بن علي بن الرفاعي من سواد واسط، وكان صالحاً ذا قبول عظيم عند الناس، وله من التلامذة ما لا يحصى.
وفيها توفي بقرطبة خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال الخزرجي الأنصاري، وكان من علماء الأندلس، وله التصانيف المفيدة، ومولده في سنة أربع وتسعين وأربعمائة.
وفيها توفي بدمشق مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، الفقيه الشافعي، ولد سنة خمس وخمسمائة، وهو الملقب قطب الدين، وكان إماماً فاضلاً في العلوم الدينية، قدم إلى دمشق وصنف عقيدة للسلطان صلاح الدين، وكان السلطان يقريها أولاده الصغار.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة.
ذكر ما ملكه السلطان صلاح الدين من البلاد في هذه السنة، ملك السلطان صلاح الدين حصن آمد، بعد حصار وقتال، في العشر الأول من المحرم، وسلمها إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، صاحب حصن كيفا، ثم سار إلى الشام، وقصد تل خالد من أعمال حلب وملكها، ثم سار إلى عينتاب وحصرها، وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين محمود بن زنكي، وكان قد سلم نور الدين عينتاب إلى إسماعيل المذكور، فبقيت معه إلى الآن، فحاصرها السلطان وملكها تسليم صاحبها إليه، فأقره السلطان عليها، وبقي في خدمة السلطان، ومن جملة أمرائه، ثم سار السلطان إلى حلب وحصرها، وبها صاحبها عماد الدين زنكي بن ودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، وطال الحصار عليه، وكان قد كثر اقتراحات أمراء حلب وعسكرها عليه، وقد ضجر من ذلك وكره حلب لذلك، فأجاب السلطان ملاح الدين إلى تسليم حلب، على أن يعوض عنها بسنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج، واتفقوا على ذلك، وسلم حلب إلى السلطان في صفر من هذه السنة، فكان أهل حلب ينادون على عماد الدين المذكور يا حمار بعت حلب بسنجار، وشرط السلطان على عماد الدين المذكور الحضور إلى خدمته، بنفسه وعسكره إذا استدعاه، ولا يحتج بحجة عن ذلك، ومن الاتفاقات العجيبة، أن محي الدين بن الزكي قاضي دمشق، مدح السلطان بقصيدة منها:
وفتحكم حلباً بالسيف في صفر ... مباشر بفتوح القدس في رجب
فرافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وكان في جملة من قتل على حلب، تاج الملوك بوري بن أيوب، أخو السلطان الأصغر، وكان كريماً شجاعاً، طعن في ركبته، فانفكت، فمات منها.

ولما استقر الصلح، عمل عماد الدين زنكي المذكور دعوة للسلطان، واحتفل لها، فبينما هم في سرورهم، إذ جاء إنسان فأسر إلى السلطان بموت أخيه بوري، فوجد عليه في قلبه وجداً عظيماً، وأمر تجهيزه سرا، ولم يعلم السلطان في ذلك الوقت أحداً ممن كان في الدعوة بذلك لئلا يتنكد عليهم ما هم فيه، وكان يقول السلطان ما وقعت حلب علينا رخيصة بموت بوري، وكان هذا من السلطان من الصبر العظيم، ولما ملك السلطان حلب، أرسل إلى حارم وبهما سرخك الذي ولاه الملك الصالح ابن نور الدين، في تسليم حارم، وجرت بينهما مراسلات، فلم ينتظم بينهما حال، وكاتب سرخك الفرنج، فوثب عليه أهل القلعة وقبضوا عليه، وسلموا حارم إلى السلطان فتسلمها، وقرر أمر حلب وبلادها، وأقطع إعزاز أميراً يقال له سليمان بن جندر.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة قبض عز الدين مسعود، صاحب الموصل، على نائبه مجاهد الدين قيماز، وفيها لما فرغ السلطان من تقرير أمر حلب، جعل فيها ولده الملك الظاهر غازي، وسار إلى دمشق وتجهز منها للغزو، فعبر نهر الأردن تاسع جمادى الآخرة من هذه السنة. فأغار على بيسان وحرقها، وشن الغارات على تلك النواحي، ثم تجهز السلطان إلى الكرك، وأرسل إلى نائبه بمصر، وهو أخوه الملك العادل، أن يلاقيه إلى الكرك، فسارا واجتمعا عليها، وحصر الكرك وضيق عليها، ثم رحل عنها في منتصف شعبان، وسار معه أخوه العادل، وأرسل السلطان ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر إلى مصر، نائباً عنه. موضع الملك العادل، ووصل السلطان إلى دمشق وأعطى أخاه أبا بكر العادل مدينة حلب وقلعتها وأعمالها، وسيره إليها في شهر رمضان من هذه السنة، وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق.
وفي هذه السنة في جمادى الآخرة، توفي محمد بن بختيار بن عبد الله الشاعر المعروف بالأبله. وفي هذه السنة أعني سنة تسع وسبعين وخمسمائة في أواخرها، توفي شاهرمن سكمان ابن ظهير الدين إبراهيم بن سكمان القطبي صاحب خلاط، وقد تقدم ذكر ملك شاهرمن المذكور في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، وكان عمر سكمان لما توفي أربعاً وستين سنة، ولما مات سكمان كان بكتمر مملوكه بميافارقين، فلما سمع بكتمر بموته سار من ميافارقين ووصل إلى خلاط، وكان أكثر أهلها يريدونه، وكان مماليك شاهرمن متفقين معه، فأول وصوله استولى على خلاط وتملكها، وجلس على كرسي شاهرمن، واستقر في مملكة خلاط حتى قتل في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، حسبما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة.
ذكر وفاة يوسف بن عبد المؤمن في هذه السنة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب، إلى بلاد الأندلس، وعبر البحر في جمع عظيم من عساكره، وقصد بلاد الفرنج، فحصر شنترين من غرب الأندلس، وأصابه مرض فمات منه، في ربيع الأول، وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية، وكانت مدة مملكته اثنتين وعشرين سنة وشهوراً، وكان حسن السيرة، واستقامت له المملكة لحسن تدبيره، ولما مات بايع الناس ولده يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وكنيته أبو يوسف، وملكوه عليهم في الوقت الذي مات فيه أبوه، لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم، لقربهم من العدو، فقام يعقوب بالملك أحسن قيام، وأقام راية الجهاد وأحسن السيرة.
ذكر غزو السلطان الكرك في هذه السنة في ربيع الآخر، سار السلطان صلاح الدين من دمشق للغزو، وكتب إلى مصر، فسارت عساكرها إليه، ونازل الكرك وحصره وضيق على من به وملك ربض الكرك، وبقيت القلعة، وليس بينها وبين الربض غير خندق خشب، وقصد السلطان صلاح الدين طمه فلم يقدر، لكثرة المقاتلة، فجمعت الفرنج فارسها وراجلها، وقصدوه، فلم يمكن السلطان إلا الرحيل، فرحل عن الكرك وسار إليهم، فأقاموا في أماكن وعرة، وأقام السلطان قبالتهم، وسار من الفرنج جماعة ودخلوا الكرك، فعلم بامتناعه عليه، فسار إلى نابلس وأحرقها ونهب ما بتلك النواحي وقتل وأسر وسبى فأكثر، ثم سار إلى صبصطية وبها مشهد زكريا، فاستنقذ ما بها من أسرى المسلمين، ثم سار إلى جنبتين ثم عاد إلى دمشق.
ذكر وفاة صاحب ماردين

في هذه السنة مات قطب الدين أيلغازي بن نجم الدين ألبي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، أقول إنه قد تقدم في سنة سبع وأربعين وخمسمائة ذكر ملك ألبي ولد أيلغازي المذكور، وبقي ألبي في ملك ماردين حتى مات، وملك بعده ابنه أيلغازي المذكور، ولم يقع لي وفاة ألبي، وملك أيلغازي المذكورين متى كان لأثبته، ولما مات أيلغازي المذكور، كان له أولاد أطفال، فأقيم في الملك بعده ولده حسام الدين بولق أرسلان، وقام بتدبير المملكة وترتيبها مملوك والده نظام الدين البقش، حتى كبر بولق أرسلان، وكان به هوج وخبط، فمات بولق أرسلان وأقام البقش بعده أخاه الأصغر ناصر الدين أرتق أرسلان بن قطب الدين أيلغازي، ولم يكن له حكم، بل الحكم إلى البقش وإلى مملوك للبقش اسمه لؤلؤ، كان قد تغلب على أستاذه البقش، بحيث كان لا يخرج البقش عن رأي لؤلؤ المذكور، ولم يكن لناصر الدين أرتق أرسلان صاحب ماردين من الحكم شيء، وبقي الأمر كذلك إلى سنة إحدى وستمائة، فمرض النظام البقش وأتاه ناصر الدين صاحب ماردين يعوده، فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ فضربه ناصر الدين بسكين فقتله، ثم عاد إلى البقش فقتله وهو مريض، واستقل أرتق أرسلان بملك ماردين من غير منازع.
وفي هذه السنة توفي شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبي سعيد أحمد، وكان قد سار من عند الخليفة إلى السلطان صلاح الدين في رسالة، ومعه شهاب الدين بشير الخادم، ليصلحا بين السلطان صلاح الدين وبين عز الدين مسعود صاحب الموصل، فلم ينتظم حال، واتفق أنهما مرضا بدمشق وطلبا المسير إلى العراق، وسارا في الحر فمات بشير بالسخنة ومات صدر الدين شيخ الشيوخ بالرحبة، ودفن بمشهد البوق، وكان أوحد زمانه، قد جمع بين رئاسة الدين والدنيا.
وفيها في المحرم أطلق عز الدين مسعود صاحب الموصل مجاهد الدين قيماز من الحبس، وأحسن إليه.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
ذكر حصار السلطان صلاح الدين الموصل في هذه السنة حصر السلطان صلاح الدين الموصل، وهو حصاره الثاني، فأرسل إليه عز الدين مسعود صاحب الموصل والدته، وابنة عمه نور الدين محمود بن زنكي، وغيرهما من النساء، وجماعة يطلبون منه ترك الموصل وما بأيديهم، فردهم، واستقبح الناس ذلك من صلاح الدين، لا سيما وفيهن بنت نور الدين محمود، وحاصر الموصل وضايقها، وبلغه وفاة شاهرمن، صاحب أخلاط، في ربيع الآخر من هذه السنة، فسار عن الموصل إلى جهة أخلاط فاستدعى أهلها ليملكها.
ذكر وفاة صاحب حصن كيفا في هذه السنة توفي نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحب الحصن، وآمد، وملك بعده ولده سقمان، ولقبه قطب الدين، وكان صغيراً فقام بتدبيره القوام ابن سماقا الأشعردي وحضر سقمان إلى السلطان صلاح الدين وهو نازل على ميافارقين، فأقره على ما كان بيد ولده نور الدين محمد، وأقام معه أميراً من أصحاب أبي سقمان المذكور.
ذكر ملك السلطان صلاح الدين ميافارقين لما سار السلطان عن الموصل إلى أخلاط جعل طريقه على ميافارقين، وكانت لصاحب ماردين الذي توفي، وفيها من حفظها من جهة شاهرمن صاحب أخلاط المتوفي، فحاصرها السلطان وملكها في سلخ جمادى الأولى، ثم إن السلطان رجع عن قصد أخلاط إلى الموصل، فجاءته رسل عز الدين مسعود يسأل في الصلح، واتفق حينئذ أن السلطان صلاح الدين مرض، وسار من كفر زمار عائداً إلى حران، فلحقته رسل صاحب الموصل بالإجابة إلى ما طلب، وهو أن يسلم صاحب الموصل إلى السلطان صلاح الدين شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي، وجميع ما وراء الزاب، وأن يخطب للسلطان صلاح الدين على جميع منابر الموصل، وما بيده، وأن يضرب اسمه على الدراهم والدنانير، وتسلم السلطان ذلك واستقر الصلح، وأمنت البلاد، ووصل السلطان إلى حران، وأقام بها مريضاً واشتد به المرض حتى أيسوا منه، ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، ولما اشتد مرض السلطان سار ابن عمه محمد بن شيركوه بن شاذي صاحب حمص إلى حمص، وكاتب بعض أكابر دمشق في أن يسلموا إليه دمشق إذا مات السلطان.
ذكر غير ذلك من الحوادث

في هذه السنة ليلة عيد الأضحى، شرب بحمص صاحبها ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شاذي، فأصبح ميتاً. قيل إن السلطان صلاح الدين دس عليه من سماه سماً، لما بلغه مكاتبته أهل دمشق في مرضه، ولما مات أقر السلطان حمص وما كان بيد محمد على ولده شيركوه ابن محمد، وعمره اثنتا عشرة سنة، وخلف صاحب حمص شيئاً كثيراً من الدواب والآلات وغيرها، فاستعرضها السلطان عند نزوله بحمص في عودته من حران، وأخذ أكثرها، ولم يترك إلا ما لا خير فيه.
وفيها توفي الحافظ محمد بن عمر بن أحمد الأصفهاني المدني المشهور، وكان إمام عصره في الحفظ والمعرفة، وله في الحديث وعلومه تواليف مفيدة، وله كتاب الغيث في مجلد كمل به كتاب الغريبين للهروي، واستدرك فيه عليه مواضع وهو كتاب نافع، وكان مولده سنة إحدى وخمسمائة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
ذكر نقل الملك العادل أخي السلطان من حلب وإخراج الملك الأفضل ابن السلطان من مصر إلى دمشق في هذه السنة أحضر السلطان ولده الأفضل من مصر، وأقطعه دمشق، وسببه أن الملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخي السلطان، كان نائب عمه بمصر، وكان معه الملك الأفضل. فأرسل تقي الدين يشتكي من الأفضل، أني لا أتمكن من استخراج الخراج، فإني إذا أحضرت من عليه الخراج، وأردت عقوبته، يطلقه الملك الأفضل، فأرسل السلطان، وأخرج ابنه الملك الأفضل من مصر، وأقطعه دمشق، وتغير السلطان على تقي الدين عمر في الباطن، فإنه ظن أنه إنما أخرج ولده من مصر ليتملك مصر، إذا مات السلطان، ثم أحضر أخاه العادل من حلب، وجعل معه ولده العزيز عثمان ابن السلطان نائباً عنه بمصر، واستدعى تقي الدين عمر من مصر، فقيل أنه توقف عن الحضور، وقصد اللحاق بمملوكه قراقوش، المستولي على بعض بلاد إفريقية وبريقة من المغرب، وبلغ السلطان ذلك، فساءه، وأرسل يستدعي تقي الدين عمر ويلاطفه، فحضر إليه، ولما حضر تقي الدين عند السلطان، زاده على حماة منبج والمعرة وكفر طاب وميافارقين وجبل جور بجميع أعمالها، واستقر العادل والعزيز عثمان في مصر، ولما أخذ السلطان حلب من أخيه العادل، أقطعه عوضها حران والرها.
ذكر وفاة البهلوان وملك أخيه قزل في هذه السنة في أولها، توفي البهلوان محمد بن الدكز، صاحب بلد الجبل، همذان والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد، وكان عادلاً حسن السيرة، وملك البلاد بعده أخوه قزل أرسلان، واسمه عثمان، وكان السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل بن محمد بن ملكشاه السلجوقي مع البهلوان، وله الخطابة في بلاده، وليس له من الأمر شيء، فلما مات البهلوان، خرج طغريل عن حكم قزل، وكثر جمعه، واستولى على بعض البلاد، وجرت بينه وبين قزل حروب.
ذكر غير ذلك في هذه السنة غدر البرنس صاحب الكرك، وأخذ قافلة عظيمة من المسلمين وأسرهم، فأرسل السلطان يطلب منه إطلاقهم، بحكم الهدنة التي كانت بينهم على ذلك، فلم يفعل، فنذر السلطان أنه إن ظفره الله به قتله بيده.
وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش بري بن عبد الجبار بن بري، المصري، الإمام في علم النحو واللغة، اشتغل عليه جماعة وانتفعوا به، ومن جملتهم أبو موسى الجزولي، صاحب المقدمة الجزولية في النحو، وكانت وفاته بمصر، وولد بها في سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.
ذكر غزوات السلطان الملك الناصر صلاح الدين وفتوحاته في هذه السنة جمع السلطان العساكر، وسار بفرقة من العسكر وضايق الكرك، خوفاً على الحجاج من صاحب الكرك، وأرسل فرقة أخرى مع ولده الملك الأفضل، فأغاروا على بلد عكا وتلك الناحية، وغنموا شيئاً كثيراً، ثم سار السلطان ونزل على طبرية، وحصر مدينتها وفتحها عنوة بالسيف، وتأخرت القلعة، وكانت طبرية للقومص صاحب طرابلس، وكان قد هادن السلطان ودخل في طاعته، فأرسلت الفرنج إلى القومص المذكور القسوس والبطرك، ينهونه عن موافقة السلطان ويوبخونه، فصار معهم واجتمع الفرنج لملتقى السلطان.
ذكر وقعة حطين وهي الوقعة العظيمة التي فتح الله بها الساحل وبيت المقدس

لما فتح السلطان مدينة طبرية، اجتمعت الفرنج في ملوكهم بفارسهم وراجلهم، وساروا إلى السلطان، فركب السلطان من عند طبرية وسار إليهم، يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر، والتقى الجمعان، واشتد بينهم القتال، ولما رأى القومص شدة الأمر، حمل على من قدامه من المسلمين، وكان هناك تقي الدين صاحب حماة، فأفرج له وعطف عليهم، فنجا القومص ووصل إلى طرابلس، وبقي مدة يسيرة ومات غبناً، ونصر الله المسلمين وأحدقوا بالفرنج من كل ناحية، وأبادوهم قتلاً وأسراً، وكان في جملة من أسر ملك الفرنج الكبير والبرنس أرنلط صاحب الكرك، وصاحب جبيل، وابن الهنفري، ومقدم الداوية، وجماعة من الإسبتارية، وما أصيبت الفرنج من حين خرجوا إلى الشام، وهي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن بمصيبة مثل هذه الوقعة، ولما انقضى المصاف جلس السلطان في خيمته، وأحضر ملك الفرنج وأجلسه إلى جانبه، وكان الحر والعطش به شديداً، فسقاه السلطان ماء مثلوجاً، وسقى ملك الفرنج منه البرنس أرنلط صاحب الكرك.
فقال له السلطان: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني، فيكون أماناً له، ثم كلم السلطان البرنس ووبخه وفزعه على غدره، وقصده الحرمين الشريفين، وقام السلطان بنفسه فضرب عنقه، فارتعدت فرائص ملك الفرنج، فسكن جأشه.
ثم عاد السلطان إلى طبرية وفتح قلعتها بالأمان، ثم سار إلى عكا وحاصرها وفتحها بالأمان، ثم أرسل أخاه الملك العادل فنازل مجد اليابا وفتحه عنوة بالسيف، ثم فرق السلطان عسكره، ففتحوا الناصرة، وقيسارية، وهيفا، وصفورية، ومعلثا، والفولة، وغيرها من البلاد المجاورة لعكا، بالسيف، وغنموا وقتلوا وأسروا أهل هذه الأماكن، وأرسل فرقة إلى نابلس فملكوا قلعتها بالأمان.
ثم سار الملك العادل بعد فتح مجد اليابا إلى يافا وفتحها عنوة بالسيف، ثم سار السلطان إلى تبنين ففتحها بالأمان، ثم سار إلى صيدا فأخلاها صاحبها وتسلمها السلطان ساعة وصوله، لتسع بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، ثم سار إلى بيروت فحصرها وتسلمها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى بالأمان، وكان حصرها مدة ثمانية أيام، وكان صاحب جبيل من جملة الأسرى، فبذل جبيل في أن يسلمها ويطلق سراحه، فأجيب إلى ذلك. وكان صاحب جبيل ابن أعظم الفرنج، وأشدهم عداوة للمسلمين، ولم تك عاقبة إطلاقه حميدة، وأرسل السلطان فتسلم جبيل وأطلقه.
وفيها حضر المركيس في سفينة إلى عكا وهي للمسلمين، ولم يعلم المركيس بذلك، واتفق هجوم الهواء فراسل المركيس الملك الأفضل وهو بعكا، يقترح أمراً بعد آخر، والملك الأفضل يجيب المركيس إلى ذلك، إلى أن هب الهواء فأقلع المركيس إلى صور، واجتمع عليه الفرنج الذين بها، وملك صور، وكان وصول المركيس إلى صور وإطلاق الفرنج الذين يأخذ السلطان بلادهم بالأمان، ويحملهم إلى صور من أعظم أسباب الضرر التي حصلت، حتى راحت عكا وقوي الفرنج بذلك، ثم سار السلطان إلى عسقلان وحاصرها أربعة عشر يوماً وتسلمها بالأمان، سلخ جمادى الآخرة.
ثم بث السلطان عسكره ففتحوا الرملة، والداروم، وغزة، وبيت لحم، وبيت جبريل، والنطرون. وغير ذلك.
ثم سار السلطان ونازل القدس، وبه من النصارى عدد يفوت الحصر، وضايق السلطان السور بالنقابين، واشتد القتال، وغلقوا السور، فطلب الفرنج الأمان فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، وقال: لا آخذها إلا بالسيف، مثلما أخذها الفرنج من المسلمين، فعاودوه في الأمان، وعرفوه ما هم عليه من الكثرة، وأنهم إن أيسوا منه من الأمان، قاتلوا خلاف ذلك، فأجابهم السلطان إليه بشرط أن يؤدي كل من بها عشرة الدنانير عشرة الدنانير من الرجال، يؤدي النساء خمسة خمسة، ويؤدوا عن كل طفل دينارين، وأي من عجز عن الأداء كان أسيراً، فأجيب إلى ذلك، وسلمت إليه المدينة يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب، وكان يوماً مشهوداً، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسرار المدينة، ورتب السلطان على أبواب البلد من يقبض منهم المال المذكور، فخان المرتبون في ذلك ولم يحملوا منه إلا القليل، وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب، وتسلق المسلمون وقلعوه، فسمع لذلك ضجة لم تعهد مثلها من المسلمين للفرح والسرور، ومن الكفار بالتفجع والتوجع، وكان الفرنج قد عملوا في غربي الجامع الأقصى هرباً ومستراحاً، فأمر السلطان بإزالة ذلك وإعادة الجامع إلى ما كان عليه.

وكان نور الدين محمود بن زنكي قد عمل منبراً بحلب قد تعب عليه مدة، وقال: هذا لأجل القدس، فأرسل السلطان صلاح الدين وأحضر المنبر من حلب وجعله في الجامع الأقصى، وأقام السلطان بعد فتوح القدس بظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان، يرتب أمور البلد وأحوالها، وأمر بعمل الربط والمدارس الشفعوية.
ثم رحل السلطان إلى عكا ورحل منها إلى صور وصاحبها المركيس، وقد حصنها بالرجال، وحفر خندقها، ونزل السلطان على صور تاسع شهر رمضان وحاصرها وضايقها، وطلب الأسطول، فوصل إليه في عشرة شوان، فاتفق أن الفرنج كبسوهم في الشواني وأخذوا خمسة شواني ولم يسلم من المسلمين إلا من سبح ونجا، وأخذ الباقون وطال الحصار عليها، فرحل السلطان عنها في آخر شوال، وكان أول كانون الأول، وأقام بعكا وأعطى العساكر الدستور، فسار كل واحد إلى بلده، وبقي السلطان بعكا في حلقته، وأرسل إلى هوبين ففتحها بالأمان.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة سار شمس الدين محمد بن عبد الملك، عرف بابن المقدم، بعد فتح القدس، حاجاً، وكان هو أمير الحاج الشامي، ليجمع بين الغزوة وزيارة القدس والخليل عليه السلام، والحج في عام واحد، فسار ووقف بعرفات، ولما أفاض، أرسل إليه طاشتكين أمير الحاج العراقي يمنعه من الإفاضة قبله، فلم يلتفت إليه، فسار العراقيون واتقعوا مع الشاميين، ففتل بينهم جماعة، وابن المقدم يمنع أصحابه من القتال، ولو أمكنهم لانتصفوا من العراقيين، فجرح ابن المقدم ومات شهيداً ودفن بمقبرة المعلى.
وفيها قوي أمر السلطان طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل بن السلطان محمد بن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وملك كثيراً من البلاد، وأرسل قزل ابن الدكز إلى الخليفة يستنجده ويخوفه عاقبة أمر طغريل.
وفيها سار شهاب الدين الغوري وغزا بلاد الهند. وفيها قتل الخليفة الناصر أستاذ داره مجد الدين أبا الفضل بن الصاحب، ولم يكن للخليفة معه حكم، وظهر له أموال عظيمة، فأخذت جميعاً.
وفيها استوزر الخليفة الناصر لدين الله، أبا المظفر عبيد الله بن يونس، ولقبه جلال الدين، ومشى أرباب الدولة في ركابه، حتى قاضي القضاة، وكان ابن يونس من جملة الناس، فكان يمشي ويقول لعن الله طول العمر. وفيها توفي قاضي القضاة الدامغاني، وكان قد ولى القضاء للمقتفي.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
ذكر فتوحات السلطان صلاح الدين وغزواته شتى السلطان هذه السنة في عكا، ثم سار بمن معه وقصد كوكب وجعل على حصارها أميراً يقال له قيماز النجمي، وسار منها في ربيع الأول، ودخل دمشق، ففرح الناس بقدومه، وكتب إلى الأطراف باجتماع العساكر، وأقام في دمشق تقدير خمسة أيام، وسار من دمشق في منتصف ربيع الأول من هذه السنة، ونزل على بحيرة مقدس غربي حمص، وأتته العساكر بها، فأولهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر صاحب سنجار ونصيبين، ولما تكاملت عساكره رحل ونزل تحت حصن الأكراد، وشن الغارات على بلاد الفرنج، وسار من حصن الأكراد فنزل على أنطرطوس، سادس جمادى الأولى، فوجد الفرنج قد أخلوا أنطرطوس، فسار إلى مرقية، فوجدهم قد أخلوها أيضاً، فسار إلى تحت المرقب، وهو للإستبتار فوجده لا يرام، ولا لأحد فيه مطمع، فسار إلى جبلة ووصل إليها ثامن جمادى الأولى، وتسلمها حالة وصوله، فجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الدالة صاحب شيزر، ثم سار السلطان إلى اللاذقية، ووصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى، ولها قلعتان، فحصر القلعتين وزحف إليهما، فطلب أهلهما الأمان فأمنهم، وتسلم القلعتين، ولما ملك السلطان اللاذقية سلمها إلى ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أبوب، فعمرها وحصن قلعتها، وكان تقي الدين عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة عليها، كما فعل بقلعة حماة.

ثم رحل السلطان عن اللاذقية في السابع والعشرين من جمادى الأولى إلى صهيون وحاصرها، وضايقها، فطلب أهلها الأمان فلم يجبهم إلا على أمان أهل القدس، فيما يؤدونه، فأجابوه إلى ذلك، وتسلم السلطان قلعة صهيون وسلمها إلى أمير من أصحابه يقال له ناصر الدين منكورس، صاحب قلعة أبي قبيس. ثم فرق عسكره في تلك الجبال، فملكوا حصن بلادنوس وكان الفرنج الذين به قد هربوا منه وأخلوه، وملكوا حصن العبد وحصن الجماهدبين، ثم سار السلطان من صهيون ثالث جمادى الآخرة، ووصل إلى قلعة بكاس، فأخلاها أهلها وتحصنوا بقلعة الشغر، فحصرها ووجدها منيعة، وضايقها فأرمى الله في قلوب أهلها الرعب وطلبوا الأمان، وتسلمها يوم الجمعة سادس جمادى الآخرة بالأمان، وأرسل السلطان ولده الملك الظاهر غازي صاحب حلب، فحصر سرمينية وضايقها وملكها، واستنزل أهلها على قطيعة قررها عليهم، وهدم الحصن، وعفى أثره، وكان في هذا الحصن وفي الحصون المذكورة من أسرى المسلمين الجم الغفير، فأطلقوا وأعطوا الكسوة والنفقة.
ثم سار السلطان من الشغر إلى برزية ورتب عسكره ثلاثة أقسام وداومها بالزحف، وملكها بالسيف في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وسبى وأسر وقتل أهلها.
قال مؤلف الكامل ابن الأثير: كنت مع السلطان في مسيره وفتحه هذه البلاد طلباً للغزوة، فنحكي ذلك من مشاهدة.
ثم سار السلطان فنزل على جسر الحديد، وهو على العاصي بالقرب من أنطاكية، فأقام عليه أياماً حتى تلاحق به من تأخر من العسكر، ثم سار إلى دربساك ونزل عليها ثامن رجب من هذه السنة، وحاصرها وضايقها وتسلمها بالأمان، على شرط أن لا يخرج أحد منها إلا بثيابه فقط، وتسلمها تاسع عشر رجب. ثم سار من دربساك إلى بغراس. وحصرها وتسلمها بالأمان، على حكم أمان دربساك، وأرسل بيمند صاحب أنطاكية إلى السلطان يطلب منه الهدنة والصلح وبذل إطلاق كل أسير عنده فأجابه السلطان إلى ذلك واصطلحوا ثمانية أشهر، وكان صاحب أنطاكية حينئذ أعظم ملوك الفرنج في هذه البلاد، فإن أهل طرابلس سلموا إليه طرابلس بعد موت القومص صاحبها، على ما ذكرناه، فجعل بيمند صاحب أنطاكية ابنه في طرابلس.
ولما فرغ السلطان من أمر هذه البلاد والهدنة، سار إلى حلب، فدخلها ثالث شعبان، وسار منها إلى دمشق، وأعطى عماد الدين زنكي بن مودود دستوراً، وكذلك أعطى غيره من العساكر الشرقية، وجعل طريقه لما رحل من حلب على قبر عمر رضي الله عنه ابن عبد العزيز، فزاره وزار الشيخ الصالح أبا زكريا المغربي، وكان مقيماً هناك، وكان من عباد الله الصالحين، وله كرامات ظاهرة، وكان مع السلطان أبو فليتة الأمير قاسم بن مهنا الحسيني، صاحب مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، شهد معه مشاهده وفتوحاته، وكان السلطان يتبرك برؤيته، ويتيمن بصحبته، ويرجع إلى قوله، ودخل السلطان دمشق في شهر رمضان المعظم، فأشير عليه بتفريق العساكر ليريحوا ويستريحوا، فقال السلطان: إن العمر قصير، والأجل غير مأمون، وكان السلطان لما سار إلى البلاد الشمالية، قد جعل على الكرك وغيرها من يحصرها، وخلا أخاه الملك العادل في تلك الجهات يباشر ذلك، فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان، فأمر الملك العادل المباشرين لحصارها بتسلمها، فتسلموا الكرك والشوبك، وما بتلك الجهات من البلاد، ثم سار السلطان من دمشق في منتصف رمضان، وسار إلى صفد فحصرها وضايقها وتسلمها بالأمان ثم سار إلى كوكب وعليها قيماز النجمي يحاصرها، فضايقها السلطان وتسلمها بالأمان، في منتصف ذي القعدة، وسير أهلها إلى صور، وكان اجتماع أهل هذه القلاع في صور من أعظم أسباب الضرر على المسلمين، ظهر ذلك فيما بعد، ثم سار السلطان إلى القدس، فعيد فيه عيد الأضحى، ثم سار إلى عكا فأقام بها حتى انسلخت السنة.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة أرسل قزل بن الدكز يستنجد بالخليفة الإمام الناصر، على طغريل بن أرسلان بن طغريل السلجوقي، ويحذره عاقبة أمره، فأرسل الخليفة عسكراً إلى طغريل، والتقوا ثامن ربيع الأول من هذه السنة قرب همذان، فانهزم عسكر الخليفة، وغنم طغريل أموالهم، وأسر مقدم العسكر جلال الدين عبيد الله وزير الخليفة.

وفيها توفي محمد بن عبد الله الكاتب المعروف بابن التعاويذي، الشاعر المشهور، وقصائده في الغزل والنسيب مشهورة، وله في غير ذلك أشياء حسنة أيضاً، وقد صودر ببغداد جماعة من الدواوين، من جملة قصيدته:
يا قاصدا بغداد جز عن بلدة ... للجور فيها زجرة وعتاب
إن كنت طالب حاجة فارحع فقد ... سدت على الراجي لها الأبواب
والناس قد قامت قيامتهم فلا ... أنساب بينهم ولا أسباب
والمرء يسلمه أبوه وعرسه ... ويخونه القرباء والأحباب
لا شافع تغني شفاعته ولا ... جان له مما جناه متاب
شهدوا معادهم فعاد مصدقا ... من كان قبل ببعثه يرتاب
جسر وميزان وعرض جرائد ... وصحائف منشورة وحساب
ما فاتهم من يوم ما وعدوا به ... في الحشر إلا راحم وهاب
ومولد ابن التعاويذي المذكور في سنة تسع عشرة وخمسمائة.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة في هذه السنة سار السلطان صلاح الدين ونزل بمرج عيون، وحضر إليه صاحب شقيف أرنون، وبذل إليه تسليم الشقيف، بعد مدة ظهر بها خديعة منه، فلما بقي للمدة ثلاثة أيام استحضره السلطان، وكان اسم صاحب الشقيف أرنلط، فقال له السلطان في التسليم، فقال: لا يوافقني عليه أهلي وأهل الحصن، فأمسكه السلطان وبعثه إلى دمشق فحبس ذكر حصار الفرنج عكا كان قد اجتمع بصور، أهل البلاد التي أخذها السلطان بالأمان، فكثر جمعهم حتى صاروا في عالم لا تحصى كثرتهم، وأرسلوا إلى البحر يبكون ويستنجدون، وصوروا صورة المسيح، وصورة عربي يضرب المسيح، وقد أدماه. وقالوا: هذا نبي العرب يضرب المسيح، فخرجت النساء من بيوتهن، ووصل من الفرنج في البحر عالم لا يحصون كثرة، وساروا إلى عكا من صور، ونازلوها في منتصف رجب من هذه السنة، وضايقوا عكا وأحاطوا بيوتها من البحر إلى البحر، ولم يبق للمسلمين إليها طريق، فسار إليهم السلطان ونزل قريب الفرنج، وقاتلهم في مستهل شعبان، وباتوا على ذلك، وأصبحوا، فحمل تقي الدين عمر صاحب حماة من ميمنة السلطان على الفرنج، فأزالهم عن موقعهم، والتزق بالصور، وانفتح الطريق إلى المدينة يدخل المسلمون ويخرجون، وأدخل السلطان إلى عكا عسكراً نجدة، فكان من جملتهم أبو الهيجاء السمين، وبقي المسلمون يغادون القتال ويراوحونه إلى العشرين من شعبان، ثم كان بين المسلمين وبينهم وقعة عظيمة، فإن الفرنج اجتمعوا وضربوا مع السلطان مصافاً، وحملوا على القلب، فأزالوه وأخذوا يقتلون في المسلمين، إلى أن بلغوا إلى خيمة السلطان، فانحاز السلطان إلى جانب، وانضاف إليه جماعة، وانقطع مدد الفرنج، واشتغلوا بقتال الميمنة، فحمل السلطان على الفرنج الذين خرقوا القلب، وانعطف عليهم العسكر فأفنوهم قتلاً، فكانت قتلى الفرنج نحو عشرة آلاف نفس، ووصل المنهزمون من المسلمين بعضهم إلى طبرية، وبعضهم وصل إلى دمشق، وجافت الأرض بعد هذه الوقعة، ولحق السلطان مرض، وحدث له قولنج، فأشار عليه الأمراء بالانتقال من ذلك الموضع، فوافقهم ورحل من عكا رابع عشر رمضان من هذه السنة، إلى الخروبة، فلما رحل تمكن الفرنج من حصار عكا، وانبسطوا في تلك الأرض، وفي تلك الحال وصل أسطول المسلمين في البحر مع حسام الدين لؤلؤ، وكان شهماً، فظفر ببطشة للفرنج، فأخذها ودخل بها إلى عكا، فقوى قلوب المسلمين، وكذلك وصل الملك العادل بعسكر مصر وبالسلاح إلى أخيه السلطان، فقويت قلوب المسلمين بوصوله.
ذكر غير ذلك فيها توفي بالخروبة الفقيه عيسى، وكان مع السلطان، وهو من أعيان عسكره، وكان جندياً فقيهاً شجاعاً، وكان من أصحاب الشيخ أبي القاسم البرزي. وفيها توفي محمد بن يوسف بن محمد بن قائد، الملقب موفق الدين الأربلي، الشاعر المشهور، وكان إماماً مقدماً في علم العربية، وكان أعلم الناس بالعروض، وأحذقهم بنقد الشعر، وأعرفهم بجيده من رديئه، واشتغل بعلوم الأوائل، وحل كتاب إقليدس، وهو شيخ أبي البركات بن المستوفي صاحب تاريخ أربل، ورحل ابن القائد المذكور إلى شهرزور وقام بها مدة، ثم رحل إلى دمشق ومدح السلطان صلاح الدين يوسف، ومن شعره قصيدة مدح بها زين الدين يوسف صاحب أربل منها:

رب دار بالحمى طال بلاها ... عكف الركب عليها فبكاها
كان لي فيها زمان وانقضى ... فسقى الله زماني وسقاها
قل لجيران مواثيقهم ... كلما أحكمنها رثت قواها
كنت مشغوفاً بكم إذ كنتم ... شجراً لا يبلغ الطير ذراها
وإذا ما طمع أغرى بكم ... عرض اليأس لنفسي فثناها
فصبابات الهوى أولها ... طمع النفس وهذا منتهاها
لا تظنوا لي إليكم رجعة ... كشف التجريب عن عيني عماها
إن زين الدين أولاني يداً ... لم تدع لي رغبة فيما سواها
وهي طويلة اقتصرنا منها على هذا القدر، وكان أبوه محمد تاجراً يتردد إلى البحرين لتحصيل اللآلئ من المغاصات.
وفيها توفي محمود بن علي بن أبي طالب بن عبد الله الأصبهاني، المعروف بالقاضي، صاحب الطريقة في الخلاف، وصنف فيه التعليقة، وهى عمدة المدرسين في إلقاء الدروس، ومن لم يذكرها فإنما هو لقصور فهمه عن إدراك دقائقها، وكان متفنناً في العلوم، وله في الوعظ اليد الطولى.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة في هذه السنة بعد دخول صفر رحل السلطان صلاح الدين عن الخروبة، وعاد إلى قتال الفرنج على عكا، وكان الفرنج قد عملوا قرب سور عكا ثلاثة أبرجة، طول البرج ستون ذراعاً، جاؤوا بخشبها من جزائر البحر، وعملوها طبقات، وشحنوها بالسلاح والمقاتلة، ولبسوها جلود البقر، والطين بالخل، لئلا يعمل فيها النار، فتحايل المسلمون وأحرقوا البرج الأول فاحترق بمن فيه من الرجال والسلاح، ثم أحرقوا الثاني والثالث، وانبسطت نفوس المسلمين لذلك بعد الكآبة، ووصل إلى السلطان العساكر من البلاد، وبلغ المسلمين وصول ملك الألمان، وكان قد سار من بلاد وراء القسطنطينية بمائة ألف مقاتل، واهتم المسلمون لذلك، وآيسوا من الشام بالكلية، فسلط الله تعالى على الألمان الغلاء والوباء فهلك أكثرهم في الطريق، ولما وصل ملكهم إلى بلاد الأرمن نزل في نهر هناك يغتسل فغرق، وأقاموا ابنه مقامه، فرجع من عسكره طائفة إلى بلادهم، وطائفة خامرت ابن الملك المذكور فرجعوا أيضاً ولم يصل مع ابن ملك الألمان إلى الفرنج الذين على عكا غير تقدير ألف مقاتل، وكفى الله المسلمين شرهم، وبقي السلطان والفرنج على عكا يتناوشون القتال إلى العشرين من جمادى الآخرة، فخرجت الفرنج من خنادقهم بالفارس والراجل، وأزالوا الملك العادل عن موضعه، وكان معه عسكر مصر، فعطفت عليه المسلمون وقتلوا من الفرنج خلقاً كثيراً، فعادوا إلى خنادقهم، وحصل للسلطان مغص فانقطع في خيمة صغيرة، ولولا ذلك لكانت الفيصلة، ولكن إذا أراد الله أمرا فلا مرد له.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، لما قوي الشتاء واشتدت الرياح، أرسل الفرنج المحاصرون عكا مراكبهم إلى صور، خوفاً عليها أن تنكسر، فانفتحت الطريق إلى عكا في البحر، وأرسل البدل إليها، فكان العسكر الذين خرجوا منها أضعاف الواصلين إليها. فحصل التفريط بذلك لضعف البدل.
وفيها في ثامن شوال توفي زين الدين يوسف بن زين الدين علي كوجك صاحب أربل وكان مع السلطان في عسكره، ولما توفي أقطع السلطان صلاح الدين أربل أخاه مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كوجك، وأضاف إليه شهرزور وأعمالها، وارتجع ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرها، وسار مظفر الدين إلى أربل وملكها.
وفيها استولى الخليفة الناصر لدين الله على حديثة عانة بعد حصرها مدة. وفيها أقطع السلطان ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرها وسمساط والموزر، الملك المظفر تقي الدين عمر، زيادة على ما بيده، وهو ميافارقين، ومن الشام حماة والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم وجبلة واللاذقية وبلاطنس ومكرابيك.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة.
ذكر استيلاء الفرنج على عكا:

واستمر حصار الفرنج لعكا إلى هذه السنة، وكانوا قد أحاطوا بها من البحر إلى البحر، وحفروا عليهم خندقاً، فلم يتمكن السلطان من الوصول إليهم، وكانوا محاصرين لعكا، وهم كالمحصورين من خارجهم من السلطان، واشتد حصارهم لعكا وطال وضعف من بها عن حفظ البلد، وعجز السلطان صلاح الدين عن دفع العدو عنهم، فخرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب من عكا، وطلب الأمان من الفرنج على مال وأسرى يقومون به للفرنج، فأجابوهم إلى ذلك، وصعدت أعلام الفرنج على عكا ظهر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من هذه السنة، واستولوا على البلد بما فيه، وحبسوا المسلمين في أماكن من البلد، وقالوا إنما نحبسهم ليقوموا بالمال والأسرى وصليب الصليوت، وكتبوا إلى السلطان صلاح الدين بذلك، فحصل ما أمكن تحصيله من ذلك، وطلب منهم إطلاق المسلمين، فلم يجيبوا إلى ذلك، فعلم منهم الغدر، واستمر أسرى المسلمين بها.
ثم قتل الفرنج من المسلمين جماعة كثيرة واستمروا بالباقين في الأسر، وبعد استيلاء الفرنج على عكا وتقرير أمرها، رحلوا عنها مستهل شعبان نحو قيسارية، والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهم، ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف، ووقع بينهم وبين المسلمين مصاف، أزالوا المسلمين عن موقفهم، ووصلوا إلى سوق المسلمين، فقتلوا من السوقية وغيرهم خلقاً كثيراً، ثم سار الفرنج إلى يافا وقد أخلاها المسلمون، فملكوها، ثم رأى السلطان تخريب عسقلان مصلحة، لئلا يحصل لها ما حصل لعكا، فسار إليها وأخلاها وخربها، ورتب الحجارين في تفليق أسوارها وتخريبها، فدكها إلى الأرض، فلما فرغ السلطان من تخريب عسقلان رحل عنها ثاني شهر رمضان إلى الرملة، فخرب حصنها وخرب كنيسة لد.
ثم سار إلى القدس وقرر أموره وعاد إلى مخيمه بالتظرون، ثامن شهر رمضان، ثم تراسل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملك الإنكتار، ويكون للملك العادل القدس، ولامرأته عكا، فحضر القسيسون وأنكروا عليها ذلك إلا أن يتنصر الملك العادل، فلم يتفق بينهم حال، ثم رحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة، وبقي في كل يوم يقع بين المسلمين وبينهم مناوشات، فلقوا من ذلك شدة شديدة، وأقبل الشتاء وحالت الأوحال بينهم، ولما رأى السلطان ذلك وقد ضجرت العساكر، أعطاهم الدستور وسار إلى القدس، لسبع بقين من في القعدة، ونزل داخل البلد واستراحوا مما كانوا فيه، وأخذ السلطان في تعمير القدس وتحصينه، وأمر العسكر بنقل الحجارة، وكان السلطان ينقل الحجارة بنفسه على فرسه، ليقتدي به العسكر فكان يجتمع عند العمالين في اليوم الواحد ما يكفيهم لعدة أيام.
ذكر وفاة الملك المظفر تقي الدين عمر كان الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قد سار إلى البلاد المرتجعة من كوكبوري، التي زاده إياها عمه السلطان من وراء الفرات، وهي حران وغيرها، فامتدت عين الملك المظفر إلى بلاد مجاوريه، واستولى على السويداء وحاني، واتقع مع بكتمر صاحب خلاط فكسره وحصره في خلاط، وتملك على معظم البلاد، ثم رحل عنها ونازل ملازكرد، وهي لبكتمر، وضايقها، وكان في صحبته ولده الملك المنصور محمد بن الملك المظفر عمر المذكور، فعرض للملك المظفر مرض شديد، وتزايد به حتى توفي يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان من هذه السنة، أعني سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فأخفى ولده الملك المنصور وفاته، ورحل عن ملازكرد ووصل به إلى حماة، ودفنه بظاهرها، وبنى إلى جانب التربة مدرسة، وذلك مشهور هناك، وكان الملك المظفر شجاعاً شديد البأس، ركناً عظيماً من أركان البيت الأيوبي، وكان عنده فضل وأدب، وله شعر حسن، واتفق أن في ليلة الجمعة التي توفي فيها الملك المظفر، توفي فيها حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين، وأمه ست الشام بنت أيوب أخت السلطان، فأصيب السلطان في تاريخ واحد بابن أخيه وابن أخته.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8