كتاب : المختصر في أخبار البشر
المؤلف : أبو الفداء
ولما مات الملك المظفر، راسل ابنه الملك المنصور، السلطان صلاح الدين، واشترط شروطاً نسبه السلطان فيها إلى العصيان، وكاد أمره يضطرب بالكلية، فراسل الملك المنصور عمه الملك العادل في استعطاف خاطر السلطان، فما برح الملك العادل بأخيه السلطان يراجعه ويشفع في الملك المنصور، حتى أجابه السلطان، وقرر للملك المنصور حماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم، وارتجع السلطان البلاد الشرقية وما معها، وأقطعها أخاه الملك العادل، بعد أن شرط السلطان أن الملك العادل ينزل عن كل ما له من الإقطاع بالشام، خلا الكرك والشوبك والصلت والبلقاء ونصف خاصه بمصر، وأن يكون عليه في كل سنة ستة آلاف غرارة، تحمل من الصلت والبلقاء إلى القدس، ولما استقر ذلك، سار الملك العادل إلى البلاد الشرقية لتقرير أمورها، فقررها وعاد إلى خدمة السلطان في آخر جمادى الآخرة من السنة القابلة، أعني سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ولما قدم الملك العادل على السلطان، كان الملك المنصور صاحب حماة صحبته، فلما رأى السلطان الملك المنصور بن تقي الدين، نهض واعتنقه وغشيه البكاء وأكرمه وأنزله في مقدمة عسكره.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة في شعبان، قتل قزل أرسلان، واسمه عثمان بن الدكز، وهو الذي ملك أذربيجان وهمذان وأصفهان والري بعد أخيه محمد البهلوان، وكان قد قوي عليه السلطان طغريل السلجوقي، وهزم عسكر بغداد كما تقدم ذكره، ثم إن قزل أرسلان تغلب واعتقل السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل في بعض البلاد، وسار قزل أرسلان بعد ذلك إلى أصفهان، وتعصب على الشفعوية وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم، وعاد إلى همذان وخطب لنفسه بالسلطنة، ودخل لينام على فراشه، وتفرق عنه أصحابه، فدخل عليه من قتله على فراشه، ولم يعرف قاتله.
وفيها قدم معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم إلى السلطان صلاح الدين، وسببه أن والده فرق مملكته على أولاده، وأعطى ولده هذا ملطية، ثم تغلب بعض إخوته على والده وألزمه بأخذ ملطية من أخيه المذكور، فخاف من ذلك، فسار إلى السلطان ملتجئاً إليه فأكرمه السلطان وزوجه بابنة أخيه الملك العادل، وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة، وقد انقطعت أطماع أخيه منه قال ابن الأثير لما ركب السلطان صلاح الدين ليودع معز الدين قيصر شاه المذكور، ترجل معز الدين له، فترجل السلطان صلاح الدين، ولما ركب السلطان صلاح الدين عضده قيصر شاه وركبه، وكان علاء الدين بن عز الدين مسعود، صاحب الموصل، مع السلطان إذ ذاك، فسوى ثياب السلطان أيضاً. فقال بعض الحاضرين في نفسه: ما بقيت تبالي يا ابن أيوب بأي موتة تموت، يركبك ملك سلجوقي، ويسوي قماشك ابن أتابك زنكي.
وفيها قتل أبو الفتح يحيى بن حنش بن أميرك، الملقب شهاب الدين السهوردي، الحكيم الفيلسوف، بقلعة حلب، محبوساً، أمر بخنقه الملك الظاهر غازي، بأمر والده السلطان صلاح الدين، قرأ المذكور الأصولين والحكمة بمراغة، على مجد الدين الجيلي، شيخ الإمام فخر الدين، ثم سافر السهروردي المذكور إلى حلب، وكان علمه أكثر من عقله، فنسب إلى انحلال العقيدة، وأنه يعتقد مذهب الفلاسفة، فأفتى الفقهاء بإباحة دمه لما ظهر من سوء مذهبه، واشتهر عنه، وكان أشدهم عليه في ذلك، زين الدين ومجد الدين ابنا جهبل حكى الشيخ سيف الدين الآمدي قال: اجتمعت بالسهروردي في حلب فقال لي: لا بد أن أملك الأرض. فقلت له من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر. فقلت: لعل يكون اشتهار علمك، وما يناسب هذا، فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه، ووجدته كثير العلم قليل العقل، وكان عمره لما قتل ثمانياً وثلاثين سنة، وله عدة مصنفات في الحكمة، منها: التلويحات والتنقيحات، والمشارع والمطارحات، وكتاب الهياكل وحكمة الإشراق، وكان ينتسب إلى أنه يعرف السيمياء وله نظم حسن فمنه:
أبداً تحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وارحمتا للعاشقين تكلفوا ... ستر المحبة والهوى فضاح
وإذا هم كتموا يحدث عنهم ... عند الوشاة المدمع السحاح
لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى ... كتمانهم فنمى الغرام وباحوا
وهي قصيدة طويلة اقتصرنا منها على هذا القدر.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة فيها سار الفرنج إلى عسقلان وشرعوا في عمارتها في المحرم، والسلطان بالقدس. وفيها قتل المركيس صاحب صور، لعنه الله تعالى، قتله بعض الباطنية، وكانوا قد دخلوا في زي الرهبان إلى صور.
ذكر عقد الهدنة مع الفرنج، وعود السلطان إلى دمشق وسبب ذلك أن ملك الأنكتار مرض، وطال عليه البيكار، فكاتب الملك العادل يسأله الدخول على السلطان في الصلح، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، ثم اتفق رأي الأمراء على ذلك لطول البيكار، وضجر العسكر. ونفاد نفقاتهم، فأجاب السلطان إلى ذلك واستقر أمر الهدنة، في يوم السبت ثامن عشر شعبان، وتحالفوا على ذلك في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان، ولم يحلف ملك الأنكتار بل أخذوا يده وعاهدوه، واعتذر بأن الملوك لا يحلفون، وقنع السلطان بذلك، وحلف الكندهري ابن أخيه وخليفته في الساحل، وكذلك حلف غيره من عظماء الفرنج، ووصل ابن الهنفري وباليان إلى خدمة السلطان ومعهما جماعة من المقدمين، وأخذوا يد السلطان على الصلح، واستحلفوا الملك العادل أخا السلطان، والملك الأفضل، والظاهر، ابني السلطان، والملك المنصور صاحب حماة، محمد بن تقي الذين عمر، والملك المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص، والملك الأمجد بهرام شاه بن فرخشاه صاحب بعلبك، والأمير بدر الدين أيلدرم الباروقي صاحب تل باشر، والأمير سابق الدين عثمان ابن الداية صاحب شيرز، والأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وغيرهم من المقدمين الكبار، وعقدت هدنة عامة في البحر والبر وجعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر. أولها أيلول الموافق لحادي وعشرين من شعبان.
وكانت الهدنة على أن يستقر بيد الفرنج يافا وعملها، وقيسارية وعملها، وأرسوف وعملها، وحيفا وعملها، وعكا وعملها، وأن تكون عسقلان خراباً، واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في عقد هدنته، واشترط الفرنج دخول صاحب أنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم، وأن يكون لد والرملة مناصفة بينهم وبين المسلمين، فاستقرت القاعدة على ذلك.
ثم رحل السلطان إلى القدس في رابع شهر رمضان، وتفقد أحواله وأمر بتشييد أسوار، وزاد في وقف المدرسة التي عملها بالقدس، وهذه المدرسة كانت قبل الإسلام تعرف بصندحنة، يذكرون أن فيها قبر حنة أم مريم، ثم صارت في الإسلام دار علم قبل أن يتملك الفرنج بالقدس، ثم لما ملك الفرنج القدس في سنة اثنين وتسعين وأربعمائة، أعادوها كنيسة كما كانت قبل الإسلام، فلما فتح السلطان القدس أعادها مدرسة، وفوض تدريسها ووقفها إلى القاضي بهاء الدين بن شداد. ولما استقر أمر الهدنة أرسل السلطان مائة حجار لتخريب عسقلان، وأن يخرج من بها من الفرنج، وعزم على الحج والإحرام من القدس، وكتب إلى أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن بذلك، ثم فنده الأمراء وقالوا: لا نعتمد على هدنة الفرنج خوفاً من غدرهم، فانتقض عزمه عن ذلك، ثم رحل السلطان عن القدس لخمس مضين من شوال إلى نابلس، ثم سار إلى بيسان، ثم إلى كوكب، فبات بقلعتهما، ثم رحل إلى طبرية ولقيه بها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، وقد خلص من الأسر، وكان قد أسر بعكا لما أخذها الفرنج مع من أسر، فسار قراقوش مع السلطان إلى دمشق، ثم سار منها قراقوش إلى مصر.
ثم سار السلطان إلى بيروت ووصل إلى خدمته بيمند صاحب أنطاكية يوم السبت حادي وعشرين شوال، فأكرمه السلطان وفارقه غد ذلك اليوم، وسار السلطان إلى دمشق ودخلها يوم الأربعاء لخمس بقين من شوال وفرح الناس به لأن غيبته كانت عنهم مدة أربع سنين، وأقام العدل والإحسان بدمشق، وأعطى السلطان العساكر الدستور، فودعه ولده الملك الظاهر وداعاً لا لقاء بعده، وسار إلى حلب، وبقي عند السلطان بدمشق ولده الملك الأفضل، والقاضي الفاضل، وكان الملك العادل قد استأذن السلطان وسار من القدس إلى الكرك لينظر في مصالحه، ثم عاد الملك العادل إلى دمشق طالباً البلاد الشرقية التي صارت له بعد تقي الدين، فوصل إلى دمشق في الحادي والعشرين من ذي القعدة، وخرج السلطان إلى لقائه.
وفي يوم الخميس السادس والعشرين من شوال من هذه السنة، توفي الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب بنابلس، وكانت إقطاعه، فوقف السلطان ثلث نابلس على مصالح القدس، وأقطع الباقي للأمير عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب، وأميرين معه.
ذكر وفاة السلطان عز الدين قليج أرسلان صاحب بلاد الروم وأخبار الذين تولوا بعده في هذه السنة، أعني سنة ثمان وثمانين وخمسمائة في منتصف شعبان، توفي السلطان عز الدين قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطالوش بن أرسلان يبغو بن سلجوق. وكان ملكه في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وكان ذا سياسة حسنة، رهيبة عظيمة، وعدل وافر، وغزوات كثيرة، وكان له عشرة بنين، قد ولى كل واحد منهم قطراً من بلاد الروم، وأكبرهم قطب الدين ملكشاه بن قليج أرسلان المذكور، وكان قد أعطاه أبوه سيواس، فسولت له نفسه القبض على أبيه وإخوته والانفراد بالسلطنة، وساعده على ذلك صاحب أرزنكات، فسار قطب الدين ملكشاه وهجم على والده قليج أرسلان بمدينة قونية. وقبض عليه، وقال لوالده وهو في قبضته: أنا بين يديك أنفذ أوامرك. ثم إنه أشهد على والده بأنه قد جعله ولي عهده. ثم مضى ملكشاه المذكور إلى حرب أخيه نور الدين سلطان شاه، صاحب قيسارية، ووالده في القبضة معه، وهو يظهر أن ما يفعله إنما هو بأمر والده، فخرج عسكر قيسارية لحربه، فوجد أبوه عز الدين قليج أرسلان عند اشتغال العسكر بالقتال فرصة، فهرب إلى ولده سلطان شاه صاحب قيسارية، فأكرمه وعظمه كما يجب عليه، فرجع قطب الدين ملكشاه إلى قونية وخطب لنفسه بالسلطنة، وبقي أبوه قليج أرسلان يتردد في بلاده بين أولاده، كلما ضجر منه واحد منهم ينتقل إلى الآخر، حتى حصل عند ولده غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب برغلو فقوى أباه قليج أرسلان، وأعطاه وجمع له وحشد وسار معه إلى قونية، فملكها وأخذها من ابنه ملكشاه، ثم سار إلى أقصرا، فاتفق أن عز الدين قليج أرسلان مرض ومات في التاريخ المذكور، فأخذه ولده كيخسرو وعاد به إلى قونية فدفنه بها. واتفق موت ملكشاه بعد موت أبيه قليج أرسلان بقليل، فاستقر كيخسرو في ملك قونية وأثبت أنه ولي عهد أبيه قليج أرسلان.
ثم إن ركن الدين سليمان أخا غياث الدين كيخسرو قوي على أخيه كيخسرو، وأخذ منه قونية، فهرب كيخسرو إلى الشام مستجيراً بالملك الظاهر صاحب حلب، ثم مات ركن الدين سليمان سنة ستمائة، وملك بعده ولده قليج أرسلان بن سليمان، فرجع غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان إلى بلاد الروم، وأزال ملك قليج أرسلان بن سليمان وملك بلاد الروم جميعها، واستقرت له السلطنة ببلاد الروم، وبقي كذلك إلى أن قتل، وملك بعده ابنه عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو، ثم توفي كيكاؤوس وملك بعده أخوه السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو، وتوفي علاء الدين كيقباذ سنة أربع وثلاثين وستمائة، وملك بعده ولده غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو، كسره التتر سنة إحدى وأربعين وستمائة، وتضعضع حينئذ ملك السلاطين السلجوقية ببلاد الروم، ثم مات غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق، وانقضى بموت كيخسرو المذكور سلاطين بلاد الروم في الحقيقة لأن من صار بعده لم يكن له من السلطنة غير مجرد الاسم، وخلف كيخسرو المذكور صبيين هما: ركن الدين، وعز الدين. فملكا معاً مدة مديدة، ثم انفرد ركن الدين بالسلطنة وهرب أخوه عز الدين إلى قسطنطينية، وتغلب على ركن الدين، معين الدين البرواناه، والبلاد في الحقيقة للتتر، ثم إن البرواناه قتل ركن الدين، وأقام ابناً لركن الدين يخطب له بالسلطنة والحكم للبرواناه، وهو نائب التتر على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة غزا شهاب الدين الغوري الهند فغنم وقتل ما لا يحصى وفيها خرج السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل من الحبس، بعد قتل قزل أرسلان بن الدكز، وكان قزل قد اعتقله حسبما تقدم ذكره في سنة سبع وثمانين وخمسمائة.
وفيها توفي راشد الدين سنان بن سليمان بن محمد، وكنيته أبو الحسن، صاحب دعوة الإسماعيلية بقلاع الشام، وأصله من البصرة.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
ذكر وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب بن شادي، وشيء عن أخباره دخلت هذه السنة والسلطان بدمشق، على أكمل ما يكون من المسرة، وخرج إلى شرقي دمشق متصيداً، وغاب خمسة عشر يوماً، وصحبة أخوه الملك العادل. ثم عاد إلى دمشق وودعه أخوه الملك العادل وداعاً لا لقاء بعده، فمضى إلى الكرك وأقام فيه حتى بلغه وفاة السلطان، وأقام السلطان بدمشق، وركب في يوم الجمعة خامس عشر صفر وتلقى الحجاج، وكان عادته ألا يركب إلا وهو لابس كزاغند، فركب ذلك اليوم، وقد اجتمع بسبب ملتقى الحجاج وركوبه عالم عظيم، ولم يلبس الكزاغند، ثم ذكره وهو راكب، فطلب الكزاغند فلم يجده، وقد حملوه معه، ولما التقى الحجاج استعبرت عيناه كيف فاته الحج، ووصل إليه مع الحجاج ولد أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن. ثم عاد السلطان بين البساتين إلى جهة المنيبع، ودخل إلى القلعة على الجسر إليها، وكانت هذه آخر ركباته، فلحقه ليلة السبت سادس عشر صفر كسل عظيم، وغشيه نصف الليل حمى صفراوية، وأخذ المرض في التزايد، وقصده الأطباء في الرابع، فاشتد مرضه، وحدث به في التاسع رعشة، وغاب ذهنه وامتنع من تناول المشروب، واشتد الإرجاف في البلد، وغشي الناس من الحزن والبكاء عليه ما لا يمكن حكايته، وحقن في العاشر حقنتين، فحصل له راحة، وتناول من ماء الشعير مقداراً صالحاً، ثم لحقه عرق كثير حتى نفذ من الفراش، واشتد المرض ليلة الثاني عشر من مرضه، وهي ليلة السابع والعشرين من صفر، وحضر عنده الشيخ أبو جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده في القلعة، بحيث إن احتضر بالليل ذكره الشهادة، وتوفي السلطان في الليلة المذكورة، أعني في الليلة المستقرة عن نهار الأربعاء السابع والعشرين من صفر، بعد صلاة الصبح، من هذه السنة، أعني سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
وبادر القاضي الفاضل بعد صلاة الصبح فحضر وفاته، ووصل القاضي بهاء الدين بن شداد بعد موته وانتقاله إلى رحمة الله وكرامته، وغسله الفقيه الدولعي خطيب دمشق، وأخرج بعد صلاة الظهر من نهار الأربعاء المذكور في تابوت مسجى بثوب، وجميع ما احتاجوا من الثياب في تكفينه أحضره القاضي الفاضل من جهة حل عرفه، وصلى عليه الناس ودفن في قلعة دمشق، في الدار التي كان مريضاً فيها، وكان نزوله إلى جدثه وقت صلاة العصر من النهار المذكور، وكان الملك الأفضل ابنه قد حلف الناس له قبل وفاة والده عندما اشتد مرضه، وجلس للعزاء في القلعة، وأرسل الملك الأفضل على الكتب بوفاة والده إلى أخيه العزيز عثمان بمصر، وإلى أخيه الظاهر غازي بجلب، وإلى عمه الملك العادل أبي بكر بالكرك. ثم إن الملك الأفضل عمل لوالده تربة قرب الجامع، وكانت داراً لرجل صالح، ونقل إليها السلطان يوم عاشورا سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ومشى الملك الأفضل بين يدي تابوته، وأخرج من باب القلعة على دار الحديث إلى باب البريد، وأدخل الجامع ووضع قدام الستر وصلى عليه القاضي محيط الدين بن القاضي زكي الدين، ثم دفن وجلس ابنه الملك الأفضل في الجامع ثلاثة أيام للعزاء، وأنفقت ست الشام بنت أيوب أخت السلطان في هذه النوبة أموالاً عظيمة.
وكان مولد السلطان صلاح الدين بتكريت، في شهور سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، فكان عمره قريباً من سبع وخمسين سنة، وكانت مدة ملكه للديار المصرية نحو أربع وعشرين سنة، وملكه الشام قريباً من تسع عشرة سنة، وخلف سبعة عشر ولدا ذكراً، وبنتاً واحدة، وكان أكبر أولاده الملك الأفضل نور الدين علي بن يوسف، ولد بمصر سنة خمس وستين وخمسمائة، وكان العزيز عثمان أصغر منه بنحو سنتين، وكان الظاهر صاحب حلب أصغر منهما، وبقيت البنت حتى تزوجها ابن عمها الملك الكامل صاحب مصر، ولم يخلف السلطان صلاح الدين في خزانته غير سبعة وأربعين درهماً، وحرم واحد صوري، وهذا من رجل له الديار المصرية والشام وبلاد الشرق واليمن، دليل قاطع على فرط كرمه، ولم يخلف داراً ولا عقاراً. قال العماد الكاتب: حسبت ما أطلقه السلطان في مدة مقامه بمرج عكا من خيل عراب وأكاديش، فكان اثني عشر ألف رأس، وذلك غير ما أطلقه من أثمان الخيل المصابة في القتال، ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو مرهوب، أو موعود به، ولم يؤخر صلاة عن وقتها، ولا صلى إلا في جماعة، وكان إذا عزم على أمر توكل على الله، ولا يفضل يوماً على يوم، وكان كثير سماع الحديث النبوي، قرأ مختصراً في الفقه تصنيف سليم الداري، وكان حسن الخلق صبوراً على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب صحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه، وكان يوماً جالساً، فرمى بعض المماليك بعضاً بسر موزة، فأخطأته ووصلت إلى السلطان فأخطأته ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى ليتغافل عنها، وكان طاهر المجلس فلا يذكر أحد في مجلسه إلا بالخير، وطاهر اللسان، فما يولع بشمتم قط.
قال العماد الكاتب: مات بموت السلطان الرجال، وفات بوفاته الأفضال، وغاضت الأيادي، وفاضت الأعادي، وانقطعت الأرزاق، وادلهمت الآفاق، وفجع الزمان بواحده وسلطانه، ورزئ الإسلام بمشيد أركانه.
ذكر ما استقر عليه الحال بعد وفاة السلطان لما توفي السلطان الملك الناصر صلاح الدين، استقر في الملك بدمشق وبلادها المنسوبة إليها، ولده الملك الأفضل نور الدين علي وبالديار المصرية العزيز عماد الدين عثمان. وبحلب الملك الظاهر غياث الدين غازي. وبالكرك والشوبك والبلاد الشرقية الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب. وبحماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر. وببعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب. وبحمص والرحبة وتدمر شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذي. وبيد الملك الظافر خضر بن السلطان صلاح الدين بصرى، وهو في خدمة أخيه الملك الأفضل، وبيد جماعة من أمراء الدولة بلاد وحصون، منهم سابق الدين عثمان بن الداية، بيده شيزر، وأبو قبيس، وناصر الدين بن كورس بن خمار دكين بيده صهيون وحصن برزية. وبدر الدين دلدرم بن بهاء الدين ياروق بيده تل باشر. وعز الدين أسامة بيده كوكب وعجلون. وعز الدين إبراهيم بن شمس الدين بن المقدم بيده بعرين وكفر طاب وفامية. والملك الأفضل هو الأكبر من أولاد السلطان والمعهود إليه بالسلطنة، واستوزر الملك الأفضل ضياء الدين نصر الله بن محمد بن الأثير مصنف المثل السائر، وهو أخو عز الدين بن الأثير مؤلف التاريخ المسمى بالكامل، فحسن للملك الأفضل طرد أمراء أبيه، ففارقوه إلى أخويه العزيز والظاهر.
قال العماد الكاتب: وتفرد الوزير في توزره، ومد الجزري في جزره، ولما اجتمعت أكابر الأمراء بمصر حسنوا للملك العزيز الانفراد بالسلطنة، ووقعوا في أخيه الأفضل، فمال إلى ذلك، وحصلت الوحشة بين الأخوين الأفضل والعزيز.
وفي هذه السنة بعد موت السلطان قدم الملك العادل من الكرك إلى دمشق، وأقام فيها وظيفة العزاء على أخيه، ثم توجه إلى بلاده التي وراء الفرات.
ذكر حركة عز الدين مسعود صاحب الموصل إلى البلاد الشرقية التي بيد الملك العادل وعوده وموته
في هذه السنة لما مات السلطان صلاح الدين، كاتب عز الدين مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب ملوك البلاد المجاورين للموصل يستنجدهم ولذلك اتفق مع أخيه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي صاحب سنجار، وسار إلى جهة حران وغيرها، فلحق عز الدين مسعود إسهال قوي وضعف فترك العسكر مع أخيه عماد الدين وعاد إلى الموصل، وصحبته مجاهد الدين قيماز، فحلف العسكر عز الدين لابنه أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن أقسنقر، وقوي بعز الدين مسعود المرض، وتوفي في السابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، فكانت مدة ما بين وفاته ووفاة السلطان صلاح الدين نصف سنة، وكانت مدة ملك عز الدين مسعود للموصل ثلاث عشرة سنة وستة أشهر، وكان ديناً خيراً كثير الإحسان، وكان أسمر مليح الوجه خفيف العارضين، يشبه جده عماد الدين زنكي، واستقر في ملك الموصل بعده ولده أرسلان شاه، وكان القيم بأمره، مجاهد الدين قيماز.
ذكر قتل بكتمر صاحب أخلاط في هذه السنة في أول جمادى الأولى، قتل سيف الدين بكتمر صاحب أخلاط، وكان بين قتله وبين موت السلطان صلاح الدين شهران ولما بلغ بكتمر موت السلطان صلاح الدين، سرف في إظهار الشماتة بموت السلطان، وضرب البشائر ببلاده، وفرح فرحاً كثيراً، وعمل تختاً يجلس عليه، ولقب نفسه السلطان المعظم صلاح الدين، وكان اسمه بكتمر، فسمى نفسه الملك العزيز، فلم يمهله الله تعالى، وكان هذا بكتمر من مماليك ظهير الدين شاهرمن، وكان له خشداش اسمه هزار ديناري، وكان قد قوي وتزوج ابنة بكتمر، وطمع في الملك، فوضع على بكتمر من قتله، ولما قتل ملك بعده هزار ديناري خلاط وأعمالها، واسم هزار ديناري المذكور أقسنقر، ولقبه بدر الدين، جلبه تاجر جرجاني اسمه علي إلى أخلاط، فاشتراه منه شاهرمن سكمان بن إبراهيم، وأعجب به شاهرمن، فجعله ساقياً له، ولقبه هزار ديناري، وبقي على ذلك برهة من الزمان، فلما تولى بكتمر على مملكة أخلاط، بقي المذكور من أكبر الأمراء، وتزوج ببنت بكتمر عينا خاتون، فلما قتل بكتمر خلف ولداً، فأخذ هزار ديناري المذكور ولد بكتمر وأمه، واعتقلهما بقلعة أرزاس بموش، وكان عمر ابن بكتمر إذ ذاك نحو سبع سنين، واستمر بدر الدين أقسنقر هزار ديناري في مملكة أخلاط حتى توفي في سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وحسبما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلك في هذه السنة شتى شهاب الدين الغوري في برشاوور، وجهز مملوكه أيبك في عساكر كثيرة إلى بلاد الهند، ففتح وغنم وعاد منصوراً مؤيداً. وفيها توفي سلطان شاه بن أرسلان بن أطسز ابن محمد بن أنوشتكين، وكان قد ملك مرو وخراسان، ولما مات انفرد أخوه تكش بالمملكة، وقد تقدم ذكرهما في سنة ثمان وستين وخمسمائة.
وفيها مات الأمير داود بن عيسى بن محمد بن أبي هاشم أمير مكة، وما زالت إمارة مكة له تارة، ولأخيه مكثر تارة، حتى مات.
ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة.
ذكر قتل طغريل وملك خوارزم شاه الري كان طغريل بن أرسلان بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل السلجوقي، قد حبسه قزل أرسلان بن الدكز، وخرج طغريل من الحبس في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وملك همذان وغيرها وجرى حرب بينه وبين مظفر الدين أزبك بن البهلوان محمد ابن الدكز، وقيل بل هو قطلغ إينانج أخو أزبك المذكور، فانهزم ابن البهلوان، ثم إن ابن البهلوان بعد هزيمته استنجد بخوارزم شاه علاء الدين تكش، فخاف منه، فلم يجتمع بخوارزم شاه، فسار خوارزم شاه تكش وملك الري، وذلك في سنة ثمان وثمانين.
وبلغ تكش أن أخاه سلطان شاه قد قصد خوارزم، فصالح طغريل السلجوقي وعاد تكش إلى خوارزم، وبقي الأمر كذلك حتى مات سلطان شاه في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فتسلم تكش مملكة أخيه سلطان شاه وخزانته، وولى ابنه محمد بن تكش نيسابور، وولى ابنه الأكبر ملكشاه بن تكش مرو.
ولما دخلت سنة تسعين سار تكش إلى حرب طغريل السلجوقي، فسار طغريل إلى لقائه قبل أن يجمع عساكره، والتقى العسكران بالقرب من الري، وحمل طغريل بنفسه. فقتل، وكان قتله في الرابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وحمل رأس طغريل إلى تكش، فأرسله إلى بغداد، فنصب بها عدة أيام، وسار تكش فملك همذان وتلك البلاد جميعها، وسلم بعضها إلى ابن البهلوان، وأقطع بعضها لمماليكه، ورجع إلى خوارزم.
وهذا طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، هو آخر السلاطين السلجوقية الذين ملكوا بلاد العجم، وقد تقدم ذكر ابتداء الدولة السلجوقية في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وأول من ملك منه العراق وأزال دولة بني بويه، طغريل بك ابن ميكائيل بن سلجوق. ثم ملك بعده ابن أخيه ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل ثم ابنه ملكشاه بن ألب أرسلان ثم ابنه محمود بن ملكشاه، وكان طفلاً، فقامت بتدبير المملكة أم محمود تركان خاتون، ومات محمود وهو ابن سبع سنين، وملك أخوه بركيارق بن ملكشاه. ثم أخوه محمد بن ملكشاه. ثم ابنه محمود بن محمد المذكور. ثم ابنه داود بن محمود ابن محمد المذكور مدة يسيرة. ثم عمه طغريل بن محمد. ثم أخوه مسعود بن محمد. ثم ابن أخيه ملكشاه بن محمود بن محمد أياماً يسيرة، ثم أخوه محمد بن محمود، ثم بعد محمد المذكور اختلفت العساكر وقام من بني سلجوق ثلاثة، أحدهم ملكشاه بن محمود أخو محمد المذكور، والثاني سليمان شاه بن محمد ابن السلطان ملكشاه، وهو عم محمد المذكور، والثالث أرسلان شاه بن طغريل بن محمد ابن السلطان ملكشاه. وكان الدكز مزوجاً بأم أرسلان شاه المذكور، فقوي عليهما سليمان شاه واستقر في همدان في سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ثم قبض سليمان شاه وقتل، وكذلك سم ملكشاه بن محمود المذكور ومات بأصفهان في السنة المذكورة، أعني سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وانفرد بالسلطنة أرسلان شاه بن طغريل ربيب الدكز، ثم ملك بعده ابنه طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل المذكور، في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وجرى له ما ذكرناه حتى قتله تكش في هذه السنة، أعني سنة تسعين وخمسمائة، وانقرضت به الدولة السلجوقية من تلك البلاد.
ذكر غير ذلك في هذه السنة أرسل الخليفة الإمام الناصر، عسكراً مع وزيره مؤيد الدين محمد بن علي، المعروف بابن القصاب، إلى خورستان، وهي بلاد شملة وأولاده من بعده، وكان قد مات صاحبها ابن شملة، فاختلفت أولاده، فوصل عسكر الخليفة إلى خورستان وملكوا مدينة تستر في المحرم سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وغيرها من البلاد وكذلك ملكوا قلعة الناطر، وقلعة كاكرد، وقلعة لاموج وغيرها من القلاع والحصون، فأنفذوا بني شملة أصحاب بلاد خورستان إلى بغداد.
وفي هذه السنة أعني سنة تسعين و خمسمائة، استحكمت الوحشة بين الأخوين العزيز والأفضل ابني السلطان صلاح الدين، فسار العزيز في عسكر مصر وحصر أخاه الأفضل بدمشق، فأرسل الأفضل إلى عمه العادل وأخيه الظاهر وابن عمه الملك المنصور صاحب حماة يستنجدهم، فساروا إلى دمشق وأصلحوا بين الأخوين، ورجع العزيز إلى مصر، ورجع كل ملك إلى بلده، وأقبل الملك الأفضل بدمشق على شرب الخمر وسماع الأغاني والأوتار ليلاً ونهاراً، وأشاع ندماؤه أن عمه الملك العادل حسن له ذلك، وكان يعمله بالخفية فأنشده العادل:
فلا خير في اللذات من دونها ستر
فقبل وصية عمه وتظاهر بذلك، وفوض أمر المملكة إلى وزيره ضياء الدين بن الأثير الجزري يدبرها برأيه الفاسد. ثم إن الملك الأفضل أظهر التوبة عن ذلك، وأزال المنكرات، وواظب على الصلوات، وشرع في نسخ مصحف بيده.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وفيها سار ابن القصاب وزير الخليفة بعد ملك خورستان إلى همذان، فملكها وملك غيرها من بلاد العجم، وأخذ يستولي على سائر البلاد للخليفة، فتوفي مؤيد الدين بن القصاب المذكور في أوائل شعبان، سنة اثنين وتسعين وخمسمائة.
وفيها غزا ملك الغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الفرنج بالأندلس، وجرى بينهم مصاف عظيم، انتصر فيه المسلمون، وقتل من الفرنج ما لا يحصى وولوا منهزمين، وغنم المسلمين منهم ما لا يحصى.
وفيها جهز الخليفة الإمام الناصر عسكراً مع مملوك له يقال له سيف الدين طغريل، فاستولوا على أصفهان. وفيها قدم مماليك البهلوان عليهم مملوكاً من البهلوانية، يقال له كلجا، فعظم أمر كلجا واستولى على الري وهمذان.
وفيها عاود الملك العزيز عثمان صاحب مصر قصد الشام ومنازلة أخيه الملك الأفضل، فسار ونزل الغوار من أرض السواد من بلاد دمشق، فاضطرب بعض عسكر العزيز عليه، وهم طائفة من الأمراء الأسدية، وفارقوه، فبادر العزيز العود إلى مصر بمن بقي معه من العسكر، وكان الملك الأفضل قد استنجد بعمه الملك العادل لما قصده أخوه العزيز.
فلما رحل العزيز عائداً إلى مصر، رحل الملك الأفضل وعمه العادل ومن انضم إليهما من الأسدية، وساروا في إثر العزيز طالبين مصر، فساروا حتى نزلوا على بلبيس وقد ترك فيها العزيز جماعة من الصلاحية، وقصد الملك الأفضل مناجزتهم بالقتال فمنعه العادل عن ذلك، فقصد الأفضل المسير إلى مصر والاستيلاء عليهما، فمنعه عمه العادل أيضاً عن ذلك، وقال: مصر لك متى شئت، وكاتب العادل العزيز في الباطن، وأمره بإرسال القاضي الفاضل ليصلح بين الأخوين، وكان القاضي الفاضل قد اعتزل عن ملابستهم لما رأى من فساد أحوالهم، فدخل عليه الملك العزيز وسأله، فتوجه القاضي الفاضل من القاهرة إلى عند الملك العادل، واجتمع به واتفقا على أن يصلحا بين الأخوين، فأصلحا بينهما، وأقام الملك العادل بمصر عند العزيز ابن أخيه ليقرر أمور مملكته، وعاد الأفضل إلى دمشق.
وفيها كان بين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب، وبين الفرنج بالأندلس شمالي قرطبة حروب عظيمة، انتصر فيها يعقوب، وانهزم الفرنج.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة فيها سار شهاب الدين الغوري صاحب غزنة إلى بلاد الهند، وفتح قلعة عظيمة تسمى بهنكر بالأمان، ثم سار إلى قلعة كوكير وبينهما نحو خمسة أيام، فصالحه أهلها على مال حملوه إليه، ثم سار في بلاد الهند فغنم وأسر وعاد إلى غزنة.
وفيها قتل صدر الدين محمد بن عبد اللطيف بن محمد الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان، وهو الذي سلم أصفهان إلى عسكر الخليفة، قتله سنقر الطويل شحنة للخليفة، بسبب منافرة جرت بينهما.
وفيها نقل الملك الأفضل أباه السلطان صلاح الدين من قلعة دمشق إلى التربة بالمدينة، في صفر، فكان مدة لبثه بالقلعة ثلاث سنين، ولزم الملك الأفضل الزهد والقناعة، وأموره مفوضة لوزيرة ضياء الدين بن الأثير الجزري، وقد اختلفت الأحوال به وكثر شاكوه وقل شاكروه.
ذكر انتزاع دمشق من الملك الأفضل
لما بلغ الملك العادل في مصر والملك العزيز، اضطراب الأمور على الملك الأفضل، اتفق العادل مع العزيز على أن يأخذا دمشق، وأن يسلمها العزيز إلى العادل، لتكون الخطبة والسكة للعزيز بسائر البلاد، كما كانت لأبيه، فخرجا وسارا من مصر، فأرسل الأفضل إليهما ذلك الدين، وهو أحد أمرائه، وكان فلك الدين أخاً الملك لعادل لأمّه، واجتمع فلك الدين بالملك العادل فأكرمه وأظهر الإجابة إلى ما طلبه، أتم العادل والعزيز السير حتى نزلا على دمشق، وقد حصنها الملك الأفضل، فكاتب بعض الأمراء من داخل البلد، الملك العادل، وصاروا معه، وأنهم يسلمون المدينة إليه، فزحف الملك العادل والملك العزيز ضحى يوم الأربعاء السادس والعشرين من رجب من هذه السنة، فدخل الملك العزيز من باب الفرج، والملك العادل من باب توما، فأجاب الملك الأفضل إلى تسليم القلعة، وانتقل منها بأهله وأصحابه، وأخرج وزيره ضياء الدين بن الأثير مختفياً في صندوق خوفاً عليه من القتل، وكان الملك ظافر خضر ابن السلطان صلاح الدين صاحب بصرى مع أخيه الملك الأفضل ومعاضداً له، فأخذت منه بصرى أيضاً، فلحق بأخيه الملك الظاهر، فأقام عنده بحلب، وأعطى الملك الأفضل صرخد، فسار إليها بأهله واستوطنها، ودخل الملك العزيز إلى دمشق يوم الأربعاء رابع شعبان، ثم سلم دمشق إلى عمه الملك العادل على حكم ما كان وقع عليه الاتفاق بينهما، وتسلمها الملك العادل، ورحل الملك العزيز من دمشق عشية يوم الاثنين تاسع شعبان، وكانت مدة ملك الملك الأفضل لدمشق ثلاث سنين وشهراً، وأبقى الملك العادل السكة والخطبة بدمشق للملك العزيز، ولما استقر الملك الأفضل بصرخد، كتب إلى الخليفة الإمام الناصر يشكو من عمه العادل أبي بكر، وأخيه العزيز عثمان، وأول الكتاب:
مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غصبا بالسيف حق عليّ
فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقى من الأول
فكتب الإمام الناصر جوابه:
وافا كتابك يا ابن يوسف معلناً ... بالصدق يخبر أن أصلك طاهر
غصبوا علياً حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر
فاصبر فإن غداً عليه حسابهم ... وأبشر فناصرك الإمام الناصر
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة في هذه السنة توفي ملكشاه بن تكش بنيسابور، وكان أبوه خوارزم شاه تكش، قد جعله فيها وجعل له الحكم على تلك البلاد، وجعله ولي عهده، وخلف ملك شاه ولداً اسمه هندوخان، فلما مات ملكشاه، جعل تكش فيها عوضه ولده الآخر قطب الدين محمد، وهو الذي ملك بعد أبيه، وغير لقبه عن قطب الدين، وجعله علاء الدين، وكان بين الأخوين ملكشاه وقطب الدين عداوة مستحكمة.
ذكر وفاة سيف الإسلام في هذه السنة في شوال، توفي سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب صاحب اليمن، ولما مات سيف الإسلام، كان ولده الملك العزيز إسماعيل بالسمرين، فبعث إليه جمال الدولة كافور، جماعة من الجند، فعرفوه بوفاة ولده ومضوا به إلى ممالك أبيه، فسلموها إليه، وكانت وفاة سيف الإسلام بزبيد، وكان شديد السيرة، مضيقاً على رعيته، يشتري أموال التجار لنفسه ويبيعها كيف شاء، وجمع من الأموال ما لا يحصى، حتى أنه كان يسبك الذهب وجعله كالطاحون ويدخره.
ثم دخلت. سنة أربع وتسعين وخمسمائة في هذه السنة في المحرم توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب سنجار والخابور والرقة، وكان حسن السيرة متواضعاً يحب أهل العلم، إلا أنه كان بخيلاً شديد البخل، وملك بعده ولده قطب الدين حمد بن زنكي، وتولى تدبير دولته مجاهد الدين بزنقش مملوك أبيه.
وفيها في جمادى الأولى سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي صاحب الموصل إلى نصيبين، فاستولى عليها وأخذها من ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي، فأرسل قطب الدين محمد واستنجد بالملك العادل، فسار الملك العادل إلى البلاد الجزرية، ففارق نور الدين أرسلان شاه نصيبين وعاد إلى الموصل، فعاد قطب الدين محمد بن زنكي وتسلم نصيبين.
وفيها سار خوارزم شاه تكش إلى بخارى، وهي للخطا، وحاصرها وملكها، وكان تكش أعور، فأخذ أهل بخارى في مدة الحصار كلباً أعور وألبسوه قباً وقالوا للخوارزمية: هذا سلطانكم، ورموه بالمنجنيق إليهم، فلما ملكها خوارزم شاه تكش، أحسن إلى أهل بخارى وفرق فيهم أموالاً، ولم يؤاخذهم بما فعلوه في حقه.
وفيها وصل جمع عظيم من الفرنج إلى الساحل واستولوا على قلعة بيروت، وسار الملك العادل ونزل بتل العجول، وأتته النجدة من مصر، ووصل إليه سنقر الكبير صاحب القدس، وميمون القصري صاحب نابلس، ثم سار الملك العادل إلى يافا وهجمها بالسيف وملكها، وقتل الرجال المقاتلة، وكان هذا الفتح، ثالث فتح لها، ونازلت الفرنج تبنين، فأرسل الملك العادل إلى الملك العزيز صاحب مصر، فسار الملك العزيز بنفسه بمن بقي عنده من عساكر مصر، واجتمع بعمه الملك العادل على تبنين، فرحل الفرنج على أعقابهم إلى صور خائبين، ثم عاد الملك العزيز إلى مصر وترك غالب العسكر مع عمه العادل، وجعل إليه أمر الحرب والصلح، ومات في هذه المدة سنقر الكبير، فجعل الملك العزيز أمر القدس إلى صارم الدين قطلق، مملوك عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، ولما عاد الملك العزيز إلى مصر في هذه المدة، مدحه القاضي ابن سنا الملك بقصيدة منها:
قدمت بالسعد وبالمغنم ... كذا قدوم الملك المقدم
قميصك الموروث عن يوسف ... ما جاء إلا صادقاً في الدم
أغثت تبنين وخلصتها ... فريسة من ماضغي ضيغم
شنشنة تعرف من يوسف ... في النصر لا تعرف من أخزم
مقدمه صار جمادى به ... كمثل ذي الحجة ذا موسم
ثم طاول الملك العادل الفرنج، فطلبوا الهدنة، واستقرت بينهم ثلاث سنين، ورجع الملك العادل إلى دمشق، ثم سار الملك العادل من دمشق إلى ماردين وحصرها، وصاحبها حينئذ يولق أرسلان بن أيلغازي بن إلبي بن تمرتاش بن أيلغازي ابن أرتق، وليس ليولق أرسلان من الحكم شيء، وإنما الحكم إلى مملوك والده البقش.
ذكر أخبار ملوك خلاط وفيها توفي صاحب خلاط بدر الدين أقسنقر هزارديناري، وقد تقدم ذكر ملكه الخلاط في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، ولما توفي هزارديناري استولى على خلاط بعده خشداشه قتلغ وكان مملوكاً أرمني الأصل من سناسنة، فملك خلاط نحو سبعة أيام، ثم اجتمع عليه الناس وأنزلوه من القلعة، ثم وثبوا عليه فقتلوه، فلما قتل قتلغ، اتفق كبراء الدولة فأحضروا محمد بن بكتمر من القلعة التي كان معتقلاً فيها، واسمها أرزاس، وأقاموه في مملكة خلاط ولقبوه الملك المنصور، وقام بتدبير أمره شجاع الدين قتبز الدوادار، وكان قتلغ المذكر قفجاقي الجنس، دوادار الشاهر من سكمان بن إبراهيم، واستقر ابن بكتمر كذلك إلى سنة اثنتين وستمائة، فقبض على أتابكه قتلغ المذكور وحبسه، ثم قتله، فخرج عليه مملوك شاهرمن يقال له عز الدين بلبان فاتفق العسكر مع بلبان المذكور وقبضوا على محمد بن بكتمر وحبسوه، ثم خنقوه ورموه من سور القلعة إلى أسفل وقالوا: وقع، واستمر بلبان في مملكة خلاط، دون سنة، وقتله بعض أصحاب طغريل بن قليج أرسلان شاه صاحب أرزن، وقصد طغريل المذكور أن يتسلم خلاط، فلم يجبه أهلها إلى ذلك، وعصوا عليه، فعاد إلى أرزن، ثم وصل الملك الأوحد أيوب ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وتسلم خلاط، وملكها قريب ثمان سنين، حسبما ذكر ذلك في سنة أربع وستمائة إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة.
ذكر وفاة العزيز صاحب مصر
في هذه السنة في منتصف ليلة السابع والعشرين من المحرم، توفي الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان قد طلع إلى الصيد، فركض خلف ذئب، فتقنطر وحم، سابع المحرم، في جهة الفيوم، فعاد إلى الأهرام وقد اشتدت حماه، ثم توجه إلى القاهرة فدخلها يوم عاشوراء، وحدث به يرقان وقرحة في المعا، واحتبس طبعه، فمات في التاريخ المذكور. وكانت مدة مملكته ست سنين إلا شهراً، وكان عمره سبعاً وعشرين سنة وأشهراً، وكان في غاية السماحة والكرم والعدل، والرفق بالرعية، والإحسان إليهم. ففجعت الرعية بموته فجعة عظيمة، وكان الغالب على دولة الملك العزيز، فخر الدين جهاركس، فأقام في الملك ولد الملك العزيز، الملك المنصور محمد، واتفقت الأمراء على إحضار أحد من بني أيوب ليقوم بالملك، وعملوا مشورة بحضور القاضي الفاضل، فأشار بالملك الأفضل، وهو حينئذ بصرخد، فأرسلوا إليه فسار محثاً، ووصل إلى مصر على أنه أتابك الملك المنصور بن الملك العزيز، وكان عمر الملك لمنصور حينئذ تسع سنين وشهوراً، وكان مسير الملك الأفضل من صرخد لليلتين بقيتا من صفر، في تسعة عشر نفراً، متنكراً، خوفاً من أصحاب عمه الملك العادل، فإن غالب تلك البلاد كانت له، فوصل بلبيس خامس ربيع الأول. ثم سار الملك الأفضل إلى القاهرة، فخرج الملك المنصور بن العزيز للقائه، فترجل له عمه الملك الأفضل ودخل بين يديه إلى دار الوزارة، وهي كانت مقر السلطنة، ولما وصل الملك ة فضل إلى بلبيس، التقاه العسكر، فتنكر منه فخر الدين جهاركس وفارقه، وتبعه عدة من العسكر، وساروا إلى الشام وكاتبوا الملك العادل، وهو محاصر ماردين، أرسل الملك الظاهر إلى أخيه الملك الأفضل يشير عليه بقصد دمشق وأخذها من عمه الملك العادل، وأن ينتهز الفرصة لاشتغال العادل بحصار ماردين، فبرز الملك الأفضل من مصر وسار إلى دمشق، وبلغ الملك العادل مسيره إلى دمشق، فترك على حصار ماردين ولده الملك الكامل، وسار العادل وسبق الأفضل ودخل دمشق قبل نزول الأفضل عليها بيومين، ونزل الملك الأفضل على دمشق ثالث عشر شعبان من هذه السنة، وزحف من الغد على البلد، وجرى بينهم قتال، وهجم بعض عسكره مدينة، حتى وصل إلى باب البريد، ولم يمدهم العسكر، فتكاثر أصحاب الملك العادل وأخرجوهم من البلد، ثم تخاذل العسكر فتأخر الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة، ثم وصل إلى الملك الأفضل أخوه الظاهر صاحب حلب، فعاد إلى مضايقة دمشق، ودام الحصار عليها، وقلت الأقوات عند الملك العادل، وعلى أهل البلد، وأشرف الأفضل والظاهر على ملك دمشق، وعزم العادل على تسليم البلد لولا ما حصل بين الأخوين، الأفضل والظاهر، من الخلف، وخرجت السنة وهم على ذلك، وكان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر استيلاء الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين صاحب حماة على بارين وفي شهر رمضان من هذه السنة، قصد الملك المنصور صاحب حماة بارين، وبها نواب عز الدين إبراهيم بن شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم، وحاصرها، وكان عز الدين إبراهيم مع الملك العادل، محصوراً معه بدمشق، ونصب الملك المنصور عليها المجانيق، وانجرح الملك المنصور حال الزحف، ثم فتحها في التاسع والعشرين من ذي القعدة، وأقام ببارين مدة حتى أصلح أمورها.
ذكر وفاة يعقوب ملك الغرب في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى، توفي أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس، بمدينة سلا، وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وكان يتظاهر بمذهب الظاهرية، وأعرض عن مذهب مالك وعمره ثمان وأربعون سنة، وتلقب يعقوب المذكور بالمنصور، ولما مات يعقوب ملك بعده ابنه محمد بن يعقوب، وتلقب محمد بالناصر، ومولد محمد المذكور سنة ست وسبعين وخمسمائة، وعبد المؤمن وبنوه جميعهم كانوا يسمون بأمير المؤمنين، وفي هذه السنة رحل عسكر الملك العادل مع ابنه الملك الكامل عن حصار ماردين.
ذكر الفتنة بفيروزكوه
في هذه السنة كانت فتنة عظيمة في عسكر غياث الدين ملك الغورية، وهو بفيروزكوه، وسببها أن الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن حسين الرازي، الإمام المشهور، كان قد قدم إلى غياث الدين وبالغ في إكرامه واحترامه، وبنى له مدرسة بهراة بالقرب من الجامع، فعظم ذلك على الكرامية، وهم كثيرون بهراة، ومذهبهم التجسيم والتشبيه، وكان الغورية كلهم كرامية، فكرهوا فخر الدين لأنه شافعي، وهو يناقض مذهبهم، فاتفق أن فقهاء الكرامية والحنفية والشافعية حضروا بفيروزكوه عند غياث الدين للمناظرة، وحضر فخر الدين الرازي، والقاضي عبد المجيد بن عمر، المعروف بابن القدوة، وهو من الكرامية الهيصمية، وله عندهم محل كبير لتزهده وعلمه، فتكلم الرازي، فاعترض عليه ابن القدوة وطال الكلام، فقام غياث الدين، فاستطال فخر الدين الرازي على ابن القدوة وشتمه، وبالغ في أذاه، وابن القدوة لا يزيده على أن يقول: لا يفعل يا مولانا إلا وأخذ الله، فصعب على الملك ضياء الدين، وهو ابن عم غياث الدين، وزوج ابنته، وشكى إلى غياث الدين وذم فخر الدين الرازي، ونسبه إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة، فلم يصغ إليه غياث الدين فلما كان الغد، وعظ الناس ابن عمر بن القدرة بالجامع وقال: بعد حمد الله والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، أيها الناس إنا لا نقول إلا ما صح عندنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما علم أرسطو وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها، فلأي حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وسنة نبيه، وبكى وبكى الكرامية، واستغاثوا، وثار الناس من كل جانب، وامتلأ البلد فتنة، فبلغ ذلك السلطان، فأرسل جماعة سكنوا الناس ووعدهم إخراج فخر الدين الرازي من عندهم، وتقدم عليه بالعود إلى هراة فعاد إليها.
وفي هذه السنة: في ربيع الأرل، توفي مجاهد الدين قيماز بقلعة الموصل، وهو الحاكم في دولة زور الدين أرسلان صاحب الموصل، وقيماز المذكور هو الذي كان حاكماً على مسعود والد أرسلان حتى قبض عليه مسعود، ثم أخرجه بعد مدة، وكان قيماز عاقلاً أديباً فاضلاً في الفقه، على مذهب أبي حنيفة، وبنى عدة جوامع وربط ومدارس.
وفيها فارق غياث الدين ملك الغورية مذ هب الكرامية، وصار شافعي المذهب. وفيها توفي محمد بن عبد الملك بن زهر الأندلسي الإشبيلي، وكان فاضلاً في الأدب، وكان طبيباً، وكان جده زهر وزيراً وفيلسوفاً، وتوفي زهر المذكور في سنة خمس وعشرين وخمسمائة بقرطبة، وزهر بضم الزاي المعجمة وسكون الهاء، وقد قيل في ابن زهر:
قل للوباء أنت وابن زهر ... قد جزتما الحد في النكايه
ترفقا بالورى قليلاً ... في واحد منكما كفايه
ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة والملكان الأفضل والظاهر محاصران لمدينة دمشق، واتفق وقوع الخلف بين الأخوين الأفضل والظاهر، وسببه أنه كان للملك الظاهر مملوك يحبه اسمه أيبك ففقد، ووجد عليه الملك الظاهر وجداً عظيماً، وتوهم أنه دخل دمشق، فأرسل من تكشف خبره وأطلع الملك العادل وهو محصور على القضية، فأرسل إلى الظاهر يقول له: إن محمود بن الشكري أفسد مملوكك وحمله إلى الأفضل أخيك، فقبض الظاهر على ابن الشكري، فظهر المملوك عنده، فتغير الظاهر على أخيه الأفضل، وترك قتال العادل، وظهر الفشل في العسكر، فتأخر الأفضل والظاهر عن دمشق، وأقاما بمرج الصفر إلى أواخر صفر. ثم سارا إلى رأس الماء ليقيما به إلى أن ينسلخ الشتاء، ثم انثنى عزمهما وسار الأفضل إلى مصر والظاهر إلى حلب، على القريتين. ولما تفرقا، خرج الملك العادل من دمشق وسار في أثر الأفضل إلى مصر، ولما وصل الأفضل إلى مصر تفرقت عساكره في بلادهم لأجل الربيع، فأدركه عمه العادل، فخرج الأفضل بمن بقي عنده من العسكر وضرب معه مصافاً بالسائح، فانكسر الأفضل وانهزم إلى القاهرة، ونازل العادل القاهرة ثمانية أيام، فأجاب الأفضل إلى تسليمها، على أن يعوض عنها ميافارقين وحاني وسميساط، فأجابه العادل إلى ذلك، ولم يف له به، وكان دخول العادل إلى القاهرة في الحادي والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة، وقال ابن الأثير: كان دخول العادل إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الأخر.
فيها وتوفي القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، في سابع عشر ربيع الآخر، وقيل إن مولد القاضي الفاضل سنة ست وعشرين وخمسمائة، فكان عمره نحو سبعين سنة.
ثم سافر الملك الأفضل إلى صرخد، وأقام العادل بمصر، على أنه أتابك الملك المنصور محمد ابن العزيز عثمان مدة يسيرة، ثم أزال الملك المنصور محمد المذكور، واستقل العادل في السلطنة، ولما استقرت المملكة للملك العادل، أرسل إليه الملك المنصور صاحب حماة يعتذر إليه، مما وقع منه بسبب أخذه بعرين من ابن المقدم، فقبل الملك العادل عذره، وأمره برد بعرين إلى ابن المقدم، فاعتذر الملك المنصور عنها بقربها من حماة، ونزل عن منبج وقلعة نجم لابن المقدم عوضاً عن بعرين، فرضي ابن المقدم بذلك، لأنهما خير من بعرين بكثير، وتسلمهما عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، وكان له أيضاً فامية وكفر طاب وخمس وعشرون ضيعة من المعرة، وكذلك كاتب الملك الظاهر صاحب حلب عمه الملك العادل وصالحه، وخطب له بحلب، وبلادها، وضرب السكة باسمه، واشترط الملك العادل على صاحب حلب أن يكون خمسمائة فارس من خيار عسكر حلب في خدمة الملك العادل، كلما خرج إلى البيكار، والتزم صاحب حلب بذلك، وقصر النيل في هذه السنة تقصيراً عظيماً، حتى أنه لم يبلغ أربعة عشر ذراعاً.
ذكر وفاة خوارزم شاه في هذه السنة في العشرين من رمضان، توفي خوارزم شاه تكش بن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين صاحب خوارزم، وبعض خراسان والري، وغيرها من البلاد الجبلية، بشهرستانة. وولي الملك بعده ابنه محمد بن تكش، وكان لقب محمد، قطب الدين، فغيره إلى علاء الدين، وكان تكش عادلاً حسن السيرة، يعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة، والأصول، ولما بلغ غياث الدين ملك الغورية موت خوارزم شاه، ترك ضرب نوبته ثلاثة أيام وجلس للعزاء مع ما كان بينهما من العداوة المستحكمة، وهذا خلاف ما فعله بكتمر من الشماتة بالسلطان صلاح الدين، ولما استقر محمد بن تكش في المملكة، هرب ابن أخيه هندوخان بن ملكشاه بن تكش إلى غياث الدين ملك الغورية يستنصره على عمه، فأكرمه غياث الدين ووعده النصر.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة لما دخلت هذه السنة، كان بالديار المصرية الملك العادل، وعنده ابنه الملك الكامل محمد، وهو نائبه بها، وبحلب الملك الظاهر، وهو مجد في تحصين حلب خوفاً من عمه الملك العادل، وبدمشق الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل، نائب أبيه بها، وبالشرق الملك إبراهيم ابن الملك العادل، وبميافارقين، الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل.
وفي هذه السنة توفي عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، وصارت البلاد بعده، وهي منبج وقلعة نجم وفامية وكفر طاب، لأخيه شمس الدين عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، ولما استقر شمس الدين عبد الملك بمنبج، سار إليها الملك الظاهر صاحب حلب وحصرها، وملك منبج، وعصى عبد الملك بن المقدم بالقلعة، فحصره، ونزل عبد الملك بالأمان، فاعتقله الملك الظاهر، وملك قلعة منبج، وبعد أن فرغ من منبج سار إلى قلعة نجم، وبها نائب ابن المقدم، فحصرها وملكها في آخر رجب من هذه السنة، وأرسل الملك الظاهر إلى الملك المنصور صاحب حماة يبذل له منبج وقلعة نجم، على أن يصير معه على الملك العادل، فاعتذر صاحب حماة باليمين التي في عنقه للملك العادل، فلما أيس الملك الظاهر منه، سار إلى المعرة وأقطع بلادها، واستولى على كفر طاب، وكانت لابن المقدم، ثم سار إلى فامية وبها قراقوش نائب ابن المقدم، وأرسل الملك الظاهر وأحضر عبد الملك بن المقدم من حلب، وكان معتقلاً بها، وأحضر معه أصحابه الذين اعتقلهم وضربهم قدام قراقوش ليسلم فامية، فامتنع قراقوش، فأمر الملك الظاهر بضرب عبد الملك بن المقدم، فضرب ضرباً شديداً، وبقي يستغيث، فأمر قراقوش فضربت النقارات على قلعة فامية لئلا يسمع أهل البلد صراخه، ولم يسلم القلعة، فرحل عنها الملك الظاهر وتوجه إلى حماة وحاصرها لثلاث بقين من شعبان من هذه السنة، ونزل شمالي البلد، وشعث التربة التقوية وبعض البساتين، وزحف من جهة الباب الغربي، وقاتل قتالاً شديداً، ثم زحف في آخر شعبان من الباب الغربي والباب القبلي وباب العميان، وجرى فيه قتال شديد، وخرج الملك الظاهر بسهم في ساقه، واستمرت الحرب إلى أيام من رمضان، فلما لم يحصل على غرض، صالح الملك المنصور على مال يحمله إليه، قيل أنه ثلاثون ألف في ينار صورية.
ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق وبها الملك المعظم ابن الملك العادل، فنازلها الملك الظاهر هو وأخوه الملك الأفضل، وانضم إليهما فارس الدين ميمون القصري صاحب نابلس، ومن وافقه من الأمراء الصلاحية، واستقرت القاعدة بين الأخوين الأفضل والظاهر، أنهما متى ملكا دمشق يتسلمها الملك الأفضل، ثم يسيران ويأخذان مصر من الملك العادل، ويتسلمها الملك الأفضل وتسلم دمشق حينئذ إلى الملك الظاهر صاحب حلب، بحيث تبقى مصر للملك الأفضل، ويصير الشام جميعه للملك الظاهر.
وكان قد تخلف من أكابر الأمراء الصلاحية عنهما فخر الدين جهاركس، وزين الدين قراجا، فأرسل الملك الأفضل وسلم صرخد إلى زين الدين قراجا، ونقل الملك الأفضل والدته وأهله إلى حمص عند شيركوه، وبلغ الملك العادل حصار الأخوين دمشق، فخرج بعساكر مصر وأقام بنابلس، ولم يجسر على قتالهما، واشتدت مضايقة الملكين الأفضل والظاهر لدمشق، وتعلق النقابون بسورها، فلما شاهد الملك الظاهر صاحب حلب ذلك، حسد أخاه الملك الأفضل على دمشق وقاله له: أريد أن تسلم إلي دمشق الآن. فقال له الأفضل: إن حريمي حريمك، وهم على الأرض، وليس لنا موضع نقيم فيه، وهب هذه البلد لك، فاجعله لي إلى حين تملك مصر وتأخذه، فامتنع الظاهر من قبول ذلك، وكان قتال العسكر والأمراء الصلاحية إنما كان لأجل الأفضل، فقال لهم الأفضل: إن كان قتالكم لأجلي فاتركوا القتال وصالحوا الملك العادل، وإن كان قتالكم لأجل أخي الملك الظاهر، فأنتم وإياه، فقالوا إنما قتالنا لأجلك، وتخلوا عن القتال، وأرسلوا وصالحوا الملك العادل، وخرجت السنة وهم محاصرون دمشق، وقد تفرقت العساكر، فرحل الملك الظاهر عن دمشق في أول المحرم، سنة ثمان وتسعين، وسار الأفضل إلى حمص.
وفي هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين، توفي عماد الدين الكاتب محمد بن عبد الله بن حامد الأصفهاني، وكان فاضلاً في الفقه والأدب والخلاف والتاريخ، وله النظم البديع، والنثر الفائق، وكتب لنور الدين ولصلاح الدين، وله التصانيف الحسنة، منها: البرق الشامي، وخريدة القصر، وكان مولده سنة تسع عشر وخمسمائة وكان عمره نيفاً وسبعين سنة.
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة سار الملك غياث الدين ملك الغورية بعساكره، وأرسل استدعى أخاه شهاب الدين من عرنة، فلحقه بعساكره أيضاً، وسار غياث الدين إلى خراسان واستولى على ما كان لخوارزم شاه بخراسان، ولما ملك غياث الدين مرو، سلمها إلى هندوخان بن ملكشاه بن خوارزمشاه تكش، الذي كان هرب من عمه محمد إلى غياث الدين ثم استولى غياث الدين على سرخس وطوس ونيسابور وغيرها، ولما استقرت هذه البلاد لغياث الدين عاد إلى بلاده وتوجه أخوه شهاب الدين إلى بلاد الهند، فغنم وفتح نهروالة وهي من أعظم بلاد الهند.
وفي هذه السنة: في رمضان ملك ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان مدينة ملطية، وكانت لأخيه معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان، ثم سار ركن الدين إلى أرزن الروم، وكانت للملك محمد بن صليق وهو من بيت قديم، ملكوا أرزن الروم مدة طويلة، فطلع صاحب أرزن الروم المذكور ليصالح ركن الدين، فقبض عليه وأخذ البلد منه، وكان هذا محمد آخرالملوك من أهل بيته.
وفيها توفي سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب آمد وحصن كيفا، سقط من سطح جوسق كان له بحصن كيفا، فمات، وكان له أخ اسمه محمود بن محمد، وكان سقمان. يبغضه، فأبعده إلى حصن منصور، وكان قد جعل سقمان ولي عهده مملوكه إياس، وكان يحبه حباً شديداً، وأوصى له بالملك بعده، فلما مات سقمان، استولى إياس على البلاد، فلم ينتظم له حال، وكاتبوا أخاه محموداً فحضر وملك بلاد أخيه سقمان.
وفيها كان بمصر غلاء شديد بسبب نقص النيل.
وفيها كان بالجزيرة والشام والسواحل زلزلة عظيمة فهدمت مدناً كثيرة.
وفيها في رمضان توفي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي الحنبلي الواعظ المشهور وتصانيفه مشهورة، وكان كثير الوقيعة في العلماء، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة.
ثم دخلت سنه ثمان وتسعين وخمسمائة في هذه السنة بعد رحيل الملك الأفضل، والظاهر عن دمشق كما ذكرنا، قدم إليها الملك العادل، وكان قد سار ميمون القصري مع الملك الظاهر فأقطعه إعزاز.
وفيها خرب الملك الظاهر قلعة منبج خوفاً من انتزاعها منه، وأقطع منبج بعد ذلك عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد المشطوب.
وفيها أرسل قراقوش نائب عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن مقدم بفامية إلى الملك الظاهر يبذل له تسليم فامية، بشرط أن يعطي شمس الدين عبد الملك بن المقدم إقطاعاً يرضاه، فأقطعه الملك الظاهر الراوندان وكفر طاب ومفردة المعرة، وهو عشرون ضيعة معينة من بلاد المعرة، وتسلم فامية، ثم إن عبد الملك بن المقدم، عصى بالراوندان، فسار إليه الملك الظاهر واستنزله منها. وأبعده، فلحق ابن المقدم بالملك العادل، فأحسن إليه.
وفيها سار الملك العادل من دمشق ووصل إلى حماة، ونزل على تل صفرون، وقام الملك المنصور صاحب حماة بجميع وظائفه، وكلفه، وبلغ الظاهر صاحب حلب وصول عمه العادل إلى حماة بنية قصده ومحاصرته بحلب، فاستعد للحصار بحلب، وراسل عمه ولاطفه وأهدى إليه، ووقعت بينهما مراسلات، ورقع الصلح، وانتزعت منه مفردة المعرة، واستقرت للمللث المنصور صاحب حماة وأخذت من الملك الظاهر أيضاً قلعة نجم، وسلمت إلى الملك الأفضل وكانت له سروج وسميساط، وسلم الملك العادل حران وما معها لولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى، وسيره إلى الشرق، وكان بميافارقين الملك الأوحد بن الملك العادل، وبقلعة جعبر الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن الملك العادل، ولما استقر الصلح بين الملك العادل والظاهر، رجع الملك العادل إلى دمشق وأقام بها، وقد انتظمت المماليك الشامية والشرقية والديار المصرية كلها في سلك ملكه وخطب له على منابرها، وضربت السكة فيها باسمه.
ذكر غير ذلك في هذه السنة عاد خوارزم شاه محمد بن تكش واسترجع البلاد التي أخذها الغورية من خراسان إلى ملكه.
وفيها توفي هبة الله بن علي بن مسعود بن ثابت المنستيري - بضم الميم وفتح النون وسكون السين المهملة وكسر التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء ومنستير بليدة بإفريقية. وكان هبة الله المذكور عالي الإسناد، ولم يكن في عصره من هو في درجته، سمع إبراهيم بن حاتم الأسدي، وسمع جماعة من الأكابر وسمع الناس على هبة الله المذكور، وسافروا إليه من البلاد لعلو إسناده، وكان جده مسعود قد قدم من منستير إلى بوصير، فعرف هبة الله المذكور بالبوصيري، وكانت ولادته سنة ست وخمسمائة.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة والملك العادل مقيم بدمشق. وفيها في المحرم توفي فلك الدين سلطان أخو الملك العادل لأمه، وهو الذي تنسب إليه المدرسة الفلكية بدمشق.
ذكر الحوادث باليمن كان قد تملك اليمن الملك المعز إسماعيل بن سيف الإسلام بن طغتكين بن أيوب وكان فيه هوج وخبط، فادعى أنه قرشي، وأنه من بني أمية، ولبس الخضرة، وخطب بنفسه، ولبس ثياب الخلافة في ذلك الزمان، وكان طول الكم نحو عشرين شبراً، وخرج عن طاعته جماعة من مماليك أبيه واقتتلوا معه، وانتصر عليهم، ثم اتفق معهم جماعة من الأمراء الأكراد وقتلوا المعز إسماعيل وأقاموا في مملكة اليمن أخاً له صغيراً، وسموه الناصر، وبقي مدة، وأقام بأتابكيته مملوك والده وهو سيف الدين سنقر، ثم مات سنقر بعد أربع سنين، وتزوج أم الناصر أمير من أمراء الدولة يقال له غازي بن جبرئل، وقام بأتابكية الناصر ثم سمّ الناصر في كوز فقاع على ما قيل، وبقي غازي متملكاً للبلاد، ثم قتله جماعة من العرب بسبب قتله للناصر بن طغتكين، وبقيت اليمن خاليه بغير سلطان، فتغلبت أم الناصر المذكور على زبيد، وأحرزت عندها الأموال، وكانت تنتظر وصول أحد من بني أيوب لتتزوج به وتملكه البلاد، وكان للملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ولد اسمه سعد الدين شاهنشاه، وكان له ابن اسمه سليمان، فخرج سليمان بن شاهنشاه بن عمر فقيراً يحمل الركوة على كتفه، ويتنقل مع الفقراء من مكان إلى مكان، وكان قد أرسلت أم الناصر بعض غلمانها إلى مكة حرسها الله تعالى في موسم الحاج ليأتيها بأخبار مصر والشام، فوجد غلمانها سليمان المذكور، فأحضروه إلى اليمن، فاستحضرته أم الناصر وخلعت عليه وملكته اليمن، فملأ اليمن ظلماً وجوراً وأطرح زوجته التي ملكته البلاد، وأعرض عنها، وكتب إلى السلطان الملك العادل وهو عم جده كتاباً جعل في أوله أنه من سليمان، وأنه بسم الله الرحمن الرحيم، فاستقل الملك العادل عقله، ثم كان من سليمان المذكور ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة أرسل السلطان الملك العادل إلى ولده الملك الأشرف وأمره بحصار ماردين، فحصرها وضايقها، ثم سعى الملك الظاهر إلى الملك العادل في الصلح، فأجاب إلى أن يحمل إليه صاحب ماردين مائة ألف وخمسين ألف دينار، ويخطب له ببلاده، ويضرب السكة باسمه، ويكون بخدمته متى طلبه، فأجاب إلى ذلك واستقر الصلح عليه.
وفيها أخرج الملك العادل، الملك المنصور محمد بن العزيز من مصر إلى الشام، فسار بوالدته وإخوته وأقام بحلب عند عمه الملك الظاهر.
وفيها سار الملك المنصور صاحب حماة إلى بعرين مرابطاً للفرنج، وأقام بها، وكتب الملك العادل، إلى صاحب بعلبك وإلى صاحب حمص بإنجاده فأنجده، واجتمعت الفرنج من حصن الأكراد وطرابلس وغيرها، وقصدوا الملك المنصور ببعرين، واتقعوا معه في ثالث شهر رمضان من هذه السنة، واقتتلوا، فانهزم الفرنج وقتل وأسر من خيالتهم جماعة، وكان يوماً مشهوداً، وفي ذلك يقول بهاء الدين أسعد بن يحيى السنجاري قصيدة من جملتها:
ما لذة العيش إلا صوت معمعة ... ينال فيها المنى بالبيض والأسل
يا أيها الملك المنصور نصح فتى ... لم يلوه عن وفاء كثرة العذل
أعزم ولا تترك الدنيا بلا ملك ... وجد فالملك محتاج إلى رجل
يا أوحد العصر يا خير الملوك ومن ... فاق البرية من حاف ومنتعل
ثم خرج من حصن الأكراد والمرقب الإسبتار، وانضم إليهم جموع سن السواحل واتقعوا مع الملك المنصور صاحب حماة، وهو نازل ببعرين في الحادي والعشرين من شهر رمضان من هذه السنة، بعد الوقعة الأولى بثمانية عشر يوماً، فانتصر ثانياً، وانهزمت الفرنج هزيمة شنيعة، وأسر الملك المنصور وقتل منهم عدة كثيرة، ومدح المالك المنصور بسبب هذه الوقعة، سالم بن سعادة الحمصي بقصيدة منها:
أمر اللواحظ أن تفوق أسهماً ... ريم برامة ما رنا حتى رما
فتنة بالسحر بل فتاكة ... ما جار قاضيهن حين تحكما
ومنها:
أصبحت فيها مغرماً كمحمد ... لما غدا بالأريحية مغرما
ومنها:
وشننت منتقماً بساحل بحرها ... جيشاً حكى البحر الخضم عرمرما
أسدلت في الآفاق من هبواته ... ليلاً وأطلعت الأسنة أنجما
وفي هذه السنة ولد الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور محمد صاحب حماة، من ملكة خاتون بنت السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وسمي عمر، وإنما سمي محموداً بعد ذلك، وكانت ولادته بقلعة حماة ظهر يوم الثلاثاء رابع عشر رمضان من هذه السنة.
وفي هذه السنة أرسل الملك العادل وانتزع ما كان بيد الملك الأفضل، وهي رأس عين وسروج وقلعة نجم، ولم يترك بيده غير سميساط فقط، فأرسل الملك الأفضل والدته فدخلت على الملك المنصور صاحب حماة، ليرسل معها من يشفع في الملك الأفضل عند الملك العادل في إبقاء ما كان بيده، وتوجهت أم الملك الأفضل، وتوجه معها من حماة القاضي زين الدين ابن الهندي إلى الملك العادل، فلم يجبها الملك العادل، ورجعت خائبة، قال عز الدين ابن الأثير مؤلف الكامل، وقد عوقب البيت الصلاحي بمثل ما فعله والدهم السلطان صلاح الدين، لما خرجت إليه نساء بيت الأتابك، ومن جملتهن بنت نور الدين الشهيد، يشفعن في إبقاء الموصل على عز الدين مسعود فردهن ولم يجب إلى سؤالهن، ثم ندم رحمه الله تعالى على ردهن، فجرى للملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين مع عمه مثل ذلك، ولما جرى ذلك قام الملك الأفضل بسميساط، وقطع خطبة عمه الملك العادل، وخطب للسلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان بن مسعود السلجوقي صاحب بلاد الروم.
ذكر وفاة غياث الدين ملك الغورية وفي هذه السنة في جمادى الأولى، توفي غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام بن الحسين الغوري صاحب غزنة، وبعض خراسان، وغيرها، وكان أخوه شهاب الدين بطوس عازماً على قصد خوارزم، وخلف غياث الدين من الولد، ابناً اسمه محمود، ولقب غياث الدين بلقب والده، ولم يحسن شهاب الدين الخلافة على ابن أخيه ولا على غيره من أهله، وكان لغياث الدين زوجة يحبها، وكانت مغنية، فقبض عليها شهاب الدين بعد موت أخيه غياث الدين وضربها ضرباً مبرحاً، وأخذ أموالها، وكان غياث الدين مظفراً منصوراً، لم ينهزم له راية قط، وكان له دهاء ومكر، وكان حسن الاعتقاد كثير الصدقات، وكان فيه فضل غزير وأدب مع حسن خط وبلاغة، وكان ينسخ المصاحف بخطه ويوقفها في المدارس التي بناها، وكان على مذهب الكرامية، ثم تركه وصار شافعياً.
ذكر غير ذلك وفي هذه السنة استولى الكرج على مدينة دوين من أذربيجان، ونهبوها وقتلوا أهلها، وكانت هي وجميع أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان، وكان مشغولاً ليلاً ونهاراً بشرب الخمر، ولا يلتفت إلى تدبير مملكته، ووبخه أمراؤه ونوابه على ذلك فلم يلتفت.
وفيها توفيت زمرد أم الخليفة الإمام الناصر، وكانت كثيرة المعروف.
ثم دخلت سنة ستمائة والملك العادل بدمشق. وفيها كانت الهدنة بين الملك المنصور صاحب حماة وبين الفرنج. وفيها نازل ابن لاوون ملك الأرمن أنطاكية فتحرك الملك الظاهر صاحب حلب ووصل إلى حارم، فرحل ابن لاورن عن أنطاكية على عقبه.
وفيها خطب قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار للملك العادل ببلاده، وانتمى إليه، فصحب على ابن كمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، وقصد نصيبين وهي لقطب الدين، واستولى على مدينتها، فاستنجد قطب الدين بالملك الأشرف ابن العادل، فسار إليه واجتمع معه أخوه الملك الأوحد صاحب ميافارقين، والتقى الفريقان بقرية يقال لها بوشرة، فانهزم نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل هزيمة قبيحة، ودخل إلى الموصل وليس معه غير أربعة أنفس، وكانت هذه الواقعة أول ما عرفت من سعادة الملك الأشرف بن الملك العادل، فإنه لم ينهزم له راية بعد ذلك، واستقرت بلاد قطب الدين محمد بن زنكي عليه، ووقع الصلح بينهم في أول سنة إحدى وستمائة.
وفيها اجتمع الفرنج لقصد بيت المقدس، فخرج السلطان الملك العادل من دمشق وجمع العساكر ونزل على الطور في قبالة الفرنج، ودام ذلك إلى آخر السنة. وفيها استولت الفرنج على قسطنطينية وكانت قسطنطينية بيد الروم من قديم الزمان، فلما كانت هذه السنة اجتمعت الفرنج وقصدتها في جموع عظيمة، وحاصروها فملكوها، وأزالوا يد الروم عنها، ولم تزل بأيدي الفرنج إلى سنة ستين وستمائة، فقصدتها الروم واستعادوها من الفرنج.
وفيها توفي السلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطومش بن يبغو أرسلان بن سلجوق، سلطان بلاد الروم، في سادس ذي القعدة حسبما قدمنا ذكره في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وكان مرضه بالقولنج، وكان قبل مرضه بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية، وهي أنقرة، وكان ركن الدين المذكور يميل إلى مذهب الفلاسفة، ويحسن إلى طائفتهم ويقدمهم، ولما مات ركن الدين، ملك ولده قليج أرسلان ابن سليمان، وكان صغيراً، فلم يستثبت أمره، وكان ما سنذكره إلى شاء الله تعالى.
وفيها كان بين خوارزم شاه محمد بن تكش وبين شهاب الدين ملك الغورية قتال، انتصر فيه ملك الغورية، واستنجد خوارزم شاه بالخطا، فساروا واتقعوا مع شهاب الدين ملك الغورية. فهزموه، وشاع ببلاده أن شهاب الدين قتل، فاختلفت مملكته وكثر المفسدون، ثم إنه ظهر ووصل إلى غزنة واستقر في ملكه، وتراجعت الأمور إلى ما كانت عليه.
وفيها قتل كلجا مملوك البهلوان، وكان قد ملك الري وهمدان وبلاد الجبل، قتله خشداشه أيدغمش مملوك البهلوان، وتملك موضعه، وأقام أيدغمش ابن أستاذه أزبك بن البهلوان في الملك، وليس لأزبك غير الاسم، والحكم لأيدغمش.
وفيها استولى إنسان اسمه محمود بن محمد الحميري على طفار ومرباط وغيرهما من حضرموت. وفيها خرج أسطول للفرنج فاستولوا على مدينة فوه من الديار المصرية فنهبوها خمسة أيام.
وفيها كانت زلزلة عظيمة، عمت مصر والشام والجزيرة وبلاد الروم وصقلية وقبرس والعراق وغيرها، وخربت سور مدينة صور.
ثم دخلت سنة إحدى وستمائة: في هذه السنة كانت الهدنة بين الملك العادل والفرنج، وسلم إلى الفرنج يافا، ونزل عن مناصفات لد والرملة، ولما استقرت الهدنة، أعطى العساكر دستوراً، وسار الملك العادل إلى مصر وأقام بدار الوزارة.
وفيها أغارت الفرنج على حماة ووصلوا إلى قرب حماة، إلى قرية الرقيطا، وامتلأت أيديهم من المكاسب، وأسروا من أهل حماة شهاب الدين بن البلاعي، وكان فقيهاً شجاعاً تولى بر حماة مرة، وسلمية أخرى، وحمل إلى طرابلس، فهرب وتعلق بجبال بعلبك ووصل إلى أهله بحماة سالماً، ثم وقعت الهدنة بين الملك المنصور صاحب حماة وبين الفرنج.
وفيها بعد الهدنة توجه الملك المنصور صاحب حماة إلى مصر، وكان عنده استشعار من السلطان الملك العادل، فلما وصل إليه بالقاهرة أحسن إليه إحساناً كثيراً وأقام في خدمته شهوراً، ثم خلع عليه وعلى أصحابه وعاد إلى حماة.
وفيها ملك السلطان غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان بلاد الروم، وكان لما تغلب أخوه ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان على البلاد قد هرب كيخسرو المذكور إلى الملك الظاهر صاحب حلب، ثم تركه وسار إلى قسطنطينية، فأحسن إليه صاحبها، وأقام بالقسطنطينية إلى أن مات أخوه ركن الدين سليمان، وتولى ابنه قليج أرسلان، فسار كيخسرو من قسطنطينية وأزال أمر ابن أخيه، وملك بلاد الروم واستقر أمره.
وفيها كانت الحرب بين الأمير قتادة الحسيني أمير مكة، وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني أمير المدينة، وكانت الحرب بينهما سجالاً.
ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة والملك العادل بالديار المصرية والممالك بحالها.
ذكر قتل ملك الغورية شهاب الدين في هذه السنة أول ليلة من شعبان قتل شهاب الدين أبو المظفر محمد بن سام بن الحسين الغوري ملك غزنة، وبعض خراسان، بعد عوده من لهاوور بمنزل يقال له دمبل، قبل صلاة العشاء، وثب عليه جماعة وهو بخركاته، وقد تفرق الناس عنه لأماكنهم فقتلوه بالسكاكين، قيل أنهم من الكوكير، وهم طائفة من أهل الجبال، مفسدون، كان شهاب الدين قد فتك فيهم، وقيل أنهم من الإسماعيلية، فإن شهاب الدين أيضاً كان كثير الفتك فيهم، واجتمع حرس شهاب الدين فقتلوا أولئك الذين قتلوا شهاب الدين عن آخرهم، وكان شهاب الدين شجاعاً كثير الغزو، عادلاً في الرعية، وكان الأمام فخر الدين الرازي يعظه في داره، فحضر يوماً ووعظه وقال في آخر كلامه: يا سلطان لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازي، فبكى شهاب الدين حتى رحمه الناس، ولما قتل شهاب الدين كان صاحب باميان بهاء الدين سام بن شمس الدين محمد بن مسعود عم غياث الدين، وشهاب الدين المذكور، فسار بهاء الدين سام ليتملك غزنة، ومعه ولداه علاء الدين محمد، وجلال الدين، ابنا سام بن محمد ابن مسعود بن الحسيني، فأدركت بهاء الدين سام الوفاة قبل أن يصل إلى غزنة، وعهد بالملك إلى ابنه علاء الدين محمد، فأتم علاء الدين وأخوه جلال الدين السير إلى غزنة ودخلاها وتملكها علاء الدين، وكان لغياث الدين ملك الغورية مملوك يقال له تاج الدين يلدز، وكانت كرمان إقطاعه، وهو كبير في الدولة، ومرجع الأتراك إليه، فسار يلدز إلى غزنة وهزم عنها علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام، وأخاه جلال الدين، واستولى يلدز على غزنة ثم إن علاء الدين وجلال الدين ولدي بهاء الدين سام، سارا إلى باميان وجمعا العساكر وعادا إلى غزنة، فقاتلهما يلدز، فانتصرا عليه وانهزم يلدز إلى كرمان، واستقر علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام ومعه بعض العسكر في ملك غزنة، وعاد أخوه جلال الدين في باقي العسكر إلى باميان، ثم إن يلدز لما بلغه مسير جلال الدين في باقي العسكر إلى باميان، وتأخر علاء الدين بغزنة، جمع العساكر من كرمان وغيرها وسار إلى غزنة، وبلغ علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام ذلك، فأرسل إلى أخيه جلال الدين وهو بباميان يستنجده، وسار يلدز وحصر علاء الدين بغزنة، وسار جلال الدين فلما قارب غزنة رحل يلدز إلى طريقه، واقتتلا، فانهزم عسكر جلال الدين وأخذه يلدز أسيراً، فأكرمه يلدز واحترمه، وعاد إلى غزنة فحصر علاء الدين بها، وكان عنده بغزنة هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش فاستنزلهما يلدز بالأمان، ثم قبض على علاء الدين وعلى هندوخان، وتسلم غزنة، وأما غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد، ملك الغورية، فإنه لما قتل عمه شهاب الدين، كان ببست، فسار إلى فيرزكوه وتملكها وجلس في دست أبيه غياث الدين، وتلقب بألقابه، وفرح به أهل فيروزكوه، وسلك طريقة أبيه في الإحسان والعدل، ولما استقل يلدز بغزنة، وأسر جلال الدين وعلاء الدين ابني سام، كتب إلى غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سام بن الحسين بالفتح، وأرسل إليه الأعلام وبعض الأسرى.
ذكر غير ذلك في هذه السنة توفي الأمير مجير الدين طاشتكين أمير الحاج، وكان قد ولاه الخليفة على جميع خورستان، وكان خيراً صالحاً، وكان يتشيع.
وفيها تزوج أبو بكر بن البهلوان بابنة ملك الكرج، وذلك لاشتغاله بالشرب عن تدبير المملكة، فعدل إلى المصاهرة والهدنة، فكف الكرج عنه.
ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة في هذه السنة سار الملك العادل من مصر إلى الشام، ونازل في طريقه عكا فصالحه أهلها على إطلاق جمع من الأسرى، ثم وصل إلى دمشق، ثم سار منها ونزل بظاهر حمص على بحيرة قدس، واستدعى العساكر فأتته من كل جهة، وأقام على البحيرة حتى خرج رمضان، ثم سار ونازل حصن الأكراد وفتح برج أعناز وأخذ منه سلاحاً ومالاً وخمسمائة رجل، ثم سار ونازل طرابلس ونصب عليها المجانيق، وعاث العسكر في بلادها، وقطع قناتها، ثم عاد في أواخر ذي الحجة إلى بحيرة قدس بظاهر حمص.
ذكر غير ذلك:
في هذه السنة أرسل غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد ملك الغورية يستميل يلدز، مملوك أبيه المستولي على غزنة، فلم يجبه يلدز إلى ذلك، وطلب يلدز من غياث الدين أن يعتقه، فأحضر الشهود وأعتقه، وأرسل مع عتاقه هدية عظيمة، وكذلك أعتق أيبك المستولي على بلاد الهند، وأرسل نحو ذلك، فقبل كل منهما ذلك، وخطب له أيبك ببلاد الهند التي تحت يده، وأما يلدز فلم يخطب له، وخرج بعض العساكر عن طاعة يلدز لعدم طاعته لغياث الدين.
وفيها في ثالث شعبان ملك غياث الدين كيخسرو صاحب بلاد الروم، أنطاكية بالأمان، وهي مدينة للروم على ساحل البحر.
وفيها قبض عسكر خلاط على صاحبها ولد بكتمر، وكان أتابك قنلغ مملوك شاهرمن، فقبض عليه ابن بكتمر، فثارت عليه أرباب الدولة وقبضوه، وملكوا بلبان مملوك شاهرمن بن سقمان، صاحب خلاط، حسبما تقدم ذكره في سنه أربع وتسعين وخمسمائة.
ثم دخلت سنة أربع وستمائة والملك العادل نازل على بحيرة قدس، ثم وقع الهدنة بينه وبين صاحب طرابلس، وعاد الملك العادل إلى دمشق وأقام بها.
ذكر استيلاء الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل على خلاط في هذه السنة ملك الملك الأوحد أيوب بن الملك العادل خلاط، وكان صاحب خلاط بلبان حسبما قدمنا ذكره في سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فسار الملك الأوحد من ميافارقين وملك مدينة موش، ثم اقتتل هو وبلبان صاحب خلاط، فانهزم بلبان واستنجد بصاحب أرزن الروم، وهو مغيث الدين طغريل شاه بن قليج أرسلان السلجوقي، فسار طغريل شاه واجتمع به بلبان، فهزما الملك الأوحد، ثم غدر طغريل شاه ببلبان فقتله غدراً، ليملك بلاده، وقصد خلاط فلم يسلموها إليه، وقصد منازكرد فلم تسلم إليه، فرجع طغريل شاه إلى بلاده، فكاتب أهل خلاط الملك الأوحد، فسار إليهم وتسلم خلاط وبلادها بعد إياسه منها، واستقر ملكه بها.
وفي هذه السنة لما استقر الملك العادل بدمشق، وصل إليه التشريف من الخليفة الإمام الناصر، صحبة الشيخ شهاب الدين السهروردي، فبالغ الملك العادل في إكرام الشيخ، والتقاه إلى القصير، ووصل من صاحبي حلب وحماة ذهب لينثر على الملك العادل إذا لبس الخلعة، فلبسها الملك العادل ونثر ذلك الذهب، وكان يوماً مشهوداً. والخلعة جبة أطلس أسود بطراز مذهب، وعمامة سوداء بطراز مذهب، وطوق ذهب مجوهر، تطوق به الملك العادل، وسيف جميع قرابه ملبس ذهباً، تقلد به، وحصان أشهب بمركب ذهب، ونشر على رأسه علم أسود مكتوب فيه بالبياض اسم الخليفة، ثم خلع رسول الخليفة على كل واحد من الملك الأشرف والملك المعظم ابني الملك العادل عمامة سوداء وثوباً أسود، واسع الكم، وكذلك على الوزير صفي الدين بن شكر، وركب الملك العادل وولداه ووزيره بالخلع ودخل القلعة، وكذلك وصل إلى الملك العادل مع الخلعة تقليد بالبلاد التي تحت حكمه، وخوطب الملك العادل فيه، شاهنشاه ملك الملوك خليل أمير المؤمنين، ثم توجه الشيخ شهاب الدين إلى مصر، فخلع على الملك الكامل بها، وجرى فيها نظير ما جرى في دمشق من الاحتفال، ثم عاد السهروردي إلى بغداد مكرماً معظماً.
وفي هذه السنة اهتم الملك العادل بعمارة قلعة دمشق، وألزم كل واحد من ملوك أهل بيته بعمارة برج من أبراجها.
ذكر قتال خوارزم شاه مع الخطا بما وراء النهر
في هذه السنة كاتبت ملوك ما وراء النهر، مثل ملك سمرقند، وملك بخارى، خوارزم شاه يشكون ما يلقونه من الخطا، ويبذلون له الطاعة والخطبة والسكة ببلادهم، إن دفع الخطا عنهم، فعبر علاء الدين محمد خوارزم شاه بن تكش، نهر جيحون. واقتتل مع الخطا، وكان بينهم عدة وقائع، والحرب بينهم سجال، واتفق في بعض الوقعات أن عسكر خوارزم شاه انهزم، وأخذ خوارزم شاه محمد أسيراً، وأسر معه شخص من أصحابه يقال له فلان بن شهاب الدين مسعود، ولم يعرفهما الخطاي الذي أسرهما، فقال ابن مسعود لخوارزم شاه: دع عنك المملكة وادع أنك غلامي واخدمني لعلي أحتال في خلاصك. فشرع خوارزم شاه يخدم ابن مسعود ويقلعه قماشه وخفه، ويلبسه، ويخدمه، فسأل الخطاي ابن مسعود من أنت؟ قال: أنا فلان، فقال له الخطاي: لو لا أخاف من الخطا أطلقتك. فقال له ابن مسعود: إني أخشى أن ينقص خبركما عن أهلي فلا يعلمون بحياتي، وأشتهي أن أعلمهم بحالي لئلا يظنوا موتي ويتقاسموا مالي. فأجابه الخطاي إلى ذلك. فقال ابن مسعود أشتهي أن أبعث بغلامي هذا مع رسولك ليصدقوه. فأجابه إلى ذلك، وراح خوارزم شاه مع ذلك الشخص حتى قرب من خوارزم، فرجع الخطاي واستقر خوارزم شاه في ملكه، وتراجع إليه عسكره.
وكان لخوارزم شاه أخ يقال له علي شاه بن تكش، وكان نائب أخيه بخراسان، فلما بلغه عدم أخيه في الوقعة مع الخطا، دعى إلى نفسه بالسلطنة، واختلفت الناس بخراسان، وجرى فيها فتن كثيرة، فلما عاد خوارزمشاه محمد إلى ملكه، خاف أخوه علي شاه، فسار إلى غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد، ملك الغورية، فأكرمه غياث الدين محمود وأقام علي شاه عنده بفيروزكوه.
ذكر قتل غياث الدين محمود وعلي شاه ولما استقر خوارزم شاه في ملكه، وبلغه ما فعله أخره علي شاه، أرسل عسكراً إلى قتال غياث الدين محمود الغوري، فسار العسكر إلى فيروزكوه مع مقدم يقال له أمير ملك، فسار إلى فيروزكوه، وبلغ ذلك محسوداً، فأرسل يبذل الطاعة ويطلب الأمان، فأعطاه أمير ملك الأمان، فخرج غياث الدين محمود من فيروزكوه ومعه علي شاه، فقبض عليهما أمير ملك، وأرسل يعلم خوارزمشاه بالحال، فأمره بقتلهما، فقتلهما في يوم واحد.
واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه محمد بن تكش، وذلك في سنة خمس وستمائة، وهذا غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سام بن الحسين، هو آخر الملوك الغورية، وكانت دولتهم من أحسن الدول، وكان هذا محمود كريماً عادلاً رحمة الله عليه، ثم إن خوارزم شاه محمداً، لما خلا سيره من جهة خراسان عبر النهر وسار إلى الخطا، وكان وراء الخطا في حدود الصين، التتر، وكان ملكهم حينئذ يقال له كشلي خان، وكان بينه وبين الخطا عداوة مستحكمة، فأرسل كل من كشلي خان ومن الخطا يسأل خوارزم شاه أن يكون معه على خصمه، فأجابهما خوارزم شاه بالمغلطة، وانتظر ما يكون منهما، فاتقع كشلي خان والخطا، فانهزمت الخطا، فمال عليهم خوارزم شاه وفتك فيهم، وكذلك فعل كشلي خان بهم، فانقرضت الخطا ولم يبق منهم إلا من اعتصم بالجبال أو استسلم، وصار في عسكر خوارزم شاه.
ثم دخلت سنة خمس وستمائة والملك العادل بدمشق، وعنده ولداه الملك الأشرف والمعظم.
ذكر قدوم الأشرف إلى حلب متوجهاً إلى بلاده الشرقية
وفي هذه السنة توجه الملك الأشرف موسى بن الملك العادل من دمشق، راجعاً إلى بلاده الشرقية، ولما وصل إلى حلب، تلقاه صاحبها الملك الظاهر وأنزله بالقلعة، وبالغ في إكرامه، وقام للأشرف ولجميع عسكره بجميع ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب والحلوى والعلوفات، وكان يحمل إليه في كل يوم خلعة كاملة، وهي: غلالة وقباً وسراويل وكمة وفروة وسيف وحصان ومنطقة ومنديل وسكين ودلكش، وخمس خلع لأصحابه. وأقام على ذلك خمسة وعشرين يوماً، وقدم له تقدمة، وهي مائة ألف درهم، ومائة بقجة، مع مائة مملوك، فمنها عشر بقج في كل واحدة منها ثلاثة أثواب أطلس، وثوبان خطاي، وعلى كل بقجة جلد قندس كبير، ومنها عشرة، في كل واحدة منها عشرة أثواب عتابي خوارزمي، وعلى كل بقجة جلد قندس كبير، ومنها. عشرة، في كل واحدة خمسة أثواب عتابي بغدادي وموصلي، وعليها عشرة جلود قندس صغار، ومنها عشرون في كل واحدة خمس قطع مرسوسي وديبقي، ومنها أربعون في كل واحدة منها خمسة أقبية وخمس كمام، وحمل إليه خمس حصن عربية بعدتها، وعشرين أكديشاً، وأربعة قطر بغال، وخمس بغلات فائقات بالسروج واللجم المكفنة، وقطارين من الجمال، وخلع على أصحابه مائة وخمسين خلعة، وقاد إلى أكثرهم بغلات وأكاديش.
ثم سار الملك الأشرف إلى بلاده.
وفي هذه السنة أمر الملك الظاهر صاحب حلب، بإجراء القناة، من حيلان إلى حلب، وغرم على ذلك أموالاً كثيرة، وبقي البلد يجري الماء فيه.
وفي هذه السنة وصل غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم إلى مرعش، لقصد بلاد ابن لارون الأرمني، وأرسل إليه الملك الظاهر نجدة، فدخل كيخسرو إلى بلاد ابن لاوون، وعاث فيها ونهب، وفتح حصناً يعرف بفرقوس.
ذكر مقتل صاحب الجزيرة في هذه السنة قتل معز الدين سنجرشاه بن سيف الدين غازي بن مودود بن عماد الدين بن زنكي بن أقسنقر، صاحب جزيرة ابن عمر، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة ست وسبعين وخمسمائة، قتله ابنه غازي.
وكان سنجرشاه ظالماً قبيح السيرة جداً، لا يمتنع عن قبيح يفعله، من القتل وقطع الألسنة والأنوف والآذان وحلق اللحى، وتعدى ظلمه إلى أولاده وحريمه، فبعث ابنيه، محموداً، ومودوداً إلى قلعة، فحبسهما فيها، وحبس ابنه المذكور غازي في دار في المدينة، وضيق عليه، وكان بتلك الدار هوام كثيرة، فاصطاد غازي المذكور منها حية وأرسلها إلى أبيه في منديل لعله يرق عليه، فلم يزده ذلك إلا قسوة، فأعمل غازي الحيلة حتى هرب، وكان له واحد يخدمه، فقرر معه أن يسافر، ويظهر أنه غازي ابن معز الدين سنجرشاه، ليأمنه أبوه، فمضى ذلك الإنسان إلى الموصل، فأعطى شيئاً وسافر منها، واتصل ذلك بسنجر شاه فاطمأن، وتوصل ابنه غازي حتى دخل إلى دار أبيه واختفى عند بعض سراري أبيه، وعلم به جماعة منهم. وكتموا ذلك عن سنجرشاه لبغضهم فيه، واتفق أن سنجرشاه شرب يوماً بظاهر البلد، وشرع يقترح على المغنين الأشعار الفراقية وهو يبكي، ودخل داره سكران إلى عند الحظية التي ابنه مختبئ عندها، ثم قام معز الدين سنجرشاه ودخل الخلاء، فهجم عليه ابنه غازي فضربه أربع عشرة ضربة بالسكين، ثم ذبحه وتركه ملقى، ودخل غازي الحمام وقعد يلعب مع الجواري، فلو أحضر الجند واستحلفهم في ذلك الوقت، لتم له الأمر وملك البلاد، ولكنه تنكر واطمأن، فخرج بعض الخدم وأعلم أستاذ الدار، فجمع الناس وهجم على غازي وقتله، وحلف العسكر لأخيه محمود بن سنجرشاه، ولقب معز الدين بلقب أبيه، ووصل معز الدين محمود بن سنجر شاه بن زنكي واستقر ملكه بالجزيرة، وقبض على جواري أبيه فغرقهن في دجلة، ثم قبض محمود بعد ذلك أخاه مودوداً.
ثم دخلت سنة ست وستمائة في هذه السنة سار الملك العادل من دمشق، وقطع الفرات، وجمع العساكر والملوك من أولاده، ونزل حران، ووصل إليه بها الملك الصالح محمود بن محمد بن قرا أرسلان الأرتقي، صاحب آمد وحصن كيفا، وسار الملك العادل من حران ونازل سنجار وبها صاحبها قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي، فحاصرها وطال الأمر في ذلك.
ثم خامرت العساكر التي صحبة الملك العادل، ونقض الملك الظاهر صاحب حلب الصلح معه، فرحل عن سنجار وعاد إلى حران، واستولى الملك العادل على نصيبين، وكانت لقطب الدين محمد المذكور، وكذلك استولى على الخابور.
وفي هذه السنة توفي الملك المؤيد نجم الدين مسعود ابن السلطان صلاح الدين. وفيها توفي الإمام فخر الدين محمد بن عمر، خطيب الري، بن الحسين بن الحسن بن علي التيمي البكري الطبرستاني الأصل، الرازي المولد، الفقيه الشافعي، صاحب التصانيف المشهورة.
قال ابن الأثير: وبلغني أن مولده سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وكان فخر الدين المذكور مع فضائله يعظ، وله فيه اليد الطولى، وكان يعظ باللسانين العربي والعجمي، ويلحقه في الوعظ الوجد والبكاء، وكان أوحد زمانه في المعقولات والأصول، واشتغل في أول زمانه على والده، ثم قصد الكمال السمعاني واشتغل عليه، ثم عاد إلى الري واشتغل على المجد الجيلي، وسافر إلى خوارزم، وما وراء النهر، وجرى له بكردكوه ما تقدم ذكره، وأخرج منها بسبب الكرامية، واتصل بشهاب الدين الغوري صاحب غزنة، وحصل له منه مال طائل، ثم عاد فخر الدين إلى خراسان واتصل بالسلطان خوارزم شاه محمد بن تكش، وحظي عنده، ولفخر الدين نظم حسن فمنه:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكانت العلماء يقصدونه من البلاد، وتشد إليه الرحال، وقصده ابن عنين الشاعر ومدحه بقصائد.
وفيها في سلخ ذي الحجة، توفي مجد الدين بن السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم، ومولده سنة أربع وأربعين وخمسمائة، المعروف بابن الأثير، أخو عز الدين علي المؤرخ، مؤلف الكامل في التاريخ، وكان مجد الدين المذكور عالماً بالفقه والأصولين، والنحو والحديث، واللغة، وله تصانيف مشهورة، وكان كاتباً مفلقاً.
وفيها توفي المجد المطرز النحوي الخوارزمي، وكان إماماً في النحو، وله فيه تصانيف حسنة.
ثم دخلت سنة سبع وستمائة فيها عاد السلطان الملك العادل من البلاد الشرقية إلى دمشق، وفيها قصدت الكرج خلاط، وحصروا الملك الأوحد بن الملك العادل بها، واتفق أن ملك الكرج شرب وسكر، فحسن له السكر أنه تقدم إلى خلاط في عشرين فارساً، فخرجت إليه المسلمون، فتقنطر وأخذ أسيراً وحمل إلى الملك الأوحد، فرد على الملك الأوحد عدة قلاع، وبذل إطلاق خمسة آلاف أسير ومائة ألف في ينار، وعقد الهدنة مع المسلمين ثلاثين سنة، وشرط أن يزوج ابنته بالملك الأوحد، فتسلم ذلك منه وأقام وتحالفا وأطلق.
ذكر وفاة نور الدين صاحب الموصل في هذه السنة توفي نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب الموصل، في آخر رجب، وكان مرضه قد طال، وملك الموصل سبع عشرة سنة وأحد عشر شهراً. ولما اشتد مرضه انحدر إلى العين القيارة ليستحم بها، وعاد إلى الموصل في سبارة، فتوفي في الطريق ليلاً، وكان أسمر حسن الوجه، قد أسرع إليه الشيب، وكان شديد الهيبة على أصحابه، وكان عنده قلة صبر في أموره.
واستقر في ملكه بعده ولده الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود، وكان عمر القاهر عشر سنين، وقام بتدبير مملكته بدر الدين لؤلؤ، وكان لؤلؤ مملوك والده أرسلان شاه وأستاذ داره، وهذا لؤلؤ هو الذي ملك الموصل على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وكان لأرسلان شاه ولد آخر أصغر من القاهر، اسمه عماد الدين زنكي، ملكه أبوه قلعتي العقر وشوش، وهما بالقرب من الموصل.
ذكر غير ذلك:وفي هذه السنة وردت رسل الخليفة الناصر لدين الله إلى ملوك الأطراف، أن يشربوا له كأس الفتوة، ويلبسوا له سراويلها، وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق، ويجعلوه قدوتهم فيه.
وفيها سار الملك العادل بعد وصوله إلى دمشق، ومقامه، إلى الديار المصرية، وأقام بدار الوزارة. وفيها توفي فخر الدين جهاركس، مقدم الصلاحية وكبيرهم.
ذكر وفاة الملك الأوحد صاحب خلاط في هذه السنة توفي الملك الأوحد أيوب ابن الملك العادل، فسار أخوه الملك الأشرف وملك خلاط، واستقل بملكها، مضافاً إلى ما بيده من البلاد الشرقية، فعظم شأنه، ولقب شاهرمن.
وفي هذه السنة قتل غياث الدين كيخسرو صاحب بلاد الروم، قتله ملك الأشكري، وملك بعده ابنه كيكاؤوس بن كيخسرو بن قليج أرسلان حسبما تقدم ذكره، في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
ثم دخلت سنة ثمان وستمائة في هذه السنة قبض الملك المعظم عيسى بن الملك العادل، على عز الدين أسامة صاحب قلعتي كوكب وعجلون، بأمر أبيه الملك العادل، وحبسه في الكرك إلى أن مات بها، وحاصر القلعتين المذكورتين وتسلمهما من غلمان أسامة، وأمر الملك العادل بتخريب كوكب وتعفية أثرها، فخربت وبقيت خراباً، وأبقى عجلون، وانقرضت الصلاحية بهذا. وملك الملك المعظم بلاد جهاركس، وهي بانياس وما معها، لأخيه شقيقه الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن الملك العادل، وأعطى صرخد مملوكه عز الدين أيبك المعظمي.
وفي هذه السنة عاد الملك العادل إلى الشام، وأعطى ولده الملك المظفر غازي الرها مع ميافارقين. وفيها أرسل الملك الظاهر، القاضي بهاء الدين بن شداد إلى الملك العادل، فاستعطف خاطره وخطب ابنته ضيفة خاتون، ابنة الملك العادل، فزوجها من الملك الظاهر، وزال ما كان بينهما من الأحن.
وفيها أظهر الكيا جلال الدين حسن، صاحب الألموت، وهو من ولد بن الصباح، شعائر الإسلام، وكتب به إلى جميع قلاع الإسماعيلية بالعجم والشام، فأقيمت فيها شعائر الإسلام.
وفيها توفي أبو حامد محمد بن يونس بن منعة، الفقيه الشافعي، بمدينة الموصل، وكان إماماً فاضلاً، وكان حسن الأخلاق. وفيها توفي القاضي السعيد، المعروف بابن سنا الملك، وهو هبة الله بن جعفر بن سنا الملك السعدي، الشاعر المشهور، المصري، أحد الفضلاء الرؤساء صاحب النظم الفائق، وكان كثير التنعم، وافر السعاده، محظوظاً من الدنيا، مدح توران شاه أخا السلطان صلاح الدين بقصيدة مطلعها:
تقنعت لكن بالحبيب المعمم ... وفارقت لكن كل عيش مذمم
فهجن بعض الفضلاء هذا المطلع وعابوه، ومن شعره أيضاً:
لا الغصن يحكيك ولا الجوذر ... حسنك مما كثروا أكثر
يا باسماً أهدى لنا ثغرة ... عقداً ولكن كله جوهر
قال لي اللاحي أما تستمع ... فقلت للاحي أما تبصر
ثم دخلت سنة تسع وستمائة في هذه السنة في المحرم، عقد الملك الظاهر على ضيفة خاتون بنت الملك العادل، وكان المهر خمسين ألف في ينار، وتوجهت من دمشق في المحرم إلى حلب، فاحتفل الملك الظاهر لملتقاها، وقدم لها أشياء كثيرة نفيسة.
وفيها عمر الملك العادل قلعة الطور، وجمع لها الصناع من البلاد، والعسكر حتى تمت.
وفي هذه السنة سار طغريل شاه بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم، وحاصر ابن أخيه سلطان الروم كيكاؤوس بسيواس، فاستنجد كيكاؤوس بالأشرف بن الملك العادل، فخاف عمه طغريل ورحل عنه، وكان لكيكاؤوس أخ اسمه كيقباذ، فلما جرى ما ذكرناه، سار كيقباذ واستولى على أنكورية من بلاد أخيه كيكاؤوس، فسار كيكاؤوس وحصره وفتح أنكورية وقبض على أخيه كيقباذ وحبسه، وقبض على أمرائه وحلق لحاهم ورؤوسهم، وأركب كل واحد منهم فرساً، وأركب قدامه وخلفه قحبتين، وبيد كل منهما معلاق تصفعه به، وبين يدي كل واحد منهم مناد ينادي: هذا جزاء من خان سلطانهم.
ثم دخلت سنة عشر وستمائة في هذه السنة ظفر عز الدين كيكاؤوس كيخسرو صاحب بلاد الروم بعمه طغريل شاه، فأخذ بلاده وقتله، وذبح أكثر أمرائه وقصد قتل أخيه علاء الدين كيقباذ، فشفع فيه بعض أصحابه، فعفا عنه. وفيها في رمضان توفي بحلب فارس الدين ميمون القصري، وهو آخر من بقي من كبراء الأمراء الصلاحية، وهو منسوب إلى قصر الخلفاء بمصر، كان قد أخذه السلطان صلاح الدين من هناك.
وفيها ولد للملك الظاهر من ضيفة خاتون بنت الملك العادل، ولده الملك العزيز غياث الدين محمد وفي هذه السنة قتل أيدغمش مملوك البهلوان، وكان قد غلب على المملكة، وهي همذان والجبال، قتله خشداش له، من البهلوانية، اسمه منكلي، وكان أيدغمش قد هرب منه والتجأ إلى الخليفة في سنة ثمان وستمائة، ورجع أيدغمش في هذه السنة إلى جهة همذان، فقتل واستقل منكلي بالملك.
وفي هذه السنة في شعبان، توفي ملك المغرب محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف ابن عبد المؤمن، وكانت مدة مملكته نحو ست عشرة سنة، وكان أشقر أسيل الخد، دائم الإطراق، كثير الصمت، للثغة كانت في لسانه، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة خمس وتسعين وخمسمائة. ولما مات محمد الناصر المذكور، ملك بعده ولده يوسف، وتلقب بالمستنصر أمير المؤمنين بن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، وكنيته أبو يعقوب.
وفيها، وقيل في السنة التي قبلها، توفي علي بن محمد بن علي، المعروف بابن خروف النحوي الأندلسي الإشبيلي، شرح كتاب سيبويه شرحاً جيداً، وشرح الجمل للزجاجي.
وفيها توفي عيسى بن عبد العزيز المجزولي، بمراكش، وكان إماماً في النحو، صنف مقدمته الجزولية، وسماها القانون، أتى فيها بالعجائب، واعتنى بها جماعة من الفضلاء، وأكثر النحاة يعترفون بقصور إفهامهم عن إدراك مراده منها، فإنها كلها رموز وإشارات، قدم الجزولي المذكور إلى ديار مصر، على ابن بري النحوي، ثم عاد إلى الغرب، والجزولي - بضم الجيم - منسوب إلى جزولة، وهي بطن من البربر، ويقال لها كزولة أيضاً، وشرح مقدمته في مجلد كبير أتى فيه بغرائب وفوائد.
ثم دخلت سنة إحدى عشر وستمائة في هذه السنة توفي دلدرم بن ياررق، صاحب تل باشر، وولي تل باشر بعده ابنه فتح الدين. وفيها توفي الشيخ علي بن أبي بكر الهروي وله التربة المعروفة شمالي حلب، وكان عارفاً بأنواع الحيل والشعبذة والسيماوية، تقدم عند الملك الظاهر غازي صاحب حلب، وله أشعار كثيرة، وتغرب في البلاد، ودار غالب المعمورة.
وفيها أسرت التركمان ملك الأشكري، وهو قاتل غياث الدين كيخسرو، فحمل إلى ابنه كيكاؤوس بن كيخسرو، فأراد قتله، فبذل له في نفسه أموالاً عظيمة، وسلم إلى كيكاؤوس قلاعاً وبلاد لم يملكها المسلمون قط.
وفيها عافى الملك العادل من الشام إلى مصر. وفيها توفي الدكز عبد السلام بن عبد الوهاب ابن عبد القادر الجبلي ببغداد، ولي عدة ولايات، وكان يتهم بمذهب الفلاسفة، اعتقل قبل موته، وأظهرت كتبه وفيها الكفريات، مثل مخاطبة زحل وغيره بالإلهية، وأحرقت، ثم شفع فيه أبوه، فأفرج عنه وعاد إلى أعماله.
وفيها توفي في شوال عبد العزيز بن محمود بن الأخضر، وله سبع وثمانون سنة، وهو من فضلاء المحدثين.
ثم دخلت سنة اثنتي عشر وستمائة.
ذكر استيلاء الملك المسعود ابن الملك الكامل ابن الملك العادل على اليمن قد تقدم ذكر استيلاء سليمان بن سعد الدين شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، في سنة تسع وتسعين وخمسمائة على اليمن، وأنه ملأها ظلماً وجوراً، وأنه أطرح زوجته التي ملكته، فلما جاءت هذه السنة، بعث الملك الكامل ابن الملك العادل، ابنه الملك المسعود يوسف، المعروف بأقسيس، إلى اليمن، ومعه جيش، فاستولى الملك المسعود على اليمن، وظفر بسليمان المذكور صاحب اليمن، وبحث به معتقلاً إلى مصر، فأجرى له الملك الكامل ما يقوم به، ولم يزل سليمان المذكور مقيماً بالقاهرة إلى سنة سبع وأربعين وستمائة، فخرج إلى المنصورة غازياً، فقتل شهيداً.
وفي هذه السن توفي الأمير علي بن الإمام الناصر، ووجد عليه الخليفة وجداً عظيماً، وأكثر الشعراء من المراثي فيه. وفي هذه السنة تجمعت العساكر من بغداد وغيرها، وقصدوا منكلي صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، فانهزم وفتل في ساوه، وتولى موضعه أغلمش، أحد المماليك البهلوانية أيضاً. وفيها في شعبان ملك خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش مدينة غزنة وأعمالها، وأخذها من يلدز مملوك شهاب الدين الغوري، فهرب يلدز إلى لهاوور من الهند، واستولى عليها، ثم سار يلدز عن لهاوور واستولى على بعض بلاد الهند الداخلة تحت حكم قطب الدين أيبك، خشداش يلدز المذكور، فجرى بينه وبين عسكر قطب الدين أيبك مصاف، فقتل فيه يلدز، وكان يلدز حسن السيرة في الرعية، كثير الإحسان إليهم.
وفيها توفي الوجيه المبارك بن أبي الأزهر سعيد بن الدهان، النحوي لضرير، وكان فاضلاً قرأ على ابن الأنباري وغيره، وكان حنبلياً، فصار حنفياً، ثم صار شافعياً، فقال فيه أبو البركات يزيد التكريتي:
ألا مبلغ عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وفارقته إذ أعوزتك المآكل
وما اخترت رأي الشافعي تديناً ... ولكنما تهوى الذي هو حاصل
وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك فافطن بما أنا قائل
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة: ذكر وفاة الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب حلب ولما كانت صبيحة يوم السبت، وهو الخامس والعشرون من جمادى الأولى، من هذه السنة، ابتدأ بالملك الظاهر المذكور حمى حادة، ولما اشتد مرضه، أحضر القضاة والأكابر، وكتب نسخة يمين أن يكون الملك بعده لولده الصغير، الملك العزيز، ثم بعده لولده الكبير، الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن غازي، وبعدهما لابن عمهما الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين. وحلف الأمراء والأكابر على ذلك، وجعل الحكم في الأموال والقلاع إلى شهاب الدين ظغريل الخادم، وأعذق به جميع أمور الدولة، وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة، أقطع الملك الظافر خضر، المعروف بالمستمر، كفر سودا، وأخرج من حلب في ليلته بالتوكيل، وأخرج علم الدين قيصر، مملوك الملك الظاهر إلى حارم نائباً. وفي خامس عشر جمادى الآخرة اشتد مرض الملك الظاهر، ومنع الناس الدخول إليه، وتوفي في ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة، وكان مولده بمصر في نصف رمضان، سنة ثمان وستين وخمسمائة، فكان عمره أربعاً وأربعين سنة وشهوراً، وكانت مدة ملكه لحلب من حين وهبها له أبوه، إحدى وثلاثين سنة. وكان فيه بطش وإقدام على سفك الدماء، ثم أقصر عنه، وهو الذي جمع شمل البيت الناصري الصلاحي، وكان ذكياً فطناً، وترتب الملك العزيز في المملكة، ورجع الأمور كلها إلى شهاب الدين طغريل الخادم، فدبر الأمور، وأحسن السياسة، وكان عمر الملك العزيز لما قرر في المملكة سنتين وأشهراً، وعمر أخيه الملك الصالح نحو اثنتي عشر سنة.
وفي هذه السنة توفي تاج الدين زيد بن الحسين بن زيد الكندي. وكان إماماً في النحو واللغة، وله الإسناد العالي في الحديث، وكان ذا فنون كثيرة في أنواع العلم، وهو بغدادي المولد والمنشأ، وانتقل وأقام بدمشق.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وستمائة والسلطان الملك العادل بالديار المصرية، وقد اجتمعت الفرنج من داخل البحر، ووصلوا إلى عكا في جمع عظيم، ولما بلغ الملك العادل ذلك خرج بعساكر مصر وسار حتى نزل على نابلس، فسارت الفرنج إليه، ولم يكن معه من العساكر ما يقدر به على مقاتلتهم، فاندفع قدامهم إلى عقبة أفيق، فأغاروا على بلاد المسلمين، ووصلت غارتهم إلى نوى من بلد السواد، ونهبوا ما بين بيسان ونابلس، وبثوا سراياهم فقتلوا وغنموا من المسلمين ما يفوت الحصر، وعادوا إلى مرج عكا، وكان قوة هذا النهب ما بين منتصف رمضان وعيد الفطر من هذه السنة، وأقام الملك العادل بمرج الصفر، وسارت الفرنج وحصروا حصن الطور، وهو الذي بناه الملك العادل على ما تقدم ذكره، ثم رحلوا عنه وانقضت السنة، والفرنج بجموعهم في عكا.
ذكر غير ذلك في هذه السنة سار خوارزم شاه علاء الدين حمد بن تكش إلى بلاد الجبل وغيرها فملكها، فمنها ساوه، وقزوين، وزنجان، وأبهر، وهمذان، وأصفهان، وقم، وقاشان. ودخل أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وآران في طاعة خوارزم شاه؛ وخطب له ببلاده. ثم عزم خوارزم شاه على المسير إلى بغداد للاستيلاء عليها، وقدم بعض العسكر بين يديه، وسار خوارزم شاه في إثرهم عن همذان يومين أو ثلاثة فسقط عليهم من الثلج مالم يسمع بمثله، فهلكت دوابهم، وخاف من حركة التتر على بلاده، فولى على البلاد التي استولى عليها وعاد إلى خراسان، وقطع خطبة الخليفة الإمام الناصر في بلاد خراسان في سنة خمس عشرة وستمائة، وكذلك قطعت خطبة الخليفة من بلاد ما وراء النهر، وبقيت خوارزم وسمرقند وهراة لم يقطع الخطبة منها، فإن أهل هذه البلاد كانوا لا يلتزمون بمثل هذا، بل يخطبون لمن يختارون ويفعلون نحو ذلك.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة والملك العادل بمرج الصفر، وجموع الفرنج بمرج عكا، ثم ساروا منها إلى الديار المصرية ونزلوا على دمياط، وسار الملك الكامل ابن الملك العادل من مصر ونزل قبالتهم واستمر الحال كذلك أربعة أشهر، وأرسل الملك العادل العساكر التي عنده إلى عند ابنه الملك الكامل، فوصلت إليه أولاً فأولاً، ولما اجتمعت العساكر عند الملك الكامل، أخذ في قتال الفرنج، ودفعهم عن دمياط.
ذكر وفاة الملك القاهر صاحب الموصل في هذه السنة توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، صاحب الموصل، وكانت وفاته لثلاث بقين من ربيع الأول، وكانت مدة ملكه سبع سنين وتسعة أشهر، وانقرض بموته ملك البيت الأتابكي، وخلف ولدين، أكبرهما اسمه أرسلان شاه، وكان عمره حينئذ نحو عشر سنين، فأوصى بالملك له، وأن يقوم بتدبير مملكته بدر الدين لؤلؤ، فنصب بدر الدين لؤلؤ في المملكة، وجعل. الخطبة والسكة باسمه، وقام لؤلؤ بتدبر المملكة أحسن قيام.
ذكر قصد كيكاؤوس بن كيخسرو صاحب بلاد الروم حلب ولما مات الملك الظاهر صاحب حلب وأجلس ابنه العزيز في المملكة، وكان طفلاً، طمع صاحب بلاد الروم كيكاؤوس في الاستيلاء على حلب، فاستدعى الملك الأفضل صاحب سميساط، واتفق معه كيكاؤوس أن يفتح حلب وبلادها، ويسلمها إلى الملك الأفضل، ثم يفتح البلاد الشرقية التي بيد الملك الأشرف ابن الملك العادل، ويتسلمها كيكاؤوس، وتحالفا على ذلك.
وسار كيكاؤوس إلى جهة حلب معه الملك الأفضل، روصلا إلى رعبان، واستولى عليها كيكاؤوس، وسلمها إلى الملك الأفضل، فمالت إليه قلوب أهل البلاد لذلك، ثم سار إلى تل باشر وبها ابن دلدرم، ففتحها ولم يسلمها إلى الملك الأفضل، وأخذها كيكاؤوس لنفسه، فنفر خاطر الملك الأفضل وخواطر أهل البلاد بسبب ذلك، ووصل الملك الأشرف ابن الملك العادل إلى حلب لدفع كيكاؤوس عن البلاد، ووصل إليه بها الأمير مانع بن حديثه أمير العرب في جمع عظيم، وكان قد سار كيكاؤوس إلى منبج وتسلمها بنفسه أيضاً، وسار الملك الأشرف بالجموع التي معه ونزل وادي بزاعا واتقع بعض عسكره مع مقدمة عسكر كيكاؤوس، فانهزمت مقدمة عسكر كيكاؤوس، وأخذ من عسكر كيكاؤوس عدة أسرى فأرسلوا إلى حلب، ودقت البشائر لها، ولما بلغ ذلك كيكاؤوس وهو بمنبج ولى منهزماً مرعوباً، وتبعه الملك الأشرف يتخطف أطراف عسكره، ثم حاصر الأشرف تل باشر واسترجعها، كذلك استرجع رعبان وغيرها، وتوجه الملك الأفضل إلى سميساط ولم يتحرك بعدها في طلب ملك إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين وستمائة على وما سنذكره إن شاء الله تعالى، وعاد الملك الأشرف إلى حلب وقد بلغه وفاة أبيه.
ذكر وفاة السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب كان الملك العادل نازلاً بمرج الصفر، وقد أرسل العساكر إلى ولده الملك الكامل بالديار المصرية، ثم رحل للملك العادل من مرج الصفر إلى عالقين، وهي عند عقبة أقبق، فنزل بها ومرض واشتد مرضه، ثم توفي هناك إلى رحمة الله تعالى سابع جمادى الآخرة، من هذه السنة، أعني سنة خمس عشرة وستمائة، وكان مولده سنة أربعين وخمسمائة، وكان عمره خمساً وسبعين سنة، وكانت مدة ملكه لدمشق ثلاثاً وعشرين سنة، وكانت مدة ملكه لمصر نحو تسع عشرة سنة، وكان الملك العادل رحمه الله تعالى، حازماً متيقظاً، غزير العقل، سديد الآراء، ذا مكر وخديعة، وصبوراً حليماً لسمع ما يكره، ويغضي عنه، وأتته السعادة واتسع ملكه، وكثرت أولاده، ورأى فيهم ما يحب، ولم ير أحد من الملوك الذين اشتهرت أخبارهم، في أولاده، من الملك والظفر ما رآه الملك العادل في أولاده، ولقد أجاد شرف الدين بن عنين في قصيدته التي مدح بها الملك العادل التي مطلعها:
ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو سامحوني بالكرى
ومنها:
العادل الملك الذي أسماؤه ... في كل ناحية تشرف منبرا
ما في أبي بكر لمعتقد الهدى ... شك يريب بأنه خير الورى
بين الملوك الغابرين وبينه ... في الفضل ما بين الثريا والثرى
نسخت خلائقه الحميدة ما أتى ... في الكتب عن كسرى الملوك وقيصرا
ومنها في وصف أولاده:
لا تسمعن حديث ملك غيره ... يروى فكل الصيد في جوف الفرا
وله الملوك بكل أرض منهم ... ملك يجر إلى الأعادي عسكرا
من كل وضاح الجبين تخاله ... بدراً فإن شهد الوغى فغضنفرا
وخلف الملك العادل ستة عشر ولداً ذكراً غير البنات، ولما توفي الملك العادل لم يكن عنده أحد من أولاده حاضراً، فحضر إليه ابنه الملك المعظم عيسى، وكان بنابلس بعد وفاته، وكتم موته وأخذه ميتاً في محفة وعاد به إلى دمشق، واحتوى الملك المعظم على جميع ما كان مع أبيه من الجواهر والسلاح والخيول وغير ذلك. ولما وصل دمشق، حلف جميع الناس له، وأظهر موت أبيه، وجلس للعزاء وكتب إلى الملوك من أخوته وغيرهم يخبرهم بموته، وكان في خزانة الملك العادل لما توفي سبع ألف دينار عيناً، ولما بلغ الملك الكامل موت أبيه وهو في قتال الفرنج، عظم عليه ذلك جداً، واختلفت العسكر عليه، فتأخر عن منزلته، وطمعت الفرنج ونهبت بعض أثقال المسلمين، وكان في العسكر عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي ابن أحمد المشطوب، وكان مقدماً عظيماً في الأكراد الهكارية، فعزم على خلع الملك الكامل من السلطنة، وحصل في العسكر اختلاف كثير، حتى عزم الملك الكامل على مفارقة البلاد واللحوق باليمن، وبلغ الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل ذلك، فرحل من الشام، ووصل إلى أخيه الملك الكامل، وأخرج عماد الدين بن المشطوب ونفاه من العسكر إلى الشام، فانتظم أمر السلطان الملك الكامل، وقوى مضايقة الفرنج لدمياط، وضعف أهلها بسبب ما ذكرناه من الفتنة التي حصلت في عسكر الملك الكامل، من ابن المشطوب.
ذكر استيلاء عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي أقسنفر على بعض القلاع المضافة إلى مملكة الموصل قد تقدم في سنة سبع وستمائة أن أرسلان شاه عند وفاته، جعل مملكة الموصل لولده القاهر مسعود، وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي المذكور قلعتي العقر وشوش، فلما مات أخوه القاهر، وأجلس ولده أرسلان شاه بن القاهر في المملكة، وكان به قروح، وأمراض، تحرك عمه عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه وقصد العمادية واستولى عليها، ثم استولى على قلاع الهكارية والروران، فاستنجد بدر الدين لؤلؤ المستولي على ملك الموصل وتدبير أرسلان شاه، بالملك الأشرف ابن الملك العادل، ودخل في طاعته، فأنجده الملك الأشرف بعسكر، وساروا إلى زنكي بن أرسلان شاه فهزموه، وكان زنكي المذكور من وجا ببنت مظفر الدين كوكبوري صاحب أربل، وأم البنت ربيعة خاتون بنت أيوب، أخت السلطان الملك العادل، زوجة مظفر الدين، فكان مظفر الدين لا يترك ممكناً في نجدة صهره زنكي المذكور، ويبالغ في عداوة بدر الدين لؤلؤ لأجل صهره.
وفي هذه السنة توفي علي بن نصر بن هرون النحوي الحلي، الملقب بالحجة، قرأ على ابن الخشاب وغيره. وفيها توفي محمد، وقيل أحمد بن محمد ابن محمد العميدي، الفقيه الحنفي، السمرقندي، الملقب ركن الدين، كان إماماً في فن الخلاف، خصوصاً الحسب، وله فيه طريقة مشهورة، وصنف الإرشاد، واعتنى بشرح طريقته جماعة، منهم القاضي شمس الدين أحمد بن خليل بن سعادة الشافعي الجويني، قاضي دمشق. وبدر الدين المراغي المعروف بالطويل، واشتغل على العميدي خلق كثير، وانتفعوا به، منهم نظام الدين أحمد بن محمود بن أحمد الحنفي المعروف بالحصيري، ونظام الدين الحصيري المذكور، قتله التتر بنيسابور عند أول خروجهم في سنة ست عشرة وستمائة، ولم يقع لنا هذه النسبة، أعني العميدي إلى ماذا.
ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة والملك الأشرف مقيم بظاهر حلب يدبر أمر جندها وإقطاعاتها، والملك الكامل بمصر في مقابلة الفرنج، وهم محدقون محاصرون لثغر دمياط، وكتب الملك الكامل متواصلة إلى إخوته في طلب النجدة.
ذكر وفاة نور الدين صاحب الموصل
وفي هذه السنة توفي نور الدين أرسلان شاه ابن الملك القاهر مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، وكان لا يزال مريضاً، فأقام بدر الدين لؤلؤ في الملك بعده، أخاه ناصر الدين محمود ابن الملك القاهر، وكان عمره يومئذ نحو ثلاث سنين، وهو آخر من خطب له من بيت أتابك، بالسلطنة، وكان أبو القاهر آخر من كان له استقلال بالملك منهم، ثم إن هذا الصبي مات بعد مدة، واستقل بدر الدين لؤلؤ بالملك، وأتته السعادة، وطالت مدة ملكه إلى أن توفي بالموصل، بعد أخذ التتر بغداد، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاه صاحب سنجار وقد تقدم ذكر ولايته في سنة أربع وتسعين وخمسمائة. وفي هذه السنة توفي قطب الدين محمد ابن عماد الدين زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب سنجار، فملك سنجار بعده ولده عماد الدين شاهنشاه بن محمد، وكان قطب الدين حسن السيرة في رعيته، وبقي عماد الدين شاهنشاه في الملك شهوراً، ثم وثب عليه أخوه محمود بن محمد فذبحه وملك سنجار، وهذا محمود هو آخر من ملك سنجار من البيت الأتابكي.
ذكر تخريب القدس وفي هذه السنة أرسل الملك المعظم عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق الحجارين، والنقابين إلى القدس، فخرب سواره، وكانت قد حصنت إلى الغاية، فانتقل منه عالم عظيم، وكان سبب ذلك أن الملك المعظم لما رأى قوة الفرنج تغلبهم على دمياط خشي أن يقصدوا القدس، فلا يقدر على منعهم، فخربه لذلك.
ذكر استيلاء الفرنج على دمياط ولم تزل الفرنج يضايقون دمياط حتى هجموها في هذه السنة عاشر رمضان، وقتلوا وأسروا من بها، وجعلوا الجامع كنيسة، واشتد طمع الفرنج في الديار المصرية، وحين أخذت دمياط ابتنى الملك الكامل مدينة وسماها المنصورة، عند مفترق البحرين الآخذ أحدهما إلى دمياط والآخر إلى أشمون طناخ، ونزل فيها بعساكره.
ذكر ظهور التتر وفي هذه السنة كان ظهور التتر، وقتلهم في المسلمين، ولم ينكب المسلمون بأعظم مما نكبوا في هذه السنة، فمن ذلك ما كان من تمكن الفرنج بملكهم دمياط، وقتلهم أهلها، وأسرهم. ومنه المصيبة الكبرى، وهو ظهور التتر وتملكهم في المدة القريبة أكثر بلاد الإسلام، وسفك دمائهم، وسبي حريمهم وذراريهم، ولم تفجع المسلمون مذ ظهر دين الإسلام بمثل هذه الفجيعة.
وفي هذه السنة خرجوا على علاء الدين محمد خوارزم شاه بن تكش، وعبروا نهر جيحون، ومعهم ملكهم جنكزخان، لعنه الله تعالى، فاستولوا على بخارى رابع ذي الحجة من هذه السنة بالأمان، وعصت عليهم القلعة فحاصروها وملكوها، وقتلوا كل من بها. ثم قتلوا أهل البلد عن آخرهم. من تاريخ ظهور التتر تأليف محمد بن أحمد بن علي المنشي النسوي كاتب إنشاء جلال الدين قال: إن مملكة الصين مملكة متسعة، دورها ستة أشهر، وقد انقسمت من قديم الزمان ستة أجزاء، كل جزء منها مسيرة شهر، يتولى أمره خان، وهو الملك بلغتهم، نيابة عن خانهم الأعظم، وكان خانهم الكبير الذي عاصر خوارزم شاه محمد بن تكش، يقال له الطون خان، وقد توارث الخانية كابراً عن كابر، بل كافراً عن كافر، ومن عادة خانهم الأعظم الإقامة بطوغاج، وهي واسطة الصين، وكان من زمرتهم في عصر المذكور شخص يسمى دوشي خان، وهو أحد الخانات المتولي أحد الأجزاء الستة، وكان مزوجاً بعمة جنكزخان اللعين، وقبيلة جنكزخان اللعين هي المعروفة بقبيلة التمرجي، سكان البراري، ومشتاهم موضع يسمى أرغون، وهم المشهورون بين التتر بالشر والغدر، ولم تر ملوك الصين إرخاء عنانهم لطغيانهم، فاتفق أن دوشي خان زوج عمة جنكزخان مات، فحضر جنكزخان إلى عمته زائراً ومعزياً، وكان الخانان المجاوران لعمل دوشي خان المذكور، يقال لأحدهما كشلوخان، وللآخر فلان خان، فكانا يليان ما يتاخم عمل دوشي خان المذكور المتوفي من الجهتين، فأرسلت امرأة دوشي خان إلى كشليخان، والخان الآخر، تنعي إليهما زوجهما دوشي خان، وأنه لم يخلف ولداً، وأنه كان حسن الجوار لهما، وأن ابن أخيها جنكزخان إن أقيم مقامه يحذو حذو المتوفي في معاضدتهما، فأجابها الخانان المذكوران إلى ذلك، وتولى جنكزخان ما كان لدوشي خان المتوفي من الأمور، بمعاضدة الخانين المذكورين، فلما أنهي الأمر إلى الخان الأعظم، الطون خان، أنكر تولية جنكزخان واستحقره، وأنكر على الخانين اللذين فعلا ذلك، فلما جرى ذلك خلعوا طاعة الطون خان، وانضم إليهم كل من هو من عشائرهم، ثم اقتتلوا مع الطون خان، فولى منهزماً، وتمكنوا من بلاده، ثم أرسل الطون خان وطلب منهم الصلح، وأن يبقوه على بعض البلاد، فأجابوه إلى ذلك وبقي جنكزخان والخانان الآخران مشتركين في الأمر، فاتفق موت الخان الواحد، واستقل بالأمر جنكزخان وكشلوخان، ثم مات كشلوخان، وقام ابنه ولقب بكشلوخان أيضاً، مقامه، فاستضعف جنكزخان جانب كشلوخان بن كشلوخان لصغره وحداثة سنه، وأخل بالقواعد التي كانت مقررة بينه وبين أبيه، فانفرد كشلوخان عن جنكزخان وفارقه لذلك، ووقع بينهما الحرب، فجرد جنكزخان جيشاً مع ولده دوشي خان بن جنكزخان، فسار دوشي خان واقتتل مع كشلوخان، فانتصر دوشي خان وانهزم كشلوخان وتبعه دوشي خان وقتله، وعاد إلى جنكزخان برأسه، فانفرد جنكزخان بالمملكة.
ثم إن جنكزخان راسل خوارزم شاه محمد بن تكش في الصلح، فلم ينتظم، فجمع جنكزخان عساكره والتقى مع خوارزم شاه محمد، فانهزم خوارزم شاه فاستولى جنكزخان على بلاد ما وراء النهر، ثم تبع خوارزم شاه محمداً، وهو هارب بين يديه، حتى دخل بحر طبرستان، ثم استولى جنكزخان على البلاد، ثم كان من خوارزم شاه ومن جنكزخان ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر توجه الملك المظفر محمود ابن صاحب حماة إلى مصر وموت والدته في هذه السنة حلف الملك المنصور، صاحب حماة، الناس، لولده الملك المظفر محمود، وجعله ولي عهده، وجرد معه عسكراً، والطواشي مرشد المنصوري، نجدة إلى الملك الكامل بديار مصر، فسار إليه، ولما وصل إلى الملك الكامل أكرمه وأنزله في ميمنة عسكره، وهي منزلة أبيه وجده في الأيام الناصرية الصلاحية. وبعد توجه الملك المظفر ماتت والدته ملكة خاتون، بنت الملك العادل، قال القاضي جمال الدين، مؤلف مفرج الكروب: وحضرت العزاء وعمري اثنتا عشرة سنة، ورأيت الملك المنصور وهو لابس الحداد على زوجته المذكورة، وهو ثوب أزرق وعمامة زرقاء، وأنشدته الشعراء المراثي، فمن ذلك قصيدة قالها حسام الدين خشترين، وهو جندي كردي، مطلعها.
الطرف في لجة، والقلب في سعر ... له دخان زفير طار بالشرر
ومنها في لبس الملك المنصور الحداد عليها:
ما كنت أعلم أن الشمس قد غربت ... حتى رأيت الدجى ملقى على القمر
لو كان من مات يفدى قبلها لفدى ... أم المظفر آلاف من البشر
ذكر وفاة كيكاؤوس وملك أخيه كيقباذ في هذه السنة توفي الملك الغالب عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود ابن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة سبع وستمائة، وكان قد تعلق به مرض السل، واشتد مرضه ومات. فملك بعده أخوه كيقباذ بن كيخسرو، وكان كيقباذ محبوساً، قد حبسه أخوه كيكاؤوس، فأخرجه لجند وملكوه.
ذكر غير ذلك وفي هذه السنة توفي أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري، الضرير النحوي الحاسب اللغوي، وكان حنبلياً، صحب ابن الخشاب النحوي وغيره. وفيها توفي أبو الحسن علي بن القاسم بن علي بن الحسن الدمشقي، الحافظ بن الحافظ بن الحافظ، المعروف بابن عساكر، وكان قد قصد خراسان وسمع بها الحديث، فأكثر وعاد إلى بغداد، وكان قد وقع على القفل الذي هو فيه، في الطريق، حرامية، وجرحوا ابن عساكر المذكور، ووصل على تلك الحال إلى بغداد، وبقي بها حتى توفي في هذه السنة في جمادى الأولى، رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة والفرنج متملكون على دمياط، والسلطان الملك الكامل مستقر في المنصورة مرابط للجهاد، والملك الأشرف في حران. وكان الملك الأشرف قد أقطع عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، رأس عين، فخرج على الملك الأشرف، وجمع ابن المشطوب المذكور جمعاً، وحسن لصاحب سنجار محمود بن قطب الدين، الخروج عن طاعة الأشرف أيضاً، فخرج بدر الدين لؤلؤ من الموصل، وحصر ابن المشطوب بتل أعفر، وأخذه بالأمان.
ثم قبض عليه وأعلم الملك الأشرف بذلك، فسر به غاية السرور، واستمر عماد الدين أحمد بن سيف الدين بن المشطوب في الحبس. ثم سار الملك الأشرف من حران واستولى على في نيسر، وقصد سنجار، فأتته رسل صاحبها محمود بن قطب الدين، يسأل أن يعطى الرقة عوض سنجار، ليسلم سنجار إلى الملك الأشرف، فأجاب الملك الأشرف إلى ذلك وتسلم سنجار في مستهل جمادى الأولى، وسلم إليه الرقة.
وهذا كان من سعادة الملك الأشرف، فإن أباه الملك العادل نازل سنجار في جموع عظيمة، وطال عليها مقامه، فلم يملكها، وملكها ابنه الملك الأشرف بأهون سعي، وبعد أن فرغ الملك الأشرفي من سنجار، سار إلى الموصل ووصل إليها في تاسع عشر جمادى الأولى، وكان يوم وصوله إليها يوماً مشهوداً. وكتب إلى مظفر الدين صاحب إربل يأمره أن يعيد صهره عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي، على بدر الدين لؤلؤ القلاع التي استولى عليها، فأعادها جميعها، وترك في يده منها العمادية، واستقر الصلح بين الملك الأشرف وبين مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل، وعماد الدين زنكي بن أرسلان شاه صاحب العقر، وشوش والعمادية. وكذلك استقر الصلح بينهم وبين صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ.
ولما استقر ذلك رحل الملك الأشرف عن الموصل ثاني شهر رمضان من هذه السنة، وعاد إلى سنجار، وسلم بدر الدين لؤلؤ قلعة تلعفر إلى الملك الأشرف، ونقل الملك الأشرف ابن المشطوب من حبس الموصل وحطه مقيداً في جب بمدينة حران حتى مات، سنة تسع عشرة وستمائة، ولقي بغيه وخروجه مرة بعد أخرى.
ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حماة
وفي هذه السنة توفي الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، بقلعة حماة، في ذي القعدة، وكانت مدة مرضه إحدى وعشرين يوماً، بحمى حادة وورم دماغه. وكان شجاعاً عالماً يحب العلماء، ورد إليه منهم جماعة كثيرة، مثل الشيخ سيف الدين علي الآمدي، وكان في خدمة الملك المنصور قريب مائتي متعمم من النحاة والفقهاء والمشتغلين بغير ذلك، وصنف الملك المنصور عدة مصنفات، مثل: المضمار في التاريخ، وطبقات الشعراء. وكان معتنياً بعمارة بلده، والنظر في مصالحه، وهو الذي بنى الجسر الذي هو بظاهر حماة خارج باب حمص، واستقر له بعد وفاة والده من البلاد: حماة والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم، ولما فتح بارين وكانت بيد إبراهيم بن المقدم، ألزمه عمه السلطان الملك العادل أن يردها عليه، فأجاب إلى تسليم منبج وقلعة نجم عوضاً عنها، وهما خير من بارين بكثير، واختار ذلك لقرب بارين من بلده، وجرت له حروب مع الفرنج، وانتصر فيها، وكان ينظم الشعر.
ذكر استيلاء الملك الناصر ابن الملك المنصور على حماة ولما توفي الملك المنصور، كان ولده الملك المظفر المعهود إليه بالسلطنة، عند خاله الملك الكامل لديار مصر، في مقابلة الفرنج، وكان ولده الآخر الملك الناصر صلاح الدين قليج أرسلان، عند خاله الآخر الملك المعظم صاحب في دمشق، وهو في الساحل في الجهاد، وقد فتح قيسارية وهدمها، وسار إلى عثليث ونازلها، وكان الوزير بحماة زين الدينا بن فريج، فاتفق هو والكبراء على استدعاء الملك الناصر، لعلمهم بلين عريكته، وشدة بأس الملك المظفر، فأرسلوا إلى الملك الناصر وهو مع الملك المعظم كما ذكرنا، فمنعه الملك المعظم من التوجه إلا بتقرير مال عليه، يحمله إلى الملك المعظم في كل سنة، قيل أن مبلغه أربعمائة ألف درهم، فلما جاب الملك الناصر إلى ذلك، وحلف عليه، أطلقه الملك المعظم، فقدم الملك الناصر إلى حماة واجتمع بالوزير زين الدين بن فريج، والجماعة الذين كاتبوه، فاستحلفوه على ما أرادوا وأصعدوه إلى القلعة، ثم ركب من القلعة بالسناجق السلطانية، وكان عمره إذ ذاك سبع عشرة سنة، لأن مولده سنة ستمائة.
ولما استقر الملك الناصر في ملك حماة، وبلغ أخاه الملك المظفر ذلك، استأذن الملك الكامل في المضي إلى حماة، ظناً منه أنه إذا وصل إليها يسلمونها إليه بحكم الأيمان التي كانت له في أعناقهم، فأعطاه الملك الكامل الدستور، وسار الملك المظفر حتى وصل إلى الغور، فوجد خاله الملك المعظم صاحب دمشق هناك، فأخبره أن أخاه الملك الناصر قد ملك حماة، ويخشى عليه أنه إن وصل إليه يعتقله، فسار الملك المظفر إلى دمشق وأقام بداره المعروفة بالزنجيلي، وكتب الملك المعظم والملك المظفر إلى أكابر حماة في تسليمها إلى الملك المظفر، فلم يحصل منهم إجابة، فعاد الملك المظفر إلى مصر وأقام في خدمة الملك الكامل، وأقطعه إقطاعاً بمصر إلى أن كان ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر استيلاء الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل على خلاط وميافارقين كان قد استقر بيد الملك المظفر المذكور، الرها وسروج، وكانت ميافارقين وخلاط بيد الملك الأشرف، ولم يكن للملك الأشرف ولد، فجعل أخاه الملك المظفر غازي ولي عهده، وأعطاه ميافارقين وخلاط وبلادها، وهي إقليم عظيم يضاهي ديار مصر، وأخذ الملك الأشرف منه الرها وسروج.
وفي هذه السنة توفي بالموصل الشيخ صدر الدين محمد بن عمر بن حمويه، شيخ الشيوخ بمصر والشام، وكان فقيهاً فاضلاً من بيت كبير بخراسان، وخلف أربعة بنين عرفوا بأولاد الشيخ، تقدموا عند السلطان الملك الكامل، وسنذكر بعض أخبارهم في موضعها إن شاء الله تعالى، وكان الشيخ صدر الدين المذكور، قد توجه رسولاً إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، فمات هناك.
ذكر مسير التتر إلى خوارزم شاه وانهزامه وموته
لما ملك التتر سمرقند، أرسل جنكزخان، لعنه الله، عشرين ألف فارس في أثر خوارزم شاه محمد بن تكش، وهذه الطائفة يسميها التتر المغربة، لأنها سارت نحو غرب خراسان، فوصلوا إلى موضع يقال له بنح آو وعبروا هناك نهر جيحون وصاروا مع خوارزم شاه في بر واحد، فلم يشعر خوارزم شاه وعسكره إلا والتتر معه، فتفرق عسكره وذهبوا أيدي سبا، ورحل خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش لا يلوى على شيء في نفر من خواصه، ووصل إلى نيسابور والتتر في إثره، فلما قربوا منه رحل خوارزم شاه إلى مازندران. والتتر في إثره لا يلتفتون إلى شيء من البلاد، ولا إلى غير ذلك، بل قصدهم إدراك خوارزم شاه. وسار من مازندران إلى مرسى من بحر طبرستان تعرف باسكون، وله هناك قلعة في البحر، فعبر هو وأصحابه إليها، فوقف التتر على ساحل البحر وأيسوا من اللحاق بخوارزم شاه.
ولما استقر خوارزم شاه بهذه القلعة، توفي فيها، وهو علاء الدين محمد بن علاء الدين تكش ابن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوشتكين غرشه، وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهوراً، واتسع ملكه وغم محله، ملك من حد العراق إلى تركستان، وملك بلاد غزنة وبعض الهند، وملك سجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس، وكان فاضلاً عالماً بالفقه والأصول وغيرهما، وكان صبوراً على التعب وإدمان السير، وسنذكر شيئاً من أخباره عند ذكر مقتل ولده جلال الدين.
ولما أيس التتر من إدراك خوارزم شاه عادوا إلى مازندران، ففتحوها وقتلوا أهلها، ثم ساروا إلى الري وهمذان ففعلوا كذلك من الفتك والسبي، ثم ملكوا مراغة، في صفر سنة ثمان عشرة وستمائة، ثم ساروا إلى حران واستولوا عليها، ونازلوا خوارزم، وقاتلهم أهلها مدة أشد قتال، ثم فتحوها، وكان لها سد في نهر جيحون ففتحوه، وركب خوارزم الماء فغرقها، وفعلوا في هذه البلاد جميعها من قتل أهلها وسبي ذراريهم وقتل العلماء والصلحاء والزهاد والعباد، وتخريب الجوامع، وتحريق المصاحف، ما لم يسمع بمثله في تاريخ قبل الإسلام، ولا بعده، فإن واقعة بخت نصر مع بني إسرائيل لا تنسب إلى بعض ما فعله هؤلاء، فإن كل واحدة من المدن التي أخربوها أعظم من القدس بكثير، وكل أمة قتلوهم من المسلمين أضعاف بني إسرائيل الذين قتلهم بخت نصر.
ولما فرغ التتر من خراسان عادوا إلى ملكهم، فجهز جيشاً كثيفاً إلى غزنة، وبها جلال الدين منكبرني بن علاء الدين محمد خوارزم شاه المذكور مالكاً لها، وقد اجتمع إليه جمع كثير من عسكر أبيه، قيل كانوا ستين ألف مقاتل، وكان الجيش الذي سار إليهم من التتر اثني عشر ألفاً، فالتقوا مع جلال الذين واقتتلوا قتالاً شديداً، وأنزل الله نصره على المسلمين، وانهزمت التتر، وتبعهم المسلمون يقتلونهم كيف شاؤوا.
ثم أرسل جنكزخان لعنه الله عسكراً أكثر من أول مع بعض أولاده، ووصلوا إلى كابل، وتصافف معهم المسلمون، فانهزم التتر ثانياً وقتل المسلمون فيهم وغنموا شيئاً كثيراً، وكان في عسكر جلال الدين أمير كبير مقدام، هو الذي كسر التتر على الحقيقة، يقال له بغراق، وقع بينه وبين أمير كبير يقال له ملكخان، وهو صاحب هراة، وله نسب إلى خوارزم شاه، فتنة بسبب المكسب، قتل فيها أخو بغراق، فغضب بغراق وفارق جلال الدين وسار إلى الهند، وتبعه ثلاثون ألف فارس، ولحقه جلال الدين منكبرني واستعطفه، فلم يرجع، فضعف عسكر جلال الدين بسبب ذلك، ثم وصل جنكزخان اللعين بنفسه في جيوشه، وقد ضعف جلال الدين بما نقص من جيوشه بسبب بغراق، فلم يكن له بجنكزخان قدرة، فترك جلال الدين البلاد وسار إلى الهند، وتبعه جنكزخان حتى أدركه على ماء عظيم، وهو نهرالسند، ولم يلحق جلال الدين ومن معه أن يعبروا النهر، فاضطروا إلى القتال، وجرى بينهم وبين جنكزخان قتال عظيم لم يسمع بمثله، وصبر الفريقان، ثم تأخر كل منهما عن صاحبه، فعبر جلال الدين ذلك النهر إلى جهة الهند، وعاد جنكزخان فاستولى على غزنة وقتلوا أهلها ونهبوا أموالهم.
وكان قد سار من التتر فرقة عظيمة إلى جهة القفجاق واقتتلوا معهم، فهزمهم التتر واستولوا على مدينة القفجاق العظمى، وتسمى سوادق، وكذلك فعلوا بقوم يقال لهم اللكزي، بلادهم قرب دربند شروان، ثم سار التتر إلى الروس، وانضم إلى الروس القفجاق، وجرى بينهم وبين التتر قتال عظيم انتصر فيه التتر عليهم، وشردوهم قتلاً وهرباً في البلاد.
وفيها في شوال توفي رضي الدين المؤيد بن محمد بن علي الطوسي الأصل النيسابوري الدار، المحدث، وكان أعلى المتأخرين إسناداً، سمع كتاب مسلم من الفقيه أبي عبد الله محمد بن الفضل القراوي، وكان القراوي فاضلاً قرأ الأصول على إمام الحرمين، وسمع القراوي المذكور صحيح مسلم على عبد الغافر الفارسي، وكان عبد الغافر إماماً في الحديث، صنف شرح مسلم وغيره، وتوفي محمد بن الفضل القراوي سنة ثلاثين وخمسمائة، وتوفي عبد الغافر في سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وكانت ولادة رضي الدين المؤيد المذكور في سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ظناً.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وستمائة: ذكر عود دمياط إلى المسلمين وفي هذه السنة قوي طمع الفرنج المتملكين دمياط في ملك الديار المصرية، وتقدموا عن دمياط إلى جهة مصر، ووصلوا إلى المنصورة، واشتد القتال بين الفريقين براً وبحراً، وكتب السلطان الملك الكامل متواترة إلى إخوته وأهل بيته يستحثهم على إنجاده، فسار الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل صاحب دمشق إلى أخيه الملك الأشرف، وهو ببلاده الشرقية، واستنجده وطلب منه المسير إلى أخيهما الملك الكامل، فجمع الملك الأشرف عساكره واستصحب عسكر حلب، وكذلك استصحب معه الملك الناصر قليج أرسلان ابن الملك المنصور صاحب حماة، وكان الملك الناصر خائفاً من السلطان، الملك الكامل، أن ينتزع حماة منه ويسلمها إلى أخيه الملك المظفر، فحلف الملك الأشرف للملك الناصر صاحب حماة أنه ما يمكن أخاه السلطان الملك الكامل من التعرض إليه، فسار معه بعسكر حماة، وكذلك سار صحبة الملك الأشرف كل من صاحب بعلبك الملك الأمجد، بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه ابن أيوب، وصاحب حمص الملك المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذي، وسار الملك المعظم عيسى بعسكر دمشق، ووصلوا إلى الملك الكامل وهو في قتال الفرنج على المنصورة، فركب والتقى أخويه ومن في صحبتهما من الملوك، وأكرمهم، وقويت نفوس المسلمين، وضعفت نفس الفرنج بما شاهدوه من كثرة عساكر الإسلام وتحملهم، واشتد القتال بين الفريقين، ورسل الملك كامل وأخويه مترددة إلى الفرنج في الصلح، وبذل المسلمون لهم تسليم القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة، وجميع ما فتحه السلطان صلاح الدين من الساحل، مما عدا الكرك والشوبك، على أن يجيبوا إلى الصلح ويسلموا دمياط إلى المسلمين، فلم يرض الفرنج بذلك، وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار، عوضاً عن تخريب أسوار القدس، فإن الملك المعظم عيسى خربها كما تقدم ذكره، وقالوا لا بد من تسليم الكرك والشوبك.
وبينما الأمر متردد في الصلح، والفرنج ممتنعون من الصلح، إذ عبر جماعة من عسكر المسلمين في بحر المحلة، إلى الأرض التي عليها الفرنج من بر دمياط، ففجروا فجرة عظيمة من النيل، وكان ذلك في قوة زيادته، والفرنج لا خبرة لهم بأمر النيل، فركب الماء تلك الأرض وصار حائلاً بين الفرنج وبين دمياط، وانقطع عنهم الميرة والمدد، فهلكوا جوعاً، وبعثوا يطلبون الأمان، على أن ينزلوا عن جميع ما بذله المسلمون لهم ويسلموا دمياط ويعقدوا مدة للصلح، وكان فيهم عدة ملوك كبار، نحو عشرين ملكاً، فاختلفت الآراء بين يدي السلطان الملك الكامل في أمرهم، فبعضهم قال: لا نعطيهم أماناً، ونأخذهم ونتسلم بهم ما بقي بأيديهم من الساحل، مثل عكا وغيرها، ثم اتفقت آراؤهم على إجابتهم إلى الأمان، لطول مدة البيكار، وتضجر العساكر لأنهم كان لهم ثلاث سنين وشهور في القتال معهم، فأجابهم الملك الكامل إلى ذلك، وطلب الفرنج رهينة من الملك الكامل، فبعث ابنه الملك الصالح أيوب، وعمره يومئذ خمس عشرة سنة إلى الفرنج رهينة، وحضر من الفرنج رهينة على ذلك ملك عكا، ونائب البابا صاحب رومية الكبرى، وكندريس، وغيرهم من الملوك، وكان ذلك سابع رجب من هذه السنة.
واستحضر الملك الكامل ملوك الفرنج المذكورين، وجلس لهم مجلساً عظيماً، ووقف بين يديه الملوك من إخوته وأهل بيته جميعهم، وسلمت دمياط إلى المسلمين تاسع عشر رجب من هذه السنة، وقد حصنها الفرنج إلى غاية ما يكون، وولاها السلطان الملك الكامل، الأمير شجاع الدين جلدك التقوي، وهو من مماليك الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وهنت الشعراء الملك الكامل بهذا الفتح العظيم، ثم سار السلطان الملك الكامل ودخل دمياط ومعه إخوته وأهل بيته، وكان يوماً مشهوداً، ثم توجه إلى القاهرة وأذن للملوك في الرجوع إلى بلادهم، فتوجه الملك الأشرف إلى الشرق، وانتزع الرقة من محمود، وقيل اسمه عمر بن قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، ولقي بغيه على أخيه، فإنا ذكرنا كيف وثب على أخيه وقتله وأخذ سنجار، ثم أقام الملك الأشرف بالرقة، وورد إليه، الملك الناصر صاحب حماة فأقام عنده مدة، ثم عاد إلى بلده.
ذكر وفاة صاحب آمد وفي هذه السنة توفي الملك الصالح ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب آمد وحصن كيفا بالقولنج، وقام في الملك بعده ولده الملك المسعود، وهو الذي انتزع منه الملك الكامل آمد، وكان الملك الصالح المذكور قبيح السيرة، وقد أورد ابن الأثير وفاته في سنة تسع عشرة.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة في جمادى الآخرة، خنق قتادة بن إرديس العلوي الحسني أمير مكة وعمره نحو تسعين سنة، وكانت ولايته قد اتسعت إلى نواحي اليمن، وكان حسن السيرة في مبتدأ أمره، ثم أساء السيرة وجدد المظالم والمكوس، وصورة ما جرى له أن قتادة كان مريضاً، فأرسل عسكراً مع أخيه ومع ابنه الحسن بن قتادة للاستيلاء على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذها من صاحبها، فوثب الحسن بن قتادة في أثناء الطريق على عمه فقتله، وعاد إلى أبيه قتادة بمكة فخنقه، وكان له أخ نائباً، بقلعة ينبع، عن أبيه، فأرسل إليه الحسن فحضر إلى مكة فقتله أيضاً، وارتكب الحسن أمراً عظيماً، قتل عمه وأباه وأخاه في أيام يسيرة، واستقر في ملك مكة، وقيل إن قتادة كان يقول الشعر، وطولب أن يحضر إلى أمير الحاج العراقي فامتنع، وعوتب من بغداد، فأجاب بأبيات شعر منها:
ولي كف ضرغام أصول ببطشها ... وأشري بها بين الورى وأبيع
تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها ... وفي بطنها للمجد بين ربيع
أأجعلها تحت الرحى ثم أبتغي ... خلاصاً لها، إني إذاً لرقيع
وما أنا إلا المسك في كل بلدة ... يضوع، وأما عندكم فيضيع
وفيها توفي جلال الدين الحسن صاحب الألموت ومقدم الإسماعيلية، وولي بعده ابنه علاء الدين محمد.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة وفي هذه السنة استقل بدر الدين لؤلؤ بملك الموصل، وتوفي الطفل الذي كان قد نصبه في المملكة، وهو ناصر الدين محمود ابن الملك القاهر مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، وسمى لؤلؤ نفسه الملك الرحيم، وكان قد اعتضد بالملك الأشرف ابن الملك العادل، فدافع عنه ونصره، وقلع لؤلؤ البيت الأتابكي بالكلية، واستمر مالكاً للموصل نيفاً وأربعين سنة، سوى ما تقدم له من الاستيلاء والتحكم في أيام أستاذه نور الدين أرسلان شاه، وابنه الملك القاهر مسعود.
وفي هذه السنة سار الملك الأشرف إلى خدمة أخيه الملك الكامل، وأقام عنده بمصر منزهاً إلى أن خرجت هذه السنة.
وفي هذه السنة فوض الأتابك طغريل الخادم مدير مملكة حلب، إلى الملك الصالح أحمد بن الظاهر آمر الشغر وبكاس، فسار الملك الصالح من حلب واستولى عليهما، وأضاف إليه الروج ومعرة ومصرين.
وفي هذه السنة قصد الملك المعظم عيسى صاحب دمشق حماة، لأن الملك الناصر صاحب حماة كان قد التزم له بمال يحمله إليه إذا ملك حماة، فلم يف له، فقصد الملك المعظم حماة ونزل بقيرين، وغلقت أبواب حماة، فقصدها الملك المعظم وجرى بينهم قتال قليل، ثم ارتحل الملك المعظم إلى سلمية فاستولى على حواصلها، وولي عليها، ثم توجه إلى المعرة فاستولى عليها وأقام فيها والياً من جهته، وقرر أمورها، ثم عاد إلى سلمية فأقام بها حتى خرجت هذه السنة على قصد منازلة حماة.
وفي هذه السنة حج من اليمن الملك المسعود يوسف، الملقب أطسز، وهو اسم تركي، والعامة تسميه أقسيس، وكان قد استولى على اليمن سنة اثنتي عشرة وستمائة، وقبض على سليمان شاه بن شاهنشاه بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وحج في هذه السنة، فلما وقف الملك المسعود في هذه السنة بعرفة، وتقدمت أعلام الخليفة الإمام الناصر لترفع على الجبل، تقدم الملك المسعود بعساكره ومنع من ذلك، وأمر بتقديم أعلام أبيه السلطان الملك الكامل على أعلام الخليفة، فلم يقدر أصحاب الخليفة على منعه من ذلك، ثم عاد الملك المسعود إلى اليمن، وبلغ ذلك الخليفة، فعظم عليه، وأرسل يشكو إلى الملك الكامل، فاعتذر عن ذلك فقبل عذره، وأقام الملك المسعود في اليمن مدة يسيرة ثم عاد إلى مكة ليستولي عليها، فقاتله الحسن بن قتادة، فانتصر الملك المسعود وانهزم الحسن بن قتادة، واستقرت مكة في ملك الملك المسعود، وولي عليها، وذلك في ربيع الأول من سنة عشرين وستمائة، ثم عاد إلى اليمن.
وفيها توفي الشيخ يونس بن يوسف بن مساعد شيخ الفقراء المعروفة باليونسية، وكان رجلاً صالحاً وله كرامات، وكانت وفاته بقرية القنبة من أعمال دارا، وقد ناهز تسعين سنة، وقبره مشهور هناك.
ثم دخلت سنة عشرين وستمائة والأشرف بديار مصر عند أخيه الملك الكامل، وأخوهما الملك المعظم بسلمية مستول عليها، وعلى المعرة، عازم على حصار حماة، وبلغ الملك الأشرف ما فعله أخوه المعظم بصاحب حماة، فعظم عليه ذلك، واتفق مع أخيه الكامل على الإنكار على الملك المعظم، وترحيله، فأرسل إليه الملك الكامل ناصح الدين الفارسي، فوصل إلى الملك المعظم وهو بسلمية وقال له: السلطان يأمرك بالرحيل فقال: السمع والطاعة، وكانت أطماعه قد قويت على الاستيلاء على حماة، فرحل مغضباً على أخويه الكامل والأشرف، ورجعت المعرة وسلمية للناصر، وكان الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، مقيماً عند الملك الكامل بالديار المصرية كما تقدم ذكره، وكان الملك الكامل يؤثر تمليكه حماة، لكن الملك الأشرف غير مجيب إلى ذلك لانتماء الناصر الملك صاحب حماه إليه، وجرى بين الكامل والأشرف في ذلك مراجعات كثيرة، آخرها أنهما اتفقا على نزع سلمية من يد الناصر قليج أرسلان وتسليمها إلى أخيه الملك المظفر، فتسلمها الملك المظفر وأرسل إليها وهو بمصر نائباً من جهته، حسام الدين أبا علي بن محمد بن علي الهذباني، واستقر بيد الملك الناصر حماة والمعرة وبعرين،، ثم سار الأشرف من مصر واصطحب معه خلعة وسناجق سلطانية من أخيه الملك الكامل، للملك العزيز صاحب حلب، وعمره يومئذ عشر سنين، ووصل الأشرف بذلك إلى حلب، وأركب الملك العزيز في دست السلطنة، وفي هذه السنة لما وصل الملك الأشرف بالخلعة المذكورة إلى حلب، اتفق مع الملك الأشرف كبراء الدولة الحلبية على تخريب قلعة اللاذقية، فأرسلوا عسكراً وهدموها إلى الأرض.
ذكر أحوال غياث الدين أخي جلال الدين ابني خوارزم شاه محمد كان لجلال الدين منكبرني أخ يقال له غياث الدين تيزشاه، وكان قد ملك غياث الدين المذكور كرمان، فلما توجه جلال الدين منكبرني إلى الهند كما تقدم ذكره في سنة سبع عشرة، تغلب غياث الدين على الري وأصفهان وهمذان وغير ذلك من عراق العجم، وهي البلاد المعروفة ببلاد الجبل، فخرج على غياث الدين خاله يعيان طابسي، وكان أكبر أمرائه وأقربهم إليه فاقتتل مع غياث الدين يعيان طابسي ومن معه، وأقام غياث الدين في بلاده مؤيداً منصور.
ذكر حادثة غريبة
كان أهل مملكة الكرج قد مات ملكهم، ولم يبق من بيت الملك غير امرأة، فملكوها، وطلبوا لها رجلاً يتزوجها ويقوم بالملك، ويكون من أهل بيت المملكة، فلم يجدوا فيهم أحداً يصلح لذلك، وكان صاحب أرزن الروم، مغيث الدين طغريل شاه بن قليج أرسلان السلجوقي، من بيت كبير مشهور، فأرسل يخطب الملكة لولده ليتزوجها، فامتنعوا من إجابته، إلا أن يتنصر، فأمر ولده فتنصر وسار إلى الكرج وتزوج ملكتهم وكانت هذه الملكة تهوى مملوكاً لها، ويعلم ابن طغريل شاه بذلك، وتكامن، فدخل يوماً إلى البيت فوجد المملوك نائماً معها في الفراش فلم يصبر المذكور على ذلك، فأنكر عليها، فأخذته زوجته واعتقلته في بعض القلاع، ثم أحضرت رجلين كانا قد وصفا لها بحسن الصورة، فتزوجت أحدهما ثم فارقته، وأحضرت إنساناً من كنجة، مسلماً وهويته وسألته أن يتنصر لتتزوج به، فلم يجب إلى ذلك، وترددت الرسل بينهما في ذلك مدة، فلم يجبها إلى التنصر.
ذكر وفاة ملك الغرب في هذه السنة توفي يوسف المستنصر ملك الغرب، ابن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة عشر وستمائة، وكان يوسف المذكور منهمكاً في اللذات، فدخل الوهن على الدولة بسبب ذلك، ولم يخلف يوسف المذكور ولداً، فاجتمع كبراء الدولة وأقاموا عم أبيه لكبر سنه، وهو عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن، ولقبوه المستضيء، وكان عبد الواحد المذكور قد صار فقيراً بمراكش، وقاسى الدهر، فلما تولى اشتغل باللذات والتنعم في المآكل والملابس من غير أن يشرب خمراً، ثم خلع عبد الواحد المذكور بعد تسعة أشهر من ولايته وقتل، وملك بعده ابن أخيه عبد الله، وتلقب بالعادل، وهو عبد الله بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة في هذه السنة وصل التتر إلى قرب تبريز، وأرسلوا إلى صاحبها أزبك بن البهلوان يقولون له: إن كنت في طاعتنا فأرسل من عندك من الخوارزمية إلينا، فأوقع أزبك بمن عنده من الخوارزمية، وقتل بعضهم، وأسر الباقين وأرسلهم إلى التتر مع تقدمة عظيمة، فكفوا عن بلاد أزبك وعادوا إلى بلاد خراسان.
وفيها استولى غياث الدين تيزشاه أخو جلال الدين بن خوارزم شاه على غالب مملكة فارس، وكان صاحب فارس يقال له الأتابك سعد بن دكلا، وأقام غياث الدين بشيراز، وهي كرسي مملكة فارس، ولم يبق مع الأتابك سعد من فارس غير الحصون المنيعة، ثم اصطلح غياث مع الأتابك سعد، على أن يكون لسعد بعض بلاد فارس، ولغياث الدين الباقي.
ذكر عصيان المظفر غازي ابن الملك العادل على أخيه الملك الأشرف كان الملك الأشرف قد أنعم على أخيه الملك المظفر غازي بخلاط، وهي مملكة عظيمة، وهي إقليم أرمينية، وكان قد حصل بين الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، وبين أخويه الكامل والأشرف وحشة، بسبب ترحيله عن حماة، كما قدمنا ذكره. فأرسل المعظم وحسن لأخيه المظفر غازي صاحب خلاط العصيان على أخيه الملك الأشرف. فأجاب الملك المظفر إلى ذلك وخالف أخاه الملك الأشرف، وكان قد اتفق مع المعظم والمظفر غازي صاحب إربل مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كجك، وكان بدر الدين لؤلؤ منتمياً إلى الملك الأشرف، فسار مظفر الدين صاحب إربل وحصر الموصل عشرة أيام، وكان نزوله على الموصل ثالث شهر جمادى الآخرة من هذه السنة، ليشغل الملك الأشرف عن قصد أخيه بخلاط، ثم رحل مظفر الدين عن الموصل لحصانتها، فلم يلتفت الملك الأشرف إلى محاصر الموصل وسار إلى خلاط، وحصر أخاه شهاب الدين غازي، فسلمت إليه مدينة خلاط، وانحصر أخوه غازي بقلعتها إلى الليل، فنزل من القلعة إلى أخيه الملك الأشرف واعتذر إليه، فقبل عذره وعفا عنه وأقره على ميافارقين، وارتجع باقي البلاد منه، وكان استيلاء الملك الأشرف على خلاط وأخذها من أخيه في جمادى الآخرة من هذه السنة.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة: ذكر وصول جلال الدين من الهند إلى البلاد
قد تقدم في سنة سبع عشرة وستمائة ذكر هروب جلال الدين من غزنة، لما قصده جنكزخان، وأنه دخل بلاد الهند، فلما كانت هذه السنة، قدم من الهند إلى كرمان ثم إلى أصفهان واستولى عليها وعلى باقي عراق العجم، ثم سار إلى فارس وانتزعها من أخيه غياث الدين تيزشاه بن محمد، وأعادها إلى صاحبها أتابك سعد بن دكلا صاحب بلاد فارس، وصار أتابك سعد المذكور، وغياث الدين تيزشاه أخو جلال الدين، تحت حكم جلال الدين وفي طاعته، ثم استولى جلال الدين على خورستان، وكاتب الخليفة الإمام الناصر.
ثم سار جلال الدين حتى قارب بغداد ووصل إلى يعقوبا، وخاف أهل بغداد منه واستعدوا للحصار، ونهبت الخوارزمية البلاد، وامتلأت أيديهم من الغنائم، وقوي أمر جلال الدين وجميع عسكره الخوارزمية، ثم سار إلى قريب إربل، فصالحه صاحبها مظفر الدين ودخل في طاعته، ثم سار جلال الدين إلى أذربيجان وكرسي مملكتها تبريز، فاستولى على تبريز، وهرب صاحب أذربيجان، وهو مظفر الدين أزبك بن البهلوان بن الدكز، وكان أزبك المذكور قد قوي أمره لما قتل طغريل آخر الملوك السلجوقية ببلاد العجم، فاستقل أزبك المذكور في المملكة، وكان أزبك المذكور لا يزال مشغولاً بشرب الخمر، وليس له التفات إلى تدبير المملكة، فلما استولى جلال الدين على تبريز، هرب أزبك إلى كنجة، وهي من بلاد آران، قرب بردعة، ومتاخمة لبلاد الكرج، واستقل السلطان جلال الدين بملك أذربيجان، وكثرت عساكره واستفحل أمره، ثم جرى بين جلال الدين وبين الكرج قتال شديد، انهزم فيه الكرج، وتبعهم الخوارزمية يقتلونهم كيف شاؤوا، واتفق أنه ثبت على قاضي تبريز وقوع الطلاق من أزبك بن البهلوان بن الدكز، على زوجته بنت السلطان طغريل آخر الملوك السلجوقية، المقدم ذكره، فتزوج جلال الدين ببنت طغريل المذكور، وأرسل جيشاً إلى مدينة كنجة ففتحوها، فهرب مظفر الدين أزبك بن محمد البهلوان من كنجة إلى قلعة هناك، ثم هلك وتلاشى أمره.
ذكر وفاة الملك الأفضل نور الدين علي ابن السلطان صلاح الدين يوسف في هذه السنة توفي الملك الأفضل المذكور، وليس بيده غير سميساط فقط، وكان موته فجأة، وعمره سبع وخمسون سنة، وكان الملك الأفضل فاضلاً حسن السيرة، وتجمع فيه الفضائل والأخلاق الحسنة، وكان مع ذلك قليل الحظ، وله الأشعار الحسنة، فمنها يعرض إلى سوء حظه قوله:
يا من يسود شعره بخضابه ... لعساه من أهل الشبيبة يحصل
ها فاختضب بسواد حظي مرة ... ولك الأمان بأنه لا ينصل
ولما أخذت منه دمشق، كتب إلى بعض أصحابه كتاباً منه: أما أصحابنا لدمشق فلا علم لي بأحد منهم. وسبب ذلك:
أي صديق سألت عنه ففي ... الذل وتحت الخمول في الوطن
وأي ضد سألت حالته ... سمعت ما لا تحبه أذني
ذكر وفاة الإمام الناصر وفي أول شوال من هذه السنة، توفي الخليفة الناصر لدين الله، وكانت مدة خلافته نحو سبع وأربعين سنة، وعمي في آخر عمره، وكان موته بالدوسنطاريا، وهو الإمام الناصر لدين الله، أبو العباس أحمد، بن المستضيء حسن بن المستنجد يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر أحمد بن المقتدي عبد الله بن الأمير ذخيرة الدين محمد بن القائم عبد الله بن القادر أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر جعفر بن المكتفي علي بن المعتضد أحمد بن الأمير الموفق.
وقيل اسمه طلحة، وقيل محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن رشيد هارون بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، العباس بن عبد المطلب بن هاشم. وكان عمر الإمام الناصر نحو سبعين سنة، وكان قبيح السيرة في رعيته، ظالماً لهم، خرب في أيامه العراق، تفرق أهله في البلاد، وكان يتشيع، وكان منصرف الهمة إلى رمي البندق والطيور المناسيب، ويلبس سراويلات الفتوة، ومنع رمي البندق إلا من ينسب إليه، فأجابه الناس إلى ذلك إلا إنساناً واحداً يقال له ابن السفت وهرب من بغداد إلى الشام، وقد نسب الإمام الناصر أنه هو الذي كاتب التتر وأطمعهم في البلاد، بسبب ما كان بينه ين خوارزم شاه محمد بن تكش من العداوة، ليشغل خوارزم شاه بهم عن قصد العراق.
خلافة الظاهر
وهو خامس ثلاثينهم، ولما توفي الإمام الناصر بويع ولده الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد، فأظهر العدل، وأزال المكوس، وأخرج المحبوسين، وظهر للناس، وكان الناصر ومن قبله لا يظهرون إلا نادراً، ولم تطل مدته في الخلافة، غير تسعة أشهر.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة فيها سار الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل صاحب دمشق ونازل حمص، وكان قد اتفق مع جلال الدين بن خوارزم شاه، ومع مظفر الدين صاحب إربل، على أن يكونوا يداً واحدة، وكان الملك الأشرف ببلاده الشرقية، ثم رحل المعظم عن حمص إلى دمشق بسبب كثرة ما مات من خيله وخيل عسكره، وورد عليه أخوه الملك الأشرف طلباً للصلح، وقطعاً للفتن، فبقي مكرماً ظاهراً، وهو في الباطن كالأسير معه، وأقام الملك الأشرف عند أخيه المعظم إلى أن انقضت هذه السنة، وأما الملك الكامل فإنه كان بمصر، وقد تخيل من بعض عسكره، فما أمكنه الخروج عنها.
وفي هذه السنة فتح السلطان جلال الدين تفليس من الكرج، وهي من المدن العظام.
وفي هذه السنة سار جلال الدين ونازل خلاط، وهي منازلته الأولى، فطال القتال بينهم، وكان نائب الأشرف بخلاط، الحاجب حسام الدين علي الموصلي، وكان نزوله عليها ثالث عشر ذي القعدة، ورحل عنها لسبع بقين من ذي الحجة من هذه السنة، بسبب كثرة الثلوج.
ذكر وفاة الخليفة الظاهر بأمر الله وفي رابع عشر رجب من هذه السنة، توفي الخليفة الظاهر بأمر الله محمد ابن الناصر لدين الله، وكان متواضعاً محسناً إلى الرعية جداً، وأبطل عدة مظالم منها: أنه كان بخزانة الخليفة صنجة زائدة يقبضون بها المال، ويعطون بالصنجة التي يتعامل بها الناس، وكان زيادة الصنجة في كل دينار حبة، فخرج توقيع الظاهر بإبطال ذلك، وأوله. " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " المطففين: 1، 2، 3. وعمل صنجة المخزن مثل صنجة المسلمين، وكان مضاداً لأبيه الناصر في كثير من أحواله، منها: أن مدة خلافة أبيه كانت طويلة، ومدة خلافته كانت قصيرة، وكان أبوه متشيعاً، وكان الظاهر سنياً، وكان أبوه ظالماً جماعاً للمال، وكان الظاهر في غاية العدل وبذل الأموال للمحبوسين على الديون وللعلماء.
خلافة المستنصروهو سادس ثلاثينهم، ولما توفي الظاهر، ولي الخلافة بعده ولده الأكبر المستنصر بالله أبو جعفر المنصور، وكان للظاهر ولد آخر يقال له الخفاجي، في غاية الشجاعة، وبقي حياً حتى أخذت التتر بغداد، وقتل، ولما تولى المستنصر الخلافة سلك في العدل والإحسان مسلك أبيه الظاهر.
ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة سار علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم إلى بلاد الملك المسعود الأرتكي صاحب آمد، فنزل كيقباذ بملطية، وهي من بلاد كيقباذ، وأرسل عسكراً ففتحوا حصن منصور وحصن الكختا، وكانا لصاحب آمد المذكور.
وفيها في خامس عشر ذي الحجة نازل جلال الدين مدينة خلاط، وهي للملك الأشرف وبها نائبه حسام الدين علي الحاجب، وهي منازلته الثانية، وجرى بينهم قتال شديد، وأدركه البرد فرحل عنها في السنة المذكورة.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة والملك الكامل بديار مصر، وجلال الدين خوارزم شاه مالك أذربيجان وآران وبعض بلاد الكرج وعراق العجم وغيرها، وهو موافق الملك المعظم على حرب أخويه الكامل والأشرف، والرسل لا تنقطع بين المعظم وجلال الدين، والملك الأشرف مقيم كالأسير عند أخيه الملك المعظم، ولما رأى الملك الأشرف حاله مع أخيه المعظم، وأنه لا خلاص له منه إلا بإجابته إلى ما يريد، أجابه كالمكره إلى ما طلبه منه، وحلف له أن يعاضده ويكون معه على أخيهما الملك الكامل، وأن يكون معه على صاحبي حماة وحمص، فلما حلف له على ذلك أطلقه الملك المعظم، فرحل الملك الأشرف في جمادى الآخرة من هذه السنة، فكانت مدة مقامه مع المعظم نحو عشرة أشهر.
ولما استقر الملك الأشرف ببلاده، رجع عن جميع ما تقرر بينه وبين أخيه الملك المعظم، وتأول في أيمانه التي حلفها أنه مكره، ولما تحقق الملك الكامل اعتضاد أخيه الملك المعظم بجلال الدين، خاف من ذلك وكاتب الإمبراطور ملك الفرنج في أن يقدم إلى عكا ليشغل سر أخيه المعظم عما هو فيه، ووعد الإمبراطور بأن يعطيه القدس، فسار الإمبراطور إلى عكا، فبلغ المعظم ذلك، فكاتب أخاه الأشرف واستعطفه.
وفي هذه السنة انتزع الأتابك طغريل، الشغر وبكاس من الملك الصالح أحمد ابن.الملك الظاهر، وعوضه عنها بعينتاب والراوندان.
وفيها سار الحاجب حسام الدين علي، نائب الملك الأشرف بخلاط، بعساكر الملك الأشرف إلى بلاد جلال الدين، واستولى على خوى وسلماس ونقجوان.
ذكر وفاة الملك المعظم صاحب دمشق في هذه السنة في ذي القعدة، توفي الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أيي بكر بن أيوب بقلعة دمشق، بالدوسنطاريا، وعمره تسع وأربعون سنة، وكانت مدة ملكه دمشق تسع سنين وشهوراً وكان شجاعاً، وكان عسكره في غاية التجمل، وكان يجامل أخاه الملك الكامل ويخطب له ببلاده، ولا يذكر اسمه معه، وكان الملك المعظم قليل التكلف جداً، في غالب الأوقات لا يركب بالسناجق السلطانية، وكان يركب وعلى رأسه كلوته صفراء، بلا شاش، ويتخرق الأسواق من غير أن يطرق بين يديه كما جرت عادة الملوك، ولما كثر مثل هذا منه، صار، الإنسان إذا فعل أمراً لا يتكلف له، يقال قد فعله بالمعظمي، وكان عالماً فاضلاً في الفقه والنحو وكان شيخه في النحو تاج الدين زيد بن الحسن الكندي، وفي الفقه جمال الدين الحصيري، وكان حنفياً متعصباً لمذهبه، وخالف جميع أهل بيته فإنهم كانوا شافعية، ولما توفي الملك المعظم ترتب في مملكته وأعمالها بعده ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، وقام بتدبير مملكته مملوك والده وأستاذ داره الأمير عز الدين أيبك المعظمي، وكان لأيبك المذكور صرخد.
ذكر وفاة ملك المغرب
وأخبار الذين تملكوا بعدهوفي هذه السنة خلع العادل عبد الله بن يعقوب، المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة عشرين وستمائة، بعد خلع عبد الواحد وقتله. وفي أيام العادل عبد الله المذكور، كانت الوقعة بين المسلمين والفرنج بالأندلس على طليطلة، انهزمت فيها المسلمون هزيمة قبيحة، وهذه الوقعة هي التي هدت دعائم الإسلام بالأندلس، ولما خلع عبد الله العادل المذكور، حبس ثم خنق، ونهب المصموديون قصره بمراكش، واستباحوا حرمه.
ثم ملك بعده يحيى بن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، ويحيى يومئذ ما خط عذاره، ولما تمت بيعة يحيى وصل الخبر أنه قد قام بإشبيلية إدريس بن يعقوب المنصور، وهو أخو العادل عبد الله، وتلقب إدريس بالمأمون، وجميعهم كانوا يتلقبون بأمير المؤمنين، وتعقد البيعة لهم بالخلافة، ولما استقر أمر إدريس المأمون المذكور في إشبيلية، ثارت جماعة من أهل مراكش، وانضم إليهم العرب ووثبوا على يحيى بن محمد الناصر بمراكش، فهرب يحيى إلى الجبل، ثم اتصل بعرب المعقلي فغدروا به وقتلوه، وخطب للمأمون إدريس في مراكش، واستقر أمره في الخلافة بالبرين، بر الأندلس وبر العدوة.
ثم خرج على المأمون إدريس المذكور بشرق الأندلس، المتوكل بن هود، واستولى على الأندلس، ففارق إدريس الأندلس وسار من إشبيلية وعبر البحر ووصل إلى مراكش، وخرجت الأندلس حينئذ عن ملك بني عبد المؤمن، ولما استقر المأمون إدريس في ملك مراكش تتبع الخارجين على من تقدمه من الخلفاء، فقتلهم عن آخرهم، وسفك دماء كثيرة، حتى سموه لذلك حجاج المغرب، وكان المأمون إدريس المذكور فصيحاً عالماً بالأصول والفروع، ناظماً ناثراً، أمر بإسقاط اسم مهديهم ابن تومرت من الخطبة على المنابر، وعمل في ذلك رسالة طويلة، أفصح فيها بتكذيب مهديهم المذكور، وضلاله، ثم ثار على إدريس المذكور أخوه، بسبتة، فسار إدريس من مراكش إليه وحصره بسبتة، ثم بلغ إدريس وهو محاصر سبتة أن بعض أولاد محمد الناصر بن يعقوب المنصور قد دخل إلى مراكش، فرحل إدريس عن سبتة وسار إلى مراكش فمات في الطريق، بين سبتة ومراكش.
ولما مات المأمون إدريس، ملك بعده ابنه عبد الواحد بن المأمون إدريس، وتلقب المذكور بالرشيد، ثم توفي الرشيد عبد الواحد بن المأمون إدريس بن يعقوب المنصور ابن يوسف بن عبد المؤمن غريقاً في صهريج بستان له، بحضرة مراكش، في سنة أربعين وستمائة، وكان الرشيد عبد الواحد المذكور حسن السياسة، وكان أبوه إدريس قد أبطل اسم مهديهم من الخطبة، فأعاده عبد الواحد المذكور، وقمع العرب، إلا أنه تخلى للذاته لما استقر أمره، ولم يخطب للرشيد عبد الواحد المذكور بإفريقية، ولا بالمغرب الأوسط.
ولما مات الرشيد عبد الواحد المذكور، ملك بعده أخوه علي بن إدريس، وتلقب بالمعتضد أمير المؤمنين، وكان أسود اللون، وكان مدحوضاً في حياة والده، وسجنه في بعض الأوقات، وقدم عليه أخاه الصغير عبد الواحد المذكور، واستمر المعتضد علي بن إدريس المذكور حتى قتل وهو محاصر قلعة بالقرب من تلمسان، في صفر من سنة ست وأربعين وستمائة.
ثم ملك بعد المعتضد الأسود المذكور، أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم بن يوسف، في شهر ربيع الآخر من سنة ست وأربعين وستمائة، وتلقب بالمرتضي، وفي الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وستين وستمائة، دخل الواثق أبو العلا إدريس المعروف بأبي دبوس مراكش، وهرب المرتضي إلى أزمور من نواحي مراكش فقبض عليه عامله بها، وبعث إلى الواثق بذلك، فأمره الواثق بقتله، فقتله في العشر الأخير من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وستين وستمائة، بموضع يقال له كتامة، بعده عن مراكش ثلاثة أيام. وأقام الواثق أبو دبوس ثلاث سنين وقتل في الحروب التي كانت بينه وبين بني مرين ملوك تلمسان، وانقرضت دولة بني عبد المؤمن، وكان قتل الواثق أبي دبوس المذكور في المحرم سنة ثمان وستين وستمائة بموضع بينه وبين مراكش مسيرة ثلاثة أيام في جهتها الشمالية، واستولى بنو مرين على ملكهم، وقد حصل الاختلاف في نسب أبي دبوس فإني وجدت في بعض الكتب المؤلفة في هذا الفن، أن أبا دبوس، هو ابن إدريس المأمون، ثم وجدت نسبه في وفيات الأعيان أنه هو نفسه اسمه إدريس بن عبد الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة في هذه السنة أرسل الملك الكامل صاحب مصر، يطلب من ابن أخيه الملك الناصر داود ابن الملك المعظم صاحب دمشق، حصن الشوبك، فلم يعطه الملك الناصر ذلك، ولا أجابه إليه، فسار الملك الكامل من مصر في هذه السنة في رمضان إلى الشام، ونزل على تل العجول بظاهر غزة، وولى على نابلس والقدس وغيرهما من بلاد ابن أخيه الملك الناصر داود المذكور، صاحب دمشق حينئذ، وكان صحبة الملك الكامل الملك المظفر محمود ابن السلطان الملك المنصور صاحب حماة، وهو موعود من الملك الكامل أنه ينتزع حماة من أخيه الناصر قليج أرسلان ابن الملك المنصور، ويسلمها إليه، ولما قصد الملك الكامل انتزاع بلاد الملك الناصر ابن المعظم صاحب دمشق، استنجد الناصر داود بعمه الملك الأشرف، وأرسل إليه وهو ببلاده الشرقية، فقدم الملك الأشرف إلى دمشق ودخل هو والناصر داود إلى قلعة دمشق راكبين، قال القاضي جمال الدين بن واصل: كنت إذ ذاك حاضراً بدمشق، ورأيت الملك الأشرف راكباً مع ابن أخيه، وعلى رأس الملك الأشرف شاش علم كبير، ووسطه مشدود بمنديل، وكان وصول الأشرف إلى دمشق في العشر الأخير من رمضان من هذه السنة، ووصل إلى خدمته بدمشق الملك المجاهد شركوه، فإنه كان من المنتمين إلى الملك الأشرف، ثم وقع الاتفاق أن يسير الناصر داود وشيركوه مع الملك الأشرف إلى نابلس، فيقيم الناصر داود بنابلس، ويتوجه الملك الأشرف إلى أخيه الكامل إلى غزة شافعاً في ابن أخيهما الناصر داود، ففعلوا ذلك، ولما وصل الملك الأشرف إلى أخيه الكامل، وقع اتفاقهما في الباطن على أخذ دمشق من ابن أخيهما الناصر داود، وتعويضه عنها بحران والرها والرقة من بلاد الملك الأشرف، وأن تستقر دمشق للملك الأشرف، ويكون له إلى عقبة أفيق وما عدا ذلك من بلاد دمشق، يكون للملك الكامل، وأن ينتزع حماة من الملك الناصر قليج أرسلان، ويعطي الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور، وأن ينتزع سلمية من المظفر محمود، وكانت إقطاعه، لما كان مقيماً بمصر عند الملك الكامل، ويعطي لشيركوه صاحب حمص، وخرجت السنة والأشرف عند أخيه الكامل بظاهر غزة، وقد اتفقا على ذلك.
ذكر غير ذلكوفي هذه السنة عاود التتر إلى قصد البلاد التي بيد جلال الدين بن خوارزم شاه، وجرت بينه وبينهم حروب كثيرة، كان في أكثرها الظفر للتتر.
وفيها قدم الإمبراطور إلى عكا بجموعه، وكان الملك الكامل قد أرسل إليه فخر الدين ابن الشيخ يستدعيه إلى قصد الشام، بسبب أخيه المعظم، فوصل الإمبراطور وقد مات المعظم، فنشب به الملك الكامل، ولما وصل الإمبراطور استولى على صيدا، وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج، وسورها خراب، فعمر الفرنج سورها واستولوا عليها، والإمبراطور معناه: ملك الأمراء بالفرنجية. وإنما اسم الإمبراطور المذكور، فرديك. وكان صاحب. جزيرة صقلية، ومن البر الطويل بلاد أنبولية والأنبردية. قال القاضي جمال الدين بن واصل: لقد رأيت تلك البلاد لما توجهت رسولاً من الملك الظاهر بيبرس الصالحي إلى الإمبراطور ملك تلك البلاد. قال: وكان الإمبراطور من بين ملوك الفرنج فاضلاً، محباً للحكمة والمنطق والطب، مائلاً إلى المسلمين، لأن منشأه بجزيرة صقلية، وغالب أهلها مسلمون، وترددت الرسل بين الملك الكامل وبين الإمبراطور إلى أن خرجت هذه السنة.
وفي هذه السنة بعد فراغ جلال الدين من التتر، قصد جلال الدين المذكور بلاد خلاط، ونهب القرى وقتل وخرب البلاد وفعل الأفعال القبيحة.
وفيها خاف غياث الدين تيزشاه من أخيه جلال الدين ففارقه واستجار بالإسماعيلية.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة ولما جرى بين السلطان الملك الكامل وبين أخيه الملك الأشرف الاتفاق على نزع دمشق من الناصر داود، بلغ الناصر داود ذلك، وهو بنابلس، فرحل إلى دمشق، وكان قد لحقه بالغور عمه الملك الأشرف، وعرفه ما أمر به عمه الملك الكامل، وأنه لا يمكنه الخروج عن مرسومه، فلم يلتفت الناصر داود إلى ذلك وسار إلى دمشق، وسار الأشرف في إثره وحصره بدمشق، والملك الكامل مشتغل بمراسلة الإمبراطور، ولما طال الأمر ولم يجد الملك الكامل بداً من المهادنة، أجاب الإمبراطور إلى تسليم القدس إليه، على أن تستمر أسواره خراباً ولا يعمرها الفرنج، ولا يتعرضوا إلى قبة الصخرة، ولا إلى الجامع الأقصى، ويكون الحكم في الرساتيق إلى والي المسلمين، ويكون لهم من القرايا ما هو على الطريق من عكا إلى القدس، ووقع الاتفاق على ذلك، وتحالفا عليه، وتسلم الإمبراطور القدس في هذه السنة في ربيع الآخر على هذه القاعدة التي ذكرناها، وكان ذلك، والملك الناصر محصور بدمشق، وعمه الأشرف محاصره بأمر الملك الكامل، فأخذ الناصر داود في التشنيع على عمه بذلك، وكان بدمشق الشيخ شمس الدين يوسف سبط أبي الفرج ابن الجوزي، وكان واعظاً وله قبول عند الناس، فأمره الناصر داود بعمل مجلس وعظ، يذكر فيه فضائل بيت المقدس، وما حل بالمسلمين من تسليمه إلى الفرنج، ففعل ذلك، وكان مجلساً عظيماً، ومن جملة ما أنشد قصيدة تائية ضمنها بيت دعبل الخزاعي وهو:
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
فارتفع بكاء الناس وضجيجهم.
ذكر انتزاع دمشق ولما عقد الملك الكامل الهدنة مع الإمبراطور، وخلا سره من جهة الفرنج، سار إلى دمشق، ووصل إليها في جمادى الأولى من هذه السنة، واشتد الحصار على دمشق، ووصل إلى الملك الكامل رسول الملك العزيز صاحب حلب، وخطب بنت الملك الكامل، فزوجه بنته فاطمة خاتون، التي هي من الست السوداء أم ولده أبي بكر العادل ابن الملك الكامل، ثم استولى الملك الكامل على دمشق، وعوض الناصر داود عنها بالكرك والبلقاء والصلت والأغوار والشوبك، وأخذ الملك الكامل لنفسه البلاد الشرقية التي كانت عينت للناصر، وهي حران والرها وغيرهما، التي كانت بيد الملك الأشرف، ثم نزل الناصر داود عن الشوبك، وسأل عمه الكامل في قبولها فقبلها، وتسلم دمشق الملك الأشرف، وتسلم الكامل من الأشرف البلاد الشرقية المذكورة.
ذكر وفاة الملك المسعود
صاحب اليمن ابن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب:في هذه السنة توفي الملك المسعود يوسف، الملقب أطسز، المعروف باقسيس. وكان قد مرض باليمن، فكره المقام بها وعزم على مفارقة اليمن، وسار إلى مكة وهي له كما تقدم ذكره، فتوفي بمكة ودفن بالمعلى، وعمره ست وعشرون سنة، وكانت مدة ملكه اليمن أربع عشرة سنة، وكان الملك المسعود لما سار من اليمن، قد استخلف على اليمن علي بن رسلول، وسنذكر بقية أخباره إن شاء الله تعالى، ووصل الخبر بوفاة الملك المسعود إلى أبيه الملك الكامل، وهو على حصار دمشق، فجلس للعزاء، وخلف الملك المسعود ولداً صغيراً اسمه أيضاً يوسف، وبقي يوسف المذكور حتى مات في سلطنة عمه الملك الصالح أيوب صاحب مصر، وخلف يوسف ولداً صغيراً اسمه موسى، ولقب الملك الأشرف وهو الذي أقامه الترك في مملكة مصر بعد قتل الملك المعظم ابن الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر القبض على الحاجب علي
نائب الملك الأشرف بخلاط وقتله:
وفي هذه السنة أرسل الملك الأشرف مملوكه عز الدين أيبك الأشرفي، وهو أكبر أمير عنده إلى خلاط، فقبض على الحاجب علي الموصلي وحبسه، ثم قتله، وكان حسام الدين علي الحاجب المذكور، من أهل الموصل، وخدم الملك الأشرف، فجعله نائبه بخلاط، فأحسن إلى الرعية وحفظ البلد، واستولى على عدة بلاد من أذربيجان، مثل نقجوان وغيرها، على ما تقدم ذكره، فقبض عليه الملك الأشرف وقتله، قيل أن ذلك لذنب منه، لم يطلع عليه الناس، وأطلع عليه الملك الكامل والملك الأشرف، وهذا الحاجب حسام الدين المذكور، كان كثير الخير والمعروف، بنى الخان الذي بين حران ونصيبين وبنى الخان الذي بين حمص ودمشق وهو الخان المعروف بخان بريح العطش، وهرب مملوك لحسام الدين الحاجب المذكور، لما قتل أستاذه، ولحق بجلال الدين، فلما ملك جلال الدين خلاط على ما سنذكره، قبض على أيبك المذكور وسلمه إلى المذكور فقتله وأخذ بثأر أستاذه.
الاستيلاء على حماة
ذكر استيلاء الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد على حماة:
ولما سلم الملك الكامل دمشق إلى أخيه الملك الأشرف، سار من دمشق، ونزل على مجمع المروج، ثم نزل سلمية، وأرسل عسكراً نازلوا حماة وبها صاحبها الملك الناصر قليج أرسلان، وكان فيه جبن، ولو عصى بحماة وطلب عنها عوضاً كثيراً لأجابه الملك الكامل إليه، ولكنه خاف، وكان في العسكر الذين نازلوه شيركوه صاحب حمص، فأرسل الناصر صاحب حماة يقول لشيركوه، إني أريد أن أخرج إليك بالليل لتحضرني عند السلطان الملك الكامل، وخرج الملك الناصر قليج أرسلان ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب المذكور إلى شيركوه، في العشر الأخير من رمضان هذه السنة، وأخذه شيركوه ومضى به إلى الملك الكامل وهو نازل على سلمية، فحين رأى الملك الكامل قليج أرسلان المذكور شتمه وأمر باعتقاله، وأن يتقدم إلى نوابه بحماة بتسليمها إلى الملك الكامل، فأرسل الناصر قليج أرسلان علامته إلى نوابه بحماة أن يسلموها إلى عسكر السلطان الملك الكامل، فامتنع من ذلك الطواشيان بشر ومرشد المنصوريان، وكان بقلعة حماة أخ للملك الناصر يلقب الملك المعز ابن الملك المنصور صاحب حماة، فملكوه حماة وقالوا للملك الكامل: لا نسلم حماة لغير أحد من أولاد تقي الدين، فأرسل الملك الكامل يقول للملك المظفر محمود ابن الملك المنصور صاحب حماة، اتفق مع غلمان أيبك وتسلم حماة، وكان الملك المظفر نازلاً على حماة من جملة العسكر الكاملي، فراسل الملك المظفر الحكام حماة، فحلفوا له وواعدوا الملك المظفر أن يحضر بجماعته خاصة وقت السحر إلى باب النصر ليفتحوه له، فحضر الملك المظفر سحر الليلة التي عينوها، ففتحوا له باب النصر، ودخل الملك المظفر ومضى إلى دار الوزير المعروفة بدار الأكرم داخل باب المغار، وهي الآن مدرسة تعرف بالخاتونية، وقفتها عمتي مؤنسة خاتون بنت الملك المظفر المذكور، وحضر أهل حماة وهنوا الملك المظفر بملك حماة، وكان ذلك في العشر الأخير من رمضان من هذه السنة، وكان مدة ملك الملك الناصر قليج أرسلان حماة تسع سنين إلا نحو شهرين، وأقام الملك المظفر في دار الأكرم يومين وصعد في اليوم الثالث إلى القلعة، وتسلمها، وجاء عيد الفطر من هذه السنة والملك المظفر مالك حماة، وعمره يومئذ نحو سبع وعشرين سنة، لأن مولده سنة تسع وتسعين وخمسمائة. وكان أخوه الملك الناصر قليج أرسلان أصغر منه بسنة، ولما ملك الملك المظفر حماة، فوض تدبير أمورها، صغيرها وكبيرها، إلى الأمير سيف الدين علي الهدباني، وكان سيف الدين علي بن أبي علي المذكور، قد خدم الملك المظفر بعد ابن عمه حسام الدين ابن أبي علي الذي كان نائب الملك المظفر بسلمية، لما سلمت إليه، وهو بمصر عند الملك الكامل.ثم حصل بين الملك المظفر وبين حسام الدين بن أبي علي وحشة، ففارقه حسام الدين المذكور واتصل بخدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، وحظي عنده وصار أستاذ داره، وخدم ابن عمه سيف الدين علي المذكور الملك المظفر، وكان يقول له: أشتهي أن أراك صاحب حماة، وأكون بعين واحدة، فأصيبت عين سيف الدين علي على حصار حماة، لما نازلها عسكر الملك الكامل، وبقي بفرد عين، فحظي عند الملك المظفر لذلك، ولكفاية سيف الدين المذكور، وحسن تدبيره. ولما استقر الملك المظفر في ملك حماة، انتزع الملك الكامل سلمية منه، وسلمها إلى شيركوه صاحب حمص، على ما كان وقع عليه الاتفاق من قبل ذلك، ثم إن الملك الكامل رسم للملك المظفر أن يعطي أخاه الملك الناصر قليج أرسلان بارين بكمالها، فامتثل لذلك وسلم قلعة بارين إلى أخيه الملك الناصر، ولم يبق بيد الملك المظفر غير حماة والمعرة، وكان بحماة تقدير أربعمائة ألف درهم للملك الناصر، وكان قد رسم الملك الكامل للملك المظفر أن يعطي المال المذكور أخاه الملك الناصر، فماطل المظفر في ذلك، ولم يحصل للملك الناصر من ذلك شيء، ولما استقر الملك المظفر بحماة مدحه الشيخ شرف الدين عبد العزيز محمد بن عبد المحسن الأنصاري الدمشقي بقصيدة، من جملتها:
تناهى إليك الملك واشتد كاهله ... وحل بك الراجي فحطت رواحله
ترحلت عن مصر فأمحل ربعها ... ولما حللت الشام روض ما حله
وعزت حماة في حمى أنت غابه ... بصولته تحمى كليب ووائله
وقد طال ما ظلت بتدبير أهوج ... يخيب مرجيه ويحرم سائله
ولما استقر الملك المظفر في ملك حماة، رحل الملك الكامل عن سلمية إلى البلاد الشرقية التي أخذها من أخيه الملك الأشرف عوضاً عن دمشق، فنظر في مصالحها، ثم سافر الملك المظفر من حماة ولحق الملك الكامل، وهو بالشرق، عقد له الملك الكامل العقد هناك على ابنته غازية خاتون بنت الملك الكامل، وهي شقيقة الملك المسعود صاحب اليمن، وهي والدة الملك المنصور صاحب حماة، وأخيه الملك الأفضل نور الدين علي، ابني الملك المظفر محمود، ثم عاد الملك المظفر إلى حماة وقد قضيت أمانيه بملك حماة، ووصلته بخاله الملك الكامل، كان يتمنى ذلك لما كان بالديار المصرية، وكان يصحبه وهو بمصر رجل من أهلها يقال له الزكي القومصي، فاتفق وهما بمصر، وقد جرى ذكر ملك الملك المظفر حماة وزواجه بنت خاله الملك الكامل، فأنشده الزكي القومصي:
متى أراك كما أهوى وأنت ومن ... تهوى كأنكما روحان في بدن
هناك أنشد والأقدار مصغية ... هنيت بالملك والأحباب والوطن
فقال له الملك المظفر: إن صار ذلك يا زكي أعطيتك ألف دينار مصرية، فلما ملك الملك المظفر حماة أعطى الزكي ما وعده به، ولما فرغ الملك الكامل من تقرير أمر البلاد الشرقية وهي حران وما معها من البلاد، مثل رأس عين والرها وغير ذلك، عاد إلى الديار المصرية.
وفي هذه السنة أرسل الملك الأشرف أخاه صاحب بصرى، الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل، بعسكر، فنازل بعلبك وبها صاحبها الملك الأمجد بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه ابن أيوب، واستمر الحصار عليه.
وفيها سار جلال الدين ملك الخوارزمية وحاصر خلاط، وبها أيبك نائب الملك الأشرف، إلى أن خرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وستمائة.
ذكر عمارة شميميش في هذه، السنة شرع صاحب حمص شيركوه في عمارة قلعة شميميش، وكان لما سلم إليه الملك الكامل سلمية، قد استأذنه في عمارة تل شميميش قلعة، فأذن له بذلك، ولما أراد شيركوه عمارته، أراد الملك المظفر صاحب حماة منعه من ذلك، ثم لم يمكنه ذلك لكونه بأمر الملك الكامل.
ذكر استيلاء الملك الأشرف على بعلبك وفي هذه السنة سلم الملك الأمجد بهرام شاه لن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب بعلبك، إلى الملك الأشرف، أطول الحصار عليه، وعوضه الملك الأشرف عنها الزبداني وقصير دمشق، الذي هو شماليها، ومواضع أخر، وتوجه الملك الأمجد وأقام بداره التي داخل باب النصر بدمشق، المعروفة بدار السعادة، وهي التي ينزلها النواب.
ذكر مقتل الملك الأمجد
لما أخذت منه بعلبك ونزل بداره المذكورة، كان قد حبس بعض مماليكه في مرقد عنده بالدار، وجلس الملك الأمجد قدام باب المرقد يلعب بالنرد، ففتح المملوك المذكور الباب ومعه سيف، وضرب به أستاذه الملك الأمجد فقتله، ثم طلع المملوك إلى سطح الدار وألقى نفسه إلى وسطها فمات، ودفن الملك الأمجد بمدرسة والده التي على الشرف، وكانت مدة ملكه بعلبك تسعاً وأبعين سنة، لأن عم أبيه السلطان الملك " الناصر صلاح الدين ملكه بعلبك، سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، لما مات أبوه فرخشاه، وانتزعت منه هذه السنة، فذلك خمسون سنة إلا سنة، وكان الملك الأمجد أشعر بني أيوب، وشعره مشهور.
ذكر ملك جلال الدين خلاط في هذه السنة، لما طال حصار جلال الدين على خلاط، واشتد مضايقتها، هجمها بالسيف، وفعل في أهلها ما يفعلونه التتر من القتل والاسترقاق والنهب، ثم قبض على نائب الملك الأشرف بها، وهو مملوكه أيبك، وسلمه إلى مملوك حسام الدين الحاجب، علي الموصلي، فقتله وأخذ بثأر أستاذه.
ذكر كسرة جلال الدين من الملك الأشرف ولما جرى من جلال الدين ما جرى، من أخذ خلاط، اتفق صاحب الروم كيقباذ بن كيخسرو ابن قليج أرسلان، والملك الأشرف ابن الملك العادل، فجمع الملك الأشرف عساكر الشام وسار إلى سيواس، واجتمع فيها بملك بلاد الروم علاء الدين كيقباذ المذكور، وسار إلى جهة خلاط، والتقى الفريقان في التاسع والعشرين من رمضان من هذه السنة، فولى الخوارزميون وجلال الدين منهزمين، وهلك غالب عسكره قتلاً وتردياً من رؤوس جبال كانت في طريقهم، وضعف جلال الدين بعدها، وقويت عليه التتر، وارتجع الملك الأشرف خلاط وهي خراب يباب، ثم وقعت المراسلة بين الملك الأشرف وكيقباذ وجلال الدين وتصالحوا، وتحالفوا على ما بأيديهم، وأن لا يتعرض أحد منهم إلى ما بيد الآخر.
وفي هذه السنة استولى الملك المظفر غازي ابن الملك العادل على أرزن من ديار بكر، وهي غير أرزن الروم، وكان صاحب أرزن ديار بكر يقال له حسام الدين، من بيت قديم في الملك، فأخذها منه الملك المظفر غازي المذكور، وعوضه عن أرزن بمدينة حاني، وهذا حسام الدين من بيت كبير يقال لهم بيت الأحدب، وأرزن لم تزل بأيديهم من أيام السلطان ملك شاه السلجوقي إلى الآن، فسبحان من لا يزول ملكه.
وفيها جمعت الفرنج من حصن الأكراد وقصدوا حماة، فخرج إليهم الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور صاحب حماة، والتقاهم عند قرية بين حماة وبارين يقال لها أفيون، وكسرهم كسرة عظيمة، ودخل الملك المظفر محمود حماة مؤيداً منصوراً.
وفيهما ولد الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب، ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة، والسلطان الملك الكامل بديار مصر، وأخوه الملك الأشرف بدمشق في ملاذه، وقد تخلى عن البلاد الشرقية، فإن حران وما معها صارت لأخيه الملك الكامل، وخلاط صارت خرابا يباباً، ولم يكن للملك الأشرف ابن ذكر، فاقتنع بدمشق واشتغل باللهو والملاذ.
وفيها سار الملك الأشرف من دمشق إلى عند أخيه الملك الكامل وأقام عنده بالديار المصرية متنزهاً.
ذكر قصد التتر بلاد الإسلام وفي هذه السنة عاودت التتر قصد بلاد الإسلام، وسفكوا وخربوا مثلما تقدم ذكره، وكان قد ضعف جلال الدين لقبح سيرته وسوء تدبيره، ولم يترك له صديقاً من ملوك الأطراف، وعادى الجميع، وانضاف إلى ذلك أن عسكره اختلف عليه لما حصل لجلال الدين من فساد عقله، وسببه أنه كان له مملوك يحبه محبة شديدة، واتفق موت ذلك المملوك، فحزن عليه حزناً شديداً لم يسمع بمثله، وأمر أهل توريز بالخروج والنواح واللطم عليه، ثم أنه لم يدفنه، وبقي يستصحب ذلك المملوك الميت معه حيث سار وهو يلطم ويبكي، وكان إذا قدم إليه الطعام يرسل منه إلى المملوك الميت، ولا يتجاسر أحد أن يتفوه أنه ميت، فكانوا يحملون إليه الطعام ويقولون أنه يقبل الأرض وهو يقول: إني الآن أصلح مما كنت، فأنف أمراؤه من ذلك، وخرج بعضهم عن طاعته، فضعف أمر جلال الدين لذلك، ولكسرته من الملك الأشرف، فتمكنت التتر من البلاد واستولوا على مراغة، وهو استيلاؤهم الثاني.
ذكر قتل جلال الدين
ولما تمكن التتر من بلاد أذربيجان، سار جلال الدين يريد ديار بكر، ليسير إلى الخليفة ويلتجئ إليه ويعتضد بملوك الأطراف على التتر، ويخوفهم عاقبة أمرهم، فنزل بالقرب من آمد، فلم يشعر إلا والتتر قد كبسوه ليلاً وخالطوا مخيسه، فهرب جلال الدين وقتل على ما نشرحه إن شاء الله تعالى. ولما قتل تمكنت التتر من البلاد وساقوا حتى وصلوا في هذه السنة إلى الفرات، واضطرب الشام بسبب وصولهم إلى الفرات، ثم شنوا الغارات في ديار بكر والجزيرة، وفعلوا من القتل والتخريب مثلما تقدم.
ومن تاريخ ظهور التتر تصنيف كاتب إنشاء جلال الدين النسوي المنشئ المقدم الذكر، في سنة ست عشرة وستمائة ما اخترناه وأثبتناه من أخبار خوارزم شاه محمد وابنه جلال الدين، لملازمة النسوي المذكور جلال الدين في جميع سفراته وغزواته، إلى أن كبس التتر جلال الدين والمنشئ المذكور، كان معه، فلذلك كان أخبر بأحوال جلال الدين ووالده من غيره. قال محمد المنشئ المذكور: إن خوارزم شاه محمد بن تكش، عظم شأنه واتسع ملكه، وكان له أربعة أولاد، قسم البلاد بينهم، أكبرهم جلال الدين منكبرني، وفوض إليه ملك غزنة، وباميان، والغور، وبست، وتكاباد، وزميزداور، وما يليها من الهند. وفوض خوارزم، وخراسان، ومازندران، إلى ولده قطب الدين زلاغ شاه، وجعله ولي عهده، ثم في آخر وقت عزله عن ولاية العهد، وفوضها إلى جلال الدين منكبرني وفوض كرمان، وكبش، ومكران، إلى ولده غياث الدين تبز شاه، وقد تقدمت أخباره. وفوض العراق إلى ولده ركن الدين غورشاه يحيى، وكان أحسن أولاده خلقاً وخلقاً، وقتل المذكور التتر بعد موت أبيه، وضرب لكل واحد منهم النوب الخمس في أوقات الصلوات، على عادة الملوك السلجوقية، وانفرد أبوهم خوارزم شاه محمد بنوبة ذي القرنين، وأنها تضرب وقتي طلوع الشمس وغروبها، وكانت دبادبه سبعاً وعشرين دبدبة من الذهب، قد رصعت بأنواع الجوهر، وكذا باقي الآلات النوبتية، وجعل سبعة وعشرين ملكاً يضربونها في أول يوم قرعت، وكانوا من أكابر الملوك، أولاد السلاطين، منهم: طغريل بن أرسلان السلجوقي، وأولاد غياث الدين صاحب الغور، والملك علاء الدين صاحب باميان، والملك تاج الدين صاحب بلخ، وولده الملك الأعظم صاحب ترمذ، والملك سنجر صاحب بخارا، وأشباههم، وكانت أم خوارزم شاه محمد تركان خاتون، من قبيلة بباووت، وهي فرع من فروع يمسك، وكانت بنت ملك من ملوكهم، تزوج بها تكش بن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوشتكين غرشه، فلما صار الملك إلى ولده محمد بن تكش، قدم إلى والدته تركان خاتون قبائل يمسك من الترك، فعظم شأن ابنها السلطان محمد بهم، وتحكمت أيضاً بسببهم، تركان خاتون في الملك، فلم يملك ابنها إقليماً إلا وأفرد لخاصها منه ناحية جليلة، وكانت ذات مهابة ورأي، وكانت تنتصف للمظلوم من الظالم، وكانت جسورة على القتل، وعظم شأنها بحيث أنه إذا ورد توقيعان عنها وعن السلطان ابنها ينظر إلى تاريخهما، فيعمل بالأخير منهما، وكان طغر توقيعهما عصمة الدنيا والدين، آلغ تركان، ملكة نساء العالمين، وعلامتها اعتصمت بالله وحده، وكانت تكتبها بقلم غليظ، وتجود الكتابة.
قال المؤلف المذكور: ثم إن خوارزم شاه محمد، لما هرب من التتر بما وراء النهر وعبر جيحون، ثم سار إلى خراسان والتتر تتبعه، ثم هرب من خراسان ووصل إلى عراق العجم، ونزل عند بسطام، أحضر عشرة صناديق، ثم قال إنها كلها جواهر لا تعلم قيمتها، ثم أشار إلى صندوقين منها وقال: إن فيهما من الجواهر ما يساوي خراج الأرض بجملتها، ثم أمر بحملها إلى قلعة أزدهن، وهي من أحصن قلاع الأرض، وأخذ خط النائب بها بوصول الصناديق المذكورة مختومة، فلما استولى جنكزخان على تلك البلاد، حملت إليه الصناديق المذكورة بختومها، ثم إن التتر أدركوا السلطان محمد المذكور، فهرب وركب في المركب ولحقه التتر ورموه بالنشاب، ونجا السلطان منهم، وقد حصل له مرض ذات الجنب، قال: ووصل إلى جزيرة في البحر وأقام بها فريداً طريداً، لا يملك طارفاً ولا تليداً، والمرض يزداد، وكان في أهل مازدران أناس يتقربون إليه بالمأكول وما يشتهيه، فقال في بعض الأيام: أشتهي أن يكون عندي فرس يرعى حول خيمتي، وقد ضربت له خيمة صغيرة، فأهدي إليه فرس أصفر، وكان للسلطان محمد المذكور ثلاثون ألف جشار من الخيل، وكان إذا أهدى إليه أحد شيئاً وهو على تلك الحالة في الجزيرة من مأكول وغيره، يطلق لذلك الشخص شيئاً، ولم يكن عنده من يكتب التواقيع، فيتولى ذلك الرجل كتابة توقيعه بنفسه، وكان يعطي مثل السكين والمنديل علامة بإطلاق البلاد والأموال، فلما تولى ابنه جلال الدين، أمضى جميع ما أطلقه والده بالتواقيع والعلائم، ثم أدركت السلطان محمد المنية وهو بالجزيرة على تلك الحالة، فغسله شمس الدين محمود بن بلاغ الجاويش، ومقرب الدين، مقدم الفراشين، ولم يكن عنده ما يكفن به فكفن بقميصه ودفن بالجزيرة في سنة سبع عشرة وستمائة، بعد أن كان بابه، مزدحم ملوك الأرض وعظمائها يشتدون بجنابه، ويتفاخرون بلثم ترابه. ورقى إلى درجة الملوكية جماعة من مماليكه وحاشيته، فصار طشتداره، وركبداره وسلحداره، وجنداره، وغيرهم من أرباب الوظائف، كلهم ملوكاً، وكان في أعلامهم علامات سود يعرفون بها، فعلامة الدوادار الدواه، والسلحدار القوس، وعلامة الطشتدار المسينة، والحمدار النفجة، وعلامة أميراخور النعل، وعلامة الجاويشية قبة ذهب، وكان يمد السماط بين يديه، ويأكل الناس، ويرفع من الطعام الذي في صدر السماط إلى بين يدي الأكابر إذا قعدوا على السماط للأكل، وكانت الزبادي كلها ذهبية وفضية، وكان السلطان محمد المذكور يختص بأمور لا يشاركه فيها أحد منها. المجتر منشوراً على رأسه إذا ركب، ومنها اللكح، وهي أنبوبة تتخذ من الذهب الأحمر بين أذني مركوب السلطان، يخرج منها المعرفة، وتشد إلى طرف اللجام، ومنها الأعلام السود والسروج السود، والنفج السود، محمولة على أكتاف الجمدارية، ولا تحمل لغيره على الكتف، ومنها ن جنايبه كانت تجر قدامه، وجنايب غيره من الملوك كانت تجر وراءهم، ومنها أن أذناب خيله تلف من أوساطها مقدار شبرين، ومنها الجلوس بين يديه على الركبتين لمن يريد مخاطبته. قال المؤلف المذكور: ثم سار جلال الدين بعد موت أبيه السلطان محمد من الجزيرة إلى خوارزم، ثم هرب من التتر ولحق بغزنة وجرى بينه وبين التتر من القتال ما تقدم ذكره.
وسار إليه جنكزخان فهرب جلال الدين من غزنة إلى الهند فلحقه جنكزخان على ماء السند، وتصاففا صبيحة يوم الأربعاء لثمان خلون من شوال، سنة ثمان عشرة وستمائة، وكانت الكرة أولاً على جنكزخان، ثم عادت على جلال الدين وحال بينهما الليل وولى جلال الدين منهزماً وأسر ولد جلال الدين وهو ابن سبع أو ثمان سنين، وقتل بين يدي جنكزخان صبراً. ولما عاد جلال الدين إلى حافة ماء السند كسيراً، رأى والدته وأم ولده وجماعة من حرمه يصحن بالله عليك اقتلنا أو خلصنا من الأسر، فأمر بهن فغرقن، وهذه من عجايب البلايا ونوادر المصائب والرزايا.
ثم اقتحم جلال الدين وعسكره ذلك النهر العظيم، فنجا منهم إلى ذلك البر تقدير أربعة آلاف رجل حفاة عراة، ورمى الموج جلال الدين مع ثلاثة عن خواصه إلى موضع بعيد، وفقده أصحابه ثلاثة أيام، وبقي أصحابه لفقده حائرين، وفي تيه الفكر، سائرين إلى أن اتصل بهم جلال الدين فاعتدوا بمقدمه عيداً، وظنوا أنهم انشواً خلفاً جديداً، ثم جرى بين جلال الدين وبين أهل تلك البلاد وقائع انتصر فيها جلال الدين، ووصل إلى لهاوور من الهند، ولما عزم جلال الدين على العود إلى جهة العراق، استناب بهلوان أزبك على ما كان يملكه من بلاد الهند، واستناب معه حسن قراق، ولقبه وفاء ملك، وفي سنة سبع وعشرين وستمائة، طرد وفاء ملك بهلوان أزبك، واستولى وفاء ملك على ما كان يليه البهلوان من بلاد الهند.
ثم إن جلال الدين عاد من الهند ووصل إلى كرمان في سنة إحدى وعشرين وستمائة، وقاسى هو وعسكره في البراري القاطعة بين كرمان والهند شدائد، ووصل معه أربعة آلاف رجل، بعضهم ركاب أبقار وبعضهم ركاب حمير، ثم سار جلال الدين إلى خورستان واستولى عليها، ثم استولى على أذربيجان، ثم استولى على كنجة وسائر بلاد آران، ثم إن جلال الدين نقل أباه من الجزيرة إلى قلعة أزدهن ودفنه بها، ولما استولى التتر على القلعة المذكورة نبشوه وأحرقوه، وهذا كان فملهم في، كل ملك عرفوا قبره، فإنهم نبشوا محمود بن سبكتكين من غزنة وأحرقوا عظامه، ثم ذكر ما تقدمت الإشارة إليه من استيلاء جلال الدين على خلاط وغير ذلك، ثم ذكر له على جسر قريب آمد وإرساله يستنجد الملك الأشرف ابن الملك العادل فلم ينجده، وعزم جلال الدين على المسير إلى أصفهان، ثم انثنى عزمه عنه وبات بمنزله، وشرب تلك الليلة فسكر سكراً خماره دوار الرأس، وتقطع الأنفاس، وأحاط التتر به وبعسكره مصبحين.
فساهم وبسطهم حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب
ومن في كفه منهم قناة ... كمن في كفه منهم خضاب
وأحاطت أطلاب التتر بخركاة جلال الدين وهو نائم سكران، فحمل بعض عسكره وهو أرخان، وكشف التتر عن الخركاة، ودخل بعض الخواص وأخذ بيد جلال الدين وأخرجه وعليه طاقية بيضاء، فأركبه الفرس وساق أرخان مع جلال الدين وتبعه التتر، فقال جلال الدين لأرخان انفرد عني بحيث تشتغل التتر يتبع سوادك، وكان ذلك خطأ منه، فإن أرخان تبعه جماعة من العسكر وصاروا تقدير أربعة آلاف فارس، وقصد أصفهان واستولى عليها مدة، ولما انفرد جلال الدين عن أرخان ساق إلى باسورة آمد، فلم يمكن من الدخول إلى آمد، فسار إلى قرية من قرى ميافارقين طالباً شهاب الدين غازي بن الملك العادل صاحب ميافارقين، ثم لحقه التتر في تلك القرية، فهرب جلال الدين إلى جبل هناك وبه أكراد يتخطفون الناس، فأخذوه وشلحوه وأرادوا قتله. فقال جلال الدين لأحدهم إني أنا السلطان، فاستبقني أجعلك ملكاً، فأخذه الكردي وأتى به إلى امرأته، وجعله عندها، ومضى الكردي إلى الجبل لإحضار ما له هناك، فحضر شخص كردي ومعه حربة وقال للامرأة، لم لا تقتلون هذا الخوارزمي؟ فقالت المرأة: لا سبيل إلى ذلك، فقد أمنه زوجي. فقال الكردي: إنه السلطان، وقد قتل لي أخاً بخلاط خيراً منه، وضربه بالحربة فقتله.
وكان جلال الدين أسمر قصيراً تركي السارة والعبارة، وكان يتكلم بالفارسية أيضاً، ويكاتب الخليفة على مبدأ الأمر على ما كان يكاتبه به أبوه خوارزم شاه محمد، فكان يكتب خادمه المطواع منكبرني، ثم بعد أخذ خلاط كاتبه بعبده، وكان يكتب إلى ملك الروم وملوك مصر والشام اسمه واسم أبيه، ولم يرض أن يكتب لأحد منهم خادمه أو أخوه أو غير ذلك، وكانت علامته على تواقيعه النصرة من الله وحده، وكان إذا كاتب صاحب الموصل أو أشباهه يكتب له هذه العلامة تعظيماً عن ذكر اسمه، وكان يكتب العلامة بقلم غليظ وكان جلال الدين يخاطب بخذاوند عالم، أي صاحب العالم، وكان مقتله في منتصف شوال من هذه السنة، أعني سنة ثمان وعشرين وستمائة، وهذا ما نقلناه من تاريخ محمد المنشئ، وهو ممن كان في خدمة جلال الدين إلى أن قتل، وكان كاتب الإنشاء الذي له، وكان محظياً متقدماً عنده.
ذكر غير ذلك
وفي هذه السنة انتهى التاريخ الكامل تأليف الشيخ عز الدين علي المعروف بابن الأثير الجزري، المنقول غالب هذا المختصر منه، فإنه ألفه من هبوط آدم إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، وتوفي عز الدين ابن الأثير المذكور في سنة ثلاثين وستمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى بعد آخر تاريخه بسنتين.
وفيها في ذي القعدة توفي بالقاهرة أبو الحسن يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور الزواوي النحوي الحنفي، كان أحد أئمة عصره في النحو واللغة، وسكن دمشق زماناً طويلاً، وصنف تصانيف مفيدة منها: منظومتة الألفية المشهورة، وكان مولده سنة أربع وستين وخمسمائة، والزواوي منسوب إلى زواوة، وهي قبيلة كبيرة بظاهر بجاية من أعمال إفريقية.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وستمائة والسلطانان الكامل والأشرف بالديار المصرية، والملك المظفر بحماة مالكها، ومعها المعرة، وأخوه الملك الناصر قليج أرسلان. ببارين مالكها، والعزيز محمد ابن الظاهر غازي قد استقل بملك حلب، والتتر قد استولوا على بلاد العجم كلها، والخليفة المستنصر بالعراق.
ثم ارتحل في هذه السنة الملك الكامل وأخوه الملك الأشرف من ديار مصر، وسارا إلى البلاد الشرقية، فسار الملك الكامل إلى الشوبك، واحتفل له الملك الناصر داود ابن المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، احتفالاً عظيماً، بالضيافات والإقامات والتقادم، وحصل بينهما الاتحاد التام، وكان نزول الملك الكامل باللجون قرب الكرك، وهي منزله الحجاج في العشر الأخير من شعبان هذه السنة، ووصل إليه باللجون صاحب حماة الملك المظفر محمود، ملتقياً، وسافر الناصر داود مع الملك الكامل بعسكره إلى دمشق، واستصحب الملك الكامل معه ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعل نائبه بمصر ولده وولي عهده الملك العادل سيف الدين أبا بكر ابن الملك الكامل ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
ثم سار الملك الكامل ونزل سلمية، واجتمع معه ملوك أهل بيته في جمع عظيم، ثم سار بهم إلى آمد وحصرها وتسلمها من صاحبها الملك المسعود ابن الملك الصالح محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، ومحمد بن قرا أرسلان المذكور، هو الذي ملكه السلطان صلاح الدين آمد بعد انتزاعها من ابن نيسان، وكان سبب انتزاع الملك الكامل آمد من الملك المسعود المذكور، لسوء سيرة الملك المسعود، وتعرضه لحريم الناس، وكان له عجوز قوادة يقال لها الأزا، كانت تؤلف بينه وبين نساء الناس الأكابر، ونساء الملوك، ولما نزل الملك المسعود إلى خدمة الملك الكامل وسلم آمد وبلادها إليه، ومن جملة معاقلها حصن كيفا، وهو في غاية الحصانة، أحسن الملك الكامل إلى الملك المسعود وأعطاه إقطاعاً جليلاً بديار مصر، ثم بدت منه أمور اعتقله الملك الكامل بسببها.
ولم يزل الملك المسعود معتقلاً إلى أن مات الملك الكامل، فخرج من الاعتقال واتصل بحماة، فأحسن إليه الملك المظفر محمود صاحب حماة، ثم سافر الملك المسعود المذكور إلى الشرق واتصل بالتتر فقتلوه، ولما تسلم الملك الكامل آمد وبلادها رتب فيها النواب من جهته وجعل فيها ولده الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، وجعل معه شمس الدين صواب العادلي، وخرجت هذه السنة والملك الكامل بالشرق، ولما خرج الملك الكامل من مصر في هذه السنة، خرج صحبته بنتاه فاطمة خاتون زوجة الملك العزيز صاحب حلب، وغازية خاتون زوجة الملك المظفر صاحب حماة، بنتا الملك الكامل، وحملت كل منهما إلى بعلها، واحتفل لدخولهما بحماة وحلب.
وفي هذه السنة ظناً توفي علي بن رسول النائب على اليمن، واستقر مكانه ولده عمر بن علي.
ثم دخلت سنة ثلاثين وستمائة في هذه السنة رجع السلطان الملك الكامل من البلاد الشرقية بعد ترتيب أمورها وسار إلى ديار مصر، ورجع كل ملك إلى بلده.
الاستيلاء على شيزر
ذكر استيلاء الملك العزيز محمد بن الظاهر صاحب حلب على شيزر
وكانت شيزر بيد شهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين عثمان ابن الداية، وكان سابق الدين عثمان ابن الداية المذكور وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي، ثم اعتقل الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد، سابق الدين عثمان ابن الداية، وشمس الدين أخاه، فأنكر السلطان صلاح الدين عليه ذلك، وجعله حجة لقصد الشام وانتزعه من الملك الصالح إسماعيل فاتصل أولاد الداية بخدمة السلطان صلاح الدين وصاروا من أكبر أمرائه وكانت شيزر إقطاع سابق الدين المذكور، فأقره السلطان صلاح الدين عليها وزاده أبا قبيس، لما قتل صاحبها خمار دكن، ثم ملك شيزر بعده ولده مسعود بن عثمان حتى مات، وصارت لولده شهاب الدين يوسف المذكور إلى هذه السنة، فسار الملك العزيز صاحب حلب بأمر لملك الكامل وحاصر شيزر، وقدم إليه وهو على حصارها الملك المظفر محمود صاحب حماة مساعداً له، فسلم شهاب الدين يوسف شيزر إلى الملك العزيز ونزل إلي خدمته فتسلمها في هذه السنة، وهنأ الملك العزيز يحيى بن خالد بن قيسراني بقوله:
يا مالكاً عم أهل الأرض نائله ... وخص إحسانه الداني مع القاصي
لما رأت شيزر آيات نصرك في ... أرجائها ألقت العاصي إلى العاصي
ثم ولي الملك العزيز على شيزر وأحسن إلى الملك المظفر محمود صاحب حماة، ورحل كل منهما إلى بلده.
وفي هذه السنة استأذن الملك المظفر محمود صاحب حماة الملك الكامل في انتزاع بارين من أخيه قليج أرسلان، لأنه خشي أن يسلمها إلى الفرنج لضعف قليج أرسلان عن مقاومتهم، فأذن الملك الكامل له في ذلك فسار الملك المظفر من حماة وحاصر بارين وانتزعها من أخيه قليج أرسلان ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ولما نزل قليج أرسلان إلى أخيه الملك المظفر أحسن إليه وسأله في الإقامة عنده بحماة، فامتنع وسار إلى مصر، فبذل له الملك الكامل إقطاعاً جليلاً وأطلق له أملاك جده بدمشق ثم بدا منه ما لا يليق من الكلام، فاعتقله الملك الكامل إلى أن مات قليج أرسلان المذكور في الحبس سنة خمس وثلاثين وستمائة، قبل موت الملك الكامل بأيام.
غير ذلك من الحوادث:في هذه السنة توفي مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كجك. وقد تقدم ذكر ملكه أربل بعد موت أخيه نور الدين يوسف بن زين الدين علي في سنة ست وثمانين وخمسمائة، لما كانا في خدمة السلطان صلاح الدين في الجهاد بالساحل، فبقي مالكها من تلك السنة إلى هذه السنة، ولما مات مظفر الدين المذكور، لم يكن له ولد، فوصى بأربل وبلادها للخليفة المستنصر، فتسلمها الخليفة بعد موت مظفر الدين المذكور، وكان مظفر الدين ملكاً شجاعاً، وفيه عسف في استخراج الأموال من الرعية، وكان يحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وينفق فيه الأموال الجليلة.
وفيها في شعبان توفي الشيخ عز الدين علي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري، ولد بجزيرة ابن عمر في رابع جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ونشأ بها ثم صار إلى الموصل مع والده وإخوته، وسمع بها من أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي، ومن في طبقته، وقدم بغداد مراراً، حاجاً ورسولاً من صاحب الموصل، وسمع من الشيخين يعيش بن صدقة، وعبد الوهاب بن علي الصوفي، وغيرهما، ثم رحل إلى الشام والقدس وسمع هناك من جماعة، ثم عاد إلى الموصل وانقطع في بيته للتوفير على العلم، وكان إماماً في علم الحديث، وحافظاً للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، وخبيراً بأنساب العرب وأخبارهم، وصنف في التاريخ كتاباً كبيراً سماه الكامل، وهو المنقول منه غالب هذا المختصر، ابتدأ فيه من أول الزمان إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، وله كتاب أخبار الصحابة في ست مجلدات، واختصر كتاب الأنساب للسمعاني، وهو الموجود في أيدي الناس، دون كتاب السمعاني، وورث إلى حلب في سنة ست وعشرين وستمائة، ثم سافر ونزل عند الطواشي طغريل الأتابك بحلب، فأكرمه، إكراماً زائداً، ثم سافر إلى دمشق سنة سبع وعشرين، ثم عاد إلى حلب في سنة ثمان وعشرين، ثم توجه إلى الموصل فتوفي بها في التاريخ المذكور، ونسبة الجزيرة إلى ابن عمر، وهو رجل من أهل برقعيد من أعمال الموصل، اسمه عبد العزيز بن عمر، بنى هذه المدينة فأضيفت إليه.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة في هذه السنة في المحرم توفي شهاب الدين طغريل الأتابك بحلب.
مسير السلطان الملك الكامل من مصر إلى قتال كيقباذ
ملك بلاد الروم:في هذه السنة وقع من كيقباذ بن كيخسرو ملك بلاد الروم، التعرض إلى بلاد خلاط، فرحل الملك الكامل بعساكره من مصر، واجتمعت عليه الملوك من أهل بيته، ونزل شمالي سلمية في شهر رمضان من هذه السنة، ثم سار بجموعه ونزل على النهر الأزرق في حدود بلد الروم، وقد ضرب في عسكره ستة عشر دهليزاً، لستة عشر ملكاً في خدمته، منهم إخوته الملك الأشرف موسى صاحب دمشق، والملك المظفر غازي صاحب ميافارقين، والملك الحافظ أرسلان شاه صاحب قلعة جعبر، والصالح إسماعيل أولاد الملك العادل، والملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، كان قد أرسله ابن أخيه الملك العزيز صاحب حلب مقدماً على عسكر حلب، إلى خدمة السلطان الملك الكامل، والملك الزاهر صاحب البيرة، داود ابن السلطان صلاح الدين، وأخوه الملك الأفضل موسى صاحب صميصات، ابن السلطان صلاح الدين، وكان قد ملكها بعد أخيه الملك الأفضل علي، والملك المظفر محمود صاحب حماة، ابن الملك المنصور محمد، والملك الصالح أحمد صاحب عينتاب ابن الملك الظاهر صاحب حلب والملك الناصر داود صاحب الكرك ابن الملك المعظم عيسى، ابن الملك العادل، والملك المجاهد شيركوه صاحب حمص، ابن محمد بن شيركوه.
وكان قد حفظ كيقباذ عك بلاد الروم، الدربندات بالرجال والمقاتلة، فلم يتمكن السلطان من الدخول إلى بلاد الروم من جهة النهر الأزرق، وأرسل بعض العسكر إلى حصن منصور وهو من بلاد كيقباذ، فهدموه، ورحل السلطان وقطع الفرات وسار إلى السويداء، وقدم جاسته تقدير ألفين وخمسمائة فارس مع الملك المظفر صاحب حماة، فسار الملك المظفر بهم إلى خرتبرت، وسار كيقباذ ملك الروم إليهم، واقتتلوا، فانهزم العسكر الكاملي، وانحصر الملك المظفر صاحب حماة في خرتبرت مع جملة من العسكر، وجد كيقباذ في حصارهم والملك الكامل بالسويداء، وقد أحس من الملوك الذين في خدمته بالمخامرة والتقاعد، فإن شيركوه صاحب حمص سعى إليهم وقال: إن السلطان ذكر أنه متى، ملك بلاد الروم فرقه على الملوك من أهل بيته عوض ما بأيديهم من الشام، ويأخذ الشام جميعه لينفرد بملك الشام ومصر، فتقاعدوا عن القتال وفسدت نياتهم، وعلم الملك الكامل بذلك، فأمكنه التحرك إلى قتال كيقباذ، لذلك، ودام الحصار على الملك المظفر صاحب حماة، فطلب الأمان فأمنه كيقباذ، ونزل إليه الملك المظفر، فأكرمه كيقباذ وخلع عليه ونادمه، وتسلم كيقباذ خرتبرت وأخذها من صاحبها، وكان من الأرتقية، قرايب أصحاب ماردين، وكان قد دخل في طاعة الملك الكامل، وصارت خرتبرت من بلاد كيقباذ، وكان نزول المظفر صاحب حماة من خرتبرت يوم الأحد لسبع من ذي القعدة، وأقام عند كيقباذ يومين ثم أطلقه، وسار من عنده لخمس بقين من ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة إحدى وثلاثين وستمائة ووصل بمن معه إلى الملك الكامل وهو بالسويداء من بلاد آمد، ففرح به وقوى نفرة السلطان الملك الكامل يومئذ من الناصر داود صاحب الكرك، فألزمه بطلاق بنته، فطلقها الناصر في داود، وأثبت الملك الكامل طلاقها منه.
وفي هذه السنة استتم بناء قلعة المعرة، وكان قد أشار سيف الدين علي بن أبي علي الهذباني، على الملك المظفر صاحب حماة ببنائها، فبناها، وتمت الآن، وشحنها بالرجال والسلاح، ولم يكن ذلك مصلحة، لأن الحلبيين حاصروها فيما بعد، وأخذوها، وخرجت المعرة بسببها.
وفي هذه السنة توفي سيف الدين الآمدي، وكان فاضلاً في العلوم العقلية، والأصولين وغيرها، واسمه علي بن أبي محمد بن سالم الثعلبي، وكان في مبتدأ أمره حنبلياً، ثم انتقل وصار فقيهاً شافعياً، واشتغل بالأصول، وصنف في أصول الفقه، وأصول الدين، والمعقولات عدة مصنفات، وأقام بمصر مدة، وتصدر في الجامع وفي المدرسة الملاصقة لتربة الشافعي، وتحامل عليه الفقهاء الفضلاء، وعملوا محضراً ونسبوه فيه إلى انحلال العقيدة ومذهب الفلاسفة، وحملوا المحضر إلى بعض الفقهاء الفضلاء، ليكتب خطه حسبما وضعوا خطوطهم به فكتب:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
ولما جرى ذلك استتر الآمدي المذكور وسار إلى حماة، وأقام فيها مدة، ثم عاد إلى دمشق حتى توفي بها في هذه السنة، وكانت ولادته في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
وفيها توفي الصلاح الأربلي، وكان فاضلاً شاعراً أميراً محظياً عند الملكين الكامل والأشرف ابني الملك العادل.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة والملك الكامل بالبلاد الشرقية، وقد انثنى عزمه عن قصد بلاد الروم، للتخاذل الذي حصل في عسكره، ثم رحل وعاد إلى مصر، وعاد كل واحد من الملوك إلى بلده.
وفيها توفي الملك الزاهر داود صاحب البيرة ابن السلطان صلاح الدين، وكان قد مرض في العسكر الكاملي فحمل إلى البيرة مريضاً وتوفي بها، وملك البيرة بعده ابن أخيه الملك العزيز محمد صاحب حلب، وكان الزاهر المذكور شقيق الظاهر صاحب حلب.
وفيها توفي القاضي بهاء الدين بن شداد، في صفر وكان عمره نحو ثلاث وتسعين سنة، وصحب السلطان صلاح الدين، وكان قاضي عسكره، ولما توفي صلاح الدين كان عمر القاضي المذكور نحو خمسين سنة، ونال القاضي بهاء الدين المذكور من المنزلة عند أولاد صلاح الدين، وعند الأتابك طغريل، ما لم ينلها أحد ولم يكن في أيامه من اسمه شداد، بل لعل ذلك في نسب أمه فاشتهر به وغلب عليه، وأصله من الموصل، وكان فاضلاً ديناً، وكان إقطاعه على الملك العزيز ما يزيد على مائة ألف درهم في السنة.
وفيها لما سارت الملوك إلى بلادهم من خدمة الملك الكامل، وصل الملك المظفر صاحب حماة ودخلها، لخمس بقين من ربيع الأول من هذه السنة، واتفق مولد ولده المنصور محمد بعد مقدمه بيومين في الساعة الخامسة من يوم الخميس، لليلتين بقيتا من ربيع الأول من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، فتضاعف السرور بقدوم الوالد والولد. قال الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد قصيدة طويلة في ذلك، فمنها:
غدا الملك محروس الذرى والقواعد ... بأشرف مولود لأشرف والد
حبينا به يوم الخميس كأنه ... خميس بدا للناس في شخص واحد
وسميته باسم النبي محمد ... وجديه فاستوفى جميع المحامد
أي باسم جديه الملك الكامل محمد، والد والدته، والملك المنصور محمد صاحب حماة، والد والده، ومنها:
كأني به في سدة الملك جالساً ... وقد ساد في أوصافه كل سائد
ووافاك من أبنائه وبنيهم ... بأنجم سعد نورها غير خامد
ألا أيها الملك المظفر دعوتي ... ستوري بها زندي ويشتد ساعدي
هضيئاً لك الملك الذي بقدومه ... ترحل عنا كل هم معاود
وفيها لما تفرقت العساكر الكاملية، قصد كيقباذ كيخسرو صاحب بلاد الروم حران والرها، وحاصرهما، واستولى عليهما، وكانا للسلطان الملك الكامل.
وفيها توفي بالقاهرة القاسم بن عمر بن علي الحموي، المصري الدار، المعروف بابن الفارض، وله أشعار جيدة، منها قصيدته التي عملها على طريقة الفقراء، وهي مقدار ستمائة بيت. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة في هذه السنة سار الناصر داود من الكرك إلى بغداد، ملتجئاً إلى الخليفة المستنصر، لما حصل عنده من الخوف من عمه الملك الكامل، وقدم إلى الخليفة تحفاً عظيمة، وجواهر نفيسة، فأكرمه الخليفة المستنصر وخلع عليه، وعلى أصحابه، وكان الناصر داود يظن أن الخليفة يستحضره في ملأ من الناس كما استحضر مظفر الدين صاحب إربل، فلم يحصل له ذلك، وألح في طلب ذلك من الخليفة فلم يجبه، فعمل الناصر المذكور قصيدة يمدح المستنصر فيها ويعرض بصاحب إربل واستحضاره، ويطلب الأسوة به وهي قصيدة طويلة منها:
فأنت الإمام العدل والمفرق الذي ... به شرفت أنسابه ومناصبه
جمعت شتيت المجد بعد افتراقه ... وفرقت جمع المال فانهال كاتبه
ألا يا أمير المؤمنين ومن غدت ... على كاهل الجوزاء تعلو مراتبه
أيحسن في شرع المعالي ودينها ... وأنت الذي تعزى إليك مذاهبه
بأني أخوض الدو والدو مقفر ... سآريبه مغبرة وسباسبه
وقد رصد الأعداء لي كل مرصد ... فكلهم نحوي تدب عقاربه
منها:
وتسمح لي بالمال والجاه بغبتي ... وما الجاه إلا بعض ما أنت واهبه
ويأتيك غيري من بلاد قريبة ... له الأمن فيها صاحب لا يجانبه
فيلقى دنواً منك لم ألق مثله ... ويحص وما أحظى بما أنا طالبه
وينظر من لألآء قدسك نظرة ... فيرجع والنور الإمامي صاحبه
ولو كان يعلوني بنفس ورتبة ... وصدق ولاء لست فيه أصاقبه
لكنت أسلي النفس عما أرومه ... وكنت أذود العين عما يراقبه
ولكنه مثلي ولو قلت أنني ... أزيد عليه لم يعب ذاك عايبه
وما أنا ممن يملأ المال عينه ... ولا بسوى التقريب تقضى مآربه
وكان الخليفة متوقفاً على استحضار الناصر داود، رعاية لخاطر الملك الكامل، فجمع بين المصلحتين واستحضره ليلاً، ثم عاد الملك الناصر إلى الكرك.
وفي هذه السنة سار السلطان الملك الكامل من مصر إلى البلاد الشرقية، واسترجع حران والرها من يد كيقباذ صاحب بلاد الروم، وأمسك أجناد كيقباذ ونوابه الذين كانوا بهما، وقيدهم وأرسلهم إلى مصر، فلم يستحسن ذلك منه، ثم عاد الملك الكامل إلى دمشق وأقام عند أخيه الملك الأشرف حتى خرجت هذه السنة.
وفي هذه السنة توفي شرف الدين محمد بن نصر بن عنين الزرعي، الشاعر المشهور، وكان شاعراً مفلقاً، وكان يكثر هجو الناس، عمل قصيدة خمسمائة بيت سماها مقراض الأعراض، لم يسلم منها أحد من أهل دمشق، ونفاه السلطان صلاح الدين إلى اليمن، فمدح صاحبها طغتكين بن أيوب، وحصل له منه أموال كثيرة، عمل بها ابن عنين متجراً وقدم به إلى مصر، وصاحبها حينئذ العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين، فلما أخذت من ابن عنين زكاة ما معه على عادة التجار، قال في العزيز:
ما كل من يتسمى بالعزيز لها ... أهل ولا كل برق سحبه غدقه
بين العزيزين بون في فعالهما ... فذاك يعطي وهذا يأخذ الصدقه
ثم سار ابن عنين المذكور إلى دمشق، ولازم الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، وبقي عنده. وتوفي بدمشق في هذه السنة، وديوانه مشهور.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة فيها عاد السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية.
ذكر وفاة الملك العزيز صاحب حلب وفي هذه السنة كان قد خرج الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى حارم للصيد ورمى البندق، واغتسل بماء بارد، فحم، ودخل إلى حلب، وقد قويت به الحمى واشتد مرضه، وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة وكان عمره ثلاثاً وعشرين سنة وشهوراً، وكان حسن السيرة في رعيته، ولما توفي تقرر في الملك بعده ولده الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد، وعمره نحو سبع سنين، وقام بتدبير الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني، وعز الدين عمر بن مجلي، وجمال الدولة إقبال الخاتوني، والمرجع في الأمور إلى والدة الملك العزيز، ضيفة خاتون بنت الملك العادل.
وفي هذه السنة توفي علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو صاحب بلاد الروم، وملك بعده ابنه غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان ابن قطلمش بن أرسلان بن سلجوق.
وفي هذه السنة قويت الوحشة بين الملك الكامل وبين أخيه الملك الأشرف، وكان ابتداؤها ما فعله شيركوه صاحب حمص، لما قصد الملك الكامل بلاد الروم، فاتفق الملك الأشرف مع صاحبة حلب ضيفة خاتون أخت الملك الكامل، ومع باقي الملوك على خلاف الملك الكامل، خلا الملك المظفر صاحب حماة، فلما امتنع تهدده الملك الأشرف بقصد بلاده وانتزاعها منه فقدم خوفاً من ذلك إلى دمشق وحلف للملك الأشرف ووافقه على قتال الملك الكامل، وكاتب الملك الأشرف كيخسرو صاحب بلاد الروم، واتفق معه على قتال أخيه الملك الكامل إن خرج من مصر، وأرسل الملك الأشرف يقول للناصر داود صاحب الكرك إن وافقتني جعلتك ولي عهدي، وأوصيت لك بدمشق، وزوجتك بابنتي، فلم يوافقه الناصر على ذلك لسوء حظه، ورحل إلى الديار المصرية إلى خدمة الملك الكامل، وصار معه على ملوك الشام، فسر به الملك الكامل وجدد عقده على ابنته عاشوراء التي طلقها منه، وأركب الناصر داود بسناجق السلطنة، ووعده أنه ينتزع دمشق من الملك الأشرف أخيه ويعطيه إياها، وأمر الملك الكامل أمراء مصر وولده الملك العادل أبا بكر ابن الملك الكامل، فحملوا الغاشية بين يدي الملك الناصر داود، وبالغ في إكرامه.
وفي هذه السنة توجه عسكر حلب مع الملك المعظم توران شاه عم الملك العزيز، فحاصروا بغراس وكان قد عمرها الداويه، بعد ما فتحها السلطان صلاح الدين وخربها، وأشرف عسكر حلب على أخذها، ثم رحلوا عنها بسبب الهدنة مع صاحب أنطاكية، ثم إن الفرنج أغاروا على ربض دربساك وهي حينئذ لصاحب حلب، فوقع بهم عسكر حلب وولى الفرنج منهزمين، وكثر فيهم القتل والأسر، وعاد عسكر حلب بالأسرى ورؤوس الفرنج وكانت هذه الوقعة من أجل الوقائع.
وفي هذه السنة استخدم الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، وهو بالبلاد الشرقية، وهي آمد وحصن كيفا وحران وغيرها، نائباً عن أبيه، الخوارزمية، عسكر جلال الدين منكبرني، فإنهم بعد قتله ساروا إلى كيقباذ ملك بلاد الروم، وخدموا عنده، وكان فيهم عدة مقدمين، مثل بركب خان، وكشلوخان وصاروخان، وفرخان، وبردي خان، فلما مات كيقباذ وتولى ابنه كيخسرو وقبض على بركب خان وهو أكبر مقدميهم، ففارقت الخوارزمية حينئذ خدمته، وساروا عن الروم، ونهبوا ما كان على طريقهم، فاستمالهم الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، واستأذن أباه في استخدامهم، فأذن له واستخدمهم.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وستمائة وقد استحكمت الوحشة بين الأخوين الكامل والأشرف، وقد لحق الملك الأشرف الذرب، وضعف بسببه، وعهد بالملك إلى أخيه الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل صاحب بصرى.
ذكر وفاة الملك الأشرف وفي هذه السنة توفي الملك الأشرف، مظفر الدين موسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد مرض بالذرب، واشتد به حتى توفي في المحرم من هذه السنة، وتملك دمشق أخوه الصالح إسماعيل بعهد منه، وكان مدة ملك الأشرف دمشق ثمان سنين وشهوراً، وعمره نحو ستين سنة، وكان مفرط السخاء يطلق الأموال الجليلة النفيسة، وكان ميمون النقيبة، لم تنهزم له راية، وكان سعيداً، ويتفق له أشياء خارقة للعقل، وكان حسن العقيدة، وبنى بدمشق قصوراً ومنتزهات حسنة، وكان منهمكاً في اللذات وسماع الأغاني فلما مرض أقلع عن ذلك، وأقبل على الاستغفار إلى أن توفي، ودفن في تربته بجانب الجامع، ولم يخلف من الأولاد إلا بنتاً واحدة، توجها الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل.
وكان سبب الوحشة بينه وبين أخيه الملك الكامل بعد ما كان بينهما من المصافات، أن الملك الأشرف لم يبق بيده غير دمشق وبلادها وكانت لا تفي بما يحتاجه وما يبذله وقت أخيه الملك الكامل إلى دمشق، وأيضاً لما فتح الملك الكامل آمد وبلادها لم يزده منها شيئاً، وأيضاً بلغه أن الملك الكامل يريد أن ينفرد بمصر والشام، وينتزع دمشق منه، فتغير بسبب ذلك، ولما استقر الملك الصالح إسماعيل في ملك دمشق، كتب إلى الملوك من أهله إلى كيخسرو صاحب بلاد الروم في اتفاقهم معه على أخيه الملك الكامل، فوافقوه على ذلك إلا الملك المظفر صاحب حماة، وأرسل الملك المظفر رسولاً إلى الملك الكامل يعرفه انتماءه إليه، أنه إنما وافق الملك الأشرف خوفاً منه، فقبل الملك الكامل عذره، وتحقق صدق ولائه ووعده بانتزاع سلمية من صاحب حمص وتسليمها إليه.
ذكر مسير السلطان الملك الكامل إلى دمشق واستيلائه عليها
ووفاته، وما يتعلق بذلك:لما بلغ الملك الكامل وفاة أخيه الملك الأشرف، سار إلى دمشق ومعه الناصر داود صاحب الكرك، وهو لا يشك أن الملك الكامل يسلم إليه دمشق، لما كان قد تقرر بينهما، وأما الملك الصالح إسماعيل، فإنه استعد للحصار، ووصل إليه نجدة الحلبيين وصاحب حمص، ونازل الملك الكامل دمشق، وأخرج الملك الصالح إسماعيل النفاطين، فأحرق العقيبة جميعها وما بها من خانات وأسواق، وفي مدة حصار، وصل من عند صاحب حمص رجالة يزيدون على خمسين راجلاً، نجدة للصالح إسماعيل، وظفر بهم الملك الكامل، فشنقهم بين البساتين عن آخرهم، وحال نزول الملك الكامل على دمشق أرسل توقيعاً للملك المظفر صاحب حماة بسلمية، فتسلمها الملك المظفر واستقرت نوابه بها، وكان نزول الملك الكامل على دمشق في جمادى الأولى من هذه السنة، في قوة الشتاء.
ثم سلم الملك الصالح إسماعيل دمشق إلى أخيه الملك الكامل، وتعرض عنها بعلبك والبقاع، مضافاً إلى بصرى، وكان قد ورد من الخليفة المستنصر محي الدين يوسف ابن الشيخ جمال الدين ابن الجوزي، رسولاً للتوفيق بين الملوك، فتسلم الملك الكامل دمشق لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، وكان الملك الكامل شديد الحنق على شيركوه صاحب حمص، فأمر العسكر فبرزوا لقصد حمص، وأرسل إلى صاحب حماة وأمره بالمسير إليها، فبرز الملك المظفر من حماة ونزل على الرستن، واشتد خوف شيركوه صاحب حمص، وتخضع للملك الكامل، وأرسل إليه نساءه، ودخلن على الملك الكامل، فلم يلتفت إلى ذلك، ثم بعد استقرار الملك الكامل، في دمشق، لم يلبث غير أيام حتى مرض واشتد مرضه، وكان سببه، أنه لما دخل قلعة دمشق أصابه زكام، فدخل الحمام وسكب عليه ماء شديد الحرارة، فاندفعت النزلة إلى معدته وتورمت منها، وحصل له حمى، ونهاه الأطباء عن القيء، وخوفوه منه فلم يقبل، وتقيأ فمات لوقته، وعمره نحو ستين سنة، وكانت وفاته لتسع بقين من رجب من هذه السنة، أعني سنة خمس وثلاثين وستمائة، وكان بين موته وموت أخيه الملك الأشرف نحو ستة أشهر، وكانت مدة ملكه لمصر من حين مات أبوه عشرين سنة، وكان بها نائباً قبل ذلك قريباً من عشرين سنة، فحكم في مصر نائباً وملكاً نحو أربعين سنة، وأشبه حاله حال معاوية بن أبي سفيان، فإنه حكم في الشام نائباً نحو عشرين، وملكاً نحو عشرين.
وكان الملك الكامل ملكاً جليلاً مهيباً حازماً، حسن التدبير، أمنت الطرق في أيامه، وكان يباشر تدبير المملكة بنفسه، واستوزر في أول ملكه وزير أبيه صفي الدين بن شكر، فلما مات ابن شكر لم يستوزر أحداً بعده، وكان يخرج الملك الكامل بنفسه فينظر في أمور الجسور عند زيادة النيل، وإصلاحها، فعمرت في أيامه ديار مصر أتم العمارة، وكان محباً للعلماء ومجالستهم، وكانت عنده مسائل غريبة في الفقه والنحو يمتحن بها الفضلاء، إذا حضروا في خدمته، وكان كثير السماع للأحاديث النبوية، تقدم عنده بسببها الشيخ عمر بن دحية، وبنى له دار الحديث بين القصرين، في الجانب الغربي، وكانت سوق الآداب والعلوم عنده نافقة رحمه الله تعالى، وكان أولاد الشيخ صدر الدين بن حمويه من أكابر دولته، وهم الأمير فخر الدين ابن الشيخ، وإخوته عماد الدين، وكمال الدين، ومعين الدين، أولاد الشيخ المذكور، وكل من أولاد الشيخ المذكور حاز فضيلتي السيف والقلم، فكان يباشر التدريس، ويتقدم على الجيش، ولما مات السلطان الملك الكامل بدمشق، كان معه بها الملك الناصر داود صاحب الكرك فاتفق آراء الأمراء على تحليف العسكر للملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل، وهو حينئذ نائب أبيه بمصر، فحلف له جميع العسكر، وأقاموا في دمشق الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل أبو بكر ابن أيوب، نائباً عن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل، وتقدمت الأمراء إلى الملك الناصر داود بالرحيل عن دمشق، وهددوه إن أقام، فرحل الملك الناصر داود إلى الكرك، وتفرقت العساكر، فسار أكثرهم إلى مصر، وتأخر مع الجواد يونس بعض العسكر، ومقدمهم عماد الدين ابن الشيخ، وبقي يباشر الأمور مع الملك الجواد، ولما بلغ شيركوه صاحب حمص وفاة الملك الكامل فرح فرحاً عظيماً، وأتاه فرج ما كان يطمع نفسه به، وأظهر سروراً عظيماً، ولعب بالكرة على خلاف العادة، وهو في عشر السبعين، وأما الملك المظفر صاحب حماة، فإنه حزن لذلك حزناً عظيماً ورحل من الرستن وعاد إلى حماة وأقام فيها للعزاء، وأرسل صاحب حمص وارتجع سلمية من نواب الملك المظفر وقطع القناة الواصلة من سلمية إلى حماة، فيبست بساتينها، ثم عزم على قطع النهر العاصي عن حماة، فسد مخرجه من بحيرة قدس التي بظاهر حمص، فبطلت نواعير حماة والطواحين، وذهب ماء العاصي في أودية بجوانب البحيرة، ثم لما لم يجد له الماء مسلكاً عاد فهدم ما عمله صاحب حمص، وجرى كما كان أولاً، وكذلك كان قد حصل لصاحب حلب ولعسكرها، الخوف من الملك الكامل، فلما بلغهم موته أمنوا من ذلك.
ذكر استيلاء الحلبيين على المعرة وحصارهم حماة ولما بلغ الحلبيين موت الكامل، اتفقت آراؤهم على أخذ المعرة، ثم أخذ حماة من الملك المظفر صاحب حماة لموافقته الملك الكامل على قصدهم، ووصل عسكر حلب إلى المعرة وانتزعوها من يد الملك المظفر صاحب حماة، وحاصروا قلعتها، وخرجت المعرة حينئذ عن ملك الملك المظفر صاحب حماة، ثم سار عسكر حلب ومقدمهم المعظم توران شاه بن صلاح الدين إلى حماة، بعد استيلائهم على المعرة، ونازلوا حماة وبها صاحبها الملك المظفر، ونهب العسكر الحلبي بلاد حماة، واستمر الحصار على حماة حتى خرجت هذه السنة.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، عقد لسلطان الروم غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو، العقد على غازية خاتون بنت الملك العزيز محمد، صاحب حلب وهي صغيرة حينئذ، وتولى القبول عن ملك بلاد الروم قاضي دوقات، ثم عقد للملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب، العقد على أخت كيخسرو، وهي ملكة خاتون بنت كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان، وأم ملكة خاتون المذكورة، بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد زوجها الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، بكيقباذ المذكور، وخطب لغياث الدين كيخسرو بحلب.
وفيها خرجت الخوارزمية عن طاعة الملك الصالح أيوب بعد موت أبيه الملك الكامل، ونهبوا البلاد.
وفيها سار لؤلؤ صاحب الموصل وحاصر الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل بسنجار، فأرسل الملك الصالح واسترضى الخوارزمية وبذل لهم حران والرها، فعادوا إلى طاعته، واتقع مع بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، فانهزم لؤلؤ وعسكره هزيمة قبيحة، وغنم عسكر الملك الصالح منهم شيئاً كثيراً.
وفي هذه السنة جرى بين الملك الناصر داوود صاحب الكرك، وبين الملك الجواد يونس، المتولي على دمشق، مصاف، بين جينين ونابلس، انتصر فيه الملك الجواد يونس، وانهزم الملك الناصر داود هزيمة قبيحة، وقوى الملك الجواد بسبب هذه الوقعة وتمكن من دمشق، ونهب عسكر الملك الناس وأثقاله.
وفي أواخر هذه السنة ولد والدي الملك الأفضل نور الدين علي ابن الملك المظفر صاحب حماة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وستمائة.
في هذه السنة رحل عسكر حلب المحاصرة لحماة بعد مولد الملك الأفضل، وكان قد طالت مدة حصارهم لحماة، وضجروا فتقدمت إليهم ضيفة خاتون صاحبة حلب بنت الملك العادل بالرحيل عنها، فرحلوا، وضاق الأمر على الملك المظفر في هذا الحصار، وأنفق فيه أموالاً كثيرة، واستمرت المعرة في يد الحلبيين، وسلمية في يد صاحب حمص، ولم يبق بيد الملك المظفر غير حماة وبعرين، ولما جرى ذلك خاف الملك المظفر أن تخرج بعرين بسبب قلعتها، فتقدم بهدمها، فهدمت إلى الأرض في هذه السنة.
ذكر استيلاء الملك الصالح أيوب على دمشق وفي هذه السنة في جمادى الآخرة، استولى الملك الصالح أيوب ابن السلطان لملك الكامل على دمشق وأعمالها، بتسليم الملك الجواد يونس، وأخذ العوض كنها سنجار والرقة وعانة، وكان سبب ذلك أن الملك العادل ابن الملك الكامل صاحب مصر، لما علم باستيلاء الملك الجواد على دمشق، أرسل إليه عماد الدين ابن الشيخ لينتزع دمشق منه، وأن يعوض عنها إقطاعاً بمصر، فمال الجواد يونس إلى تسليمها إلى الملك الصالح حسبما ذكرناه، وجهز على عماد الدين ابن الشيخ من وقف له بقصة، فلما أخذها عماد الدين منه ضربه ذلك الرجل بسكين فقتله، ولما وصل الملك الصالح أيوب إلى دمشق، وصل معه الملك المظفر صاحب حماة معاضداً له، وكان قد لاقاه إلى أثناء الطريق، واستقر الملك الصالح أيوب المذكور في ملك دمشق، وسار الجواد يونس إلى البلاد الشرقية المذكورة، فتسلمها، ولما استقر ملك الملك الصالح بدمشق، وردت عليه كتب المصريين يستدعونه إلى مصر ليملكها، وسأله الملك المظفر صاحب حماة في منازلة حمص وأخذها من شيركوه، فبرز إلى الثنية، وكان قد نازلت الخوارزمية وصاحب حماة، حمص، فأرسل شيركوه مالاً كثيراً وفرقه في الخوارزمية، فرحلوا عنه إلى البلاد الشرقية، ورحل صاحب حماة إلى حماة، ثم كر الملك الصالح عائداً إلى دمشق، طالباً مصر، وسار من دمشق إلى خربة اللصوص، وعيد بها عيد رمضان، ووصل إليه بعض عساكر مصر مقفزين، ولما خرج الملك الصالح من دمشق، جعل نائبه فيها ولده الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الصالح، وشرع الملك الصالح يكاتب عمه الصالح إسماعيل صاحب بعلبك، ويستدعيه إليه، وعمه إسماعيل المذكور، يتحجج ويعتذر عن الحضور، ويظهر له أنه معه، وهو يعمل في الباطن على ملك دمشق وأخذها من الصالح أيوب، وكان قد سافر الملك الناصر صاحب الكرك إلى مصر واتفق مع الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل على قتال الملك الصالح أيوب.
ووصل أيضاً في هذه السنة محي الدين ابن الجوزي رسولاً من الخليفة ليصلح بين الأخوين العادل صاحب مصر، والصالح أيوب المستولي على دمشق، وهذا محي الدين هو الذي حضر ليصلح بين الكامل والأشرف، فاتفق أنه مات في حضوره في سنة أربع وثلاثين وخمس وثلاثين أربعة من السلاطين العظماء، وهم الملك الكامل صاحب مصر، وأخوه الأشرف صاحب دمشق، والعزيز صاحب حلب، وكيقباذ صاحب بلاد الروم. فقال في ذلك ابن المسجف أحد شعراء دمشق:
يا إمام الهدى أبا جعفر المن ... صور يا من له الفخار الأثيل
ما جرى من رسولك الآن محي الدين ... في هذه البلاد قليل
جاء والأرض بالسلاطين تزهى ... وغدا والديار منهم طلول
أقفر الروم والشآم ومصر ... أفهذا مغسل أم رسول
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وستمائة في هذه السنة في صفر سار الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبك، ومعه شيركوه صاحب حمص، بجموعهما، وهجموا دمشق، وحصروا القلعة، وتسلمها الصالح إسماعيل، وقبض على المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الصالح أيوب. وكان الملك الصالح أيوب بنابلس لقصد الاستيلاء على ديار مصر، وكان قد بلغه سعي عمه إسماعيل في الباطن. وكان للصالح أيوب طبيب يثق به يقال له الحكيم سعد الدين الدمشقي، فأرسله الصالح أيوب إلى بعلبك، ومعه قفص من حمام نابلس: ليطلعه بأخبار الصلح صاحب بعلبك وحال وصول الحكيم المذكور، علم به صاحب بعلبك، فاستحضره وأكرمه وسرق الحمام التي لنابلس، وجعل موضعها حمام بعلبك، ولم يشعر الطبيب المذكور بذلك، فصار الطبيب المذكور يكتب أن عمك إسماعيل قد جمع، وهو في نية قصد دمشق، ويطبق فيقعد الطير ببعلبك، فيأخذ الصالح إسماعيل البطاقة ويزور على الحكيم، أن عمك إسماعيل قد جمع ليعاضدك، وهو واصل إليك ويسرجه على حمام نابلس، فيعتمد الصالح أيوب على بطاقة الحكيم ويترك ما يرد إليه من غيره من الأخبار.
واتفق أيضاً أن الملك المظفر صاحب حماة، علم بسعي الصالح إسماعيل صاحب بعلبك في أخذ دمشق، مع خلوها ممن يحفظها، فجهز نائبه سيف الدين علي بن أبي علي، ومعه جماعة من عسكر حماة وغيرهم، وجهز معه من السلاح والمال شيئاً كثيراً، ليصل إلى دمشق ويحفظها لصاحبها، وأظهر الملك المظفر وابن أبي علي أنهما قد اختصما، وأن ابن أبي علي قد غضب واجتمع معه هذه الجماعة، وقد قصدوا فراق صاحب حماة، لأنه يريد أن يسلم حماة للفرنج، كل ذلك خوفاً من صاحب حمص شيركوه لئلا يقصد ابن أبي علي ويمنعه، فلم تخف عن شيركوه هذه الحيلة، ولما وصل ابن أبي جملي إلى بحيرة حمص، قصده شيركوه وأظهر أنه مصدقه، فيما ذكر، وسأله الدخول إلى حمص ليضيفه، وأخذ ابن أبي علي معه، وأرسل من استدعى باقي أصحاب ابن أبي علي إلى الضيافة، فمنهم من سمع ودخل إلى حمص ومنهم من هرب فسلم، فلما حصلوا عنده بحمص، قبض على ابن أبي علي، وعلى جميع من دخل حمص من الحمويين، واستولى على جميع ما كان معهم من السلاح والخزانة، وبقي يعذبهم ويطلب منهم أموالهم حتى امتصفاها ومات ابن أبي علي، وغيره في حبسه بحمص، والذي سلم وبقي إلى بعد موت شيركوه خلص ولما جرى ذلك ضعف الملك المظفر صاحب حماة ضعفاً كثيراً. وأما الملك الصالح أيوب فلما بلغه قصد عمه إسماعيل دمشق رحل من نابلس إلىالغور فبلغه استيلاء عمه على قلعة دمشق واعتقال ولده المغيث عمر، ففسدت نيات عساكره عليه، وشرعت الأمراء ومن معه من الملوك يحركون فقاراتهم ويرحلون، مفارقين الصالح أيوب إلى الصالح إسماعيل بدمشق، فلم يبق عند الصالح أيوب بالغور غير مماليكه، وأستاذ داره حسام الدين بن أبي علي، وأصبح الملك الصالح أيوب لا يدري ما يفعل ولا له موضع يقصده، فقصد نابلس ونزل بها بمن بقي معه، وسمع الناصر داود بذلك، وكان قد وصل من مصر إلى الكرك فنزل بعسكره وأمسك الملك الصالح أيوب وأرسله إلى: الكرك واعتقله بها، وأمر بالقيام في خدمته بكل ما يختاره، ولما اعتقل الصالح أيوب بالكرك، تفرق عنه باقي أصحابه ومماليكه، ولم يبق منهم معه غير عمدة يسيرة، ولما جرى ذلك، أرسل أخو الصالح الملك العادل أبو بكر صاحب مصر يطلبه من.الملك الناصر داود، فلم يسلمه الناصر داود، فأرسل الملك العادل وتهدد الملك الناصر بأخذه بلاده، فلم يلتفت إلى ذلك.
ذكر غير ذلكوفي هذه السنة بعد اعتقال الملك الصالح بالكرك، قصد الناصر داود القدس، وكان الفرنج قد عمروا قلعتها بعد موت الملك الكامل، فحاصرها وفتحها وخرب القلعة، وخرب برج داود أيضاً، فإنه لما خربت القدس أولاً، لم يخرب برج داود، فخربه في هذه، المرة.
وفي هذه السنة توفي الملك المجاهد شيركوه صاحب حمص ابن ناصر الدين محمد بن شيركوه ابن شاذي وكانت مدة ملكه بحمص نحو ست وخمسين سنة، لأن صلاح الدين ملكه حمص سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، بعد موت أبيه محمد بن شيركوه، وكان عمره يومئذ نحو اثنتي عشرة سنة، وكان شيركوه المذكور عسوفاً لرعيته، وملك حمص بعده ولده الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه.
وفي هذه السنة استولى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل على سنجار، وأخذها من الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل.
ذكر خروج الملك الصالح أيوب من الاعتقال
والقبض على أخيه الملك العادل صاحب مصر، وملك الملك الصالح أيوب ديار مصر:
وفي هذه السنة في أواخر رمضان، أفرج الملك الناصر داود صاحب الكرك عن ابن عمه الملك الصالح أيوب، واجتمعت عليه مماليكه، وكاتبه إليها زهير، وسار الناصر داود وصحبته الصالح أيوب إلى قبة الصخرة، وتحالفا بها، على أن تكون ديار مصر للصالح، ودمشق والبلاد الشرقية للناصر داود، ولما تملك الصالح أيوب، لم يف للناصر بذلك، وكان يتأول في يمينه أنه كان مكرهاً، ثم سار إلى غزة، فلما بلغ العادل صاحب مصر ظهور أمر أخيه الصالح، عظم عليه. وعلى والدته ذلك، وبرز بعسكر مصر ونزل على بلبيس لقصد الناصر داود، والصالح أخيه، وأرسل إلى عمه الصالح إسماعيل المستولي على دمشق أن يبرز ويقصدهما من جهة الشام، وأن يستأصلهما. فسار الصالح إسماعيل بعساكر دمشق ونزل الفوار، فبينما الناصر داود والصالح أيوب في هذه الشدة، وهما بين عسكرين، قد أحاط بهما، إذ ركبت جماعة من المماليك الأشرفية ومقدمهم أيبك الأسمر، وأحاطوا بدهليز الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل، وقبضوا عليه، وجعلوه في خيمة صغيرة، وعليه من يحفظه، وأرسلوا إلى الملك الصالح أيوب يستدعونه، فأتاه فرج لم يسمع بمثله.
وسار الملك الصالح أيوب، والملك الناصر داود إلى مصر، وبقي في كل يوم يلتقي الملك الصالح فوج بعد فوج من الأمراء والعسكر، وكان القبض على الملك العادل ليلة الجمعة، ثامن ذي القعدة من هذه السنة، فكانت مدة ملكه نحو سنتين، ودخل الملك الصالح أيوب إلى قلعة الجبل بكرة الأحد، لست بقين من الشهر المذكور، وزينت له البلاد، وفرح الناس بمقدمه، وحصل للملك المظفر صاحب حماة من السرور والفرح بملك الملك الصالح بمصر، ما لا يمكن شرحه، فإنه مازال على ولائه، حتى أنه لما أمسك بالكرك، كان يخطب له بحماة وبلادها، ولما استقر الملك الصالح أيوب في ملك مصر، وصحبته الناصر داود، حصل عند كل واحد منهما إشعار من صاحبه، وخاف الناصر داود أن يقبض عليه، فطلب دستوراً وتوجه إلى بلاده، الكرك وغيرها.
ذكر وفاة صاحب ماردين في هذه السنة وقيل في سنة ست وثلاثين، توفي ناصر الدين أرتق أرسلان بن أيلغازي بن إلبي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان يلقب الملك المنصور، وملك المذكور ماردين بعد أخيه حسام الدين بولق رسلان، حسبما تقدم ذكره في سنة ثمانين وخمسمائة وبقي أرتق أرسلان متغلباً عليه مملوك والده البقش، حتى قتله أرتق أرسلان في سنة إحدى وستمائة، واستقل أرتق أرسلان بملك ماردين حتى توفي في هذه السنة.
ولما مات الملك المنصور أرتق أرسلان، ملك بعده ابنه الملك السعيد نجم الدين غازي بن أرتق أرسلان المذكور حتى توفي في سنة ثلاث وخمسين وستمائة ظناً، ثم ملك بعده في السنة المذكورة ابنه الملك المظفر قرا أرسلان بن غازي بن أرتق أرسلان، وكانت وفاة المظفر قرا أرسلان المذكور، سنة إحدى وتسعين وستمائة ظناً، ثم ملك بعده ولده الأكبر شمس الدين داود ابن قرا أرسلان، سنة وتسعة أشهر. ثم توفي وملك بعده أخوه الملك المنصور نجم الدين غازي بن قرا أرسلان في سنة ثلاث وتسعين وستمائة ظناً، ونقلت وفيات المذكورين حسبما هو مشروح، من تقويم حل ماردين، ذكر فيه تواريخ بني أرتق، ولم أتحقق صحة ذلك، وسنذكر في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وفاة الملك المنصور غازي المذكور في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة في هذه السنة قبض الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل بعد استقراره في ملك مصر، على أيبك الأسمر مقدم المماليك الأشرفية، وعلى غيره من الأمراء والمماليك الذين قبضوا على أخيه، وأودعهم الحبوس، وأخذ في إنشاء مماليكه، وشرع الملك الصالح أيوب المذكور من هذه السنة في بناء قلعة الجزيرة، واتخذها مسكناً لنفسه.
وفيها نزل الملك الحافظ أرسلان شاه ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب عن قلعة جعبر، وبالس، وسلمهما إلى أخته ضيفة خاتون صاحبة حلب، وتسلم عوض ذلك إعزاز وبلاداً معها تساوي ما نزل عنه، وكان سبب ذلك أن الملك الحافظ المذكور، أصابه فالج، وخشي من أولاده، وتغلبهم عليه ففعل ذلك لأنه كان ببلاد قريبة إلى حلب لا يمكنهم التعرض إليه.
وفي هذه السنة كثر عبث الخوارزمية وفسادهم، بعد مفارقة الملك الصالح أيوب البلاد الشرقية، وساروا إلى قرب حلب، فخرج إليهم عسكر حلب مع الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين، ووقع بينهم القتال، فانهزم الحلبيون هزيمة قبيحة، وقتل منهم خلق كثير، منهم الملك الصالح ابن الملك الأفضل ابن السلطان صلاح الدين، وأسر مقدم الجيش الملك المعظم المذكور، واستولى الخوارزميون على ثقال الحلبيين، وأسروا منهم عدة كثيرة، ثم كانوا يقتلون بعضهم ليشتري غيره نفسه منهم بماله، فأخذوا بذلك شيئاً كثيراً، ثم نزل الخوارزمية بعد ذلك على جبلان، وكثر عبثهم وفسادهم ونهبهم في بلاد حلب، وجفل أهل الحواضر والبلاد، ودخلوا مدينة حلب، واستعد أهلها للحصار، وارتكب الخوارزمية من الزنا والفواحش والقتل ما ارتكبه التتر، ثم سارت الخوارزمية إلى منبج، وهجموها بالسيف يوم الخميس، لتسع بقين من ربيع الأول من هذه السنة، وفعلوا من القتل والنهب مثلما تقدم ذكره، ثم رجعوا إلى بلادهم، وهي حران، وما معها، بعد أن أخربوا بلد حلب.
ذكر عود الخوارزمية إلى بلد حلب
وغيرهاثم إن الخوارزمية رحلوا من حران وقطعوا الفرات من الرقة، ووصلوا إلى الجبول، ثم إلى تل إعزاز، ثم إلى سرمين، ثم إلى تل المعرة، وهم ينهبون ما يجدونه، فإن الناس جفلوا من بين أيديهم، وكان قد وصل الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص ومعه عسكر من عسكر الصالح إسماعيل المستولي على دمشق، نجدة للحلبيين، فاجتمع الحلبيون مع صاحب حمص المذكور، وقصدوا الخوارزمية، واستمرت الخوارزمية على ما هم عليه من النهب حتى نزلوا على شيزر، ونزل عسكر حلب على تل السلطان، ثم رحلت الخوارزمية إلى جهة حماة، ولم يتعرضوا إلى نهب، لانتماء صاحبها الملك المظفر إلى الملك الصالح أيوب، ثم سارت الخوارزمية إلى سلمية، ثم إلى الرصافة طالبين الرقة، وسار عسكر حلب من تل السلطان إليهم، ولحقتهم العرب، فأرمت الخوارزمية ما كان معهم من المكاسب، وسيبوا الأسرى، ووصلت الخوارزمية إلى الفرات في أواخر شعبان في هذه السنة. ولحقهم عسكر حلب وصاحب حمص إبراهيم قاطع صفين، فعمل لهم الخوارزمية ستائر، ووقع القتال بينهم في الليل، فقطع الخوارزمية الفرات وساروا إلى حران، فسار عسكر حلب إلى البيرة، وقطعوا الفرات منها، وقصدوا الخوارزمية، واتقعوا قريب الرها لتسع بقين من رمضان هذه السنة، فولى الخوارزمية منهزمين، وركب صاحب حمص وعسكر حلب أقفيتهم يقتلون ويأسرون إلى أن حال الليل بينهم، ثم سار عسكر حلب إلى حران فاستولوا عليها، وهربت الخوارزمية إلى بلد عانة، وبادر بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إلى نصيبين ودارا، وكانتا للخوارزمية، فاستولى عليهما، وخلص من كان بهما من الأسرى، وكان منهم الملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، أسيراً في بلدة دارا من حين سوه في كسرة الحلبيين، فحمله بدر الدين لؤلؤ إلى الموصل، وقدم له ثياباً وتحفاً، وبعث به إلى عسكر حلب، واستولى عسكر حلب على الرقة والرها وسروج ورأس عين، وما مع ذلك، واستولى صاحب حمص المنصور إبراهيم على بلد الخابور، ثم سار عسكر حلب ووصل إليهم نجدة من الروم، وحاصروا الملك المعظم ابن الملك الصالح أيوب بآمد وتسلموها منه، وتركوا له حصن كيفا وقلعة الهيثم، ولم يزل ذلك بيده حتى توفي أبوه الملك الصالح أيوب بمصر، وسار إليها المعظم المذكور على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وبقي ولد المعظم وهو للملك الموحد عبد الله ابن المعظم توران شاه ابن الصالح أيوب ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، مالكاً لحصن كيفا إلى أيام التتر، وطالت مدته بها.
ذكر ما كان من الملك الجواد يونس
في هذه السنة كان هلاك الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل، وصورة ما جرى له أنه كان قد استولى بعد ملك دمشق على سنجار وعانة، فباع عانة من الخليفة المستنصر بمال تسلمه منه، وسار لؤلؤ صاحب الموصل وحاصر سنجار ويونس المذكور غائب عنها، واستولى عليها، ولم يبق بيد يونس من البلاد شيء فصار على البرية إلى غزة، وأرسل إلى الملك الصالح أيوب صاحب مصر يسأله في المسير إليه، فلم يجبه إلى ذلك، فسار يونس حينئذ ودخل إلى عكا وأقام مع الفرنج، فأرسل الصالح إسماعيل صاحب دمشق حينئذ وبذل مالاً للفرنج، وتسلم الملك لجواد يونس المذكور من الفرنج واعتقله ثم خنقه.
وفي هذه السنة ولى الملك الصالح أيوب، الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام القضاء بمصر، والوجه القبلي، وكان عز الدين المذكور بدمشق، فلما قوي خوف الصالح إسماعيل صاحب دمشق من ابن أخيه الصالح أيوب صاحب مصر، سلم الصالح إسماعيل صفد والشقيف إلى الفرنج ليعضدوه، ويكونوا معه على ابن أخيه الصالح أيوب، فعظم ذلك على المسلمين، وأكثر الشيخ عز الدين بن عبد السلام التشنيع على الصالح إسماعيل بسبب ذلك، وكذلك جمال الدين أبو عمرو ابن الحاجب، ثم خافا من الصالح إسماعيل فسار عز الدين بن عبد السلام إلى مصر وتولى بها القضاء كرهاً، وسار جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب إلى الكرك، وأقام عند الملك الناصر داود صاحب الكرك، ونظم له مقدمته الكافية في النحو، ثم بعد ذلك سافر ابن الحاجب إلى الديار المصرية.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة والصالح إسماعيل صاحب دمشق، والمنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، وصاحب حلب، متفقون على عداوة الملك الصالح أيوب، صاحب مصر، ولم يوافقهم صاحب حماة على ذلك، وأخلص في الانتماء إلى صاحب مصر.
وفي هذه السنة اتقعت الخوارزمية مع الملك المظفر غازي صاحب ميافارقين ابن الملك العادل.
وفيها في شعبان أصاب جد الملك المظفر صاحب حماة الفالج وهو جالس بين أصحابه في قلعة حماة، وبقي أياماً لا يتكلم ولا يتحرك، وكان ذلك في أواخر فصل الشتاء، وأرجف الناس بموته، وقام بتدبير المملكة مملوكه وأستاذ داره سيف الدين طغريل، ثم خف مرض الملك المظفر وفتح عينيه وصار يتكلم باللفظة واللفظتين، لا يكاد يفهم، وكان العاطب، الجانب الأيمن منه، وبعث إليه الصالح صاحب مصر طبيباً حاذقاً نصرانياً، يقال له النفيس بن طليب، فلم تنجع فيه المداواة، واستمر على ذلك إلى أن توفي بعد سنتين وكسر على ما سنذكر إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة في ذي الحجة توفي الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه ابن الملك العادل بن أيوب بإعزاز وهي التي تعوضها عن قلعة جعبر، ونقل إلى حلب فدفن في الفردوس، وتسلم نواب الملك الناصر يوسف صاحب حلب، قلعة إعزاز وأعمالها.
وفيها في شعبان توفي الشيخ العلامة كمال الدين موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك الفقيه الشافعي، كان إمام وقته في مذهب الشافعي وغيره، وكان يشتغل الحنفيون عليه في مذهب أبي حنيفة، ويحل الجامع الكبير في مذهب أبي حنيفة وكان متقنا علم المنطق والطبيعي والإلهي، وكان إماماً مبرزاً في العلم الرياضي، وأتقن المجسطي وأقليدس والموسيقى والحساب بأنواعه، وكان أهل الذمة يقرؤون عليه التوراة والإنجيل، وشرح لهم هذه الكتابين شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون من يوضح لهم مثله، وكان إماماً في العربية والتصريف، وكان يقرئ كتاب سيبويه والمفصل وغيرهما، وكذلك كان إماماً في التفسير والحديث، وقدم الشيخ أثير الدين الأبهري واسمه المفضل بن عمر بن المفضل إلى الموصل، واشتغل على الشيخ كمال الدين المذكور، وكان الشيخ أثير الدين الأبهري المذكور حينئذ إماماً مبرزاً في العلوم، ومع ذلك يأخذ الكتاب ويجلس بين يديه ويقرأ عليه.
قال القاضي شمس الدين بن خلكان: ولقد شاهدت بعيني أثير الدين الأبهري وهو يقرأ المجسطي على الشيخ كمال الدين بن يونس المذكور، واستمر سنين عديدة يشتغل عليه، وكان الأثير إذ ذاك صاحب تصانيف، يشتغل فيها الناس، وقصد تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن، المعروف بابن الصلاح، الفقيه الشافعي، الشيخ كمال الدين المذكور، وسأله في أن يقرئه المنطق سراً، وتردد ابن الصلاح إلى الشيخ كمال الدين مدة يقرأ عليه المنطق ولا يفهمه، فقال له ابن يونس المذكور: يا فقيه، المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن. فقال له ابن الصلاح: ولم ذلك؟ فقال: لأن الناس يعتقدون فيك الخير، وهم ينسبون كل من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد عقائدهم فيك، ولا يصح لك من هذا الفن شيء، فقبل ابن الصلاح إشارته، وترك قراءته، وكان الشيخ كمال الدين بن يونس المذكور يتهم في دينه، لكون العلوم العقلية غالبة عليه، وكانت تعتريه غفلة لاستيلاء الفكرة عليه، فعمل فيه بعضهم.
أجدك إن قد جاد بعد التعبس ... غزال بوصل لي وأصبح مؤنسي
وعاطيته صهباء من فيه مزجها ... كرقة شعري أو كدين ابن يونس
وكانت ولادته في صفر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة بالموصل، وبها توفي في التاريخ المذكور رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربعين وستمائة.
وفي هذه السنة كان بين الخوارزمية، ومعهم الملك المظفر غازي صاحب ميافارقين، وبين عسكر حلب، ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص، مصاف، قريب الخابور عند المجدل، في يوم الخميس لثلاث بقين من صفر هذه السنة، فولى ظفر غازي والخوارزمية منهزمين أقبح هزيمة، ونهب منهم عسكر حلب شيئاً كثيراً، ونهبت وطاقات الخوارزمية ونساؤهم أيضاً، ونزل الملك المنصور إبراهيم في خيمة الملك المظفر غازي، واحتوى على خزانته ووطاقه، ووصل عسكر حلب وصاحب حمص إلى حلب، في مستهل جمادى الأولى مؤيدين منصورين.
ذكر وفاة الملكة ضيفة خاتون صاحبة حلب
وهي والدة الملك العزيز:وفي هذه السنة، في ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى توفيت ضيفة خاتون بنت الملك خاتون بنت الملك العادل أبي بكر أيوب وكان مرضها قرحة في مراق البطن، وحمى، ودفنت بقلعة حلب، وكان مولدها سنة إحدى أو اثنتين وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب، حين كانت حلب لأبيها الملك العادل قبل أن ينتزعها منه أخوه السلطان صلاح الدين، ويعطيها ابنه الظاهر غازي، فاتفق مولدها ووفاتها بقلعة حلب، ولما ولدت كان عند أبيها الملك العادل ضيف، فسماها ضيفة، فكانت مدة عمرها نحو تسع وخمسين سنة.
وكان الملك الظاهر صاحب حلب قد تزوج قبل ضيفة خاتون بأختها غازية، وتوفيت، فلما توفيت غازية تزوج بأختها ضيفة خاتون المذكورة، وكانت ضيفة خاتون قد ملكت حلب بعد وفاة ابنها الملك العزيز، وتصرفت في الملك تصرف السلاطين، وقامت بالملك أحسن قيام، وكانت مدة ملكها نحو ست سنين، ولما توفيت كان عمر ابن ابنها الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز نحو ثلاث عشرة سنة، فأشهد عليه أنه بلغ، وحكم واستقل بمملكة حلب، وما هو مضاف إليها، والمرجع في الأمور إلى جمال الدين إقبال الأسود الخصي الخاتوني.
ذكر وفاة المستنصر بالله وفي هذه السنة توفي المستنصر بالله أبو جعفر المنصور ابن الظاهر محمد ابن الإمام الناصر أحمد، بكرة الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة إلا شهراً، وكان حسن السيرة، عادلاً في الرعية، وهو الذي بنى المدرسة ببغداد، المسماة بالمستنصرية على شط دجلة من الجانب الشرقي، مما يلي دار الخلافة، وجعل لها أوقافاً جليلة على أنواع البر.
المستعصم باللهولما مات المستنصر اتفقت آراء أرباب الدولة، مثل الدوادار، والشرابي، على تقليد الخلافة ولده عبد الله، ولقبوه المستعصم بالله، وهو سابع ثلاثينهم، وآخرهم، وكنيته أبو أحمد بن المستنصر بالله منصور، وكان عبد الله المستعصم ضعيف الرأي، فاستبد كبراء دولته بالأمر، وحسنوا له قطع الأجناد وجمع المال، ومداراة التتر، ففعل ذلك وقطع أكثر العساكر.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وستمائة في هذه السنة قصدت التتر بلاد غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم فأرسل واستنجد بالحلبيين، فأرسلوا إليه نجدة مع ناصح الدين الفارسي، وجمع العساكر من كل جهة، والتقى مع التتر، فانهزمت عساكر الروم هزيمة قبيحة، وقتل التتر وأسروا منهم خلقاً كثيراً، وتحكمت التتر وأسروا منهم خلقاً كثيراً، وتحكمت التتر في البلاد، واستولوا أيضاً على خلاط وآمد وبلادهما، وهرب غياث الدين كيخسرو إلى بعض المعاقل، ثم أرسل إلى التترر وطلب الأمان، ودخل في طاعتهم، ثم توفي غياث الدين كيخسرو المذكور بعد ذلك في سنة، أربع وخمسين وستمائة حسبما نذكره إن شاء الله تعالى.
وخلف صغيرين، وهما ركن الدين، وعز الدين، ثم هرب عز الدين إلى قسطنطينية، وبقي ركن الدين في الملك تحت حكم " التتر، والحاكم البرواناه معين الدين سليمان، والبرواناه لقبه، وهو اسم الحاجب بالعجمي، ثم إن.البرواناه قتل ركن الدين وأقام في الملك ولداً له صغيراً.
وفيها كانت المراسلة بين الصالح أيوب صاحب مصر والصالح إسماعيل صاحب دمشق، في الصلح، وأن يطلق الصالح إسماعيل المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الصالح أيوب، وحسام الدين بن أبي علي الهذباني، وكانا معتقلين عند الملك الصالح إسماعيل فأطلق حسام الدين بن أبي علي وجهزه إلى مصر، واستمر الملك المغيث، بن الصالح أيوب في الاعتقال، واتفق الصالح إسماعيل مع الناصر داود صاحب الكرك، واعتضد بالفرنج، وسلما أيضاً إلى الفرنج عسقلاق وطبرية، فعمر الفرنج قلعتيهما، وسلما أيضاً إليهم القدس بما فيه من المزارات.
قال القاضي جمال الدين بن واصل: ومررت إذ ذاك بالقدس متوجهاً إلى مصر، ورأيت القسوس وقد جعلوا على الصخرة قناني الخمر للقربان.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وستمائة.
ذكر المصاف الذي كان بين عسكر مصر وعسكر الشام ومعهم الخوارزمية وبين عسكر دمشق ومعهم الفرنج وصاحب حمص: في هذه السنة وصلت الخوارزمية إلى غزة باستدعاء الملك الصالح أيوب، لنصرته على عمه الصالح إسماعيل، وكان مسيرهم على حارم والروج إلى أطراف بلاد دمشق، حتى وصلوا. إلى غزة،. ووصل: إليهم عدة كثيرة من العساكر المصرية مع ركن الدين بيبرس، مملوك الملك الصالح أيوب، وكان من أكبر مماليكه، وهو الذي دخل معه الحبس لما حبس في الكرك، وأرسل الملك الصالح إسماعيل عسكر دمشق مع الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، وسار صاحب حمص جريدة، ودخل عكا، فاستدعى الفرنج على ما كان قد وقع عليه اتفاقهم، ووعدهم بجزء من بلاد مصر فخرجت الفرنج بالفارس والراجل، واجتمعوا، أيضاً بصاحب حمص وعسكر دمشق والكرك، ولم يحضر الناصر داود ذلك، والتقى الفريقان بظاهر غزة، فولى عسكر دمشق وصاحب حمص إبراهيم، والفرنج منهزمين، وتبعهم عسكر مصر والخوارزمية، فقتلوا منهم خلقاً عظيماً،7 واستولى الملك الصالح أيوب صاحب مصر على غزة والسواحل والقدس، ووصلت الأسرى والرؤوس إلى مصر، ودقت بها البشائر عدة أيام، ثم أرسل الملك الصالح صاحب مصر باقي عسكر مصر مع معين الدين ابن الشيخ، واجتمع إليه من بالشام من عسكر مصر والخوارزمية، وساروا إلى دمشق وحاصروها، وبها صاحبها الملك الصالح إسماعيل، وإبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، وخرجت هذه السنة وهم محاصروها.
ذكر وفاة صاحب حماة في هذه السنة توفي جد الملك المظفر صاحب حماة، تقي الدين محسن ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه ابن أيوب، يوم السبت ثامن جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وكانت مدة مملكته لحماة خمس عشرة سنة وسبعة أشهر وعشرة أيام، كان منها مريضاً بالفالج سنتين وتسعة أشهر وأياماً، وكانت وفاته وهو مفلوج بحمى حادة عرضت له وكان عمره ثلاثاً وأربعين سنة، لأن مولده سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وكان شهماً شجاعاً فطناً ذكياً، وكان يحب أهل الفضائل والعلوم، واستخدم الشيخ علم الدين قيصر، المعروف بتعاسيف، وكان مهندساً فاضلاً في العلوم الرياضية، فبنى للملك المظفر المذكور أبراجاً بحماة، وطاحوناً على نهر العاصي، وعمل له كرة من الخشب مدهونة، رسم فيها جميع، الكواكب المرصودة، وعملت هذه الكرة بحماة.
قال القاضي جمال الدين بن واصل: وساعدت الشيخ علم الدين على عملها، وكان الملك المظفر يحضر ونحن نرسمها، ويسألنا عن مواضع دقيقة فيها.
ولما مات الملك المظفر صاحب حماة، ملك بعده ولده الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر محمود المذكور، وعمره حينئذ عشر سنين وشهر واحد وثلاثة عشر يوماً، والقائم بتدبير المملكة، سيف الدين طغريل مملوك الملك المظفر، ومشاركة الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد، المعروف بشيخ الشيوخ، والطواشي مرشد والوزير بهاء الدين بن التاج، ومرجع الجميع إلى والدة الملك المنصور، غازية خاتون، بنت الملك الكامل.
وفيها بلغ الملك الصالح نجم الدين أيوب وفاة ابنه الملك المغيث، فتح الدين عمر، في حبس الصالح إسماعيل صاحب دمشق، فاشتد حزن الصالح أيوب عليه، وحنقه على الصالح إسماعيل.
وفي هذه السنة توفي الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب ميافارقين، واستمر بعده في ملكه ولده الملك الكامل ناصر الدين محمد بن غازي.
وفيها سير من حماة الشيخ تاج الدين أحمد بن محمد بن نصر الله، المعروف بيته ببني المغيرك، رسولاً إلى الخليفة ببغداد، وصحبته تقدمة من السلطان الملك المنصور صاحب حماة.
وفيها توفي القاضي شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن علي بن محمد الشافعي عرف بابن أبي الدم، قاضي حماة، وكان قد توجه في الرسلية إلى بغداد، فمرض في المعرة، وعاد إلى حماة مريضاً فتوفي بها، وهو الذي ألف التاريخ الكبير المظفري وغيره.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة فيها سير الصالح إسماعيل وزيره أمين الدولة الذي كان سامرياً، وأسلم إلى العراق، مستشفعاً بالخليفة ليصلح بينه وبين ابن أخيه، فلم يجب الخليفة إلى ذلك، وكان أمين الدولة غالباً على الملك الصالح إسماعيل المذكور، بحيث لا يخرج عن رأيه.
ذكر استيلاء الملك الصالح أيوب على دمشق وفيها تسلم عسكر الملك الصالح أيوب، ومقدمهم معين الدين ابن الشيخ، دمشق، من الصالح إسماعيل ابن الملك العادل، وكان محصوراً معه بدمشق إبراهيم ابن شيركوه صاحب حمص، فتسلم دمشق على أن يستقر بيد الصالح إسماعيل بعلبك وبصرى والسواد، ويستقر بيد صاحب حمص، حمص وما هو مضاف إليها. فأجابهما معين الدين ابن الشيخ إلى ذلك، ووصل إلى دمشق حسام الدين بن أبي علي، بمن كان معه من العسكر المصري، واتفق بعد تسليم دمشق، أن معين الدين ابن الشيخ مرض، وتوفي بها، وبقي حسام الدين بن أبي علي نائباً بدمشق للملك الصالح أيوب.
ثم إن الخوارزمية خرجوا عن طاعة الملك الصالح أيوب، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم إذا كسروا الصالح إسماعيل وفتحوا دمشق، يحصل لهم من البلاد والإقطاعات ما يرضي خاطرهم، فلما لم يحصل لهم ذلك، خرجوا عن طاعة الملك الصالح أيوب وصاروا مع الملك الصالح إسماعيل، وانضم إليهم الناصر داود صاحب الكرك، وساروا إلى دمشق وحصروها، وغلت بها الأقوات، وقاسى أهلها شدة عظيمة، لم يسمع بمثلها، وقام حسام الدين بن أبي علي الهذباني في حفظ دمشق أتم قيام، وخرجت السنة والأمر على ذلك.
ذكر غير ذلك من الحوادثوفي هذه السنة قصدت التتر بغداد، وخرجت عساكر بغداد للقائهم، ولم يكن للتتر بهم طاقة، فولى التتر منهزمين على أعقابهم تحت الليل.
وفي هذه السنة توفيت ربيعة خاتون بنت أيوب، أخت السلطان صلاح الدين بدمشق، بدار العقيقي، وكانت قد جاوزت ثمانين سنة، وبنت مدرسة الحنابلة بجبل الصالحية.
وفيهما توفي الشيخ تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن الصلاح، الفقيه المحدث.
وفيها توفي علم الدين علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي، شرح قصيدة الشاطبي في القراءآت، وشرح المفصل للزمخشري، وسمى شرحه المفضل في شرح المفصل، وله مجموع سماه كتاب سفر السعادة وسفير الإفادة، ذكر فيها مسائل، مشكلة في النحو، وعدة من أبيات المعاني ولغة غريبة.
وفي هذه السنة لما تسلم دمشق الملك الصالح أيوب، تسلمت نواب الملك المنصور صاحب حماة سلمية، وانتزعوها من صاحب حمص، واستقرت سلمية في هذه السنة في ملك الملك المنصور صاحب حماة.
وفيها توفي الشيخ موفق الدين أبو البقاء يعيش بن محمد بن علي الموصلي الأصل، الحلبي المولد والمنشأ، النحوي، ويعرف بابن الصائغ، وكان ظريفاً حسن المحاضرة، شرح المفصل شرحاً مستوفى ليس في الشروح مثله، وله غير ذلك، وولد في رمضان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة بحلب، وتوفي بها في التاريخ المذكور، ودفن بالمقام.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وستمائة.
ذكر كسرة الخوارزمية
على القصب واستيلاء الصالح أيوب على بعلبك:كنا قد ذكرنا اتفاق الخوارزمية مع الصالح إسماعيل والناصر داود، ومحاصرتهم دمشق، وبها حسام الدين بن أبي علي، ولما وقع ذلك، اتفق الحلبيون والملك المنصور إبراهيم صاحب حمص، وصاروا مع الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، وقصدوا الخوارزمية، فرحلت الخوارزمية عن دمشق، وساروا إلى نحو الحلبيين وصاحب حمص، والتقوا على القصب في هذه السنة، فانهزمت الخوارزمية هزيمة قبيحة، تشتت شملهم بعدها، وقتل مقدمهم حسام الدين بركة خان، وحمل رأسه إلى حلب، ومضت طائفة من الخوارزميين مع مقدمهم كشلوخان الخوارزمي، فلحقوا بالتتر وصاروا معهم، وانقطع منهم جماعة وتفرقوا في الشام، وخدموا به، وكفا الله الناس شرهم.
ولما وصل خبر كسرتهم إلى الملك الصالح أيوب بديار مصر، فرح فرحاً عظيماً، ودقت البشائر بمصر، وزال ما كان عنده من الغيظ على إبراهيم صاحب حمص، وحصل بينهما التصافي بسبب ذلك، وأما الصالح إسماعيل فإنه سار إلى الملك الناصر يوسف صاحب حلب واستجار به، وأرسل الصالح أيوب يطلبه فلم يسلمه الملك الناصر إليه، ولما جرى ذلك، رحل حسام الدين بن أبي علي الهذباني بمن عنده من العسكر بدمشق، ونازل بعلبك وبها أولاد الصالح إسماعيل وحاصرها، وتسلمها بالأمان، وحمل أولاد الصالح إسماعيل إلى الملك الصالح أيوب بديار مصر، فاعتقلوا هناك، وكذلك بعث بأمين الدولة وزير الملك الصالح إسماعيل، وأستاذ داره ناصر الدين يغمور، فاعتقلا بمصر أيضاً، وزينت القاهرة ومصر، ودقت البشائر بهما لفتح بعلبك، واتفق في هذه الأيام وفاة صاحب عجلون، وهو سيف الدين بن قليج،: فتسلم الملك الصالح أيوب عجلون أيضاً، ولما جرى ما ذكرناه أرسل الملك الصالح أيوب عسكراً مع الأمير فخر الدين يوسف ابن الشيخ، وكان فخر الدين ابن الشيخ قد اعتقله الملك العادل أبو بكر ابن الملك الكامل، ثم لما ملك الملك الصالح أيوب مصر أفرج عنه، وأمره بملازمة بيته، فلازمه مدة، ثم قدمه في هذه السنة على العسكر، وجهزه إلى حرب الملك الناصر داود صاحب الكرك، فسار فخر الدين المذكور واستولى على جميع بلاد الملك الناصر، وولي عليها وسار إلى الكرك وحاصرها، وخرب ضياعها، وضعف الملك الناصر ضعفاً بالغاً، ولم يبق بيده غير الكرك وحدها.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة حبس الصالح أيوب مملوكه بيبرس، وهو الذي كان معه لما اعتقل في الكرك، وسببه أن بيبرس المذكور مال إلى الخوارزمية، وإلى الناصر داود، وصار معهم على أستاذه، لما جرده إلى غزة، كما تقدم ذكره، فأرسل أستاذه الصالح أيوب واستماله، فوصل إليه فاعتقله في هذه السنة، وكان آخر العهد به.
وفيها أرسل الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص بن شيركوه، وطلب دستوراً من الملك الصالح أيوب ليصل إلى بابه، وينتظم في سلك خدمته، وكان قد حصل بإبراهيم المذكور السل، وسار على تلك الحالة من حمص متوجهاً إلى الديار المصرية، ووصل إلى دمشق فقوي به المرض، وتوفي في دمشق، فنقل إلى حمص ودفن بها، وملك بعده ولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك المنصور إبراهيم المذكور.
وفي هذه السنة بعد فتوح دمشق وبعلبك، استدعى الملك الصالح أيوب خدمة حسام الدين بن أبي علي إلى مصر، وأرسل موضعه نائباً بدمشق، الأمير جمال الدين بن مطروح، ولما وصل حسام الدين بن أبي علي إلى مصر، استنابه الملك الصالح بها، وسار الملك الصالح أيوب إلى دمشق، ثم سار منها إلى بعلبك، ثم عاد إلى دمشق، ووصل إلى خدمة الملك الصالح أيوب بدمشق، الملك المنصور محمد صاحب حماة، والملك الأشرف موسى صاحب حمص، فأكرمهما وقربهما ثم أعطاهما الدستور فعادا إلى بلادهما، واستمر الملك الصالح بالشام حتى خرجت هذه السنة.
وفي هذه السنة توفي عماد الدين داود بن موشك بالكرك، وكان جامعاً لمكارم الأخلاق.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وستمائة وفيها عاد الملك الصالح نجم الدين أيوب من الشام إلى الديار المصرية.
وفيها فتح فخر الدين ابن الشيخ قلعتي عسقلان وطبرية، والملك الصالح بالشام، بعد محاصرتهما مدة، وكنا قد ذكرنا تسليمهما إلى الفرنج في سنة إحدى وأربعين وستمائة، فعمروهما، واستمرتا بأيدي الفرنج حتى فتحتا في هذه السنة.
وفيها سلم الأشرف صاحب حمص شميميس للملك الصالح أيوب، فعظم ذلك على الحلبيين لئلا يحصل الطمع للملك الصالح في ملك باقي الشام.
وفيها توفي الملك العادل أبو بكر ابن السلطان الملك الكامل بالحبس، وأمه الست السوداء تعرف ببنت الفقيه نصر، وكان مسجوناً من حين قبض عليه ببلبيس إلى هذه الغاية، فكان مدة مقامه بالسجن نحو ثمان سنين، وكان عمره نحو ثلاثين سنة، وخلف ولداً صغيراً، وهو الملك المغيث فتح الدين عمر، وهو الذي ملك الكرك فيما بعد، ثم قتله الملك الظاهر بيبرس على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة توجه الطواشي مرشد المنصوري، ومجاهد الدين أمير جندار، من حماه إلى حلب، وأحضرا بنت الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر صاحب حلب، وهي عائشة خاتون، زوج الملك المنصور صاحب حماة، وحضرت معها أمها فاطمة خاتون، بنت السلطان الملك الكامل ابن الملك العادل، ووصلت إلى حماة في العشر الأوسط من رمضان من هذه السنة، أعني سنة خمس وأربعين وستمائة، ووصلت في تجمل عظيم، واحتفل للقائها بحماة احتفالاً عظيماً.
وفي هذه السنة توفي علاء الدين قراسنقر الساقي العادلي، أحد مماليك الملك العادل بن أيوب، وصارت مماليكه بالولاء للملك الصالح أيوب، ومنهم سيف الدين قلاوون الصالحي، الذي صار له ملك مصر والشام، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها توفي عمر بن محمد بن عبد الله المعروف بالشلوبيني بإشبيلية، كان فاضلاً إماماً في النحو، شرح الجزولية، وصنف في النحو غير ذلك، وكان فيه مع هذه الفضيلة التامة، بله وغفلة، وكنيته أبو علي، والشلوبيني نسبة إلى شلوبين، وهو حصن منيع من حصون الأندلس، من معاملة سواحل غرناطة، على بحر الروم. منه عمر الشلوبيني المذكور. هذا ما نص عليه ابن سعيد المغربي في كتابه الكبير، المسمى " بالمغرب في أخبار أهل المغرب " ، في المجلدة الخامسة عشرة، بعد ذكر غرناطة، قال: وقد وصف حصن شلوبين المذكور، ومنه الشيخ أبو علي عمر الشلوبيني قال: وقرأت عليه النحو، وكان إمام نحاة أهل المغرب، وكان في طبقة أبي علي الفارسي، ومن هنا يتحقق أن الذي نقله القاضي شمس الدين بن خلكان ومن تابعه، أن الشلوبين هو الأبيض الأشقر بلغة أهل الأندلس، وهم محض. لعدم وقوفهم على كتاب " المغرب في حلي أهل المغرب " المذكور.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وستمائة فيها أرسل الملك الناصر صاحب حلب عسكراً مع شمس الدين لؤلؤ الأرمني، فحاصروا الملك الأشرف موسى بحمص مدة شهرين، فسلم إليهم حمص، وتعوض عنها بتل باشر، مضافاً إلى ما بيده من تدمر والرحبة، ولما بلغ الملك الصالح نجم الدين أيوب ذلك، شق عليه وسار إلى الشام لارتجاع حمص من الحلبيين، وكان قد حصل له مرض وورم في مأبطه، ثم فتح وحصل منه ناصور، ووصل الملك الصالح إلى دمشق، وأرسل عسكراً إلى حمص مع حسام الدين بن أبي على، فخر الدين ابن الشيخ، فنازلوا حمص وحصروها، ونصبوا عليها منجنيقاً مغربياً، يرمي بحجر زنتها مائة وأربعون رطلاً بالشامي، مع عدة منجنيقات أخر، وكان الشتاء والبرد قوياً، واستمر عليها الحصار، واتفق حينئذ وصول الخبر إلى الملك الصالح وهو بدمشق، بوصول الفرنج إلى جهة دمياط، وكان أيضاً قد قوي مرضه، ووصل أيضا نجم الدين الباذراي، رسول الخليفة، وسعى في الصلح بين الملك الصالح والحلبيين، وأن تستقر حمص بيد الحلبيين، فأجاب الملك الصالح إلى ذلك، وأمر العسكر فرحلوا عن حمص بعد أن أشرفوا على أخذها.
ثم رحل الملك الصالح عن دمشق في محفة لقوة مرضه، واستناب بدمشق جمال الدين بن يغمور، وعزل ابن مطروح، وأرسل حسام الدين بن أبي علي قدامه ليسبقه إلى مصر، وينوب عنه بها.
وفيها في يوم الخميس السادس والعشرين من شوال من السنة المذكورة، أعني سنة ست وأربعين وستمائة، توفي أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، المعروف بابن الحاجب، الملقب جمال الدين، وكان والده عمر حاجباً للأمير عز الدين بن موسك الصلاحي، وكان كردياً، واشتغل ولده أبو عمرو المذكور في صغره بالقرآن والفقه، على مذهب مالك بن أنس، وبالعربية، وبرع في علومه وأتقنها، ثم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها، وأكب الخلق على الاشتغال عليه، ثم عاد إلى القاهرة، ثم انتقل إلى الإسكندرية فتوفي بها.
وكان مولد الشيخ أبي عمرو المذكور، في أواخر سنة سبعين وخمسمائة، بأسنا " بليدة بالصعيد " ، وكان الشيخ أبو عمرو المذكور متفنناً في علوم شتى، وكان الأغلب عليه علم العربية، وأصول الفقه، صنف في العربية مقدمته الكافية، واختصر كتاب الأحكام للآمدي، في أصول الفقه، فطبق ذكر هذين الكتابين، أعني الكافية ومختصره في أصول الفقه، جميع البلاد، خصوصاً بلاد العجم، واكب الناس على الاشتغال بهما إلى زماننا هذا، وله غيرهما عدة مصنفات.
وفيها أعني في سنة ست وأربعين وستمائة، توفي عز الدين أيبك المعظمي في محبسه بالقاهرة، وكان المذكور قد ملك صرخد، في سنة ثمان وستمائة حسبما تقدم ذكره في السنة المذكورة، وقال ابن خلكان: أنه ملك صرخد في سنة إحدى عشرة وستمائة. قال: لأن أستاذه الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. حج في السنة المذكورة، وأخذ صرخد من صاحبها ابن قراجا، وأعطاها مملوكه أيبك المذكور، والظاهر أن الأول أصح، واستمرت في يد أيبك إلى سنة أربع وأربعين وستمائة، فأخذها الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل من أيبك المذكور، وأمسك أيبك في السنة المذكورة وحمله إلى القاهرة وحبسه في دار الطواشي، صواب، واستمر، معتقلاً بها حتى توفي معتقلاً في هذه السنة، في أوائل جمادى الأولى، ودفن خارج باب النصر في تربة شمس الدولة، ثم نقل إلى الشام ودفن في تربة كان قد أنشأها بظاهر دمشق، على الشرف الأعلى، مطلة على الميدان الأخضر الكبير، رحمه الله تعالى، هكذا نقلت ذلك من وفيات الأعيان.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وستمائة.
ذكر ملك الفرنج دمياط
ونزول الملك الصالح أشمون طناخ:وفي هذه السنة سار ريد إفرنس، وهو من أعظم ملوك الفرنج، وريد بلغتهم هو الملك، أي ملك إفرنس، وإفرنس أمة عظيمة من أمم الفرنج، وكان جمع ريد إفرنس نحو خمسين ألف مقاتل، وشتى في جزيرة قبرس، ثم سار ووصل في هذه السنة إلى دمياط، وكان قد شحنها الملك الصالح بآلات عظيمة، وذخائر وافرة، وجعل فيها بني كنانة، وهم مشهورون بالشجاعة، وكان قد أرسل الملك الصالح فخر الدين ابن الشيخ بجماعة كثيرة من العسكر، ليكونوا قبالة الفرنج بظاهر دمياط، ولما وصلت الفرنج، عبر فخر الدكن ابن الشيخ من البر الغربي إلى البر الشرقي، ووصل الفرنج إلى البر الغربي لتسع بقين من صفر هذه السنة، ولما جرى ذلك هربت بنو كنانة وأهل دمياط منها، وأخلوا دمياط وتركوا أبوابها مفتحة، فتملكها الفرنج بغير قتال، واستولوا على ما بها من الذخائر والسلاحات، وكان هذا من أعظم المصائب، وعظم ذلك على الملك الصالح، وأمر بشنق بني كنانة، فشنقوا عن آخرهم. ووصل الملك الصالح إلى المنصورة، ونزل بها يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر هذه السنة، وقد اشتد مرضه، وهو السل والقرحة، التي كانت به، وقد أيس منه.
ذكر استيلاء الملك الصالح أيوب على الكرك
وفي هذه السنة سار الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، من الكرك إلى حلب، لما ضاقت عليه الأمور، مستجيراً بالملك الناصر صاحب حلب، وكان قد بقي عند الناصر داود من الجوهر مقدار كثير، قال: كان يساوى مائة ألف دينار، إذا بيع بالهوان، فلما وصل إلى حلب، سير الجوهر المذكور إلى بغداد وأودعه عند الخليفة المستعصم، ووصل إليه خط الخليفة بتسليمه، فلم تقع عينه عليه بعد ذلك، ولما سار الناصر داود عن الكرك، استناب عليها ابنه عيسى ولقبه الملك المعظم، وكان له ولدان آخران، أكبر من عيسى المذكور، هما الأمجد حسن، والظاهر شاذي، فغضب الأخوان المذكوران من تقديم أخيهما عيسى عليهما، وبعد سفر أبيهما قبضا على أخيهما عيسى، وتوجه الأمجد حسن إلى الملك الصالح أيوب وهو مريض، على المنصورة، وبذل له تسليم الكرك، على إقطاع له ولأخيه بديار مصر، فأحسن إليه الصالح أيوب وأعطاهما إقطاعاً أرضاهما، وأرسل إلى الكرك وتسلمها يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة من هذه السنة، وفرح الملك الصالح بالكرك فرحاً عظيماً، مع ما هو فيه من المرض، لما كان في خاطره من صاحبها.
ذكر وفاة الملك الصالح أيوب وفي هذه السنة توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب، ابن الملك الكامل محمد، ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، في ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة مضت من شعبان هذه السنة، أعني سنة سبع وأربعين وستمائة، وكانت مدة مملكته للديار المصرية تسع سنين وثمانية أشهر وعشرين يوماً، وكان عمره نحو أربع وأربعين سنة، وكان مهيباً عالي الهمة، عفيفاً طاهر اللسان والذيل، شديد الوقار، كثير الصمت، وجمع من المماليك الترك ما لم يجتمع لغيره من أهل بيته، حتى كان أكثر أمراء عسكره مماليكه، ورتب جماعة من المماليك الترك حول دهليزه، وسماهم البحرية، وكان لا يجسر أن يخاطبه أحد إلا جواباً، ولا يتكلم أحد بحضرته، ابتداء، وكانت القصص توضع بين يديه مع الخدام، فيكتب بيده عليها وتخرج للموقعين، وكان لا يستقل أحد من أهل دولته بأمر من الأمور إلا بعد مشاورته بالقصص، وكان غاوياً بالعمارة، بنى قلعة الجزيرة، وبنى الصالحية، وهي بلدة بالسائح، وبنى له بها قصوراً للتصيد، وبنى قصراً عظيماً بين مصر والقاهرة، يسمى بالكبش.
وكانت أم الملك الصالح أيوب المذكور، جارية سوداء تسمى ورد المنى، غشيها السلطان الملك الكامل، فحملت بالملك الصالح، وكان للملك الصالح ثلاثة أولاد، أحدهم فتح الدين عمر، توفي في حبس الصالح إسماعيل، وكان قد توفي ولده الآخر قبله، ولم يكن قد بقي له غير المعظم توران شاه، بحصن كيفا، ومات الملك الصالح ولم يوص بالملك إلى أحد، فلما توفي أحضرت شجرة الدر، وهي جارية الملك الصالح، فخر الدين ابن الشيخ، والطواشي جمال الدين محسناً، وعرفتهما بموت السلطان، فكتموا ذلك خوفاً من الفرنج، وجمعت شجر الدر الأمراء، وقالت لهم: السلطان يأمركم أن تحلفوا له، ثم من بعده لولده الملك المعظم توران شاه، المقيم بحصن كيفا، وللأمير فخر الدين ابن الشيخ بأتابكية العسكر، وكتب إلى حسام الدين ابن أبي علي، وهو النائب بمصر بمثل ذلك، فحلفت الأمراء والأجناد والكبراء بالعسكر وبمصر وبالقاهرة على ذلك، في العشر الأوسط من شعبان هذه السنة، وكان بعد ذلك تخرج الكتب، المراسم وعليها علامة الملك الصالح، وكان يكتبها خادم يقال له السهيلي، فلا يشك أحد في أنه خط السلطان، فأرسل فخر الدين ابن الشيخ قاصداً لإحضار الملك المعظم من حصن كيفا، ولما جرى ذلك، شاع بين الناس موت السلطان، ولكن أرباب الدولة لا يجسرون أن يتفوهوا بذلك، وتقدم الفرنج عن دمياط إلى المنصورة، وجرى بينهم وبين المسلمين في مستهل رمضان من هذه السنة وقعة عظيمة، استشهد فيها جماعة من كبار المسلمين، ونزلت الفرنج بحر مساح، ثم قربوا من المسلمين، ثم إن الفرنج كبسوا المسلمين على المنصورة بكرة الثلاثاء لخمس مضين من ذي القعدة، وكان فخر الدين يوسف ابن الشيخ صدر الدين ابن حمويه في الحمام بالمنصورة، فركب مسرعاً، وصادفه جماعة من الفرنج فقتلوه، وكان سعيداً في الدنيا، ومات شهيداً.
ثم حملت المسلمون والترك البحرية على الفرنج، فردوهم على أعقابهم، واستمرت بهم الهزيمة، وأما الملك المعظم توران شاه، فإنه سار من حصن كيفا ووصل إلى دمشق، في رمضان من هذه السنة، وعّيد بها عيد الفطر، ووصل إلى المنصورة يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة سبع وأربعين وستمائة، ثم اشتد القتال بين المسلمين والفرنج براً وبحراً، ووقعت مراكب المسلمين على الفرنج، وأخذوا منهم اثنين وثلاثين مركباً، منها تسع شواني، فضعفت الفرنج لذلك، وأرسلوا يطلبون القدس وبعض الساحل، وأن يسلموا دمياط إلى المسلمين، فلم تقع الإجابة إلى ذلك.
ذكر غير ذلكوفي هذه السنة وقع الحرب بين صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، وبين الملك الناصر صاحب حلب، فأرسل إليه الملك الناصر عسكراً، والتقوا مع المواصلة بظاهر نصيبين، فانهزمت المواصلة هزيمة قبيحة، واستولى الحلبيون على أثقال لؤلؤ صاحب الموصل وخيمه، وتسلم الحلبيون نصيبين وأخذوها من صاحب الموصل، ثم ساروا إلى دارا فنازلوها وتسلموها وخربوها بعد حصار ثلاثة أشهر، ثم تسلموا قرقيسيا وعادوا إلى حلب.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة.
ذكر هزيمة الفرنج وأسر ملكهم لما أقام الفرنج قبالة المسلمين بالمنصورة، فنيت أزوادهم وانقطع عنهم المدد من دمياط، فإن المسلمين قطعوا الطريق الواصل من دمياط إليهم، فلم يبق لهم صبراً على المقام، فرحلوا ليلة الأربعاء، لثلاث مضين من المحرم، متوجهين إلى دمياط، وركب المسلمون أكتافهم، ولما استقر صباح الأربعاء خالطهم المسلمون وبذلوا فيهم السيف، فلم يسلم منهم إلا القليل، وبلغت عدة القتلى من الفرنج ثلاثين ألفا على ما قيل، وانحاز ريد إفرنس ومن معه من الملوك إلى بلد هناك، وطلبوا الأمان، فأمنهم الطواشي محسن الصالحي، ثم احتيط عليهم وأحضروا إلى المنصورة، وقيد ريد إفرنس، وجعل في الدار التي كان ينزلها كاتب الإنشاء، فخر الدين بن لقمان، ووكل به الطواشي صبيح المعظمي، ولما جرى ذلك رحل، الملك المعظم بالعساكر من المنصورة ونزل بفار سكور، ونصب بها برج خشب للملك المعظم.
ذكر مقتل الملك المعظم وفي هذه السنة يوم الاثنين، لليلة بقيت من المحرم، قتل الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، وسبب ذلك: أن المذكور، أطرح جانب أمراء أبيه ومماليكه، وكل منهم بلغه عنه من التهديد والوعيد ما نفر قلبه منه، واعتمد على بطانته الذين وصلوا معه من حصن كيفا، وكانوا أطرافاً أراذل، فاجتمعت البحرية على قتله بعد نزوله بفارسكور، وهجموا عليه بالسيوف، وكان أول من ضربه ركن الدين بيبرس، الذي صار سلطاناً فيما بعد، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، فهرب الملك المعظم منهم إلى البرج الخشب الذي نصب له بفارسكور على ما تقدم ذكره، فأطلقوا في البرج النار، فخرج الملك المعظم من البرج هارباً، طالباً البحر ليركب في حراقته، فحالوا بينه وبينها بالنشاب، فطرح نفسه في البحر، فأدركوه وأتموا قتله في نهار الإثنين المذكور، وكانت مدة إقامته في المملكة من حين وصوله إلى الديار المصرية، شهرين وأياماً.
ولما جرى ذلك، اجتمعت الأمراء واتفقوا على أن يقيموا شجرة الدر زوجة الملك الصالح في المملكة، وأن يكون عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي، المعروف بالتركماني، أتابك العسكر، وحلفوا على ذلك، وخطب لشجرة الدر على المنابر، وضربت السكة باسمها، وكان نقش السكة المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة الملك المنصور خليل، وكانت شجرة الدر قد ولدت من الملك الصالح ولداً ومات صغيراً، وكان اسمه خليل، فسميت والدة خليل، وكانت صورة علامتها على المناشير والتواقيع، والدة خليل، ولما استقر ذلك، وقع الحديث مع ريد إفرنس في تسليم دمياط بالإفراج عنه، فتقدم ريد إفرنس إلى من بها من نوابه في تسليمها، فسلموها، وصعد إليها العلم السلطاني يوم الجمعة، لثلاث مضين من صفر من هذه السنة، أعني سنة ثمان وأربعين وستمائة، وأطلق ريد إفرنس، فركب في البحر بمن سلم معه نهار السبت، غد الجمعة المذكورة وأقلعوا إلى عكا، ووردت البشرى بهذا الفتح العظيم إلى سائر الأقطار، وفي واقعة ريد إفرنس المذكورة، يقول جمال الدين يحيى بن مطروح أبياتاً منها:
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق عن قؤول نصيح
أتيت مصراً تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر يا طبل ريح
وكل أصحابك أوردتهم ... بحصن تدبيرك بطن الضريح
خمسون ألفاً لا يرى منهم ... غير قتيل أو أسير جريح
وقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثار أو لقصد صحيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باقي والطواشي صبيح
ثم عادت العساكر ودخلت القاهرة يوم الخميس، تاسع صفر من الشهر المذكور، وأرسل المصريون رسولاً إلى الأمراء الذين بدمشق، في موافقتهم على ذلك، فلم يجيبوا إليه وكان الملك السعيد ابن الملك العزيز عثمان ابن الملك العادل صاحب الصبيبة، قد سلمها إلى الملك الصالح أيوب، فلما جرى ذلك، قصد قلعة الصبيبة، فسلمت إليه، وكان من الملك السعيد ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك الملك المغيث الكرك كان الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، قد أرسله الملك المعظم توران شاه، لما وصل إلى الديار المصرية، إلى الشوبك، واعتقله بها، وكان النائب على الكرك والشوبك بدر الدين الصوابي الصالحي، فلما جرى ما ذكرناه من قتل الملك المعظم، وما استقر عليه الحال، بادر بدر الدين الصوابي المذكور، فأفرج عن المغيث وملكه القلعتين، الكرك والشوبك، وقام في خدمته أتم قيام.
ذكر استيلاء الملك الناصر صاحب حلب على دمشق ولما جرى ما ذكرناه، ولم يجب أمراء دمشق إلى ذلك، كاتب الأمراء القيميرية الذين بها الملك الناصر يوسف صاحب حلب، ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين، فسار إليهم وملك دمشق ودخلها في يوم السبت، لثمان مضين من ربيع الآخر من هذه السنة، ولما استقر الناصر المذكور في ملك دمشق، خلع على جمال الدين بن يغمور، وعلى الأمراء القيمرية به، وأحسن اليهم، واعتقل جماعة من الأمراء مماليك الملك الصالح، وعصت عليه بعلبك وعجلون وشميميس مدة مديدة، ثم سلمت جميعها إليه، ولما ورد الخبر بذلك إلى مصر قبضوا على من عندهم من القيمرية، وعلى كل من اتهم بالميل إلى الحلبيين.
ذكر سلطنة أيبك التركماني ثم إن كبراء الدولة اتفقوا على إقامة عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي في السلطنة، لأنه إذا استقر أمر المملكة في امرأة، على ما هو عليه الحال، تفسد الأمور، فأقاموا أيبك المذكور، وركب بالسناجق السلطانية، وحملت الغاشية بين يديه يوم السبت آخر ربيع الآخر من هذه السنة، ولقب الملك المعز، وأبطلت السكة والخطبة التي كانت باسم شجرة الدر.
ذكر عقد السلطنة للملك الأشرف موسى بن يوسف صاحب اليمن، المعروف باقسيس:
ابن الملك الكامل محمد، ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، ثم اجتمعت الأمراء واتفقوا على أنه لا بد من إقامة شخص من بني أيوب في السلطنة، واجتمعوا على إقامة موسى المذكور، ولقبوه الملك الأشرف، وأن يكون أيبك التركماني أتابكه، وأجلس الأشرف موسى المذكور في دست السلطنة، وحضرت الأمراء في خدمته يوم السبت، لخمس مضين من جمادى الأولى من هذه السنة، وكان بغزة حينئذ جماعة من عسكر مصر مقدمهم خاص ترك، فسار إليهم عسكر دمشق، فاندفعوا من غزة إلى الصالحية بالسائح، واتفقوا على طاعة المغيث صاحب الكرك، وخطبوا له بالصالحية يوم الجمعة، لأربع مضين من جمادى الآخرة من هذه السنة، ولما جرى ذلك، اتفق كبراء الدولة بمصر، ونادوا بالقاهرة ومصر، أن البلاد للخليفة المستعصم، ثم جددت الأيمان للملك الأشرف موسى بالسلطنة، ولأيبك التركماني بالأتابكية، وفي يوم الأحد لخمس مضين من رجب، رحل فارس الدين أقطاي الصالحي الجمدار، متوجهاً إلى جهة غزة، ومعه تقدير ألفي فارس، وكان أقطاي المذكور، مقدم البحرية، فلما وصل إلى غزة، اندفع من كان بها من جهة الناصر بين يديه.
ذكر تخريب دمياط وفي هذه السنة، اتفق آراء أكابر الدولة، وهدموا سور دمياط، في العشر الأخير من شعبان هذه السنة، لما حصل للمسلمين عليها من الشدة مرة بعد أخرى، وبنوا مدينة بالقرب منها في البر، وسموها المنشية، وأسوار دمياط التي هدمت من عمارة المتوكل الخليفة العباسي.
ذكر القبض على الناصر داود وفي هذه السنة مستهل شعبان، قبض الناصر يوسف، صاحب دمشق وحلب، علي الناصر داود، الذي كان صاحب الكرك، وبعث به إلى حمص، فاعتقل بها، وذلك لأشياء بلغت الناصر يوسف عن المذكور، خاف منها.
مسير الملك الناصريوسف إلى الديار المصرية
ذكر مسير السلطان الملك الناصر يوسف صاحب الشام إلى الديار المصرية وكسرته:
وفي هذه السنة سار الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز، بعساكره من دمشق، وصحبته من ملوك أهل بيته، الصالح إسماعيل بن العادل بن أيوب، والأشرف موسى صاحب حمص، وهو حينئذ صاحب تل باشر والرحبة وتدمر والمعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، وأخو المعظم المذكور نصرة الدين، والأمجد حسن، والظاهر شاذي ابنا الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن العادل ابن أيوب، وتقي الدين عباس ابن الملك العادل بن أيوب، ومقدم الجيش شمس الدين لؤلؤ الأرمني، وإليه تدبير المملكة، فرحلوا من دمشق يوم الأحد منتصف رمضان من هذه السنة، ولما بلغ المصريين ذلك، اهتموا لقتاله ودفعه، وبرزوا إلى السائح وتركوا الأشرف المسمى بالسلطان بقلعة الجبل، وأفرج أيبك التركماني حينئذ عن ولدي الصالح إسماعيل، وهما المنصور إبراهيم، والملك السعيد عبد الملك، ابنا الصالح إسماعيل، وكانا معتقلين من حين استيلاء الملك الصالح أيوب على بعلبك، وخلع عليهما ليتوهم الناصر يوسف صاحب دمشق، من أبيهما الصالح إسماعيل، والتقى العسكران المصري والشامي بالقرب من العباسة، في يوم الخميس عاشر ذي العقدة من هذه السنة، فكانت الكسرة أولاً على عسكر مصر، فخامر جماعة من المماليك الترك العزيزية، على الملك الناصر صاحب دمشق، وثبت المعز أيبك التركماني في جماعة قليلة من البحرية، فانضاف جماعة من العزيزية مماليك والد الملك الناصر إلى أيبك التركماني، ولما انكسر المصريون وتبعتهم العساكر الشامية، ولم يشكوا في النصر، بقي الملك الناصر تحت السناجق السلطانية مع جماعة يسيرة من المتعممين لا يتحرك من موضعه، فحمل المعز التركماني بمن معه عليه، فولى الملك الناصر منهزماً طالباً جهة الشام، ثم حمل أيبك التركماني المذكور على طلب شمس الدين لؤلؤ، فهزمهم وأخذ شمس الدين لؤلؤ أسيراً، فضربت عنقه بين يديه، وكذلك أسر الأمير ضياء الدين القيمري، فضربت عنقه، وأسر يومئذ الملك الصالح إسماعيل، والأشرف صاحب حمص، والمعظم توران شاه بن صلاح الدين بن أيوب، وأخوه نصرة الدين، ووصل عسكر الملك الناصر في إثر المنهزمين إلى العباسة، وضربوا بها دهليز الملك الناصر، وهم لا يشكون أن الهزيمة تمت على المصريين، فلما بلغهم هروب الملك الناصر، اختلفت آراؤهم، فمنهم من أشار بالدخول إلى القاهرة وتملكها، ولو فعلوه لما كان بقي مع أيبك التركماني من يقاتلهم به، وكان هرب، فإن غالب المصريين المنهزمين وصلوا إلى الصعيد، ومنهم من أشار بالرجوع إلى الشام، وكان معهم تاج الملوك ابن المعظم، وهو مجروح، وكانت الواقعة يوم الخميس، ووصل المنهزمون من المصريين إلى القاهرة في غد الوقعة نهار الجمعة، فلم يشك أهل مصر في ملك الملك الناصر ديار مصر، وخطب له في الجمعة المذكورة بقلعة الجبل، وبمصر، وأما القاهرة فلم يقم فيها في ذلك النهار خطبة لأحد، ثم وردت إليهم البشرى بانتصار البحرية، ودخل أيبك التركماني والبحرية إلى القاهرة يوم السبت ثاني عشر ذي القعدة، ومعه الصالح إسماعيل تحت الاحتياط، وغيره من المعتقلين، فحبسوا بقلعة الجبل، وعقيب ذلك أخرج أيبك التركماني أمين الدولة، وزير الصالح إسماعيل، وأستاذ داره يغمور، وكانا معتقلين من حين استيلاء الصالح أيوب على بعلبك، فشنقهما على باب قلعة الجبل رابع عشر ذي القعدة، وفي ليلة الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة، هجم جماعة على الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الملك العادل بن أيوب، وهو يمص قصب سكر، وأخرجوه إلى ظاهر قلعة الجبل من جهة القرافة، فقتلوه ودفن هناك، وعمره قريب من خمسين سنة، وكانت أمه رومية من خطايا الملك العادل.
وفي هذه السنة بعد هزيمة الملك الناصر صاحب الشام، سار فارس الدين أقطاي بثلاثة آلاف فارس إلى غزة، فاستولى عليها ثم عاد إلى الديار المصرية.
ذكر قتل صاحب اليمن
وفي هذه السنة، وثب على الملك المنصور عمر صاحب اليمن، جماعة من مماليكه فقتلوه، وهو عمر بن علي بن رسول، وكان والده علي بن رسول، أستاذ دار الملك المسعود ابن السلطان الملك الكامل، فلما سار الملك المسعود قاصداً الشام ومات بمكة على ما تقدم ذكره، استناب أستاذ داره علي بن رسول المذكور باليمن، فاستقر نائباً بها لبني أيوب، وكان لعلي المذكور إخوة، فأحضروا إلى مصر وأخذوا رهائن خوفاً من تغلب علي بن رسول على اليمن، واستمر المذكور نائباً باليمن حتى مات، قبل سنة ثلاثين وستمائة، واستولى على اليمن بعده ولده عمر بن علي لمذكور، على ما كان عليه أبوه من النيابة، فأرسل من مصر أعمامه ليعزلوه ويكونوا نواباً موضعه، فلما وصلوا إلى اليمن، قبض عمر المذكور عليهم واعتقلهم، واستقل عمر المذكور بملك اليمن يومئذ، وتلقب بالملك المنصور، واستكثر من المماليك الترك، فقتلوه في هذه السنة أعني سنة ثمان وأربعين وستمائة.
واستقر بعده في ملك اليمن ابنه يوسف بن عمر، وتلقب بالملك المظفر، وصفا له ملك اليمن، وطالت أيام مملكته على ما سنعلمه إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وستمائة.
فيها توفي الصاحب محي الدين بن مطروح، وكان متقدماً عند الملك الصالح أيوب، كان يتولى له لما كان الصالح بالشرق ينظر الجيش، ثم استعمله على دمشق، ثم عزله وولى ابن يغمور، وكان ابن مطروح المذكور فاضلاً في النثر والنظم، فمن شعره: عانقته فسكرت من طيب الشذا غصن رطيب بالنسيم قد اغتذا
نشوان ما شرب المدام وإنما ... أضحى بخمر رضابه متنبذا
جاء العذول يلومني من بعدما ... أخذ الغرام علي فيه مأخذا
لا أرعوي لا أنثني لا أنتهي ... عن حبه فليهذ فيه من هذى
إن عشت عشت على الغرام وإن أمت ... وجداً به وصبابة يا حبذا
وفيها جهز الملك الناصر يوسف صاحب الشام عسكراً إلى غزة، وخرج المصريون إلى السائح، وأقاموا كذلك حتى خرجت هذه السنة.
وفيها توفي علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر، الفقيه الحنفي المقرئ المعروف بتعاسيف، وكان إماماً في العلوم الرياضية، اشتغل بالديار المصرية والشام، ثم سار إلى الموصل، وقرأ على الشيخ كمال الدين موسى بن يونس علم الموسيقى، ثم عاد إلى الشام وتوفي بدمشق في شهر رجب من السنة المذكورة، ومولده سنة أربع وسبعين وخمسمائة بأصفون، من شرقي صعيد مصر.
ثم دخلت سنة خمسين وستمائة ولم يقع لنا فيها ما يصلح أن يؤرخ.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وستمائة فيها استقر الصلح بين الملك الناصر يوسف صاحب الشام، وبين البحرية بمصر، على أن يكون للمصريين إلى نهر الأردن، وللملك الناصر ما وراء ذلك، وكان نجم الدين البادراي رسول الخليفة، هو الذي حضر من جهة الخليفة، وأصلح بينهم على ذلك، ورجع كل منهم إلى مقره.
وفيها قطع أيبك التركماني خبر حسام الدين بن أبي علي الهذباني، فطلب دستوراً، فأعطيه، وسار إلى الشام، فاستخدمه الملك الناصر يوسف بدمشق.
ذكر أحوال الناصر صاحب الكرك
وفيها أفرج الملك الناصر يوسف، عن الملك الناصر داود ابن المعظم، الذي كان صاحب الكرك، وكان قد اعتقله بقلعة حمص، وذلك بشفاعة الخليفة المستعصم فيه، فأفرج عنه وأمره أن لا يسكن في بلاده، فرحل الناصر داود المذكور إلى جهة بغداد، فلم يمكنوه من الوصول إليها وطلب وديعته الجوهر، فمنعوه إياها، وكتب الملك الناصر يوسف إلى ملوك الأطراف أنهم لا يأووه ولا يميروه، فبقي الناصر داود في جهات عانة والحديثة، وضاقت به الأحوال وبمن معه، وانضم إليه جماعة من غزيه، فبقوا يرحلون وينزلون جميعاً، ثم لما قوي عليهم الحر، ولم يبق بالبرية عشب، قصدوا أزوار الفرات يقاسون بن الليل وهواجر النهار، وكان معه أولاده، وكان لولده الظاهر شافي، فهد، فكان يتصيد في النهار ما يزيد على عشرة غزلان، وكان يمضي للملك الناصر داود وأصحابه أياماً لا يطعمون غير لحوم الغزلان، واتفق أن الأشرف صاحب تل باشر وتدمر والرحبة يومئذ، أرسل إلى الناصر داود مركبين موسقين دقيقاً وشعيراً، فأرسل صاحب دمشق وتهدده على ذلك، ثم إن ناصر داود قصد مكاناً للشرابي واستجار به، فرتب له الشرابي شيئاً دون كفايته، وأذن له في النزول بالأنبار، وبينها وبين بغداد ثلاثة أيام، والناصر في داود مع ذلك يتضرع إلى الخليفة المستعصم فلا يجيب ضراعته، ويطلب وديعته فلا يرد لهفته ولا يجيبه إلا بالمماطلة، والمطاولة، وكانت مدة مقامه متنقلاً في الصحاري مع غزيه، قريب ثلاثة أشهر، ثم بعد ذلك أرسل الخليفة وشفع فيه عند الملك الناصر، فأذن له في العود إلى دمشق، ورتب له مائة ألف درهم على بحيرة فامية وغيرها، فلم يتحصل من ذلك إلا دون ثلاثين ألف درهم.
وفي هذه السنة وصلت الأخبار من مكة بأن ناراً ظهرت من عدن وبعض جبالها، بحيث كانت تظهر في الليل، ويرتفع منها في النهار دخان عظيم.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وستمائة.
ذكر دولة الحفصيين ملوك تونس وإنما ذكرناها في هذه السنة، لأنها كالمتوسطة لمدة ملكهم، وهو ما نقلناه من الشيخ الفاضل ركن الدين بن قوبع التونسي قال: والحفصيون، أولهم أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي، وهنتاتة - بتائين مثناتين من فوقهما - قبيلة من المصامدة، ويزعمون أنهم قرشيون من بني عدي بن كعب، رهط عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان أبو حفص المذكور، من أكبر أصحاب ابن تومرت، بعد عبد المؤمن، وتولى عبد الواحد بن أبي حفص إفريقية نيابة عن بني عبد المؤمن، في سنة ثلاث وستمائة، ومات سلخ ذي الحجة، سنة ثمان عشرة وستمائة، فتولى أبو العلاء من بني عبد المؤمن، ثم توفي، فعادت إفريقية إلى ولاية الحفصيين، وتولى منهم عبد الله بن عبد الواحد بن أبي حفص في سنة ثلاث وعشرين وستمائة.
ولما تولى، ولى أخاه أبا زكريا يحيى قابس، وأخاه أبا إبراهيم إسحاق بلاد الجريد، ثم خرج على عبد الله وهو على قابس، أصحابه، ورجموه وطردوه وولوا موضعه أخاه أبا زكريا بن عبد الواحد، سنة اثنتين وستين، فنقم بنو عبد المؤمن على أبي زكريا ذلك، فأسقط أبو زكريا اسم عبد المؤمن من الخطبة، وبقي اسم المهدي، وخلع طاعة بني عبد المؤمن، وتملك إفريقية، وخطب لنفسه بالأمير المرتضى واتسعت مملكته وفتح تلمسان والغرب الأوسط وبلاد الجريد، والزاب، وبقي كذلك حتى توفي على بونة، سنة سبع وأربعين وستمائة.
وأنشأ في تونس بنايات عظيمة شامخة، وكان عالماً بالأدب، وخلف أربعة بنين وهم: أبو عبد الله محمد، وأبو إسحاق إبراهيم، وأبو حفص عمر، وأبو بكر وكنيته أبو يحيى، وخلف أخوين وهما: أبو إبراهيم إسحاق، ومحمد اللحياني، ابني عبد الواحد بن أبي حفص. وكان محمد اللحياني المذكور صالحاً، منقطعاً يتبرك به، ثم تولى بعده ابنه أبو عبد الله محمد بن أبي زكريا، ثم سعى عمه أبو إبراهيم في خلعه فخلع، وبايع لأخيه محمد اللحياني الزاهد على كره منه لذلك، فجمع أبو عبد الله محمد المخلوع أصحابه، في يوم خلعه، وشد على عميه فقهرهما وقتلهما، واستقر في ملكه، وتلقب وخطب لنفسه بالمستنصر بالله، أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد ابن الأمراء الراشدين.