كتاب : المختصر في أخبار البشر
المؤلف : أبو الفداء
ثم دخلت سنة ثلاثين ومائة، في هذه السنة، دخل أبو مسلم مدينة مرو ونزل في قصر الإمارة، في ربيع الآخر، وهرب نصر بن سيار من مرو، ثم وصل قحطبة من عند الإمام إِبراهيم بن محمد إِلى أبي مسلم، ومعه لواء كان قد عقده له إِبراهيم، فجعل أبو مسلم قحطبة في مقدمته، وجعل إِليه العزل والاستعمال، وكتب إلى الجنود بذلك.
وفيها أعني سنة ثلاثين ومائة، وقيل سنة ست وثلاثين، توفي ربيعة الرأي ابن فروج، فقيه أهل المدينة، أدرك جماعة من الصحابة، وعنه أخذ العلم الإمام مالك.
ثم دخلت سنة إِحدى وثلاثين ومائة، فيها مات نصر بن سبار بساوة، قرب الري، وكان عمره خمساً وثمانين سنة، وفيها، أيضاً توفي أبو حذيفة، واصل بن عطاء الغزال المعتزلي، وكان مولده سنة ثمانين للهجرة، وكان يشتغل على الحسن البصري، ثم اعتزل عنه، وخالف في قوله في أصحاب الكبائر من المسلمين، أنهم ليسوا مؤمنين ولا كافرين، بل لهم منزلة بين المنزلتين، فسمي وأصحابه معتزلة، وكان واصل المذكور، يلثغ بالراء، ويتجنب اللفظ بالراء في كلامه، حتى ذكر ذلك في الأشعار فمنه في المديح:
نعم تجنب لا يوم العطاء كما ... تجنب ابن عطاء لثغة الراء
ولم يكن واصل بن عطاء غزّالا، وإنما كان يلازم الغّزالين، ليعرف المتعففات من النساء، فيحمل صدقته لهن.
وفيها أعني سنة إِحدى وثلاثين ومائة، توفي بالبصرة مالك بن دينار، من موالي بني أسامة بن ثور القرشي، العالم الناسك الزاهد المشهور، وما أحسن ما وري باسم مالك المذكور، واسم أبيه دينار، بعض الشعراء، في ملك اقتتل مع أعدائه، وانتصر عليهم، وأسر الرجال وفرق الأموال فقال:
أعتقت من أموالهم ما استعبدوا ... وملكتُ رقهم وهم أحرارُ
حتى غدا من كان منهم مالكا ... متمنياً لو أنه دينار
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة، في هذه السنة، سار قحطبة في جيش كثيف من خراسان، طالباً يزيد بن هبيرة أمير العراق، من جهة مروان، آخر خلفاء بني أمية، وسار حتى قطع الفرات، والتقيا، فانهزم ابن هبيرة، وعدم قحطبة، فقيل غرق، وقيل وجد مقتولاً، وقام بالأمر بعده ابنه الحسن بن قحطبة.
خلفاء بني العباس
أبو العباس السفاح
وفي هذه السنة بويع أبو العباس السفاح، واسمه عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس بالخلافة، في ربيع الأول، وقيل في ربيع الآخر بالكوفة، بعد مسيره من الحميمة، وكان سبب مسيره من الحميمة، وكان مقامه بها، أن إِبراهيم الإمام لما أمسكه مروان، نعى نفسه إِلى أهل بيته، وأمرهم بالمسير إلى أهل الكوفة، مع أخيه أبي العباس السفاح، وبالسمع له والطاعة، وأوصى إِبراهيم الإمام بالخلافة إِلى أخيه السفاح، وسار أبو العباس السفاح بأهل بيته، منهم أخوه أبو جعفر المنصور، وغيره، إِلى الكوفة، فقدم إليها في صفر، واستخفى إِلى شهر ربيع الأول، فظهر وسلم عليه الناس بالخلافة، وعزره في أخيه إبراهيم الإمام، ودخل دار الإمارة بالكوفة، صبيحة يوم الجمعة، ثاني عشر ربيع الأول من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وثلاثين ومائة.ثم خرج إِلى المسجد، فخطب وصلى بالناس، ثم صعد إِلى المنبر ثانياً، وصعد عمه داود بن علي، فقام دونه، وخطبا الناس، وحضاهم على الطاعة ثم نزل السفاح وعمه داود بن علي أمامه، حتى دخل القصر، وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور في المسجد، يأخذ له البيعة على الناس، ثم خرج السفاح فعسكر بحمام أعين واستخلف على الكوفة وأرضها، عمه داود بن علي، وحاجب السفاح يومئذ عبد الله ابن بسام.
ثم بعث السفاح عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس إلى شهرزور، وأهلها مذعنون بالطاعة لبني العباس، وبها من جهة بني العباس أبو عون، عبد الملك بن يزيد الأزدي.
وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد، إِلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ يحاصر ابن هبيرة بواسط.
وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن عباس، إِلى حميد بن قحطبة، أخي الحسن بن قحطبة بالمدائن، وأقام السفاح في العسكر أشهراً، ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية، وهي هاشمية الكوفة، بقصر الإِمارة.
هزيمة مروان بالزاب
وأخباره إلى أن قتل
كان مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، آخر خلفاء بني أمية، وكان يقال له مروان الجعدي، وحمار الجزيرة أيضاً، بحران، فسار منها طالباً أبا عون، عبد الملك بن يزيد الأزدي، المستولي على شهرزور من جهة بني العباس، فلما وصل مروان إِلى الزاب، نزل به وحفر عليه خندقاً، وكان في مائة ألف وعشرين ألفاً، وسار أبو عون من شهرزور إِلى الزاب، بما عنده من الجموع، وأردفه السفاح بعساكر في دفوع، مع عدة مقدمين، منهم سلمة بن محمد ابن عبد الله الطائي، وعم السفاح عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، كما ذكرناه، ولما قدم عبد الله بن علي على أبي عون، تحول أبو عون عن سرادقه وخلاه له وما فيه.
ثم إِن مروان عقد جسراً على الزاب، وعبر إِلى جهة عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فسار عبد الله بن علي إلى مروان، وقد جعل على ميمنته أبا عون، وعلى ميسرته الوليد بن معاوية، وكان عسكر عبد الله عشرين ألفاً، وقيل أقل من ذلك، والتقى الجمعان، واشتد بينهم القتال، وداخل عسكر مروان الفشل، وصار لا يريد أمراً إِلا وكان فيه الخلل، حتى تمت الهزيمة على عسكر مروان، فانهزموا وغرق من أصحاب مروان عدة كثيرة، وكان ممن غرق، إِبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان المخلوع، وهو يومئذ مع مروان الحمار، وكتب عبد الله بن علي إِلى السفاح بالفتح، وحوى من عسكر مروان سلاحاً كثيراً.
وكانت هزيمة مروان بالزاب، يوم السبت، لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة، سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ولما انهزم مروان من الزاب، أتى الموصل، فسبّه أهلها وقالوا: يا جعدي، الحمد لله الذي أتانا بأهل بيت نبينا، فسار عنها حتى أتى حران، وأقام بها نيفاً وعشرين يوماً، حتى دنا منه عسكر السفاح، فحمل مروان أهله وخيله، ومضى منهزماً إلى حمص، وقدم عبد الله بن علي حران، ثم سار مروان من حمص وأتى دمشق، ثم سار عن دمشق إِلى فلسطين، وكان السفاح قد كتب إِلى عمه عبد الله بن علي باتباع مروان، فسار عبد الله في أثره إلى أن وصل إلى دمشق، فحاصرها ودخلها عنوة، يوم الأربعاء لخمس مضين من رمضان، سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
ولما فتح عبد الله بن علي دمشق، أقام بها خمسة عشرة يوماً، ثم سار من دمشق حتى أتى فلسطين، فورد عليه كتاب السفاح يأمره أن يرسل أخاه، صالح بن علي بن عبد الله بن عباس في طلب مروان، فسار صالح في ذي القعدة من هذه السنة، حتى نزل نيل مصر، ومروان منهزم قدامه، حتى أدركه في كنيسة في بوصير من أعمال مصر، وانهزم أصحاب مروان، وطعن إِنسان مروان برمح فقتله، وسبق إِليه رجل من أهل الكوفة، كان يبيع الرمان، فاحتز رأسه، وكان قتله لثلاث بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ولما أحضر رأسه قدام صالح بن علي بن عبد الله ابن العباس، أمر أن ينفض، فانقطع لسانه، فأخذته هرة، وأرسله صالح إلى السفاح وقال:
قد فتحَ اللهُ مصراً عنوةً لكُمُ ... وأهلك الفاجرَ الجعديَ إِذ ظلما
وذاك مقوله هر يجرره ... وكان ربُكَ من ذي الكفر منتقما
ثم رجع صالح المذكور إِلى الشام، وخلف أبا عون بمصر، ولما وصل الرأس إِلى السفاح وهو بالكوفة، سجد شكراً لله تعالى، ولما قتل مروان، هرب ابناه عبد الله وعبيد الله إِلى أرض الحبشة، فقاتلتهم الحبشة، فقتل عبيد الله، ونجا عبد الله في عدّة ممن معه، وبقي إلى خلافة المهدي، فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين، فبعث به إِلى المهدي، ولما قتل مروان حُملت نساؤه وبناته إِلى بين يدي صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، فأمر بحملهن إلى حران، فلما دخلنها ورأين منازل مروان، رفعن أصواتهن بالبكاء، وكان عمر مروان لما قتل، اثنتين وستين سنة، وكانت مدة خلافته خمس سنين وعشرة أشهر ونصفاً، وكان يكنى أبا عبد الملك وكانت أمه أم ولد كردية، وكان يلقب بالحمار، وبالجعدي، لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه، في القول بخلق القرآن، والقدر، وكان مروان بن محمد، الحكمٍ المذكور، أبيض أشهل، ضخم الهامة، كث اللحية أبيضها، ربعة، وكان شجاعاً، حازماً، إلا أن مدته انقضت، فلم ينفعه حزمه وهو آخر الخلفاء من بني أمية.
من قتل من بني أمية
كان سليمان بن هشام بن عبد الملك، قد أمنه السفاح وأكرمه، فدخل سديف على السفاح وأنشده:
لا يغرنك ما ترى من رجال ... إِنّ تحت الضلوع داء دويا
فضع السيفَ وارفع السوطَ حتّى ... لا ترىَ فوق ظهرها أمويا
فأمر السفاح بقتل سليمان، فقتل، وكان قد اجتمع عند عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، عدة من بني أمية، نحو تسعين رجلاً، فلما اجتمعوا عند حضور الطعام، دخل شبل بن عبد الله، مولى بني هاشم، على عبد الله بن علي عم السفاح المذكور وأنشده:
أصبحَ الملك ثابتُ الأساسِ ... بالبهاليل من بني العباسِ
طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميل من الزمان وياسِ
لا تقيلن عبد شمس عثاراً ... واقطعن كل رقلة وغرَاس
ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحد المواسي
ولقد ساءني وساء سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الل ... ه بدار الهوان والإتعاسِ
واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وشهيد بجانبَ المهراس
والقتل الذي بحران أضحى ... ثاوياً بين غربة وتتاسِ
فأمر عبد الله بهم، فضربوا بالعمد حتى وقعوا، وبسط عليهم الأنطاع، ومد عليهم الطعام، وأكل الناس وهم يسمعون أنينهم حتى ماتوا جميعاً، وأمر عبد الله بنبش قبور بني أمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان، ونبش قبر يزيد ابنه، ونبش قبر عبد الملك بن مروان، ونبش قبر هشام بن عبد الملك، فوجد صحيحاً، فأمر بصلبه فصلب ثم أحرقه بالنار، وذراه، وتتبع يقتل بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم، فلم يفلت منهم غير رضيع، أو من هرب إِلى الأندلس، وكذلك قَتَل سليمان ابن علي بن عبد الله بن عباس بالبصرة، جماعة من بني أمية، وألقاهم في الطريق فأكلتهم الكلاب، ولما رأى من بقي من بني أمية ذلك، تشتتوا واختفوا في البلاد.
وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين وثلاثين ومائة، خلع أبو الورد بن الكوثر، وكان من أصحاب مروان بن محمد، طاعة بني العباس، بعد أن كان قد دخل في طاعتهم، فسار عبد الله بن علي ابن عبد الله بن عباس، إِلى أبي الورد، وهو بقنسرين، في جمع عظيم، واقتتلوا قتالاً شديداً، وكثر القتل في الفريقين، ثم انهزمت أصحاب أبي الورد، وثبت أبو الورد حتى قتل.
ولما فرغ عبد الله بن علي من أمر أبي الورد، من أهل قنسرين، وجدد البيعة معهم، ثم رجع إِلى دمشق، وكان قد خرج من بها عن الطاعة أيضاً، ونهبوا أهل عبد الله بن علي، فلما دنا عبد الله من دمشق، هربوا، ثم أمنهم.
وفيها ولى السفاح أخاه يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الموصل، وكان أهلها قد أخرجوا الوالي الذي بها، فسار يحيى إِلى الموصل، ولما استقر بها، قتل من أهلها نحو أحد عشر ألف رجل، ثم أمر بقتل نسائهم وصبيانهم، وكان مع يحيى قائد معه أربعة آلاف زنجي، فاستوقفت امرأة من الموصل يحيى، وقالت: مأنف للعربيات أن ينكحن الزنوج، فعمل كلامها فيه، وجمع الزنوج فقتلهم، عن آخرهم.
وفي هذه السنة أرسل السفاح أخاه أبا جعفر المنصور، والياً على الجزيرة وأذربيجان وأرمنية، وولى عمه داود المدينة ومكة واليمن واليمامة، وولى ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، الكوفة وسوادها، وكان على الشام عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، وعلى مصر أبو عون بن يزيد، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة، فيها استولى ملك الروم، وكان اسمه قسطنطين على ملطية، وقاليقلا، وفيها ولى السفاح عمه سليمان بن علي ابن عبد الله بن عباس، البصرة وكور دجلة والبحرين وعمان، واستعمل عمه إِسماعيل ابن علي بن عبد الله بن عباس على الأهواز.
وفيها مات عم السفاح داود بن علي بالمدينة، وولى السفاح مكانه زياد بن عبد الله الحارثي.
وفيها عزل السفاح أخاه يحيى بن محمد عن الموصل، لكثرة قتله فيهم، وولى عليها عمه إِسماعيل بن علي.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة فيها تحول السفاح من الحيرة، وكان مقامه بها، إِلى الأنبار، في ذي الحجة.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة فيها توفي يحيى أخو السفاح بفارس، وكان قد ولاه إِياها السفاح بعد عزله عن الموصل.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة فيها استأذن أبو مسلم السفاح في القدوم عليه، وفي الحج، فأذن له فحج أبو مسلم، وحج أبو جعفر المنصور أيضاً، وكان أبو جعفر هو أمير الموسم.
موت السفاح في هذه السنة مات السفاح بالأنبار، في ذي الحجة بالجدري، وعمره ثلاث وثلاثون سنة فمدة خلافته، من لدن قتل مروان، أربع سنين، وكان قد بويع له بالخلافة قبل قتل مروان بثمانية أشهر، وكان السفاح طويلا أقنى الأنف، أبيض، حسن الوجه واللحيه، وصلى عليه عمه عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، ودفنه بالزنبار العتيقة.
خلافة المنصوروهو ثاني خلفاء بني العباس، كان السفاح قد عهد بالخلافة إِلى أخيه أبي جعفر المنصور، ثم من بعده إلى ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فعقد العهد في ثوب، وختم عليه، ودفعه إلى عيسى بن موسى، ولما مات السفاح، كان أبو جعفر في الحج، فأخذ له البيعة على الناس عيسى بن موسى، وأرسل يعلمه بذلك، وبموت السفاح، وكان مع أبي جعفر أبو مسلم في الحج، فبايع أبو مسلم أبا جعفر وبايعه الناس.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة فيها قدم أبو جعفر المنصور من الحج إلى الكوفة، فصلى بأهلها الجمعة، وخطبهم، وسار إلى الأنبار فأقام بها.
وفيها بايع عم المنصور عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس لنفسه بالخلافة، وكان أبو مسلم قد قدم من الحج مع أبي جعفر المنصور، فأرسل أبو جعفر أبا مسلم ومعه الجنود، إِلى قتال عمه عبد الله بن علي، وكان عبد الله بأرض نصيبين، فاقتتل هو وأبو مسلم عدة دفوع، واجتهد أبو مسلم بأنواع الخدع في قتاله، وداموا كذلك مدّة، وفي آخر الأمر انهزم عبد الله بن علي وأصحابه في جمادى الآخرة، من هذه السنة، إِلى جهة العراق، واستولى أبو مسلم على عسكره، وكتب بذلك إِلى المنصور.
قتل أبي مسلم الخراساني وفيها قتل أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني، بسبب وحشة جرت بينهما، فإِن المنصور كتب إِلى أبي مسلم بعد أن هزم عبد الله عمه، بالولاية على مصر والشام، وصرفه عن خراسان، فلم يجب أبو مسلم إِلى ذلك، وتوجه أبو مسلم يريد خراسان، وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبي مسلم يطلبه إليه، فاعتذر عن الحضور إِليه، وطالت بينهما المراسلات في ذلك، وآخر الأمر أن أبا مسلم قدم على أبي جعفر المنصور بالمدائن، في ثلاثة آلاف رجل، وخلف باقي عسكره بحلوان، ولما قدم أبو مسلم، دخل على المنصور، وقبل يده، وانصرف، فلما كان من الغد، ترك المنصور بعض حرسه خلف الرواق، وأمرهم أنه إذا صفق بيديه، يخرجون ويقتلون أبا مسلم، ودعا أبا مسلم، فلما حضر أخذ المنصور يعدد ذنوبه، وأبو مسلم يعتذر عنها، ثم صفق المنصور، فخْرجَ الحرس وقتلوا أبا مسلم، وكان قتله في شعبان من هذه السنة، أعني سنة سبع وثلاثين ومائة، وكان أبو مسلم قد قتل في مدة دولته ستمائة ألف صبراً.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة في هذه السنة، خرج قسطنطين ملك الروم إلى بلد الإسلام، فأخذ ملطية عنوة، وهدم سورها، وعفا عن من فيها من المقاتلة والذرية، وقد مر في سنة ثلاث وثلاثين ومائة نحو ذلك، وفيها وسع المنصور في المسجد الحرام. ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة.
ابتداء الدولة الأموية بالأندلس في هذه السنة، دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ابن الحكم، إِلى الأندلس، وسبب ذلك أنّ بني أمية، لما قتلوا، استخفى من سلم منهم، فهرب عبد الرحمن المذكور، واستولى على الأندلس في هذه السنة. وفيها ظفر المنصور بعمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، وأعدمه وكان عبد الله مستخفياً عند أخيه سليمان بن علي من حين هرب من أبي مسلم على ما ذكرناه.
ثم دخلت سنة أربعين ومائة في هذه السنة، أرسل المنصور عبد الوهاب ابن أخيه، إبراهيم الإمام، والحسن بن قحطبة، في سبعين ألف مقاتل، ليعمروا ملطية فعمروها في ستة أشهر، وسار إِليهم ملك الروم في مائة ألف مقاتل، حتى نزل على نهر جيحان، فبلغه كثرة المسلمين، فرجع عنهم.
وفيها حج المنصور وتوجه إلى البيت المقدس، ثم إِلى الرقة، وعاد إِلى هاشمية الكوفة، وفيها أمر المنصور بعمارة مدينة المصيصة، وبنى بها مسجداً جامعاً، وأسكنها ألف جندي، وسماها المعمورة. ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة في هذه السنة، كان خروج الراوندية على المنصور، وهم قوم من أهل خراسان، على مذهب أبي مسلم الخراساني يقولون بالتناسخ، فيزعمون أن روح آدم في عثمان بن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم، هو الخليفة أبو جعفر المنصور، فلما ظهروا وأتوا إِلى قصر المنصور، قالوا: هذا قصر ربنا، فحبس المنصور رؤساءهم، وهم مائتان، فغضب أصحابهم، وأخذوا نعشاً وحملوه ومشوا به على أنهم ماشون في جنازة، حتى بلغوا باب السجن، فرموا بالنعش، وكسروا باب السجن، وأخرجوا رؤساءهم، ثم قصدوا المنصور وهم نحو ستمائة رجل، فتنادى الناس، وأغلقت أبواب المدينة وخرج المنصور ماشياً، واجتمع عليه الناس، وكان معن بن زائدة مستخفياً من المنصور، فحضر وقاتل الراوندية بين يدي المنصور، فعفا عن معن لذلك وقتل في ذلك اليوم الراوندية عن آخرهم.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة فيها مات عم المنصور سليمان بن علي. ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة، ودخلت سنة أربع وأربعين ومائة في هذه السنة، حبس المنصور من بني الحسن بن علي بن أبي طالب أحد عشر رجلا وقيدهم، وفيها مات عبد الله بن شبرمة وعمرو بن عبيد المعتزلي الزاهد، وعقيل بن خالد صاحب الزهري.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة فيها ظهر محمد بن عبد الله بن الحسن ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، واستولى على المدينة، وتبعه أهلها، فأرسل المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى إِليه، فوصل إِلى المدينة، وخندق محمد ابن عبد الله على نفسه، موضع خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحزاب، وجرى بينهما قتال، آخره أن محمد بن عبد الله المذكور، فتل هو وجماعة من أهل بيته وأصحابه، وانهزم من سلم من أصحابه، وكان محمد المذكور، سميناً أسمر شجاعاً، كثير الصوم والصلاة، وكان يلقب المهدي، والنفس الزكية، ولما قتل محمد، أقام عيسى بن موسى بالمدينة أياماً، ثم سار عنها في أواخر رمضان يريد مكة معتمراً.
بناء بغداد وفي هذه السنة، ابتدأ المنصور في بناء مدينة بغداد، وسبب ذلك: أن المنصور كره سكنى الهاشمية التي ابتناها أخوه بنواحي الكوفة، لما ثارت عليه الراوندية فيها، وكرهها أيضاً لجوار أهل الكوفة، فإنه كان لا يأمنهم على نفسه، فخرج يرتاد له موضعاً يسكنه، فاختار موضع بغداد، وابتدأ في عملها سنة خمس وأربعين ومائة.
ظهور إبراهيم العلوي في هذه السنة أيضاً، في رمضان، ظهر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أخو محمد النفس الزكية، وكان مستخفياً هارباً من بلد إِلى بلد، والمنصور مجتهد على الظفر به، فقدم البصرة ودعا الناس إِلى بيعة أخيه محمد بن عبد الله، وذلك قبل أن يبلغه قتله بالمدينة، فبايعه جماعة، منهم: مرة العبشمي وعبد الواحد بن زياد، وعمرو بن سلمة الهجيمي، وعبد الله بن يحيى الرقاشي، وأجابه جماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم، حتى أحصى ديوانه أربعة آلاف، وكان أمير البصرة سفيان بن معاوية، فلما رأى اجتماع الناس على إِبراهيم المذكور، تحصن في دار الإمارة بجماعة، فقصده إِبراهيم وحصره، فطلب سفيان منه الأمان فأمنّه إبراهيم، ودخل إِبراهيم القصر، فجاء يجلس على حصير فرشت له هناك، فقلبها الريح، فتطير الناس بذلك، فقال إِبراهيم: إِنا لا نتطير وجلس عليها مقلوبة، ووجد إبراهيم في بيت المال ألفي ألف درهم، فاستعان بها، وفرض لأصحابه خمسين خمسين.
ومضى إِبراهيم بنفسه إِلى دار زينب بنت سليمان بن علي بن عبد اللّه بن عباس، وإليها ينسب الزينبيون من العباسيين، فنادى هناك لأهل البصرة بالأمان، وأن لا يتعرض إليهم أحد.
ولمّا استقرت البصرة لإبراهيم، أرسل جماعة فاستولوا على الأهواز، ثم أرسل هارون بن سعد العجلي في سبعة عشر ألفاً إِلى واسط فملكها العجلي، ولم يزل إبراهيم بالبصرة يفرق العمال والجيوش، حتى أتاه خبر مقتل أخيه محمد بن عبد اَلله، قبل عيد الفطر بثلاثة أيام.
ثم إِن إبراهيم أجمع على المسير إِلى الكوفة، وسار من البصرة وقد أحصى ديوانه مائة ألف، حتى نزل باحمرا وهي من الكوفة على ستة عشر فرسخاً، وكان المنصور قد استدعى عيسى بن موسى من الحجاز، فحضر، وجعله في جيش قبالة إِبراهيم بن عبد الله، وجرى بينهما قتال شديد، انهزم فيه غالب عسكر عيسى بن موسى ثم تراجعوا. ثم وقعت الهزيمة على أصحاب إِبراهيم، وثبت هو في نفر قليل من أصحابه يبلغون ستمائة، فجاء سهم في حلق إِبراهيم، فتنحى عن موقفه فقال أردنا أمراً وأراد الله غيره، واجتمع عليه أصحابه وأنزلوه، فحمل عليهم عسكر عيسى ابن موسى وفرقوهم عنه، واحتزوا رأس إِبراهيم، وأتوا به إِلى عيسى فسجد شكراً لله تعالى، وبعث به إِلى المنصور.
وكان قتل إِبراهيم، لخمس بقين من ذي القعدة، سنة خمس وأربعين ومائة، وكان عمره ثمانياً وأربعين سنة. ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة فيها تحول المنصور من مدينة ابن هبيرة إِلى بغداد ليكمل عمارتها، واستشار أصحابه، وفيهم خالد بن برمك؛ في نقض إِيوان كسرى والمدائن، ونقل ذلك إلى بغداد، فقال خالد ابن برمك: لا أرى ذلك، لأنه من أعلام المسلمين، فقال المنصور: مِلتَ يا خالد إلى أصحابك العجم، وأمر المنصور بنقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه، فكان ما يغرمون على نقضه، أكثر من قيمة ذلك المنقوض، فترك نقضه، فقال له خالد: إِني لا أرى أن تبطل ذلك لئلا يقال أنك عجزت عن تخريب ما بناه غيرك، فلم يلتفت المنصور إِلى ذلك، وترك هدمه، ونقل المنصور أبواب مدينة واسط، فجعلها على بغداد، وجعل المنصور بغداد مدوّرة، لئلا يكون بعض الناس أقرب إِلى السلطان من بعض، وبني قصره في وسطها، والجامع في جانب القصر.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة: فيها خلع المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، من ولاية العهد، وبايع لابنه المهدي محمد بن المنصور.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة: فيها ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، وفيها ولىّ المنصور خالد بن برمك الموصل، وكان مولد الفضل قبل مولد الرشيد بتسعة أيام، فأرضعته الخيزران أم الرشيد.
وفيها توفي جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وجعفر الصادق، أحد الأئمة الاثني عشر، على رأي الإمامية، فإِنه قد تقدم منهم علي بن أبي طالب، ثم ابنه الحسن، ثم الحسين، ثم زين العابدين، ثم الباقر، ثم جعفر الصادق المذكور، وسنذكر الباقين إِن شاء الله تعالى، وسمي جعفر بالصادق لصدقه، وله كلام في صنعة الكيمياء، والزجر، والفأل، وولد سنة ثمانين، وتوفي في هذه السنة. أعني سنة ثمان وأربعين ومائة بالمدينة، ودفن بالبقيع، وأمّه بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وفيها توفى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة: فيها مات مسلم بن قتيبة بالري، وكان مشهوراً، عظيم القدر، وفيها مات كهمش بن الحسن التميمي البصري. وفيها مات عيسى بن عمر الثقفي، وعنه أخذ الخليل النحو.
ثم دخلت سنة خمسين ومائة: فيها بنى عبد الرحمن الأموي سور قرطبة، وفيها مات جعفر بن أبي جعفر المنصور، وفيها مات الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت ابن زوطا، مولى تيم الله بن ثعلبة، وكان زوطا من أهل كابل، وقيل من أهل بابل، وقيل من أهل الأنبار، وهو الذكي مسه الرق فأعتق، وولد له ثابت على الإسلام، وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة المذكور: ما وقع علينا رِق قط، وروى أن ثابتاً أبا أبي حنيفة وهو صغير، ذهب إِلى علي بن أبي طالب فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته. وقيل في نسب أبي حنيفة غير ذلك، فقيل: هو النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان، وأن جده النعمان بن المرزبان، أهدى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم المهرجان فالوذجا، فقال له علي: مهرجونا في كل يوم، وأدرك أبو حنيفة أربعة من الصحابة، وهم أنس بن مالك، وعبد الله بن أُبي، أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة، ولم يلق أحداً منهم، ولا أخذ عنهم، وأصحابه يقولون: لقي جماعة من الصحابة وأخذ عنهم، ولم يثبت ذلك عند أهل النقل.
وكان أبو حنيفة عالماً عاملاً زاهداً ورعاً، راوده أبو جعفر المنصور في أن يلي القضاء فامتنع، وكان حسن الوجه، ربعة، وقيل طويلاً، أحسن الناس منطقاً.
قال الشافعي: قيل لمالك، هل رأيت أبا حنيفة؟ فقال: نعم، رأيت رجلاً، لو كلمته في هذه السارية أن يجعلها ذهباً، لقام بحجته، وكان يصلي غالب الليل، حتى قيل إِنه صلى الصبح بوضوء عشاء الآخرة أربعين سنة، وحفظ عليه أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه، سبعة آلاف مرة. وكان يعاب بقلة العربية، وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة، وقيل ولد سنة إِحدى وستين، وكانت وفاته ببغداد، في السجن ليلي القضاء، فلم يفعل، وقيل إِنه توفي في اليوم الذي ولد فيه الشافعي، وذلك في رجب من هذه السنة، وقيل في جمادى الأولى وقبره ببغداد مشهور. وزوطا، بضم الزاي المعجمة وسكون الواو وفتح الطاء المهملة.
وفيها مات محمد بن إسحاق، صاحب المغازي فقيل كانت وفاة محمد بن إِسحاق المذكور، سنة إحدى وخمسين ومائة، وكان ثبتاً في الحديث عند أكثر العلماء، وقد ذكره البخاري في تاريخه، ولكن لم يرو عنه، وكذلك مسلم لم يخرج عنه إلا حديثاً واحداً في الرجم، وإنما لم يرو عنه البخاري لأجل طعن الإمام مالك بن أنس فيه، وكانت وفاة ابن إسحاق ببغداد، وفيها مات مقاتل بن سليمان البلخي المفسر.
ثم دخلت سنة إِحدى وخمسين ومائة فيها ولى المنصور، هشام بن عمرو الثعلبي على السند، وكان على السند، عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة، فعزله وولاه إِفريقية، وكان يلقب عمر المذكور بهزار مرد أي ألف رجل وفيها بنى المنصور الرصافة، للمهدي ابنه وهي من الجانب الشرقي من بغداد، وحول إليها قطعة من جيشه، وفيها قتل معن بن زائدة الشيباني، بسجستان في بست. وكان المنصور قد استعمله على سجستان، قتله جماعة من الخوارج، هجموا عليه في بيته بغتة وهو يحتجم فقتلوه، وقام بالأمر بعده ابن أخيه يزيد بن مزبد بن زائدة الشيباني.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة فيها غزا حميد بن قحطبة كابل وكان أمير خراسان.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وسنة أربع وخمسين ومائة فيها أعني في سنة أربع وخمسين ومائة، توفي بالكوفة أبو عمرو، واسمه كنيته، ابن العلا بن عمار من ولد الحصين التميمي المازني البصري، وكانت ولادته في سنة سبعين، وقيل ثمان وستين، وهو أحد القراء السبعة، وكان أعلم الناس بالقرآن الكريم، وفيها سار المنصور إِلى الشام، وجهز جيشاً إِلى المغرب، لقتال الخوارج بها، وفيها مات أشعب الطامع، وفيها مات وهيب بن الورد المكي الزاهد.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة: فيها عمل المنصور للكوفة والبصرة سوراً وخندقاً، وجعل ما أنفق فيه، من أموال أهلهما، ولما أراد المنصور معرفة عددهم، أمر أن يقسم فيهم خمسة الدراهم خمسة الدراهم، ثم جبى منهم أربعين أربعين فقال بعض شعرائهم:
يا لقوم ما لقينا ... من أمير المؤمنينا
قسم الخمسة فينا ... وجبانا أربعينا
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة: في هذه السنة توفي حمزة بن حبيب ابن عمارة الكوفي، المعروف بالزيات، أحد القراء السبعة، وعنه أخذ الكسائي القراءة. وكان يجلب الزيت من الكوفة إِلى حلوان، ويجلب من حلوان الجبن والجوز إلى الكوفة، فقيل له الزيات لذلك.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة: فيها مات الأوزاعي الفقيه، واسمه: عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، وعمره سبعون سنة، وكنيته أبو عمرو، وكان يسكن بيوت، وبها توفي، وكانت ولادته ببعلبك سنة ثمان وثمانين للهجرة، وكان يخضب بالحناء، وكان إمام أهل الشام، قيل إِنه أجاب في سبعين ألف مسألة وقبره في قرية على باب بيروت يقال لها خنتوس، وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون هاهنا رجل صالح.
والأوزاعي منصوب إِلى أوزاع وهي بطن من ذي كلاع، وقيل بطن من همذان، وجده يحمد، بضم الياء المثناة من تحتها، وسكون الحاء المهملة وكسر الميم، وبعدها دال مهملة.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة وفاة المنصور
وهو المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكانت وفاته في هذه السنة، لست خلون من ذي الحجة، ببئر ميمونة وكان قد خرج من بغداد لحج، فسار معه ابنه المهدي، فقال له المنصور: إِني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وهذا هو الذي حداني على الحج، فاتق الله فيما عهد إِليك من أمور المسلمين بعدي، ووصاه وصية طويلة، ثم ودعه وبكيا، ثم سار إِلى الحج، ومات ببئر ميمونة محرماً، في التاريخ المذكور، وكان مرضه القيام، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة، وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة وثلاثة أشهر وكسراً.
وكان المنصور أسمر نحيفاً خفيف العارضين، ولد بالحميمة من أرض الشراة، ودفن بمقابر بابه المعلى وبقي أثر الإحرام، فدفن ورأسه مكشوف، ومما يحكى عنه فيما جرى له في حجه، قيل: بينما الخليفة المنصور يطوف بالكعبة ليلاً، إِذ سمع قائلاً يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد، ودعا القائل وسأله عن قوله، فقال له: يا أمير المؤمنين إن أمنتني أنبأتك بالأمور على جليتها وأصولها، فأمنه. فقال: إن الذي دخله الطمع حتى حال، بين الحق وأهله، هو أنت يا أمير المؤمنين فقال المنصور: ويحك وكيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟ فقال الرجل: لأن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، فجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر، وأبواباً من الحديد، وحجاباً معهم الأسلحة، وأمرتهم أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإِيصال المظلوم والملهوف، ولا الجائع والعاري، ولا الضعيف والفقير، وما أحد إلا وله من هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذي استخلصتهم لنفسك، وأثرتهم على رعيتك، تجبي الأموال فلا تعطيها، وتجمعها ولا تقسمها، قالوا: هذا قد خان الله تعالى، فما لنا لا نخونه، وقد سخّر لنا نفسه، فاتفقوا على أن لا يصل إِليك من أخبار الناس إِلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إِلا أقصوه ونفوه، حتى تسقط منزلته ويصغر قدره، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، عظمهم الناس وهابوهم، فكان أول من صانعهم عملك، بالهدايا، ليتقووا بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذو القدرة والثروة من رعيتك، لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلماً وفساداً، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، فإن جاء متظلم، حيل بينه وبين الدخول إِليك، فإن أراد رفع قصة إِليك، وجدك قد منعت من ذلك، وجعلت رجلاً ينظر في المظالم، فلا يزال المظلوم يختلف إِليه، وهو يدافعه خوفاً من بطانتك، فإذا صرخ بين يديك، ضرب ضرباً شديداً، ليكون نكالاً لغيره، وأنت تنظر ولا تنكر فما بقاء الإسلام على هذا، فإِن قلت إِنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله في الطفل يسقط من بطن أمه وماله في الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحوبه، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل، حتى يعظم رغبة الناس إِليه، ولست الذي يعطي، وإنما الله عز وجلّ يعطي من يشاء بغير حساب، وإن قلت إِنما أجمع المال لتسديد الملك وتقويته، فقد أراك الله في بني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة، وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع، حين أراد الله تعالى لهم ما أراد، وإن قلت إِنما أجمعه لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فو الله ما فوق الذي أنت فيه منزلةً، إِلا منزلةً ما تنال إِلا بخلاف ما أنت عليه.
أولاده وهم المهدي محمد، وجعفر الأكبر، مات في حياة أبيه المنصور، ومنهم سليمان وعيسى ويعقوب وجعفر الأصغر وصالح المسكين، وكان المنصور أحسن الناس خلقاً في الخلوة حتى يخرج إِلى الناس.
خلافة المهديمحمد بن المنصور، وهو ثالثهم، ووصل إِليه الخبر بموت أبيه، وبالبيعة له، في منتصف ذي الحجة لأن القاصد وصل من مكة إِلى بغداد، في أحد عشر يوماً، فباد أهل بغداد.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة وسنة ستين ومائة فيها أمر المهدي برد نسب آل زياد، الذي استلحقه معاوية بن أبي سفيان، إِلى عبيد الرومي، وأخرجهم من قريش، فأخرجوا من ديوان قريش والعرب، وردوهم إِلى ثقيف. وفيها حج المهدي، وفرق في الناس أموالاً عظيمة، ووسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمل الثلج إِلى مكة.
وفيها مات داود الطائي الزاهد، وكان من أصحاب أبي حنيفة، وعبد الرحمن ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود المسعودي، وفيها توفي الخليل بن أحمد البصري النحوي أستاذ سيبويه.
ثم دخلت سنة إِحدى وستين ومائة فيها أمر المهدي باتخاذ المصانع في طريق مكة وبتجديد الأميال والبرك وبحفر الركايا، وبتقصير المنابر في البلاد وجعلها بمقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها جعل المهدي يحيى بن خالد بن برمك مع ابنه هارون، وجعل مع الهادي أبان بن صدقة، وفيها توفي سفيان الثوري، وكان مولده سنة سبع وتسعين.
وفيها توفي إِبراهيم بن أدهم بن منصور الزاهد، وكان مولده ببلخ، وانتقل إلى الشام، فأقام به مرابطاً، وهو من بكر بن وائل.
قال إِبراهيم بن يسار، سألت إبراهيم بن أدهم، كيف كان بدو أمرك حتى صرت إلى الزهد؟ قال: غير هذا أولى بك، فما زال يلح عليه بالسؤال حتى قال: إِني من ملوك خراسان، وكان قد حبب إِلي الصيد، فبينما أنا راكب فرساً وكلبي معي، إذ تحركت على صيد، فسمعت نداء من ورائي: يا إِبراهيم، ليس لهذا خلقت، ولا به أمرت، فوقفت مقشعراً أنظر يمنة ويسرة، فلم أر أحداً، قلت: لعن الله إِبليس. ثم حركت فرسي، فسمعت من قربوس سرجي: يا إِبراهيم ليس لهذا خلقت ولا به أُمرت فوقفت وقلت هيهات! جاءني النذير من رب العالمين، واللّه لا عصيت ربي، فتوجهت إِلى أهلي وجئت إِلى بعض رعاء أبي فأخذت جبته وكساءه، وألقيت إِليه ثيابي، ثم سرت حتى صرت إِلى العراق، ثم صرت إِلى الشام، ثم قدمت إِلى طرسرس، فأستأجرني شخص ناطور البستان، قال: فمكثت في البستان أياماً كثيرة، كلما اشتهرت، اختفيت وهربت من الناس، وكان إِبراهيم بن أدهم يأكل من عمل يده، مثل الحصاد وحفظ البساتين، والعمل في الطين، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة فيها تجهز المهدي لغزو الروم، وجمع العساكر من خراسان وغيرها، وعسكر بالبردان وسار عنها، وكان قد استخلف على بغداد، ابنه موسى الهادي، واستصحب معه ابنه هارون الرشيد، فلما وصل المهدي إِلى حلب، بلغه أن في تلك الناحية زنادقة، فجمعهم وقتلهم وقطع كتبهم.
وسار إِلى جيحان، وجهز ابنه هارون بالعسكر إلى الغزو، فتغلغل هارون في بلاد الروم، وفتح فتحات كثيرة، ثم عاد سالماً منصوراً.
وفيها قتل المقنع الخرساني، واسمه عطا، وكان من حديثه، أنه كان رجلاً ساحراً، خيل للناس صورة قمر يطلع ويراه الناس من مسافة شهرين، وإلى هذا القْمر أشار ابن سناء الملك بقوله:
إِليك فما بدر المقنع طالعاً ... بأسحر من ألحاظ بدري المعمم
وادعى المقنع المذكور الربوبية، وأطاعه جماعة كثيرة، وقال: إِن الله عزِّ وجل حل في آدم، ثم في نوح، ثم في نبي بعد آخر، حتى حل فيه، وعمر قلعة تسمى سنام، بما وراء النهر من رستاق كيش، وتحصن بها، ثم اجتمع عليه الناس وحصروه في قلعته، فسقى نساءه سماً فمتن، ثم تناول منه فمات في السنة المذكورة، لعنه الله، فدخل المسلمون قلعته وقتلوا من بها من أشياعه، وكان المقنع المذكور في مبدأ أمره قصاراً، من أهل مرو وكان مشوّه الخلق أعور قصيراً، وكان لا يسفر عن وجهه، بل اتخذ له وجهاً من ذهب قتقنع به، ولذلك قيل له المقنع.
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة فيها مات عم المنصور، عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، وعمره ثمان وسبعون سنة.
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة: فيها أرسل المهدي ابنه هارون الرشيد إِلى الروم في جيش كثير، فسار حتى بلغ خليج القسطنطينية، وغنم شيئاً كثيراً وقتل في الروم وعاد.
ثم دخلت سنة ست وستين ومائة: فيها قبض المهدي وزيره يعقوب بن داود بن طهمان، وكان قبل أن يتولى وزارة المهدي، يكتب لنصر بن سيار، ثم بقي بعده بطالاً، واتصل بالمهدي فاستوزره، وصارت الأمور إِليه وتمكن عنده فحسده أصحاب المهدي، وسعوا فيه حتى أمسكه في هذه السنة، وحبسه، ولم يزل محبوساً إِلى خلافة الرشيد، فأخرجه وقد عمي، فلحق بمكة، وكان أصحاب المهدي يشربون عنده، وكان يعقوب ينهي المهدي عن ذلك، فضيق على المهدي حتى أمسكه المهدي وحبسه، وفيه يقول بشار بن برد:
بني أمية هبوا طال نومكم ... إِن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الناء والعود
وفي هذه السنة أقام المهدي بريداً بين مكة والمدينة واليمن، بغالاً وإبلاً: وفيها قتل بشار بن برد الشاعر على الزندقة، وكان أعمى، خلق ممسوح العينين، ولما قتل كان قد نيف على التسعين، وكان بشار المذكور يفضل النار على الأرض ويصوب رأي إبليس في امتناعه من السجود لآدم عليه السلام.
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة: فيها توفي عيسى بن موسى بن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس ابن أخي السفاح والمنصور وهو الذي أوصى له السفاح بالخلافة بعد المنصور. ثم خلعه المنصور وولى ابنه المهدي، وكان عمر عيسى بن موسى المذكور، خمساً وستين سنة، وفي هذه السنة زاد المهدي في المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة وسنة تسع وستين ومائة.
موت المهدي فيها توفي المهدي، محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بماسبذان في المحرم، لثمان بقين منه، وكانت خلافته عشر سنين وشهراً، وعمره ثلاث وأربعون سنة، ودفن تحت جوزة، وصلى عليه ابنه الرشيد، وكان المهدي يجلس للمظالم ويقول: أدخلوا علي القضاة، فلو لم يكن ردي للمظالم إِلا للحياء منهم لكفى.
خلافة الهاديوهو رابعهم، كان موسى الهادي مقيماً بجرجان، يحارب أهل طبرستان، فبويع له بالخلافة في عسكر المهدي، في اليوم الذي مات فيه المهدي، وهو لثمان بقين من المحرم، من هذه السنة، أعني سنة تسع وستين ومائة، ولما وصل الرشيد وعسكر المهدي إِلى بغداد، راجعين من ماسبذان، أُخذت البيعة ببغداد أيضاً للهادي وكتب الرشيد إِلى الآفاق بوفاة المهدي، وأخذ البيعة للهادي، ولما وصل إِلى الهادي وهو بجرجان الخبر بموت أبيه المهدي، وبيعة الناس له بالخلافة، نادى بالرحيل، وسار على البريد مجدّاً، فدخل بغداد في عشرين يوماً واستوزر الربيع.
ظهور الحسين بن علي
بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالبوفي هذه السنة، ظهر الحسين المذكور بمدينة الرسول عليه السلام، وكان معه جماعة من أهل بيته منهم الحسن بن محمد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد الله المذكور هو ابن عاتكة.
واشتد أمر الحسين المذكور، وجرى بينه وبين عامل الهادي على المدينة، وهو عمر بن العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قتال، فانهزم عمر المذكور، وبايع الناس الحسين المذكور على كتاب الله وسنة نبيه، للمرتضى من آل محمد. وأقام الحسين هو وأصحابه بالمدينة يتجهزون، أحد عشر يوماً، ثم خرجوا يوم السبت، لست بقين من ذي القعدة، ووصل الحسين إِلى مكة ولحق به جماعة من عبيد مكة. وكان قد حج تلك السنة جماعة من بني العباس وشيعتهم، فمنهم سليمان بن أبي جعفر المنصور، ومحمد بن سليمان بن علي، والعباس بن محمد بن علي، وانضم إِليهم من حج من شيعتهم ومواليهم وقوادهم، واقتتلوا مع الحسين المذكور يوم التروية، فانهزم أصحاب الحسين وقتل الحسين واحتز رأسه، وأحضر قدام المذكورين من بني العباس، وجمع معه من رؤوس أصحابه ورؤوس أهل المدينة ما يزيد على مائة رأس، وفيها أيضاً رأس سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، واختلط المنهزمون بالحاج، وكان مقتلهم بموضع يقال له وج وهو عن مكة إِلى جهة الطائفْ، ووج المذكور هو الذي ذكره النميري في شعره فقال:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات
مررن بوج ثم قمن عشية ... يلبن للرحمن معتمرات
وفي قتل المذكورين بوج يقول بعضهم:
فلأبكين على الحسي ... ن بعولة وعلى الحسن
وعلى ابن عاتكة الذي ... واروه ليس له كفن
تركوا بوج غدوة ... في غير منزلة الوطن
وأفلت من المنهزمين، إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فأتى مصر، وعلى بريدها واضح، مولى بني العباس وكان شيعياً، فحمل إدريس المذكور على البريد إلى المغرب، حتى انتهى إلى طنجة، ولما بلغ الهادي ذلك، ضرب عنق واضع، وبقي إدريس في تلك البلاد حتى أرسل الرشيد الشماخ النامي، مولى بني الأسد، فاغتاله بالسم فمات، ولما مات إِدريس المذكور كانت له حظية حبلى، فولدت ابناً وسموه إِدريس باسم أبيه، وبقي حتى كبر، واستقل بملك تلك البلاد، وحمل رأس الحسين ومعه باقي الرؤوس إلى الهادي، فأنكر الهادي عليهم حمل رأس الحسين، ولم يعطهم جوائزهم غضْباً عليهم، وكان الحسين المذكور، شجاعاً كريماً، قدم على المهدي فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرقها ببغداد والكوفة، وخرج من الكوفة ما يملك ما يلبسه إلا فروة لم يكن تحتها قميص.
وفي هذه السنة مات مطيع بن إياس الشاعر. وفيها توفي نافع بن عبد الرحمن ابن أبي نعيم المقرئ. أحد القراء السبعة، وروى عن نافع راويان، وهما ورش وقنبل، وكان نافع إمام أهل المدينة في القراءة، ويرجعون إلى قرائته، وكان محتسباً فيه دعابة، وكان أسود شديد السواد، وقرأ مالك عليه القرآن، وهذا نافع بن عبد الرحمن المقرئ. غير نافع مولى عبد الله بن عمر المحدث، فليُعْلم ذلك. وفيها مات الربيع بن يونس حاجب المنصور ومولاه.
ثم دخلت سنة سبعين ومائة وفاة الهادي وفي هذه السنة توفي موسى الهادي بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر، وكان عمره ستاً وعشرين سنة، قيل إِن أمه الخيزران قتلته، بأن أمرت الجواري فغمين وجهه وهو مريض، فمات ودفن بعيسا باذ الكبرى في بستانه، وكان طويلاً جسيماً أبيض، وكان بشفته العليا تقلص، وكان له سبعة بنين وابنتان.
خلافة الرشيد بن المهديوهو خامسهم. وفي هذه السنة أعني سنة سبعين ومائة، بويع للرشيد هارون ابن المهدي محمد بالخلافة، في الليلة التي مات فيها الهادي، وكان عمر الرشيد حين ولي اثنتين وعشرين سنة، وأمه وأم الهادي الخيزران أم ولد وكان مولد الرشيد بالري في آخر ذي الحجة، سنة ثمان وأربعين ومائة، ولما مات الهادي بعيسا باذ صلى عليه الرشيد وسار إِلى بغداد وفي هذه السنة في شوال، أولد الأمين محمد بن الرشيد من زبيدة، واستوزر الرشيد يحيى بن خالد، وألقى إِليه مقاليد الأمور. وفي هذه السنة عزل الرشيد الثغور كلها، من الجزيزة وقنسرين، وجعلها حيزاً واحداً، وسميت العواصم، وأمر بعمارة طرسوس، على يد فرج الخادم التركي، ونزلها الناس. وفي هذه السنة أمر عبد الرحمن الداخل الأموي المستولي على الأندلس ببناء جامع قرطبة، وكان موضعه كنيسة، وأنفق عليه مائة ألف دينار.
ثم دخلت سنة إِحدى وسبعين ومائة: في هذه السنة توفي عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس بقرطبة، ويعرف بعبد الرحمن الداخل، لدخوله بلاد المغرب، وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. في ربيع الآخر، وكان مولده بأرض دمشق سنة ثلاث عشرة ومائة، ومدة ملكه الأندلس ثلاث وثلاثون سنة، لأنه تولى الأندلس في سنة تسع وثلاثين ومائة، ولما مات ملك بعده ابنه هشام بن عبد الرحمن، وكان عبد الرحمن أصهب خفيف العارضين طويلاً نحيفاً أعور.
وقصده بنو أمية من المشرق والتجأوا إِليه.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائة: فيها توفي رباح وكنيته أبو زيد اللخمي الزاهد بمدينة القيروان، وكان مجاب الدعوة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة: فيها ماتت الخيزران أم الرشيد، وفيها حج الرشيد وأحرم من بغداد.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة، وسنة خمس وسبعين ومائة: فيها صار يحيي بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى الديلم. فتحرك هناك، وفيها ولد إِدريس بن إِدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وإدريس بن عبد الله المذكور، هو الذي سلم وانهزم لما قتل أهل بيته يوم التروية بظاهر مكة، حسب ما ذكرناه في سنة تسع وستين ومائة، وكان قد توفي أبوه إِدريس الأول وله جارية حبلى، ولم يكن له ولد، فولدت الجارية بعد موته في ربيع الآخر من هذه السنة ولداً ذكراً، فسموه إِدريس أيضاً باسم أبيه، فبقي حتى كبر واستقل بالملك.
دخلت سنة ست وسبعين ومائة: فيها ظهر أمر يحيى بن عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب بالديلم، واشتدت شوكته، ثم إِن الرشيد جهز إِليه الفضل بن يحيى في جيش كثيف، فكاتبه الفضل وبذل له الأمان وما يختاره، فأجاب يحيى بن عبد الله إِلى ذلك وطلب يمين الرشيد، وأن يكون بخطه ويشهد فيه الأكابر، ففعل ذلك، وحضر يحيى بن عبد الله إِلى بغداد، فأكرمه الرشيد وأعطاه مالا كثيراً، ثم أمسكه وحبسه حتى مات في الحبس.
وفي هذه السنة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية واليمنية، وكان على دمشق حينئذ عبد الصمد بن علي، فجمع الرؤساء وسعوا في الصلح بينهم، فأتوا بني القين وكلموهم في الصلح فأجابوا، وأتوا اليمانية وكلموهم في الصلح، فقالوا: انصرفوا عنا حتى ننظر، ثم سارت اليمانية إِلى بني القين، وقتلوا منهم نحو ستمائة، فاستنجدت بنو القين، قضاعة وسليحا، فلم ينجدوهم، فاستنجدوا قيساً فأجابوهم وساروا معهم إِلى العواليك من أرض البلقاء فقتلوا من اليمانية ثمانمائة، وكثر القتال بينهم، ثم عزل الرشيد عبد الصمد عن دمشق وولاها إِبراهيم بن صالح بن علي، ودام القتال بين المذكورين نحو سنتين وكان سبب الفتنة بين اليمانيين والمضريين، أن رجلا من القين أتى رحى بالبلقاء ليطحن فيه، فمر بحائط رجل من لخم أو جذام، وفيه بطيخ فتناول منه فشتمه صاحبه وتضاربا، واجتمع قوم من اليمانيين وضربوا الذي من القين، فأعانه جماعة من مضر، فقتل رجل من اليمانيين فكان ذلك سبب الفتنة.
وفيها مات الفرج بن فضالة وصالح بن بشر القاري، وكان ضعيفاً في الحديث.
وفيها مات نعيم بن مسيرة النحوي الكوفي.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة: في هذه السنة أعني سنة سبع وسبعين ومائة، توفي بالكوفة أبو عبد الله شريك بن عبد الله بن أبي شريك، تولى القضاء أيام المهدي، ثم عزله الهادي، وكان عالماً عادلاً في قضائه كثير الصواب حاضر الجواب، ذكر معاوية بن أبي سفيان عنده، ووصف بالحلم فقال شريك: ليس بحليم من سفّه الحق، وقاتل علي بن أبي طالب، وكان مولده ببخارى سنة خمس وتسعين للهجرة. ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة، وسنة تسع وسبعين ومائة: فيها توفي مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث من ولد في الأصبح. ولذلك قيل له الأصبحي، وذو الأصبح اسمه الحارث بن عوف من ولد يعرب بن قحطان، وكان مولد الإِمام مالك المذكور سنة خمس وتسعين للهجرة، أخذ القراءة عن نافع بن أبي نعيم، وسمع الزهري، وأخذ العلم عن ربيعة الراي.
قال الشافعي رضي الله عنه: قال لي محمد بن الحسن، أيهما أعلم، صاحبنا أم صاحبكم، يعني أبا حنيفة ومالكاً.
قال: قلت على الإنصاف؟.
قال: نعم.
قال: قلت فأنشدك الله من أعلم بالقرآن، صاحبنا أو صاحبكم؟.
قال: اللهم صاحبكم.
قال: قلت فأنشدك الله من علم بالسنة؟ قال: اللهم صاحبكم.
قال: قلت فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله المتقدمين، صاحبنا أم صاحبكم؟.
قال: اللهم صاحبكم.
قال الشافعي: فلم يبق إِلا القياس، والقياس لا يكون إِلا على هذه الأشياء، وسعى بمالك إِلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، وهو ابن عم أبي جعفر المنصور وقالوا له: إِنه لا يرى الإِيمان ببيعتكم هذه بشيء، لأن يمين المكره ليست لازمة فغضب جعفر، ودعا بمالك وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت من كتفه، وارتكب منه أمراً عظيماً، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة.
وتوفي مالك المذكور بالمدينة ودفن بالبقيع، وكان شديد البياض إِلى الشقرة، طويلاً، وفيها توفي مسلم بن خالد الزنجي الفقيه المكي، وكان الشافعي قد صحبه قبل مالك وأخذ عنه الفقه، وكان أبيض مضرباً بحمرة. ولذلك قيل له الزنجي.
وفيها أعني في سنة تسع وسبعين ومائة، توفي السيد الحميري الشاعر، واسمه إِسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري، والسيد لقب غلب عليه أكثر من الشعر، وكان شيعياً كثيراً الوقيعة في الصحابة، وكان كثير المدح لآل البيت، والهجو لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فمن ذلك قوله في مسيرها إِلى البصرة لقتال علي من قصيدة طويلة:
كأنها في فعلها حية ... تريد أن تأكل أولادها
وكذلك له فيها وفي حفصة أبيات؛ منها:
إِحداهما نمت عليه حديثه ... وبغت عليه بغية إِحداهما
ثم دخلت سنة ثمانين ومائهَ: فيها مات هشام بن عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام بن عبد الملك صاحب الأندلس. وكانت إِمارته سبع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام وعمره تسع وثلاثون سنة وأربعة أشهر، واستخلف بعده ابنه الحكم ابن هشام، ولما وليَ الحكم خرج عليه عمّاه، سليمان وعبد الله ابنا عبد الرحمن، وكانا في بر العدوة، فتحاربوا مدة والظفر للحكم، وظفر الحكم بعمه سليمان فقتله سنة أربع وثمانين ومائة، فخاف عمه عبد الله، وصالح الحكم سنة ست وثمانين، ولما اشتغل الحكم بقتال عميه، اغتنمت الفرنج الفرصة فقصدوا بلاد الإسلام، وأخذوا مدينة برشلونة في سنة خمس وثمانين ومائة.
وفي هذه السنة أعني سنة ثمانين ومائة سار جعفر بن يحيى بن خالد إلى الشام، فسكّن الفتنة التي كانت بالشام، وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب ما كان يقع من أهلها من العصيان في كل وقت.
وفيها أي سنة ثمانين ومائة وقيل سنة سبع وسبعين ومائة، توفي سيبويه النحوي بقرية يقال لها البيضاء من قرى شيراز، واسم سيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر، وكان أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو، وجميع كتب الناس في النحو عيلة على كتاب 7 واشتغل على الخليل بن أحمد، وكان عمره لما مات نيفاً وأربعين سنة، وقيل توفي بالبصرة سنة إِحدى وستين ومائة، وقيل سنة ثمان وثمانين ومائة، وقال أبو الفرج ابن الجوزي؛ توفي سيبويه في سنة أربع وتسعين ومائة، وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وإنه توفي بمدينة ساوة، وذكر خطيب بغداد عن ابن دريد، أن سيبويه مات بشيراز وقبره بها، وكان سيبويه كثيراً ما ينشد:
إِذا بل من داء به ظن أنْه ... نجا وبه الداء الذي هو قاتله
وسيبويه لقبه، هو لفظ فارسي معناه بالعربية رائحة التفاح، وقيل إِنما لقب سيبويه لأنه كان جميل الصورة، ووجنتاه كأنهما تفاحتان، وجرى له مع الكسائي البحث المشهور في قولك: كنت أظن لسعة العقرب أشد من لسعة الزنبور. قال سيبويه: فإِذا هو هي، وقال الكسائي فإِذا هو إِياها، وانتصر الخليفة للكسائي فحمل سيبويه من ذلك هماً، وترك العراق وسافر إِلى جهة شيراز وتوفي هناك.
ثم دخلت سنة إِحدى وثمانين ومائة فيها غزا الرشيد أرض الروم فافتتح حصن الصفصاف وفيها توفي عبد الله بن المبارك المروزي، في رمضان، وعمره ثلاث وستون سنة.
وفيها توفي مروان بن أبي حفصة الشاعر، وكان مولده سنة خمس ومائة، وفيها توفي أبو يوسف القاضي، واسمه يعقوب بن إبراهيم من ولد سعد بن خيثمة، وسعد المذكور صحابي من الأنصار وهو سعد بن بجير واشتهر باسم أمه خيثمة، وأبو يوسف المذكور هو أكبر أصحاب أبي حنيفة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة: فيها مات جعفر الطيالسي المحدث.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة فيها توفي موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ببغداد في حبس الرشيد، وحبسه عند السندي بن شاهك، وتولى خدمته في الحبس أخت السندي، وحكت عن موسى المذكور أنه كان إِذا صلى العتمة، حمد الله ومجده ودعاه إِلى أن يزول الليل، ثم يقوم يصلي حتى يطلع الصبح، فيصلي الصلح ثم يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم يقعد إِلى ارتفاع الضحى، ثم يرقد
ويستيقظ قبل الزوال، ثم يتوضأ ويصلي حتى يصلي العصر، ثم يذكر الله تعالى حتى يصلي المغرب، ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه إِلى أن مات رحمة الله عليه، وكان يلقب الكاظم: لأنه كان يحسن إِلى من يسيء إِليه، وموسى الكاظم المذكور سابع الأئمة الاثني عشر على رأي الإمامية، وقد تقدم ذكر أبيه جعفر الصادق في سنة ثمان وأربعين ومائة، وتقدم ذكر جده محمد الباقر في سنة ست عشرة ومائة وولد موسى المذكور في سنة تسع وعشرين ومائة، وتوفي في هذه السنة أعني سنة ثلاث وثمانين ومائة لخمس بقين من رجب ببغذاد، وقبره مشهور هناك، وعليه مشهد عظيم في الجانب الغربي من بغداد، وسنذكر باقي الأئمة الاثني عشر إِن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة توفي يونس بن حبيب النحوي المشهور، أخذ العلم عن أبي عمرو بن العلاء وكان عمره قد زاد على مائة سنة، وروى عنه سيبويه، وليونس المذكور قياس في النحو ومذاهب ينفرد بها.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة فيها ولى الرشيد حماد البربري اليمن ومكة وولىّ داود بن يزيد بن مرثد بن حاتم المهلبي السند. وولى يحيى الحرسي الجبل، وولى مهرويه الرازي طبرستان وولى إِفريقية إبراهيم بن الأغلب وكان على الموصل وأعمالها يزيد بن مرثد بن زائدة الشيباني.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة فيها مات عم المنصور، عبد الصمد ابن علي بن عبد الله بن عباس، وكان في القرب إلى عبد المناف بمنزلة يزيد بن معاوية، وبين موتهما ما يزيد على مائة وعشرين سنة.
وفيها توفي يزيد بن مرثد بن زائدة الشيباني وهو ابن أخي معن بن زائدة.
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة ودخلت سنة سبع وثمانين ومائة.
الإيقاع بالبرامكة في هذه السنة أوقع الرشيد بالبرامكة، وقتل جعفر بن يحيى وقد اختلف في سبب ذلك اختلافاً كثيراً، والأكثر أن ذلك لإتيانه عباسة أخت الرشيد، فإنه زوجه بها ليحل له النظر إِليها، وشرط على جعفر أنه لا يقربها، فوطئها وحبلت منه وجاءت بغلام، وقيل بل الرشيد حبس يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عند جعفر فأطلقه جعفر، وقيل بل إِنه لما عظم أمر البرامكة واشتهر كرمهم وأحبهم الناس، والملوك لا تصبر على مثل ذلك، فنكبهم لذلك، وقيل غير ذلك، وكان قتل جعفر بالأنبار، مستهل صفر من هذه السنة، عند عود الرشيد من الحج، وبعد أن قتل جعفر وحمل رأسه، أُرسل أن أحاط بيحيى وولده وجميع أسبابه، وأخذ ما وجد للبرامكة من مال ومتاع وضياع وغير ذلك، وأُرسل إِلى سائر البلاد بقبض أموالهم ووكلائهم، وسائر أسبابهم، وأرسل رأس جعفر وجيفته إِلى بغْداد، وأمر بنصب رأسه وقطعة من جيفته على الجسر، ونصب الأخرى على الجسر الآخر، ولم يتعرض الرشيد لمحمد بن خالد بن برمك وولده وأسبابه لبراءته مما دخل فْيه أخوه يحيى بن خالد بن برمك وولده، وكان عمر جعفر لما قتل سبعاً وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إِليهم سبع عشرة سنة، وفي ذلك يقول الرقاشي وقيل أبو نواس:
الآن استرحنا واستراحت ركابُنا ... وأمسك من يجدي ومن كان يحتدي
فقل للمطايا قد أمنت من السرى ... وطي الفيافي فدْفداً بعد فدْفد
وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر ... ولم تظفري من بعده بمسود
وقل للعطايا يا بعد فضل تعطلي ... وقل للرزايا كل يوم تجددي
ودونك سيفاً برمكياً مهنداً ... أصيب بسيف هاشمي مهندِ
وقال يحيى بن خالد لما نكب: الدنيا دول، والمال عازية، ولنا بمن قبلنا أسوة، وفينا لمن بعدنا عبرة.
وفي هذه السنة خلع الروم ملكتهم وكانت امرأة تدعى رمنى وملكوا تقفور فكتب إِلى الرشيد: من تقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أمّا بعد، فإِن الملكة التي كان قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافه إِليها، لكن ذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإِذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها، وإلا السيف بيننا وبينك فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب، وكتب على ظهر الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين، إِلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، ثم سار الرشيد من يومه حتى نزل على هرقلة، ففتح وغنم وخرب، فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله في كل سنة فأجابه.
وفي هذه السنة هاجت الفتنة بالشام بين المضرية واليمانية، فأرسل الرشيد وأصلح بينهم، وفيها ترفي الفضيل بن عياض الزاهد وكان مولده بسمرقند وانتقل إِلى مكة ومات بها، وفيها توفي أبو مسلم معاذ الفرءا النحوي وعنه أخذ الكسائي النحو وولد أيام يزيد بن عبد الملك.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة فيها توفي العباس بن الأحنف الشاعر.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة فيها وقيل في سنة إِحدى وثمانين توفي أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن فيروز المعروف بالكسائي، في الري، وهو أحد القراء السبعة، وكان إِماماً في النحو واللغة، وقيل له الكسائي لأنه دخل الكوفة وأتى إِلى حمزة بن حبيب الزيات ملتفاً بكساء، وقيل بل حج وأحرم بكساء.
وفيها سار الرشيد إلى الري وأقام به أربعة أشهر، ثم رجع الرشيد إِلى العراق ودخل بغداد في آخر ذي الحجة، وأمر بإِحراق جثة جعفرة وكانت مصلوبة على الجسر، ولم ينزل ببغداد، ومضى من فوره إِلى الرقة، فقال في ذلك بعض شعراء الرشيد:
ما أنخنا حتى ارتحلنا فانف ... رق بين المناخ والارتحال
سألونا عن حالنا إِذ قدمنا ... فقرأنا وداعهم بالسؤال
فقال الرشيد: والله إِني أعلم أنه ما في الشرق ولا في الغرب مدينة أيمن ولا أيسر من بغداد، وأنها دار مملكة بني العباس، ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق، والبغض لأئمة الهدي، والحب لشجرة اللعنة بني أمية، ولولا ذلك ما فارقت بغداد.
وفي هذه السنة مات محمد بن الحسن الشيباني الفقيه صاحب أبي حنيفة، وكان والده الحسن من أهل قرية حرستا، من غوطة دمشق، فسار إِلى العراق وأقام بواسط، فولد ولده محمد بن الحسن المذكور، ونشأ بالكوفة، ثم صحب أبا حنيفة وتفقه على أبي يوسف، وصنف عدة كتب مثل: الجامع الكبير، والجامع الصغير، في فقه أبي حنيفة وغير ذلك.
ثم دخلت سنة تسعين ومائة في هذه السنة سار الرشيد في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفاً من المرتزقة سوى من لا ديوان له من الأتباع والمتطوعة، حتى نزل على هرقلة وحصرها ثلاثين يوماً، ثم فتحها في شوال من هذه السنة، وسبى أهلها، وبث عساكره في بلاد الروم، ففتحوا الصفصاف وملقونية وخربوا ونهبوا وبعث تقفور بالجزية عن رعيته وعن رأسه أيضاً، ورأس ولده، وبطارقته، وفي هذه السنة نقض أهل قبرس العهد. فغزاهم معتوق بن يحيى، وكان عاملاً على سواحل مصر والشام، فسبى أهل قبرس، وفيها أسلم الفضل بن سهل على يد المأمون، وكان مجوسياً، وفيها توفي أسد بن عمر، وابن عامر الكوفي صاحب أبي حنيفة، وفيها توفي يحيى بن خالد بن برمك محبوساً بالرقة، في المجرم وعمره سبعون سنة.
ثم دخلت سنة إِحدى وتسعين ومائة.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة فيها سار الرشيد من الرقة إلى خراسان فنزل بغداد، ورحل عنها إِلى النهروان، لخمس خلون من شعبان، واستخلف على بغداد ابنه الأمين.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة. فيها مات الفضل بن يحيى بن خالد ابن برمك في الحبس بالرقة، في المحرم، وعمره خمس وأربعون سنة، وكان من محاسن الدنيا؛ لم ير في العالم مثله.
موت الرشيد
في هذه السنة أعني سنة ثلاث وتسعين ومائة، مات الرشيد لثلاث خلون من جمادى الآخرة، وكان به مرض من حين ابتدأ بسفره، فاشتدت علته بجرجان، في صفر، فسار إِلى طوس فمات بها في التاريخ المذكور، وكان قد سير ابنه المأمون إِلى مرو، وحفر الرشيد قبره في موضع الدار التي كان فيها، وأنزل فيه قوماً ختموا فيه القرآن، وهو في محفة على شفير القبر، وكان يقول في تلك الحالة واسوءتاه من رسول الله، ولما دنت منه الوفاة غشي عليه ثم أفاق، فرأى المفضل بن الربيع على رأسه فقال: يا فضل
أحين دنا ما كنت أخشى دنوه ... رمتني عيونُ الناس من كل جانب
فأصبحتُ مرحوماً وكنت محسداً ... فصبرا على مكروه مر العواقب
سأبكي على الوصل الذي كان بيننا ... وأندبُ أيام السرور الذواهب
ثم مات، وصلى عليه ابنه صالح، وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح وسرور وحسين، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوماً، وكان عمره سبعاً وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، وكان جميلاً أبيض قد وخطه الشيب، وكان له من البنين: الأمين من زبيدة، والمأمون من أم ولد اسمها مراجل، والقاسم المؤتمن، والمعتصم محمد، وصالح، وأبو عيسى محمد، وأبو يعقوب، وأبو العباس محمد، وأبو سليمان محمد، وأبو علي محمد، وأبو محمد، وهو اسمه، وأبو أحمد محمد، كلهم لأمهات أولاد، وخمس عشرة بنتاً، وكان الرشيد يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم، وعهد بالخلافة إِلى الأمين، ثم من بعده إِلى المأمون، وكتب بينهما عهداً بذلك، وجعله في الكعبة، وكان قد جعل ابنه القاسم ولقبه المؤتمن، ولي العهد بعد المأمون، وجعل أمر استقراره وعزله إلى المأمون إِن شاء استمر به وإن شاء عزله.
خلافة الأمينوهو سادسهم، ولما توفي الرشيد بويع للأمين بالخلافة، في عسكر الرشيد، صبيحة الليلة التي توفي فيها الرشيد، وكان المأمون حينئذ بمرو وكتب صالح بن الرشيد إِلى أخيه الأمين، بوفاة الرشيد، مع رجاء الخادم، وأرسل معهُ خاتم الخليفة، والبردة والقضيب، ولما وصل إِلى الأمين ببغداد، أخذت له البيعة ببغداد، وتحول إِلى قصر الخلافة، ثم قدمت عليه زبيدة أمه من الرقة، ومعها خزائن الرشيد، فتلقاها ابنها الأمين بالأنبار ومعه جميع وجوه بغداد، وفي هذه السنة قتل تقفور ملك الروم في حرب برجان، وكان ملكه سبع سنين.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة وفي هذه السنة اختلف أهل حمص على عاملهم إِسحاق بن سليمان، فانتقل عنهم إِلى سلمية، فعزله الأمين واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرسي، فقاتل أهل حمص حتى سألوا الأمان فأمنهم. وفي هذه السنة قتل شقيق البلخي الزاهد في غزوة كولان من بلاد الترك.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة فيها أبطل الأمين اسم المأمون من الخطبة، وكان أبوهما قد عهد إِلى الأمين، ثم من بعده إِلى المأمون حسب ما ذكرناه، فخطب لهما إِلى هذه السنة، فقطعها الأمين، وخطب لابنه موسى بن الأمين، ولقبه الناطق بالحق. وكان موسى طفلاً صغيراً، ثم جهز الأمين جيشاً لحرب المأمون بخراسان، وقدم عليهم علي بن عيسى بن ماهان، وكان طاهر بن الحسين مقيماً في الري من جهة المأمون ومعه عسكر قليل، وسار علي بن عيسى بن ماهان في خمسين ألفاً، حتى وصل إِلى الري، والتقى العسكران، فخلع طاهر بيعة الأمين وبايع المأمون بالخلافة، وقاتل علي بن عيسى بن ماهان قتالاً شديداً، فانهزم عسكر الأمين، وقتل علي بن عيسى بن ماهان، وحمل رأسه إِلى طاهر، فأرسل طاهر بالرأس وبالفتح إلى المأمون، وهو بخراسان.
وفي هذه السنة توفي أبو نواس الحسن بن هانئ الشاعر، وكان عمره تسعاً وخمسين سنة.
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة في هذه السنة سير الأمين جيشاً صحبة أحمد بن مرثد، وعبد الله بن حميد بن قحطبة، ومع كل واحد عشرون ألف فارس، فساروا إِلى حلوان لحرب طاهر، فلما وصلوا إِلى خانقين وقع الاختلاف بينهم، فرجعوا من خانقين من غير أن يلقوا طاهراً، فتقدم طاهر فنزل حلوان، ولحقه هرثمة بجيش من عند المأمون، وكتاب يأمره فيه أن يسلم ما حوى من المدن والكور إِلى هرثمة، وأن يتوجه طاهر إِلى الأهواز، ففعل ذلك، وأقام مرثمة بحلوان، ولما تحقق المأمون قتل ابن ماهان وانهزام عساكر الأمين، أمر أن يخطب له بإِمرة المؤمنين، وأن يخاطب بأمير المؤمنين، وعقد للفضل بن سهل على المشرق، من جبل همدان إِلى التبت طولاً، ومن بحر فارس إِلى بحر الديلم وجرجان عرضاً، ولقبه ذا الرياستين، رياسة الحرب والقلم، وولىّ الحسن بن سهل ديوان الخراج، وذلك كله في هذه السنة، ثم استولى طاهر على الأهواز، ثم على واسط، ثم على المدائن، ونزل صرصر ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة في هذه السنة حاصر طاهر وهرثمة بالعساكر الذين صحبتهما بغداد، وحصروا الأمين، ووقع في بغداد النهب والحريق، ومنع طاهر دخول الميرة إِلى بغداد، فغلت بها الأسعار ودام الحصار وشدة الحال، إِلى أن انقضت هذه السنة.
وفي هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين ومائة، توفي إِبراهيم بن الأغلب عامل إِفريقية، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة أربع وثمانين ومائة ولما توفي تولى على إِفريقية بعد ولده أبو العباس عبد الله بن إِبراهيم بن الأغلب ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة.
استيلاء طاهر على بغداد وقتل الأمين في هذه السنة هجم طاهر على بغداد بعد قتال شديد، ونادى مناديه: من لزم بيته فهو آمن. وأخذ الأمين أمه وأولاده إِلى عنده بمدينة المنصور، وتحصن بها؛ وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه، وحصره طاهر هناك، وأخذ عليه الأبواب، ولما أشرف على أخذه، طلب الأمين الأمان من هرثمة، وأن يطلع إِليه فروجع في الطلوع إِلى طاهر، فأبى ذلك، فلما كانت ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، خرج الأمين بعد عشاء الآخرة وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود، فأرسل إِليه هرثمة يقول: إِني غير مستعد لحفظك، وأخشى أن أُغلب عنك، فأقم إلى الليلة القابلة، فأبى الأمين إلا الخروج تلك الليلة، ثم دعا الأمين لابنيه وضمهما إليه وقبلهما وبكى، ثم جاء راكباً إِلى الشط، فوجد حراقة هرثمة، فصعد إِليها، فاحتصنه هرثمة وضمه إِليه، وقبل يديه ورجليه ثم شد أصحاب طاهر على حراقة هرثمة حتى غرقوها، فأخرج الملاح هرثمة من الماء، وأما الأمين فلما سقط في الماء، شق ثيابه، ثم أخذ بعض أصحاب طاهر الأمين وهو عريان عليه سراويل وعمامة، فأمر به طاهر فحبس في بيت، فلما انتصف الليل، أرسل إِليه طاهر قوماً من العجم فقتلوه وأخذوا رأسه ومضوا به إِلى طاهر، فنصبه على برج من أبرجة بغداد، وأهل بغداد ينظرون إِليه.
ثم أرسل طاهر رأس الأمين إِلى أخيه المأمون وكتب بالفتح، وأرسل البردة والقضيب، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، وصلى بالناس وخطب للمأمون، وكان قتل الأمين لست بقين من المحرم، سنة ثمان وتسعين ومائة، وكانت مدة خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وكسراً، وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة، وكان سبطاً أنزع صغير العينين، أقنى جميلا طويلاً وكان منهمكاً في لذات وشرب الخمر، حتى أرسل إلى جميع البلاد في طلب الملهين وضمهم إِليه، وأجرى عليهم الأرزاق، واحتجب عن أخوته وأهل بيته، وقسم الأموال والجواهر في خواصه، وفي الخصيان والنساء، وعمل خمس حراقات في دجلة، على صورة الأسد، وعلى صورة الفيل وعلى صورة العقاب، وعلى صورة الحية، وعلى صورة الفرس، وأنفق في عملها مالا عظيماً، وذكر ذلك أبو نواس في شعره فقال:
سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرْنَ براً ... سار في الماء راكباً ليثُ غاب
عجب الناس إِذ رَأوك عليه ... كيف لو أبصروك فوق العقاب
ذات سور ومنسر وجناحي ... ن تشق العباب بعد العباب
ولما قتل الأمين، استوثق الأمر في المشرق والمغرب للمأمون، وهو لهم، فولى الحسن بن سهل أخا الفضل، على كور الجبال والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة. فيها ظهر ابن طباطبا العلوي، وهو محمد بن إِبراهيم بن إِسماعيل بن إِبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، بالكوفة، يدعو إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم وكان القيم بأمره، أبو السرايا السري بن منصور، وبايعه أهل الكوفة واستوثق له أهلها، فأرسل إِليه الحسن بن سهل بن زهير بن المسيب الضبي، في عشرة آلاف مقاتل، فهزمهم ابن طباطبا واستباحهم، وكانت الوقعة في جمادى الآخرة من هذه السنة، فلما كان مستهل رجب، مات محمد بن إِبراهيم بن طباطبا فجأة، سمه أبو السرايا ليستبد بالأمر، لأنه علم أنه لا حكم له مع ابن طباطبا، وأقام أبو السرايا غلاماً يقال له ابن زيد، من ولد علي بن أبي طالب، صورة مكان ابن طباطبا، ثم استولى أبو السرايا على البصرة وواسط، وجرى بينه وبين عساكر المأمون عدة وقائع يطول شرحها.
وفي هذه السنة توفي والد طاهر، وهو الحسين بن مصعب، بخراسان، وأرسل المأمون يعزي ابنه طاهراً بأبيه.
وفيها توفي عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي، وكنيته أبو هاشم، وهو والد محمد بن عبد الله بن نمير شيخ البخاري.
ثم دخلت سنة مائتين فيها في المحرم هرب أبو السرايا من الكوفة في ثمان مائة فارس، بعد أن حاصره هرثمة ودخل هرثمة الكوفة وآمن أهلها، وسار أبو السرايا إِلى جلولاء وتفرق عنه أصحابه، فظفر به حماد الكندغوش، فأمسك أبا السرايا ومن بقي معه، وأتى بهم إِلى الحسن بن سهل وهو بالنهروان، فقتل أبا السرايا وبعث برأسه إِلى المأمون، وكان بين خروج أبي السرايا وقتله عشرة أشهر.
وفي هذه السنة ظهر إِبراهيم بن موسى بن عيسى بن جعفر بن محمد العلوي وسار إِلى اليمنٍ ، وبها إِسحاق بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عاملاً للمأمون، فهرب من إِبراهيم بن موسى العلوي المذكور، واستولى إِبراهيم على اليمن، وكان يسمى الجزار، لكثرة من قتل وسبى.
وفي هذه السنة سار هرثمة من الكوفة بعد فراغه من أمر أبي السرايا، إلى جهة المأمون، ووردت عيه مكاتبات المأمون بالمسير إِلى الشام والحجاز، فحملته الدالية وكثرة مناصحته، على القدوم على المأمون ومخالفة مرسومه، وكان بينه وبين الحسن ابن سهل عداوة، فدس الحسن بن سهل أصحاب المأمون بالحض على هرثمة، وكان يظن هرثمة أن قوله هو المقبول في حق الحسن بن سهل، فقدم على المأمون بمرو في ذي القعدة هذه السنة، أعني سنة مائتين، فلما حضر هرثمة بين يدي المأمون، ضربه وحبسه، ثم دس إليه من قتله في الحبس وقالوا مات.
وفي هذه السنة أمر المأمون أن يحصى ولد العباس، فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً، بين ذكر وأنثى.
وفيها قتلت الروم ملكهم الليون، وملك عليهم ميخائيل. وفيها توفي معروف كرخي الزاهد، صاحب الكرامات، وكان أبو معروف نصرانياً .
ثم دخلت سنة إِحدى ومائتين فيها اشتد أذى فساق بغداد وشطارها على الناس، حتى قطعوا الطريق، وأخذوا النساء والصبيان علانية و نهبوا القرى مكابرة، وبقي الناس معهم في بلاء عظيم، فتجمع أهل بعض المحال ببغداد، مع رجل يقال له خالد بن الدريوس، وشدوا على من يليهم من الفساق فمنعوهم وطردوهم، وقام بعده رجل يقال له سهل بن سلامة الأنصاري، من أهل خراسان، وردع الفساق، واجتمع إِليه جمع كثير من أهل بغداد، وعلق مصحفاً في عنقه، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فقبل الناس منه وكان قيام سهل المذكور لأربع خلون من رمضان، وقيام ابن الدريوس قبله بنحو ثلاثة أيام.
وفي هذه السنة جعل المأمون علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولي عهد المسلمين، والخليفة من بعده ولقبه الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم وأمر جنده بطرح السواد ولبس الخضرة، وكتب بذلك إِلى الآفاق، وذلك لليلتين خلتا من رمضان، من هذه السنة، وصعب ذلك على بني العباس، وكان أشدهم تحرقاً في ذلك منصور وإبراهيم ابنا المهدي، وامتنع بعض أهل بغداد عن البيعة، وكان المتحدث في أخذ البيعة لعلي بن موسى في بغداد. عيسى بن محمد بن أبي خالد.
وفي هذه السنة، في ذي الحجة خاض الناس ببغداد في البيعة لإبراهيم بن المهدي بالخلافة وخلع المأمون، لأنهم نقموا على المأمون توليته الحسن بن سهل، وجعله الخلافة في آل علي بن أبي طالب، وإخراجها عن بني العباس فأظهر العباسيون الخلاف، لخمس بقين من ذي الحجة، ووضعوا يوم الجمعة رجلاً يقول إنا نريد أن ندعو للمأمون وبعده لإبراهيم بن المهدي، ووضعوا آخر يجيبه، بأنا لا نرضى إِلا أن تبايعوا لإبراهيم بن المهدي بالخلافة، وبعده لإسحاق بن موسى الهادي، وتخلعوا المأمون، ففعلوا ذلك، فتفرق الناس من الجامع، ولم يصلوا الجمعة.
وفي هذه السنة توفي عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب، صاحب إِفريقية، وتولى بعده أخوه زيادة الله بن إِبراهيم.
وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن خرداذبة والي طبرستان جبال طبرستان، وأنزل شهريار بن شهريار بن شروين عنها وأسر أبا ليلى ملك الديلم.
ثم دخلت سنة اثنتين ومائتين.
البيعة لإِبراهيم بن المهدي بايعه أهل بغداد بالخلافة، في المحرم من هذه السنة، أعني سنة اثنتين ومائتين. ولقب المبارك بعد أن خلعوا المأمون، وكان المتولي لبيعته، المطلب بن عبد الله بن مالك، واستولى إِبراهيم على الكوفة وعسكر بالمدائن، واستعمل علي الجانب الغربي من بغداد، العباس بن موسى الهادي، وعلى الجانب الشرقي، إسحاق ابن الهادي، ولما تولى إسحاق المذكور، ظفر بسهل بن سلامة الذي ظهر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وقمع الفساق، فتفرق عنه أصحابه وأمسكه إسحاق وبعث به إِلى إِبراهيم بن المهدي إِلى المدائن، فضربه وحبسه.
مسير المأمون إلى العراق
وقتل ذي الرياستينوفي هذه السنة، سار المأمون من مرو إِلى العراق، واستخلف على خُرَاسان غسان بن عباد وكان سبب مسيره ما وقع في العراق من الفتن، في البيعة لإبراهيم بن المهدي، ولما أتى المأمون سرخس، وثب أربعة أنفس بالفضل بن سهل، فقتلوه في الحمام، لليلتين خلتا من شعبان من هذه السنة، أعني سنة اثنتين ومائتين، وكان عمره ستين سنة، وجعل المأمون لمن أمسكهم عشرة آلاف دينار، فأمسكهم العباس ابن الهيثم الدينوري، وأحضرهم إِلى المأمون فقالوا: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضربت أعناقهم.
ورحل المأمون طالباً العراق، وبلغ إبراهيم بن المهدي، والمطلب الذي أخذ البيعة لإبراهيم وغيرهما، قدوم المأمون، فتمارض المطلب، وراح إِلى بغداد، وسعى في الباطن في أخذ البيعة للمأمون، وخلع إبراهيم، وبلغ إِبراهيم ذلك وهو في المدائن فقصد بغداد وأرسل في طلب المطلب، فامتنع عليه، فأمر بنهبه، فنهبت دور أهله، ولم يظفروا بالمطلب، وذلك في صفر من هذه السنة.
وفي هذه السنة عقد المأمون العقد على بوران لنت الحسن بن سهل، وزوج المأمون ابنته من علي بن موسى الرضا.
وفي هذه السنة توفي أبو محمد اليزيدي، وهو يحيى بن المبارك بن المغيرة المقرئ صاحب أبي عمرو بن العلاء، وإنما قيل له اليزيدي، لأنه صحب يزيد بن منصور، خال المهدي، وكان يعلم ولده.
ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين في هذه السنة في صفر مات علي بن موسى الرضا بأن أكل عنباً فأكثر منه فمات فجأة بطوس وصلى عليه المأمون، ودفنه عند قبر أبيه الرشيد، وكان مولد علي بالمدينة، سنة ثمان وأربعين ومائة، ولما مات، كتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم بموت علي الرضا، وقال: إِنما نقمتم علي بسببه، وقد مات، وكان يقال لعلي المذكور، علي الرضا وهو ثامن الأئمة الاثني عشر، على رأي الإمامية، وهو علي الرضا بن موسى الكاظم المقدم ذكره، في سنة ثلاث وثمان مائة، ابن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب، وعلي الرضا المذكور هو والد محمد الجواد تاسع الأئمة وسنذكره إِن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة أعني سنة ثلاث ومائتين، خلع أهل بغداد إِبراهيم المهدي، ودعوا للمأمون بالخلافة، وتخلى عن إِبراهيم صحابه، فلما رأى إِبراهيم ذلك فارق مكانه واختفى، ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة، من كل السنة، وأحدق حميد، أحد قواد المأمون بدار إِبراهيم بن المهدي، فلم يجده في الدار، فلم يزل إِبراهيم متوارياً حتى قدم المأمون إِلى بغداد، وكانت أيام ولاية إِبراهيم نحو سنة وأحد عشر شهراً، وكسر.
وفي هذه السنة في آخر ذي الحجة وصل المأمون إِلىٍ همدان، وكانت بخراسان وما وراء النهر زلازل عظيمة، دامت مقدار سبعين يوماً، فخربت البلاد وهلك فيها خلق كثير وكان معظمها ببلخ والجورجان والفارياب والطالقان، وفي هذه السنة غلبت السوداء على الحسن بن سهل وتغير عقله، حتى شد في الحديد وحبس، وكتب قواد العسكر الذين كانوا مع الحسن بذلك إِلى المأمون.
ابتداء دولة بني زياد ملوك اليمن
وذكرهم عن آخرهموكان ينبغي ذكر ذلك مبسوطاً في السنين، ولكن جمعناه ليضبط، بخلاف ما لو تفرق، فإنه كان يصعب التقاطه وضبطه، فنقول: كان ابتداؤها في هذه السنة تاريخ اليمن، لعمارة اليمني قال: كان شخص من بني زياد بن أبيه، اسمه محمد فلان، وقيل ابن إبراهيم بن عبيد الله بن زياد، مع جماعة من بني أمية، قد سلمهم المأمون إِلى الفضل بن سهل بن سهل ذي الرياستين، وقيل إِلى أخيه الحسن، وبلغ المأمون اختلال أمر اليمن، فأثنى ابن سهل على محمد بن زياد المذكور وأشار بإِرساله أميراً على اليمن، فأرسل المأمون محمد بن زياد المذكور، ومعه جماعة، فحج ابن زياد في هذه السنة أعني سنة ثلاث ومائتين، وسار إِلى اليمن وفتح تهامة، بعد حروب جرت بينه وبين العرب، واستقرت قدم ابن زياد المذكور باليمن، وبني مدينة زبيد، واختطها في سنة أربع ومائتين، وأرسل ابن زياد المذكور مولاه جعفراً بهدايا جليلة إِلى المأمون، فسار جعفر بها إِلى العراق، وقدمها إِلى المأمون في سنة خمس ومائتين، وعاد جعفر إِلى اليمن في سنة ست ومائتين، ومعه عسكر من جهة المأمون، بمقدار ألفي فارس، فعظم أمر ابن زياد، وملك إِقليم اليمن بأسره وتقلد جعفر المذكور الجبال، واختط بها مدينة يقال لها المديحرة، والبلاد التي كانت لجعفر تسمى إِلى اليوم مخلاف جعفر، والمخلاف عبارة عن قطر واسع، وكان جعفر هذا من الكفاة الدهاة، وبه تمت دولة بني زياد، حتى قتل ابن زياد بجعفرة، وبقي محمد بن زياد كذلك حتى توفي.
ثم ملك بعده ابنه إِبراهيم بن محمد.
ثم ملك بعده ابنه زياد بن إِبراهيم بن محمد، ولم تطل مدته.
ثم ملك بعده أخوه أبو الجيش إِسحاق بن إِبراهيم، وطالت مدته وأسن وتوفي أبو الجيش المذكور في سنة إِحدى وسبعين وثلاثمائة خلف طفلاً واختلف في اسم الطفل المذكور، قيل زياد، وقيل غير ذلك، وتولت كفالة الطفل المذكور أخته هند بنت أبي الجيش، وتولى معها عبد لأبي الجيش اسمه رشد، وبقي رشد على ولايته حتى مات، فتولى موضعه عبده حسين بن سلامة، عبد رشد المذكور، وسلامة المذكورة هي أم حسين، ونشأ حسين المذكور حازماً عفيفاً إِلى الغاية، وصار وزيراً لهند، ولأخيها المذكور، حتى ماتا. ثم انتقل ملك اليمن إلى طفل من آل زياد، وقام بأمر الطفل عمته، وعبد من عبيد حسين بن سلامة، اسمه مرجان، وكان لمرجان المذكور عبدان، قد تغلبا على أمور مرجان، اسم أحدهما قيس، والآخر نجاح، ونجاح المذكور هو جد ملوك زيد، على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى، فوقع التنافس بين قيس ونجاح عبدي مرجان على الوزارة، وكان قيس؛ عسوفاً ونجاح رءوفاً، وكان سيدهما مرجان يميل مع قيس على نجاح، وكانت عمة الطفل تميل إلى نجاح، فشكا قيس ذلك إِلى مولاه مرجان، فقبض مرجان على الملك، قيل كان اسمه إِبراهيم، وقيل عبد الله، وعلى عمته، وسلمها إِلى قيس، فبنى قيس على إبراهيم وعمته جداراً وختمه عليهما حتى ماتا، وكان إبراهيم المذكور آخر ملوك اليمن من بني زياد، وكان قبض مرجان على إِبراهيم وعمته في سنة سبع وأربعمائة فيكون مدة ملك بني زياد لليمن مائتي سنة وأربع سنين، لأنهم تولوا من قبل المأمون في سنة، ثلاث ومائتين، وزال ملكهم في سنة سبع وأربعمائة.
وانتقل ملكهم في سنة سبع و أربعمائة، وانتقل ملكهم إِلى عبيد عبيدهم الملك صار لنجاح المذكور، على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى. ولما قتل إِبراهيم وعمته، تملك، فعظم ذلك على نجاح، واستنصر نجاح الأسود والأحمر، وقصد قيساً في زبيد، وجرى بين نجاح وقيس، حروب عدة، آخرها أن قيساً قتل على باب زبيد، وفتح نجاح زبيد في ذي القعدة سنة اثنتي عشرة وأربع مائة. وقال نجاح لسيده مرجان: ما فعلت بمواليك وموالينا؟ قال: هم في ذلك الجدار، فأخرج نجاح إبراهيم وعمته ميتين، وصلى عليهما ودفنهما، وبنى عليهما مشهداً، وجعل نجاح سيده مرجان موضعهما، ووضع معه جثة قيس، وبني عليهما ذلك الجدار، وتملك نجاح وركب بالمظلة، وضرب السكة باسمه، واستقل بملك اليمن، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى في سنة اثنتي عشرة وأربع مائة.
ثم دخلت سنة أربع ومائتين.
قدوم المأمون إلى بغداد في هذه السنة قدم المأمون إِلى بغداد، وانقطعت الفتن بقدومه، وكان لباس المأمون لما دخل بغداد ولباس أصحابه الخضرة، وكان الناس يدخلون عليه في الثياب الخضر، ويحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، ودام ذلك ثمانية أيام، ثم تكلم بنو العباس وقواد خراسان في ذلك، فترك الخضرة وأعاد لبس السواد.
وفاة الإِمام الشافعي
رحمه اللهوفي هذه السنة، أعني سنة أربع ومائتين، توفي الإمام الشافعي وهو محمد بن إِدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السايب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، وهذا شافع الذي ينسب إِليه الشافعي، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع، وأبوه السايب أسلم يوم بدر.
فالشافعي شقيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسبه، يجتمع معه في عبد مناف، وكانت زوجة هاشم بن المطلب بن عبد مناف بنت عمه الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف فولد له منها عبد يزيد، جدّ الشافعي، فالشافعي إِذن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، لأن الشفاء أخت عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وولد الشافعي سنة خمسين ومائة بغزة، على الصحيح، وقيل في غيرها، وأخذ العلم من مالك بن أنس، ومسلم بن خالد الزنجي، وسفيان بن عيينة، وسمع الحديث من إِسماعيل بن علية، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، ومحمد بن الحسن الشيباني، وغيرهم، قال الشافعي: حفظت القرآن وأنا ابن تسع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر، وقدمت على مالك وأنا ابن خمس عشرة سنة. وقال: رأيت علي بن أبي طالب في منامي، فسلم علي وصافحني؛ وجعل خاتمه في إِصبعي، ففسر لي أن مصافحته لي أمان من العذاب، وجعله الخاتم في إِصبعي، أنّه سيبلغ اسمي ما بلغ اسم علي، في الشرق والغرب.
وناظر الشافعي محمد بن الحسن في الرقة، فقطعه الشافعي، وكان الشافعي حافظاً للشعر، قال الأصمعي: قرأت ديوان الهذليين على محمد بن إِدريس الشافعي، وقال أبو عثمان المازني: سمعت الأصمعي يقول قرأت ديوان الشنفري على الشافعي بمكة، وكان أحمد بن حنبل يقول: ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه، حتى جالست الشافعي.
وقدم الشافعي إِلى بغداد مرتين، مرة في سنة خمس وسبعين ومائة، ثم قدمها مرة أخرى في سنة ثمان وسبعين ومائة، وناظر بشر المريسي المعتزلي ببغداد، وناظر حفص الفرد بمصر، فقال حفص: القرآن مخلوق، واستدل عليه، فتحاربا في الكلام حتى كفره الشافعي وقد رواه أبو يعقوب البويطي قال: سمعت الشافعي يقول: إِنما خلق الله الخلق بكن، فإِذا كانت كن مخلوقة، فكأن مخلوقاً خلق بمخلوق، قال ابن بنت الشافعي: حدثنا أبي قال: كان الشافعي ينظر في النجوم وهو حدث، وما نظر في شيء إِلا فاق فيه، فجلس يوماً وامرأته تطلق، فحسب وقال: تلد جارية عوراء على فرجها خال أسود، تموت إِلى كذا وكذا، فكان كما قال. فجعل على نفسه ألا ينظر فيه بعدها، ودفن الكتب التي كانت عنده في النجوم، وكان الشافعي ينكر على أهل علم الكلام وعلى من يشتغل فيه، وللشافعي أشعار فائقة منها:
وأحق خلق الله بالهم امرؤ ... ذو همة يبلى بعيش ضيق
وله أيضاً:
رعت النسور بقوة جيف الفلا ... ورعى الذبابُ الشهدَ وهو ضعيف
فيها مات الحسن بن زياد اللولوي الفقيه، أحد أصحاب أبي حنيفة، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، صاحب المسند، ومولده سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وفيها أعني سنة أربع ومائتين، وقيل سنة ثلاث ومائتين، توفي النصر بن شميل بن خرشة البصري النحوي، سار إلى خراسان من البصرة، ولما خرج من البصرة مسافراً، طلع لوداعه نحو ثلاثة آلاف رجل من أعيان أهل البصرة، فقال النضر: والله لو وجدت كل يوم كيلجة باقلي ما فارقتكم، فلم يكن فيهم أحد يتكلف ذلك له، وأقام بمرو من خراسان، وصار ذا مال طائل، وصحب الخليفة المأمون وحظي عنده. وكان يوماً عنده فقال المأمون: حدثنا هشيم عن مخالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها، كان فيه سداد من عون " وفتح سين سداد، فأعاد النضر الحديث وكسر السين من سداد، فاستوى المأمون جالساً وقال: تلحني يا نضر؟ فقال: إِنما لحن هشيم، وكان لحانة، فتتبع أمير المؤمنين لفظه قال: فما الفرق بينهما؟ قال: السداد بالفتح، القصد في الدين والسبيل، والسداد بالكسر، البلغة، وكلما سددت به شيئاً فهو سداد، بكسر السين، وأنشد من أبيات عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان المعروف بالعرجي الشاعر المشهور:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فأمر له المأمون بخمسين ألف درهم، وكان النضر من أصحاب الخليل بن أحمد، والنضر بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة، ثم راء، وشُميل - بضم الشين - وخرشة بفتح الخاء المعجمة، والعَرج بفتح العين، وسكون الراء، ثم جيم، عقبة بين مكة والمدينة.
ثم دخلت سنة خمس ومائتين: فيها استعمل المأمون طاهر بن الحسين على المشرق، من مدينة السلام إِلى أقصى عمل المشرق، وفيها توفي يعقوب بن إِسحاق بن زيد البصري المقرئ، وهو أحد القراء العشرة، وله في القراءات رواية مشهورة، قرأ على سلام بن سليمان الطويل، وقرأ سلام على عاصم بن أبي النجود وقرأ عاصم على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرأ علي على صلى الله عليه وسلم.
ثم دخلت سنة ست ومائتين في هذه السنة مات الحكم بن هشام صاحب الأندلس، لأربع بقين من ذي الحجة، وكانت ولايته في صفر سنة ثمانين ومائة، ولما توفي كان عمره اثنتين وخمسين سنة، وخلف من الولد تسعة عشر ذكراً. ولما مات قام بالملك بعده ابنه عبد الرحمن بن الحكم.
في هذه السنة توفي محمد بن المسير المعروف بقطرب النحوي، أخذ النحو عن سيبويه وكان يبكر الحضور إِلى سيبويه، للاشتغال عليه، قبل الصبح، فقال له سيبوبه: ما أنت إِلا قطرب، فغلب عليه ذلك وصار لقبه.
وفيها توفي أبو عمرو إِسحاق الشيباني اللغوي.
ثم دخلت سنة سبع ومائتين في هذه السنة توفي طاهر بن الحسين في جمادى الأولى، من حمى أصابته، وكان في آخر جمعة صلاها، قد ترك الدعاء للمأمون، وقصد لمن يخلعه فمات، وكان طاهر أعور، ويلقب ذا اليمينين وفيه يقول بعضهم:
يا ذا اليمينين وعين واحدة ... نقصان عين ويمين زائدة
وفي هذه السنة توفي بشر بن عمرو الزاهد الفقيه، وهو غير بشر الحافي. وفيها توفي محمد بن عمر بن واقد الواقدي، وعمره ثمان وسبعون سنة، وكان عالماً بالمغازي واختلاف العلماء، وكان يضعف في الحديث، وللواقدي عدة مصنفات، وكان المأمون يكرم جانبه ويبالغ في رعايته، وكان الواقدي متولياً القضاء بالجانب الشرقي من بغداد.
وفيها توفي محمد بن عبد الله بن عبد الأعلى، المعروف بابن كناسة، وهو ابن أخت إِبراهيم بن الأدهم، وكان عالماً بالعربية والشعر وأيام الناس.
وفيها توفي أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله، المعروف بالفراء الديلمي الكوفي، وكان أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب وكان في ذلك إِماماً. قال الجاحظ: دخلت بغداد في سنة أربع ومائتين، حين قدم إليها المأمون، وكان الفراء يحبني ويشتهي أن يتعلم شيئاً من علم الكلام، فلم يكن له فيه طبع، واتخذ المأمون الفراء معلماً لأولاده، وللفراء عدّة مصنفات منها، كتاب الحدود، وكتاب المعاني، وكتابان في الشكل، وكتاب النهي، وغير ذلك، وكانت وفاته بطريق مكة حرسها الله تعالى، وعمره نحو ثلاث وستين سنة، ولم يكن الفراء يعمل الفراء ولا يبيعها، بل تلقب بذلك لأنه كان يفري الكلام.
ثم دخلت سنة ثمان ومائتين فيها مات الفضل بن الربيع.
ثم دخلت سنة تسع ومائتين فيها مات ميخائيل ملك الروم، وكان ملكه تسع سنين، وملك بعده ابنه توفيل.
وفيها توفي أبو عبيدة محمد بن حمزة اللغوي، وكان يميل إِلى مقالة الخوارج، وعمره تسعٍ وتسعون سنة، وكان متفنناً في العلوم، وكان مع كمالَ فضائله، إِذا أنشد شعراً كسره، ولا يحسن يقيم وزنه، وبلغت مصنفاته نحو مائتي مصنف.
ثم دخلت سنة عشر ومائتين في هذه السنة ظفر المأمون بإِبراهيم بن محمد ابن عبد الوهاب بن إِبراهيم الإمام، وكان يعرف بابن عائشة، وبجماعة معه من الأعيان الذين كانوا قد سعوا في البيعة لإبراهيم بن المهدي، فحبسهم، ثم صلب ابن عائشة، وهو أول عباسي صُلب، ثم أنزل وكفن وصلي عليه ودفن.
ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي وفي هذه السنة أعني سنة عشر ومائتين في ربيع الآخر، أمسك حارس أسود إِبراهيم بن المهدي، وهو متنقب مع امرأتين، في زي امرأة وأحضر بين يدي المأمون، فحبسه، ثم بعد ذلك أطلقه، قيل شفع فيه الحسن بن سهل؛ وقيل ابنته بوران وقيل بل المأمون من نفسه عفا عنه.
وفي هذه السنة دخل المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل، وكان الحسن ابن سهل مقيماً في فم الصلح فسار المأمون من بغداد إِلى فمٌ الصلح، ودخل بها ونثرت عليه جدة بوران أم الحسن والفضل ألف حبة لؤلؤ؛ من أنفس ما يكون، وأوقدت شمعة عنبر، فيها أربعون منا، وكتب الحسن بن سهل أسماء ضياعه في رقاع ونثرها على القواد، فمن وقع له رقعة، أخذ الضيعة المسماة فيها، أقول: قد تقدم في سنة ثلاث ومائتين، أن الحسن بن سهل تغير عقله من السوداء، وقيد وحبس وكأنه بعد ذلك تعافى وعاد إِلى منزلته، ولكن لم يذكروا ذلك.
وفي هذه السنة ماتت علية بنت المهدي، ومولدها سنة ستين ومائة وكان زوجها موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين فيها أمر المأمون منادياً فنادى: برأت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، أو فضله على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها مات أبو العتاهية الشاعر. وفيها توفي أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش النحوي البصري والأخفش: الصغير العينين مع سوء بصرهما. وكان من أئمة العربية البصريين، وأخذ النحو عن سيبويه، وكان أكبر من سيبويه، وكان يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئاً إِلا بعد أن عرضه عليّ، وللأخفش المذكور عدة مصنفات وهو الذي زاد في العروض بحر الخبب، والذين يسمون بالأخفش ثلاثة، أولهم: الأخفش الأكبر، وهو أبو الخطاب عبد الحميد، من أهل هجر، وكان نحوياً أيضاً. ثم الأخفش الأوسط، سعيد بن مسعدة الإمام المذكور. ثم الأخفش الأصغر المتأخر، وهو علي بن سليمان بن الفضل، وكان الأخفش الأصغر المذكور، نحوياً أيضاً، وتوفي في سنة خمس عشرة، وقيل ست عشرة وثلاثمائة.
وفيها توفي عبد الرزاق الصغاني المحدث وهو من مشايخ أحمد بن حنبل، وكان يتشيع.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين فيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على جميع الصحابة، وقال: هو أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها توفي محمد بن يوسف الضبي، وهو من مشايخ البخاري.
ثم دخلت سنة ثلاث عشر ومائتين فيها ولى المأمون ابنه العباس الجزيرة والثغور والعواصم، وولى أخاه أبا إِسحاق المعتصم الشام ومصر، وولى غسان بن عباد على السند.
وفيها توفي إِبراهيم الموصلي المغني، وكان كوفياً، وسار إِلى الموصل، وعاد، فقيل له الموصلي.
وفيها مات علي بن جبلة الشاعر، وأبو عبد الرحمن المقرئ المحدث.
وفيها وقيل في سنة ثماني عشرة ومائتين، توفي بمصر أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، وهذا ابن هشام، هو الذي جمع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغازي والسير، لابن إِسحاق وهذ بها وشرحها السهيلي، وابن هشام المذكور، من أهل مصر، وأصله من البصرة.
ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين فيها استعمل المأمون، عبد الله بن طاهر على خراسان.
وفيها صلح حال أبي دلف مع المأمون، وكان أبو دلف من أصحاب الأمين، وقدم على المأمون وهو شديد الخوف منه، فأكرمه وأعلى منزلته.
وفيها وقيل في سنة ثلاث عشرة ومائتين، توفي إدريس بن إِدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمغرب، وقام بعده ابنه محمد بن إِدريس بفاس والبربر، وولى أخاه القاسم بن إِدريس طنجة وما يليها، وولى أخاه عمر صنهاجة وغمارة، وولى أخاه داود هوارة بأسليب، وولى أخاه يحيى مدينة داني وما والاها. واستعمل باقي أخوته على ملك البربر، وسنذكر أخبار باقي الأدارسة في سنة سبع وثلاثمائة إِن شاء الَله تعالى.
وفيها توفي أبو عاصم بن مخلد الشيباني، وهو إِمام في الحديث.
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين فيها سار المأمون لغزو الروم، ووصل إِلى منبج ثم إِلى إنطاكية، ثم إِلى المصيصة وطرسوس، ودخل منها إِلى بلاد الروم، في جمادى الأولى، ففتح حصوناً، ثم عاد وتوجه إلى دمشق. وفي هذه السنة توفي أبو سليمان الداراني الزاهد؛ توفي بداريا، ومكي بن إِبراهيم البلخي وهو من مشايخ البخاري، وأبو زيد سعيد النحوي اللغوي وعمره ثلاث وتسعون سنة. وفيها توفي أبو سعيد الأصمعي اللغوي البصري، وقيل في سنة ست عشرة، وقيل في سنة سبع عشرة ومائتين، واسم الأصمعي: عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن صالح، وكان عمره نحو ثمان وثمانين سنة، والأصمعي نسبة إِلى جده أصمع، وكان أياماً في الأخبار والنوادر واللغة، وله عدة مصنفات منها: كتاب خلق الإنسان، وكتاب الأجناس، وكتاب الأنواء، وكتاب الصفات، وكتاب الميسر والقداح، وكتاب خلق الفرس، وكتاب خلق الإبل، وكتاب الشاء، وكتاب جزيرة العرب، وكتاب النبات، وغير ذلك، وقُرَيب - بضم القاف وفتح الراء المهملة وياء مثناة من تحتها ساكنة ثم باء موحدة من تحتها.
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين فيها سار المأمون إِلى بلاد الروم فقتل وسبى وفتح عدة حصون، ثم عاد إِلى دمشق، ثم سار المأمون في هذه السنة في ذي الحجة من دمشق إِلى مصر، وفي هذه السنة ماتت أم جعفر زبيدة ببغداد.
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين فيها عاد المأمون من مصر إِلى الشام، ثم دخل بلاد الروم، وأناخ على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عائداً وأرسل ملك الروم يطلب المهادنة فلم تتم ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين.
ما كان في أمر القرآن المجيد في هذه السنة كتب المأمون إِلى عامله ببغداد، إِسحاق بن إِبراهيم أن يمتحن القضاة والشهود، وجميع أهل العلم بالقرآن، فمن أقر أنّه مخلوق محدث، خلى سبله، ومن أبى يعلمه به، ليرى فيه رأيه، فجمع أولي العلم الذين كانوا ببغداد، منهم قاضي القضاة بشر بن الوليد الكندي، ومقاتل، وأحمد بن حنبل، وقتيبة، وعلي بن الجعد وغيرهم. وقرأ عليهم كتاب المأمون، ثم قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال بشر: القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء. قال: والقرآن شيء؟ قال: نعم. قال: مخلوق هو؟ قال: ليس بخالق. قال: ليس عن هذا أسألك، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك. فقال إسحاق للكاتب: اكتب ما قال. ثم سأل غيره وغيره، فيجيبون قريباً مما أجاب به بشر.
ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال: كلام الله ما أزيد عليها. ثم قال له: ما معنى قوله سميع بصير؟ قال أحمد: هو كما وصف نفسه، قال: فما معناه؟ قال: لا أدري، هو كما وصف نفسه.
ثم سأل قتيبة، وعبيد الله بن محمد، وعبد المنعم بن إِدريس ابن بنت وهب بن منبه، وجماعة معهم، فأجابوا أنّ القرآن مجعول لقوله تعالى " إِنا جعلناه قرآناً عربياً " " الزخرف: 3 " والقرآن محدث لقوله تعالى " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " " الأنبياء: 2 " قال إسحاق: فالمجعول مخلوق، قالوا: نعم. قال فالقرآن مخلوق؟ قالوا: لا نقول مخلوق، ولكن مجعول.
فكتب مقالتهم، ومقالة غيرهم، رجلاً رجلا، ووجهت إِلى المأمون، فورد جواب المأمون إِلى إِسحاق بن إبراهيم، أن يحضر قاضي القضاة بشر بن الوليد، وإبراهيم بن المهدي، فإن قالا بخلق القرآن وإلا تضرب أعناقهما، وأما من سواهما، فمن لم يقل بخلق القرآن، يوثقه بالحديد، ويحمله إلي فجمعهم إسحاق، وعرض عليهم ما أمر به المأمون، فقال بشر وإبراهيم وجميع الذين أحضروا لذلك؛ بخلق القرآن، إلا أربعة نفر، وهم أحمد بن حنبل، والقواريري، وسجادة، ومحمد بن نوح المصروب، فإنهم لم يقولوا بخلق القرآن فأمر بهم إِسحاق، فشدوا في الحديد، ثم سألهم، فأجاب سجادة والقواريري إلى القول بخلق القرآن، فأطلقهما، وأصر أحمد ابن حنبل ومحمد بن نوح المصروب على قولهما؛ فوجههما إلى طرسوس، ثم ورد كتاب المأمون يقول: بلغني أن بشر بن الوليد، وجماعة معه، إِنما أجابوا بتأويل الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بن ياسر " إِلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " " النحل: 106 " وقد أخطؤوا التأويل، فإِن الله تعالى عنى بهذه الآية، من كان معتقداً للإيمان، مظهراً للشرك، فأما من كان معتقداً للشرك، مظهراً للإيمان. فليس هذا له، فأشخصهم إِلى طرسوس ليقيموا بها، إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم، فأمسكهم إِسحاق وأرسلهم، فلما صاروا إِلى الرقة، بلغهم موت المأمون فرجعوا إِلى بغداد.
مرض المأمون وموته
رحمه الله تعالىفي هذه السنة، أعني سنة ثماني عشرة ومائتين، مرض المأمون لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة، وكان سببه ما حكاه سعيد بن العلاف قال: دعاني المأمون، وهو وأخوه المعتصم جالسان على شاطئ نهر البدندون، وقد وضعا أرجلهما في الماء، فقال لي: أي شيء يؤكل ليشرب عليه من هذا الماء، الذي هو في نهاية الصفاء والعذوبة؟ قال: أمير المؤمنين أعلم، فقال: الرطب، فبينما هم في الحديث، إِذ وصلت بغال البريد، عليها الحقائب، وفيها الألطاف، فقال لخادم له: انظر إِن كان في هذه الألطاف رطب، فمضى وعاد ومعه سلتان فيهما رطب من أطيب ما يكون، فشكر الله تعالى، وتعجبنا جميعاً، وأكل وأكلنا من ذلك الرطب، وشربنا عليه من ذلك الماء، فما قام منا أحد إِلا وهو محموم، ولم يزل المعتصم مريضاً حتى دخل العراق، ولما مرض المأمون، أوصى إِلى أخيه المعتصم، بحضرة ابنه العباس، بتقوى الله تعالى، وحسن سياسة الرعية، في كلام حسن طويل، ثم قال للمعتصم: عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسوله، لتقومن بحق الله في عباده ولتؤثرن طاعة الله على معصيته، إِذا أنا نقلتها من غيرك إِليك. قال: اللهم نعم. ثم قال: هؤلاء بنو عمك ولد أمير المؤمنين علي، صلوات الله عليه، أحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، ولا تغفل صلاتهم في كل سنة، عند محلها، وتوفي المأمون في هذه السنة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب، وحمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إِلى طرسوس، فدفناه بدار جلعان خادم الرشيد، وصلى عليه المعتصم، وكانت خلافة المأمون عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً سوى أيام دعي له بالخلافة، وأخوه الأمين محصور ببغداد، وكان مولده للنصف منٍ ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وكانت كنيته أبا العباس، وكان ربعة، أبيض جميلا طويل اللحية رقيقها، قد وخطه الشيب، وقيل كان أسمر، أحنى، أعين، ضيق الجبهة، بخده خال أسود.
بعض سيرته وأخباره لما كان المأمون بدمشق، قل المال الذي صحبته، حتى ضاق وشكى ذلك إِلى المعتصم، فقال له يا أمير المؤمنين: كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعة، وحمل إِليه المعتصم ثلاثين ألف ألف ألف، من خراج ما يتولاه له، فلما ورد ذلك، قال المأمون ليحيى بن أكتم: اخرج بنا ننظر إِلى هذا المال فخرجا ونظرا إِليه، وقد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أباعره، فاستكثر المأمون ذلك، واستحسنه، واستبشر به الناس، والناس ينظرون ويتعجبون، فقال المأمون: يا أبا محمد، ننصرف بالمال، ويرجع أصحابنا خائبين. إِن هذا للؤم، فدعا محمد بن رداد، فقال له: وقع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلها، فما زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف ألف؛ ورجله في الركاب، وكان المأمون ينظم الشعر، فما يروى له من أبيات:
بعثتك مرتاداً ففزتَ بنظرة ... وأغفلتني حتى أسأتُ بك الظنّا
فناجيت من أهوى وكنت مباعداً ... فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
أرى أثراً منها بعينيك بيْنا ... لقد أخذت عيناكَ من عينها حُسنا
وكان المأمون شديد الميل إِلى العلويين، والإحسان إِليهم رحمه الله تعالى، ورد فدك على ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلمها إِلى محمد ابن يحيى بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ليفرقها على مستحقيها من ولد فاطمة، وكان المأمون فاضلاً مشاركاً في علوم كثيرة.
خلافة المعتصموهو ثامنهم، وبويع للمعتصم أبي إِسحاق محمد بن هارون الرشيد بالخلافة، بعد موت المأمون، ولما بويع له، ونادوا باسم العباس بن المأمون، فأرسل المعتصم إِلى العباس وأحضره، فبايعه العباس، ثم خرج إِلى الجند فقال لهم قد بايعت عمي، فسكنوا، وانصرف المعتصم إِلى بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فقدمها مستهل شهر رمضان.
وفي هذه السنة توفي بشر بن غياث المريسي وكان يقول بخلق القرآن.
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين في هذه السنة أحضر المعتصم أحمد ابن حنبل، وامتحنه بالقرآن، فلم يجب إِلى القول بخلقه، فجلده حتى غاب عقله، وتقطع جلده، وقيد وحبس.
وفيها توفي أبو نعيم الفضل التيمي وهو من مشايخ البخاري ومسلم. وكان مولده سنة ثلاثين ومائة، وكان شيعياً.
ثم دخلت سنة عشرين ومائتين في هذه السنة خرج المعتصم لبناء سامراء فخرج إلى القاطول، واستخلف على بغداد ابنه الواثق، وفيها قبض المعتصم على وزيره الفضل بن مروان، وكان قد استولى على الأمور، بحيث لم يبق للمعتصم معه أمر، وولى المعتصم مكانه محمد بن عبد الملك الزيات.
وفي هذه السنة توفي محمد الجواد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وهو أحد الأئمة الاثني عشر، عند الإمامية، وصلى عليه الواثق، وكان عمره خمساً وعشرين سنة، ودفن ببغداد عند جده مَوسى بن جعفر، ومحمد الجواد المذكور، هو تاسع الأئمة الاثني عشر، وقد تقدم ذكر أبيه علي الرضا، في سنة ثلاث ومائتين، وسنذكر الباقين إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة إِحدى وعشرين ومائتين فيها توفي قاضي القيروان، أحمد ابن محرز، وكان من العلماء العاملين الزاهدين. وفيها توفي آدم بن أبي إِياس العسقلاني، وهو من مشايخ البخاري في صحيحه.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين، ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
فتح عمورية
وإمساك العباس بن المأمون وحبسه وموته.في هذه السنة خرج ملك الروم نوفيل في جمع عظيم، فبلغ زبطرة وقتل وسبى ومثل بمن وقع في يده من المسلمين، ولما بلغ المعتصم ذلك، وأن امرأة هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم وامعتصماه، استعظمه ونهض من وقته، وجمع العساكر وسار لليلتين بقيتا من جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
وبلغه أن عمورية هي عين النصرانية وهي أشرف عندهم من قسطنطينة، وأنه لم يتعرض أحد إِليها منذ كان الإسلام، وتجهز المعتصم جهازاً لم يعهد قبله، مثله من السلاح وخيام الأدم، وغير ذلك، وسار المعتصم حتى نزل على نهر قريب من البحر، بينه وبين طرسوس يوم، وجعل عسكره ثلاث فرق، فرقة مع الإفشين خيذر ابن كاؤوس ميمنة، وفرقة مع أشناس ميسرة، وفرقة مع المعتصم في القلب، وبين كل فرقة وفرقة فرسخان، وأمرهم المعتصم بحريق القرى وتخريب بلاد الروم ففعلوا ذلك، حتى وصلوا إِلى عمورية، فأول من قدمها أشناس، ثم المعتصم، ثم الإفشين، فأحدقوا بها، وكان نزوله عليها لست خلون من رمضان، من هذه السنة، وأقام عليها المنجنيقات، وجرى بين المسلمين والروم عليها قتال شديد يطول شرحه، وآخره أن المسلمين خربوا في السور مواضع بالمنجنيق، وهاجموا البلد وقتلوا أهله، ونهبوا الأموال والنساء، وأقبل الناس بالسبي والأسرى إِلى المعتصم، من كل جهة، وأمر بعموربة فهدمت، وأحرقت، وكان مقامه على عمورية خمسة وخمسين يوماً، ثم ارتحل
راجعاً إِلى الثغور، فلما كان في أثناء الطريق، بلغ المعتصم أن العباس بن المأمون قد بايعه جماعة من القواد وهو يريد أن يثب عليه، ويأخذ الخلافة منه، فدعا المعتصم بالعباس بن المأمون، وأمسكه. وسلمه إِلى الافشين خيذر، فلما وصل إِلى منبج طلب العباس الطعام، فأكل ومُنع الماء حتى مات بمنبج، فصلى عليه بعض أخوته وأتم المعتصم سيره حتى دخل سامراء.
وفيها أعني سنة ثلاث وعشرين ومائتين، توفي ملك إِفريقية زيادة الله إِبراهيم بن الأغلب، وتولى بعده أخوه أبو عقال الأغلب بن إِبراهيم بن الأغلب.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين في هذه السنة مات إِبراهيم المهدي في رمضان، وصلى عليه المعتصم.
وفيها مات أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام اللغوي، وكان عمره سبعاً وستين سنة.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين في هذه السنة توفي أبو دلف وعلي بن محمد المدايني المشهور.
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين في هذه السنة غضب المعتصم على الإفشين خيذر بن كاؤوس، وحبسه حتى مات في حبسه، وأُخرج فصُلب، أُحرقت جثته، والإفشين هو الذي قاتل بابك المجوسي، الذي استولى على جبال طبرستان مدة عشرين سنة، وعظم أمره، وهزم عدة مرار عساكر المعتصم، حتى انتدب له المعتصم الإفشين المذكور، فجرى له معه قتال شديد، في مدة طويلة، انتصر الإفشين وأخذ مدينة بابك البذ، وأسر بابك، وأحضره إِلى المعتصم، فقتله والإفشين خيذر المذكور بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها والذال المعجمة وفي آخرها راء مهملة.
وفي هذه السنة توفي الهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله العلاف البصري شيخ المعتزلة وزاد عمره على مائة سنة.
وفيها توفي أبو عقال الأغلب بن إِبراهيم بن الأغلب، وتولى بعده أخوه أبو العباس محمد بن إِبراهيم بن الأغلب، فكانت ولاية الأغلب سنتين وتسعة أشهر. ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين.
وفاة المعتصم وفيها توفي أبو إِسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد، لثماني عشرة مضت من ربيع الأول بسامراء، وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر ويومين، وكان مولده سنة سبع وتسعين ومائة، وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، ومات عن ثمانية بنين، وثمان بنات، وكان أبيض، أصهب اللحية طويلها، مربوعاً مشرب اللون بحمرة، وهو أول من أضيف إِلى لقبه اسم الله تعالى من الخلفاء، وكان المعتصم بالله، طيب الأخلاق، لكنه إِذا غضب لا يبالي من قتل، وما فعل، وقد حكي أن المعتصم انفرد عن أصحابه في يوم مطر، فبينما هو يسير إِذ رأى شيخاً مع حمار عليه حمل شوك، وقد توحل الحمار ووقع الحمل، وهو ينتظر من يمر عليه ويساعده على ذلك، فنزل المعتصم بالله عن دابته، وخلص الحمار، ورفع معه الحمل عليه، ثم لحقه أصحابه، فأمر لصاحب الحمار بأربعة آلاف درهم، وقال ابن أبي داود: تصدق المعتصم ووهب على يدي مائة ألف ألف درهم.
خلافة ابنه الواثقوهو تاسعهم، وبويع الواثق بالله هارون بن المعتصم في اليوم الذي توفي أبوه، وذلك يوم الخميس لثماني عشرة مضت من ربيع الأول، في هذه السنة أعني سنة تسع وعشرين ومائتين، وأم الواثق أم ولد رومية تسمى قراطيس. وفي هذه السنة هلك نوفيل ملك الروم، وملك بعده امرأته بدورة، وابنها ميخائيل بن نوفيل.
الفتنة بدمشق لما مات المعتصم، ثارت القيسية بدمشق، وعاثوا وأفسدوا، وحصروا أميرهم بدمشق. فبعث إِليهم الواثق عسكراً مع رجاء بن أيوب فقاتلهم، وكانوا قد اجتمعوا بمرج راهط فقتل من القيسة نحو ألف وخمس مائة، وانهزم الباقي، وصلح أمر دمشق.
وفي هذه السنة توفي بشر بن الحارث الزاهد، المعروف بالحافي في ربيع الأول.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين في هذه السنة فتح المسلمون عدة أماكن من جزيرة صقلية، وكان الأمير على صقلية محمد بن عبد الله بن الأغلب، وكان مقيماً في صقلية، بمدينة بلرم، لم يخرج منها، لكن يجهز الجيوش والسرايا فيفتح ويغنم، وكانت إِمارته على صقلية تسع عشرة سنة، وتوفي في سنة سبع وثلاثين ومائتين في رجب على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة مات أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر، وفيها أعطى الواثق أشناس، تاجاً ووشاحين.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين في هذه السنة حبس الواثق الكتاب، وألزمهم أموالاً عظيمة، وفيها توفي خلف بن هشام البزار المقرئ البزار، بالزاي المنقوطة والراء المهملة.
ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين في هذه السنة مات عبد الله بن طاهر بنيسابور وهو أمير خراسان وعمره ثمان وأربعون سنة، واستعمل الواثق موضعه ابنه طاهر بن عبد الله. وفي هذه السنة خرجت المجوس في أقاصي بلاد الأندلس، في البحر، إِلى بلاد المسلمين، وجرى بينهم وبين المسلمين بالأندلس عدة وقائع، انهزم فيها المسلمون، وساروا يقتلون المسلمين، حتى دخلوا حاضر إِشبيلية، ووافاهم عسكر عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس، ثم اجتمع عليهم المسلمون من كل جهة، فهزموا المجوس، وأخذوا لهم أربعة مراكب، بما فيها، وهربت المجوس في مراكبهم إِلى بلادهم.
وفي هذه السنة مات أشناس التركي بعد عبد الله بن طاهر بتسعة أيام.
ثم دخلت سنة إِحدى وثلاثين ومائتين، فيها مات مخارق المغني وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي الفقيه، صاحب الشافعي، وكان قد حبس في محنة الناس بالقرآن المجيد، فلم يجب إِلى القول بأنه مخلوق، وكان البويطي من الصالحين، وهو منسوب إِلى بويط، قرية من قرى مصر. وفيها توفي محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي الكوفي، صاحب اللغة، وكان أبوه زياد عبداً سندياً أخذ الأدب عن المفضل الضبي صاحب المفضليات، ولابن الأعرابي المذكور عدة مصنفات منها: كتاب النوادر وكتاب الأنواء وكتاب تاريخ القبائل وغير ذلك، وولد في الليلة التي توفي فيها أبو حنيفة، سنة خمسين ومائة، والأعرابي منسوب إِلى الأعراب، يقال رجل أعرابي إِذا كان بدوياً، وإن لم يكن من العرب، ورجل عربي منسوب إِلى العرب، وإن لم يكن بدوياً، ويقال رجل أعجم وأعجمي إِذا كان في لسانه عجمة، وإن كان من العرب، ورجل عجمي منسوب إِلى العجم، وإن كان فصيحاً، هكذا ذكر محمد بن عزيز السجستاني، في كتابه الذي فسر فيه غريب القرآن.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين موت الواثق بالله وتوفي الواثق بالله أبو جعفر هارون بن المعتصم بالله، في هذه السنة، لست بقين من ذي الحجة بالاستسقاء وعولج بالإِقعاد في تنور مسخن، ووجد عليه خفة، فعاوده وشدد سخونته، وقعد فيه أكثر من اليوم الأول، فحمي عليه، وأخرج منه في محفة، فمات فيها، ودفن بالهاروني، ولما اشتد مرض الواثق، أحضر المنجمين، فنظروا في مولده، فقدروا له أنه يعيش خمسين سنة مستأنفة، من ذلك اليوم، فلم يعش بعد قولهم إِلا عشرة أيام، وكان أبيض مشرّباً حمرة، في عينه اليسرى نكتة بياض، وكانت خلافته، خمس سنين وتسعة أشهر وكسراً، وعمره اثنتان وثلاثون سنة وكان الواثق يبالغ في إِكرام العلويين والإِحسان إِليهم، وفرق في الحرمين أموالا عظيمة، حتى أنه لم يبق بالحرمين في أيام الواثق سائل، ولما بلغ أهل المدينة موته، كانت تخرج نساؤهم إِلى البقيع كل ليلة، ويندبن الواثق، لفرط إِحسانه إِليهم، وسلك الواثق مذهب أبيه المعتصم، وعمه المأمون في امتحان الناس بالقرآن المجيد، وألزمهم القول بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة بالأبصار.
خلافة المتوكل جعفر بن المعتصمهو عاشرهم، ولما مات الواثق، عزم كبراء الدولة على البيعة لمحمد بن الواثق، فألبسوه قلنسوة ودرّاعة سوداء وهو غلام أمرد قصير، فلم يروا ذلك مصلحة، فتناظروا فيمن يولونه، وذكروا عدة من بني العباس، ثم أحضروا المتوكل، فقام أحمد بن أبي داود وألبسه الطويلة، وعممه، وقبل بين عينيه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فبويع بالخلافة في يوم مات الواثق فيه، لست بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكان عمر المتوكل لما بويع ستَاً وعشرين سنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.
القبض على ابن الزيات
في صفر من هذه السنة، قبض المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات، وحبسه وأخذ جميع أمواله، وعذبه بالسهر، ثم حطه في تنور خشب، فيه مسامير حديد، أطرافها إِلى داخل التنور، يمتنع من يكون فيه من الحركة، ولا يقدر على الجلوس، فبقي كذلك محمد بن الزيات أياماً، ومات لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول من هذه السنة، وكان ابن الزيات هو الذي عمل هذا التنور، وعذب به ابن أسباط المضري وأخذ أمواله، وكان ابن الزيات صديق إِبراهيم الصولي، فلما ولي ابن الزيات الوزارة صادره بألف ألف درهم، فقال الصولي:
وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت منك أذم الزمانا
وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
وفي هذه السنة ولى المتوكل ابنه المنتصر الحرمين واليمن والطائف، وفيها توفي أبو زكريا يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام المري البغدادي المشهور، وكان إماماً حافظاً، قيل إِنه من قرية نحو الأنبار تسمى نقيا، وهو صاحب الجرح والتعديل، وكان الإمام أحمد بن حنبل شديد الصحبة له، وكانا مشتركين في الاشتغال بعلوم الحديث، وذكر الدار قطني يحيى بن معين المذكور في جملة من روى عن الإمام الشافعي. وولد يحيى بن معين المذكور في سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي في هذه السنة أعني سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، في ذي القعدة، وقيل ذي الحجة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين فيها توفي محمد بن مبشر، أحد المعتزلة البغداديين، وأبو جيثمة زهر المحدث، وعلي بن عبد الله بن جعفر المعروف بابن المديني الحافظ، وهو إِمام ثقة. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين في هذه السنة، ظهر بسامراء رجل يقال له: محمود بن فرج، وادعى النبوة، وزعم أنه ذو القرنين، وتبعه سبعة وعشرون رجلاً، فأُتي به وبأصحابه إِلى المتوكل، فأمر أصحابه فصفعه كل واحد عشر صفعات، وضرب حتى مات من الضرب، وحبس أصحابه.
وفي هذه السنة مات الحسن بن سهل وعمره تسعون سنة، وكان قد شرب دواء فأفرط عليه القيام حتى مات، وفيها مات إِسحاق بن إِبراهيم الموصلي، صاحب الألحان والغناء. وفيها مات سريح بن يونس بن سريح بالسين المهملة، وفيها وقيل في السنة التي تليها، توفي عبد السلام بن رغبان - بالغين المنقوطة - الشاعر المشهور المعروف بديك الجن، وكان يتشيع، وعاش بضعاً وسبعين سنة، ومن جيد شعره أبياته التي من جملتها:
وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغر ... ولا تسق إِلا خمرها وعقارها
مشعشة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده وأدارها
ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين في هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهدم ما حوله من المنازل ومنع الناس من إِتيانه، وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب، ولأهل بيته، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث، وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة، ويكشفَ رأسه، وهو أصلع، ويرقص ويقول: قد أقبل الأصلع البطين، خليفة المسلمين، يعني علياً، والمتوكل يشرب ويضحك، وفعل كذلك يوماً بحضرة المنتصر، فقال: يا أمير المؤمنين، إِن علياً ابن عمك، فكل أنت لحمه إِذا شئت، ولا تخلي مثل هذا الكلب وأمثاله يطمع فيه، فقال المتوكل للمغنين غنوا:
غارا الفتى لابن عمه ... رأس الفتى في حرامه
وكان يجالس من اشتهر ببغض علي، مثل ابن الجهم الشاعر، وأبي السمط من ولد مروان بن أبي حفصة، من موالي بني أمية وغيرهما، فغطى ذمه لعلي على حسناته، وإلا فكان من أحسن الخلفاء سيرة، ومنع الناس عن القول بخلق القرآن. وفي هذه السنة توفي منصور بن المهدي.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين في هذه السنة مات محمد بن عبد الله أمير صقلية، وتولى موضعه على جزيرة صقلية العباس بن الفضل بن يعقوب بن فزارة، وفتح فيها الفتوحات الجليلة، وفتح قصر يانه، وهي المدينة التي بها دار الملك بصقلية، وكان الملك قبلها يسكن مرقوسه، فلما أخذ المسلمون بعض الجزيرة، انتقل الملك إِلى قصر يانه. لحصانتها، ففتحها العباس في هذه السنة، يوم الخميس منتصف شوال، وبنى فيها مسجداً في الحال، ونصب فيه منبراً وخطب وصلى فيه الجمعة.
وفيها توفي حاتم الأصم الزاهد المشهور البلخي، ولم يكن أصم؛ وإنما سمي به لأن امرأة جاءت تسأله عن مسألة فخرج منها صوت فخجلت، فأوهمها أنّه أصم، وقال: ارفعي صوتك، فسرّت المرأة ظناً منها أنه لم يسمع حبقتها، فغلب عليه هذا الاسم.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين في هذه السنة توفي عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي، صاحب الأندلس، في ربيع الآخر، وكان مولده سنة ست وسبعين ومائة، وولايته إِحدى وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، وكان أسمر طويلاً عظيم اللحية، يخضب بالحناء، وخلف خمسة وأربعين ابناً، ولما مات ملك بعده ابنه محمد بن عبد الرحمن.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين فيها توفي محمود بن غيلان المروزي، وهو من مشايخ البخاري ومسلم.
ثم دخلت سنة أربعين ومائتين في هذه السنة مات ابن الإمام الشافعي، واسمه محمد، وكنيته أبو عثمان، وكان قاضي الجزيرة، وروى عن أبيه وعن ابن عينية، وكان للشافعي ولد آخر اسمه محمد أيضاً، مات بمصر سنة إِحدى وثلاثين ومائتين.
وفيها توفي أبو ثور إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي، الفقيه البغدادي، صاحب الإمام الشافعي، وناقل أقواله القديمة عنه، وكان على مذهب أهل الرأي، حتى قدم الشافعي إِلى العراق، فاختلف إِليه واتبعه، ورفض مذهبه الأول.
ثم دخلت سنة إِحدى وأربعين ومائتين في هذه السنة توفي الإِمام أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إِدريس، ينسب إِلى معد بن عدنان، وكان وفاته في ربيع الأول وروى عنه مسلم، والبخاري، وأبو داود، وإبراهيم الحرثي، وكان مجتهداً ورعاً زاهداً صدوقاً، قال الشافعي: خرجت من بغداد، وما خلفت بها أحداً أتقى ولا أورع ولا أفقه من أحمد بن حنبل.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين فيها مات أبو العباس محمد بن إِبراهيم بن الأغلب أمير إِفريقية، وولي بعده ابنه أبو إِبراهيم أحمد بن محمد المذكور.
وفيها توفي القاضي يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن من ولد أكثم بن صيفي التميمي، حكم العرب، وكان يحيى المذكور عالماً بالفقه بصيراً بالأحكام، وهو من أصحاب الشافعي، وكان إِماماً في عدة فنون، وكان ذميم الخلق، وابن أكثم المذكور، هو الذي رد المأمون عن القول بتحليل المتعة. فقال ابن أكثم لبعض الفضلاء الذي كانوا يعاشرون المأمون، ومنهم أبو العيناء: بكروا غداً إِليه، فإِن وجدتم للقول وجهاً فقولوا، وإلا فاسكتوا، حتى أدخل. قال أبو العيناء: فدخلنا على المأمون وهو يسأل ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد أبي بكر رضي الله عنه، وأنا أنهي عنهما، ومن أنت يا جعل حتى تنهي عما فعله رسول الله، فأوجم أولئك، حتى دخل يحيى بن أكثم فقال له المأمون: أراك متغيراً، فقال يحيى: هو غم لما حدث من النداء بتحليل الزنا يا أمير المؤمنين. فقال المأمون: الزنا. فقال: نعم. المتعة زنا. قال: ومن أين قلت هذا. قال: من كتاب الله وحديث رسوله. قال الله تعالى: " قد أفلح المؤمنون إِلى قوله والذين هم لفروجهم حافظون إِلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " " المؤمنون: 5 " يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: فهي الزوجة ترث وتورث؟ قال: لا. قال: وهذا الزهري روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن علي بن أبي طالب قال " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها، بعد أن كان أمر بها " فقال المأمون: أمحفوظ هذا عن الزهري؟ قال: نعم. رواه عنه جماعة، منهم مالك رضي الله عنه، فقال: المأمون: أستغفر الله، فبادروا بتحريم المتعة، والنهي عنها، ولم يكن في يحيى بن أكثم ما يعاب به سوى ما يتهم به من محبة الصبيان، وقد قيل فيه بسبب ذلك عدة أشعار منها:
وكنا نرجى أن نرى العدل ظاهراً ... فاعقبنا بعد الرجاء قنوط
متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها ... وقاضي قضاة المسلمين يلوط
ولأحمد بن نعيم في ذلك:
أنطقني الدهر بعد إِخراس ... لنائبات أطلن وسواسي
لا أفلحت أمة وحق لها ... بطول نكس وطول إِتعاسِ
ترضى بيحيى يكون سايسها ... وليس يحيى لها بسواسِ
قاضٍ يرى الحد في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باسِ
يحكم للأمرد العذير على ... مثل جرير ومثل عباسِ
فالحمد لله كيف قد ذهب ال ... عدل وقل الوفاء في الناسِ
أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والرأس شر ما راسِ
لا أحسب الجور ينقضي ... وعلى الأمة وال من آل عباس
وأكثم بالثاء المثناة من فوقها والثاء المثلثة كلاهما لغتان، وهو الرجل العظيم البطن، والشبعان أيضاً.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين في هذه السنة سار المتوكل إِلى دمشق في ذي القعدة. وفيها مات إِبراهيم بن العباس بن محمد بن صول الصولي وفيها توفي الحارث بن أسد المحاسبي الزاهد، وكان قد هجره أحمد بن حنبل لأجل علم الكلام، فاختفى لتعصب العامة لأحمد، فلم يصل عليه غير أربعة أنفس.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين في هذه السنة وصل المتوكل إِلى دمشق ودخلها في صفر، وعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إِليها، فقال يزيد ابن محمد المهلبي.
أظن الشام يشمت بالعراق ... إِذا عزم الإمام على انطلاق
فإِن تدع العراقَ وساكنيهِ ... فقد تبكي المليحةُ بالطلاقِ
ثم استوبأ المتوكل دمشق، واستثقل ماءها، فرجع إِلى سامراء وكان مقامه بدمشق شهرين وأياماً، وفيها غضب المتوكل على بختيشوع الطبيب، وقبض ماله ونفاه إِلى البحرين. وفيها قتل المتوكل أبا يوسف يعقوب بن إِسحاق المعروف بابن السكيت، صاحب كتاب إصلاح المنطق في اللغة وغيره وكان إِماماً اللغة والأدب، قتله المتوكل لأنه قال له أيمّا أحب إليك: ابناي المعتز والمؤيد، أم الحسن والحسين، فغض ابن السكّيت عن ابنيه، وذكر عن الحسن والحسين ما هما أهله، فأمر مماليكه فداسوا بطَنه، فحمل إِلى داره فمات بعد غد ذلك اليوم. وقيل إن المتوكل لما سأل ابن السكيت عن ولديه، وعن الحسن والحسين، قال له ابن السكيت: والله إِن قنبراً خادم علي خير منك ومن ولديك. فقال المتوكل سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا به ذلك، فمات لساعته، في رجب في هذه السنة المذكورة، وكان عمره ثمانياً وخمسين سنة والسكيت بكسر السين المهملة وتشديد الكاف فعيل، اسم لكثير السكوت والصمت.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين في هذه السنة توفي ذو النون المصري، في ذي القعدة، وأبو علي الحسين بن علي، المعروف بالكرابيسي، صاحب الشافعي.
ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين فيها تحول المتوكل إلى الجعفري، وكان قد ابتدئ في عمارته سنة خمس وأربعين ومائتين، وأنفق عليه أموالاً تجل عن الحصر، وكان يقال لموضعه الماحورة وفيها توفي دعبل بن علي الخزاعي الشاعر، وكان مولده سنة ثمان وأربعين ومائة، وكان يتشيع.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين.
مقتل المتوكل في هذه السنة قتل المتوكل جماعة بالليل بالسيوف، وقت خلوته، باتفاق من ابنه المنتصر، وبغا الصغير الشرابي، وقتل في مجلس شرابه، وقتل معه وزيره الفتح ابن خاقان، وكان قتله ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال، وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، وعمره نحو أربعين سنة، وكان أسمر خفيف العارضين.
بيعة المنتصر وهو حادي عشرهم، لما أصبح نهار الأربعاء صبيحة الليلة التي قتل فيها المتوكل حضر الناس والقواد والعساكر إلى الجعفري، فخرج أحمد بن الخصيب إِلى الناس، وقر عليهم كتاباً من المنتصر، أن الفتح بن خاقان قتل المتوكل فقتلته به، فبايع الناس المنتصر، صبيحة الليلة، التي قتل فيها المتوكل.
وفي هذه السنة توفي العباس أمير صقلية، فولى الناس عليهم ابنه عبد الله ابن عباس، ثم ورد من إِفريقية خفاجة بن سفيان أميراً على صقلية، فغزا وفتح في جزيرة صقلية، ثم اغتاله رجل من عسكره، فقتله وهرب القاتل إِلى المشركين، ولما قتل خفاجة استعمل الناس ابنه محمد بن خفاجة، ثم أقره على ولايته محمد بن أحمد بن الأغلب صاحب القيروان، وبقي محمد بن خفاجة أميراً على صقلية إِلى سنة سبع وخمسين ومائتين، فقتله خدمه الخصيان وهربوا، فأدركهم الناس وقتلوهم، على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة توفي أبو عثمان بكر بن محمد المازني النحوي الإمام في العربية.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين.
موت المنتصر في هذه السنة توفي المنتصر بالله، محمد بن جعفر المتوكل، يوم الأحد بسامراء لخمس خلون من ربيع الأول، بالذبحة، وكانت مدة علته ثلاثة أيام وعمره خمس وعشرون سنة وستة أشهر، وكانت خلافته ستة أشهر ويومين، وكان أعين، أقنى، قصيراً، سهيباً، عظيم اللحية، راجح العقل، كثير الإنصاف، وأمر الناس بزيارة قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأمن العلويين، وكانوا خائفين أيام أبيه.
خلافة المستعين
أحمد بن محمد المعتصم
وهو ثاني عشرهم، ولما توفي المنتصر، اتفق كبراء الدولة مثل بغا الكبير، وبغا الصغير، وأتامش الأتراك، ومحمد بن الخصيب، على تولية المستعين وكرهوا أن يقيموا بعض ولد المتوكل، لكونهم قتلوا المتوكل، فبايعوا المستعين ليلة الاثنين، لست خلون من ربيع الآخر، وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس. وفيها ورد على المستعين الخبر بوفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عبد الله أمير خراسان، في رجب، فعقد المستعين لولده محمد بن طاهر على خراسان. وفيها مات بغا الكبير. فجعل المستعين ابنه موسى بن بغا مكانه. وفي هذه السنة شغب أهل حمص على كيدر عاملهم، فأخرجوه عنهم. وفي هذه السنة تحرك يعقوب ابن الليث الصفار من سجستان، نحو هراة. وفيها توفي محمد ابن العلا الهمداني، وكان من مشايخ البخاري ومسلم.ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين في هذه السنة كان بين المسلمين والروم وقعة بمرج الأسقف. قتل فيها مقدم العسكر، وهو عمر بن عبد اللّه الأقطع، وكان من شجعان المسلمين وانهزمت المسلمون وقتل منهم جماعة، وخرجت الروم، فأغاروا إِلى الثغور الجزرية.
وفي هذه السنة شغبت الجند، الشاكرية والعامة، ببغداد، على الأتراك، بسبب استيلائهم على أمور المسلمين، يقتلون من شاءوا من الخلفاء ويستخلفون من أحبوا من غير ديانة، ولا نظر للمسلمين، ثم وقعت في سامراء فتنة من العام وفتحوا السجون وأطلقوا ما فيها، ثم ركبت الأتراك وقتلوا من العامة جماعة وسكنت الفتنة.
وفي هذه السنة ثارت الموالي بأتامش، فقتلته، ونهبوا من داره أموالاً جمة، لأن المستعين كان قد أطلق يد أتامش، ويد والدته، أعني والدة المستعين، ويد شاهك الخادم، في بيوت الأموال، فكانوا يأخذون الأموال من دون غيرهم، فقتل أتامش بسبب استيلائه على الأموال.
وفي هذه السنة توفي علي بن الجهم الشاعر. وفي هذه السنة توفي أبو إِبراهيم أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الأغلب صاحب إفريقية، ولما مات ولي موضعه أخوه زيادة الله بن محمد، وكنية زيادة الله المذكور أبو محمد.
ثم دخلت سنة خمسين ومائتين في هذه السنة ظهر يحيى عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويكنى أبا الحسين، بالكوفة، وكثر جمعه، واستولى على الكوفة، ثم جهز إِليه محمد بن عبد الله بن طاهر جيشاً، فخرج إِليهم يحيى بجمعة، فقتل يحيى وانهزم أصحابه، وقتل منهم جماعة وحمل رأسه إِلى المستعين، ثم في هذه السنة ظهر الحسن بن زيد بن محمد بن إِسماعيل بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بطبرستان، وكثر جمعه واستقل بملك طبرستان، ويسمى بالداعي إِلى الحق، وبقي مستولياً حتى قتل في سنة سبع وثمانين ومائتين، وقام بعده الناصر الحسن بن علي. وفي هذه السنة وثب أهل حمص على عاملهم، وهو الفضل بن قارن أخو مازيار فقتلوه، فأرسل المستعين إِليهم موسى بن بغا الكبير، فحاربوه بين حمص والرستن، فهزمهم وافتتح حمص، فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وأحرقها. وفي هذه السنة توفي زيادة الله بن محمد بن إِبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية، وكانت ولايته سنة وستة أشهر، وملك بعده ابن أخيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد المذكور وفيها مات الخليع الشاعر، واسمه الحسين بن الضحاك، وأشعاره وأخباره مشهورة، وكان مولده سنة اثنتين وستين ومائة.
ثم دخلت سنة إِحدى وخمسين ومائتين في هذه السنة اتفق بغا الصغير ووصيف، وقتلا باغر التركي، فشغبت الترك، وحصروا المستعين وبغا الصغير ووصيفاً في القصر، بسامراء فهرب المستعين وبغا ووصيف في حرّاقه، وانحدروا إلى بغداد، واستقر بها المستعين.
البيعة للمعتز بالله
في هذه السنة بعد مسير المستعين إِلى بغداد من سامراء، كما ذكرنا، خافه الأتراك فأخرجوا المعتز بالله بن المتوكل، وكان في الحبس، وبايعوه، واستولى على الأموال التي كانت في سامراء للمستعين، ولأمه، وأنفق في الجند، ثم عقد المعتز لأخيه أبي أحمد طلحة بن المتوكل، وهو الموافق لسبع بقين من المحرم، وجهزه مع خمسين ألفاً من الترك، إِلى حرب المستعين، وتحصن المستعين ببغداد، وبقي المعتز بسامراء والمستعين ببغداد، وجرى بين الفريقين قتال كثير، ثم اتفق كبراء الدولة ببغداد، على خلع المستعين، وألزموه بذلك، وفي هذه السنة مات السري السقطي الزاهد.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
خلع المستعين وولاية المعتز وهو ثالث عشرهم، ولما جرى من أمر المعتز والمستعين ما ذكرناه، خلع المستعين أحمد بن محمد المعتصم نفسه من الخلافة، وبايع المعتز بالله بن المتوكل بن المعتصم، وخطب للمعتز ببغداد يوم الجمعة، رابع المحرم من هذه السنة، وأخذت له البيعة على جميع من ببغداد، ثم نقل المستعين من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل بعياله وأهله، وأخذ منه البردة والقضيب والخاتم، فطلب المستعين أن يكون مقامه بمكة، فمنع من التوجه إِلى مكة، فاختار المقام بالبصرة، فوكل به جماعة، وانحدر إِلى واسط، ثم أمر المعتز بقتل المستعين، وكتب إلى أحمد بن طولون بقتل المستعين، فامتنع أحمد بن طولون عن قتله، وسار أحمد بن طولون بالمستعين إِلى القاطول وسلمه إِلى الحاجب سعيد بن صالح، فضربه سعيد حتى مات، وحمل رأسه إِلى المعتز. فأمر بدفنه، وكانت مدة خلافة المستعين إِلى أن خلع ثلاث سنين وتسعة أشهر وكسراً، وكان عمره أربعاً وثلاثين سنة.
وفي هذه السنة عقد لعيسى بن الشيخ علي الرملة، فأنفذ له نائبا عليها يسمى أبا المعتز، وهذا عيسى شيباني وهو عيسى بن الشيخ بن السليك من ولد جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان، فلما كان من فتنة الأتراك ما كان بالعراق، تغلب ابن الشيخ المذكور على دمشق وأعمالها، وقطع ما كان يحمل من الشام إلى الخليفة، واستبد بالأموال.
وفيها توفي محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى الزمن البصريان وهما من مشايخ البخاري ومسلم في الصحيح.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين في هذه السنة شغبت الجند بسبب طلب رزق أربعة أشهر، فلم يجبهم وصيف إِلى ذلك، فوثبوا على وصيف وقتلوه، فجعل المعتز كل ما كان إِلى وصيف إِلى بغا الشرابي.
وفي هذه السنة مات محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين. وفي هذه السنة ملك يعقوب الصفّار هراة وبوشنج، وعظم أمره، وهابه أمير خراسان وغيره.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائتين. في هذه السنة قتل بغا الشرابي الصغير، تحت الليل، وكان بغا قد خرج من بين أصحابه وجنده، ومعه خادمان له، وقصد الركوب في زورق، فأعلم المتوكلون بالجسر المعتز بخبره، فأمرهم بقتله، فقتلوه وحملوا رأسه إِلى المعتز.
وفي هذه السنة في جمادى الآخرة، توفي علي الهادي؛ وعلي التقي وهو أحد الأئمة الإثني عشر عند الإِمامية، وهو علي الزكي بن محمد الجواد المقدم ذكره في سنة عشرين ومائتين، وكان علي المذكور قد سعى به إِلى المتوكل، أن عنده كتباً وسلاحاً، فأرسل المتوكل جماعة من الأتراك، وهجموا عليه ليلاً على غفلة، فوجدوه في بيت مغلق، وعليه مدرعة من شعر، وهو مستقبل القبلة يترنم بآيات من القرآن، في الوعد والوعيد، ليس بينه وبين الأرض بساط إِلا الرمل، والحصا، فحمل على هيئته إِلى المتوكل، والمتوكل يستعمل الشراب، وفي يده الكأس، فلما رآه المتوكل أعظمه، وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس، فقال: يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط، فاعفني منه، فأعفاه، وقال: أنشدني شعراً. فقال: إِني لقليل الرواية للشعر. فقال المتوكل: لا بد من ذلك. فأنشده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلبَ الرّجالُ فما أغنتهُمُ القلَلُ
واستُزلوا بعد عزٍ عَنْ معاقلِهِم ... فأَودَعوا حُفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهُمُ صارخٌ من بعدما قَبروا ... أين الأسرة والتيجانُ والحلل
أين الوجوهُ التي كانت مُنعَّمة ... منْ دونها تُضرب الأستار والكللُ
فأفصحَ القبرُ عنهمْ حين ساءلهم ... تلكَ الوجوهُ عليها الدود يقتتَلُ
قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا ... فأصبحوا بعد طولِ الأكل قد أكلوا
فبكى المتوكل، ثم أمر برفع الشراب وقال: يا أبا الحسن، أعليك دين؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار، فدفعها إِليه ورده إِلى منزله مكرماً، وكانت ولادة علي المذكور، في رجب سنة أربع عشرة ومائتين، وقيل ثلاث عشرة، وتوفي لخمس بقين من جمادى الآخرة، من هذه السنة، أعني سنة أربع وخمسين ومائتين، بسرمن رأى، ويقال لعلي المذكور، العسكري لسكناه بسرمن رأى يقال لها العسكري، لسكنى العسكر بها، وعلي المذكور عاشر الأئمة الاثني عشر، وهو والد الحسن العسكري، والحسن العسكري هو حادي عشر الأئمة الاثني عشر، وهو الحسن بن علي الزكي المذكور بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، المقدم ذكرهم، رضي الله عنهم أجمعين.
وكانت ولادة الحسن العسكري المذكور، في سنة ثلاثين ومائتين، وتوفي في سنة ستين ومائتين في ربيع الأول، وقيل في جمادى الأولى، بسرمن رأى، ودفن إِلى جانب أبيه علي الزكي المذكور، والحسن العسكري المذكور، هو والد محمد المنتظر، صاحب السرداب، ومحمد المنتظر المذكور هو ثاني عشر الأئمة الاثني عشر، على رأى الإِمامية، ويقال له القائم، والمهدي، والحجة. وولد المنتظر المذكور، في سنة خمس وخمسين ومائتين، والشيعة يقولون: دخل السرداب في دار أبيه، بسرمن رأى، وأمه تنظر إِليه، فلم يعد يخرج إِليها، وكان عمره حينئذ تسع سنين، وذلك في سنة خمس وستين ومائتين، وفيه خلاف.
وفيها توفي أحمد بن الرشيد، وهو عم الواثق. وفي هذه السنة ولي أحمد بن طولون على مصر.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين في هذه السنة استولى يعقوب بن الليث الصفّار على كرمان، ثم استولى بالسيف على فارس، ودخل يعقوب الصفار إِلى شيراز، ونادى بالأمان وكتب إِلى الخليفة بطاعته، وأهدى له هدية جليلة، منها عشرة بازات بيض، ومائة مَن من المسك.
خلع المعتز وموته وفي هذه السنة، في يوم الأربعاء لثلاث بقين من رجب، خلع المعتز بن جعفر، المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، واختلف في اسم المعتز، فقيل محمد، وقيل الزبير، ويكنى أبا عبد الله، وقيل كنيته غير ذلك، ومولده، بسرمن رأى، في ربيع الآخر، سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وأمه أم ولد، تدعى قبيحة، ولليلتين خلتا من شعبان ظهر موته، وكان سبب ذلك: أن الأتراك طلبوا أرزاقهم، فلم يكن عند المعتز مال يعطيهم، فنزلوا معه إِلى خمسين ألف دينار فأرسل المعتز وسأل أمه قبيحة في ذلك، فقالت: ما عندي شيء. فاتفق الأتراك والمغاربة والفراعنة، على خلع المعتز، فصاروا إلى بابه، فقالوا: اخرج إلينا، فقال: قد شربت أمس دواء، وقد أفرط في العمل، فإِن كان لا بد من الاجتماع، فليدخل بعضكم إِليّ، فدخل إِليه جماعة منهم، فجروا المعتز برجله إِلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس، فكان يرفع رجلا ويضع أخرى لشدة الحر، وبقي بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وأدخلوه حجرة، وأحضروا ابن أبي الشوارب القاضي وجماعة، فأشهدوهم على خلعه، ثم سلموا المعتز إِلى من يعذبه، ومنعوه الطعام والشراب ثلاثة أيام، ثم أدخلوه سرداباً، وجصصوه عليه، فمات ودفنوه بسامراء مع المنتصر. وكانت خلافته من لدن بويع بسامراء، إِلى أن خلع، أربع سنين وسبعة أشهر إلا سبعة أيام، وكان عمره أربعاً وعشرين سنة، وثلاثة وعشرين يوماً، وكان أبيض، أسود الشعر.
خلافة المهتديوهو رابع عشرهم، وفي يوم الأربعاء لثلاث بقين من رجب، من هذه السنة، بويع لمحمد بن الواثق بالخلافة، ولقب المهتدي بالله، وكنيته أبو عبد الله، وأمه رومّية اسمها قرب.
وفي هذه السنة في رمضان، ظهرت قبيحة أم المعتز، وكانت قد اختفت لما قتل ابنها، وكان لقبيحة أموال عظيمة ببغداد، وكان لها مطمور تحت الأرض ألف ألف دينار، ووجد لها في سفط قدر مكوك زمرد، وفي سفط آخر مقدار مكوك لؤلؤ، وفي سفط مقدار كيلجة ياقوت أحمر، لا يوجد مثله. ونبش ذلك كله، وحمل جميعه إلى صالح بن وصيف، فقال صالح: قبح الله قبيحة، عرضت ابنها للقتل، لأجل خمسين ألف دينار، وعندها هذه الأموال كلها، وكان المتوكل قد سماها قبيحة، لحسنها وجمالها كما يسمى الأسود كافور. ثم سارت قبيحة إِلى مكة، فكانت تدعو بصوت عال على صالح بن وصيف وتقول: هتك ستري، وقتل ولدي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي، وركب الفاحشة مني.
ظهور صاحب الزنج في هذه السنة كان أول خروج صاحب الزنج، وهو علي بن محمد بن عبد الرحيم، ونسبه في عبد القيس، فجمع إِليه الزنج الذين كانوا يسكنون السباخ، في جهة البصرة، وادعى أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ولما صار له جَمْع عبر دجلة ونزل الديناري، وكان صاحب الزنج المذكور قبل ذلك، متصلاً لحاشية المنتصر في سامراء، يمدحهم ويستمنحهم بشعره، ثم إِنه شخص من سامراء سنة تسع وأربعين ومائتين إِلى البحرين، فادعى نسبته في العلويين، كما ذكر وأقام في الإحساء، ثم صار إِلى البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين. وخرج في هذه السنة أعني سنة خمس وخمسين ومائتين، واستفحل أمره، وبث أصحابه يميناً وشمالاً للإِغارة والنهب. وفي هذه السنة توفي خفاجة بن سفيان أمير صقلية، وولى بعده ابنه محمد، وفيها توفي محمد بن كرام صاحب المقالة في التشبيه، وكان موته بالشام، وهو من سجستان، وفيها توفي عبد الله بن عبد الرحمن الداراني صاحب المسند، توفي في ذي الحجة، وعمره خمس وسبعون سنة. وفيها توفي أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، صاحب التصانيف المشهورة، وكان كثير الهزل، نادر النادرة، خالط الخلفاء ونادمهم، أخذ العلم عن النظام المتكلم، وكان الجاحظ قد تعلق بأسباب ابن الزيات، فلما قتل ابن الزيات، قيد الجاحظ وسجن، ثم أُطلق. قال الجاحظ: ذُكرت للمتوكل لتعليم ولده، فلما مثلت بين يديه بسامراء، استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني. وصنف الجاحظ كتباً كثيرة منها: كتاب البيان والتبيين، جمع فيه بين المنثور والمنظوم، وكتاب الحيوان، وكتاب الغلمان، وكتاب في الفرق الإسلامية، وكان جاحظ العينين كاسمه، قال المبرد: دخلت على الجاحظ في مرضه فقلت: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج؟ لو نشر ما أحس به ونصفه الآخر منقرسٌ، لو طار الذباب به آلمه، وقد جاوز التسعين، ثم أنشد:
أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشبابِ
لقد كذبتكَ نفسكَ ليسَ ثوبٌ ... دريسٌ كالجديد من الثيابِ
وقد روي أن موته كان بوقوع مجلدات عليه، وكان من عادته أن يصفها قائمة كالحائط، محيطة به، وهو جالس إِليها، وكان عليلاً فسقطت عليه فقتلته، في محرم هذه السنة.
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين في هذه السنة، جمع موسى بن بغا أصحابه لقتل صالح بن وصيف، فهرب صالح واختفى، ثم ظفر به موسى فقتله.
خلع المهتدي وموته في هذه السنة، في منتصف رجب، خُلع محمد المهتدي بن هارون الواثق بن المعتصم، وتوفي لاثنتي عشرة ليلة بقيت منه، وكان سببه أنه قصد قتل موسى بن بغا، وكان موسى المذكور معسكراً قبالة بعض الخوارج، وكتب بذلك إِلى بابكيال، - كان من مقدمي الترك - أن يقتل موسى بن بغا، ويصير موضعه، فأطلعَ بابكيال موسى على ذلك، فاتفقا على قتل المهتدي، وسارا إِلى سامراء، ودخل بابكيال إلى المهتدي، فحبسه المهتدي وقتله، وركب لقتال موسى، ففارقت الأتراك الذي كانوا مع المهتدي عسكر المهتدي، وصاروا مع أصحابهم الأتراك مع موسى، فضعف المهتدي وهرب، ودخل بعض الدور، فأُمسك وداسوا خصيتيه، ليصفعوه، فمات، ودفن بمقبرة المنتصر. وكانت خلافة المهتدي أحد عشر شهراً ونصفاً، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة، وكان المهتدي أسمر عظيم البطن، قصيراٌ طويل اللحية، ومولده بالقاطول وكان ورعاً كثير العبادة، قصد أن يكون في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية.
خلافة المعتمد على الله
وهو خامس عشرهم، لما خلع المهتدي وقُتل، أخرج كبراء الدولة، أبا العباس أحمد بن المتوكل من الحبس، وبايعه الناس بالخلافة، ولقب المعتمد على الله، واستوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان.
وفي هذه السنة ملك صاحب الزنج الأبله عنوة. وقتل من أهلها خلقاً كثيراً وأحرقها، وكانت مبنية بالساج، فأسرعت النار فيها، ثم استولى على عبادان بالأمان ثم استولى على الأهواز بالسيف، وفيها عزل عيسى بن الشيخ عن الشام، وكان قد استولى عليه، وقطع الحمل عن بغداد، كما ذكرنا، فعقد لعيسى على أرمينية، وولى أماجور الشام، فسار واستولى عليه، بعد أن جرى بينه وبين أصحاب عيسى قتال شديد، انتصر فيه أماجور واستقر أميراً بالشام.
وفي هذه السنة توفي الإمام محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي صاحب المسند الصحيح، الذي هو الدرجة العالية في الصحة، المتفق على تفضيله والأخذ منه، والعمل به، ورحل في طلب الحديث إِلى الأمصار، وكان مولده سنة أربع وتسعين ومائة لثلاث عشرة خلت من شوال. قال البخاري: ألهِمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب، ابن عشر سنين، فلما بلغت ثماني عشرة سنة صنفت قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وصنفت كتاب التاريخ، إِذ ذاك، عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخرجت الصحيح من زهاء ستمائة ألف حديث، وما أدخلت فيه إِلا ما صح.
وورد مرة إِلى بغداد، فعمد أهل الحديث إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، ووضعوا عشرة أنفس، فأورد واحد بعد آخر الأحاديث المذكورة، والبخاري يقول في كل حديث منها: لا أعرفه. فلما فرغوا قال: أما الحديث الأول فهو كذا، ورده إِلى حقيقته، وأما الثاني فهو كذا، حتى ذكرها عن آخرها على حقيقتها.
ووقع بين البخاري وأمير بخارى واسمه خالد وحشة، فدسّ خالد من قال إن البخاري يقول بخلق الأفعال للعباد، وبخلق القرآن فتبرأ البخاري من ذلك وأنكره، وعظم عليه فارتحل، ونزل عند بعض أقاربه، بقرية من قرى سمرقند على فرسخين منها، اسمها خرشك فمات بها ليلة عيد الفطر من هذه السنة.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين، فيها أخذ الزنج البصرة، وقتلوا بها كل من وجدوه، وخربوها. وفي هذه السنة ملك يعقوب الصفار بلخ، ثم سار إلى كابل، فاستولى عليها، وأرسل هدية إِلى الخليفة، وفيها أصنام من تلك البلاد. وفي هذه السنة قصد الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان جرجان وملكها وفيها قُتل محمد بن خفاجة أمير صقلية، قتله خدَمه كما تقدم ذكره سنة سبع وأربعين ومائتين، واستعمل محمد بن أحمد الأغلبي صاحب إِفريقية على صقلية أحمد بن يعقوب. وفيها توفي العباس بن الفرج الرياشي اللغوي.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين في هذه السنة أرسل المعتمد أخاه الموفق، أبا أحمد إِلى قتال الزنج.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين في هذه السنة استولى يعقوب الصفار على نيسابور وملكها. وفيها توفي محمد بن موسى بن شاكر، أحد الأخوة الثلاثة الذين ينسب إِليهم جيل بني موسى المشهورين، واسم أخويه أحمد والحسين، وكان لهم همم عالية في تحصيل العلوم القديمة، وكان الغالب عليهم الهندسة والحيل والموسيقى، ولما بلغ المأمون من كتب الأوائل أن ثور الأرض أربعة وعشرون ألف ميل، أراد تحقيق ذلك، فأمر بني موسى المذكورين بتحرير ذلك، فسألوا عن الأراضي المتساوية، فأخبروا بصحراء سنجار ووطاة الكوفة، فأرسل معهم المأمون جماعة يثق إِلى أقوالهم، فساروا إِلى صحراء سنجار؛ وحققوا ارتفاع القطب الشمالي، وضربوا هناك وتداً، وربطوا فيه حبلاً طويلاً ومشوا إِلى الجهة الشمالية على الاستواء، من غير انحراف حسب الإمكان، وبقي كلما فرغ حبل نصبوا في الأرض وتداً آخر؛ وربطوا فيه حبلاً آخر كفعلهم الأول، حتى انتهوا كذلك إِلى موضع قد زاد فيه ارتفاع القطب الشمالي المذكور درجة محققة، ومسحوا ذلك القدر، فكان ستة وستين ميلاً، وثلثي ميل، ثم وقفوا عند موقفهم الأول، وربطوا في الوتد حبلا، ومشوا إِلى جهة الجنوب من غير انحراف، وفعلوا ما شرحناه، حتى انتهوا إِلى موضع قد انحط فيه ارتفاع القطب الشمالي درجة، ومسحوا ذلك القدر، فكان ستة وستين ميلا وثلثي ميل، ثم عادوا إِلى المأمون وأخبروه بذلك، فأراد المأمون تحقيق ذلك في موضع آخر، فصيرهم إِلى أرض الكوفة، فساروا إِليها وفعلوا كما فعلوا في أرض سنجار، فوافق الحسابان، وعادوا إِلى المأمون، فتحقق صحة ذلك، وصحة ما نقل من كتب الأوائل، لمطابقة ما اعتبره، ثم ضربوا الأميال المذكورة في ثلاثمائة وستين، وهي درج الفلك، فكان الحاصل أربعة وعشرين ألف ميل، وهو دور الأرض. أقول: كذا نقله ابن خلكان. ونقل غيره من المؤرخين أن الذي وجد في أيام المأمون لحصّة الدرجة ستة وستون ميلاً وثلثا ميل، وهو غير صحيح، فإِن ذلك هو لحصة الدرجة على رأي القدماء وأما في أيام المأمون فإنه وجد حصة الدرجة ستة وخمسين ميلاً، وقد تحقق ذلك في علم الهيئة.
ثم دخلت سنة ستين ومائتين فيها قتلت العرب منجور والي حمص، واستعمل عليها بكتمر. وفيها توفي مالك بن طوق الثعلبي بالرحبة، وهو الذي بناها والذي تنسب إِليه فيقال رحبة مالك. وفيها توفي الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو المعروف بالعسكري، وهو أحد الأئمة الاثني عشر، على مذهب الإِمامية. وهو والد محمد المنتظر من سرداب سرمن رأى على زعمهم، وكان مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائتين حسبما تقدم ذكره، في سنة أربع وخمسين ومائتين. وفيها توفي الحسن بن الصباح الزعفراني الفقيه، وهو من أصحاب الشافعي البغداديين. وفيها توفي حنين بن إسحاق، الطبيب العبادي، وهو الذي نقل كتب الحكماء اليونانيين إِلى العربية، وكان عالماً بها، وهو الذي عرّب كتاب إِقليدس، وكتاب بطليموس المجسطي وأصلحهما، ونقحهما، والعبَادي بكسر العين المهملة وفتح الباء الموحدة من تحتها هذه النسبة إِلى عباد الحيرة، وهم عدة بطون من قبائل شتى، نزلوا الحيرة، وكانوا نصارى، ينسب إِليهم خلق كثير، منهم عدي بن زيد العبادي.
ثم دخلت سنة إِحدى وستين ومائتين ولاية نصر بن أحمد الساماني
ما وراء النهر، وابتداء أمر الساماني
في هذه السنة استُعملَ نصر بن أحمد بن أسد بن سامان أخذه بن جثمان بن طغاث بن نوشرد بن بهرام جوبين، وهو بهرام جوبين الذي ذكر في أخبار كسرى برويز، وكان لأسد بن سامان أربعة أولاد هم نوح، وأحمد، ويحيى، وإلياس، وكانوا في خراسان حين تولى عليها المأمون بن الرشيد، فأكرم المأمون أولاد أسد بن سامان، الأربعة المذكورين، وقدّمهم واستعملهم. ولما رجع المأمون من خراسان إلى العراق، استخلف على خراسان غسان بن عباد، فولى غسان المذكور؛ أحمد بن أسد فرغانة، في سنة أربع ومائتين، ويحيى بن أسد الشاش مع أسرشة وولى إِلياس بن أسد هراة، وولى نوح بن أسد سمرقند، ولما تولى طاهر بن الحسين على خراسان، أقرهم على هذه الأعمال، حسبما كان قد ولاهم غسان بن عباد عليه، ثم مات نوح ابن أسد ثم مات بعده إلياس بهراة، فاستقر على عمله ابنه محمد بن إِلياس. وكان لأحمد بن أسد سبعة بنين، وهم نصر ويعقوب ويحيى وأسد وإسماعيل وإسحاق وحميد، ثم مات أحمد بن أسد، فاستخلف ابنه نصراً على أعماله، وكان إِسماعيل ابن أحمد يخدم أخاه نصراً، فولاه نصر بخارى. في هذه السنة، أعني سنة إحدى وستين ومائتين.
ثم بعد ذلك، سعت السعاة بين نصر وأخيه إسماعيل، فأفسدوا ما بينهما، حتى اقتتلا سنة خمس وسبعين ومائتين، فظفر إِسماعيل بأخيه نصر، فلما حمل إِليه، ترجل له إسماعيل وقبل يده، ورده إِلى موضعه، واستمر إِسماعيل ببخارى، وكان إِسماعيل رجلا خيراً يحب أهل العلم ويُكرمُهم، فلذلك دام ملكه وملك أولاده، وطالت أيامهم على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى. وفي هذه السنة عصى أهل برقة على أحمد بن طولون، فجهز إليهم جيشاً، فحاصروا برقة، وفتحوها، وقبضوا على جماعة من رؤسائهم.
وفي هذه السنة توفي محمد بن أحمد بن محمد بن إِبراهيم بن الأغلب صاحب إِفريقية، في جمادى الأولى. وكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر ونصفاً. وتولى بعده أخوه إبراهيم بن أحمد بن محمد، ثم سار إِبراهيم بن أحمد بن محمد إِلى صقلية، وفتح الفتوحات العظيمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتوفي إبراهيم بالذرب ليلة السبت، لإحدى عشرة بقيت من ذي القعدة، سنة تسع وثمانين ومائتين بصقلية، رحمه الله تعالى، وجعل في تابوت، وحمل إِلى إِفريقية، ودفن بالقيروان، وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة، وكان له فطنة عظيمة، وتصدق بجميع ماله.
وفي هذه السنة توفي الحسن بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قاضي القضاة، وهو من ولد عتاب بن أَسيد، الذي ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، أسيد بفتح الهمزة وكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها ثم دال مهملة.
وفيها توفي أبو يزيد البسطامي الزاهد، واسمه طيفور بن عيسى بن سروبيان، وكان سروبيان مجوسياً فأسلم وفي هذه السنة توفي أبو الحسين مسلم ابن الحجاج النيسابوري صاحب المسند الصحيح. رحل إِلى الأمصار لسماع الحديث. قال مسلم: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاث مائة ألف حديث مسموعة، ولما قدم البخاري إِلى نيسابور لازمه مسلم، ولما وقعت للبخاري مسألة خلق اللفظة انقطع الناس عنه إِلا مسلماً. وقال مسلم للبخاري: دعني أُقتل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث.
ثم دخلت سنة اثنين وستين ومائتين في هذه السنة، أرسل الخبيث صاحب الزنج، جيشاً إِلى جهة بطايح واسط، فقتلوا وسبوا وأحرقوا. وفيها مات عمر بن شيبة.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين في هذه السنة، استولى يعقوب الصفار على الأهواز.
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين في هذه السنة مات أماجور مقطع دمشق، وسار أحمد بن طولون من مصر إلى دمشق، ثم إِلى حمص، ثم إِلى حماة، ثم إِلى حلب، فملكها جميعها، ثم سار أحمد بن طولون إِلى إنطاكية، ودعا سيما الطويل أمير إنطاكية إِلى الدخول في طاعته، فأبى، فقاتله أحمد وملك إنطاكية عنوة، وقاتل سيما قتالاً شديداً حتى قتل، ثم رحل أحمد إِلى طرسوس، وعزم على المقام بها للجهاد، فغلا بها السعر وقلّ القوت، فرجع إِلى الشام.
وفي هذه السنة خرج بالصين خارجي مجهول النسب والاسم وعظيم جمعه، فقصد مدينة خانقو من الصين، وحصرها، وهي حصينة، ولها نهر عظيم، وبها عالم كثير من المسلمين، والنصارى، واليهود، والمجوس، وغيرهم من أهل الصين، ففتحها عنوة، وقتل من أهلها ما لا يحصى، واستولى على شيء كثير من بلاد الصين، ثم عدم الخارجي المذكور في حرب ملك الصين، وانهزمت أصحابه فلم يجتمع بعد ذلك.
وفي هذه السنة فرغ إِبراهيم بن أحمد بن محمد الأغلبي صاحب إِفريقية من بناء مدينة رقادة، وانتقل إِليها وسكنها.
وكان قد ابتدى في بنائها سنة ثلاث وستين ومائتين.
وفي هذه السنة ماتت قبيحة أم المعتز. وفيها مات أبو إبراهيم الزني صاحب الشافعي. وفيها توفي في مصر يونس بن عبد الأعلى بن موسى أحد أصحاب الشافعي، وكان مولده سنة سبعين ومائة، وكان يهوى يونس المذكور للشافعي.
ما حك جلدكَ مثل ظفركْ ... فتول أنتَ جميع أمركْ
وإذا قَصدتَ لحاجةٍ ... فاقْصدْ لمعترفٍ بقدرِكْ
وقال: سمعت الشافعي يقول: رضى الناس غاية لا تدرك، فانظر ما فيه صلاح نفسك. في أمر دينك ودنياك، فالزمه.
وعبد الرحمن، مؤلف تاريخ مصر المشهور، هو ولد يونس المذكور، وهو عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى المذكور.
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين فيها دخل الزنج النعمانية، وسبوا وأحرقوها، ثم صاروا إِلى جرجرايا، ودخل أهل السواد بغداد.
موت يعقوب الصفار وفي هذه السنة، مات يعقوب بن الليث الصفار، تاسع عشر شوال، بجنديسابور، من كور الأهواز، وكانت علته القولنج، فوصف له الحكماء الحقنة، فلم يحتقن، وكان المعتمد قد أرسل إِليه رسولا، وكتاباً يستمليه، ويعقوب مريض، فأحضر الرسول وجعل عنده سيفاً، ورغيفاً من الخشكار، وبصلا، وقال الرسول: قل للخليفة إِن مت، فقد استراح مني واسترحت منه، وإنْ عوفيت، فليس بيني وبينه إِلا هذا السيف، وإنْ كسرني وأفقرني، عدت إِلى أكل هذا الخبز والبصل.
وكان يعقوب قد افتتح الرخُج، وقتل ملكها، وأسلم أهلها على يده، وكان ملك الرخج يجلس على سرير ذهب، ويدَّعي الإِلهية، وكان يعقوب حازماً عاقلاً، وكان يعمل الصفر في مبتدأ أمره، فقيل له الصفار لذلك. وصحب في حداثته رجلاً من أهل سجستان، كان مشهوراً بالتطوع في قتال الخوارج، يقال له صالح بن النضر الكناني، ثم هلك صالح المذكور، فتولى مكانه درهم بن الحسين، فصار يعقوب مع درهم كما كان مع صالح، وكان درهم غير ضابط لأمور العسكر، فلما رأى أصحاب درهم ضعفه وعجزه، اجتمعوا على يعقوب بن الليث الصفار المذكور، وملكوه أمرهم، فلما تبين ذلك لدرهم لم ينازعه، وسلم الأمر إِليه، فاستبد يعقوب بالأمر، وقويت شوكته، واستولى على البلاد، على ما تقدم ذكره، في مواضعه، من السنين.
ولما مات يعقوب، قام بالأمر بعده أخوه عمرو بن الليث، وكتب إِلى الخليفة بطاعته، فولاه الموفق خراسان وأصفهان وسجستان والسند وكرمان، وسير إِليه الخلع مع الولاية. وفي هذه السنة توفي إِبراهيم بن هاني بن إسحاق النيسابوري، وكان من الأبدال.
ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين في هذه السنة قتل أهل حمص عاملهم، عيسى الكرخي. وفي هذه السنة كان الناس في البلاد التي تحت حكم الخليفة في شدة عظيمة، بسبب تغلب القواد والأجناد على الأمر، لقلة خوفهم، وأمنهم من الإنكار على ما يفعلونه، لاشتغال الموفق بقتال صاحب الزنج، ولعجز الخليفة المعتمد واشتغاله بغير تدبير المملكة.
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين في هذه السنة كان بين الموفق أخي الخليفة، وبين الخبيث صاحب الزنج حروب كثيرة يطول شرحها، وكشف الزنج عن الأهواز، واستولى عليها، ثم سار الموفق إِلى مدينة صاحب الزنج، وكان قد حصنها إلى غاية ما يكون، وسمّاها المختارة، وحاصرها الموفق، فخرج أكثر أهلها إليه بالأمان، وضعف الباقون عن حفظها، فسلموها بالأمان.
وفي هذه السنة ولي صقلية الحسن بن العباس، فبث السرايا إِلى كل ناحية.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين وسنة تسع وستين ومائتين في هذه السنة حالف لؤلؤ غلام أحمد بن طولون على مولاه أحمد بن طولون، وكان في يد لؤلؤ حلب وحمص وقنسرين وديار مضر من الجزيرة، وكاتب الموفق في المسير إليه، ثم سار إِليه.
وفي هذه السنة أمر المعتمد بلعن أحمد بن طولون على المنابر، لكونه قطع خطبة الموفق وأسقط اسمه من الطرز، وإنما أمر المعتمد بذلك مكرهاً، لأن هواه كان مع ابن طولون، ولم يكن للمعتمد من الأمر شيء، بل الأمر لأخيه الموفق، وكان المعتمد قد قصد اللحوق بأحمد بن طولون بمصر، لينجده على أخيه الموفق، وسار عن بغداد لما كان أخوه مشتغلاً في قتال الزنج، فأمسك إِسحاق بن كنداج عامل الموصل القواد الذين كانوا صحبة المعتمد، وأرسلهم إِلى بغداد، وتقدم إِلى المعتمد بالعَود، فلم يمكنه مخالفته بعد إِمساك قواده، فرجع إِلى سامراء.
ثم دخلت سنة سبعين ومائتين في هذه السنة قتل صاحب الزنج لعنه الله بعد قتل وغَرقِ غالب أصحابه، وقُطع رأسه، وطيف به على رمح، وكثر ضجيج الناس بالتحميد، ورجع الموقف إِلى موضعه، والرأس بين يديه، وأتاه من الزنج عالم كثير يطلبون الأمان، فأمنهم، ثم بعث برأس الخبيث إِلى بغداد، وكان خروج صاحب الزنج يوم الأربعاء، لأربع بقين من رمضان، سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر، سنة سبعين ومائتين، فكانت أيامه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام.
وفي هذه السنة توفي الحسن بن زيد العلوي، صاحب طبرستان، في رجب، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وكسراً، وولي مكانه أخوه محمد بن زيد.
وفاة أحمد بن طولون وفي هذه السنة توفي أحمد بن طولون، صاحب مصر والشام، بعد مسيره إِلى طرسوس، ورجوعه منها، ولما وصل إِلى إنطاكية، قُدم له لبن جاموس، فأكثر منه، فأصابه منه تخمة، واتصلت به حتى صار منها ذرب، حتى مات، وكانت إِمارته نحو ست وعشرين سنة، وكان حازماً عاقلاً، وهو الذي بنى قلعة يافا، ولم يكن لها قبل ذلك قلعة، وبنى بين مصر والقاهرة الجامع المعروف به، وهو جامع عظيم مشهور هناك، وولى بعده ابنه خمارويه.
وفي هذه السنة توفي محمد بن إِسحاق بن جعفر الصاغاني، وداود بن علي الأصفهاني، إِمام أصحاب الظاهر، وكان مولده سنة اثنتين ومائتين، وكان إِماماً مَجتهداً ورعاً زاهداً، وسمي هو وأصحابه بأهل الظاهر، لأخذهم بظاهر الآثار والأخبار، وإعراضهم عن التأويل، وكان داود لا يرى القياس في الشريعة، ثم اضطر إِليه، فسماه دليلاً، وله أحكام خالف فيها الأئمة الأربدة، منها أنه قال: الشرب خاصة في آنية الذهب والفضة حرام، ويجوز الأكل والترضي، وغيرهما من الانتفاعات بها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، إِنما قال: " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إِنما يجرجر في بطنه، نار جهنم " وله مثل ذلك كثير.
ثم دخلت سنة إِحدى وسبعين ومائتين في هذه السنة جرت وقعة بين ابن الموفق، وهو المعتضد، وبين خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر. آخرها أن المعتضد انهزم هو وأصحابه، وكانت الوقعة بين دمشق والرملة، وانهزم خمارويه إِلى حدود مصر، وثبت عسكره، ولم يعلموا بهزيمته، وانهزم المعتضد، ولم يعلم بهزيمة خمارويه.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين وسنة ثلاث وسبعين ومائتين في هذه السنة توفي محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي، صاحب الأندلس، سلخ صَفَر. وكان عمره نحو خمس وستين سنة، وكانت ولايته أربعاً وثلاثين سنة وأحد عشر شهراً. لأنه تولى في سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وخلف ثلاثة وثلاثين ذكراً، لما مات وليَ بعده ابنه المنذر بن محمد، وبويع له بعد موت أبيه بثلاث ليال. وفيه هذه السنة مات أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، صاحب كتاب السنن، وفيها توفي خالد بن أحمد السدوسي، وكان أمير خراسان، وقصد الحج، فقبض عليه المعتمد وحبسه، فمات في الحبس في هذه السنة، وهو الذي أخرج البخاري صاحب الصحيح من بخارى، فدعا عليه البخاري، فأدركته الدعوة.
وفيها توفي الحافظ محمد بن يزيد بن ماجة القويني المشهور، مصنف كتاب السنن في الحديث. وكان إِماماً في الحديث، عارفاً بعلومه، وجميع ما يتعلق به، ارتحل إِلى العراق والشام ومصر والري، لطلب الحديث، وله تفسير العظيم، وتاريخٌ أحسنَ فيه. وكتابه في الحديث أحد الكتب الستة الصحاح، ولادته سنة تسع ومائتين.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائتين، وسنة خمس وسبعين ومائتين في هذه السنة قبض الموفق على ابنه المعتضد، واستمر في الحبر حتى خرج في مرض الموفق الذي مات فيه.
وفيها توفي المنذر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الربضي بن هشام الأموي صاحب الأندلس، في المحرم، وكانت ولايته سنة وأحد عشر شهراً، وكان عمره نحو ست وأربعين سنة، وكان أسمر بوجهه أثر جدري. ولما مات بويع أخوه عبد الله بن محمد.
وفي هذه السنة توفي أبو سعيد الحسين بن الحسن بن عبد الله البكري النحوي اللغوي المشهور، صاحب التصانيف.
ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائتين فيها مات عبد الملك بن محمد الرقاشي. ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائتين فيها مات يعقوب بن سفيان النسائي الإمام، وكان يتشيع. وفيها توفيت عُريب المغنية المأمونية.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين.
وفاة الموفق بالله فيها توفي أبو أحمد طلحة الموفق بالله بن جعفر المتوكل، وكان قد حصل في رجله داء الفيل وطال به، وضجر، فقال يوماً: قد اشتمل ديواني على مائة ألف مرتزق، ما فيهم أسوأ حال مني، ومات الموفق يوم الأربعاء، لثمان بقين من صفر، من هذه السنة، وكان الموفق قد بويع له بولاية العهد، بعد المفوض بن المعتمد، فلما مات الموفق، اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس المعتضد بن الموفق، بولاية العهد بعد المفوض، واجتمع عليه أصحاب أبيه وتولى ما كان أبوه يتولاه.
ابتداء أمر القرامطة وفي هذه السنة تحرك بسواد الكوفة، قوم يعرفون بالقرامطة، وكان الشخص الذي دعاهم إِلى مذهبه ودينه قد مرض بقرية من سواد الكوفة، فحمله رجل من أهل القرية، يقال له كرميته، لحمرة عينيه، وهو بالنبطية اسم لحمرة العين، فلما تعافى شيخ القرامطة المذكور، سمي باسم ذلك الرجل، ثم خفف فقالوا قرمط، ودعا قوماً من أهل السواد والبادية، ممن ليس لهم عقل ولا دين إِلى دينه، فأجابوا إِليه، وكان ما دعاهم إِليه، أنه جاء بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الفرج بن عثمان، وهو من قرية يقال لها نصرانة إِنه داعية المسيح، وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهدي، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو جبريل، وإن المسيح تصور في جسم إِنسان وقال: إِنك الداعية، وإنك الحجة، وإنك الدابة، وإنك يحيى بن زكريا، وإنك روح القدس. وعرفه أنّ الصلاة أربع ركعات، ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها، وأن الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن: الله أكبر ثلاث مرات، أشهد أن لا إِله إِلا الله مرتين، أشهد أن آدم رسول الله، أشهد أن نوحاً رسول الله، أشهد أن إِبراهيم رسول الله، أشهد أن عيسى رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله، والقبلة إِلى بيت المقدس، وأن الجمعة يوم الاثنين، لا يعمل فيها شيئاً، ويقرأ في كل ركعة الاستفتاح، وهو المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو الحمد لله بكلمته، وتعالى باسمه، المنجد لأوليائه بأوليائه، قل إِن الأهلة مواقيت للناس، ظاهرها ليعلم عدد السنين، والحساب والشهور والأيام، وباطنها لأوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي، واتقوني يا أولي الألباب، وأنا الذي لا أُسأل عما أفعل، وأنا العليم الحليم، وأنا الذي أبلو عبادي وأمتحن خلقي، فمن صبر على بلائي ومحبتي واختياري، أدخلته في جنتي وأخلدته في نعيمي، ومن زال عن أمري، وكذب رسلي، أخلدته مهاناً في عذابي، وأتممت أجلي وأظهرت أمري على ألسنة رسلي، وأنا الذي لم يعل جبار إِلا وضعته، ولا عزيز إِلا ذللته، وبئس الذي أصر على أمره، ودام على جهالته، وقال: لن نبرح عليه عاكفين، وبه موقنين، أولئك هم الكافرون، ثم يركع. ومن شرائعه أن يصوم يومين من السنة، وهما المهرجان والنيروز، وأن النبيذ حرام، والخمر حلال، ولا غسل من جنابة، لكن الوضوء كوضوء الصلاة، وأن يؤكل كل ذي ناب وكل ذي مخلب.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين في هذه السنة خلع المعتمد ابنه جعفر المفوض ابن المعتمد من ولاية العهد، وجعل المعتضد ابن أخيه ولي العهد بعده.
وفاة المعتمد
وفي هذه السنة، أعني سنة تسع وسبعين ومائتين، توفي أحمد المعتضد بالله ابن جعفر المتوكل بن المعتصم، لإحدى عشرة بقيت من رجب ببغداد، وكان قد شرب على الشط وتعشى، وأكثر من الشراب والأكل، فمات ليلاً، وأحضر المعتضد القضاة وأعيان الناس، فنظروا إِليه، وحمل إِلى سرمن رأى فدفن بها، وكان عمر المعتمد خمسين سنة وستة أشهر، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وستة أيام. وكان قد تحكم عليه في خلافته أخوه الموفق، وضيق عليه، حتى إِنّه احتاج إِلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها في ذلك الوقت، فقال:
أليس من العجائب أنّ مثلي ... يرى ما قلّ ممتنعاً عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيء في يديه
خلافة أبي العباس
أحمد المعتضد بالله
وهو سادس عشرهم، وفي صبيحة الليلة التي مات فيها المعتمد، بويع لأبي العباس أحمد المعتضد بالله بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل. وفي هذه السنة توفي نصر بن أحمد الساماني، فقام بما كان إِليه من العمل بما وراء النهر، أخوه إِسماعيل ابن احمد بن أسد بن سامان.وفي هذه السنة قدم الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص من مصر بهدايا عظيمة، من خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر، بسبب تزويج المعتضد بنت خمارويه.
وفيها توفي أبو عيسى محمد بن عيسى بن سودة الترمذي السلمي، بترمذ، في رجب، وكان إِماماً حافظاً له تصانيف حسنة، منها الجامع الكبير في الحديث، وكان ضريراً، وهو عن أئمة الحديث المشهورين، الذين يقتدى بهم في علم الحديث، وهو تلميذ محمد بن إِسماعيل البخاري، وشاركه في بعض شيوخه، مثل قتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر.
ثم دخلت سنة ثمانين ومائتين فيها توفي جعفر بن المعتمد وهو الذي كان لقبه المفوض، وخلعه أبوه وولى المعتضد على ما ذكرنا.
ثم دخلت سنة إِحدى وثمانين ومائتين: فيها سار المعتضد إِلى ماردين، فهرب صاحبها حمدان، وخلى ابنه بها، فقابله المعتضد، فسلمها إِليه. وفيها دخل طغج بن جف وكان عاملاً على دمشق، من طرسوس إِلى بلاد الروم، من قبل خمارويه، وفتح وسبى. وفيها توفي عبد الله بن محمد بن أبي عبد الله بن أبي الدنيا، صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
النيروز المعتضدي فيها أمر المعتضد بافتتاح الخراج في النيروز المعتضدي، للرفق بالناس، وهو في حزيران من شهور الروم، عند كون الشمس في أواخر الجوزاء.
قتل خمارويه في هذه السنة، قتل خمارويه بن أحمد بن طولون، ذبحه بعض خدمه على فراشه، في ذي الحجة بدمشق، وكان سببه أنه نقل إِلى خمارويه، أن جواريه قد أخذت كل واحدة منهن خصياً، وجعلته لها كالزوج، وقصد خمارويه تقرير بعض الجواري على ذلك، فاجتمع جماعة من الخدم، واتفقوا على قتله، ثم قتل من خدمه الذين اتهموا بذلك، نيفاً وعشرين نفساً.
ولما مات خمارويه، بايع قواده جيش بن خمارويه، وكان صبياً، وفيها توفي أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، صاحب كتاب النبات. وفيها توفي الحارث ابن أبي أسامة، وله مسند. وفيها توفي أبو العيناء محمد بن القاسم، وكان روى عن الأصمعي، وكان ضريراً صاحب نوادر وأشعار، وكان من ظرفاء الناس، وفيه من سرعة الجواب والذكاء ما لم يكن في أحد، وولد في سنة إِحدى وتسعين ومائتين، وكف بصره وقد بلغ أربعين سنة، ولقب بأبي العيناء، لأنه قال: لأبي زيد الأنصاري كيف تصغر عيناً؟ فقال عييناً يا أبا العيناء فبقي عليه لقباً، وكان قد ذكر للمتوكل للمنادمة، فقال المتوكل: لولا أنه ضرير لصلح لذلك، وبلغ ذلك أبا العيناء فقال: إن أعفاني من رؤية الأهلة، فإِني أصلح للمنادمة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين في هذه السنة، خلع طغج بن جف أمير دمشق، جيش بن خمارويه بدمشق واختلف جند جيش عليه، لصباه وتقريبه الأرذال، وتهديده لقواد أبيه، فثاروا به فقتلوه ونهبوا داره، ونهبوا مصر وأحرقوها، وأقعدوا أخاه هارون بن خمارويه في الولاية، وكانت ولاية جيش بن خمارويه تسعة أشهر.
وفي هذه السنة مات البحتري الشاعر، واسمه الوليد بن عبادة، بمنبج أو بحلب، وكان مولده سنة ست ومائتين، وفيها توفي علي بن العباس المعروف بابن الرومي الشاعر، وفيها أمر المعتضد أن يكتب إلى الأقطار، برد الفاضل من سهام المواريث، على ذوي الأرحام، وإبطال ديوان المواريث. من تاريخ القاضي شهاب الدين بن أبي الدم، قال: وفيها أمر بكتبة الطعن، في معاوية وابنه وأبيه، وإباحة لعنهم، وكان من جملة ما كتب في ذلك: بعد الحمد لله والصلاة على نبيه، وأنه لما بعثه الله رسولاً، كان أشد الناس في مخالفته بنو أمية، وأعظمهم في ذلك أبو سفيان ابن حرب، وشيعته من بني أمية، قال الله تعالى في كتابه العزيز " والشجرة الملعونة " " الإسراء: 60 " اتفق المفسرون أنهِ أراد بها بني أمية. ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان مقبلاً ومعاوية يقوده، ويزيد أخو معاوية يسوق به، فقال: " لعن الله القائد والراكب والسائق " وقد روى أن أبا سفيان قال: يا بني عبد مناف، تلقفوها تلقف الكرة، فما هناك جنّة ولا نار. وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم معاوية ليكتب بين يديه، فتأخر عنه، واعتذر بطعامه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا أشبع الله بطنه " فبقي لا يشبع، وكان يقول: والله ما أترك الطعام شبعاً وإنما أتركه إعياء. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه " ، وأطال في ذلك، وأمر أن يقال ذلك في البلاد، ولعن معاوية على المنابر، فقيل له: إِنّ في ذلك استطالة للعلويين، وهم في كل وقت يخرجون على السلطان ويحصل به الفتن بين الناس، فأمسك عن ذلك.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائتين في هذه السنة أخبر المنجمون الناس بغرق أكثر الأقاليم، وأن ذلك يكون بسبب كثرة الأمطار، وزيادة الأنهار، فتحفظ الناس، فقلت الأمطار، وغارت المياه، حتى استسقوا ببغداد مرات.
وفيها اختل حال هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون بمصر، واختلف القواد عليه، وانحل نظام مملكته، وكان على دمشق من جهته طغج بن جف. وفيها توفي إِسحاق بن موسى الإسفراييني الفقيه الشافعي.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائتين في هذه السنة سار المعتضد إِلى آمد، فافتتحها بالأمان، وكان صاحبها محمد بن أحمد بن عيسى بن الشيخ، ثم سار المعتضد إِلى فنسرين، فتسلمها وتسلم العواصم، من نواب هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر، وكان هارون قد سأل المعتضد في أن يتسلم هذه البلاد منه. وفيها توفي إِبراهيم بن إسحاق، وهو من أعيان المحدثين ببغداد.
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائتين في هذه السنة ظهر رجل من القرامطة بالبحرين، يعرف بأبي سعيد الجنابي، وكثر جمعه، وقتل جماعة بالقطيف، وبتلك القرى. وفيها توفي المبرد، وهو أبو العباس محمد بن عبد الله بن زيد، وكان إِماماً في النحو واللغة، وله التصانيف المشهورة، منها: كتاب الكامل، والروضة، والمقتضب، وغير ذلك، أخذ العلم عن أبي عثمان المازني وغيره، وأخذ عنه نفطويه وغيره، وولد سنة سبع ومائتين، والمبرد لقب غلب عليه، قيل: إِنه كان عند بعض أصحابه، وأن صاحب الشرطة طلبه للمنادمة، فكره المبرد المسير إِليه، وألح الرسول في طلبه، وكان هناك مزملة لتبريد الماء فارغة، فدخل المبرد واختفى في غلاف تلك المزملة، ودخل رسول صاحب الشرطة في تلك الدار، وفتش على المبرد فلم يجده، فلما تركه ومضى، جعل صاحب الدار وكان يقال له أبو حاتم السجستاني، يصفق وينادي على المزملة: المبرد المبرد، وتسامع الناس بذلك، فلهجوا به، وصار لقباً على أبي العباس المذكور.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائتين في هذه السنة استولى إِسماعيل بن أحمد السلماني، صاحب ما وراء النهر على خراسان، بعد قتال، وأسر أمير خراسان، وهو عمرو بن الليث الصفار، ثم أرسله إِلى المعتضد ببغداد، فحبس عمرو بها، ولم يزل محبوساً حتى قُتل سنة تسع وثمانين ومائتين في الحبس. وفي هذه السنة سار محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان إِلى خراسان، لما بلغه أسر الصفار، ليستولي عليها، فجرى بينه وبين عسكر إسماعيل الساماني قتال شديد، ثم انهزم عسكر العلوي، وجرح جراحات عديدة، ثم مات محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان المذكور من تلك الجراحات، بعد أيام، وأسر ابنه زيد في الوقعة، وحمل إلى إسماعيل الساماني، فأكرمه ووسع عليه، وكانَ محمد بن زيد أديباً فاضلاً شاعراً، حسن السيرة، رحمه الله تعالى، ثم قام بعده بالأمر الناصر للحق، الحسن بن علي، وكان يعرف بالأطروش، وتوفي الناصر في سنة أربع وثلاثمائة على ما سنذكره إِن ساء الله تعالى. وفيها مات علي بن عبد العزيز البغوي بمكة.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين. ودخلت سنة تسع وثمانين ومائتين في هذه السنة كانت حروب بالشام بين طغج بن جف أمير دمشق وبين القرامطة.
وفاة المعتضد في هذه السنة، لثمان بقين من ربيع الآخر، توفي أبو العباس أحمد المعتضد ابن طلحة الموفق بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، ودفن ليلا في دار محمد بن طاهر، وكان مولده في ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوماً، وخلف من الذكور علياً، وهو المكتفي، وجعفر، أو هو المقتدر، وهارون، وخلف، إِحدى عشرة بنتاً، ولما حضرت المعتضد الوفاة، أنشد أبياتاً منها:
ولا تأمنن الدهَر إِني أمنته ... فلم يبق لي خلا ولم يرع لي حقا
قتلت صناديدَ الرجالِ ولم أدع ... عدواً ولم أمهل على طغيه خلقا
وأخليت دار الملك من كل نازع ... فشردتهم غرباً ومزّقتهم شرقا
فلما بلغت النجمٍ عزاً ورفعة ... وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهما فأَخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ألقى
وكان المعتضد شهماً مهيباً عند أصحابه، يتقون سطوته، ويكفون عن المظالم خوفاً منه، وكان فيه الشح، وكان عفيفاً، حكى القاضي ابن إِسحاق قال: دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداثٌ رومٌ صباح الوجوه، فأطلت النظر إِليهم، فلما قمت، أمرني بالقعود، فجلست، فلما تفرق الناس قال: يا قاضي، والله ما حللت سراويلي على حرام قط.
خلافة المكتفي باللهوهو سابع عشرهم، لما توفي المعتضد، بايع الناس ابنه المكتفي، وكان بالرقة فكتب الوزير إِليه بوفاة المعتضد، وأخذ البيعة له، ولما وصله الخبر، أخذ البيعة على من عنده أيضاً، وسار إلى بغداد، فدخلها لثمان خلون من جمادى الأولى.
وفي هذه السنة توفي إِبراهيم بن أحمد بن إِبراهيم بن الأغلب، صاحب إِفريقية كما تقدم ذكره في سنة إِحدى وستين ومائتين، وملك بعده ابنه عبد الله بن إبراهيم، ثم قتل عبد الله آخر شعبان، في سنة تسعين ومائتين، على ما سنذكر إن شاء الله تعالى. وكان سكنى عبد الله وقتله بمدينة تونس، وكان كثير العدل حسن السيرة.
ثم دخلت سنة تسعين ومائتين في هذه السنة اشتدت شوكة القرامطة، حتى حصروا دمشق، بعد أن هزموا جيش أميرها طغج ين جف، ثم اجتمعت عليهم العساكر وقتلوا مقدمهم يحيى المعروف بالشيخ، ولما قتل مقدم القرامطة يحيى المذكور، قام فيهم أخوه الحسين، وتسمى بأحمد، وأظهر شامة في وجهه، وزعم أنها آيته، وكثر جمعه، فصالحه أهل دمشق على مال دفعوه إِليه، فانصرف عنهم إلى حمص، فغلب عليها، وخطب له على منابرها، وتسمى بالمهدي أمير المؤمنين، وعهد إِلى ابن عمه عبد الله، ولقبه المدثر، وزعم أنه المدثر الذي في القرآن، ثم سار إِلى حماة والمعرة وغيرهما، فقتل أهلها، حتى قتل الأطفال والنساء، وسار إلى سلمية، فأخذها بالأمان، ثم قتل أهلها حتى صبيان المكتب، ولما اشتد أمر القرمطي صاحب الشامة المذكور، خرج المكتفي من بغداد، ونزل الرقة، وأرسل إِليه الجيوش.
ثم دخلت سنة إِحدى وتسعين ومائتين: في هذه السنة واقعت عساكر الخليفة صاحب الشامة القرمطي، وأصحابه، بمكان بينه وبين حماة اثنا عشر ميلا، لست خلون من المحرم، فانهزمت القرامطة، وتبعهم العسكر يقتلونهم، وهرب صاحب الشامة ومعه ابن عمه المدثر، وغلام له رومي، فأمسكوا في البرية، وأحضروا إِلى المكتفي، وهو بالرقة، فسار بهم إِلى بغداد وقتلهم، وطيف برأس صاحب الشامة. ومن كتاب الشريف العابد أنّ المكان الذي كان فيه الوقعة المذكورة هو تمنع أقول: وهي قرية من بلاد المعرة، على الطريق الآخذة من حماة إِلى حلب، وفيها توفي ببغداد أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد، المعروف بثعلب، كان إِمام الكوفيين في النحو واللغة، ثقة حجة، صالحاً، وولد في أول سنة مائتين.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
استيلاء المكتفي على الشام ومصر
وانقراض ملك بني طولونفي هذه السنة، بعث المكتفي جيشاً مع محمد بن سليمان، فاستولى على دمشق، وسار حتى دنا من مصر، وصاحبها هارون بن خمارويه، ففارقه غالب قواده، ولحقوا بعسكر الخليفة، وخرج هارون فيمن بقي معه، وجرى بينه وبين محمد بن سليمان وقعات، ثم وقع في عسكر هارون خصومة، وأدت إِلى قتال، فركب هارون ليُسكن الفتنة، فزرقه بعض المغاربة بمزراق فقتله، ولما قتل هارون قام عمه شيبان بالأمر، ثم طلب الأمان من محمد بن سليمان فأمنه، ثم هرب شيبان تحت الليل، فلم يوجد، واستولى محمد بن سليمان على مصر، وأمسك بني طولون، وكانوا بضعة عشر رجلاً، واستصفى ما لهم وقيدهم وحملهم إِلى بغداد، وكتب إِلى المكتفي بالفتح، وكان ذلك في صفر من هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين.
أخبار القرامطة في هذه السنة بعد استيلاء عسكر الخليفة على مصر، وتوجه محمد بن سليمان عنها، خرج ببلاد مصر خارجي يدعى الخلنجي، وقويت شوكته، فسار إِليه عامل دمشق، أحمد بن كيغلغ، وطمعت القرامطة في دمشق، بحكم غيبة عاملها، وقصدوها، فهبوا وقتلوا ونهبوا طبرية، ثم ساروا إِلى جهة الكوفة، فسير المكتفي إِليهم عسكراً مع قواده المختصين به، مثل رصيف بن صوار تكين التركي، والفضل ابن موسى بن بغا، وبشر الخادم الأفشيني، ورايق الجزري، فاقتتلوا، وتمت الهزيمة على عسكر الخليفة، فقتل منهم خلق كثير، وغنمت القرامطة منهم شيئاً كثيراً فتقووا به.
وفي هذه السنة توفي عبد الله بن محمد الناشئ الشاعر ونصر بن أحمد الحافظ. وفيها توفي أحمد الزنديق بن يحيى بن إِسحاق، المعروف بابن الراوندي المتكلم، صنف عدة كتب في الكفر والإِلحاد، ومناقضة الشريعة، منها قضيب الذهب، وكتاب اللامع، وكتاب الفرند، وكتاب الزمردة، وغير ذلك وقد أجاب العلماء عن كل ما قاله من معارضة القرآن العظيم، وغيره من كفرياته، وبينوا وجه فساد ذلك بالحجج البالغة، فمن قوله لعنه الله، في كتاب الزمردة: إِنّا نجد في كلام أكثم بن صيفي، ما هو أحسن من قوله: " إِنا أعطيناك الكوثر " وقال: إن الأنبياء وقعوا طلسمات، جذبوا بها دواعي الخلق، كما يجذب المغناطيس الحديد، ووضع كتاباً لليهود وللنصارى، يتضمن مناقضة دين الإسلام، وقال لليهود: قولا عن موسى ابن عمران أنه قال لا نبي بعدي، وقال في كتاب الفرند: إِن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن، الذي تحدى به النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تقدر العرب على معارضته، فيقال لهم: أخبرونا لو ادعى مُدع لمن تقدم من الفلاسفة، مثل دعواكم في القرآن فقال: الدليل على صدق بطليموس وإقليدس، أن إِقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه، كانت نبوته تثبت. وقال: قوله تعالى " إِن كيد الشيطان كان ضعيفاً " أي ضعف به، وقد أخرج آدم من الجنة، وله من هذا شيء كثير، أضربنا عن ذكره. وكان موته، لعنه الله، برحبة مالك بن طوق، وذكر أن عمره كان ستاً وثلاثين سنة، هكذا وجدت أخباره وتاريخ وفاته، في تاريخ القاضي شهاب الدين بن أبي الدم الحموي، وقد وجدته في تاريخ القاضي شمس الدين بن خلكان، أن وفاته كانت في سنة خمس وأربعين ومائتين، وقيل في سنة خمسين ومائتين، والله أعلم بالصواب.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائتين في هذه السنة أخذت القرامطة الحجاج من طريق العراق، وقتلوهم عن آخرهم، وكانت عدة القتلى عشرين ألفاً، وأخذوا منهم أموالاً عظيمة، وكان كبير القرامطة ذكرويه، فجهز المكتفي إليهم عسكراً، واقتتلوا، فانهزمت القرامطة، وقتل منهم خلق كثير، وأسر ذكرويه الملعون مجروحاً، فبقي ستة أيام ومات، وقدم العسكر برأسه إِلى بغداد وطيف به.
وفي هذه السنة توفي محمد بن نصر المروزي بسمرقند، وله تصانيف كثيرة.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين في هذه السنة في صفر توفي إِسماعيل بن أحمد بن أسد السماني، صاحب ما وراء النهر وخراسان، وولي بعده ابنه أبو نصر أحمد بن إِسماعيل وأرسل له المكتفي التقليد.
وفاة المكتفي في هذه السنة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، توفي المكتفي بالله أبو محمد علي بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق بالله أبي أحمد طلحة بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن هارون الرشيد، وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً، وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وكان ربعة جميلا، رقيق السمرة، حسن الوجه، والشعر، وافر اللحية، وأمه أم ولد تركية تدعى حجك، وطالت مرضته عدة شهور، ودفن في دار محمد بن طاهر.
خلافة المقتدر باللّه
أبي الفضل جعفر بن المعتضد باللّه
وأمه أم ولد يقال لها شعب، وهو ثامن عشرهم، بويع بالخلافة في اليوم الذي مات فيه المكتفي، وكان عمر المقتدر يوم بويع ثلاث عشرة سنة.
موت الترمذي وفيها في المحرم توفي أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي، الفقيه الشافعي المحدث، روى عن يحيى بن بدير المصري، ويوسف بن عدي، وكثيرين يحيى وغيرهم، وروى عنه أحمد بن كامل الشافعي وغيره، وكان مولد الترمذي المذكور، سنة مائتين، وقيل ست عشرة ومائتين.
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين.
خلع المقتدر ومبايعة ابن المعتز في هذه السنة خلع القواد والقضاة المقتدر، وبايعوا عبد الله بن المعتز، ولقبوه الراضي بالله، وجرت بين غلمان الدار المريدين للمقتدر، وبين المريدين لابن المعتز، حروب، وآخر ذلك أن عبد الله بن المعتز انهزم واختفى وتفرق أصحابه، ثم أمسك عبد الله بن المعتز، وحبس ليلتين، وقتل خنقاً، وأظهروا أنه مات حتف أنفه، وأخرجوه إلى أهله، وكان مولد عبد الله بن المعتز لسبع بقين من شعبان، سنة سبع وأربعين ومائتين، وكان فاضلا شاعراً، وتشبيهاته وأشعاره مشهورة، وأخذ العلم عن المبرد، وثعلب، وتولى الخلافة يوماً واحداً، وقال حين تولى: قد آن للحق أن يتضح، وللباطل أن يفتضح، له الكلام البديع فمن ذلك قوله: أنفاس الحمى خطاه إلى أجله، ربما أورد الطمع ولم يصدر، يشفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك. وكان عبد الله بن المعتز آمناً في سربه، منعكفاً على طلب العلم والشعر، قد اشتهر عند الخلفاء أنه لم يؤهل نفسه للخلافة، فكان مستريحاً، إِلى أن حمله على تولي الخلافة القوم الذين خذلوه بعد بيعته، وقد رثاه علي بن محمد بن بسام فقال:
لله درك من ملك بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لولا ولا ليت قتنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب
وقد روى عنه أنه كان يقول: إِنْ ولاني الله لأفنين جميع بني أبي طالب، فبلغ ذلك ولد علي فكانوا يدعون عليه.
أخبار أبي نصر زيادة الله
بن عبد الله بن إِبراهيم ابن أحمد بن محمد بن إِبراهيم بن الأغلب.
كان المذكور قد ملك إِفريقية، سنة تسعين ومائتين، في مستهل رمضان، بعد قتل أبيه، باتفاق من زيادة الله المذكور، فإِن زيادة الله كان قد حبسه أبو عبد الله، على شرب الخمر، فاتفق مع ثلاثة من خدم أبيه الصقالية، على قتل أبيه، فقتلوه في شعبان سنة تسعين ومائتين، وأحضروا رأسه إِلى زيادة الله في الحبس، فلما تولى زيادة الله، أمر بهم فقُتلوا، وهو الذي كان أمرهم بذلك، ولما تولى زيادة الله على إِفريقية، انعكف على اللذات، وملازمة المضحكين وأهمل أمور المملكة، وقتل من الأغالبة كل من قدر عليه، من أعمامه وأخوته.
وفي أيام زيادة الله، قوي أمر أبي عبد الله الشبعي، القائم بدعوة الدولة العلوية الفاطمية بالمغرب، فأرسل إليه زيادة الله جميع عسكره، وكانوا أربعين ألفاً، مع إِبراهيم من بني الأغلب، وهو من بني عمه، فهزمهم أبو عبد الله الشيعي، ولما رأى زيادة الله هزيمة عسكره وضعفه عن مقاومة أبي عبد الله الشيعي، جمع ما قدر عليه من الأموال، وسار عن ملكه إِلى الشرق في هذه السنة، فقدم مصر وبها النوشري عاملا، فكتب بأمره إِلى المقتدر، ثم سار زيادة الله إِلى الرقة، فأمره المقتدر بالعود إِلى المغرب، لقتال أبي عبد الله الشعبي، وكتب إِلى النوشري عامل مصر، يإِمداد زيادة الله بالعساكر والأموال، فقدم إِلى مصر، فأمره النَّوشري بالخروج إِلى الحمامات، ليخرج إِليه ما يحتاجه من الرجال والأموال، فخرج، ومطله النوشري، وزيادة الله مع ذلك، يلازم شرب الخمر واستماع الملاهي، وطال مقامه هناك، فتفرق عنه أصحابه، وتتابعت به الأمراض، وسقط شعر لحيته، وأيس من النَّوشري، فسار إِلى القدس للمقام به، فمات بالرملة ودفن بها، ولم يبق بالمغرب من بني الأغلب أحد، وكانت مدة ملكهم مائة سنة واثنتي عشرة سنة بالتقريب، لأنه قد تقدم أن الرشيد ولى إِبراهيم بن الأغلب على إِفريقية، في سنة أربع وثمانين ومائة، وانقضى ملكهم في هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين ومائتين، كان مدة ملك زيادة الله، إِلى أن هرب من الشيعي في هذه السنة، خمس سنين وتسعة أشهر وأياماً، فسبحان الذي لا يزول ملكه.
ابتداء الدولة العلوية الفاطمية وفي هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين ومائتين، كان ابتداء ملك الخلفاء العلويين إِفريقية، وانقرضت دولتهم بمصر، سنة سبع وستين وخمس مائة، على ما نذكره إِن شاء الله تعالى، وأول من ولِي منهم، أبو محمد عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إِسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وقيل: هو عبيد الله بن أحمد بن إِسماعيل الثاني بن محمد بن إِسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد اختلف العلماء في صحة نسبه. فقال القائلون بإمامته: إِن نسبه صحيح، ولم يرتابوا فيه، وذهب كثير من العلويين العالمين بالأنساب، إِلى موافقتهم أيضاً، ويشهد بصحته ما قاله الشريف الرضي.
ما مُقامي على الهوان وعندي ... مقولٌ صارمٌ وأنفٌ حمي
ألبِسَ الذل في بلاد الأعادي ... وبمصر الخليفة العلوي
مَنْ أبوه أبي ومولى مولا ... ي إِذا ضامني البعيد القصي
لف عرقي بعرقه سيد النا ... سِ جميعاً محمد وعلي
وذهب آخرون إلى أن نسبهم مدخول، ليس بصحيح، وبالغ طائفة منهم إِلى أن جعلوا نسبهم في اليهود، فقالوا: لم يكن اسم المهدي عبيد الله بل كان اسمه سعيد ابن أحمد بن عبد الله القداح بن ميمون بن ديصان، وقيل عبيد الله بن محمد، وقيل فيه سعيد بن الحسين، وأن الحسين المذكور قدم إِلى سلمية، فجرى بحضرته حديث النساء، فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد بسلمية، مات عنها زوجها فتزوجها الحسين بن محمد المذكور لابن أحمد بن عبد الله القداح المذكور. وكان للمرأة ولد من اليهودي، فأحبه الحسين وأدبه، ومات الحسين ولم يكن له ولد فعهد إِلى ابن اليهودي الحداد وهو المهدي عبيد الله وعرفه أسرار الدعوة وأعطاه الأموال والعلامات، فدعا له الدعاة، وقد اختلف كلام المؤرخين، وكثر في قصة عبد الله القداح بن ميمون بن ديصان المذكور، ونحن نشير إِلى ذلك مختصراً. قالوا: ابن ديصان المذكور، هو صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة، وكان يظهر التشيع لآل النبي صلى الله عليه وسلم، ونشأ لميمون بن ديصان ولد يقال له عبد الله القداح، لأنه كان يعالج العيون ويقدحها، وتعلم من ميمون أبيه الحيل، وأطلعه أبوه على أسرار الدعاة لآل النبي صلى الله عليه سلم، ثم سار عبد الله القداح، من نواحي كرج وأصفهان، إلى الأهواز والبصرة وسلمية، من أرض حمص، يدعو الناس إِلى آل البيت، ثم توفي عبد الله القداح وقام ابنه أحمد، وقيل محمد، مقامه، وصحبه إنسان يقال له رستم بن الحسين بن حوشب بن زادان النجار، من أهل الكوفة، فأرسله أحمد إلى الشيعة باليمن، وأن يدعو الناس إِلى المهدي من آل محمد صلى الله عليه وسلم، فسار رستم بن حوشب إِلى اليمن، ودعا الشيعة إِلى المهدي، فأجابوه، وكان أبو عبد الله الشيعي من أهل صنعاء وقيل من أهل الكوفة، وسمع بقدوم ابن حوشب إِلى اليمن، وأنه يدعو الناس إِلى المهدي، فسار أبو عبد الله الشيعي من صنعاء إِلى ابن حوشب، وكان بعَدن، فصحبه وصار من كبار أصحابه، وكان لأبي عبد الله الشيعي علم ودهاء، وكاَن قد أرسل ابن حوشب قبل ذلك، الدعاة إِلى المغرب، وقد أجابه أهل كتامة، ولما رأى ابن حوشب، علْمَ أبي عبد الله الشيعي ودهاه، أرسله إِلى المغرب، إِلى أهل كتامة، وأرسل معه جَملة من المال، فسار أبو عبد الله الشيعي إِلى مكة، وهو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا، ولما قدم الحجاج مكة، اجتمع بالمغاربة من أهل كتامة، فرآهم مجيبين إِلى ما يختار، فسار معهم إِلى أرض كتامة من المغرب، فقدمها منتصف ربيع الأول، سنة ثمانين ومائتين، وأتاه البربر من كل مكان، وعظم أمره، وكان اسمه عندهم: أبا عبد الله المشرقي. وبلغ أمره إِلى إِبراهيم بن أحمد الأغلبي أمير إِفريقية إِذ ذاك، فاستصغر أمر أبي عبد الله، واستحقره، ثم مضى أبو عبد الله إِلى مدينة تاهرت، فعظم شأنه، وأتته القبائل من كل مكان، وبقي كذلك حتى تولى أبو نصر زيادة الله، آخر من ملك من بني الأغلب، وكان عم زيادة الله، ويعرف بالأحول، قبالة أبي عبد الله الشيعي، يقاتله، فلما تولى زيادة الله، أحضر عمه الأحول وقتله، فصفت البلاد لأبي عبد الله الشيعي.
اتصال المهدي عُبيد الله بأبي عبد اللّه الشيعي
كانت الدعاة بالمغرب يدعون إِلى محمد، والد المهدي، وكان بسلمية، فلما توفي أوصى إِلى ابنه عبيد الله المهدي، وأطلعه على حال الدعاة وشاع ذلك أيام المكتفي، فطلب، فهرب عبيد الله، وابنه أبو القاسم محمد، الذي ولي بعد المهدي، وتلقب بالقاَئم، وتوجها نحو المغرب، ووصل عبيد الله المهدي إِلى مصر في زي التجار، وكان عامل مصر حينئذ عيسى النّوشري، وقد كنت إليه الخليفة، بتطلب عبيد الله المهدي، والتوقع عليه، فَجَد المهدي في الهرب، وقدم طرابلس الغرب، وزيادة الله بن الأغلب متوقع عليه، وقد كتب إِلى عماله بإمساكه متى ظفروا به، فهرب من طرابلس، ولحق بسجلماسة فأقام بها. وكان صاحب سجلماسة يسمى اليسع بن مدرار، فهاداه المهدي، على أنه رجل تاجر، قد قدم إلى تلك البلاد، فوصل كتاب زيادة الله إِلى اليسع، يعلمه أن هذا الرجل، هو الذي يدعو له عبد الله الشيعي إِليه، فقبض اليسع على عبيد الله المهدي، وحبسه بسجلماسة، ولما كان من قتل زيادة الله عمه الأحول، وهرب زيادة الله، واستيلاء أبي عبد الله الشيعي على إِفريقية ما قدمنا ذكره، سار أبو عبد الله الشيعي من رقادة في رمضان من هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين ومائتين، إِلى سجلماسة، واستخلف أبو عبد الله الشيعي أخاه أبا العباس، وأبا زاكي على إفريقية. فلما قرب من سجلماسة، خرج صاحبها اليسع وقاتله، فرأى ضعفه عنه، فهرب اليسع تحت الليل، ودخل أبو عبد الله الشيعي إِلى سجلماسة، وأخرج المهدي وولده من السجن، وأركبهما ومشى هو ورؤوس القبائل بين أيديهما، وأبو عبد الله يشير إلى المهدي ويقول للناس: هذا مولاكم، وهو يبكي من شدة الفرح، حتى وصل إلى فسطاط، قد نصب له، ولما استقر المهدي فيه، أمر بطلب اليسع صاحب سجلماسة، فأدرك وأحضر بين يديه، فقتله، وأقام المهدي بسجلماسة أربعين يوماً، وسار إِلى إفريقية، ووصل إِلى رقادة، في ربيع الآخر، سنة سبع وتسعين ومائتين، فدون الدواوين، وجبى الأموال، وبعث العمال إِلى سائر بلاد المغرب، واستعمل على جزيرة صقلية الحسن ابن أحمد بن أبي حفتزير، وزال بملك المهدي ملك بني الأغلب، وملك بني مدرار أصحاب مملكة سجلماسة، وكان آخر بني مدرار اليسع، وكان مدة ملك بني مدرار مائة سنة وثلاثين سنة، وزال ملك بني رستم من تاهرت، وكانت مدة ملكهم مائة سنة وستين سنة.
قتل أبي عبد اللّه الشيعي أخيه أبي العباس لما استقرت قدم المهدي في المملكة، باشر الأمور بنفسه، ولم يبق لأبي عبد الله، ولأخيه أبي العباس مع المهدي حكم، والفطام صعب، فشرع أبو العباس أخو أبي عبد الله الشيعي يندّم أخاه ويقول له: أخرجت الأمر عنك، وسلمته لغيرك. وأخوه ينهاه عن قول مثل ذلك، إِلى أن أحنقه، وذلك يبلغ المهدي، حتى شرع يقول لرؤوس القبائل: ليس هذا المهدي الذي دعوناكم إِليه. فطلبهما المهدي وقتلهما، كذا أورد ابن الأثير في الكامل، مقتل أبي عبد الله الشيعي المذكور في سنة ست وتسعين ومائتين، ورأيت مقتل أبي عبد الله في الجمع والبيان في تاريخ القيروان أنه كان في نصف جمادى الأولى، سنة ثمان وتسعين ومائتين، وهو الأصح عندي. وكذلك ذكر في تاريخ مقتله ابن خلكان، أنّه كان في سنة ثمان وتسعين ومائتين.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين، وسنة ثمان وتسعين ومائتين فيها توفي أبو القاسم جنيد بن محمد الصوفي، وكان إمام وقته، وأخذ الفقه عن أبي ثور صاحب الشافعي، وأخذ التصوف عن سري السقطي.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين في هذه السنة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسين بن الفرات، ونهب داره، وهتك حرمه، وولى الوزارة أبا علي محمد ابن يحيى بن عبيد الله ابن خاقان، وكان الخاقان المذكور ضجوراً، وتحكمت عليه أولاده، فكل منهم يسعى لمن يرتشي منه، فكان يولي العمل الواحد عدة من العمال في الأيام القليلة، حتى أنه ولى ماء الكوفة، في عشرين يوماً، سبعة من العمال، فقيل فيه:
وزير قد تكامل في الرقاعه ... يولي ثم يعزل بعد ساعه
إذا أهل الرشا اجتمعوا عليه ... فخير القوم أوفرهم بضاعه
والخليفة مع ذلك، يتصرف على مقتضى إِشارة النساء والخدام، ويرجع إِلى قولهم وآرائهم، فخرجت الممالك، وطمع العمال في الأطراف. وفي هذه السنة توفي أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان النحوي، وكان عالماْ بنحو البصريين والكوفيين. وفيها توفي إِسحاق بن حنين الطبيب.
ثم دخلت سنة ثلاثمائة فيها عزل المقتدر الخاقاني عن الوزارة، وولاها علي بن عيسى.
وفاة عبد الله صاحب الأندلس في هذه السنة، توفي عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام ابن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، طريد رسول الله صلى الله عيه وسلم، في ربيع الأول، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وكان أبيض، أصهب، أزرق، ربعة، يخضب بالسراد، وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة وكسراً، لأنه تولى في سنة خمس وسبعين ومائتين، ورزق إِحدى عشر ولداً ذكراً، أحدهم محمد المقتول، قتله أبوه المذكور، في حد من الحدود، وهو والد عبد الرحمن الناصر. ولما توفي عبد الله، ولى ابن ابنه واسمه عبد الرحمن بن محمد المقتول بن عبد الله المذكور، وتولى عبد الرحمن بحضرة أعمامه، وأعمام أبيه، ولم يختلفوا عليه، وهذا عبد الرحمن، هو الذي يسمى الناصر فيما بعد.
ثم دخلت سنة إِحدى وثلاثمائة.
مقتل أحمد الساماني في هذه السنة قتل الأمير أحمد بن إِسماعيل الساماني، صاحب خراسان وما وراء النهر، ذبحه بالليل جماعة من غلمانه على سريره، وهربوا ليلة الخميس، لسبع بقين من جمادى الآخرة، وكان قد خرج إلى البر متصيداً، فحمل إِلى بخارى ودفن بها، وظفروا ببعض أولئك الغلمان فقتلوهم، وولي الأمر بعده، ولده أبو الحسن نصر ابن أحمد، وهو ابن ثمان سنين.
قتل كبير القرامطة وفي هذه السنة قتل أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، كبير القرامطة، قتله خادم له صقلبي، في الحمام، ولما قتله، استدعى رجلا آخر من أكابر رؤسائهم، وقال له: إِن الرئيس يستدعيك، فلما دخل قتله، وفعل كذلك بغيره، حتى قتل أربعة أنفس من كبرائهم، ثم علموا به فاجتمعوا عليه وقتلوه، وكان أبو سعيد الجنابي، قد جعل ولده سعيداً الأكبر ولي عهده، فتولى بعده، وعجز عن القيام بالأمر، فغلبه أخوه الأصغر، أبو طاهر سليمان، وكان شهماً شجاعاً، واستولى على الأمر، ولما قتل أبو سعيد، كان مسستولياً على هجر والأحساء والقطيف وسائر بلاد البحرين.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، سير المهدي العلوي جيشاً مع ولده أبي القاسم محمد، إلى ديار مصر، فاستولى على الإسكندرية، والفيوم، فسيّر إليهم المقتدر، مع مؤنس الخادم جيشاً، فأجلاهم عن ديار مصر، وعادوا إِلى المغرب، وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد المقري الثقفي. وفيها توفي محمد بن يحيى بن مندة الحافظ المشهور، صاحب تاريخ أصفهان، كان أحد الحفاظ الثقاة، وهو من أهل بيت كبير، خرج منه جماعة من العلماء.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثمائة في هذه السنة، قبض المقتدر على الحسين بن عبد الله، المعروف بابن الجصاص الجوهري، وأخذ منه من صنوف الأموال ما قيمته أربعة آلاف ألف دينار، وأكثر من ذلك، وفي هذه السنة أرسل المهدي العلوي، جيشاً مع مقدم يقال له جاشه في البحر، فاستولى على الإسكندرية، وأرسل المقتدر جيشاً مع مؤنس الخادم، فاقتتلوا بين مصر والإسكندرية أربع دفعات، انهزمت فيها المغاربة، وعادوا إلى بلادهم، وقتل من الفريقين خلق كثير. وفي هذه السنة انتهى تاريخ أبي جعفر الطبري. وفيها، وقيل في السنة التي قبلها، توفي علي بن أحمد بن منصور، الشاعر المعروف بالبسامي، وكان من أعيان الشعراء، كثير الهجاء، هجا أباه وأخوته وأهل بيته، وعمل في القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد.
قل لأبي القاسم المرزي ... قاتلك الدهر بالعجائبِ
مات لك ابن وكان زينا ... وعاش ذو الشين والمعايبِ
حياة هذا كموتِ هذا ... فلستَ تخلو منَ المصائب
وله في المتوكل لما هدم قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما، ومنع الناس من زيارته.
تالله إِن كانت أمية قد أتت ... قتيل ابن بنت نبيها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله ... هذا لعمرك قبره مهدوما
أسِفوا على أن لا يكونوا شاركوا ... في قتله فتتبعوه رميما
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة.
بناء المهدية في هذه السنة، اختار المهدي موضع المهدية على ساحل البحر، وهو جزيرة متصلة بالبر، كهيئة كفّ متصلة بزند، فبناها وجعلها دار ملكه، وجعل لها سوراً محكماً، وأبواباً عظيمة، وزن كل مصراع مائة قنطار، وكان ابتداء بنائها يوم السبت في هذه السنة، لخمس خلون من ذي القعدة، ولما تم بناؤها قال المهدي: الآن أمنت على الفاطمية بحصانتها وفي هذه السنة أغارت الروم على الثغور الجزرية، فغنموا وسبوا. وفي هذه السنة توفي أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب النسائي صاحب كتاب السنن بمكة، ودفن بين الصفا والمروة، وكان إماماً حافظاً محدثاً، رحل إلى نيسابور، ثم إِلى العراق، ثم إِلى الشام ومصر، ثم عاد إلى دمشق، فامتحن في معاوية، وطُلب منه أن يروى شيئاً من فضائله، فامتنع وقال: ما يرضى معاوية أن يكون رأساً برأس، حتى يفضل. فقيل إنه وقع في حقه مكروه، وحمل إِلى مكة فتوفي بها. وفيها توفي أبو علي محمد بن عبد الوهاب المعتزلي.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة فيها توفي الناصر العلوي صاحب طبرستان وعمره تسع وسبعون سنة، وكان يقال له الأطروش. واسمه الحسن بن علي بن الحسن بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وكان قد ملك طبرستان في سنة إِحدى وثلاثمائة، واستولى على مملكتها، ثم قام بعد الناصر المذكور، الحسن بن القاسم العلوي، ويلقب بالداعي، وقتل في سنة ست عشرة وثلاثماثة، وانقرض بموته ملك العلويين من طبرستان. وفيها توفي يوسف ابن الحسين بن علي الرازي، صاحب ذي النون المصري وهو صاحب قصة الغار معه.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثمائة في هذه السنة مات أبو جعفر محمد بن عثمان العسكري، المعروف بالسمان، ويعرف أيضاً بالعمري، رئيس الإمامية. وكان يدعي أنه الباب إِلى الإمام المنتظر. وفيها قدم رسول ملك الروم إلى بغداد، فلما استحضروا عبئ لهم العسكر وصفت الدار بالأسلحة، وأنواع الزينة، وكان جملة العسكر المصفوف حينئذ مائة ألف وستين ألفاً، ما بين راكب وواقف ووقف الغلمان الحجرية بالزينة والمناطق المحلاة، ووقف الخدام الخصيان كذلك كانوا سبعة آلاف، أربعة آلاف خادم أبيض وثلاثة آلاف أسود، ووقف الحجاب كذلك، وهم حينئذ سبع مائة حاجب، وألقيت المراكب والزوارق في دجلة بأعظم زينة، وزينت دار الخلافة، فكانت الستور المعلقة عليها ثمانية وثلاثين ألف ستر، منها ديباج مذهبة اثنا عشر ألفاً وخمس مائة، وكانت البسط اثنين وعشرين ألفاً، وكان هناك مائة سبع، مع مائة سباع، وكان في جملة الزينة، شجرة من ذهب وفضة، تشتمل على ثمانية عشر غصناً، وعلى الأغصان والقضبان الطيور والعصافير من الذهب والفضة، وكذلك أوراق الشجرة من الذهب والفضة، والأغصان تتمايل بحركات موضوعة، والطيور تصفر بحركات مرتبة، وشاهد الرسول من العظمة ما يطول شرحه، وأحضر بين يدي المقتدر، وصار الوزير يبلغ كلامه إِلى الخليفة، ويرد الجواب عن الخليفة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة في هذه السنة جعل على شرطة بغداد نجح الطولوني فجعل في الأرباع فقهاء، يكون عمل أصحاب الشرطة بفتواهم، فضعفت هيبة السلطنة بسبب ذلك، فطمع اللصوص والعيارون، وأخذت ثياب الناس في الطرق المنقطعة، وكثرت الفتن.
إرسال المهدي العلوي ابنه القائم بعساكر إِفريقية إِلى مصر وفي هذه السنة جهز المهدي جيشاً كثيفاً مع ابنه القائم إِلى مصر فوصل إِلى الإسكندرية، واستولى عليها، ثم سار حتى دخل الجيزة، وملك أشمونين، وكثيراً من الصعيد، وبعث المقتدر مؤنساٌ الخادم، فوصل إِلى مصر، وجرى بينه وبين القائم عدة وقعات، ووصل إِلى الإسكندرية من إِفريقية ثمانون مركباً نجدة للقائم، وأرسل المقتدر مراكب من طرسوس، إِلى قتال مراكب القائم، وكانت خمسة وعشرين مركباً، فالتقت المراكب المراكب على رشيد، واقتتلوا، واقتتلت العساكر في البر، وكانت الهزيمة على عسكر المهدي ومراكبه، فعادوا إِلى إِفريقية بعد أن قتل منهم وأُسر.
وفي هذه السنة توفي القاضي محمد بن خلف بن حيان الضبي المعروف بوكيع، وكان عالماً بأخبار الناس، وله تصانيف حسنة. وفيها في جمادى الأولى توفي الإمام أبو العباس أحمد بن سريج الفقيه الشافعي، وكان من عظماء الشافعية، وأئمة المسلمين، وكان يقال له الباز الأشهب، وولي القضاء بشيراز، وبلغت مصنفاته أربع مائة مصنف، ومنه انتشر مذهب الشافعي في الآفاق، وكان يقال في عصره، إِن الله أظهر عمر بن عبد العزيز على رأس المائة من الهجرة، وأحيى كل سنة، وأمات كل بدعة، ثم منّ الله على الناس بالشافعي على رأس المائتين. فأظهر السنة، وأخفى البدعة، ومن اللّه على رأس الثلاثمائة بابن سريج، فقوّى كل سنْة، وضعف كل بدعة، وكان جده سريج رجلا مشهوراً بالصلاح.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائة.
انقراض دولة الأدارسة العلويين من كتاب المغرب في أخبار أهل المغرب أن دولتهم انقرضت غي هذه السنة، أقول: كنا سقنا أخبارهم إِلى محمد بن إِدريس بن إِدريس في سنة أربع عشرة ومائتين، وأن محمداً المذكور لما تولى، فرّق غالب بلاده على أخوته، حسبما قدمنا ذكره في السنة المذكورة، وأنه أعطى أخاه عمر صنهاجة وغمارة، وبقي محمد هو الإمام حتى توفي، ولم يقع لنا تاريخ وفاته، فلما مات محمد ملك بعده ابن أخيه علي بن عمر المذكور ابن إِدريس بن إِدريس، وكانت إِمامة علي المذكور مضطربة، لم يتم له فيها أمر، فخلع عن قرب، وولي بعده ابن أخيه يحيى بن إِدريس عمران إدريس ابن إدريس، وهذا يحيى هو آخر أمتهم بفاس، وانقرضت دولتهم في هذه السنة، أعني سنة سبع وثلاثمائة، وتغلب عليهم فضالة بن جبوس، ثم ظهر من الأدارسة حسن بن محمد بن القاسم بن إِدريس بن إِدريس، ورام رد الدولة، وقد أخذت في الاختلال، ودولة المهدي عبيد الله في الإقبال، فملك عامين، ولم يتم له مطلب، وانقرضت دولتهم من جميع المغرب الأقصى، وحمِل غالب الأدارسة إلى المهدي المذكور، وولده، الأمن اختفى منهم في الجبال إِلى أن ثار بعد الأربعين والثلاثمائة إِدريس من ولد محمد بن القاسم بن إِدريس، فأعاد الإمامة لهذا البيت، ثم تغلب على بر العدوة، عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر، وخطب في تلك البلاد لبني أمية، ثم رجع عبد الملك إلى الأندلس، فاضطربت ببر العدوة دولته، فتغلب على قاس بنو أبي العافية، الزناتيون، حتى ظهر يوسف بن تاشفين، أمير المسلمين، واستولى على تلك البلاد.
ثم دخلت سنة ثمان وسنة تسع وثلاثمائة.
مقتل الحُسين بن منصور الحلاج
كان الحسين بن منصور الحلاج الصوفي، يظهر الزهد والتصوف، ويظهر الكرامات، ويخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمد يده إِلى الهواء، ويعيدها مملوءة دراهم، عليها مكتوب قل هو الله أحد، ويسميها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما أكلوه، وما صنعوه في بيوتهم، ويتكلم بما في ضمائرهم، فافتتن به خلق كثير، واعتقدوا فيه الحلول، واختلف الناس فيه، كاختلافهم في المسيح، فمن قائل إِنه قد حلّ فيه جزء إِلهي، ومن قائل إِنه ولي، وما يظهر منه كراماته، ومن قائل إِنه مشعبذ ومتكهن وساحر كذاب. وقدم من خراسان إلى العراق، وسار إِلى مكة، وأقام بها سنة في الحجر، لا يستظل تحت سقف، وكان يصوم الدهر، وكان يفطر على ماء، ويأكل ثلاث عضات من قرص حَسْب، ولا يتناول شيئاً آخر، ثم عاد الحسين إِلى بغداد، فالتمس حامد الوزير، من المقتدر، أن يسلم إِليه الحلاج، فأمر بتسليمه إِليه، وكان حامد يخرج الحلاج إِلى مجلسه، ويستنطقه، فلا يظهر منه ما تكرهه الشريعة، وحامد الوزير مجد في أمره ليقتله، وجرى له معه ما يطول شرحه، وفي الآخر إِن الوزير رأى له كتاباً، حكى فيه أن الإنسان إِذا أراد الحج، ولم يمكنه، فرد من داره بيتاً نظيفَاً من النجاسات، ولا يدخله أحد، وإذا حضرت أيام الحج، طاف حوله، وفعل ما يفعله الحجاج بمكة، ثم يجمع ثلاثين يتيماً، ويعمل أجود طعام يمكنه، ويطعمهم في ذلك البيت، ويكسوهم، ويعطي كل واحد منهم سبعة دراهم، فإِذا فعل ذلك كان كمن حج، فأمر الوزير بقراءة ذلك قدام القاضي أبي عمرو، فقال القاضي للحلاج: من أين لك هذا؟ فقال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري فقال له القاضي: كذبت. يا حلال الدم، قد سمعناه بمكة، وليس فيه هذا، فطالب الوزير القاضي أبا عمرو أن يكتب خطه بما قاله، أنه حلاّل الدم، فدافعه القاضي، ثم ألزمه الوزير، فكتب بإباحة دم الحلاج، وكتب بعده من حضر المجلس، فلما سمع الحلاج ذلك قال: ما يحل لكم دمي وديني الإسلام، ومذهبي السنة، ولي فيها كتب موجودة، فالله الله في دمي، وكتب الوزير إِلى الخليفة يستأذنه في قتله، وأرسل الفتاوي بذلك، فأذن المقتدر في قتله، فضرب ألف سوط، ثم قطعت يده، ثم رجله، ثم قتل وأحرق بالنار، ونصب رأسه ببغداد.
وفي هذه السنة توفي أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطا الصوفي، من كبار مشايخهم وعلمائهم، وإبراهيم بن هارون الحراني الطبيب.
ثم دخلت سنة عشر وثلاثمائة في هذه السنة توفي أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ببغداد، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين بأم طبرستان، وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصبراً بالمعاني، وكان من المجتهدين، لم يقلد أحداً، وكان فقيهاً عالماً عارفاً بأقاويل الصحابة والتابعين، ومن بعدهم. وله التاريخ المشهور، ابتدأ فيه من أول الزمان، إلى آخر سنة اثنتين وثلاثمائة، وكتاب في التفسير لم يفسر مثله، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، ولما مات تعصبت عليه العامة، ورموه بالرفض، وما كان سببه إِلا أنه صنف كتاباً فيه اختلاف الفقهاء، ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فقيل له في ذلك فقال: لم يكن أحمد بن حنبل فقيهاً، وإنما كان محدثاً، فاشتد ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد، فشنعوا عليه بما أرادوه.
وفيها توفي في ذي الحجة أبو بكر محمد بن السري بن سهل النحوي، المعروف بابن السراج، كان أحد الأئمة المشاهير، أخذ العلم عن أبي العباس المبرد، وأخذ عنه النحو جماعة، منهم أبو سعيد السيرافي، وعلي بن عيسى الرماني، وغيرهما، ونقل عنه الجوهري في الصحاح، في مواضع عديدة، وله عدة مصنفات مشهورة. وكان مع كمال فضائله يلثغ في الراء، يجعلها غيناً، فأملى كلاماً يوماً بالراء، فكتبوه بالغين، فقال: لا بالغين بل بالغاء، وجعل يكررها على هذه الصورة، والسراج نسبة إلى عمل السروج، وقيل كانت وفاته في سنة خمس عشرة وثلاثمائة. ثم دخلت سنة إِحدى عشرة وثلاثمائة وفي هذه السنة كبست القرامطة، وكبيرهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجاني، البصرة ليلاْ، وعلوا على أسوارها، وقتلوا عاملها، وأقاموا بها سبعة عشر يوماً، يقتلون ويحملون منها الأموال. وفي هذه السنة توفي أبو محمد أحمد بن محمد بن محمد بن الحسين الجُريري، بضم الجيم، وهو من مشاهير مشايخ الصوفية، وإبراهيم بن السري الزجاج النحوي، صاحب كتاب معاني القرآن.
وفيها توفي محمد بن زكريا الرازي الطبيب المشهور، وكان في شبيبته يضرب بالعود، فلما التحى قال: كل غناء يخرج من بين شارب ولحية لا يستحسن، فتركه وأقبل على دراسة كتب الطب والفلسفة، وقد جاوز الأربعين سنة، وطال عمره، وبلغ في معرفة العلوم التي اشتغل فيها الغاية، وصار إِمام وقته في علم الطب، والمشار إِليه، وصنف في الطب كتباً نافعة، فمنها الحاوي في مقدار ثلاثين مجلداً، وكتاب المنصوري وهو كتاب مختصر نافع، صنفه لبعض الملوك السامانية، ملوك ما وراء النهر.
ثم دخلت سنة اثني عشرة وثلاثمائة في هذه السنة أخذ أبو طاهر القرمطي، الحجاج، وأخذ منهم أموالا عظيمة، وهلك أكثرهم بالجوع والعطش.
وفي هذه السنة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسن بن الفرات، ثم سعوا في قتله، فأمر بقتله فذبح هو وولده المحسن، وكان عمر ابن الفرات إِحدى وسبعين سنة، وكان عمر ولده المحسن ثلاثاً وثلاثين سنة، واستوزر المقتدر بعده أبا القاسم الخاقاني.
غير ذلك وفيها سار أبو طاهر القرمطي إِلى الكوفة، ودخلها بالسيف، وقتل فيها، وحمل منها شيئاً كثيراً، وأقام ستة أيام يدخل الكوفة نهاراً، ويخرج منها إِلى عسكره، ليلاً، وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال والثياب.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة في هذه السنة توفي عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، وكان عمره مائة سنة وسنتين، وفيها توفي علي بن محمد بن بشار الزاهد.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة في هذه السنة قلد المقتدر، يوسف ابن أبي الساج نواحي المشرق، وأمره بالمسير إِلى واسط، لمحاربة القرامطة، وكان يوسف المذكور بأذربيجان، فسار إِلى واسط لمحاربة القرامطة. وفي هذه السنة استولى نصر بن أحمد الساماني على الري، ومرض بها ثم سار عنها.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة.
أخبار القرامطة ومقتل ابن أبي السّاج في هذه السنة وصلت القرامطة إِلى الكوفة، فسار إِليهم يوسف بن أبي الساج من واسط، بعسكر ضخم، تقدير أربعين ألفاً، وكانت القرامطة ألفاً وخمس مائة رجل، منهم سبع مائة فارس، وثمان مائة راجل، فلما رآهم أبو الساج احتقرهم، وقال: صدروا الكتب إِلى الخليفة بالفتح، فهؤلاء في يدي، واقتتلوا، فحملت القرامطة، فانهزم عسكر الخليفة، وأخذ يوسف بن أبي الساج مقدم العسكر أسيراً، ثم قتله أبو طاهر القرمطي، واستولى على الكوفة، وأخذ منها شيئاً كثيراً ثم جهز المقتدر إِلى القرامطة مؤنساً الخادم في عساكر كثيرة، فانهزم أكثر العسكر منهم قبل الملتقى، ثم التقوا، فانهزمت عساكر الخليفة، ووقع الجفل في بغداد خوفاً من القرامطة، ونهب القرامطة غالب البلاد الفراتية، ثم عادوا إلى هجر بالغنائم.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، ظفر عبد الرحمن الناصر بن محمد الأموي صاحب الأندلس، بأهل طليطلة، بعد حصارها مدة، لخلافهم عليه، وأخرب كثيراً من عمارتها.
ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة في هذه السنة دخلت القرامطة إِلى الرحبة، فنهبوا وسبوا ثم ساروا إِلى الرقة، فنهبوا ربضها، ثم ساروا إِلى سنجار فنازلوها، وطلب أهلها الأمان فأمنوهم، ثم نهبوا الجبال وغيرها من البلاد، وعادوا إِلى هجر. وفي هذه السنة عزل المقتدر علي بن عيسى الوزير، وقبض عليه، وولى الوزارة أبا علي بن مقلة.
ابتداء أمر مرداويج وكان قد استولى على جرجان، أسفار بن شيرويه، سنة خمس عشرة وثلاثمائة وكان في أصحاب أسفار، قائد من أكبر قواده، يقال له مرداويج بن زيار، من الديلم. فخرج مرداويج على أسفار، بعد أن بايع غالب العسكر في الباطن، فهرب أسفار، فطلبه مرداويج فأدركه وقتله، وابتدأ مرداويج في ملك البلاد من هذه السنة، فملك قزوين، ثم ملك الري، وهمدان، وكنكور، والدينور، وبروجرد، وقم، وقاشان، وأصفهان، وجرباذقان، وعمل له سريراً من ذهب، يجلس عليه، ويقف عسكره صفوفاً بالبعد عنه، ولا يخاطبه أحد إِلا الحجاب، الذين قد رتبهم لذلك، ثم استولى مرداويج على طبرستان.
غير ذلك في هذه السنة، وصل الدمستق في جيش كبير من الروم، وحصر أخلاط، فطلبوا الصلح، فأجابهم على أن يقلع منبر الجامع، ويعمل موضعه صليباً، فأجابوا إِلى ذلك، وأخرجوا المنبر وجعلوا مكانه الصليب، ورحل إِلى بدليس، ففعل بهم كذلك، والدمستق اسم للنائب على البلاد التي في شرقي خليج قسطنطينية. وفيها مات يعقوب بن إسحاق بن إِبراهيم الإسفراييني، وله مسند مخرج على صحيح مسلم.
وكنيته أبو عوانة الحافظ، طاف البلاد في طلب الحديث، سمع مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، وغيره من أئمة الحديث.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة.
؟خلع المقتدر في هذه السنة خلع المقتدر بالله من الخلافة، بسبب ما أنكره الجند والقواد عليه، من استيلاء النساء والخدام على الأمور، وكثرة ما أخذوا من الأموال والضياع، وانضم إِلى ذلك وحشة مؤنس الخادم. من المقتدر، فاجتمعت العساكر إِلى مؤنس، وقصدوا دار الخلافة، وأخرجوا المقتدر، ووالدته، وخالته، وخواص جواريه، وأولاده، من دار الخلافة، وحملوا إِلى دار مؤنس واعتقلوا بها، وأحضروا أخاه محمد بن المعتضد وبايعوه ولقبوه القاهر بالله، بعد أن ألزموا المقتدر بأن يشهد عليه بالخلع، فأشهد عليه القاضي أبا عمرو، بأنه خلع نفسه، ونهبت دار الخلافة، واستخرجوا من قبر في تربة بنتها أم المقتدر، ستمائة ألف دينار.
عودة المقتدر إلى الخلافة فلما كان يوم الاثنين، سابع عشر المحرم، ثالث يوم خلع المقتدر، بكر الناس إِلى دار الخلافة، حتى امتلأت الرحاب، لأنه يوم موكب، ولم يحضر مؤنس المظفر ذلك اليوم، وحضرت الرجال المصافية بالسلاح، يطالبون بحق البيعة، وارتفعت زعقاتهم، فخرج من عند القاهر ياروك، ليطيب خواطرهم، فرأى في أيديهم السيوف المسلولة، فخافهم فرجع، وتبعوه فقتلوه في دار الخلافة، وصرخوا: يا مقتدر يا منصور، وهجموا على القاهر، فهرب واختفى، وتفرق عنه الناس، ولم يبق بدار الخلافة أحد، ثم قصد الرجالة دار مؤنس الخادم، وطلبوا المقتدر منه، فأخرجه وسلمه إِليهم، فحمله الرجالة على رقابهم حتى أدخلوه إلى دار الخلافة، ثم أرسل المقتدر خلف أخيه القاهر بالأمان وأحضره، وقال: قد علمت أنه لا ذنب لك، وقيل بين عينه وأمنه، فشكر إحسانه. ثم حبس القاهر عند والدة المقتدر، فأحسنت إليه ووسعت عليه، واستقر المقتدر في الخلافة، وسكنت الفتنة، وكان أشار مؤنس إعادة المقتدر إِلى الخلافة، وإنما خلعه موافقة للعسكر.
ما فعله القرامطة بمكة وأخذهِم الحجر الأسود وفي هذه السنة، وافى أبو طاهر القرمطي مكة، يوم التروية، وكان الحجاج قد وصلوا إِلى مكة سالمين، فنهب أبو طاهر أموال الحجاج وقتلهم، حتى في المسجد الحرام وداخل الكعبة، وقلع الحجر الأسود من الركن، ونقله إلى هجر، وقتل أمير مكة ابن محلب وأصحابه، وقلع باب البيت، وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب فسقط فمات، وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن الباقين في المسجد الحرام، حيث قتلوا، وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه.
غير ذلك من الحوادث
وفي هذه السنة وقع بسبب تفسير قوله تعالى " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودًا " " الإسراء: 70 " ببغداد فتنة عظيمة بين الحنابلة وغيرهم، ودخل فيها الجند والعامة، واقتتلوا، فقتل بينهم قتلى كثيرة، فقال أبو بكر المروزي الحنبلي وأصحابه: إِن معنى ذلك أن الله تعالى يقعد النبي صلى الله عليه وسلم معه على العرش، وقالت الطائفة الأخرى: إِنما هي الشفاعة، فاقتتلوا بسبب ذلك.
وفي هذه السنة توفي محمد بن جابر بن سنان الحراني الأصل، البتاني الحاسب، المنجم المشهور، صاحب الزيج الصابي، واسمه يدل على إسلامه، وكذلك خطبته في زيجة، قال ابن خلكان: ولم أعلم أنه أسلم، وله الأرصاد المتقنة، وابتدأ بالرصد قي سنة أربع وستين ومائتين، إلى سنة ست وثلاثمائة وأثبت الكواكب الثابتة في زيجة لسنة تسع وتسعين ومائتين، وزيجة نسختان: أولى وثانية، والثانية أجود، والبتاني بفتح الباء الموحدة من تحتها، وقيل بكسرها نسبة إلى بتان، وهي ناحية من أعمال حران. وفيها توفي نصر بن أحمد بن نصر البصري، المعروف بالخبزأرزي، الشاعر المشهور، كان أديباً راوية للشعر، وكان أمياً لا يعرف أن يتهجا، ولا يكتب، وكان يخبز خبز الأرز، بمربد البصرة، وله الأشعار الفائقة منها:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأحسن مِنْ مولى تمشى إلى عبد
أتى زائري من غير وعد وقال لي ... أجلك عن تعليق قلبك بالوعد
فما زال نجم الوصل بيني بينه ... يدور بأفلاك السعادة والسعد
فطوراً على تقبيل نرجس ناظر ... وطوراً على تقبيل تفاحة الخد
ثم دخلت سنة ثماني عشرة وثلاثمائة في هذه السنة أخرجت الرجالة المصافية من بغداد، فإِنهم استطالوا بالكلام والفعل، من حين أعادوا المقتدر إِلى الخلافة، فجرى بينهم وبين الجند وقعة، وقتل بينهم قتلى، فهربت الرجالة المصافية إلى واسط، واستولوا عليها، فسار إِليهم مؤنس الخادم، وقتل منهم وشردهم. وفيها وقيل بل في السنة التي قبلها، توفي أبو بكر الحسن بن علي بن أحمد بن بشار، المعروف بابن العلاف، الضرير النهرواني، وقد بلغ عمره مائة سنة، وهو ناظم مراثي الهر المشهورة التي منها:
يا هر فارقتنا ولم تعد ... وكنت منا بمنزل الولدِ
وكان قلبي عليك مرتعداً ... وأنت تنساب غير مُرتعدِ
تدخل برجٍ الحمام متئدا ... وتبلع الفرخ غير متئدِ
صادوك غيظاً عليك وانتقموا ... منك، وزادوا ومن يصد يُصدِ
ولم تزل للحمام مرتصدا ... حتى سقيت الحمام بالرصد
يا من لذيذُ الفراخ أوقعه ... ريحك هلا قنعت بالغددَ
لا بارك الله في الطعام إِذا ... كان هلاك النفوس في المعدَ
كم دخلت لقمة حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسدَ
ما كان أغناك عن تسلقك ال ... برج ولو كان جنة الخلدِ
وهي قصيدة طويلة مشهورة، واختلف في سبب عملها، فقيل: كان له قط حقيقة وقتله الجيران فرثاه، وقيل بل رثى بها ابن المعتز، ولم يقدر يذكره خوفاً من المقتدر، فورّى بالقط، وقيل: بل هويت جارية علي بن عيسى، غلاماً لأبي بكر بن العلاف المذكور، ففطن بهما علي بن عيسى فقتلهما جميعاً، فقال أبو بكر مولاه هذه القصيدة يرثيه، وكنى عنه بالهر.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة في هذه السنة، أرسل المقتدر عسكراً لقتال مرداويج، فالتقوا بنواحي همدان، فانهزم عسكر الخليفة، واستولى مرداويج على بلاد الجبل جميعاً، وبلغت عساكره في النهب إِلى نواحي حلوان، ثم أرسل مرداويج عسكراً إِلى أصفهان، فملكوها. وفي هذه السنة في ذي الحجة تأكدت الوحشة بين مؤنس الخادم وبين المقتدر.
ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة في هذه السنة سار مؤنس الخادم إلى الموصل مغاضباً للمقتدر، واستولى المقتدر على أقطاع مؤنس وماله وأملاكه وأملاك أصحابه، وكتب إِلى بني حمدان أمراء الموصل، بصد مؤنس عن الموصل وقتاله، فجرى بين مؤنس وبينهم قتال، فانتصر مؤنس واستولى على الموصل، واجتمعت عليه العساكر من كل جهة، وأقام مؤنس بالموصل تسعة أشهر.
قتل المقتدر
ولما اجتمعت العساكر بالموصل عند مؤنس الخادم، سار بهم إِلى جهة بغداد، فقدم تكريت، ثم سار حتى نزل بباب الشماسية، فلما رأى المقتدر ضعفه، وانعزال العسكر عنه، قصد الانحدار إِلى واسط ثم اتفق من بقي عنده على قتال مؤنس، ومنعوه من التوجه إِلى واسط، فخرج المقَتدر إِلى قتال مؤنس وهو كاره ذلك، وبين يدي المقتدر الفقهاء والقراء، ومعهم المصاحف منشورة، وعليه البردة، فوقف على تل، ثم ألح عليه أصحابه بالتقدم إِلى القتال فتقدم، ثم انهزمت أصحابه، ولحق المقتدر قوم من المغاربة فقال لهم: ويحكم أنا الخليفة. فقالوا: قد عرفناك يا سفلة، أنت خليفة إِبليس، فضربه واحد بسيفه فسقط إِلى الأرض وذبحوه، وكان المقتدر ثقيل البدن، عظيم الجثة، فلما قتلوه رفعوا رأسه على خشبة، وهم يكبرون ويلعنونه، وأخذوا ما عليه حتى سراويله، ثم حُفر له في موضعه، وعفي قبره، وحمل رأس المقتدر إلى مؤنس، وهو بالراشدية، لم يشهد الحرب، فلما رأى رأس المقتدر، لطم وبكى، وكان المقتدر قد أهمل أحوال الخلافة، وحكم فيها النساء والخدم، وفرط في الأموال، وكانت مدة خلافته أربعاً وعشرين سنة، وأحد عشر شهراً، وستة عشر يوما، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة.
خلافة القاهر باللّه
وهو تاسع عشرهم، كان مؤنس الخادم قد أشار بإِقامة ولد المقتدر، أبي العباس، فاعترض عليه أبو يعقوب إِسحاق بن إِسماعيل النوبختي بأن هذا صبي، ولا يولى إلا من يدبر نفسه ويدبرنا، وكان في ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه، فإن القاهر قتل النوبختي المذكور فيما بعد، فأحضروا القاهر بالله، وهو محمد بن المعتضد، وبايعوه لليلتين بقيتا من شوال هذه السنة، ثم أحضر القاهر أم المقتدر وسألها عن الأموال، فاعترفت بما عندها من المصاغ والثياب فقط، فضربها أشد ما يكون من الضرب، وكانت مريضة، قد بدأ بها الاستسقاء، ثم علقها برجلها، فحلفت أنها ما تملك غير ما أطلعته عليه، واستوزر القاهر أبا علي بن مقلة، وعزل وولى وقبض على جماعة من العمال.
غير ذلك وفي هذه السنة. توفي القاضي أبو عمرو محمد بن يوسف، وكان فاضلاً. وأبو الحسين ابن صالح الفقيه الشافعي، وكان عابداً. وأبو نعيم عبد الملك الفقيه الشافعي الجرجاني المعروف بالأشتر الأستراباذي.
ثم دخلت سنة إِحدى وعشرين وثلاثمائة فيها في جمادى الآخرة، ماتت شعب، والدة المقتدر، ودفنت في تربتها بالرصافة. وفي هذه السنة حصلت الوحشة بين مؤنس وبين القاهر، وكان مؤنس قد أقام بليق حاجباً، وجعل أمر دار الخلافة إِليه، فضيق على القاهر، ومنع دخول امرأة إِلى دار الخلافة، حتى يعرف من هي، فإِن القاهر، قد استمال جماعة في الباطن، للقبض على بليق، الحاجب ومؤنس، واتفق مع القاهر على ذلك، طريف السبكري وهو من أكبر القواد.
القبض على مؤنس الخادم وبليق في هذه السنة، في أول شعبان، قبض القاهر بالله على بليق الحاجب وابنه ومؤنس، لأنهم اتفقوا على خلع القاهر، وإقامة أبي أحمد بن المكتفي، واتفق معهم الوزير ابن مقلة على ذلك، فاستمال القاهر طريف السبكري، واتفق معه ومع الساجية، على قبض ابن بليق، وأمكنهم في الدهاليز والممرات، وحضر ابن بليق بجماعة، وقصد الاجتماع بالخليفة، وأظهر أنه يريد الاجتماع به بسبب القرامطة، وكان قصده القبض على الخليفة، ولم يعلم ابن بليق بما أعد له القاهر، فلما دخل دار الخلافة، قبض عليه، وبلغ أباه بليق ذلك، وكان منقطعاً في داره بسبب مرض حصل له، فركب وحضر إِلى دار الخلافة بسبب ذلك، فقبض عليه أيضاً، ثم أرسل القاهر يستدعي مؤنساً فامتنع عن الحضور، فحلف له أنه آمن، ويريد أن يعرفه ما بلغه من اتفاق بليق وابنه على خلعه، فإن كان كذباً أفرج عنهما، وما زال يحلف لمؤنس حتى حضر، فقبض عليه أيضاً، وعزل أبا علي بن مقلة، واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله، ثم جد في طلب أبي أحمد ابن المكتفي، فظفر به فبنى عليه حائطاً فمات.
قتل مؤنس وبليق وابنه
لما أمسك القاهر المذكورين، شغب الجند أصحاب مؤنس، وكانوا غالب العسكر، وثاروا بسبب حبس مؤنس، فطلبوا إِطلاقه، فعمد القاهر إِلى ابن بليق، وذبحه ووضع رأسه في طست، وكان قد حبسهم متفرقين، ثم أحضر الرأس في الطست إِلى أبيه بليق، فأخذ أبوه يبكي ويترشف الرأس، ثم قتله القاهر، وجعل رأس بليق مع رأس ولده في الطست، وأحضرهما إِلى مؤنس فلما رأى مؤنس الرأسين، تشاهد ولعن قاتلهما، فقتله أيضاً، وأطلع ثلاثة رؤوسهم، فطيف بها في بغداد، ونودي هذا جزاء من يخون الإمام، ثم نظفت وجعلت الرؤوس في خزانة الرؤوس، على جاري عادتهم، ثم عزل القاهر أبا جعفر الوزير ووالي الخصيبي الوزارة، ثم قبض على طريف السبكري، وكان من أكبر القواد، وهو الذي اتفق مع القاهر على قبض مؤنس وغيره، ولولاه لم يقدر القاهر على فعل ما فعله.
ابتداء دولة بني بويه كان بويه رجلاً متوسط الحال من الديلم، وكنيته أبو شجاع، ولما عظمت مملكة بني بويه، اشتهر نسبهم، فقالوا بويه بن فنا خسرو بن تمام بن كوهي بن شيرزير الأصغر بن شيركنده بن شيرزير الأكبر بن شيران شاه بن شيرفنه بن بستان شاه بن شيرفيروز بن شيروزيك بن سبسذا بن بهرام جور الملك ابن يزد جرد الملك، وباقي النسب إِلى أزدشير بن بابك، قد تقدم في أخبار ملوك الفرس الأكاسرة.
وكان لبويه المذكور ثلاثة أولاد، وهم عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة الحسن، ومعز الدولة أبو الحسين أحمد، أولاد بويه أبي شجاع المذكور، وكانوا في خدمة ماكان بن كاكي الديلمي، ولما ملك من الديلم أسفار بن شيرويه، ومرداويج على ما أشرنا إليه، ملك ماكان بن كاكي الديلمي طبرستان، وكان أولاد بويه الثلاثة المذكورون من جملة عسكره، متقدمين عنده، فلما استولى مرداويج على ماكان بيد ماكان بن كاكي من طبرستان، سار ماكان عن طبرستان، واستولى على الدامغان، ثم انهزم ما كان بن كاكي وعاد إِلى نيسابور مهزوماً، وأولاد بويه المذكورون معه لا يفارقونه، فلما رأوا ضعفه وعجزه عن مقاتلة مرداويج قالوا: نحن معنا جماعة، وأنت مضيق، والأصلح أن نفارقك لنخف المؤنة عنك، فإذا صلح أمرك، عدنا إِليك، فأذن لهم ففارقوه ولحقوا بمرداويج، وتبعهم في ذلك جماعة من قواد ماكان، فأحسن إِليهم مرداويج، وقلد عماد الدولة علي بن بويه كرج، ولما استقر عماد الدولة في كرج، قوي وكثر جمعه، ثم أطلق مرداويج لجماعة من قواده مالاً على كرج، فلما وصلوا لقبض المال، أحسن إِليهم علي بن بويه المذكور، واستمالهم فمالوا إِليه، حتى أوجبوا طاعته. وبلغ ذلك مرداويج، فاستوحش من ابن بويه، ثم قصد ابن بويه المذكور أصفهان وبها ابن ياقوت، فاقتتلوا فانهزم ابن ياقوت واستولى ابن بويه على أصفهان وكان صحاب ابن بويه تسع مائة رجل، وعسكر ابن ياقوت عشرة آلاف، فلما هزم عماد الدولة بتسع مائة، عشرة آلاف، عظم في عيون الناس وقويت هيبته، وبقي مرداويج يراسل ابن بويه، ويستدعيه بالملاطفة، وابن بويه يعتذر ولا يحضر إِليه، وأقام ابن بويه بأصفهان شهرين، وجبى أموالها وارتحل إِلى أرجان، وكان قد هرب إِليها ابن ياقوت، واسمه أبو بكر، فانهزم من بين يدي ابن بويه بغير قتال، فاستولى ابن بويه على أرجان في ذي الحجة، سنة عشرين وثلاثمائة، ثم سار ابن بويه إِلى النوبندجان، واستولى عليها في ربيع الآخر من هذه السنة أعني سنة إِحدى وعشرين وثلاثمائة ثم أرسل عماد الدولة، أخاه ركن الدولة، إِلى كازرون وغيرها من أعمال فارس، فاستخرج أموالها، ثم كان منهم ما سنذكره إِن شاء الله تعالى.
غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة
توفي أبو بكر محمد بن الحسين بن دريد اللغوي، في شعبان. وولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وأخذ العلم عن أبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي، وغيرهما، وكان فاضلاً شاعراً، نظم قصيدته المقصورة، المعروفة بمقصورة ابن دريد، وله تصانيف كثيرة في النحو واللغة، منها كتاب الجمهرة، وله كتاب الخيل. وكان ابن دريد قد ابتلى بشرب النبيذ، ومحبة سماع العيدان، قال الأزهري: دخلت على ابن دريد فوجدتهّ سكران، فلم أعد بعدها إِليه. قال ابن شاهين: كنا ندخل على ابن دريد، فنستحي مما نرى من العيدان المعلقة، والشراب المصفى، وكان قد جاوز التسعين. وفيها توفي أبو هاشم بن أبي علي الجبائي المتكلم المعتزلي، ومولده سنة سبع وأربعين ومائتين، أخذ العلم عن أبيه، أبي علي، واجتهد حتى صار أفضل من أبيه. قال أبو هاشم: كان أبي أكبر مني باثنتي عشرة سنة، وكان موت أبي هاشم وابن دريد في يوم واحد، فقال الناس: اليوم دفن علم الكلام وعلم اللغة، ودفنا بمقابر الخيزران ببغداد.
وفيها توفي محمد بن يوسف بن مطر الفربري، وكان مولده سنة إِحدى وثلاثين ومائتين، وهو الذي روى صحيح البخاري عنه، وكان قد سمعه من البخاري عشرات ألوف، وهو منسوب إِلى فربر - بالفاء والراء المهملة المفتوحتين ثم باء موحدة من تحتها ساكنة وبعدها راء مهملة - وفربر المذكورة، قرية ببخارى، كذا نقله ابن الأثير في تاريخه الكامل، وقد ذكر القاضي شمس الدين بن خلكان، أن فربر المذكورة بلدة على طرف جيحون. وفيها توفي بمصر أبو جعفر أحمد بن محمد ابن سلامة الأزدي الطحاوي، الفقيه الحنفي، انتهت إِليه رياسة أصحاب أبي حنيفة بمصر، وكان شافعي المذهب، وقرأ على المزني، فقال له: والله لا جاء منك شيء.
فغضب الطحاوي من ذلك، وانتقل واشتغل بمذهب أبي حنيفة، وبرع فيه، وصنف كتباً مفيدة، منها أحكام القرآن، واختلاف العلماء ومعاني الآثار، وله تاريخ كبير، وكانت ولادته سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة في هذه السنة استولى عماد الدولة بن بويه على شيراز.
خلع القاهر بالله وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، خلع القاهر، بسبب ما ظهر منه من الغدر، بطريف والسبكري وغشه في اليمين بالأمان للذين قتلهم، وكان ابن مقلة مستتراً من القاهر، والقاهر يجتمع بالقواد ويغريهم به، وكان ابن مقلة يظهر تارة بزي عجمي، وتارة بزي مكدي. وأعطى لبعض المنجمين مائة دينار، ليقول للقواد أن عليه قطعاً من القاهر، وكذلك أعطى لبعض معبري المنامات، ممن كان يعبر المنامات لسيما القائد، أنه إذا قص عليه سيما مناماً، يعبره بما يخوفه به من القاهر، ففعلوا بذلك، فاستوحش سيما مقدم الساجية، وغيره من القاهر، واتفقوا على القبض على القاهر، فاجتمعوا وحضروا إِليه، وكان القاهر قد بات يشرب أكثر ليلته، وهو سكران نائم، فأحدقوا بالدار، فاستيقظ القاهر مخموراً، وأوثقت الأبواب عليه، فهرب إلى سطح حمام هناك، فتبعوه وأخذوه، وأتوا به إِلى الموضع الذي فيه طريف السبكري، فأخرجوا طريفاً وحبسوا القاهر موضعه، ثم سملوا عيني القاهر، وكانت خلافته سنة واحدة وستة أشهر وثمانية أيام.
خلافة الراضي باللّه
وهو العشرون من خلفاء بني العباس. لما قبض على القاهر، كان أبو العباس أحمد بن المقتدر ووالدته محبوسين، فأخرجوه وأجلسوه على سرير القاهر، وسلموا عليه بالخلافة ولقبوه الراضي بالله، وبويع بالخلافة يوم الأربعاء، لست خلون من جمادى الأولى. في هذه السنة، أعني سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وأشار سيما القائد بوزارة ابن مقلة، فاستوزره الراضي بالله، وراودوا القاهر أن يشهد عليه بالخلع، فامتنع وهو في الحبس أعمى.
وفاة المهدي العلوي صاحب إِفريقية
وولاية ولده القائمفي هذه السنة، في ربيع الأول، توفي المهدي عبيد الله العلوي الفاطمي بالمهدية، وأخفى ولده القائم أبو القاسم محمد موته سنة، لتدبير ما كان له، وكان عمر المهدي ثلاثاً وستين سنة، وكانت ولايته أربعاً وعشرين سنة وشهراً وعشرين يوماً، ولما أظهر ابنه القائم وفاته بايعه الناس واستقرت ولايته.
قتل ابن الشلمغاني
وحكاية شيء من منصبه الخبيث
في هذه السنة، قتل محمد بن علي الشلمغاني، وشلمغان المنسوب إِليها، قرية بنواحي واسط وأحدث مذهباً مداره على حلول الإلهية، والتناسخ، والتشيع، وقيل إِنه اتبعه على ذلك الحسين بن القاسم بن عبيد الله، الذي وزر للمقتدر، واتبعه أيضاً أبو جعفر، وأبو علي ابنا بسطام، وإبراهيم بن أبي عون، وأحمد بن محمد بن عبدوس، وكان محمد الشلمغاني وأصحابه مستترين.
فظهر في شوال من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة فأمسكه ابن مقلة الوزير، فأنكر الشلمغاني مذهبه، وكان أصحابه يعتقدون فيه الإلهية، فأمسك وأحُضر إِلى عند الراضي، وأمسك معه ابن أبي عون، وابن عبدوس، فأمروهما بصفع الشلمغاني فامتنعا، فلما أُكرِها، مد ابن عبدوس يده وصفعه، وأما ابن أبي عون فإنه مد يده ليصفعه فارتعدت يده، فقبل لحية الشلمغاني ورأسه، وقال: إلهي وسيدي ورازقي. فقالوا للشلمغاني: أما قلت إنك لم تدع الإلهية؟ فقال: إني ما ادعيتها قط وما عليّ من قول ابن أبي عون عني مثل هذا: ثم اصرفا وأحضر الشلمغاني عدة مرات بحضور الفقهاء، وآخر الأمر إِن الفقهاء أفتوا بإباحة دمه، فصلب ابن الشلمغاني وابن أبي عون، في ذي القعدة من هذه السنة، وأحرقا بالنار، فمن مذهبه، لعنه الله، أنّ الله يحل في كل شيء على قدر ما يحتمله ذلك الشيء، وأن الله خلق الضد ليدل به على المضدود، فحلّ الله في آدم، وفي إِبليس أيضاً، وكلاهما ضد لصاحبه، ومن مذهبه: أنّ الدليل على الحق، أفضل من الحق، وأن الضد أقرب إِلى الشيء من شبهه، وأن الله إِذا حلّ في جسد ناسوتي، أظهر فيه من القدرة ولمعجزة ما يدل على أنه هو، وأنّ الإلهية اجتمعت في نوح وإبليسه، ثم افترقت بعده، ثم اجتمعت في صالح وإبليسه، عاقر الناقة، ثم افترقت بعده، ثم اجتمعت في إِبراهيم وإبليسه نمرود، ثم افترقت بعدهما، وكذلك القول في هارون وفرعون، ثم في سليمان وإبليسه، ثم في عيسى وإبليسه، ثم افترقت في الحواريين، ثم اجتمعت في علي بن أبي طالب وإبليسه. ومن مذهبه: أنه من احتاج الناس إِليه، فهو إِله، ومن مذهبه ومذهب أصحابه: أنهم يسمون موسى ومحمداً صلوات الله عليهما وسلامه، الخائنين، لأن هارون وعلياً، أرسلا موسى ومحمداً فخاناهما، وأن علياً أمهل محمداً صلى الله عليه وسلم عدة سني أصحاب الكهف، وهي ثلاثمائة وخمسون سنة، فإِذا انقضت، انتقلت الشريعة. ومن مذهبه ترك الصلاة والصوم، وغيرهما من العبادات، ويبيحون الفروج، وأن يجامع الإنسان من شاء من ذوي رحمه، وأنه لا بد للفاضل منهم أن ينكح المفضول، ليولج النور فيه، وأنه من امتنع من ذلك، قلب في الدور الثاني امرأة، إِذ كان مذهبهم التناسخ، ولعل هذه المقالة هي المقالة النصرية.
غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة قتل إسحاق بن إِسماعيل النوبختي، قتله القاهر قبل أن يخلع، وكان النوبختي المذكور، هو الذي أشار باستخلافه وفي هذه السنة سار الدمستق إلى بلاد الإسلام، ففتح ملطية بالأمان، بعد حصار طويل، وأخرج هلها، وأوصلهم إِلى مأمنهم، وذلك في مستهل جمادى الآخرة، وفعل الروم الأفعال القبيحة بالمسلمين، وصارت أكثر البلاد في أيديهم. وفي هذه السنة توفي أبو نعيم الفقيه الجرجاني الأستراباذي، وأبو علي محمد الروزباري الصوفي. وفيها توفي حسين ابن عبد الله النساج الصوفي، من أهل سامراء، وكان من الأبدال، ومحمد بن علي بن جعفر الكتاني الصوفي المشهور، وهو من أصحاب الجنيد.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.
قتل مرداويج بن زيار
في هذه السنة قتل مرداويج الديلمي، صاحب بلاد الجبل وغيرها وسبب ذلك: أنه لما كان ليلة الميلاد، من هذه السنة، أمر بأن تجمع الأحطاب وتلبس الجبال والتلال، وخرج إِلى ظاهر أصفهان لذلك، وجمع ما يزيد عن ألفي طائر من الغربان، ليعمل في أرجلها النفط، ليشعل ذلك كله ليلة الميلاد، وأمر بعمل سماط عظيم، فيه ألف فرس، وألفا رأس بقر، ومن الغنم والحلوى شيء كثير، فلما استوى ذلك ورآه، استحقره وغضب على أهل دولته، وكان كثير الإِساءة إِلى الأتراك الذين في خدمته، فلما انقضى السماط، وإيقاد النيران، وأصبح ليدخل إِلى أصفهان، اجتمعت الجند المخدمة، وكثرت الخيل حول خيمته، فصار للخيل صهيل وغلبة حتى سمعها فاغتاظ، وقال: لمن هذه الخيل القريبة؟ فقالوا للأتراك. فأمر أن توضع سروجها على ظهور الأتراك، وأن يدخلوا البلد. كذلك، ففعل بهم ذلك فكان له منظر قبيح استقبحه الديلم والترك، فازداد حنق الأتراك عليه، ورحل مرداويج إلى أصفهان وهو غضبان، فأمر صاحب حرسه أن لا يتبعه في ذلك اليوم، ولم يأمر أحداً غيره ليجمع الحرس، ودخل الحمام، فانتهزت الأتراك الفرصة، وقتلوه في الحمام، وكان مرداويج قد تجبر وعتا، وعمل لأصحابه كراسي فضة يجلسون عليها، وعمل لنفسه تاجاً مرصعاً على صفه تاج كسرى، ولما قُتل قام بالأمر بعده أخوه وشمكير بن زيار.
فتنة الحنابلة ببغداد وفيها عظم أمر الحنابلة على الناس، وصاروا يكبسون دور القواد والعامة فإن وجدوا نبيذاً أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء، واعترضوا في البيع والشراء، وفي مشي الرجال مع الصبيان، ونحو ذلك، فنهاهم صاحب الشرطة عن ذلك، وأمر أن لا يصلي منهم إِمام إِلا إِذا جهر ببسم الله الرحمن الرحيم فلم يفد فيهم، فكتب الراضي توقيعاً ينهاهم فيه، ويوبخهم باعتقاد التشبيه، فمنه: إنكم تارة تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين، وهيئتكم على هيئته، وتذكرون له الشعر القطط، والصعود إلى السماء، والنزول إلى الدنيا، وعدد فيه قبائح مذهبهم، وفي آخره أن أمير المؤمنين يقسم قسماً عظيماً، لئن لم تنتهوا، ليستعملن السيوف في رقابكم، والنار في منازلكم ومحالكم.
ولاية الأخشيدية مصر وفي هذه السنة، تولى الأخشيدية وهو محمد بن طفج بن جف، مصر، من جهة الراضي. وكان الأخشيد المذكور قبل ذلك، قد تولى مدينة الرملة سنة ست عشرة وثلاثمائة من جهة المقتدر، وأقام بها إلى سنة ثمان عشرة وثلاثمائة فوردت إليه كتب المقتدر بولايته دمشق، فسار إليها وتولاها، وكان حينئذ المتولي على مصر أحمد بن كيغلغ، فما تولى الراضي، عزل أحمد بن كيغلغ، وولى الأخشيد المذكور مصر، وضم إليها البلاد الشامية، فسار الأخشيد من الشام إلى مصر، واستقر بها يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.
قتل أبي العلاء بن حمدان كان ناصر الحسن بن عبد الله بن حمدان، هو أمير الموصل وديار ربيعة، وكان أول من تولى الموصل منهم، أبو ناصر الدولة المذكور، وهو عبد الله، وكنيته أبو الهيجاء، ولاه عليها المكتفي، وقيل أبو الهيجاء المذكور ببغداد، في المدافعة عن القاهر، لما قبض عليه، وكان ابنه ناصر الدولة المذكور نائباً عنه بالموصل، واستمر بها إلى هذه السنة، فضمن عمه أبو العلاء بن حمدان مابيد ابن أخيه، من ديوان الخليفة، بمال يحمله، وسار أبو العلاء إلى الموصل، فقتله ابن أخيه ناصر الدولة، فلما بلغ الخليفة ذلك، أرسل عسكراً إلى ناصر الدولة مع ابن مقلة الوزير، فلما وصل إلى الموصل، هرب ناصر الدولة، ولم يدركه، فأقام ابن مقلة بالموصل مدة، ثم عاد إلى بغداد، فعاد ناصر الدولة إلى الموصل، وكتب إلى الخليفة يسأله الصفح، وضمن الموصل بمال يحمله، فأجيب إلى ذلك.
فتح جنوة وغيرها وفي هذه السنة سير القائم العلوي صاحب المغرب جيشاً من إفريقية في البحر، ففتحوا مدينة جنوة، وأوقعوا بأهل سردانية، وعادوا سالمين.
غير ذلك من الحوادث
فيها استولى عماد الدولة بن بويه على أصفهان، وبقي هو وشمكير يتنازعان تلك البلاد، وهي أصفهان، وهمذان، وقم، وقاشان، وكرج، والري، وكنكور، وقزوين وغيرها. وفي هذه السنة في جمادى، شغب الجند ببغداد، ونقبوا دار الوزير، وهرب الوزير وابنه إلى الجانب الغربي، ثم راضوهم فسكنوا. وفيها توفي إبراهيم ابن محمد بن عرفة، المعروف بنفطويه النحوي الواسطي، وله مصنفات، وهو من ولد المهلب بن أبي صفرة، ولد سنة أربع وأربعين ومائتين، وفيه يقول الشيخ محمد بن زيد بن علي المتكلم:
من سره أن لا يرى فاسقاً ... فليجتهد أن لا يرى نفطويه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صراخاً عليه
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة في هذه السنة، قبض الحجرية والمظفر بن ياقوت على الوزير ابن مقلة، لما حضر إلى دار الخلافة على العادة، وأرسلوا أعلموا الخليفة، فاستحسن ذلك، ثم اتفقوا على وزارة علي بن عيسى، فامتنع، فولوا الوزارة أخاه عبد الرحمن بن عيسى، ثم قبض عليه، وولوا الوزارة أبا جعفر محمد بن قاسم الكرخي. وفي هذه السنة قطع ابن رائق حمل واسط والبصرة، وقطع البديدي حمل الأهواز وأعمالها، فضاقت أموال بغداد، وعجز أبو جعفر الوزير فعزلوه، وكانت ولايته ثلاثة أشهر ونصف، واستوزر سليمان بن الحسن، ودام الحال على توقفه، فراسل الخليفة محمد بن رائق وهو بواسط يستقدمه ليقوم بالأمور وقلده إمارة الجيش، وأمر أن يخطب له على المنابر، وقدم ابن رائق بغداد في أواخر ذي الحجة من هذه السنة، وكان ابن رائق قد أمسك ساجية قبل دخوله إلى بغداد، فاستوحشت الحجرية منه، ومن حين دخل ابن رائق بطلت الوزارة من بغداد، وبقي ابن رائق هو الناظر في الأمور جميعها، وتغلب عمال الأطراف عليها، ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها، والحكم فيها لابن رائق، وليس للخليفة فيها حكم، وأما باقي الأطراف فكانت البصرة في يد ابن رائق المذكور.
وخورستان في يد البريدي . وفارس في يد عماد الدولة ابن بويه. وكرمان في يد أبي علي محمد بن إلياس. والري وأصفهان والجبل في يد ركن الدولة ابن بويه ويد وشمكير ابن زيار أخي مرداويج، يتنازعان عليها. والموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يد بني حمدان. ومصر والشام في يد الأخشيد محمد بن طغج والمغرب وإفريقية في يد القائم العلوي ابن المهدي. والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمد الأموي الملقب بالناصر. وخراسان وما وراء النهر في يد نصر بن أحمد بن سامان الساماني. وطبرستان وجرجان في يد الديلم. والبحرين واليمامة في يد أبي طاهر القرمطي.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، استقدم محمد بن رائق الفضل بن جعفر بن الفرات، وكان على خراج مصر والشام، فقدم بغداد وتولى الوزارة لابن رائق والخليفة. وفي هذه السنة قلد الخليفة محمد بن طغج مصر وأعمالها، مضافاً إِلى ما بيده من الشام بعد عزل أحمد بن كيغلغ عن مصر. وفي هذه السنة ولد عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو ابن ركن الدولة الحسن بن بويه بأصفهان. وفيها توفي جحظة البرمكي من ولد يحيى بن خالد بن برمك، وكان عارفاً بفنون شتى من العلوم. وفيها توفي عبد الله ابن أحمد بن محمد بن المفلس الفقيه الظاهري، صاحب التصانيف المشهورة، وعبد الله بن محمد الفقيه الشافعي النيسابوري، ومولده سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وكان قد جالس الربيع والمزني ويونس، أصحاب الشافعي، وكان إماماً.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة في هذه السنة، أشار محمد بن رائق على الراضي بالمسير معه إِلى واسط، لحرب ابن البريدي، فأجابه، وسار الراضي إِلى واسط، وأمسك ابن رائق بعض الأجناد الحجرية، وأجاب ابن البريدي إِلى ما طلب منه، ثم عاد الراضي وابن رائق إِلى بغداد، ثم نكث أبو عبد الله بن البريدي عما أجاب إِليه، فأرسل ابن رائق عسكراً مع بجكم، واقتتل مع أبي عبد الله بن اليريدي، فانهزم ابن البريدي إِلى عماد الدولة بن بويه، وطمّعه في العراق وهون عليه أمر الخليفة.
غير ذلك من الحوادث
وفي هذه السنة، أساء عامل صقلية السيرة، وظلم، وكان عاملاً للقائمَ العلوي، واسمه سالم بن راشد فعصت عليه جرجنت، من صقلية، وكتب إِلى القائم بذلك، فجهز إِليه عسكراً وحاصروا جرجنت، فاستنجد أهل جرجنت بملك قسطنطينية فأنجدهم، ودام الحصار إِلى سنة تسع وعشرين، فسار بعض أهلها، ونزل الباقون بالأمان، فأخذوا كبارهم وجعلوهم في مركب، ليقدموا على القائم بإفريقية، فلما توسطوا اللجة، أمر مقدم جيش القائم فنقب مركبهم، وغرقوا عن آخرهم. وفيها توفي عبد الله بن محمد الخزاز النحوي، وله تصانيف في علوم القرآن.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وثلاثمائة في هذه السنة سار معز الدولة بأمر أخيه عماد الدولة ابن بويه إِلى الأهواز، وتلك البلاد، فاستولى عليها، وكان سبب ذلك مسير ابن البريدي إلى عماد الدولة كما أشرنا إليه.
قطع يد أبي علي ابن مقلة وكان سببه: أنه سعى في القبض على ابن رائق، وإقامة بجكم موضعه وعلم ابن رائق بذلك، فحبسه الراضي لأجل ابن رائق وترددت الرسل بين الراضي وبين ابن رائق في معنى ابن مقلة مرات عدة، وآخرها أنهم أخرجوا ابن مقلة فقطعوا يده في منتصف شوال، وعولج فبرأ، وعاد يسعى في الوزارة، وكان يشد القلم على يده المقطوعة ويكتب، ثم بلغ ابن رائق سعيه، وأنه يدعو عليه وعلى الراضي، فأمر بقطع لسانه، فقطع، وضيق عليه في الحبس، ثم لحق ابن مقلة مع ما هو فيه الذرب، ولم يكن عنده في الحبس من يخدمه، فقاسى شدة إِلى أن مات في الحبس، في شوال سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، ودفن بدار الخليفة، ثم إِن أهله سألوا فيه فنبش وسلم إِليهم، فدفنوه في داره، ثم نبش ونقل إِلى دار أخرى، ومن العجب أنه ولي الوزارة ثلاث دفعات، ووزر لثلاثة خلفاء: المقتدر، والقاهر، والراضي. وسافر ثلاث سفرات، اثنتين إِلى شيراز، وواحدة في وزارته إِلى الموصل، ودفن بعد موته ثلاث مرات.
استيلاء بجكم على بغداد وفي هذه السنة، سار بجكم من واسط إِلى بغداد، غرة ذي القعدة، وجهز ابن رائق إِليه عسكراً، فهزمهم بجكم، ولما قرب من بغداد هرب ابن رائق إِلى عكبراَ، واستتر، ودخل بجكم بغداد ثالث عشر ذي القعدة، فخلع عليه الراضي وجعله أمير الأمراء، وكانت مدة إِمارة ابن رائق سنة وعشرة أشهر وستة عشر يوماً، وهذا بجكم كان مملوكاً لوزير ماكان بن كاكي الديلمي. ثم أخذه ما كان منه، ثم إنه فارق ماكان مع من فارقه، ولحق بمرداويج، ثم كان في جملة من قتل مرداويج، ثم سار إلى العراق واتصل بخدمة ابن رائق، وانتسب إِليه حتى كتب على رايته الرائقي وسيره ابن رائق إلى الأهواز فاستولى عليها، وطرد ابن البريدي، ثم لما استولى ابن بويه على الأهواز، سار بجكم إِلى واسط. ثم سار إِلى بغداد، فطرد ابن رائق واستولى على بغداد وعلى حضرة الخليفة.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة فسد حال القرامطة، ووقع بينهم الفتن والقتل، فاستقروا في هجر.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة فيها سار بجكم والراضي إِلى الموصل، فهرب ناصر الدولة بن حمدان عنها، ثم حمل مالاً واستقر الصلح معه، ثم عاد الخليفة وبجكم إلى بغداد، وظهر ابن رائق مع جماعة انضموا إِليه ببغداد، قبل وصول الخليفة إِليها، فخافه الخليفة وبجكم، ثم استقر الحال على أن يولي على حرّان والرها وقنسرين والعواصم، فسار ابن رائق واستولى عليها.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، عصى أمية بن إسحاق على عبد الرحمن الأموي بشنترين واستنجد بالجلالقة، فأنجدوه وهزموا المسلمين، ثم التقوا مرة ثانية، فانهزمت الجلالقة وكثر القتل فيهم، وطلب أمية المذكور الأمان من عبد الرحمن الأموي، فأمنه. وفيها مات عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، صاحب الجرح والتعديل، وعثمان بن خطاب أبو الدنيا، المعروف بالأشج، الذي يقال إِنه لقي علي بن أبي طالب، وله صحيفة تروى عنه ولا تصح، وقد رواها كثير من المحدثين على علم منهم بضعفها. وفيها توفي محمد بن جعفر بمدينة يافا، صاحب التصانيف المشهورة كاعتلال القلوب وغيره. وفيها توفي الكعبي المعتزلي، واسمه عبد الله ابن أحمد بن محمود، وكنيته أبو القاسم وهو صاحب مقالة.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
استيلاء ابن رائق على الشام
وفي هذه السنة، استولى ابن رائق على الشام، فاستولى على دمشق وحمص، وطرد بدراً نائب الأخشيد، وسار حتى بلغ العريش يريد الديار المصرية، فخرج إِليه الأخشيد وجري بينهم قتال شديد، آخره أن ابن رائق انهزم إِلى دمشق ثم جهز الأخشيد إِليه جيشاً مع أخيه، واقتتلوا، فانهزم عسكر الأخشيد، وقتل أخوه فأرسل ابن رائق يعزي الأخشيد في أخيه ويقول له: إِنه لم يقتل بأمري. وأرسل ولده مزاحم وقال: إِن أحببت فاقتل ولدي به، فخلع الأخشيد على مزاحم وأعاده إلى أبيه، واستقرت مصر للأخشيد، والشام لمحمد بن رائق.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة قتل طريف السبكري بالثغر، وفيها توفي محمد الكسليني - بالنون - وهو من أئمة الإمامية، ومحمد بن أحمد المعروف بابن شنبوذ المقري، وأبو محمد المرتعش، وهو من مشايخ الصوفية، وفيها توفي أبو بكر محمد بن القاسم المعروف بابن الأنباري، وهو مصنف كتاب الوقف والإبتداء الإمام المشهور في النحو والأدب، وكان ثقة وولد سنة إحدى وسبعين ومائتين وفيها توفي أبو عمر أحمد بن عبد ربه بن حبيب القرطبي، مولى هشام بن عبد الرحمن الداخل إِلى الأندلس، الأموي، وكان من العلماء المكثرين من المحفوظات وصنف كتابه العقد، وهو من الكتب النفيسة، ومولده في سنة ست وأربعين ومائتين. ثم دخلت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
موت الراضي بالله وفي هذه السنة، في منتصف ربيع الأول مات الراضي بالله، أبو العباس أحمد ابن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق طلحة. وكانت خلافته ست سنين وعشرة أيام، وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة وكان مرضه علة الاستسقاء وكان أديباً شاعراً فمن شعره:
يصفر وجهي إذا تأمله ... طرفي فيحمر وجهه خجلاً
حتى كأن الذي بوجنته ... من دم وجهي إِليه قد نقلا
ومن شعره أيضاً من أبيات:
كل صفو إِلى كدر ... كل أمن إِلى حذرْ
أيها الآمن الذي ... تاه في لجة الغرر
أينَ مَنْ كان قبلنا ... درسَ العينُ والأثرْ
درً در ُالمشيب من ... واعظٍ يُنذر البشرْ
وكان الراضي سخياً، يحب الأدباء والفضلاء وكان سنان بن ثابت الصابي الطبيب من جملة ندماء الراضي وجلسائه، وكان الراضي أسمر خفيف العارضين، وأمه أم ولد، اسمها ظلوم، وهو آخر خليفة له شعْر يدون، وآخر خليفة خطب كثيراً على منبر، وإن كان غيره قد خطب، فإِنه كان ناَدراً، لا اعتبار به، وكان آخر خليفة جالس الجلساء، وآخر خليفة كانت نفقته، وجراياته وخزانته، ومطابخه، وأموره، على ترتيب الخلفاء المتقدمين.
خلافة المتقي للّه
وهو حادي عشرينهم، لما مات الراضي، بقي الأمر موقوفاً، انتظاراً لقدوم أبي عبد الله الكوفي، كاتب بجكم، من واسط، وكان بجكم بها أيضاً، واحتيط على دار الخلافة، فورد كتاب بجكم مع أبي عبد الله الكوفي، كاتب بجكم، يأمر فيه أن يجتمع مع أبي القاسم، سليمان بن الحسن، وزير الراضي، كل من تقلد الوزارة، وأصحاب الدواوين والعلويون والقضاة والعباسيون ووجوه البلد، ويشاورهم الكوفي فيمن ينصب للخلافة، فاجتمعوا واتفقوا على إِبراهيم بن المقتدر بالله، أبي الفضل جعفر، وبويع له بالخلافة في العشرين من ربيع الأول، وعرضت عليه الألقاب فاختار المتقي لله، ولما بويع له سير الخلع واللواء إِلى بجكم، وهو بواسط، وكان بجكم قبل استخلاف المتقي، قد أرسل إِلى دار الخلافة، وأخذ منها فرشاً وآلات كان يستحسنها، وجعل سلامة الطولوني حاجب المتقي، وأقر سليمان بن الحسن وزير الراضي على وزارته، وليس له من الوزارة إِلا اسمها، وإنما التدبير كله إِلى الكوفي كاتب بجكم.
قتل ماكان بن كاكي
كان ماكان بن كاكي قد استولى على جرجان، فقصده أحد قواد السامانية بعسكر خراسان، وهو أبو علي بن محمد بن مظفر بن المحتاج، فهزم ماكان عن جرجان، فقصد ماكان طبرستان وأقام بها. ثم سار أبو علي بن المحتاج المذكور عن جرجان إِلى الري، ليستولي عليها، وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج فأرسل وشمكير يستنجد ماكان بن كاكي من طبرستان، فقدم ماكان بن كاكيَ من طبرستان، وبقي مع وشمكير، وقاتلهما أبو علي بن المحتاج، فجاء سهم غرب فوقع فَي رأس ماكان، ونفذ من الخوذة إِلى جبينه، حتى طلع من قفاه، فوقع ماكان بن كاكي ميتاً، وهرب وشمكير إِلى طبرستان، واستولى أبو علي ابن المحتاج على الري.
قتل بجكم وفي هذه السنة قتل بجكم، وكان بجكم قد أرسل جيشاً إِلى قتال أبي عبد الله البريدي. ثم سار من واسط في أثرهم، فأتاه الخبر بنصرة عسكره، وهرب البريدي. فقصد الرجوع إِلى واسط، وبقي يتصيد في طريقه حتى بلغ نهر جور، فسمع أن هناك أكراداً لهم مال وثروة، فشرهت عينه، وقصدهم في جماعة قليلة، وأوقع بهم، فهربوا من بين يدي بجكم، وجاء صبي من الأكراد من خلف بجكم، وطعنه برمح فيِ خاصرته ولا يعرفه، فمات بجكم من تلك الطعنة. ولما بلغ قتله المتقي، استولى على دار بجكم وأخذ منها أموالاً عظيمة، و أكثرها كانت مدفونة، وأتى البريدي الفرج بقتل بجكم من حيث لا يحتسب. وكانت مدة إِمارة بجكم سنتين وثمانية أشهر وأياماً. ولما قتل بجكم سار البريدي إِلى بغداد واستولى على الأمر أياماً، ثم أخرجه العامة عنها لسوء سيرته، ثم استولى على الأمر كورتكين مدة قليلة، فسار ابن رائق من الشام إلى بغداد، واستخلف على الشام أبا الحسن أحمد بن علي بن مقاتل ولما وصل ابن رائق إِلى بغداد جرى بينه وبين كورتكين قتال، آخره أن ابن رائق انتصر على كورتكين وهزمه، ثم ظفر بعد ذلك ابن رائق بكورتكين وحبسه، وقلد المتقي لابن رائق إِمرة الأمراء ببغداد.
غير ذلك من الحوادث فيها توفي متى بن يونس، الحكيم الفيلسوف، وبختيشوع بن يحيى الطبيب.
ثم دخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة.
استيلاء ابن البريدي علي بغداد وقتل ابن رائق في هذه السنة، عاد البريدي فاستولى على بغداد، وهرب ابن رائق والخليفة المتقي إِلى جهة الموصل، ونهب البريدي بغداد، وحصل منه من الجور والظلم والعسف ما لا زيادة عليه، ولما وصل المتقي وابن رائق إلى تكريت، كاتبا ناصر الدولة ابن حمدان يستمدانه، وقدما إِلى الموصل، فخرج عنها ناصر الدولة إِلى الجانب الآخر، فأرسل المتقي إِليه ابنه أبا منصور، وابن رائق، فأكرمهما ناصر الدولة، ونثر على ابن الخليفة دنانير، ولما قاما لينصرفا، أمر ناصر الدولة أصحابه بقتل ابن رائق فقتلوه. ثم سار ابن حمدان إِلى المتقي، فخلع المتقي عليه وجعله أمير الأمراء، ولك في مستهل شعبان من هذه السنة، وخلع على أخيه أبي الحسن علي، ولقبه سيف الدولة، وكان قتل ابن رائق يوم الاثنين، لسبع بقين من رجب من هذه السنة، أعني سنة ثلاثين وثلاثمائة، ولما بلغ الأخشيد صاحب مصر قتل ابن رائق، سار إلى دمشق، فاستولى عليها. ثم سار المتقي وناصر الدولة إِلى بغداد، فهرب عنها ابن البريدي، ونهب الناس بعضهم بعضاً ببغداد، وكان مقام ابن البريدي ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوماً، ودخل المتقي إِلى بغداد ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة في شوال من هذه السنة. ولما استقر ناصر الدولة ببغداد، أمر بإِصلاح الدنانير، وكان الدينار بعشرة دراهم، فبيع الدينار بثلاثة عشر درهماً.
غير ذلك من الحوادث فيها مات أبو بكر محمد بن عبد الله المحاملي الفقيه الشافعي، ومولده سنة خمس وثلاثين ومائتين. وفيها توفي أبو الحسن علي بن إِسماعيل بن أبي بشر الأشعري، وكان مولده سنة ستين ومائتين ببغداد، ودفن بمشرعة الزوايا ثم طمس قبره خوفاً عليه، لئلا تنبشه الحنابلة وتحرقه، فإنهم عزموا على ذلك مراراً عديدة، ويردهم السلطان عنه. وهو من ولد أبي موسى الأشعري، وَاشتغل بعلم الكلام، على مذهب المعتزلة زماناً طويلاً. ثم خالف المعتزلة والمشبهة، فكانت مقالته أمراً متوسطاً، وناظر أبا علي الجبائي، في وجوب الأصلح على الله تعالى، فأثبته الجبائي على قواعد مذهبه.
فقال الأشعري ما تقول في ثلاثة صبية اخترم الله أحدهم قبل البلوغ، وبقي الاثنان فآمن أحدهما وكفر الآخر، ما العلة في اخترام الصغير؟.
فقال الجبائي: إِنما اخترمه لأنه علم أنه لو بلغ لكفر، فكان اخترامه أصلح له.
فقال له الأشعري: فقد أحيا أحدهما فكفر.
فقال الجبائي: إِنما أحياه ليعرضه لأعلى المراتب، أي ليبلغ ويصير أهلاً للتكليف، لأن الصبي والحيوان غير مكلف، فإِذا أدرك الصبي، صار مكلفاً، وهي أعلى المراتب، لأنها المرتبة الإنسانية.
فقال الأشعري: فلم لا أحيى الذي اخترمه ليعرضه لأعلى المراتب.
فقال الجبالًي: وسوست.
فقال الأشعري: ما وسوست، ولكن وقف حمار الشيخ على القنطرة، يعني أنه انقطع.
ثم أظهر الأشعري مذهبه، وقرره، فصارت مقالته أشهر المقالات، حتى طبق الأرض ذكرها، ومعظم الحنابلة يحكمون بكفره ويستبيحون دمه، ودم من يقول بقوله، وذلك لجهلهم، وكان أبو علي الجبائي المعتزلي زوج أم أبي الحسن الأشعري.
ثم دخلت سنة إِحدى وثلاثين وثلاثمائة في هذه السنة سار ناصر الدولة عن بغداد إِلى الموصل، وثارت الديلم، ونهبت داره، وكان أخوه سيف الدولة بواسط، فثارت عليه الأتراك الذين معه، وكبسوه ليلاً، في شعبان، فهرب سيف الدولة أبو الحسن علي، إِلى جهة أخيه ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان، ولحق به، ثم قدم سيف الدولة إِلى بغداد، وطلب من المتقي مالاً ليفرقه في العسكر، ويمنع تورون والأتراك من دخول بغداد، فأرسل إِليه المتقي ربع مائة ألف دينار، ففرقها في أصحابه، ولما وصل تورون إِلى بغداد، هرب سيف الدولة عنها، ودخل تورون بغداد في الخامس والعشرين من رمضان، في هذه السنة، فخلع المتقي عليه وجعله أمير الأمراء وبقيِ المتقي خائفاً من تورون. وتورون بتاء مثناة من فوقها مضمومة وواو ساكنة وراء مهملة مضمومة وواو ثم نون، هو اسم تركي مشتق من اسم الباطية لأن الباطية اسمها بالتركي تروو بتاء وراء مضمومتين وواين ساكنتين.
موت نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني وفي هذه السنة، توفي أبو السعيد نصر بن أحمد الساماني، صاحب خراسان وما وراء النهر، وكان مرضه السل، فبقي مريضاً ثلاثة عشر شهراً، وكانت ولايته ثلاثين سنة وثلاثة وثلاثين يوماً، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة، وكان حليماً كريماً، ولما مات نصر بن أحمد، تولى بعده ابنه نوح بن نصر، وبايعه الناس، وحلفوا له في شعبان، واستقر ملكه على خراسان وما وراء النهر.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، أرسل ملك الروم يطلب من المتقي منديلاً، زعم أن المسيح مسح به وجهه، فصارت صورة وجهه فيه، وأن هذا المنديل في بيعة الرها، وأنه إن أرسله أطلق عدداً كثيراً من أسرى المسلمين، فأحضر المتقي القضاة والفقهاء واستفتاهم في ذلك، فاختلفوا. فقال بعضهم: ادفعه إِليهم وإطلاق الأسرى أولى. وقال بعضهم: إِن هذا المنديل لم يزل في بلاد الإسلام، ولم يطلبه ملك الروم منهم، ففي دفعه إليهم غضاضة، وكان في الجماعة علي بن عيسي الوزير فقال: إِن خلاص المسلمين من الأسر والضنك، أولى من حفظ هذا المنديل، فأمر الخليفة بتسليمه إليهم، وأرسل من تسلم الأسرى فأطلقوا.
وفي هذه السنة توفي محمد بن إِسماعيل الفرغاني الصوفي، أستاذ أبي بكر الدقاق، وهو مشهور بين المشايخ. وفيها مات سنان بن ثابت بن قرة بعلة الذرب، وكان حاذقاً في الطب، ولم يغن عنه شيئا عند دنو الأجل.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة فيها سار المتقي عن بغداد خوفاً من تورون وابن شيرزاد، إِلى جهة ناصر الدولة بالموصل، وانحدر سيف الدولة إلى ملتقى المتقي بتكريت، ثم انحدر ناصر الدولة إِلى تكريت، وأصعد الخليفة إلى الموصل، ثم سار الخليفة وبنو حمدان إِلى الرقة، فأقاموا بها، وظهر للمتقي تضجر بني حمدان منه، وإيثارهم مفارقته، فكتب إِلى تورون يطلب الصلح منه، ليقدم إلى بغداد، وخرجت السنة على ذلك.
غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة خرجت طائفة من الروس في البحر، وطلعوا من البحر في نهر الكر، فانتهوا إِلى مدينة برْدَعَة، فاستولوا على بردعة، وقتلوا ونهبوا، ثم عادوا في المراكب إِلى بلادهم. وفيها مات أبو طاهر القرمطي رئيس القرامطة بالجدري، وفيها كان ببغداد غلاء عظيم. وفيها استعمل ناصر الدولة بن حمدان محمد بن علي بن مقاتل على قنسرين والعواصم وحمص. ثم استعمل بعده في السنة المذكورة ابن عمه الحسين بن سعيد بن حمدان على ذلك.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
مسير المتقي إِلى بغداد وخلعه كان قد كتب المتقي إِلى الإخشيد صاحب مصر، يشكو إِليه حاله، وما هو فيه، فسار الإخشيد من مصر إِلى حلب، ثم إِلى الرقة، واجتمع بالمتقي، وحمل إِليه هدايا عظيمة، واجتهد بالمتقي أن يسير معه إِلى مصر أو الشام ليكون بين يديه، فلم يفعل، ثم أشار عليه بالمقام في الرقة، وخوفه من تورون، فلم يفعل، وكان قد أرسل المتقي إِلى تورون في الصلح كما ذكرناه، فحلف تورون للمتقي على ما أراد، فانحدر المتقي لأربع بقين من المحرم إِلى بغداد وعاد الإخشيد إِلى مصر، ولما وصل المتقي إِلى هيت، أقام بها، وأرسل فجدد اليمين على تورون وسار تورون عن بغداد لملتقى الخليفة. فالتقاه بالسندية، ووكّل عليه حتى أنزله في مضربه، ثم قبض تورون على المتقي وسمله، وأعمى عينيه فصاح المتقي وصاح من عنده من الحرم والخدم، فأمر تورون بضرب الدبادب لئلا تظهر أصواتهن، وانحدر تورون بالمتقط إلى بغداد وهو أعمى، وكانت خلافة المتقي لله، وهو إبراهيم بن جعفر المقتدر بن المعتضد ثلاث سنين وخمسة أشهر وعشرين يوماً، وأمه أم ولد اسمها خلوب.
خلافة المستكفي باللّه
وهو ثاني عشرينهم، ولما قبض تورون على المتقي، بايع المستكفي بالله أبا قاسم عبد الله بن المكتفي بالله علي بن المعتضد أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون، وأحضره إِلى السندية، وبايعه عامة الناس، وكانت بيعة المستكفي بالله يوم خلع المتقي في صفر من هذه السنة.
خروج أبي يزيد الخارجي بالقيروان وفي هذه السنة اشتدت شوكة أبي يزيد الخارجي وهزم الجيوش، وهو رجل من زناتة، واسم والده كنداد، من مدينة توزر من بلاد قسطيلية.
فولد له أبو يزيد بتوزر من جارية سوداء، وانتشأ أبو يزيد في توزر وتعلم القرآن وسار إلى تاهرت، وصار على مذهب النكارية وهو تكفير أهل الملة، واستباحة أموالهم ودمائهم، ودعا أهل تلك البلاد فأطاعوه، وكثر جمعه فحصر قسطيلية في هذه السنة، وكان أبو يزيد قصيراً قبيح الصورة، يلبس جبة صوف، ثم فتح تبسة، ثم سبيبة وصلب عاملها، ثم فتح الأريس، فأخرج القائم جيوشاً لحفظ رقادة والقيروان فهزمهم أبو يزيد، واستولى على تونس، ثم على القيروان، ورقادة، ثم سار أبو يزيد إِلى القائم فجهز إِليه القائم جيشاً، فجرى بينهم قتال كثير، وآخره أن جيوش القائم انهزمت، وسار أبو يزيد وحصر القائم بالمهدية، في جمادى الأولى من هذه السنة، وضايقها وغلا بها السعر، وعدم القوت، ودام محاصرها حتى خرجت هذه السنة، ثم رحل عن المهدية في صفر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وسار إلى القيروان، وتوفي القائم وملك ابنه إِسماعيل المنصور على ما نذكره فجهز المنصور العساكر وسار بنفسه إِلى القيروان، واستعادها من أبي يزيد وذلك في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، ودام حالهم على القتال إِلى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فهزم المنصور عساكر أبي يزيد، وسار المنصور في أثره في ربيع الأول سنة خمس وثلاثين فأدرك أبا يزيد على مدنية كاغلية، فهرب أبو يزيد من موضع إِلى آخر، حتى وصل طبسة، ثم هرب حتى وصل إِلى جبل للبربر، واسم ذلك الجبل برزال، والمنصور في إِثره، واشتد على عسكر المنصور الحال حتى بلغت عليقة الشعير ديناراً ونصفاً، وبلغت قربة الماء ديناراً، فرجع المنصور إِلى بلاد صنهاجة، وبلغ إِلى موضع يسمى قرية عمرة، واتصل هناك بالمنصور، العلوي الأمير زيري الصنهاجي، وهو جد ملوك بني باديس على ما سيأتي ذكرهم إِن شاء الله تعالى.
فأكرمه المنصور غاية الإكرام ومرض المنصور هناك مرضاً شديداً، ثم تعافى ورحل إِلى المسيلة، ثاني رجب سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وكان قد اجتمع إِلى أبي يزيد جمع من البربر، وسبق المنصور إلى مسيلة، فلما قدم المنصور إِلى مسيلة هرب عنها أبو يزيد إِلى جهة بلاد السودان، ثم صعد أبو يزيد إِلى جبال كتامة، ورجع عن قصد بلاد السودان، فسار المنصور عاشر شعبان إِليه، واقتتلوا في شعبان، فقتل غالب جماعة أبي يزيد وانهزم، فسار المنصور في إِثره أول شهر رمضان واقتتلوا أيضاً، وانهزم أبو يزيد وأخذت أثقاله والتجأ أبو يزيد إِلى قلعة كتامة، وهي منيعة، فحاصرها المنصور وداوم الزحف عليها، ثم ملكها المنصور عنوة، وهرب أبو يزيد من القلعة من مكان وعر، فسقط منه، فأخذ أبو يزيد وحمل إلى المنصور، فسجد المنصور شكراً لله تعالى، وكثر تكبير الناس وتهليلهم، وبقي أبو يزيد في الأسر مجروحاً فمات، وذلك في سلخ المحرم سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، فسلخ جلد أبي يزيد، وحشي تبناً، وكتب المنصور إلى سائر البلاد بالفتح، وبقتل أبي يزيد لعنه الله، وعاد المنصور إِلى المهدية، فدخلها في شهر رمضان من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة أعني سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة نقل المستكفي، القاهر، من دار الخلافة إِلى دار أبي طاهر، وكان قد بلغ بالقاهر الضر والفقر إِلى أن كان ملتفاً بجبة قطن وفي رجله قبقاب خشب.
ملك سيف الدولة مدينة حلب وحمص وفي هذه السنة، لما سار المتقي عن الرقة إِلى بغداد، وسار عنها الإخشيد إلى مصر كما ذكرنا، سار سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان إِلى حلب، وبها يأنس المؤنسي، فأخذها منه سيف الدولة، واستولى عليها، ثم سار من حلب إِلى حمص، فاستولى عليها ثم سار إِلى دمشق فحصرها، ثم رحل عنها، وكان الإخشيد قد خرج من مصر إِلى الشام، بسبب قصد سيف الدولة دمشق، وسار إِليه فالتقيا بقنسرين، ولم يظفر أحد العسكرين بالآخر، ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة، فلما رجع الإخشيد إِلى دمشق، عاد سيف الدولة إِلى حلب، فملكها، فلما ملكها سارت الروم حتى قاربت حلب، فخرج إِليهم سيف الدولة وهزمهم وظفر بهم. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
موت تورون في هذه السنة في المحرم، مات تورون ببغداد، وكانت إِمارته سنتين وأربعة أشهر وتسعة عشر يوماً، ولما مات، عقد الأجناد لابن شيرزاد الإمرة عليهم، وكان بهبت، فحضر إِلى بغداد مستهل صفر، وأرسل إِلى المستكفي فاستحلفه فحلف له بحضرة القضاة وولاة أمرة الأمراء.
استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد كان معز الدولة في الأهواز، فلما بلغه موت تورون، سار إِلى بغداد، فلما قرب منها اختفى المستكفي بالله وابن شيرزاد، فكانت إِمارته ثلاثة أشهر وأياماً وقدم الحسن بن محمد المهلبي، صاحب معز الدولة، إِلى بغداد، وسارت الأتراك عنها إلى جهة الموصل، فظهر المستكفي واجتمع بالمهلبي، وأظهر المستكفي السرور بقدوم معز الدولة، وأعلمه أنه استتر خوفاً من الأتراك، فلما ساروا عن بغداد ظهر، ثم وصل معز الدولة إلى بغداد ثاني عشر جمادى الأولى من هذه السنة. واجتمع بالمستكفي وبايعه، وحلف له المستكفي وخلع عليه، ولقبه في ذلك اليوم بمعز الدولة، وأمر أن تضرب ألقاب بني بويه على الدنانير والدراهم، ونزل معز الدولة بدار مؤنس، وأنزل أصحابه في دور الناس، فلحق الناس من ذلك شدة عظيمة، ورتب معز الدولة للمستكفي، كل يوم خمسة آلاف درهم يتسلمها كاتبه لنفقات المستكفي.
خلع المستكفي وخلافة المطيع
وفي هذه السنة خلع المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفي علي بن المعتضد بن الموفق لثمان بقين من جمادى الآخرة، وصورة خلعه، أن معز الدولة وعسكره والناس، حضروا إِلى دار الخليفة، بسبب وصول رسول صاحب خراسان، فأجلس الخليفة معز الدولة على كرسي، ثم حضر رجلان من نقباء الديلم، وتناولا يد المستكفي بالله، فظن أنهما يريدان تقبيلها، فجذباه عن سريره، وجعلا عمامته في عنقه، ونهض معز الدولة، فاضطرب الناس، وساقا المستكفي ماشياً إِلى دار معز الدولة فاعتُقل بها، ونُهبت دار الخلافة حتى لم يبق بها شيء، وكانت مدة خلافة المستكفي سنة وأربعة أشهر، ولما بويع المطيع، سلم إليه المستكفي، فسمله وأعماه، وبقي محبوساً إِلى أن مات، وأمه أم ولد اسمها غصن.
ولما قُبض المستكفي بويع المطيع لله وهو ثالث عشرينهم، واسمه المفضل بن المقتدر، في يوم الخميس ثاني عشرين من جمادى الآخر، من هذه السنة، أعني سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وازداد أمر الخلافة إِدباراً، ولم يبق لهم من الأمر شيء، وتسلم نواب معز الدولة العراق، بأسره، ولم يبق في يد الخليفة غير ما أقطعه معز الدولة للخليفة، مما يقوم ببعض حاجته.
الحرب بين ناصر الدولة بن حمدان ومعز الدولة بن بويه في هذه السنة سار ناصر الدولة إِلى بغداد، وأرسل معز الدولة عسكراً لقتاله، فلم يقدروا على دفعه، وسار ناصر الدولة من سامراء، عاشر رمضان، إِلى بغداد، وأخذ معز الدولة المطيع معه، وسارا إِلى تكريت فنهبها، لأنها كانت لناصر الدولة، وعاد معز الدولة بالخليفة إِلى بغداد ونزل بالجانب الغربي، ونزل ناصر الدولة بالجانب الشرقي، ولم يخطب تلك الأيام للمطيع ببغداد، وجرى بينهم ببغداد قتال كثير، آخره أن ناصر الدولة وعسكره انهزموا، واستولى معز الدولة على الجانب الشرقي، وأعيد الخليفة إلى مكانه في المحرم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، واستقر معز الدولة ببغداد، وناصر الدولة بعكبرا، ثم سار ناصر الدولة إِلى الموصل، واستقر الصلح بين معز الدولة وناصر الدولة، في المحرم من سنة خمس وثلاثين.
وفاة القائم العلوي وولاية المنصور في هذه السنة توفي القائم بأمر الله أبو القاسم محمد بن المهدي عبيد الله صاحب المغرب لثلاث عشرة مضت من شوال، وقام بالأمر بعده ابنه إِسماعيل بن محمد، وتلقب بالمنصور بالله، وكتم موت القائم خوفاً من أبي يزيد الخارجي، واستمر كتمان ذلك حتى فرغ المنصور من أمر أبي يزيد الخارجي على ما ذكرناه، ثم اتسم بالخلافة، وضبط الملك والبلاد.
موت الإخشيد وملك سيف الدولة دمَشْق في هذه السنة مات الإخشيد بدمشق، وكان قد سار إِليها من مصر، وهو محمد بن طغج صاحب مصر ودمشق، وكان مولده سنة ثمان وستين ومائتين ببغداد، وكان الإخشيد قبل مسيره عن مصر، قد وجد بداره رقعة مكتوب عليها قدّرتم فأسأتم، وملكتم فبخلتم، ووسع عليكم فضيقتم، وأدرت لكم الأرزاق فقنطتم أرزاق العباد، واغتررتم بصفو أيامكم، ولم تتفكروا في عواقبكم، واشتغلتم بالشهوات، واغتنام اللذات وتهاونتم بسهام الأسحار وهن صائبات، ولا سيما إن خرجت من قلوب قرحتموها، وأكباد أجعتموها، وأجساد أعريتموها، ولو تأملتم في هذا حق التأمل لانتبهتم، أو ما علمتم أن الدنيا لو بقيت للعاقل، ما وصل إليها الجاهل، ولو دامت لمن مضى، ما نالها من بقي، فكفى بصحبة ملك يكون ملكه في زوال ملكه فرح للعالم، ومن المحال أن يموت المنتظرون كلهم، حتى لا يبقى منهم أحد، ويبقى المنتظر به، افعلوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون، وثقوا بقدرتكم وسلطانكم، فإنا بالله واثقون، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فبقي الإخشيد بعد سماع هذه الرقعة في فكر، وسافر إلى دمشق ومات وولي الأمر بعده ابنه أبو القسم أنوجور، وتفسيره محمود، واستولى على الأمر كافور الخادم الأسود، وهو من خدم الإخشيد، وكان أنوجور صغيراً، وسار كافور بعد موت الإخشيد إِلى مصر فسار سيف الدولة إِلى دمشق، وملكها، وأقام بها، واتفق أن سيف الدولة ركب يوماً والشريف العقيقي معه، فقال سيف الدولة: ما تصلح هذه الغوطة إِلا لرجل واحد.
فقال له العقيقي: هي لأقوام كثيرة: فقال سيف الدولة: لو أخذتها القوانين السلطانية لتبرؤا منها، فأعلم العقيقي أهل دمشق بذلك، فكاتبوا كافوراً يستدعونه، فجاءهم، فأخرجوا سيف الدولة عنهم. ثم استقر سيف الدولة بحلب، ورجع كافور إِلى مصر وولى على دمشق بدراً الإِخشيدي فأقام سنة ثم وليها أبو المظفر بن طغج.
غير ذلك من الحوادث فيها اشتد الغلاء وعُدمَ القوت، ببغداد، حتى وجد مع إِنسان صبي قد شواه ليأكله، وكثر في الناس الموت، وفيها توفي علي بن عيسى بن الجراح الوزير، وله تسعون سنة. وفيها توفي عمر بن الحسين الخرقي الحنبلي، وأبو بكر الشبلي الصوفي، وكان أبو الشبلي حاجباً للموفق أخي المعتمد، وحجب الشبلي أيضاً للموفق، ثم تاب وصحب الفقراء، حتى صار واحد زمانه في الدين والورع، وكان الشبلي المذكور مالكي المذهب، حفظ الموطأ، وقرأ كتب الحديث، وقال الجنيد عنه: لكل قوم تاج، وتاج القوم الشبلي. وفيها توفي محمد بن عيسى، ويعرف بأبي موسى الفقية الحنفي.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة فيها توفي أبو بكر الصولي وكان عالماً بفنون الأدب والأخبار، روى عن أبي العباس ثعلب وغيره، وروى عنه الدار قطني وغيره وللصولي التصانيف المشهورة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وثلاثمائة فيها عقد المنصور العلوي ولاية جزيرة صقلية للحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي، من تاريخ جزيرة صقلية تأليف صاحب تاريخ القيروان، واستمر الحسن بن علي يغزو ويفتح في جزيرة صقلية حتى مات المنصور، وتولى المعز، فاستخلف الحسن على صقلية ولده أبا الحسين أحمد ابن الحسن، فكانت ولاية الحسن بن علي على صقلية خمس سنين ونحو شهرين، وسار الحسن عن صقلية إِلى إِفريقية في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، ولما وصل الحسن إِلى إِفريقية، كتب المعز بولاية ابنه أحمد بن الحسن على صقلية فاستقر أحمد والياً عليها. وفي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة قدم أحمد بن الحسن من صقلية، ومعه ثلاثون رجلاً من وجوه الجزيرة، على المعز بإِفريقية فبايعوا المعز وخلع عليهم المعز، ثم أعاده إِلى مقره بصقلية، وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة ورد كتاب المعز على الأمير أحمد بصقلية، يأمره فيه يإِحصاء أطفال الجزيرة، وأن يختنهم ويكسوهم في اليوم الذي يطهر فيه المعز ولده، فكتب الأمير أحمد خمسة عشر ألف طفل وابتدأ أحمد فختن أخوته في مستهل ربيع الأول من هذه السنة، ثم ختن الخاص والعام، وخلع عليهم، ووصل من المعز مائة ألف درهم وخمسون حملا من الصلات، ففرقت في المختونين، وفي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة أرسل الأمير أحمد بسبي طبرمين بعد فتحها إِلى المعز، وجملته ألف وسبع مائة ونيف، وسبعون رأساً، وفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة جهز المعز أسطولاً عظيماً، وقدم عليهم الحسن بن علي بن الحسين والد الأمير أحمد، فوصل إِلى صقلية، واجتمعت الروم بها، وجرى بينهم قتال شديد، نصر الله فيه المسلمين، وقتل من الكفار فوق عشرة آلاف نفس، وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم، فكان في جملة ذلك عليه منقوش: " هذا سيف هندي وزنه مائة وسبعون مثقالاً، طالما ضرب به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث به الحسن بن علي إِلى المعز، وكذلك بعدة من الأسرى والسلاح، وسار الحسن بعد هذا النصر وأقام بقصره بصقلية، ولحقه المرض حتى توفي في ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وكان عمره ثلاثاً وخمسين سنة، وفي أواخر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة استقدم المعز الأمير أحمد من صقلية وسار منها بأهله وماله وولده، فكانت إمارته بها ست عشرة سنة وتسعة أشهر، ولما سار أحمد عنها استخلف على الجزيرة يعيش مولى أبيه الحسن بن علي، فلما وصل أحمد إِلى إِفريقية أرسل المعز أبا القاسم علي بن الحسن بن علي أخا الأمير أحمد المذكور، وولاه الجزيرة نيابة عن أخيه أحمد، فوصل أبو القاسم إِلى صقلية في منتصف شعبان سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة قدم المعز الأمير أحمد على الأسطول وأرسله إِلى مصر، فلما وصل إِلى طرابلس، اعتل أحمد بن الحسن المذكور ومات بها، وفي سنة ستين وثلاثمائة أرسل المعز إِلى أبي القاسم سجلاً باستقلاله بولاية صقلية، وتعزيته في أخيه أحمد وفي سنة ست وستين وثلاثمائة غزا الأمير أبو القاسم علي وعاد إِلى الأرض الكبيرةْ، ونزل بموضع يعرف بالأبرجة، فرأى عسكره قد أكثروا من جمع البقر والغنم، فأنكر ذلك وقال: لقد أثقلتم وهذا يعيقنا عن الغزو، فأمر بذبحها وتفريقها، فسميت تلك المرحلة مناخ البقر إِلى الآن، وشنت غاراته في الأرض الكبيرة، وأخرب فيها مدناً، ثم عاد إلى صقلية مؤيداً منصوراً، واستمر أبو القاسم يغزو إِلى سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، فجرى بينه وبين الفرنج قتال استشهد فيه أبو القاسم ولذلك يعرف بالشهيد، وكان مقتله في المحرم من السنة المذكور ومدة ولايته على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وأياماً.
ولما استشهد أبو القاسم، تولى الأمر بعده ابنه جابر بن أبي القاسم بغير ولاية من الخليفة، وكان جابر المذكور سيء التدبير، وفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وصل إلى صقلية جعفر بن محمد بن الحسين بن علي بن أبي الحسين أميراً عليها من قبل العزيز خليفة مصر، فاغتم جابر لذلك غماً عظيماً، وكان جعفر المذكور مواظباً للعزيز خليفة مصر، قريباً إِليه جداً، وكان للعزيز وزير يقال له ابن كلس، فغار من جعفر، فلما استشهد أبو القاسم أشار ابن كلس بتولية جعفر فأرسله العزيز إِليها، فسار جعفر إِلى صقلية، وهو كاره لذلك، وبقي جعفر والياً على صقلية حتى مات في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، فولى أخوه عبد الله بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي الحسين، وبقي عبد الله حتى توفي في سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وتولى بعده ولده أبو الفتوح يوسف بن عبد الله، وأحسن يوسف المذكور السيرة، وبقي على ولايته، ومات العزيز خليفة مصر، وتولى الحاكم واستوزر ابن عم يوسف المذكور، وهو حسن بن عمار بن علي بن أبي الحسين، وبقي حسن وزيراً بمصر، وابن عمه يوسف أميراً بصقلية، وفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة أصاب أبا الفتوح يوسف بن عبد الله فالج، فعطب جانبه الأيسر، فتولى في حياته ابنه جعفر ابن يوسف وأتاه سجل من الحاكم بالولاية ولقبه تاج الدولة، فبقي مدة، ثم أحدث على أهل صقلية مظالم، فخرجوا عن طاعته، وحصروا جعفر المذكور في القصر، فخرج إِليهم والده يوسف وهو مفلوج في محفة، ورد الناس، وشرط لهم عزل جعفر، فعزله وولى موضعه أخاه تأييد الدولة أحمد الأكحل بن يوسف، وانعزل جعفر وتولى الأكحل في المحرم سنة عشر وأربع مائة، وبقي الأكحل حتى خرج عليه أهل صقلية وقتلوه في سنة سبع وعشرين وأربع مائة، ولما قتلوا الأكحل، ولوا أخاه الحسن صمصام الدولة، فجرى في أيامه اختلاف بين أهل الجزيرة وتغلبت الخوارج عليه، حتى صارت للفرنج على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وفي هذه السنة ملك معز الدولة الموصل، وسار عنها ناصر الدولة إِلى نصيين، ثم جاءت الأخبار بحركة عسكر خراسان على بلاد معز الدولة، فرحل عن الموصل وعاد إِليها ناصر الدولة.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.
موت عماد الدولة بن بويه وفي هذه السنة، مات عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه بشيراز، في جمادى الآخرة وكانت علته قرحة في كلاه، طالت به وتوالت به الأسقام، ولم يكن لعماد الدولة ولد ذكر، فلما أحس بالموت، أرسل إِلى أخيه ركن الدولة، يطلب منه ابنه عضد الدولة فناخسرو، ليجعله عماد الدولة ولي عهده، وارث مملكته بفارس، وكان ذلك قبل موته بسنة، ووصل عضد الدولة إِلى عمه عماد الدولة، فولاه عماد الدولة مملكته في حياته، وأمر الناس بالانقياد إِلى عضد الدولة، ولما مات عماد الدولة، بقي ابن أخيه عضد الدولة بفارس. واختلف عليه عسكره، فسار أبوه ركن الدولة من الري إِليه، وقرر قواعد عضد الدولة، ولما وصل ركن الدولة شيراز، ابتدأ بزيارة قبر أخيه عماد الدولة باصطخر، فمشى إِليه حافياً حاسراً، ومعه العساكر على تلك الحال، ولزم القبر ثلاثة أيام إِلى أن سأله القواد والأكابر الرجوع إِلى المدينة، فرجع إِليها وكان عماد الدولة في حياته هو أمير الأمراء، فلما مات صار أخوه ركن الدولة أمير الأمراء، وكان معز الدولة هو المستولي على العراق وهو كالنائب عنهما.
وفي هذه السنة مات المستكفي المخلوع، وهو في الحبس أعمى.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة في هذه السنة مات وزير معز الدولة محمد الصيمري، واستوزر معز الدولة أبا محمد الحسن المهلبي. وفي هذه السنة غزا سيف الدولة بلاد الروم، فأوغل فيها، وغنم وقتل، فلما عاد أخذت الروم عليه المضائق فهلك غالب عسكره وما معه، ونجا سيف الدولة بنفسه في عدد يسير. وفي هذه السنة أعادت القرامطة الحجر الأسود إلى مكة، وكان قد أخذوه سنة سبع عشرة وثلاثمائة، فكان لبثه عندهم اثنين وعشرين سنة.
غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة توفي أبو نصر محمد بن طرخان الفارابي الفيلسوف، وكان رجلاً تركياً، ولد بفاراب، التي تسمى هذا الزمان أُطرار، بضم الهمزة وسكون الطاء المهملة وبين الرائين المهملتين ألف، وهي من المدن العظام، سافر الفارابي من بلده حتى وصل إِلى بغداد، وهو يعرف اللسان التركي وعدة لغات فشرع في اللسان العربي فتعلمه، وأتقنه، ثم اشتغل بعلوم الحكمة واشتغل على أبي بشر متى بن يونس الحكيم المشهور في المنطق، وأقام الفارابي على ذلك برهة، ثم ارتحل إِلى مدينة حران، واشتغل بها على أبي حيا الحكيم النصراني، ثم قفل إلى بغداد، وأتقن علوم الفلسفة، وحل كتب أرسطو وأتقن علم الموسيقى، وألف ببغداد معظم تصانيفه. ثم سافر إِلى دمشق، ولم يقم بها، وسافر إِلى مصر ثم عاد إِلى دمشق، وأقام بها في أيام ملك سيف الدولة بن حمدان، فأحسن اليد، وكان على زي الأتراك لم يغير ذلك، وحضر يوماً عند سيف الدولة بدمشق، بحضرة فضلائها فما زال كلام الفارابي يعلو، وكلامهم يسفل، حتى صمت الكل ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، وكان الفارابي منفرداً بنفسه لا يجالس الناس، وكان في مدة مقامه بدمشق لا يكون إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض، وكان أزهد الناس في الدنيا، وأجرى عليه سيف الدولة كل يوم أربعة دراهم، فاقتصر علمها، ولم يزل مقيماً بدمشق إلى أن توفي بها، وقد ناهز ثمانين سنة ودفن خارج الباب الصغير.
وفي هذه السنة مات الزجاجي النحوي، وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن إِسحاق، صحب إِبراهيم بن السري الزجّاج، فنسب إِليه وعرف به، وكان إِمام وقته وصنف الجمل في النحو.
ثم دخلت سنة أربعين وثلاثمائة في هذه السنة توفي عبد الله بن الحسين الكرخي، الفقيه المشهور، الحنفي المعتزلي، وكان عابداً، ومولده سنة ستين ومائتين، وأبو جعفر الفقيه، توفي ببخارى.
وفيها توفي أبو إِسحاق إِبراهيم بن أحمد بن إسحاق المروزي الفقيه الشافعي بمصر، وانتهت إِليه الرئاسة بالعراق بعد ابن سريج، وصنف كتباً كثيرة، وشرح مختصر المزني.
ثم دخلت سنة إِحدى وأربعين وثلاثمائة في هذه السنة سار يوسف بن وجيه، صاحب عمان في البحر والبر إِلى البصرة، وحصرها، وساعده القرامطة على ذلك، وأمدوه بجمع منهم وأقاموا هناك أياماً، فأدركهم المهلبي وزير معز الدولة بالعساكر فرحلوا عنها.
وفاة المنصور العلوي وفي هذه السنة، توفي المنصور بالله العلوي أبو طاهر إِسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن عبيد الله المهدي سلخ شوال، وكانت خلافته سبع سنين وستة عشر يوماً. وكان عمره تسعاً وثلاثين سنة، وكان خطيباً بليغاً، يخترع الخطبة لوقته، وظهر من شجاعته في قتال أبي يزيد الخارجي ما تقدم ذكره، وعهد إِلى ابنه أبي تميم معد بن المنصور إسماعيل بولاية العهد وهو معد المعز لدين الله، فبايعه الناس في يوم مات أبوه في سلخ شوال من هذه السنة، وأقام في تدبير الأمور إِلى سابع ذي الحجة فأذن للناس فدخلوا إِليه، وسلموا عليه بالخلافة، وكان عمر المعز إِذا ذاك أربعاً وعشرين سنة.
غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة ملك الروم مدينة سروج وسبوا أهلها وغنموا أموالهم، وخربوا المساجد. وفيها توفي أبو علي إِسماعيل بن محمد بن إِسماعيل الصفار النحوي المحدث، وهو من أصحاب المبرد، وكان مولده سنة سبع وأربعين ومائتين، وكان ثقة.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، ودخلت سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة.
موت الأمير نوح بن نصر
بن أحمد بن إِسماعيل وولاية ابنه عبد الملك
في هذه السنة مات الأمير نوح بن نصر الساماني، في ربيع الآخر، وكانت ولايته في سنة إِحدى وثلاثين وثلاثمائة، وكان يلقب بالأمير الحميد، وكان حسن السيرة كريم الأخلاق، ولما توفي ملك بعده ابنه عبد الملك بن نوح.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة في ربيع الأول، غزا سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم، فغنم وقتل، ووقع بينه وبين الروم وقعة عظيمة، قتل فيها من الفريقين عالم كثير، وانتصر فيها سيف الدولة. وفيها أرسل معز الدولة سبكتكين في جيش إلى شهرزور، فعاد ولم يفتحها. وفيها مات محمد بن العباس، المعروف بابن النحوي الفقيه، ومحمد بن القاسم الكرخي.