كتاب : الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء
المؤلف: أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي
ثم إن أبا عبيدة جاء من الغد فخرجوا أيضا فاستقبلوه بما يحب فلبث يومين
أو ثلاثة ثم أمر خالدا فسار حتى بلغ بعلبك وأرض البقاع فغلب على أرض
البقاع وأقبل قبل بعلبك حتى نزل عليها فخرج إليه منها رجل فأرسل إليهم
فرسانا من المسلمين نحوا من خمسين فيهم ملحان بن زياد الطائي وقنان ابن
دارم العبسي فحملوا عليهم حتى أقحموهم الحصن فلما رأوا ذلك بعثوا في طلب
الصلح فأعطاهم ذلك أبو عبيدة وكتب لهم كتابا
ثم إنه خرج نحو حمص فجمع
له أهلها جمعا عظيما ثم استقبلوه بجوسية فرماهم بخالد بن الوليد فلما نظر
إليهم خالد قال يا أهل الإسلام الشدة الشدة ثم حمل عليهم خالد وحمل
المسلمون معه فولوا منهزمين حتى دخلوا مدينتهم وبعث خالد ميسرة بن مسروق
فاستقبل خيلا لهم عظيمة عند نهير قريب من حمص فطاردهم قليلا ثم حمل عليهم
فهزمهم وأقبل رجل من المسلمين من حمير يقال له شرحبيل فعرض له منهم فوارس
فحمل عليهم وحده فقتل منهم سبعة ثم جاء إلى نهر دون حمص مما يلي دير مسحل
فنزل عن فرسه فسقاه وجاء نحو من ثلاثين فارسا من أهل حمص فنظروا إلى رجل
واحد فأقبلوا نحوه فلما رأى ذلك أقحم فرسه وعبر الماء إليهم ثم ضرب فرسه
فحمل عليهم فقتل أول فارس ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم
انهزموا
وتبعهم وحده فلم يزل يقتل واحدا واحدا حتى انتهوا إلى دير مسحل وقد صرع
منهم أحد عشر رجلا فاقتحموا جوف الدير واقتحم معهم فرماه أهل الدير
بالحجارة حتى قتلوه رحمه الله
وجاء ملحان بن زياد وعبد الله بن
قرط وصفوان بن المعطل إلى المدينة فأخذوا يطيفون بها يريدون أن يخرج إليهم
أهلها فلم يخرجوا وجاء المسلمون حتى نزلوا على باب الرستن فزعم النضر بن
شفي أن رجلا من آل ذي الكلاع كان أول من دخل مدينة حمص وذلك أنه حمل من
جهة باب الشرقي فلم يرد وجهه شيء فإذا هو في جوف المدينة فلما رأى ذلك ضرب
فرسه فخرج كما هو على وجهه ولا يرى إلا أنه قد هلك حتى خرج من باب الرستن
فإذا هو في عسكر المسلمين
وحاصر المسلمون أهل حمص حصارا شديدا فأخذوا
يقولون للمسلمين اذهبوا نحو الملك فإن ظفرتم به فنحن كلنا لكم عبيد فأقام
أبو عبيدة على باب الرستن بالناس وبث الخيل في نواحي أرضهم فأصابوا غنائم
كثيرة وقطعوا عنهم المادة والميرة واشتد عليهم الحصار وخشوا السباء
فأرسلوا إلى المسلمين يطلبون الصلح فصالحهم المسلمون وكتبوا لهم كتابا
بالأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وعلى أن يضيفوا المسلمين يوما وليلة
وعلى أن على أرض حمص مائة ألف دينار وسبعين ألف دينار وفرغوا من الصلح
وفتحوا باب المدينة للمسلمين فدخلوها وأمن بعضهم بعضا
وكتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما
بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبي عبيدة بن الجراح سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو
أما
بعد فأحمد الله الذي أفاء علينا وعليك يا أمير المؤمنين أفضل كورة بالشام
أكثرها أهلا وقلاعا وجمعا وخراجا وأكبتهم للمشركين كبتا وأيسره على
المسلمين فتحا أخبرك يا أمير المؤمنين أصلحك الله أنا قدمنا بلاد حمص وبها
من المشركين عدد كثير والمسلمون يزفون إليهم ببأس شديد فلما دخلنا بلادهم
ألقى الله الرعب في قلوبهم ووهن كيدهم وقلم أظفارهم فسألونا الصلح وأذعنوا
بأداء الخراج فقبلنا منهم وكففنا عنهم ففتحوا لنا الحصون واكتتبوا منا
الأمان وقد وجهنا الخيول إلى الناحية التي بها ملكهم وجنوده
نسأل الله ملك الملوك وناصر الجنود أن يعز المسلمين بنصره وأن يسلم المشرك الخاطئ بذنبه والسلام عليك
فكتب إليه عمر
أما
بعد فقد بلغني كتابك تأمرني فيه بحمد الله على ما أفاء علينا من الأرض
وفتح علينا من القلاع ومكن لنا في البلاد وصنع لنا ولكم وأبلانا وإياكم من
حسن البلاء فالحمد لله على ذلك حمدا كثيرا ليس له نفاد ولا يحصى له تعداد
وذكرت أنك وجهت الخيول نحو البلاد التي فيها ملك الروم وجموعهم فلا تفعل
ابعث إلى خيلك فأضممها إليك وأقم حتى يمضي هذا الحول ونرى من رأينا
ونستعين الله ذا الجلال والإكرام على جميع أمرنا والسلام عليك
فلما أتى
أبا عبيدة الكتاب دعا رءوس المسلمين فقال لهم إني قد كنت قدمت ميسرة بن
مسروق إلى ناحية حلب وأنا أريد الإقدام والغارة على ما دون الدرب من أرض
الروم وكتبت بذلك إلى أمير المؤمنين فكتب إلي أن أصرف إلى خيلي وأن أتربص
بهم الحول حتى يرى من رأيه فقالوا لم يألك أمير المؤمنين والمسلمين نظرا
وخيرا فسرح إلى ميسرة وقد كان أشرف على حلب ودنا منها فيجامعه كتاب إلى
ميسرة
أما بعد فإذا لقيت رسولي فأقبل معه ودع ما كنت وجهتك إليه حتى نرى من رأينا وننظر ما يأمرنا به خليفتنا والسلام
فأقبل ميسرة في أصحابه حتى انتهى إلى أبي عبيدة بحمص فنزل معه
وخرج
أبو عبيدة فعسكر بالناس ودعا خالد بن الوليد فقال له اخرج إلى دمشق
فأنزلها في ألف رجل من المسلمين وأقيم أنا هاهنا ويقيم عمرو بن العاص في
مكانه الذي هو فيه فيكون بكل جانب من الشام طائفة من المسلمين فهو أقوى
لنا عليها وأحرى أن نضبطها فخرج خالد في ألف رجل حتى أتى دمشق وبها سويد
بن كلثوم بن قيس القرشي من بني محارب بن فهر وكان أبو عبيدة خلفه بها في
خمسمائة رجل فقدم خالد فعسكر على باب من أبوابها ونزل سويد في جوفها
وعن
أدهم بن محرز بن أسد الباهلي قال أول راية دخلت أرض حمص ودارت حول مدينتها
راية ميسرة بن مسروق ولقد كانت لأبي أمامة راية ولأبي راية وإن أول رجل من
المسلمين قتل رجلا من المشركين لأبي إلا أن يكون رجل من حمير فإنه حل هو
وأبي جميعا فكل واحد منهما قتل في حملته رجلا فكان أبي يقول أنا أول رجل
من المسلمين قتل رجلا من المشركين بحمص لا أدري ما الحميري فإني حملت أنا
وهو فقتل كل رجل منا في حملته رجلا ولا أخال إلا أني قتلت قتيلي قبل قتيله
وقال أدهم إني لأول مولود بحمص وأول مولود فرض له بها وأول من رئى فيها بيده كتف يختلف إلى الكتاب ولقد شهدت صفين وقاتلت
وقال
عبد الله بن قرط عسكر أبو عبيدة ونحن معه حول حمص نحوا من ثمان عشرة ليلة
وبث عماله في نواحي أرضها واطمأن في عسكره وذهبت منهزمة الروم من فحل حتى
قدمت على ملك الروم بأنطاكية وخرجت فرسان من فرسان الروم ورجال من عظمائهم
وذوي الأموال والغنى والقوة منهم ممن كان
أوطن بالشام فدخلوا قيسارية وتحصن أهل فلسطين بإيلياء
ولما
قدمت المنهزمة على هرقل دعا رجالا منهم فقال لهم أخبروني ويلكم عن هؤلاء
القوم الذين تلقونهم أليسوا بشرا مثلكم قالوا بلى قال فأنتم أكثر أم هم
قالوا نحن أكثر منهم أضعافا وما لقيناهم في موطن إلا ونحن أكثر منهم قال
ويلكم فما بالكم تنهزمون إذا لقيتموهم فسكتوا فقام شيخ منهم فقال أنا
أخبرك أيها الملك من أين يؤتون قال فأخبرني قال إنهم إذا حمل عليهم صبروا
وإذا حملوا لم يكذبوا ونحن نحمل فنكذب ويحمل علينا فلا نصبر قال وما بالكم
كما تصفون وهم كما تزعمون قال الشيخ ما أراني إلا قد علمت من أين هذا قال
له ومن أين هذا قال من أجل أن لقوم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون
بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وإنا نشرب الخمر ونرتكب المحارم
وننقض العهد ونأمر بما يسخط الله وننهي عما يرضيه ونفسد في الأرض قال
صدقتني لأخرجن من هذه القرية ولأدعن هذه البلدة وما لي في صحبتكم من خير
وأنتم هكذا قال نشدتك الله أيها الملك أن تفعل تدع سورية جنة الدنيا للعرب
وتخرج منها ولما تقاتل وتجهد قال قد قاتلتموهم غير مرة بأجنادين وفحل
ودمشق والأردن وفلسطين وحمص وفي غير موطن كل ذلك تنهزمون وتفرون وتغلبون
قال الشيخ حولك من الروم عدد الحصى والثرى والذر لم يلقهم منهم إنسان ثم
تريد أن تخرج منها وترجع بهؤلاء جميعا من قبل أن يقاتلوا
فإن هذا الشيخ ليكلمه إذ قدم عليه وفد قيسارية وإيلياء وسيأتي خبرهم بعد إن شاء الله
وذكر
الطبري عن سيف أن هرقل لما بلغه الخبر بمقتل أهل المرج أمر أمير حمص
بالمضي إليها وقال له إنه بلغني يعني عن المسلمين أن طعامهم لحوم الإبل
وشرابهم ألبانها وهذا الشتاء فلا تقاتلوهم إلا في كل يوم بارد فإنه
لا يبقى إلى الصيف منهم أحد هذا جل طعامه وشرابه وارتحل في عسكره ذلك حتى أتى الرها
وأقبل
أبو عبيدة حتى نزل على حمص وأقبل خالد بعده حتى ينزل عليها فكان أهلها
يغادون المسلمين ويراوحونهم في كل يوم بارد ولقي المسلمون بها بردا شديدا
والروم حصارا طويلا فأما المسلمون فصبروا ورابطوا وأفرغ الله عليهم الصبر
وأعقبهم النصر حتى انصرم الشتاء وإنما تمسك الروم بالمدينة رجاء أن يهلكهم
الشتاء فكانوا يتواصون فيما بينهم ويقولون تمسكوا فإنهم جفاة فإذا أصابهم
البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون فكانت الروم ترجع وقد سقطت
أقدام بعضهم في خفافهم وإن المسلمين لفي النعال ما أصيب أصبع أحد منهم حتى
إذا انخنس الشتاء قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين قالوا كيف
والملك في عزه وملكه ليس بيننا وبينهم شيء فتركهم وقام فيهم آخر وقال ذهب
الشتاء وانقطع الرجاء فما تنتظرون قالوا البرسام فإنما يسكن في الشتاء
ويثور في الصيف قال إن هؤلاء قوم يعانون ولأن تأتوهم بعهد وميثاق خير من
أن تؤخذوا عنوة أجيبوني محمودين قبل أن تجيبوني مذمومين فقالوا شيخ خرف
ولا علم له بالحرب وأثاب الله المسلمين على صبرهم أيام حمص فيما حكي عن
بعض أشياخ من غسان وبلقين أن زلزل بأهل حمص وذلك أن المسلمين ناهدوهم
فكبروا تكبيرة زلزلت معها الروم في المدينة وتصدعت الحيطان ففزعوا إلى
رؤسائهم وذوي رأيهم ممن كان يدعوهم إلى المسالمة فلم يجيبوهم وأذلوهم بذلك
ثم كبروا الثانية فتهافتت دور كثيرة وحيطان وفزعوا إلى رؤسائهم وذوي رأيهم
فقالوا ألا ترون إلى عذاب الله فأجابوهم لا يطلب الصلح غيركم فأشرفوا
ينادون الصلح الصلح ولا يشعر المسلمون بما حدث فيهم فأجابوهم وقبلوا منهم
على أنصاف دورهم وعلى أن يترك المسلمون أموال ملوك الروم وبنيانهم لا
ينزلونه عليهم فتركوه لهم فصالح بعضهم على صلح دمشق على دينار وطعام على
كل جريب أبدا
أيسروا أو أعسروا وصالح بعضهم على قدر طاقته إن
زاد ماله زيد عليه وإن نقص نقص وعلى هذين الوجهين كان صلح دمشق والأردن
وولوا معاملة ما جلا ملوكهم عنه
حديث حمص آخر
قالوا وغزى هرقل أهل حمص في البحر واستمد أهل الجزيرة واستشار أهل حمص فأرسلوا إليه بأنا قد عاهدنا فنخاف أن لا ننصر
واستمد أبو عبيدة خالد فأمده بمن معه جميعا لم يخلف أحدا فكفر أهل قنسرين بعده وتابعوا هرقل وكان أكثر من هنالك تنوخ الحاضر
ودنا
هرقل من حمص وعسكر وبعث البعوث إلى حمص فأجمع المسلمون على الخندقة
والكتاب إلى عمر إلا ما كان من خالد فإن المناجزة كانت رأيه فخندقوا على
حمص وكتبوا إلى عمر واستصرخوه
وجاء الروم ومن أمدهم حتى نزلوا عليهم
فحصروهم وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفا سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم
فبلغوا من المسلمين كل مبلغ
وجاء الكتاب إلى عمر وهو موجه إلى مكة للحج
فمضى لحجة وكتب إلى سعد بن أبي وقاص إن أبا عبيدة قد أحيط به ولزم حصنه
فبث المسلمين بالجزيرة واشغلهم بالخيول عن أهل حمص وأمد أبا عبيدة
بالقعقاع بن عمرو
فخرج القعقاع ممدا لأبي عبيدة وخرجت الخيول نحو الرقة
ونصيبين وحران فلما وصلوا الجزيرة وبلغ ذلك الروم الذين كانوا منها وهم
بحمص تقوضوا إلى مدائنهم وبادروا المسلمين إليها فتحصنوا ونزل عليهم
المسلمون فيها ولما دنا القعقاع من حمص راسلت طائفة من تنوخ خالدا ودلوه
وأخبروه بما عندهم من الخبر فأرسل إليهم خالد والله لولا أني في سلطان
غيري ما
باليت قللتم أم كثرتم أو أقمتم أو ذهبتم فإن كنتم صادقين
فانفشوا كما انفش أهل الجزيرة فساموا سائر تنوخ ذلك فأجابوهم وراسلوا
خالدا إن ذلك إليك فإن شئت فعلنا وإن شئت أن تخرج علينا فننهزم بالروم
وأوثقوا له فقال بل أقيموا فإذا خرجنا فانهزموا بهم
فقال
المسلمون لأبي عبيدة قد أنفش أهل الجزيرة وقد ندم أهل قنسرين وواعدوا من
أنفسهم وهم العرب فاخرج بنا وخالد ساكت فقال يا خالد ما لك لا تتكلم فقال
قد عرفت الذي كان من رأيي فلم تسمع من كلامي قال فتكلم فإني أسمع منك
وأطيعك قال فاخرج بالمسلمين فإن الله تعالى قد نقص من عدتهم وبالعدد
يقاتلون ونحن إنما نقاتل منذ أسلمنا بالنصر فلا تجفلك كثرتهم
قالوا فجمع أبو عبيدة الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال
أيها
الناس إن هذا يوم له ما بعده أما من حي منكم فإنه يصفوا له ملكه وقراره
وأما من مات منكم فإنها الشهادة فأحسنوا بالله الظن ولا يكرهن إليكم الموت
أمر اقترفه أحدكم دون الشرك توبوا إلى الله وتعرضوا للشهادة فإني أشهد
وليس أوان الكذب أني سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول من مات لا
يشرك بالله شيئا دخل الجنة
فكأنما كانت بالناس عقل تنشطت فخرج بهم
وخالد على الميمنة وقيس على الميسرة وأبو عبيدة في القلب وعلى باب المدينة
معاذ بن جبل فاجتلدوا بها فإنهم كذلك إذ قدم القعقاع متعجلا في مائة
فانهزم أهل قنسرين بالروم فاجتمع القلب والميمنة على قلبهم وقد انكسر أحد
جناحيه فما أفلت منهم مخبر وذهبت الميسرة على وجهها وآخر من أصيب منهم
بمرج الديباج انتهوا إليه فكسروا سلاحهم وألقوا بلامهم تخففا فأصيبوا
وتغنموا
ولما ظفر المسلمون جمعهم أبو عبيدة فخطبهم وقال لهم لا تتكلوا ولا تزهدوا في الدرجات
فتح قنسرين
وبعث بعد فتح حمص خالد بن الوليد إلى قنسرين فلما نزل بالحاضر زحف إليه الروم وعليهم ميناس وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل فالتقوا بالحاضر فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب وأنهم إنما حشدوا ولم يكن من رأيهم حربه فقبل منهم وتركهمولما بلغ ذلك عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قال أمر خالد نفسه يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم
الرجال مني وكان قد عزله والمثنى بن حارثة عند قيامه بالأمر وقال إني لم
أعزلهما عن ريبة ولكن الناس عظموهما فخشيت أن يوكلوا إليهما
ويروى أنه
قال حين ولي والله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله
إنما ينصر دينه لا إياهما فلما كان من أمر خالد في قنسرين ما كان رجع عن
رأيه
وسار خالد حتى نزل على قنسرين فتحصنوا منه فقال إنكم لو كنتم في
السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلنكم إلينا فنظروا في أمرهم وذكروا ما
لقي أهل حمص وقنسرين فسألوه الصلح على مثل صلحها فأبى إلا على إخراب
المدينة فأخربها
واتطأت حمص وقنسرين فعند ذلك خنس هرقل وخرج نحو
القسطنطينية وأفلت رجل من الروم كأن أسيرا في أيدي المسلمين فلحق بهرقل
فقال له أخبرني عن هؤلاء القوم فقال أحدثك كأنك تنظر إليهم فرسان بالنهار
ورهبان بالليل ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن ولا يدخلون إلا بسلام يقفون
على من حاربهم حتى يأتوا عليه فقال لئن كنت صدقتني ليرثن ما تحت قدمي هاتين
وكان
هرقل كلما حج بيت المقدس فخلف سورية وظعن في أرض الروم التفت فقال السلام
عليك يا سورية تسليم مودع لم يقض منك وطره وهو عائد فلما توجه المسلمون
نحو حمص عبر الماء فنزل الرها فلم يزل بها حتى إذا فتحت قنسرين وقتل ميناس
خنس عند ذلك إلى شمشاط حتى إذا فصل منها نحو أرض الروم على شرف فالتفت نحو
سورية وقال عليك السلام يا سورية سلاما لا اجتماع بعده ولا يعود إليك رومي
أبدا إلا خائفا حتى يولد المولود المشؤوم ويا ليته لا يولد ما أحلى فعله
وما أمر عاقبته على الروم ثم مضى حتى نزل قسطنطينية
وهذا مقتضب من أحاديث متفرقة ذكرها سيف في كتابه
جمع الروم للمسلمين
ثم
نعود إلى صلة ما قطعنا قبل من الحديث عن وفد أهل إيلياء وقيسارية القادم
على هرقل إذ قد وعدنا بذكره حسب ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام في كتبهم
وذلك
أن أهل قيسارية وأهل إيلياء تواطأوا بعد يوم فحل وتآمروا أن يبعثوا وفدا
منهم إلى هرقل بأنطاكية فيخبروه بتمسكهم بأمره وإقامتهم على طاعته وخلافهم
العرب ويسألونه المدد والنصر فلما جاءه وفدهم هذا رأى أن يبعث الجنود
ويقيم هو بأنطاكية فأرسل إلى رومية والقسطنطينية وإلى من كان من جنوده
وعلى دينه من أهل الجزيرة وأرمينية وكتب إلى عماله أن يحشروا إليه كل من
أدرك الحلم من أهل مملكته فما فوق ذلك إلى الشيخ الفاني فأقبلوا إليه وجاء
منهم ما لا تحمله الأرض وجاءه جرجير صاحب أرمينية في ثلاثين ألفا وآتاه
أهل الجزيرة ونزع إليه أهل دينه وجميع من كان في طاعته فدعا باهان وكان من
عظمائهم وأشرافهم فعقد له على مائة ألف ودعا ابن قماطر فعقد له على مائة
ألف فيهم جرجير ومن معه من أهل أرمينية ودعا الدرنجار فعقد له على مائة
ألف ثم أعطى الأمراء مائة ألف مائة ألف وأعطى باهان مائتي ألف وقال لهم
إذا اجتمعتم فأميركم باهان ثم قال
يا معشر الروم إن العرب قد ظهروا على
سورية ولم يرضوا بها حتى تعاطوا أقصى بلادكم وهم لا يرضون بالبلاد
والمدائن والبر والشعير والذهب والفضة حتى يسبوا الأمهات والبنات والأخوات
والأزواج ويتخذوا الأحرار وأبناء الملوك عبيدا فامنعوا حرمتكم وسلطانكم
ودار ملككم
قال عبد الله بن قرط والحديث له ثم وجههم إلينا
فقدمت عيوننا من قبلهم فخبرونا بمقالة ملكهم وبمسيرهم إلينا وجمعهم لنا
ومن أجلب معهم م غيرهم علينا ممن كان على دينهم وفي طاعتهم فلما جاء أبا
عبيدة الخبر عن عددهم وكثرتهم رأى أن لا يكتم ذلك المسلمين وأن يستشيرهم
فيه لينظر ما يؤول إليه رأي جماعتهم فدعا رءوس المسلمين وأهل الصلاح منهم
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الله عز وجل قد أبلاكم أيها
المؤمنون فأحسن البلاء وصدقكم الوعد وأعزكم بالنصر وأراكم في كل موطن ما
تسرون به وقد سار إليكم عدوكم من المشركين بعدد كثير ونفروا إليكم فيما
حدثني عيوني نفير الروم الأعظم فجاؤوكم برا وبحرا حتى خرجوا إلى صاحبهم
بأنطاكية ثم قد وجه إليكم ثلاثة عساكر في كل عسكر منها ما لا يحصيه إلا
الله من البشر وقد أحببت أن أ لا أغركم من أنفسكم ولا أطوي عنكم خبر عدوكم
ثم تشيرون علي برأيكم وأشير عليكم برأيي فإنما أما كأحدكم فقام يزيد بن
أبي سفيان فقال
نعم ما رأيت رحمك الله إذ لم تكتم عنا ما أتاك من عدونا
وأنا مشير عليكم فإن كان صوابا فذاك ما نويت وإن يكن الرأي غير ما أشير به
فإني لا أتعمد غير ما يصلح المسلمين أرى أن نعسكر على باب مدينة حمص
بجماعة المسلمين وندخل النساء والأبناء داخل المدينة ثم نجعل المدينة في
ظهورنا ثم نبعث إلى خالد فيقدم عليك من دمشق وإلى عمرو بن العاص فيقدم
عليك من الأردن فتلقاهم بجماعة من معك من المسلمين
وقام شرحبيل بن حسنة فقال
إن
هذا مقام لا بد فيه من النصيحة للمسلمين وإن خالف الرجل منا أخاه وإنما
على كل رجل منا أن يجتهد رأيه وأنا الآن فقد رأيت غير ما رأى يزيد وهو
والله عندي من الناصحين لجماعة المسلمين ولكن لا أجد بدا من أن أشير عليكم
بما أظنه خيرا للمسلمين
إني لا أرى أن ندخل ذراري المسلمين مع
أهل حمص وهم على دين عدونا هذا الذي قد أقبل إلينا ولا آمن إن وقع بيننا
وبينهم من الحرب ما نتشاغل به أن ينقضوا عهدنا وأن يثبوا على ذرارينا
فيتقربوا بهم إلى عدونا
فقال له أبو عبيدة إن الله قد أذلهم لكم
وسلطانكم أحب إليهم من سلطان عدوكم وأما إذ ذكرت ما ذكرت وخوفتنا ما خوفت
فإني أخرج أهل المدينة منها وأنزلها عيالنا وأدخل رجالا من المسلمين
يقومون على سورها وأبوابها ونقيم نحن بمكاننا هذا حتى يقدم علينا أخواننا
فقال له شرحبيل إنه ليس لك ولا لنا معك أن نخرجهم من ديارهم وقد صالحناهم على ألا نخرجهم منها
فأقبل أبو عبيدة على جماعة من عنده فقال ماذا ترون رحمكم الله
فقالوا نرى أن نقيم ونكتب إلى أمير المؤمنين فنعلمه نفير الروم إلينا وتبعث إلى من بالشام من أخوانك المسلمين فيقدموا عليك
فقال أبو عبيدة إن الأمر أجل وأعظم مما تحسبون ولا أحسب القوم إلا سيعاجلونكم قبل وصول خبركم إلى أمير المؤمنين
فقام إليه ميسرة بن مسروق فقال
أصلحك
الله إنا لسنا بأصحاب القلاع ولا الحصون ولا المدائن وإنما نحن أصحاب البر
والبلد والقفر فأخرجنا من بلاد الروم ومدائنها إلى بلادنا أو إلى بلاد من
بلادهم تشبه بلادنا إن كانوا قد جاشوا علينا كما ذكرت ثم اضمم إليك قواصيك
وابعث إلى أمير المؤمنين فليمددك
فقال كل من حضر ذلك المجلس الرأي ما رأى ميسرة فقال لهم أبو عبيدة فتهيأوا وتيسروا حتى أرى من رأي
وكان رأي أبي عبيدة أن يقيموا ولا يبرحوا ولكنه كره خلافهم ورجا أن يكون في اجتماع رأيهم الخير والبركة
ثم
بعث إلى حبيب بن مسلمة وكان استعمله على الخراج فقال انظر ما كنت جبيت من
حمص فاحتفظ به حتى آمرك فيه ولا تجبين أحدا ممن بقي حتى أحدث إليك في ذلك
ففعل فلما أراد أبو عبيدة أن يشخص دعا حبيبا فقال له اردد على القوم الذين
كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم وقل لهم نحن على ما كان
بيننا وبينكم من الصلح لا نرجع عنه إلا أن ترجعوا وإنما رددنا عليكم
أموالكم كراهية أن نأخذها ولا نمنع بلادكم ولكنا نتنحى إلى بعض الأرض
ونبعث إلى أخواننا فيقدموا علينا ثم نلقى عدونا فإن أظفرنا الله بهم وفينا
لكم بعهدكم إلا ألا تطلبوا ذلك
ثم أخذ الناس في الرحيل إلى دمشق ورد
حبيب بن مسلمة إلى أهل البلد ما كان أخذ منهم وأخبرهم بما قال أبو عبيدة
فقالوا ردكم الله إلينا ولعن الله الذين كانوا يملوكننا من الروم لكنهم
والله لو كانوا هم ما ردوا علينا بل غصبونا وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه
من أموالنا
وأعلم أبو عبيدة عمر بن الخطاب بكل ما قبله قال سفيان بن
عوف بن معقل بعثني أبو عبيدة ليلة غدا من حمص إلى دمشق فقال ائت أمير
المؤمنين فأبلغه مني السلام وأخبره بما قد رأيت وعاينت وبما جاءتنا به
العيون وبما استقر من كثرة العدو وبالذي رأى المسلمون من التنحي عنهم وكتب
إليه معه
أما بعد فإن عيوني قدمت علي من أرض قنسرين ومن القرية التي
فيها ملك الروم فحدثوني بأن الروم قد توجهوا إلينا وجمعوا لنا من الجموع
ما لم يجمعوه قط لأمة كانت قبلنا وقد دعوت المسلمين فأخبرتهم الخبر
واستشرتهم في الرأي
فاجتمع رأيهم على أن يتنحوا عنهم حتى يأتينا رأيك
وقد بعثت إليك رجلا عنده علم ما قبلنا فاسأله عما بدا لك فإنه بذلك عليم
وهو عندنا أمين ونستعين الله العزيز الحكيم وهو حسبنا ونعم الوكيل والسلام
عليك
قال سفيان فلما قدمت على أمير المؤمنين سلمت عليه فقال
أخبرني عن الناس فأخبرته بصلاحهم ودفاع الله عنهم ثم أخذ الكتاب فقرأه
فقال لي ويحك ما فعل المسلمون فقلت أصلحك الله خرجت من عندهم ليلا من حمص
وتركتهم يقولون نصلي الغداة ثم نرحل إلى دمشق قال فكأنه ه حتى عرفت
الكراهة في وجهه ثم قال لله أبوك ما رجوعهم عن عدوهم وقد أظفرهم الله بهم
في غير موطن وما تركهم أرضا قد فتحها الله عليهم وصارت في أيديهم إني
لأخاف أن يكونوا قد أساءوا الرأي وجاءوا بالعجز وجرأوا عدوهم عليهم فقلت
أصلحك الله إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب إن صاحب الروم قد جمع لنا
جموعا لم يجمعها هو ولا أحد كان قبله لأحد كان قبلنا ولقد أخبرنا بعض
عيوننا أن عسكرا واحدا من عساكرهم أمر بالعسكرة في اصل جبل فهبطوا من
الثنية نصف النهار إلى معسكرهم فما تكاملوا فيه حتى أمسوا ثم ما تكاملوا
فيه إلى نصف الليل فهذا عسكر واحد من عساكرهم فما ظنك أصلحك الله بما بقي
فقال لولا أني ربما كرهت الشيء من أمرهم يضيعونه فأرى الله تعالى يخير لهم
في عواقبه لكان هذا رأيا أنا له كاره أخبرني اجتمع رأي جميعهم على التحول
قلت نعم قال فالحمد لله إني لأرجو إن شاء الله أن لا يكون جمع الله رأيهم
إلا على ما هو خير لهم فقلت يا أمير المؤمنين اشدد أعضاء المسلمين بمدد
يأتيهم من قبلك قبل الوقعة فإن هذه الوقعة هي الفيصل فيما بيننا وبينهم
فقال لي أبشر بما يسرك ويسر المسلمين و احمل كتابي هذا إلى أبي عبيدة وإلى
المسلمين وأعلمهم أن سعيد بن عامر ابن حذيم قادم عليهم بالمدد وكتب
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة بن
الجراح
وإلى الذين معه من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان والمجاهدين في
سبيل الله سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو
أما
بعد فإنه قد بلغني توجهكم من أرض حمص إلى أرض دمشق وترككم بلادا فتحها
الله عليكم وخليتموها لعدوكم وخرجتم منها طائعين فكرهت هذا من رأيكم
وفعلكم ثم إني سألت رسولكم عن رأي من جميعكم كان ذلك فزعم أن ذلك كان رايا
من أماثلكم وأولي النهي منكم فعلمت أن الله لم يكن يجمع رأيكم إلا على
توفيق وصواب ورشد في العاجلة والعاقبة فهون ذلك علي ما كان داخلني من
الكراهية قبل ذلك لتحولكم وقد سألني رسولكم المدد وأنا ممدكم لن يقرأ
عليكم كتابي حتى يشخص إليكم المدد من قبلي إن شاء الله واعلموا أنه ليس
بالجمع الكثير تهزم الجموع وينزل الله النصر ولربما خذل الله الجموع
الكثيرة فوهنت وقلت وفشلت ولم تغن عنهم فئتهم شيئا ولربما نصر الله
العصابة القليل عددها على الكثير من أعداء الله
فأنزل الله عليكم نصره وبعدو المسلمين بأسه ورجزه والسلام عليكم
فجاء سفيان بالكتاب إلى أبي عبيدة فقرأه على الناس وسروا به
وعن
عبد الله بن قرط في حديثه المتقدم عما اجتمع عليه رأي المسلمين مع أبي
عبيدة من الرحيل عن حمص قال فلما صلينا صلاة الغداة بحمص خرجنا مع أبي
عبيدة نسير حتى قدمنا دمشق وبها خالد بن الوليد وتركنا أرض حمص ليس فيها
منا ديار بعدما كنا قد افتتحناها وأمنا أهلها وصالحناهم عليها وخلا أبو
عبيدة بخالد بن الوليد فأخبره الخبر وذكر له مشورة الناس عليه بالرحلة
ومقالة العبسي في ذلك فقال له خالد أما أنه لم يكن الرأي إلا الإقامة بحمص
حتى نناجزهم فأما إذ اجتمع رأيكم على أمر واحد فوالله إني لأرجو أن لا
يكون الله قد جمع رأيكم إلا على ما هو خير
فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين
وأمر سويد بن كلثوم أن يرد على أهل دمشق الذين كانوا أمنوا وصولحوا ما كان
جبى منهم ففعل وقال لهم المسلمون نحن على العهد الذي كان بيننا وبينكم
ثم
إن أبا عبيدة جمع أصحابه فقال لهم ماذا ترون أشيروا علي فقال يزيد بن أبي
سفيان أرى أن تخرج حتى تنزل الجابية ثم تبعث إلي عمرو بن العاص فيقدم عليك
بمن معه من المسلمين ثم نقيم للقوم حتى يقدموا علينا فنقاتلهم ونستعين
الله عليهم
فقال شرحبيل بن حسنة لكني أرى إذ خلينا لهم ما خلينا من
أرضهم أن ندعها كلها في أيديهم وننزل التخوم بين أرضنا وأرضهم فندنو من
خليفتنا ومن مددنا فإذا أتانا من المدد ما نرجو أن نكون لهم به مقرنين
قاتلناهم إن أتونا وإلا أقدمنا عليهم إن هم أقاموا عنا
فقال رجل من المسلمين لأبي عبيدة هذا أصلحك الله رأي حسن فاقبله واعمل به
فقال
معاذ بن جبل وهل يلتمس هؤلاء القوم من عدوهم أمرا اضر لهم ولا أشد عليهم
مما تريدون أنتم بأنفسكم تخلون لهم عن أرض قد فتحها الله عليكم وقتل فيها
صناديدهم وأهلك جنودهم فإذا خرج المسلمون منها وتركوها لهم فكانوا فيها
على مثل حالهم الأول فما اشد على المسلمين دخولها بعد الخروج منها وهل
يصلح لكم أن تدعوها وتدعوا البلقاء والأردن وقد جبيتم خراجهم لتدفعوا عنهم
أما والله لئن أردتم دخولها بعد الخروج منها لتكابدن من ذلك مشقة
فقابو
عبيدة صدق والله وبر ما ينبغي أن تترك قوما قد جبينا خراجهم وعقدنا العهد
لهم حتى نعذر إلى الله في الدفع عنهم فإن شئتم نزلنا وبعثنا إلى عمرو بن
العاص يقدم علينا ثم أقمنا للقوم حتى نلقاهم بها
فقال له خالد كأنك إذا كنت بالجابية كنت على أكثر مما أنت عليه في مكانك الذي أنت فيه
فإنهم لكذلك يجيلون الرأي إذ قدم على أبي عبيدة عبد الله بن عمرو بن العاص بكتاب من أبيه يقول فيه
أما
بعد فإن أهل إيلياء وكثيرا ممن كنا صالحناهم من أهل الأردن قد نقضوا العهد
فيما بيننا وبينهم وذكروا أن الروم قد أقبلت إلى الشام بقضها وقضيضها
وأنكم قد خليتم لهم عن الأرض وأقبلتم منصرفين عنها وقد جرأهم ذلك علي وعلى
من قبلي من المسلمين وقد تراسلوا وتواثقوا وتعاهدوا ليسيرون إلي فاكتب إلي
برأيك فإن كنت تريد القدوم علي أقمت لك حتى تقدم علي وإن كنت تريد أن تنزل
منزلا من الشام أو من غيرها وأن أقدم عليك فأعلمني برأيك أوافك فيه فإني
صائر إليك أينما كنت وإلا فابعث إلي مددا أقوى به على عدوي وعلى ضبط ما
قبلي فإنهم قد أرجفوا بنا واغتمزوا فينا واستعدوا لنا ولو يجدون فينا ضعفا
أو يرون فينا فرصة ما ناظرونا والسلام عليك
فكتب إليه أبو عبيدة أما
بعد فقد قدم علينا عبد الله بن عمرو بكتابك تذكر فيه إرجاف المرجفين
واستعدادهم لك وجرأتهم عليك للذي بلغهم من انصرافنا عن الروم وما خلينا
لهم من الأرض وأن ذلك والحمد لله لم يكن من المسلمين عن ضعف من بصائرهم
ولا وهن عن عدوهم ولكنه كان رأيا من جماعتهم كادوا به عدوهم ليخرجوهم من
مدائنهم وحصونهم وقلاعهم وليجتمع بعض المسلمين إلى بعض وينتظروا قدوم
أمدادهم ثم يناهضونهم إن شاء الله وقد اجتمعت خيلهم وتتامت فرسانهم فعند
ذلك فارتقب نصر الله أولياءه وإنجاز موعوده وإعزاز دينه وإذلاله المشركين
حتى لا يمنع أحد منهم أمه ولا حليلته ولا نفسه حتى يتوقلوا في شغف الجبال
ويعجزوا عن منع الحصون
ويجنحوا للسلم ويلتمسوا الصلح سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا 62 الأحزاب
ثم
أعلم من قبلك من المسلمين أني قادم عليهم بجماعة أهل الإسلام إن شاء الله
فليحسنوا بالله الظن ولا يجدن عدوكم فيكم ضعفا ولا وهنا ولا تؤبسوا منكم
رعبا فيطعموا فيكم ويجترئوا عليكم أعزنا الله وإياكم بنصره وعمنا بعافيته
وعفوه والسلام عليك
وقال لعبد الله بن عمرو اقرأ على أبيك
السلام وأخبره أني في أثرك وأعلم بذلك المسلمين وكن يا عبد الله بن عمرو
ممن يشد الله به ظهور المسلمين ويستأنسون به فإنك رجل من الصحابة وقد جعل
الله للصحابة فضلا على غيرهم من المسلمين بصحبتهم رسول الله {صلى الله
عليه وسلم} ولا تتكل على أبيك وكن أنت في جانب تحرض المسلمين وتمنيهم
النصر وتأمرهم بالصبر ويكون أبوك يفعل ذلك في جانب آخر
فقال إني أرجو أن يبلغك عني إن شاء الله من ذلك ما تسر به
ثم خرج حتى قدم على أبيه بكتاب أبي عبيدة فقرأه أبوه على الناس ثم قال
أما
بعد فقد برئت ذمة الله من رجل من أهل عهدنا من أهل الأردن ثقف رجلا من أهل
إيلياء فلم يأتنا به ألا ولا يبقين رجل من أهل عهدنا إلا تهيأ واستعد
ليسير معي إلى أهل إيلياء فإني أريد السير إليهم والنزول بساحتهم ثم لا
أزايلهم حتى أقتل مقاتلتهم وأسبي ذراريهم أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون
ثم
نادى في المسلمين أن ارتحلوا إلى إيلياء فسار نحوا من ميلين قبل أرض
إيلياء ثم نزل وعسكر وقال لأهل الأردن أخرجوا إلينا الأسواق ونادى مناديه
برئت الذمة من رجل من أهل الصلح لم يخرج بسلاحه حتى يحضر معنا
معسكرنا
وينتظر ما نأمر به من أمرنا فاجتمع أهل الصلح كلهم إليه وخرجوا بعدتهم
وسلاحهم فقدمهم مع ابنه عبد الله في خمسمائة من المسلمين وأمره أن يعسكر
بهم ففعل
وإنما أراد أن يشغل أهل الأردن عن الإرجاف وأن يبلغ أهل
إيلياء أنه يريد المسير إليهم والنزول بهم فيرعب قلوبهم ويشغلهم في أنفسهم
وحصونهم عن الغارة عليهم
فخرج التجار من أهل الأردن ومن كان فيها من
أهل إيلياء عند حميم أو ذوي قرابة فلحقوا بإيلياء فقالوا لهم هذا عمرو بن
العاص قد أقبل نحوكم بالناس فاجتمعوا من كل مكان وتراسلوا وجعلوا لا
يجيئهم أحد من قبل الأردن إلا أخبرهم بمعسكره فأيقنوا أنه يريدهم فكانوا
من ذلك في هول شديد وزادهم خوفا ووجلا كتاب كتبه إليهم عمرو بن العاص مضمنه
بسم
الله الرحمن الرحيم من عمرو بن العاص إلى بطارقة أهل إيلياء سلام على من
اتبع الهدى وآمن بالله الذي لا إله إلا هو وبنبوة محمد {صلى الله عليه
وسلم} أما بعد
فإنا نثني على ربنا خيرا ونحمده حمدا كثيرا كما رحمنا
بنبيه وشرفنا برسالته وأكرمنا بدينه وأعزنا بطاعته وأيدنا بتوحيده فلسنا
والحمد لله نجعل له ندا ولا نتخذ من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا والحمد
لله الذي جعلكم شيعا وجعلكم في دينكم أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون فمنكم
من يزعم أن لله ولدا ومنكم من يزعم أن الله ثاني اثنين ومنكم من يزعم أن
الله ثالث ثلاثة فبعدا لمن أشرك بالله وسحقا وتعالى الله عما يقولون علوا
كبيرا والحمد لله الذي قتل بطارقتكم وسلب عزكم وطرد من هذه البلاد ملوككم
وأورثنا أرضكم ودياركم وأموالكم وأذلكم بكفركم بالله وشرككم به وترككم ما
دعوناكم إليه من الإيمان بالله وبرسوله فأعقبكم الله لباس الخوف والجوع
ونقصا في الأموال والأنفس وما الله بظلام للعبيد
فإذا بلغكم كتابي هذا فأسلموا تسلموا وإلا فأقبلوا إلي حتى أكتب لكم
أمانا
على دمائكم وأموالكم وأعقد لكم عقدا على أن تؤدوا إلي الجزية عن يد وأنتم
صاغرون وإلا فوالله الذي لا إله إلا هو لأرمينكم بالخيل بعد الخيل
وبالرجال بعد الرجال ثم لا أقلع عنكم حتى أقتل المقاتلة وأسبي الذرية وحتى
تكونوا كأمة كانت فأصبحت كأنها لم تكن
وأرسل بالكتاب إليهم مع
فيج نصراني على دينهم وقال له عجل علي فإني إنما أنتظرك فلما قدم عليهم
قالوا له ويحك ما وراءك قال لا أدري إلا أن هذا الرجل بعثني إليكم بهذا
الكتاب وقد وجه عسكره نحوكم وقال لي ما يمنعني من المسير إليهم إلا انتظار
رجوعك فقالوا انتظرنا ساعة من النهار فإنا ننتظر عينا لنا يقدم علينا من
قبل أمير العرب الذي بدمشق ومن قبل جند الملك الذي أقبل إلينا فننظر ما
يأتينا به فإن ظننا أن لنا بالعرب قوة لم نصالحهم وإن خشينا ألا نقوى
عليهم صنعنا ما صنع أهل الأردن وغيرهم فما نحن إلا كغيرنا من أهل الشام
فأقام العلج حتى أمسى ثم إن رسول أهل إيلياء الذي بعثوه عينا لهم أتاهم
فأخبرهم أن باهان قد أقبل من عند ملك الروم في ثلاثة عساكر في كل عسكر
منها أكثر من مائة ألف مقاتل وأن العرب لما بلغهم ما سار إليهم م تلك
الجموع علموا أنه لا قبل لهم بما جاءهم فانصرفوا راجعين وقد كان أوائل
العرب دخلوا أرض قنسرين فأخرجوهم منها ثم أتوا أرض دمشق فأخرجوهم منها ثم
أقبلت العرب الآن نحو الأردن نحو صاحبهم هذا الذي كتب إليكم والروم
يسوقونهم سوقا عنيفا فتباشروا بذلك وسروا به ودعوا العلج الذي بعث به
إليهم عمرو بن العاص وقالوا اذهب بكتابنا هذا إلى صاحبك وكتبوا معه
أما
بعد فإنك كتبت إلينا تزكي نفسك وتعيبنا وقول الباطل لا ينفع قائله نفسه
ولا يضر عدوه وقد فهمنا ما دعوتنا إليه وهؤلاء ملوكنا وأهل ديننا قد
جاؤوكم فإن أظهرهم الله عليكم فذلك بلاؤه عندنا في القديم وإن ابتلانا
بظهوركم فلعمري لنقرن لكم بالصغار وما نحن إلا كمن ظهرتم عليه من
إخواننا ثم دانوا لكم وأعطوكم ما سألتم
فقدم
الرسول بهذا الكتاب على عمرو فقال له ما حبسك فأخبره الخبر فلم يكن إلا
يومه ذلك حتى قدم خالد بن الوليد في مقدمة أبي عبيدة فجاء حتى نزل اليرموك
وأقبل عمرو حتى نزل معه
وقعة اليرموك على نحو ما حكاه أصحاب كتب فتوح الشام
قالوا
ولما اجتمع جمع المسلمين باليرموك استشار أبو عبيدة أهل الرأي من المسلمين
أين ترون أن نعسكر حتى يقدم مددنا فقال يزيد بن أبي سفيان أرى أن نسير بمن
معنا إلى أيلة فنقيم بها حتى يقدم علينا المدد فقال عمرو ما أيلة إلا كبعض
الشام ولكن سر بنا حتى ننزل الحجر فننتظر المدد فقال قيس ابن هبيرة لا
ردنا الله إذا إليها إن خرجنا لهم عن الشام أكثر مما خرجنا لهم عنه أتدعون
هذه العيون المتفجرة والأنهار المطردة والزروع والأعناب والذهب والفضة
والحرير وترجعون إلى أكل الضباء ولبس العباء والبؤس والشقاء وأنتم تعلمون
أن من قتل منكم صار إلى الجنة وأصاب نعيما لا يشاكله نعيم فأين تدعون
الجنة وتهربون منها وتزهدون فيها وتأتون الحجر لا صحب الله من سار إلى
الحجر ولا حفظه فقال له خالد بن الوليد جزاك الله خيرا يا قيس فإن رأيك
موافق لرأيي
وفي حديث عن أبي معشر أن الروم حين جاشت على المسلمين
ودنوا منهم دعا أبو عبيدة رءوس المسلمين واستشارهم فذكر من مشورة يزيد بن
أبي سفيان عليه وعمرو بن العاص نحوا مما تقدم قال وخالد بن الوليد ساكت
يسمع ما يقولون وكان يرحمه الله إذا كانت شدة فإليه وإلى رأيه يفزعون إذ
كان لا يهوله من أمر الروم شيء ولا يزداد بما يبلغه عنهم إلا جرأة عليهم
فقال له أبو
عبيدة ماذا ترى يا خالد فقال أرى والله أنا إن كنا إنما
نقاتل بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى علينا وإن كنا إنما نقاتلهم
بالله ولله فما أرى أن جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعا تغني عنهم شيئا
ثم غضب فقال لأبي عبيدة أتطيعني أنت فيما آمرك به قال نعم قال فولني ما
وراء بابك وخلني والقوم فإني والله لأرجو أن ينصرنا الله عليهم قال قد
فعلت فولاه ذلك فكان خالد من أعظم الناس بلاء وأحسنه غناء وأعظمه بركة
وأيمنه نقيبة وكانوا أهون عليه من الكلاب
وعن مالك بن قسامة بن
زهير عن رجل من الروم يدعى جرجة كان قد أسلم فحسن إسلامه قال كنت في ذلك
الجيش الذي بعث قيصر من أنطاكية مع باهان فأقبلنا ونحن لا يحصي عددنا إلا
الله ولا نرى أن لنا غالبا من الناس فأخرجنا أوائل العرب من أرض قنسرين ثم
أقبلنا في آثارهم حتى أخرجناهم من حمص ثم أقبلنا في آثارهم حتى أخرجناهم
من دمشق قال ولحق بنا كل من كان على ديننا من النصارى حتى إن كان الراهب
لينزل عن صومعته وقد كان فيها دهرا طويلا من دهره فيتركها وينزل إلينا
ليقاتل معنا غضبا لدينه ومحاماة عليه وكان من كان من العرب بالشام ممن كان
على طاعة قيصر ثلاثة أصناف فأما صنف فكانوا على دين العرب وكانوا معهم
وأما صنف فكانوا نصارى وكانت لهم في النصرانية نية فكانوا معنا وأما صنف
فكانوا نصارى ليس لهم في النصرانية تلك النية فقالوا نكره أن نقاتل أهل
ديننا ونكره أن ننصر العجم على قومنا وأقبلت الروم تتبع أهل الإسلام وقد
كانوا هائبين لهم مرعوبين منهم ولكنهم لما رأوهم قد خلوا لهم البلاد
وتركوا لهم ما كانوا افتتحوا جرأهم ذلك عليهم مع عددهم الذي لم يجتمع قط
لأحد من قبلهم
وعن عبد الله بن قرط قال لما أقبلت الروم من عند ملكهم أخذوا لا
يمرون
بأرض قد كنا افتتحناها ثم أجلينا لهم عنها إلا أوقعوا بهم ولاموهم وشتموهم
وخوفوهم فيقولون لهم أنتم أولى باللائمة منا أنتم وهنتم وعجزتم وتركتمونا
وذهبتم وأتانا قوم لم تكن لنا بهم طاقة فكانوا يعرفون صدقهم فيكفون عنهم
وأقبلوا يتبعون آثار المسلمين حتى نزلوا بمكان من اليرموك يدعى دير الجبل
مما يلي المسلمين والمسلمون قد جعلوا نساءهم وأولادهم على جبل خلف ظهورهم
فمر قيس بن هبيرة بنسوة من نساء المسلمين مجتمعات فلما رأينه قامت إليه
أميمة بنت أبي بشر بن زيد بن الأطول الأزدية وكانت تحت عبد الله بن قرط
وكان أشبه خلق الله به في الحرب فرسه يشبه فرسه وباده يشبه باده وكل شيء
منه كذلك فظنت أنه زوجها فقالت له اسمع بنفسي أنت فعلم قيس أنها شبهته
بزوجها فقال أظنك شبهتني بزوجك فقالت واسوأتاه وانصرفت فأقبل قيس عليها
وعلى من كان معها من النساء فقال لهن قبح الله امرأة منكن تضطجع لزوجها
وهذا عدوه قد نزل بساحته إن لم يقاتل عنها وإذا أراد ذلك منها فلتتمنع
عليه ولتحث في وجهه التراب ثم لتقل له أخرج قاتل عني فلست لك بامرأة حتى
تمنعني فلعمري ما تقرب النساء على مثل هذه الحال إلا أهل الفسولة والنذالة
ثم مضى فقالت المرأة واسوأتاه منه إنما ظننت أنه ابن قرط فإنه لم يتعش
البارحة إلا عشاء خفيفا آثر بعشائه رجلين من إخوانه تعشيا عنده فكنت هيأت
له غداءه فأردت أن ينزل فيتغدى
قال ابن قرط ولما نزل الروم منزلهم الذي
نزلوا فيه دسسنا إليهم رجالا من أهل البلد كانوا نصارى قد أسلموا فأمرناهم
أن يدخلوا عسكرهم فيكتموا إسلامهم ويأتونا بأخبارهم فكانوا يفعلون ذلك قال
فلبثوا أياما مقابلينا ثلاثا أو أربعا لا يسألوننا عن شيء ولا نسألهم ولا
يتعرضون لنا ولا نتعرض لهم فبينا نحن كذلك إذ سمعنا جلبة شديدة وأصواتا
عالية فظننا أن القوم يريدون
النهوض إلينا فتهيأنا وتيسرنا ثم
دسسنا إليهم عيونا ليأتونا بالخبر فما لبثنا إلا قليلا حتى رجعوا إلينا
فأخبرونا أن بريدا جاءهم من قبل ملك الروم فبشرهم بمال يقسم بينهم وبمدد
يأتيهم ففرحوا بذلك ورفعوا له أصواتهم واجتمعوا إلى باهان النائب فيهم عن
ملكهم فقام فيهم فقال إن الله لم يزل لدينكم هذا معزا وناصرا وقد جاءكم
قوم يريدون أن يفسدوا عليكم دينكم ويغلبوكم على دنياكم وأنتم عدد الحصى
والثرى والذر والله إن في هذا الوادي منكم لنحوا من أربعمائة ألف مقاتل
سوى اتباعكم وأعوانكم ومن اجتمع إليكم من سكان بلادكم وممن هو معكم على
دينكم فلا يهولنكم أمر هؤلاء القوم فإن عددهم قليل وهم أهل الشقاء والبؤس
وجلهم حاسر جائع وأنتم الملوك وأهل الحصون والقلاع والعدة والقوة فلا
تبرحوا العرصة حتى تهلكوهم أو تهلكوا أنتم فقام إليه بطارقتهم فقالوا له
مرنا بأمرك ثم انظر ما نصنع قال فتيسروا حتى آمركم
وعن أبي بشر رجل من
تنوخ كان مع باهان قال كنت نصرانيا فنصرت النصارى على العرب فأقبلت مع
الروم فإذا من نمر به من أهل البلد أحسن شيء ثناء على العرب في سيرتهم وفي
كل شيء من أمرهم وأقبلت الروم فجعلوا يفسدون في الأرض ويسيئون السيرة
ويعصون الأمراء حتى ضج منهم الناس وشكاهم أهل القرى فلا تزال جماعة تجيء
معها بالجارية قد افتضت وجماعة يشكون أن أغنامهم ذبحت وآخرون أنهم خربوا
وسلبوا فلما رأى ذلك باهان قام فيهم خطيبا فقال يا معشر أهل هذا الدين إن
حجة الله عليكم عظيمة إذ بعث إليكم رسولا وأنزل عليه كتابا وكان رسولكم لا
يريد الدنيا ويزهدكم فيها وأمركم أن لا تظلموا أحدا فإن الله لا يحب
الظالمين وأنتم الآن تظلمون فما عذركم غدا عند خالقكم وقد تركتم أمره وأمر
نبيكم
وما أتاكم به من كتاب ربكم وهذا عدوكم قد نزل بكم يقتل
مقاتليكم ويسبي ذراريكم وأنتم تعملون بالمعاصي ولا ترعون منها خشية العقاب
فإن نزع الله سلطانكم من أيديكم وأظهر عليكم عدوكم فمن الظالم إلا أنتم
فاتقوا الله وانزعوا عن ظلم الناس
فقام إليه رجل من أهل البلد من أهل
الذمة يشكو مظلمة فتكلم بلسانهم وأنا أفقه كلامهم فقال أيها الملك عشت
الدهر ووقيناك بأنفسنا مكروه الأحداث إني امرؤ من أهل البلد من أهل الذمة
وكانت لي غنم أظنها مائة شاة أو تنقص قليلا وكان فيها ابن لي يرعاها فمر
به عظيم من عظماء أصحابك فضرب بناءه إلى جنبها وأخذ حاجته منها وانتهب
بقيتها أصحابه فجاءته امرأتي تشكو إليه انتهاب أصحابه غنمي وتقول له أما
ما أخذت أنت لنفسك فهو لك ولكن ابعث إلى أصحابك يردوا علينا غنمنا فلما
رآها أمر بها فأدخلت بناءه وطال مكثها عنده فلما رأى ذلك ابنها دنا من باب
البناء فاطلع فيه فإذا هو بصاحبكم ينكح أمه وهي تبكي فصاح الغلام فأمر به
فقتل فأخبروني ذلك فأقبلت إلى ابني فأمر بعض أصحابه فشد علي بالسيف
ليضربني فاتقيته بيدي فقطعها فقال له باهان فهل تعرفه قال نعم قال وأين هو
قال هو ذا لعظيم حاضر عنده من عظمائهم قال فغضب ذلك العظيم وغضب له ناس من
أصحابه وكان فيهم ذا شارة وشرف فأقبل ناس من أصحابه أكثر من مائة فشدوا
على المستعدي فضربوه بأسيافهم حتى مات ثم رجعوا وباهان ينظر إلى ما صنعوا
فقال بلسانه العجب كل العجب كيف لا تنهد الجبال وتنفجر البحار وتتزلزل
الأرض وترعد السماء لهذه الخطيئة التي عملتموها وأنا أنظر ولأعمالكم
العظام التي تعملونها وأنا أرى وأسمع إن كنتم تؤمنون أن لهؤلاء المستضعفين
المظلومين إلها ينصف المظلوم من الظالم فأيقنوا بالقصاص ومن الآن يعجل لكم
الهلاك وإن كنتم لا تؤمنون بذلك فأنتم والله عندي شر
من الكلاب
والحمر ولعمري إنكم لتعملون أعمال قوم لا يؤمنون ولقد سخط الله أعمالكم
وليكلنكم إلى أنفسكم فأما أنا فأشهد الله أني بريء من أعمالكم وسترون
عاقبة الظلم إلى ما تؤديكم وإلى أي مصير تصيركم ثم نزل
قال
التنوخي وكنا نزلنا بالمسلمين ونحن لهم هائبون وقد كان بلغنا أن نبيهم
{صلى الله عليه وسلم} قال لهم إنكم ستظهرون على الروم وقد كانوا واقعونا
غير مرة كل ذلك يكون لهم الظفر علينا غير أنا إذا نظرنا إلى عددنا وجموعنا
طابت أنفسنا وظننا أن مثل جمعنا لا يفل فأقام باهان أياما يراسل من حوله
من الروم ويأمرهم أن يحملوا إلى أصحابه الأسواق فكانوا يفعلون ولم يكن ذلك
يضر المسلمين لأن الأردن في أيديهم فهم مخصبون بخير فلما رأى باهان أن ذلك
لا يضرهم وأنهم مكتفون بالأردن بعث خيلا عظيمة لتأتيهم من وراءهم وعليها
بطريق من بطارقتهم يريد أن يكبتهم بجنوده من كل جانب فعلم المسلمون ما
يريد فدعا أبو عبيدة خالد بن الوليد فبعثه في ألفي فارس وألفي راجل فخرج
حتى اعترض العلج فلما استقبله نزل خالد في الرجالة وبعث قيس بن هبيرة في
الخيل فحمل عليهم قيس فاقتتلوا قتالا شديدا حتى هزمهم الله ومشى خالد في
الرجالة حتى إذا دنا شد برايته وشد معه المسلمون فضاربوهم بالسيوف حتى
تبددوا وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وقال قيس لرجل من بني نمير وقد مر به
البطريق يركض يا أخا بني نمير لا يفوتنك البطريق فإني والله لقد كددت فرسي
على هذا العدو اليوم حتى ما عنده جري فحمل عليه النميري فركض في أثره ساعة
ثم أدركه فلما رآه البطريق قد غشيه وأحرجه عطف عليه فاضطربا بسيفيهما فلم
يصنع السيفان شيئا واعتنق كل واحد منهما صاحبه فوقعا إلى الأرض فاعتركا
ساعة ثم صرعه النميري فوقع على صدر البطريق في ساقيه فضمه البطريق إليه
وكان مثل الأسد فلم يستطع النميري يتحرك وجاء قيس حتى وقف عليهما فقال يا
أخا بني نمير قتلت الرجل إن شاء الله قال لا والله ما أستطيع أن أتحرك ولا
أضربه بشيء ولقد ضمني
بفخذيه وأمسك يدي بيديه فنزل إليه قيس
فضربه فقطع إحدى يديه ثم تركه وانطلق وقال للنميري شأنك به وقام النميري
فضربه بسيفه حتى قتله ومر به خالد بن الوليد فقال من قتل هذا فقال له قيس
هذا النميري قتله ولم يخبره هو بما صنع
وفي حديث عبد الله بن قرط أن
معاذ بن جبل ورجالا معه من المسلمين قالوا لأبي عبيدة حين سار من دمشق إلى
اليرموك ألا تكتب إلى أمير المؤمنين تعلمه علم هذه الجيوش التي جاءتنا
وتسأله المدد قال بلى فكتب إليه
أما بعد فإن الروم نفرت إلينا برا
وبحرا ولم يخلفوا وراءهم أحدا يطيق حمل السلاح إلا جاشوا به علينا وخرجوا
معهم بالقسيسين والأساقفة ونزلت إليهم الرهبان من الصوامع فاستجاشوا أهل
أرمينية والجزيرة وجاؤونا وهم نحو من أربعمائة ألف رجل وإنه لما بلغني ذلك
من أمرهم كرهت أن أغر المسلمين من أنفسهم فكشفت لهم عن الخبر وصرحت لهم عن
الأمر وسألتهم عن الرأي فرأى المسلمون أن يتنحوا إلى جانب من أرض الشام ثم
نضم إلينا قواصينا وننتظر المدد فالعجل العجل علينا يا أمير المؤمنين
بالمدد بعد المدد والرجال بعد الرجال وإلا فاحتسب نفوس المسلمين إن هم
أقاموا أو دينهم إن هم هربوا فقد جاءهم ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم
الله بملائكته أو يأتيهم بغياث من عنده والسلام عليك
قال عبد الله بن
قرط وبعثني بكتابه فلما قدمت على عمر دعا المهاجرين والأنصار فقرأ عليهم
كتاب أبي عبيدة فبكى المسلمون بكاء شديدا ورفعوا أيديهم ورغبتهم إلى الله
عز وجل أن ينصرهم وأن يعافيهم ويدفع عنهم واشتدت شفقتهم عليهم وقالوا يا
أمير المؤمنين ابعثنا إلى إخواننا وأمر علينا أميرا ترضاه لنا أو سر أنت
بنا إليهم فوالله إن أصيبوا فما في العيش خير
بعدهم قال ولم أر
منهم أحدا كان أظهر جزعا ولا أكثر شفقا من عبد الرحمن ابن عوف ولا أكثر
قولا لعمر سر بنا يا أمير المؤمنين فإنك لو قدمت الشام شد الله قلوب
المسلمين ورعب قلوب الكافرين قال واجتمع رأي أصحاب رسول الله {صلى الله
عليه وسلم} على أن يقيم عمر ويبعث المدد ويكون ردءا للمسلمين قال فقال لي
عمر رحمه الله كم كان بين الروم وبين المسلمين يوم خرجت فقلت نحو من ثلاث
ليال فقال عمر هيهات متى يأتي هؤلاء غياثنا
ثم كتب معي إلى أبي عبيدة
أما
بعد فقد قدم علينا أخو ثمالة بكتابك تخبر فيه بنفير الروم إلى المسلمين
برا وبحرا وربما جاشوا به عليكم من أساقفتهم ورهبانهم وأن ربنا المحمود ذا
الصنع العظيم والمن الدائم قد رأى مكان هؤلاء الأساقفة والرهبان حين بعث
محمدا {صلى الله عليه وسلم} بالحق فنصره بالرعب وأعزه بالنصر وقال وهو لا
يخلف الميعاد هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله
ولو كره المشركون 9 الصف فلا يهولنك كثرة من جاءك منهم فإن الله منهم بريء
ومن برئ الله منه كان قمنا أن لا تنفعه كثرته وأن يكله الله إلى نفسه
ويخذله ولا يوحشنك قلة المسلمين في المشركين فإن الله معك وليس قليلا من
كان الله معه فأقم بمكانك الذي أنت فيه حتى تلقى عدوك وتناجزهم إن شاء
الله وستظهر بالله عليهم وكفى بالله ظهيرا ووليا وناصرا
وقد فهمت
مقالتك احتسب أنفس المسلمين إن أقاموا أو دينهم إن هم هربوا فقد جاءهم ما
لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكته أو يأتيهم بغياث من قبله وأيم
الله لولا استثناؤك هذا لقد كنت أسأت لعمري لئن أقام المسلمون وصبروا
فأصيبوا لما عند الله خيرا للأبرار ولقد قال الله تعالى فيهم فمنهم من قضى
نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا 23 الأحزاب فطوبى للشهداء ولمن عقل
عن الله ممن معك من المسلمين أسوة
بالمصرعين حول رسول الله {صلى
الله عليه وسلم} في مواطنه فما عجز الذين قاتلوا في سبيل الله ولا هابوا
لقاء الموت في جنب الله ولا وهن الذين بقوا من بعدهم ولا استكانوا
لمصيبتهم ولكن تأسوا بهم وجاهدوا في سبيل الله من خالفهم وفارق دينهم ولقد
أثنى الله على قوم بصبرهم فقال وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما
وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت
أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب
الآخرة والله يحب المحسنين 146 - 148 آل عمران فأما ثواب الدنيا فالفتح
والغنيمة وأما ثواب الآخرة فالمغفرة والجنة
واقرأ كتابي هذا على الناس ومرهم فليقاتلوا في سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة
وأما
قولك إنه قد جاءهم ما لا قبل لهم به فإلا يكن لهم به قبل فإن لله تعالى
بهم قبلا ولم يزل ربنا عليهم مقتدرا ولو كنا إنما نقاتل عدونا بحولنا
وقوتنا وكثرتنا لهيهات ما قد بدنا وهلكنا ولكنا نتوكل على الله ربنا ونفوض
إليه أمرنا ونبرأ إليه من الحول والقوة ونسأله النصر والرحمة وإنكم
منصورون إن شاء الله على كل حال فأخلصوا لله نياتكم وارفعوا إليه رغبتكم
واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون والسلام
قال عبد
الله بن قرط فدفع إلي عمر الكتاب وأمرني أن أعجل السير وقال لي إذا قدمت
على المسلمين فسر في صفهم وقف على كل صاحب راية منهم وأخبرهم أنك رسولي
إليهم وقل لهم إن عمر يقرئكم السلام ويقول يا أهل الإسلام اصدقوا وشدوا
على أعدائكم شد الليوث وأعضوا هامهم السيوف وليكونوا أهون عليكم من الذر
ولا تهلكم كثرتهم ولا تستوحشوا لمن لم يلحق بكم منكم
قال فركبت راحلتي وأقبلت مسرعا أتخوف ألا آتي الناس حتى تكون
الوقعة
فانتهيت إلى أبي عبيدة يوم قدم عليه سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي في ألف
رجل مددا من قبل عمر رضي الله عنه فسر بمقدمه المسلمون وشجعهم ذلك على
عدوهم ودفعت إلى أبي عبيدة كتاب عمر فقرأه على الناس فاشتد سرورهم برأيه
لهم وبما أمرهم به من الصبر وما رجا لهم في ذلك من الأجر
وكان أبو
عبيدة بعث سفيان بن عوف من حمص إلى عمر يستمده حين بلغه أن الروم قد جاشوا
واختلفوا في الاجتماع للمسلمين فعند ذلك بعث عمر رحمه الله سعيد بن عامر
بالمدد وقد كان أبو بكر رضي الله عنه وجه سعيدا هذا إلى الشام في جيش فكان
مع أبي عبيدة حتى شهد معه وقعة فحل ثم أرسله أبو عبيدة إلى عمر بالفتح
فقدم به عليه ثم حج بعد ورجع إلى المدينة فلم يزل مقيما بها حتى بعثه عمر
بهذا المدد
قال حسان بن عطية لما عقد له عمر على من وجهه معه قال له يا
سعيد إني قد وليتك على هذا الجيش ولست بخير رجل منهم إلا أن تكون أتقى لله
منه فلا تشتم أعراضهم ولا تضر أبشارهم ولا تحقر ضعيفهم ولا تؤثر قويهم وكن
للحق تابعا ولا تتبع هواك سادرا فإنه إن بلغني عنك ما أحب لم يعدمك مني ما
تحب فقال له سعيد يا أمير المؤمنين إنك قد أوصيتني فاستمعت منك فاستمع مني
أوصك قال هات فقد آتاك الله علما يا سعيد قال يا أمير المؤمنين خف الله في
الناس ولا تخف الناس في الله واحبب لقريب الناس وبعيدهم تحب لنفسك وأهل
بيتك واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك وألزم الأمر ذا الحجة يكفك الله
ما أهمك ويعنك على ما أمرك وما ولاك ولا تقضين في أمر واحد بقضائين فيختلف
قولك وفعلك ويلتبس الحق بالباطل ويشتبه عليك الأمر فتزيغ عن الحق وخض
الغمرات إلى الحق حيث علمته ولا يأخذك في الله لومة لائم
قال
فأكب عمر طويلا وفي يده عصا له وهو واضع جبهته عليها ثم رفع رأسه ودموعه
تسيل فقال لله أبوك يا سعيد ومن يستطيع هذا الذي تذكر قال من طوق ما طوقت
وحمل ما حملت من هذا الأمر وإنما عليك أن تأمر فتطاع أو تعصي فتبوء بالحجة
ويبوء القوم بالمعصية
عن الحارث بن عبد الله الأزدي قال لما نزل أبو
عبيدة اليرموك وضم إليه قواصيه وجاءتنا جموع الروم يجرون الشوك والشجر
ومعهم القسيسون والرهبان والأساقفة يقصون عليهم ويحرضونهم خافهم المسلمون
فما كان شيء أحب إليهم من أن يخرجوا لهم ويتنحوا عن بلادهم حتى يأتيهم مدد
يرون أنهم يقوون به على من جاءهم من الروم فاستشار أبو عبيدة الناس فكلهم
أشار عليه بالخروج من الشام إلا خالد بن الوليد فإنه أشار عليه بالمقام
وقال له خلني والناس ودعني والأمر وولني ما وراء بابك فأنا أكفيك بإذن
الله أمر هذا العدو فقال له أبو عبيدة شأنك بالناس فخلاه وإياهم قال وكان
قيس بن هبيرة على مثل رأي خالد ولم يكن في المسلمين أحد يعدلهما في الحرب
وشدة البأس قال فخرج خالد في الناس وهم أحسن شيء دعة ورعة وهيئة وأشدهم في
لقاء عدوهم بصيرة وأطيبهم أنفسا فصفهم خالد ثلاثة صفوف وجعل ميمنة وميسرة
ثم أتى أبا عبيدة قال من كنت تجعل على ميمنتك قال معاذ بن جبل قال أهل ذلك
هو الرضي الثقة فولها إياه فأمر أبو عبيدة معاذا فوقف في الميمنة ثم قال
من كنت تول الميسرة قال غير واحد قال فولها إن رأيت قباث بن أشيم فأمره
أبو عبيدة فوقف في الميسرة وكان فيها كنانة وقيس وكان قباث كنانيا وكان
شجاعا بئسا قال خالد وأنا على الخيل وول على الرجالة من شئت قال أوليها إن
شاء الله من لا يخاف نكوله ولا صدوده عند البأس أوليها هاشم بن عتبة بن
أبي وقاص قال أصبت ووفقت ورشدت قال أبو عبيدة انزل يا هاشم فأنت على
الرجالة وأنا معك
وقال خالد لأبي عبيدة أرسل إلى أهل كل راية
فمرهم أن يطيعوني فدعا أبو عبيدة الضحاك بن قيس فأمره بذلك فخرج الضحاك
يسير في الناس ويقول لهم إن أميركم أبا عبيدة يأمركم بطاعة خالد بن الوليد
فيما أمركم به فقال الناس سمعنا وأطعنا وقال ذلك أيضا معاذ بن جبل لما
أنهى إليه الضحاك أمر أبي عبيدة ثم نظر معاذ إلى الناس فقال أما إنكم إن
أطعتموه لتطيعن مبارك الأمر ميمون النقيبة عظيم الغناء حسن الحسبة والنية
قال الضحاك فحدثت خالدا بذلك فقال رحم الله أخي معاذا أما والله إن أحبني
إني لأحبه في الله لقد سبقت له ولأصحابه سوابق لا ندركها فهنيئا ما خصهم
الله به من ذلك قال الضحاك فأخبرت معاذا بما رد علي خالد فقال إني لأرجو
أن يكون الله قد أعطاه بصيرة على جهاد المشركين وشدة عليهم مع بصيرته وحسن
نيته في إعزاز دينه أحسن الثواب وأن يكون من أفضلنا بذلك عملا فقال خالد
وقد لقيته بذلك ما شيء على الله بعزيز
قال ثم إن خالدا سار في الصفوف
يقف على أهل كل راية ويقول يا أهل الإسلام إن الصبر عز وإن الفشل عجز وإن
مع الصبر تنصرون والصابرون هم الأعلون وما زال يقف على أهل كل راية يعظهم
ويحضهم ويرغبهم حتى مر بجماعة الناس ثم إنه جمع إليه خيل المسلمين ودعا
قيس بن هبيرة وكان يساعده ويوافقه ويشبهه في جلده وشدته وشجاعته وإقدامه
على المشركين فقال له خالد أنت فارس العرب ولقل من حضر اليوم يعدلك عندي
فاخرج معي في هذه الخيل وبعث إلى ميسرة بن مسروق العبسي وكان من أشراف
العرب وفرسانهم وإلى عمرو بن الطفيل ذي النور بن عمرو الدوسي فخرجوا معه
ثم قسموا الخيل أرباعا فبعث كل رجل منهم على ربع وخرج خالد في ربع منها
حتى دنوا من عسكر الروم الأعظم الذي فيه باهان فلما رأتهم الروم فزعوا
لمجيئهم وقد كانوا أخبروا أن العرب تريد الانصراف عن أرض الشام ويخلونهم
وإياها فكان ذلك قد وقع في نفوسهم
وطمعوا به ورجوا أن لا يكون
بينهم قتال وصدق ذلك عندهم خروجهم من بين أيديهم يسوقونهم وهم يدعون لهم
الأرض والمدائن التي كانوا قد غلبوا عليها فلما رأوا خالدا قد أقبل إليهم
في الخيل فزعهم ذلك وخرجوا على راياتهم بصلبهم والقسيسون والرهبان
والبطارقة معهم فصفوا عشرين صفا لا ترى أطرافها ثم اخرجوا إلى المسلمين
خيلا عظيمة تكون أضعاف المسلمين مضاعفة فلما دنت خيلهم من خيل المسلمين
خرج بطريق من بطارقتهم يسأل المبارزة ويتعرض لخيل المسلمين فقال خالد أما
لهذا رجل يخرج إليه ليخرجن إليه بعضكم أو لأخرجن إليه فنفلت إليه عدة من
المسلمين ليخرجوا إليه وأراد ميسرة بن مسروق ذلك فقال له خالد أنت شيخ
كبير وهذا الرومي شاب ولا أحب أن تخرج إليه فإنه لا يكاد الشيخ الكبير
يقوى على الشاب الحديث السن فقف لنا يرحمك الله في كتيبتك فإنك ما علمت
حسن البلاء عظيم الغناء وأراد عمرو بن الطفيل الخروج إليه فقال له خالد يا
ابن أخي أنت غلام حدث وأخاف أن لا تقوى عليه قال الحارث بن عبد الله وكنت
في خيل خالد التي خرجت معه فقلت أنا أخرج إليه فقال ما شئت فلما ذهبت
لأخرج قال لي هل بارزت رجلا قط قبله قلت لا قال فلا تخرج إليه فقال قيس
ابن هبيرة كأنك يا خالد علي تحوم قال أجل وإني أرجو إن خرجت إليه أن تقتله
وإن أنت لم تخرج إليه لأخرجن إليه أنا قال قيس بل أنا أخرج إليه فخرج وهو
يقول
سائل نساء الحي في حجلاتها
ألست يوم الحرب من أبطالها
ومقعص الأقران من رجالها
الرجز
فخرج إليه فلما دنا منه ضرب فرسه ثم حمل عليه فما هلل أن ضربه
بالسيف
على هامته فقطع ما عليها من السلاح وفلق هامته فإذا الرومي بين يدي فرسه
قتيلا وكبر المسلمون فقال خالد ما بعد ما ترون إلا الفتح احمل عليهم يا
قيس ثم أقبل خالد على أصحابه فقال احملوا عليهم فوالله لا يفلحون وأولهم
فارسا متعفرا في التراب قال فحملنا عليهم وعلى من يلينا منهم ومن خيلهم
وهي مستقدمة أمام صفوفهم وصفوفهم كأنها أعراض الجبال فكشفنا خيلهم حتى
لحقت بالصفوف وحمل خالد وأصحابه على من يليه منهم فكشفوهم حتى ألحقوهم
بالصفوف وحمل عمرو بن الطفيل وميسرة بن مسروق في أصحابهما حتى ألحقوهم
بالصفوف ثم إن خالدا أمر خيله فانصرفت عنهم ثم أقبل بها حتى لحق بجماعة
المسلمين وقد أراهم الله السرور في المشركين
قال وتلاومت بطارقة
الروم وقال بعضهم لبعض جاءتكم خيل لعدوكم ليست بالكثيرة فكشفت خيولكم من
كل جانب فأقبلت منهم كتائب في أثر كتائب فطيفوا الأرض مثل الليل والسيل
كأنها الجراد السود وظن المسلمون أنهم يخالطونهم والمسلمون جراء عليهم
سراع إليهم فأقبلوا حتى إذا دنوا من جماعة المسلمين وقفوا ساعة وقد هابوا
المسلمين وامتلأت صدورهم خوفا منهم فقال خالد للناس قد رجعنا عنهم ولنا
الظفر عليهم فاثبتوا لهم ساعة فإن أقدموا علينا قاتلناهم وإن رجعوا عنا
كان لنا الظفر والفضل عليهم فأخذوا يقتربون ثم يرجعون والمسلمون في مصافهم
وتحت راياتهم سكوت لا يتكلم رجل منهم كلمة إلا أن يدعوا الله في نفسه
ويستنصره على عدوه فلما نظرت الروم إلى خيل المسلمين ورجالتهم ومصافهم
وحدهم وجدهم وصبرهم وسكونهم ألقى الله عز وجل الرعب في قلوبهم منهم
فواقفوهم ساعة ثم انصرفوا راجعين عنهم إلى عسكرهم فاجتمعت بطارقتهم
وعظماؤهم إلى باهان وهو أصبر جماعتهم فقال لهم باهان إني قد رأيت رأيا
وأنا ذاكره لكم إن هؤلاء القوم قد نزلوا بلادكم وركبوا من مراكبكم وطعموا
من طعامكم ولبسوا من ثيابكم فعدل الموت عندهم أن يفارقوا ما تطعموه من
عيشكم الرفيع ودنياكم التي لم يروا مثلها قط
وقد رأيت أن اسألهم
إن رأيتم ذلك أن يبعثوا إلينا رجلا منهم له عقل فنناطقه ونشافهه ونطمعهم
في شيء يرجعون به إلى أهاليهم لعل ذلك يسخى بأنفسهم عن بلادنا فإن هم
فعلوا ذلك كان الذي يريدون منا قليلا فيما نخاف وندفع به خطر الوقعة التي
لا ندري أعلينا تكون أم لنا فقالوا له قد أصبت وأحسنت النظر لجماعتنا
فاعمل برأيك فبعث رجلا من خيارهم وعظمائهم يقال له جرجة إلى أبي عبيدة
فقال له إني رسول باهان عامل ملك الروم على الشام وعلى هذه الجنود وهو
يقول لك أرسل إلي الرجل الذي كان قبلك أميرا فإنه ذكر لي أنه رجل ذو عقل
وله فيكم حسب وقد سمعنا أن عقول ذوي الأحساب أفضل من عقول غيرهم فنخبره
بما نريد ونسأله عما تريدون فإن وقع فيما بيننا وبينكم أمر لنا ولكم فيه
صلاح أو رضى أخذنا به وحمدنا الله عليه وإن لم يتفق ذلك كان القتال من
ورائنا هنالك
فدعا أبو عبيدة خالدا فأخبره بالذي جاء فيه الرومي وقال
لخالد القهم فادعهم إلى الإسلام فإن قبلوا فهو حظهم وكانوا قوما لهم ما
لنا وعليهم ما علينا وإن أبوا فاعرض عليهم الجزية أن يؤدوها عن يد وهم
صاغرون فإن أبوا فأعلمهم أنا نناجزهم ونستعين الله عليهم حتى يحكم الله
بيننا وهو خير الحاكمين
قال وجاء رسولهم هذا الرومي عند غروب الشمس فلم
يمكث إلا يسيرا حتى حضرت الصلاة فقام المسلمون يصلون صلاتهم فلما قضوها
قال ذلك الرومي هذا الليل قد غشينا ولكن إذا أصبحت غدوت إلى صاحبنا إن شاء
الله وجعل ينظر إلى رجال من المسلمين يصلون وهم يدعون الله ويتضرعون إليه
وجعل ما يفيق وما يصرف بصره عنهم فقال عمرو إن رسولكم الذي أرسل إليكم
لمجنون فقال أبو عبيدة كلا والله إني لأرجو أن يكون الله قد قذف في قلبه
الإيمان وحببه إليه وعرفه فضله أو ما تنظر إلى نظره إلى المصلين ولبث
الرومي بذلك قليلا ثم أقبل على أبي عبيدة فقال أيها الرجل
أخبرني متى دخلتم في هذا الدين ومتى دعوتم الناس إليه فقال أبو عبيدة دعينا إليه منذ بضع وعشرين سنة فمنا من أسلم حين أتاه الرسول ومنا من أسلم بعد ذلك فقال هل كان رسولكم أخبركم أنه يأتي من بعده رسول قال لا ولكنه أخبرنا أنه لا نبي بعده وأخبرنا أن عيسى بن مريم قد بشر به قومه قال الرومي وأنا على ذلك من الشاهدين إن عيسى بن مريم قد بشرنا براكب الجمل وما أظنه إلا صاحبكم ثم قال أخبرني عن قول صاحبكم في عيسى فقال له أبو عبيدة قول صاحبنا فيه قول الله تعالى فيه وهو أصدق القائلين وأبرهم قال الله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون 59 آل عمران وقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه إلى قوله لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون 171 - 172 النساء فلما فسر له الترجمان ذلك وبلغ هذا المكان قال أشهد أن هبذه صفة عيسى وأشهد أن نبيكم صادق وأنه الذي بشر به عيسى وأنكم قوم صدق وقال لأبي عبيدة ادع لي رجلين من أول أصحابك إسلاما وهما فيما ترى أفضل من معك فدعا أبو عبيدة معاذ بن جبل وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فقال له هذان من أفضل المسلمين فضلا ومن أولهم إسلاما فقال لهما الرومي ولأبي عبيدة أتضمنون لي الجنة إن أنا أسلمت وجاهدت معكم فقالوا له نعم إن أنت أسلمت واستقمت ولم تغير حتى تموت وأنت على ذلك فإنك من أهل الجنة قال فإني أشهدكم أني من المسلمين فأسلم وفرح المسلمون بإسلامه وصافحوه ودعوا له بخير وقالوا له إنا إن أرسلنا رسولنا إلى صاحبكم وأنت عندنا ظنوا أنا حبسناك عنهم فنتخوف أن يحبسوا صاحبنا فإن شئت أن تأتيهم الليلة وتكتم إسلامك حتى نبعث إليهم رسولنا غدا وننظر علام ينصرم الأمر بيننا وبينهم فإذا رجع رسولنا إلينا أتيتنا عند ذلك فما أعزك علينا وأرغبنا فيك وأكرمك
علينا وما أنت الآن عند كل امرئ منا إلا بمنزلة أخيه لأبي وأمه
قال
فإنكم نعم ما رأيتم فخرج فبات في أصحابه وقال لباهان غدا يجيئكم رسول
القوم الذي سألتم وانصرف إلى المسلمين لما رجع إليهم خالد فأسلم وحسن
إسلامه
ولما أصبح المسلمون من تلك الليلة بعث خالد بن الوليد بقبة له
حمراء من أدم كان اشتراها بثلاثمائة دينار فضربت له في عسكر الروم ثم خرج
حتى أتاها فأقام فيها ساعة وكان خالد رجلا طويلا جميلا جليدا مهيبا لا
ينظر إليه رجل إلا ملأ صدره وعرف أنه من جلداء الرجال وشجعانهم وأشدائهم
وبعث باهان إلى خالد وهو في قبته أن ألقني وصف له في طريقه عشرة صفوف عن
يمينه وعشرة صفوف عن شماله مقنعين في الحديد عليهم الدروع والبيض والسواعد
والجواشن والسيوف لا يرى منهم إلا الحدق وصف من وراء تلك الصفوف خيلا
عظيمة وإنما أراد أن يريه عدد الروم وعدتهم ليرعبه بذلك وليكون أسرع له
إلى ما يريد أن يعرض عليه فأقبل خالد غير مكترث لما رأى من هيآتهم
وجماعتهم ولكانوا أهون عليه من الكلاب فلما دنا من باهان رحب به ثم قال
بلسانه ها هنا عندي اجلس معي فإنك من ذوي أحساب العرب فيما ذكر لي ومن
شجعانم ونحن نحب الشجاع ذا الحسب وقد ذكر لي أن لك عقلا ووفاء والعاقل
ينفعك كلامه والوفي يصدق قوله ويوثق بعهده وأجلس فيما بينه وبين خالد
ترجمانا له يفسر لخالد ما يقول وخالد جالس إلى جنبه
قال الحارث بن عبد
الله الأزدي قال لي خالد يوم غدا إلى عسكر الروم اخرج معي وكنت صديقا له
قل ما أفارقه وكان يستشيرني في الأمر إذا نزل به فكنت أشير عليه بمبلغ
رأيي فكان يقول لي إنك ما علمت لميمون الرأي ولقل ما أشرت علي بمشورة إلا
وجدت عاقبتها تؤدي إلى سلامة فخرجت يومئذ معه حتى إذا دخلنا عسكرهم وضربت
قبته وبعث إليه باهان
ليلقاه قال لي انطلق معي فقلت له إن القوم إنما أرادوك ولا أراهم يدعونني أدنو إليهم معك فقال لي امضه فمضيت معه فلما دنونا من باهان وعلى رأسه ألوف رجال بعضهم خلف بعض وحوله لا يرى منهم إلا أعينهم وفي أيديهم العمد جاءنا الترجمان فقال أيكما خالد أنا فقال أقبل أنت وليرجع هذا فقام خالد وقال هذا رجل من أصحابي ولست أستغني عن رأيه فرجع إلى باهان فأخبره فقال دعوه فليأت معه فأقبلنا نحوه فلم يمش إلا خطا خمسا أو ستا حتى جاء نحو من عشرة فقالوا لي ضع سيفك ولم يقولوا لخالد شيئا فنظرت ما يقول لي خالد فقال لهم ما كان ليضع عزه من عنقه أبدا وقد بعثتم إلينا فأتيناكم فإن تكرمونا جلسنا إليكم وسمعنا منكم وإن أبيتم فخلوا سبيلنا فننصرف عنكم فرجع الترجمان إلى باهان فقال دعوهما فأقبلنا إليه فرحب بخالد وأجلسه معه وجلست أنا على نمارق مطروحة للناس قريبا منهما وحيث أسمع كلامهما فقال باهان لخالد إنك من ذوي أحساب العرب فيما ذكر لي ومن شجعانهم وقد ذكر لي أن لك عقلا ووفاء والعاقل ينفعك كلامه والوفي يصدق قوله ويوثق بعهده فلما فسر له الترجمان ذلك قال خالد إن نبينا {صلى الله عليه وسلم} قال لنا إن حسب المرء دينه ومن لم يكن له دين فلا حسب له وقال لنا إن أفضل الشجاعة وخيرها في العاجلة والعاقبة ما كان منها في طاعة الله وأما ما ذكرت أني أوتيت عقلا ووفاء فإن أكن أوتيت ذلك فلله المن والفضل علينا وهو المحمود عندنا وقد قال لنا نبينا {صلى الله عليه وسلم} إن الله لما خلق العقل وفرغ من خلقه قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال له وعزتي ما خلقت من خلقي شيئا هو أحب إلي منك بك أحمد وبك أعبد وبك أعرف وبك تنال طاعتي وبك تدخل جنتي ثم قال خالد والوفاء لا يكون إلا من العقل فمن لم يكن له عقل فلا وفاء له ومن لا وفاء له لا عقل له فقال له باهان أنت أعقل أهل الأرض ما يتكلم بكلامك ولا يبصره ولا يفطن له إلا الفائق من الرجال ثم قال لخالد أخبرني عنك وأنت هكذا تحتاج إلى
مشورة هذا الرجل فقال له خالد وأعجب من ذلك أن في عسكرنا أكثر من ألف رجل كلهم لا يستغني عن رأيه
ولا
عن مشورته فقال باهان ما كنا نظن ذلك عندكم ولا نراكم به فقال له خالد ما
كل ما تظنون ونظن يكون صوابا فقال باهان صدقت ثم قال له إن أول ما أكلمك
به إني أدعوك إلى خلتي ومصافاتي فقال له خالد كيف لي ولك أن يتم هذا فيما
بيني وبينك وقد جمعتني وإياك بلدة لا أريد أنا ولا تريد أنت أن نفترق حتى
تصير البلدة لأحدنا فقال له باهان فلعل الله أن يصلح بيننا وبينك فلا
يهراق دم ولا يقتل قتيل قال خالد إن شاء الله فعل قال باهان فإني أريد أن
ألقي الحشمة فما بيني وبينك وأكلمك كلام الأخ أخاه إن قبتك هذه الحمراء قد
أعجبتني فأنا أحب أن تهبها لي فإني لم أر قبة من القباب أحسن منها فخذ ما
بدا لك فيها وسلني ما أحببت فهو في يدك فقال له خالد خذها فهي لك ولست
أريد من متاعك شيئا قال والله ما ظننته سألها إلا لينظر إليها فإذا هو قد
أخذها ثم قال لخالد إن شئت بدأتك فتكلمت وإن شئت أنت فتكلم فقال له خالد
ما أبالي أي ذلك كان أما أنا فلا أخالك إلا وقد بلغك وعلمت ما أسأل واطلب
وما أدعو إليه وقد جاءك بذلك أصحابك ومن لقينا منهم بأجنادين ومرج الصفر
وفحل ومدائنكم وحصونكم وأما أنت فلست أدري ما تريد أن تقول فإن شئت فتكلم
وإن شئت بدأتك فتكلمت فقال باهان
الحمد لله الذي جعل نبينا أفضل
الأنبياء وملكنا أفضل الملوك وأمتنا أفضل الأمم فلما بلغ هذا المكان قال
خالد وقطع على باهان منطقه والحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم
وبجميع الأنبياء وجعل الأمير الذي وليناه أمورنا رجلا كبعضنا فلو زعم أنه
ملك علينا لعزلناه عنا ولسنا نرى أن له على رجل من المسلمين فضلا إلا أن
يكون أتقى منه عند الله وأبر والحمد لله الذي جعل أمتنا تأمر بالمعروف
وتنهي عن المنكر وتقر بالذنب وتستغفر منه وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا
قل الآن ما بدا لك
فاصفر وجه باهان وسكت قليلا ثم قال الحمد لله
الذي أبلانا فأحسن البلاء عندنا فأغنانا من الفقر ونصرنا على الأمم وأعزنا
فلا نذل ومنعنا من
الضيم فلا تباح حرمتنا ولسنا فيما أعزنا الله به وأعطانا من ديننا ببطرين ولا مرحين ولا باغين على الناس وقد كانت لنا منكم يا معشر العرب جيران كنا نحسن جوارهم ونعظم رفدهم ونفضل عليهم ونفي لهم بالعهد وخيرناهم بلادنا ينزلون منها حيث شاءوا فينزلون آمنين ويرحلون آمنين وكنا نرى أن جميع العرب ممن لا يجاورنا سيشكرون لنا ذلك الذي آتينا إلى إخوانهم وما اصطنعنا عندهم فلم يرعنا منهم إلا وقد فاجأتمونا بالخيل والرجال تقاتلوننا على حصوننا وتريدون أن تغلبونا على بلادنا وقد طلب هذا منا قبلكم من كان أكثر منكم عددا وأعظم مكيدة وأقوى جدا فلم يرجعوا عنا إلا وهم بين أسير وقتيل وأرادت ذلك منا فارس فقد بلغكم كيف صنع الله بهم وأراد ذلك منا الترك فلقيناهم بأشد مما لقينا به فارس وأرادنا غيرهم من أهل المشرق والمغرب من ذوي المنعة والعز والجنود العظيمة فكلهم أظفرنا الله بهم وصنع لنا عليهم ولم تكن أمة من الأمم بأدق عندنا منكم شأنا ولا اصغر أخطارا إنما جلكم رعاء الشاء والإبل وأهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء أفأنتم تطمعون أن نتخلى لكم عن بلادنا بئس ما طمعتم فيه منا وقد ظننا أنه لم يأت بكم إلى بلادنا ونحن ننفي كل من حولنا من الأمم العظيمة الشأن الكثيرة العدد إلا جهد نزل بكم من جدوبة الأرض وقحط المطر فعثتم في بلادنا وأفسدتم كل الفساد وقد ركبتم مراكبنا وليست كمراكبكم ولبستم ثيابنا وليست كثيابكم وطعمتم من طعامنا وليس كطعامكم وأصبتم منا وملأتم أيديكم من الذهب الأحمر والفضة البيضاء والمتاع الفاخر ولقد لقيناكم الآن وذلك كله لنا وهو في أيديكم فنحن نسلمه لكم فأخرجوا به وانصرفوا عن بلادنا فإن أبت أنفسكم إلا أن تخرجوا وتشرهوا وأردتم أن نزيدكم من بيوت أموالنا ما نقوي به الضعيف منكم ويرى الغائب أن قد رجع إلى أهله بخير فعلنا ونأمر للأمير منكم بعشرة آلاف دينار ونأمر لك بمثلها ونأمر لرؤسائكم بألف دينار ألف دينار ونأمر
لجميع أصحابك لكل واحد منهم بمائة دينار على
أن تحلفوا لنا بالأيمان المغلظة أن لا تعودوا إلى بلادنا ثم سكت
فقال خالد الحمد لله الذي لا إله إلا هو فلما فسر ذلك الترجمان رفع باهان يديه إلى السماء ثم أشار إليه بيده وقال لخالد نعم ما قلت قال خالد وأشهد أن محمدا رسول الله فلما فسرها الترجمان قال باهان الله أعلم ما أدري لعله كما تقول ثم قال خالد أما بعد فإن كل ما ذكرت به قومك من الغنى والعز ومنع الحريم والظفر على ألأعداء والتمكن في البلاد نحن به عارفون وكل ما ذكرت من إنعامكم على جيرانكم منا فقد عرفناه وذلك لأمر كنتم تصلحون به دنياكم فكان زيادة في ملككم وعزا لكم ألا ترون أن ثلثيهم أو شطرهم قد دخلوا في دينكم وهم يقاتلوننا معكم وأما ما ذكرتنا به من رعي الإبل والغنم فما أقل ما رأيت واحدا منا يكرهه وما لمن يكرهه منا فضل على من يفعله وأما قولك إنا أهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء فحالنا والله كما وصفته وما ننتفى من ذلك ولا نتبرأ منه وكنا على أسوأ وأشد مما ذكرت وسأقص عليك قصتنا وأعرض عليك أمرنا وأدعوك إلى حظك إن قبلت ألا إنا كنا معشر العرب أمة من هذه الأمم أنزلنا الله وله الحمد منزلا من الأرض ليست به أنهار جارية ولا يكون فيه من الزرع إلا القليل وجل أرضنا المهامة والقفار وكنا أهل حجر ومدر وشاة وبعير وعيش شديد وبلاء دائم لازم نقطع أرحامنا ونقتل خشية الإملاق أولادنا ويأكل قوينا ضعيفنا وكثيرنا قليلنا ولا تأمن قبيلة منا قبيلة إلا أربعة أشهر من السنة نعبد من دون الله أوثانا وأصناما ننحتها بأيدينا من الحجارة التي نختارها على أعيننا وهي لا تضر ولا تنفع ونحن عليها مكبون فبينا نحن كذلك على شفا حفرة من النار من مات منا مات مشركا وسار إلى النار ومن بقي منا بقي مشركا كافرا بربه قاطعا لرحمه إذ بعث الله فينا رسولا من صميمنا وخيارنا دعانا إلى الله وحده أن نعبده ولا نشرك به شيئا وأن نخلع الأنداد التي يعبدها المشركون وقال لنا لا تتخذوا من دون ربكم إلها ولا وليا ولا نصيرا ولا تجعلوا معه صاحبة ولا ولدا ولا
تعبدوا من دونه نارا ولا حجرا ولا شمسا ولا قمرا
واكتفوا به ربا وإلها من كل شيء دونه وكونوا أولياءه وإليه فارغبوا وإياه فادعوا وقال لنا قاتلوا من اتخذ مع الله آلهة أخرى وكل من زعم أن لله ولدا وأنه ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة حتى يقولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له ويدخلوا في الإسلام فإن فعلوا حرمت عليكم دماؤهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها وهم إخوانكم في الدين لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فإن هم أبوا أن يدخلوا في دينكم وأقاموا على دينهم فاعرضوا عليهم الجزية أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم فإن أبوا فقاتلوهم فإنه من قتل منكم كان شهيدا حيا عند الله مرزوقا وأدخله الله الجنة ومن قتل من عدوكم قتل كافرا وصار إلى النار مخلدا فيها أبدا ثم قال خالد وهذا والله الذي لا إله إلا هو هو الذي أمر الله به نبيه {صلى الله عليه وسلم} فعلمناه وأمرنا به وأمرنا أن ندعو الناس إليه ونحن ندعوكم إلى الإسلام وإلى أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وإلى أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتقروا بما جاء به من عند الله فإن فعلتم فأنتم إخواننا في الدين لكم ما لنا وعليكم ما علينا فإن أبيتم فإنا نعرض عليكم أن تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن فعلتم قبلنا منكم وكففنا عنكم وإن أبيتم أن تفعلوا فقد والله جاءكم قوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة فاخرجوا بنا على اسم الله حتى نحاكمكم إلى الله فإنما الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم سكت خالد فقال باهان إما أن ندخل في دينكم فما أبعد من ترى من الناس أن يترك دينه ويدخل في دينكم وإما أن نؤدي الجزية ثم تنفس الصعداء وثقلت عليه وعظمت عنده فسيموت من ترى جميعا قبل أن يؤدوا الجزية إلى أحد من الناس وهم يأخذون الجزية ولا يعطونها وأما قولك فاخرجوا حتى يحكم الله بيننا فلعمري ما جاءك هؤلاء القوم وهذه الجموع إلا ليحاكموك إلى الله وأما قولك إن الأرض لله يورثها من يشاء من
عباده فصدقت والله ما كانت هذه الأرض التي
نقاتلكم عليها وتقاتلوننا إلا لأمة من الأمم كانوا قبلنا فيها فقاتلناهم
عليها فأخرجناهم منها وقد كانت قبل ذلك
لقوم آخرين فأخرجهم منها هؤلاء الذين كنا قاتلناهم عليها فابرزوا على اسم الله فإنا خارجون إليكم
قال
الحارث فلما فرغ باهان من كلامه وثب خالد فقام وقمت معه فمر بقبته فتركها
وبعث معنا صاحب الروم رجالا حتى أخرجونا من عسكرهم وأمنا فرجعنا إلى أبي
عبيدة فقص عليهم خالد الخبر وأخبرهم بأن القتال سيقع بينهم وقال للناس
استعدوا أيها الناس استعداد قوم يرون أنهم عن ساعة مقاتلون
وحدث أبو
جهضم الأزدي عن رجل من الروم كان مع باهان في عسكرهم ذلك وأسلم بعد فحسن
إسلامه قال كتب باهان إلى قيصر كتابا يخبره فيه بخالد وحال أصحابه وحال
المسلمين وكان قد جمع أصحابه يوم انصرف عنهم خالد فقال أشيروا علي برأيكم
في أمر هؤلاء القوم فإني قد هيبتهم فما أراهم يهابون وأطمعتهم فليس يطمعون
وأردتهم على الرجوع والخروج عن بلادنا بكل وجه فليسوا براجعين والقوم ليس
يريدون إلا هلاككم واستئصالكم وسلب سلطانكم وأكل بلادكم وسبي أولادكم
ونسائكم وأخذ أموالكم فإن كنتم أحرارا فقاتلوا عن سلطانكم وامنعوا حريمكم
ونساءكم وأموالكم وبلادكم وأولادكم فقامت البطارقة رجلا بعد رجل فكلهم
يخبره أنه طيب النفس بالموت دون بلاده وسلطانه وقالوا له إذا شئت فانهض
بنا فقال لهم فكيف ترون نقاتلهم فإنا أكثر من عشرة أضعافهم نحن نحو من
أربعمائة ألف وهم نحو من ثلاثين ألفا أو أقل أو أكثر فقال بعضهم أخرج
إليهم في كل يوم مائة ألف يقاتلونهم وتستريح البقية وتسرح عيالنا وأثقالنا
إلى البحر فلا يكون معنا شيء يهمنا ولا يشغلنا ويقاتلهم كل يوم منا مائة
ألف فهم في كل يوم في قتل
وجراحة وعناء ومشقة وشدة ونحن لا
نقاتل إلا في كل أربعة أيام يوما فإن هم هزموا منا في كل يوم مائة ألف بقي
لهم أكثر من مائتي ألف لم ينهزموا فقال آخرون لا ولكنا نرى إذا هم خرجوا
إلينا أن نبعث إلى كل رجل منهم عشرة من أصحابك فلا والله لا يجتمع عشرة
على واحد إلا غلبوه فقال باهان هذا ما لا يكون وكيف أقدر على عددهم حتى
أبعث إلى كل رجل منهم عشرة من أصحابي وكيف أقدر أن ينفرد الرجل منهم عن
صاحبه حتى أبعث إليه عشرة من قبلي هذا ما لا يكون
قال فأجمعوا رأيهم جميعا على أن يخرجوا بأجمعهم خرجة واحدة فيناجزوهم فيها ولا يرجعوا عنهم حتى يحكم الله بينهم
وكتب
باهان إلى قيصر أما بعد نسأل الله لك أيها الملك ولجندك وأهل مملكتك النصر
ولدينك وسلطانك العز فإنك بعثتني فيما لا يحصيه من العدد إلا الله فقدمت
على القوم فأرسلت إليهم فهيبتهم فلم يهابوا وأطمعتهم فلم يطمعوا وخوفتهم
فلم يخافوا وسألتهم الصلح فلم يقبلوا وجعلت له الجعل على أن ينصرفوا فلم
يفعلوا وقد ذعر منهم جند الملك ذعرا شديدا وخشيت أن يكون الفشل قد عمهم
والرعب قد دخل قلوبهم إلا أن منهم رجالا قد عرفتهم ليسوا بفرارين عن عدوهم
ولا شكاك في دينهم ولو قد لقوهم لم يفروا حتى يظهروا أو يقتلوا وقد جمعت
أهل الرأي من أصحابي وأهل النصيحة لملكنا وديننا فاجتمع رأيهم على النهوض
إليهم جميعا في يوم واحد ولا نزايلهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم
قال
وكان باهان قد رأى رؤيا فذكرها لملك الروم في كتابه هذا فقال له وقد أتاني
آت في منامي فقال لي لا تقاتل هؤلاء القوم فإنهم يهلكونك ويهزمونك فلما
انتبهت عبرت أنه من الشيطان أراد أن يحزنني فخسأته فإن يكن الشيطان فقد
خسأته وإن لم يكن فقد بين لي الأمر فابعث أنت أيها
الملك بثقلك
وحرمك ومالك فألحقهم بأقصى بلادك وانتظر وقعتنا هذه فإن أظهرنا الله عليهم
حمدت الله الذي أعز دينك ومنع سلطانك وإن هم ظفروا علينا فأرض بقضاء الله
واعلم أن الدنيا زائلة عنك كما زالت عمن كان قبلك فلا تأسف منها على ما
فاتك ولا تغتبط منها بشيء مما في يديك والحق بمعاقلك ودار مملكتك وأحسن
إلى رعيتك وإلى الناس يحسن الله إليك وارحم الضعفاء والمساكين ترحم وتواضع
لله يرفعك فإن الله لا يحب المتكبرين والسلام
قال ثم إن باهان
خرج إلى المسلمين في يوم ذي ضباب ورذاذ وصف لهم عشرين صفا لا ترى أطرافها
ثم جعل على ميمنته ابن قماطر ومعه جرجير في أهل أرمينية وجعل الدرنجار في
ميسرته وكان من خيارهم ونساكهم فأقبلوا نحو المسلمين كأنهم أعراض الجبال
وقد ملأوا الأرض فلما نظر إليهم المسلمون وقد أقبلوا كلهم نهضوا إلى
راياتهم وجاء خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل
بن حسنة وهم الأمراء الذين كان أبو بكر رضي الله عنه أمرهم إلى أبي عبيدة
بن الجراح ومعه معاذ بن جبل لا يفارقه فقالوا له إن هؤلاء قد زحفوا لنا
هذا اليوم المطير وإنا لا نرى أن نخرج إليهم فيه حتى يلطوا بعسكرنا
ويضطرونا إلى ذلك قال أصبتم ثم خرج هو ومعاذ فصفوا الناس وهيئوهم ووقفوهم
على مراكزهم وأقبلت الروم في المطر فوقفوا ساعة وتصبروا عليه فلما رأوا أن
المطر لا يقلع انصرفوا إلى عسكرهم ودعا الدرنجار رجلا من العرب ممن كان
على دين النصرانية فقال له ادخل في عسكر هؤلاء القوم فانظر ما حالهم وما
هديهم وما يصنعون وكيف سيرتهم ثم القني بها فخرج ذلك الرجل حتى دخل عسكر
المسلمين فلم يستكروه لأنه كان رجلا من العرب لسانه ووجهه فمكث في عسكرهم
ليلة حتى أصبح فوجد المسلمين يصلون الليل كله كأنهم في النهار ثم أصبح
فأقام عامة يومه ثم خرج إليه فقال جئتك من عند قوم يصومون النهار ويقومون
الليل ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر رهبان بالليل وأسد بالنهار لو
سرق
ملكهم فيهم لقطعوه ولو زنى لرجموه لا يثأرهم الحق واتباعهم إياه على الهوى
فقال لئن كان هؤلاء القوم هكذا لبطن الأرض خير من ظهرها لمن يريد قتالهم
فلما كان من الغد خرجوا أيضا في يوم ذي ضباب وأتى المسلمين رجال من العرب
كانوا نصارى فأسلموا فقال لهم أبو عبيدة وخالد ادخلوا في عسكر الروم
واكتموهم إسلامكم والقونا بأخبارهم فإن لكم في هذه أجرا والله حاسبه لكم
جهادا فإنكم تدفعون بذلك عن حرمة الإسلام وتدلون على عورة أهل الشرك
فانطلقوا فدخلوا عسكر الروم ثم جاءوا بعدما مضى من الليل نصفه فأتوا أبا
عبيدة فقالوا له إن القوم قد أوقدوا النيران وهم يتعبون لكم ويتهيأون
للقائكم وهم مصبحوكم بالغداة فما كنتم صانعين فاصنعوه الآن فخرج أبو عبيدة
ومعاذ بن جبل وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص فعبأوا
الناس وصفوهم فلم يزالوا في ذلك حتى أصبحوا
وعن راشد بن عبد الرحمن
ألأزدي قال صلى بنا أبو عبيدة يومئذ صلاة الغداة في عسكره في الغداة التي
التقينا فيها الروم باليرموك فقرأ في أول ركعة بالفجر وليال عشر فلما مر
بقول الله تعالى ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق
مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين
طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك
لبالمرصاد 4 - 14 الفجر قلت في نفسي ظهرنا والله على القوم للذي أجرى الله
على لسانه وسررت بذلك سرورا شديدا وقلت عدونا هذا والله نظير لهذه الأمم
في الكفر والكثرة والمعاصي قال ثم قرأ في الركعة الثانية والشمس وضحاها
فلما مر بقول الله تعالى كذبت ثمود بطغواها إلى آخر السورة قلت في نفسي
هذه والله أخرى
إن صدق الفأل ليصبن الله عليهم سوط عذاب وليد مدمن الله
عليهم كما دمدم على هذه القرون من قبلهم فلما قضى أبو عبيدة صلاته أقبل
على الناس بوجهه وقال
أيها الناس أبشروا فإني رأيت في ليلتي هذه
فيما يرى النائم كأن رجالا أتوني فحفوا بي وعليهم ثياب بيض ثم دعوا إلي
رجالا منكم أعرفهم ثم قالوا لنا أقدموا على عدوكم ولا تهابوهم فإنكم
الأعلون وكأنا مضينا إلى عسكر عدونا فلما رأونا قاصدين إليهم انفرجوا لنا
وجئنا حتى دخلنا عسكرهم وولوا مدبرين
فقال له الناس أصلحك الله نامت عينيك هذه بشرى من الله بشرك الله بخير
وقال
أبو مرثد الخولاني وأنا أصلحك الله قد رأيت رؤيا إنها لبشرى من الله رأيت
في هذه الليلة كأنا خرجنا إلى عدونا فلما تواقعنا صب الله عليهم من السماء
طيرا بيضا عظاما لها مخالب كمخالب الأسد وهي تنقض من السماء انقضاض
العقبان فإذا حاذت بالرجل من المشركين ضربته ضربة يخر منها متقطعا
وكان
الناس يقولون أبشروا معاشر المسلمين فقد أيدكم الله عليهم بالملائكة قال
فنباشر الناس بهذه الرؤيا وسروا بها فقال أبو عبيدة وهذه والله بشرى من
الله فحدثوا بهذه الرؤيا الناس فإن مثلها من الرؤيا ما يشجع المسلم ويحسن
ظنه وينشطه للقاء عدوه
قال وانتشرت هذه الرؤيا ورؤيا أبي عبيدة في المسلمين واستبشروا بهما
وعن
أبي جهضم أيضا أن رجلا من الروم حدثه في خلافة عبد الملك بن مروان أن رجلا
من عظمائهم أتى باهان في صبيحة الليلة التي خرج إلى المسلمين
باليرموك
فقال له إني رأيت رؤيا أريد أن أحدثك بها قال هاتها قال رأيت كأن رجالا
نزلوا من السماء طول أحدهم أبعد من مد بصره فنزعوا سيوفنا من أغمادها
وأسنة رماحنا من أطرافها ثم لم يدعوا منا رجلا إلا كتفوه ثم قالوا لنا
اهربوا وأكثركم هالك فأخذنا نهرب فمنا من يسقط على وجهه ومنا من يتبلد لا
يستطيع أن يبرح من مكانه ومنا من يحل كتافه ثم يسعى حتى لا نراه فقال له
باهان أما من رأيت يسقط على وجهه ومن رأيته يتبلد لا يطيق أني يسعى ولا
يتنحى من مكانه فهم الذين يهلكون وأما الذين رأيت يحلون كتافهم ويسعون حتى
لا نراهم فأولئك الذين ينجون ثم قال له باهان أما أنت فو الله لا تسلم مني
أبدا فوجهك الذي بشر بالشر وقنط من الخير ألست الذي كنت أشد الناس علي في
أمر الرجل الذي قتل رجلا من أهل الذمة فأردت أن أقتله فكنت أنت من اشد
الناس علي في أمره حتى عطلت حدا من حدود الله وتركته وكان علي من الحق أن
أقيمه فحلت بيني وبينه في جماعة من السفهاء وتركته كراهية أن أفرق جماعتكم
أو أن يضرب بعضكم بعضا فأما الآن فقد حدثت نفسي بالموت وإنما ألقى القوم
عن ساعة فإن شئتم الآن فتفرقوا وإن شئتم فاجتمعوا وأ ا أتوب إلى الله من
ترك ذلك الحد يومئذ فإنه لم يك يسعني ولا ينبغي لي إلا قتله ولو قتلتموني
معه ثم أمر به فضربت عنقه قال وطلب الرومي الذي كان قتل الذمي فهرب منه
فلم يقدر عليه وقد تقدمت قصة هذا الرومي المقتول تعديا فيما أخرجناه قبل
من الحديث عن أبي بشر التنوخي فأغنى ذلك عن إعادتها
وعن راشد بن عبد
الرحمن الأزدي أن باهان زحف يوم اليرموك إلى المسلمين في عشرين صفا تضم
نحوا من أربعمائة ألف مقاتل وأصبح المسلمون طيبة أنفسهم لقتال المشركين قد
شرح الله صدورهم وشجع قلوبهم على لقاء عدوهم فأخرجهم أبو عبيدة وجعل على
ميمنته معاذ بن جبل وعلى ميسرته
قباث بن أشيم وعلى الرجالة هاشم
بن عتبة وعلى الخيل خالد بن الوليد وخرج الناس على راياتهم وفيهم أشراف
العرب وفرسانهم من رجالهم وقبائلهم وفيهم الأزد وهم ثلث الناس وحمير وهم
عظم الناس وفيهم همدان وخولان ومذحج وخثعم وقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغسان
وكندة وحضرموت ومعهم جماعة من كنانة ولكن عظم الناس أهل اليمن ولم يحضرها
يومئذ أسد ولا تميم ولا ربيعة ولم تكن دارهم هنالك إنما كانت دارهم عراقية
فقاتلوا أهل فارس بالعراق فلما برز المسلمون إلى عدوهم سار أبو عبيدة فيهم
ثم قال يا عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فإن وعد الله حق يا
معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار
فلا تبرحوا مصافكم ولا تخطوا إليهم بخطوة ولا تبدأوهم بقتال واشرعوا
الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إلا من ذكر الله حتى آمركم إن شاء
الله وخرج معاذ يقص على الناس ويقول يا قراء القرآن ومستحفظي الكتاب
وأنصار الهدى وأولياء الحق إن رحمة الله لا تنال بالتواني وجنته لا تدخل
بالأماني ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدقين
بما وعدهم الله ألم تسمعوا لقول الله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم
وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن
لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا 55 النور إلى رأس
الآية أنتم إن شاء الله منصورون فأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا
وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين 46 الأنفال واستحيوا من ربكم أن
يراكم فرارا من عدوكم وأنتم في قبضته ورحمته وليس لأحد منكم ملجأ ولا منجي
من دونه ولا متعزز بغير الله وجعل يمشي في الصفوف يحرضهم ويقص عليهم ثم
انصرف إلى موضعه
قال سهل بن سعد ومر عمرو بن العاص يومئذ على الناس فجعل يعظهم
ويحرضهم
ويقول أيها الناس غضوا أبصاركم واجثوا على الركب وأشرعوا الرماح والزموا
مراكزكم ومصافكم فإذا حمل عليكم عدوكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف
الأسنة فثبوا في وجوههم وثوب الأسد فوالذي يرضي الصدق ويثيب عليه ويمقت
الكذب ويعاقب عليه ويجزي بالإحسان لقد بلغني أن المسلمين سيفتحونها كفرا
كفرا وقصرا قصرا فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم فلو قد صدقتموهم الشدة لقد
ابذعروا ابذعرار أولاد الحجل
قال وكان أبو سفيان بن حرب استأذن عمر بن
الخطاب في جهاد الروم بالشام فقال له إني أحب أن تأذن لي فأخرج إلى الشام
متطوعا بمالي فأنصر المسلمين وأقاتل المشركين وأحض جماعة من هناك من
المسلمين سيفتحونها فلا آلوهم نصيحة ولا خيرا فقال له عمر قد أذنت لك يا
أبا سفيان تقبل الله جهادك وبارك لك في رأيك وأعظم أجرك فيما نويت من ذلك
فتجهز أبو سفيان بأحسن الجهاز وفي أحسن هيئة ثم خرج وصحبته أناس من
المسلمين كثير خرجوا متطوعين فأحسن أبو سفيان صحبتهم حتى قدموا على جماعة
المسلمين ولما خرج المسلمون إلى عدوهم باليرموك كان أبو سفيان يومئذ يسير
في الناس ويقف على أهل كل راية وعلى كل جماعة فيحض الناس ويعظهم ويقول
إنكم يا معشر المسلمين أصبحتم في دار العجم منقطعين عن الأهل نائين عن
أمير المؤمنين وأمداد المسلمين وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عددهم
شديد عليكم حنقهم وقد وترتموهم في أنفسهم ونسائهم وأولادهم وبلادهم
وأموالهم فلا والله لا ينجيكم منهم اليوم ولا تبلغون رضوان الله إلا بصدق
اللقاء والصبر في مواطن المكروه فتقربوا إلى خالقكم وامتنعوا بسيوفكم
ولتكن هي الحصون التي إليها تلجون وبها تمتنعون
وقاتل أبو سفيان يومئذ قتالا شديدا وأبلى بلاء حسنا
قال
وزحف الروم إلى المسلمين وهم يزفون زفا ومعهم الصلبان وأقبلوا بالأساقفة
والقسيسين والرهبان والبطارقة والفرسان ولهم دوي كدوي الرعد
وقد
تبايع عظمهم على الموت ودخل منهم ثلاثون ألفا في السلاسل كل عشرة في سلسلة
لئلا يفروا فلما نظر إليهم خالد بن الوليد مقبلين أقبل على نساء المسلمين
وهن على تل مرتفع في العسكر فقال يا نساء المسلمين أيما رجل أدركتنه
منهزما فاقتلنه فأخذن العناهر وهي عمد البيوت ثم أقبلن نحو المسلمين فقلن
لستم بعولتنا إن لم تمنعونا اليوم وأقبل خالد إلى أبي عبيدة فقال إن هؤلاء
قد أقبلوا في عدد وحد وجد وإن لهم الشدة لا يردها شيء وليست خيل المسلمين
بكثيرة ولا والله لأقامت خيلي لشدة حملتهم وخيلهم ورجالهم أبدا وخيل خالد
يومئذ أمام صفوف المسلمين والمسلمون ثلاثة صفوف قال خالد فقد رأيت أن أفرق
خيلي فأكون أنا في إحدى الخيلين ويكون قيس بن هبيرة في الخيل الأخرى ثم
تقف خيلنا من وراء الميمنة والميسرة فإذا حملوا على الناس فإن ثبت
المسلمون فالله ثبتهم وثبت أقدامهم وإن كانت الأخرى حملت عليهم خيولنا وهي
جامة على ميمنتهم وميسرتهم وقد انتهت شدة خيلهم وقوتها وتفرقت جماعتهم
ونقضوا صفوفهم وصاروا نشرا ثم تحمل عليهم وهي بتلك الحال فأرجو عندها أن
يظفر الله بهم ويجعل دائرة السوء عليهم وقال لأبي عبيدة قد رأيت لك أن
توقف سعيد بن زيد موقفك هذا وتقف أنت بحذائه من ورائه في جماعة حسنة فتكون
ردءا للمسلمين فقبل أبو عبيدة مشورته وقال أفعل ما أراك الله وأنا فاعل ما
ذكرت فأمر أبو عبيدة سعيد بن زيد فوقف في مكانه وركب هو فسار في الناس
فحرضهم وأوصاهم بتقوى الله والصبر ثم انصرف فوقف من وراء الناس ردءا لهم
وأقبلت الروم كقطع الليل حتى إذا حاذوا الميمنة نادى معاذ بن جبل الناس
فقال يا عباد الله المسلمين إن هؤلاء قد تيسروا للشدة عليكم ولا والله لا
يردهم إلا صدق اللقاء والصبر في البأساء ثم نزل عن فرسه وقال من أراد
أن
يأخذ فرسي ويقاتل عليه فليأخذه فوثب إليه ابنه عبد الرحمن بن معاذ وهو
غلام حين احتلم فقال يا أبة إني لأرجو أن أكون فارسا أعظم غناء عن
المسلمين مني راجلا وأنت يا ابة راجلا اعظم غناء منك فارسا وعظم المسلمين
رجالة وإذا رأوك صابرا محتسبا محافظا صبروا إن شاء الله وحافظوا فقال له
معاذ وفقني الله وإياك يا بني لما يحب ويرضى فقاتل معاذ وابنه قتالا شديدا
ما قاتل مثله كثير من المسلمين ثم إن الروم تحاضوا وتداعوا وقصت عليهم
الأساقفة والرهبان وقد دنوا من المسلمين فإذا سمع ذلك معاذ منهم قال اللهم
زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم وأنزل علينا السكينة وألزمنا كلمة التقوى وحبب
إلينا اللقاء ورضنا بالقضاء
قال وخرج باهان صاحب الروم فجال في أصحابه
وأمرهم بالصبر والقتال دون ذراريهم وأموالهم وسلطانهم وبلادهم ثم بعث إلى
صاحب الميسرة أن احمل عليهم وكان على الميسرة الدرنجار وكان متنسكا فقال
البطارقة والروم الذين معه قد أمركم أميركم أن تحملوا وتهيأت البطارقة ثم
شدوا على الميمنة وفيها الأزد ومذحج وحمير وحضرموت وخولان فثبتوا حين
صدموا واقتتلوا قتالا شديدا ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال فأزالوا
المسلمين عن الميمنة إلى ناحية القلب وانكشفت طائفة من المسلمين إلى
العسكر وثبت عظم الناس فلم يزولوا وقاتلوا تحت راياتهم فلم ينكشفوا ولم
تنكشف زبيد يومئذ وهي في الميمنة وفيهم الحجاج بن عبد يغوث والد عمرو بن
الحجاج فنادى يا خيفان يا خيفان فاجتمعوا إليه ثم شدوا على الروم وهم في
نحو خمسمائة رجل شدة فلم يتنهنهوا حتى خالطوا الروم فقاتلوهم قتالا شديدا
وشغلوهم عن اتباع من انكشف من المسلمين وشدت عليهم حضرموت وحمير وخولان
بعدما كانوا زالوا ثم رجعوا إلى مواقفهم حتى وقفوا في الصف حيث كانوا
واستقبل النساء
منهزمة المسلمين بالعناهر يضربن بها وجوههم
وثبتت الأزد وقاتلت قتالا لم يقاتل مثله أحد من تلك القبائل وقتل منهم
مقتلة لم يقتل مثلها من قبيلة من القبائل وقتل يومئذ عمرو بن الطفيل ذو
النور وهو يقول يا معشر الأزد لا يؤتين المسلمون من قبلكم وقاتل قتالا
شديدا قتل من أشدائهم تسعة ثم قتل هو يرحمه الله
وقال جندب بن عمرو بن
حممة ورفع رايته يا معشر الأزد إنه لا يبقى منكم ولا ينجو من الإثم والعار
إلا من قاتل ألا وإن المقتول شهيد والخائب من هرب اليوم وقاتل حتى قتل
رحمه الله ونادى أبو هريرة يا مبرور يا مبرور فأطافت به الأزد قال عبد
الله بن سراقة انتهيت إلى أبي هريرة يومئذ وهو يقول تزينوا للحور العين
وارغبوا في جوار ربكم في جنات النعيم فما أنتم في موطن من مواطن الخير أحب
فيه منكم في هذا الموطن ألا وإن للصابرين فضلهم قال فأطافت به الأزد ثم
اضطربوا هم والروم فوالذي لا إله إلا هو لرأيت الروم وإنها لتدور بهم
الأرض وهم في مجال واحد كما تدور الرحاء وما برحوا يعني المسلمين ولا
زالوا وركبهم من الروم أمثال الجبال فما رأيت موطنا قط أكثر قحفا ساقطا
ومعصما نادرا وكفا طائحة من ذلك الموطن وقد والله أوحلناهم شرا وأوحلونا
وكان
جل القتال في الميمنة وأن القلب ليلقون مثل ما نلقى ولكن حمة القوم وجدهم
وحردهم وحنقهم علينا وكنا في آخر الميمنة فلقد لقينا من قتالهم ما لم يلق
أحد مثله فوالله إنا لكذلك نقاتلهم وقد دخل عسكرنا منهم نحو من عشرين ألفا
من ورائنا فعصمنا الله من أن نزول حمل عليهم خالد بن الوليد فقصف بعضهم
على بعض وشدخ منهم في العسكر نحوا من عشرة آلاف ودخل سائرهم بيوت المسلمين
في العسكر مجرحين وغير مجرحين ثم
خرج خالد يكرد ويقتل كل من كان
قريبا منا من الروم حتى إذا حاذانا ألف خيله بعضها إلى بعض ثم قال يا أهل
الإسلام إنه لم يبق عند القوم من الجد والقتال إلا ما قد رأيتم فالشدة
الشدة فوالذي نفسي بيده ليعطينكم الله الظفر الساعة عليهم فجعل لا يسمع
هذا القول من خالد أحد من المسلمين إلا شجعه عليهم ثم إن خالدا اعترض
الروم وإلى جنبه منهم أكثر من مائة ألف فحمل عليهم وما هو إلا في نحو من
ألف فارس فوالله ما بلغتهم الحملة حتى فض الله جمعهم
قال وشددنا على من يلينا من رجالتهم فانكشفوا وأتبعناهم نقتلهم كيف شئنا ما يمتنعون من قتل ميمنتنا لميسرتهم
قال
ثم إن خالدا انتهى إلى الدرنجار وقد قال لأصحابه لفوني بالثياب فليت أني
لم أقاتل هؤلاء القوم اليوم فلفوه بالثياب وقال لوددت أن الله عافاني من
حرب هؤلاء القوم فلم أرهم ولم يروني ولم أنصر عليهم ولم ينصروا علي وهذا
يوم سوء فما شعر حتى غشية المسلمون فقتلوه
وقال ابن قماطر وهو في ميمنة
الروم لجرجير صاحب أرمينية احمل عليهم فقال له أنت تأمرني أن أحمل عليهم
وأنا أمير مثلك فقال له ابن قماطر أنت أمير وأنا أمير فوقك وقد أمرت
بطاعتي فاختلفا ثم إن ابن قماطر حمل على المسلمين حملة شديدة على الميسرة
وفيها كنانة وقيس ولخم وجذام وعاملة وغسان وخثعم وقضاعة فانكشف المسلمون
وزالت الميسرة عن مصافها وثبت أهل الرايات وأهل الحفاظ فقاتلوا قتالا
شديدا وركبت الروم أكتاف من انهزم من المسلمين حتى دخلوا معهم العسكر
فاستقبلهم نساء المسلمين بالعناهر يضربن بها وجوههم
وعن حنظلة بن جويه قال والله إني لفي الميسرة إذ مر بنا رجال من
الروم
على خيل من خيل العرب لا يشبهون الروم وهم أشبه شيء بنا فلا أنسى قول قائل
منهم يا معشر العرب الحقوا بوادي القرى ويثرب وهو يقول
في كل يوم خيلنا تغير
نحن لنا البلقاء والسدير
هيهات يأبى ذلك الأمير
والملك المتوج المحبور
الرجز
قال
فحملت عليه وحمل علي فاضطربنا بسيفينا فلم يغنينا شيئا ثم اعتنقنا فخررنا
جميعا فاعتركنا ساعة ثم إننا تحاجزنا فنظرت إلى عنقه وقد بدا منها مثل
شراك النعل فمشيت إليه فاعتمدت ذلك الموضع بسيفي فوالله ما أخطأته فقطعته
فصرع فضربته حتى قتلته وأقبلت إلى فرسي وقد كان عار وإذا فرسي قد حبسوه
على فأقبلت حتى ركبته قال وقاتل قباث بن أشيم يومئذ قتالا شديدا وأخذ يقول
إن تفقدوني تفقدوا خير فارس
لدى الغمرات والرئيس المحاميا
وذا فخر لا يملأ الهول صدره
ضروبا بنصل السيف أروع ماضيا
الطويل
وكسر
في الروم يومئذ ثلاثة أرماح وقطع سيفين ويقول كلما قطع سيفا أو كسر رمحا
من يعين بسيف أو برمح في سبيل الله رجلا قد حبس نفسه مع أولياء الله وقد
عاهد الله ألا يفر ولا يبرح يقاتل المشركين حتى يظهر المسلمون أو يموت
وكان من أحسن الناس بلاء يومئذ
ونزل أبو الأعور السلمي فقال يا معشر
قريش خذوا بحظكم من الصبر والأجر فإن الصبر في الدنيا عز ومكرمة وفي
الاخرة رحمة وفضيلة فاصبروا وصابروا
وعن حبيب بن مسلمة قال
اضطررنا يوم اليرموك إلى سعيد بن زيد فلله سعيد ما سعيد يومئذ إلا مثل
الأسد جثا والله على ركبتيه حتى إذا دنوا وثب في وجوههم مثل الليث فطعن
برايته أول رجل من القوم فقتله وأخذ والله يقاتل راجلا فقاتل الرجل البئيس
الشجاع فارسا قال وكان يزيد بن أبي سفيان من أعظم الناس غناء وأحسنه بلاء
هو وأبوه جميعا وقد كان أبوه مر به وهو يحرض الناس ويعظهم فقال يا بني إنك
تلي من أمر المسلمين طرفا ويزيد يومئذ على ربع الناس وإنه ليس بهذا الوادي
رجل من المسلمين إلا وهو محقوق بالقتال فكيف بأشباهك الذين ولوا أمور
المسلمين أولئك أحق الناس بالجهاد والصبر والنصيحة فاتق الله يا بني واكرم
في أمرك ولا يكونن أحد من أصحابك أرغب في ألآخرة ولا في الصبر في الحرب
ولا أشد نكاية في المشركين ولا أجهد على عدو الإسلام ولا أحسن بلاء منك
فقال يزيد أفعل والله يا أبة فقاتل في الجانب الذي كان فيه قتالا شديدا
قال
وشد على عمرو بن العاص جماعة من الروم فانكشف عنه أصحابه وثبت عمرو
فجالدهم طويلا وقاتل قتالا شديدا ثم تراجع إليه أصحابه قال فسمعت أم حبيبة
بنت العاص تقول قبح الله رجلا يفر عن حليلته وقبح الله رجلا يفر عن كريمته
وسمعت نسوة من المسلمين يقلن قاتلوا أيها المسلمون فلستم بعولتنا إن لم
تمنعونا وأخذن العناهر فكلما مر بهن منهزم من المسلمين حملن عليه حتى
يضربن وجهه ويرددنه إلى جماعة المسلمين
وقاتل شرحبيل بن حسنة في ربعه
الذي كان فيه قتالا شديدا وكان إلى جنبه سعيد بن زيد وسطا من الناس وجعل
ينادي إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون
في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن
إلى آخر الآية 111 التوبة ثم
جعل يقول أين الشارون أنفسهم من
الله بإبتغاء مرضات الله أين المشاؤون إلى جوار الله غدا في داره فاجتمع
إليه ناس كثير وبقي القلب لم ينكشف وفيه أهله الذين كانوا مع سعيد بن زيد
وكان أبو عبيدة من وراء ظهور المسلمين ردءا لهم فلما رأى قيس بن هبيرة أن
خيل المسلمين مما يلي الميسرة قد شد عليهم الروم اعترض الروم بخيله وهي
الشطر من خيل خالد فقصف بعضهم على بعض وحمل خالد من ميمنة المسلمين على ما
يليه من الروم حتى اضطرهم إلى صفوفهم فقصف بعضهم على بعض وزحف إليه
المسلمون جماعتهم رويدا رويدا حتى إذا دنوا منهم حملوا عليهم فجعلت ا لروم
ينقضون صفوفهم وينهزمون وبعث أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد أن أحمل عليهم
فحمل عليهم وشد المسلمون بأجمعهم فضرب الله وجوه الروم ومنح المسلمين
أكتافهم يقتلونهم كيف شاءوا لا يمتنعون من أحد من المسلمين وانتهى خالد بن
الوليد إلى الدر نجار وكان كارها لقتال المسلمين لما كان يجد من صفتهم في
الكتب وكان يقرأها فقال خالد إن كنت لأحب أن أراه فضربه المسلمون حتى
قتلوه وإنه لملفف رأسه بكساء وأتبعهم المسلمون يقتلونهم كل قتلة وركب
بعضهم بعضا حتى انتهوا إلى مكان مشرف على أهوية تحتهم فجعلوا يتساقطون
فيها ولا يبصرون وهو يوم ذو ضباب وهم يرتكسون فيها لا يعلم آخرهم ما يلقى
أولهم حتى سقط فيها نحو من مائة ألف رجل ما أحصوا إلا بالقصب
وبعث أبو
عبيدة شداد بن أوس بن ثابت فعدهم بها من الغد فوجد من سقط أكثر من ثمانين
ألفا فسميت تلك الأهوية الواقوصة حتى اليوم لأنهم وقصوا فيها وما فطنوا
لتساقطهم حتى انكشف الضباب فأخذوا في وجه آخر وقتل المسلمون منهم في
المعركة بعدما أدبروا نحوا من خمسين ألفا
وأتبعهم خالد في الخيل فلم يزل يقتلهم في كل واد وكل شعب وفي كل
جبل
حتى انتهى إلى دمشق فخرج إليه أهلها وقالوا له نحن على عهدنا الذي كان
بيننا وبينكم فقال لهم خالد نعم ومضى في اتباعهم يقتلهم في القرى والأودية
والجبال حتى انتهى إلى حمص فخرج إليه أهلها فقالوا له مثل ما قال أهل دمشق
في العهد فقال لهم نعم
وأقبل أبو عبيدة على قتلى المسلمين رحمهم الله
وجزاهم عن الإسلام وأهله خيرا فدفنهم فلما فرغ من ذلك جاءه النعمان بن
محمية ذو الأنف الخثعمي يسأله أن يعقد له على قومه فعقد له عليهم وكانت
خثعم قد رأست رجلا آخر منهم من بني عمرو يدعى ابن ذي السهم فاختصم هو وذو
الأنف إلى أبي عبيدة في الرياسة قبل الوقعة فأخرهم أبو عبيدة إلى أن
يفرغوا من حربهم ويناجزوا عدوهم ثم ينظر في أمرهم فلما التقى الناس استشهد
هنالك ابن ذي السهم الخثعمي فعقد أبو عبيدة للنعمان ذي الأنف على خثعم
قال
وجاء الأشتر مالك بن الحارث النخعي فقال لأبي عبيدة اعقد لي على قومي فعقد
له وكانت قصته مثل قصة الخثعمي وذلك أنه أتى قومه وعليهم رجل منهم فخاصمهم
الأشتر في الرياسة إلى أبي عبيدة فدعا أبو عبيدة النخع فقال أي هذين أرضى
فيكم وأعجب إليكم أن يرأس عليكم فقالوا كلاهما شريف وفينا رضي وعندنا ثقة
فقال أبو عبيدة كيف اصنع بكما ثم قال للأشتر أين كنت حين عقدت لهذا الراية
قال كنت عند أمير المدينة ثم أقبلت إليكم قال فقدمت على هذا وهو رأس
أصحابك قال نعم قال فإنه لا ينبغي لك أن تخاصم ابن عمك وقد رضيت به جماعة
قومك قبل قدومك عليهم قال الأشتر فإنه رضي شريف وأهل ذلك هو وأنا أهل
الرياسة فلتعقبني من رياسة قومي فأليهم كما وليهم هذا فقال أبو عبيدة
تأخروا ذلك حتى تكون هذه الوقعة فإن استشهدتما جميعا فما عند الله خير
لكما وإن هلك أحدكما وبقي الآخر كان الباقي منكما الرأس على قومه وإن
تبقيا جميعا أعقبناك منه إن شاء الله قال الأشتر فقد رضيت فلما كانت
الواقعة استشهد فيها رأس النخع الأول فعقد أبو عبيدة للأشتر عند ذلك
وفي
حديث آخر أن الأشتر كان من جلداء الرجال وأشدائهم وأهل القوة والنجدة منهم
وأنه قتل يوم اليرموك قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلا من بطارقتهم وقتل منهم
ثلاثة مبارزة وتوجه مع خالد في طلب الروم حين انهزموا فلما بلغوا ثنية
العقاب من أرض دمشق وعليها جماعة من الروم عظيمة أقبلوا يرمون المسلمين من
فوقهم بالصخر فتقدم إليهم الأشتر في رجال من المسلمين وإذا أمام الروم رجل
جسيم من عظمائهم وأشدائهم فوثب إليه الأشتر لما دنا منه فاستويا على صخرة
مستوية فاضطربا بسيفيهما فضرب الأشتر كتف الرومي فأطارها وضربه الرومي
بسيفه فلم يضره شيئا واعتنق كل واحد منهما صاحبه ثم دفعه الأشتر من فوق
الصخرة فوقعا منها ثم تدحرجا والأشتر يقول وهما يتدحرجان إن صلاتي ونسكي
ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين
162 - 163 الأنعام فلم يزل يقول هذا وهو في ذلك ملازم العلج لا يتركه حتى
انتهيا إلى موضع مستو من الجبل فلما استقرا فيه وثب الأشتر على الرومي
فقتله ثم صاح في الناس أن جوزوا فلما رأت الروم أن صاحبهم قد قتله الأشتر
خلوا سبيل العقبة للناس ثم انهزموا
وأقبل أبو عبيدة في أثر خالد حتى
انتهى إلى حمص فأمر خالدا أن يتقدم إلى قنسرين ولما انتهت الهزيمة إلى ملك
الروم وهو بأنطاكية قال قد كنت أعلم أنهم سيهزمونكم فقال له بعض جلسائه
ومن أين علمت ذلك أيها الملك قال من حيث أنهم يحبون الموت كما تحبون أنتم
الحياة ويرغبون في الآخرة أشد من رغبتكم في الدنيا ولا يزالون ظاهرين ما
كانوا هكذا وليغيرن كما غيرتم ولينقضن كما نقضتم
وفي حديث عن عبد الله بن قرط إن أول من جاء ملكهم بالهزيمة رجل منهم فقال له ما وراءك قال خير أيها الملك هزمهم الله وأهلكهم يعني
المسلمين
قال ففرح بذلك من حوله وسروا ورفعوا أصواتهم فقال لهم ملكهم ويحكم هذا
كاذب وهل ترون هيئة هذا إلا هيئة منهزم سلوه ما جاء به فلعمري ما هو ببريد
ولو لم يكن هذا منهزما ما كان ينبغي له أن يكون إلا مع أميره مقيما فما
كان بأسرع من أن جاء آخر فقال له ويحك ما وراءك فقال هزم الله العدو
وأهلكهم قال له هرقل فإن كان الله أهلكهم فما جاء بك وفرح أصحابه وقالوا
صدقك أيها الملك فقال لهم ويحكم أتخادعون أنفسكم إن هؤلاء والله لو كانوا
ظهروا أو ظفروا ما جاؤوكم على متون خيولهم يركضون ولسبقهم البريد والبشرى
قال فإنهم لكذلك إذ طلع عليهم رجل من العرب من تنوخ على فرس له عربية يقال
له حذيفة بن عمرو وكان نصرانيا فقال قيصر ما أظن خبر السؤال إلا عند هذا
فلما دنا منه قال له ما عندك قال الشر قال وجهك الذي بشرنا بالشر ثم نظر
إلى أصحابه فقال خبر سوء جاء به رجل سوء من قوم سوء فإنهم لكذلك إذ جاءه
رجل من عظماء الروم فقال له الملك ما وراءك قال الشر هزمنا قال فما فعل
أميركم باهان قال قتل قال فما فعل فلان وفلان يسمي له عددا من أمرائه
وبطارقته وفرسانه فقال قتلوا فقال له لكنك والله أنت أخبث وألأم وأكفر من
أن تذب عن دين أو تقاتل على دنيا ثم قال لشرطه أنزلوه فأنزلوه فجاؤوا به
فقال له ألست كنت أشد الناس علي في أمر محمد نبي العرب حين جاءني كتابه
ورسوله وكنت قد أردت أن أجيبه إلى ما دعاني إليه وأدخل في دينه فكنت أنت
من اشد الناس علي حتى تركت ما أردت من ذلك فهلا قاتلت الآن قوم محمد
وأصحابه دون سلطاني وعلى قدر ما كنت لقيت منك إذ منعتني من الدخول في دينه
اضربوا عنقه فقدموه فضربوا عنقه ثم نادى في أصحابه بالرحيل راجعا إلى
القسطنطينية فلما خرج من الشام واشرف على أرض الروم استقبل الشام فقال
السلام عليك يا سورية سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبدا ثم قال ويحك
أرضا ما أنفعك لعدوك لكثرة ما فيك من العشب والخصب والخير
وعن
عمرو بن عبد الرحمن أن هرقل حين خرج من أنطاكية أقبل حتى نزل الرها ثم
منها كان خروجه إلى القسطنطينية وأقبل خالد في طلب الروم حتى دخل أرض
قنسرين فلما انتهى إلى حلب تحصن منه أهلها وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليهم
فطلبوا الصلح والأمان فقبل أبو عبيدة فصالحهم وكتب لهم أمانا
وعن الحسن
بن عبد الله أن الأشتر قال لأبي عبيدة ابعث معي خيلا أتبع آثار القوم فإن
عندي جزاء وغناء فقال له أبو عبيدة والله إنك لخليق بكل خير فبعثه في
ثلاثمائة فارس وقال له لا تتباعد في الطلب وكن مني قريبا فكان يغير على
مسيرة اليوم منه واليومين ونحو ذلك
ثم أن أبا عبيدة دعا ميسرة بن مسروق
فسرحه في ألفي فارس فمضى في آثار الروم حتى قطع الدروب وبلغ ذلك الأشتر
فمضى حتى لحقه فإذا ميسرة مواقف جمعا من الروم أكثر من ثلاثين ألفا وكان
ميسرة قد أشفق على من معه وخاف على نفسه وعلى أصحابه فإنهم لكذلك إذ طلع
عليه الأشتر في ثلاثمائة فارس من النخع فلما رآهم أصحاب ميسرة كبروا وكبر
الأشتر وأصحابه وحمل عليهم من مكانه ذلك وحمل ميسرة فهزموهم وركبوا رؤوسهم
وأتبعتهم خيل المسلمين يقتلونهم حتى انتهوا إلى موضع مرتفع من الأرض فعلوا
فوقه وأقبل عظيم من عظمائهم معه رجالة كثيرة من رجالتهم فجعلوا يرمون خيل
المسلمين من مكانهم المشرف فإن خيل المسلمين لمواقفتهم إذ نزل رجل من
الروم أحمر عظيم جسيم فتعرض للمسلمين ليخرج إليه أحدهم قال فو الله ما خرج
إليه رجل منهم فقال لهم الأشتر أما منكم من أحد يخرج لهذا العلج فلم يتكلم
أحد قال فنزل الأشتر ثم خرج إليه فمشى كل واحد منهما إلى صاحبه وعلى
الأشتر الدرع والمغفر وعلى الرومي مثل ذلك فلما دنا كل واحد منهما من
صاحبه شد الأشتر عليه فاضطربا بسيفيهما فوقع
سيف الرومي على هامة الأشتر فقطع المغفر وأسرع السيف في رأسه حتى كاد ينشب في العظم ووقعت ضربة الأشتر على عاتق الرومي فلم تقطع شيئا من الرومي إلا أنه ضربه ضربة شديدة أوهنت الرومي وأثقلت عاتقه ثم تحاجزا فلما رأى الأشتر أن سيفه لم يصنع شيئا انصرف فمشى على هيئته حتى أتى الصف وقد سال الدم على لحيته ووجهه فقال أخزى الله هذا سيفا وجاءه أصحابه فقال علي بشيء من حناء فأتوه به من ساعته فوضعه على جرحه ثم عصبه بالخرق ثم حرك لحيته وضرب أضراسه بعضها ببعض ثم قال ما اشد لحيتي ورأسي وأضراسي وقال لابن عم له امسك سيفي هذا واعطني سيفك فقال دع لي سيفي رحمك الله فإني لا أدري لعلي أحتاج إليه فقال أعطينه ولك أم النعمان يعني ابنته فأعطاه إياه فذهب ليعود إلى الرومي فقال له قومه ننشدك الله ألا تتعرض لهذا العلج فقال والله لأخرجن إليه فليقتلني أو لأقتلنه فتركوه فخرج إليه فلما دنا منه شد عليه وهو شديد الحنق فاضطربا بسيفيهما فضربه الأشتر على عاتقه فقطع ما عليه حتى خالط السيف رئته ووقعت ضربة الرومي على عاتق الأشتر فقطعت الدرع ثم انتهت ولم تضره شيئا ووقع الرومي ميتا وكبر المسلمون ثم حملوا على صف رجالة الروم فجعلوا يتنقضون ويرمون المسلمين وهم من فوق فما زالوا كذلك حتى أمسوا وحال بينهم الليل وباتوا ليلتهم يتحارسون فلما أصبحوا أصبحت الأرض من الروم بلاقع فارتحل الأشتر منصرفا بأصحابه ومضى ميسرة في أثر القوم حتى بلغ مرج القبائل بناحية أنطاكية والمصيصة ثم انصرف راجعا وكان أبو عبيدة حين بلغه أنهم قد أدربوا أشفق عليهم وجزع وندم على إرساله إياهم قال فإنه لجالس في أصحابه مستبطئا لقدومهم متأسفا على تسريحهم إذ أتى فبشر بقدوم الأشتر وجاء فحدثه بما كان من أمرهم ولقائهم ذلك الجيش وهزيمتهم إياه وما صنع الله لهم ولم يذكر مبارزة الرومي وقتله إياه حتى أخبره غيره وسأله عن ميسرة وأصحابه فأخبره بالوجه الذي توجه فيه وأخبره أنه لم
يمنعه من التوجه معه إلا الشفقة على أصحابه وألا يصابوا بعدما ظفروا فقال
قد أحسنت وما أحب الآن أنك معهم ولوددت أنهم كانوا معكم
قال
فدعا ناسا من أهل حلب فقال اطلبوا إلي إنسانا دليلا عالما بالطريق أجعل له
جعلا على أن يتبع آثار هذه الخيل التي بعثتها في طلب الروم حتى يلحقها ثم
يأمرها بالإنصراف إلى ساعة يلقاها فجاؤوه بثلاثة رجال فقالوا هؤلاء علماء
بالطريق جراء عليها أدلاء بها وهم يخرجون في آثار خيلك حتى يأتوها بأمرك
فكتب أبو عبيدة إلى ميسرة
أما بعد فإذا أتاك رسولي هذا فأقبل إلي حين
تنظر في كتابي ولا تعرجن على شيء فإن سلامة رجل واحد من المسلمين أحب إلي
من جميع أموال المشركين والسلام عليك
فأخذوا كتابه ثم خرجوا به
فاستقبلوا ميسرة حين هبط من الدروب راجعا وقد عافاه الله وأصحابه وغنمهم
وسلمهم فدفعوا إليه كتاب أبي عبيدة فلما قرأه قال جزاه الله من وال على
المسلمين خيرا ما أشفقه وأنصحه ثم اقبل الرسل فبشروا أبا عبيدة بسلامتهم
وانصرافهم فحمد الله على ذلك وأقام حتى قدم عليه ميسرة وكتب أمانا على
الناس من أهل قنسرين ثم أمر مناديه فنادى بالرحيل إلى إيلياء وقدم خالدا
على مقدمته بين يديه وبعث علي حمص حين انتهى إليها حبيب بن سلمة وأرض
قنسرين إذ ذاك مجموعة إلى صاحب حمص وإنما فتحت قنسرين بعد ذلك في خلافة
يزيد بن معاوية ثم خرج من حمص ومر بدمشق فولاها سعيد بن زيد بن عمرو بن
نفيل ثم خرج حتى مر بالأردن فنزلها فعسكر بها وبعث الرسل إلى أهل إيلياء
وقال اخرجوا إلي أكتب لكم أمانا على أنفسكم وأموالكم ونفي لكم كما وفينا
لغيركم فتثاقلوا فأبوا فكتب إليهم
بسم الله الرحمن الرحيم من أبي عبيدة
بن الجراح إلى بطارقة أهل إيلياء وسكانها سلام على من أتبع الهدى وآمن
بالله العظيم ورسله أما بعد فإنا ندعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له وأن محمدا عبده
ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب
فيها وأن الله يبعث من في القبور فإذا شهدتم بذلك حرمت علينا دماؤكم
وأموالكم وكنتم إخواننا في ديننا وإن أبيتم فأقروا لنا بإعطاء الجزية
وأنتم صاغرون فإن أبيتم سرت إليكم بقوم هم أشد للموت حبا منكم لشرب الخمر
وأكل لحم الخنزير ثم لا أرجع عنكم إن شاء الله حتى اقتل مقاتلتكم وأسبي
ذراريكم
قال وكتبت إلى عمر بن الخطاب حين أظهره الله على أهل اليرموك وخرج يطلبهم
بسم
الله الرحمن الرحيم لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبي عبيدة بن الجراح
سلام عليك أما بعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو والحمد لله
الذي أهلك المشركين ونصر المسلمين وقديما تولى الله نصرهم وأظهر فلجهم
وأعز دعوتهم فتبارك الله رب العالمين
أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله
أنا لقينا الروم في جموع لم تلق العرب جموعا قط مثلها فأتوا وهم يرون أن
لا غالب لهم من الناس فقاتلوا المسلمين قتالا شديدا ما قوتل المسلمون مثله
في موطن قط ورزق الله المؤمنين الصبر وأنزل عليهم النصر فقتلوهم في كل
قرية وكل شعب وواد وسهل وجبل وغنم المسلمون عسكرهم وما كان فيه من أموالهم
ومتاعهم ثم إني أتبعتهم بالمسلمين حتى بلغنا أقصى بلادهم وقد بعثت إلى أهل
الشام عمالا وبعثت إلى أهل إيلياء أدعوهم إلى الإسلام فإن قبلوا وإلا
فليؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون فإن أبوا سيرت إليهم حتى أنزل بهم ثم لا
أزايلهم حتى يفتح الله على المسلمين إن شاء الله والسلام عليك
فكتب إليه عمر رضي الله عنه
من
عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة بن الجراح سلام عليك فإني أحمد
إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد أتاني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه
من إهلاك الله المشركين ونصره المؤمنين وما صنع لأوليائه وأهل
طاعته
فالحمد لله على صنيعه إلينا ونستتم من الله بشكره ثم اعلموا أنكم لم
تظهروا على عدوكم بعدد ولا عدة ولا حول ولا قوة ولكنه بعون الله ونصره
ومنه تعالى وفضله فلله المن والطول والفضل العظيم فتبارك الله أحسن
الخالقين والحمد لله رب العالمين
فهذه الأحاديث التي أوردها أصحاب فتوح
الشام في كتبهم عن وقعة اليرموك وقد أوردها غيرهم على صفة تخالف أكثر ما
تقدم مساقا وتاريخا حسب ما يظهر لمن يقف على جميعها واختلاف الأخبار من
جهة النقل أمر مألوف وإعادة أمثال هذه الآثار التي هي كيف ما وقعت من آيات
الإسلام شيء غير مملول ونحن نذكر من ذلك ما يحسن في هذا المجموع ذكره
ويليق بالمقصود إيراده إن شاء الله تعالى
فمن ذلك أن ابن إسحاق ذكر أن
التقاء المسلمين مع الروم باليرموك كان في رجب سنة خمس عشرة وأن الذي
لقيهم من الروم هو الصقلار خصي لهرقل بعثه في مائة ألف مقاتل أكثرهم من
الروم وسائرهم من أهل أرمينية ومن المستعربة من غسان وقضاعة والمسلمون مع
أبي عبيدة أربعة وعشرون ألفا فاقتتل الناس اقتتالا شديدا حتى دخل عسكر
المسلمين وقاتل نساء من قريش بالسيوف حين دخل العسكر حتى سابقن الرجال وقد
كان انضم إلى المسلمين ناس من لخم وجذام فلما رأوا جد القتال فروا وخذلوا
المسلمين فقال قائل من المسلمين حين رأى ذلك منهم
القوم لخم وجذام في الهرب
ونحن والروم بمرج نضطرب
وإن يعودوا بعدها لا نصطحب
الرجز
ثم
إن الله أنزل نصره فهزمت الروم وجموع هرقل التي جمع فأصيب منهم سبعون ألفا
وقتل الله الصقلار وباهان وكان هرقل قدمه مع الصقلار حين لحق به
وفيما
حكاه الطبري بسنده عن سيف عن شيوخه قالوا أوعب القواد بالناس نحو الشام
وعكرمة ردء لهم وبلغ الروم ذلك فكتبوا إلى هرقل فخرج حتى نزل بحمص فأعد
لهم الجنود وعبأ العسكر وأراد أن يشغل بعضهم ببعض لكثرة جنده وفضول رجاله
فأرسل أخاه تذارق إلى عمرو بن العاص في تسعين ألفا وبعث جرجة بن توذرا نحو
يزيد بن أبي سفيان فعسكر بإزائه وبعث الدراقص فاستقبل شرحبيل بن حسنة وبعث
القيقار بن نسطوس في ستين ألفا نحو أبي عبيدة فهابهم المسلمون وجميع فرق
المسلمين أحد وعشرون ألفا سوى ستة آلاف مع عكرمة ففزعوا جميعا بالكتب
والرسل إلى عمر بن الخطاب يستدعون رأيه فراسلهم أن الرأي الاجتماع وذلك أن
مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة وإذا نحن تفرقنا لم يكن الرجل منا في عدد
يقرن به لأحد ممن استقبله فاتعدوا اليرموك ليجتمعوا فيه وقد كتبوا إلى أبي
بكر بمثل ما كاتبوا به عمر فطلع عليهم كتابه بمثل ما كاتبهم به عمر سواء
بأن اجتمعوا والقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين فإنكم أعوان الله والله
ناصر من نصره وخاذل من كفره ولن يؤتي مثلكم من قلة وإنما يؤتي العشرة آلاف
والزيادة عليها إذا أتوا من قبل الذنوب فاحترسوا من الذنوب واجتمعوا
باليرموك متساندين وليتصل كل رجل منكم بأصحابه
وبلغ ذلك هرقل فكتب إلى
بطارقته أن اجتمعوا لهم وانزلوا بالروم منزلا واسع العطن واسع المطرد ضيق
المهرب وعلى الناس التذارق وعلى المقدمة جرجة وعلى مجنبتيه باهان والدراقص
وعلى الحرب القيقار وأبشروا فإن باهان في الأثر مدد لكم ففعلوا فنزلوا
الواقوصة وهي على ضفة اليرموك وصار الوادي خندقا لهم وهو لهب لا يدرك
وإنما أراد باهان أن يستبقي الروم ويأنسوا بالمسلمين وترجع إليهم أفئدتهم
وانتقل المسلمون من معسكرهم
الذي اجتمعوا به فنزلوا عليهم
بحذائهم على طريقهم وليس للروم طريق إلا عليهم فقال عمرو أيها الناس ألا
أبشروا حصرت والله الروم وقل ما جاء محصور بخير فأقاموا بإزائهم وعلى
طريقهم ومخرجهم لا يقدرون من الروم على شيء ولا يخلصون إليهم اللهب وهو
الواقوصة من ورائهم والخندق من أمامهم ولا يخرجون خرجة إلا أذيل المسلمون
منهم وقد استمدوا ابا بكر رحمه الله وأعلموه الشأن في صفر يريد من سنة
ثلاث عشرة
وفي حديث آخر لسيف عن أشياخه أنهم لما استمدوه قال أبو بكر
خالد لها وبعث إليه وهو بالعراق فعزم عليه واستحثه في السير فنفذ خالد
لذلك وطلع عليهم ففرح به المسلمون وطلع باهان على الروم فتيمنوا به ووافق
قدوم أحدهما قدوم الآخر فولى خالد قتاله وقاتل الأمراء من بإزائهم فهزم
خالد باهان وتتابع الروم على الهزيمة فاقتحموا خندقهم وقال راجز من
المسلمين في ذلك
دعوا هرقلا ودعونا الرحمن
والله قد أخزى جنود باهان )
بخالد اللج أبي سليمان
الرجز
وحرد
المسلمون وحرد المشركون وهم أربعون ومائتا ألف منهم ثمانون ألف مقيد ومنهم
أربعون ألفا مسلسلون للموت وأربعون ألفا مربوطون بالعمائم وثمانون ألف
فارس والمسلمون سبعة وعشرون ألفا ممن كان مقيما إلى أن قدم عليهم خالد في
تسعة آلاف فصاروا ستة وثلاثين ألفا وكان قتالهم على تساند كل جند وأميره
لا يجمعهم أحد حتى قدم عليهم خالد بن الوليد من العراق
وكان عسكر أبي
عبيدة باليرموك مجاورا لعسكر عمرو بن العاص وعسكر شرحبيل بن حسنة مجاورا
لعسكر يزيد بن أبي سفيان فكان أبو عبيدة ربما صلى مع عمرو وشرحبيل مع يزيد
وأما عمرو ويزيد فكانا لا يصليان مع أبي عبيدة وشرحبيل وقدم خالد بن
الوليد وهم على حالهم هذه فعسكر على حدة فصلى بأهل العراق
ووافق
خالد بن الوليد المسلمين وهم متضاربون بمدد الروم وعليهم باهان ووافق
الروم وفيهم نشاط بمددهم فالتقوا فهزمهم الله حتى ألجأهم وأمدادهم إلى
الخندق والواقوصة أحد حدوده فلزموا خندقهم عامة شهر يحضضهم القسيسون
والشمامسة والرهبان وينعون لهم النصرانية حتى استنصروا فخرجوا للقتال الذي
لم يكن بعده قتال فلما أحس المسلمون خروجهم وأرادوا الخروج متساندين سار
فيهم خالد بن الوليد فحمد الله وأثنى عليه وقال
إن هذا يوم من أيام
الله لا ينبغي فيه العجز ولا البغي أخلصوا جهادكم وأريدوا بعملكم الله فإن
هذا يوم له ما بعده ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة وأنتم على تساند
وانتشار فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم
وبين هذا فأعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه يوافق رأي واليكم
قالوا فما الرأي قال إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر ولو
علم بالذي كان ويكون لقد جمعكم إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما
غشيهم وأنفع للمشركين من أمدادهم ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم فالله
الله قد افرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينقصه منه ان دان لأحد من
أمراء الجنود ولا يزيده عليه أن دانوا له وأن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند
الله ولا عند خليفة رسول الله تهيأوا فإن هؤلاء
قوم قد تهيأوا وهذا يوم
له ما بعده فإن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم وإن هزمونا لم نفلح
بعدها فهلموا فلنتعاور الإمارة فليكن عليها بعضنا اليوم والآخر غدا والآخر
بعد غد حتى يتأمر كلكم ودعوني اليكم اليوم
فأمروه وهم يرون أنها
كخرجاتهم وأن الأمر أطول مما ساروا إليه فخرجت الروم في تعبئة لم ير
الراؤون مثلها قط وخرج خالد في تعبئة لم تعبها العرب قبل ذلك خرج في نحو
ستة وثلاثين كردوسا وقال إن عدوكم قد كثر وطغى وليس من التعبئة تعبئة أكثر
في رأي العين من الكراديس فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة وجعل
الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وفيها شرحبيل بن حسنة وجعل الميسرة
كراديس وعليها يزيد بن أبي سفيان وكان خالد على كردوس والقعقاع بن عمرو
ومذعور بن عدي وعياض بن غنم وهاشم بن عتبة وزياد بن حنظلة وعكرمة بن أبي
جهل وسهيل بن عمرو وعبد الرحمن بن خالد وهو يومئذ ابن ثمان عشرة سنة وحبيب
بن مسلمة وآخرون غيرهم من جلة الصحابة وأشراف الناس وفرسان العرب كل واحد
منهم على كردوس كردوس
وفي حديث آخر أنه شهد اليرموك ألف رجل من أصحاب
رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيهم نحو من مائة رجل من أهل بدر وكان أبو
سفيان يسير فيقف على الكراديس فيقول الله الله إنكم ذادة العرب وأنصار
الإسلام وإنهم ذادة الروم وأنصار المشركين اللهم إن هذا يوم من أيامك
اللهم أنزل نصرك على عبادك
وعن عبد الرحمن بن غنم وكان شهدها قال كان
أبو سفيان وأشياخ المسلمين محامية لا يجولون ولا يقاتلون يفيء إليهم الناس
فإذا كانت على الروم قال وقالوا هلك بنو الأصفر اللهم اجعله وجههم وإذا
كانت على المسلمين قال وقالوا يا بني الإخوان أين أين اللهم اردد لهم
الكرة فإذا كروا قالوا إيه يا بني الإخوان وإذا حملوا قالوا اللهم أعنهم
وانصرهم
وفي غير حديث عبد الرحمن أن رجلا قال يومئذ لخالد ما أكثر
الروم وأقل المسلمين فقال خالد ما أقل الروم وأكثر المسلمين إنما تكثر
الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال والله لوددت أن الأشقر بريء
من توجيه وإنهم أضعفوا في العدد وكان فرسه قد حفى في مسيره وجعل خالد يوم
اليرموك على الطلائع قباث بن أشيم وكان القارئ يومذاك المقداد
قالوا
ومن السنة التي سن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد بدر أن تقرأ سورة
الجهاد عند اللقاء وهي سورة الأنفال ولم يزل الناس بعد على ذلك
ولما
فرغ خالد من تعبئتهم وزحف إليه المشركون أمر عكرمة والقعقاع وكانا على
مجنبتي القلب فأنشبا القتال فنشب والتحم الناس وتطارد الفرسان فإنهم لعلى
ذلك إذ قدم البريد من المدينة وهو محمية بن زنيم فأخذته الخيول وسألوه
الخبر فلم يخبرهم إلا بسلامه وأخبرهم عن أمداد تأتيهم وإنما جاء بموت أبي
بكر وتأمير أبي عبيدة فأبلغوا خالدا فأسر إليه الخبر وأخبره بما قال للجند
فقال له أحسنت فقف وأخذ الكتاب فجعله في كنانته وخاف إن هو أظهر ذلك أن
ينتشر أمر الجند فوقف الرسول مع خالد وخرج جرجة أحد أمراء الروم يومئذ حتى
إذا كان بين الصفين نادى ليخرج إلي خالد فخرج إليه خالد وأقام أبا عبيدة
مكانه فواقفه بين الصفين حتى اختلفت أعناق
دابتيهما وقد أمن أحدهما صاحبه فقال له جرجة يا خالد اصدقني ولا تكذبني فإن الحر لا يكذب ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع بالله هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمته قال لا قال فبم سميت سيف الله قال إن الله بعث فينا نبيه {صلى الله عليه وسلم} فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا ثم إن بعضنا صدقة وتابعه وبعضنا باعده وكذبه فكنت فيمن كذبه وباعده وقاتله ثم أخذ الله تعالى بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وتابعناه فقال أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله بذلك فأنا من أشد الناس على المشركين قال صدقتني ثم أعاد عليه جرجة يا خالد أخبرني إلام تدعون قال إلى شهادة أن لا إله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله قال فمن لم يجبكم قال الجزية ونمنعهم قال فإن لم يعطها قال نؤذنه بحرب ثم نقاتله قال فما منزلة الذي يدخل في دينكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم قال منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا ثم أعاد عليه جرجة هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل ما لكم من الأجر والذخر قال نعم وأفضل قال وكيف يساويكم وقد سبقتموه قال إنا دخلنا في هذا الأمر وتابعنا نبينا {صلى الله عليه وسلم} وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالغيب ويرينا الآيات وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويتابع وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا قال جرجة صدقتني بالله ولم تخادعني ولم تألني قال بالله لقد صدقتك وما لي إليك ولا إلى أحد منكم حاجة وإن الله لولي ما سألت عنه قال صدقتني وقلب الترس ومال مع خالد وقال علمني الإسلام فمال به خالد إلى فسطاطه فشن عليه قربة ثم صلى به ركعتين وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها حيلة أزالوا المسلمين عن مواقفهم فركب خالد ومعه
جرجة
والروم خلال المسلمين فتنادى المسلمون
فثابوا وتزاحفت الروم إلى مواقفهم فزحف بهم خالد حتى تصافحوا بالسيوف فضرب
فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب ثم أصيب جرجة
ولم يصل صلاة يسجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما وصلى مع الناس
الأولى والعصر إيماء وتضعضع الروم ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم
ورجلهم وكان مقاتلهم واسع المطرد ضيق المهرب فلما وجدت خيلهم مذهبا ذهبت
وتركوا رحلهم في مصافهم وخرجت خيلهم تشتد بهم في الصحراء وأخر الناس
الصلاة حتى صلوا بعد الفتح
ولما رأى المسلمون خيل الروم توجهت للهرب
أفرجوا لها ولم يجرجوها فذهبت فتفرقت في البلاد وأقبل خالد والمسلمون على
الرحل فقضوهم فكأنما هدم بهم حائط فاقتحموا في خندقهم فاقتحموه عليهم
فعمدوا إلى الواقوصة فهوى فيها المقترنون وغيرهم ومن صبر من المقترنين هوى
به من جشأت نفسه فهوى الواحد بالعشرة لا يطيقونه كلما هوى اثنان كان
البقية أضعف حتى تهافت في الواقوصة عشرون ومائة ألف من المقترنين ثمانون
ألفا ومن المطلقين أربعون ألفا سوى من قتل في المعركة من الخيل والرجل
وتجلل القيقار وأشراف من أشراف الروم برانسهم ثم جلسوا وقالوا لا نحب أن
نرى يوم السوء إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور وإذ لم نستطع أن نمنع
النصرانية فأصيبوا في تزملهم
ولما دخل خالد الخندق نزله وأحاطت به خيله وقاتل الناس حتى أصبحوا قال بعضهم وأصبح خالد من تلك الليلة وهو في رواق تذارق
وقال عكرمة بن أبي جهل يومئذ قاتلت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في كل
موطن
وأفر منكم اليوم ثم نادى من يبايع على الموت فبايعه الحارث بن هشام وضرار
بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم فقاتلوا قدام فسطاط خالد
حتى أثبتوا جميعا جراحا وماتوا إلا من برأ منهم ضرار بن الأزور وأتى خالد
بعدما أصبحوا بعكرمة جريحا فوضع رأسه على فخذه وبعمرو بن عكرمة فوضع رأسه
على ساقيه وجعل يمسح عن وجوههما ويقطر الماء في حلوقهما ويقول كلا زعم ابن
حنتمة أنا لا نستشهد
وأصيبت يومئذ عين أبي سفيان بن حرب وكان الأشتر قد
شهد اليرموك ولم يشهد القادسية فخرج يومئذ رجل من الروم فقال من يبارز
فخرج إليه الأشتر فاختلفا ضربتين فقال للرومي خذها وأنا الغلام النخعي
فقال الرومي أكثر الله في قومي مثلك أما والله لولا أنك من قومي لذدت عن
الروم فأما الآن فلا أعينهم
وفي حديث عبد الرحمن بن غنم وذكر قتال
المسلمين تلك الليلة قال حتى إذا فتح الله على المسلمين من آخر الليل
وقتلوهم حتى الصباح أصبحوا فاقتسموا الغنائم ودفنوا قتلى المسلمين وبلغوا
ثلاثة آلاف وصلى كل أمير على قتلى أصحابه ودفع خالد بن الوليد العهد إلى
أبي عبيدة بعدما فرغ من القسم ودفن الشهداء وتراجع الطلب فولى أبو عبيدة
رحمه الله النفل من الأخماس فنفل وأكثر وكتب بالفتح
قالوا وكان في
الثلاثة آلاف الذين أصيبوا عكرمة وابنه عمرو وسلمة ابن هشام وعمرو بن سعيد
وأثبت خالد بن سعيد فلا يدري أين مات بعد وقد تقدم
ذكر موت خالد في غير هذه الوقعة
وهذا مما يقع بين الناقلين من الإختلاف الذي تقدم التنبيه عليه فالله تعالى أعلموعن
عمرو بن ميمون وغيره ذكروا أن هرقل كان حج بيت المقدس قال فبينا هو يقيم
به أتاه الخبر بقرب الجنود منه فجمع الروم وقال أرى من الرأي أن لا
تقاتلوا هؤلاء القوم وأن تصالحوهم فو الله لئن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام
وتأخذوا نصفا وتقر لكم جبال الروم خير لكم من أن يغلبوكم على الشام
ويشاركوكم في جبال الروم فنخر أخوه وختنه وتصدع عنه من كان حوله فلما رآهم
يعصونه ويردون عليه بعث أخاه وأمر الأمراء ووجه إلى كل حيز جندا فلما
اجتمع المسلمون أمرهم يعني الروم بمنزل جامع حصين فنزلوا الواقوصة وخرج هو
فنزل حمص فلما بلغه أن خالدا قد طلع على سوي وانتسف أهله وأموالهم وعمد
إلى بصرى وافتتحها قال لجلسائه ألم أقل لكم لا تقاتلوهم فإنه لا يقوم لهم
أحد فقالوا قاتل عن دينك واقض الذي عليك ولا تجبن الناس قال وأي شيء أطلب
إلا توقير دينكم
ولما نزلت جنود المسلمين اليرموك بعثوا إلى الروم إنا
نريد كلام أميركم وملاقاته فدعة نأته ونكلمه فأبلغوه فأذن لهم فأتاه أبو
عبيدة ويزيد بن أبي سفيان كالرسل والحارث بن هشام وضرار بن الأزور وأبو
جندل بن سهيل ومع أخي هرقل يومئذ ثلاثون سرادقا كلها من ديباج فلما انتهوا
إليها ممهدة وبلغ ذلك هرقل فقال ألم أقل لكم هذا أول الذل أما الشام فلا
شام ويل للروم من الولد المشؤوم ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح فرجع
أبو عبيدة وأصحابه واتعدوا فكان القتال حتى جاء الفتح
قصة صلح إيلياء وقدوم عمر رضي الله عنه الشام
وكان
أبو عبيدة رحمه الله بعد انقضاء اليرموك على ما وقع في كتب فتوح الشام من
ذلك قد بعث الرسل إلى أهل إيلياء يطلبهم بالخروج إليه ليكتب لهم أمانا على
أنفسهم وأموالهم فتثاقلوا عليه فكتب إليهم يعرض عليهم الإسلام أو الجزية
أو ينزل بهم حتى يحكم الله له عليهم وقد أوردنا هذا الكتاب بنصه قبل فلما
أبوا أن يأتوه وأن يصالحوه اقبل إليهم حتى نزل بهم فحاصرهم حصارا شديدا
وضيق عليهم من كل جانب فخرجوا إليه ذات يوم فقاتلوهم ساعة ثم شد عليهم
المسلمون فانهزموا ودخلوا حصنهم وكان الذي ولي قتالهم خالد بن الوليد
ويزيد بن أبي سفيان كل واحد منهما في جانب فبلغ ذلك سعيد بن زيد وهو على
دمشق فكتب إلى أبي عبيدة
أما بعد فإني لعمري ما كنت لأوثرك وأصحابك
بالجهاد في سبيل الله على نفسي وعلى ما يقربني من مرضاة ربي فإذا أتاك
كتابي هذا فابعث إلى عملك من هو أرغب فيه مني فليعمل لك عليه ما بدا لك
فإني قادم عليك وشيكا إن شاء الله والسلام عليك
فلما وصل كتابه إلى أبي عبيدة قال أشهد ليفعلنها فقال ليزيد بن أبي سفيان اكفني دمشق فسار إليها يزيد فوليها
وكان
في المسلمين رجل من بني نمير يقال له مخيمس بن حابس بن معاوية وكان شجاعا
وكان الناس يذكرون منه صلاحا فقده أصحابه أياما فكانوا يطلبونه ويسألون
عنه فلا يخبرون عنه بشيء فلما يئسوا منه ظنوا أن قد هلك وأنه اغتيل فبينا
هم جلوس ذات يوم إذ طلع عليهم مقبلا في يده ورقتان لم ينظر الناس إلى
مثلها قط أنضر ولا أعرض عرضا ولا أطول طولا ولا أحسن منظرا ولا أطيب رائحة
ففرح به أصحابه فرحا شديدا وقالوا له أين كنت قال وقعت في جب فمضيت فيه
حتى انتهيت إلى جنة معروشة فيها من كل شيء ولم تر عيني مثل ما فيها قط في
مكان ولم أظن أن الله خلق مثلها فلبثت فيها هذه الأيام التي فقدتموني في
نعيم ليس مثله نعيم وفي منظر ليس مثله منظر وفي رائحة لم يجد أحد من الناس
قط أطيب منها فبينا أنا كذلك أتاني آت فأخذ بيدي فأخرجني منها إليكم وقد
كنت أخذت هاتين الورقتين من شجرة كنت تحتها جالسا فبقيتا في يدي فأخذ
الناس يشمونهما فيجدون لهما ريحا لم يجدو لشيء قط أطيب منها فأهل الشام
يزعمون أنه أدخل الجنة وأن تينك الورقتين من ورقها ويقولون إن الخلفاء
رفعتهما في الخزانة
ولما رأى أهل إيلياء أن أبا عبيدة غير مقلع عنهم
وظنوا أن لا طاقة لهم بحربه قالوا نحن نصالحك قال فإني أقبل منكم الصلح
قالوا فأرسل إلى خليفتكم عمر فيكون هو الذي يعطينا العهد ويكتب لنا الأمان
فقبل ذلك أبو عبيدة وهم بالكتاب وكان لا يقطع أمرا دون رأي معاذ وكان معاذ
لا يكاد يفارقه لرغبته في الجهاد فأرسل إليه أبو عبيدة وكان بعثه إلى
الأردن فلما قدم عليه أخبره فقال له معاذ تكتب إلى أمير المؤمنين فتسأله
القدوم عليك فلعله أن يستقدم ثم يأبى هؤلاء الصلح فيكون سيره عناء
وفضلا
فلا تكتب إليه حتى تستحلفهم بأيمانهم المغلظة لئن أنت سألته القدوم فقدم
عليهم فأعطاهم الأمان وكتب لهم الصلح ليقبلن ذلك وليصالحن عليه فأخذ عليهم
أبو عبيدة الأيمان الغلطة لئن عمر قدم فأعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم
وكتب لهم على ذلك كتابا ليقبلن وليؤدن الجزية وليدخلن فيما دخل فيه أهل
الشام فلما فعلوا ذلك كتب إليه أبو عبيدة
بسم الله الرحمن الرحيم لعبد
الله عمر أمير المؤمنين من أبي عبيدة بن الجراح سلام عليك فإني أحمد إليك
الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنا أقمنا على أيلياء وظنوا أن لهم في
المطاولة فرجا ورجاء فلم يزدهم الله بها إلا ضيقا ونقصا وهزلا وأزلا فلما
رأوا ذلك سألونا أن نعطيهم ما كانوا قبل منه ممتنعين وله كارهين وسألونا
الصلح على أن يقدم عليهم أمير المؤمنين فيكون هو المؤمن لهم والكاتب لهم
كتابا وإنا خشينا أن يقدم أمير المؤمنين ثم يغدر القوم ويرجعوا فيكون
مسيرك أصلحك الله عناء وفضلا فأخذنا عليهم المواثيق المغلظة بأيمانهم لئن
أنت قدمت عليهم فآمنتهم على أنفسهم وأموالهم ليقبلن ذلك وليؤدن الجزية
وليدخلن فيما دخل فيه أهل الذمة ففعلوا فإن رأيت ياأ مير المؤمنين أن تقدم
علينا فافعل فإن في مسيرك أجرا وصلاحا وعافية للمسلمين آتاك الله رشدك
ويسر أمرك والسلام عليك
فلما أتى عمر رحمه الله كتاب أبي عبيدة جمع
رءوس المسلمين فقرأه عليهم واستشارهم فقال له عثمان إن الله قد أذلهم
وحصرهم وضيق عليهم وأراهم ما صنع بجموعهم وملوكهم وما قتل من صناديدهم
وفتح على المسلمين من بلادهم فهم في كل يوم يزدادون هزلا وأزلا ونقصا
وضيقا ورغما فإن أنت أقمت ولم تسر إليهم علموا أنك بأمرهم مستخف ولشأنهم
محتقر فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى ينزلوا على الحكم ويعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون وإلا حاصرهم المسلمون وضيقوا عليهم حتى يعطوا بأيديهم
فقال عمر ماذا ترون هل عند أحد منكم غير هذا الرأي
فقال علي بن أبي طالب نعم يا أمير المؤمنين عندي غير هذا
فقال ما هو
قال
إنهم يا أمير المؤمنين قد سألوك المنزلة التي لهم فيها الذل والصغار هي
على المسلمين فتح ولهم عز وهم يعطونكها الآن عاجلا في عافية ليس بينك وبين
ذلك إلا أن تقدم عليهم ولك يا أمير المؤمنين في القدوم عليهم الأجر في كل
ظمأ وكل مخمصة وفي قطع كل واد وفي كل فج وشعب وفي كل نفقة تنفقها حتى تقدم
عليهم فإن قدمت عليهم كان في قدومك عليهم الأمن والعافية والصلح والفتح
ولست آمن لو أنهم يئسوا من قبولك الصلح ومن قدومك عليهم أن يتمسكوا بحصنهم
ولعلهم أن يأتيهم من عدونا مدد لهم فيدخلوا معهم في حصنهم فيدخل على
المسلمين من حربهم وجهادهم بلاء ومشقة ويطول بهم الحصار ويقيم المسلمون
عليهم فيصيب المسلمين من الجهد والجوع نحو ما يصيبهم ولعل المسلمين يدنون
من حصنهم فيرمونهم بالنشاب ويقذفونهم بالحجارة فإن قتل رجل من المسلمين
تمنيتم أنكم فديتموه بمسيركم إلى منقطع الترب ولكان المسلم بذلك من إخوانه
أهلا
فقال عمر قد أحسن عثمان في مكيدة العدو وقد أحسن علي النظر لأهل الإسلام ثم قال سيروا على إسم الله فإني معسكر وسائر
ثم خرج ومعه أشراف الناس وبيوتات العرب والمهاجرون والأنصار وأخرج معه العباس بن عبد المطلب
وعن
أبي سعيد المقبري أن عمر رحمه الله كان في مسيرة ذلك يجلس لأصحابه إذا صلى
الغداة فيقبل عليهم بوجهه ثم يقول الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام والإيمان
وأكرمنا بمحمد {صلى الله عليه وسلم} فهدانا به من الضلالة وجمعنا من
الفرقة وألف بين قلوبنا ونصرنا به على الأعداء ومكن لنا في البلاد وجعلنا
به إخوانا متحابين فأحمدوا الله على هذه النعم وسلوه المزيد فيها والشكر
عليها وتمام ما أصبحتم تتقلبون فيه منها فإن الله عز وجل يريد الرغبة
إليه ويتم نعمته على الشاكرين
قال فكان عمر رضي الله عنه لا يدع هذا القول كل غداة في مبتدئه ومرجعه
وعن أبي سعيد الخدري أن عمر رحمه الله مضى في وجهه ذلك حتى انتهى إلى الجابية فقام في الناس فقال
الحمد
لله الحميد المستحمد الدفاع المجيد الغفور الودود الذي من أراد أن يهديه
من عباده اهتدى من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا 17
الكهف
قال وإذا رجل من القسيسين من النصارى عندهم وعليه جبة صوف فلما
قال عمر رضي الله عنه ( من يهد الله فهو المهتد ) قال النصراني وأنا أشهد
فقال عمر ( ومن يضلل فلن جد له وليا مرشدا ) فنفض النصراني جبته عن صدره
ثم قال معاذ الله لا يضل الله أحدا يريد الهدى فقال عمر ماذا يقول عدو
الله هذا النصراني فأخبروه فرفع عمر صوته وعاد في خطبته بمثل مقالته
الأولى ففعل النصراني كفعله الأول فغضب عمر رضي الله عنه وقال والله لئن
أعادها لأضربن عنقه ففهمها العلج فسكت إذ عاد عمر في خطبته وقال من يهده
الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ثم قال
أما بعد فإني سمعت رسول
الله {صلى الله عليه وسلم} يقول إن خيار أمتي الذين يلونكم ثم الذين
تلونهم ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة ولم يستشهد عليها وحتى
يحلف على اليمين ولم يسألها فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ولا
يبالي بشذوذ من شذ وذكر بقية الحديث
قال ثم خرج عمر رحمه الله من الجابية إلى إيلياء فخرج إليه المسلمون
يستقبلونه
وخرج أبو عبيدة بالناس أجمعين وأقبل هو على جمل له وعليه رحله وعليه صفة
من جلد كبش حولي فانتهى إلى مخاضة فأقبلوا يبتدرونه فقال للمسلمين مكانكم
ثم نزل عن بعيره فأخذ بزمامه وهو من ليف ثم دخل الماء بين يدي جمله حتى
جاز الماء إلى أصحاب أبي عبيدة فإذا معهم برذون يجبنونه فقال له يا أمير
المؤمنين إركب هذا البرذون فإنه أجمل بك وأهون عليك في ركوبك ولا نحب أن
يراك أهل الذمة في مثل هذه الهيئة التي نراك فيها واستقبلوه بثياب بيض
فنزل عمر عن جمله وركب البرذون وترك الثياب فلما هملج به البرذون نزل عنه
وقال خذوا هذا عني فإنه شيطان وأخاف أن يغير على قلبي فقالوا يا أمير
المؤمنين لو لبست هذه الثياب البيض وركبت هذا البرذون لكان أجمل في
المروءة وأحسن في الذكر وخيرا في الجهاد فقال عمر رضي الله عنه ويحكم لا
تعتزوا بغير ما أعزكم الله به فتذلوا ثم مضى ومضى المسلمون معه حتى أتى
إيلياء فنزل بها فأتاه رجال من المسلمين فيهم أبو الأعور السلمي وقد لبسوا
لباس الروم وتشبهوا بهم في هيئتهم فقال عمر احثوا في وجوههم التراب حتى
يرجعوا إلى هيئتنا وسنتنا ولباسنا وكانوا قد أظهروا شيئا من الديباج فأمر
بهم فحرق عليهم
وفي غير هذا الحديث مما ذكره سيف أن خالد بن الوليد لقي
عمر عند مقدمة الجابية في الخيل عليهم الديباج والحرير فنزل واخذ الحجارة
فرماهم بها وقال سرعان ما لفتم عن رأيكم إياي تستقبلون في هذا الزي وإنما
شبعتم منذ سنتين سرعان ما نزت بكم البطنة وتالله لو فعلتموها على رأس
المائتين لاستبدلت بكم غيركم فقالوا يا أمير المؤمنين إنها يلامقة وإن
علينا السلاح قال فنعم إذا
وفي حديث أبي سعيد الخدري فقال يزيد
بن أبي سفيان يا أمير المؤمنين إن الثياب والدواب عندنا كثيرة والعيش
عندنا رفيع والسعر رخيص وحال المسلمين كما تحب فلو أنك لبست من هذه الثياب
البيض وركبت من هذه الدواب الفره وأطعمت المسلمين من هذا الطعام الكثير
كان أبعد في الصوت وأزين لك في هذا الأمر وأعظم لك في الأعاجم فقال له يا
يزيد لا والله لا أدع الهيئة التي فارقت عليها صاحبي ولا أتزين للناس بما
أخاف أن يشينني عند ربي ولا أريد أن يعظم أمري عند الناس ويصغر عند الله
فلم
يزل عمر رحمه الله على الأمر الأول الذي كان عليه في حياة رسول الله {صلى
الله عليه وسلم} وحياة أبي بكر رضي الله عنه حتى خرج من الدنيا
قال
فلما نزل عمر بإيلياء واطمأن الناس بعث أبو عبيدة إلى أهل إيلياء أن
انزلوا إلى أمير المؤمنين واستوثقوا لأنفسكم فنزل إليه ابن الجعيد في ناس
من عظمائهم فكتب لهم عمر كتاب الأمان والصلح فلما قبضوا كتابهم وأمنوا دخل
الناس بعضهم في بعض ولم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزار عمر فيصنع
له ويسأله أن يزوره في رحله فيفعل ذلك عمر إكراما لهم غير أبي عبيدة فإنه
لم يستزره فقال له عمر إنه لم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزارني
غيرك فقال أبو عبيدة يا أمير المؤمنين إني أخاف إن استزرتك أن تعصر عينيك
فأتاه عمر في بيته فإذا ليس في بيته إلا لبد فرسه وإذا هو فراشه وسرجه
وإذا هو وسادته وإذا كسر يابسة في كوة بيته فجاء بها فوضعها على ألرض بين
يديه وأتى بملح جريش وكوز خزف فيه ماء فلما نظر عمر إلى ذلك بكى ثم التزمه
وقال أنت أخي وما من أحد من أصحابي إلا وقد نال من الدنيا ونالت منه غيرك
فقال له أبو عبيدة ألم أخبرك أنك ستعصر في بيتي عينيك
قال ثم إن
عمر قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على النبي {صلى
الله عليه وسلم} ثم قال يا أهل الإسلام إن الله قد صدقكم الوعد ونصركم على
العداد وأورثكم البلاد ومكن لكم في الأرض فلا يكن جزاء ربكم إلا الشكر
وإياكم والعمل بالمعاصي فإن العمل بالمعاصي كفر للنعم وقل ما كفر قوم بما
أنعم الله عليهم ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزهم وسلط عليهم عدوهم
ثم
نزل وحضرت الصلاة فقال عمر رضي الله عنه يا بلال ألا تؤذن لنا رحمك الله
فقال بلال يا أمير المؤمنين أما والله ما أردت أن أؤذن لأحد بعد رسول الله
{صلى الله عليه وسلم} ولكن سأطيعك اليوم إذ أمرتني في هذه الصلاة وحدها
فلما أذن بلال وسمعت الصحابة صوته ذكروا نبيهم {صلى الله عليه وسلم} فبكوا
بكاء شديدا ولم يكن يومئذ أحد أطول بكاء من أبي عبيدة ومعاذ بن جبل حتى
قال لهما عمر حسبكما رحمكما الله فلما قضى عمر صلاته قام إليه بلال فقال
يا أمير المؤمنين إن أمير المؤمنين إن أمراء أجنادك بالشام والله ما
يأكلون إلا لحوم الطير والخبز النقي وما يجد ذلك عامة المسلمين فقال لهم
عمر ما يقول بلال فقال يزيد ابن أبي سفيان يا أمير المؤمنين إن سعر بلادنا
رخيص وإنا نصيب هذا الذي ذكر بلال هاهنا بمثل ما كنا نقوت به عيالنا
بالحجاز فقال عمر والله لا أبرح العرصة أبدا حتى تضمنوا لي أرزاق المسلمين
في كل شهر ثم قال انظروا كم يكفي الرجل ويسعه في كل يوم فقالوا كذا وكذا
فقال كم يكون ذلك في الشهر قالوا جريبين من قمح مع ما يصلحه من الزيت
والخل عند رأس كل هلال فضمنوا له ذلك ثم قال يا معشر المسلمين هذا لكم سوى
أعطياتكم فإن وفا لكم أمراؤكم بهذا الذي فرضته لكم وأعطوكموه في كل شهر
فذلك ما أحب وإن هم لم يفعلوا فأعلموني حتى أعزلهم عنكم وأولي أمركم غيرهم
فلم يزل ذلك جاريا دهرا حتى قطع بعد ذلك
وعن شهر بن حوشب أن إسلام كعب الحبر وهو من اليمن من حمير
كان في قدوم عمر الشام وأن كعبا أخبره بأمره وكيف كان ذلك
قال وكان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان من عظمائهم وخيارهم
قال
كعب وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة وبكتب الأنبياء
ولم يكن يدخر عني شيئا مما كان يعلم فلما حضرته الوفاة دعاني فقال يا بني
قد علمت أني لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم إلا أني حبست عنك ورقتين
فيهما ذكر نبي يبعث وقد أظل زمانه فكرهت أن أخبرك بذلك فلا آمن عليك بعد
وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه وقد قطعتهما من كتابك وجعلتهما
في هذه الكوة التي ترى وطينت عليهما فلا تتعرضن لهما ولا تنظر فيهما زمانك
هذا وأقرهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما
فإن الله يزيدك بذلك خيرا
فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إلي من أن
ينقضني المأتم حتى أنظر في الورقتين فلما انقضى المأتم فتحت الكوة ثم
استخرجت الورقتين فإذا فيهما محمد رسول الله خاتم النبيين لا نبي بعده
مولده بمكة ومهاجره بطيبة ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي
بالسيئة السيئة ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر ويصفح أمته الحمادون
الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال وتذلل ألسنتهم بالتكبير وينصر
الله نبيهم على كل من ناوأه يغسلون فروجهم بالماء ويأتزرون على أوساطهم
وأناجيلهم في صدورهم ويأكلون قربانهم في بطونهم ويؤجرون عليها وتراحمهم
بينهم تراحم بني الأم والأب وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم
وهم السابقون المقربون المشفعون المشفع لهم فلما قرأت هذا قلت في نفسي
والله ما علمني أبي شيئا هو خير لي من هذا فمكثت بذلك ما شاء الله حتى بعث
النبي
صلى الله عليه وسلم وبيني وبينه بلاد بعيدة منقطعة لا
أقدر على إتيانه وبلغني أنه خرج في مكة وهو يظهر مرة ويستخفي مرة فقلت هو
هذا وتخوفت ما كان والدي حذرني وخوفني من الكذابين وجعلت أحب أتبين وأتثبت
فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه قد أتى المدينة فقلت في نفسي إني لأرجو أن
يكون إياه وجعلت ألتمس السبيل إليه فلم يقدر لي حتى بلغني أنه قد توفي
صلوات الله عليه وسلامه فقلت في نفسي لعله لم يكن الذي كنت أظن ثم بلغني
أن خليفته قام مقامه ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءنا جنوده فقلت في نفسي
لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر وأنظر كيف
سيرتهم وأعمالهم وإلى ما تكون عاقبتهم فلم أزل أدفع ذلك وأوخره لأتبين
وأتثبت حتى قدم علينا عمر ابن الخطاب فلما رأيت صلاة المسلمين وصيامهم
وبرهم ووفاءهم بالعهد وما صنع الله لهم على الأعداء علمت أنهم هم الذين
كنت أنتظر فحدثت نفسي بالدخول في الإسلام فوالله إني ذات ليلة فوق سطح لي
إذا رجل من المسلمين يتلو كتاب الله تعالى حتى أتى على هذه الآية يا أيها
الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها
فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا
47 النساء
قال فلما سمعت هذه الآية خشيت والله ألا أصبح حتى يحول وجهي في قفاي فما كان شيء أحب إلي من الصباح فغدوت على عمر فأسلمت حين أصبحت
وقال
كعب لعمر عند انصرافه عن الشام يا أمير المؤمنين إنه مكتوب في كتاب الله
إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل وكانوا أهلها مفتوحة على رجل من
الصالحين رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين سره مثل علانيته وعلانيته مثل
سره وقوله لا يخالف فعله والقريب والبعيد عنده في الحق سواء وأتباعه رهبان
بالليل وأسد بالنهار متراحمون متواصلون متباذلون
فقال له عمر ثكلتك أمك أحق ما تقول قال أي والذي أنزل التوراة على موسى والذي يسمع ما نقول إنه لحق
فقال عمر رضي الله عنه فالحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا فرحمنا
بمحمد {صلى الله عليه وسلم} وبرحمته التي وسعت كل شيء
ومن
حديث زيد بن أسلم عن أبيه وهو عندنا بالإسناد أن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه خرج زمان الجاهلية مع أناس من قريش في تجارة إلى الشام قال فإني لفي
سوق من أسواقها إذا ببطريق قد قبض على عنقي فذهبت أنازعه فقيل لي لا تفعل
فإنه لا نصف لك منه فأدخلني كنيسة فإذا تراب عظيم ملقى فجاءني بزنبيل
ومجرفة فقال انقل ما هاهنا فجعلت أنظر كيف أصنع فلما كان في الهاجرة
وافاني وعليه ثوب أرى سائر جسده منه فقال أئنك على ما أرى ما نقلت شيئا ثم
جمع يديه فضرب بهما دماغي فقلت وا ثكل أمك يا عمر أبلغت ما أرى ثم وثبت
إلى المجرفة فضربت بها هامته فنثرت دماغه ثم واريته في التراب وخرجت على
وجهي لا أدري أين أسير فسرت بقية يومي وليلتي ومن الغد إلى الهاجرة
فانتهيت إلى دير فاستظللت بفنائه فخرج إلي منه رجل فقال لي يا عبد الله ما
يقعدك هنا فقلت اضللت أصحابي فقال لي ما أنت على طريق وإنك لتنظر بعيني
خائف فادخل واصب من الطعام واسترح فدخلت فأتاني بطعام وشراب وألطفني ثم
صعد في النظر وصوبه فقال قد علم أهل الكتاب أو الكتب أنه ما على الأرض
أعلم بالكتاب أو الكتب مني وإني لأرى صفتك الصفة التي تخرجنا من هذا الدير
وتغلبنا عليه فقلت له يا هذا لقد ذهبت في غير مذهب فقال لي ما اسمك فقلت
عمر بن الخطاب قال أنت والله صاحبنا فاكتب لي على ديري هذا وما فيه فقلت
يا هذا إنك قد صنعت إلي صنيعة فلا تكدرها فقال إنما هو كتاب في رق فإن كنت
صاحبنا فذاك وإلا لم يضرك شيء فكتبت له على ديره وما فيه فأتاني بثياب
ودراهم فدفعها إلي ثم أو كف أتانا فقال أتراها قلت نعم قال سر عليها فإن
لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة
فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إلي قال فركبتها فكان كما قال حتى لحقت
أصحابي وهم متوجهون إلى الحجاز فضربتها مدبرة
وانطلقت معهم فلما
وافى عمر الشام في خلافته جاءه ذلك الراهب بالكتاب وهو صاحب دير العدس
فلما رآه عرفه ثم قال قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه ثم أقبل على أصحابه
فحدثهم بحديثه فلما فرغ منه أقبل على الراهب فقال هل عندكم من نفع
للمسلمين قال نعم يا أمير المؤمنين فوفى له عمر رضي الله عنه
وعن سيف
يرفعه إلى سالم بن عبد الله قال لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق
فقال السلام عليك فاروق أنت صاحب إيلياء والله لا ترجع حتى يفتح الله
إيلياء
وعند سيف في أمر إيلياء أحاديث ربما خالفت بعض ما تقدم ونحن نورد منها ما يطيل الإمتاع مضمونا إلى ذلك ما ذكره من أمر قيسارية وغيره
فمن
ذلك أن عمر رحمه الله كتب إلى يزيد بن أبي سفيان بعد مصالحة أهل الأردن
واجتماع عسكر الروم بأجنادين وبيسان وغزة أن يسرح معاوية إلى قيسارية
وكتب عمر إلى معاوية
أما
بعد فإني قد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم وأكثر من قول لا
حول ولا قوة إلا بالله الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا نعم المولى ونعم
النصير
فسار معاوية في جنده حتى نزل على أهل قيسارية فهزمهم وحصرهم ثم
إنهم جعلوا يزاحفونه فلا يزاحفونه في مرة إلا هزمهم وردهم إلى حصنهم ثم
زاحفوه آخر ذلك وخرجوا من صياصيهم فاقتتلوا في حفيظة واستماتة فبلغت
قتلاهم في المعركة ثمانين ألفا وكملها في هزيمتهم مائة ألف وبعث بالفتح مع
رجلين
من بني الضبيب ثم خاف منهما الضعف فبعث آخرين بعدهما فلحقاهما فطوياهما
وهما نائمان وانتهى بريد معاوية إلى عمر بالخير ليلا فجمع الناس وأباتهم
على الفرح وجعل معاوية قبل الفتح وبعده يجلس الأسرى عنده ويقول ما صنعوا
بأسرانا صنعنا بأسراهم مثله فمنع بذلك من العبث بأسرى المسلمين حتى افتتح
قيسارية
وكان عمر لما أمر معاوية بالتوجه إلى قيسارية أمر عمرو
بن العاص بصدم الأرطبون وكان على جمع الروم بأجنادين وأمر علقمة بن مجزز
بصدم القيقار وكان على الروم بغزة فلما توجه معاوية إلى قيسارية صدم عمرو
بن العاص إلى الأرطبون ومن بإزائه وخرج معه شرحبيل بن حسنة على مقدمته
وولى مجنبتيه ابنه عبد الله بن عمرو وجنادة بن تميم من بني مالك بن كنانة
واستخلف ابا الأعور على الأردن وخرج حتى نزل على الروم بأجنادين وهم في
حصونهم وخنادقهم وعليهم الأرطبون وكان أدهى الروم وأبعدها غورا وأنكاها
فعلا وكان وضع بالرملة جندا عظيما وبإيلياء جندا عظيما وكتب عمرو بالخبر
إلى عمر فلما جاءه كتابه قال قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا
عم تنفرج وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على سقطة ولا تشفيه
الرسل فولى ذلك بنفسه وتوجه فدخل عليه كأنه رسول فأبلغه ما يريد وسمع
كلامه حتى عرف ما أراد وتأمل حصونه فقال أرطبون في نفسه والله إن هذا
لعمرو أو إنه للذي يأخذ عمرو برأيه وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم
من قتله ثم دعا حرسيا فساره فقال اخرج فقم بمكان كذا فإذا مر بك فاقتله
وفطن له عمرو فقال له قد سمعت مني وسمعت منك وقد وقع ما قلت مني موقعا
وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي لنكانفه ويشهدنا
أموره فأرجع فآتيك بهم الآن فإن
رأوا مثل الذي أرى فقد رآه أهل العسكر
ورآه الأمير وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم وكنت على رأس أمرك قال نعم
ودعا فساره وقال اذهب إلى فلان يعني ذلك الحرسي فرده إلي فرجع إليه الرجل
وقال لعمرو انطلق فجيء بأصحابك فخرج عمرو ورأى أن لا يعود لمثلها وعلم
الرومي أنه خدعه فقال هذا أدهى الخلق وبلغت عمر فقال غلبه عمرو
ثم
ناهده عمرو وقد عرف مأخذه فالتقوا بأجنادين فاقتتلوا قتالا شديدا كقتال
اليرموك حتى كثرت القتلى بينهم ثم انهزم أرطبون في الناس فأوى إلى إيلياء
ونزل عمرو أجنادين وانطلق علقمة بن مجزر فحصر القيقار بغزة وجعل يراسله
فلم يشفه أحد مما يريد فأتاه كأنه رسول علقمة فأمر القيقار رجلا أن يقعد
له بالطريق فإذا مر قتله ففطن علقمة فقال إن معي نفرا شركائي في الرأي
فانطلق فآتيك بهم فبعث إلى ذلك الرجل أن لا يعرض لعلقمة فخرج من عنده ولم
يعد كما فعل عمرو بالأرطبون
ولما أتى أرطبون إيلياء أفرج له المسلمون
حتى دخلها ثم أزالهم إلى أجنادين وكتب إلى عمرو بأنك صديقي ونظيري أنت في
قومك مثلي في قومي والله لا تفتتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين فارجع فلا
تغر فتلقى ما لقي الذين قبلك من الهزيمة فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية
فأرسله إلى أرطبون وأمره أن يتنكر ويقرب ويستمع ما يقول حتى يخبره به إذا
رجع وكتب إلى أرطبون
جاءني كتابك وأنت نظيري ومثلي في قومك لو أخطأتك
خصلة تجاهلت فضيلتي وقد علمت أني صاحب فتح هذه البلاد وأستعدي عليك فلانا
وفلانا وفلانا لوزرائه فأقرئهم كتابي ولينظروا فيما بيني وبينك
فخرج
الرسول على ما أمره به حتى أتى أرطبون فدفع إليه الكتاب بمشهد من أولئك
النفر فاقترأه فضحكوا وتعجبوا وأقبلوا على أرطبون فقالوا من
أين علمت
أنه ليس بصاحبها قال صاحبها رجل اسمه عمر ثلاثة أحرف فرجع الرسول إلى عمرو
فعرف أنه عمر وكتب إلى عمر يستمده ويقول إني أعالج حربا كئودا وبلادا
ادخرت لك فرأيك فلما جاء عمر الكتاب علم أن عمرا لم يقل إلا بعلم فنادى في
الناس ثم خرج بهم حتى نزل الجابية
وعن عدي بن سهل قال لما استمد أهل
الشام عمر على أهل فلسطين استخلف عليا وخرج ممدا لهم فقال علي أين تخرج
بنفسك إنك تريد عدوا كلبا فقال إني أبادر بجهاد العدو موت العباس إنكم لو
فقدتم العباس لا نتقض لكم الشر انتقاض الجبل
قالوا وجميع ما خرج
عمر إلى الشام أربع مرات أما الأولى فعلى فرس وأما الثانية فعلى بعير وأما
الثالثة فقصر به عنها استعار الطاعون وأما الرابعة فدخلها على حمار
فاستخلف عليها وخرج وفتحت إيلياء وأرضها كلها في ربيع الآخر سنة ست عشرة
على يدي عمر بن الخطاب ما خلا أجنادين على يدي عمرو وقيسارية على يدي
معاوية
وعن سالم بن عبد الله أن أهل إيلياء أشجوا عمر وأشجاهم ولم يقدر
عليها ولا على الرملة قال فبينا عمر معسكرا بالجابية فزع الناس إلى السلاح
فقال ما شأنكم فقالوا ألا ترى الخيل والسيوف فنظر فإذ كردوس يلمعون
بالسيوف فقال عمر مستأمنة فلا تراعوا وأمنوهم وإذا هم أهل إيلياء فصالحوه
على الجزية وفتحوا له إيلياء واكتتبوا منه عليها وعلى حيزها و الرملة
وحيزها فصارت فلسطين نصفين نصفا مع أهل إيلياء ونصفا مع أهل الرملة
وفلسطين تعدل الشام كله وهي عشر كور من غير هذا الحديث المتقدم
وهو مما ذكره سيف أيضا أن عمر رضي الله عنه فرق فلسطين على
رجلين
فجعل علقمة بن حكيم على نصفها وأنزله الرملة و علقمة بن مجزر على نصفها
وأنزله إيلياء ونزل كل واحد منهما في عمله في الجنود التي كانت معه وكان
سالم بن عبد الله في الجنود التي كانت مع عمرو وضم عمرا وشرحبيل إليه
بالجابية فلما انتهيا إليها وافقا عمر رضي الله عنه راكبا فقبلا ركبته وضم
عمر ركل واحد منهما واحتضنه
وعن غير سالم أن عمر رضي الله عنه لما بعث
بأمان أهل إيلياء وأسكنها الجند شخص إلى بيت المقدس من الجابية فرأى فرسه
يتوجى فنزل عنه وأتى ببرذون فركبه فهزه فنزل فضرب وجهه بردائه ثم قال قبح
الله من علمك هذا ثم دعا بفرسه بعدما أجمه أياما يوقحه فركب ثم سار حتى
انتهى إلى بيت المقدس وفي رواية أنه قال للبرذون لا علم الله من علمك هذا
من الخيلاء ولم يركب برذونا قبله ولا بعده
وعن أبي مريم مولى
سلامة قال شهدت فتح إيلياء مع عمر رضي الله عنه فسار من الجابية فاصلا حتى
يقدم إيلياء ثم مضى حتى يدخل المسجد ثم مضى نحو محراب داود ونحن معه فدخله
ثم قرأ سجدة داود فسجد وسجدنا معه
وقال يزيد بن حنظلة يذكر بعض ما تقدم
تذكرت حرب الروم لما تطاولت
وإذ نحن في عام كثير نوازله
وإذ نحن في أرض الحجاز وبيننا
مسيرة شهر بينهن بلابله
وإذ أرطبون الروم يحمي بلاده
يحاوله قرم هناك يساجله
فلما رأى الفاروق أزمان فتحها
سما بجنود الله كيما يصاوله
فلما أحسوه وخافوا صياله
أتوه وقالوا أنت ممن نواصله
وألقت إليه الشأم أفلاذ بطنها
وعيشا خصيبا ما تعد مآكله
أباح لنا ما بين شرق ومغرب
مواريث أعقاب بنتها قرامله
وكم مثقل لم يضطلع باحتماله
تحمل عبئا حين شالت شوائله
الطويل
وقال أيضا
وقد عضلت بالشأم أرض بأهلها
تريد من الأقوام ما كان ألحدا
سما عمر لما أتته رسائل
كأصيد يحمي صرمة الحي أغيدا
فلما أتاه ما أتاه أجابهم
بجيش ترى منه السنابك سجدا
وأقبلت الشام العريضة بالذي
أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا
فقط فيما بينهم كل جزية
وكل رفاد كان أهنى وأحمدا
الطويل
قال
صاحب فتوح الشام ثم إن عمر رضي الله عنه خرج من الشام مقبلا إلى المدينة
فلما دنا منها استقبله الناس يهنئونه بالنصر والفتح فجاء حتى دخل مسجد
رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فصلى ركعتين عند المنبر ثم صعد المنبر
واجتمع الناس إليه فقام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي محمد {صلى
الله عليه وسلم} وقال
يا أيها الناس إن الله قد اصطنع عند هذه الأمة أن
يحمدوه ويشكروه وقد أعز دعوتها وجمع كلمتها وأظهر فلجها ونصرها على
الأعداء وشرفها ومكن لها في الأرض وأورثها بلاد المشركين وديارهم وأموالهم
فأحدثوا لله عز وجل
شكرا يزدكم واحمدوه على نعمه عليكم يدمها لكم جعلنا الله وإياكم من الشاكرين
ثم نزل
قال
فمكث المسلمون بالشام عليها أبو عبيدة بن الجراح ومكث فيها بعد خروج عمر
منها ثلاث سنين ثم توفي رحمه الله في طاعون عمواس وكان طاعونا عم أهل
الشام ومات فيه بشر كثير وكانت وفاة أبي عبيدة بالأردن وبها قبره ولما طعن
رحمه الله دعا المسلمين فدخلوا عليه فقال لهم إني موصيكم بوصية فإن
قبلتموها لم تزالوا بخير ما بقيتم وبعدما تهلكون أقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة وصوموا وتصدقوا وحجوا واعتمروا وتواصلوا وتحابوا واصدقوا أمراءكم
ولا تغشوهم ولا تلهكم الدنيا فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن
يصير إلى مثل مصرعي هذا الذي ترون إن الله قد كتب الموت على بني آدم فهو
ميتون فأكيسهم أطوعهم لربه وأعلمهم ليوم معاده
ثم قال لمعاذ بن جبل يا معاذ صل بالناس فصلى معاذ بهم ومات أبو عبيدة رحمة الله عليه ومغفرته ورضوانه فقام معاذ في الناس فقال
يا
أيها الناس توبوا إلى الله توبة نصوحا فإن عبدا إن يلق الله تائبا من ذنبه
كان حقا على الله أن يغفر له ذنوبه ومن كان عليه دين فليقضه فإن العبد
مرتهن بدينه ومن أصبح منكم مصارما مسلما فليلقه فيصالحه إذا لقيه وليصافحه
فإنه لا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام والذنب في ذلك
عظيم عند الله وإنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل والله ما أزعم أني رأيت
منكم عبدا من عباد الله قط أقل غمرا ولا أبرأ صدرا ولا أبعد من الغائلة
ولا أنصح للعامة ولا أشد عليهم تحننا وشفقة منه فترحموا عليه ثم احضروا
الصلاة عليه غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر والله لا يلي
عليكم مثله أبدا
فاجتمع
الناس وأخرج أبو عبيدة فتقدم معاذ فصلى عليه حتى إذا أتى به قبره دخل قبره
معاذ وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس فلما سفوا عليه التراب قال معاذ رحمك
الله أبا عبيدة فوالله لأثنين عليه بما علمت والله لا أقولها باطلا وأخاف
أن يلحقني من الله مقت كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيرا ومن
الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ومن الذين
يبيتون لربهم سجدا وقياما ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان
بين ذلك قواما وكنت والله ما علمت من المخبتين المتواضعين ومن الذين
يرحمون اليتيم والمسكين ويبغضون الجفاة المتكبرين
ولم يكن أحد من الناس أشد جزعا على فقد أبي عبيدة من معاذ ولا أطول حزنا عليه من معاذ
قال ثم صلى معاذ بالناس أياما واشتد الطاعون وكثر الموت في الناس فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال
يا
أيها الناس إن هذا الطاعون هو الرجز الذي عذب الله به بني إسرائيل مع
الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وأمر الناس بالفرار منه
فأخبر
معاذ بقول عمرو فقال ما أراد إلى أن يقول ما لا علم له به ثم جاء معاذ حتى
صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على النبي {صلى الله
عليه وسلم} ثم ذكر الوباء فقال ليس كما قال عمرو ولكنه رحمة ربكم ودعوة
نبيكم وموت الصالحين قبلكم اللهم أعط معاذا وآل معاذ منه النصيب الأوفر ثم
صلى ورجع إلى منزله فإذا هو بابنه عبد الرحمن قد طعن فلما رآه قال يا أبت
الحق من ربك فلا تكونن من الممترين قال يا بني ستجدني إن شاء الله من
الصابرين فلم يلبث إلا قليلا حتى مات يرحمه الله وصلى عليه معاذ ودفنه
فلما رجع معاذ إلى منزله طعن فاشتد به وجعه وجعل أصحابه يختلفون إليه
فإذا
أتوه أقبل عليهم فقال لهم اعملوا وأنتم في مهلة وحياة وفي بقية من آجالكم
من قبل أن تمنوا العمل فلا تجدوا إليه سبيلا وأنفقوا مما عندكم من قبل أن
تهلكوا وتدعوا ذلك ميراثا لمن بعدكم واعلموا أنه ليس لكم من أموالكم إلا
ما أكلتم وشربتم ولبستم وأنفقتم فأعطيتم فأمضيتم وما سوى ذلك فللوارثين
فلما اشتد به وجعه جعل يقول رب اخنقني خنقك فأشهد أنك تعلم أني أحبك
قال
وأتاه رجل في مرضه فقال له يا معاذ علمني شيئا ينفعني الله به قبل أن
أفارقك فلا أراك ولا تراني ولا أجد منك خلفا ثم لعلي أحتاج إلى سؤال الناس
عما ينفعني بعدك فلا أجد فيهم مثلك فقال له يا معاذ كلا إن صلحاء المسلمين
والحمد لله كثير ولن يضيع الله أهل هذا الدين ثم قال له خذ عني ما آمرك به
كن من الصائمين بالنهار ومن المصلين في جوف الليل ومن المستغفرين بالأسحار
ومن الذاكرين الله كثيرا على كل حال ولا تشرب الخمر ولا تزني ولا تعق
والديك ولا تأكل مال اليتيم ولا تفر من الزحف ولا تأكل الربا ولا تدع
الصلاة الكتوبة ولا تضيع الزكاة المفروضة وصل رحمك وكن بالمؤمنين رحيما
ولا تظلم مسلما وحج واعتمر وجاهد ثم أنا لك زعيم بالجنة
ولما حضر معاذا
الموت قال لجاريته ويحك انظري هل أصبحنا فنظرت فقالت لا ثم تركها ساعة ثم
قال لها انظري فنظرت فقالت نعم فقال أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار
ثم قال مرحبا بالموت مرحبا بزائر جاء على فاقة لا أفلح من ندم اللهم إنك
تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار
ولكنني كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل وطول الساعات في النهار ولظمأ
الهواجر في الحر الشديد ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر
فلما
اقترب أمره جاء عبد الله بن الديلمي فقال له يرحمك الله يا معاذ لعلنا لا
نلتقي نحن ولا أنت ابدا فقال معاذ أجلسوني فأجلسوه وجلس رجل خلف ظهره ووضع
معاذ ظهره في صدر الرجل ثم قال بئس ساعة الكذب هذه حدثني رسول الله {صلى
الله عليه وسلم} حديثا فكنت أكتمكموه مخافة أن تتكلوا فأما الآن فإني لا
أكتمكموه سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول إنه لا يموت عبد من
عباد الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده
ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وإن الله يبعث من في القبور ويؤمن
بالرسل وما جاءت به أنه حق ويؤمن بالجنة والنار إلا أدخله الله الجنة
وحرمه على النار
ثم مات معاذ من ساعته يرحمه الله واستخلف عمرو بن
العاص فصلى عليه عمرو ودخل قبره فوضعه في لحده ودخل معه رجال من المسلمين
فلما خرج عمرو من قبره قال رحمك الله يا معاذ فقد كنت ما علمناك من نصحاء
المسلمين ومن خيارهم وكنت مؤدبا للجاهل شديدا على الفاجر رحيما بالمؤمنين
وأيم الله لا يستخلف من بعدك مثلك عمرو بن العاص
وكان مهلكه ومهلك أبي عبيدة رحمهما الله سنة ثمان عشرة وقد كان معاذ لما هلك أبو عبيدة كتب إلى عمر ينعاه
أما
بعد فاحتسب امرأ كان لله أمينا وكان الله في نفسه عظيما وكان علينا وعليك
يا أمير المؤمنين عزيزا أبا عبيدة بن الجراح غفر الله له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر فإنا لله وإنا إليه راجعون وعند الله نحتسبه وبالله نثق له كتبت
إليك وقد فشا الموت وهذا الوباء في الناس ولن يخطئ أحد أجله ومن لم يمت
فسيموت جعل الله ما عنده خيرا لنا من الدنيا وإن أبقانا أو هلكنا فجزاك
الله عن جماعة المسلمين وعن خاصتنا وعامتنا رحمته ومغفرته ورضوانه وجنته
والسلام عليك ورحمة الله
قال فو الله ما هو إلا أن أتى عمر
الكتاب فقرأه حتى بكى بكاء شديدا ونعى أبا عبيدة إلى جلسائه فما رأيت
جماعة المسلمين جزعوا على رجل منهم جزعهم على أبي عبيدة ثم ما مضى لذلك
إلا أيام حتى جاء كتاب عمرو بن العاص ينعي فيه معاذ بن جبل يرحمه الله
فلما أتت عمر وفاة هذا على أثر أبي عبيدة جزع عليه جزعا شديدا وبكى عمر
والمسلمون وحزنوا عليه حزنا عظيما وقال عمر رضي الله عنه رحم الله معاذا
والله لقد رفع الله بهلاكه من هذه الأمة علما جما ولرب مشورة له صالحة قد
قبلناها منه ورأيناها أدت إلى خير وبركة ورب علم أفادناه وخير دلنا عليه
جزاه الله جزاء الصالحين
وفرق عمر عند ذلك كور الشام فبعث عبد الله بن
قرط الثمالي على حمص وعزل عنها حبيب بن مسلمة واستعمل على دمشق أبا
الدرداء الأنصاري واستعمل يزيد بن أبي سفيان على الجنود التي كانت بالشام
ثم وجد عمر على عبد الله بن قرط بعد ان عمل له على حمص سنة فعزله عنها
وبعث حين عزله عبادة بن الصامت أميرا عليها وقد كان بدريا عقيبا نقيبا ثم
رضي بعد ذلك عن عبد الله بن قرط فرده على حمص
ولما قدم عبادة بن الصامت على أهل حمص قام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي {صلى الله عليه وسلم} ثم قال
أما
بعد ألا إن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ألا وإن الآخرة وعد
صادق يحكم فيها ملك قادر ألا وإنكم معروضون على أعمالكم فمن يعمل مثقال
ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره 7 الزلزلة ألا وإن للدنيا بنين
وإن للآخرة بنين فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن
كل أم يتبعها بنوها يوم القيامة
ثم قال لشداد بن أوس قم يا شداد فعظ الناس وكان شداد مفوها قد أعطي لسانا وحكمة وفضلا بيانا فقام شداد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
أما بعد أيها الناس راجعوا كتاب الله وإن تركه كثير من الناس فإنكم لم
تروا
من الخير إلا أسبابه ولا من الشر إلا أسبابه وإن الله جمع الخير كله
بحذافيره فجعله في الجنة وجمع الشر كله بحذافيره فجعله في النار ألا وإن
الجنة حفت بالكره والصبر ألا وإن النار حفت بالهوى والشهوة ألا فمن كشف
حجاب الكره والصبر أشفى على الجنة ومن أشفى على الجنة كان من أهلها ألا
ومن كشف حجاب الهوى والشهوة أشفى على النار ومن أشفى على النار كان من
أهلها ألا فاعملوا بالحق تنزلوا منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق
وقام أبو الدرداء في أهل دمشق خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه {صلى الله عليه وسلم} ثم قال
أما
بعد يا أهل دمشق فاسمعوا مقالة أخ لكم ناصح ما بالكم تجمعون ما لا تأكلون
وتبنون ما لا تسكنون وتأملون ما لا تدركون وقد كان من قبلكم جمعوا كثيرا
وبنوا مشيدا وأملوا بعيدا وماتوا قريبا فأصبحت أموالهم بورا ومساكنهم
قبورا وآمالهم غرورا ألا وإن عادا وثمود وقد كانوا ملأوا ما بين بصري وعدن
أموالا وأولادا ونعما فمن يشتري مني ما تركوا بدرهمين
ذكر ما وعدنا به
قبل من سياقة فتح قيسارية حيث ذكرها اصحاب فتوح الشام خلافا لما أوردناه
قبل ذلك عن سيف بن عمر مما لا يوافق هذا مساقا ولا زمانا حسب ما يوقف عليه
في الموضعين إن شاء الله تعالى
ذكروا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى يزيد بن أبي سفيان بعد مهلك أبي عبيدة ومعاذ بن جبل رحمهما الله
أما
بعد فقد وليتك أجناد الشام كله وكتبت إليهم أن يسمعوا لك ويطيعوا وأن لا
يخالفوا لك أمرا فاخرج فعسكر بالمسلمين ثم سر بهم إلى قيسارية فانزل عليها
ثم لا تفارقها حتى يفتحها الله عليك فإنه لا ينفعني افتتاح ما افتتحتم من
أرض الشام مع مقام أهل قيسارية فيها وهم عدو لكم إلى جانبكم وإنه لا يزال
قيصرا طامعا في الشام ما بقي فيها أحد من أهل طاعته ممتنعا ولو قد
افتتحتموها قطع الله رجاءه من جميع الشام والله فاعل ذلك وصانع به
للمسلمين إن شاء الله تعالى
فخرج يزيد فعسكر بالمسلمين وجاءه كتاب من عمر بنسخة واحدة إلى أمراء الأجناد
أما بعد فقد وليت يزيد بن أبي سفيان أجناد الشام كله وأمرته أن يسير إلى قيسارية فلا تعصوا له أمرا ولا تخالفوا له رأيا والسلام
وكتب يزيد إلى أمراء الأجناد نسخة واحدة
أما بعد فإني قد ضربت على الناس بعثا أريد أن أسير بهم إلى قيسارية فاخرجوا من كل ثلاثة رجلا وعجلوا إشخاصهم إلي إن شاء الله والسلام
فلم يمكث إلا قليلا حتى توافت عنده عساكر الأجناد كلها فلما اجتمعوا عنده قام يزيد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
أما
بعد فإن كتاب أمير المؤمنين عمر المبارك الفاروق أتاني يحثني على المسير
إلى قيسارية وأن أدعوهم إلى الإسلام أو يدخلوا فيما دخل فيه أهل الكور من
أهل الشام فيؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون فإن أبوا نزلت عليهم فلم
أزايلهم حتى أقتل مقاتلتهم وأسبي ذراريهم فسيروا رحمكم الله إليهم فإني
أرجو أن يجمع الله لكم الغنيمة في الدنيا والأجر في الآخرة
ثم قال
للناس ارتحلوا ووجه إلى حبيب بن مسلمة أن سر في المقدمة فقد جعلتك عليها
ثم امض حتى تنزل بأهل قيسارية فإني أسرع شيء في أثرك لحاقا بك
فمضى
حبيب في جماعة عظيمة من المسلمين إلى قيسارية وبها جموع من بطارقة الروم
وفرسانهم وأشدائهم وكل من كان كره الدخول في دين الإسلام من النصارى ومن
كان كره الجزية ومن بقي من أهل تلك المواطن التي كانوا يقاتلون المسلمين
من الروم فكانت بها جموع كثيرة وحد وجد شديد فلما أقبل حبيب في المقدمة
ودنا من الحصن خرج إليه من قيسارية فرسان ورجال فنضحوهم بالنشاب وحملت
خيلهم على المسلمين فانحاز حبيب وخيله حتى انتهى إلى يزيد فنزل يزيد وجعل
على ميمنته عبادة بن الصامت وعلى الميسرة الضحاك ن قيس ورد حبيبا على
الخيل ومشى يزيد في الرجال فحمل عليهم فاقتتلوا طويلا قتالا شديدا ثم بعث
إلى الضحاك أن أحمل على ميمنتهم فحمل عليهم فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة
وبعث إلى عبادة بن الصامت أن احمل على ميسرتهم فحمل عليهم فثبتوا له
فقاتلهم طويلا
وقتل منهم مقتلة عظيمة ثم تحاجزوا وانصرف عبادة إلى
موقفه فحرض أصحابه ووعظهم ثم قال يا أهل الإسلام إني كنت أحدث النقباء سنا
وأبعدهم أجلا وقد قضى الله أن أبقاني حتى قاتلت هذا العدو معكم وإني أسأل
الله أن يريني وإياكم أحسن ثواب المجاهدين والله الذي نفسي بيده ما حملت
قط في عصابة من المؤمنين على جماعة من المشركين إلا خلوا لنا العرصة
وأعطانا الله عليهم الظفر غيركم فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم
وإن
عمر لما بلغه شدة قتال أهل اليرموك لكم قال سبحان الله أو قد واقفوهم ما
أظن المسلمين إلا قد غلوا ولو لم يغلوا ما واقفوهم ولظفروا بغير مئونة
والله إني خائف عليكم خصلتين أن تكونوا قد غللتم أو لم تناصحوا الله في
حملتكم عليهم فشدوا عليهم يرحمكم الله معي إذا شددت فلا والله لا أرجع إلى
موقفي هذا إن شاء الله ولا أزايلهم حتى يهزمهم الله أو أموت دونهم ثم حمل
عليهم وحملت معه الميمنة على ميسرة الروم فصبروا لهم حتى تطاعنوا بالرماح
واضطربوا بالسيوف واختلفت أعناق الخيل فلما رأى ذلك عبادة ترجل ثم نادى
عمير بن سعد الأنصاري في المسلمين يا أهل الإسلام إن عبادة بن الصامت سيد
المسلمين وصاحب راية رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد نزل وترجل فالكرة
الكرة إلى رحمة الله والجنة واتقوا عواقب الفرار فإنها تقود إلى النار
وأقبل
المسلمون إلى عبادة وهو يجالدهم وقد كانوا أحاطوا به فحمل عليهم فقصف
بعضهم على بعض فأزالوهم عن موقفهم ثم شدوا عليهم وحمل حبيب بن مسلمة على
من يليه منهم ثم حمل يزيد بن أبي سفيان بجماعة المسلمين عليهم فانهزموا
انهزاما شديدا ووضع المسلمون سلاحهم وسيوفهم حيث أحبوا منهم واتبعوهم
يقتلونهم كيف شاءوا حتى حجزوهم في حصنهم وقد قتلوا من رؤسائهم وبطارقتهم
وفرسانهم مقتلة عظيمة ثم أقاموا عليهم فحصروهم وقطعوا عنهم المادة وضيقوا
عليهم وحاصروهم أشد الحصار فلما
طال عليهم البلاء تلاوموا وقال
بعضهم لبعض اخرجوا بنا إليهم نقاتلهم حتى نظفر بهم أو نموت كراما فاستعدوا
في مدينتهم وخرجوا على تعبئتهم والمسلمون غارون لا يشعرون ولا يعلمون أنهم
يخرجون إليهم وقد كانوا أذلوهم وأجحروهم وضيقوا عليهم حتى جهدوا وظنوا
أنهم أوهن أمرا وأضعف من أن يخرجوا عليهم فما راع المسلمين إلا وأهل
قيسارية يضاربونهم بالسيوف بأجمعهم إلى جانب عسكرهم فجال المسلمون جولة
منكرة ثم إن يزيد خرج مسرعا يمشي إليهم حتى إذا دنا منهم جالدهم طويلا
وتتامت إليه خيل المسلمين ورجالتهم وخرج المسلمون على راياتهم وصفوفهم
فلما كثروا عنده أمر الخيل فحملت عليهم ونهض بالرجال في وجوههم ثم حمل هو
عليهم فانهزموا انهزاما قبيحا شديدا وقتلهم المسلمون قتلا ذريعا وركب
بعضهم بعضا فبعض دخل المدينة وبعض ذهبوا على وجوههم فلم يدخلوها وقتل الله
منهم في المعركة نحوا من خمسة آلاف فلما رأى يزيد ما أنزل الله بهم من
الخزي والقتل وما صيرهم إليه من الذل قال لمعاوية أقم عليها حتى يفتحها
الله وانصرف يزيد عنها
فلم يلبث معاوية عليها إلا يسيرا حتى فتحها الله
على يديه وذكل سنة تسع عشرة وكانت هي وجلولاء في سنة واحدة وفرح المسلمون
بذلك فرحا شديدا لأنه لم يبق بالشام في أقصاها وأدناها عدو حينئذ وقد نفى
الله المشركين عنها وصار الشام كله في أيدي المسلمين
وكتب يزيد إلى عمر
أما
بعد فإن رأي أمير المؤمنين لأهل الشام كان رأيا أرشده الله وأرشد به من
أخذ به وبارك له ولأهل طاعته فيه وإني أخبر أمير المؤمنين أنا التقينا نحن
وأهل قيسارية غير مرة وكل ذلك يجعل الله جدهم الأسفل وكدهم الأخسر ويجعل
لنا عليهم الظفر فلما رأوا أن الله قد أذهب ريحهم وأذلهم وأنزل عليهم
الصغار والهوان وقتل صناديدهم وفرسانهم وملوكهم لزموا حصنهم وانحجزوا
في
مدينتهم فأطلنا حصارهم وقطعنا موادهم وميرتهم وضيقنا أشد التضييق عليهم
فلما جهدوا هزلا وأزلا فتحها الله علينا و الحمد لله رب العالمين
فكتب إليه عمر رحمه الله
أما
بعد فقد أتاني كتابك وسمعت ما ذكرت فيه من الفتح على المسلمين والحمد لله
رب العالمين فاشكروا الله يزدكم ويتم نعمته عليكم وإن الله قد كفاكم مؤنة
عدوكم وبسط لكم في الرزق ومكن لكم في البلاد وآتاكم من كل ما سألتموه وإن
تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار والسلام عليك
فلما
أتى يزيد هذا الكتاب قرأه على المسلمين فحمدوا الله على ما أنعم عليهم
واصطنع عندهم وأقبل يزيد حتى نزل دمشق فلم يلبث إلا سنة حتى هلك رضي الله
عنه وذلك في سنة تسع عشرة والشام كله مستقيم أمره ليس به عدو للمسلمين
وكان
يزيد رحمه الله شريفا فاضلا حليما عاقلا رقيقا حسن السيرة محببا في
المسلمين ولما ثقل رحمه الله وأشرف على الموت استخلف أخاه معاوية على
الشام وكتب إلى عمر رضي الله عنه
أما بعد فإني كتبت إليك كتابي هذا
وإني أظن أني في أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا فجزاك الله عنا وعن
جميع المسلمين خيرا وجعل جناته لنا ولك مآبا ومصيرا فابعث إلى عملك بالشام
من أحببت فأما أنا فقد استخلفت عليهم معاوية بن أبي سفيان
فلما أتى عمر
كتابه مع خبر موته جزع عليه جزعا شديدا وكتب إلى معاوية بولايته على الشام
ويقال إنه لما ورد البريد بموت يزيد على عمر كان أبوه أبو سفيان عنده فقال
له عمر لما قرأ الكتاب بموت يزيد أحسن الله عزاءك في يزيد ورحمه فقال له
أبو سفيان من وليت مكانه يا أمير المؤمنين
قال أخاه معاوية قال وصلتك رحم يا أمير المؤمنين
فأقام
معاوية على الشام أربع سنين بقية خلافة عمر ثم أقره عليها عثمان اثنتي
عشرة سنة مدة خلافته ثم كان منه بعد وفاة عثمان رضي الله عنه ما هو معلوم
ذكر فتح مصر
ذكر ابن عبد الحكم عمن سمى من شيوخه أنه لما قدم عمر رضي الله عنه الجابية خلا به عمرو بن العاص فاستأذنه في المسير إلى مصر وكان عمرو قد دخلها في الجاهلية وعرف طرقها ورأى كثرة من فيهاوكان سبب دخوله إياها أنه كان قدم بيت المقدس لتجارة في نفر من قريش وكانت رعية إبلهم نوبا بينهم فبينا عمرو يرعاها في نوبته إذ مر به شماس من شمامسة الروم من أهل الإسكندرية كان قدم للصلاة في بيت المقدس وللسياحة في جبالها فوقف على عمرو فاستسقاه وقد أصابه عطش شديد في يوم شديد الحر فسقاه عمرو من قربة له فشرب حتى روى ونام الشماس مكانه وكانت إلى جنبه حيث نام حفرة فخرجت منها حية عظيمة فبصر بها عمرو فنزع لها بسهم فقتلها فلما استيقظ الشماس ونظر إلى الحية سأل عمرا عنها فأخبره أنه رماها فقتلها فأقبل الشماس فقبل رأسه وقال قد أحياني الله بك مرتين مرة من شدة العطش ومرة من هذه الحية فما أقدمك هذه البلاد قال قدمت مع أصحاب لي نطلب الفضل في تجارتنا فقال له الشماس وكم تراك ترجوا أن تصيب في تجارتك قال رجائي أن أصيب ما أشتري به بعيرا فإني لا أملك إلا بعيرين فأملي أن أصيب بعيرا ثالثا فقال له الشماس كم الدية فيكم قال مائة من الإبل قال الشماس لسنا أصحاب إبل إنما نحن أصحاب
دنانير
قال تكون ألف دينار فقال له الشماس إني رجل غريب في هذه البلاد وإنما قدمت
أصلي في كنيسة بيت المقدس وأسيح في هذه الجبال شهرا جعلت ذلك نذرا على
نفسي وقد قضيت ذلك وأنا أريد الرجوع إلى بلادي فهل لك أن تتبعني إلى بلادي
ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين لأن الله عز وجل أحياني بك مرتين
فقال له عمرو وأين بلادك قال مصر في مدينة يقال لها الإسكندرية فقال له
عمرو لا أعرفها ولم أدخلها قط فقال له الشماس لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل
قط مثلها فقال عمرو وتفي لي بما تقول فقال له الشماس نعم لك علي العهد
والميثاق أن أفي لك وأن أردك إلى أصحابك فقال عمرو كم يكون مكثي في ذلك
قال شهرا ننطلق معي ذاهبا عشرا وتقيم عندنا عشرا وترجع في عشر ولك علي أن
أحفظك ذاهبا وأن أبعث معك من يحفظك راجعا فقال له عمرو أنظرني حتى أشاور
أصحابي
فانطلق عمرو إلى أصحابه فأخبرهم بما عاهده عليه الشماس وقال لهم
أقيموا علي حتى أرجع إليكم ولكم علي العهد أن أعطيكم شطر ذلك على أن
يصحبني رجل منكم آنس به فقالوا نعم وبعثوا معه رجلا منهم
فانطلق عمرو
وصاحبه مع الشماس إلى مصر حتى انتهى إلى الإسكندرية فرأى عمرو من عمارتها
وكثرة أهلها وما بها من الأموال ما أعجبه ونظر إلى الإسكندرية وعمارتها
وجودة بنائها وكثرة أهلها وما بها من الأموال فازداد عجبا
ووافق دخول
الإسكندرية عيدا فيها عظيما يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم ولهم أكرة من ذهب
مكللة يترامى بها ملوكهم ويتلقونها بأكمامهم وفيما اختبروا منها على ما
وضعها من مضى منهم أنه من وقعت في كمه واستقرت فيه لم يمت حتى يملكهم
وأكرم
الشماس عمرا الإكرام كله وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه وجلس معه في ذلك
المجلس مع الناس حيث يترامون بالأكرة وهم يتلقونها بأكمامهم فرمى بها رجل
منهم فأقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو فعجبوا من ذلك وقالوا ما كذبتنا هذه
الأكرة قط إلا هذه المرة أترى هذا الأعرابي يملكنا هذا ما لا يكون أبدا
وإن
ذلك الشماس مشى في أهل الإسكندرية وأعلمهم بأن عمرا أحياه مرتين وأنه ضمن
له ألفي دينار وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم ففعلوا ودفعوها إلى
عمرو فانطلق هو وصاحبه وبعث معهما الشماس دليلا ورسولا وزودهما وأكرمهما
حتى رجعا إلى أصحابهما فدفع إليهم عمرو فيما بينهم ألف دينار وأمسك لنفسه
ألفا
قال فكان أول مال اعتقدته وتأثلته
فبذلك ما عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها ورأى فيها ما علم به أنها أفضل البلاد وأكثره مالا
فلما
قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية خلا به عمرو وقال يا أمير
المؤمنين إيذن لي فأسير إلى أرض مصر فإنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين
وعونا لهم وهي أكثر الأرضين أموالا وأعجزه عن القتال فتخوف عمر وكره ذلك
فلم يزل عمرو بن العاص يعظم أمرها في نفسه ويخبره بحالها ويهون عليه فتحها
حتى ركن لذلك عمر فعقد له على أربعة آلاف رجل كلهم من عك وقال سيروا وأنا
مستخير الله في مسيرك وسيأتيك كتابي سريعا فإن لحقك كتابي آمرك فيه
بالانصراف فانصرف وإن دخلتها قبل أن يأتيك كتابي ثم جاءك فامض لوجهتك
واستعن بالله فاستنصره
فمضى عمرو من جوف الليل ولم يشعر به أحد من الناس واستخار عمر
ربه
فكأنه تخوف على المسلمين في وجههم ذلك فكتب إلى عمرو بن العاص أن انصرف
بمن معك من المسلمين إن أدركك كتابي قبل أن تدخل مصر فأدرك الكتاب عمرا
وهو برفح فتخوف إن هو أخذه فقرأه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر
فلم يأخذ الكتاب من الرسول وسار كما هو حتى مر بقرية صغيرة فيما بين رفح
والعريش فسأل عنها فقيل إنها من مصر فدعا بالكتاب فقرأه فإذا فيه أن انصرف
بمن معك من المسلمين فقال لمن حوله ألستم تعلمون أن هذه من مصر قالوا بلى
قال فإن أمير المؤمنين عهد إلي وأمرني إن لحقني كتابه ولم ادخل أرض مصر أن
أرجع ولم يلحقني كتابه حتى دخلت أرض مصر فسيروا على بركة الله
ويقال بل
كان عمرو بن العاص بفلسطين فتقدم في أصحابه إلى مصر بغير إذن فكتب إليه
عمر ينكر ذلك عليه فجاءه كتابه وهو دون العريش عريش مصر فلم يقرأ الكتاب
حتى بلغ العريش فقرأه فإذا فيه
من عمر بن الخطاب إلى عمر بن العاص أما
بعد فإنك سرت إلى مصر بمن معك وبها جموع الروم وإنما معك نفر يسير ولعمري
لو كانوا ثكل أمك ما سرت بهم فإن لم تكن بلغت مصر فارجع
فقال عمرو الحمد لله أية أرض هذه قالوا من مصر فتقدم كما هو
ويقال
بل كان عمرو في جنده على قيسارية مع كل من كان بها من أجناد المسلمين وعمر
بن الخطاب إذ ذاك بالجابية فكتب سرا واستأذن إلى مصر وأمر أصحابه فتنحوا
كالقوم الذين يريدون أن يتجولوا من منزل إلى منزل قريب ثم سار بهم ليلا
فلما فقده أمراء الأجناد استنكروا الذي فعل ورأوا إنه قد غرر فرفعوا ذلك
إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه عمر
أما بعد فإنك قد غررت بمن معك فإن أدرك كتابي ولم تدخل مصر فارجع وإن أدرك كتابي وقد دخلت فامضي وأعلم أني ممدك
ويقال
إن عمر كتب إلى عمرو بعدما فتح الشام أن اندب الناس إلى المسير معك إلى
مصر فمن خف معك فسر به وبعث به مع شريك بن عبدة فندبهم عمرو فأسرعوا إلى
الخروج معه ثم أن عثمان بن عفان دخل على عمر فذكر له عمر ما كتب به إلى
عمرو فقال عثمان يا أمير المؤمنين إن عمرا له جرأة وفيه إقدام وحب للإمارة
فأخشى أن يخرج في غير ثقة ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا
يدري أتكون أم لا فندم عمر على كتابه إشفاقا مما قال عثمان فكتب إلى عمرو
يأمره بنحو ما تقدم من الرجوع إن لم يكن دخل مصر والمضي لوجهه إن كان دخلها
فسار
عمرو في طريقه قاصدا مصر فلما بلغ المقوقس ذلك توجه نحو الفسطاط يجهز
الجيوش على عمرو وأقبل عمرو حتى إذا كان بجبال الحلال نفرت معه راشدة
وقبائل من لخم وأدركه النحر وهو بالعريش فضحى يومئذ عن أصحابه بكبش
وكان
رجل ممن خرج معه قد أصيب بجمله فأتاه الرجل يستحمله فقال له عمرو تحمل مع
أصحابك حتى نبلغ أوائل العامر فلما بلغوا العريش جاءه فأمر له بجملين ثم
قال لن تزالوا بخير ما رحمتكم أئمتكم فإذا لم يرحموكم هلكتم وهلكوا
فتقدم عمرو فكان أول موضع قوتل فيه الفرما قاتلته الروم قتالا شديدا نحوا من شهر ثم فتح الله على يديه
وكان
بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو ميامين فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص
إلى مصر كتب إلى القبط يعلمهم انه لا تكون للروم دولة وان ملكهم قد انقطع
ويأمرهم بتلقي عمرو فيقال إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو
أعوانا
ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى نزل القواصر ثم
تقدم لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس فقاتلوه بها نحوا من شهر
حتى فتح الله عليه ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى أم دنين
فقاتلوه بها قتالا شديدا وأبطأ عليه الفتح فكتب إلى عمر يستمده فأمده
بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف فقاتلهم
وجاء رجل من لخم إلى عمرو
بن العاص فقال اندب معي خيلا حتى آتي من ورائهم عند القتال فأخرج معه
خمسمائة فارس فساروا من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بني وائل قبل الصبح
ويقال
كان على هذا البعث خارجة بن حذافة فلما كان في وجه الصبح نهض القوم فصلوا
الصبح ثم ركبوا خيلهم وغدا عمرو بن العاص على القتال فقاتلوهم من وجههم
وحملت الخيل التي كان وجه من ورائهم واقتحمت عليهم فانهزموا وكانوا قد
خندقوا حول الحصن وجعلوا للخندق أبوابا فسار عمرو بمن معه حتى نزل على
الحصن فحاصرهم حتى سألوه أن يسير منهم بضعة عشر أهل بيت ويفتحوا له الحصن
ففعل ذلك وفرض عليهم لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين
فجاء
النفر من القبط يستأذنونه إلى قراهم وأهليهم وقد كان نفر منهم تحدثوا قبل
ذلك ورجل من لخم يسمعهم فقال بعضهم لبعض ألا تعجبوا من هؤلاء القوم يعنون
المسلمين يقدمون على جموع الروم وإنما هم في قلة من الناس فجاءهم رجل منهم
فقال إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه حتى يقتلوا خيرهم
فأنكر عليه اللخمي قوله وأراد حمله إلى عمرو فرغب إليه أصحابه وغيرهم حتى
خلصوه فلما استأذن أولئك النفر عمرا قال لهم كيف رأيتم أمرنا قالوا لم نر
إلا حسنا فقال ذلك الرجل لعمرو مثل مقالته تلك إنكم لن تزالوا تظهرون على
كل من لاقيتم حتى تقتلوا خيركم رجلا فغضب عمرو وأمر به فطلب إليه أصحابه
وأخبروه أنه لا يدري ما يقول حتى
خلصوه فلما بلغ عمرا قتل عمر بن الخطاب عجب من قول ذلك القبطي وأرسل في طلبه فوجدوه قد هلك
وفي
حديث غيره قال عمرو بن العاص فلما طعن عمر بن الخطاب قلت هو ما قال القبطي
فلما حدثت انه انما قتله رجل نصراني قلت لم يعن هذا إنما عني من قتله
المسلمون فلما قتل عثمان رضي الله عنه عرفت أن ما قال الرجل حق
قال
ابن عبد الحكم وقد سمعت في فتح القصر وجها غير هذا ثم ذكر عن نفر سمي منهم
قال وبعضهم يزيد على بعض في الحديث أن عمرو بن العاص حصرهم في القصر الذي
يقال له باب اليون حينا وقاتلهم قتالا شديدا يصبحهم ويمسيهم فلما أبطأ
عليه الفتح كتب إلى عمر بن الخطاب يستمده فأمده عمر بأربعة آلاف رجل على
كل ألف منهم رجل يقوم مقام ألف الزبير ابن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة
بن الصامت ومسلمة بن مخلد وقيل بل خارجة بن حذافة مكان مسلمة وقال عمر بن
الخطاب
اعلم أن معك اثني عشر ألفا ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة
وذكر الليث عن يزيد بن أبي حبيب أن عمر رحمه الله إنما أمد عمرا حين استمده بالزبير بن العوام وبالمقداد بن عمرو وبخارجة بن حذافة
قال
الليث بن سعد وبلغني عن كسرى أنه كان له رجال إذا بعث أحدهم في جيش وضع من
عدة الجيش الذي كان سما ألفا مكانه وإذا احتاج إلى أحدهم وكان في جيش
فجيشه زادهم ألف رجل فأنزلت الذي صنع عمر بن الخطاب حين أمد عمرا بالزبير
والمقداد وخارجة نحو الذي صنع كسرى
وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشفق على عمرو حين بعثه
فأرسل
الزبير في أثره في اثني عشر ألفا فشهد معه الفتح وكان عمرو قدم من الشام
في عدة قليلة وكانت الروم قد خندقوا حول حصنهم وجعلوا للخندق أبوابا ورموا
في أفنيتها حسك الحديد فكان عمرو يفرق أصحابه ليرى العدو أنهم أكثر مما هم
فلما انتهى إلى الخندق نادوه أن قد رأينا ما قد صنعت وإنما معك من أصحابك
كذا وكذا فلم يخطئوا برجل واحد فبينا هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير فلما
قدم المدد مع الزبير على عمرو بن العاص ألح على القصر ووضع عليه المنجنيق
وقد كان عمرو دخل إلى صاحب القصر فتناظرا في شيء مما هم فيه فقال له عمرو
أخرج وأستشير أصحابي فدس صاحب الحصن الوصية إلى الذي على الباب إذا مر به
عمرو أن يلقي عليه صخرة فيقتله فأشعر بذلك عمرا رجل من العرب وهو يريد
الخروج فرجع عمرو إلى صاحب الحصن فقال له إني أريد أن آتيك بنفر من أصحابي
حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت فقال العلج في نفسه قتل جماعة أحب إلي من
قتل واحد فأرسل إلى الذي كان على الباب يأمره بالكف عن عمرو رجاء أن يأتيه
بأصحابه فيقتلهم فخرج عمرو ولم يعد
وفي حصار المسلمين هذا الحصن كان
عبادة بن الصامت يوما في ناحية يصلي وفرسه عنده فرآه قوم من الروم فخرجوا
إليه وعليهم حلية وبزة فلما دنوا منه سلم من صلاته ووثب على فرسه ثم حمل
عليهم فلما رأوه غير مكذب عنهم ولو راجعين وأتبعهم فجعلوا يلقون مناطقهم
ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم ولا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن ورمى عبادة
من فوق الحصن بالحجارة فرجع ولم يعرض لشيء مما كانوا طرحوا من متاعهم حتى
أتى موضعه الذي كان به فاستقبل الصلاة وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه
ولما
أبطأ الفتح على عمرو بن العاص قال الزبير إني أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح
الله بذلك على المسلمين فوضع سلما إلى جانب الحصن ثم صعد وأمرهم إذا سمعوا
تكبيره أن يجيبوه جميعا فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر معه
السيف وتحامل الناس على السلم حتى نهاهم عمرو خوفا من أن
ينكسر ولما
اقتحم الزبير وتبعه من تبعه وكبر وكبر من معه وأجابهم المسلمون من خارج لم
يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموه جميعا فهربوا وعمد الزبير وأصحابه إلى
باب الحصن ففتحوه واقتحمه المسلمون فلما خاف المقوقس على نفسه ومن معه سأل
عمرو بن العاص الصلح ودعاه إليه على ان يفرض للعرب على القبط دينارين على
كل رجل منهم فأجابه عمرو إلى ذلك
وكان مكثهم على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر فيما روي عن الليث
قال ابن عبد الحكم وقد سمعت في فتح القصر وجها آخر مخالفا للحديثين المتقدمين فالله أعلم
ثم
أورد بإسناد يرفعه إلى جماعة من التابعين يزيد بعضهم على بعض أن المسلمين
لما حاصروا باب اليون وكان به جماعة من الروم وأكابر القبط ورؤسائهم
وعليهم المقوقس فقاتلوهم بها شهرا فلما رأى القوم الجد منهم على فتحه
والحرص ورأوا من صبرهم على القتال ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم
فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط وخرجوا من باب القصر القبلي ودونهم
جماعة يقاتلون العرب فلحقوا بالجزيرة موضع الصناعة اليوم وأمروا بقطع
الجسر وذلك في جري النيل
وزعم بعض مشايخ أهل مصر أن الأعيرج تخلف في
الحصن بعد المقوقس وهو رجل من الروم كان واليا على الحصن تحت يدي المقوقس
وكانت سفنهم ملصقة بالحصن فلما خاف الأعيرج فتح الحصن ركبها هو وأهل القوة
والشرف ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة
قال أصحاب الحديث من
التابعين فأرسل المقوقس إلى عمرو إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا وألححتم على
قتالنا وطال مكثكم في أرضنا وإنما أنتم عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم معهم
العدة والسلاح وأحاط بكم هذا النيل وإنما أنتم أسارى في أيدينا فابعثوا
إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم فلعله أن يأتي
الأمر فيما بيننا
وبينكم على ما تحبون ونحب وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع
الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر
مخالفا لطلبتكم ورجائكم
فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس بهذا حبسهم
عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس فقال لأصحابه أترون أنهم يقتلون
الرسل ويحبسونهم ويستحلون ذلك في دينهم وإنما أراد عمرو أن يروا حال
المسلمين ثم رد عمرو إلى المقوقس رسله وقال لهم إنه ليس بيني وبينكم إلا
إحدى ثلاث خصال إما دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم مالنا وإما
أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون وإما جاهدناكم بالصبر والقتال
حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين
فلما جاءوا إلى المقوقس
قال لهم كيف رأيتم قالوا رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة
والتواضع أحب إليه من الرفعة ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة إنما
جلوسهم على التراب وأكلهم على ركبهم وأميرهم كواحد منهم ما يعرف رفيعهم من
وضيعهم ولا السيد فيهم من العبد وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد منهم
يغسلون بالماء أطرافهم ويخشعون في صلاتهم
فقال عند ذلك المقوقس والذي
يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتال هؤلاء
أحد ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبونا بعد
اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم
فرد إليهم المقوقس رسله أن ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم
فبعث
عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت وأمره عمرو أن يكون مكلم
القوم وأن لا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إلى إحدى هذه الخصال الثلاث
وكان
عبادة أسود طويلا يقول ابن عفير أدرك الإسلام من العرب عشرة طول كل رجل
منهم عشرة أشبار أحدهم عبادة بن الصامت فلما ركبوا السفن إلى المقوقس
ودخلوا عليه تقدم عبادة فهابه المقوقس لسواده فقال نحوا عني هذا الأسود
وقدموا غيره يكلمني فقالوا جميعا إن هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما وهو
سيدنا وخيرنا والمقدم علينا وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه وقد أمره
الأمير دوننا بما أمره به وامرنا أن لا نخالفه
قال وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم وإنما ينبغي أن يكون دونكم
قالوا كلا إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعا وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا وليس ينكر السواد فينا
فقال له المقوقس تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادك وإن اشتد كلامك علي ازددت لذلك هيبة
فتقدم
إليه عبادة فقال قد سمعت مقالتك وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل كلهم أشد
سوادا مني وأفظع منظرا ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي وأنا قد وليت
وأدبر شبابي وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي ولو
استقبلوني جميعا وكذلك أصحابي وذلك أنا إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله
واتباع رضوانه وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا ولا طلبا
للاستكثار منها إلا أن الله عز وجل قد أحل لنا ذلك وجعل ما غنمنا منه
حلالا وما يبالي أحدنا أكان له قنطار من الذهب أم كان لا يملك إلا درهما
لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته لليله ونهاره وشملة
يلتحفها فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه وإن كان له قنطار من ذهب
أنفقه في طاعة الله تعالى وأقتصر على هذا الذي يتبلغ به ما كان في الدنيا
لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء وإنما النعيم والرخاء في
الآخرة وبذلك أمرنا ربنا وأمرنا به نبينا وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا
من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته وتكون همته وشغله في رضى ربه
وجهاد عدوه
فلما سمع المقوقس كلامه قال لمن حوله هل سمعتم مثل كلام هذا
الرجل قط لقد هبت منظره وإن قوله لأهيب عندي من منظره وإن هذا وأصحابه
أخرجهم الله لخراب الأرض ما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها ثم أقبل
على عبادة فقال
أيها الرجل قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن
أصحابك ولعمري ما بلغتم إلا بما ذكرت وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا
بحبهم الدنيا ورغبتهم فيها وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا
يحصى عدده قوم يعرفون بالنجدة والشدة لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل
وأنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم وقد أقمتم بين
أظهرنا أشهرا وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم ونحن نرق عليكم لضعفكم
وقلتكم وقلة ما بأيديكم ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل
منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار فتقبضوها
وتنصرفوا إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قبل لكم به
فقال عبادة بن
الصامت يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك أما ما تخوفنا به من جمع الروم
وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم فلعمري ما هذا بالذي يخوفنا ولا بالذي
يكسرنا عما نحن فيه إن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالكم
وأشد لحرصنا عليكم لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه وإن قتلنا من
آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا
من ذلك وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة
الدنيا إن ظفرنا بكم أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا وإنها لأحب الخصلتين
إلينا بعد الاجتهاد منا وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه كم من فئة قليلة
غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ( 249 البقرة ) وما منا من
رجل إلا وهو يدعوا ربه صباحا ومساء أن يرزقه الله الشهادة وألا يرده إلى
بلاده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده وليس لأحد منا هم فيما خلفه وقد
استودع كل واحد منا ربه في
أهله وولده وإنما همنا ما أمامنا
وأما قولك إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا فنحن في أوسع السعة لو كانت
الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه فانظر الذي تريد
فبينه لنا فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من
ثلاث فاختر أيها شئت ولا تطمع نفسك بالباطل بذلك أمرني الأمير وبه أمره
أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قبل إلينا إما
أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره وهو دين أنبيائه
ورسله وملائكته أمرنا أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه فإن فعل
كان له مالنا وعليه ما علينا وكان أخانا في دين الله فإن قبلت ذلك أنت
وأصحابك فقد سعدتم في الدنيا والآخرة ورجعنا عن قتالكم ولم نستحل أذاكم
ولا التعرض لكم وإن أبيتم إلا الجزية فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم
صاغرون نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم
ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم ونقوم
بذلك عنكم إذ كنتم في ذمتنا وكان لكم به عهد علينا وإن أبيتم فليس بيننا
وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت من آخرنا أو نصيب ما نريد منكم هذا
ديننا الذي ندين الله تعالى به ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينكم غيره
فانظروا لأنفسكم
فقال له المقوقس هذا ما لا يكون أبدا ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا
فقال له عبادة هو ذلك فاختر ما شئت
فقال
له المقوقس أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاث فرفع عبادة يديه
فقال لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض وربنا ورب كل شيء ما لكم عندنا خصلة
غيرها فاختاروا لأنفسكم فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه فقال قد فرغ
القوم فماذا ترون فقالوا أو يرضى أحد بهذا الذل أما ما أرادوا من دخولنا
في دينهم فهذا
ما لا يكون أبدا أن نترك دين المسيح بن مريم
وندخل في دين غيره لا نعرفه وأما ما أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدا
فالموت أيسر من ذلك لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون
علينا
فقال المقوقس لعبادة قد أتى القوم فما ترى فراجع أصحابك على أن نعطيكم في مرتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفوا
فقام
عبادة وأصحابه فقال المقوقس عند ذلك لمن حوله أطيعوني وأجيبوا القوم إلى
خصلة من هذه الثلاث فوالله مالكم بهم طاقة ولئن لم تجيبوا إليها طائعين
لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين
فقالوا وأي خصلة نجيبهم إليها
قال أنا أخبركم أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به وأما قتالكم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تصبروا صبرهم ولابد من الثالثة
قالوا فنكون لهم عبيدا أبدا
قال
نعم إن تكونوا عبيدا منبسطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم
وذراريكم خير لكم من أن تموتوا من آخركم أو تكونوا عبيدا تباعون وتمزقون
في البلاد مستعبدين أبدا أنتم وأهلكم وذراريكم
قالوا فالموت أهون علينا وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة وبالقصر من القبط والروم جمع كثير
فألح
المسلمون عند ذلك بالقتال على من في القصر حتى ظفروا وأمكن الله منهم فقتل
منهم خلق كثير وأسر من أسر وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة وصار المسلمون
قد أحدق بهم الماء من كل جهة لا يقدرون على أن
يتقدموا نحو الصعيد ولا
إلى غير ذلك من المدائن والقرى والمقوقس يقول لأصحابه ألم أعلمكم هذا
وأخفه عليكم ما تنتظرون فو الله لتجيبن إلى ما أرادوا طوعا أو لتجيبنهم
إلى ما هو أعظم كرها فأطيعوني من قبل أن تندموا
فلما رأوا منهم ما رأوا وقال لهم المقوقس ما قال أذعنوا بالجزية ورضوا بها على صلح يكون بينهم يعرفونه
فأرسل
المقوقس إلى عمرو بن العاص أني لم أزل حريصا على إجابتك إلى خصلة من
الخصال التي أرسلت إلي بها فأبي ذلك علي من حضرني من الروم والقبط فلم يكن
لي أن أفتات عليهم في أموالهم وقد عرفوا نصحي لهم وحبي صلاحهم فرجعوا إلى
قولي فأعطني أمانا أجتمع أنا وأنت أنا في نفر من أصحابي وأنت في نفر من
أصحابك فإن استقام الأمر بيننا تم ذلك لنا جميعا وان لم يتم رجعنا إلى ما
كنا عليه
فاستشار عمرو أصحابه في ذلك فقالوا لا نجيبهم إلى شيء من
الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا وتصير كلها لنا فيئا وغنيمة كما صار
لنا القصر وما فيه
فقال عمرو قد علمتم ما عهد إلي أمير المؤمنين في
عهده فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إلي فيها أجبتهم
إليها وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم
فاجتمعوا
على عهد بينهم واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من
القبط دينارين دينارين على كل نفس شريفهم ووضيعهم ومن بلغ الحلم منهم وليس
على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء
وعلى أن للمسلمين عليهم النزل بجماعتهم حيث نزلوا ومن نزل عليه ضيف واحد
من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم وأن
لهم أرضهم وأموالهم لا يعرض لهم في شيء منها فشرط هذا كله على القبط خاصة
وأحصوا
عدد القبط من بلغ منهم الجزية ومن فرض عليهم الديناران رفع ذلك عرفاؤهم
بالأيمان المؤكدة فكان جميع من أحصى يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع
القبط أكثر من ستة آلاف ألف نفس فكانت فريضتهم يومئذ اثني عشر ألف الف
دينار في كل سنة
وعن يحيى بن ميمون الحضرمي قال لما فتح عمرو بن العاص
مصر صالح عن جميع ما فيها من رجال القبط ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك
ليس فيهم امرأة ولا شيخ ولا صبي فأحصوا بذلك على دينارين دينارين فبلغت
عدتهم ثمانية آلاف ألف
وفي الحديث المتقدم الطويل أن المقوقس
شرط للروم أن يخيروا فمن أحب منهم أن يقيم على مثل هذا أقام لازما له ذلك
مفترضا عليه ممن أقام بالإسكندرية وما حولها من أرض مصر كلها ومن أراد
الخروج منها إلى أرض الروم خرج وعلى أن للمقوقس الخيار في الروم خاصة حتى
يكتب إلى ملك الروم يعلمه ما فعل فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم وإلا كانوا
جميعا على ما كانوا عليه
وكتب المقوقس إلى ملك الروم يعلمه بالأمر على وجهه فكتب إليه ملك الروم يقبح رأيه ويعجزه ويرد عليه ما فعل ويقول في كتابه
إنما
أتاك من العرب اثنا عشر ألفا وبمصر من عدد القبط ما لا يحصى فإن كان القبط
كرهوا القتال وأحبوا أداء الجزية إلى العرب واختاروهم علينا فإن عندك بمصر
من الروم وبالإسكندرية ومن معك أكثر من مائة ألف معهم العدة والقوة والعرب
وحالهم وضعفهم على ما قد رأيت فعجزت عن قتالهم ورضيت أن تكون أنت ومن معك
من الروم أذلاء في حال القبط ألا قاتلتهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت
أو تظفر عليهم فإنهم فيكم على قدر كثرتكم وقوتكم وعلى قدر قلتهم وضعفهم
كأكلة فناهضهم القتال ولا يكن لك رأي غير ذلك
وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم
فقال
المقوقس لما أتاه كتابه والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على
كثرتنا وقوتنا إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا وذلك أنهم قوم
الموت أحب إليهم من الحياة يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل يتمنى أن لا يرجع
إلى أهله ولا بلده ولا ولده ويرون أن لهم أجرا عظيما فيمن قتلوا منا
ويقولون إنهم إن قتلوا دخلوا الجنة وليس لهم رغبة في الدنيا ولا لذة إلا
قدر بلغة العيش من الطعام واللباس ونحن قوم نكره الموت ونحب الحياة ولذتها
فكيف نستقيم وهؤلاء وكيف صبرنا معهم واعلموا معشر الروم أني والله لا أخرج
مما دخلت فيه وصالحت العرب عليه وأني لأعلم أنكم سترجعون غدا إلى قولي
ورأيي وتتمنون أن لو كنتم أطعتموني وذلك أني قد عاينت ورأيت وعرفت ما لم
يعاين الملك ولم يره ولم يعرفه ويحكم أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا في دهره
على نفسه وماله وولده بدينارين في السنة
ثم أقبل المقوقس إلى عمرو بن
العاص فقال له إن الملك قد كره ما فعلت وعجزني وكتب إلي وإلى جماعة الروم
أن لا نرضى بمصالحتك وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم ولم أكن
لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه وإنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني وقد تم
صلح القبط فيما بينك وبينهم ولم يأت من قبلهم نقض وأنا متم لك على نفسي
والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاهدتهم وأما الروم فأنا
منهم بريء وأنا أطلب إليك أن تعطيني ثلاث خصال
قال عمرو وما هن
قال
لا تنقض بالقبط وأدخلني معهم وألزمني ما لزمهم فقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم
على ما عاهدتك عليه وهم متمون لك على ما تحب وأما الثانية إن سألك الروم
بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئا وعبيدا فإنهم أهل لذلك
لأني نصحتهم فاستغشوني ونظرت لهم فاتهموني وأما الثالثة أطلب إليك أن إذا
مت أن تأمرهم يدفنوني في أبي يحنس بالإسكندرية
فانعم له عمرو بن
العاص بذلك وأجابه إلى ما طلب على أن يضمنوا له الجسرين جميعا ويقيموا لهم
الأنزال والضيافة والأسواق والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية ففعلوا
ويقال
إن المقوقس إنما صالح عمرو بن العاص على الروم وهو محاصر الإسكندرية وبعد
أن حصر أهلها ثلاثة أشهر وألح عليهم وخافوه فسأله المقوقس الصلح عنهم كما
صالحه على القبط على أن يستنظر رأي الملك وعلى أن يسير من الروم من أراد
المسير ويقر من أراد الإقامة فأنكر ذلك هرقل لما بلغه أشد الإنكار وتسخط
أشد التسخط وبعث الجيوش فأغلقوا الإسكندرية وآذنوا عمرو بن العاص بالحرب
فخرج إليه المقوقس فقال أسألك ثلاثا وذكر نحو ما تقدم وزاد أن عمرا قال له
في الثالثة التي هي أن يدفن في أبي يحنس هذه أهونهن علينا
ثم رجع إلى
الحديث الأول قال فخرج عمرو بن العاص بالمسلمين حين أمكنهم الخروج وخرج
معه جماعة من رؤساء القبط قد أصلحوا لهم الطريق وأقاموا لهم الجسور
والأسواق وصارت لهم القبط أعوانا على ما أرادوا من قتال الروم وسمعت بذلك
الروم فاستعدت واستجاشت وقدمت عليهم مراكب كثيرة من أرض الروم فيها جمع من
الروم كثير بالعدة والسلاح فخرج إليهم عمرو بن العاص من الفسطاط متوجها
نحو الإسكندرية فلم يلق منهم أحدا حتى بلغ ترنوط فلقي فيها طائفة من الروم
فقاتلوه قتالا خفيفا فهزمهم الله ومضى عمرو بمن معه حتى لقي جمع الروم
بكوم شريك فاقتتلوا به ثلاثة أيام ثم فتح الله للمسلمين وولي الروم أكتافهم
ويقال بل أرسل عمرو بن العاص شريك بن سمي في آثارهم فأدركهم
عند الكوم الذي يقال له كوم شريك فقاتلهم شريك فهزمهم
ويقال
بل لقيهم فألجأوه إلى الكوم فاعتصم به وأحاطت به الروم فلما رأى ذلك شريك
أمر أبا ناعمة الصدفي وهو صاحب الفرس الأشقر الذي يقال له أشقر صدف وكان
لا يجارى فانحط عليهم من الكوم وطلبته الروم فلم تدركه حتى أتى عمرا
فأخبره فأقبل عمرو نحوه وسمعت به الروم فانصرفت وبهذا الفرس سميت خوخة
الأشقر التي بمصر وذلك أنه نفق فدفنه صاحبه هناك فسمي المكان به
قال ثم التقوا بسلطيس فاقتتلوا بها قتالا شديدا فهزمهم الله ثم التقوا بالكريون فاقتتلوا بها بضعة عشر يوما
وكان
عبد الله بن عمرو على المقدمة وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو فأصابت
عبد الله بن عمرو على المقدمة جراحات كثيرة فقال يا وردان لو تقهقرت قليلا
لنصيب الروح فقال وردان الروح أمامك وليس هو خلفك فتقدم عبد الله وجاء
رسول أبيه يسأله عن جراحه فأنشأ يقول
أقول إذا ما النفس جاشت ألا أصبري
عليك قليلا أن تحمدي أو تلامي
الطويل
فرجع الرسول فأخبره بما قال فقال عمرو هو ابني حقا
وصلى يومئذ عمرو صلاة الخوف فحدث شيخ صلاها معه بالإسكندرية أنه صلى بكل طائفة ركعة وسجدتين
قال
ثم فتح الله على المسلمين وقتلوا من الروم مقتلة عظيمة وأتبعوهم حتى بلغوا
الإسكندرية فتحصنوا بها وكانت عليهم حصون لا ترام حصن دون حصن فنزل
المسلمون ما بين حلوة إلى قصر فارس إلى ما وراء ذلك ومعهم رؤساء القبط
يمدونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعلوفة ورسل ملك الروم تختلف إلى
الإسكندرية في المراكب بمادة الروم
ويروى أن عمرا أقام بحلوة
شهرين ثم تحول إلى المقس فخرجت عليه الخيل من ناحية البحيرة حيث كانت
مستترة بالحصن فواقعوه فقتل من المسلمين يومئذ بكنيسة الذهب اثنا عشر رجلا
ولم يكن للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية وإنما كان عيد الروم حين
غلبت العرب على الشام بالإسكندرية فكان ملك الروم يعظم ظهور العرب عليها
ويقول لئن غلبوا على الإسكندرية لقد هلكت الروم وانقطع ملكها وتجهز للخروج
إليها ليباشر قتالها بنفسه إعظاما لها وأمر أن لا يتخلف عنه أحد من الروم
وقال ما بقاء الروم بعد الإسكندرية فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته
وكفى المسلمين مؤنته وكان موته في سنة تسع عشرة وقيل سنة عشرين فكسر الله
بموته شوكة الروم
ورجع جمع كبير ممن كان قد توجه إلى الإسكندرية
واستأسدت العرب عند ذلك وألحت بالقتال على أهل الإسكندرية فقاتلوهم قتالا
شديدا وخرج طرف من الروم من باب حصنها فحملوا على الناس وقتلوا رجلا من
مهرة فاحتزوا رأسه وانطلقوا به فجعل المهريون يتغضبون ويقولون لا ندفنه
أبدا إلا برأسه فقال عمرو بن العاص تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالي
بغضبكم احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا رجلا منهم وارموا برأسه يرموا
برأس صاحبكم فخرجت الروم عليهم فاقتتلوا فقتل رجل من بطارقة الروم فاحتزوا
رأسه فرموا به إلى الروم فرمت الروم برأس المهري إليهم فقال دونكم الآن
فادفنوا صاحبكم وكان عمرو بن العاص يقول ثلاث قبائل في مصر أما مهرة فقوم
يقتلون
ولا يقتلون وأما غافق فقوم يقتلون ولا يقتلون وأما بلى فأكثرها رجلا صحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأفضلها فارسا
وقاتل
عمرو بن العاص الروم بالإسكندرية يوما من الأيام قتالا شديدا فلما استحر
القتال بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلد فصرعه الرومي وألقاه عن فرسه
وأهوى إليه بسيفه ليقتله حتى حماه رجل من أصحابه وكان مسلمة لا يقام
بسبيله ولكنها مقادير ففرحت بذلك الروم وشق ذلك على المسلمين وغضب عمرو بن
العاص فقال وكان مسلمة كثير اللحم ثقيل البدن ما بال الرجل المسبه الذي
يشبه النساء يتعرض فيداخل الرجال ويتشبه بهم فغضب مسلمة ولم يراجعه ثم
اشتد القتال حتى اقتحموا حصن الإسكندرية فقاتلهم العرب في الحصن ثم جاشت
عليهم الروم حتى أخرجوهم جميعا من الحصن إلا أربعة نفر فيهم عمرو بن العاص
ومسلمة بن مخلد أغلق الروم عليهم باب الحصن وحالوا بينهم وبين أصحابهم ولا
يدرون من هم فلما رأى ذلك عمرو وأصحابه لجأوا إلى ديماس من حماماتهم
فتحرزوا به فأمرت الروم روميا فكلمهم بالعربية فقال لهم إنكم قد صرتم
بأيدينا أساري فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم فامتنعوا ثم قال لهم إن في
أيدي أصحابكم منا رجالا أسروهم ونحن نعطيكم العهود أن نفادي بكم أصحابنا
ولانقتلكم فأبوا عليهم فلما رأى الرومي ذلك منهم قال لهم هل لكم إلى خصلة
وهي نصف فيما بيننا وبينكم أن تعطونا العهد ونعطيكم مثله على ان يبرز منكم
رجل ومنا رجل فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا وأمكنتمونا من أنفسكم
وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه
فبرز رجل من الروم قد وثقت الروم بنجدته وشدته وقالوا لعمرو وأصحابه وهم
في الديماس ليبرز رجل منكم لصاحبنا فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة وقال
يا هذا تخطيء مرتين تشذ من أصحابك وأنت أميرهم وإنما قوامهم بك وقلوبهم
معلقة نحوك لا يدرون ما
أمرك ثم لا ترضى حتى تبارز وتتعرض للقتل
فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله قال عمرو
دونك فربما فرجها الله بك فبرز مسلمة والرومي فتجاولا ساعة ثم أعانه الله
عليه فقتله فكبر مسلمة وأصحابه ووفى لهم الروم بما عاهدوهم عليه ففتحوا
لهم باب الحصن فخرجوا ولا تدري الروم أن أمير القوم فيهم حتى بلغهم ذلك
فأسفوا وأكلوا أيديهم تغيظا على ما فاتهم فلما خرجوا استحيي عمرو مما كان
قال لمسلمة حين غضب وسأله أن يستغفر له ففعل مسلمة وقال عمرو والله ما
أفحشت قط إلا ثلاث مرات مرتين في الجاهلية وهذه الثالثة وما منها مرة إلا
وقد ندمت واستحييت وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك
ووالله إني لأرجو أن لا أعود إلى الرابعة ما بقيت
قال ابن لهيعة
وأخبرني بعض أشياخنا أن عبد العزيز بن مروان لما قدم الإسكندرية سنة
ثمانين سأل هل بقي بالإسكندرية أحد ممن أدرك فتحها فأتوه بشيخ من الروم من
أكابر أهل الإسكندرية يومئذ فأعلموه أنه أدرك فتحها وهو رجل فسأله عن أعجب
ما رأى يومئذ من المسلمين فقال أخبرك أيها الأمير أنه كان لي صديق من
أبناء بطارقة الروم يومئذ منقطع إلي وأنه أتاني فسألني أن أركب معه حتى
ننظر إلى المسلمين وإلى حالهم وهيئتهم وهم إذ ذاك محاصرون الإسكندرية
فخرجت معه وهو على برذون له كثير اللحم وأنا على برذون خفيف فلما خرجنا من
الحصن الثالث وقفنا على كوم مشرف ننظر إلى العرب وإذا هم في خيام لهم وعلى
باب كل خيمة فرس واقف ورمح مركوز ورأينا قوما ضعفاء فعجبنا من ضعفهم وقلنا
كيف بلغ هؤلاء القوم ما بلغوا فبينا نحن وقوف ننظر إليهم ونعجب إذ خرج رجل
منهم من بعض تلك الخيام فلما نظر إلينا اختلع رمحه ووثب على ظهر فرسه ثم
أقبل نحونا فقلت لصاحبي والله إنه ليريدنا فلما رأيناه مقبلا إلينا لا
يريد غيرنا ولينا
هاربين فما كان بأوشك من أن أدرك صاحبي فطعنه
بالرمح فصرعه ثم تركه صريعا وأقبل في إثري وأنا خائف أن لا أفلت منه حتى
دخلت الحصن الأول فنجوت منه ثم صعدت الحصن لأبصر ما يفعل فرجع وهو يتكلم
بكلام يرفع به صوته فظننت أنه يقرأ ثم مضى حتى اعترض برذون صاحبي فأخذه
ورجع إلى صاحبي وهو صريع فأخذ سيفه وترك سلبه فلم يأخذه تهاونا به وكانت
ثيابه ديباجا كلها فلم يأخذها ولم ينزعها عنه
فقال عبد العزيز بن مروان للشيخ الرومي صف لي ذلك الرجل وشبهه ببعض من عندي
فأشار إلى رجل مخفف كوسج فقال هو يشبه هذا
قال عبد العزيز نخبرك أنه يمان
وأقام عمرو يحاصر الإسكندرية أشهرا فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بلغه ذلك ما أبطأوا بفتحها إلا لما أحدثوا
وقال أسلم مولى عمر لما أبطأ على عمر فتح مصر كتب إلى عمرو بن العاص
أما
بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر أنكم تقاتلونها منذ سنين وما ذاك إلا
لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر
قوما إلا بصدق نياتهم وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر وأعلمتك أن الرجل منهم
مقام ألف رجل على ما كنت اعرف إلا أن يكونوا غيرهم ما غير غيرهم فإذا أتاك
كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر والنية وقدم
أولئك النفر الأربعة في صدور الناس ومر الناس جميعا أن تكون لهم صدمة
كصدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة فإنها ساعة تنزل الرحمة
ووقت الإجابة وليضج الناس إلى
الله ويسألوه النصر على عدوهم
فلما
أتى عمرا الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام
الناس وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين ثم يرغبوا إلى الله ويسألوه
النصر ففعلوا ففتح الله عليهم
ويقال إن عمرو بن العاص استشار
مسلمة بن مخلد فقال له أشر علي في قتال هؤلاء فقال له مسلمة أرى أن تنظر
إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتعقد
له على الناس فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيكه قال عمرو ومن ذلك قال
عبادة بن الصامت فدعا عمرو عبادة فأتاه وهو راكب على فرسه فلما دنا منه
أراد النزول فقال له عمرو عزمت عليك أن لا تنزل ناولني سنام رمحك فناوله
إياه فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه القتال فتقدم عبادة مكانه
فصاف الروم وقاتلهم ففتح الله على يديه الإسكندرية في يومه ذلك
ويروى
عمرو بن العاص قال وقد أبطأ عليه الفتح فاستلقى على ظهره ثم جلس فقال إني
فكرت في هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله يريد الأنصار
فدعا عبادة بن الصامت فعقد له ففتح الله الإسكندرية على يديه من يومه ذلك
وقال
جنادة بن أبي أمية دعاني عبادة بن الصامت يوم الإسكندرية وكان على قتالها
فأغار العدو على طائفة من الناس ولم يأذن بقتالهم فبعثني أحجز بينهم
فأتيتهم فحجزت بينهم ثم رجعت إليه فقال أقتل أحد من الناس قلت لا قال
الحمد لله الذي لم يقتل أحد منهم عاصيا
قالوا وكان فتح الإسكندرية يوم الجمعة مستهل شهر المحرم من سنة عشرين
ولما هزم الله الروم وفتحت الإسكندرية وهرب الروم في البحر والبر خلف عمرو بن العاص بالإسكندرية من أصحابه ألف رجل ومضى في طلب من
هرب في البر من الروم فرجع من كان هرب منهم في البحر ألى الإسكندرية فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلا من هرب
وبلغ
ذلك عمرو بن العاص فكر راجعا ففتحها وأقام بها وكتب إلى عمر ابن الخطاب
رضي الله عنه أن الله قد فتح علينا الإسكندرية عنوة بغير عقد ولا عهد فكتب
إليه عمر يقبح رأيه ويأمره ألا يجاوزها وقال ابن لهيعة وهذا هو فتح
الإسكندرية الثاني وكان سبب فتحها أن بوابا يقال له ابن بسامة سأل عمرا
الأمان على نفسه وأرضه وأهل بيته ويفتح له الباب فأجابه عمرو إلى ذلك وفتح
له ابن بسامة الباب فدخل عمرو من ناحية قنطرة سليمان وكان مدخله الأول من
الباب الذي من ناحية كنيسة الذهب
وقد روى ابن لهيعة أيضا عن يزيد بن أبي حبيب أن فتحها الأول كان سنة احدى وعشرين ثم انتقضوا سنة خمس وعشرين
وجاءت
الروم عليهم منويل الخصي بعثه هرقل في المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية
فأجابهم من بها من الروم فخرج إليهم عمرو بن العاص في البر والبحر فقاتلهم
قتالا شديدا فهزمهم الله وقتل منويل ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث
ويقال
إن هذا انتقاض ثان للإسكندرية بعد انتقاضها الذي ذكره ابن لهيعة أولا وكان
ذلك في زمان عمر وهذا الذي ذكر يزيد بن أبي حبيب في خلافة عثمان رضي الله
عنهما وسيأتي ذكره في موضعه مستوفى إن شاء الله
وقيل إن جميع من قتل من المسلمين من حين كان من أمر الإسكندرية ما كان إلى أن فتحت اثنان وعشرون رجلا
وبعث
عمرو بن العاص معاوية بن حديج وافدا إلى عمر بن الخطاب يبشره بالفتح فقال
له معاوية ألا تكتب معي فقال له عمرو ما أصنع بالكتاب ألست رجلا عربيا
تبلغ الرسالة وما رأيت وحضرته
فلما قدم على عمر أخبره بفتح الإسكندرية فخر عمر ساجدا وقال الحمد لله
ويروى
عن معاوية بن حديج انه قال قدمت المدينة في الظهيرة فأنخت راحلتي بباب
المسجد ثم دخلت المسجد فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن
الخطاب فرأتني شاحبا علي ثياب السفر فأتتني فقالت من أنت فقلت أنا معاوية
بن حديج رسول عمرو بن العاص فانصرفت عني ثم أقبلت تشتد فقالت ثم قم فأجب
أمير المؤمنين فتبعتها فلما دخلت إذا بعمر بن الخطاب يتناول رداءه فقال ما
عندك فقلت خير يأمير المؤمنين فتح الله الإسكندرية فخرج معي إلى المسجد
فقال للمؤذن أذن في الناس الصلاة جامعة فاجتمع الناس ثم قال لي قم فأخبر
أصحابك فقمت فأخبرتهم ثم صلى ودخل منزله واستقبل القبلة فدعا بدعوات ثم
جلس فقال يا جارية هل من طعام فأتت بخبز وزيت فقال كل فأكلت على حياء ثم
قال كل فإن المسافر يحب الطعام فلو كنت آكلا لأكلت معك فأصبت على حياء ثم
قال يا جارية هل من تمر فأتت بتمر في طبق فقال كل فأكلت على حياء ثم قال
ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد قال قلت أمير المؤمنين قائل قال بئس
ما قلت أو بئس ما ظننت لئن نمت بالنهار لأضيعن الرعية ولئن نمت الليل
لأضيعن نفسي فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية
ثم كتب عمرو بن العاص بعد ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أما
بعد فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها غير أني أصبت فيها أربعة آلاف منيه
بأربعة آلاف حمام وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية وأربعمائة ملهى للملوك
وعن أبي قبيل أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية وجد فيها اثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر
وعن غيره انه كان فيما أحصى من الحمامات اثنا عشر ديماسا أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس كل مجلس منها يسع جماعة نفر
قال
وترحل من الإسكندرية في الليلة التي دخلها عمرو بن العاص أو الليلة التي
خافوا دخوله سبعون ألف يهودي وكان عدة من بالإسكندرية من الروم مائتي ألف
من الرجال فلحق بأرض الروم أهل القوة وركبوا السفن وكان بها مائة مركب من
المراكب الكبار يحمل فيها ثلاثون ألفا بما قدروا عليه من المال والمتاع
والأهل وبقي من بقي ممن يؤدي الخراج فأحصوا يومئذ ستمائة ألف سوى النساء
والصبيان
واختلف الناس على عمرو في قسمهم وكان أكثرهم يريدون القسم
فقال عمرو لا أقدر على ذلك حتى أكتب إلى أمير المؤمنين فكتب إليه في ذلك
فكتب إليه عمر رضي الله عنه لا تقسمها وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين
وقوة لهم على جهاد عدوهم
فأقرها عمرو وأحصى أهلها وفرض عليهم الخراج
فكانت مصر صلحا كلها بفريضة دينارين دينارين على كل رجل لا يزاد على أحد
منهم في جزية رأسه على دينارين غير أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض
والزرع إلا الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى
من وليهم لأن الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد ولم يكن لهم صلح ولا
ذمة
ويقال إن مصر كلها فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد
قال سفيان بن وهب
الخولاني لما فتحنا مصر بغير عهد قام الزبير بن العوام فقال اقسمها يا
عمرو فقال لا أقسمها فقال الزبير والله لتقسمنها كما قسم رسول الله {صلى
الله عليه وسلم} خيبر فقال عمرو والله لا أقسمها حتى اكتب إلى أمير
المؤمنين فكتب إليه فأجابه أقرها حتى يغدو منها حبل الحبلة
وفي حديث آخر أن الزبير صولح على شيء أرضى به
وحدث
أبو قنان عن أبيه انه سمع عمرو بن العاص يقول يعني بمصر لقد قعدت مقعدي
هذا وما لأحد من قبط مصر علي عهد ولا عقد إن شئت قتلت وإن شئت حبست وإن
شئت بعت
ويروى عن ربيعة نحو ما تقدم من فتح مصر بغير عهد وأن عمر بن الخطاب حبس درها وصرها أن يخرج منه شيء نظيرا للإسلام وأهله
وقال زيد بن أسلم كان لممر بن الخطاب رضي الله عنه تابوت فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده فلم يوجد فيه لأهل مصر عهد
ويروى
أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال للقبط إن من كتمني كنزا عنده فقدرت عليه
قتلته فذكر لعمرو أن قبطيا من أهل الصعيد يقال له بطرس عنده كنز فأرسل
إليه فسأله فأنكر فحبسه عمرو وسأل هل تسمعونه يسأل عن أحد قفالوا سمعناه
يسأل عن راهب بالطور فأخذ خاتم بطرس وكتب على لسانه بالرومية إلى ذلك
الراهب أن ابعث إلي بما عندك وختم بخاتمه فجاء الرسول من عند الراهب بقلة
شامية مختومة بالرصاص فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها يا بني إن أردتم مالكم
فافتحوا تحت الفسقية الكبيرة فأرسل عمرو إلى الفسقية فحبس عنها الماء وقلع
البلاط الذي تحتها فوجد فيها اثنين وخمسين أردبا ذهبا مضروبة فضرب عمرو
رأس القبطي عند باب المسجد فأخرج القبط كنوزهم خشية أن يقتلوا
وروى
يزيد بن أبي حبيب أن عمرو بن العاص استحل مال قبطي كان يظهر الروم على
عورات المسلمين ويكتب إليهم بذلك فاستخرج منه بضعة وخمسين أردبا دنانير
وقال ابن شهاب كان فتح مصر بعضها بعهد وذمة وبعضها عنوة فجعل عمر بن الخطاب جميعها ذمة وحملهم على ذلك فجرى ذلك فيهم إلى اليوم
وفي
كتاب سيف عمن سمى من أشياخه في فتح مصر مساق آخر غير ما تقدم وذلك أن عمرو
بن العاص خرج إلى مصر بعدما رجع عمر إلى المدينة يعني رجوعه من الشام
فانتهى عمرو إلى باب مصر واتبعه الزبير فاجتمعا فلقيهم هناك أبو مريم
جاثليق مصر ومعه الأسقف في أهل النيات بعثهم المقوقس لمنع بلادهم فلما نزل
بهم عمرو قاتلوه فأرسل إليهم عمرو لا تعجلونا لنعذر إليكم وتروا رأيكم بعد
فكفوا أصحابهم فأرسل إليهم عمرو إني بارز فليبرز لي أبو مريم وأبو مريام
فأجابوه إلى ذلك وآمن بعضهم بعضا فقال لهما عمرو أنتما راهبا أهل هذه
البلدة فاسمعا إن الله بعث محمدا بالحق وأمره به وأمرنا به محمد وأدى
إلينا كل الذي أمر به ثم مضى {صلى الله عليه وسلم} وقد قضى الذي عليه
وتركنا على الواضحة وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس فنحن ندعوكم إلى
الإسلام فمن أجابنا إليه قبلنا منه وكان مثلنا ومن لم يجبنا إليه عرضنا
عليه الجزية وبذلنا له المنعة وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم وأوصانا بكم حفظا
لرحمنا فيكم وإن لكم إن أجبتمونا إلى ذلك ذمة إلى ذمة ومما عهد إلينا
أميرنا استوصوا بالقبطيين خيرا فإن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أوصى
بالقبطيين خيرا لأن لهم رحما وذمة يعني بالرحم أن هاجر أم إسماعيل بن
إبراهيم عليهما السلام منهم فقالا قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء
واتباع الأنبياء وذكرا أن هاجر معروفة عندهم شريفة
قالا كانت ابنة
ملكنا وكان من أهل منف والملك فيهم فأذيل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم
وسلبوا ملكهم واغتربوا فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام
مرحبا بكم وأهلا أمنا حتى نرجع إليك
فقال عمرو إن مثلي لا يخدع ولكنني أأجلكما ثلاثا ولتناظرا قومكما وإلا ناجرناكم
قالا
زدنا فزادهم يوما فقالا زدنا فزادهم يوما فرجعوا إلى المقوقس فهم يعني
بالإنابة إلى الجزية فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم فقالا لأهل
مصر أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم لا نرجع إليهم وقد بقيت أربعة أيام فلا
تصابون فيها بشيء إلا رجونا أن يكون له أمان فلم يفجأ عمرا والزبير إلا
البيات من فرقب وعمرو والزبير بعين شمس وبها جمعهم وبعث إلى الفرما أبرهة
بن الصباح فنزل عليها وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندرية فنزل عليها فقال كل
واحد منهما لأهل مدينته إن شئتم أن تنزلوا فلكم الأمان فقالوا نعم
فراسلوهم وتربصوا بهم أهل عين شمس وسبي المسلمون من بين ذلك
وقال عوف
بن مالك ما أحسن مدينتكم يا أهل الإسكندرية فقالوا إن الإسكندر قال إني
أبني مدينة إلى الله فقيرة وعن الناس غنية فبقيت بهجتها
وقال أبرهة
لأهل الفرما ما أخلق مدينتكم يا أهل الفرما قالوا إن الفرما قال إني أبني
مدينة عن الله غنية وإلى الناس فقيرة فذهبت بهجتها
قال الكلبي كان
الإسكندر والفرما أخوين ثم حدث بمثل ذلك قال فنسبتا إليهما فالفرفا يتهدم
كل يوم فيها شيء وأخلقت مرآتها وبقيت جدة الإسكندرية
قالوا ولما نزل
عمرو على القوم بعين شمس وكان الملك بين القبط والنوب ونزل معه الزبير
عليها قال أهل مصر لملكهم ما تريد إلى قوم فلوا كسرى وقيصر وغلبوهم على
بلادهم صالح القوم واعتقد منهم ولا تعرضنا لهم
وذلك في اليوم الرابع
فأبى وناهدوهم فقاتلوهم وارتقى الزبير سورها فلما أحسوه فتحوا الباب لعمرو
وخرجوا إليه مصالحين فقبل منهم ونزل الزبير عليهم عنوة حتى خرج على عمرو
من الباب معهم فاعتقدوا بعدما أشرفوا على الهلكة فأجروا ما اخذوا عنوة
مجرى ما صالحوا عليه فصاروا ذمة
وكان صلحهم
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم
وكنائسهم وصلبهم وبحرهم وبرهم لا يدخل عليهم في شيء من ذلك ولا ينتقض ولا
يساكنهم النوب
وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف
وعليهم ما جني لصوصهم فإن أبى أحد أن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدرهم وذمتنا ممن أبا بريئة
وإذا
نقص نهرهم من عادته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك ومن دخل في صلحهم من
الروم والنوب فله مثل مالهم وعليه مثل ما عليهم ومن أبى فاختار الذهاب فهو
آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا عليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلث
يريد من السنة جباية ثلث ما عليهم لهم على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة
رسوله {صلى الله عليه وسلم} وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين
وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا وكذا وكذا فرسا معونة على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة
شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابنا عمرو وكتب وردان وحضر فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح
فمصر
عمرو الفسطاط ونزله المسلمون وظهر أبو مريم وأبو مريام فكلموا عمرا في
السبايا التي أصيبت بعد المعركة فقال عمرو أولهم عهد وعقد ألم تحالفكما
ويغر علينا من يومكما فطردهما فرجعا وهما يقولان كل شيء أصبتموه إلى أن
نرجع إليكم ففي ذمة فقال لهما عمرو يغيرون علينا وهم في ذمة قالا نعم وقسم
عمرو ذلك السبي على الناس وتوزعوه ووقع في بلاد العرب وقدم البشير إلى عمر
بعد بالأخماس وقدم الوفود فسألهم عمر فما زالوا يخبرونه حتى مروا بحديث
الجاثليق وصاحبه فقال عمر ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون من
قاتلكم فلا أمان له ومن لم يقاتلكم وأصابه منكم سبي من أهل القرى في
الأيام الخمسة فله الأمان وكتب بذلك إلى عمرو بن العاص فجعل يجاء بهم من
اليمن ومكة حتى ردوا
وعن عمرو بن شعيب قال لما التقى عمرو
والمقوقس بعين شمس واقتتلت خيلاهما جعل المسلمون يجولون بعد البعد فزمرهم
عمرو فقال رجل من أهل اليمن إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد فأسكته عمرو ثم
لما تمادى ذلك نادى عمرو أين أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فحضر
من شهدها منهم فقال تقدموا فبكم ينصر المسلمون فتقدموا وفيهم يومئذ أبو
بردة وأبو برزة وناهدهم الناس يتبعون الصحابة ففتح الله على المسلمين
وظفروا أحسن الظفر وافتتحت مصر وقام فيها ملك الإسلام على رجل وجعل يفيض
على الأمم والملوك
وعن محمد بن إسحاق عن رجل من أهل مصر اسمه القاسم بن
قزمان أن زياد بن جزء الزبيدي حدثه وكان في جند عمرو بن العاص قال افتتحنا
الإسكندرية في خلافة عمر فلما افتتحنا باب اليون تدنينا قرى الريف فيما
بيننا وبين الإسكندرية قرية قرية حتى انتهينا إلى بلهيت وقد بلغت سبايانا
مكة
والمدينة واليمن فلما انتهينا إلى بلهيت أرسل صاحب الإسكندرية إلى
عمرو ابن العاص إني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم يا معشر
العرب لفارس والروم فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علي ما أصبتم من
سبايا أرضي فعلت فبعث إليه عمرو إن ورائي أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا
دونه فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عني حتى أكتب إليه بالذي عرضت علي فإن قبل
ذلك منك قبلت وإن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره قال فقال نعم فكتب عمرو بن
العاص إلى عمر بن الخطاب يذكر له الذي عرض عليه صاحب الإسكندرية قال
وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به ثم وقفنا ببلهيب وفي أيدينا بقايا
من سبيهم وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءه وقرأه علينا عمرو وفيه
أما
بعد فإنه جاء في كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض عليك ان يعطيك الجزية
على أن ترد عليه ما أصبت من سبايا أرضه ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن
بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم ثم كأنه لم يكن فاعرض على صاحب
الإسكندرية أن يعطيك الجزية على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم بين
الإسلام وبين دين قومه فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين له ما لهم
وعليه ما عليهم ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل
ذمته فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب وبلغ مكة والمدينة واليمن فإنا لا
نقدر على ردهم ولا نحب أن نصالحه على أمر لانفي له به
قال فبعث عمرو بن
العاص إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين فقال قد فعلت
فجمعنا ما في أيدينا من السبايا واجتمعت النصارى فجعلنا نأتي بالرجل ممن
في أيدينا ثم نخيره بين الإسلام وبين
النصرانية فإذا اختار الإسلام
كبرنا تكبيرة لهي أشد من تكبيرتنا حين تقتحم القرية ثم نجوزه إلينا وإذا
اختار النصرانية نخرت النصارى وحازوه إليهم ووضعنا عليه الجزية وجزعنا من
ذلك جزعا شديدا حتى كأنه رجل خرج منا إليهم فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم
وفيمن
أتينا به أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن قال القاسم وقد أدركته وهو عريف
بني زبيد قال ابن جزء الزبيدي فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية وأبوه وأمه
وأخوته في النصارى فاختار الإسلام فحزناه إلينا ووثب عليه أبوه وأمه
وإخوته يجاذبوننا عليه حتى شققوا ثيابه ثم هو اليوم عريفنا كما ترى
ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها فمن زعم غير ذلك أن الإسكندرية وما حولها من القرى لم تكن لها جزية ولا لأهلها عهد فقد كذب
قال
القاسم إنما أهاج هذا الحديث أن ملوك بني أمية كانوا يكتبون إلى أمراء مصر
أنها إنما دخلت عنوة وإنما هم عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا ونضع ما شئنا
وقد تقدم بعض ما وقع في هذا المعنى من الاختلاف
وكذلك اختلفوا في وقت فتح مصر فذكر ابن إسحاق أنها فتحت سنة عشرين وكذلك قال أبو معشر والواقدي
وقد روى عن أبي معشر أن الإسكندرية فتحت سنة خمس وعشرين ولعل ذلك فتحها الأخير إذ قد تقدم ذكر انتقاضها مرتين
وأما
سيف فزعم أن مصر والإسكندرية فتحتا في سنة ست عشرة قال ولما كان ذو القعدة
من سنة ست عشرة وضع عمر رحمه الله مسالح مصر على السواحل وغيرها وكان
داعية ذلك أن هرقل أغزى مصر والشام في
وقال سعيد بن عفير وغيره لما تم
الفتح للمسلمين بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى التي حول الفسطاط
فأقامت الفيوم سنة لم يعلم المسلمون مكانها حتى أتاهم رجل فذكرها لهم
فأرسل عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصدفي فلما سلكوا في المجابة لم
يروا شيئا فهموا بالإنصراف فقالوا لا تعجلوا سيروا فإن كان كذبا فما
أقدركم على ما أردتم فلم يسيروا إلا قليلا حتى طلع لهم سواد الفيوم فهجموا
عليها فلم يكن عندهم قتال وألقوا بأيديهم قال ويقال بل خرج مالك بن ناعمة
الصدفي وهو صاحب الأشقر ينفض المجابة على فرسه ولا علم له بما خلفها من
الفيوم فهجم على الفيوم فلما رأى سوادها رجع إلى عمرو فأخبره
وقيل غير ذلك في وجه الإنتهاء إلى الفيوم مما لا كبير فائدة في ذكر ه والله تعالى اعلم
وعن
يزيد بن أبي حبيب أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية ورأى بيوتها
وبناءها مفروغا منها هم بسكناها وقال مساكن قد كفينا بناءها فكتب إلى عمر
بن الخطاب يستأذنه في ذلك فسأل عمر الرسول هل يحول بيني وبين المسلمين ماء
قال نعم إذا جرى النيل فكتب إلى عمرو
إني لا أحب أن ينزل المسلمون منزلا يحول الماء بيني وبينهم لا في شتاء ولا في صيف
فتحول عمرو من الإسكندرية إلى الفسطاط وإن ناسا من المسلمين حين
افتتحوا
مصر مع عمرو بن العاص اختطوا بالجيزة وسكنوا بها فكتب عمرو بذلك إلى عمر
فكتب إليه عمر يقول ما كنت أحب أن ينزلوا منزلا يكون الماء دونهم فإذا
فعلوا فابن عليهم حصنا فبني الحصن الذي خلف الجسرين
وبنى عمرو بن العاص
المسجد وكان ما حوله حدائق وأعنابا فنصبوا الحبال حتى استقام لهم ووضعوا
أيديهم فلم يزل عمرو قائما حتى وضعوا القبلة وضعها هو ومن حضر معه من
أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} واتخذ فيه منبرا فكتب إليه عمر بن
الخطاب
أما بعد فإنه بلغني انك اتخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين أو ما بحسبك أن تقوم قائما والمسلمون تحت عقبيك فعزمت عليك لما كسرته
ولما اختط الناس المنازل بالفسطاط كتب عمرو بن العاص إلى عمر رضي الله عنه
إنا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع
فكتب إليه عمر
أنى
لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين وذكر الطبري
أن القبط حضروا باب عمرو فبلغه أنهم يقولون ما أرث العرب وأهون أنفسهم وما
رأينا مثلنا دان لهم فخاف أن يستثيرهم ذلك فأمر بجزر فنحرت فبطحت في الماء
والملح وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا هم وأصحابهم وجلس وأذن لأهل مصر وجيء
باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين فأكلوا أكلا عربيا انتشلوا وحسوا
وهم في العباء ولا سلاح فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة وتقدم إلى
أمراء الأجناد في الحضور بأصحابهم من الغد وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل
مصر وأحذيتهم وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا وأذن لأهل مصر فرأوا
غير ما رأوا بالأمس وقام عليهم القوم بألوان مصر فأكلوا أكل أهل مصر ونحوا
نحوهم
فافترقوا وقد ارتابوا وبعث إليهم أن يتسلحوا غدا للعرض
وغدا على العرض وأذن لأهل مصر فعرضهم عليهم ثم قال اني قد علمت أنكم أريتم
في أنفسكم أنكم في شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم فخشيت أن
تهلكوا فأحببت أن أريكم حالهم كيف كانت في أرضهم ثم حالهم في أرضكم ثم
حالهم في الحرب فظفروا بكم وذلك عيشهم وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا
منها ما رأيتم في اليوم الثاني فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم في اليوم
الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني وراجع إلى عيش اليوم الأول فتفرقوا وهم
يقولون لقد رمتكم العرب برجلهم
وبلغ عمر رحمه الله ذلك فقال لجلسائه
يعني عمرا والله إن حربه للينة مالها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره
إن عمرا لعض ثم أمره عليها وأقام بها
وذكر ابن عبد الحكم أن عمر رضي
الله عنه كتب أن يختم في رقاب أهل الذمة بالرصاص ويظهروا مناطقهم ويجزوا
نواصيهم ويركبوا على الأكف عرضا ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه
الموسى ولا يضربوا على النساء ولا على الولدان ولا يدعوهم يتشبهون
بالمسلمين في لبوسهم
قال ثم إن عمر بن الخطاب أمر أمراء الأجناد أن
يتقدموا إلى الرعية بان عطاءهم قائم وأرزاق عيالهم جارية فلا يزرعون يعني
الأجناد ولايزارعون
فأتى شريك بن سمي الغطيفي إلى عمرو بن العاص فقال
إنكم لا تعطوننا ما يحسبنا أفتأذن لي بالزرع فقال له عمرو ما أقدر على ذلك
فزرع شريك بغير إذنه فكتب عمرو بذلك إلى عمر بن الخطاب فأمره أن يبعث إليه
شريكا
فأقرأ عمرو شريكا الكتاب فقال له شريك قتلتني يا عمرو قال ما أنا قتلتك
قال أنت صنعت هذا بنفسك قال فإذا كان هذا من رأيك فأذن لي في الخروج إليه
من غير كتاب ولك علي عهد الله أن أجعل يدي في يده فأذن له فلما وقف على
عمر قال تؤمنني يا أمير المؤمنين قال ومن أي الأجناد أنت قال من جند مصر
قال فلعلك شريك بن سمي الغطيفي قال نعم يا أمير المؤمنين قال لأجعلنك
نكالا لمن خلفك قال أو تقبل مني ما قبل الله من العباد قال وتفعل قال نعم
فكتب إلى عمرو بن العاص إن شريك بن سمي جاءني تائبا فقبلت منه
وعن
الليث بن سعد قال سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين
ألف دينار فعجب عمرو من ذلك وقال أكتب في ذلك أمير المؤمنين فأجابه عمر عن
كتابه إليه في ذلك سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزرع ولا يستنبط بها
ماء ولا ينتفع بها فسأله عمرو فقال إنا لنجد صفتها في الكتب إن فيها غراس
الجنة فكتب بذلك إلى عمر فأجابه إنا لانعلم غراس الجنة إلا المؤمنين فأقبر
فيها من مات قبلك من المسلمين ولاتبعه بشيء فكان أول من دفن فيها رجل من
المعافر يقال له عامر فقيل عمرت
قالوا ولما استقامت البلاد وفتح الله
على المسلمين فرض عمرو بن العاص لرباط الإسكندرية ربع الناس يقيمون ستة
أشهر ثم يعقب بعدهم ربعا آخر ستة اشهر وربعا في السواحل والنصف الثاني
مقيمون معه
وقيل كان عمر بن الخطاب يبعث كل سنة غازية من اهل المدينة
ترابط بالإسكندرية وكانت الولاة لا تغفلها ويكثفون رابطتها ولا يأمنون
الروم عليها
وكتب عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو خليفة إلى عبد الله بن سعد ابن أبي سرح بعد أن استعمله على مصر
قد
علمت كيف كان هم أمير المؤمنين بالإسكندرية وقد نقضت مرتين فألزم
الإسكندرية رابطتها واجر عليهم أرزاقهم وأعقب بينهم في كل ستة أشهر
وكان
عمرو بن العاص يقول ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة وقال نيل مصر سيد
الأنهار سخر الله له كل نهر من المشرق والمغرب فإذا أراد الله أن يجريه
أمر الأنهار فأمدته بمائها وفجر له الأرض عيونا فإذا انتهت جريته إلى ما
أراد سبحانه أوحى إلى كل ماء ان يرجع إلى عنصره
ولما فتح عمرو مصر أتاه
أهلها حين دخل بؤنة من أشهر العجم فقالوا له أيها الأمير إن لنيلنا هذا
سنة لا يجري إلا بها فقال وما ذاك قالوا إنه إذا كان لاثنتي عشرة ليلة
تخلوا من هذا الشهر عهدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا
عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النهر فقال لهم
عمرو إن هذا لا يكون في الإسلام وإن الإسلام يهدم ما قبله فأقاموا ذلك
الشهر والشهرين اللذين بعده لا يجري قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء
فلما رأى ذلك عمرو كتب به إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر رضي الله عنه
قد أصبت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها في داخل النيل
فلما قدم الكتاب على عمرو وفتح البطاقة فإذا فيها
من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد فإن
كنت تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك
قألقى
عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء
والخروج منها لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل فأصبحوا يوم الصليب
وقد أجراه الله عز وجل ستة عشر ذراعا في ليلة وقطع تلك السنة السوء عن أهل
مصر
ذكر فتح أنطابلس
قال ابن عبد الحكم كان البربر
بفلسطين يعني زمان داود عليه السلام فخرجوا منها متوجهين إلى الغرب حتى
انتهوا إلى لوبية ومراقية وهما كورتان من كور مصر الغربية مما يشرب من ماء
السماء ولا ينالهما النيل فتفرقوا هنالك فتقدمت زناته ومغيلة إلى الغرب
وسكنوا الجبال وتقدمت لواته فسكنت أرض أنطابلس وهي برقة وتفرقت في هذا
الغرب وانتشروا فيه حتى بلغوا السوس ونزلت هوارة مدينة لبدة ونزلت نفوسة
مدينة صبرة وجلا من كان فيها من الروم من أجل ذلك وأقام الأفارق وكانوا
خدما للروم على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم وهم بنو أفارق بن قيصر
بن حام
فسار عمرو بن العاص في الخيل حتى قدم برقة فصالح أهلها على
ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها إليه جزية على أن يبيعوا من أبنائهم في
جزيتهم ولم يكن يدخل برقة يومئذ جابي خراج وإنما كانوا يبعثون بالجزية إذا
جاء وقتها
ووجه عمرو بن العاص عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة قال الطبري
فافتتحها بصلح وسار مابين برقة وزويلة سلما للمسلمين وقال أبو العالية
الحضرمي سمعت عمرو بن العاص على المنبر يقول لأهل أنطابلس عهد يوفي لهم به
ذكر فتح أنطابلس
قال
ابن عبد الحكم كان البربر بفلسطين يعني زمان داود عليه السلام فخرجوا منها
متوجهين إلى الغرب حتى انتهوا إلى لوبية ومراقية وهما كورتان من كور مصر
الغربية مما يشرب من ماء السماء ولا ينالهما النيل فتفرقوا هنالك فتقدمت
زناته ومغيلة إلى الغرب وسكنوا الجبال وتقدمت لواته فسكنت أرض أنطابلس وهي
برقة وتفرقت في هذا الغرب وانتشروا فيه حتى بلغوا السوس ونزلت هوارة مدينة
لبدة ونزلت نفوسة مدينة صبرة وجلا من كان فيها من الروم من أجل ذلك وأقام
الأفارق وكانوا خدما للروم على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم وهم بنو
أفارق بن قيصر بن حام
فسار عمرو بن العاص في الخيل حتى قدم برقة
فصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها إليه جزية على أن يبيعوا من
أبنائهم في جزيتهم ولم يكن يدخل برقة يومئذ جابي خراج وإنما كانوا يبعثون
بالجزية إذا جاء وقتها
ووجه عمرو بن العاص عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة
قال الطبري فافتتحها بصلح وسار مابين برقة وزويلة سلما للمسلمين وقال أبو
العالية الحضرمي سمعت عمرو بن العاص على المنبر يقول لأهل أنطابلس عهد
يوفي لهم به
فتح أطرابلس
قال ابن عبد الحكم ثم سار عمرو حتى نزل أطرابلس في سنة اثنتين وعشرين فنزل القبة التي على الشرف من شرقيها فحاصرها شهرا لا يقدر منهم على شيء فخرج رجل من بني مدلج ذات يوم من عسكر عمرو متصيدا في سبعة نفر فمضوا غربي المدينة حتى أمعنوا عن العسكر ثم رجعوا فأصابهم الحر فاخذوا على ضفة البحر وكان البحر لاصقا بسور المدينة ولم يكن فيما بين المدينة والبحر سور وكانت سفن الروم شارعة في مرساها إلى بيوتهم فنظر المدلجي وأصحابه فإذا البحر قد غاض من ناحية المدينة ووجدوا مسلكا إليها من الموضع الذي حسر عنه البحر فدخلوا منه حتى أتوا من ناحية الكنيسة وكبروا فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم وأبصر عمرو وأصحابه السلمة في جوف المدينة فأقبل بجيشه حتى دخل عليهم فلم يفلت الروم إلا بما خف لهم من مراكبهم وغنم عمرو ما كان في المدينةوكان من بصبرة متحصنين وهي المدينة العظمى وسوقها السوق القديم فلما بلغهم محاصرة عمرو مدينة أطرابلس وانه لم يصنع فيهم شيئا ولا طاقة له بهم أمنوا
فلما ظفر عمرو بمدينة أطرابلس جرد خيلا كثيفة من ليلته وأمرهم بسرعة السير فصبحت خيله مدينة صبرة وهم غافلون وقد فتحوا أبوابها لتسرح
ماشيتهم فدخلوها فلم ينج منهم أحد واحتوى أصحاب عمرو على ما فيها ورجعوا إلى عمرو
قال
ثم أراد عمرو أن يوجه إلى المغرب فكتب إلى عمر بن الخطاب إن الله عز وجل
قد فتح علينا أطرابلس وليس بينها وبين أفريقية إلا تسعة أيام فإن رأى أمير
المؤمنين أن نغزوها ويفتحها الله على يديه فعل
فكتب إليه عمر
لا إنها ليست بإفريقية ولكنها المفرقة غادرة مغدور بها لا يغزوها أحد ما بقيت
قال
وأتى عمرو بن العاص كتاب المقوقس يذكر له أن الروم يريدون نكث العهد ونقض
ما كان بينهم وبينه وكان عمرو قد عاهد المقوقس على أن لا يكتمه أمرا يحدث
فانصرف عمرو راجعا مبادرا لما أتاه
قال وقد كان عمرو يبعث الجريدة من الخيل فيصيبون الغنائم ثم يرجعون يعني من أطراف إفريقية
ذكر انتقاض الإسكندرية في خلافة عثمان رضي الله عنه
قال عبد الرحمن بن عبد الحكم وفي سنة خمس وعشرين عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاص عن مصر وولى عبد الله بن سعد وقد كانت الإسكندرية انتقضت وجاءت الروم عليهم منويل الخصي في المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية فأجابهم من بها من الروم ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث فلما نزلت الروم بالإسكندرية سأل أهل مصر عثمان رضي الله عنه أن يقر عمرا حتى يفرغ من قتال الروم فإن له معرفة في الحرب وهيبة في العدو ففعلفخرج إليهم عمرو في البر والبحر
وضوى إلى المقوقس من أطاعه من القبط فأما الروم فلم يطعه منهم أحد فقال
خارجه بن حذافة لعمرو ناهضهم قبل أن يكثر مددهم ولا آمن أن تنتقض مصر كلها
قال عمرو لا ولكن دعهم حتى يسيروا إلي فإنهم يصيبون من مروا به فيجزي الله
بعضهم ببعض فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى فجعلوا ينزلون
القرية فيشربون خمورها ويأكلون أطعمتها وينتهبون ما مروا به فلم يعرض لهم
عمرو حتى بلغوا نقيوس فلقوهم في البر والبحر فبدأت الروم والقبط فرموا
بالنشاب في الماء رميا شديدا حتى أصاب النشاب يومئذ فرس عمرو في لبته وهو
في البر فعقر فنزل عنه ثم خرجوا من البحر فاجتمعوا هم والذين في البر
فنضحوا المسلمين بالنشاب فاستأخر المسلمين عنهم شيئا وحملوا حملة ولى
المسلمون منها وانهزم شريك بن سمي في خيله
وكانت
الروم قد جعلت صفوفا خلف صفوف وبرز يومئذ بطريق ممن جاء من أرض الروم على
فرس له عليه سلاح مذهب فدعا إلى البراز فبرز إليه رجل من زبيد يقال له
حومل ويكنى أبا مذحج فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان ثم ألقى البطريق الرمح
وأخذ السيف وألقى حومل رمحه وأخذ سيفه وكان يعرف بالنجدة وجعل عمرو يصيح
أبا مذحج فيجيبه لبيك والناس على شاطيء النيل في البر على تعبئتهم وصفوفهم
فتجاولا ساعة بالسيفين ثم حمل عليه البطريق فاحتمله وكان نحيفا ويخترط
حومل خنجرا كان في منطقته أو في ذراعه فيضرب به نحر العلج أو ترقوته
فأثبته ووقع عليه فأخذ سلبه ثم مات حومل بعد ذلك بأيام رحمة الله عليه
فرئى عمرو يحمل سريره بين عمودي نعشه حتى دفنه بالمقطم
قال ثم شد المسلمون عليهم فكانت هزيمتهم وطلبهم المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية ففتح الله عليه وقتل منويل الخصي
قال
الهيثم بن زياد وقتلهم عمرو بن العاص حتى أمعن في مدينتهم فكلم في ذلك
فأمر برفع السيف عنهم وبني في ذلك الموضع مسجد وهو الذي يقال له
بالإسكندرية مسجد الرحمة سمي بذلك لرفع عمرو السيف هنالك
وكان عمرو حلف لئن أظفره الله عليهم ليهدمن سورها حتى تكون مثل بيت الزانية يؤتى من كل مكان فلما أظفره الله هدم سورها كله
وجمع
عمرو ما أصاب منهم فجاءه من أهل تلك القرى من لم يكن نقض فقالوا قد كنا
على صلحنا ومر علينا هؤلاء اللصوص فأخذوا متاعنا ودوابنا وهو قائم في يديك
فرد عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه وأقاموا عليه البينة
وقال بعضهم لعمرو ما حل لك ما صنعت بنا وكان لنا عليك أن تقاتل عنا لأنا في ذمتك ولم ننقض فأما من نقض فأبعده الله فندم عمرو وقال
ياليتني كنت لقيتهم حين خرجوا من الإسكندرية
وكان
سبب نقض الإسكندرية فيما ذكر ابن عبد الحكم أن صاحب اخناء قدم على عمرو بن
العاص فقال أخبرنا ما علينا من الجزية فنصبر لها فقال له عمرو وهو يشير
إلى ركن كنيسة لو أعطيتني من الركن إلى السقف ما أخبرتك إنما أنتم خزانة
لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم فغضب صاحب اخناء
فخرج إلى الروم فقدم بهم فهزمهم الله وأسر ذلك النبطي فأتى به إلى عمرو
فقال له الناس اقتله فقال لا بل انطلق فجئنا بجيش آخر
وقيل إنه لما أتى به سوره وتوجه وكساه برنسين أرجوان وقال له ايتنا بمثل هؤلاء فرضي بأداء الجزية
فقيل له لو أتيت ملك الروم فقال لو أتيته لقتلني وقال قتلت أصحابي
وذكر
ابن عبد الحكم أيضا أن الروم مشت إلى قسطنطين بن هرقل في سنة خمس وثلاثين
فقالوا تترك الإسكندرية في أيدي العرب وهي مدينتنا الكبرى فقال ما أصنع
بكم وما تقدرون أن تتماسكوا ساعة إذا لقيتم العرب قالوا فاخرج على أن نموت
فتبايعوا على ذلك وخرج في ألف مركب يريد الإسكندرية فبعث الله عليهم ريحا
عاتية فأغرقتهم إلا قسطنطين نجا بمركبه فألقته الريح بصقلية فسألوه عن
أمره فأخبرهم فقالوا شأمت النصرانية وأفنيت رجالها فلو دخل العرب علينا لم
نجد من يردهم ثم صنعوا له الحمام ودخلوا عليه ليقتلوه فقال ويلكم تذهب
رجالكم وتقتلون ملككم قالوا كأنه غرق معهم ثم قتلوه وخلوا من كان معه في
المركب
ذكر غزو أفريقية وفتحها
قال ابن عبد الحكم ولما عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وأمر عبد الله بن سعدبن أبي سرح كان يبعث المسلمين في جرائد الخيل كما كانوا يفعلون في إمرة عمرو بن العاص فيصيبون من أطراف أفريقية ويغنمون فكتب عبد الله بن سعد في ذلك إلى عثمان وأخبره بقربها من حوز المسلمين واستأذنه في غزوها فندب عثمان الناس إلى ذلك بعد المشورة فيه فلما اجتمع الناس أمر عليهم الحارث بن الحكم إلى أن يقدموا مصر على عبد الله ابن سعد فيكون إليه الأمر فخرج عبد الله إليها وكان عليها ملك يقال له جرجير كان هرقل استخلفه فخلعه وكان سلطانه ما بين اطرابلس إلى طنجة ومستقر سلطانه يومئذ بمدينة يقال لها قرطاجنة فلقي عبد الله جرجير فقاتله فقتله الله وولي قتله عبد الله بن الزبير فيما يزعمون وهرب جيش جرجير فبعث عبد الله السرايا وفرقها فأصابوا غنائم كثيرة فلما رأى ذلك رؤساء أهل أفريقية سألوه أن يأخذ منهم مالا على أن يخرج من بلادهم فقبل منهم ذلك ورجع إلى مصر ولم يول على أفريقية أحدا ولا اتخذ بها قيرواناويروى
أن جرجيرا لما نازله المسلمون القتال أبرز ابنته وكانت من أجمل النساء
فقال من يقتل عبد الله بن سعد وله نصف ملكي وأزوجه ابنتي فبلغ ذلك عبد
الله فقال أنا أصدق من العلج وأوفي بالعهد من يقتل جرجيرا فله ابنته فقتله
عبد الله بن الزبير فدفع إليه عبد الله ابنته
وذكر ابن عبد الحكم عن أبيه وابن عفير أن ابنة جرجير صارت لرجل من الأنصار في سهمه فأقبل بها منصرفا قد حملها على بعير له فجعل يرتجز
يا ابنة جرجير تمشي عقبتك
إن عليك بالحجاز ربتك
لتحملن من قباء قربتك
الرجز
فقالت ما تقول وسبته فأخبرت بذلك فألقت بنفسها عن البعير الذي كانت عليه فاندقت عنقها فماتت فالله أعلم أي ذلك كان
وكانت
غنائم المسلمين يومئذ أنه بلغ سهم الفارس بعد إخراج الخمس ثلاثة آلاف
دينار للفرس ألفا دينار ولفارسه ألف دينار وللراجل ألف وقسم لرجل من الجيش
توفي بذات الحمام فدفع إلى أهله بعد موته ألف دينار
وكان جيش عبد الله بن سعد ذلك الذي وقع له القسم عشرين ألفا
وبعث عبد الله بالفتح إلى عثمان رضي الله عنه عقبة بن نافع ويقال بل عبد الله بن الزبير وهو أصح
وسار
زعموا عبد الله بن الزبير على راحلته من أفريقية إلى المدينة عشرين ليلة
ولما دخل على عثمان أخبره بلقائهم العدو وبما كان في تلك الغزوة فاعجب
عثمان فقال له هل تستطيع أن تخبر الناس بهذا قال نعم فأخذ بيده حتى انتهى
به إلى المنبر ثم قال اقصص عليهم ما أخبرتني به فتلكأ عبد الله بدأ ثم
تكلم بكلام أعجبهم
ويروى عن ابن شهاب أن عثمان لما قال لابن الزبير
أتكلم الناس بهذا قال نعم يا أمير المؤمنين أنا أهيب لك مني لهم فأمر
عثمان فجمع الناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثني عليه وكان أكره شيء إليه
الخطب وأحب
الأشياء إليه ما كفي ثم قال أيها الناس إن الله قد فتح
عليكم أفريقية وهذا عبد الله بن الزبير يخبركم بخبرها إن شاء الله ثم جلس
على المنبر
وقام ابن الزبير إلى جانب المنبر وكان أول من قام إلى جانبه فقال
الحمد
لله الذي ألف بيننا بعد الفرقة وجعلنا متحابين بعد البغضة والحمد لله الذي
لا تجحد نعماؤه ولا يزول ملكه له الحمد كما حمد نفسه وكما هو أهله ابتعث
محمدا {صلى الله عليه وسلم} فاختاره بعلمه وائتمنه على وحيه فاختار له من
الناس أعوانا قذف في قلوبهم تصديقه فآمنوا به وعزروه ووقروه ونصروه
وجاهدوا في الله حق جهاده فاستشهد الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح
والبيع الرابح وبقي منهم من بقي لا يأخذهم في الله لومة لائم
أيها
الناس رحمكم الله إنا خرجنا للوجه الذي قد علمتم فكنا مع خير وال ولي فحمد
وقسم فعدل لم يفقد من بر أمير المؤمنين شيئا كان يسير بنا البردين يخفض
بنا في الظهائر ويتخذ الليل حملا يعجل الترحل من المنزل الفقير ويطيل
اللباث في المنزل المخصب الرحب فلم نزل على أحسن حالة يتعرفها قوم من ربهم
حتى انتهى إلى أفريقية فنزل منها بحيث يسمع صهيل الخيل ورغاء الإبل وقعقعة
السلاح فأقام أياما يجم كراعه ويصلح سلاحه ثم دعاهم إلى الإسلام والدخول
فيه فبعدوا منه وسألهم الجزية عن صغار والصلح فكانت هذه أبعد فأقام فيها
ثلاث عشرة ليلة يتأتى بهم وتختلف رسله إليهم فلما يئس منهم قام خطيبا فحمد
الله وأثنى عليه ثم ذكر النبي {صلى الله عليه وسلم} وأكثر الصلاة عليه ثم
ذكر فضل الجهاد وما لصاحبه إذا صبر واحتسب ثم نهد لعدوه فقاتلهم أشد
القتال يومه ذلك وصبر الفريقان جميعا وكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة
واستشهد الله رجالا من المسلمين فبتنا وباتوا للمسلمين بالقرآن دوي كدوي
النحل وبات المشركون في ملاهيهم وخمورهم فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التي
كنا عليها بالأمس وزحف بعضنا إلى بعض فأفرغ
الله علينا الصبر ثم
أنزل علينا النصر ففتحناها من آخر النهار فأصبنا غنائم كثيرة فبلغ فيها
الخمس خمسمائة ألف دينار وتركت المسلمين قد قرت أعينهم وقد أغناهم النفل
ووسعهم الحق وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين وإلى المسلمين أبشره وإياهم
بما فتح الله من البلاد وأذل من المشركين فأحمد الله على آلائه وما أحل
بأعدائه من بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين
ثم صمت ونهض إليه
الزبير فقبل بين عينيه وقال يا بني إذا نكحت المرأة فانكحها على شبه أبيها
أو أخيها تأتك بأحدهما والله ما زلت تنطق بلسان أبي بكر الصديق حتى صمت
ويروى
عن الزبير لما أمر عثمان رحمه الله ابنه عبد الله بالقيام ليخبر الناس بما
شهد من فتح أفريقية أنه قال وجدت في نفسي على عثمان وقلت يقيم غلاما من
الغلمان لا يبلغ الذي يحق عليه والذي يجمل به فقام فتكلم فأبلغ وأصاب فما
فرغ حتى ملأهم عجبا
وفي كتاب سيف أن عثمان لما وجه عبد الله بن سعد إلى
أفريقية قال له إن فتح الله عليك أفريقية فلك مما أفاء الله عليك خمس
الخمس فلما انتهى إلى أفريقية فيمن معه لقيهم صاحبها فقاتلهم فقتله الله
قتله عبد الله بن سعد وفتح الله أفريقية سهلها وجبلها واجتمعوا على
الإسلام وحسنت طاعتهم وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم بعد أن
أخرج الخمس فعزل منه لنفسه خمسه وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان وضرب فسطاطا
في موضع القيروان ووفد وفد إلى عثمان فشكوه فيما أخذ من الخمس فقال عثمان
أنا نفلته
وإنما النفل تبصرة وتدريب للرجال ثم كتب إلى عبد الله بن سعد باستصلاحهم
قال
وكان عثمان قد أرسل معه عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله ابن نافع
بن الحصين الفهريين وأمرهما بالمسير إلى الأندلس فيمن ندبه معهما من
الرجال وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله بن سعد على صاحب أفريقية وبعد ذلك
يسيران الى الأندلس فلما كان الاستيلاء على صاحب أفريقية سارا من فورهما
إلى الأندلس وأتياها من قبل البحر
وكان عثمان رحمه الله تعالى قد كتب إلى من انتدب إلى الأندلس
أما بعد فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس وإنكم إن لم تفتحوها كنتم شركاء من يفتحها في الأجر والسلام
وقال كعب يعبر البحر إلى الأندلس أقوام يفتحونها يعرفون بنورهم يوم القيامة
ذكر صلح النوبة
قال ابن عبد الحكم ثم غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح الأساود وهم النوبة سنة إحدى وثلاثين فقاتلته النوبة قتالا شديدا وأصيبت يومئذ عين معاوية بن حديج وأبي شمر بن أبرهة وحيويل بن ناشرة فيومئذ سموا رماة الحدق فهادنهم عبد الله بن سعد إذ لم يطقهم وفي ذلك اليوم يقول بعض من حضرهلم تر عيني مثل يوم دمقله
والخيل تغدو بالدروع مثقلة
الرجز
قال وكان الذي صولح عليه النوبة فيما ذكر بعض مشايخ المصريين ثلاثمائة رأس وستين رأسا في كل سنة ويقال بل على أربعمائة في كل سنة منها لفيء المسلمين ثلاثمائة وستون ولوالي البلد أربعون منها فيما زعم بعض المشايخ سبعة عشر مرضعا
ثم انصرف عبد الله بن سعد عنهم
قال وذكر بعض المتقدمين أنه وقف بالفسطاط في بعض الدواوين يعني على عهد لهم قرأه قبل أن يحرق فإذا هو يحفظ منه
إنا عاهدناكم وعاقدناكم أن توفونا في كل سنة ثلاثمائة رأس وستين رأسا وتدخلون بلادنا مجتازين غير مقيمين وكذلك ندخل بلادكم على أنكم إن قتلتم من المسلمين قتيلا فقد برئت منكم الهدنة وإن آويتم للمسلمين عبدا فقد برئت منكم الهدنة وعليكم رد أباق المسلمين ومن لجأ إليكم من أهل الذمة
وقال يزيد بن أبي حبيب وليس بينهم وبين أهل مصر عهد ولا ميثاق وإنما هي هدنة أمان بعضنا من بعض
قال ابن لهيعة وأبو حبيب والد يزيد واسمه سويد منهم
وقال
الليث بن سعد وذكر له قول مالك بن أنس لا يشتري رقيق النوبة ولا يباعون
فقال الليث لا علم لمالك بهذا نحن أعلم به منه إنما صولحوا على أن نكف
عنهم حربنا فقط وعلى أنهم يعطونا منهم رقيقا في كل سنة وعلى أنا لا نمنع
غزو غيرنا فبذلك نشتريهم إنما علينا الوفاء بأن لا نحاربهم فقط
قال ابن عبد الحكم ولم أر أحدا من أصحاب مالك يقول بقوله في النوبة وكلهم كان يشتريهم
قال
واجتمعت لعبد الله بن سعد البجة في انصرافه من بلاد النوبة على شاطى ء
النيل فسأل عنهم فأخبر بشأنهم فهان عليه أمرهم فنفذ وتركهم ولم يكن لهم
عقد ولا صلح وأول من صالحهم عبيد الله بن أبي الحبحاب
ذكر البحر والغزو فيه
ذكر الطبري عن سيف عن أشياخه قالوا ألح معاوية على عمر بن الخطاب في غزو البحر وقرب الروم من حمص وقال إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر أحب أن يزود عنه فكتب إلى عمرو بن العاص صف لي البحر وراكبه فإن نفسي تنازعني إليه وإني أشتهي خلافها فكتب إليه عمرو بن العاص إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير إن سكن خوف القلوب وإن تحرك راع العقول يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة هم فيه كدود على عود إن مال غرق وإن نجا فرقفلما جاءه كتاب عمرو كتب إلى معاوية
لا والذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا لا أحمل فيه مسلما أبدا
وفي رواية أنه كتب إليه
إنا قد سمعنا أن بحر الشام يشرف على أطول شيء في الأرض يستأذن الله في كل يوم وليلة أن يفيض على الأرض فيغرقها فكيف أحمل الجنود في هذا البحر الكافر المستصعب والله لمسلم واحد أحب إلي مما حوت الروم فإياك أن تتعرض لي وقد تقدمت إليك
فلما ولي عثمان بن عفان لم يزل به معاوية حتى عزم على ذلك وقال له لا
تنتخب الناس ولا تقرع بينهم خيرهم فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه
ففعل
ذلك معاوية واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الجاسي حليف بني فزارة فغزا
خمسين غزاة من بين صائفة وشاتية في البر والبحر ولم يغرق معه أحد في البحر
ولانكب وكان يدعوا الله أن يرزقه العافية في جنده ولا يبتليه بمصاب أحد
منهم ففعل الله ذلك له حتى إذا أراد الله أن يصيبه وحده خرج في قارب طليعة
فانتهى إلى البر من أرض الروم وعليه سؤال يعبرون ذلك المكان فتصدق عليهم
فرجعت امرأة من السؤال إلى قريتها فقالت للرجال هل لكم في عبد الله بن قيس
قالوا وأين هو قالت في المرفأ قالوا أي عدوة الله ومن أين تعرفين عبد الله
بن قيس فوبختهم وقالت أنتم أعجز مني أو يخفى عبد الله على أحد فبادروا
فهجموا عليه فقاتلوه وقاتلهم فأصيب وحده وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه
فجاءوا حتى أرفوا والخليفة فيهم سفيان بن عوف الأودي فخرج فقاتلهم فضجر
وجعل يعبث بأصحابه ويشتمهم فقالت جارية عبد الله واعبد الله ما هكذا كان
يقول حين يقاتل فقال سفيان وكيف كان يقول قالت الغمرات ثم ينجلين فجعل
سفيان يقول ذلك وترك ما كان يقول وأصيب في المسلمين يومئذ وقيل لتلك
المرأة بأي شيء عرفته فقالت بصدقته أعطى كما يعطي الملوك ولم يقبض قبض
التجار
غزو معاوية بن أبي سفيان قبرس
وغزا معاوية بن أبي سفيان قبرس سنة ثمان وعشرين فيما ذكر الواقدي
قال وهو أول من غزا الروم وغزاها أهل مصر وعليهم عبد الله بن سعد ابن أبي سرح حتى لقوا معاوية فكان على الناس
قال
ابن عفير ومع معاوية امرأته فاخته بنت قرظه وكان معه أيضا في غزاته أبو
الدرداء وشداد بن أوس وأبو ذر وعبد الله بن عمرو بن العاص في عدة من أصحاب
رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأم حرام الأنصارية فتوفيت هناك فقبرها
يستسقي به أهل قبرس ويسمونه قبر المرأة الصالحة
وأم حرام هذه هي
خالة أنس بن مالك رضي الله عنه وحديثها مشهور في نوم النبي ص في بيتها ثم
استيقظ وهو يضحك فسألته ما يضحكه فقال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل
الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة
فقالت يارسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم
استيقظ يضحك فسألته فقال ناس من أمتي عرضوا علي مثل مقالته الأولى فقالت
يا رسول الله ادع الله ان يجعلني منهم قال أنت من الأولين فكانت هذه
الغزوة هي التي عرضت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أولا وخرجت أم
حرام فيها فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت
قال ابن عمير وذلك العام بالشام عام قبرس الأول
وقيل إن معاوية توجه إليها من حصن عكا في مائتي مركب قال وظفر معاوية في هذه الغزاة وأخذ من الأموال والحلي ما لا يحصى
وقال
جبير بن نفير لما سبيناهم يعني أهل قبرس نظرت إلى أبي الدرداء يبكي فقلت
ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله وأذل الكفر وأهله فضرب بيده
على منكبي وقال ثكلتك أمك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره
بينا هي أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك إذ تركوا أمر الله فصاروا إلى ما
ترى فسلط عليهم السباء وإذا سلط السباء على قوم فليس لله عز وجل بهم حاجة
وذكر
الطبري أن معاوية لما غزا قبرس صالح أهلها على جزية سبعة آلاف دينار
يؤدونها إلى المسلمين في كل سنة ويؤدون إلى الروم مثلها ليس للمسلمين أن
يحولوا بينهم وبين ذلك على أن لا يغزوهم المسلمون ولا يقاتلوا هم من غزا
من خلفهم يريد الخروج إلى أرض المسلمين وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير
عدوهم من الروم إليهم وعلى أن يبطرق إمام المسلمين عليهم منهم
وذكر
الواقدي أيضا مصالحة معاوية أهل قبرس في ولاية عثمان رحمه الله وإن في
العهد الذي بيننا وبينهم ألا يتزوجوا في عدونا من الروم إلا بإذننا
قال وفي هذه السنة يعني سنة ثمان وعشرين غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم
غزوة ذات الصواري
ذكر الواقدي أن أهل الشام خرجوا وعليهم معاوية بن أبي سفيان وعلى أهل البحر عبد الله بن سعد بن أبي سرح وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بأفريقية فخرجوا في جمع لم ير الروم مثله قط منذ كان الإسلام فخرجوا في خمسمائة مركب فالتقوا هم وعبد الله بن سعد فأمن بعضهم بعضا حتى قرنوا بين سفن المسلمين وأهل الشركقال مالك بن أوس بن الحدثان كنت معهم فالتقينا في البحر فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط وكانت الريح علينا فأرسينا ساعة وأرسوا قريبا منا وسكنت الريح عنا فقلنا الأمن بيننا وبينكم قالوا ذلك لكم منا ولنا منكم قلنا إن أحببتم فالساحل حتى يموت الأعجل وإن شئتم فالبحر فنخروا نخرة واحدة وقالوا الماء فدنونا منهم فربطنا السفن بعضها ببعض حتى كنا بحيث يضرب بعضنا بعضا فقاتلنا أشد القتال ووثب الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف ويتواجئون بالخناجر حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما
وقال بعض من حضر ذلك اليوم أيضا رأيت الساحل وإن عليه لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال وإن الدم للغالب على الماء
ولقد قتل يومئذ من المسلمين بشر كثير وقتل من الكفار ما لا يحصى وصبروا يومئذ صبرا لم يصبروا في موطن قط مثله ثم أنزل الله نصره على أهل
الإسلام وانهزم القسطنطين مدبرا وأصابته يومئذ جراحات مكث فيها حينا جريحا
وعن
حنش الصنعاني قال ركب الناس البحر سنة إحدى وثلاثين مع عبد الله بن سعد
فلما بلغوا ذات الصواري لقوا جموع الروم في خمسمائة مركب أو ستمائة فيها
القسطنطين بن هرقل فقال أشيروا علي قالوا انتظر الليلة فباتوا يضربون
بالنواقيس وبات المسلمون يصلون ويدعون الله ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطين
فقربوا سفنهم وقرب المسلمون فربطوا بعضها إلى بعض وصف عبد الله المسلمين
على نواحي السفن وأمرهم بقراءة القرآن وبالصبر ووثبت الروم في سفن
المسلمين على صفوفهم حتى نقضوها واقتتلوا على غير صفوف قتالا شديدا ثم إن
الله نصر المؤمنين فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلا الشريد
وأقام عبد الله بذات الصواري أياما بعد هزيمة القوم ثم أقبل راجعا
وذكر
ابن عبد الحكم أن عبد الله بن سعد لما نزل ذات الصواري أنزل نصف الناس مع
بسر بن أبي أرطاه سرية في البر فلما مضوا أتى آت إلى عبد الله فقال ما كنت
فاعلا حين ينزل بك ابن هرقل في ألف مركب فافعله الساعة
قال وإنما مراكب
المسلمين مائتا مركب ونيف فقام فقال أشيروا علي فما كلمه رجل من المسلمين
فجلس قليلا لترجع إليهم أفئدتهم ثم استشارهم فما كلمه أحد ثم فقال الثالثة
إنه لم يبق شيء فأشيروا علي فقال رجل من أهل المدينة كان متطوعا أيها
الأمير إن الله تعالى يقول كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله
والله مع الصابرين ( 249 البقرة )
فقال عبد الله اركبوا باسم الله
فركبوا وإنما في كل مركب نصف شحنته قد خرج النصف الآخر مع بسر في البر
فلقوهم فاقتلوا بالنبل والنشاب وتأخر ابن هرقل لئلا تصيبه الهزيمة وجعل
تختلف القوارب إليه بالأخبار فقال ما فعلوا
قالوا اقتتلوا بالنبل
والنشاب قال غلبت الروم ثم أتوه فقال ما فعلوا قالوا قد نفدت النبل
والنشاب فهم يرتمون بالحجارة قال غلبت الروم ثم أتوه فقال ما فعلوا قالوا
نفذت الحجارة وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسيوف قال غلبت الروم
قال
يزيد بن أبي حبيب وكانت السفن إذ ذاك تقرن بالسلاسل عند القتال فقرن مركب
عبد الله يومئذ وهو الأمير بمركب من مراكب العدو فكاد مركب العدو يجر مركب
عبد الله إليهم فقام علقمة بن يزيد العطيفي وكان في المركب مع عبد الله
فضرب السلسلة بسيفه فقطعها فسأل عبد الله بعد ذلك امرأته بسيسة ابنة جمرة
بن ليشرح بن عبد كلال وكانت معه يومئذ وكان الناس فيما خلا يغزون بنسائهم
من رأيت أشد الناس قتالا قالت علقمة صاحب السلسلة وكان عبد الله حين خطبها
إلى أبيها قال له إن علقمة قد خطبها وله علي فيها رأي فإن يتركها أفعل
فكلم عبد الله علقمة فتركها فتزوجها عبد الله ثم هلك عنها فتزوجها بعده
علقمة ثم هلك عنها فتزوجها كريب بن أبرهة
وقال محمد بن الربيع إنما
سميت غزوة ذات الصواري لكثرة المراكب التي اجتمعت فيها ابن هرقل في ألف
مركب والمسلمون في مائتي مركب ونيف فكثرت الصواري في البحر فسميت ذات
الصواري
وفي بعض ما تقدم من الأخبار ما يقتضي أن ذات الصواري موضع يسمى هكذا فالله تعالى أعلم
ذكر فتح العراق وما والاه على ما ذكره سيف بن عمرو وأورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري عنه وعن غيره
ذكروا
عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا حض الله
المسلمين على عهد نبيه {صلى الله عليه وسلم} على الاستقامة على الدين
وندبهم إلى فارس ووعدهم فتقدم إليهم في ذلك من قبل غزوهم ليحثهم وليدربهم
فبدأ بالردة فقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل
أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله
الشاكرين ( 144 آل عمران ) فسمي من ثبت على دينه بعد موت رسول الله {صلى
الله عليه وسلم} الشاكرين ثم عاد في وصف من ناهض منهم أهل الردة
والمنافقون حشر في المؤمنين وإنما يكلم الله عز وجل المؤمنين بما يعني به
المنافقين فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منك عن دينه فسوف يأتي
الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في
سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع
عليم ( 54 المائدة ) فسماهم أحباء وأثابهم حيث كانوا أذلة أرقة على
المؤمنين أعزة أشدة على الكافرين يجاهدون يعني جهادا بعد جهادهم أهل الردة
يقاتلون من بعدهم أهل فارس ولا يخافون تخويف من يخوفهم هذا فضل الله يخص
به من يشاء والله واسع عليم عالم بهم فهم الشاكرون وهم الفاضلون وهم
المقربون وهم أحباء الله
وعن علي وابن عباس رضي الله عنهما في
قوله عز وجل وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم الآيتين إلى قوله
وكان الله على كل شيء قديرا ( 20 - 21 الفتح ) مغانم فتوحا من لدن خيبر
تلونها وتضمون ما فيها فعجل لكم هذه أي عجل لكم من ذلك خيبر وكف أيدي
الناس عنكم أيدي قريش بالصلح يوم الحديبية ولتكون آية للمؤمنين شاهدا على
ما بعدها ودليلا على إنجازها وأخرى لم تقدروا عليها أي على علم وقتها
أفيئها عليكم فارس والروم قد أحاط الله بها قضى الله بها أنها لكم منها
الأيام والقوادس والواقوصة والمدائن الحمر بالشام ومصر والضواحي فاجتمعت
هذه الصفات فيمن قاتل فارس والروم وسائر الأعاجم ذلك الزمان
ذكر سيف
قال كان أول ملوك فارس قاتله المسلمون شيري بن كسرى وذلك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حيث فرغ من أهل الردة وأقامت جنود المسلمين في بلدان من ارتد كتب إلى خالد بن الوليد وهو باليمامة أن ائذن للمسلمين في القفل إلا من أحب المقام معك ولا تكرهن أحدا على القيام ولاتستعن في شيء من حربك بمتكاره وادع من يليك من تميم وقيس وبكر إلى موتان اليمامة فإن موات ما أفاء الله على رسوله لله ولرسوله فمن أحيا شيئا من ذلك فهو له لا يدخل ذلك في شيء من موات كل بلد أسلم عليه أهله ففعل خالد فأنزل اليمامة من هؤلاء الأحياء من أقرن ببني حنيفة ولما أذن خالد في القفل قفل الناس أهل المدينة ومن حولها وسائر من كان معه من أهل القبائل وبقي خالد في ألفين من القبائل التي حول المدينة من مزينة وجهينة وأسلم غفار وضمرة وأناس من غوث طيء ونبذ من عبد القيسولما قفل من قفل وجه المثنى بن حارثة الشيباني ومذعور بن عدى العجلي
وحرملة
بن مريطة وسلمى بن القين الحنظليين وهما من المهاجرين والمثنى ومذعور ممن
وفد على النبي {صلى الله عليه وسلم} فقدموا على أبي بكر رحمه الله فقال له
حرملة وسلمى إنا معاشر بني تميم وبكر بن وائل قد دربنا بقتال فارس
وأشجيناهم حتى اتخذوا الخنادق وغبقوا المياه واتخذوا المسالح في القصور
المشيدة وتحصنوا بها منا فأذن لنا في حربهم فأذن لهما فولاهما على من
تابعهما واستعملهما على ما غلبا عليه وكانا أول من قدم أرض فارس لقتال أهل
فارس وكانا من المهاجرين ومن صالحي الصحابة فنزلا أطد ونعمان والجعرانة في
أربعة آلاف من تميم والرباب وكان بإزائهما النوشجان والفيرمان بالوركاء
فزحفوا إليهما فغلبوهما على الوركاء وغلبا على هرمزجرد إلى فرات بادلقي
وذكر
سيف من طريق آخر أن المثنى ومذعورا لما قدما على أبي بكر أستأذناه في غزو
أهل فارس وقالا إنا وإخواننا من بني تميم قد دربنا بقتالهم وأخذنا النصف
من أحد وثني كل موسم فأذن لهما وولاهما على من تابعهما واستعملهما على ما
غلبا عليه فسارا فجمعا جموعهما ثم سارا بهم حتى قدما بلاد فارس وكانا اول
من قدمها لقتالهم هما وحرملة وسلمى وقدم المثنى ومذعور في أربعة آلاف من
بكر بن وائل وعنزة وضبيعة فنزل أحدهما بخفان ونزل الآخر بالمهارق وعلى فرج
الفرس مما يليهما شهربراز بن بندا فنفياه وغلبا على فرات بادقلي إلى
السيلحين واتصل ما غلبا عليه وما غلب عليه سلمى وحرملة وفي ذلك يقول مذعور
بن عدي
غلبنا على خفان بندا وشيحة
إلى النخلات السحق فوق المهارق )
وإنا لنرجوا ان تجول خيولنا بشاطي الفرات بالسيوف البوارق
الطويل
وقال المثنى في ذلك
ألا أبلغا شهرا وشهر مهاجر بأنا سنلقاه على الحدثان
فنحن سللنا شيحة يوم بارق إلى شر دار تنتوي ومكان
الطويل
ويروي أن أبا بكر رحمه الله لما بلغه ما كان من فتح حرملة وسلمى ومثنى ومذعور ما بين السيلحين إلى أسفل الفرات تمثل بقول الآخر
وإذا عقدت بحبل قوم مرة ذربوا عليك فلم تجد لك مقضبا
حيان لاخطما بحبل هضيمة أنفا الزمام فلم يقرا مركبا
الكامل
وحكى عمر بن شبة عن شيوخه من أهل الأخبار أن المثنى بن حارثة كان يغير على أهل فارس بالسواد فبلغ أبا بكر والمسلمين خبره فقال عمر من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه فقال له قيس بن عاصم أما أنه غير خامل الذكر ولا مجهول النسب ولا قليل العدد ولا ذليل العمارة ذلك المثنى بن حارثة الشيباني
ثم أن المثنى قدم على أبي بكر فقال له يا خليفة رسول الله ابعثني في قومي فإن فيهم إسلاما أقاتل بهم أهل فارس وأكفك أهل ناحيتي من العدو ففعل ذلك أبو بكر فقدم المثنى العراق فقاتل وأغار على أهل فارس ونواحي السواد حولا مجرما ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبي بكر يسأله المدد ويقول
إنك إن أمددتني وسمعت بذلك العرب أسرعوا إلي وأذل الله المشركين مع أني أخبرك يا خليفة رسول الله أن الأعاجم تخافنا وتتقينا فقال له عمر يا خليفة رسول الله أبعث خالد بن الوليد مددا للمثنى بن حارثة يكون قريبا من أهل الشام فإن استغنى عنه أهل الشام ألح على أهل العراق حتى يفتح الله عليه قال فهذا الذي هاج أبا بكر رحمه الله على أن يبعث خالد بن الوليد إلى العراق
وفي حديث آخر انه ولاه حرب العراق لما قضى ما أراد قضاءه من اليمامة وكتب إلى المثنى ومذعور وسلمى وحرملة بأن يسمعوا له ويطيعوا
أخبار الأيام في زمان خالد بن الوليد رضي الله عنه
وكانت لمن وليها الفضيلة والسابقة والقدمة لأنهم شركوا أهل القادسية والبويب وفضلوهم بولايتهم هذه