كتاب : الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء
المؤلف: أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الاندلسي

 


فاجتمع يوما في المسجد منهم ناس فرآهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم قد لصق بعضهم ببعض فأمر بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا
فقام أبو أيوب خالد بن زيد إلى عمرو بن قيس أحد بني غنم بن مالك بن النجار وكان صاحب آلهتهم في الجاهلية فأخذ برجله فسحبه حتى أخرجه من المسجد وهو يقول أتخرجني يا أبا أيوب من مربد بني ثعلبة
ثم أقبل أبو أيوب أيضا إلى رافع بن وديعة أحد بني النجار فلببه بردائه ثم نتره نترا شديدا ثم لطم وجهه وأخرجه من المسجد وهو يقول أف لك منافقا خبيثا أدراجك يا منافق من مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو وكان طويل اللحية فأخذ بلحيته فقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه من المسجد ثم جمع عمارة يديه فلدمه بهما في صدره لدمة خر منها قال يقول خدشتني يا عمارة قال أبعدك الله يا
منافق فما أعد الله لك من العذاب أشد من ذلك فلا تقربن مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقام أبو محمد رجل من بني النجار وكان بدريا إلى قيس بن عمرو فجعل يدفع في قفاه حتى أخرجه من المسجد وكان قيس غلاما شابا لا يعلم في المنافقين شاب غيره
وقام رجل من بلحارث يقال له عبد الله بن الحارث إلى رجل يقال له الحارث بن عمرو وكان ذا جمة فأخذ بجمته يسحبه سحبا عنيفا على ما مر به من الأرض حتى أخرجه من المسجد
قال يقول المنافق لقد أغلظت يا ابن الحارث فقال له إنك أهل لذلك يا عدو الله لما أنزل الله فيك فلا تقرب مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فإنك نجس
وقام رجل من بني عمرو بن عوف إلى أخيه ذوي بن الحارث فأخرجه من المسجد إخراجا عنيفا وأفف منه وقال غلب عليك الشيطان وأمره
فهؤلاء من حضر المسجد يومئذ من المنافقين فأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بإخراجهم
ففي هؤلاء من أحبار يهود والمنافقين من الأوس والخزرج نزل صدر سورة البقرة إلى المائة منها فيما بلغني والله أعلم

وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة وفد نصارى نجران ستون راكبا فدخلوا عليه المسجد حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب يقول بعض من رآهم يومئذ من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم
وحانت صلاتهم فقاموا يصلون في المسجد فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دعوهم فصلوا إلى المشرق وكان فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم في الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم
وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر ابن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم وكان أبو حارثة هذا قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم فكان ملوكهم قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم
فلما وجهوا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها وإلى جنبه أخ له يقال له كرز بن علقمة ويقال كوز بن علقمة فعثرت بغلة أبي حارثة فقال كوز تعس الأبعد يريد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له أبو حارثة بل أنت تعست قال ولم يا أخي قال والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره فقال له كوز فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا قال ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى
فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك فهو كان يحدث عنه هذا الحديث

وكان أبو حارثة هذا ممن كلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هو العاقب والسيد وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم في عيسى عليه السلام يقولون هو الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ويقولون هو ولد الله كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ويقولون هو ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد
ففي كل هذا من قولهم قد نزل القرآن مدحضا حججهم ومبطلا دعاويهم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
قال الله العظيم لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال
المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) ( المائدة 45 ) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ومن من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ( المائدة 72 - 75 )
وقال عز من قائل وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ( التوبة 30 - 31 )
ولما كلموا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمرهم بالإسلام فقال له حبران ممن كلمه منهم قد أسلمنا فقال لهما إنكما لم تسلما فأسلما فقالا بلى قد أسلمنا قبلك
فقال كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير
قالا فمن أبوه يا محمد
فصمت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلم يجبهما

فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها
فافتتح السورة بتنزيه نفسه سبحانه مما قالوا وتوحيده إياها بالخلق والأمر ردا عليهم ما ابتدعوا من الكفر وجعلوا معه من الأنداد ليعرفهم بذلك ضلالتهم فقال جل قوله وتعالى جده آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى
للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) ( آل عمران 1 - 6 )
ثم استمر سبحانه فيما شاء من التبيان لهم والإعذار إليهم والاحتجاج عليهم وإرشاد عباده المؤمنين إلى سبيل الضراعة إليه بأن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم وأن يهب لهم من لدنه رحمة وما وصل بذلك من قوله الحق وذكره الحكيم
ثم استقبل لهم أمر عيسى وكيف كان بدء ما أراد به فقال إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم
ثم ذكر امرأة عمران ونذرها لله ما في بطنها محررا أي تعبده له سبحانه لا ينتفع به لشيء من الدنيا ثم ما كان من وضعها مريم وتعويذها إياها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم
يقول الله تبارك وتعالى فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا أي ضمها وقام عليها بعد أبيها وأمها
ثم قص خبرها وخبر زكريا وما دعا به وما أعطاه إذ وهب له يحيى ثم ذكر مريم وقول الملائكة لها يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقتنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين يقول الله جل وعز ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم أي يستهمون عليها أيهم يخرج سهمه يكفلها وما كنت لديهم إذ يختصمون أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها

يخبره بخفي ما كتموا منه من العلم تحقيقا لنبوته وإقامة للحجة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه
ثم قال تعالى إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه
المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين )
أي هكذا كان أمره لا ما يقولون فيه وإن هذه حالاته التي يتقلب بها في عمره كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارا وكبارا إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آية لنبوته وتعريفا للعباد مواقع قدرته قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء
أي يصنع ما أراد ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر ويصور في الأرحام ما يشاء وكيف يشاء بذكر وبغير ذكر
إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
ثم أخبرها بما يريد به من كرامته وتعليمه الكتاب والحكمة والتوراة المنزلة على موسى قبله والإنجيل المنزل عليه وجعله رسولا إلى بني إسرائيل مؤيدا من الآيات بما هو صادر عن إذنه موقوف على مشيئته تحقيقا لما أراد من نبوته كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله وغير ذلك مما أيده الله به من العجائب المصدقة له وأمره إياهم بتقوى الله وطاعته وقوله لهم إن الله ربي وربكم تبريا من الذي يقولون فيه واحتجاجا لربه عليهم فاعبدوه هذا صراط مستقيم أي هذا الهدي قد حملتكم عليه وجئتكم به فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله إلى آخر قولهم
ثم ذكر رفعه إياه إليه حين اجتمعوا لقتله فقال ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين
ثم أخبرهم ورد عليهم فيما أقروا لليهود بصلبه كيف رفعه وطهره منهم فقال إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم القصة حتى انتهى إلى

قوله ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين
أي قد جاءك الحق من ربك فلا ترتابن به ولا تمترين فيه وإن قالوا كيف خلق عيسى من غير ذكر فقد خلقت آدم من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر فكان كما كان عيسى لحما ودما وشعرا وبشرا فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم أي من بعد ما قصصت عليك من خبره وكيفية أمره فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين
نبتهل ندعو باللعنة ونبتهل أيضا نجتهد بالدعاء
إن هذا لهو القصص الحق أي ما أخبرتك به من أمر عيسى وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
فدعاهم الله إلى النصف وقطع عنهم الحجة
فلما أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الخبر من الله عز وجل في شأن عيسى وفصل القضاء بينه وبينهم بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك فقالوا يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه
فانصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم فقالوا يا عبد المسيح ما ترى فقال والله يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمدا لنبي مرسل ولقد جاءكم من خبر صاحبكم بالحق ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم فإن كنتم قد أبيتم إلا ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم

فأتوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع إلى ديننا ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضى
فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين
فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها فرحت إلى الظهر مهجرا فلما صلى بنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الظهر سلم ثم نظر عن يمينه ويساره فجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه
قال عمر فذهب بها أبو عبيدة
ولما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم حتى جهدوا فما كانوا يصلون إلا وهم قعود وصرف الله ذلك عن نبيه {صلى الله عليه وسلم} فخرج عليهم صلوات الله عليه وهم يصلون كذلك فقال لهم اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ممن أصابته الحمى وكذلك مولياه عامر بن فهيرة وبلال قالت عائشة فدخلت أعودهم قبل أن يضرب علينا الحجاب وهم في بيت واحد وبهم مالا يعلمه إلا الله من الوعك فدنوت من أبي بكر فقلت له كيف تجدك يا أبت فقال
كل امرئ مصبح في أهله
والموت أدنى من شراك نعله
الرجز
فقلت والله ما يدري أبي ما يقول ثم دنوت إلى عامر فقلت كيف تجدك يا عامر فقال
لقد وجدت الموت دون ذوقه
إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه
كالثور يحمي جلده بروقه
الرجز
قالت وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته وقال
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل
الطويل

قالت عائشة فذكرت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما سمعت منهم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم حبب لنا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل وباءها إلى مهيعة وهي الجحفة

آمنة الأسعد كتاب الإكتفاء
أبي الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
شروع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في حرب المشركين وذكر مغازيه التي أعز الله بها الإيمان والمؤمنين
قال ابن إسحاق ثم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تهيأ لحربه وقام فيما أمره الله تبارك الله وتعالى به من جهاد عدوه وقتال من أمره الله بقتاله ممن يليه من مشركي العرب
وخرج غازيا في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة
حتى بلغ ودان وهي غزوة الأبواء يريد قريشا وبني ضمرة من بكر بن عبد مناة بن كنانة فوادعته فيها بنو ضمرة وكان الذي وادعه منهم عليهم مخشي بن عمرو الضمري وكان سيدهم في زمانه ذلك
ثم رجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة ولم يلق كيدا فأقام بها
وبعث في مقامه ذلك عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد
فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة فلقي بها جمعا عظيما من قريش فلم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمي يومئذ بسهم فكان أول سهم رمي به في سبيل الله
وقال سعد في رميته تلك فيما يذكرون
ألا هل أتى رسول الله أني
حميت صحابتي بصدور نبلي
أذود بها أوائلهم ذيادا
بكل حزونة وبكل سهل
فما يعتد رام في عدو
بسهم يا رسول الله قبلي
الوافر
في أبيات ذكرها ابن إسحاق وذكر ابن هشام أن أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لسعد
ثم انصرف القوم عن القوم وللمسلمين حامية
وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني وعتبة بن غزوان وكانا مسلمين ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار
ويقال إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في غزوة عبيدة هذه
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث
أرقت وأمر في العشيرة حادث
ترى من لؤي فرقة لا يصدها
عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
رسول أتاهم صادق فتكذبوا

عليه وقالوا لست فينا بماكث
إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا
وهروا هرير المحجرات اللواهث
فكم قد متتنا فيهم بقرابة
وترك التقى شيء لهم غير كارث )
فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم فما طيبات الحل مثل الخبائث
وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم فليس عذاب الله عنهم بلابث
ونحن أناس من ذؤابة غالب لنا العز منها في الفروع الأثائث
فأولي برب الراقصات عشية حراجيج تجري في السريح الرثائث
كأدم ظباء حول مكة عكف بردن حياض البئر ذات النبائث
لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم ولست إذا آليت قولا بحانث
لتبتدرنهم غارة ذات مصدق تحرم أطهار النساء الطوامث
الطويل
وكانت راية عبيدة أول راية عقدها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الإسلام
وبعض العلماء يزعم أنه بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء قبل أن يصل إلى المدينة وأنه بعث في مقامه بالمدينة حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكبا من المهاجرين فلقي أبا جهل بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان موادعا للفريقين
فانصرف بعض القوم عن بعض ولم يك بينهم قتال
وبعض الناس يقول كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأحد من المسلمين وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا فشبه ذلك على الناس
وقد زعموا أن حمزة قال في ذلك شعرا يذكر فيه أن رايته أول راية عقدها رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فإن كان حمزة قال ذلك فقد صدق إن شاء الله لم يكن يقول إلا حقا فالله أعلم أي ذلك كان
فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا فعبيدة بن الحارث أول من عقد له
والشعر المنسوب لحمزة رضي الله عنه
ألا يا لقومي للتحكم والجهل
وللنقص من رأي الرجال وللعقل
وللراكبينا بالمظالم لم نطأ
لهم حرمات من سوام ولا أهل
كأنا تبلناهم ولا تبل عندنا
لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل
وأمر بإسلام فلا يقبلونه
وينزل منهم مثل منزلة الهزل
فما برحوا حتى انتدبت بغارة
لهم حيث حلوا أبتغي راحة الفضل
بأمر رسول الله أول خافق

عليه لواء لم يكن لاح من قبل
لواء لديه النصر من ذي كرامة
إله عزيز فعله أفضل الفعل
عشية ساروا حاشدين وكلنا
مراجله من غيظ أصحابه تغلي
فلما تراءينا أناخوا فعقلوا
مطايا وعقلنا مدى غرض النبل
فعلنا لهم حبل الإله نصيرنا
وليس لكم إلا الضلالة من حبل
فثار أبو جهل هنالك باغيا
فخاب ورد الله كيد أبي جهل
وما نحن إلا في ثلاثين راكبا
وهم مئتان بعد واحدة فضل
فيال لؤي لا تطيعوا غواتكم
وفيئوا إلى الإسلام والمنهج السهل
فإني أخاف أن يصب عليكم
عذاب فتدعوا بالندامة والثكل
الطويل
ثم غزا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في ربيع الأول يريد قريشا حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا
ثم غزاهم فسلك على نقب بني دينار ثم على فيفاء الحبار فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها ذات الساق فصلى عندها فثم مسجده {صلى الله عليه وسلم}
وصنع له عندها طعام فأكل منه وأكل الناس معه فموضع أثافي البرمة معلوم هنالك واستقى له من ماء يقال له المشرب المشترب
ثم ارتحل حتى هبط بليل ثم سلك فرش ملل حتى لقى الطريق بصحيرات اليمام ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جمادي الأولى وليالي من جمادي الآخرة
ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا
وبعث سرية فيما بين ذلك من غزوة سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط من المهاجرين فبلغ الخرار من أرض الحجاز ثم رجع ولم يلق كيدا
ولم يقم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة
فخرج {صلى الله عليه وسلم} في طلبه حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر وفاته كرز فلم يدركه
وهي غزوة بدر الأولى
ثم رجع إلى المدينة

وبعث عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفلة من تلك الغزاة وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين وهم أبو حذيفة بن عتبة وسعد بن أبي وقاص وعكاشة بن محصن وعتبة بن غزوان وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله التميمي وخالد بن البكير وسهيل بن بيضاء
وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحدا
فلما سار عبد الله يومين فتح الكتاب فإذا فيه إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم
فقال عبد الله سمعا وطاعة
ثم قال لأصحابه قد أمرني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن أمضي إلى نخلة أرصد فيها قريشا حتى آتيه منهم بخبر وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع فأما أنا فماض لأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه فتخلفا في طلبه
ومضى عبد الله في بقية أصحابه حتى نزل بنخلة فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وأخوه نوفل والحكم بن كيسان فلما
رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم فأشرف لهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه فلما رأوه أمنوا وقالوا عمار لا بأس عليكم منهم وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب
فقالوا والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمنعن منكم به ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام
فتردد القوم وهابوا ثم شجعوا أنفسهم وأجمعوا قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم
فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم وأفلت القوم نوفل فأعجزهم

وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة
وعزل عبد الله بن جحش لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمس تلك الغنائم وقسم سائرها بين أصحابه وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغانم فلما أحل الله الفيء بعد ذلك وأمر بقسمه وفرض الخمس فيه وقع على ما كان عبد الله صنع في تلك العير
فلما قدموا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ما أمرتكم بقتال في الشهر الحارم
فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا
فلما قال ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال
فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان
وقالت يهود تفاءل بذلك على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله عمرو عمرت الحرب والحضرمي حضرت الحرب
وواقد بن عبد الله وقدت الحرب
فجعل الله تبارك وتعالى ذلك عليهم لا لهم
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله البقرة 217
أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به وعن المسجد الحرام وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم والفتنة أكبر من القتل أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل
فلما نزل القران بهذا من الأمر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العير والأسيرين وبعثت قريش في فدائهما فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا حتى يقدم صاحبانا يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان فإنا نخشاكم عليهما فان تقتلوهما نقتل صاحبيكم
فقدم سعد وعتبة فأفدى الأسيرين عند ذلك منهم

فأما الحكم فاسلم فحسن إسلامه وأقام عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى استشهد يوم بئر معونة واما عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا
فلما تجلى عن عبد الله بن جحش واصحابه ما كانوا فيه حتى نزل القران طمعوا في الأجر فقالوا يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها اجر المجاهدين فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم البقرة 218
فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في تلك الغزوة أبياتا ويقال بل عبد الله بن جحش قالها حين قالت قريش قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم وأخذوا المال وأسروا الرجال
تعدون قتلا في الحرام عظيمة
وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد
وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهله
لئلا يرى في البيت لله ساجد
فإنا وإن عيرتمونا بقتله
وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دما وابن عبد الله عثمان بيننا
ينازعه غل من القيد عاقد
الطويل

غزوة بدر الكبرى

قال ابن إسحاق ثم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة
فندب المسلمين إليهم وقال هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها
فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يلقي حربا
وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا حتى أصاب من بعضهم خبرا باستنفار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} له ولعيره فحذر عند ذلك واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة ليخبر قريشا بذلك ويستنفرهم إلى أموالهم فخرج ضمضم سريعا

وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث رؤيا أفزعتها فقالت لأخيها العباس يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا لقد أفظعتني وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فاكتم عني ما أحدثك
فقال لها وما رأيت
قالت رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا أنفروا يا لغدر لمصارعكم في ثلاث
فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبيناهم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها ألا أنفروا يا لغدر إلى مصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على
رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة
قال العباس والله إن هذه لرؤيا وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد
ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان له صديقا فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه عتبة
ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش
قال العباس فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة
فلما رآني قال يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا
فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم فقال لي أبو جهل يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبيئة قال قلت وما ذاك قال الرؤيا التي رأت عاتكة فقلت وما رأت
قال بني عبد المطلب أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساءكم قال زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال انفروا في ثلاث
فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك حقا ما تقول فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب
قال العباس فوالله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا ثم تفرقنا

فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ثم لم يكن عندك غيرة بشيء مما سمعت فقلت قد والله فعلت وما كان مني إليه من كبير وايم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفيكنه
قال فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أنه قد فاتني أمر أحب أن أدركه منه فدخلت المسجد فرأيته وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به إذ خرج نحو باب المسجد يشتد فقلت في نفسي ما له لعنه الله أكل هذا فرقا مني أن أشاتمه وإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدعه وحول رحله وشق قميصه وهو يقول يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث
قال فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر
فتجهز الناس سراعا وقالوا أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي كلا والله ليعلمن غير ذلك
فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا
وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أن أبا لهب تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة
وكانت عليه لأبي لهب أربعة آلاف درهم فاستأجره بها على أن يجزيء عنه بعثه
وأجمع أمية بن خلف القعود وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهري قومه بمجمرة فيها نار ومجمر حتى أوضعها بين يديه ثم قال يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء فقال قبحك الله وقبح ما جئت به
ثم تجهز وخرج مع الناس
ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا السير ذكروا حربا كانت بينهم وبين بني بكر ابن عبد مناة بن كنانة وقالوا إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك يثبتهم فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي وكان من

أشراف بني كنانة فقال أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه
فخرجوا سراعا
وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وكان أبيض وكان أمام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه والأخرى مع بعض الأنصار وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ فيما قال ابن هشام
فسلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} طريقه من المدينة إلى مكة حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء الجهينيين إلى بدر يتجسسان له الأخبار عن أبي سفيان وغيره
فمضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء فسمعا جاريتين من جواري الحاضر تتلازمان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها إنما ترد العير غدا أو بعده فأعمل لهم ثم أقضيك
فقال مجدي بن عمرو وكان على الماء صدقت ثم خلص بينهما
فلما سمع بذلك عدي وبسبس انطلقا حتى أتيا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبراه
ثم تقدم أبو سفيان العير حذرا حتى ورد الماء فقال لمجدي هل أحسست أحدا قال لا إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا
فأتي أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى فقال هذه والله علائف يثرب فأسرع إلى أصحابه فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل بها وترك بدرا بيساره
ثم ارتحل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أتى واديا يقال له ذفران فجزع فيه ثم نزل
وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فأخبر الناس واستشارهم

فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خيرا ودعا له ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أشيروا علي
وإنما يريد الأنصار وذلك أنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم إلى عدو فلما قال ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال له سعد بن معاذ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال أجل قال فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله
فسر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال سيروا وأبشروا فإن الله تبارك وتعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم
ثم ارتحل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من ذفران حتى نزل قريبا من بدر فركب هو
ورجل من أصحابه قيل هو أبو بكر الصديق حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا أخبرتنا أخبرناك

قال أو ذاك بذاك قال نعم قال الشيخ فإني بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش
فلما فرغ من خبره قال ممن أنتما فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نحن من ماء
ثم انصرف عنه رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قال يقول الشيخ ما من ماء أمن ماء العراق
ثم رجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أصحابه فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه فأصابوا راوية لقريش فيها غلامان لبعضهم فأتوا بهما فسألوهما ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} قائم يصلي فقالا نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلما أذلقوهما قالا نحن لأبي سفيان فتركوهما
وركع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وسجد سجدتيه ثم سلم وقال إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله انهما لقريش أخبراني عن قريش
فقالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى قال كم القوم قالا كثير
قال ما عدتهم قالا ما ندري
قال كم ينحرون كل يوم قالا يوما تسعا ويوما عشرا
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} القوم ما بين التسعمائة والألف
ثم قال لهما من فيهم من أشراف قريش قالا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث ابن عامر وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو
جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود
فأقبل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على الناس فقال هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها

وأقبلت قريش فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا فقال إني أرى فيما يرى النائم وإني لبين النائم واليقظان إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له ثم قال قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف وفلان وفلان فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش ثم رأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه
فبلغت أبا جهل فقال وهذا أيضا نبي آخر من بني المطلب سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا
قال ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش إنكم خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا
قال أبو جهل والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان موسما للعرب لهم به سوق كل عام فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها فامضوا
وقال الأخنس بن شريق الثقفي يا بني زهرة وكان حليفا لهم قد نجى الله أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فاجعلوا بي جنبها وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة لا ما يقول هذا
فرجعوا فلم يشهدها زهري واحد أطاعوه وكان فيهم مطاعا
ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس إلا بنو عدي بن كعب لم يخرج منهم رجل واحد فرجعت بنو زهرة مع الأخنس فلم يشهد بدرا من هذين القبيلين أحد
وكان بين طالب بن أبي طالب وكان في القوم وبين بعض قريش محاورة فقالوا والله لقد عرفنا يا بني هاشم وإن خرجتم معنا أن هواكم لمع محمد
فرجع طالب إلى مكة مع من رجع وقال
لا هم إما يغزون طالب
في عصبة مخالفا محارب
في مقنب من هذه المقانب
فليكن المسلوب غير السالب
وليكن المغلوب غير الغالب
السريع

ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل والقلب ببدر في العدوة الدنيا إلى المدينة
وبعث الله عز وجل السماء وكان الوادي دهسا فأصاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا علي أن يرتحلوا معه
فخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يبادرهم إلى الماء حتى إذا جاءوا أدنى ماء من بدر نزلوا به
فذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري قال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة
فقال بل هو الرأي والحرب والمكيدة
قال يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لقد أشرت بالرأي
فنهض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومن معه من الناس فساروا حتى إذا أتي أدنى ماء إلى القوم نزل عليه ثم أمر بالقلب فغورت وبني حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية
وقال سعد بن معاذ يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد حبا لك منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله عز وجل بهم يناصحونك ويجاهدون معك
فأثني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليه خيرا ودعا له بخير ثم بني لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} عريش فكان فيه
وارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت فلما رآها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تصوب من الكثيب الذي جاءوا منه قال اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني به اللهم أحنهم الغداة

وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري أو أبوه بعث إلى قريش حين مروا به ابنا له بجزائر أهداها لهم وقال إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا
فأجابوه أن وصلتك رحم قد قضيت الذي عليك فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم ولئن كنا إنما نقاتل الله كما يزعم محمد ما لأحد بالله من طاقة
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش فيهم حكيم بن حزام حتى وردوا حوض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال دعوهم
فما شرب منه يومئذ رجل إلا قتل إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل ثم أسلم بعد فحسن إسلامه فكان إذا اجتهد في يمينه قال لا والذي نجاني من يوم بدر
ولما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا احزر لنا أصحاب محمد
فدار بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال ثلاثمائة رجل يزيدون
قليلا أو ينقصونه ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد وضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا فرجع إليهم فقال ما رأيت شيئا ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة فقال يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها هل لك إلى أن لا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر قال وما ذلك يا حكيم قال ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي
قال قد فعلت أنت علي بذلك إنما هو حليفي فعلي عقله وما أصيب من ماله فأت ابن الحنظلية يعني أبا جهل فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره
ثم قام عتبة خطيبا فقال

يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا والله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب فإن أصابوه فذلك الذي أردتم وإن كان غير ذلك ألقاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون
وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رأى عتبة في القوم على جمل له أحمر فقال إن يك عند أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا
قال حكيم فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد نثل درعا له من جرابها فهو يهيئها فقلت له يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا للذي قال
فقال انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وما بعتبة ما قال ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه
ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينيك فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك
فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ واعمراه واعمراه فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوسقوا علي ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل انتفخ والله سحره قال سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو
ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له
وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي وكان رجلا شرسا سيئ الخلق فقال أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه
فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فضربه فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد زعم أن يبر يمينه وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض

ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة حتى إذا نصل من الصف دعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبد الله بن رواحة
فقالوا من أنتم قالوا رهط من الأنصار
قالوا ما لنا بكم من حاجة ثم نادى مناديهم يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قم يا عبيدة بن الحارث وقم يا حمزة وقم يا علي
فلما قاموا ودنوا منهم قالوا من أنتم فقال عبيدة عبيدة وقال حمزة حمزة وقال علي علي
قالوا نعم أكفاء كرام
فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز علي الوليد
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله
وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله
واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه
وذكر ابن عقبة أنه لما طلب القوم المبارزة فقام إليهم ثلاثة نفر من الأنصار استحيا النبي {صلى الله عليه وسلم} من ذلك لأنه كان أول قتال التقى فيه المسلمون والمشركون ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} شاهد معهم فأحب النبي {صلى الله عليه وسلم} أن تكون الشوكة ببني عمه فناداهم أن ارجعوا إلى مصافكم وليقم إليهم بنو عمهم
فعند ذلك قام حمزة وعلي وعبيدة
ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض وأمر سول الله {صلى الله عليه وسلم} أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم وقال إن أكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل
ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} في العريش معه أبو بكر الصديق وكان شعار أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أحد أحد
وعدل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ صفوف أصحابه وفي يده قدح يعدل به القوم فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مستنثل من الصف أي بارز فطعن في بطنه بالقدح وقال استويا سواد
فقال يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني

فكشف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن بطنه وقال استقد فاعتنقه فقبل بطنه فقال له ما حملك على هذا يا سواد قال يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له بخير وقاله له
ثم عدل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر ليس معه فيه غيره ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد
وأبو بكر يقول يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك
وخفق رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال أبشر يا أبا
بكر أتاك نصر الله هذا جبريل آخذا بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع
يريد الغبار
ورمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتله فكان أول قتيل من المسلمين
ثم رمي حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار وهو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فقتله
ثم خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى الناس فحرضهم ثم قال والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة
فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة وفي يده تمرات يأكلهن بخ بخ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل
وقال يومئذ عوف بن الحارث وهو ابن عفراء يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده فقال غمسه يده في العدو حاسرا فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل
وقاتل عكاشة بن محصن الأسدي حليف بني عبد شمس يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأعطاه جذلا من حطب فقال قاتل بهذا يا عكاشة فلما أخذه هزه فعاد في يده سيفا طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين وكان ذلك السيف يسمى العون ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى قتل في الردة وهو عنده قتله طليحة الأسدي

ثم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم قال شاهت الوجوه ثم نفحهم بها ثم أمر أصحابه فقال شدوا فكانت الهزيمة عليهم
وجعل الله تلك الحصباء عظيما شأنها لم تترك من المشركين رجلا إلا ملأت عينيه
واستولى عليهم المسلمون معهم الله وملائكته يقتلونهم ويأسرونهم ويجدون النفر كل رجل منهم منكب على وجهه لا يدري أين يتوجه يعالج التراب ينزعه من عينيه
فقتل الله من قتل من صناديد قريش وأسر من أسر من أشرافهم
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} متوشح السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خوف كرة العدو عليه رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس فقال له لكأنك والله يا سعد تكره ما يصنع القوم فقال أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك فكان الإثخان في القتل أحب إلي من استقبال الرجال
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ لأصحابه إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله ومن لقي العباس عم رسول الله فلا يقتله فإنه إنما خرج مستكرها
فقال أبو حذيفة أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس والله لئن وجدته لألحمنه السيف
فبلغت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لعمر بن الخطاب يا أبا حفص
قال عمر والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بأبي حفص
أيضرب وجه عم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالسيف فقال عمر يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف فوالله لقد نافق
فكان أبو حذيفة يقول ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا رحمه الله
وإنما نهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عنه

بمكة وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب
فلقيه المجذر بن زياد البلوي حليف الأنصار يوم بدر فقال له إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد نهانا عن قتلك ومع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة قال وزميلي قال المجذر لا والله ما نحن بتاركي زميلك ما أمرنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلا بك وحدك
قال إذا والله لأموتن أنا وهو جميعا لا تحدث عني نساء مكة إني تركت زميلي حرصا على الحياة وقال يرتجز
لن يسلم ابن حرة زميله
حتى يموت أو يرى سبيله
ثم اقتتلا فقتله المجذر ثم أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلني فقاتلته فقتلته
هذا الذي ذكر ابن إسحاق في قتل أبي البختري
وقال موسى بن عقبة يزعم ناس أن أبا اليسر قتل أبا البختري ويأبى أعظم الناس إلا أن المجذر هو الذي قتله
ثم اضرب ابن عقبة عن القولين وقال بل قتله غير شك أبو داود المازني وسلبه سيفه فكان عند بنيه حتى باعه بعضهم من بعض بني أبي البختري
وكان المجذر قد ناشده أن يستأسر وأخبره بنهي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن قتله فأبى أبو البختري أن يستأسر وشد عليه المجذر بالسيف وطعنه الأنصاري يعني أبا داود المازني بين ثدييه فأجهز عليه فقتله
ويومئذ قال المجذر فيما ذكروا
أما جهلت أو نسيت نسبي
فاثبت النسبة أني من بلي
الطاعنين برماح اليزنى
والضاربين الكبش حتى ينحني
بشر بيتم من أبوه البختري
أو بشرن بمثلها مني بني
أنا الذي يقال أصلي من بلي
أطعن بالصعدة حتى تنثني
وأعبط القرن بعضب مشرفي
أرزم للموت كإرزام المري
فلا ترى مجذرا يفري فري
الرجز
وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة وكان اسمي عبد عمرو فلما أسلمت تسميت عبد الرحمن فكان يلقاني فيقول يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبوك فأقول نعم

فيقول فإني لا أعرف الرحمن فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف
فقلت له يا أبا علي اجعل ما شئت
قال فأنت عبد الإله
فقلت نعم
حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه علي آخذ بيده ومعي أدراع لي قد استلبتها فأنا أحملها فلما رآني قال يا عبد عمرو
فلم أجبه فقال يا عبد الإله
فقلت نعم
قال هل لك في فأنا خير لك من هذه الأدراع قلت نعم
فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده ويد ابنه وهو يقول ما رأيت كاليوم قط أما لكم حاجة في اللبن يريد الفداء
وقال عبد الرحمن قال لي أمية وأنا بينه وبين ابنه آخذ بأيديهما من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره قلت ذلك حمزة بن عبد المطلب
قال ذلك الذي فعل بنا الأفاعيل
قال عبد الرحمن فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال وكان هو الذي يعذبه بمكة على ترك الإسلام فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول لا تزال هكذا أو
تفارق دين محمد
فيقول بلال أحد أحد
فلما رآه قال رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجوت قال قلت أي بلال أبأسيري
قال لا نجوت إن نجا
قلت أتسمع يا ابن السوداء قال لا نجوت إن نجا
ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا
فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة وأنا أذب عنه فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط فقلت انج بنفسك ولا نجاء به فوالله ما أغني عنك شيئا فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما فكان عبد الرحمن يقول رحم الله بلالا ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري
وقاتلت الملائكة يوم بدر
قال ابن عباس ولم تقاتل في يوم سواه وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون وكانت سيماهم يوم بدر عمائم بيضاء قد أرسلوها في ظهورهم ويوم حنين عمائم حمرا

وذكر ابن هشام عن علي رضي الله عنه في سيماهم يوم بدر مثل ما قال ابن عباس إلا جبريل فإن في حديث علي أنه كانت عليه عمامة صفراء
وقال ابن عباس حدثني رجل من غفار قال أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر لمن تكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل فسمعت قائلا يقول أقدم حيزوم
فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت
وقال أبو أسيد الساعدي بعد أن ذهب بصره وكان شهد بدرا لو كنت
اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى
وقال أبو داود المازني إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قد قتله غيري
فلما فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من عدوه أمر بأبي جهل أن يلتمس في القتلى وقال لهم انظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح في ركبته فإني ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أشف منه بيسير فدفعته فوقع على ركبتيه فجحشت في إحداهما جحشا لم يزل أثره به
وكان من حديث عدو الله يوم بدر أنه لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قال اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة
فكان هو المستفتح وأقبل يرتجز وهو يقول
ما تنقم الحرب العوان مني
بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
السريع
وكان أول من لقيه فيما ذكر معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة قال سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة يقولون أبو الحكم لا يخلصن إليه

فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه فضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها وعاش بعد ذلك معاذ هذا رحمه الله إلى زمان عثمان رضي الله عنه
ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق وقاتل معوذ حتى قتل
فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالتماسه في القتلى
قال عبد الله وقد كان ضبث بي مرة بمكة فآذاني ولكزني فوجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه ثم قلت له أخزاك الله يا عدو الله قال وبماذا أخزاني أعمد من رجل قتلتموه أخبرني لمن الدائرة اليوم قلت لله ولرسوله
ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلت يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل
فقال آلله الذي لا إله غيره وكانت يمين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قلت نعم والله الذي لا إله إلا غيره
ثم ألقيت رأسه بين يديه فحمد الله
وخرج مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف قال بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت لو كنت بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال يا عم هل تعرف أبا جهل قلت نعم وما حاجتك إليه يا ابن أخي قال أخبرت أنه يسب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا
قال فتعجبت لذلك فغمزني الآخر فقال مثلها
قال فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألان عنه
فابتدراه فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبراه فقال أيكما قتله فقال كل واحد منهما أنا قتلته
فقال هل مسحتما سيفيكما قالا لا فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله
وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح

والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء
وذكر ابن عقبة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقف يوم بدر على القتلى فالتمس أبا جهل فلم يجده حتى عرف ذلك في وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال اللهم لا يعجزن فرعون هذه الأمة
فسعى له الرجال حتى وجده عبد الله بن مسعود مصروعا بينه وبين المعركة غير كبير مقنعا في الحديد واضعا سيفه على فخذيه ليس به جرح ولا يستطيع أن يحرك منه عضوا وهو مكب ينظر إلى الأرض فلما رآه ابن مسعود طاف حوله ليقتله وهو خائف أن ينوء إليه فلما دنا منه وأبصره لا يتحرك ظن أنه مثبت جراحا فأراد أن يضربه بسيفه فخاف أن لا يغني شيئا فأتاه من ورائه فتناول قائم سيف أبي جهل فاستله وهو مكب لا يتحرك ثم رفع سابغة البيضة عن قفاه فضربه فوقع رأسه بين يديه ثم سلبه فلما نظر إليه إذا هو ليس به جراح وأبصر في عنقه حدرا وفي يديه وكتفه مثل آثار السياط
فأتى ابن مسعود النبي {صلى الله عليه وسلم} فأخبره بقتله والذي رأى به فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} زعموا ذلك ضرب الملائكة
وأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالقتلى أن يطرحوا في القليب فطرحوا فيه إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأها فذهبوا ليحركوه فتزايل فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة
ويقال إنهم لما ألقوا في القليب وقف عليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس
يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا
فقال له أصحابه يا رسول الله أتكلم قوما موتى
فقال لهم لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق
قالت عائشة والناس يقولون لقد سمعوا ما قلت لهم وإنما قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لقد علموا
وفي حديث أنس أن المسلمين قالوا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين نادى أصحاب القليب يا رسول الله أتنادي قوما قد جيفوا
فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني

وذكر ابن عقبة نحوا من ذلك عن نافع عن عبد الله بن عمر وقال حسان بن ثابت
عرفت ديار زينب بالكثيب
كخط الوحي في الورق القشيب
تداولها الرياح وكل جون
من الوسمي منهمر سكوب
فأمسى رسمها خلقا وأمست
يبابا بعد ساكنها الحبيب
فدع عنك التذكر كل يوم
ورد حرارة الصدر الكئيب
وخبر بالذي لا عيب فيه
بصدق غير أخبار الكذوب
بما صنع المليك غداة بدر
لنا في المشركين من النصيب
غداة كأن جمعهم حراء
بدت أركانه جنح الغروب
فلاقيناهم منا بجمع
كأسد الغاب مردان وشيب
أمام محمد قد وازروه
على الأعداء في لقح الحروب
بأيديهم صوارم مرهفات
وكل مجرب ماضي الكعوب
بنو الأوس الغطارف آزرتها
بنو النجار في الدين الصليب
فغادرنا أبا جهل صريعا
وعتبة قد تركنا بالحبوب
وشيبة قد تركنا في رجال
ذوي حسب إذا نسبوا حسيب
يناديهم رسول الله لما
قذفناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا كلامي كان حقا
وأمر الله يأخذ بالقلوب
فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا
صدقت وكنت ذا رأي مصيب
الوافر
ولما أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يلقوا في القليب أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب فنظر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما ذكر في وجه أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير فقال يا أبا حذيفة لعلك دخلك من شأن أبيك شيء أو كما قال {صلى الله عليه وسلم}
قال لا والله يا رسول الله ما شككت في أبي ولا في مصرعه ولكني كنت
أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك
فدعا له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخير وقال له خيرا

وكان في قريش فتية أسلموا ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة فلما هاجر إلى المدينة حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا به جميعا فنزل فيهم من القرآن فيما ذكر إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا 97 النساء
وأولئك الفتية الحارث بن زمعة بن الأسود وأبو قيس بن الفاكه وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وعلي بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج
ثم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع
فاختلف فيه المسلمون فقال من جمعه هو لنا
وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه والله لولا نحن ما أصبتموه لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم
وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مخافة أن يخالف إليه العدو
والله ما أنتم بأحق به منا لقد رأينا أن نقتل العدو إذ منحنا الله أكتافهم ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه ولكنا خفنا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كرة العدو فقمنا دونه فما أنتم بأحق به منا
فكان عبادة بن الصامت إذا سئل عن الأنفال قال فينا معاشر أصحاب بدر أنزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسوله {صلى الله عليه وسلم} فقسمه بيننا عن بواء
يقول على السواء
فكان في ذلك تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله وصلاح ذات البين
ثم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عبد الله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية بما فتح الله على رسوله وعلى المسلمين وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة قال أسامة بن زيد فأتانا الخبر حين سوينا على رقية بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خلفني عليها مع زوجها عثمان أن زيد بن حارثة قد قدم

قال فجئته وهو واقف بالمصلى وقد غشيه الناس وهو يقول قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وزمعة بن الأسود وأبو البختري ابن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج
قلت يا أبه أحق هذا قال نعم والله يا بني
ثم أقبل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قافلا إلى المدينة ومعه الأساري من المشركين وفيهم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث حتى إذا خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مضيق الصفراء نزل على كثيب يقال له سير إلى سرحة به فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء
ثم ارتحل حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين فقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش ما الذي تهنئوننا به فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعلقة فنحرناها فتبسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال أي ابن أخي أولئك الملأ
حتى إذا كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالصفراء قتل النضر بن الحارث قتله علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظبية قتل عقبة بن أبي معيط فقال عقبة حين أمر بقتله فمن للصبية يا محمد قال النار
فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح في قول ابن عقبة وابن إسحاق
وقال ابن هشام قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وقالت قتيلة أخت النضر بن الحارث لما بلغها مقتل أخيها
يا راكبا إن الأثيل مظنة
من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ بها ميتا بأن تحية
ما إن تزال بها الركائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة
حادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعني النضر إن ناديته
أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد يا خير ضئو كريمة
في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
من الفتى وهو المغيظ المحنق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة
وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
لله أرحام هناك تشقق
الكامل
قال ابن هشام فيقال والله أعلم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما بلغه هذا الشعر قال لو بلغني هذا الشعر قبل مقتله لمننت عليه

ثم مضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى قدم المدينة قبل الأساري بيوم وقد كان فرقهم بين أصحابه وقال استوصوا بالأساري خيرا
وكان أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأساري قال وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إياهم بنا ما تقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها قال فأستحي فأردها عليه فيردها علي ما يمسها
قال ومر بي أخي مصعب ورجل من الأنصار يأسرني فقال له شد يديك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك فقال له أبو عزيز فيما ذكر ابن هشام يا أخي هذه وصاتك بي فقال له مصعب إنه أخي دونك فسألت أمه عن أغلى ما فدي به قرشي فقيل لها أربعة آلاف درهم فبعثت ففدته بها
وذكر قاسم بن ثابت في دلائله أن قريشا لما توجهت إلى بدر مر هاتف
من الجن على مكة في اليوم الذي أوقع بهم المسلمون وهو ينشد بأبعد صوت ولا يرى شخصه
أزار الحنيفيون بدرا وقيعة
سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أبادت رجالا من لؤي وأبرزت
خرائد يضربن الترائب حسرا
فيا ويح من أمسى عدو محمد
لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا
الطويل
فقال قائلهم من الحنيفيون فقالوا هو محمد وأصحابه يزعمون انهم على دين إبراهيم الحنيف ثم لم يلبثوا أن جاءهم الخبر اليقين
وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا ما وراءك قال قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر والله أن يعقل هذا فسلوه عني قالوا ما فعل صفوان بن أمية قال ها هو ذاك جالس في الحجر وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا

وقال أبو رافع مولى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت فأسلم العباس وأم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم فكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وعزة وكنت أعمل الأقداح في حجرة زمزم فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي وعندي أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس إلى طنب الحجرة ظهره إلى ظهري
فبينا هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم
فقال أبو لهب هلم إلي فعندك لعمري الخبر فجلس إليه والناس قيام عليه فقال يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس قال والله ما هو إلا أن لقينا القوم منحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء
قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت تلك والله الملائكة فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة وثاورته فاحتملني وضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة
وقالت أتستضعفه أن غاب عنه سيده فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتله
وذكر محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها ويرون أنها تعدي أشد العدوى
فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه وبقي بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه

وقال ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير عنه إنهم لم يحفروا له ولكن أسندوه إلى حائط وقذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط حتى واروه
ويروى أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها
وخرج البخاري في صحيحه أن أبا لهب رآه بعض أهله في المنام بشر حيبة أي حالة فقال ما لقيت بعدكم راحة غير أني سقيت في مثل هذه وأشار إلى النقرة بين السبابة والإبهام بعتقي ثويبة
وثويبة هذه أرضعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأرضعت عمه حمزة وأبا سلمة بن عبد الأسد
وروى غير البخاري أن الذي رأى أبا لهب من أهله هو أخوه العباس وأنه قال مكثت حولا بعد موت أبي لهب لا أراه في نوم ثم رأيته في شر حال فقال ما لقيت بعدكم راحة إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين
وذلك أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولد يوم الاثنين فبشرت أبا لهب بمولده ثويبة مولاته فقالت له أشعرت أن آمنة ولدت غلاما لأخيك عبد الله فقال لها اذهبي فأنت حرة فنفعه ذلك وهو في النار كما نفع أخاه أبا طالب ذبه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} واجتهاده في منعه ونصرته فهو أهون أهل النار عذابا
ويفعل الله ما يشاء مما يطابق سابق تقديره وقد قضى الله سبحانه بإحباط عمل الكافرين فمحال أن يقيم لهم يوم القيامة وزنا أو ينالوا عنده بشيء قدموه مما يتصور بصورة الأعمال الصالحة نعيما إلا أنه ربما جعل التفاوت بين جماهيرهم وبين من شاء منهم بمقدار العذاب فيضاعفه على قوم أضعافا ويضع من شدائده عن آخرين تخفيفا
وكل عذاب الله شديد فنعوذ برضا مولانا الكريم من سخطه وبمعافاته من عقوبته
وحدث محمد بن إسحاق بن يسار عن يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير قال ناحت قريش على قتلاهم ثم قالوا لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء

قال وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده زمعة وعقيل ابناه والحارث بن زمعة وهو ابن ابنه وكان يحب أن يبكي عليهم فسمع نائحة من الليل فقال لغلام له وقد ذهب بصره انظر هل أحل النحب هل
بكت قريش على قتلاها لعلي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة فإن جوفي قد احترق
فلما رجع إليه الغلام قال إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته
قال فذاك حين يقول الأسود
أتبكي أن يضل لها بعير
ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن
على بدر تقاصرت الجدود
الوافر
في أبيات ذكرها ابن إسحاق
وقد تقدم دعاء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على الأسود بن عبد المطلب هذا بأن يعمى الله بصره ويثكله ولده فاستجيب له وفق دعائه سبق العمي أولا إلى بصره ثم أصيب يوم بدر بمن سمي آنفا من ولده فتمت إجابة الله سبحانه رسوله فيه
وكان في الأساري أبو وداعة السهمي فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال وكأنكم به قد جاءكم في طلب فداء أبيه فلما قالت قريش لا تعجلوا بفداء أسراكم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه قال المطلب ابن أبي وداعة وهو الذي كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عني صدقتم لا تعجلوا
وانسل من الليل فقدم المدينة فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم
ثم بعثت قريش في فداء الأساري فقدم مكرز بن حفص بن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو وكان الذي أسره مالك بن الدخشم أخو بني سالم بن عوف فلما قاولهم فيه مكرز وانتهى إلى رضاهم قالوا هات الذي لنا قال اجعلوا رجلي مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه
فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزا مكانه عندهم فقال مكرز
فديت بأذواد ثمان سبا فتى
ينال الصميم غرمها لا المواليا
رهنت يدي والمال أيسر من يدي
علي ولكني خشيت المخازيا
وقلت سهيل خيرنا فاذهبوا به
لأبنائنا حتى ندير الأمانيا
الطويل

وكان سهيل قد قام في قريش خطيبا عندما استنفرهم أبو سفيان فقال يا لغالب أتاركون أنتم محمدا والصبا من أهل يثرب يأخذون عيرانكم وأموالكم من أراد مالا فهذا مالي ومن أراد قوة فهذه قوة
فيروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما أسر سهيل يوم بدر يا رسول الله انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه
فصدق الله ورسوله وكان لسهيل بعد وفاته {صلى الله عليه وسلم} في تثبيت أهل مكة على الإيمان مقام سيأتي ذكر حديثه في موضعه إن شاء الله
وكان عمرو بن أبي سفيان بن حرب أسيرا في يدي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أساري بدر فقيل لأبي سفيان بن حرب أفد عمرا ابنك
فقال أيجمع علي دمي ومالي قتلوا حنظلة وأفدي عمرا دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم
فبينا هو كذلك محبوس بالمدينة عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال أخو بني عمرو بن عوف معتمرا ومعه مرية له وكان شيخا مسلما في غنم له بالبقيع فخرج من هنالك معتمرا ولا يخشى الذي صنع به لم يظن أنه يحبس بمكة إنما جاء معتمرا وقد كان عهد قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة فحبسه بابنه عمرو
ثم قال
أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه
تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو لئام أذلة
لئن لم تفكوا عن أسيرهم الكبلا
الطويل
فأجابه حسان بن ثابت فقال
ولو كان سعد يوم مكة مطلقا
لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلا
بعضب حسام أو بصفراء نبعة
تحن إذا ما أنبضت تحفز النبلا
الطويل
ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبروه خبره وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا به صاحبهم ففعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد

وكان في الأساري أيضا أبو العاص بن الربيع بن عبد العزي بن عبد شمس ختن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زوج ابنته زينب وكان {صلى الله عليه وسلم} يثني عليه في صهره خيرا وكان من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة وهو ابن أخت خديجة رضي الله عنها وهي سألت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن ينزل عليه الوحي أن يزوجه وكان لا يخالفها فزوجه وكانت تعدة بمنزلة ولدها
فلما أكرم الله رسوله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن ينزل عليه الوحي أن يزوجه وكان لا يخالفها فزوجه وكانت تعدة بمنزلة ولدها فلما أكرم الله رسوله بنبوته آمنت به خديجة وبناته فصدقنه ودن بدينه وشهدن أن الذي جاء به هو الحق وثبت أبو العاص على شركه
فلما بادى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قريشا بأمر الله تبارك وتعالى وبالعداوة قالوا إنكم فرغتم محمدا من همه فردوا عليه بناته فاشغلوه بهن
فمشوا إلى أبي العاص فقالوا له فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة من قريش شئت
قال لا ها الله إذا لا أفارق صاحبتي وما أحب أن لي بها امرأة من قريش
ثم مشوا إلى عتبة بن أبي لهب وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد زوجه رقية أو أم كلثوم فقالوا له طلق ابنة محمد ونحن ننكحك أي امرأة من قريش شئت فقال إن زوجتموني ابنة أبان بن سعيد بن العاص أو ابنة سعيد بن العاص وفارقها
فزوجوه بنت سعيد بن العاص وفارقا ولم يكن دخل بها فأخرجها الله من يده كرامة لها وهوانا له
وخلف عليها عثمان بن عفان بعده
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا يحل بمكة ولا يحرم مغلوبا على أمره وكان
الإسلام قد فرق بين زينب ابنته وبين أبي العاص إلا أنه كان لا يقدر أن يفرق بينهما فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه حتى هاجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم}

فلما سارت قريش إلى بدر سار فيهم أبو العاص فأصيب في الأساري فكان بالمدينة عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بني بها فلما رآها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رق لها رقة شديدة وقال إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا قالوا نعم يا رسول الله
فأطلقوه وردوا عليها مالها
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد أخذ عليه أن يخلي سبيل زينب إليه أو وعده أبو العاص بذلك أو شرطه عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في إطلاقه ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيعلم ما هو
إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخلى سبيله بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكانه زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار فقال كونا ببطن يأجح حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها
فخرجا وذلك بعد بدر بشهر أو سبعة فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت تتجهز
قالت زينب بينا أنا أتجهز بمكة لقيتني هند ابنة عتبة فقالت يا ابنة محمد ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك قالت ما أردت ذلك
قالت أي ابنة عم لا تفعلي إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بمال تتبلغين به إلى أبيك فإن عندي حاجتك فلا تضطني مني فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال
قالت زينب فوالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل ولكني خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك وتجهزت
ولما فرغت بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من جهازها قدم إليها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيرا فركبته وأخذ قوسه وكنانته ثم خرج بها نهارا يقود بها وهي في هودج لها وتحدث بذلك رجال قريش فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود الفهري فروعها هبار بالرمح
وهي في هودج لها وكانت حاملا فيما يزعمون فلما ريعت طرحت ذا بطنها وبرك حموها كنانة ونثر كنانته ثم قال والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما

فتكركر الناس عنه وأتى أبو سفيان بن حرب في جلة من قريش فقال أيها الرجل كف عنا نبلك حتى نكلمك
فكف فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال إنك لم تصب خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد فيظن الناس إذا خرجت إليه ابنته علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا التي كانت وأن ذلك من ضعف ووهن ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة وما لنا في ذلك من ثؤرة ولكن أرجع المرأة حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسلها سرا وألحقها بأبيها
ففعل فأقامت ليالي حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه فقدما بها على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ولما انصرف الذين خرجوا إلى زينب لقيتهم هند بنت عتبة فقالت لهم
أفي السلم أعيار جفاء وغلظة
وفي الحرب أشباه النساء العوارك
الطويل
وأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بسرية بعثها بتحريق هبار بن الأسود أو الرجل الذي سبق معه إلى زينب إن ظفروا بهما ثم بعث إليهم فقال إني كنت قد أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموهما ثم رأيت أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا الله عز وجل فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما
وأقام أبو العاص بمكة وأقامت زينب عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين فرق بينهما الإسلام حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام وكان رجلا مأمونا بمال له وأموال لرجال من قريش أبضعوها معه فلما فرغ من
تجارته وأقبل قافلا لقيته سرية لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأصابوا ما معه وأعجزهم هاربا فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاستجار بها فأجارته وجاء في طلب ماله فلما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى الصبح فكبر وكبر الناس معه صرخت زينب من صفة النساء أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع

فلما سلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الصلاة أقبل على الناس فقال أيها الناس هل سمعتم ما سمعت قالوا نعم قال أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء حتى سمعت ما سمعتم إنه يجير على المسلمين أدناهم
ثم انصرف فدخل على ابنته فقال أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له
وبعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص فقال لهم إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم وقد أصبتم له مالا فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم فأنتم أحق به
قالوا يا رسول الله بل نرده عليه فردوه عليه حتى إن الرجل ليأتي بالدلو ويأتي الرجل بالشنة والإداوة حتى إن الرجل ليأتي بالشظاظ حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئا ثم احتمل إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله ثم قال يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه قالوا لا فجزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما
قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت
ثم خرج حتى قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وحكي ابن هشام عن أبي عبيدة أن أبا العاص لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين قيل له هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال فإنها للمشركين فقال بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي
ومن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على نفر من الأساري من قريش بغير فداء منهم أبو
عزة عمرو بن عبد الله الجمحي كان محتاجا ذا بنات فكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله لقد عرفت مالي من مال وإني لذو حاجة وذو عيال فامنن علي
فمن عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا فقال أبو عزة في ذلك يمدح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويذكر فضله على قومه
ومن مبلغ عني الرسول محمدا
بأنك حق والمليك حميد
وأنت امرؤ تدعو إلى الحق والهدى
عليك من الله العظيم شهيد
وأنت امرؤ بوئت فينا مباءة

لها درجات سهلة وصعود
فإنك من حاربته لمحارب
شقي ومن سالمته لسعيد
ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله
تأوب ما بي حسرة وقعود
الطويل
وذكر موسى بن عقبة أن المسلمين جهدوا على أبي عزة هذا عندما أسر ببدر أن يسلم فقال لا حتى أضرب في الخزرجية يوما إلى الليل
وما وقع في شعره ومحاورته رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مما يقتضي التصريح برسالته فلا أعلم له مخرجا إن صح إلا أن يكون ذلك من جملة ما قصد به أبو عزة أن يخدع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فعاد على عدو الله ما ائتمر ولم يخدع إلا نفسه وما شعر وذلك أنه لما أخذت قريش قبل أحد في الإعداد لحرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} طلبا بثأرهم في يوم بدر قال صفوان بن أمية لأبي عزة هذا يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك فاخرج معنا
فقال إن محمدا قد من علي فلا أريد أن أظاهر عليه
قال بلى فأعنا بنفسك فلك الله علي إن رجعت أن أعينك وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عز ويسر
فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة ويقول
أيا بني عبد مناة الرزام
أنتم حماة وأبوكم حام
لا تعدموني نصركم بعد العام
لا تسلموني لا يحل إسلام
الراجز
ثم كان من الأمر يوم أحد ما كان وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد الوقعة
مرهبا لعدوه حتى انتهى إلى حمراء الأسد فأخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في وجهه ذلك أبا عزة الجمحي فقال يا رسول الله أقلني
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول خدعت محمدا مرتين اضرب عنقه يا زبير
فضرب عنقه
وذكر ابن هشام فيما بلغه عن سعيد بن المسيب أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال له إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت فضرب عنقه
وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش وممن كان يؤذي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه بمكة ويلقون منه عنتا وكان ابنه وهب بن عمير في أساري بدر فجلس عمير مع صفوان بن أمية في الحجر بعد مصاب أهل بدر بيسير فذكر أصحاب القليب ومصابهم فقال له صفوان فوالله إن في العيش خير بعدهم

فقال له عمير صدقت والله أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله فإن لي فيهم علة ابني أسير في أيديهم
فاغتنمها صفوان فقال علي دينك أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا لا يسعني شيء ويعجز عنهم قال عمير فاكتم عني شأني وشأنك قال أفعل
ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم ثم انطلق حتى قدم المدينة
فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ويذكرون ما أكرمهم الله به وما أراهم من عدوهم إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحا السيف فقال هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر وهذا الذي حرش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر
ثم دخل عمر على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه
قال فأدخله علي
فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها وقال لرجال من الأنصار كانوا معه ادخلوا على رسول
الله {صلى الله عليه وسلم} فاجلسوا عنده واحذروا عليه هذا الخبيث فإنه غير مأمون
ثم دخل به فلما رآه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كذلك قال أرسله يا عمر أدن يا عمير
فدنا ثم قال أنعموا صباحا وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير بالسلام تحية أهل الجنة قال أما والله إن كنت بها يا محمد لحديث عهد
قال فما جاء بك يا عمير قال جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه قال فما بال السيف في عنقك فقال قبحها الله من سيوف وهل أغنت شيئا قال اصدقني ما الذي جئت له قال ما جئت إلا لذلك
قال بلى قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له والله حائل بينك وبين ذلك

قال عمير أشهد أنك رسول الله قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق
ثم شهد بشهادة الحق فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقهوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرآن وأطلقوا له أسيره ففعلوا
ثم قال يا رسول الله إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله شديد الأذى لمن كان على دين الله وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله والى الإسلام لعل الله يهديهم وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم
فأذن له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلحق بمكة
وكان صفوان حين خرج عمير يقول أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر
وكان يسأل عنه الركبان حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه فحلف أن لا يكلمه أبدا ولا ينفعه بنفع أبدا فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام ويؤذي من خالفه أذى شديدا فأسلم على يديه ناس كثير
وعمير هذا أو الحارث بن هشام يشك ابن إسحاق هو الذي رأى إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر فقال أين أي سراق ومثل عدو الله فذهب
فأنزل الله تبارك وتعالى فيه وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم 48 الأنفال فذكر استدراج إبليس إياهم بتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم لهم حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر من الحرب يقول الله عز وجل فلما تراءت الفئتان ونظر عدو الله إلى جنود الله من الملائكة قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوهم نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون وصدق عدو الله الكذوب رأى ما لم يروا وقال إني أخاف الله والله شديد العقاب فذكر أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة لا ينكرونه حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان نكص على عقبيه فأوردهم ثم أسلمهم
وفي ذلك يقول حسان بن ثابت
قومي الذين هم آووا نبيهم

وصدقوه وأهل الأرض كفار
إلا خصائص أقوام هم سلف
للصالحين مع الأنصار أنصار
مستبشرين بقسم الله قولهم
لما أتاهم كريم الأصل مختار
أهلا وسهلا ففي أمن وفي سعة
نعم النبي ونعم القسم والجار
فأنزلوه بدار لا يخاف بها
من كان جارهم دارا هي الدار
وقاسموهم بها الأموال إذ قدموا
مهاجرين وقسم الجاحد النار
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم
لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
دلاهم بغرور ثم أسلمهم
إن الخبيث لمن والاه غرار
وقال إني لكم جار فأوردهم
شر الموارد فيه الخزي والعار
ثم التقينا فولوا عن سراتهم
من منجدين ومنهم فرقة غاروا
البسيط
ويروى أن قريشا رأوا سراقة المدلجي بعد وقعة بدر وهو الذي تمثل لهم
إبليس في صورته يوم بدر كما تقدم فقالوا له يا سراقة أخرمت الصف وأوقعت فينا الهزيمة فقال والله ما علمت بشيء من أمركم حتى كانت هزيمتكم وما شهدت معكم
فما صدقوه حتى أسلموا وسمعوا ما أنزل الله في ذلك فعلموا أنه كان إبليس تمثل لهم
ولما انقضى أمر بدر أنزل الله تبارك وتعالى فيه من القرآن الأنفال بأسرها
وكان جميع من شهد بدرا من المسلمين من المهاجرين والأنصار من شهدها ومن ضرب له بسهمه وأجره ثلاثمائة رجل وأربعة عشر رجلا من المهاجرين ثلاثة وثمانون رجلا ثلاثة منهم ضرب لهم بسهامهم وأجورهم ولم يشهدوا وهم عثمان بن عفان تخلف على امرأته رقية بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لمرضها الذي توفيت فيه قبل أن يرجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من بدر فضرب له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بسهمه
قال وأجري يا رسول الله قال وأجرك
وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد كانا بالشام فرجعا بعد رجوع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من بدر فضرب لكليهما بسهمه
قال وأجري يا رسول الله قال وأجرك
ومن الأوس واحد وستون اثنان منهم ضرب لهما بسهميهما عاصم بن عدي العجلاني رده رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد أن خرج معه وضرب له بسهمه وخوات بن جبير ضرب له أيضا بسهمه
ومن الخزرج مائة وسبعون رجلا منهم الحارث بن الصمة كسر به بالروحاء فضرب له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بسهمه

واستشهد يومئذ من المسلمين مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أربعة عشر رجلا ستة من قريش عبيدة بن الحارث بن المطلب وعمير بن أبي وقاص الزهري وذو الشمالين بن عبد عمرو حليف بني زهرة وعاقل بن البكير حليف لبني عدي ومهجع مولى عمر بن الخطاب وصفوان بن بيضاء
ومن الأنصار ثمانية نفر خمسة من الأوس سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد
المنذر من بني عمرو بن عوف ويزيد بن الحارث الذي يقال له ابن فسحم من بني الحارث بن الخزرج وعمير بن الحمام من بني سلمة ورافع بن المعلى من بني جشم
وثلاثة من الخزرج من بني النجار حارثة بن سراقة وعوف ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة منهم وهما ابنا عفراء رحمة الله على جميعهم ورضوانه
وكان مع المسلمين يوم بدر من الخيل فرس الزبير بن العوام وفرس مرثد بن أبي مرثد الغنوي وفرس المقداد بن عمرو البهراني
وذكر ابن إسحاق أن جميع من أحصي له من قتلى قريش من المشركين يوم بدر خمسون رجلا
وقال ابن هشام حدثني أبو عبيدة عن أبي عمرو أن قتلى بدر من المشركين كانوا سبعين رجلا و الأسرى كذلك وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب وفي كتاب الله تبارك وتعالى أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها
يقول لأصحاب أحد وكان من استشهد منه سبعين رجلا يقول قد أصبتم يوم بدر مثلي من استشهد منهم يوم أحد سبعين قتيلا وسبعين أسيرا
وأنشدني أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك من قصيدة له ينعي قتلى بدر
( فأقام بالعطن المعطن منهم سبعون عتبة منهم والأسود والكامل
وكان مما قيل في يوم بدر من الشعر قول حمزة بن عبد المطلب يرحمه الله ومن أهل العلم من ينكرها له
آلم تر أمرا كان من عجب الدهر
و للحين أسباب مبينة الأمر
وما ذاك إلا أن قوما أفادهم
فحانوا تواحي بالعقوق وبالكفر
عشية راحوا نحو بدر بجمعهم
فكانوا رهونا للركية من بدر
وكنا طلبنا العير لم نبغ غيرها
فساروا إلينا فالتقينا على قدر
فلما التقينا لم تكن مثنوية
لنا غير طعن بالمثقفة السمر
وضرب ببيض يختلي الهام حدها

مشهرة الألوان بينة الأثر
ونحن تركنا عتبة الغي ثاويا
وشيبة في قتلي تجرجم في الجفر
وعمرو ثوى فيمن ثوى من حماتهم
فشقت جيوب النائحات على عمرو
جيوب نساء من لؤي بن غالب
كرام تفرعن الذوائب من فهر
أولئك قوم قتلوا في ضلالهم
وخلوا لواء غير محتضر النصر
لواء ضلال قاد إبليس أهله
فخاس بهم إن الخبيث إلى غدر
وقال لهم إذ عاين الأمر واضحا
برئت إليكم ما بي اليوم من صبر
فإني أرى ما لا ترون وإنني
أخاف عقاب الله والله ذو قسر
فقدمهم للحين حتى تورطوا
وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر
فكانوا غداة البئر ألفا وجمعنا
ثلاث مئين كالمسدمة الزهر
وفينا جنود الله حين يمدنا
بهم في مقام ثم مستوضح الذكر
فشد بهم جبريل تحت لوائنا
لدى مأزق فيه مناياهم تجري
الطويل
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم بدر ولم ير ابن هشام أحدا يعرفها من أهل العلم بالشعر
ألم تر أن الله أبلي رسوله
بلاء عزيز ذي اقتدار وذي فضل
بما أنزل الكفار دار مذلة
فلاقوا هوانا من إسار ومن قتل
فأمسى رسول الله قد عز نصره
وكان رسول الله أرسل بالعدل
فجاء بفرقان من الله منزل
مبينة آياته لذوي العقل
فآمن أقوام بذاك وأيقنوا
فأمسوا بحمد الله مجتمعي الشمل
وأنكر أقوام فزاغت قلوبهم
فزادهم ذو العرش خبلا على خبل
وأمكن منهم يوم بدر رسوله
وقوما غضابا فعلهم أحسن الفعل
بأيديهم بيض خفاف عصوا بها
وقد حادثوها بالجلاء وبالصقل
فكم تركوا من ناشيء ذي حمية
صريع ومن ذي نجدة منهم كهل
تبيت عيون النائحات عليهم
تجود بإسيال الرشاش وبالوبل
نوائح تنعي عتبة الغي وابنه
وشيبة تنعاه وتنعى أبا جهل
وذا الرجل تنعى وابن جدعان فيهم
مسلبة حري مبينة الثكل
ثوى منهم في بئر بدر عصابة
ذوي نجدات في الحروب وفي المحل
دعا الغي منهم من دعا فأجابه
وللغي أسباب مرمقة الوصل
فأضحوا لدى دار الجحيم بمعزل
عن الشغب والعدوان في أشغل الشغل
الطويل
وقال كعب بن مالك أخو بني سلمة يذكر بدرا
عجبت لأمر الله والله قادر

على ما أراد ليس لله قاهر
قضى يوم بدر أن نلاقي معشرا
بغوا وسبيل الغي في النار جائر
وقد حشدوا واستنفروا من يليهم
من الناس حتى جمعهم متكاثر
وسارت إلينا لا تحاول غيرنا
بأجمعها كعب جميعا وعامر
وفينا رسول الله والأوس حوله
له معقل منهم عزيز وناصر
وجمع بني النجار تحت لوائه
يمشون في الماذي والنقع ثائر
فلما لقيناهم وكل مجاهد
لأصحابه مستبسل النفس صابر
شهدنا بأن الله لا رب غيره
وأن رسول الله بالحق ظاهر
وقد عريت بيض خفاف كأنها
مقاييس يزهيها لعينيك شاهر
بهن أيدنا جمعهم فتبددوا
وكان يلاقي الحين من هو فاجر
فكب أبو جهل صريعا لوجهه
وعتبة قد غادرته وهو عاثر
وشيبة والتيمي غادرن في الوغى
وما منهما إلا بذي العرش كافر
فأمسوا وقود النار في مستقرها
وكل كفور في جهنم صائر
تلظى عليهم وهي قد شب حميها
بزبر الحديد والحجارة ساجر
وكان رسول الله قد قال أقبلوا
فولوا وقالوا إنما أنت ساحر
لأمر أراد الله أن يهلكوا به
وليس لأمر حمه الله زاجر
الطويل
ولضرار بن الخطاب الفهري في هذا الروي شعر ذكر ابن إسحاق أن كعب بن مالك أجابه عنه بهذا الشعر الذي كتبناه آنفا والأظهر من مقتضى الشعر أن ضرارا هو الذي أجاب كعب بن مالك ونقض عليه
وهذا شعر ضرار
عجبت لفخر الأوس والحين دائر
عليهم غدا والدهر فيه بصائر
وفخر بني النجار أن كان معشر
أصيبوا ببدر كلهم ثم صابر
فإن تك قتلى غودرت من رجالنا
فإنا رجال بعدهم سنغادر
وتردي بنا جرد عناجيج وسطكم
بني الأوس حتى يشفي النفس ثائر
ووسط بين النجار سوف نكرها
لها بالقنا والدارعين زوافر
فنترك صرعي تعصب الطير حولهم
وليس لهم إلا الأماني ناصر
وتبكيهم من أهل يثرب نسوة
لهن بهاليل عن النوم ساهر
وذلك أنا لا تزال سيوفنا
بهن دم ممن يحاربن مائر
فإن تظفروا في يوم بدر فإنما
بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر
وبالنفر الأخيار هم أولياؤه
يحامون في اللأواء والموت حاضر
يعد أبو بكر وحمزة منهم
ويدعى علي وسط من أنت ذاكر

أولئك لا من نتجت في ديارها
بنو الأوس والنجار حين تفاخر
ولكن أبوهم من لؤي بن غالب
إذا عدت الأنساب كعب وعامر
هم الطاعنون الخيل في كل معرك
غداة الهياج الأطيبون الأكاثر
الطويل
ومن شعر حسان بن ثابت يعرض بالحارث بن هشام وفراره عن يوم بدر
إن كنت كاذبة الذي حدثتني
فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم
ونجا برأس طمرة ولجام
الكامل
فأجابه الحارث بن هشام فيما ذكر فقال
الله أعلم ما تركت قتالهم
حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
وعرفت أنى إن أقاتل واحدا
أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة فيهم
طمعا لهم بعقاب يوم مفسد
وقال حسان بن ثابت أيضا ويقال إنها لعبد الله بن الحارث السهمي يشبه أنها من قصيدة
مستشعري حلق الماذي يقدمهم
جلد النحيزة ماض غير رعديد
أعني رسول الإله الحق فضله
على البرية بالتقوى وبالجود
وقد زعمتم بأن تحموا ذماركم
وماء بدر زعمتم غير مورود
ثم وردنا ولم نسمع لقولكم
حتى شربنا رواء غير تصريد
مستعصمين بحبل غير منجذم
مستحكم من حبال الله ممدود
فينا الرسول وفينا الحق نتبعه
حتى الممات ونصر غير محدود
البسيط
وقال حسان بن ثابت أيضا
ألا ليت شعري هل أتى أهل مكة
إبادتنا الكفار في ساعة العسر
قتلنا سراة القوم عند مجالنا
فلم يرجعوا إلا بقاصمة الظهر
فكم قد قتلنا من كريم مزرء
له حسب في قومه نابه الذكر
تركناهم للعاويات يتبنهم
ويصلون نارا بعد حامية القعر
لعمرك ما حامت فوارس مالك
وأشياعهم يوم التقينا على بدر
الطويل
وقال عبيدة بن الحارث بن المطلب في يوم بدر يذكر مبارزته هو وحمزة وعلي عدوهم وما كان من إصابة رجله يومئذ
قال ابن هشام وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له
ستبلغ عنا أهل مكة وقعة
يهب لها من كان عن ذاك نائيا
بعتبة إذ ولي وشيبة بعده
وما كان فيها بكر عتبة راضيا
فإن تقطعوا رجلي فإني مسلم
أرجي بها عيشا من الله دانيا
مع الحور أمثال التماثيل أخلصت
مع الجنة العليا لمن كان عاليا

وبعت بها عيشا تعرفت صفوه
وعالجته حتى فقدت الأدانيا
وأكرمني الرحمن من فضل منه
بثوب من الإسلام غطى المساويا
وما كان مكروها إلي قتالهم
غداة دعا الأكفاء من كان داعيا
لقيناهم كالأسد تعثر بالقنا
نقاتل في الرحمن من كان عاصيا
فما برحت أقدامنا من مقامنا
ثلاثتنا حتى أزيروا المنانيا
الطويل
قال ابن هشام لما أصيبت رجل عبيدة قال أما والله لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لعلم أني أحق منه بما قال حين يقول
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا
ولما نطاعن حوله ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
الطويل
ولما هلك عبيدة بن الحارث من مصاب رجله قالت هند ابنة أثاثة بن عباد بن المطلب ترثيه وكانت وفاته بالصفراء وبها دفن يرحمه الله تعالى
لقد ضمن الصفراء مجدا وسؤددا
وحلما أصيلا وافر اللب والعقل
عبيدة فابكيه لأضياف غربة
وأرملة تهوي لأشعث كالجذل
وبكيه للأقوام في كل شتوة
إذا احمر آفاق السماء من المحل
وبكيه للأيتام والريح زفزف
وتشتيت قدر طال ما أزبدت تغلي
فإن تصبح النيران قد مات ضوؤها
فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل
لطارق ليل أو لملتمس القرى
ومستنبح أضحى لديه على رسل
الطويل
وقال طالب بن أبي طالب يمدح النبي {صلى الله عليه وسلم} ويبكي أصحاب القليب من قريش
ألا إن عيني أنفدت ماءها سكبا
تبكي على كعب وما إن ترى كعبا
ألا إن كعبا في الحروب تخاذلوا
وأرداهم ذا الدهر واجترحوا ذنبا
وعامر تبكي للملمات غدوة
فيا ليت شعري هل أرى لهما قربا
هما أخواي لن يعدا لغية
تعد ولن يستام جارهما غصبا
فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا
فدا لكما لا تبعثوا بيننا حربا
ولا تصبحوا من بعد ود وألفه
أحاديث فيها كلكم يشتكي النكبا
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس
وجيش أبي يكسوم إذ ملأوا الشعبا
فلولا دفاع الله لا شيء غيره
لأصبحتم لا تمنعون لكم سربا
فما إن جنينا في قريش عظيمة
سوى أن حمينا خير من وطئ التربا
أخا ثقة في النائبات مرزأ
كريما ثناه لا بخيلا ولا ذربا

يطيف به العافون يغشون بابه
يؤمون نهرا لا نزورا ولا صربا
فوالله لا تنفك نفسي حزينة
تململ حتى تصدقوا الخزرج الضربا
الطويل
وكانت وقعة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة من شهر رمضان وكان فراغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منها في عقبه أو في شوال بعده
فلما قدم المدينة لم يقم بها إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بني سليم فبلغ ماء من مياههم يقال له الكدر فأقام عليه ثلاث ليال ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا فأقام بها بقية شوال وذا القعدة وأفدى في إقامته تلك جل الأساري من قريش
وكان أبو سفيان بن حرب حين رجع فل قريش من بدر نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا {صلى الله عليه وسلم} فخرج في مائتي راكب من قريش لتبر يمينه فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة على بريد أو نحوه من المدينة ثم خرج من الليل حتى أتي بني النضير تحت الليل فأتي حيي بن أخطب فضرب عليه بابه فأبى أن يفتح له وخافه فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه وبطن له من خبر الناس ثم خرج في عقب ليلته حتى أتي أصحابه فبعث رجالا منهم فأتوا ناحية العريض فحرقوا بها أصوار نخل وقتلوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما ثم انصرفوا راجعين ونذر بهم الناس فخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكدر ثم انصرف وقد فاته أبو سفيان بن حرب وأصحابه وطرحوا من أزوادهم يتخففون منها للنجاء وكان أكثر ما طرحوه السويق فهجم المسلمون على سويق كثير فسميت غزوة السويق فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا رسول الله أتطمع لنا أن تكون غزوة قال نعم
ثم غزا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نجدا يريد غطفان وهي غزوة ذي أمر فأقام بنجد ثم رجع ولم يلق كيدا
ثم غزا قريشا حتى بلغ بحران معدنا بالحجاز من ناحية الفرع ثم رجع منه إلى المدينة ولم يلق كيدا وذلك بعد مقامه به نحوا من شهرين ربيع الآخر وجمادى الأولى من سنة ثلاث
أمر بني قينقاع

وكان فيما بين ما ذكر من غزو رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمر بني قينقاع
وكانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وحاربوا فيما بين بدر وأحد
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جمعهم في سوقهم ثم قال يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم
قالوا يا محمد إنك ترى أنا قومك لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس
فقال ابن عباس ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيهم قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار آل عمران 12 - 13
وكان منشأ أمرهم أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق قينقاع وجلست إلى صائغ بها فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان
يهوديا فشدت اليهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فأغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع
فحاصرهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى نزلوا على حكمه فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج فأبطأ عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأدخل يده في جيب درع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان يقال لها ذات الفضول فقال له أرسلني وغضب {صلى الله عليه وسلم} حتى رأوا لوجهه ظللا ثم قال ويحك أرسلني
قال لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة إني والله امرؤ أخشى الدوائر فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هم لك

ولما حاربت بنو قينقاع تشبث عبد الله بن أبي بأمرهم وقام دونهم قال مشى عبادة بن الصامت وكان أحد بني عوف لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخلعهم إليه وتبرأ إلى الله والى رسوله من حلفهم وقال يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم
ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت هذه القصة من المائدة يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يريد عبد الله بن أبي يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين
ثم القصة إلى قوله إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون وذلك لتولي عبادة بن الصامت الله ورسوله والذين آمنوا وتبريه من بني قينقاع وحلفهم وولايتهم ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون المائدة 51 - 56
سرية زيد بن حارثة
ولما كان من وقعة بدر ما كان خافت قريش طريقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام فسلكوا طريق العراق فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب ومعه فضة كثيرة وهي عظم تجارتهم وبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زيد بن حارثة فلقيهم على القردة ماء من مياه نجد فأصاب تلك العير وما فيها وأعجزه الرجال فقدم بها على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فذلك الذي يعني حسان بن ثابت بقوله في غزوة بدر الآخرة يؤنب قريشا في أخذهم تلك الطريق
دعوا فلجات الشام قد حال دونها
جلاد كأفواه المخاض الأوارك
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم
وأنصاره حقا وأيدي الملائك
إذا سلكت للغور من بطن عالج
فقولا لها ليس الطريق هنالك
الطويل
مقتل كعب بن الأشرف

ولما بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة بشيرين إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عليه وقتل من قتل من المشركين ببدر قال كعب بن الأشرف وكان رجلا من طيء ثم أحد بني نبهان وأمه من بني النضير حين بلغه هذا الخبر أحق هذا أترون أن محمدا قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير لي من ظهرها
فلما تبين عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة فجعل يحرض على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب من قريش ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من لي من ابن الأشرف فقال له محمد بن مسلمة الأشهلي أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله
قال فافعل إن قدرت على ذلك
فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه فذكر ذلك لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدعاه فقال له لم تركت الطعام والشراب فقال يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل افين لك به أم لا قال إنما عليك الجهد قال يا رسول الله لا بد لنا من أن نقول
قال قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك
فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة أبو نائلة وعباد بن بشر والحارث بن أوس وكلهم من بني عبد الأشهل وأبو عبس بن جبر أخو بني
حارثة ثم قدموا إلى عدو الله ابن الاشرف سلكان بن سلامة وكان أخاه من الرضاعة فجاءه فتحدث معه ساعة ثم قال ويحك يا ابن الاشرف أني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني قال افعل قال كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس
فقال كعب أنا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول
فقال له سلكان أني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك
قال أترهنوني نساءكم قال كيف نرهنك نساءنا وأنت أشب أهل يثرب وأعطرهم

قال أترهنوني أبناءكم قال لقد أردت أن تفضحنا يسب ابن أحدنا فيقال رهن في وسق شعير ثم قال له إن معي أصحابا لي على مثل رأيي وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها
قال إن في الحلقة لوفاء
فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم وأمرهم أن يأخذوا السلاح ويجتمعوا إليه فاجتمعوا عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فمشى معهم {صلى الله عليه وسلم} إلى بقيع الغرقد في ليلة مقمرة ثم وجههم وقال انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم
ثم رجع إلى بيته
فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب في ملحفته فأخذت امرأته بناحيتها وقالت إنك امرؤ محارب وإن أصحاب الحرب لا ينزلون هذه الساعة
قال إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني
فقالت والله إني لأعرف في صوته الشر
فقال لها كعب لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب
فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه فقالوا له هل لك يا ابن الأشرف إلى أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه
قال إن شئتم
فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شم
يده فقال ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها فأخذ بفود رأسه
ثم قال اضربوا عدو الله فضربوه فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا

قال محمد بن مسلمة فتذكرت معولا كان في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغنى شيئا فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار قال فوضعته في ثنيته ثم تحاملت عليه حتى بلغت غايته فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رجله أو رأسه أصابه بعض أسيافنا فخرجنا حتى أسندنا في حرة العريض وقد أبطأ علينا الحارث بن أوس صاحبنا ونزفه الدم فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله وتفل على جرح صاحبنا ثم رجعنا إلى أهلينا فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه
وذكر ابن عقبة أن كعب بن الأشرف لما قدم على قريش يستنفرهم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال له أبو سفيان والمشركون نناشدك الله أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه وأينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق فإنا نطعم الجزور الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونطعم ما هبت الشمال
فقال ابن الأشرف أنتم أهدى سبيلا فأنزل الله فيه والله أعلم بما ينزل ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا النساء 51
وذكر ابن إسحاق أن هذه الآية إنما نزلت في حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وجماعة غيرهما من أحبار يهود ليس ابن الأشرف مذكورا فيهم وهم الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما قدموا
على قريش قالوا هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول فسلوهم أدينكم خير أم دين محمد فسألوهم فقالوا بل دينكم خير منا دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه
فأنزل الله تعالى فيهم الآية المذكورة
فالله تعالى أعلم
قال ابن إسحاق وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه

فوثب محيصة بن مسعود الأوسي على ابن سنينة من تجار يهود وكان يلابسهم ويبايعهم فقتله فلما قتله جعل أخوه حويصة بن مسعود ولم يكن أسلم يومئذ وكان أسن من محيصة يضربه ويقول أي عدو الله أقتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله فقال محيصة والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك قال فوالله إن كان لأول إسلام حويصة
قال أو الله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني قال نعم والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها قال والله إن دينا بلغ منك هذا لعجب فأسلم حويصة وقال محيصة في ذلك
يلوم ابن أمي لو أمرت بقتله
لطبقت ذفراه بأبيض قاضب
حسام كلون الملح أخلص صقله
متى ما أصوبه فليس بكاذب
وما سرني أني قتلتك طائعا
وأن لنا ما بين بصري ومأرب
الطويل
وذكر ابن هشام أن هذا عرض لمحيصة بعد غزوة بني قريظة وظفر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بهم وأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دفع إليه منهم كعب بن يهوذا
قال وكان عظيما فيهم ليقتله فقال له أخوه حويصة وكان كافرا أقتلت كعب بن يهوذا قال نعم
قال أما والله لرب شحم قد نبت في بطنك من ماله إنك للئيم
فقال له محيصة لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتك
فعجب من قوله ثم ذهب عنه متعجبا فذكروا أنه جعل ينتفض من الليل فيعجب من قول أخيه محيصة حتى أصبح وهو يقول والله إن هذا لدين
ثم أتى النبي {صلى الله عليه وسلم} فأسلم

غزوة أحد

وكان من حديث أحد أنه لما قتل الله من قتل من كفار قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بن حرب بعيرهم مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة من قريش وقالوا لهم إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينوا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا بمن أصاب منا
ففعلوا

ففيهم يقال أنزل الله عز وجل إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون 36 الأنفال
فاجتمعت قريش لحرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير وحركوا لذلك من أطاعهم من القبائل وحرضوهم عليه وخرجوا بحدهم وجدهم وأحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وان لا يفروا فخرج أبو سفيان بن حرب وكان قائد الناس بهند بنت عتبة وكذلك سائر أشراف قريش وكبرائهم خرجوا معهم بنسائهم
وكان جبير بن مطعم قد أمر غلامه وحشيا الحبشي بالخروج مع الناس وقال له إن قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق
فكانت هند بنت عتبة كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت ويها أبا دسمة وهي كنيته اشف واشتف
فأقبلوا حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة
فلما سمع بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال {صلى الله عليه وسلم} إني قد رأيت والله خيرا رأيت بقرا تذبح ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأما البقر فهي ناس من أصحابي يقتلون وأما الثلم الذي في ذباب سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يكره الخروج وكان عبد الله بن أبي يرى رأي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في ذلك فقال رجل من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيره ممن كان فاته بدر يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم

فقال عبد الله بن أبي يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم الصبيان والنساء بالحجارة من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا
فلم يزل برسول الله {صلى الله عليه وسلم} الناس الذين كان من أمرهم حب لقاء العدو حتى دخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلبس لأمته وذلك يوم الجمعة حين فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الصلاة وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له مالك بن عمرو أخو بني النجار فصلى عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم خرج عليهم وقد ندم الناس فقالوا يا رسول الله استكر هناك ولم يكن ذلك لنا فإن شئت فاقعد {صلى الله عليه وسلم}
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما ينبغي للنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل
فخرج في ألف من أصحابه حتى إذا كانوا بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس وقال أطاعهم وعصاني ما ندري علام نقتل أنفسنا
ها هنا أيها الناس
فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق والريب واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام يقول يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم
قالوا لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال
فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه
ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذبنه فأصاب كلاب سيف فاستله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان يحب الفأل ولا يعتاف
( يا صاحب السيف شم سيفك فإني أرى السيوف ستسل اليوم )
ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ( من رجل يخرج بنا على القوم من كثب أي من قرب من طريق لا تمر بنا عليهم ) فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة أنا يا رسول الله

فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي وكان منافقا ضرير البصر فلما سمع حس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومن معه من المسلمين قام يحثي في وجوههم التراب ويقول إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي
وذكر أنه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك
فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر
ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى نزل الشعب من أحد فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال
وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت للمسلمين فقال رجل من الأنصار أترعى زرع بني قيلة ولما نضارب
وتعبى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للقتال وهو في سبعمائة رجل وأمر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف وهو معلم يومئذ بثياب بيض
والرماة خمسون رجلا فقال انضح الخيل عنا لا يأتوننا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك
وظاهر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بين درعين ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار
وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل
وقد كان أبو عامر عبد عمرو بن صيفي من الأوس خرج عن قومه إلى مكة مباعدا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكان يعد قريشا أن لو لقي قومه لم يختلف عليه منهم رجلان فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة فنادى يا معشر الأوس أنا أبو عامر
قالوا فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق
وبذلك سماه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان يسمى في الجاهلية الراهب فلما سمع ردهم عليه قال لقد أصاب قومي بعدي شر ثم قاتلهم قتالا شديدا ثم راضخهم بالحجارة

وقال أبو سفيان يومئذ لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم بذلك يا بني عبد الدار إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه فهموا له وتواعدوه وقالوا أنحن نسلم إليك لواءنا ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع
وذلك أراد أبو سفيان
فاقتتل الناس حتى حميت الحرب
وقاتل أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة حتى أمعن في الناس وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لسيف عنده من يأخذ هذا السيف بحقه فقام إليه رجال فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة فقال وما حقه يا رسول الله قال أن تضرب به في العدو حتى ينحني
قال أنا آخذه يا رسول الله بحقه
فأعطاه إياه وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب وكان إذا أعلم بعصابة
له حمراء فاعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل فلما أخذ السيف من يد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه ثم جعل يتبختر بين الصفين فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين رآه يتبختر إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن
وكان الزبير بن العوام قد سأل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذلك السيف مع من سأله منه فمنعه إياه فقال وجدت في نفسي حين سألته إياه فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة وقلت أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه قبله فأعطاه إياه وتركني والله لأنظرن ما يصنع فأتبعته فأخرج عصابة حمراء فعصب بها رأسه فقالت الأنصار أخرج أبو دجانة عصابة الموت وهكذا كانت تقول له إذا تعصب بها فخرج وهو يقول
أنا الذي عاهدني خليلي
ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول
اضرب بسيف الله والرسول
السريع

فجعل لا يلقي أحدا إلا قتله وكان في المشركين رجل لا يدع جريحا إلا ذفف عليه فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا فاختلفا ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه وضربه أبو دجانة فقتله ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها قال الزبير فقلت الله ورسوله أعلم
وقال أبو دجانة رأيت إنسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت إليه فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة فأكرمت سيف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن أضرب به امرأة
وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أحد النفر الذين كانوا يحملون اللواء من بني عبد الدار وكان جبير بن مطعم قد وعد غلامه وحشيا بالعتق إن قتل حمزة بعمه طعيمة بن عدي المقتول يوم بدر قال وحشي فخرجت مع الناس وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قل ما أخطئ بها شيئا فلما
التقى الناس خرجت أنظر حمزة حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء فوالله إني لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزي الغبشاني فلما رآه حمزة قال له هلم إلي يا ابن مقطعة البظور
وكانت أمه ختانة بمكة قال فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه قال وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوي فغلب وتركته وإياها حتى مات ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى العسكر فقعدت فيه ولم تكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لأعتق

فلما قدمت مكة عتقت ثم أقمت حتى إذا افتتح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة هربت إلى الطائف فكنت بها فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليسلموا تعيت علي المذاهب فوالله إني لفي ذلك إذ قال لي رجل ويحك إنه والله ما يقتل أحدا من الناس دخل في دينه فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة فلم يرعه إلا بي قائما على رأسه أتشهد شهادة الحق فلما رآني قال أوحشي قلت نعم يا رسول الله قال أقعد فحدثني كيف قتلت حمزة فحدثته فلما فرغت قال ويحك غيب عني وجهك
فكنت أتنكبه {صلى الله عليه وسلم} حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله تعالى
فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب خرجت معهم وأخذت بحربتي التي قتلت بها حمزة فلما التقى الناس رأيت مسيلمة قائما في يده السيف وما أعرفه فتهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه وشد عليه الأنصاري فضربه بالسيف فربك أعلم أينا قتله فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقد قتلت شر الناس
وذكر ابن إسحاق بإسناد له إلى عبد الله بن عمر وكان شهد اليمامة قال سمعت يومئذ صارخا يقول قتله العبد الأسود
قال ابن إسحاق فبلغني أن وحشيا لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان
فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة
قال ابن إسحاق
وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى قتل قتله ابن قميئة الليثي وهو يظن أنه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرجع إلى قريش فقال قتلت محمدا
فلما قتل مصعب أعطى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللواء علي بن أبي طالب فقاتل علي ورجال من المسلمين
ولما اشتد القتال يومئذ جلس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تحت راية الأنصار وأرسل إلى علي أن قدم الراية فتقدم فقال أنا أبو القصم فناداه أبو سعد بن أبي طلحة هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة قال نعم

فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه علي فصرعه ثم انصرف ولم يجهز عليه فقال له أصحابه أفلا أجهزت عليه فقال إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم وعرفت أن الله قد قتله
ويقال إن أبا سعد هذا خرج بين الصفين وطلب من يبارزه مرارا فلم يخرج إليه أحد فقال يا أصحاب محمد زعمتم أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار كذبتم واللات لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلي بعضكم
فخرج إليه علي فاختلفا ضربتين فقتله علي
وقد قيل إن سعد بن أبي وقاص هو الذي قتل أبا سعد هذا
وقاتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقتل مسافع بن طلحة وأخاه الجلاس ابن طلحة كلاهما يشعره سهما فيأتي أمه فيضع رأسه في حجرها فتقول يا بني من أصابك فيقول سمعت رجلا يقول حين رماني خذها وأنا ابن أبي الأقلح
فنذرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر وكان
عاصم قد عاهد الله أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا فتمم الله له ذلك حيا وميتا حسب ما نذكره عند مقتل عاصم على الرجيع ماء لهذيل إن شاء الله تعالى
والتقى يوم أحد حنظلة بن أبي عامر الغسيل وأبو سفيان فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود بن شعوب قد علا أبا سفيان فضربه شداد فقتله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن صاحبكم يعني حنظلة لتغسله الملائكة فسلوا أهله ما شأنه فسئلت صاحبته فقالت خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لذلك غسلته الملائكة
ثم أنزل الله نصره على المسلمين وصدقهم وعده فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر ونهكوكم قتلا
وقد حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة وكانت الهزيمة لا شك فيها

فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله قد فتح لإخوانهم قالوا والله ما نجلس هنا لشيء قد أهلك الله العدو وإخواننا في عسكر المشركين فتركوا منازلهم التي عهد إليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن لا يتركوها وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا ولم يكن نبل ينضحها ووجدت مدخلا عليهم فكان ذلك سبب الهزيمة على المسلمين بعد أن كانت لهم
قال الزبير بن العوام رضي الله عنه والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها منكشفات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير إذ مالت الرماة إلى العسكر حتى كشفنا القوم عنه وخلوا ظهورنا للخيل فأتتنا من خلفنا وصرخ صارخ ألا أن محمدا قد قتل فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم
وانكشف المسلمون فأصاب فيهم العدو ويقال إن الصارخ هو الشيطان
وكان يوم بلاء وتمحيص أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة
حتى خلص العدو إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدث بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته وكلمت شفته وشج في وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه وجعل {صلى الله عليه وسلم} يمسحه وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم
فأنزل الله عليه في ذلك ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون آل عمران 128
وكان الذي كسر رباعيته وجرح شفته عتبة بن أبي وقاص وشجه عبد الله ابن شهاب الزهري في جبهته وجرح ابن قميئة وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ووقع {صلى الله عليه وسلم} في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون فأخذ علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة ابن عبيد الله حتى استوى قائما
ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجهه ثم ازدرده فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مس دمه دمي لم تصبه النار
وقال {صلى الله عليه وسلم} من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض فلينظر إلى طلحة

ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه {صلى الله عليه وسلم} فسقطت ثنيته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى فكان ساقط الثنيتين
وكان سعد بن أبي وقاص يقول والله ما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل عتبة بن أبي وقاص وهو أخوه وإن كان ما علمت لسيئ الخلق مبغضا في قومه ولقد كفاني منه قول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين غشيه القوم من رجل يشري لنا نفسه فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار وبعض الناس يقولون إنما هو
عمارة بن زياد بن السكن فقاتلوا دون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رجلا ثم رجلا يقتلون دونه حتى كان آخرهم زياد أو عمارة فقاتل حتى أثبتته الجراحة ثم جاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أدنوه مني
فأدنوه منه فوسده قدمه فمات وخده على قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يومئذ قالت خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي
قالت أم سعد بنت سعد بن الربيع فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور فقلت من أصابك بهذا قالت ابن قميئة أقمأه الله لما ولى الناس عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أقبل يقول دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا
فاعترضته أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فضربني هذه الضربة ولقد ضربته على ذلك ضربات ولكن عدو الله كانت عليه درعان
وترس دون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبو دجانة بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه حتى كثر فيه النبل
ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال سعد فلقد رأيته يناولني النبل ويقول أرم فداك أبي وأمي حتى إنه ليناولني السهم ما له من نصل فيقول ارم به
ورمى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم أحد عن قوسه حتى اندقت سيتها

وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان فردها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيده فكانت أحسن عينيه وأحدهما
وأصيب فم عبد الرحمن بن عوف فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر أصابه بعضها في رجله فعرج
وأتى أنس بن النضر عم أنس بن مالك وبه سمي إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم فقال ما يجلسكم قالوا قد قتل محمد رسول الله
قال فما تصنعون بالحياة بعده قوموا على ما مات عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى
وروي حميد عن أنس أن عمه أنس بن النضر هذا غاب عن قتال يوم بدر فقال غبت عن أول قتال قاتله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المشركين لئن أشهدني الله قتالا ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين وأعتذر إليك مما جاء به هؤلاء يعني المسلمين ثم مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد واها لريح الجنة
فقال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع
فوجدناه بين القتلى وبه بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم وقد مثلوا به حتى عرفته أخته ببنانه
قال أنس كنا نقول أنزلت هذه الآية من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه الأحزاب 23 فيه وفي أصحابه
قال ابن إسحاق وكان أول من عرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد الهزيمة وتحدث الناس بقتله كعب بن مالك الأنصاري قال عرفت عينيه تزهران تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فأشار إلي أن أنصت
فلما عرف المسلمون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب معه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام والحارث بن الصمة ورهط من المسلمين
فلما أسند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول أين محمد لا نجوت إن نجوت فقال القوم يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا فقال
دعوه

فلما دنا تناول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الحربة من الحارث بن الصمة يقول بعض القوم فلما أخذها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء من ظهر البعير إذا انتفض بها ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا
وكان أبي بن خلف يلقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة فيقول يا محمد إن عندي العوذ فرسا أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه
فيقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنا أقتلك إن شاء الله
فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم قال قتلني والله محمد فقالوا له ذهب والله فؤادك والله إن بك بأس
قال إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك
فوالله لو بصق علي لقتلني
فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة
وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما قاله يومئذ اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله
فسحقا لأصحاب السعير
ولما انتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس فجاء به إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليشرب منه فوجد له ريحا فعافه ولم يشرب منه وغسل عن وجهه الدم فصب على رأسه وهو يقول اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله
فبينا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الشعب معه أولئك النفر من أصحابه إذا علت عالية من قريش الجبل فقال اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل
ونهض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى صخرة من الجبل ليعلوها فلم يستطع وقد كان بدن وظاهر بين درعين فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها فقال {صلى الله عليه وسلم} أوجب طلحة
وصلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الظهر يومئذ قاعدا من الجراح التي أصابته وصلى المسلمون خلفه قعودا

ولما خرج {صلى الله عليه وسلم} إلى أحد رفع حسيل بن جابر وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان وثابت بن قيس في الآكام مع النساء والصبيان فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران لا أب لك ما ننتظر فوالله إن بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار إنما نحن هامة اليوم أو غد أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لعل الله يرزقنا شهادة معه فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس ولم يعلم بهما
فأما ثابت فقتله المشركون وأما حسيل فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه وهم لا يعرفونه فقال حذيفة أبي قالوا والله إن عرفناه
وصدقوا قال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين
فأراد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين فزاده عند رسول الله خيرا
وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق من أحبار اليهود وقد تقدم خبره وكيف قال - يومئذ - ليهود لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق
فتعللوا عليه بأنه يوم السبت فقال لهم لا سبت لكم
وأخذ سيفه وعدته فلحق برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقاتل معه حتى قتل بعد أن قال إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء
وفيه قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مخيريق خير يهود
وكان عمرو بن ثابت بن وقش أصيرم بني عبد الأشهل يأبى الإسلام على قومه فلما كان يوم أحد بدا له في الإسلام فأسلم ثم أخذ سيفه فغزا حتى دخل في عرض الناس فقاتل حتى أثبتته الجراحة فبينا رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به فقالوا والله أن هذا للأصيرم ما جاء به لقد تركناه وانه لمنكر لهذا الحديث
فسألوه ما جاء بك يا عمرو احدب على قومك أم رغبة في الإسلام قال بل رغبة في الإسلام آمنت بالله وبرسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني ثم لم يلبث أن مات في أيديهم فذكروه لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال انه لمن أهل الجنة
وكان أبو هريرة يقول حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلي قط فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو فيقول أصيرم بني عبد الأشهل

وكان عمرو بن الجموح اعرج شديد العرج وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المشاهد فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له إن الله قد عذرك
فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال أن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك
وقال لبنيه ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة فخرج معه فقتل يرحمه الله
ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من المسلمين يجدعن الأذان والأنوف حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدما وقلائد وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا قاتل حمزة وبقرت عن كبد حمزة رضي الله عنه فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها
نحن جزيناكم بيوم بدر
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر
ولا أخي وعمه وبكر
شفيت نفسي وقضيت نذري
شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي على عمري
حتى ترم أضلعي في قبري
السريع
فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت
خزيت في بدر وبعد بدر
يا بنة وقاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر
بالهاشميين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفري
حمزة ليثي وعلي صقر
أصابني ما أصابني ثم لم يلبث أن مات في أيديهم فذكروه لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال انه من أهل الجنة
وكان أبو هريرة يقول حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلي قط فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو فيقول أصيرم بني عبد الأشهل
وكان عمرو بن الجموح اعرج شديد العرج وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المشاهدة فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له أن الله قد عذرك
فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال أن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه فوالله أني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك

وقال لبنيه ما عليكم إلا أن تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة فخرج معه فقتل برحمة الله
ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من المسلمين يجدعن الأذان والأنوف حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدما وقلائد وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا قاتل حمزة وبقرت عن كبد حمزة رضي الله عنه فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها
نحن جزيناكم بيوم بدر
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر
ولا أخي وعمه وبكر
شفيت نفسي وقضيت نذري
شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي على عمري
حتى ترم أضلعي في قبري
السريع
فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت
خزيت في بدر وبعد بدر
يا بنة وقاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر
بالهاشميين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفري
حمزة ليثي وعلي صقر
إذ رام شيب وأبوك غدري
فخضبا منه ضواحي النحر
ونذرك السوء فشر نذر
السريع
وقد كان الحليس بن زبان أخو بني الحارث بن عبد مناة وهو يومئذ سيد الأحابيش مر بأبي سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح ويقول ذق عقق فقال الحليس يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما
فقال ويحك اكتمها عني فإنها كانت زلة
ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته أنعمت فعال إن الحرب سجال يوم بيوم بدر اعل هبل
أي ظهر دينك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قم يا عمر فأجبه
فقل الله أعلى وأجل لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار
وفي الصحيح من حديث البراء أن أبا سفيان قال إنه لنا العزي ولا عزي لكم
فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} أجيبوه
قالوا ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم
وفيه أيضا أن أبا سفيان أشرف يوم أحد فقال أفي القوم محمد فقال لا تجيبوه
فقال أفي القوم ابن أبي قحافة قال لا تجيبوه

قال أفي القوم ابن الخطاب فلما لم يجبه أحد قال إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا فلم يملك عمر نفسه فقال كذبت يا عدو الله قد أبقى الله لك ما يخزيك
قال ابن إسحاق فلما أجاب عمر أبا سفيان قال له هلم إلي يا عمر فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لعمر ايته فانظر ما شأنه
فجاءه فقال له أبو سفيان أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا قال عمر اللهم لا وإنه ليسمع كلامك الآن قال أنت أصدق عندي من ابن قميئه وأبر
لقول ابن قميئه لهم إني قد قتلت محمدا ثم نادى أبو سفيان إنه قد كان في قتلاكم مثل والله ما رضيت وما سخطت وما أمرت وما نهيت
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى إن موعدكم بدر العام القابل
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لرجل من أصحابه قل نعم هو بيننا وبينكم موعد
ثم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} علي بن أبي طالب فقال اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم فخرج علي فرآهم قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة
وفرغ الناس لقتلاهم وانتشروا يبتغونهم فلم يجدوا قتيلا إلا وقد مثلوا به إلا حنظلة بن أبي عامر فإن أباه كان مع المشركين فتركوه له وزعموا أن أباه وقف عليه قتيلا فدفع صدره بقدمه وقال قد تقدمت إليك في مصرعك هذا ولعمر الله إن كنت لواصلا للرحم برا بالوالدة
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات فقال رجل من الأنصار أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل

فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق قال فقلت له إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات قال أنا في الأموات فأبلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عني السلام وقل له إن سعد بن الربيع يقول جزاك الله عنا خير ما جزي نبيا عن أمته وأبلغ قومك السلام عني وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم أنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف
قال ثم لم أبرح حتى مات
فجئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبرته خبره
وفي سعد هذا يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد دخل عليه رجل وعلى صدره بنت لسعد جارية صغيرة يرشفها ويقبلها فقال الرجل من هذه فقال أبو بكر رضي الله عنه بنت رجل خير مني سعد بن الربيع كان من النقباء ليلة العقبة وشهد بدرا واستشهد يوم أحد
وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يلتمس حمزة بن عبد المطلب فوجده ببطن الوادي
قد بقر بطنه عن كبده ومثل به فجدع أنفه وأذناه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين رأى ما رأى لولا أن تخزن صفية ويكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم
فلما رأى المسلمون حزن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وغيظه على من فعل بعمه ما فعل قالوا والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب
فأنزل الله تعالى فيما قاله من ذلك رسوله {صلى الله عليه وسلم} وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون النحل 126 - 127 فعفا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصبر ونهى عن المثلة
ويقال إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما وقف على حمزة قال لن أصاب بمثلك أبدا ما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا
ثم قال جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله

ثم أمر به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسجي ببرده ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى حمزة وصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة
وأقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه وكان أخاها لأبيها وأمها فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لابنها الزبير بن العوام القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها
فقال لها يا أمه إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يأمرك أن ترجعي
قالت ولم وقد بلغني أن قد مثل بأخي وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله
فلما أخبر الزبير بذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال له خل سبيلها
فأتته فنظرت إليه فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له
ثم أمر به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدفن
وزعم آل عبد الله بن جحش أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دفن عبد الله بن جحش مع حمزة في قبره وهو ابن أخته أميمة بنت عبد المطلب وكان قد مثل به كما مثل بخاله حمزة إلا أنه لم يبقر عن كبده وجدع أنفه وأذناه فلذلك يقال له المجدع في الله
وكان في أول النهار قد لقي سعد بن أبي وقاص فقال له عبد الله هلم يا سعد فلندع الله وليذكر كل واحد منا حاجته في دعائه وليؤمن الآخر
فقال سعد يا رب إذا لقيت العدو فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلني ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله وأسلبه سلبه
فأمن عبد الله بن جحش ثم قال اللهم ارزقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلني فيقتلني ثم يجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك غدا قلت لي يا عبد الله فيم جدع أنفك وأذناك فأقول فيك يا رب وفي رسولك
فتقول لي صدقت
فأمن سعد على دعوته
قال سعد كانت دعوة عبد الله خيرا من دعوتي لقد رأيته آخر النهار وإن أذنيه وأنفه معلقتان في خيط ولقيت أنا فلانا من المشركين فقتلته وأخذت سلبه
وذكر الزبير أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد فأعطاه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عرجونا فعاد في يده سيفا قائمه منه فقاتل به فكان ذلك السيف يسمى العرجون ولم يزل هذا يتوارث حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار

واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صرعوا
ولما أشرف {صلى الله عليه وسلم} يوم أحد على القتلى قال أنا شهيد على هؤلاء إن ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه اللون لون دم والريح ريح مسك انظروا أكثر هؤلاء جمعا للقرآن فاجعلوه أمام أصحابه في القبر
وكانوا يدفنون الاثنين والثلاثة في القبر الواحد
وقال يومئذ حين أمر بدفن القتلى انظروا عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام فإنهما كانا متصافيين في الدنيا فاجعلوهما في قبر واحد
وذكر مالك بن انس في موطئه أن السيل حفر قبرهما بعد زمان فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنما ماتا بالأمس وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة
ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} راجعا إلى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش فلما لقيت الناس نعي لها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن زوج المرأة منها لبمكان لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها وصياحها على زوجها
ومر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بدار من دور الأنصار فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم فذرفت عيناه فبكى ثم قال لكن حمزة لا بواكي له
فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بني عبد الأشهل أمرا نساءهما أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ففعلن فلما سمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بكاءهن على حمزة خرج عليهن وهن على باب المسجد يبكين عليه فقال ارجعن يرحمكن الله فقد آسيتن بأنفسكن
وقيل إنه لما سمع بكاءهن قال
رحم الله الأنصار فإن المواساة منهم ما علمت لقديمة مروهن فلينصرفن

ومر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في انصرافه بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بأحد فلما نعوا لها قالت فما فعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قالوا خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين
قالت أرونيه حتى أنظر إليه
فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت كل مصيبة بعدك جلل تريد صغيرة
فلما انتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال اغسلي عن هذا دمه يا بنية فوالله لقد صدقني اليوم وناولها علي بن أبي طالب سيفه فقال
وهذا فاغسلي عنه دمه فوالله لقد صدقني اليوم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة
وكان يقال لسيف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذو الفقار
ونادي مناد يوم أحد
لا سيف إلا ذو الفقار
ولا فتى إلا علي
الكامل
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لعلي بن أبي طالب لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا
وكان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوال
فلما كان الغد منه يوم الأحد أذن مؤذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بطلب العدو وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس
فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقال يا رسول الله كان أبي خلفني على أخوات لي سبع وقال يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على نفسي فتخلف على أخواتك
فتخلفت عليهن
فأذن له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخرج معه
وإنما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مرهبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم
وشهد مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم أحد أخوان من بني عبد الأشهل فرجعا جريحين قال أحدهما فلما أذن مؤذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالخروج في طلب العدو قلت لأخي أو قال لي أتفوتنا غزوة مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل
فخرجنا وكنت أيسر جرحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون

وانتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في خروجه ذلك إلى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة
فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة
وقد مر به هناك معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم
ومشركهم عيبة نصح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ومعبد يومئذ مشرك فقال يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله عافاك فيهم
ثم خرج ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه وقالوا أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم
فلما رأى أبو سفيان معبدا قال ما وراءك يا معبد قال محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط
فقال ويحك ما تقول قال والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل
قال فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم
قال فإني أنهاك عن ذلك والله لقد حملني ما رأيت علي أن قلت فيه أبياتا من الشعر
قال وما قلت قال قلت
كادت تهد من الأصوات راحلتي
إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابلة
عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدوا أظن الأرض ماثلة
لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم
إذا تغطمطت البطحاء بالخيل
إني نذير لأهل البسل ضاحية
لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخشا قنابله
وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
البسيط
فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه
ومر به ركب من عبد القيس فقال أين تريدون قالوا نريد المدينة قال ولم قالوا نريد الميرة
قال فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم بهذه غدا زبيبا بعكاظ إذا ما أتيتموها قالوا نعم

قال فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم
فمر
الركب برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهم بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
ويقال إنهم لما هموا بالرجعة إلى المدينة ليستأصلوا كما زعموا بقية أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لهم صفوان بن أمية لا تفعلوا فإن القوم قد حربوا وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان فارجعوا
فرجعوا
فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} وهو بحمراء الأسد حين بلغه أنهم هموا بالرجعة والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب
وأخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في وجهه قبل رجوعه إلى المدينة معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس جد عبد الملك بن مروان أبا أمه وأبا عزة الجمحي وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أسره ببدر ثم من عليه وقد تقدم ذكر ذلك وذكر مقتله إياه في هذه الأخذة الثانية صدر غزوة أحد ولجأ معاوية بن المغيرة إلى عثمان بن عفان فاستأمن له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتل فأقام بعدها وتواري
فبعث النبي {صلى الله عليه وسلم} زيد بن حارثة وعمار بن ياسر وقال إنكما ستجدانه بموضع كذا
فوجداه فقتلاه
وكان يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص اختبر الله به المؤمنين ومحن به المنافقين ممن كان يظهر الإيمان بلسانه وهو مستخف بالكفر في قلبه وأكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته
وكان مما أنزل الله تبارك وتعالى من القرآن في شأن أحد ستون آية من آل عمران في طاعة من أطاع ونفاق من نافق وصفة ما كان في يومهم وتعزية المؤمنين في مصيبتهم ومعاتبة من عاتب منهم
يقول الله تبارك وتعالى لنبيه {صلى الله عليه وسلم} وإذ غدوت من أهلك تبويء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم
أي سميع لما يقولون عليم بما يخفون
إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا أي تتخاذلا

والطائفتان بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما الجناحان يقول الله تبارك وتعالى والله وليهما أي المدافع عنهما ما همتا به من ذلك برحمته وعائذته حتى سلمتا ولحقتا
بنبيهما
وقيل إنه لما أنزل الله تعالى في هاتين الطائفتين قالتا ما نحب أنا لم نهم بما هممنا لتولي الله إيانا في ذلك
وعلى الله فليتوكل المؤمنون أي من كان به ضعف من المؤمنين فليتوكل علي وليستعن بي أعنه على أمره وأدفع عنه حتى أبلغ به وأقويه على نيته
ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة أقل عددا وأضعف قوة فاتقوا الله لعلكم تشكرون أي فاتقوني فإنه شكر نعمتي
إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين أي إن تصبروا لعدوي وتطيعوا أمري ويأتوكم من وجههم هذا أمددكم بهذا العدد من الملائكة مسومين أي معلمين
وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم أي ما سميت لكم من سميته من جنود ملائكتي إلا لتستبشروا بذلك وتطمئن قلوبكم إليه لما أعرف من ضعفكم وما النصر إلا من عند الله لسلطاني وقدرتي وذلك أن العزة والحكم لي لا إلى أحد من خلقي
ثم قال لمحمد {صلى الله عليه وسلم} ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم أو أتوب عليهم برحمتي فإن شئت فعلت أو أعذبهم بذنوبهم فبحقي فإنهم ظالمون أي عصوا فاستوجبوا ذلك بمعصيتهم إياي
ثم استقبل ذكر المصيبة التي نزلت بهم والبلاء الذي أصابهم والتمحيص لما كان فيهم واتخاذه الشهداء منهم فقال تعزية لهم وتعريفا لهم فيما صنعوا وفيما هو صانع بهم قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين أي قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب برسلي والشرك في عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين فرأوا مثلات قد مضت

مني فيهم ولمن هو علي مثل ما هم عليه هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين أي نور وأدب لمن أطاعني وعرف أمري
ولا تهنوا ولا تحزنوا أي لا تضعفوا ولا تبتئسوا على ما أصابكم وأنتم الأعلون لكم تكون العاقبة والظهور إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صدقتم نبيي بما جاءكم به عني
إن يمسسكم قرح أي جراح فقد مس القوم قرح مثله أي جراح مثلها وتلك الأيام نداولها بين الناس أي نصرفها للبلاء والتمحيص وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين أي حسبتم أن تدخلوا الجنة فتصيبوا كرامة ثوابي ولم أختبركم بالشدة وأبتليكم بالمكاره حتى أعلم صدق ذلك منكم الإيمان بي والصبر على ما أصابكم في
ولقد كنتم تمنون الموت أي الشهادة من قبل أن تلقوه يعني الذين استنهضوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى الخروج بهم إلى عدوهم يوم أحد لما فاتهم من يوم بدر رغبة في الشهادة يقول فقد رأيتموه وأنتم تنظرون
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم أي لقول الناس قتل محمد
وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوهم
أفئن مات أو قتل رجعتم عن دينكم كفارا كما كنتم وتركتم جهاد عدوكم وكتاب ربكم وما خلف نبيه من دينه معكم وعندكم وقد بين لكم فيما جاءكم به عني أنه ميت عنكم ومفارق لكم ومن ينقلب على عقبيه أي يرجع عن دينه فلن يضر الله شيئا أي لن ينقص ذلك عز الله ولا ملكه ولا سلطانه ولا قدرته وسيجزي الله الشاكرين أي من أطاعه وعمل بأمره
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب

الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ) أي من أراد الدنيا خاصة أتاه منها ما كتب له وما له في الآخرة من نصيب ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن آتاه منها ما وعد به مع ما يجري عليه في دنياه من رزقه المقدر له وذلك هو جزاء الشاكرين أي المتقين
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا أي وكم من نبي أصابه القتل ومعه جماعات من أنصاره فما وهنوا لفقد نبيهم وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم وذلك هو الصبر والله يحب الصابرين
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين أي فقولوا مثل ما قالوا واعلموا أن ذلك بذنوب منكم فاستغفروه كما استغفروا وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين وسلوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم وينصركم على القوم الكافرين
فكل هذا من قولهم كان وقد قتل نبيهم ولم يفعلوا كما فعلتم
فآتاهم الله ثواب الدنيا بالظهور على عدوهم وحسن ثواب الآخرة الذي به وعدهم والله يحب المحسنين
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين أي عن عدوكم فتذهب دنياكم وآخرتكم
بل الله مولاكم وهو خير الناصرين فإن كان ما تقولون بألسنتكم صدقا عن قلوبكم فاعتصموا به ولا تنتصروا بغيره ولا ترجعوا كفارا على أعقابكم مرتدين عن دينه
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم عليهم جزاء لهم بما أشركوا بي فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر ولا ظهورا عليكم ما
اعتصمتم بي واتبعتم أمري وإنما أصابكم منهم ما أصابكم بذنوب قدمتموها لأنفسكم خالفتم بها أمري وعصيتم فيها نبيي

ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون أي لقد وفيت لكم ما وعدتكم من النصر على عدوكم إذ تحسونهم بالسيوف أي تستأصلونهم قتلا بإذني وتسليطي أيديكم عليهم وكفي أيديهم عنكم حتى إذا فشلتم أي تخاذلتم وتنازعتم في الأمر اختلفتم فيه وعصيتم بترك أمر نبيكم يعني الرماة الذين عهد إليهم ألا يفارقوا مكانهم فخالفوا أمره حتى أتي المسلمون من قبلهم من بعد ما أراكم ما تحبون أي الفتح لا شك فيه وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم منكم من يريد الدنيا أي النهب ومنكم من يريد الآخرة أي الذين جاهدوا في الله ولم يخالفوا إلى ما نهوا عنه ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين أي أنه سبحانه وإن عاقب من يشاء من عباده ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدبا وموعظة فإنه غير مستوف كل ماله فيهم من الحق بما أصابوا من معصية فضلا من الله ورحمة
ثم أنبهم بالفرار عن نبيهم وهو يدعوهم ولا يعطفون عليه فقال إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم أي كربا بعد كرب بقتل من قتل من إخوانكم وعلو عدوكم عليكم وما وقع في أنفسكم حين سمعتم أنه قتل نبيكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الظهور على عدوكم بعد أن رأيتموه بأعينكم ولا ما أصابكم من قتل إخوانكم بما فرجت عنكم من الكرب بوقاية نبيكم وكشف كرب الشيطان في الصراخ بقتله بينكم فكان هذا هو الذي فرج الله به عنهم ما تابع عليهم من الغم فلما رأوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حيا بين أظهرهم هان عليهم ما فاتهم من القوم بعد الظهور عليهم والمصيبة التي أصابتهم فيمن قتل منهم
ثم قال تعالى بعد آيات ذكر فيها ما ذكر من قصة أحد وما أصابكم يوم

التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ) يعني عبد الله بن أبي والراجعين عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين سار إلى عدوه من المشركين
يقول الله تبارك وتعالى هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين
ثم قال لنبيه {صلى الله عليه وسلم} يرغب المؤمنين في الجهاد ويهون عليهم القتل ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزدهوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب قال الله تبارك وتعالى فأنا ابلغهم عنكم فانزل الله عز ذكره على رسوله {صلى الله عليه وسلم} هذه الآيات ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله إلى آخرها
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا
وسئل عبد الله بن مسعود عن هؤلاء الآيات ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا فقال أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا انه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فيطلع الله إليهم اطلاعة
فيقول يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم فيقولون ربنا لا فوق ما أعطيتنا الجنة نأكل منها حيث شئنا

ثم يطلع الله إليهم اطلاعة فيقول يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم فيقولون ربنا لا فوق ما أعطيتنا الجنة نأكل منها حيث نشاء ثم يطلع إليهم اطلاعة فيقول يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم فيقولون ربنا لا فوق ما أعطيتنا الجنة نأكل منها حيث شئنا إلا أنا نحب أن ترد أرواحنا في أجسادنا ثم تردنا إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نقتل فيك مرة أخرى
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لجابر بن عبد الله ألا أبشرك يا جابر قال قلت بلى يا رسول الله قال إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله ثم قال ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن افعل بك قال أي رب احب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والذي نفسي بيده ما من مؤمن يفارق الدنيا يحب أن يرجع إليها ساعة من النهار وان له الدنيا وما فيها إلا الشهيد فانه يحب أن يرد إلى الدنيا فيقاتل في الله فيقتل مره أخرى
واستشهد من المسلمين يوم أحد مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من المهاجرين والأنصار خمسة وستون رجلا أربعة من المهاجرين وسائرهم من الأنصار وقتل الله من المشركين يومئذ اثنين وعشرون
وكان مما قيل من الشعر في يوم أحد قول كعب بن مالك الأنصاري رحمه الله
ألا هل أتى غسان عنا ودونهم
من الأرض خرق سيره متتعتع
صحار وأعلام كأن قتامها
من البعد نقع هامد متقطع
تظل به البزل العراميس درجا
ويحلو به غيث السنين فيمرع
به جيف الحسري يلوح صليبها
كما لاح كتان التجار الموضع
به العين والآرام يمشين خلفة
وبيض نعام قيضة يتقلع
مجالدنا عن ديننا كل فخمة
مذربة فيها القوانس تلمع
وكل صموت في الصوان كأنها
إذا لبست نهي من الماء مترع
ولكن ببدر سائلوا من لقيتم
من الناس والأنباء بالغيب تنفع
وإنا بأرض الخوف لو كان أهلها
سوانا لقد أجلوا بليل فأقشع
إذا جاء منا راكب كان قوله
أعدوا لما يزجي ابن حرب ويجمع
ولما ابتنوا بالعرض قال سراتنا
علام إذا لم يمنع العرض نزرع
وفينا رسول الله نتبع أمره
إذا قال فينا القول لا نتطلع

تدلى عليه الروح من عند ربه
ينزل من جو السماء ويرفع
نشاوره فيما نريد وقصدنا
إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع
وقال رسول الله لما بدوا لنا
ذروا عنكم هول المنيات واطمع
ولكن خذوا أسيافكم وتوكلوا
على الله إن الأمر لله أجمع
وكونوا كمن يشري الحياة تقربا
إلى ملك يحيا لديه ويرجع
فسرنا إليهم جهرة في رحالهم
ضحيا علينا البيض لا نتخشع
بملمومة فيها السنور والقنا
إذا ضربوا أقدامها لا تروع
فجئنا إلى موج من البحر وسطه
أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن نضية
ثلاث ميين إن كثرنا وأربع
نغاورهم تجري المنية بيننا
نشارعهم حوض المنايا ونشرع
تهادي قسي النبع فينا وفيهم
وما هو إلا اليثربي المقطع
ومنجوفة حرمية صاعدية
يذر عليها السم ساعة تصنع
وخيل تراها بالفضاء كأنها
جراد صبا في قرة يتريع
فلما تلاقينا ودارت بنا الرحى
وليس لأمر حمه الله مدفع
ضربناهم حتى تركنا سراتهم
كأنهم بالقاع خشب مصرع
لدن غدوة حتى استفقنا عشية
كأن ذكاها حر نار تلفع
وراحوا سراعا موجعين كأنهم
جهام هراقت ماءه الريح مقلع
ورحنا وأخرانا بطاء كأننا
أسود على لحم ببيشة ظلع
فنلنا ونال القوم منا وربما
فعلنا ولكن ما لدي الله أوسع
ودارت رحانا واستدارت رحاهم
وقد جعلوا كل من الشر يشبع
ونحن أناس لا نرى القتل سبة
على كل من يحمي الذمار ويمنع
جلاد على ريب الحوادث لا ترى
على هالك عين لنا الدهر تدمع
بنو الحرب لا نعيا بشيء نقوله
ولا نحن مما جرت الحرب نجزع
بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش
ولا نحن من أظفارها نتوجع
الطويل
وقال حسان بن ثابت يجيب عبد الله بن الزبعري عن كلمة له على روي هذا الجواب يفخر فيها بيوم أحد وكلتا الكلمتين ينكرها بعض أهل العلم لمن نسبت إليه
أشاقتك من أم الوليد ربوع
بلاقع ما من أهلهن جميع
عفاهن ضيفي الرياح وواكف
من الدلو زحاف السحاب هموع
فلم يبق إلا موقد النار حوله
رواكد أمثال الحمام كنوع
فدع ذكر دار بددت بين أهلها
نوى لمتينات الجبال قطوع

وقل إن يكن يوم بأحد يعده
سفيه فإن الحق سوف يشيع
فقد صابرت فيه بنو الأوس كلهم
وكان لهم ذكر هناك رفيع
وحامى بنو النجار فيه وصابروا
وما كان منهم في اللقاء جزوع
أمام رسول الله لا يخذلونه
لهم ناصر من ربهم وشفيع
وفوا إذ كفرتم يا سخين بربكم
ولا يستوي عبد وفي ومضيع
بأيديهم بيض إذا حمي الوغى
فلا بد أن يودي بهن صريع
كما غادرت في النقع عتبة ثاويا
وسعدا صريعا والوشيج شروع
وقد غادرت تحت العجاجة مسندا
أبيا وقد بل القميص نجيع
بكف رسول الله حيث تنصبت
على القوم مما قد يثرن نقوع
أولئك قوسم سادة من فروعكم
وفي كل قوم سادة وفروع
بهن نعز لله حتى يعزنا
وإن كان أمر يا سخين فظيع
فلا تذكروا قتلى وحمزة فيهم
قتيل ثوى الله وهو مطيع
فإن جنان الخلد منزلة له
وأمر الذي يقضي الأمور سريع
وقتلاكم في النار أفضل رزقهم
حميم معا في جوفها وضريع
الطويل
وقال كعب بن مالك يجيب ابن الزبعري وعمرو بن العاص عن كلمتين قالاها في ذلك
أبلغ قريشا وخير القول أصدقه
والصدق عند ذوي الألباب مقبول
أن قد قتلنا بقتلانا سراتكم
أهل اللواء ففيما يكثر القيل
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد
فيه مع النصر ميكال وجبريل
إن تقتلونا فدين الحق فطرتنا
والقتل في الحق عند الله تفضيل
وإن تروا أمرنا في رأيكم سفها
فرأي من خالف الإسلام تضليل
فلا تمنوا لقاح الحرب واقتعدوا
إن أخا الحرب أصدى اللون مشغول
إنا بنو الحرب نمريها وننتجها
وعندنا لذوي الأضغان تنكيل
إن ينج منها ابن حرب بعدما بلغت
منه التراقي وأمر الله مفعول
فقد أفادت له حلما وموعظة
لمن يكون له لب ومعقول
ولو هبطتم ببطن السيل كافحكم
ضرب لشاكلة البطحاء ترعيل
تلقاكم عصب حول النبي لها
مما يعدون للهيجا سرابيل
من جذم غسان مسترخ حمائلهم
لا جبناء ولا ميل معازيل
يمشون تحت عمايات القتال كما
يمشي المصاعبة الأدم المراسيل
أو مثل مشي أسود الطل ألثقها
يوم رذاذ من الجوزاء مشمول
في كل سابغة كالنهي محكمة

قيامها فلح كالسيف بهلول
ترد حد قران النبل خاسئة
ويرجع السيف عنها وهو مفلول
ولو قذفتم بسلع عن ظهوركم
وللحياة ودفع الموت تأجيل
ما زال في القوم وتر منكم أبدا
تعفو السلام عليه وهو مطلول
البسيط
وقال كعب أيضا في يوم أحد من قصيدة يفخر فيها بقومه
فإن كنت عن شأننا سائلا
فسل عنه ذا العلم ممن يلينا
بنا كيف نفعل إن قلصت
عوانا ضروسا عضوضا حجونا
ألسنا نشد عليها العقاب
حتى تدر وحتى تلينا
ويوم له رهج دائم
شديد التهاول حامي الأرينا
طويل شديد أوار القتال
يبغي حواقزه المقر فينا
تخال الكماة بأعراضه
ثمالي على لذة منزفينا
تعاور أيمانهم بينهم
كؤوس المنايا بحد الظبينا
شهدنا وكنا أولى بأسه
وتحت العصابة والمعلمينا
بخرس الحسيس حسان رواء
وبصريه قد أجمن الجفونا
فما ينفللن وما ينحنين
وما ينتهين إذا ما نهينا
كبرق الخريف بأيدي الكماة
يفجعن بالطل هاما سكونا
وعلمنا الضرب آباؤنا
وسوف نعلم أيضا بنينا
جلاد الكماة وبذل التلاد
عن جل أحسابنا ما بقينا
إذا مر قرن كفي نسله
وأورثه بعده آخرينا
نشب وتهلك آباؤنا
وبينا نربي بنينا فنينا
المتقارب
وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
أتعرف الدار عفا رسمها
بعدك صوب المسبل الهاطل
بين السراديح فأرمانة
فمدفع الروحاء في حائل
سألتها عن ذاك فاستعجمت
لم تدر ما مرجوعة السائل
دع عنك دارا قد عفا رسمها
وابك على حمزة ذي النائل
المالئ الشيزي إذا أعصفت
غبراء في ذي الشبم الماحل
والتارك القرن لذي لبدة
يعثر في ذي الخرص الذابل
واللابس الخيل إذا أحجمت
كالليث في غابته الباسل
أبيض في الذروة من هاشم
لم يمر دون الحق بالباطل
مال شهيدا بين أسيافكم
شلت يدا وحشي من قاتل
أي امرئ غادر في ألة
مطرورة مارنة العامل
أظلمت الأرض لفقدانه
واسود نور القمر الناصل
صلى عليه الله في جنة
عالية مكرمة الداخل
كنا نرى حمزة حرزا لنا
من كل أمر يأتنا نازل
وكان في الإسلام ذا تدرء
يكفيك فقد القاعد الخاذل

لا تفرحي يا هند واستجلبي
دمعا وأذري عبرة الثاكل
وابكي على عتبة إذ قطه
بالسيف تحت الرهج الحائل
إذ خر في مشيخة منكم
من كل عات قلبه جاهل
أرداهم حمزة في أسرة
يمشون تحت الحلق الفاضل
غداة جبريل وزير له
نعم وزير الفارس الحامل
الرجز
وقال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة وتروي أيضا لكعب بن مالك رضي الله عنهم أجمعين
بكت عيني وحق لها بكاها
وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا
أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا
هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلي لك الأركان هدت
وأنت الماجد البر الوصول
عليك سلام ربك في جنان
مخالطها نعيم لا يزول
الوافر
وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أخاها حمزة رضي الله عنهما
أسائله أصحاب أحد مخافة
بنات أبي من أعجم وخبير
فقال الخبير إن حمزة قد ثوى
وزير رسول الله خير وزير
دعاه الإله الحق ذو العرش دعوة
إلى جنة يحيا بها وسرور
فذلك ما كنا نرجي ونرتجي
لحمزة يوم الحشر خير مصير
فوالله ما أنساك ما هبت الصبا
بكاء وحزنا محضري ومسيري
على أسد الله الذي كان مدرها
يذود عن الإسلام كل كفور
فيا ليت شلوي عند ذاك وأعظمى
لدى أضبع تعتادني ونسور
أقول وقد أعيي النعي عشيرتي
جزي الله خيرا من أخ ونصير
الطويل
وقالت نعم امرأة شماس بن عثمان تبكي زوجها شماسا وأصيب يوم أحد
يا عين جودي بفيض غير إبساس
على كريم من الفتيان لباس
صعب البديهة ميمون نقيبته
حمال ألوية ركاب أفراس
أقول لما أتى الناعي له جزعا
أودى الجواد وأودى المطعم الكاسي
وقلت لما خلت منه مجالسه
لا يبعد الله منا قرب شماس
البسيط
فأجابها أخوها يعزيها فقال
اقنى حياءك في ستر وفي كرم
فإنما كان شماس من الناس
لا تقتلي النفس إذ حانت منيته
في طاعة الله يوم الروع والباس
قد كان حمزة ليث الله فاصطبري
فذاق يومئذ من كأس شماس
البسيط
وقالت هند بنت عتبة حين انصرف المشركون عن أحد
رجعت وفي نفسي بلابل جمة
وقد فاتني بعض الذي كان مطلبي

من أصحاب بدر من قريش وغيرهم
بني هاشم منهم ومن آل يثرب
ولكنني قد نلت شيئا ولم يكن
كما كنت أرجو في مسيري ومركبي
الطويل
وهذه هند أم معاوية بن أبي سفيان وكانت امرأة فيها مكارة وذكورة ولها نفس وأنفة وكان المسلمون قد أصابوا يوم بدر أباها عتبة وعمها شيبة وأخاها الوليد فأصابها من ذلك ما يصيب من مثله النفوس الشهمة والقلوب الكافرة فخرجت إلى أحد مع زوجها أبي سفيان تبتغي الانتصار وتطلب الأوتار فهذا قولها يرحمها الله والوتر يقلقها والكفر يحنقها والحزن يحرقها والشيطان ينطقها
ثم إن الله سبحانه هداها إلى الإسلام وأخذ بحجزتها عن سواء النار فصلحت حالها وتبدلت أقوالها حتى قالت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما قالت له والله يا رسول الله ما كان على الأرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك وما أصبح اليوم على الأرض خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك
أو نحو هذا من القول
فالحمد لله الذي هدانا برسوله أجمعين وإياه سبحانه نسأل أن يميتنا على خير ما هدانا إليه لا مبدلين ولا مغيرين
غدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد أحد رهط من عضل والقارة وهم بنو الهون ابن خزيمة بن مدركة فقالوا له يا رسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام
فبعث معهم ستة من أصحابه مرثد بن أبي مرثد الغنوي وأمره عليهم وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وخبيب بن عدي وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق
فخرجوا حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز من صدر الهدأة غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا لهم إنا والله ما نريد قتلكم ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم

فأما مرثد وخالد وعاصم فقالوا والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا
وقال عاصم
ما علتي وأنا جلد نابل
والقوس فيها وتر عنابل
تزل عن صفحتها المعابل
الموت حق والحياة باطل
وكل ما حم الإله نازل
بالمرء والمرء إليه آيل
إن لم أقاتلكم فأمي هابل
الرجز
ثم قاتل القوم حتى قتل وقتل صاحباه رحمهم الله
فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد بمكة وكانت حين أصاب ابنيها يوم أحد نذرت لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر فمنعه الدبر فقالوا دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه
فبعث الله الوادي فاحتمل عاصما فذهب به
وقد كان عاصم أعطى الله عهدا أن لا يمس مشركا وألا يمسه مشرك أبدا تنجسا
فكان عمر بن الخطاب يقول يحفظ الله العبد المؤمن كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا في حياته فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته
وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة فأعطوا بأيديهم فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بالظهران
وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل ليقتله بأبيه
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف فبعث به مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم فأخرجوه من الحرم ليقتلوه واجتمع رهط من قريش منهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان لما قدم ليقتل أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك فقال والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي
يقول أبو سفيان ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا

ثم قتله رحمه الله نسطاس مولى صفوان
قال ابن عقبة وزعموا أنهم رموه بالنبل وأرادوا فتنته فلم يزده إلا إيمانا ويقينا
وأما خبيب بن عدي فجلس بمكة في بيت ماوية مولاة حجير بن أبي إهاب فكانت تخبر بعد ما أسلمت قالت لقد اطلعت عليه يوما وإن في يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه ووالله ما أعلم في أرض الله عنبا يؤكل
قالت وقال لي حين حضره القتل ابعثي إلي بحديدة أتطهر بها للقتل فأعطيت الموسى غلاما من الحي فقلت ادخل بها على هذا الرجل قالت فوالله ما هو إلا أن ولى الغلام بها إليه فقلت ماذا صنعت أصاب والله الرجل ثأره يقتل هذا الغلام فيكون رجلا برجل
فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال لعمرك ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إلي ثم خلى سبيله
ثم خرجوا بخبيب حتى إذا جاءوا به التنعيم ليصلبوه قال لهم إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا
قالوا له دونك فاركع
فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما ثم أقبل على القوم فقال أما والله لولا تظنوا أني إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة
فكان خبيب أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين
ثم رفعوه على خشبة فلما أوثقوه قال اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا
ثم قال اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا
ثم قتلوه
فكان معاوية بن أبي سفيان يقول حضرت يومئذ فيمن حضره مع أبي أبي سفيان فلقد رأيته يلقيني في الأرض فرقا من دعوة خبيب وكانوا يقولون الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زلت عنه
وكان ممن حضره يومئذ سعيد بن عامر بن جذيم الجمحي ثم أسلم بعد ذلك واستعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على بعض الشام فكانت تصيبه غشية بين ظهري القوم فذكر ذلك لعمر وقيل إن الرجل مصاب

فسأله عمر رحمه الله في قدمة قدمها عليه فقال يا سعيد ما هذا الذي يصيبك قال والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل وسمعت دعوته فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس قط إلا وغشي علي فزادته عند عمر خيرا
وذكر ابن عقبة أن خبيبا وزيدا قتلا في يوم واحد قال وزعموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال وهو جالس في ذلك اليوم الذي قتلا فيه وعليكما أو وعليك السلام خبيب قتلته قريش لا ندري أذكر ابن الدثنة معه أم لا
وقال خبيب يرحمه الله لما اجتمع القوم لصلبه
لقد جمع الأحزاب حولي وآلبوا
قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم
وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي
وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي
فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وذلك في ذات الإله وان يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد خيروني الكفر والموت دونه
وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت
ولكن حذاري جحم نار ملفع
ولست أبالي حين أقتل مسلما
على أي جنب كان في الله مضجعي
فلست بمبد للعدو تخشعا
ولا جزعا إني إلى الله مرجعي
الطويل
وقال حسان بن ثابت يبكي خبيبا
يا عين جودي بدمع منك منسكب
وابكي خبيبا مع الفتيان لم يؤب
صقرا توسط في الأنصار منصبه
سمح السجية محضا غير مؤتشب
قد هاج عيني على علات عبرتها
إذ قيل نص إلى جذع من الخشب
يا أيها الراكب الغادي لطيته
أبلغ إليك وعيدا ليس بالكذب
بني كهينة إن الحرب قد لقحت
محلوبها الصاب إذ تمري لمحتلب
فيها أسود بني النجار يقدمهم
شهب الأسنة في معصوصب لجب
البسيط
وقال حسان أيضا يهجو هذيلا
لعمري لقد شانت هذيل بن مدرك
أحاديث كانت في خبيب وعاصم
أحاديث لحيان صلوا بقبيحها
ولحيان جرامون شر الجرائم
أناس هم من قومهم في صميمهم
بمنزلة الزمعان دبر القوائم
هم غدروا يوم الرجيع وأسلمت
أمانتهم ذا عفة ومكارم
رسول رسول الله غدرا ولم تكن

هذيل توقى منكرات المحارم
فسوف يرون النصر يوما عليهم
بقتل الذي يحميه دون المحارم
أبابيل دبر شمس دون لحمه
حمت لحمك شهاد عظام الملاحم
لعل هذيلا أن يروا بمصابه
مصارع قتلى أو مقاما لمأتم
ويوقع فيها وقعة ذات صولة
يوافي بها الركبان أهل المواسم
بأمر رسول الله إن رسوله
رأي رأي ذي حزم بلحيان عالم
قبيلته ليس الوفاء بهمهم
وإن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم
إذا الناس حلوا بالفضاء رأيتهم
بمجرى مسيل الماء بين المخارم
محلهم دار البوار ورأيهم
إذا نابهم أمر كرأي البهائم
الطويل

غزوة بئر معونة

وبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد
وكان من حديثهم أن أبا براء ملاعب الأسنة واسمه عامر بن مالك بن جعفر قدم المدينة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فعرض عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الإسلام ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام وقال يا محمد لو بعث رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إني أخشى عليهم أهل نجد قال أنا لهم جار فابعثهم فبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في أربعين رجلا من أصحابه منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن بديل بن ورقاء وعامر بن فهيرة في رجال مسمين من خيار المسلمين
فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم كلا البلدين منها قريب وهي إلى حرة بني سليم أقرب
فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى عدو الله عامر بن الطفيل فلما أتاهم لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه وقالوا لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا

فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم عصية ورعلا وذكوان فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم رحمهم الله إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار يرحمه الله فإنهم تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف قيل إنه المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا والله إن لهذا الطير لشأنا
فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة
فقال الأنصاري لعمرو بن أمية ما ترى
قال أرى أن نلحق برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنخبره الخبر
فقال الأنصاري لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو وما كنت لتخبرني عنه الرجال
ثم قاتل القوم حتى قتل
وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه فخرجة عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا معه في ظل هو فيه فسألهما ممن أنتما فقالا من بني عامر
فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر في ما أصابوه من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان مع العامريين عقد من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وجوار لم يعلم به عمرو بن أمية فلما قدم عمرو على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره الخبر قال لقد قتلت قتيلين لأدينهما
ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها متخوفا
وكان فيمن أصيب يومئذ عامر بن فهيرة فكان عامر بن الطفيل يقول من
رجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء دونه قالوا هو عامر بن فهيرة
وذكر ابن عقبة أنه لم يوجد جسد عامر بن فهيرة يومئذ فيرون أن الملائكة هي وارته رحمة الله عليه

وكان جبار بن سلمى فيمن حضرها يومئذ مع عامر بن الطفيل ثم أسلم فكان يقول إن مما دعاني إلى الإسلام أني طعنت رجلا منهم بالرمح بين كتفيه فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره فسمعته يقول فزت والله فقلت في نفسي ما فاز ألست قد قتلت الرجل حتى سألت بعد ذلك عن قوله فقالوا الشهادة
فقلت فاز لعمر الله
وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شهرا يدعو في صلاة الغداة على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة يدعو على رعل وذكوان وعصية الذين عصوا الله ورسوله وأنزل فيمن قتل هنالك قرآن ثم رفع بلغوا عنا قومنا أن لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه

ذكر غزوة بني النضير والسبب الذي هاج الخروج إليهم

وذلك أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خرج إليهم يستعينهم في دية العامريين اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري للجوار الذي كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عقد لهما فقالوا له لما كلمهم في ذلك نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه اجلس حتى تطعم وترجع بحاجتك
فجلس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى ظل جدار من جدر بيوتهم معه نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي ينتظرون أن يصلحوا أمرهم
فخلا بعضهم ببعض والشيطان معهم لا يفارقهم فائتمروا بقتل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقالوا إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه
فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال أنا لذلك
وصعد ليفعل
فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الخبر من السماء بما أراد القوم فقام راجعا إلى المدينة وترك أصحابه في مجلسهم فلما استلبث النبي {صلى الله عليه وسلم} أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال لقيته داخلا المدينة فأقبلوا حتى انتهوا إليه فأخبرهم بما كانت يهود أرادت من الغدر به
وأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم ثم سار بالناس ونزل بهم فتحصنوا منه في الحصون

وعرض عليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الجلاء عن أوطانهم وأن يسيروا حيث شاءوا فراسلهم أولياؤهم من المنافقين عبد الله بن أبي في رهط من قومه حين سمعوا ما يراد منهم أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم إن قاتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم
فغرتهم أماني المنافقين ونادوا النبي {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه إنا والله لا نخرج ولئن قاتلتنا لنقاتلنك
فمضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأمر الله فيهم فلما انتهى إلى أزقتهم وحصونهم كره أن يمكنهم من القتال في دورهم وحصونهم فحفظ الله له أمره وعزم له على رشده فأمر بالأدنى فالأدنى من دورهم أن تهدم وبالنخيل أن تحرق وتقطع وكف الله أيديهم وأيدي المنافقين فلم ينصرونهم وألقى الله في قلوب الفريقين كليهما الرعب فهدموا الدور التي هم فيها من أدبارها فلما كادوا يبلغون آخر دورهم وهم ينتظرون المنافقين ويتربصون من نصرهم ما كانوا يمنونهم به حتى يئسوا مما عندهم سألوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الذي كان عرض عليهم قبل ذلك
فقاضاهم {صلى الله عليه وسلم} على أن يجليهم ويكف عن دمائهم وعلى أن لهم ما استقلت به الإبل من أموالهم إلا الحلقة فقط
فطاروا بذلك كل مطير وتحملوا بما أقلت إبلهم حتى إن الرجل ليهدم بيته عن نجاف بابه في فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به
فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام وكان أشرافهم بنو أبي الحقيق وحيي بن أخطب فيمن سار إلى خيبر فلما نزلوها دان لهم أهلها
وخلي بنو النضير الأموال لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكانت له خاصة بحكم الله له بها ليضعها حيث شاء فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منها
وكانت اليهود قد عيروا المسلمين حين يهدمون الدور ويقطعون النخل

فنادوا أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بال قطع النخيل وتحريقها وما ذنب شجرة وأنتم تزعمون أنكم مصلحون في الأرض فأنزل الله سبحانه في قصتهم وما ذكروه من قولهم وبيان وجه الحكم في أموالهم سورة الحشر بأسرها
فقال عز من قائل
سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار للذي كان منهم من الهدم من أدبار بيوتهم وهدم المسلمين لما يليهم منها
ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا أي بالسيف ولهم في الآخرة عذاب النار أي مع ما لقوه في الدنيا من النقمة
ثم قال تعالى فيما عابوه من قطع النخيل وعدوه من ذلك فسادا ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله أي فبأمر الله قطعت لم يكن ذلك فسادا بل نقمة أنزلها بهم وليخزي الفاسقين
ثم بين تعالى لرسوله الحكم في أموالهم وأنها نفل له لا سهم لأحد فيها معه فقال عز ذكره وجل قوله وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير فقسمها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيمن أراه الله من المهاجرين الأولين كما تقدم وأعطى منها الرجلين المسميين من الأنصار
وقال علي بن أبي طالب يذكر إجلاء بني النضير وما تقدم قبل ذلك من قتل كعب بن الأشرف ويقال بل قالها رجل من المسلمين غير علي
عرفت ومن يعتدل يعرف
وأيقنت حقا ولم أصدف
عن الكلم المحكم اللاء من
لدى الله ذي الرأفة الأرأف
وسائل تدرس في المؤمنين
بهن اصطفى أحمد المصطفى
فأصبح أحمد فينا عزيزا
عزيز المقامة والموقف
فيا أيها الموعدوه سفاها
ولم يأت جورا ولم يعنف
ألستم تخافون أدنى العذاب
وما آمن الله كالأخوف

وأن تصرعوا تحت أسيافه
كمصرع كعب أبي الأشرف
غداة رأي الله طغيانه
وأعرض كالجمل الأحنف
فأنزل جبريل في قتله
بوحي إلى عبده ملطف
فدس الرسول رسولا له
بأبيض ذي هبة مرهف
فباتت عيون له معولات
متى ينع كعب لها تذرف
وقلن لأحمد ذرنا قليلا
فإنا من النوح لم نشتف
فخلاهم ثم قال اظعنوا
دحورا على رغم الأنف
وأجلى النضير إلى غربة
وكانوا بدار ذوي زخرف
إلى أذرعات ردافي وهم
على كل ذي دبر أعجف
المتقارب
ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان يامين بن عمير بن كعب ابن عم عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب أسلما خوفا على أموالهما فأحرزاها وحدث بعض آل يامين أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ليامين ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله فيما يزعمون

غزوة ذات الرقاع

ثم أقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهر ربيع وبعض جمادي ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلا
وهي غزوة ذات الرقاع وسميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم وقيل لأجل شجرة بذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع
وقيل لما كانوا يعصبون على أرجلهم من الخرق إذ نقبت أقدامهم
فلقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هنالك جمعا من غطفان فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب وخاف الناس بعضهم بعضا حتى صلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ بالناس صلاة الخوف ثم انصرف بهم
وفي هذه الغزوة عرض له رجل من محارب يقال له غورث وقد قال لقومه من غطفان ومحارب ألا أقتل لكم محمدا قالوا بلى وكيف تقتله قال أفتك به
فأقبل إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو جالس وسيفه في حجره فقال يا محمد أنظر إلى سيفك هذا قال نعم
فأخذه فاستله ثم جعل يهزه ويهم به فيكبته الله ثم قال يا محمد أما تخافني قال لا والله ما أخاف منك
قال أما تخافني وفي يدي السيف قال بلى يمنعني الله منك
ثم عمد إلى سيف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرده عليه

فأنزل الله تبارك وتعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون المائدة 11
وقيل إنها إنما نزلت في عمرو بن جحاش وما هم به من إلقاء الحجر على رسول
الله {صلى الله عليه وسلم} يوم وصل إلى بني النضير مستعينا بهم في دية العامريين
فالله أعلم أي ذلك كان
وحدث جابر بن عبد الله قال خرجنا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في غزوة ذات الرقاع من نخل فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين فلما انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قافلا أتى زوجها وكان غائبا فلما أخبر الخبر حلف أن لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد دما فخرج يتبع أثر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنزل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منزلا فقال من رجل يكلؤنا ليلتنا قال فانتدب رجل من المهاجرين قيل هو عمار بن ياسر ورجل من الأنصار قيل هو عباد بن بشر فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب قال الأنصاري للمهاجري أي الليل تحب أن أكفيكه أوله أو آخره قال بل اكفني أوله فاضطجع المهاجري فنام وقام الأنصاري يصلي وأتي الرجل فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة القوم فرماه بسهم فوضعه فيه قال فانتزعه عنه وثبت قائما ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه فوضعه وثبت قائما ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه فنزعه ثم ركع وسجد ثم أهب صاحبه فقال اجلس فقد أثبت
قال فوثب فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذرا به فهرب فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال سبحان الله أفلا أهببتني أول ما رماك قال كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها فلما تابع على الرمي ركعت فآذنتك وأيم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها
وقال جابر بن عبد الله خرجت إلى غزوة ذات الرقاع على جمل لي ضعيف فلما قفل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جعلت الرفاق تمضي وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال ما لك يا جابر قلت يا رسول الله أبطأ بي جملي

قال أنخه فأنخته وأناخ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال أعطني هذه العصار من يدك أو اقطع
لي عصا من شجرة ففعلت فأخذها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنخسه بها نخسات ثم قال اركب فركبت فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة وتحدثت معه فقال لي أتبيعني جملك هذا يا جابر قلت يا رسول الله بل أهبه لك
قال لا ولكن بعنيه
قلت فسمنيه
قال قد أخذته بدرهم
قلت لا إذن تغبنني يا رسول الله
قال فبدرهمين
قلت لا
فلم يزل يرفع لي حتى بلغ الأوقية فقلت أقد رضيت قال نعم
قلت فهو لك
قال قد أخذته
ثم قال يا جابر هل تزوجت بعد قلت نعم يا رسول الله قال أثيبا أم بكرا قلت بل ثيبا
قال أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك قلت يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا فنكحت امرأة جامعة تجمع رءوسهن وتقوم عليهن
قال أصبت إن شاء الله أما إنه لو قد جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذلك وسمعت بنا فنفضت نمارقها
قلت والله يا رسول الله مالها من نمارق
قال إنها ستكون
فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا
قال فلما جئنا صرارا أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم فلما أمسى دخل ودخلنا فحدثت المرأة الحديث وما قال لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قالت فدونك فسمع وطاعة
فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم جلست في المسجد قريبا منه وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرأى الجمل فقال ما هذا فقالوا يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر
قال فأين جابر فدعيت له
فقال يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك
ودعا بلالا وقال اذهب بجابر فأعطه أوقية
قال فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادني شيئا يسيرا فوالله ما زال ينمي عندي ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا يعني يوم الحرة
قال ابن إسحاق ولما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادي الأولى وجمادي الآخرة ورجب
ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان حتى نزله فأقام عليه ثماني ليال ينتظره

وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران وبعض الناس يقول غسفان ثم بدا له في الرجوع فقال يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن فإن عامكم هذا عام جدب وإني راجع فارجعوا
فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق يقولون إنما خرجتم تشربون السويق
وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده فأتاه مخشى بن عمرو الضمري وهو الذي كان وادعه على بني ضمرة في غزوة ودان فقال يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء قال نعم يا أخا بني ضمرة وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك
قال لا والله يا محمد ما لنا بذلك منك من حاجة
ومر برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو هناك ينتظر أبا سفيان معبد بن أبي معبد الخزاعي فقال وناقته تهوى به وقد رأى مكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قد نفرت من رفقتي محمد
وعجوة من يثرب كالعنجد
تهوى على دين أبيها الأتلد
قد جعلت ماء قديد موعدي
وماء ضجنان لها ضحى الغد
الرجز
وقال عبد الله بن رواحة في ذلك ويقال إنها لكعب بن مالك
وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد
لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا
لأبت ذميما وافتقدت المواليا
تركنا بها أوصال عتبة وابنه
وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أف لدينكم
وأمركم السيئ الذي كان غاويا
فإني وإن عنفتموني لقائل
فدا لرسول الله أهلي وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره
شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا
الطويل
وقال حسان بن ثابت في ذلك
دعوا فلجات الشام قد حال دونها
جلاد كأفواه المخاض الأوارك
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم
وأنصاره حقا وأيدي الملائك
إذا سلكت للغور من بطن عالج
فقولا لها ليس الطريق هنالك
أقمنا على الرس النروع ثمانيا
بأرعن جرار عريض المبارك
بكل كميت جوزه نصف خلقه
وقب طوال مشرفات الحوارك
ترى العرفج العامي تذري أصوله
مناسم أخفاف المطي الرواتك
فإن تلق في تطوافنا والتماسنا

فرات بن حيان يكن رهن هالك
وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده
يزد في سواد لونه لون حالك
فأبلغ أبا سفيان عني رسالة
فإنك من غر الرجال الصعالك
الطويل
ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة فأقام بها حتى مضى ذو الحجة وهي سنة أربع من مقدمة المدينة ثم غزا دومة الجندل ثم رجع قبل أن يصل إليها ولم يلق كيدا {صلى الله عليه وسلم}

غزوة الخندق

وكانت في شوال من سنة خمس في قول ابن إسحاق
وكان من الحديث عن الخندق أنه لما أجلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بني النضير خرج نفر من اليهود سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع النضريون وهوذة بن قيس وأبو عمار الوائليان في نفر من بني النضير وبني وائل وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين قدموا مكة على قريش فاستفزوهم واستنفروهم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودعوهم إلى حربه وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله
فقالت لهم قريش يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه قالوا بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا النساء 51 - 52
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاجتمعوا لذلك واتعدوا له
ثم خرج أولئك النفر حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى مثل ما دعوا إليه قريشا وأخبروهم أنهم سيكونون معهم وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك
وجعلت يهود لغطفان تحريضا على الخروج نصف تمر خيبر كل عام
فزعموا أن الحارث بن عوف أخا بني مرة قال لعيينة بن حصن بن حذيفة ابن بدر ولقومه من غطفان يا قوم أطيعوني دعوا قتال هذا الرجل وخلوا بينه وبين عدوه من العرب فغلب عليهم الشيطان وقطع أعناقهم الطمع ونفذوا لأمر عيينة على قتال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}

وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل طليحة الأسدي فيمن اتبعه من بني أسد وهما الحليفان أسد وغطفان
وكتبت قريش إلى رجال من بني سليم أشراف بينهم وبينهم أرحام استمدادا لهم فأقبل أبو الأعور بمن اتبعه من سليم مددا لقريش
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة والحارث بن عوف في بني مرة ومسعر بن رخيلة الأشجعي فيمن تابعه من قومه من أشجع وتكامل لهم ولمن استمدوه فأمدهم جمع عظيم هم الذين سماهم الله الأحزاب
فلما سمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخروجهم وبما اجمعوا له من الأمر اخذ في حفر الخندق وضربه على المدينة فعمل فيه {صلى الله عليه وسلم} ترغيبا للمسلمين في العمل والأجر وعمل معه المسلمون فدأب فيه ودأبوا حتى أحكموه
وأبطأ عنهم في عملهم ذلك رجال من المنافقين وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ويتسللون إلى أهلهم بغير علم من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولا إذن وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد له منها يذكر ذلك لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويستأذنه في اللحوق بحاجته فيأذن له فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتسابا له فأنزل الله في أولئك من المؤمنين إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شانهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم
الله إن الله غفور رحيم ) النور 62
فنزلت هذه الآية فيمن كان من المسلمين من أهل الحسبة والرغبة في الحرب والطاعة لله ولرسوله
ثم قال تبارك وتعالى يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن من النبي {صلى الله عليه وسلم} لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم 63 النور

وكانت في حفر الخندق أحاديث فيها من الله عبرة في تصديق رسوله وتحقيق نبوته عاين ذلك المسلمون
فمنها أنه اشتد عليهم في بعض الخندق كدية فشكوها إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية فيقول من حضرها فوالذي بعثه بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأسا ولا مسحاة
ودعت عمرة بنت رواحة أم النعمان بن بشير ابنة لها من بشير فأعطتها حفنة من تمر في ثوبها ثم قالت أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما
قالت فأخذتها فانطلقت فمررت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأنا التمس أبي وخالي فقال تعالي يا بنية ما هذا معك قالت قلت يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه
قال هاتيه
قالت فصببته في كفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فما ملأتهما ثم أمر بثوب فبسط له ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ثم قال لإنسان عنده اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء
فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق وإنه ليسقط من أطراف الثوب
وقال جابر بن عبد الله عملنا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الخندق وكنا نعمل فيه
نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا فكانت معي شويهة غير جد سمينة فقلت والله لو صنعناها لرسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فأمرت امرأتي فطحنت لنا شيئا من شعير فصنعت لنا منه خبزا وذبحت تلك الشاة فشويناها لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما أمسينا وأراد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الانصراف عن الخندق قلت يا رسول الله إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير فأحب أن تنصرف معي إلى منزلي
وإنما أريد أن ينصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} معي وحده
فلما قلت له ذلك قال نعم
ثم أمر صارخا فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى بيت جابر بن عبد الله

قال قلت إنا لله وإنا إليه راجعون فأقبل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والناس معه فجلس وأخرجناها إليه فبرك وسمى الله ثم أكل وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها
وحدث سلمان الفارسي قال ضربت في ناحية من الخندق فغلظت علي ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} قريب مني فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان علي نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب قال أوقد رأيت ذلك يا سلمان قلت نعم
قال أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب وأما الثالثة فإن الله فتح بها علي المشرق
فكان أبو هريرة يقول حين فتحت الأمصار في زمان عمر وزمان عثمان وما بعده افتتحوا ما بدا لكم فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدا {صلى الله عليه وسلم} مفاتيحها قبل ذلك
ولما فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم
من بني كنانة وأهل تهامة وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد
وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام
وخرج عدو الله حيي بن أخطب حتى أتي كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وعهدهم وكان قد وادع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على قومه وعاقده على ذلك وعاهده فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فناداه حيي ويحك يا كعب افتح لي
فقال ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه ولم منه إلا وفاء وصدقا قال ويحك افتح لي أكلمك

قال ما أنا بفاعل
قال والله إن أغلقت دوني إلا على جشيشتك أن آكل معك منها
فاحفظ الرجل ففتح له فقال ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جنب أحد قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه
فقال له كعب جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماءه فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء
فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن ادخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك
فنقض كعب بن أسد عهده وبريء مما كان بينه وبين رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فلما انتهى الخبر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والى المسلمين بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سعد ابن معاذ وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة وهو يومئذ سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير فقال انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم فإن كان حقا فالحنوا إلي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فأجهروا به للناس
فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم نالوا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقالوا من رسول الله لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه وكان رجلا فيه حدة فقال له سعد بن عبادة دع عنك مشاتمتهم فما بيننا أربي من المشاتمة
ثم أقبلا ومن معهما إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسلموا عليه ثم قالوا عضل والقارة
أي كعذر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين

وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين وحتى قال قائل منهم كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط
وأقام عليه المشركون قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمياء
بالنبل والحصار
فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه فجرى بينه وبينها المراوضة في الصلح حتى كتبوا
الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح ثم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه فقالا يا رسول الله أمرا تحبه فتصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا قال بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما
فقال له سعد بن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيكم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأنت وذلك
فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتب ثم قال ليجهدوا علينا
فأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمسلمون وعدوهم محاصروهم ولم يكن بينهم قتال إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب وضرار بن الخطاب تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا تهيأوا يا بني كنانة للحرب فستعلمون من الفرسان اليوم

ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم وكان عمرو بن عبد ود قد
قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه فلما وقف هو وخيله قال من يبارز فبرز علي بن أبي طالب فقال له يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه فقال له أجل فقال له علي فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام
قال لا حاجة لي بذلك
قال فإني أدعوك إلي النزال
قال له ولم يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك
قال علي لكني والله أحب أن أقتلك فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا فقتله علي
وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة
وذكر ابن إسحاق في غير رواية البكائي أن عمرا لما نادى يطلب من يبارزه قام علي رضي الله عنه وهو مقنع في الحديد فقال أنا له يا نبي الله
فقال له اجلس إنه عمرو ثم ذكر عمرو النداء وجعل يؤنبهم ويقول أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزون إلي رجلا فقام علي فقال أنا له يا رسول الله
قال اجلس إنه عمرو
ثم نادى الثالثة وقال
ولقد بححت من النداء
بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجع
وقفة الرجل المناجز
وكذاك أني لم أزل
متسرعا نحو الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى
والجود من خير الغرائز
الكامل
فقام علي رضي الله عنه فقال أنا له يا رسول الله
فقال إنه عمرو فقال وإن كان عمرا
فأذن له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فمشى إليه علي وهو يقول
لا تعجلن فقد أتاك
مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة
والصدق منجي كل فائز
إني لأرجو أن أقيم

عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى
ذكرها عند الهزاهز
الكامل
فقال عمرو من أنت قال أنا علي قال ابن عبد مناف قال أنا علي بن أبي طالب
فقال غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أهريق دمك
فقال علي لكني والله ما أكره أن أهريق دمك
فغضب ونزل فسل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي مغضبا
ويقال إنه كان على فرسه فقال له علي كيف أقاتلك وأنت على فرسك ولكن انزل معي
فنزل عن فرسه ثم أقبل نحوه فاستقبله علي بدرقته فضربه عمرو فيها فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه وضربه علي على حبل العاتق فسقط وثار العجاج وسمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} التكبير فعرف أن عليا قد قتله فثم يقول علي رضي الله عنه
أعلى تقتحم الفوارس هكذا
عني وعنه أخبروا أصحابي
فاليوم يمنعني الفرار حفيظتي
ومصمم في الرأس ليس بنابي
أدى عمير حين أخلص صقله
صافي الحديدة يستفيض ثوابي
فغدوت ألتمس القراع بمرهف
عضب مع النتراء في إقراب
قال ابن عبد حين شد ألية
وحلفت فاستمعوا من الكذاب
أن لا يفر ولا يهلل فالتقى
أسدان يضطربان كل ضراب
نصر الحجارة من سفاهة رأيه
ونصرت دين محمد بصواب
فصددت حين تركته متجدلا
كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو أنني
كنت المجدل بزني أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه
ونبيه يا معشر الأحزاب
الكامل
وكان شعار أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم الخندق وبني قريظة حم لا ينصرون
وكانت عائشة رضي الله عنها يوم الخندق في حصن بني حارثة وكان من
أحرز حصون المدينة وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن قالت عائشة وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمر سعد وعليه درع له مقلصة وقد خرجت منها ذراعه كلها وفي يده حربته يرقد بها أي يسرع بها في نشاط وهو يقول
لبث قليلا يشهد الهيجا حمل
لا بأس بالموت إذا حان الأجل
الرجز
فقالت أمه الحق أي بني فقد والله أخرت
قالت عائشة فقلت لها يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي

قالت وخفت عليه حيث أصاب السهم منه فرمي سعد بسهم فقطع منه الأكحل رماه حبان بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي فلما أصابه قال خذها وأنا ابن العرقة
فقال له سعد عرق الله وجهك في النار اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة
وكان عبد الله بن كعب بن مالك يقول ما أصاب سعدا يومئذ إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم وقال في ذلك شعرا يخاطب به عكرمة بن أبي جهل
أعكرم هلا لمتني إذ يقول لي
فداك بآطام المدينة خالد
ألست الذي ألزمت سعدا مرشة
لها بين أثناء المرافق عائد
قضي نحبه منها سعيد فأعولت
عليه مع الشمط العذاري النواهد
الطويل
في أبيات ذكرها ابن إسحاق
ويقال إن الذي رمى سعدا خفاقة بن عاصم بن حبان
فالله أعلم أي ذلك كان
وكانت صفية بنت عبد المطلب في فارع أطم حسان بن ثابت قالت
وحسان معنا فيه مع النساء والصبيان
قالت صفية فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت قالت قلت يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود وقد شغل عنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه فانزل إليه فاقتله
قال يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب والله لقد علمت ما أنا بصاحب هذا
فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت لحسان انزل فاسلبه فإني لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل
قال مالي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب

وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم
ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة
فخرج نعيم حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم
قالوا صدقت فلست عندنا بمتهم
فقال لهم إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم فلا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا
تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه
قالوا لقد أشرت بالرأي
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن معه من رجالهم قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا وإنه قد بلغني أمر رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عني
قالوا نفعل
قال تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم فأرسل إليهم نعم
فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهمونني
قالوا صدقت ما أنت عندنا بمتهم قال فاكتموا عني
قالوا نفعل
ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم

فلما كانت ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله لرسوله {صلى الله عليه وسلم} أرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه فأرسلوا إليهم إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان والله إن
الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق
فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا
فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم
فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا
فأبوا عليهم
وخذل الله بينهم وبعث عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم
فلما انتهى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه ليلا لينظر ما فعل القوم فحدث حذيفة رحمه الله وقد قال له رجل من أهل الكوفة يا أبا عبد الله أرأيتم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصحبتموه قال نعم يا ابن أخي
قال فكيف كنتم تصنعون قال والله لقد كنا نجهد
قال الرجل والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا

فقال حذيفة يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالخندق وصلى هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع يشرط له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الرجعة أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد فلما لم يقم أحد دعاني فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقال يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا
فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء فقام أبو سفيان فقال يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه
قال حذيفة فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي فقلت من أنت قال فلان بن فلان
وذكر ابن عقبة أنه فعل ذلك بمن يلي جانبيه يمينا ويسارا قال وبدرهم بالمسألة خشية أن يفطنوا له
قال حذيفة ثم قال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من شدة الريح ما ترون ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل
ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم
ولولا عهد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلي أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني ثم شئت لقتلته بسهم
فرجعت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه فلما رآني أدخلني إلى رجليه وطرح علي طرف المرط ثم ركع وسجد وإني لفيه فلما سلم أخبرته الخبر
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم
ولما أصبح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون معه وقد عضهم الحصار فرجعوا مجهودين فوضعوا السلاح
فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج

ويقولون فيما ذكر ابن عقبة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كان في المغتسل عندما جاءه جبريل وهو يرجل رأسه قد رجل أحد شقيه
فجاءه جبريل على فرس عليه اللأمة حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز وإن على وجه جبريل لأثر الغبار فخرج إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له جبريل غفر الله لك أقد وضعتم السلاح قال نعم
قال جبريل ما وضعت الملائكة السلاح بعد وما رجعت الآن إلا من طلب القوم إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم
فأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مؤذنا فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة
وقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة وابتدرها الناس فسار علي رضي الله عنه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرجع حتى لقى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالطريق فقال يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابيث
قال لم أظنك سمعت منهم لي أذى قال نعم
قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا
فلما دنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من حصونهم قال يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته قالوا يا أبا القاسم ما كنت جهولا
ومر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بنفر من أصحابه في طريقه قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال هل مر بكم أحد قالوا يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذلك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم
وتلاحق الناس برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأتى رجال من بعد العشاء الآخرة لم يصلوا العصر لقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا يصلين أحد العصر إلا ببني قريظة فصلوا العصر بها من بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله بذلك في كتابه ولا عنفهم به رسوله
وذكر ابن عقبة أن الناس لما حانت العصر وهم في الطريق ذكروا الصلاة فقال بعضهم ألم تعلموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمركم أن تصلوا العصر في بني قريظة
وقال آخرون هي الصلاة

فصلى منهم طائفة وأخرت الصلاة طائفة حتى صلوها في بني قريظة بعد أن غابت الشمس فذكروا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} من عجل الصلاة ومن أخرها فذكر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لم يعنف واحدة من الطائفتين
وحاصر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بني قريظة خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب
وكان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم
قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه فلما أيقنوا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال لهم كعب بن أسد يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا آيها شئتم فقالوا و ما هي قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم انه نبي مرسل وانه للذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم قالوا لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره قال فإذا أبيتم علي هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه وان نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء
قالوا أنقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم قال فإذا أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت وانه عسى أن يكون محمد واصحابه قد آمنوا فيها فأنزلوا لعلنا نصيب من محمد واصحابه غره
قالوا أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ قال ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه حازما ليلة واحدة من الدهر
ثم انهم بعثوا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن ابعث إلينا أبا لبابه بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في امرنا فأرسله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم وقالوا له يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد قال نعم
وأشار بيده إلى حلقه انه الذبح

قال أبو لبابة فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده
وقال لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله أن لا أطأ بني قريظة أبدا ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا
فلما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خبره وكان قد استبطأه قال أما انه لو كان جاءني لاستغفرت له فأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه
فنزلت توبته على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو في بيت أم سلمه قالت سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من السحر وهو يضحك قلت مم تضحك أضحك الله سنك قال تيب على أبي لبابة
قالت قلت أفلا ابشره يا رسول الله
قال بلى أن شئت قال فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت يا أبا لبابه ابشر فقد تاب الله عليك
قالت فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا والله حتى يكون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هو الذي يطلقني بيده
فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه
وذكر ابن هشام أن أبا لبابه أقام مرتبطا بالجذع ست ليال تأتيه امرأته في كل وقت صلاه فتحله للصلاة ثم يعود فيرتبط بالجذع
والآية التي نزلت في توبته وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم أن الله غفور رحيم التوبة 102 وأنزل الله في أبي لبابة فيما روي عن عبد الله بن قتادة
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون الأنفال 27

ثم إن ثعلبة بن سعيه وأسيد بن سعيه وأسد بن عمير وهم نفر من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا بني النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأحرزوا دماءهم وأموالهم وكان إسلامهم فيما زعموا عما كان ألقاه إليهم من أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ابن الهيبان القادم عليهم قبل الإسلام متوكفا لخروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومحققا لنبوته فنفع الله هؤلاء الثلاثة بذلك واستنقذهم به من النار
وقد تقدم ذكر خبره فيما مضى من هذا الكتاب
وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي
فمر بحرس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعليه محمد بن مسلمة فلما رآه قال من هذا قال أنا عمرو بن سعدي
وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقال لا أغدر بمحمد أبدا
فقال محمد بن مسلمة حين عرفه اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام ثم خلي سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلم يدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا
فذكر شأنه لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال ذلك رجل نجاه الله بوفائه
وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأصبحت رمته ملقاة ولا يدري أين يذهب
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيه تلك المقالة
فالله أعلم أي ذلك كان ولما نزل بنو قريظة على حكم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثواثبت الأوس فقالوا يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت يريدون بني قينقاع وما كان من حصار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لهم ونزولهم على حكمه وكيف سأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له
فلما كلمته الأوس قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا بلى قال فذاك إلى سعد بن معاذ

وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد قال لقومه حين أصابه السهم في الخندق اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب
فلما حكمه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة
من أدم وكان رجلا جسيما ثم أقبلوا معه إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم
فلما أكثروا قال لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم
فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعي لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه
فلما انتهى سعد إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمسلمين قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قوموا إلى سيدكم فأما المهاجرون من قريش فيقولون إنما أراد الأنصار
وأما الأنصار فيقولون قد عم بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المسلمين
فقاموا إليه فقالوا يا أبا عمرو إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم
فقال سعد بن معاذ عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت قالوا نعم
قال وعلي من ها هنا في الناحية التي فيها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو معرض عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إجلالا له
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نعم
قال سعد فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبي الذراري والنساء
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة
ثم استنزلوا فحسبهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في المدينة في دار امرأة من بني النجار ثم خرج {صلى الله عليه وسلم} إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق يخرج بهم إليها أرسالا
وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمكثر يقول كانوا بين الثمان المائة والتسع المائة

وقالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أرسالا يا كعب ما تراه يصنع بنا قال أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون أن الداعي لا ينزع وأن من ذهب به منكم لا يرجع هو والله القتل
فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأتي بعدو الله حيي بن أخطب وعليه حلة فقاحية قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال أما والله ما لمت
نفسي في عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضربت عنقه
فقال في ذلك جبل بن جوال الثعلبي
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه
ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها
وقلقل يبغي العز كل مقلقل
الطويل
بل ابتغي عدو الله ذل الأبد فوجده وجاهد الله فجهده فأصبح برأيه القائل وسعيه الخاسر من الذين لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار
وقتل من نساء بني قريظة امرأة واحدة لم يقتل من نسائهم غيرها قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها والله إنها لعندي تحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقتل رجالها في السوق إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة قالت أنا والله قلت لها ويلك مالك قالت أقتل
قلت ولم قالت لحدث أحدثته
فانطلق بها فضربت عنقها
فكانت عائشة تقول والله لا أنسى عجبا منها طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد علمت أنها تقتل
قال ابن هشام هي التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته
وكان الزبير بن باطا القرظي قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية أخذه يوم بعاث فجز ناصيته ثم خلي سبيله
فجاءه ثابت لما قتل بنو قريظة وهو شيخ كبير فقال يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني قال وهل يجهل مثلي مثلك
قال فإني أردت أن أجزيك بيدك عندي
قال إن الكريم يجزي الكريم

ثم أتى ثابت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله إنه كان للزبير علي منة وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هو لك
فأتاه فقال إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد وهب لي دمك فهو لك قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة فأتى ثابت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال بأبي أنت وأمي
يا رسول الله امرأته وولده
قال هم لك
فأتاه فقال قد وهب لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أهلك وولدك فهم لك
قال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فأتي ثابت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله ماله
قال هو لك
فأتاه ثابت فقال قد أعطاني رسول الله مالك فهو لك فقال أي ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذاري الحي كعب بن أسد قال قتل
قال فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب قال قتل
قال فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا عزال بن شموال
قال قتل
قال فما فعل المجلسان يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة
قال ذهبوا فقتلوا
قال فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر لله فيلة دلو ناضح حتى ألقى الأحبة
فقدمه ثابت فضرب عنقه
فلما بلغ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قوله ألقي الأحبة قال يلقاهم والله في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد أمر بقتل كل من أنبت منهم
قال عطية القرظي وكنت غلاما فوجدوني لم أنبت فخلوا سبيلي
وكان رفاعة بن شموال القرظي رجلا قد بلغ فلاذ بسلمى بنت قيس أم المنذر أخت سليط بن قيس وكانت إحدى خالات رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد صلت القبلتين معه وبايعته بيعة النساء فقالت يا نبي الله بأبي أنت وأمي هب لي رفاعة فإنه زعم أنه سيصلي ويأكل لحم الجمل
فوبه فوهبه لها فاستحيته

ثم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال وأخرج منها الخمس فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم وللراجل من ليس له فرس
سهم
وكانت الخيل يوم بني قريظة ستة وثلاثين فرسا وكان أول فيء وقعت فيه السهمان وأخرج منه الخمس فعلى سنتها وما مضى من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيها وقعت المقاسم ومضت السنة في المغازي
ثم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سعد بن زيد الأنصاري الأشهلي بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع له بهم خيلا وسلاحا
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة من بني عمرو بن قريظة فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه وكان عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها
وكانت حين سباها قد تعصت بالإسلام وأبت إلا اليهودية فعزلها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ووجد في نفسه لذلك من أمرها فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن سعيه يبشرني بإسلام ريحانة
فجاءه فقال يا رسول الله قد أسلمت ريحانة
فسره ذلك من أمرها
وأنزل الله عز وجل في أمر الخندق وبني قريظة القصة في سورة الأحزاب يذكر فيها ما نزل بهم من البلاء ويذكر نعمته عليهم وكفايته إياهم حتى فرج عنهم ذلك
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا الأحزاب 9 - 12 في آيات استوفى فيها تعالى ذكر ما شاء من قصتهم

ثم قال سبحانه ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا الأحزاب 24 - 27
فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه فمات شهيدا يرحمه الله
فذكروا أن جبريل أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين قبض سعد من جوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق فقال يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سريعا يجر ثوبه إلى سعد بن معاذ فوجده قد مات
وقد كان سعد رجلا بادنا فلما حمله الناس وجدوا له خفة فقال رجال من المنافقين والله إن كان لبادنا وما حملنا من جنازة أخف منه
فبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال إن له حملة غيركم والذي نفس محمد بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد واهتز له العرش
وقالت عائشة رضي الله عنها لأسيد بن حضير وهو قافل معها من مكة وبلغه موت امرأة له فحزن عليها بعض الحزن يغفر الله لك أبا يحيى أتحزن على امرأة وقد أصبت بابن عمك وقد اهتز له العرش تعني سعدا
وقال جابر بن عبد الله لما دفن سعد ونحن مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سبح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسبح الناس معه وكبر فكبر الناس معه فقالوا يا رسول الله مم سبحت قال لقد تضايق على هذا الرجل الصالح قبره حتى فرجه الله عنه
ويروى أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إن للقبر لضمة لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ
ولسعد يقول رجل من الأنصار
وما اهتز عرش الله من موت هالك
سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو
وقالت أم سعد حين احتمل نعشه وهي تبكيه
ويل أم سعد سعدا
صرامة وحدا
وسؤددا ومجدا
وفارسا معدا
سد به مسدا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ
وقال حسان بن ثابت يبكي سعدا
لقد سجمت من فيض عيني عبرة
وحق لعيني أن تفيض على سعد
قتيل ثوي في معرك فجعت به

عيون ذواري الدمع دائمة الوجد
على ملة الرحمن وارث جنة
مع الشهداء وفدها أكرم الوفد
فإن تك قد ودعتنا وتركتنا
وأمسيت في غبراء مظلمة اللحد
فأنت الذي يا سعد أبت بمشهد
كريم وأثواب المكارم والحمد
بحكمك في حبي قريظة بالذي
قضي الله فيهم ما قضيت على عمد
فوافق حكم الله حكمك فيهم
ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد
فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى
شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد
فنعم مصير الصادقين إذا دعوا
إلى الله يوما للوجاهة والقصد
الطويل
وقال حسان يبكي سعدا ورجالا من الشهداء من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ألا يا لقومي هل لما حم دافع
وهل ما مضى من صالح العيش راجع
تذكرت عصرا قد مضى فتهافتت
بنات الحشا وانهل مني المدامع
صبابة وجد ذكرتني إخوة
وقتلى مضي فيها طفيل ورافع
وسعد فأضحوا في الجنان وأوحشت
منازلهم فالأرض منهم بلاقع
وفوا يوم بدر للرسول وفوقهم
ظلال المنايا والسيوف اللوامع
دعا فأجابوه بحق وكلهم
مطيع له في كل أمر وسامع
فما نكلوا حتى تولوا جماعة
ولا يقطع الآجال إلا المصارع
لأنهم يرجون منه شفاعة
إذا لم يكن إلا النبيين شافع
فذلك يا خير العباد ملاذنا
إجابتنا لله والموت ناقع
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا
لأولنا في ملة الله تابع
ونعلم أن الملك لله وحده
وأن قضاء الله لا بد واقع
الطويل
ولم يستشهد من المسلمين يوم الخندق إلا ستة نفر كلهم من الأنصار سعد ابن معاذ وأنس بن أوس بن عتيك وعبد الله بن سهل الأشهليون والطفيل ابن النعمان وثعلبة بن غنمة الجشميان
ومن بني دينار بن النجار كعب بن زيد أصابه سهم غرب فقتله رحمة الله عليهم
واستشهد يوم بني قريظة من المسلمين خلاد بن سويد من بني الحارث بن الخزرج طرحت عليه رحي فشدخته شدخا شديدا فزعموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إن له لأجر شهيدين
ومات أبو سنان بن محصن أخو عكاشة بن محصن ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} محاصر بني قريظة

ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم
فكان كذلك لم تغزهم قريش بعد ذلك وكان هو {صلى الله عليه وسلم} يغزوهم حتى فتح الله عليه مكة
وقال حسان بن ثابت في يوم الخندق يجيب عبد الله بن الزبعري شاعر قريش عن كلمة قالها في ذلك
هل رسم دارسة المقام بباب
متكلم لمحاور بجواب
قفر عفارهم السحاب رسومه
وهبوب كل مظلة مرباب
ولقد رأيت بها الحلول يزينهم
بيض الوجوه ثواقب الأحساب
فدع الديار وذكر كل خريدة
بيضاء آنسة الحديث كعاب
واشك الهموم إلى الإله وما ترى
من معشر ظلموا الرسول غضاب
ساروا بجمعهم إليه وألبوا
أهل القرى وبوادي الأعراب
جيش عيينة وابن حرب فيهم
متخطمين بحلية الأحزاب
حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا
قتل الرسول ومغنم الأسلاب
وغدوا علينا قادرين بأيدهم
ردوا بغيظهم على الأعقاب
بهبوب معصفة تفرق جمعهم
وجنود ربك سيد الأرباب
وكفى الإله المؤمنين قتالهم
وأثابهم في الأجر خير ثواب
من بعد ما قنطوا ففرق جمعهم
تنزيل نصر مليكنا الوهاب
وأقر عين محمد وصحابه
وأذل كل مكذب مرتاب
عاتي الفؤاد موقع ذي ريبة
في الكفر ليس بطاهر الأثواب
علق الشقاء بقلبه ففؤاده
في الكفر آخر هذه الأحقاب
الكامل
وقال كعب بن مالك في ذلك أيضا يجيب ابن الزبعري عن كلمته
أبقي لنا حدث الحروب بقية
من خير نحلة ربنا الوهاب
بيضاء مشرقة الذري ومعاطنا
حم الجذوع غزيرة الأحلاب
كاللوب يبذل جمها وحفيلها
للجار وابن العم والمنتاب
ونزائعا مثل السراج نمى بها
علف الشعير وجزة المقضاب
عري الشوى منها وأردف نحضها
جرد المتون وسار في الآراب
قودا تراح إلى الصياح إذا غدت
فعل الضراء تراح للكلاب
وتحوط سائمة الذمار وتارة
تردي العدى وتؤوب بالأسلاب
يعدون بالزغف المضاعف شكه
وبمترصات في الثقاف صياب
وصوارم نزع الصياقل غلبها
وبكل أروع ماجد الأنساب
يصل اليمين بمارن متقارب
وكلت وقيعته إلى خباب
وكتيبة ينفي القران قتيرها
وترد حد قواجز النشاب

أعيت أبا كرب وأعيت تبعا
وأبت بسالتها على الأعراب
ومواعظ من ربنا نهدي بها
بلسان أزهر طيب الأثواب
عرضت علينا فاشتهينا ذكرها
من بعد ما عرضت على الأحزاب
حكما يراها المحرمون بزعمهم
حرجا ويفهمها ذوو الألباب
جاءت سخينة كي تغالب ربها
وليغلبن مغالب الغلاب
الكامل
ولما قال كعب بن مالك هذا البيت جاءت سخينة إلى آخره
قال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا
لقد علم الأحزاب حين تألبوا
علينا وراموا ديننا ما نوادع
أضاميم من قيس بن عيلان أصفقت
وخندف لم يدروا بما هو واقع
يذودوننا عن ديننا ونذودهم
عن الكفر والرحمن راء سامع
إذا غايظونا في مقام أعاننا
على غيظهم نصر من الله واسع
وذلك حفظ الله فينا وفضله
علينا ومن لم يحفظ الله ضائع
هدانا لدين الحق واختاره لنا
ولله فوق الصانعين صنائع
الطويل
وقال كعب أيضا
ألا أبلغ قريشا أن سلعا
وما بين العريض إلى الصماد
نواضح في الحروب مدربات
وخوص بقيت من عهد عاد
رواكد يزجر المران فيها
فليست بالجمام ولا الثماد
بلاد لم تثر إلا لكيما
نجالد إن نشطتم للجلاد
أثرنا سكة الأنباط فيها
فلم نر مثلها جلهات وادي
قصرنا كل ذي حضر وطول
على الغايات مقتدر جواد
أجيبونا إلى ما نجتذيكم
من القول المبين والسداد
وإلا فاصبروا لجلاد يوم
لكم منا إلى شطر المذاد
نصبحكم بكل أخي حروب
وكل مطهم سلس القياد
وكل طمرة خفق حشاها
تدف دفيف صفراء الجراد
وكل مقلص الآراب نهد
تميم الخلق من أخر وهاد
خيول لا تضاع إذا أضيعت
خيول الناس في السنة الجماد
ينازعن الأعنة مصغيات
إذا نادى إلى الفزع المنادي
إذا قالت لنا النذر استعدوا
توكلنا على رب العباد
وقلنا لن يفرج ما لقينا
سوى ضرب القوانس والجهاد
ولم نر عصبة فيمن لقينا
من الأقوام من قار وباد
أشد بسالة منا إذا ما
أردناه وألين في الوداد
إذا ما نحن أشرجنا عليها
جياد الجدل في الأرب الشداد
قذفنا في السوابغ كل صقر
كريم غير معتلث الزناد
ليظهر دينك اللهم إنا

بكفك فاهدنا سبل الرشاد
الوافر
وقال حسان بن ثابت يذكر بني قريظة
تفاقد معشر نصروا قريشا
وليس لهم ببلدتهم نصير
هم أوتوا الكتاب فضيعوه
وهم عمي من التوراة بور
كفرتم بالقران وقد أتيتم
بتصديق الذي قال النذير
فهان على سراة بني لؤي
حريق بالبويرة مستطير
الوافر
ولما سمع ذلك أبو سفيان بن الحارث قال
أدام الله ذلك من صنيع
وحرق في طوائفها السعير
الوافر
في أبيات ذكرها ابن إسحاق لم يأل قائلها أن صدق حسان
وقال في ذلك أيضا جبل بن جوال الثعلبي وبكى النضير وقريظة ونعى على سعد بن معاذ إسلامه مواليه منهم خلاف ما فعل عبد الله بن أبي في بني قينقاع
ألا يا سعد سعد بني معاذ
لما لقيت قريظة والنضير
لعمرك إن سعد بني معاذ
غداة تحملوا لهو الصبور
فأما الخزرجي أبو حباب
فقال لقينقاع لا تسيروا
الوافر
ويقول في آخرها
تركتم قدركم لا شيء فيها
وقدر القوم حامية تفور
فقال سعد حين بلغه هذا الشعر من لقيهم فليحدثهم أنهم خانوا الله ورسوله فأخزاهم الله
مقتل سلام بن أبي الحقيق
وكان سلام بن أبي الحقيق أبو رافع فيمن حزب الأحزاب على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وكان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عناء إلا قالت الخزرج والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفي الإسلام
فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك
وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} وتحريضه عليه فقالت الخزرج والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا

فتذاكروا بعد أن انقضى شأن الخندق وبني قريظة من رجل لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} في العداوة كابن الأشرف فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر فاستأذنوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في قتله فأذن لهم فخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر عبد الله بن عتيك ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة الحارث بن ربعي وخزاعي بن أسود حليف لهم من أسلم
فخرجوا وأمر عليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عبد الله بن عتيك ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة
فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا فلم يدعوا لهم بيتا في الدار إلا أغلقوه على أهله وكان في علية له إليها عجلة فأسندوا فيها حتى قاموا على بابه فاستأذنوا فخرجت عليهم امرأة فقالت من أنتم فقالوا أناس من العرب نلتمس الميرة
قالت ذاكم صاحبكم فادخلوا إليه
قال فلما دخلنا
أغلقنا علينا وعليها الحجرة تخوفا أن يكون دونه مجادلة تحول بيننا وبينه
قال وصاحت امرأته فنوهت بنا وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا والله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطية ملقاة
قال ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيكف يده ولولا ذلك لفرغنا منها بليل فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول قطني قطني أي حسبي حسبي
قال وخرجنا وكان عبد الله بن عتيك رجلا سيئ البصر فوقع من الدرجة فوثئت يده وثئا شديدا قال ابن هشام ويقال رجله وحملناه حتى نأتي منهرا من عيونهم فندخل فيه
قال وأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبون حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه وهو يقضي بينهم
فقلنا كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات فقال رجل منا أنا أذهب فأنظر لكم
فانطلق حتى دخل في الناس قال فوجدتها ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه وتحدثهم وتقول أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت وقلت أني ابن عتيك بهذه البلاد

ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه ثم قالت فاظ وإله يهود
فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها
قال ثم جاءنا فأخبرنا الخبر فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبرناه بقتل عدو الله واختلفنا عنده في قتله كلنا ندعيه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
هاتوا أسيافكم
فجئناه بها فنظر إليها فقال لسيف عبد الله بن أنيس هذا قتله أرى فيه أثر الطعام
وقال حسان بن ثابت يذكر قتل كعب بن الأشرف وقتل سلام بن أبي الحقيق
لله در عصابة لاقيتهم
يا بن الحقيق وأنت يابن الاشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم
مرحا كأسد في عرين مغرف
حتى أتوكم في محل بلادكم
فسقوكم حتفا ببيض ذفف
مستنصرين لنصر دين نبيهم
مستصغرين لكل أمر مجحف
الكامل

ذكر إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما

حدث عمرو بن العاص رحمه الله قال لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني فقلت لهم تعلموا والله إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا وإني قد رأيت أمرا فما ترون فيه قالوا وماذا رأيت قال رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمد وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير
قالوا إن هذا لرأي
قلت فاجمعوا ما نهدي له وكان أحب ما يهدي إليه من أرضنا الأدم فجمعنا له أدما كثيرا ثم خرجنا حتى قدمنا عليه فو الله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري بعثه إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في شأن جعفر وأصحابه قال فدخل عليه ثم خرج من عنده فقلت لأصحابي هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشي سألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد قال فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع فقال لي مرحبا بصديقي أهديت لي من بلدك شيئا قلت نعم أيها الملك قد أهديت لك أدما كثيرا

ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه ثم قلت له أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا فأعطينيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا
قال فغضب ثم مد يده وضرب به أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه ثم قلت له أيها الملك والله لو ظننت انك تكره
هذا ما سألتكه قال أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله قلت أيها الملك أكذلك هو قال ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده
قلت أفتبايعني له على الإسلام قال نعم
فبسط يده فبايعته على الإسلام
ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي ثم خرجت عامدا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأسلم فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة فقلت أين يا أبا سليمان قال والله لقد استقام المنسم وإن الرجل لنبي أذهب والله فأسلم حتى متى قلت والله ما جئت إلا لأسلم
فقدمنا المدينة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع ثم دنوت فقلت يا رسول الله إني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولا أذكر ما تأخر
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا عمرو بايع فإن الإسلام يجب ما كان قبله وإن الهجرة تجب ما كان قبلها قال فبايعته وانصرفت
وذكر ابن إسحاق عمن لا يتهم أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار كان معهما أسلم حين أسلما
وذكر غيره أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال حين رآهم رمتكم مكة بأفلاذ كبدها
وحدث الواقدي بإسناد له قال قال عثمان بن طلحة لقيني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة قبل الهجرة فدعاني إلى الإسلام فقلت يا محمد العجب لك حين تطمع أن أتبعك وقد خالفت قومك وجئت بدين محدث ففرقت جماعتهم وألفتهم وأذهبت بهاءهم

فانصرف وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس فأقبل يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فغلظت عليه ونلت منه وحلم عني ثم قال يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث
شئت
فقلت لقد هلكت قريش يومئذ وذلت
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بل عمرت وعزت يومئذ
ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال فأردت الإسلام فإذا قومي يزبرونني زبرا شديدا ويزرون برأيي فأمسكت عن ذكره فلما هاجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة جعلت قريش تشفق من رجوعه عليها فهم على ما هم عليه حتى جاء النفير إلى بدر فخرجت فيمن خرج من قومنا وشهدت المشاهد كلها معهم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما دخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة عام القضية غير الله قلبي عما كان عليه ودخلني الإسلام وجعلت أفكر فيما نحن عليه وما نعبد من حجر لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر وأنظر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه وظلف أنفسهم عن الدنيا فيقع ذلك مني فأقول ما عمل القوم إلا على الثواب لما يكون بعد الموت
وجعلت أحب النظر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أن رأيته خارجا من باب بني شيبة يريد منزلة بالأبطح فأردت أن آتيه وآخذ بيده وأسلم عليه فلم يعزم لي على ذلك وانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} راجعا إلى المدينة ثم عزم لي على الخروج إليه فأدلجت إلى بطن يأجج فألقى خالد بن الوليد فاصطحبنا حتى نزلنا الهدة فما شعرنا إلا بعمرو بن العاص فانقمعنا عنه وانقمع منا ثم قال أين يريد الرجلان فأخبرناه فقال وأنا أريد الذي تريدان
فاصطحبنا جميعا حتى قدمنا المدينة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبايعته على الإسلام وأقمت حتى خرجت معه في غزوة الفتح ودخل مكة فقال لي يا عثمان ايت بالمفتاح فأتيته به فأخذه مني ثم دفعه إلي وقال خذوها تالدة خالدة ولا ينزعها منكم إلا ظالم يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف

قال عثمان فلما وليت ناداني فرجعت إليه فقال ألم يكن الذي قلت لك فذكرت قوله لي قبل الهجرة بمكة لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت فقلت بلى أشهد أنك رسول الله
قال الواقدي فهذا أثبت الوجوه في إسلام عثمان

غزوة بني لحيان

وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة إلى لحيان يطلبهم بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة
فلما انتهى إلى منازلهم بغران وهو واد بين أمج وعسفان وجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال
فلما أخطأه من غرتهم ما أراد قال لو أنا هبطنا عسفان لرأي أهل مكة أنا قد جئنا مكة
فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ثم كرا وراح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قافلا
فكان جابر بن عبد الله يقول سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول حين وجه راجعا آيبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال
غارة عيينة بن حصن على سرح المدينة وخروج النبي {صلى الله عليه وسلم} في أثره وهي غزوة ذي قرد
ولما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة من غزوة بني لحيان لم يقم بالمدينة إلا ليال قلائل حتى أغار عيينة بن حصن في جبل من غطفان على لقاح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالغابة وفيها رجل من بني غفار وامرأة له فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح
وكان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي غدا يريد الغابة متوشحا سيفه ونبله ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس يقوده حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم فأشرف في ناحية سلع ثم صرخ واصباحاه
ثم خرج يشد في آثار القوم وكان مثل السبع حتى لحق القوم فجعل يردهم بالنبل ويقول إذا رمي
خذها وأنا ابن الأكوع
اليوم يوم الرضع
الرجز
فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمي رمى ثم قال
خذها وأنا ابن الأكوع
اليوم يوم الرضع
فيقول قائلهم أأكيعنا هو أول النهار

وبلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صياح ابن الأكوع فصرخ بالمدينة الفزع الفزع
فترامت الخيل إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكان أول من انتهى إليه من الفرسان المقداد بن عمرو وهو الذي يقال له المقداد بن الأسود
ثم كان أول فارس وقف على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد المقداد من الأنصار عباد بن بشر وسعد بن زيد الأشهليان
وأسيد بن ظهير الحارثي يشك فيه وعكاشة بن محصن ومحرز بن نضلة الأسديان وأبو قتادة السلمي وأبو عياش الزرقي
فلما اجتمعوا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمر عليهم سعد بن زيد وقال اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس
وقال لأبي عياش يا أبا عياش لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك فلحق بالناس
قال أبو عياش فقلت يا رسول الله أنا أفرس الناس
ثم ضربت الفرس فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني فعجبت أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول لو أعطيته أفرس منك وأقول أنا أفرس الناس فأعطى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرس أبي عياش هذا فيما زعموا معاذ بن ماعص أو عائذ بن ماعص فكان ثامنا
فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا وكان أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة الأخرم ويقال له أيضا قمير ولما كان الفزع جال فرس لمحمود بن مسلمة في الحائط وهو مربوط بجذع نخل حين سمع صاهلة الخيل وكان فرسا صنيعا جاما فقال بعض نساء بني عبد الأشهل يا قمير هل لك في أن تركب هذا الفرس فإنه كما ترى ثم تلحق برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبالمسلمين قال نعم فأعطينه إياه فخرج عليه فلم يلبث أن بز الخيل بجمامه حتى أدرك القوم فوقف لهم بين أيديهم ثم قال قفوا بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من المهاجرين والأنصار وحمل عليه رجل منهم فقتله وجال الفرس فلم يقدر عليه حتى وقف على أرية في بني عبد الأشهل
فقيل إنه لم يقتل من المسلمين يومئذ غيره وقد قيل إنه قتل معه وقاص بن محرز المدلجي

ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة بن حصن وغشاه بردة ثم لحق بالناس وأقبل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في المسلمين فإذا حبيب مسجي ببرد أبي قتادة فاسترجع الناس وقالوا قتل أبو قتادة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليس بأبي قتادة ولكنه قتيل لأبي قتادة وضع عليه برده ليعرفوا أنه صاحبه
وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا وابنه عمرو بن أوبار وهما على بعير واحد
فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعا واستنقذوا بعض اللقاح
وسار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى نزل بالجبل من ذي قرد وتلاحق به الناس وأقام عليه يوما وليلة وقال له أبو سلمة بن الأكوع يا رسول الله لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح وأخذت بأعناق القوم فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنهم الآن ليغبقون في غطفان
فقسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في أصحابه في كل مائة رجل جزورا
وأقاموا عليها ثم رجع قافلا إلى المدينة
وأفلتت امرأة الغفاري على ناقة من إبل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى قدمت عليه فأخبرته الخبر فلما فرغت قالت يا رسول الله إني قد نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها فتبسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين إنما هي ناقة من إبلي ارجعي إلى أهلك على بركة الله
فهذا حديث ابن إسحاق عن غزوة ذي قرد
وخرج مسلم بن الحجاج رحمه الله حديثا في صحيحه بإسناده إلى سلمة بن الأكوع فذكر حديثا طويلا خالف به حديث ابن إسحاق في مواضع منه فمن ذلك أن هذه الغزوة كانت بعد انصراف الرسول {صلى الله عليه وسلم} من الحديبية وجعلها ابن إسحاق قبل ذلك وكذلك فعل ابن عقبة
وفيه أن سلمة بن الأكوع استنقذ سرح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بجملته قال سلمة فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم فإذا رجع إلي فارس أتيت شجرة فجلست في أصلها ثم رميته فعقرت به حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة
قال فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من

ظهر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بيني وبينه ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا يستخفون ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما من الحجارة يعرفها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه حتى أتوا متضايقا من ثنية فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري فجلسوا يتضخون أي يتغدون وجلست على رأس قرن
قال الفزاري ما هذا الذي أرى قالوا لقينا من هذا البرح والله ما فارقنا منذ غلس يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا
قال فليقم إليه نفر منكم أربعة قال فصعد إلي منهم أربعة في الجبل فلما أمكنوني من الكلام قلت هل تعرفونني قالوا لا ومن أنت قلت أنا سلمة بن الأكوع والذي كرم وجه محمد {صلى الله عليه وسلم} لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته ولا يطلبني فيدركني
قال أحدهم أنا أظن ذلك فرجعوا
فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يتخللون الشجر فإذا أولهم الأخرم الأسدي على أثره أبو قتادة الأنصاري وعلى أثره المقداد بن الأسود الكندي فأخذت بعنان الأخرم فولوا مدبرين قلت يا أخرم احذرهم لا يقتطعونك حتى يلحق رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه قال يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة
قال فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن قال فعقر بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول على فرسه
ولحق أبو قتادة فارس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعبد الرحمن فطعنه فقتله فوالذي كرم وجه محمد لتبعتهم أعدو على رجلي حتى ما أرى من ورائي من أصحاب محمد {صلى الله عليه وسلم} ولا غبارهم شيئا حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش فنظروا إلي أعدو وراءهم فحلأتهم عنه
فما ذاقوا منه قطرة ويخرجون فيشتدون في ثنية فأعدو فألحق رجلا منهم فأمسكه بسهم في نغض كتفه قلت
خذها وأنا ابن الأكوع
واليوم يوم الرضع
قال يا ثكلته أمه أأكوعه بكرة قلت نعم يا عدو نفسه أكوعه بكرة

قال وأردوا فرسين على ثنية فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسطيحة فيها ماء فتوضأت وشربت ثم أتيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو على الماء الذي حلأتهم عنه قد أخذ تلك الإبل وكل شيء استنقذته من المشركين وكل رمح وكل بردة وإذا بلال نحر ناقة من الإبل التي استنقذت من القوم وإذا هو يشوي لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} من كبدها وسنامها قلت يا رسول الله خلني فأنتخب من القوم مائة رجل فأتبع القوم فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته
فضحك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى بدت نواجذه في ضوء النار قال يا سلمة أتراك كنت فاعلا قلت نعم والذي أكرمك قال إنهم الآن ليقرون بأرض غطفان
قال فجاء رجل من غطفان فقال نحر لهم فلان جزورا فلما كشطوا جلدها رأوا غبارا فقالوا إياكم القوم فخرجوا هاربين
فلما أصبحنا قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالنا سلمة
ثم أعطاني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سهمين سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما لي جميعا
وذكر الزبير بن أبي بكر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مر في غزوة ذي قرد هذه على ماء يقال له بيسان فسأل عنه فقيل اسمه يا رسول الله بيسان وهو مالح
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا بل اسمه نعمان وهو طيب
فغير رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الاسم وغير الله تعالى الماء
فاشتراه طلحة بن عبيد الله ثم تصدق به وجاء إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما أنت يا طلحة إلا فياض
فسمي طلحة الفياض
وكان مما قيل من الشعر في يوم ذي قرد قول حسان بن ثابت
أظن عيينة إذ زارها
بأن سوف يهدم منها قصورا
فأكذبت ما كنت صدقته
وقلتم ستغنم أمرا كبيرا
فعفت المدينة إذ زرتها
وآنست للأسد فيها زئيرا
وولوا سراعا كشد النعام
ولم يكشفوا عن ملط حصيرا
أمير علينا رسول المليك
أحبب بذاك إلينا أميرا
رسول نصدق ما جاءه
ونتلو كتابا مضيئا منيرا
المتقارب
وقال كعب بن مالك
أيحسب أولاد اللقيطة أننا
على الخيل لسنا مثلهم في الفوارس
وإنا أناس لا نرى القتل سبة
ولا ننثني عند الرماح المداعس

وإنا لنقري الضيف من قمع الذري
ونضرب رأس الأبلج المتشاوس
نرد كماة المعلمين إذا انتحوا
بضرب يسلي نخوة المتقاعس
بكل فتى حامي الحقيقة ماجد
كريم كسرحان الغضاة مخالس
يذودون عن أحسابهم وتلادهم
ببيض تقد الهام تحت القوانس
فسائل بني بدر إذا ما لقيتهم
بما فعل الإخوان يوم التمارس
إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتم
ولا تكتموا أخباركم في المجالس
وقولوا زللنا عن مخالب خادر
به وحر في الصدر ما لم يمارس
الطويل
وقال شداد بن عارض الجشمي في يوم ذي قرد لعيينة بن حصن وكان عيينة يكنى أبا مالك
فهلا كررت أبا مالك
وخيلك مدبرة تقتل
ذكرت الإياب إلى عسجد
وهيهات قد بعد المقفل
وضمنت نفسك ذا ميعة
مسح الفضاء إذا يرسل
إذا قبضته إليك الشمال
جاش كما اضطرم المرجل
فلما عرفتم عباد الإله
لم ينظر الآخر الأول
عرفتم فوارس قد عودوا
طراد الكماة إذا أسهلوا
إذا طردوا الخيل تشقي بهم
فضاحا وإن يطردوا ينزلوا
فيعتصموا في سواء المقام
بالبيض أخلصها الصيقل
المتقارب

غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع

وغزا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بني المصطلق من خزاعة في شعبان سنة ست وكان بلغه أنهم يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي {صلى الله عليه وسلم}
فلما سمع بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونفل رسوله أبناءهم ونساءهم وأموالهم
وكان شعار المسلمين في ذلك اليوم يا منصور أمت أمت
وأصاب يومئذ رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت رجلا من المسلمين من بني كلب بن عوف بن عامر بن أمية بن ليث بن بكر يقال له هشام ابن صبابة وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ
فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من غفار يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار

وصرخ جهجاه يا معشر المهاجرين
فغضب عبد الله بن أبي بن سلول فقال أقد فعلوها قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما أعدنا وجلابيب قريش هؤلاء إلا كما قال الأول سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل
ثم أقبل على من حضره من قومه وفيهم زيد بن أرقم غلام حدث فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم
وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم
فمشي زيد بن أرقم إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره الخبر وذلك عند فراغه من عدوه وعنده عمر بن الخطاب فقال مر به عباد بن بشر فليقتله
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه لا ولكن أذن بالرحيل
وذلك في ساعة لم يكن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يرتحل فيها
فارتحل الناس وقد مشى عبد الله بن أبي إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين بلغه أن زيدا بلغه ما سمع منه فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به
وكان في قومه شريفا عظيما فقال من حضر من الأنصار من أصحابه يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل
حدبا على ابن أبي ودفعا عنه
فلما استقل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال يا نبي الله والله لرحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أو ما بلغك ما قال صاحبكم قال وأي صاحب يا رسول الله قال عبد الله بن أبي
قال وما قال قال زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل
قال فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت هو والله الذليل وأنت العزيز
ثم قال يا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أن قد استلبته ملكا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9