كتاب : الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء
المؤلف: أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي

عجبت وفي الليالي معجبات
وفي الأيام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالا
كثيرا كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببر قوم
فيربل منهم الطفل الصغير
وبينا المرء يعثر ثاب يوما
كما يتروح الغصن المطير
ولكن أعبد الرحمن ربي
ليغفر ذنبي الرب الغفور
فتقوى الله ربكم احفظوها
متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرار دارهم جنان
وللكفار حامية سعير
وخزي في الحياة وإن يموتوا
يلاقوا ما تضيق به الصدور
الوافر
وقال زيد بن عمرو بن نفيل وذكر ابن هشام أن أكثرها لأمية بن أبي الصلت في قصيدة له
إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا
وقولا رصينا لا يني الدهر باقيا
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه
إله ولارب يكون مدانيا
ألا أيها الإنسان إياك والردي
فإنك لا تخفي من الله خافيا
فإياك لا تجعل مع الله غيره
فإن سبيل الرشد أصبح باديا
حنانيك إن الجن كانت رجاؤهم
وأنت إلهي ربنا ورجائيا
رضيت بك اللهم ربا فلن أرى
أدين إلها غيرك الله ثانيا
وأنت الذي من فضل من ورحمة
بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له إذهب وهارون فادعوا
إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له آآنت سويت هذه
بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا
وقولا له آآنت رفعت هذه
بلا عمد أرفق إذا بك بانيا
وقولا له آآنت سويت وسطها
منيرا إذا ما جنه الليل هاديا
وقولا له من يرسل الشمس غدوة
فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثري
فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رءوسه
وفي ذاك آيات لمن كان واعيا
وأنت بفضل منك نجيت يونسا
وقد بات في أضعاف حوت لياليا
وإني وإن سبحت باسمك ربنا
لأكثر إلا ما غفرت خطائيا
فرب العباد ألق سيبا ورحمة
علي وبارك في بني وماليا
الطويل
وقال زيد بن عمرو أيضا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما رآها استوت
على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له المزن تحمل عذبا زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدة
أطاعت فصبت عليها سجالا
المتقارب

ويروي أن زيدا كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال لبيك حقا حقا تعبدا ورقا عذت بما عاذ به إبراهيم مستقبل القبلة وهو قائم إذ قال إني لك عان راغم مهما تجشمني فإني جاشم البر أبقى لا الخال ليس مهجر كمن قال
ويقال البر أبقى لا الحال
وكان الخطاب بن نفيل قد آذى زيدا حتى أخرجه إلى أعلى مكة فنزل حرا مقابل مكة
وكان الخطاب عمه وأخاه لامه وكل به شبابا من شباب قريش وسفهائهم فقال لهم لا تتركوه يدخل مكة
فكان لا يدخلها إلا سرا منهم فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه مخافة أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراقه
وكان زيد قد أجمع الخروج من مكة ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم فكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما رأته تهيأ للخروج أو أراده آذنت به الخطاب بن نفيل وكان الخطاب وكلها به وقال إذا رأيته هم بأمر فآذنيني به
ثم خرج يطلب دين إبراهيم ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها ثم أقبل فجال الشام كلها حتى انتهى إلى راهب بميفعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم فقال إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها يبعث بدين إبراهيم الحنيفية فالحق به فإنه مبعوث الآن هذا زمانه
وقد كان زيد شام اليهودية والنصرانية فلم يرض منها شيئا فخرج سريعا حين قال له ذلك الراهب ما قال يريد مكة حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه فقال ورقة بن نوفل يبكيه
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما
تجنبت تنورا من النار حاميا
بدينك ربا ليس رب كمثله
وتركك أوثان الطواغي كما هيا
وإدراكك الدين الذي قد طلبته
ولم تك عن توحيد ربك ساهيا
فأصبحت في دار كريم مقامها
تعلل فيها بالكرامة لاهيا
تلاقي خليل الله فيها ولم تكن
من الناس جبارا إلى النار هاويا
وقد تدرك الإنسان رحمة به

ولو كان تحت الأرض سبعين ودايا
الطويل
قال ابن إسحاق وكان فيما بلغني عما كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مما أثبت لهم يحنس الحواري حين نسخ لهم الإنجيل من عهد عيسى ابن مريم إليهم في رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال من أبغضني فقد أبغض الرب ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة ولكن من الآن بطروا وظنوا أنهم يعزونني وأيضا للرب ولكن لا بد من أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم أبغضوني مجانا أي باطلا فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القسط هو الذي من عند الرب خرج فهو شهيد علي وأنتم أيضا لأنكم قديما كنتم معي هذا قلت لكم لكيلا تشكوا
والمنحمنا بالسريانية هو محمد {صلى الله عليه وسلم} وهو بالرومية البرقليطس
قال ابن هشام وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي قبله ولم يكسرها فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي {صلى الله عليه وسلم} يمشي فعثر فقال ابنه تعس الأبعد يريد النبي {صلى الله عليه وسلم} فقال له أبوه لا تفعل فإنه نبي واسمه في الوضائع يعني الكتب فلما مات لم تكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم فوجد ذكر النبي {صلى الله عليه وسلم} فأسلم فحسن إسلامه وحج
وهو الذي يقول
إليك تعدو قلقا وضينها
معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها
الرجز
وقد جاءت أحاديث حسان بما وقع من صفة النبي {صلى الله عليه وسلم} في التوراة لم يذكر ابن إسحاق منها شيئا
فمن ذلك ما ذكره الواقدي عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في التوراة

فقال أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في الفرقان يا آيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله يفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا
قال عطاء ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا في حرف
وذكر الواقدي أيضا عن النعمان السبئي قال وكان من أحبار اليهود باليمن فلما سمع بذكر النبي {صلى الله عليه وسلم} قدم عليه فسأله عن أشياء ثم قال إن أبي كان يختم على سفر يقول لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه
قال نعمان فلما سمعت بك فتحت السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة وإذا فيه ما تحل وما تحرم وإذا فيه أنك خير الأنبياء وأمتك خير الأمم وأسمك أحمد {صلى الله عليه وسلم} وأمتك الحمادون قربانهم دماؤهم وأناجيلهم صدورهم لا يحضرون قتال إلا وجبريل معهم يتحنن الله إليهم كتحنن الطير على أفراخه
ثم قال لي إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدق به
فكان النبي {صلى الله عليه وسلم} يحب أن يسمع أصحابه حديثه فأتاه يوما فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} يا نعمان حدثنا
فابتدأ النعمان الحديث من أوله فرأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يتبسم ثم قال أشهد أني رسول الله
ويقال أن النعمان هذا هو الذي قتله الأسود العنسي وقطعه عضوا عضوا وهو يقول أشهد أن محمدا رسول الله وأنك كذاب مفتر على الله عز وجل ثم حرقه بالنار

ذكر المبعث
قال ابن إسحاق فلما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين وكافة للناس
وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به والتصديق له والنصر على من خالفه وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق

فيه يقول الله تعالى لنبيه محمد {صلى الله عليه وسلم} وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري أي ثقل ما حملتكم من عهدي قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ( آل عمران - 81 )
فأخذ الله ميثاق النبيين جميعا بالتصديق له والنصر وأدوا ذلك إلى من آمن بهم وصدقهم من أهل هذين الكتابين
وعن عائشة رضي الله عنها أن أول ما ابتدى ء به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصادقة لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح
وحبب الله إليه الخلوة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده
وعن بعض أهل العلم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين أراده الله بكرامته وابتدائه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها فلا يمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بحجر ولا شجرة إلا قال السلام عليك يا رسول الله فيلتفت حوله عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجرو الحجارة
فمكث كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث
ثم جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء في رمضان
وعن عبيد بن عمير بن قتادة الليثي يحدث كيف كان بدء ما ابتدى ء به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من النبوة حين جاءه جبريل قال
كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يجاور في حراء من كل سنة شهرا وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية والتحنث التبرر
فكان يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فإذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله ثم يرجع إلى بيته
حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به فيه ما أراد من كرامته وذلك الشهر رمضان خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها جاءه جبريل بأمر الله

قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال إقرأ قلت ما أقرأ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أقرأ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أقرأ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ماذا أقرأ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع
قال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ( العلق 1 - 5 )
فقرأتها ثم انتهى فانصرف عني وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا
فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل
فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل
فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك
فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني وانصرفت عنه راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها
فقالت يا أبا القاسم أين كنت فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي
ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت أبشر يا بن عمي واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل فأخبرته بما أخبرها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه رأى وسمع فقال ورقة قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت
فرجعت خديجة إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبرته بقول ورقة

فلما قضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جواره وانصرف صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال له يا بن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت
فأخبره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه ولئن أن أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه
ثم أدنى رأسه منه فقبل يا فوخه ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى منزله
ويروى عن خديجة أنها قالت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك قال نعم قالت فإذا جاءك فأخبرني به
فجاءه جبريل كما كان يصنع فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا خديجة هذا جبريل قد جاءني قالت قم يا بن عم فاجلس على فخذي اليسرى فقام فجلس عليها قالت هل تراه قال نعم قالت فتحول فاقعد على فخذي اليمنى فتحول فقعد على فخذها اليمنى فقالت هل تراه قال نعم قالت فتحول فاجلس في حجري فتحول فجلس في حجرها ثم قالت له هل تراه قال نعم فتحسرت
وألقت خمارها ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالس في حجرها ثم قالت هل تراه قال لا
قالت يا ابن عم اثبت وأبشر فو الله إنه لملك ما هذا بشيطان
ويروي أن خديجة أدخلت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل
وابتدى ء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالتنزيل في رمضان
يقول الله عز وجل شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ( البقرة )
وقال إنا أنزلناه في ليلة القدر ( القدر 1 - إلى فاتحة السورة )
وقال حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين ( الدخان 1 - 4 )
وقال إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ( الأنفال 42 ) يعني ملتقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمشركين ببدر وذلك يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان

هكذا أورد ابن إسحاق رحمه الله هذه الآيات كالمستشهد بها على ابتداء التنزيل في شهر رمضان على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وفي صورة هذا الاستشهاد نظر
فإن ظاهر قوله سبحانه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن عموم نزول القرآن بجملته فيه وكذلك قوله إنا أنزلناه في ليلة القدر و إنا أنزلناه في ليلة مباركة
ولم يقع الأمر في إنزاله على رسوله {صلى الله عليه وسلم} هكذا بل أنزله الله عليه في رمضان
وفي غيره متفرقا آيات وسورا بحسب سؤال السائلين أو أحداث المحدثين أو ما شاء الله من هداية العالمين
وقد قيل في قوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس أي الذي أنزل في شأنه القرآن أي نزل الأمر من الله عز وجل بصيامه كتابا يتلى وقرآنا لا يدرس ولا يبلى
كما يقال نزل القرآن بالصلاة أي نزل جزء منه بفرضها ونزل القرآن في عائشة رضي الله عنها وإنما نزلت منه آيات ببراءتها من الإفك
ومثل هذا الإطلاق موجود في الأحاديث والآثار كثيرا
ولنسلم أن معنى قوله أنزل فيه القرآن أي ابتدئ فيه إنزاله فقد قيل ذلك وليس ببعيد في المفهوم ولا مما تضيق عنه سعة الكلام ثم نجري ذلك المجرى الآيتين الأخيرتين وهما إنا أنزلناه في ليلة مباركة و إنا أنزلناه في ليلة القدر وإن بعد ذلك فيهما لما ورد من الآثار المصححة لحكم عمومهما حسبما نذكره بعد فما بال الآية الأخرى التي هي وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقي الجمعان تنتظم في هذا النظام وقد أعقبها مفسرا بأن المعني بذلك يوم بدر وهو الحق
وهل كان يوم بدر إلا في السنة الثانية من الهجرة وبعد اثنتي عشرة سنة من البعث ونزول الوحي أو بعد خمس عشرة سنة على ما ورد من الخلاف في مدة مكث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة بعد النبوة وما زال القرآن المكي والمدني ينزل في ماضي تلك السنين

فإن كان ابن إسحاق عني ما ذكرناه عنه ونسبناه إليه فقد بينا وجه رده واستوفينا التنبيه عليه وإن كان عني غير ذلك فقصر عنه تحرير عبارته أو سقط على الناقل من كلامه ما كان يفي لو بقي بإفهامه فالله تعالى أعلم
والرجل أولى منا بأن يصيب ويسلم إلا أنه لا ينكر أن يغلط هذا البشر
ونعوذ بالله أن نقصد بهذا الاعتداد على ذي علم أو الغض من ذي حق فإن العلماء هم آباؤنا الأقدمون وهداتنا المتقدمون بأنوارهم نسري فنبصر ونستبصر وإلى غاياتهم نجري فطورا نصل وأطوارا نقصر فلهم دوننا قصب السبق ولهم علينا في كل الآحوال أعظم الحق إذا أصابوا اعتمدنا وإذا أخطأوا استفدنا وإذا أفادوا استمددنا فجزاهم الله عنا أفضل الجزاء ووفقنا لتوفية حقوق الأئمة والعلماء
وبعد فمن أحسن ما يتقلد في تلك الآيات الثلاث التي صدر بها كلامه مما يحفظ حكم عمومها ويطابق ظاهر مفهومها ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين أن القرآن أنزل جملة واحدة في شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العزة ثم أنزل على النبي {صلى الله عليه وسلم} شيئا فشيئا إلى حين وفاته
وقيل للشعبي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن أما كان ينزل في سائر السنة
قال بلى ولكن جبريل عليه السلام كان يعارض محمدا {صلى الله عليه وسلم} في شهر رمضان ما أنزل في ماضي السنة فيمحو الله ما يشاء ويثبت
قال ابن إسحاق ثم تتام الوحي إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو مؤمن بالله مصدق لما جاءه منه قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم
وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملها ولا يستطيع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله وتوفيقه لما يلقون من الناس وما يرد عليهم مما جاءوا به عن الله عز وجل
فمضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى
وآمنت به خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاءه من الله وآزرته على أمره
فكانت أول من آمن بالله ورسوله وصدق بما جاء منه

فخفف الله بذلك عن رسوله لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عليه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس
يرحمها الله
ثم فتر عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الوحي حتى شق عليه وأحزنه
فجاءه جبريل بسورة والضحى يقسم له ربه جل وعلا وهو الذي أكرمه بما أكرمه به ما ودعه ولا قلاة
فقال والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى يقول ما حرمك فتركك وما أبغضك منذ أحبك
وللآخرة خير لك من الأولى أي لما عندي من مرجعك إلي خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا
ولسوف يعطيك ربك فترضى من الفلج في الدنيا والثواب في الآخرة
ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى
يعرفه بما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره ومنه عليه في يتمه وعيلته وضلالته واستنقاذه من ذلك كله برحمته
فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر أي لا تكن جبارا ولا متكبرا ولا فحاشا فظا على الضعفاء من عباد الله
وأما بنعمة ربك فحدث اذكرها وادع إليها
فجعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوة سرا إلى من يطمئن به إليه من أهله
وافترضت عليه الصلاة فصلى صلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته
قالت عائشة رحمها الله افترضت الصلاة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أول ما افترضت ركعتين ركعتين كل صلاة ثم إن الله أتمها في الحضر أربعا وأقرها في السفر على فرضها الأول ركعتين
وعن بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبة في ناحية الوادي فانفجرت له منه عين فتوضأ جبريل ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} ينظر ليريه كيف الطهور للصلاة ثم توضأ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كما رأى جبريل توضأ ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بصلاته ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خديجة فتوضأ ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل فتوضأت كما توضأ لها ثم صلى بها كما صلى به جبريل فصلت بصلاته

وعن نافع بن جبير بن مطعم وكان كثير الرواية عن ابن عباس قال لما افترضت الصلاة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتاه جبريل فصلى به الظهر حين مالت الشمس ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر ثم صلى به الظهر حين كان ظله مثله ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس ثم صلى به العشاء
الآخرة حين ذهب ثلث الليل الأول ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق
ثم قال يا محمد الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس
قال ابن إسحاق ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصلى وصدق بما جاءه من الله تبارك وتعالى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو ابن عشر سنين يومئذ
وكان مما أنعم الله به عليه أنه كان في حجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل الإسلام
وذلك أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للعباس عمه وكان من أيسر بني هاشم يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفهما عنه قال العباس نعم
فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا إنا نريد نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما ويقال عقيلا وطالبا
فأخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليا فضمه إليه وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه فلم يزل علي مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي وآمن به وصدقه ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه
وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا

ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان فقال لرسول الله يابن أخي ما هذا الدين الذي أراك تدين به
قال أي عم هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم أو كما قال {صلى الله عليه وسلم} بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه أو كما قال
فقال أبو طالب أي ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت
وذكروا أنه قال لعلي أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه
فقال يا أبت آمنت برسول الله وصدقت بما جاء به وصليت معه لله واتبعته
فزعموا أنه قال له أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه
قال ابن إسحاق ثم أسلم زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكان أول ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أبي طالب
وعن غير ابن إسحاق أن زيدا أصابه في الجاهلية سباء فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد وقيل بل وهبه لها فوهبته خديجة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأعتقه وتبناه وذلك قبل أن يوحي إليه وكان حارثة أبوه قد جزع عليه جزعا شديدا وبكى عليه حين فقده فقال
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل
أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري وإني لسائل
أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل
ويا ليت شعري هل لك الدهر أوبة
فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها
وتعرض ذكراه إذا غربها أفل
وإن هبت الأرواح هيجن ذكره
فيا طول ما حزني عليه وما وجل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا
ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حياتي أو تأتي علي منيتي
فكل امرئ فان وإن غره الأمل
الطويل
ثم إن أناسا من كلب حجوا فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه فأعلموا أباه ووصفوا له موضعه وعند من هو
فخرج أبوه حارثة وعمه كعب ابنا شراحيل لفدائه

وقدما مكة فسألا عن النبي {صلى الله عليه وسلم} فدخلا عليه فقالا يا بن عبد المطلب بن هاشم يا بن سيد قومه أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون العاني وتطعمون الأسير جئناك في ابننا عبدك فامنن عليه وأحسن إلينا في فدائه
قال من هو قالوا زيد بن حارثة
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فهلا غير ذلك قالوا ما هو
قال أدعوه فأخيره فإن اختاركم فهو لكم وإن اختارني فو الله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا قالا قد زدتنا على النصف وأحسنت
فدعاه فقال هل تعرف هؤلاء قال نعم قال من هذا قال أبي وهذا عمي قال فأنا من قد عملت ورأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما
قال زيد ما أنا بالذي اختار عليك أحدا أنت مني مكان الأب والعم
فقالا ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك
قال نعم قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا
فلما رأى ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخرجه إلى الحجر فقال يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما فانصرفوا
فدعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام فنزلت ادعوهم لآبائهم فدعى من يومئذ زيد بن حارثة
قال ابن إسحاق ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة واسمه عتيق وقيل عبد الله وعتيق لقب لحسن وجهه وعتقه فيما قال ابن هشام
واسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ابن كعب بن لؤي
فلما أسلم أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله
وكان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه محببا سهلا وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته وحسن مجالسته

فجعل يدعوا إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه قال فأسلم بدعائه فيما بلغني عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب وسعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة
فجاء بهم إلى رسول {صلى الله عليه وسلم} حين استجابوا له فأسلموا وصلوا
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول فيما بلغني ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة ما عكم عنه حين ذكرته له وما تردد فيه
قال فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام فصلوا وصدقوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصدقوا بما جاءه من الله
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة ابن الحارث بن فهر
وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
والأرقم بن أبي الأرقم بن أسد أبي جندب بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي
وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون
وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي
وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزي بن عبد الله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي
وامرأته فاطمة بنت عمه الخطاب بن نفيل أخت عمر بن الخطاب
وأسماء بنت أبي بكر الصديق
وعائشة بنت أبي بكر الصديق وهي صغيرة
وخباب بن الأرت حليف بني زهرة
وعمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص
وعبد الله بن مسعود الهذلي حليف بني زهرة
وجماعة سوى هؤلاء سماهم ابن إسحاق
قال ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به

ثم إن الله عز وجل أمر رسوله {صلى الله عليه وسلم} أن يصدع بما جاءه منه وأن يبادي الناس بأمره ويدعوا إليه وكان بين ما أخفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمره واستسر به إلى أن أمره الله
بإظهاره ثلاث سنين فيما بلغني من مبعثه ثم قال الله له فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ( الحجر 94 )
ثم قال وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ( الشعراء 114 - 115 ) وفي موضع آخر واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين ( الحجر 489 )
قال وكان أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم ناس من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد يومئذ رجلا من المشركين بلحي بعير فشجه
فكان أول دم هريق في الإسلام
فلما بادي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها
فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون
وحدب على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أمر الله مظهرا له لا يرده عنه شيء
فلما رأت قريش أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم
يسلمه لهم مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وأبو سفيان بن حرب وأبو البختري بن هشام والحارث بن أسد بن عبد العزي بن قصي والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي وأبو جهل بن هشام بن المغيرة ونبيه ومنبه ابنا الحجاج والعاص بن وائل ومن مشى منهم
فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكيفه

فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه
ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه
ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاعنوا وأكثرت قريش ذكر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بينها فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه
ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين أو كما قالوا له
ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولا خذلانه
وذكر أن أبا طالب حين قالت له قريش هذه المقالة بعث إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فقال له يا بن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا للذي قالوا له فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق
فظن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قد بدا لعمه فيه بداء وأنه خاذله ومسلمه وأنه
قد ضعف عن نصرته والقيام معه فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته
ثم استعبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبكى
ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا بن أخي فأقبل عليه فقال اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء أبدا
ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وإسلامه مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقلته فإنما هو رجل كرجل
قال والله لبئس ما تسومونني أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبدا

فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا
فقال له أبو طالب والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك أو كما قال
فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادي بعضهم بعضا
قال ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الذين أسلموا معه
فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم
قد ضعف عن نصرته والقيام معه فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته
ثم استعبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبكى
ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا بن أخي فأقبل عليه فقال اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء أبدا
ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وإسلامه مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقلته فإنما هو رجل كرجل
قال والله لبئس ما تسومونني أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبدا
فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا
فقال له أبو طالب والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك أو كما قال
فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادي بعضهم بعضا
قال ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الذين أسلموا معه
فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم

ومنع الله تبارك وتعالى رسوله منهم بعمه أبي طالب وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والقيام دونه فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه إلا ما كان من أبي لهب
فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جدهم وحدبهم عليه جعل يمدحهم ويذكر قديمهم وفضل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيهم ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم وليحدبوا معه على أمره فقال
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر
فعبد مناف سرها وصميمها
فإن حصلت أشراف عبد منافها
ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوما فإن محمدا
هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها
علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنا قديما لا نقر ظلامة
إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يوم كريهة
ونضرب عن أحجارها من يرومها
بنا انتعش العود الذوي وإنما
بأكنافنا تندى وتنمي أرومها
الطويل
ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا
قالوا فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول فيه
قال بل أنتم فقولوا أسمع قالوا نقول كاهن
قال والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا فنقول مجنون قال ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا فنقول شاعر قال ما هو بشاعر
لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قالوا فنقول ساحر قال ما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده

قالوا فما نقول يا أبا عبد شمس قال والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته
فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون لسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها
فلما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته التي يعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها وتودد فيها أشراف قومه وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه وأولها
ولما رأيت القوم لاود فيهم
وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى
وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أظنة
يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة
وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي
وأمسكت من أثوابه بالوصائل
قياما معا مستقبلين رتاجه
لدى حيث يقضي حلفه كل نافل
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم
بمفضي السيول من إساف ونائل
موسمة الأعضاء أو قصراتها
مخيسة بين السديس وبازل
ترى الودع فيها والرخام وزينة
بأعناقها معقودة كالعثاكل
أعوذ برب الناس من كل طاعن
علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة
ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
وثور ومن أرسي ثبيرا مكانه
وراق ليرقي في حراء ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكة
وبالله إن الله ليس بغافل
وبالحجر الأسود إذ يمسحونه
إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطئ إبراهيم في الصخر وطأة
على قدميه حافيا غير ناعل
وأشواط بين المروتين إلى الصفا
وما فيهما من صورة وتماثل
ومن حج بيت الله من كل راكب
ومن كل ذي نذر ومن كل راجل
وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له

إلال إلى مفضى الشراج القوابل
وتوقافهم فوق الجبال عشية
يقيمون بالأيدي صدور الرواحل
وليلة جمع والمنازل من منى
وهل فوقها من حرمة ومنازل
وجمع إذا ما المقربات أجزنه
سراعا كما يخرجن من وقع وابل
وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها
يؤمون قذفا رأسها بالجنادل
وكندة إذ هم بالحصاب عشية
تجيز بهم حجاج بكر من وائل
حليفان شدا عقد ما اختلفا له
وردا عليه عاطفات الوسائل
وحطمهم سمر الصفاح وسرحه
وشبرقه وخد النعام الجوافل
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ
وهل من معيذ يتقى الله عاذل
يطاع بنا الأعدا وودوا لو اننا
تسد بنا أبواب ترك وكابل
كذبتم وبيت الله نترك مكة
ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا
ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكم
نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وحتى نرى ذا الضغن يركب ردعه
من الطعن فعل الأنكب المتحامل
وإنا لعمرو الله إن جد ما أرى
لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكفي فتى مثل الشهاب سميدع
أخي ثقة حامي الحقيقة باسل
وما ترك قوم لا أبالك سيدا
يحوط الذمار غير ذرب مواكل
وأبيض يستسقى الغمام بكفه
ثمال اليتامي عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في رحمة وفواضل
جزي الله عنا عبد شمس ونوفلا
عقوبة شر عاجلا غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرة
له شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا
بني خلف قيضا بنا والغياطل
ونحن الصميم من ذؤابة هاشم
وآل قصي في الخطوب الأوائل
وسهم ومخزوم تمالوا وألبوا
علينا العدي من كل طمل وخامل
فعبد مناف أنتم خير قومكم
فلا تشركوا في أمركم كل واغل
لعمري لقد وهنتم وعجزتم
وجئتم بأمر مخطئ للمفاصل
فإن يك قوما نتئر ما صنعتم
وتحتلبوها لقحة غير باهل
فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا
وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل
ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة
إذا ما لجأنا دونهم في المداخل
ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم
لكنا أسى عند النساء المطافل

فإن تك كعب من لوي صميمة
فلا بد يوما مرة من تزايل
فكل صديق وابن أخت نعده
لعمري وجدنا غبه غير طائل
سوى أن رهطا من كلاب بن مرة
براء إلينا من معقة خاذل
ونعم ابن أخت القوم غير مكذب
زهير حساما مفردا من حمائل
أشم من الشم البهاليل ينتمي
إلى حسب في حومة المجد فاضل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد
وإخوته دأب المحب المواصل
فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها
وزينا لمن والاه رب المشاكل
فمن مثله في الناس أي مؤمل
إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش
يوالى إلها ليس عنه بغافل
فأيده رب العباد بنصره
وأظهر دينا حقه غير باطل
فوالله لولا أن أجيء بسبة
تجر على أشياخنا في القبائل
لكنا اتبعناه على كل حالة
من الدهر جدا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة
تقصر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته
ودافعت عنه بالذري والكلاكل
الطويل
والقصيدة أطول من هذا وإنما تركنا ما تركنا منها اختصارا
وذكر ابن هشام أن بعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها
قال وحدثني من أثق به قال أقحط أهل المدينة فأتوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فشكوا إليه ذلك فصعد المنبر فاستسقى فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهل الضواحي يشكون منه الغرق فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم حوالينا ولا علينا
فانجاب السحاب عن المدينة فصار حواليها كالإكليل فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسره فقال له بعض أصحابه كأنك يا رسول الله أردت لقوله
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
قال أجل
قال ابن إسحاق فلما انتشر أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في العرب وبلغ البلدان ذكر بالمدينة ولم يك حي من العرب أعلم بأمر برسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين ذكر وقبل أن يذكر من الأوس والخروج وذلك لما كانوا يسمعون من أخبار يهود وكانوا لهم حلفاء ومعهم في بلادهم

فلما وقع ذكره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف قال أبو قيس بن الأسلت الأوسي وكان يحب قريشا وكان يقيم فيهم السنين بامرأته
أرنب بنت أسد بن عبد العزي بن قصي قصيدة يعظم فيها الحرمة وينهي قريشا عن الحرب ويذكر فضلهم وأحلامهم ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض وعن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه الفيل عنهم فقال
ويا راكبا إما عرضت فبلغن
مغلغلة عني لؤي بن غالب
رسول امرى ء قد راعه ذات بينكم
على النأي محزون بذلك ناصب
وقد كان عندي للهموم معرس
ولم أقض منها حاجتي ومآربي
أعيذكم بالله من شر صنعكم
وشر تباغيكم ودس العقارب
وإظهار أخلاق ونجوى سقيمة
كوخز الأثافي وقعها حق صائب
فذكرهم بالله أول وهلة
وإحلال إحرام الظباء الشوازب
وقل لهم والله يحكم حكمه
ذروا الحرب تذهب عنكم في المراحب
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
هي الغول للأقصين أو للأقارب
تقطع أرحاما وتهلك أمة
وتبري السديف من سنام وغارب
فإياكم والحرب لا تغلقنكم
وحوضا وخيم الماء مر المشارب
تزين للأقوام ثم يرونها
بعاقبة إذ بينت أم صاحب
تحرق لا تشوي ضعيفا وتنتحي
ذوي العز منكم بالحتوف الصوائب
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس
فتعتبروا أو كان في حرب حاطب
وكم قد أصابت من شريف مسود
طويل العماد ضيفه غير خائب
وماء هريق في الضلال كأنما
أذاعت به ريح الصبا والجنائب
يخبركم عنها امرؤ حق عالم
بأيامها والعلم علم التجارب
فبيعوا الحراب ملمحارب واذكروا
حسابكم والله خير محاسب
ولي امريء فاختار دينا فلا يكن
عليكم رقيبا غير رب الثواقب
أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم
لنا غاية قد يهتدي بالذوائب
وأنتم لهذا الناس نور وعصمة
تؤمنون والأحلام غير عوازب
وأنتم إذا ما حصل الناس جوهم
لكم سره البطماء شم الأرانب
تصونون أجسادا كراما عتيقة
مهذبة الأنساب غير أشائب
ترى طالبي الحاجات نحو بيوتكم
عصائب هلكى تهتدي بعصائب
لقد علم الأقوام أن سراتكم
على كل حال خير أهل الجباجب

فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا
بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق
غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمسى ورجله
على القاذفات في رءوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم
جنود إله بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب
إلى قومه ملحبش غير عصائب
فإن تهلكوا نهلك وتهلك عصائب
يعاش بها قول امرى ء غير كاذب
الطويل
ثم إن قريشا اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومن أسلم معه منهم
فأغروا برسول الله {صلى الله عليه وسلم} سفهاءهم فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون
ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} مظهر لأمر الله لا يستخفي به مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم واعتزال أوثانهم وفراقه إياهم على كفرهم
فحدث عروة بن الزبير أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما كانوا يظهرون من عداوته
قال حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر فذكروا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا
فبينما هم في ذلك طلوع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول
قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فوقف ثم قال أتسمعون يا معشر قريش والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح قال فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى أن أشدهم وصاة فيه قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول انصرف يا أبا القاسم فوالله ما كنت جهولا
قال فانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه

فبيناهم في ذلك طلع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا للذي يقول من عيب آلهتهم فيقول رسول الله نعم أنا الذي أقول ذلك
فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله
ثم انصرفوا عنه
فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط

ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
قال ابن إسحاق وحدثني رجل من أسلم كان واعية أن أبا جهل مر برسول الله {صلى الله عليه وسلم} عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينة والتضعيف لأمره فلم يكلمه رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ومولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك
ثم انصرف عنه فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم
فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة
فلما مر بالمولاة وقد رجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى بيته قالت له يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد
فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته فخرج يسعى لم يقف على أحد معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به
فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه بها شجة منكرة ثم قال أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول فرد علي إن استطعت
فقامت رجال بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقال أبو جهل دعوا أبا عمارة فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا
وتم حمزة على إسلامه وعلى ما بايع عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قوله
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد عز وامتنع وأن حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه

وعن محمد بن كعب القرظي قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا قال يوما وهو جالس في نادي قريش والنبي {صلى الله عليه وسلم} جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا
وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أن أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يزيدون ويكثرون
فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا بن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قل يا أبا الوليد أسمع
قال يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده من نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حنى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه أو كما قال له
حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يسمع منه قال أقد فرغت يا أبا الوليد قال نعم قال فاسمع مني قال أفعل
قال بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون ( فصلت 1 - 4 )
ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيها يقرؤها عليه فلما سمعها عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه ثم انتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى السجدة منها فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك
فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به

فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أن سمعت قولا ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به
قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه
قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم
قال ابن إسحاق ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء وقريش تحبس من قدرت على حبسه وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين
ثم إن أشراف قريش من كل قبيله اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ثم قال بعضهم لبعض ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه
فبعثوا إليه فجاءهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سريعا وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم
حتى جلس إليهم فقالوا يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك أو كما قالوا له
فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تريد به الشرف فينا فنحن نسودك علينا وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا فربما كان كذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك

فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما بي ما تقولون ما جئت به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لحكم الله حتى يحكم الله بيني وبينكم أو كما قال {صلى الله عليه وسلم}
قالوا يا محمد فإن كنت غير قابل شيئا مما عرضنا عليك فإنك قد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا إلينا كما تقول
فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم بما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا و الآخرة
وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم
قالوا فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم
فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا أو كما قال
فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم
قالوا فأسقط علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لا نؤمن بك إلا أن تفعل
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل

قالوا يا محمد فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به إنه بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله ما نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد وإنا والله لا نتركك وما بلغت بنا حتى نهلكك أوتهلكنا
وقال قائلهم نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله وقال قائلهم لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا
فلما قالوا ذلك لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} قام عنهم وقام معه عبد الله بن أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال له يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم
تفعل ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل أو كما قال له فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك
ثم انصرف عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه
فلما قام عنهم قال أبو جهل يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله أو كما قال فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم
قالوا والله لا نسلمك لشيء أبدا فامض لما تريد

فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ينتظره وغدا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كما كان يغدو وكان بمكة وقبلته إلى الشام فكان إذا صلى صلى بين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود وجعل الكعبة بينه وبين الشام
فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يصلي وقد غدت قريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل فلما سجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده
وقامت إليه رجال قريش فقالوا ما لك يا أبا الحكم قال قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإيل لا والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط فهم بي أن يأكلني
قال ابن إسحاق فذكر لي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ذلك جبريل لو دنا لأخذه
فلما قال لهم ذلك أبو جهل قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فقال لهم يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانه حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر لا والله ما هو بساحر قد رأينا السحر نفثهم وعقدهم وقلتم كاهن لا والله ما هو بكاهن قد رأينا الكهنة تخالجهم وسمعنا سجعهم وقلتم شاعر لا والله ما هو بشاعر لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه وقلتم مجنون لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه يا معشر قريش انظروا في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم
فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله فإنهم أ هل الكتاب الاول وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء

فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله وقالا لهم إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا
فقالت لهما أحبار يهود سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وأن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فإنه كان لهم حديث عجيب
وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه وسلوه عن الروح ما هو
فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم
فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة فقالا يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد
أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يقل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم
فجاءوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسألوه عن تلك الأشياء فقال لهم أخبركم بما سألتم عنه غدا ولم يستثن
فانصرفوا عنه ومكث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله عزوجل إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل حتى أرجف آل مكة وقالوا وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة
ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف والروح
فذكر لي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لجبريل حين جاءه لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا فقال له جبريل وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا ( مريم 64 )

فلما جاءهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بما عرفوا من الحق وعرفوا صدقه فيما حدث وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه حال الحسد منهم له بينهم وبين اتباعه وتصديقه فعتوا على الله وتركوا أمره عيانا ولجوا فيما هم عليه من الكفر فقال قائلهم لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبونه
أي اجعلوه لغوا وباطلا واتخذوه هزوا لعلكم تغلبون بذلك فإنكم إن ناظر تموه وخاصمتموه غلبكم
فقال أبو جهل بن هشام يوما وهو يهزأ برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وما جاء به من الحق يا معشر قريش يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر وأنتم أعظم الناس عددا وكثرة أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم
فأنزل الله في ذلك من قوله وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ( المدثر 31 إلى آخر القصة )
فلما قال ذلك بعضهم لبعض جعلوا إذا جهر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالقرآن وهو يصلي يتفرقون عنه ويأبون أن يستمعوا له فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع وإن خفض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صوته فظن الذي يستمع أنهم لا يسمعون شيئا من قراءته وسمع هو شيئا دونهم أصاخ يستمع له
وقال عبد الله بن عباس إنما نزلت هذه الآية ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ( الإسراء 110 ) من أجل أولئك النفر يقول لا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك ولا تخافت بها فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم لعله يرعوي إلى بعض ما يستمع فينتفع بذلك
وكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة عبد الله بن مسعود فيما حدث به عروة بن الزبير قال

اجتمع يوما أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط فمن رجل يسمعهموه فقال عبد الله بن مسعود أنا قالوا إنا نخشاهم عليك إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه
قال دعوني فإن الله سيمنعني
قال فغدا ابن مسعود حتى أتي المقام في الضحى وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام ثم قال بسم الله الرحمن الرحيم رافعا بها صوته الرحمن علم القرآن ثم استقبلها يقرؤها وتأمموه فجعلوا يقولون ما قال ابن أم عبد ثم قالوا إنه ليتلوا بعض ما جاء به محمد
فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه فقالوا هذا الذي خشينا عليك قال ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها قالوا لا حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون
وذكر الزهري أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا
ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة
ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتي أبا سفيان في
بيته فقال أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها

قال الأخنس وأنا والذي حلفت به
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد قال ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء
فمن يدرك هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه
فقام عنه الأخنس وتركه
قال ابن إسحاق وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا تلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله قالوا يستهزئون به قلوبنا في أكنة لا نفقه ما تقول وفي آذاننا وقر لا نسمع ما تقول ومن بيننا وبينك حجاب قد حال بيننا وبينك فاعمل بما أنت عليه إنا عاملون بما نحن عليه إنا لا نفقه عنك شيئا
فأنزل الله عليه في ذلك من قولهم وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا إلى قوله وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ( الإسراء 45 - 46 )
أي كيف فهموا توحيدك ربك إن كنت جعلت على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا وبينك وبينهم حجابا بزعمهم أي أني لم أفعل
نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( الإسراء 47 )
أي ذلك ما تواصوا به من ترك ما بعثتك به إليهم
انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( الإسراء 48 )
أي أخطأوا المثل الذي ضربوا لك فلا يصيبون به هدى ولا يعتدل بهم فيه قول
وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ( الإسراء 49 ) ى
أي قد جئت تخبرنا أنا سنبعث بعد موتنا إذا كنا عظاما ورفاتا وذلك ما لا يكون
قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ( الإسراء 50 - 51 )
أي الذي خلقكم مما تعرفون فليس خلقكم من تراب بأعز من ذلك عليه
وسئل ابن عباس عن قول الله عز وجل أو خلقا مما يكبر في صدوركم ما الذي أراد الله به فقال الموت

قال ابن إسحاق ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أصحابه فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم منهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم
فكان بلال بن رباح وهو ابن حمامة لبعض بني جمح مولدا من مولديهم وكان صادق الإسلام طاهر القلب فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات
والعزى فيقول وهو في ذلك البلاء أحد أحد
وكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب بذلك وهو يقول أحد أحد فيقول أحد أحد والله يا بلال ثم يقبل على أمية ومن يصنع ذلك به من بني جمح فيقول أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا
أي لأتخذن قبره منسكا ومسترحما والحنان الرحمة
حتى مر به أبو بكر الصديق يوما وهم يصنعون ذلك به فقال لأمية ألا تتقي الله في هذا المسكين حتى متى
قال أنت الذي أفسدته فأنقذه فقال أبو بكر أفعل عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به قال قد قبلت قال هو لك
فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه
وأعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب بلال سابعهم
عامر بن فهيرة وأم عبيس وزنيرة فأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى فقالت كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان فرد الله إليها بصرها

وأعتق النهدية وابنتها وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما أبو بكر وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول والله لا أعتقكما أبدا فقال أبو بكر حلا يا أم فلان فقالت حل أنت أفسدتهما فأعتقهما قال فبكم هما قالت بكذا وكذا قال قد أخذتهما وهما حرتان ارجعا إليها طحينها قالتا أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها قال أو ذلك إن شئتما
ومر بجارية بني نوفل حي من بني عدي وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام وهو يومئذ مشرك فابتاعها أبو بكر فأعتقها
وقال له أبوه أبو قحافة يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما
فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك فقال أبو بكر يا أبت إني إنما أريد ما أريد
فيتحدث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى إلى آخر السورة ( الليل 7 )
وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه وكانوا أهل بيت إسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة فيمر بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيقول فيما بلغني صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة
فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام
وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش إذا سمع بالرجل له شرف ومنعة قد أسلم أنبه وأخزاه فقال تركت دين أبيك وهو خير منك لنسفهن حلمك ولنفيلن رأيك ولنضعن شرفك وإن كان تاجرا قال والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به
وقال سعيد بن جبير لعبد الله بن عباس أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم
قال نعم والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له اللات والعزى إلهك من دون الله فيقول نعم حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له أهذا الجعل إلهك من دون الله فيقول نعم افتداء منهم مما يبلغون من جهده

ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة
قال ابن إسحاق فلما رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا بدينهم إلى الله
فكانت أول هجرة كانت في الإسلام
وكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امرأته سهلة بنت سهيل والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي معه امرأته أم سلمة وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب بن نفيل معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة وسهل بن بيضاء من بني الحارث بن فهر وأبو سبرة بن أبي رهم ويقال بل أبو حاطب بن عمرو ويقال هو كان أول من قدمها
و كان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة منهم من خرج بأهله ومنهم من خرج بنفسه
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا
بهم صغارا أو ولدوا بها ثلاثة وثمانين رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم وهو يشك فيه
وكان مما قيل من الشعر في الحبشة أن عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم حين أمنوا بأرض الحبشة وحمدوا جوار النجاشي وعبدوا الله لا يخافون على ذلك أحدا قال
يا راكبا بلغن عني مغلغلة
من كان يرجو بلاغ الله والدين
كل امرى ء من عباد الله مضطهد
ببطن مكة مقهور ومفتون
أنا وجدنا بلاد الله واسعة
تنجي من الذل والمخزاة والهون
فلا تقيموا على ذل الحياة وخزي
في الممات وغيب غير مأمون
إنا تبعنا رسول الله واطرحوا

قول النبي وعالوا في الموازين
فاجعل عذابك بالقوم الذين بغوا
وعائذا بك أن يعلوا فيطغوني
البسيط وقال عبد الله بن الحارث أيضا يذكر نفي قريش إياهم من بلادهم ويعاتب بعض قومه في ذلك
أبت كبدي لا أكذبنك قتالهم
علي وتأباه علي أناملي
وكيف قتالي معشرا أدبوكم
على الحق ألا تأشبوه بباطل
نفتهم عباد الجن من حر أرضهم
فأضحوا على أمر شديد البلابل
فإن تك كانت في عدي أمانة
عدي بن سعد عن تقي أو تواصل
فقد كنت أرجو أن ذلك فيهم
بحمد الذي لا يطبى بالجعائل
وبدلت شبلا شبل كل ضعيفة
بذي فجر مأوى الضعاف الأرامل
الطويل
وقال عبدالله بن الحارث أيضا
وتلك قريش تجحد الله حقه
كما جحدت عاد ومدين والحجر
فإن أنا لم أبرق فلا يسعنني
من الأرض بر ذو فضاء ولا بحر
بأرض بها عبد الإله محمد
أبين ما في النفس إذ بلغ النفر
الطويل
فسمي عبد الله يرحمه الله المبرق ببيته الذي قال
وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف وهو ابن عمه وكان يؤذيه في إسلامه وكان أمية شريف قومه في زمانه ذلك
أتيم بن عمرو للذي جاء بغضة
ومن دونه الشرمان والبرك أكتع
أأخرجتني من بطن مكة آمنا
وأسكنتني في صرح بيضاء تقذع
تريش نبالا لا يواتيك ريشها
وتبري نبالا ريشها لك أجمع
وحاربت أقواما كراما أعزة
وأهلكت أقواما بهم كنت تقرع
ستعلم إن نابتك يوما ملمة
وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع
الطويل
وتيم بن عمرو الذي يدعو عثمان هو جمح بن عمرو كان اسمه تيما
قال ابن إسحاق فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي فيردهم عليهم ليفتنوهم في دينهم ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها
فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته ثم بعثوهما

فقال أبو طالب حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه أبياتا يحض النجاشي على حسن جوارهم والدفع عنهم
ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر
وعمرو وأعداء العدو الأقارب
وهل نالت افعال النجاشي جعفرا
وأصحابه أم عاق ذلك شاغب
تعلم أبيت اللعن أنك ماجد
كريم فلا يشقى لديك المجانب
تعلم فإن الله زادك بسطة
وأسباب خير كلها بك لازب
وأنك فيض ذو سجال غزيرة
ينال الأعادي نفعها والأقارب
الطويل
وذكر ابن إسحاق من حديث أم سلمة زوج النبي {صلى الله عليه وسلم} قالت لما نزلنا أرض الحبشة تعني مع زوجها الأول أبي سلمة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه
فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جليدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته إلا أهدوا لهم ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم ثم قدما إلى النجاشي هداياه ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم
قالت فخرجا حتى قدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلماه وقالا لكل بطريق إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهما نعم
ثم إنهما قربا هداياهما إلى النجاشي فقبلها ثم قالا له أيها الملك إنه ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك جاءوا بدين

ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم عليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه
قالت ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن لا يسمع كلامهما النجاشي
فقالت بطارقته صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم
فغضب النجاشي ثم قال لاها الله إذا لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني
ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن
فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل
قالت فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب قال أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن
المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قالت فعدد عليه أمور الإسلام

فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم الله علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بينا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك
فقال له النجاشي هل معك مما جاء به عن الله من شيء فقال له جعفر نعم قال فاقرأه علي فقرأ عليه صدرا من كهيعص
فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما يتلى عليهم
ثم قال له النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فو الله لا أسلمهم إليكماأبدا ولا يكادون
فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص والله لآتينه عنهم غدا بما أستأصل به خضراءهم
قالت فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أبقى الرجلين فينا لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا
قال والله لأخبرته أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد
ثم غدا عليه فقال أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما فسلهم عما يقولون فيه
قالت فأرسل إليهم ليسألهم عنه ولم ينزل بنا مثلها قط
فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا
سألكم عنه فقالوا نقول والله ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن
قالت فلما دخلوا عليه قال لهم ما تقولون في عيسى ابن مريم قالت فقال جعفر بن أبي طالب نقول فيه الذي جاء به نبينا نقول عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول
قالت فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود

قالت فتناحرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي أي آمنون من سبكم غرم من سبكم غرم من سبكم غرم فما أحب أن لي دبرا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم ويقال دبرا وهو الجبل بلسان الحبشة فيما قال ابن هشام
ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه
قالت فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار
قالت فوالله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه فوالله ما علمتنا حزنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه
وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل فقال أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر فقال الزبير بن العوام أنا قالوا فأنت وكان من أحدث القوم سنا
فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم
قالت ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن إذا طلع الزبير يسعى فلمع بثوبه يقول ألا أبشروا فقد ظهر النجاشي وأهلك الله عدوه فو الله ما علمتنا فرحنا فرحه قط مثلها
ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قال الزهري فحدثت عروة بن الزبير هذا الحديث فقال هل تدري ما قوله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيع الناس فيه قلت لا والله

قال فإن عائشة أم المؤمنون حدثتني أنا أباه كان ملك قومه ولم يكن له ولد إلا النجاشي وكان للنجاشي عم له من صلبه إثنا عشر رجلا وكان أهل بيت مملكة الحبشة فقالت الحبشة بينها لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام وإن لأخيه من صلبه إثني عشر رجلا فتوارثوا ملكهم من بعده بقيت الحبشة بعده دهرا
فعدوا على أبي النجاشي فقتلوه وملكوا أخاه فمكثوا على ذلك حينا ونشأ النجاشي مع عمه وكان لبيبا حازما من الرجال فغلب على أمر عمه ونزل منه بكل منزلة فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه وإنا لنتخوف أن يملكه علينا وإن ملكه علينا ليقتلنا أجمعين لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه
فمشوا إلى عمه فقالوا إما أن تقتل هذا الفتى أو لتخرجنه من بين أظهرنا فإنا قد خفناه على أنفسنا
قال ويلكم قتلت أباه بالأمس وأقتله اليوم بل أخرجه من بلادكم
فخرجوا به إلى السوق فباعوه من رجل من التجار بستمائة درهم فقذفه في سفينه فانطلق به حتى إذا كان العشي من ذلك اليوم هاجمت سحابة منه سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته
ففزعت الحبشه إلا ولده فإذا هو محمق ليس في ولده خير فمرج على الحبشة أمرهم فلما ضاق عليهم ما هم فيه قال بعضهم لبعض تعلموا والله أن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره الذي بعتموه غدوة فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قالت فخرجوا في طلبه وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه فأخذوه منه ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج وأقعدوه على سرير الملك فجائهم التاجر الذي كان باعوه منه فقال إما أن تعطوني مالي إما أن أكلمه في ذلك فقالوا لا نعطيك شيئا قال إذا والله أكلمه قالوا فدونك
فجاءه فجلس بين يديه فقال أيها الملك ابتعت غلاما من قوم بالسوق بستمائة درهم فأسلموا إلي غلامي وأخذوا دراهمي حيث إذا سرت أدركوني فأخذوا غلامي ومنعوني دراهمي

فقال لهم النجاشي لتعطنه دراهمه أو ليضعن غلامه يده في يده فليذهبن به حيث شاء
قالوا بل نعطه دراهمه
وكان ذلك أول ماخبر من صلابته في دينه وعدله في حكمه رحمه الله تعالى
وعن عائشة قالت لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لايزال يرى على قبره نور
وذكر ابن أسحاق أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه أن الحبشة اجتمعت فقالوا للنجاشي يعني عندما وافق جعفر بن أبي طالب على قوله في
عيسى ابن مريم إنك فارقت ديننا و خرجوا عليه فأرسل إلى جعفر وأصحابه وهيأ لهم سفنا وقال اركبوا فيها وكونوا كما أنتم فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم وإن ظفرت فاثبتوا
ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم
ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن وخرج إلى الحبشة وصفوا له فقال يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم قالوا بلى قال فكيف رأيتم سيرتي فيكم قالوا خير سيرة قال فما لكم قالوا فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد قال فما تقولون أنتم في عيسى قالوا نقول هو أبن الله قال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه هو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئا و إنما يعني علي ما كتب
فرضوا وانصرفوا
فبلغ ذلك النبي {صلى الله عليه وسلم} فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له
قال ابن إسحاق ولما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة على قريش ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وردهما النجاشي بما يكرهون وأسلم عمرو بن الخطاب رضي الله عنه وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبحمزة حتى عازوا قريشا
فكان عبد الله بن مسعود يقول ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه

وقال ابن مسعود في رواية الكبائي عن غير ابن إسحاق إن إسلام عمر كان فتحا وإن هجرته كانت نصرا وإن إمارته كانت رحمة ولقد كنا وما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر وذكر مثل ما تقدم نصا إلى آخره

ذكر الحديث عن إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه
حدث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت ابي حثمة قالت والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علي وهو على شركه قالت وكنا نلقي منه البلاء أذى لنا وشدة علينا فقال إنه للانطلاق يا أم عبد الله
فقلت نعم والله لنخرجن في أرض الله آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا فقال صحبكم الله
ورأيت له رقة لم يكن أراها ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا
قالت فجاء عامر بحاجته تلك فقلت له يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته علينا
قال أطمعت في إسلامه قالت نعم قال لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب قالت يأسا منه لما كان يرى منه من غلظته وقسوته عن الإسلام
قال ابن إسحاق وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول {صلى الله عليه وسلم} إلى الحبشة
قال وكان إسلامه فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت قد أسلمت وأسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون بإسلامهم من عمر وكان نعيم بن عبد الله النحام من بني عدي قد أسلم وكان يستخفي بإسلامه
فرقا من قومه وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن
فخرج عمر متوشحا سيفه يريد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورهطا من أصحابه قد ذكروا له أنهم اجتمعوا في بيت عند الصفا قريبا من أربعين بين رجال ونساء ومع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عمه حمزة وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين
فلقيه نعيم فقال أين تريد يا عمر قال أريد محمدا هذا الصابيء الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وأعاب دينها وسب آلهتها فأقتله

فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم
قال أي أهل بيتي قال ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما
فرجع عمر عائدا إلى أخته وختنه وعندهما خباب معه صحيفة فيها طه يقرؤهما إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع عمر قراءة خباب فلما دخل قال ما هذه الهينمة التي سمعت قالا ما سمعت شيئا قال بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمد على دينه
وبطش بختنه سعيد فقامت إليه أخته لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه نعم أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك
ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم وارعوى وقال لها أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد وكان عمر كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته إنا نخشاك عليها قال لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إليها إذا قرأها
فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له يا أخي إنك نجس على شركك و انه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه
فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول اللهم أيد الأسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر
فقال عند ذلك فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم فقال له خباب هو في بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه
فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه فضرب عليهم الباب فلما سمعوا صوته قام رجل منهم فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف فرجع وهو فزع فقال يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف

فقال حمزة بن عبد المطلب فأذن له فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه
فقال الرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ائذن له فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة
وقال ما جاء بك يا أبن الخطاب فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة
فقال عمر يا رسول الله جئت لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عنده
قال فكبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن عمر قد أسلم
فتفرقوا من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة
وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وينتصفون بهما من عدوهم
فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر
وقد روي غيرهم أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول كنت للأسلام مباعدا وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك فلم أجد فيه منهم أحد فقلت لو أني جئت فلانا الخمار لعلى أجد عنده خمرا فأشرب منها فجئته فلم أجده
فقلت فلو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين فجئت أريد ذلك فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قائم يصلي وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل بينه وبينها الكعبة فكان مصلاه بين الركنين الكن الأسود و الركن اليماني فقلت حين رأيته والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أستمع ما يقول
فقلت لئن دنوت منه لأروعنه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها فجعلت أمشي رويدا ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} قائم يصلي يقرأ القرآن حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة
فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام فلم أزل قائما في مكاني ذلك حتى قضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صلاته ثم انصرف وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين وكانت طريقه حتى يخرج المسعى ثم يسلك بين دار عباس بن عبد المطلب وبين دار ابن أزهر

فتبعته حتى إذا دخل بينهما أدركته فلما سمع حسي عرفني فظن أني إنما تبعته لأوذيه فنهمني ثم قال ما جاء بك يابن الخطاب هذه الساعة قلت جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله
فحمد الله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال قد هداك الله يا عمر ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات ثم انصرفت عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيته
قال ابن إسحاق فالله أعلم أي ذلك كان
وذكر محمد بن عبد الله بن سنجر الحافظ في إسلام عمر رضي الله عنه زيادة لم يذكرها ابن إسحاق فروي بإسناد له إلى شريح بن عبيد قال قال عمر بن الخطاب خرجت أتعرض لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القرآن فقلت هذا والله شاعر كما قالت قريش فقرأ إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ( الحاقة 40 - 41 ) قال قلت كاهن علم ما في نفسي فقرأ ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ( الحاقة 42 ) إلى آخر السورة
قال فوقع الأسلام في قلبي كل موقع
قال ابن إسحاق وحدثني نافع عن ابن عمر قال لما أسلم عمر قال أي قريش أنقل للحديث قيل له جميل بن معمر الجمحى فغدا عليه وغدوت أتبع أثره أنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت حتى جاءه فقال له أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد
فو الله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة ألا إن ابن الخطاب قد صبأ
قال يقول عمر من خلفه كذب ولكني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم
قال وطلع فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا
فبيناهم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشي

حتى وقف عليهم فقال ما شأنكم قالوا صبأ عمر قال فمه رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم
هكذا عن الرجل فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه
فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة يا أبت من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك جزاه الله خيرا قال أي بني ذلك العاص بن وائل السهمي لا جزاه الله خيرا
وهذا الدعاء عليه وله مما زاده ابن هشام عن غير ابن إسحاق
وعن بعض آل عمر قال عمر لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أي الناس أشد عداوة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت قال قلت أبو جهل وكان عمر ابنا لحنتمة بنت هشام بن المغيرة فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه فخرج إلي فقال مرحبا وأهلا يا بن أختي ما جاء بك قلت جئتك أخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به
فضرب الباب في وجهي وقال قبحك الله وقبح ما جئت به
وفيما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن عمر رضي الله عنه قال حين أسلم
الحمد لله ذي المن الذي وجبت
له علينا أياد كلها عبر
وقد بدأنا فكذبنا فقال لنا
صدق الحديث نبي عنده الخبر
وقد ظلمت ابنة الخطاب ثم هدي
ربي عشيه قالوا قد صبا عمر
وقد ندمت على ما كان من زلل
بظلمها حين تتلى عندها السور
لما دعت ربها ذا العرش جاهدة
والدمع من عينها عجلان يبتذر
أيقنت أن الذي تدعوه خالقها
تكاد تسبقني من عبرة درر
فقلت أشهد أن الله خالقنا
وأن أحمد فينا اليوم مشتهر
نبي صدق أتى بالحق من ثقة
وافى الأمانة ما في عوده خور
البسيط
قال ابن إسحاق فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم وأن عمر قد أسلم فكان هو و حمزة مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه وجعل الإسلام يفشو في القبائل اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم

فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم
فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه وخرج من بني هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم ولقي هندا بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه وظاهر عليهم قريشا فقال لها يا بنت عتبة هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما قالت نعم فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة
وقال أبو طالب فيما صنعت قريش من ذلك واجتمعوا عليه
ألا أبلغا عني على ذات بيننا
لؤيا وخصا من لؤي بني كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا
نبيا كموسى خط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة
ولا خير ممن خصه الله بالحب
وأن الذي لصقتم من كتابكم
لكم كائن نحسا كراغية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى
ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب
ولا تبتغوا أمر الوشاة وتقطعوا
أواصرنا بعد المودة والقرب
وتستجلبوا حربا عوانا وربما
أمر على من ضاقه حلب الحرب
فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا
لعزاء من عض الزمان ولا كرب
ولما تبن منا ومنكم سوالف
وأيد أترت بالقساسية الشهب
بمعترك ضنك ترى كسر القنا
به النسور الطخم يعكفن كالشرب
كأن مجال الخيل في حجراته
ومعمعة الأبطال معركة الحرب
أليس أبونا هاشم شد أزره
وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
ولسنا نمل الحرب حتى تملنا
ولا نتشكى ما قد ينوب من النكب
ولكننا أهل الحفائظ والنهي
إذا طار أرواح الكماة من الرعب
الطويل
فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش
وقد كان أبو جهل فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة وهي مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الشعب فتعلق به وقال أتذهب بالطعام إلى بني هاشم فقال له أبو البختري طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها بطعامها خل سبيل الرجل

فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه فشجه ووطئه وطأ شديدا وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه فيشمتوا بهم
ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهرا مباديا لأمر الله لا يتقي فيه أحدا من الناس
فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم وفيمن نصب لعداوته منهم من سمي لنا ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار
فكان من سمي لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب وإنما سماها الله عز وجل حمالة الحطب أنها كانت فيما بلغني تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حيث يمر
وكان أبو لهب يقول في بعض ما يقول يعدني محمد أشياء لا أراها يزعم أنها كائنة بعد الموت فماذا وضع في يدي بعد ذلك ثم ينفخ في يديه ويقول تبا لكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد
فأنزل الله عز وجل فيهما تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد ( سورة المسد )
قال ابن إسحاق فذكر لي أن أم جميل حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فهر من حجارة فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلا ترى إلا أبا بكر فقالت يا أبا بكر أين صاحبك فقد بلغني أنه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه أما والله إني لشاعرة ثم قالت
( مذمما عصينا
وأمره أبينا ) البسيط
وعن غير ابن إسحاق ودينه قلينا
ثم انصرفت فقال أبو بكر يا رسول الله أما تراها رأتك فقال ما رأتني لقد أخذ الله ببصرها عني

وكانت قريش إنما تسمي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مذمما ثم يسبونه فكان عليه السلام يقول ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد
وأمية بن خلف الجمحي كان إذا رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} همزه ولمزه فأنزل الله فيه ويل لكل همزة لمزة سورة الهمزة إلى آخر السورة
والعاص بن وائل السهمي كان خباب بن الأرت قد باع منه سيوفا عملها له وكان قينا بمكة فجاءه يتقاضاه فقال له يا خباب أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة
أو ثياب أو خدم قال بلى قال فأنظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك فو الله لا تكون أنت وأصحابك يا خباب آثر عند الله مني ولا أعظم حظا في ذلك
فأنزل الله في ذلك أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم أتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا ( مريم 77 - 80 )
ولقي أبو جهل بن هشام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني فقال له والله يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي بعثك
فأنزل الله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ( الأنعام 108 )
فذكر لي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كف عن سب آلهتهم وجعل يدعوهم إلى الله
والنضر بن الحارث بن كلدة من شياطين قريش ممن كان يؤذي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وينصب له العداوة وكان قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس فكان إذا جلس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مجلسا فذكر فيه بالله ودعا فيه إلى الله وحذر قومه ما أصاب الأمم الخالية من نقمة الله خلفه في مجلسه إذا قام ثم قال أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه فهلم فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ثم يحدثهم عن رستم الشيذ واسبنديار وملوك فارس ثم يقول بماذا محمد أحسن حديثا مني والله ما محمد بأحسن حديثا مني وما أحاديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها

فأنزل الله عز وجل فيه وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما ( الفرقان 5 - 6 ) وكل ما ذكر فيه الأساطير من القرآن
وأنزل أيضا فيه ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم ( الجاثيه 7 - 8 )
وهو القائل سأنزل مثل ما أنزل الله فيما ذكر ابن هشام
قال ابن إسحاق وجلس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث فجلس معهم في المجلس وفيه غير واحد من رجال قريش
فتكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فعرض له النضر فكلمه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ( الأنبياء 98 - 100 )
ثم قام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي حتى جلس فقال له الوليد والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم
فقال ابن الزبعري أما والله لو وجدته لخصمته فسلوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى ابن مريم
فعجب الوليد ومن كان معه من قول ابن الزبعرى ورأوا أنه قد احتج وخاصم
فذكر ذلك لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لهم كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته فأنزل الله عليه إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون
حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون ) ( الأنبياء 101 ) أي عيسى وعزيرا ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله

ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون إلى قوله ومن يقل منهم إني إله من دونه فلذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ( الأنبياء 26 - 29 )
وأنزل فيما ذكر من أمر عيسى أنه يعبد من دون الله وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ثم قال إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم ( الزخرف 57 - 61 ) أي ما وضعت على يديه من إحياء الموتى وإبراء الأسقام فكفى به دليلا على علم الساعة يقول فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم
والأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه فكان يصيب من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويرد عليه فأنزل الله فيه ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم ( ن 10 - 13 ) إلى قوله زنيم
ولم يقل زنيم لعيب في نسبه إن الله لا يعب أحدا بنسبه ولكنه حقق بذلك نعته ليعرف والزنيم العديد للقوم قال الخطيم التميمي في الجاهلية
( زنيم تداعاه الرجال زيادة
كما زيد في عرض الأديم الأكارع ) الطويل
والوليد بن المغيرة قال أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين
فأنزل الله فيه فيما بلغني وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا إلى قوله ورحمة ربك خير مما يجمعون ( الزخرف 20 - 21 )

وأبي بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط وكانا متصافيين حسنا ما بينهما فكان عقبة بن أبي معيط قد جلس إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وسمع منه فبلغ ذلك أبيا فأتى عقبة فقال ألم يبلغني أنك جالست محمدا وسمعت منه ثم قال وجهي من وجهك حرام أن أكلمك واستغلظ من اليمين إن أنت جلست إليه أو سمعت منه أو لم تأته فتتفل في وجهه
ففعل ذلك عدو الله عقبة فأنزل الله فيه ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا ( الفرقان 27 - 29 )
ومشى أبي بن خلف إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعظم بال قد ارفت فقال يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرى ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نعم أنا أقول ذلك يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار
فأنزل الله فيه وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ( يس 78 - 80 )
واعترض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني الأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل وكانوا ذوي أسنان في قومهم فقالوا يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه
فأنزل الله فيهم قل يا أيها الكافرون السورة كلها
أي إن كنتم لا تعبدون الله إلا أن أعبد ما تعبدون فلا حاجة لي بذلك منكم لكم دينكم ولي دين
وأبو جهل بن هشام لما ذكر الله شجرة الزقوم تخويفا بها لهم قال يا معشر قريس هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد قالوا لا قال عجوة يثرب بالزبد والله لئن استمكنا منها لنتزقمنها تزقما

فأنزل الله فيه إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم ( الدخان 443 )
وأنزل الله فيه والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( الإسراء 60 )
ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورسول الله يكلمه وقد طمع في إسلامه فبينا هو في ذلك مر به ابن أم مكتوم الأعمى فكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وجعل يستقرئه القرآن فشق ذلك منه على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أضجره وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه فأنزل الله فيه عبس وتولى أن جاءه الأعمى إلى قوله في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة ( عبس 1 - 14 )
أي إنما بعثتك بشيرا ونذيرا لم أخص بك أحدا دون أحد فلا تمنعه ممن ابتغاه ولا تتصد به لمن لا يريده
قال ابن إسحاق ولما بلغ أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة فأقبلوا لما بلغهم ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ذلك كان باطلا فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفيا
وذكر موسى بن عقبة أن رجوع هؤلاء الذين رجعوا كان قبل خروج جعفر
وأصحابه إلى أرض الحبشة وأنهم الذين خرجوا أولا قبله ثم رجعوا حين أنزل الله سورة النجم
قال وكان المشركون يقولون لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشتم والشر
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذبيهم وأحزنته ضلالتهم وكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة والنجم قال أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ( النجم 19 - 20 ) ألقى الشيطان عندها على لسانه كلمات حين ذكر الطواغيت فقال وإنهم لمن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى

كان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين أبائه فلما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} آخر والنجم سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه
فعجب الفريقان كلاهما من اجتماعهم في السجود لسجود رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين
وأما المشركون فاطمأنت نفوسهم إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه لما ألقي الشيطان في أمنية النبي {صلى الله عليه وسلم} فسجدوا لتعظيم آلهتهم
وفشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه وحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفيه وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وقال عز من قائل وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ( الحج 52 - 54 )
فلما بين الله قضاءه فبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم للمسلمين فاشتدوا عليهم
فلهذا الذي ذكره ابن عقبة لم يستطع أحد ممن رجع من أرض الحبشة أن يدخل مكة إلا بجوار أو مستخفيا كما ذكر ابن إسحاق

قال فكان جميع من قدم مكة منهم ثلاثة وثلاثين رجلا دخل منهم بجوار فيمن سمى لنا عثمان بن مظعون الجمحي دخل بجوار من الوليد بن المغيرة وأبو سلمة بن عبد الأسد بجوار خاله أبي طالب
فأما عثمان فإنه لما رأى ما فيه أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من البلاء وهو يغدو ويروح في أمان الوليد قال والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي
فمشي إلى الوليد بن المغيرة فقال له يا أبا عبد شمس وفت ذمتك وقد رددت إليك جوارك قال لم يا بن أخي لعله آذاك أحد من قومي قال لا ولكني أرضي بجوار الله ولا أريد أن أستجير بغيره قال فانطلق إلى المسجد فرد علي جواري علانية كما أجرتك علانية
فخرجا حتى أتيا المسجد فقال الوليد هذا عثمان جاء يرد علي جواري قال صدق قد وجدته وفيا كريم الجوار ولكني أحببت أن لا أستجير بغير الله
ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة في مجلس من قريش ينشدهم فجلس معهم عثمان فقال لبيد
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال عثمان صدقت قال
وكل نعيم لا محالة زائل
الطويل
قال عثمان كذبت نعيم الجنة لا يزول
قال لبيد يا معشر قريش والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم فقال رجل من القوم إن هذا سفيه في سفهاء معه فارقوا ديننا فلا تجدن في نفسك منه
فرد عليه عثمان حتى شري أمرهما فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فحضرها والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان فقال أما والله يا بن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية لقد كنت في ذمة منيعة
قال بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس
فقال له الوليد هلم يا ابن أخي إن شئت إلى جوارك
فقال لا

وأما أبو سلمة بن عبد الأسد فإنه لما استجار بأبي طالب مشي إليه رجال بني مخزوم فقالوا يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمدا فما لك ولصاحبنا تمنعه منا فقال إنه استجار بي وهو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي فقام أبو لهب فقال يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون توثبون عليه في جواره من بين قومه والله لتنتهن عنه أو
لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد
فقالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأبقوا على ذلك
فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما قال ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يحرضه على ذلك
و إن امرءا أبو عتيبة عمه
لفي روضة ما إن يسام المظالما
أقول له وأين منه نصيحتي
أبا معتب ثبت سوادك قائما
ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة
تسب بها إما هبطت المواسما
وول سبيل العجز غيرك منهم
فإنك لم تخلق على العجز لازما
وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى
أخا الحرب يعصي الخسف حتى يسالما
وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة
ولم يخذلوك غانما أو مغارما
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا
وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما
بتفريقهم من بعد ود وألفة
جماعتنا كيما ينالوا المحارما
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا
ولما تروا يوما لدى الشعب قائما
الطويل
وكان أبو بكر رضي الله عنه كما حدثت عائشة رضي الله عنها حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى ورأى من تظاهر قريش على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه ما رأى قد استأذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الهجرة فأذن له فخرج مهاجرا حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة أخو بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد الأحابيش فقال أين يا أبا بكر
قال أخرجني قومي وآذوني وضيقوا علي قال لم فوالله إنك لتزين العشيرة وتعين على النوائب وتفعل المعروف وتكسب المعدوم فارجع فأنت في جواري

فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام ابن الدغنة فقال يا معشر قريش إني قد أجرت ابن أبي قحافة فلا يعرضن له أحد إلا بخير
قالت فكفوا عنه وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح فكان يصلي فيه وكان رجلا رقيقا إذا قرأ القرآن استبكى فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته
فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة فقالوا له إنك لم تجر هذا لؤذينا إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وكانت له هيئة ونحو فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم فائته فأمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء
فمشى ابن الدغنة فقال يا أبا بكر إني لم أجرك لتؤذي قومك إنهم قد كرهوا مكانك الذي أنت به وتأذوا بذلك منك فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت
قال أو أرد عليك جوارك وأرضي بجوار الله
قال فاردد علي جواري قال قد رددته عليك
فقام ابن الدغنة فقال يا معشر قريش إن ابن أبي قحافة قد رد علي جواري فشأنكم بصاحبكم
وعن القاسم بن محمد أن أبا بكر لقيه سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة فحثا على رأسه التراب فمر الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل فقال أبو بكر ألا ترى ما يصنع هذا السفيه قال أنت فعلت هذا بنفسك وهو يقول أي رب ما أحلمك أي رب ما أحلمك
قال ابن إسحاق ثم إنه قام في نقض الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بني هاشم وبني المطلب نفر من قريش ولم يبل أحد فيها أحسن من بلاء
هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه فكان هشام لبني هشام واصلا وكان ذا شرف في قومه فكان فيما بلغني يأتي ليلا بالبعير قد أوقره طعاما حتى إذا أقبله في فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه ليدخل الشعب عليهم ويأتي به قد أوقره برا فيفعل به مثل ذلك

ثم إنه مشى إلى زهير بن أمية بن المغيرة وأمه عاتكة بنت عبد المطلب فقال يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد عملت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم عودته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا
فقال ويحك يا هشام فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها قال قد وجدت رجلا قال من هو قال أنا قال له زهير ابغنا ثالثا
فذهب إلي المطعم بن عدي فقال له يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا قال ويحك فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد قال قد وجدت ثانيا قال من هو قال أنا قال أبغنا ثالثا قال قد فعلت قال من هو قال زهير بن أبي أمية قال ابغنا رابعا
فذهب إلى أبي البختري بن هشام فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدي فقال وهل من أحد يعين على هذا قال نعم قال من هو قال زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك قال ابغنا خامسا
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد فكلمه وذكر له قرابتهم ومكانهم فقال وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد قال نعم ثم سمى له القوم
فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة فاجتمعوا هنالك فأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها وقال زهير أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير عليه حلة فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس فقال يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة
قال أبو جهل وكان في ناحية المسجد كذبت والله لا تشق

قال زمعة بن الأسود أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت قال أبو البختري صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به قال المطعم بن عدي صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك
فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل تشوور فيه بغير هذا المكان
وأبو طالب جالس في ناحية المسجد وقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم
وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يزعمون
وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لأبي طالب يا عم إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو الله إلا أثبتته ونفت منها القطيعة والظلم والبهتان قال أربك أخبرك بهذا قال نعم قال فوالله ما يدخل عليك أحد ثم خرج إلى قريش فقال يا معشر قريش إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا فهلم صحيفتكم فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا
وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخي قال القوم رضينا فتعاقدوا على ذلك ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فزادهم ذلك شرا فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا
قال ابن إسحاق فلما مزقت الصحيفة وبطل ما فيها قال أبو طالب فيما كان من أمر أولئك الذين قاموا في نقضها يمدحهم
ألا هل أتي بحرينا صنع ربنا
على نأيهم والله بالناس أرود
فنخبرهم أن الصحيفة مزقت
وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
تراوحها إفك وسحر مجمع
ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد
جزى الله رهطا بالحجون تتابعوا
على ملأ يهدي لحزم ويرشد
قعودا لدى خطم الحجون كأنهم
مقاولة بل هم أعز وأمجد
أعان عليها كل صقر كأنه
إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد
جري على جل الخطوب كأنه
شهاب بكفي قابس يتوقد
من الأكرمين من لؤي بن غالب
إذا سيم خسفا وجهه يتربد
طويل النجاد خارج نصف ساقه
على وجهه نسقى الغمام ونسعد
عظيم الرماد سيد وابن سيد
يحض على مقري الضيوف ويحشد
ويبني لأفياء العشيرة صالحا

إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد
ألظ بهذا الصلح كل مبرا
عظيم اللواء أمره ثم يحمد
قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا
على مهل وسائر الناس رقد
هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا
وسر أبو بكر بها ومحمد
متى شرك الأقوام في جل أمرنا
وكنا قديما قبلها نتودد
كنا قديما لا نقر ظلامة
وندرك ما شئنا ولا نتشدد
فيا لقصي هل لكم في نفوسكم
وهل لكم فيما يجيء به غد
فإني وإياكم كما قال قائل
لديك البيان لو تكلمت أسود
الطويل
أسود هنا اسم جبل كان قتل فيه قتيل لم يعرف قاتله فقال أولياء المقتول هذه المقالة يعنون بها أن هذا الجبل لو تكلم لأبان عن القاتل ولعرف بالجاني ولكنه لا يتكلم فذهبت مقالتهم تلك مثلا
قال ابن إسحاق فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ما يرى من قومه يبذل لهم النصيحة ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه وجعلت قريش حين منعه الله منهم يحذرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب
فكان طفيل بن عمرو الدوسي وكان رجلا شريفا شاعرا لبيبا يحدث أنه قدم مكة ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بها فمشى إليه رجال من قريش فقالوا له يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا فرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر يفرق به بين الرجل وبين أبيه وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجته وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنه ولا تسمعن منه
قال فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه
قال فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قائم يصلي عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله فسمعت كلاما حسنا فقلت في نفسي واثكل أمي والله إني لرجل لبيب شاعر وما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته

فمكثت حتى انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا فوالله ما برحوا يخوفونني
أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك ثم أبى الله إلا أن يسمعني فسمعت قولا حسنا فاعرض علي أمرك
فعرض علي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الإسلام وتلا علي القرآن فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه فأسلمت وشهدت شهادة الحق وقلت يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه فقال اللهم اجعل له آية
فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت على ثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح قلت اللهم في غير وجهي إني أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم قال فتحول فوقع في رأس سوطي فجعل أهل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم
فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخا كبيرا فقلت إليك عني يا أبه فلست منك ولست مني قال لم يا بني قلت أسلمت وتابعت دين محمد قال أي بني فديني دينك فقلت فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثم تعال حتى أعلمك ما علمت فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم
ثم أتتني صاحبتي فقلت لها إليك عني فلست منك ولست مني قالت لم بأبي أنت وأمي قلت فرق بيني وبينك الإسلام وتابعت دين محمد قالت فديني دينك قلت فاذهبي إلى حنا ذي الشري قال ابن هشام ويقال حمى ذي الشرى فتطهري منه وكان ذو الشري صنما لدوس والحنا حمى حموه له به وشل من ماء يهبط من جبل فقالت بأبي أنت وأمي أتخشى على الصبية من ذي الشري شيئا قلت لا أنا ضامن لذلك فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت
ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطأوا علي ثم جئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة فقلت

يا نبي الله إنه غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم فقال اللهم اهد دوسا ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم
فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق ثم قدمت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمن أسلم معي من قومي ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس ثم لحقنا برسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين
ثم لم أزل مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى فتح الله عليه مكة قلت يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه
قال ابن إسحاق فخرج إليه فجعل وهو يوقد عليه النار يقول
يا ذا الكفين لست من عبادكا
ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا
الرجز
ثم رجع فكان بالمدينة حتى قبض الله رسوله فلما ارتدت العرب خرج مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة فقال لأصحابه إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي رأيت أن رأسي حلق وأنه خرج من فمي طائر وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عني
قالوا خيرا قال أما أنا والله فقد أولتها قالوا ماذا قال أما حلق رأسي فوضعه وأما الطائر الذي خرج من فمي فروحي وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر لي وأغيب فيها وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني
فقتل رحمه الله شهيدا باليمامة وجرح ابنه جراحة شديدة ثم استقل منها ثم قتل
عام اليرموك في زمان عمر شهيدا
وذكر ابن هشام أن أعشى بني قيس بن ثعلبة خرج إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يريد الإسلام وقال قصيدة يمدحه فيها نذكرها بعد

فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليسلم فقال له يا أبا بصير إنه يحرم الزنا فقال الأعشى والله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب فقال يا أبا بصير فإنه يحرم الخمر فقال أما هذه فوالله إن في النفس منها لعلالات ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم
فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
هذا ما ذكر ابن هشام في قصة الأعشى وظاهره يقتضي أن قصده كان إلى مكة وأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيها حينئذ لم يهاجر بعد
ويعارض هذا الظاهر ما ذكر من تحريم الخمر فإن أهل النقل مجمعون على أن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد أن مضى بدر وأحد ونزل تحريمها في سورة المائدة وهي من آخر ما نزل من القرآن فإن صح أن خروج الأعشى كان قبل الهجرة كما في ظاهر الخبر فلعل المشرك الذي لقيه وأخبره عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بتحريم الخمر أراد بهذا القول تنفيره عن الإسلام وإبعاده عنه مع ما كان من كراهية رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبدا للخمر وتنزيه الله إياه عنها
ألا تراه ليلة الإسراء لما عرضت عليه آنية الخمر واللبن اختار اللبن فقيل له هديت للفطرة لو أخذت الخمر غوت أمتك والإسراء إنما كان بمكة في صدر الإسلام
وقد يمكن أن يكون قصد الأعشى إلى المدينة بعد الهجرة وبعد تحريم الخمر فتلقاه بعض المشركين من قريش ممن لم يكن أسلم بعد
ولعل هذا هو الأولى بدليل قوله في قصيدته الآتية بعد
ألا أيهذا السائلي أين يممت
فإن لها في أهل يثرب موعدا
والله أعلم بالحقيقة في ذلك كله
والقصيدة التي مدح بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هي قوله
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
وبت كما بات السليم مسهدا
وما ذاك من عشق النساء وإنما
تناسيت قبل اليوم خلة مهددا
ولكن أرى الدهر الذي هو خائن
إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا
كهولا وشبانا فقدت وثروة
فلله هذا الدهر كيف ترددا
وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع
وليدا وكهلا حين شبت وأمردا
وأبتذل العيس المراقيل تعتلى

مسافة ما بين النجير فصرخدا
ألا أيهذا السائلي أين يممت
فإن لها في أهل يثرب موعدا
فإن تسألي عني فيا رب سائل
حفي عن الأعشى به حيث أصعدا
أجدت برجليها النجاء وراجعت
يداها خنافا لينا غير أحردا
وفيها إذا ما هجرت عجرفية
إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا
وآليت لا آوي لها من كلالة
ولا من حفى حتى تلاقي محمدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم
تراحي وتلقى من فواضله ندا
نبيا يرى ما لا ترون وذكره
أغار لعمرى في البلاد وأنجدا
له صدقات ما تغب ونائل
وليس عطاء اليوم مانعه غدا
أجدك لم تسمع وصاة محمد
نبي الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
فترصد للموت الذي كان أرصدا
فإياك والميتات لا تقربنها
ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا
وذا النصب المنصوب لا تسكننه
ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
ولا تقربن حرة كان سرها
عليك حراما فانكحن أو تأبدا
وذا الرحم القربى فلا تقطعنه
لعاقبة ولا الأسير المقيدا
وسبح على حين العشيات والضحى
ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا
ولا تسخرن من بائس ذي ضرارة
ولا تحسبن المال للمرء مخلدا
الطويل
قال ابن إسحاق وقد كان عدو الله أبو جهل مع عداوته رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبغضه إياه يذله الله إذا رآه
حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان الثقفي وكان واعية قال قدم رجل من إراش بإبل له مكة فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها فأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالس في ناحية المسجد فقال يا معشر قريش من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام فإني غريب ابن سبيل وقد غلبني على حقي
فقال له أهل ذلك المجلس أترى ذلك الرجل لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} يهزأون به لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة اذهب إليه فهو يؤديك عليه

فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام غلبني على حق لي قبله وأنا غريب ابن سبيل وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه يأخذ لي حقي منه فأشاروا لي إليك فخذ لي حقي منه يرحمك الله
قال انطلق إليه وقام معه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم اتبعه فأنظر ما يصنع
قال وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال من هذا فقال محمد فاخرج إلي فخرج إليه وما في وجهه من رائحة لقد انتقع لونه فقال أعط هذا حقه قال نعم لا يبرح حتى أعطيه الذي له
فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك
المجلس فقال جزاه الله خيرا فقد والله أخذ لي حقي
وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا ويحك ماذا رأيت
قال عجبا من العجب والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال أعط هذا الرجل حقه قال نعم لا يبرح حتى أخرج إليه حقه فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إياه
ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء فقالوا ويلك ما لك والله ما رأينا مثل ما صنعت قط
قال ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي وسمعت صوته فملئت رعبا ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط والله لو أبيت لأكلني
وذكر الواقدي عن يزيد بن رومان قال بينا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالسا في المسجد معه رجال من أصحابه أقبل رجل من بني زبيد يقول يا معشر قريش كيف تدخل عليكم المادة أو يجلب إليكم جلب أو يحل تاجر بساحتكم وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم يقف على الحلق حلقة حلقة
حتى انتهى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في أصحابه فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومن ظلمك فذكر أنه قدم بثلاثة أجمال كانت خيرة إبله فسامه أبو جهل ثلث أثمانها ثم لم يسمه بها لأجله سائم قال فأكسد علي سلعتي وظلمني قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأين أجمالك قال هي هذه بالحزورة

فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} معه وقام أصحابه فنظر إلى الجمال فرأى جمالا فرها فساوم الزبيدي حتى ألحقه برضاه فأخذها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فباع جملين منها بالثمن وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه وأبو جهل جالس في ناحية من السوق لا يتكلم
ثم أقبل إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا عمرو إياك أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الأعرابي فترى مني ما تكره فجعل يقول لا أعود يا محمد لا أعود يا محمد
فانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأقبل عليه أمية بن خلف ومن حضر من القوم فقالوا ذللت في يدي محمد فإما أن تكون تريد أن تتبعه وإما رعب دخلك منه قال لا أتبعه أبدا إن الذي رأيتم مني لما رأيت معه لقد رأيت رجالا عن يمينه وشماله معهم رماح يشرعونها إلي لو خالفته لكانت إياها أي لأتوا على نفسي
وذكر محمد بن إسحاق عن أبيه قال كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب أشد قريش فخلا يوما برسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بعض شعاب مكة فقال له يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه قال لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق قال نعم قال فقم حتى أصارعك فقام إليه ركانة فصارعه فلما بطش به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أضجعه لا يملك من نفسه شيا
ثم قال عد يا محمد فعاد فصرعه فقال يا محمد إن ذا للعجب أتصرعني قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري
قال ما هو قال أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني قال ادعها فدعا بها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لها ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها
فذهب ركانة إلى قومه فقال يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فوالله ما رأيت أسحر منه قط ثم أخبرهم بالذي رأى وصنع
قال ابن إسحاق ثم قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك من النصارى يقال إنهم من أهل نجران حين بلغهم خبره من الحبشة

فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مسألة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عما أرادوا دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره
فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا لهم خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه ما نعلم ركبا أحمق منكم أو كما قالوا
فقالوا لهم سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيرا
فيقال والله أعلم فيهم نزلت هؤلاء الآيات الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين إلى قوله لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ( القصص 52 - 55 )
فقال وقد سألت الزهري فقال ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه والآيات من المائدة قول عز وجل ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( المائدة 82 - 83 )
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا جلس في المسجد فجلس إليه المستضعفون من أصحابه خباب وعمار وأبو فكيهة يسار وصهيب وأشبائهم هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض هؤلاء أصحابه كما ترون أهؤلاء من الله عليهم من بيننا
بالهدى والحق لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه وما خصهم الله به دوننا

فأنزل الله فيهم ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ( الأنعام 52 - 54 )
وهؤلاء أيضا ومن قال بقولهم هم الذين عنى الله سبحانه بقوله وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ( الاحقاف 11 )
قال ابن إسحاق وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له جبر عبد لبني الحضرمي وكانوا يقولون والله ما يعلم محمد كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني فأنزل الله في ذلك من قولهم إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ( النحل 103 )
وكان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال دعوه فإنما هو رجل أبتر لو قد مات لقد انقطع ذكره واسترحتم منه فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شأنئك هو الأبتر ( سورة الكوثر ) أي أعطيناك ما هو خير من الدنيا وما فيها والكوثر العظيم وقيل لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما الكوثر الذي أعطاك الله قال نهر كما بين
صنعاء إلى أيلة آنيته كعدد نجوم السماء ترده طير لها أعناق كأعناق الإبل قال عمر بن الخطاب إنها يا رسول الله لناعمة قال آكلها أنعم منها

ودعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قوما إلى الإسلام فقال له زمعة بن الأسود والنضر بن الحارث والأسود بن عبد يغوث وأبي بن خلف والعاص بن وائل لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله في ذلك وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( الأنعام 8 - 49 )
ومر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل فهمزوه واستهزأوا به فغاظه ذلك فأنزل الله عليه ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ( الأنعام 10 )

ذكر الحديث عن مسرى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قال ابن إسحاق ثم أسري برسول الله {صلى الله عليه وسلم} من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس من إيلياء وقد فشا الإسلام بمكة في قريش وفي القبائل كلها
فكان من الحديث فيما بلغني عن مسراه {صلى الله عليه وسلم} عن عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعائشة زوج النبي {صلى الله عليه وسلم} ومعاوية بن أبي سفيان وأم هانئ بنت أبي طالب والحسن بن أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع في هذا الحديث كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين أسري به
وكان في مسراه وما ذكر منه بلاء وتمحيص وأمر من الله في قدرته وسلطانه فيه عبرة لأولى الألباب وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق
وكان من أمر الله على يقين فأسري به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرته التي يصنع بها ما يريد
فكان عبد الله بن مسعود فيما بلغني عنه يقول أتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالبراق وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها في منتهى طرفها فحمل عليه ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السموات والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء

عليهم السلام قد جمعوا له فصلى بهم ثم أتي بثلاثة آنية إناء فيه لبن وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء قال فسمعت قائلا يقول إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته وإن أخذ اللبن هدي وهديت أمته
قال فأخذت إناء اللبن فشربت فقال له جبريل هديت وهديت أمتك يا محمد
قال وحدثت عن الحسن أنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي فقمت معه فخرج بي إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض بين البغل والحمار في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه
يضع يديه في منتهي طرفه فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته
وفي حديث قتادة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لما دنوت منه لأركبه شمش فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه فاستحيا حتى ارفض عرقا ثم قر حتى ركبته
وفي حديث الحسن من انتهاء جبريل بالنبي {صلى الله عليه وسلم} إلى بيت المقدس وإمامته فيه بمن وجد عنده من الأنبياء على جميعهم السلام نحو ما تقدم من ذلك في حديث ابن مسعود
قال ثم أتي بإناءين في أحدهما خمر وفي الآخر لبن فأخذ إناء اللبن وترك إناء الخمر فقال له جبريل هديت للفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر
وذكر تحريم الخمر هنا غريب جدا والذي عليه العلماء أن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد سنين من الهجرة
قال الحسن ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى مكة فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر فقال أكثر الناس هذا والله الإمر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة

قال فارتد كثير ممن كان أسلم وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة فقال لهم أبو بكر إنكم تكذبون عليه فقالوا بلى ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس
فقال أبو بكر والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه فهذا أبعد مما تعجبون منه
ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا نبي الله أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة قال نعم قال يا نبي الله فصفه لي فإني قد جئته
قال الحسن فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرفع لي حتى نظرت إليه فجعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر صدقت أشهد أنك رسول الله كلما وصف له منه شيئا قال صدقت أشهد أنك رسول الله
حتى إذا انتهى قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأبي بكر وأنت يا أبا بكر الصديق فيومئذ سماه الصديق
قال الحسن وأنزل الله فيمن ارتد عن إسلامه لذلك وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( الاسراء 60 )
فهذا حديث الحسن عن مسرى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وما دخل فيه من حديث قتادة
قال ابن إسحاق وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول ما فقد جسد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولكن الله أسري بروحه
وكان معاوية بن أبي سفيان إذا سئل عن مسرى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال كانت رؤيا من الله صادقة
فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن إن هذه الآية نزلت في ذلك قول الله وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ولقوله تعالى في الخبر عن إبراهيم إذ قال لابنه يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ( الصافات 102 9 ثم مضى على ذلك فعرفت أن الوحي من الله يأتي الأنبياء أيقاظا ونياما
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول تنام عيني وقلبي يقظان

فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين فيه ما عاين من أمر الله على أي حاليه كان نائما أو يقظان كل ذلك حق وصدق
وزعم الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصف لأصحابه إبراهيم وموسى وعيسى حين رآهم في تلك الليلة صلوات الله على جميعهم فقال أما إبراهيم فلم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه وأما موسى فرجل آدم طويل ضرب جعد أقنى كأنه من رجال شنوءة وأما عيسى ابن مريم فرجل أحمر بين القصير والطويل سبط الشعر كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس تخال رأسه يقطر ماء وليس فيه ماء أشبه رجالكم به عروة بن مسعود الثقفي
قال ابن هشام وكانت صفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما ذكر عمر مولى غفرة عن
إبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب قال كان علي إذا نعت النبي {صلى الله عليه وسلم} يقول لم يكن بالطويل الممغط ولا القصير المتردد كان ربعة من القوم ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط كان جعدا رجلا ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم وكان أبيض مشربا أدعج العينين أهدب الأشفار جليل المشاش والكند دقيق المسربة أجرد شثن الكفين والقدمين إذا تمشى تقلع كأنما يمشي في صبب وإذا التفت التفت معا بين كتفيه خاتم النبوة وهو {صلى الله عليه وسلم} خاتم النبيين أجود الناس كفا وأجرأ الناس صدرا وأصدق الناس لهجة وأوفى الناس بذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله {صلى الله عليه وسلم}
قال ابن إسحاق وكان فيما بلغني عن أم هانئ بنت أبي طالب أنها كانت تقول ما أسري برسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلا وهو في بيتي نام عندي تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما صلى الصبح وصلينا معه قال يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت معكم صلاة الغداة الآن كما ترين

ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فتكشف عن بطنه وكأنه قبطية مطوية فقلت يا نبي الله لا تحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك قال والله لأحدثنهموه فقلت لجارية لي حبشية ويحك اتبعي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى تسمعي ما يقول للناس وما يقولون له
فلما خرج إلى الناس أخبرهم فعجبوا وقالوا ما آية ذلك يا محمد فإنا لم نسمع بمثل هذا قط قال آية ذلك أنى مررت بعير بني فلان بوادي كذا
فأنفرهم حس الدابة فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا موجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما كان وآية ذلك أن عيرهم الآن تصوب من البيضاء ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء
فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل كما وصف لهم وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوء ماء ثم غطوه وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوا ولم يجدوا فيه ماء وسألوا الآخرين وهم بمكة فقالوا صدق والله لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكر وند لنا بعير فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه
قال ابن إسحاق وحدثني من لا أتهم عن أبي سعيد الخدري أنه قال سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج ولم أر شيئا قط أحسن منه وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر
فأصعدني صاحبي فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء يقال له باب الحفظة عليه ملك من الملائكة يقال له إسماعيل تحت يديه اثنا عشر ألف ملك تحت يدي كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك
يقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين حدث بهذا الحديث وما يعلم جنود ربك إلا هو ( المدثر 31 )
فلما دخل بي قال من هذا يا جبريل قال محمد قال أو قد بعث قال نعم فدعا لي بخير وقاله
قال وحدثني بعض أهل العلم عمن حدثه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال ثم

تلقتني الملائكة حين دخلت السماء الدنيا فلم يلقني ملك إلا ضاحكا مستبشرا يقول خيرا ويدعو به حتى لقيني ملك من الملائكة فقال مثل ما قالوا ودعا بمثل ما دعوا به إلا أنه لم يضحك ولم أر منه من البشر مثل ما رأيت من غيره فقلت لجبريل من هذا الملك الذي قال لي مثل ما قالت الملائكة ولم يضحك ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت منهم فقال جبريل أما إنه لو كان ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك ولكنه لا يضحك هذا مالك صاحب النار
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلت لجبريل وهو من الله بالمكان الذي وصف لكم مطاع ثم أمين ( التكوير 21 ) ألا تأمره أن يريني النار فقال بلى يا مالك أر محمدا النار فكشف عنها غطاءها ففارت وارتفعت حتى ظننت لتأخذ ما أرى
فقلت لجبريل مره فليردها إلى مكانها فأمره فقال لها اخبي فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل حتى إذا دخلت من حيث خرجت رد عليها غطاءها
قال أبو سعيد الخدري في حديثه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قل لما دخلت السماء الدنيا رأيت بها رجلا جالسا تعرض عليه أرواح بني آدم فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيرا ويسر به ويقول روح طيبة خرجت من جسد طيب ويقول لبعضها إذا عرضت عليه أف ويعبس بوجهه روح خبيثة خرجت من جسد خبيث
قال قلت من هذا يا جبريل قال هذا أبوك آدم تعرض عليه أرواح ذريته فإذا مرت به روح المؤمن منهم سر بها وإذا مرت به روح الكافر منهم أنف منها وكرهها
قال ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل في أيديهم قطع من نار
كالأفهار يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما
ثم رأيت رجلا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كلإبل المهيومة حتى يعرضوا على النار يطأونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الربا

ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن
ثم رأيت نساء معلقات بثديهن فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم
قال ثم صعد بي إلى السماء الثانية فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا
قال ثم أصعد بي إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر قلت من هذا يا جبريل قال هذا أخوك يوسف بن يعقوب ثم أصعد بي إلى السماء الرابعة فإذا فيها رجل فسألته من هو فقال هذا إدريس قال يقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورفعناه مكانا عليا ( مريم 57 )
قال ثم أصعد بي إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية عظيم العثنون لم أر كهلا أجمل منه قلت من هذا يا جبريل قال هذا المحبب في قومه هارون بن عمران
قال ثم أصعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها رجل آدم طويل أقني كأنه من رجال شنوءة فقلت من هذا جبريل قال هذا أخوك موسى بن عمران
ثم أصعد بي إلى السماء السابعة فإذا كهل جالس على كرسي إلى باب البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة لم أر
رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه قلت من هذا يا جبريل قال هذا أبوك إبراهيم
ثم دخل بي الجنة فرأيت فيها جارية لعساء فسألتها لمن أنت وقد أعجبتني فقالت لزيد بن حارثة فبشر بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زيدا
ومن حديث عبد الله بن مسعود أن جبريل لم يصعد به إلى سماء من السموات إلا قالوا له حين يستأذن في دخولها من هذا يا جبريل فيقول محمد فيقولون أو قد بعث فيقول نعم فيقولون حياه الله من أخ وصاحب
حتى انتهى به إلى السماء السابعة ثم انتهى به إلى ربه ففرض عليه خمسين صلاة كل يوم

قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأقبلت راجعا فلما مررت بموسى بن عمران ونعم الصاحب كان لكم سألني كم فرض عليك من الصلاة فقلت خمسين صلاة في كل يوم قال إن الصلاة ثقيلة وإن أمتك ضعيفة فارجع إلى ربك فسله أن يخفف عنك وعن أمتك فرجعت فسألت ربي فوضع عني عشرا ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك فرجعت فسألت ربي فوضع عني عشرا ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك كلما رجعت إليه فأرجع فأسأل حتى انتهيت إلى أن وضع عني ذلك إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة
ثم رجعت على موسى فقال لي مثل ذلك فقلت قد راجعت ربي وسألته حتى استحييت منه فما أنا بفاعل
فمن أداهن منكم إيمانا واحتسابا لهن كان له أجر خمسين صلاة
قال ابن إسحاق فأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أمر الله صابرا محتسبا مؤديا إلى قومه النصيحة على ما يلقي منهم من التكذيب والأذى والاستهزاء وكان عظماء المستهزئين خمسة نفر من قومه وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم
الأسود بن المطلب الأسدي أبو زمعة وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه به فقال اللهم أعم بصره وأثكله ولده
والأسود بن عبد يغوث الزهري والوليد بن المغيرة المخزومي و العاص بن وائل السهمي والحارث بن الطلاطلة الخزاعي
فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله {صلى الله عليه وسلم} الاستهزاء أنزل الله عليه فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ( الحجر 94 - 96 )
فأتي جبريل عليه السلام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهم يطوفون بالبيت فقام وقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى جنبه فمر به الأسود بن المطلب فرمي في وجهه بورقة خضراء فعمي وسيأتي بعد أنه أصيب له يوم بدر ثلاثة من ولده ابناه زمعة وعقيل وابن ابنه الحارث بن زمعة فاستوفى الله سبحانه بذلك فيه لرسوله {صلى الله عليه وسلم} إجابة دعوته عليه بالعمي والثكل
ثم مر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه حبنا

وعن غير ابن إسحاق أنه لما نزل إنا كفيناك المستهزئين ( الحجر 95 ) نزل جبريل عليه السلام فحنا ظهر الأسود بن عبد يغوث الزهري فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خالي خالي فقال له جبريل خله عنك ثم حناه حتى قتله
قال ابن إسحاق ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى اثر جرح بأسفل كعب رجله أصابه قبل ذلك بسنين وهو يجر سبله فانتقض به فقتله
ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته
و مر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخض قيحا فقتله
قال وكان النفر الذين يؤذون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بيته أبو لهب والحكم بن أبي العاص بن أمية وعقبة بن أبي معيط وعدي ابن حمراء الثقفي وابن الأصداء الهذلي وكانوا جيرانه لم يسلم أحد منهم إلا الحكم
فكان أحدهم فيما ذكر لي يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له حتى اتخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حجرا يستتر به منهم إذا صلى
فكان {صلى الله عليه وسلم} إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود فيقف به على بابه ثم يقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا ثم يلقيه في الطريق
قال ابن إسحاق ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد فتتابعت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المصائب بهلك خديجة وكانت له وزير صدق على الإسلام يسكن إليها وبمهلك أبي طالب عمه وكان له عضدا وحرزا في أمره ومنعة وناصرا على قومه وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين
فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا فدخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيته والتراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول لها لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك ويقول بين ذلك ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب

قال ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله قال بعضها لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه ولنعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا
فمشوا إلى أبي طالب فكلموه وهم أشراف قومه عتبة وشيبة ابنا ربيعة
وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وأبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم فقالوا يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه ليكف عنا ونكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه
فبعث إليه أبو طالب فجاءه فقال يا بن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال أبو جهل نعم وأبيك وعشر كلمات قال تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه
قال فصفقوا بأيديهم ثم قالوا أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك لعجب
ثم قال بعضهم لبعض والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا
فقال أبو طالب لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} والله يا بن أخي ما رأيتك سألتهم شططا فلما قالها طمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيه فجعل يقول له أي عم فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة فلما رأى حرص رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال يا بن أخي والله لولا مخافة السبة عليك وعلي بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقتلها لا أقولها إلا لأسرك بها
فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنيه فقال يا بن أخي والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لم أسمع
وخرج مسلم بن الحجاج من صحيحه من حديث المسيب بن حزن قال لما

حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فوجد عنده أبا جهل وعبد الله ابن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب
فلم يزل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب وأبي أن يقول لا إله إلا الله
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عز وجل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربي من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ( التوبة 113 ) وأنزل في أبي طالب فقال لرسوله {صلى الله عليه وسلم} إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ( القصص 56 )
وفي الصحيح أيضا أن العباس قال لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل ينفعه ذلك قال نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح
وفيه أيضا من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذكر عنده عمه أبو طالب فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه
وعن ابن عباس أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه
ويروي أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب فيكم السيد المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا احتزتموه ولا شرفا إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس الفضيلة

ولهم به إليكم الوسيلة وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنية فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش وثباتا للوطأة صلوا أرحامكم ولا تقطعوها فإن في صلة الرحم منسأة في الأجل وزيادة في العدد واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم أجيبوا الداعي وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات عليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيها محبة في الخاص ومكرمة في العام وإني أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين في قريش والصديق في العرب وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به وقد جاء بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن وأيم الله لكأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر في الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفاؤها أربابا وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أخطأهم عنده قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم كونوا له ولاة ولحزبه حماة والله لا يسلك أحد منهم سبيله إلا رشد ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز ولدافعت عنه الدواهي

ذكر خروج النبي {صلى الله عليه وسلم} إلى الطائف بعد مهلك عمه أبي طالب
قال ابن إسحاق ولما هلك أبو طالب ونالت قريش من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما لم تكن تنال منه في حياته خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى الطائف وحده يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله
فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة عبد ياليل ومسعود وخبيب بنو عمرو بن عمير ابن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح
فجلس إليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام على من خالفه من قومه

فقال له أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك وقال الآخر أما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال الثالث والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك
فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من عندهم وقد يئس من خير ثقيف وقد قال لهم فيما ذكر لي إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي وكره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يبلغ قومه فيذئرهم ذلك عليه
فلم يفعلوا أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس
قال موسى بن عقبة وقعدوا له صفين على طريقه فلما مر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بين صفيهم جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه
وزاد سليمان التيمي أنه {صلى الله عليه وسلم} كان إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشي رجموه وهم يضحكون
قال ابن عقبة فخلص منهم ورجلاه تسيلان دما فعمد إلى حائط من حوائطهم فاستظل في ظل حبلة منه وهو مكروب موجع وإذا في الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله
وذكر ابن إسحاق أن الحائط كان لهما وأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما اطمأن يعني في ظل الحبلة قال اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبي حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك

قال فلما رآه ابنا ربيعة وما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس فقالا له خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال له كل فلما وضع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيه يده قال بسم الله ثم أكل فنظر عداس في وجهه ثم قال له والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك قال نصراني وأنا من أهل نينوي فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمن قرية الرجل الصالح يونس ابن متى قال له عداس وما يدريك ما يونس ابن متى قال
رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي فأكب عداس على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقبل رأسه ويديه وقدميه فلما جاءهما عداس قالا له ويلك مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه قال يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي قالا ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه
وقد خرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي {صلى الله عليه وسلم} هل أتي عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد
فقال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني وقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم
فناداني ملك الجبال فسلم علي فقال يا محمد ذلك لك فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا

وذكر ابن هشام أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما انصرف عن أهل الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته سار إلى حراء ثم بعث إلى الأخنس ابن شريق ليجيره فقال أنا حليف والحليف لا يجير فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال إن بني عامر لا تجير على بني كعب فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه إلى ذلك ثم تسلح المطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد ثم
بعث إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن ادخل فدخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله
ولأجل هذه السابقة التي سبقت للمطعم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في أساري بدر لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتني لتركتهم له
وفي انصراف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف مر به النفر من الجن الذين ذكر الله تعالى في كتابه ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بنخلة قد قام من جوف الليل يصلي فمر به أولئك النفر من الجن فيما ذكر ابن إسحاق قال وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا فقص الله خبرهم عليه {صلى الله عليه وسلم} قال عز من قائل وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ( الاحقاف 29 - 30 )
ذكر عرض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نفسه على قبائل العرب
قال ابن إسحاق ثم قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يعرض نفسه في المواسم إذا كانت على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ويخبرهم أنه نبي مرسل ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به

قال ربيعة بن عباد الدؤلي إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقف على منازل القبائل من العرب فيقول يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلة عدنية فإذا فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل يا بني فلان إن هذا يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه
قال ربيعة فقلت لأبي من هذا الرجل الذي يتبعه يرد عليه ما قال قال هذا عمه عبد العزي بن عبد المطلب أبو لهب
وعن غير ربيعة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتى كندة في منازلهم فدعاهم إلى الله
وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه وأتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه حتى إنه ليقول لهم يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم وعرض نفسه على بني حنيفة فلم يك أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم
ذكر الواقدي بإسناد له عن عامر بن سلمه الحنفي وكان قد أسلم في آخر عمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال نسأل الله عز وجل أن لا يحرمنا الجنة لقد رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جاءنا ثلاثة أعوام بعكاظ وبمجنة وبذي المجاز يدعونا إلى الله عز وجل وأن نمنع له ظهره حتى يبلغ رسالات ربه ويشرط لنا الجنة فما استجبنا له ولا رددنا جميلا لقد أفحشنا عليه وحلم عنا
قال عامر فرجعت إلى حجر في أول عام فقال لي هوذة بن علي هل كان في موسمكم هذا خبر فقلت رجل من قريش يطوف على القبائل يدعوهم إلى الله وحده وإلى أن يمنعوا ظهره حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة فقال هوذة من أي قريش قلت هو من أوسطهم نسبا من بني عبد المطلب

قال هوذة أهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قلت هو هو قال أما إن أمره سيظهر على ما ها هنا فقلت ها هنا قط من بين البلدان قال وغير ما ها هنا
ثم وافيت السنة الثانية فقدمت حجرا فقال ما فعل الرجل فقلت رأيته على حاله في العام الماضي قال ثم وافيت في السنة الثالثة وهي آخر ما رأيته وإذا بأمره قد أمر وإذا ذكره كثير من الناس وأسمع أن الخزرج تبعته فقدمت حجرا فقال لي هوذة ما فعل الرجل فقلت رأيت أمره قد أمر ورأيت قومه عليه أشداء فقال هوذة هو الذي قلت لك ولو أنا تبعناه كان خيرا لنا ولكنا نضن بملكنا وكان قومه قد توجوه وملكوه
قال عامر فمر بي سليط بن عمرو العامري حين بعثه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى هوذة فضيفته وأكرمته وأخبرني من خبر هوذة أنه لم يسلم وقد رد ردا دون رد
قال فأخبرت سليطا خبري لهوذة فأخبره سليط رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأسلم عامر ابن سلمة ومات هوذة بن علي سنة ثمان من الهجرة كافرا على نصرانيته
ودعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بني عبس إلى الإسلام فلم يقبلوا

قال أبو وابصة العبسي فيما ذكر الواقدي جاءنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في منزلنا بمنى فدعانا إلى الله فو الله ما استجبنا له وما خير لنا وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي فقال لنا أحلف بالله لو صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط رحالنا لكان الرأي فقال له القوم من بين العرب نفعل هذا قال نعم من بين العرب فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ فقال له القوم دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به وطمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في ميسرة فكلمه فقال ميسرة ما أحسن كلامك وأنوره ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجل بقومه فانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وخرج القوم صادرين إلى أهليهم فقال لهم ميسرة ميلوا بنا إلى فدك فإن بها يهود نسألهم عن هذا الرجل فمالوا إلى يهود فأخرجوا سفرا لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر النبي {صلى الله عليه وسلم} الأمي العربي يركب الحمار ويجتزيء بالكسرة وليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالجعد ولا بالسبط في عينيه حمرة مشرب اللون قالوا فإن كان هذا الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه فإنا نحسده ولا نتبعه ولنا منه في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى في العرب أحد إلا تبعه أو قتله فكونوا ممن يتبعه قال ميسرة يا قوم والله ما بقي شيء إن هذا لأمر بين قال القوم نرجع إلى الموسم ونلقاه ورجع القوم إلى بلادهم فأبى ذلك عليهم رجالهم فلم يتبعه أحد منهم فلما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة مهاجرا وحج حجة الوداع لقيه ميسرة فعرفه فقال يا رسول الله والله ما زلت حريصا على اتباعك منذ يوم رأيتك أنخت بنا حتى كان ما كان وأبى الله عز وجل إلا ما ترى من تأخر إسلامي وقد مات عامة النفر الذين كانوا معي فأين مدخلهم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مات على غير الإسلام فهو في النار فقال ميسرة الحمد لله الذي تنقدني فأسلم فحسن إسلامه وكان له عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه مكان

وعن ابن إسحاق أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ثم قال له أرأيت إن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك
قال الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء
قال أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم موسمهم فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم فقالوا جاءنا فتى من قريش ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا
فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال يا بني عامر هل لنا من تلاف هل لذباباها من مطلب والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط وإنها لحق فأين رأسكم كان عنكم
وزاد الواقدي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما قام عن بني عامر وانصرف إلى راحلته ليركبها أتاه بيجرة ونسبه الواقدي بيجرة بن عبد الله بن سلمة ورجلان معه فنخسوا به راحلته حتى سقط عنها ويقال قطعوا بطان راحلته
قال فقامت امرأة منهم يقال لها ضباعة بنت قرط وكانت قد أسلمت وكانت تحت عبد الله بن جدعان فكرهته ففارقها وخلف عليها بعده هشام بن المغيرة وهي أم ابنه سلمة وصاحت يا بني عامر أيؤذي محمد وأنا شاهدة فقام إليهم غطيف وغطفان ابنا سهيل وعذرة بن عبد الله بن سلمة بن
قشير فضربوهم حتى هزموهم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين رآهم صنعوا ما صنعوا اللهم بارك على هؤلاء والعن هؤلاء الآخرين فأسلم الذين بارك عليهم جميعا ومات الذين لعن وهم كفار

وذكر الواقدي أيضا من حديث جهم بن أبي جهم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقف على بني عامر يدعوهم إلى الله فقام رجل منهم فقال له عجبا لك والله أعياك قومك ثم أعياك أحياء العرب كلها حتى تأتينا وتردد علينا مرة بعد مرة والله لأجعلنك حديثا لأهل الموسم
ونهض إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان جالسا فكسر الله عز وجل ساقه فجعل يصيح من رجله وانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عنه
قال الواقدي بإسناد ذكره وأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} غسان في منازلهم بعكاظ وهم جماعة كثيرة فجلس إليهم فدعاهم إلى الله تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا
قال وأن تمنعوا لي ظهري حتى أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة
فقال رجل منهم هذا والله يا قوم الذي تذكر النصارى في كتبها والذي يقولون بقي من الأنبياء نبي اسمه أحمد فتعالوا نؤمن به ونتبعه فنكون من أنصاره وأوليائه فإنهم يزعمون أنه يظهر على ما بلغ الخف والحافر فيجتمع لنا شرف الدنيا مع ما يكون بعد الموت
قال القوم فنكون نحن أول العرب دخل في هذا الأمر فتنصب لنا العرب قاطبة ويبلغ ملوك بني الأصفر فيخرجوننا من ديارهم ولكننا نقف عنه وننظر ما تصنع العرب ثم ندخل فيما يدخل فيه الناس
قال الرجل يا محمد تأبي عشيرتي أن يتبعوا قولي فيك ولو أطاعوني رشدوا
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن هذه القلوب بيد الله عز وجل
فانصرف عنهم ثم عاد بعد ذلك إليهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا نرجع إلى من وراءنا ثم نلقاك قابلا
فرجعوا فوفد منهم نفر إلى الحارث بن أبي شمر فذكروا له أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال الحارث إياكم أن يتبعه رجل منكم إذا يبيد ملكي من الشام ويتهمني هرقل
قال فأمسكوا عن ذكر رسول الله {صلى الله عليه وسلم}

قال وأتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بني محارب بن خصفة بعكاظ فوجدهم في محالهم فيهم شيخ منهم وهو جالس في أصحابه فنزل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن راحلته ودعا إلى الله وطلب المنعة حتى يبلغ رسالات ربه فرد على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أقبح الرد وقال له عجبا لك يأبى قومك أن يتبعوك وتأتي إلى محارب تدعوهم إلى ترك ما كان عليه آباؤهم اذهب فإنه غير متبعك رجل من محارب آخر الدهر
ويقبل إليه سفيه منهم فقال يا محمد ما في بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا فلعمري إنك لتدعي من العلم أعظم مما سألتك عنه تزعم أن الله يوحي إليك ويكلمك
فأسكت عنه رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وأقبل إليه رجل منهم يقال له سلمة بن قيس وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالسا قريبا من منزلهم فأراد أن يطرحه في البئر فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتنحى عن البئر فجعل سلمة يقول لو وقعت في البئر استراح منك أهل الموسم
وأخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بزمام راحلته يقودها وهم يرمونها بالحجارة حتى تواري عنهم وهو يقول اللهم إنك لو شئت لم يكونوا هكذا وإن قلوبهم بيدك وأنت أعلم بهم فإن كان هذا عن سخط بك علي فلك العتبي ولا حول ولا قوة إلا بك
وذكر قاسم بن ثابت بن حزم العوفي من حديث عبد الله بن عباس عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لما أمر الله ورسوله {صلى الله عليه وسلم} أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر الصديق حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وكان رجلا نسابة ومقدما في كل خير
فقال ممن القوم قالوا من ربيعة قال ومن أي ربيعة أمن هامتها أم من لهازمها قالوا بل من هامتها العظمى قال وأي هامتها العظمى أنتم قالوا ذهل الأكبر
فذكر الحديث في مناسبة أبي بكر إياهم ومقاولته لهم وانبراء دغفل بن حنظلة النسابة إليهم من بينهم وهو يومئذ غلام حين بقل وجهه وموافقته لأبي بكر حتى اجتذب أبو بكر زمام الناقة ورجع إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو حديث مشهور تركته لشهرته مع أن المقصود فيما بعده

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار فتقدم أبو بكر فسلم وكان مقدما في كل خير فقال ممن القوم قالوا من شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} فقال بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر في قومهم وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا وكانت له غديرتان تسقطان على تربيتيه وكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر
فقال له أبو بكر كيف العدد فيكم قال له مفروق إنا لنزيد على ألف ولن تغلب ألف من قلة فقال أبو بكر فكيف المنعة فيكم قال علينا الجهد ولكل قوم جد قال أبو بكر فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال مفروق إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا لعلك أخو قرش
فقال أبو بكر أوقد بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا
فقال مفروق قد بلغنا أنه يذكر ذلك فالإم تدعو يا أخا قريش
فتقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وإلى أن تؤوني وتنصروني فإن قريشا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد
فقال مفروق وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش
فتلا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ( الأنعام 151 9
فقال مفروق وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش فتلا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ( النحل 90 )

فقال مفروق دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك وكأنه أراد أن يشركه في الكلام هانيء بن قبيصة
فقال وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا
فقال هانئ قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر زلة في الرأي وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا
فقال المثنى قد سمعت مقالتك يا أخا قريش والجواب هو جواب هانئ ابن قبيصة في ترك ديننا واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر وإنما منزلنا بين صريي اليمامة والسمامة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما هذان الصريان فقال أنهار كسرى ومياه العرب فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول وأما ما كان من مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه
هو مما تكرهه الملوك فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه
فقال النعمان اللهم لك ذا
فتلا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ( الأحزاب 45 )
ثم نهض النبي {صلى الله عليه وسلم} فأخذ بيدي فقال يا أبا بكر يا أبا حسن أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون فيما بينهم

قال ابن إسحاق فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ذلك من أمره كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله تعالى من الهدى والرحمة ولا يسمع بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده
وقدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا فتصدى له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدعاه إلى الله وإلى الإسلام فقال له سويد فلعل الذي معك مثل الذي معي
قال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما الذي معك قال مجلة لقمان يعني حكمة لقمان
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اعرضها علي فعرضها عليه فقال إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله علي هو هدى ونور
فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال إن هذا القول حسن
ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتلته الخزرج قبل بعاث
فإن كان رجال من قومه ليقولون إنا لنراه قد قتل وهو مسلم
وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره و شرفه ونسبه وهو القائل
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى
مقالته بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالشهد ما كان شاهدا
وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه
نميمة غش تبتري عقب الظهر
تبين لك العينان ما هو كاتم
من الغل والبغضاء بالنظر الشزر
فرشني بخير طال ما قد بريتني
وخير الموالي من يريش ولا يبري
الطويل
ولما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج سمع بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم هل لكم في خير مما جئتم له فقالوا له وما ذاك قال أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وأنزل علي الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن
فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا أي قوم هذا والله خير لكم مما جئتم له

فيأخذ أبو الحيسر جفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا
فصمت إياس وقام عنهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وانصرفوا إلى المدينة فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج
ثم لم يلبث إياس أن هلك فأخبر من حضر من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات
فما كانوا يشكون أن قد مات مسلما لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما سمع
بدء إسلام الأنصار وذكر العقبة الأولى
قال ابن إسحاق فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه وإنجاز موعوده له خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا فقال لهم من أنتم قالوا نفر من الخزرج
قال أمن موالي يهود قالوا نعم قال أفلا تجلسون أكلمكم قالوا بلى
فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن
وكان مما صنع الله به في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا قد عزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم
فلما كلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه
فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا له إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا

وهم فيما ذكر لي ستة نفر من الخزرج منهم من بني النجار أسعد بن زرارة أبو أمامة وعوف بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء ومن بني زريق رافع بن مالك بن العجلان ومن بني سلمة قطبة بن عامر بن حديدة وعقبة بن عامر ابن نابي وجابر بن عبد الله بن رئاب
فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
حتى إذا كان العام المقبل وافي الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فيهم من الستة المسمين قبل أبو أمامة وعوف ورافع و قطبة و عقبة ومن غير الستة من الخزرج أيضا ذكوان بن عبد قيس بن خلدة الزرقي وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة من بني غصينة من بلى حليف لهم والعباس بن عبادة بن نضلة العجلاني ومعاذ بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء ومن الأوس أبو الهيثم ابن مالك بن التيهان وعويم بن ساعدة فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى
قال عبادة بن الصامت كنت ممن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلا بايعنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي بهتانا نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف
قال فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأصبتم بحد في الدنيا فهو كفارة له وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر
قال ابن إسحاق فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} معهم مصعب
ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين فكان مصعب يسمى المقرئ بالمدينة وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس أبي أمامة وكان يصلي بهم وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض
إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير علي يدي مصعب بن عمير رضي الله عنه

ذكر ابن إسحاق عمن سمي من شيوخه أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب ابن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم
فلما سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وهما يومئذ سيدا قومهما بني عبد الأشهل وكلاهما مشرك على دين قومه قال سعد لأسيد لا أبا لك انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما
فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه
قال فوقف عليهما متشتما فقال ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة
فقال له مصعب أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره
قال أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقالا فيما ذكر عنهما والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله
ثم قال ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين قالا له تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تتشهد شهادة الحق ثم تصلي
فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين ثم قال لهما إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ
ثم انصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد مقبلا قال أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به
فلما وقف على النادي قال له سعد ما فعلت قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك

فقام سعد مغضبا مبادرا متخوفا للذي ذكر له من بني حارثة فأخذ الحربة من يده ثم قال والله ما أراك أغنيت شيئا
ثم خرج إليهما فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتما ثم قال يا أبا أمامه والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني أتغشانا في دارينا بما نكره
وقد قال أسعد لمصعب بن عمير أي مصعب جاءك والله سيد من وراءه من قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان
فقال له مصعب أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره
قال سعد أنصفت ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن
قالا فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهله ثم قال لهما كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين
قالا تغتسل فتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين
فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به
فلما وقف عليهم قال يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم قالوا سيدنا أفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة قال فإن كلام رجالكم ونسائكم حرام علي حتى تؤمنوا بالله ورسوله
قال فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وتلك أوس الله وهم من الأوس بن حارثة
وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت وكان شاعرا لهم قائدا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومضى بدر وأحد والخندق وقال فيما رأى من الإسلام وما اختلف الناس فيه من أمره
أرب الناس أشياء ألمت
يلف الصعب منها بالذلول

أرب الناس إما إن ضللنا
فيسرنا لمعروف السبيل
فلولا ربنا كنا يهودا
وما دين اليهود بذي شكول
ولولا ربنا كنا نصارى
مع الرهبان في جبل الجليل
ولكنا خلقنا إذ خلقنا
حنيفا ديننا عن كل جيل
نسوق الهدي ترسف مذعنات
مكشفة المناكب في الجلول
الوافر

ذكر العقبة الثانية
قال ابن إسحاق ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العقبة من أوسط أيام التشريق حين أراد الله ما أراد من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله
حدث كعب بن مالك وكان ممن شهد العقبة وبايع بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال لنا البراء يا هؤلاء إني قد رأيت رأيا و والله ما أدري أتوافقوني عليه أم لا فقلنا وما ذاك قال رأيت ألا أدع هذه البنية مني بظهر يعني الكعبة وأن أصلي إليها فقلنا والله ما بلغنا أن نبينا يصلي إلا إلى الشام وما نريد أن نخالفه فقال إني لمصل إليها فقلنا له لكنا لا نفعل
فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة حتى قدمنا مكة فلما قدمناها وقد كنا عبنا عليه ما صنع قال لي يا بن أخي انطلق بنا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه
فخرجنا نسأل عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عنه فقال هل تعرفانه فقلنا لا فقال هل تعرفان العباس عمه قلنا نعم وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا قال فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس
فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالس معه فسلمنا ثم

جلسنا إليه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للعباس هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل قال نعم هذ البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك
فوالله ما أنسى قول رسول الله ألشاعر قال نعم فقال له البراء بن معرور {صلى الله عليه وسلم} يا نبي الله إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله للإسلام فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر إليها وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي منه شيء فماذا ترى يا رسول الله
قال قد كنت على قبلة لو صبرت عليها
فرجع البراء إلى قبلة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصلى معنا إلى الشام
قال وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات وليس كما قالوا نحن أعلم به منهم
قال كعب ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العقبة من أوسط أيام التشريق فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد من ساداتنا أخذناه معنا وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا فكلمناه وقلنا يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك أن تكون حطبا للنار غدا ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بمبعاد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إيانا العقبة فأسلم وشهد معنا وكان نقيبا فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار وأسماء بنت عدي بن عمرو بن نابي أم منيع إحدى نساء بني سلمة فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى جاءنا ومعه عمه العباس وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له
فلما جلس كان أول متكلم العباس فقال يا معشر الخزرج وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها إن محمدا منا

حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده
فقلنا له قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت
فتكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم
فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر
فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا ونحن قاطعوها يعني اليهود فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا
قال فتبسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم
قال كعب وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخرجوا إلى منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم
فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس من الخزرج أبو أمامة أسعد بن زرارة وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة ورافع بن مالك بن العجلان و البراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام وعبادة بن الصامت وسعد بن عبادة بن دليم والمنذر بن عمرو ومن الأوس أسيد بن حضير وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر
قال ابن هشام وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولا يعدون رفاعة
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للنقباء أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي قالوا نعم

وحدث عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال العباس بن عبادة بن نضلة أخو بني سالم بن عوف يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل قالوا نعم قال إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فهو والله خير الدنيا والآخرة
قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال الجنة
قالوا ابسط يدك فبسط يده فبايعوه
قال عاصم والله ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} في أعناقهم وقال غيره ما قاله إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم فالله أعلم أي ذلك كان
قال ابن إسحاق فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده وبنو عبد الأشهل يقولون بل أبو الهيثم بن التيهان
وفي حديث معبد بن كعب عن أخيه عبد الله عن أبيه قال كان أول من ضرب على يد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} البراء بن معرور ثم بايع القوم فلما بايعنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صرح الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط يا أهل الجباجب وهي المنازل هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هذا أزب العقبة هذا ابن أزيب ويقال ابن أزيب أتسمع أي عدو الله أما والله لأفرغن لك
ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ارفضوا إلى رحالكم فقال له العباس بن عبادة بن نضلة والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لم أومر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها

فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا فقالوا يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم
فانبعث من هنالك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا لم يعلموه وبعضنا ينظر إلى بعض
ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام المخزومي وعليه نعلان له جديدان فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا يا أبا جابر ما تستطيع وأنت سيد من ساداتنا أن تتخذ مثل نعلي هذا الفتى من قريش فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي فقال والله لتنتعلنهما
قال يقول أبو جابر مه أحفظت والله الفتى فاردد إليه نعليه قلت والله لا أردهما فأل والله صالح والله لئن صدق الفأل لأسلبنه
وفي حديث غير كعب أنهم أتوا عبد الله بن أبي بن سلول فقالوا مثل ما ذكر كعب من القول فقال لهم إن هذا لأمر جسيم ما كان قومي ليتفوتوا علي بمثل هذا وما علمته كان فانصرفوا عنه
ونفر الناس من منى فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان وخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة وكلاهما كان نقيبا فأما المنذر فأعجز القوم وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه
إلى عنقه بنسع رحله ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته وكان ذا شعر كثير
قال سعد فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع علي نفر من قريش فيهم رجل وضيء أبيض شعشاع حلو من الرجال
قال فقلت في نفسي إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا
فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة فقلت في نفسي لا والله ما عندهم بعد هذا من خير

فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوي إلي رجل ممن معهم فقال لي ويحك أما بينك وبين أحد من قريش تجارة ولا عهد فقلت بلى والله لقد كنت أجيز لجبير بن مطعم تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي وللحارث بن حرب بن أمية قال ويحك فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما
قال ففعلت وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما عند الكعبة فقال لهما إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح ليهتف بكما ويذكر أن بينه وبينكما جوارا قالا ومن هو قال سعد بن عبادة قالا صدق والله إن كان ليجيز لنا تجارنا ويمنعهم أن يظلموا ببلده
قال فجاءا فخلصا سعدا من أيديهم وكان الذي لكم سعدا سهيل بن عمرو
قال ابن هشام والذي أوى له أبو البحتري بن هشام
قال ابن إسحاق فكان أول شعر قيل في الهجرة بيتين قالهما ضرار بن الخطاب بن مرداس أخو بني محارب بن فهر قال
تداركت سعدا عنوة فأخذته
وكان شفاء لو تداركت منذرا
ولو نلته ظلت هناك جراحة
وكان حقيقا أن يهان ويهدرا
الطويل
فأجابه حسان بن ثابت فقال
ولست إلى عمرو ولا المرء منذر
إذا ما مطايا القوم أصبحن ضمرا
فلولا أبو وهب لمرت قصائد
على شرف البرقاء يهوين حسرا
أتفخر بالكتان لما لبسته
وقد تلبس الأنباط ريطا مقصرا
فلا تك كالوسنان يحلم أنه
بقرية كسرى أو بقرية قيصرا
ولا تك كالثكلى وكانت بمعزل
عن الثكل لو كان الفؤاد تفكرا
ولا تك كالشاة التي كان حتفها
بحفر ذراعيها فلم ترض محفرا
ولا تك كالعاوي فأقبل نحره
ولم يخشه سهم من النبل مضمرا
فإنا ومن يهدي القصائد نحونا
كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا
الطويل

قال فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك منهم عمرو بن الجموح وكان ابنه معاذ شهد العقبة وبايع بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان عمرو سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له مناة كما كانت الأشراف يصنعون يتخذه إلها يعظمه ويطهره فلما أسلم فتيان بني سلمة ابنه معاذ ومعاذ بن جبل في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكسا على رأسه فإذا أصبح عمرو قال ويلكم من عدا على آلهتنا هذه الليلة ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه ثم قال أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزيته فإذا أمسي ونام عمرو عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله ويطهره ويطيبه ثم
يعدون عليه إذا أمسي فيفعلون به مثل ذلك فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله وطهره وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال له إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك فلما أمسي ونام عمرو عدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه فخرج يتتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت فلما رآه أبصر شأنه وكلمه من أسلم من قومه فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف يذكر صنمه ذلك وما أبصره من أمره ويشكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمي والضلالة
والله لو كنت إلها لم تكن
أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لملقاك إلها مستدن
الآن فتشناك من سوء الغبن
الحمد لله العلي ذي المنن
الواهب الرازق ديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن
أكون في ظلمة قبر مرتهن
الرجز

قال ابن إسحاق وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء إنما يؤمر بالدعاء إلى الله تبارك وتعالى والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل فكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم فهم من بين مفتون في دينه وبين معذب في أيديهم وبين هارب في البلاد منهم بأرض الحبشة ومنهم بالمدينة وفي كل وجه
فلما عتت قريش على الله وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة وكذبوا نبيه وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه أذن الله تبارك وتعالى لرسوله {صلى الله عليه وسلم} في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم
فكانت أول آية أنزلت في إذنه له في الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن
بغى عليهم فيما بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء قول الله تبارك وتعالى أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ( الحج 39 - 41 )
ثم أنزل الله عليه وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي حتى لا يفتن مؤمن عن دينه ويكون الدين الله ( البقرة 1935 ) أي وحتى يعبد الله لا يعبد غيره
بدء الهجرة إلى المدينة
قال ابن إسحاق فلما أذن الله تبارك وتعالى لرسوله في الحرب وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أصحابه من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار وقال إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها

فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة
فكان أول من هاجر إليها من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قريش من بني مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد هاجر إليها قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة وكان قدم مكة من أرض الحبشة فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلى المدينة مهاجرا
قالت أم سلمة لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه وحمل معي ابني سلمة في حجري ثم خرج بي يقود بعيره فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد
قالت فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة فقالوا لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا فتجابذوا بني سلمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد
وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبا منها حتى مر بي رجل من بني عمي فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة ألا تحرجون من هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها
فقالوا لي الحقي بزوجك إن شئت ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني فارتحلت بعيري ثم أخذت بني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق الله قلت أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي
حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال إلى أين يا بنت أبي أمية قلت أريد زوجي بالمدينة قال أو ما معك أحد قلت لا والله إلا الله وبني هذا قال والله مالك من مترك

فأخذ بخطام البعير يقودني معه يهوي بي فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجر ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله ثم استأخر عني فقال اركبي فإذا ركبت واستويت علي بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ينزل بي
فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة فلما نظرنا إلى قرية بني عمرو بن عوف وكان أبو سلمة بها قال زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله
ثم انصرف راجعا إلى مكة
فكانت أم سلمة تقول ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة وما رأيت صاحبا كان أكرم من عثمان بن طلحة
قال ابن إسحاق ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة
عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم ثم عبد الله بن جحش بن رئاب من بني غنم بن ذودان بن أسد بن خزيمة حليف بني أمية بن عبد شمس احتمل بأهله وبأخيه أبي أحمد عبيد بن جحش وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد وكان شاعرا وكانت عنده الفرعة بنت أبي سفيان بن حرب وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب
فغلقت دار بني جحش هجرة فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا ليس فيها ساكن فتنفس الصعداء ثم قال
وكل دار وإن طالت سلامتها
يوما ستدركها النكباء والحوب
البسيط
ولما خرج بنو جحش من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي فذكر ذلك عبد الله بن جحش لما بلغه لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا في الجنة خيرا منها قال بلى قال فذلك لك

فلما افتتح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة كلمه أبو أحمد في دارهم فأبطأ عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال الناس لأبي أحمد يا أبا أحمد إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يكره أن ترجعوا في شيء أصيب منكم في الله فأمسك عن كلام رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وكان بنو غنم بن ذودان أهل الإسلام قد أوعبوا إلى المدينة مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هجرة رجالهم ونساءهم فقال أبو أحمد بن جحش يذكر هجرة بني أسد بن خزيمة من قومه إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسوله وإيعابهم في ذلك حين دعوا إلى الهجرة
ولو حلفت بين الصفا أم أحمد
ومروتها بالله برت يمينها
لنحن الأولى كنا بها ثم لم نزل
بمكة حتى عاد غثا سمينها
بها خيمت غنم بن ذودان وانبنت
وما أرعدت غنم وخف قطينها
إلى الله تعدو بين مثنى وواحد
ودين رسول الله بالحق دينها
الطويل
وقال أبو أحمد أيضا
ولما رأتني أم أحمد غاديا
بذمة من أخشى بغيب وأرهب
تقول فإما كنت لا بد فاعلا
فيمم بنا البلدان ولتنأ يثرب
فقلت لها ما يثرب بمظنة
وما يشأ الرحمن فالعبد يركب
إلى الله وجهي والرسول ومن يقم
إلى الله يوما وجهه لا يخيب
فكم قد تركنا من حميم مناصح
وناصحة تبكي بدمع وتندب
يرى أن وترا نأينا عن بلادنا
ونحن نرى أن الرغائب نطلب
دعوت بني غنم لحقن دمائهم
وللحق لما لاح للناس ملحب
أجابوا بحمد الله لما دعاهم
إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا
وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى
أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا
كفوجين أما منهما فموفق
على الحق مهدي وفوج معذب
طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم
عن الحق إبليس فخابوا وخيبوا
ورغنا إلي قول النبي محمد
فطاب ولاة الحق منا وطيبوا
نمت بأرحام إليهم قريبة
ولا قرب بالأرحام إذ لا تقرب
فأي ابن أخت بعدنا يأمننكم
وأية صهر بعد صهري يرقب
ستعلم يوما أينا إذ تزايلوا
وزيل أمر الناس للحق أصوب
الطويل
ثم خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعياش بن أبي ربيعة المخزومي حتى قدما المدينة

قال عمر رضي الله عنه لما أردنا الهجرة إلى المدينة اتعدت أنا وعياش ابن أبي ربيعة وهشام بن العاص التناضب من أضاة بني غفار فوق سرف وقلنا أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه فأصبحت أنا وعياش عندها وحبس عنا هشام وفتن فاتتن
فلما قدمنا المدينة نزلنا بقباء وخرج أبو جهل والحارث أخوه إلى عياش وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا فقالا له إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط حتى تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك
فرق لها فقلت له يا عياش والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت
فقال أبر قسم أمي ولي هنالك مال فآخذه
قلت والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا فلك نصف مالي ولا تذهب معهما
فأبى علي إلا أن يخرج معهما فلما أبى إلا ذلك قلت أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها
فخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه قال بلى قال فأناخ وأناخا ليتحول عليها فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطا ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن
وفي غير حديث عمر أنهما دخلا به مكة نهارا موثقا ثم قالا يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا
قال عمر رضي الله عنه في حديثه فكنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة أنزل الله تبارك وتعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم

من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ) ( الزمر 53 )
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص
قال فقال هشام لما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها حتى قلت اللهم فهمنيها فألقى الله في قلبي أنها إنما نزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة
هذا ما ذكر ابن إسحاق في شأن هشام
وذكر ابن هشام عمن يثق به أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال وهو بالمدينة من لي بعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة أنا لك يا رسول الله بهما فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيا فلقي امرأة تحمل طعاما فقال لها أين تريدين يا أمة الله فقالت أريد هذين المسجونين تعنيهما فتبعها حتى عرف موضعيهما وكانا محبوسين في بيت لا سقف له فلما أمسي تسور عليهما ثم أخذ مروة فوضعها تحت قيديهماثم ضربهما بسيفه فقطعهما فكان يقال لسيفه ذو المروة لذلك
ثم حملهما على بعيره وساق بهما فعثر فدميت إصبعه فقال
( هل انت إلا إصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت ) السريع
ثم قدما بهما المدينة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ثم تتابع المهاجرون أرسالا فنزل طلحة بن عبيد الله وصهيب بن سنان على خبيب بن إساف بالسبخ ويقال بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة
قال ابن هشام وذكر لي أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش
أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغته ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك والله لا يكون ذلك
فقال لهم صهيب أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي قالوا نعم قال فإني قد جعلت لكم مالي
فبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال ربح صهيب ربح صهيب
قال ابن إسحاق وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه أحد بمكة من المهاجرين إلا من حبس أو فتن إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق

وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الهجرة فيقول له لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكونه
ولما رأت قريش أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة فحذروا خروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعرفوا أنه مجمع لحربهم
فاجتمعوا له في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها يتشاورون ما يصنعون في أمره
فاعترض لهم إبليس في هيئة شيخ جليل عليه بت فوقف على باب الدار في اليوم الذي اتعدوا له ويسمى يوم الزحمة فلما رأوه واقفا على بابها قالوا من الشيخ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا أجل فادخل فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش وغيرهم
فقال بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا
فتشاوروا ثم قال قائل احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم
فقال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره
فتشاوروا ثم قال قائل منهم نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فو الله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا وألفتنا كما كانت

قال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال لما يأتي به والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد أديروا فيه رأيا غير هذا
فقال أبو جهل والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد
قالوا وما هو يا أبا الحكم
قال أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسبيا وسيطا فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم
فقال الشيخ النجدي القول ما قاله الرجل هو الرأي لا رأي غيره
فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له
فأتي جبريل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه
فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكانهم قال لعلي بن أبي طالب نم على فراشي وتسج بردى هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ينام في برده ذلك إذا نام
فاجتمعوا له وفيهم أبو جهل فقال وهو على بابه إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن وإن لم تفعلوا كان لكم فيه ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها
وخرج عليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال نعم أنا الذي أقول ذلك أنت أحدهم

وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه وجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين إلى قوله تعالى وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ( يس 9 )
حتى فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من هؤلاء الآيات ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال ما تنتظرون ها هنا قالوا محمدا قال خيبكم الله قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته أفلا ترون ما بكم
فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يطلعون
فيرون عليا على الفراش متسجيا برد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيقولون والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا
فكان مما أنزل الله من القرآن في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قول الله سبحانه وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ( الأنفال 30 )
وأذن الله تبارك وتعالى عند ذلك لنبيه في الهجرة

ذكر الحديث عن خروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبي بكر الصديق رضي الله عنه مهاجرين إلى المدينة
حدث عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت كان لا يخطئ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهراني قومه أتانا بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها قالت فلما رآه أبو بكر قال ما جاء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هذه الساعة إلا من حدث
فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخرج عني من عندك فقال يا نبي الله إنما هما ابنتاي وما ذاك فداك أبي وأمي
فقال إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة

فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال الصحبة
قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ
ثم قال يا نبي الله إن هاتين الراحلتين قد كنت أعددتهما لهذا
وكان أبو بكر رجلا ذا مال فكان حين استأذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الهجرة فقال له لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا قد طمع بأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنما يعني نفسه فابتاع راحلتين فحبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك
واستأجر عبد الله بن أريقط رجلا من بنى الديل بن بكر وكان مشركا يدلهما الطريق ودفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما
قال ابن إسحاق ولم يعلم بخروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين خرج أحد إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر
أما علي فإن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخبره بخروجه وأمر أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الودائع التي كانت عنده للناس ولم يكن بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته
فلما أجمع عليه السلام الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ثم عمدا إلى غار بثور جبل بأسفل مكة فدخلاه
وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهارا ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر فكان يفعل ذلك وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار فكان عامر يرعى في رعيان أهل مكة فإذا أمسى أراح عليهما فاحتلبا وذبحا فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندها إلى مكة تبع عامر أثره بالغنم حتى يعفي عليه وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام بما يصلحهما
وذكر ابن هشام عن الحسن بن أبي الحسن قال انتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر إلى الغار ليلا فدخل أبو بكر قبله فلمس الغار لينظر فيه سبع أو حية يقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بنفسه

ولما فقدت قريش رسول الله {صلى الله عليه وسلم} طلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة يتبعون أثره في كل وجه فوجد الذي ذهب قبل ثور أثره هناك فلم يزل يتبعه حتى انقطع له لما انتهى إلى ثور وشق على قريش خروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عنهم وجزعوا لذلك فطفقوا يطلبونه بأنفسهم فيما قرب منهم ويرسلون من يطلبه فيما بعد عنهم وجعلوا مائة ناقة لمن رده عليهم ولما انتهوا إلى فم الغار وقد كانت العنكبوت ضربت على بابه بعشاش بعضها على بعض بعد أن دخله
رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما ذكروا قال قائل منهم ادخلوا الغار فقال أمية بن خلف وما أربكم إلى الغار إن عليه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد
قالوا فنهى النبي {صلى الله عليه وسلم} يومئذ عن قتل العنكبوت وقال إنها جند من جنود الله
وخرج أبو بكر البزار في مسنده من حديث أبي مصعب المكي قال أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك يحدثون أن النبي {صلى الله عليه وسلم} لما كان ليلة بات في الغار أمر الله تبارك وتعالى شجرة فنبتت في وجه الغار فسترت وجه النبي {صلى الله عليه وسلم} وأمر الله العنكبوت فنسجت علي وجه الغار وأمر الله عز وجل حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار وأتى المشركون من كل بطن حتى إذا كانوا من النبي {صلى الله عليه وسلم} على قدر أربعين ذراعا معهم قسيهم وعصيهم تقدم رجل منهم فنظر فرأى الحمامتين فرجع فقال لأصحابه ليس في الغار شيء رأيت حمامتين على فم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد
فسمع قوله النبي {صلى الله عليه وسلم} فعرف أن الله قد درأ بهما عنه فشمت عليهما وفرض جزاءهما واتخذت في حرم الله ففرخن أحسبه قال فأصل كل حمام في الحرم من فراخهما
وذكر قاسم بن ثابت فيما تولى شرحه من الحديث أن الله أنبت الراءة على باب الغار لما دخله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر رضي الله عنه قال وهي شجرة معروفة
قال غيره تكون مثل قامة الإنسان ولها زهر أبيض تحشى به المخاد للينه وخفته
وحكى الواقدي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما دخل الغار دعا بشجرة كانت أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار فحجبت أعين الكفار وهم يطوفون في الجبل

وقال أبو بكر لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى
قدميه لأبصرنا تحت قدميه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما
وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر معه في الغار ثلاثا حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجرا ببعيريهما وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاما فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام فتحل نطاقها فتجعله عصاما ثم تعلقها به فكان يقال لها ذات النطاق لذلك فيما ذكر ابن إسحاق
وأما ابن هشام فذكر أنها إنما يقال لها ذات النطاقين وهو المشهور عنها رضي الله عنها وذكر أنه سمع غير واحد من أهل العلم يفسره بأنها شقت نطاقها باثنين فعلقت السفرة بواحد وانتطقت بالآخر
قال ابن إسحاق فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قدم له أفضلهما ثم قال اركب فداك أبي وأمي فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إني لا أركب بعيرا ليس لي قال فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به قال كذا وكذا قال قد أخذتها بذلك فركبا وانطلقا وأردف أبو بكر خلفه مولاه عامر بن فهيرة ليخدمهما في الطريق
قال فحدثت عن أسماء بنت أبي بكر قالت لما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل فقالوا أين أبوك يا ابنة أبي بكر قلت لا أدري والله فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب
وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول
جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروحا
فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
الطويل
قالت أسماء فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأن وجهه إلى المدينة

وعن غير ابن إسحاق وهو عندنا بالإسناد من طرق أن أم معبد هذه امرأة من بني كعب من خزاعة وأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر ومولاه عامر بن فهيرة ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء القبة ثم تسقي وتطعم فسألوها لحما وتمرا ليشتروه منها فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك وكان القوم مرملين مسنتين فنظر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى شاة في كسر الخيمة فقال ما هذه الشاة يا أم معبد قالت شاة خلفها الجهد عن الغنم قال هل بها من لبن قالت هي أجهد من ذلك قال أتأذنين أن أحلبها قالت نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها فدعا بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت واجترت ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيه ثجا حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت وسقي أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم ثم أراضوا ثم حلب فيه ثانيا بعد بدء حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها وبايعها وارتحلوا عنها
فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا ضخامهن قليل فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال من أين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاء عازب حيال ولا حلوب في البيت قالت لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا قال صفيه لي يا أم معبد قالت رأيت

رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم يعبه ثجلة ولم تزر به صعلة وسيم قسيم في عينيه دعج وفي أشفاره غطف وفي عنقه سطع وفي صوته صحل وفي لحيته كثافة أزج أقرن إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما وعلاه البهاء أجمل وأبهاه من بعيد وأحسنه وأجمله من قريب حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ربعة لا يائس من طول ولا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا له رفقاء يحفون به إن قال أنصتوا لقوله وإن أمر تبادروا لأمره محفود محشود لا عابس ولا مفند
قال أبو معبد هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا
وأصبح صوت بمكة عال يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول
جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلاها بالهدى فاهتدت به
فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيا لقصي ما زوى الله عنكم
به من فعال لا تجارى وسؤدد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت
له بصريح ضرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب
يرددها في مصدر ثم مورد
الطويل
فلما سمع بذلك حسان بن ثابت جعل يجاوب الهاتف ويقول
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم
وقدس من يسري إليهم ويغتدي
ترحل عن قوم فضلت عقولهم
وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم
وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسكعوا
عمى وهداة يهتدون بمهتدي
لقد نزلت منهم على أهل يثرب
ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جده
بصحبته من يسعد الله يسعد
الطويل

وذكر أبو منصور محمد بن سعد الماوردي بإسناد له إلى قيس بن النعمان قال لما انطلق رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر معه يستخفيان في الغار فمرا بعبد يرعى غنما فاستسقياه من اللبن فقال والله ما لي شاة تحلب غير أن ها هنا عناقا حملت أول الشاء فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ائتنا بها فدعا لها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالبركة ثم حلب عسا فسقى أبا بكر ثم حلب آخر فسقى الراعي ثم حلب فشرب
فقال العبد من أنت فوالله ما رأيت مثلك قط
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتراك إن حدثتك تكتم علي قال نعم قال فإني محمد رسول الله قال أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ قال إنهم ليقولون ذلك قال العبد فإني أشهد أنك رسول الله وأن ما جئت به الحق وأنه ليس يفعل فعلك إلا نبي ثم قال العبد أتبعك قال لا حتى تسمع بنا أنا قد ظهرنا
وخرج البرقاني في مصافحته من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما وأورده الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديثه قال اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب مر البراء أن يحمله إلى أهلي فقال له عازب حتى تحدثني كيف صنعت أنت ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم قال
ارتحلنا من مكة فأحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل نأوى إليه فإذا أنا بصخرة فانتهيت إليها فإذا بقية ظل لها فنظرت بقية ظلها فسويته وفرشت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فروة وقلت اضطجع يا رسول الله فاضطجع

ثم ذهبت أنظر ما حوله هل أرى من الطلب أحدا فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذي أريد يعني الظل فسألته فقلت لمن أنت يا غلام قال لفلان رجل من قريش سماه فعرفته فقلت هل في غنمك من لبن قال نعم قلت هل أنت حالب لي قال نعم فاعتقل شاة من غنمه فأمرته أن ينفض ضرعها من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا فضرب إحدى يديه على الأخرى فحلب لي كثبة من لبن وقد رويت معي لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله فانتهيت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقد استيقظ قلت يا رسول الله اشرب فشرب حتى رضيت وقلت قد آن الرحيل يا رسول الله
فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له فقلت هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت قال لا تحزن إن الله معنا
قال فلما دنا فكان بيننا وبينه قدر رمحين أو ثلاثة قلت هذا الطلب يا رسول الله قد بلغنا وبكيت قال ما يبكيك فقلت أما والله ما على نفسي أبكي ولكني أبكي عليك
فدعا عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم اكفناه بما شئت فساخت فرسه في الأرض إلى بطنها فوثب عنها وقال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجني مما أنا فيه فو الله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا حاجة لي في إبلك ودعا له فانطلق راجعا إلى أصحابه
وفي حديث البخاري ومسلم فجعل لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتكم ما هنا فلا يلقى أحدا إلا رده قال ووفى لنا
وعن سراقة بن مالك بن جعشم فيما أورده ابن إسحاق قال لما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مكة مهاجرا إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم
قال فبينما أنا جالس في نادي قومي أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علي آنفا إني لأراهم محمدا وأصحابه

قال فأومأت إليه يعني أن أسكت ثم قلت إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم قال لعله ثم سكت
فمكثت قليلا ثم قمت فدخلت بيتي ثم أمرت بفرسي فقيد لي إلى بطن الوادي وبسلاحي فأخرج لي من دبر حجرتي ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها ثم انطلقت فلبست لامتي ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره وكنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة
فركبت على أثرة فبينا فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت في أثره فبينما فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت في أثره فلما بدا لي القوم عثر بي فرسي وذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه ثم انتزع يديه من الأرض وتبعها دخان كالإعصار فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني وأنه ظاهر
فناديت القوم أنا سراقه بن جعشم انظروني أكلمكم فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأبي بكر رضي الله عنه قل له من تبتغي قال تكتبوا لي كتابا يكون آيه بيني وبينك قال اكتب يا أبا بكر فكتب لي كتابا في عظم أو في رقعة أو في خرقة ثم ألقاه إلي فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت فلم أذكر شيئا مما كان حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفرغ من حنين والطائف خرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك إليك ماذا تريد

فدنوت من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو على ناقته والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت يا رسول الله هذا كتابك لي أنا سراقة بن جعشم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم وفاء وبر ادن فدنوت فأسلمت ثم تذكرت شيئا أسأل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عنه فما أذكره إلا أني قلت يا رسول الله الضالة من الإبل تغشى حياضي وقد ملأتها لأبلي هل لي من أجر في أن أسقيها قال نعم في كل ذات كبد حرى أجر
ثم رجعت إلى قومي فسقت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صدقتي
وفي حديث آخر عن غير ابن إسحاق أن سراقة بن مالك بن جعشم هذا كان شاعرا مجيدا وأنه قال يخاطب أبا جهل بن هشام بعد انصرافه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
أبا حكم والله لو كنت شاهدا
لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا
رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف القوم عنه فإنني
أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم
بأن جميع الناس طرا يسالمه
الطويل
وذكر ابن إسحاق من رواية يونس بن بكير عنه شعرا نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يذكر فيه مسيره مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقصة الغار وأمر سراقة وهو
قال النبي ولم يجزع يوقرني
ونحن في سدفة من ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا
وقد توكل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره
كيد الشياطين كادته لكفار
والله مهلكهم طرا بما كسبوا
وجاعل المنتهى منهم إلى النار
وأنت مرتحل عنهم وتاركهم
إما غدوا وإما مدلج ساري
وهاجر أرضهم حتى يكون لنا
قوم عليهم ذوو عز وأنصار
حتى إذا الليل وارتنا جوانبه
وسد دون الذي نخشى بأستار
سار الأريقط يهدينا وأنيقه
ينعين بالقرم نعيا تحت أكوار
يعسفن عرض الثتايا بعد أطولها
وكل سهب رقاق الترب موار
حتى إذا قلت قد أنجدن عارضها
من مدلج فارس في منصب وار
يردي به مشرف الأقطار معتزم
كالسيد ذي اللبدة المستأسد الضاري
فقال كروا فقلنا إن كرتنا
من دونها لك نصر الخالق الباري
إن يخسف الأرض بالأحوى وفارسه
فانظر إلى أربع في الأرض غوار

فهيل لما رأى أرساغ مقربه
قد سخن في الأرض لم تحفر بمحفار
فقال هل لكم أن تطلقوا فرسي
وتأخذوا موثقي في نصح أسرار
وأصرف الحي عنكم إن لقيتهم
وأن أعور منهم عين عوار
فادع الذي هو عنكم كف عدوتنا
يطلق جوادي وأنتم خير أبرار
فقال قولا رسول الله مبتهلا
يا رب إن كان منه غير إخفار
فنجه سالما من شر دعوتنا
ومهره مطلقا من كلم آثار
فأظهر الله إذ يدعو حوافره
وفاز فارسه من هول أخطار
البسيط
وسراقة بن مالك هذا الذي أظهر الله فيه هذا العلم العظيم من أعلام نبوة نبينا محمد {صلى الله عليه وسلم} قد أظهر الله فيه أثرا آخر من الأثار الشاهدة له عليه السلام بأن الله أطلعه من الغيب في حياته ما ظهر مصداقه بعد وفاته
روى سفيان بن عيينه عن أبي موسى عن الحسن أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لسراقة بن مالك كيف بك إذا لبست سواري كسرى
قال فلما أتى عمر رضي الله عنه بسواري كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة ابن مالك فألبسه إياهما
وكان سراقه رجلا أزب كثير شعر الساعدين وقال له ارفع يديك فقل الله أكبر الحمد لله الذي سلبها كسرى بن هرمز الذي كان يقول أنا رب الناس وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيا من بني مدلج
ورفع بها عمر رضي الله عنه صوته
قال ابن إسحاق وذكر إسنادا رفعه إلى أسماء بنت أبي بكر قالت
لما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وخرج معه أبو بكر احتمل أبو بكر ماله كله خمسة آلاف أو ستة فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال والله إني لأراه قد فجعلكم بماله مع نفسه فقلت يا أبت إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا
فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة كان أبي يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت يا أبت ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه ثم قال لا بأس إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم
ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك

وذكر ابن إسحاق الطريق التي سلك برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبأبي بكر الصديق رضي الله عنه دليلهما عبد الله بن أريقط والمناقل التي سار بهما عليهما إلى أن قدم بهما قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحى وكادت الشمس تعتدل
وقال غير ابن إسحاق قدمها لثمان خلون من ربيع الأول
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال منهم فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد بن أبي زهير وعبد الله بن رواحة في رجال من بلحارث فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلو سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار وهم أخواله دنيا أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم اعترضه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن أبي خارجة في رجال منهم فقالوا يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والنعة قال خلوا سبيلها
حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار في حجر معاذ بن عفراء فلما بركت ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عتها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته

ونزل عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى بنى مسجده ومساكنه وسأل عن المربد لمن هو فقال له معاذ بن عفراء هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان له وسأرضيهما منه فاتخذه مسجدا
فأمر به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يبنى وعمل فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليرغب المسلمين في العمل فيه فعمل فيه المهاجرون و الأنصار ودأبوا فقال قائل من المسلمين
ونزل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنج ويقال على خارجة بن زيد بن أبي زهير منهم
وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الودائع التي كانت عنده للناس حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنزل معه
فكان علي رضي الله عنه وإنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين يقول كانت بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه
قال فاستربت شأنه فقلت لها يا أمة الله من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدري ما هو وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك
قالت هذا سهل بن حنيف قد عرف أني امرأة لا أحد لي فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال احتطبي بهذا
فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك في أمر سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق
قال ابن إسحاق فأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم ثم أخرجه الله تعالى من بين أظهرهم يوم الجمعة
وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك فالله أعلم
فأدركت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانوناء فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة
فأتاه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم فقالوا يا رسول الله صلى الله عليك أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة لناقته فخلوا سبيلها

فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال منهم فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد بن أبي زهير وعبد الله بن رواحة في رجال من بلحارث فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلو سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار وهم أخواله دنيا أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم اعترضه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن أبي خارجة في رجال منهم فقالوا يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والنعة قال خلوا سبيلها
حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار في حجر معاذ بن عفراء فلما بركت ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عتها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته
ونزل عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى بنى مسجده ومساكنه وسأل عن المربد لمن هو فقال له معاذ بن عفراء هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان له وسأرضيهما منه فاتخذه مسجدا
فأمر به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يبنى وعمل فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليرغب المسلمين في العمل فيه فعمل فيه المهاجرون و الأنصار ودأبوا فقال قائل من المسلمين
لئن قعدنا والنبي يعمل
لذلك منا العمل المضلل
الرجز

وحدث أبو أيوب قال لما نزل علي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو فقلت له يا نبي الله بأبي أنت وأمي إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي فاظهر أنت فكن في العلو ونزل نحن فنكون في السفل فقال يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت
فلقد انكسر حب لنا فيه ماء فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منه شيء فيؤذيه
فكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة حتى بعثنا إليه بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا وثوما فرده رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولم أر ليده فيه أثرا فجئته فزعا فقلت يا رسول الله بأبي وأمي رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك وكنت إذا رددته علينا تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك نبتغي بذلك البركة قال إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة وأنا رجل أناجي فأما أنتما فكلوه فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد
قال ابن إسحاق وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلم يبقى بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسوله {صلى الله عليه وسلم} إلا أهل دور مسمون
بنو مظعون من بني جمح وبنو جحش بن رئاب حلفاء بني أمية وبنو البكير من بني سعد بن ليث حلفاء بني عدي بن كعب فإن دورهم غلقت بمكة هجرة ليس فيها ساكن
فأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة بني له فيها مسجده ومساكنه

قال وكانت أول خطبة خطبها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن نعوذ بالله أن نقول على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما لم يقل أنه قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك
فلينظرن يمينا وشمالا فلا ترى شيئا ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم
فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزي الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال ابن إسحاق ثم خطب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الناس مرة أخرى فقال إن الحمد لله أحمده وأستعينه نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر فاختاره على ما سواه من أحاديث الناس إنه أحسن الحديث وأبلغه أحبوا ما أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقس عنه قلوبكم فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي فقد سماه الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد والصالح من الحديث ومن كل ما أوتي الناس الحلال والحرام فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم وتحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده والسلام عليكم
قال ابن إسحاق وكتب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم

وآخى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل تآخوا في الله أخوين أخوين ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال هذا أخي فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد وعلي بن أبي طالب أخوين
ثم سمى ابن إسحاق نفرا ممن آخى بينهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أصحابه تركنا ذكرهم اختصارا
قال وهلك في تلك الأشهر أبو أمامة أسعد بن زرارة والمسجد يبنى أخذته الذبحة أو الشهقة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بئس الميت أبو أمامة ليهود ولمنافقي العرب يقولون لو كان نبيا لم يمت صاحبه ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئا
ولما مات أبو أمامة اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان أبو أمامة نقيبهم فقالوا يا رسول الله إن هذا كان منا حيث قد علمت فاجعل منا رجلا مكانه يقيم في أمرنا ما كان يقيم
فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنتم أخوالي وأنا أولى بكم فأنا نقيبكم وكره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يخص بها بعضهم دون بعض
فكان من فضل بني النجار الذي يعدون على قومهم أن كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نقيبهم
قال ابن إسحاق فلما اطمأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع أمر الأنصار استحكم أمر الإسلام فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام وتبوأ الإسلام بين أظهرهم وكان هذا الحي من الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان
وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين قدمها إنما يجتمع إليه الناس للصلاة في حين مواقيتها بغير دعوة فهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يجعل بوقا كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم ثم كرهه ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به المسلمين للصلاة

فبيناهم على ذلك رأى عبد الله بن زيد أخو بلحارث بن الخزرج النداء فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له يا رسول الله إنه طاف في هذه الليلة طائف مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده فقلت يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس قال وما تصنع به قلت ندعوا به إلى الصلاة قال أفلا أدلك على خير من ذلك قلت وما هو قال تقول الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله ألا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله
فلما أخبر بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك
فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو يجر رداءه وهو يقول يا نبي الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلله الحمد
وذكر ابن هشام عن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب بينا هو يريد أن
يشتري خشبتين للناقوس عندما ائتمر به النبي {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه إذ رأى في المنام أن لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا بالصلاة
فذهب عمر إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} ليخبره بالذي رأى فما راعه إلا بلال يؤذن وقد جاء النبي {صلى الله عليه وسلم} الوحي بذلك فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين أخبره سبقك بذلك الوحي
قال ابن إسحاق فلما اطمأنت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} داره وأظهر الله بها دينه وسره بما جمع من المهاجرين والأنصار من أهل ولايته قال أبو قيس صرمة بن أبي أنس أخو بني عدي بن النجار يذكر ما أكرمهم الله تبارك وتعالى به من الإسلام وما خصهم به من نزول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليهم
ثوى في قريش بضع عشرة حجة
يذكر لو يلقي صديقا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه
فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه
فأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وألفى صديقا واطمأنت به النوى
وكان له عونا من الله هاديا
يقص لنا ما قال نوح لقومه

وما قال موسى إذ أجاب المناديا
فأصبح لا يخشى من الناس واحدا
قريبا ولا يخشى من الناس نائيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا
وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
ونعلم أن الله لا شيء غيره
ونعلم أن الله أفضل هاديا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم
جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
أقول إذا أدعوك في كل بيعة
تباركت قد أكثرت لاسمك داعيا
أقول إذا جاوزت أرضا مخوفة
حنانيك لا تظهر علي الأعاديا
فطأ معرضا إن الحتوف كثيرة
وإنك لا تبقى لنفسك باقيا
فوالله ما يدري الفتى كيف يتقي
إذا هو لم يجعل له الله واقيا
ولا تجعل النخل المقيمة ربها
إذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا
الطويل
وكان أبو قيس هذا رجلا قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة وتطهر من الحائض من النساء وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه فيه طامث ولا جنب وقال أعبد رب إبراهيم حتى قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة فأسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير وكان قوالا بالحق معظما لله في جاهليته يقول في ذلك أشعارا حسانا هو الذي يقول
يقول أبو قيس وأصبح غاديا
ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا
أوصيكم بالله والبر والتقى
وأعراضكم والبر بالله أول
وإن قومكم سادوا فلا تحسدنهم
وإن كنتم أهل الرياسة فاعدلوا
وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم
فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا
وإن ناب غرم فادح فارفقوهم
وما حملوكم في الملمات فاحلموا
وإن أنتم أمعرتم فتعففوا
وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا
الطويل
وقال أبو قيس أيضا
سبحوا الله شرق كل صباح
طلعت شمسه وكل هلال
عالم السر والبيان لدينا
ليس ما قال ربنا بضلال
وله الطير تستدير وتأوي
في وكور من آمنات الجبال
وله الوحش بالفلاة تراها
في حقاف وفي ظلال الرمال
وله هودت يهود ودانت
كل دين إذا ذكرت عضال
وله شمس النصارى وقاموا
كل عيد لديهم واحتفال
وله الراهب الحبيس تراه
رهن بؤس وكان ناعم بال
يا بني الأرحام لا تقطعوها

وصلوها قصيرة من طوال
واتقوا الله في ضعاف اليتامي
ربما يستحل غير الحلال
واعلموا أن لليتيم وليا
عالما يهتدي بغير السؤال
ثم مال اليتيم لا تأكلوه
إن مال اليتيم يرعاه والي
يا بني النجوم لا تخزلوها
إن خزل النجوم ذو عقال
يا بني الأيام لا تأمنوها
واحذروا مكرها ومر الليالي
واعلموا أن أمرها لنفاد الخلق
ما كان من جديد وبالي
واجمعوا أمركم على البر والتقوى
وترك الخنا وأخذ الحلال
الخفيف
قال ابن إسحاق ونصب عند ذلك أحبار يهود لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} العداوة بغيا وحسدا وضغنا لما خص الله به العرب من أخذه رسوله منهم
وانضاف إليهم رجال من الأوس والخزرج ممن كان عسى على جاهليته فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه فظهروا بالإسلام واتخذوه جنة من القتل ونافقوا في السر فكان هواهم مع يهود لتكذيبهم النبي {صلى الله عليه وسلم} وجحودهم الإسلام
وكانت أحبار يهود هم الذين يسألون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويتعنتوته ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل إلا ما كان من عبد الله بن سلام ومخيريق فكان القرآن ينزل فيما يسألون عنه إلا قليلا من المسائل في الحلال والحرام كان المسلمون يسألون عنها
وكان من حديث عبد الله بن سلام وإسلامه وكان حبرا عالما قال لما سمعت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم المدينة
فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كبرت فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيرتي خيبك الله لو كنت سمعت موسى بن عمران قادما ما زدت
فقلت لها أي عمة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به
فقالت أي ابن أخي أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة فقلت لها نعم فقالت فذاك إذا

قال ثم رحت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأسلمت ثم رجعت إلى أهلي فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامي من يهود
ثم جئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلت يا رسول الله إن يهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك وتغيبني عنهم ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني
قال فأدخلني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموه وسألوه ثم قال لهم أي رجل الحصين بن سلام فيكم فقالوا سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا
فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته فإني أشهد أنه رسول الله وأومن به وأصدقه وأعرفه قالوا كذبت ثم وقعوا بي
فقلت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ألم أخبرك يا نبي الله أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور
قال فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي وأسلمت عمتي خالدة فحسن إسلامها
قال ابن إسحاق وكان من حديث مخيريق وكان حبرا عالما غنيا كثير الأموال من النخل وكان يعرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بصفته وما يجد في علمه وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد وكان يوم السبت قال يا معشر يهود والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق
قالوا إن اليوم يوم السبت قال لا سبت لكم ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه بأحد وعهد إلى من وراءه من قومه إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يصنع فيها ما أراه الله
فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل وقبض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمواله فعامة صدقاته بالمدينة منها
وكان {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني يقول مخيريق خير يهود

قال وحدثني عبد الله بن أبي بكر قال حدثت عن صفية ابنة حيي أنها قالت كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر لم ألقهما مع ولد لهما إلا أخذاني دونه فلما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة غدا عليه أبي وعمي مغلسين فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهويني فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي أهو هو قال نعم والله قال أتعرفه وتثبته قال نعم قال فما في نفسك منه قال عداوته والله ما بقيت
وكان هذان الأخوان الشقيان من أشد يهود للعرب حسدا لما خصهم الله برسوله {صلى الله عليه وسلم} فكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا فأنزل الله عز وجل فيهما ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ( البقرة 109 )
ومر شأس بن قيس وكان شيخا قد عمى عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار
فأمر شابا من يهود كان معه فقال اعمد إليهم فاجلس معهم ثم اذكر يوم بعاث وما كان فيه وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس وكان عليها يومئذ حضير أبو أسيد بن حضير وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي فقتلا جميعا

ففعل الشاب ما أمره به شأس فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب وهما أوس بن قيظي وجبار بن صخر فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه إن شئتم رددناها الآن جذعة وغضب الفريقان جميعا وقالوا قد فعلنا موعدكم الظاهرة وهي الحرة السلاح السلاح
فخرجوا إليها وبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم
فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سامعين مطيعين وقد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس
فأنزل الله تبارك وتعالى في شأن شأس وما صنع يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن
سبيل الله من آمن تبغونهاعوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ) ( آل عمران 99 )
وأنزل الله في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقانه ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ( آل عمران 100 - 103 )

قال وحدثت عن سعيد بن جبير أنه قال أتي رهط من يهود رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا له يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلقه قال فغضب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى انتقع لونه ثم ساورهم غضبا لربه فجاءه جبريل فسكنه فقال خفض عليك يا محمد وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
فلما تلاها عليهم قالوا فصف لنا يا محمد كيف خلقه كيف ذراعة كيف عضده
فغضب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أشد من غضبه الأول وساورهم فأتاه جبريل فقال له مثل ما قال أول مرة وجاءه من الله تبارك وتعالى بجواب ما سألوه عنه يقول الله جل وعلا وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ( الزمر 67 )
ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المدارس على يهود فوجد منهم
ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر من أحبارهم يقال له أشيع
فقال أبو بكر لفنحاص ويلك يا فنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل
فقال فنحاص لأبي بكر والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير وما نتضرع إليه إلينا كما يتضرع وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم ينهاكم عن الربا ويعطيناه ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا
فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أي عدو الله
فذهب فنحاص إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقال يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأبي بكر ما حملك على ما صنعت فقال أبو بكر يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما إنه زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه
فجحد ذلك فنحاص وقال ما قلت ذلك

فأنزل الله عز وجل فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لأبي بكر لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ( آل عمران 181 )
ونزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ( آل عمران )
وكان ممن انضاف إلى يهود من المنافقين من الأوس والخزرج فيما ذكروا والله أعلم من الأوس جلاس بن سويد بن الصامت من بني حبيب بن عمرو بن عوف وهو القائل وكان ممن تخلف عن غزوة تبوك لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر
وكان في حجره عمير بن سعد خلف جلاس على أمه بعد أبيه فقال له عمير والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنه عندي وأعزه علي أن يصيبه شيء يكرهه ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك ولئن صمت عليها ليهلكن ديني ولإحداهما أيسر علي من الأخرى
ثم مشي إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فذكر له ما قال جلاس فحلف جلاس لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالله لقد كذب علي عمير وما قلت ما قال
فأنزل الله فيه يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ( التوبة 74 )
فزعموا أنه تاب فحسنت توبته حتى عرف منه الإسلام والخير
وأخوه الحارث بن سويد قتل المجذر بن زياد البلوي
وذلك أن المجذر فيما ذكر ابن هشام قتل أباه سويد بن الصامت في بعض الحروب إذ كانت بين الأوس والخزرج فلما كان يوم أحد طلب الحارث غرة المجذر ليقتله بأبيه فقتله
وذكر ابن إسحاق أن سويدا إنما قتله معاذ بن عفراء غيلة في غير حرب رماه بسهم فقتله قبل يوم بعاث
قال وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما يذكرون قد أمر عمر بن الخطاب بقتل

الحارث إن هو ظفر به ففاته فكان بمكة ثم بعث إلى أخيه جلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله تبارك وتعالى فيه كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين ( آل عمران 86 ) إلى آخر القصة
ونبتل بن الحارث من بني ضبيعة بن زيد بن مالك وهو القائل إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه
فأنزل الله تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ( التوبة 61 )
وفيه قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما ذكر من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث وكان جسيما أدلم ثائر شعر الرأس أحمر العينين
وذكر أن جبريل أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال إنه يجلس إليك رجل أدلم ثائر شعر الرأس أسفع الخدين أحمر العينين كأنهما قدران من صفر كبده أغلظ من كبد الحمار ينقل حديثك إلى المنافقين فاحذره
وكانت تلك صفة نبتل بن الحارث فيما يذكرون
وعمرو بن خدام وعبد الله بن نبتل وحارثة بن عامر بن العطاف وابناه زيد ومجمع وهم ممن اتخذ مسجد الضرار
وكان مجمع غلاما حدثا قد جمع من القرآن أكثره وكان يصلي بهم فيه فلما كان زمان عمر بن الخطاب كلم في مجمع ليصلي بقومه بني عمرو بن عوف في مسجدهم فقال لا أو ليس بإمام المنافقين في مسجد الضرار
فقال له مجمع يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله إلا هو ما علمت بشيء من أمرهم ولكني كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا لا قرآن معهم فقدموني أصلي بهم وما أرى أمرهم إلا على أحسن ما ذكروا
فزعموا أن عمر رضي الله عنه تركه فصلى بقومه
ومن الخزرج ثم من بني عوف عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون
وهو الذي قال في غزوة بني المصطلق لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وسيأتي ذكر ذلك مستوفي وبيان سببه عند الانتهاء إلى غزوة بني المصطلق إن شاء الله تعالى

وقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة وسيد أهلها عبد الله بن أبي هذا لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين
حتى جاء الإسلام ومعه في الأوس رجل هو في قومه من الأوس شريف مطاع أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن النعمان أحد بني ضبيعة بن زيد وهو أبو حنظلة الغسيل يوم أحد وكان قد ترهب ولبس المسوح فكان يقال له الراهب فشقيا بشرفهما
أما عبد الله بن أبي فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ويملكوه عليهم فجاءهم الله تبارك وتعالى برسوله {صلى الله عليه وسلم} وهم على ذلك فلما انصرف عنه قومه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد استلبه ملكا فلما رأى قومه قد أبو إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن
وحدث أسامة بن زيد حب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ركب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه على حمار عليه ألحاف فوقه قطيفة فركبه فخطمه بحبل من ليف وأردفني خلفه فمر بعبد الله بن أبي وحوله رجال من قومه فلما رآه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تذمم أن يجاوزه حتى ينزل فنزل فسلم ثم جلس فتلا القرآن ودعا إلى الله وذكر به وحذر وبشر وأنذر وعبد الله زام لا يتكلم حتى إذا فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال يا هذا إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدثه إياه ومن لم يأتك فلا تغشه به ولا تأته في مجلسه بما يكره
فقال عبد الله بن رواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين بل فاغشنا به وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا فهو والله ما نحب ومما أكرمنا الله به وهدانا له
فقال عبد الله حين رأى من خلاف قومه ما رأى
متى ما يكن مولاك خصمك لم تزل
تذل ويصرعك الذين تصارع
وهل ينهض البازي بغير جناحه
وإن جد يوما ريشه فهو واقع
الطويل

قال وقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدخل على سعد بن عبادة وفي وجهه ما قال عدو الله ابن أبي فقال والله يا رسول الله إني لأرى في وجهك شيئا لكأنك سمعت شيئا تكرهه قال أجل ثم أخبره بما قال ابن أبي فقال سعد يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه فإنه ليرى أن قد سلبته ملكا
وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام وأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين قدم المدينة فقال ما هذا الدين الذي جئت به قال جئت بالحنيفية دين إبراهيم قال فأنا عليها فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنك لست عليها
قال إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها قال ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية قال الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا يعرض برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أجل فمن كذب يفعل الله ذلك به
فكان هو ذلك عدو الله خرج إلى مكة ببضعة عشر رجلا مفارقا للإسلام ولرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا تقولوا الراهب ولكن قولوا الفاسق
فلما افتتح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة خرج إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها طريدا غريبا وحيدا
قال ابن إسحاق وكان ممن تعوذ بالإسلام ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق من أحبار يهود من بني قينقاع سعد بن حنيف ونعمان بن أوفى وعثمان بن أوفى وزيد بن اللصيت وهو الذي قال حين ضلت ناقة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودل على ناقته وجاءه الخبر بما قال عدو الله في رحله إن قائلا قال يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها فهي في هذا الشعب قد حبستها شجرة بزمامها
فذهب رجال من المسلمين فوجدوها حيث قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكما وصف
وكان هؤلاء المنافقون المسمون وغيرهم ممن لم يسم يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9