كتاب : الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء
المؤلف: أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي

مقدمة المؤلف
قال الشيخ الفقيه الخطيب المحدث الثبت الشهيد أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي البلنسي كرم الله مثواه وجعل الجنة مستقره ومأواه
الحمد لله الذي من علينا بالإسلام وأكرمنا بنبيه محمد عليه أفضل الصلوات والسلام وجعل آثاره الكريمة ضالتنا المنشودة والاقتداء بهديه الأهدى ونوره الأوضح الأبدي غايتنا المقصودة وأمنيتنا المودودة وأنعم على قلوبنا بالارتياح لذكراه والاهتزاز عند سماع خبر عنه مصدره أو إليه منتماه
وإنه لأثر رجاء في هذه القلوب البطالة وأثاره خير يرجى أن يذودها عن مشارع الجهالة ومنازع الضلالة فإن الارتياح للذكر شهادة الحب وأمارة المحب
وقد روى عنه صلوات الله عليه نقلة السنة أن من أحبه كان معه في الجنة
فنسأل الله أن يكتبنا في محبيه حقيقة ويسلك بنا من الوقوف عند مقتضيات أوامره ونواهيه طريقة بالسعادة خليقة
فما نزال طالبين ذلك من أكرم مطلوب لديه راغبين فيه إلى خير مرغوب إليه وإن لم نكن أهلا للإسعاف بتقصيرنا في الأعمال فإنه جل جلاله أهل الجود والإفضال
ونصلي قبل وبعد على هذا النبي المبارك الكريم صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتخبين خير صحب وخير آل
وهذا كتاب ذهبت فيه إلى إيقاع الإقناع وإمتاع النفوس والأسماع باتساق الخبر عن سيرة رسول {صلى الله عليه وسلم} وذكر نسبه ومولده وصفته ومبعثه وكثير من خصائصه وأعلام نبوته ومغازيه وأيامه من لدن مولده إلى أن استأثر الله به وقبض روحه الطيبة إليه صلوات الله وبركاته عليه
مقدما لذلك ما يجب تقديمه ومتمما من ذكر أوليته المباركة بلدا ومحتدا بما يحسن علمه وتعليمه ملخصا جميعه من كتب أئمة هذا الشأن الذين صرفوا إليه اعتناءهم واستنفذوا في آناءهم ككتاب محمد بن إسحاق الذي تولى عبد الملك بن هشام تهذيبه واختصاره وكتاب موسى بن عقبة الذي استحسن الأئمة اقتصاده واقتصاره وغيرهما من المجموعات التي لا يديم الإنصاف قصد جامعها ولا يذم الاختبار اختياره

ولكن عظم المعول بحكم الخاطر الأول على كتاب ابن إسحاق إياه أردت وتجريده من اللغات وكثير من الأنساب والأشعار قصدت و على ترتيبه غالبا جريت ومنزعه في أكثر ما يخص المغازي تحريت
فإنه الذي شرب ماء هذا الشأن فأنقع ووقع كتابه من نفوس الخاص والعام أجل موقع
إلا أنه يتخلله كما أشرنا إليه قبل أشياء من غير المغازي تقدح عند الجمهور في إمتاعه و تقطع بالخواطر المستجمعة لسماعه
وإن كانت تلك القواطع عريقة في نسب العلم وحقيقة بالتقييد والنظم فعسى أن يكون لها مكان هو بإيرادها أخص إذ لكل مقام مقال لا يحسن في غيره الإيراد له والنص
ولذلك نويت فيه أن أحذف ما تخلله من مشبع الأنساب التي ليس احتياج كل الناس إليها بالضروري الحثيث ونفيس اللغات المعوق اعتراضها اتصال الأحاديث حتى لا يبقى إلا الأخبار المجردة و خلاصة المغازي التي هي في هذا المجموع المقصودة المعتمدة
ظنا منى أنه إذا أذن الله في تمامه وتكفل تعالى بتيسير محاولته وفق المأمول وتقريب مرامه استأنفت النفوس له قبولا و عليه إقبالا و لم يزده هذا النقص لدى جمهورهم إلا كمالا
ثم بدا لي أن أزيد على هذا المقدار ما يحسن في هذا المضمار وأعوض مما حذفت منه من اللغات والأنساب والأشعار بما يكون له إن شاء الله مزية الاختيار ويروق عليه رونق الإيثار منتقيا ذلك من الدواوين التي طار بها في الناس طائر الاشتهار ومتخيرا له من الأماكن التي لا يستقل بحصر فوائدها و انتقاء فرائدها كل مختار
ككتاب ابن عقبة وقد سميته فإنه وإن اختصره جدا فقد أحسن العبارة وأتى مواضع من المغازي حذاها بسطه و حماها اختصاره
وسأضع على كثير منها ميسمه وأرسمها في هذا المختصر على نحو ما رسمه
وقد وقفت على كتاب محمد بن عمر الواقدي في المغازي ولم يحضرني الآن لكني رأيته كثيرا ما يجري مع ابن إسحاق فاستغنيت عنه به لفضل فصاحة ابن إسحاق في الإيراد وحسن بيانه الذي لا يفقد معه استحسان الحديث المعاد

وللواقدي أيضا كتاب المبعث وهو مشبع في بابه ممتع باستيفائه واستيعابه قد نقلت هنا منه جملا تناسب الغرض المسطور وتصد المعترض أن يجور
وكذلك كتاب الزبير بن أبي بكر القاضي رحمه الله في أنساب قريش وهو كما سمعت شيخنا الخطيب أبا القاسم ابن حبيش رحمه الله يحكى عن شيخه أبي الحسن ابن مغيث أنه كان يقول فيه هو كتاب عجب لا كتاب نسب
التقطت أيضا من درره نفائس معجبة وتخيرت من فوائده نخبا لمتخيرها موجبة
ومثله التاريخ الكبير لأبي بكر ابن أبي خيثمة وناهيك به من بحر لا تكدره الدلاء وغمر لا ينفذه الأخذ الدراك ولا يستنزفه الورد الولاء
وكم شيء أستحسنه من غير هذه الكتب المسماة فأنظمه في هذا النظام وأضطر إلى الإفادة به مساق الكلام إما متمما لحديث سابق وإما مفيدا بغرض لما تقدمه مطابق
فإن لم يكن بينهم في الأحاديث اختلاف يشعر بنقض فكثيرا ما أدخل حديث بعضهم في حديث بعض ليكون المساق أبين والاتساق أحسن
وإن عرض عارض خلاف فالفصل حينئذ أرفع للإشكال وأدفع للمقال
وربما فصلت بين بعض أحاديثهم وإن اشتبهت معانيها بحسب ما تدعو إليه ضرورة الموضع أو تحمل على إعادته حلاوة الموقع
وكل ذلك يشهد الله أن المراد فيه بالقصد الأول وجهه الكريم وإحسانه العميم ورحمته التي منها شق لنفسه أنه الرحمن الرحيم
ثم القصد الثاني متوفر على إيثار الرغبة في إيناس الناس بأخبار نبيهم {صلى الله عليه وسلم} وعمارة خواطرهم بما يكون لهم في العاجل والآجل أنفع وأسلم
وقد عم عليه الصلاة والسلام ببركة دعائه سامع حديثه ومبلغه وقال {صلى الله عليه وسلم} ما أفاد المسلم أخاه المسلم أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه
ولا أحسن بعد كتاب الله الذي هو أحسن القصص وأصدق القصص وأفضل الحصص وأجلى الأشياء للغصص من أخبار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} التي بالوقوف عليها توجد حلاوة الإسلام ويعرف كيف تمهدت السبل إلى دار السلام

فإنه لا يخلو الحاضرون لهذا الكتاب من أن يسمعوا ما صنع الله لرسوله في أعداء تنزيله فيستجزلوا ثواب الفرح بنصر الله أو يستمعوا ما امتحنه الله به من المحن التي لا يطيق احتمالها إلا نفوس أنبياء الله بتأييد الله فيعتبروا بعظيم ما لقيه من شدائد الخطوب ويصطبروا لعوارض الكروب تأدبا بآدابه وجريا في الصبر على ما يصيبهم والاحتساب لما ينوبهم على طريقه صبره واحتسابه
وتلك غايات لن نبلغ عفوها بجهدنا ولن نصل أدانيها بنهاية ركضنا وشدنا وإنما علينا بذل الجهد في قصد الاهتداء وعلى الله سبحانه المعونة في الغاية والابتداء
وإذا استوفيت بفضل الله طلق هذا المعنى كما نويت وبلغت حاجة نفسي منه وقضيت فلى نية إن ساعدت المشيئة عليها في أن أصل هذا الغرض المتقدم من ذكر مغازي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بذكر مغازي الخلفاء الثلاثة الأول رضي الله عنهم منتحلا على رجاء معونة الله أسبابها ومنتخلا من كتاب شيخنا الخطيب أبي القاسم رحمه الله ومن غيره مما هو في نحو معناه صفوها ولبابها لتنتظم الفائدتان معا ويكون الخبر عن مغازي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومغازي خلفائه الذين بهديهم الائتمام في مكان واحد مجتمعا
وأرجو بحول الله الذي له الطول وبيده القوة والحول أن يكون هذا المجموع كافيا في البابين وافيا بالغرضين المنتابين ولذلك ترجمته بكتاب الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومغازي الخلفاء
وفضله جل جلاله نعم الكفيل أن يجزي به خير الجزاء ويجعله من عددنا النافعة يوم اللقاء فهو عز وجهه الملجأ والمعول وبه أستعين وعليه أتوكل لا إله إلا هو سبحانه هو حسبي وإليه أنيب

ذكر نسب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تسليما وكيف طهره الله نفسا وخيما وشرفه حديثا وقديما
وألقى إلى آبائه الأقدمين من الدلائل على اصطفائه إياه في الآخرين و ابتعاثه له رحمة للعالمين ما صيره لديهم قبل وجوده بطوائل السنين معلوما

في الصحيح من حديث و اثلة بن الأسقع قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم
وفي حديث عن عبد الله بن عباس أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لم يزل الله عز وجل ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة صفيا مهذبا لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما
وخرج أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي من حديث المطلب بن أبي وداعة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قام على المنبر فقال من أنا فقالوا أنت رسول الله عليك السلام قال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم فرقة ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا
وفي رواية فأنا خيرهم نفسا من خيرهم بيتا
وصدق {صلى الله عليه وسلم} والصدق شيمته وفوق العالمين طرا قدره الرفيع وقيمته هو أشرفهم حسبا وأفضلهم نسبا وأكرمهم أما وأبا
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف واسمه المغيرة بن قصى واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان
هذا الصحيح المجتمع عليه في نسبه وما فوق ذلك مختلف فيه
ولا خلاف في أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله ابن إبراهيم خليل الله عليهما السلام وإنما الاختلاف في عدد من بين عدنان وإسماعيل من الآباء فمقلل ومكثر
وكذلك من إبراهيم إلى آدم عليهما السلام لا يعلم ذلك على حقيقته إلا الله
روي عن ابن عباس قال كان النبي {صلى الله عليه وسلم} إذا انتهى إلى عدنان أمسك ثم يقول كذب النسابون قال الله تعالى وقرونا بين ذلك كثيرا 38 الفرقان
ومن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل
فولد عدنان رجلين معد بن عدنان وعك بن عدنان

فصارت عك في دار اليمن لأن عكا تزوج في الأشعريين منهم وأقام فيهم فصارت الدار واللغة واحدة
والأشعريون هم بنو أشعر بن نبت بن أدد بن زيد بن هميسع بن عمرو بن عريب بن يشجب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
وقحطان هو عند جمهور العلماء بالنسب أبو اليمن كلها وإليه يجتمع نسبها والعرب كلها عندهم من ولد إسماعيل وقحطان
وبعض اليمن يقول قحطان من ولد إسماعيل وإسماعيل أبو العرب كلها والله أعلم
وأما معد فذكر الزبير بن أبي بكر رحمه الله أن بختنصر لما أمر بغزو بلاد العرب وإدخال الجنود عليهم فيها وقتل مقاتلتهم لانتهاكهم معاصي الله واستحلالهم محارمه وقتلهم أنبياءه وردهم رسالاته أمر أرميا بن حلقيا وكان فيما ذكر نبي بني إسرائيل في ذلك الزمان أن ائت معد بن عدنان الذي من ولده محمد خاتم النبيين فأخرجه عن بلاده واحمله معك إلى الشام وتول أمره قبلك
ويقال بل المحمول عدنان والأول أكثر
وفي حديث عن ابن عباس أن الله بعث ملكين فاحتملا معدا فلما أدبر الأمر رداه فرجع إلى موضعه من تهامة بعدما دفع الله بأسه عن العرب فكان بمكة وناحيتها مع أخواله من جرهم وبها منهم بقية هم ولاة البيت يومئذ فاختلط بهم وناكحهم
فولد معد بن عدنان نفرا منهم قضاعة وكان بكره الذي به يكنى فيما يزعمون وقنص ونزار وإياد
فأما قضاعة فتيامنت إلى حمير بن سبأ وانتمت إلى ابنه مالك بن حمير حتى قال قائل منهم يفخر بذلك
نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر
قضاعة بن مالك بن حمير
النسب المعروف غير المنكر
في الحجر المنقوش تحت المنبر
وأنكر كثير من الناس منتماهم هذا وجرت بينهم وبين من قال به من القضاعيين في ذلك أقاويل معروفة وأشعار محفوظة
قال الزبير ولم يجتمع رأي قضاعة على الانتساب في اليمن بل أهل العلم منهم والدين مقيمون على نسبهم في معد
وأما قنص بن معد فهلكت بقيتهم فيما زعموا وكان منهم النعمان بن المنذر ملك الحيرة

واحتج من قال ذلك بأن عمر رضي الله عنه حين أتى بسيف النعمان بن المنذر دعا جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي فسلحه إياه ثم قال ممن كان يا جبير النعمان بن المنذر
فقال كان من أشلاء قنص بن معد
وكان جبير أنسب قريش لقريش والعرب قاطبة وكان يقول إنما أخذت النسب من أبي بكر الصديق
وكان أبو بكر رضي الله عنه أنسب العرب
وقد قيل في نسب النعمان غير ذلك مما سيأتي ذكره عند تأدية الحديث إليه إن شاء الله تعالى
وقد ذكر أيضا في بني معد الضحاك بن معد
ذكر الزبير بإسناد له إلى مكحول قال أغار الضحاك بن معد على بني إسرائيل في أربعين رجلا من بني معد عليهم دراريع الصوف خاطمي خيلهم
بحبال الليف فقتلوا وسبوا وظفروا فقالت بنو إسرائيل يا موسى إن بني معد أغاروا علينا وهم قليل فكيف لو كانوا كثيرا وأغاروا علينا وأنت نبينا فادع الله عليهم
فتوضأ موسى وصلى وكان إذا أراد حاجة من الله صلى ثم قال يا رب إن بني معد أغاروا على بني إسرائيل فقتلوا وسبوا وظفروا وسألوني أن أدعوك عليهم
فقال الله تعالى يا موسى لا تدع عليهم فإنهم عبادي وإنهم ينتهون عند أول أمري وإن فيهم نبيا أحبه وأحب أمته
قال يا رب ما بلغ من محبتك له
قال أغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
قال يا رب ما بلغ من محبتك لأمته
قال يستغفرني مستغفرهم فأغفر له ويدعوني داعيهم فأستجيب له
قال يا رب فاجعلهم من أمتي
قال نبيهم منهم
قال يا رب فاجعلني منهم
قال تقدمت واستأخروا
قال الزبير وحدثني علي بن المغيرة قال لما بلغ بنو معد عشرين رجلا أغاروا على عسكر موسى عليه السلام فدعا عليهم فلم يجب فيهم ثم أغاروا فدعا عليهم فلم يجب فيهم ثلاث مرات
فقال يا رب دعوتك على قوم فلم تجبني فيهم بشيء
فقال يا موسى دعوتني على قوم منهم خيرتي في آخر الزمان

وأما نزار بن معد واسمه مشتق من النزر وهو القليل فيقال إن أباه معدا لما ولد له نظر إلى نور بين عينيه ففرح لذلك فرحا شديدا ونحر وأطعم وقال إن هذا كله لنزر في حق هذا المولود
وما كان الذي رآه إلا نور النبوة الذي لم يزل ينتقل في الأصلاب حتى انتهى إلى نبينا محمد {صلى الله عليه وسلم} فطبق الأرض نورا وهدى الله به من أراد سعادته من عباده صراطا مستقيما
وكل هذه الأنوار والآثار شاهدة له عليه السلام بعظيم عناية الله وكريم المكانة عنده فلم تزل بركته {صلى الله عليه وسلم} متعرفة في آبائه الماضين وظاهرة على أسلافه الأكرمين تشير المخايل اللائحة فيهم إليه وتدل الدلائل الواضحة في أوليتهم عليه صلوات الله وبركاته عليه
فولد نزار بن معد مضر وربيعة وأنمارا وإيادا وإليه دفع أبوه حجابة الكعبة فيما ذكر الزبير
وأمهم سودة بنت عك بن عدنان
وقيل هي أم مضر خاصة وأم إخوته الثلاثة أختها شقيقة ابنة عك بن عدنان
وقد قيل إن إيادا شقيق لمضر أمهما معا سودة
فأنمار هو أبو بجيلة وخثعم وقد تيامنت بجيلة إلا من كان منهم بالشام والمغرب فإنهم على نسبهم إلى أنمار بن نزار
وجرير بن عبد الله صاحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من سادات بجيلة وله يقول القائل
لولا جرير هلكت بجيله
نعم الفتى وبئست القبيلة
وكذلك تيامنت الدار أيضا بخثعم وهم بنو أقيل بن أنمار وإنما خثعم جبل تحالفوا عنده فسموا به وهم بالسراة على نسبهم إلى أنمار
وإذا كان بين مضر واليمن فيما هنالك حرب كانت خثعم مع اليمن على مضر
ويروى أن نزارا لما حضرته الوفاة قسم ماله بين بنيه الأربع مضر وربيعة وإياد وأنمار
فقال هذه القبة لقبة كانت له حمراء من أدم وما أشبهها من المال لمضر وهذا الخباء الأسود وما أشبهه لربيعة وهذه الخادم وكانت شمطاء وما أشبهها لإياد وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه
وقال لهم إن أشكل عليكم الأمر في ذلك واختلفتم في القسمة فعليكم بالأفعى الجرهمي وكان بنجران

فاختلفوا بعده وأشكل أمر القسمة عليهم فتوجهوا إلى الأفعى فبينا هم في مسيرهم إليه إذ رأى مضر كلأ قد رعي فقال إن البعير الذي رعي هذا لأعور
فقال ربيعة وهو أزور وقال إياد وهو أبتر وقال أنمار وهو شرود
فلم يسيروا إلا قليلا حتى لقيهم رجل توضع به راحلته فسألهم عن البعير فقال له مضر أهو أعور قال نعم قال ربيعة أهو أزور قال نعم قال إياد أهو أبتر قال نعم قال أنمار وهو شرود قال نعم هذه والله صفة بعيري دلوني عليه فحلفوا له ما رأوه فلزمهم وقال كيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيري بصفته
فساروا حتى قدموا نجران فنزلوا بالأفعى الجرهمي فنادى صاحب البعير بعيري وصفوا لي صفته ثم قالوا لم نره
فقال لهم الأفعى كيف وصفتموه ولم تروه
فقال له مضر رأيته يرعى جانبا ويدع جانبا فعرفت أنه أعور
وقال ربيعة رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر فعلمت أنه أفسدها لشدة وطئه لازوراره
وقال إياد عرفت بتره باجتماع بعره ولو كان ذيالا لمصع به
وقال أنمار عرفت أنه شرود أنه كان يرعى في المكان المتلف نبته ثم يجوزه إلى مكان أرق منه وأخبث
قال الشيخ ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه
ثم سألهم من هم
فأخبروه فرحب بهم وقال تحتاجون إلي وأنتم كما أرى فدعا لهم بطعام فأكل وأكلوا وشرب وشربوا
فقال مضر لم أر كاليوم خمرا أجود لولا أنها نبتت على قبر
وقال ربيعة لم أر كاليوم لحما أطيب لولا أنه ربي بلبن كلبة
وقال إياد لم أر كاليوم رجلا سرني لولا أنه ليس لأبيه الذي يدعى له
وقال أنمار لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا
وسمع صاحبهم كلامهم فقال ما هؤلاء إنهم لشياطين
ثم أتى أمه فسألها فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلا نزل بهم من نفسها فوطئها فجاءت به
وقال للقهرمان الخمر التي شربناها ما أمرها قال من حبلة غرستها على قبر أبيك
وسأل الراعي عن اللحم فقال شاة أرضعناها من لبن كلبة ولم يكن ولد في الغنم غيرها

فأتاهم فقال قصوا علي قصتكم
فقصوا عليه ما أوصى به أبوهم وما كان من اختلافهم
فقال ما أشبه القبة الحمراء من مال فهو لمضر
فصارت إليه الدنانير والإبل وهي حمر فسميت مضر الحمراء
قال وما أشبه الخباء الأسود من دابة ومال فهو لربيعة
فصارت له الخيل وهي دهم فسمي ربيعة الفرس
قال وما أشبه الخادم وكانت شمطاء من مال فيه بلق فهو لإياد
فصارت له الماشية البلق
وقضى لأنمار بالدراهم والأرض
فساروا من عنده على ذلك
وكان يقال مضر وربيعة هما الصريحان من ولد إسماعيل
وروي ميمون بن مهران عن عبد الله بن العباس أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لا تسبوا مضر وربيعة فإنهما كانا مسلمين
وقال {صلى الله عليه وسلم} فيما روى عنه إذا اختلف الناس فالحق مع مضر
وسمع عليه السلام قائلا يقول
إني امرؤ حميري حين تنسبني
لا من ربيعة آبائي ولا مضرا
فقال {صلى الله عليه وسلم} ذلك أبعد لك من الله ومن رسوله
ومما يؤثر من حكم مضر بن نزار ووصاياه من يزرع شرا يحصد ندامة وخير الخير أعجله فاحملوا أنفسكم على مكروهها فيما أصلحكم واصرفوها عن هواها فيما أفسدها فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق
فولد مضر بن نزار رجلين إلياس بن مضر وعيلان بن مضر
قال الزبير وأمهما الحنفاء بنت إياد بن معد
وقال ابن هشام أمهما جرهمة
ولما أدرك إلياس بن مضر أنكر على بني إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم وسيرهم وبان فضله عليهم ولان جانبه لهم حتى جمعهم رأيه ورضوا به رضا لم يرضوه بأحد من ولد إسماعيل بعد أدد
فردهم إلى سنن آبائهم حتى رجعت سنتهم تامة على أولها
وهو أول من أهدى البدن إلى البيت أو في زمانه
وأول من وضع الركن للناس بعد هلاكه حين غرق البيت وانهدم زمن نوح عليه السلام
فكان أول من سقط عليه إلياس أو في زمانه فوضعه في زاوية البيت للناس
ومن الناس من يقول إنما هلك الركن بعد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهو الأشبه إن شاء الله
ولم تبرح العرب تعظم إلياس بن مضر تعظيم أهل الحكمة كلقمان وأشباهه

فولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر مدركة وطابخة وقمعة
وأمهم خندف بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة واسمها ليلى واسم مدركة عامر واسم طابخة عمرو واسم قمعة عمير
وإنما حالت أسماؤهم إلى الذي ذكرنا أولا عنهم فيما ذكروا أن أرنبا أنفرت إبل إلياس بن مضر فصاح ببنيه هؤلاء أن يطلبوا الإبل والأرنب
فأما عمير فاطلع من المظلة ثم قمع فسمى قمعة
وخرج عامر وعمرو في آثار الإبل وخرجت أمهم ليلى تسعى خلفهم
فقال لها زوجها إلياس أين تخندفين أي أين تسعين فسميت خندف
ومر عامر وعمرو بظبي فرماه عمرو فقتله ويقال بل رمى الأرنب التي أنفرت الإبل فقال له عامر اطبخ صيدك وأنا أكفيك الإبل فطبخ عمرو فسمى طابخة
وأدرك الإبل عامر فسمى مدركة
واشتهر بنو خندف هؤلاء بأمهم خندف للذي سار من فعلها في الناس
وذلك أنه لما مرض زوجها إلياس وجدت لذلك وجدا شديدا ونذرت إن هلك ألا تقيم في بلد مات فيه ولا يظلها بيت بعده وأن تسيح في الأرض
وحرمت الرجال والطيب
فلما هلك إلياس خرجت سائحة في الأرض حتى هلكت حزنا
وكانت وفاته يوم الخميس فكانت كلما طلعت الشمس من ذلك اليوم تبكيه حتى تغيب فصارت خندف وما صنعت عجبا في الناس يتحدثون به ويذكرونه في أشعارهم
فقيل لرجل من إياد أو همدان وقد هلكت امرأته ألا تبكي عليها
فقال لو كان ذلك يردها لفعلت كما فعلت خندف على إلياس
ثم اندفع يقول
لو أنه يغني بكيت كخندف
على إلياس حتى ملها الشر تندب
إذا مونس لاحت خراطيم شمسه
بكت غدوة حتى ترى الشمس تغرب
ولم تر عيناها سوى الدفن قبره
فساحت وما تدري إلى أين تذهب
فلم يغن شيئا طول ما بلغت به
وما طلها دهر وعيش معذب
وفقدت امرأة من غسان أخاها ثم أباها فمكثت دهرا تبكي عليهما فنهاها قومها فقالت
تلحون سلمى أن بكت أباها
وقبل ما قد ثكلت أخاها
فحولوا العذل إلى سواها
عصتكم سلمى إلى هواها
كما عصت خندف من نهاها
خلت بنيها أسفا وراها
تبكي على ألياس فما أتاها

فولد مدركة بن ألياس نفرا منهم خزيمة بن مدركة وهذيل بن مدركة
وأمهما امرأة من قضاعة قيل هي سلمى بنت سويد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة و قيل غير ذلك
فولد خزيمة بن مدركة كنانة و أسدا و أسدة والهون
وأم كنانة منهم عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان بن مضر وقيل هند بنت عمرو بن قيس بن عيلان قرأته بخط أحمد بن يحيى بن جابر
وأم سائر بنيه برة بنت مر أخت تميم بن مر بن أد بن طابخة
فولد كنانة بن خزيمة جماعة منهم النضر وبه كان يكنى ونضير ومالك وملكان وعمرو وعامر و أمهم برة بنت مر خلف عليها كنانة بعد أبيه خزيمة على ما كانت الجاهلية تفعله إذا مات الرجل خلف على زوجته بعده أكبر بنيه من غيرها فنهى الله عن ذلك بقوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف
ويقال إن برة هذه لما أهديت أولا إلى خزيمة بن مدركة قالت له إني رأيت في المنام كأني ولدت غلامين من خلاف بينهما سابياء فبينا أنا أتأملهما إذا أحدهما أسد يزأر وإذا الآخر قمر ينير
فأتى خزيمة كاهنة بتهامة فقص عليها الرؤيا فقالت لئن صدقت رؤياها لتلدن منك غلاما يكون لولده قلوب باسلة ثم لتموتن عنها فيخلف عليها ابن لك فتلد منه غلاما يكون لولده عدل وعدد و قروم مجد وعز إلى آخر الأبد
ثم توفي خزيمة فخلف عليها كنانة بعد أبيه فولدت له النضر و إخوته
وإنما سمى النضر لنضارة وجهه وجماله
وأتي أبوه كنانة بن خزيمة وهو نائم في الحجر فقيل له تخير يا أبا النضر بين الصهيل والهدر وعمارة الجدر وعز الدهر
فقال كل يا رب
فصار هذا كله في قريش
والنضر هو جماع قريش في قول طائفة من أهل العلم بالنسب والأكثر على أن فهر بن مالك بن النضر هو قريش
فمن كان من ولده فهو قرشي ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي
وذكر الزبير أن هذا هو رأي كل من أدرك من نساب قريش
فولد النضر بن كنانة مالكا ويخلد والصلت

فولد مالك فهر بن مالك وأمه جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر بن سعيد بن الحارث بن مضاض الجرهمي وهو جماع قريش عند الأكثر
قال الزبير قد اجتمع النساب من قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرقت عن فهر ويقال إن قريشا هو اسمه الذي سمته به أمه ولقبته فهرا
فولد فهر بن مالك غالبا ومحاربا والحارث وأسدا وأختهم جندلة وأم جميعهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة
ولما حضرت الوفاة فهر بن مالك قال لابنه غالب يا بني إن في الحزن إقلاق النفوس قبل المصائب فإذا وقعت المصيبة برد حرها وإنما القلق في غليانها فإذا أنا مت فبرد حر مصيبتك بما ترى من وقع المنية أمامك وخلفك وعن يمينك وعن شمالك وبما ترى من آثارها في محيي الحياة ثم اقتصر على قليلك وإن قلت منفعته فقليل ما في يدك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإن صار إليك
فولد غالب بن فهر لؤيا وتيما وهو الأدرم كان منقوص الذقن
ويقال لقومه بنو الأدرم
وأمهما في قول ابن إسحاق سلمى بنت عمرو الخزاعي
وفي قول الزبير عاتكة بنت يخلد بن النضر
وروي أن لؤي بن غالب قال لأبيه وهو غلام حديث يا أبت من رب معروفة قل إخلاقه و نضر ماؤه ومن أخلقه أخمله وإذا أخلق الشيء لم يذكر وعلى المولى تكبير صغيره ونشره وعلى المولى تصغير كبيره وستره
فقال له أبوه غالب إني لأستدل بما أسمع من قولك على فضلك وأستدعى لك به الطول على قومك فإن ظفرت بطول فعد على قومك بفضلك وكف غرب جهلهم بحلمك ولم شعثهم برفقك فإنما تفضل الرجال الرجال بأفعالها ومن قايسها على أوزانها أسقط الفضل ولم تعل به درجة على أحد وللعليا فضل أبدا على السفلى
فولد لؤي بن غالب كعبا وعامرا وسامة وعوفا وسعدا وخزيمة
فدخل بنو خزيمة في شيبان ويسمون فيهم بعائذة وهي امرأة من اليمن كانت أم بني عبيد بن خزيمة فنسبوا إليها
وكذلك دخل بنو سعد أيضا في شببان ويسمون فيهم ببنانة حاضنة كانت لهم من قضاعة وقيل من النمر بن قاسط فنسبوا إليها

وأما سامة بن لؤي فخرج إلى عمان ويزعمون أن عامر بن لؤي أخرجه
وذلك أنه كان بينهما شيء ففقأ سامة عين عامر فأخافه عامر فخرج إلى عمان
فيزعمون أن سامة بن لؤي بينا هو يسير على ناقته إذ وضعت رأسها ترتع فأخذت حية بمشفرها فهصرتها حتى وقعت الناقة لشقها ثم نهشت ساقه فقتلته
فقال سامة حين أحس بالموت فيما يزعمون
عين فابكى لسامة بن لؤي
علقت ما بسامة العلاقة
لا أرى مثل سامة بن لؤي
يوم حلوا به قتيلا لناقة
بلغا عامرا وكعبا رسولا
أن نفسي إليهما مشتاقة
إن تكن في عمان داري فإني
غالبي خرجت من غير فاقة
رب كأس هرقت يا بن لؤي
حذر الموت لم تكن مهراقة
رمت دفع الحتوف يا بن لؤي
ما لمن رام ذاك بالحتف طاقة
وخروس السري تركت رديا
بعد جد وحدة ورشاقة
قال ابن هشام وبلغني أن بعض ولده أتى رسول {صلى الله عليه وسلم} فانتسب إلى سامة ابن لؤي فقال رسول {صلى الله عليه وسلم} الشاعر فقال له بعض أصحابه كأنك يا رسول الله أردت قوله
رب كأس هرقت يابن لؤي
حذر الموت لم تكن مهراقة
قال أجل
قال ابن اسحاق وأما عوف بن لؤي فإنه خرج فيما يزعمون في ركب من قريش حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس بن غيلان أبطئ به فانطلق من كان معه من قومه فأتاه ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان فحبسه والتاطه وآخاه وزوجه فانتسب بتلك المؤاخاة إلى سعد ابن ذبيان أبي ثعلبة
وثعلبة يزعمون هو القائل له
احبس على ابن لؤي جملك
تركتك القوم ولا مترك لك
ويروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لو كنت مدعيا حيا من العرب أو ملحقهم بنا لادعيت بني مرة بن عوف إنا لنعرف منهم الأشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع يعني عوف بن لؤي
وهم في نسب غطفان مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان وهم يقولون إذا ذكر لهم هذا النسب ما ننكره ولا نجحده وإنه لأحب النسب إلينا

وقيل إن عمر بن الخطاب قال لرجال من بني مرة إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم فارجعوا إليه وكان القوم أشرافا في غطفان هم سادتهم وقادتهم منهم هرم بن سنان بن أبي حارثة وأخوه خارجة بن سنان والحارث بن عوف والحصين بن الحمام وهشام بن حرملة قوم لهم صيت وذكر في غطفان وقيس كلها فأقاموا على نسبهم
على أن الحصين بن الحمام قد تحير في هذا واختلف رأيه فلما سمع قول الحارث بن ظالم أحد بني مرة بن عوف حين هرب من النعمان بن المنذر ولحق بقريش
وما قومي بثعلبة بن سعد
ولا بفزارة الشعر الرقابا
فقومي إن سألت بنو لؤي
بمكة علموا مضر الضرابا
سفهنا باتباع بني بغيض
وترك الأقربين لنا انتسابا
سفاهة مخلف لما تروى
هراق الماء واتبع السرابا
فلو طوعت عمرك كنت منهم
وما ألفيت انتجع السحابا
قال الحصين بن الحمام يرد عليه وينتمي إلى غطفان
ألا لستم منا ولسنا إليكم
برئنا إليكم من لؤي بن غالب
أقمنا على عز الحجاز وأنتم
بمعتلج البطحاء بين الأخاشب
يعني قريشا
ثم ندم الحصين على ما قال وعرف صدق الحارث فأكذب نفسه وقال
ندمت على قول مضي كنت قلته
تبينت فيه أنه جد كاذب
فليت لساني كان نصفين منهما
بكيم ونصف عند مجرى الكواكب
أبونا كناني بمكة قبره
بمعتلج البطحاء بين الأخاشب
لنا الربع من بيت الحرام وراثة
وربع البطاح عند دار ابن حاطب
يعني أن بني لؤي كانوا أربعة كعبا وعامرا وسامة وعوفا
وفي بني مرة بن عوف كان البسل وذلك ثمانية أشهر حرم لهم من كل سنة من بين العرب يسيرون به إلى أي بلاد العرب شاءوا ولا يخافون منهم شيئا قد عرفوا ذلك لهم لا يدفعونه ولا ينكرونه
وكان سائر العرب إنما يأمنون في الأشهر الحرم الأربعة فقط

وذكر الزبير عن أبي عبيدة أنه كانت لقريش في هذا مزية على سائر العرب قاطبة وذلك أن العربي لم يكن ليخرج من داره في غير الأشهر الحرم إلا في جماعة وكان القرشي يخرج حيث شاء وأني شاء فيقال رجل من أهل الله فلا يعرض له عارض ولا يريبه أحد بمكروه ويعظمه من لقيه أو ورد عليه ولذلك قال من قال منهم القرشي بكل بلد حرام
وأما كعب بن لؤي وعامر بن لؤي فهما أهل الحرم وصريح ولد لؤي
وكان كعب منهما عظيم القدر في العرب وأرخوا بموته إعظاما له إلى أن كان عام الفيل فأرخوا به
وكان بين موته والفيل فيما ذكروا خمسمائة سنة وعشرون سنة وكان يوم الجمعة يسمى العروبة فسماه كعب الجمعة لاجتماع قومه فيه يخطبهم ويذكرهم فيقول فيما يقول
أيها الناس اسمعوا وعوا وافهموا وتعلموا ليل ساج ونهار ضاح والسماء بناء والأرض مهاد والنجوم أعلام لم تخلق عبثا فتضربوا عن أمرها صفحا الآخرون كالأولين والدار أمامكم واليقين غير ظنكم صلوا أرحامكم واحفظوا أصهاركم وأوفوا بعهدكم وثمروا أموالكم فإنها قوام مروءاتكم ولا تصونوها عما يجب عليكم وعظموا هذا الحرم وتمسكوا به فسيكون له نبأ عظيم وسيخرج به بني كريم
ثم ينشد أبياتا منها
صروف وأنباء تقلب أهلها
لها عقدة ما يستحيل مريرها
على غفلة يأتي النبي محمد
فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها
ثم يقول
يا ليتني شاهد فحواء دعوته
حين العشيرة تبغي الحق خذلانا
أما والله لو كنت ذا سمع وبصر ويد ورجل لتنصبت فيها تنصب الفحل ولأرقلت فيها إرقال الجمل فرحا بدعوته جذلا بصرخته
فولد كعب بن لؤي مرة وهصيصا وعديا
وأمهم وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك
وقيل إن أم عدي وحده امرأة من فهر وهي حبيبة بنت بجالة بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار
فولد مرة بن كعب كلابا وتيما ويقظة

فولد كلاب رجلين قصيا وزهرة وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل أحد الجدرة من خثعمة الأسد من اليمن حلفاء في بني الديل بن بكر بن عبد مناة ابن كنانة ويقال خثعمة الأسد
واسم سيل خير وإنما سمي سيلا لطوله وسيل اسم جبل
وهو خير بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر بن عمرو بن خثعمة ابن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن الأزد
وسمي عامر الجادر لأنه بني جدارا للكعبة كان وهي من سيل أتى أيام ولاية جرهم البيت
وكان عامر تزوج منهم بنت الحارث بن مضاض وقيل لولده الجدرة لذلك
وذكر الشرفي بن القطامي أن الحاج كانوا يتمسحون بالكعبة ويأخذون من طينها وحجارتها تبركا بذلك وأن عامرا هذا كان موكلا بإصلاح ما شعث من جدرها فسمي الجادر والله أعلم
وسعد بن سيل جد قصي بن كلاب هو أول من حلى السيوف بالفضة والذهب وأهدى إلى كلاب بن مرة مع ابنته فاطمة سيفين محليين فجعلا في خزانة الكعبة
وقصى هو الذي جمع الله به قريشا وكان اسمه زيدا فسمي مجمعا لما جمع من أمرها وسمي قصيا لتقصيه عن بلاد قومه مع أمه فاطمة بعد وفاة أبيه كلاب بن مرة
وحديثه في ذلك طويل وسنذكره إن شاء الله عند ذكر ولايته البيت وهناك نذكر مآثره وعظيم غنائه في إقامة أمر قومه إن شاء الله فإن القصد هنا الإيجاز ما أمكن في إيراد هذا النسب المبارك لتحصل لسامعه الفائدة بانتظامه واتصاله ولا يضل ذلك عليه بما تخلل أثناءه من القواطع التي تباعد بين أطرافه
فولد قصي بن كلاب أربعة نفر وامرأتين
عبد مناف وعبد الدار وعبدالعزي وعبدا وتخمر وبرة
وأمهم جميعا حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي
وساد عبد مناف في حياة أبيه وكان مطاعا في قريش وهو الذي يدعى القمر لجماله واسمه المغيرة
ذكر الزبير عن موسى بن عقبة أنه وجد كتابا في حجر فيه أنا المغيرة ابن قصي آمر بتقوى الله وصلة الرحم
وإياه عني القائل بقوله
كانت قريش بيضة فتفلقت
فالمح خالصه لعبد مناف

فولد عبد مناف أربعة نفر هاشما وعبد شمس والمطلب ونوفلا
وكلهم لعاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر
إلا نوفلا منهم فإنه لوافدة بنت عمرو المازنية مازن بن منصور بن عكرمة
فولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر و خمس نسوة
عبد المطلب و أسدا و أبا صيفي و نضلة والشفاء و خالدة وضعيفة و رقية و حية
وأم عبد المطلب منهم سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار
فولد عبد المطلب عشرة نفر و ست نسوة
العباس وحمزة و عبد الله وأبا طالب واسمه عبد مناف والزبير والحارث وهو أكبرهم والحجل والمقوم وضرارا وعبد العزي أبا لهب وصفية وأم حكيم البيضاء وعاتكة وأميمة وأروى وبرة
فأم عبد الله وأبي طالب وجميع النساء غير صفية فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي
فولد عبد الله بن عبد المطلب محمدا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين ونخبة الخلق أجمعين فنسبه {صلى الله عليه وسلم} أشرف الأنساب وسببه إلى الله سبحانه باصطفائه إياه واختياره له أفضل الأسباب وبيته في قريش أوسط بيوتها الحرمية وأعرق معادنها الكرمية لم تخل قط مكة من سيد منهم أو سادات يكونون خير جيلهم ورؤساء قبيلهم حتى إذا درجوا سما قسماؤهم في المجد الصميم وشركاؤهم في النسب الكريم إلى ذلك المقام فعرجوا فصحبوا على ذلك الزمان
لواؤهم على من ناوأهم منصور وسؤدد البطحاء عليهم مقصور والعيون إليهم أية سلكوا صور
ثم أتى الوادي فطم على القرى وشد الله أركان مجدهم العريق العتيق بهذا النبي الأمي فاحتازوا المجد عن آخره وفازوا من شرف الدين والدنيا بما تعجز ألسنة البلغاء عن أدنى مفاخره
وأمه {صلى الله عليه وسلم} هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب قسيمة أبيه من هذا الأب وكريمة قومها أولى المكان النبيه والحسب

وحسبها من الشرف المتين والكرم المبين والفخر الممكن غاية التمكين أن كانت أما لخاتم النبيين {صلى الله عليه وسلم} وعلى آله أجمعين
فكيف ولها من نصاعة الحسب المحسب وعتاقة المنسب والمنصب ما يقف عند البطاح وتعترف له قريش البطاح
فرسول الله صلوات الله وبركاته عليه خيرة الخير من كلا طرفيه
وقد اعتنى الناس بنسبه الكريم نثرا ونظما ونقبوا عن آبائه الأمجاد وأمهاته الطاهرات الميلاد أبا فأبا وأما فأما
فرادوا من ذلك الفخار حدائق غلبا وسادوا من شرف تلك الآثار مراقي شما
وقد تقدمت من ذلك نبذ منثورة أثناء الكلام وستأتي إن شاء الله منظومة مع أشكالها تفوق العقد في النظام في قصيدة فريدة مفيدة لأبي عبد الله ابن أبي الخصال خاتمة رؤساء الآداب والعلماء المبرزين في هذا الباب سماها معراج المناقب ومنهاج الحسب الثاقب في ذكر نسب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومعجزاته ومناقب أصحابه قرأتها على شيخنا الخطيب أبي القاسم ابن حبيش عنه فقد رأيت أن أورد منها هنا ما يختص بهذا النسب الكريم على اختصار يفي إن شاء الله بالغرض المروم إذ الكلام المنظوم أعذب جريا على الألسن وأهذب رأيا في الإفادة بالمستحسن
وأولها
إليك فهمي والفؤاد بيثرب
وإن عاقني عن مطلع الوحي مغربي
أعلل بالآمال نفسا أغرها
بتقديم غاياتي وتأخير مذهبي
وديني على الأيام زورة أحمد
فهل ينقضي ديني ويقرب مطلبي
وهل أردن فضل الرسول بطيبة
فيا برد أحشائي ويا طيب مشربي
وهل فضلت من مركب العمر فضلة
تبلغني أم لا بلاغ لمركب
ألا ليت زادي شربة من مياهها
وهل مثلها ريا لغلة مذنب
ويا ليتني فيها إلى الله صائر
وقلبي عن الإيمان غير مقلب
وإن امرأ وارى البقيع عظامه
لفي زمرة تلقى بسهل ومرحب
وفي ذمة من خير من وطئ الثرى
ومن يعتلقه حبله لا يعذب
ومالي لا أشري الجنان بعزمة
يهون عليها كل طام وسبسب
وماذا الذي يثني عناني وإنني
لجواب آفاق كثير التقلب
أفقر ففي كفي لله نعمة
وبين فقد فارقت قبل بني أبي
وقد مرنت نفسي على البعد وانطوت

على مثل حد السمهري المدرب
وكم غربة في غير حق قطعتها
فهلا لذات الله كان تغربي
وكم فاز دوني بالذي رمت فائز
وأخطأني ما ناله من تغرب
أراه وأهوى فعله البر قاعدا
فيا قعدي البر قم وتلبب
أماني قد أفنى الشباب انتظارها
وكيف بما أعيي الشباب لأشيب
وقد كنت أسري في الظلام بأدهم
فهأنا أغدو في الصباح بأشهب
فمن لي وأنى لي بريح تحطني
إلى ذروة البيت الرفيع المطنب
إلى الهاشمي الأبطحي محمد
إلى خاتم الرسل المكين المقرب
إلى صفوة الله الأمين لوحيه
أبي القاسم الهادي إلى خيرمشعب
إلى ابن الذبيحين الذي صيغ مجده
ولما تصغ شمس ولا بدر غيهب
إلى المنتقي من عهد آدم في الذرى
يردد في سر الصريح المهذب
إلى من تولى الله تطهير بيته
وعصمته من كل عيص مؤشب
فجاء بريء العرض من كل وصمة
فما شئت من أم حصان ومن أب
كروض الربا كالشمس في رونق الضحى
كنا شيء ماء المزن قبل التصوب
عليه من الرحمن عين كلاءة
تجنبه إلمام كل مجنب
إذا أعرضت أعراقه عن قبيلة
فما أعرضت إلا لأمر مغيب
وما عبرت إلا على مسلك الهدى
ولا عثرت إلا على كل طيب
فمن مثل عبد الله خير لداته
وآمنة في خير ضنء ومنصب
إذا اتصلت جاءتك أفلاذ زهرة
كأسد الشري من كل أشوس أغلب
ولا خال إلا دون سعد بن مالك
ولو كان في عليا معد ويعرب
ومن ذا له جد كشيبة ذي الندى
وساقى الحجيج بين شرق ومغرب
له سؤدد البطحاء غير مدافع
وحومة ما بين الصفا والمحصب
أبو الحارث السامي إلى كل ذروة
يقصر عن إدراكها كل كوكب
به وبما في برده من أمانة
حمى الله ذاك البيت من كل مرهب
وأهلك بالطير الأبابيل جمعهم
فيا لهم من عارض غير خلب
وفيما رآه شيبة الحمد آية
تلوح لعين الناظر المتعجب
وفي ضربه عنه القداح مروعا
ومن يرم بين العين والأنف يرهب
وما زال يرمي والسهام تصيبه
إلى أن وقبه الكوم من نسل أرحب
وكانوا أناسا كلما أمهم أذى
تكشف عن صنع من الله معجب
وعاش بنو الحاجات فيهم وأخصبوا
وإن أصبحوا في منزل غير مخصب

وعمرو المعالي هاشم وتريده
بمكة يدعو كل أغبر مجدب
بمثنى جفان كالجواب منيخة
ملئن عبيطات السنام المرعب
هو السيد المتبوع والقمر الذي
على صفحته في الرضا ماء مذهب
بني الله للإسلام عزا بصهره
إلى منتهى الأحياء من آل يثرب
وعبد مناف دوحة الشرف الذي
تفرع منها كل أروع محرب
مطاع قريش والكفيل بعزها
ومانعها من كل ضيم ومنهب
وزيد ومن زيد قصي مجمع
سمعت وبلغنا وحسبك فاذهب
به اجتمعت أحياء فهر وأحرزت
تراث أبيها دون كل مذبذب
وأصبح حكم الله في آل بيته
فهم حوله من سادنين وحجب
وما أسلمته عن تراخ خزاعة
ولكن كما عض الهناء بأجرب
ولاذت قريش من كلاب بن مرة
بجذل حكاك أو بعذق مرحب
ومرة ذو نفس لدى الحرب مرة
وفي السلم نفس الصرخدي المذوب
وكعب عقيد الجود والحكم والنهي
وذو الحكم الغر المبشر بالنبي
خطيب لؤي واللواء بكفه
لخطبة ناد أو لخطة مقنب
وأول من سمي العروبة جمعة
وصدر أما بعد يلحي ويطبي
وأرخ آل الله دهرا بموته
سنين سدى يتعبن كف المحسب
وأضحى لؤي غالبا كل ماجد
ومن غالب يمنيه للمجد يغلب
وفهر أبو الأحياء جامع شملها
وكاسبها من فخره خير مكسب
تقرش فامتازت قريش بفضله
وسد فسدوا خلة المتأوب
وغادره اسما في الكتاب منزلا
يمر به في آية كل معرب
ومالك المربي على كل مالك
فتى النضر حابته السيادة بل حبي
هو الليث في الهيجاء والغيث في الندى
وبدر الدياجي حين يسري ويحتبي
تردى بفضفاض على المجد نسجه
وليس عليه فليجر ويسحب
وللنضر يا للنضر من كل مشهد
هو الشمس صعد في سناها وصوب
وأعرض بحر من كنانة زاخر
يساق إلى أمواجه كل مذنب
وخير حكما في الصهيل أو الرغا
أو البيت أوعز على الدهر مصحب
فلم يقتصر واختار كلا فحازه
إلى غاية العز المديد المعقب
له البيت محجوبا وعز مخلد
وأجرد يعبوب إلى جنب أصهب
وخزم آناف العتاة خزيمة
فلاذوا بأخلاق الذلول المغرب
عظيم لسلمى بنت سود بن أسلم
لكل قضاعي كريم معصب
ومدركة ذو اليمن والنجح عامر
وخير مسمى في العلا وملقب

تراءى مطلا إذ تقمع صنوه
ففاز بقدح ظافر لم يخيب
لأم الجبال الشم والقطر والحصى
لخندف إن تستركب الأرض تركب
وإلياس مأوى الناس في كل أزمة
ومهربهم في كل خوف ومرهب
وزاجرهم إذ بدلوا الدين ضيلة
وأضحوا بلا هاد ولا متحوب
وجاءهم بالركن بعد هلاكه
وقد كان في صدع من الأرض أنكب
وما هو إلا معجز لنبوة
وبشرى وعقبي للبشير المعقب
وحج وأهدى البدن أول مشعر
لها وفروض الحج لم تترتب
وكم حكمة لم تسمع الأذن مثلها
له إن تلح في ناظر العين تكتب
إلى قنص تنميه سوداء نبته
كلا طرفيه من معد لمنسب
وفي مضر تاه الكلام وأقبلت
مآثر سدت كل وجه ومذهب
وحينا وكاثرنا النجوم بجمعها
بأكثر منها في العديد وأثقب
هنالك آتى الله من شاء فضله
وقيل لهذا سر وللآخر اركب
وكانا شقيقي نبعة فتفاوتا
لعلم وحكم ماله من معقب
وما منهما إلا حنيف ومسلم
على نهج إسماعيل غير منكب
وقد سلم الأفعى بنجران حكمه
إليهم ولم ينظر إلى متعقب
رأى فطنا أبدت له عن نجاره
وكان لنبع فاستحال لأثأب
وتلك علامات النبوة كلها
تشير إلى منظورها المترقب
وقال رسول الله مهما اختلفتم
ولم تعرفوا قصد السبيل الملحب
ففي مضر جرثومة الحق فاعمدوا
إلى مضر تلفوه لم يتنقب
وما سيد إلا نزار يفوته
ومن فاته بدر الدجى لم يؤنب
قريع معد والذي سد نقده
متى يأتهم شعب من الدهر يرأب
أبو أبحر الدنيا وأطوادها التي
بها ثبتت طرا فلم تتقلب
ولم يكفه حتى أعانت معانة
بكل عتيق جرهمي مهذب
وجاء معد والسماء شموسها
وأقمارها في ذيله المتسحب
وبين يديه الأنجم الزهر بثها
على الأرض حتى لا مساغ لأجنبي
وقدما تحفى الله من بختنصر
به والورى من هالك ومعذب
وجنبه أرض البوار وحازه
إلى معقل من حرزه متأشب
وحل بأرمينية تحت حفظه
لدى ملك عن جانبيه مذبب
فلما تجلى الروع أسرى بعبده
إلى حرم أمن لأبنائه اجتبي
وقد كان رد الله عنهم كليمه
ليالي يدعو دعوة المتغضب
وجاء بنو يعقوب يشكون منهم
ينادونه هذا قتيل وذا سبي

فقال له لا تدع موسى عليهم
فمنهم نبي اصطفيه وأجتبي
أحبهم فيه رضا وأحبه
كذلك من أحببه يكرم ويحبب
وأغفر إن يستغفروني ذنوبهم
ومهما دعا داع أجبه وأقرب
فقال إذن فاجعلهم رب أمتي
فمن ترضه يا رب يرض ويرغب
فقال هم في آخر الدهر صفوتي
يقضون أعدائي ويستنصرون بي
دعائم إيمان وأركان سؤدد
مضت بعلاها مهدد بنت جلحب
ومصعد عدنان إلى جذم آدم
بأبين من قصد الصباح وألحب
ونهي رسول الله صد وجوهها
وكان لنا في نظمها شد ملهب
وإلا فأد بن الهميسع ماثل
ونبت بن قيدار سلالة أشجب
وواجه أعراق الثري كل من ترى
وأسمع إسماعيل دعوة مكثب
وقام خليل الله يتلوه آزر
أغر صباحي لأدهم غيهب
إلى الناحر ابن الشارع الغمر يرتقي
وللداع ثم القاسم الشامخ الأب
ويعبر ينميه إلى المجد شالخ
إلى الرافد الوهاب برك وطيب
لسام أبي السامين طرا سما بهم
لنوح للمكان العلي لمثوب
لإدريس ثم الرائد بن مهلهل
لقينن ثم الطاهر المتطيب
إلى هبة الرحمن شيث بن آدم
أبي البشر الأعلى لطين لأثلب
فمنه خلقنا ثم فيه معادنا
ومنه إلى عدن فسدد وقارب
وهنا انتهى ما يخص المنتمى العلي من هذه الكلمة التي فرى ناظمها في الإحسان الفري المحمود فاقتصرت منها على ما وفى بالغرض المقصود واستوفى رجال النسب المجيد والحسب التليد تعجيلا لقرى المستفيد واكتفاء من القلادة بالقدر المحيط بالجيد وإنها إن شاء الله لكافية في الباب ومقدمة الكلام اللباب وتحفة إنما يعرف قدرها أولو الألباب
والله يجزي قائلها الحسني وينفعه بمقصده الأسنى
وإذ قد انتهينا إلى ما حسن لدينا إيراده في هذا المعنى وصفا وذكرا وخدمنا النسب الأشرف نظما ونثرا فلنعرج على ذكر البقعة التي اختارها الله لرسوله الكريم منشأ وجعلها لقومه قرارا ومتبوأ وأولية البيت العتيق الذي جعله الله مثابة وأمنا للناس ورفعه على أفضل القواعد وأكرم الأساس ثم دحا الأرض من تحته رفعا للشبهة في شرفه والإلتباس

ثم نذكر من وليه من آبائه الكرام إذ هم أهله الأعلون وأولياؤه الأحقاء به الأولون وهو مأثرتهم التي لم يزالوا إياها يراعون ومن جرائها يراعون وتراث المجد الذي إليهم يعزى وإليه يعزون وبسيما شرفه يعرفون وباسمه يدعون
ونشير إلى حرمته العظيمة في الحرمات وما أنزل الله تعالى بمن بغاه بسوء أو أتى فيه بأمر مذموم مشنوء من أليم العقوبات وعظيم النقمات
لنخدم البلد كما خدمنا المحتد ونقضي حق المكان الشريف كما قضينا حق الحسب التليد والطريف
حتى نخلص إلى ذكر المولد المبارك الذي منه نتدرج إلى المقصود الذي نحن عليه عاملون ولتمامه آملون رجاء أن نجد ذلك مذخورا عند المولى الذي يضاعف لعبيده الحسنات ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون

ذكر أولية بيت الله المحرم وركنه المستلم ومن تولى بناءه من ملائكته وأنبيائه صلى الله على جميعهم وسلم
قال الله العظيم إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم 96 آل عمرا
وفي الصحيح من حديث أبي ذر الغفاري أنه سأل رسول {صلى الله عليه وسلم} أي مسجد وضع في الأرض أول فقال له المسجد الحرام قال قلت ثم أي قال ثم المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال أربعون عاما
وذكر الزبير بن أبي بكر بإسناده إلى جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه قال كنت مع أبي محمد بن علي بمكة في ليالي العشر قبل التروية بيوم أو يومين وأبي قائم يصلي في الحجر وأنا جالس وراءه فجاء رجل أبيض الرأس واللحية جليل العظام بعيد ما بين المنكبين عريض الصدر عليه ثوبان غليظان في هيئة محرم فجلس إلى جنبه فخفف أبي الصلاة فسلم ثم أقبل عليه فقال له الرجل يا أبا جعفر أخبرني عن بدء خلق هذا البيت كيف كان
فقال له أبو جعفر محمد بن علي ممن أنت يرحمك الله قال رجل من أهل الشام فقال له محمد بن علي إن أحاديثنا إذا سقطت إلى الشام جاءتنا صحاحا وإذا سقطت إلى العراق جاءتنا وقد زيد فيها ونقص

ثم قال بدء خلق هذا البيت أن الله تبارك وتعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة فردوا عليه أتجعل فيها من يفسد فيها الاية
وغضب عليهم فعاذوا بالعرش وطافوا حوله سبعة أطواف يسترضون ربهم فرضي عنهم وقال لهم ابنوا لي في الأرض بيتا فيعوذ به من سخطت عليه من بني آدم ويطوفون حوله كما فعلتم بعرشي فأرضى عنهم
فبنوا له هذا البيت
فهذا يا عبد الله بدء خلق هذا البيت
فقال الرجل يا أبا جعفر فما بدء خلق هذا الركن
فقال إن الله تبارك وتعالى لما خلق الخلق قال لبني آدم ألست بربكم قالوا بلى وأقروا وأجرى نهرا أحلى من العسل وألذ من الزبد ثم أمر القلم فاستمد من ذلك النهر فكتب إقرارهم وما هو كائن إلى يوم القيامة ثم ألقم ذلك الكتاب هذا الحجر فهذا الاستلام الذي ترى إنما هو بيعة على إقرارهم بالذي كانوا أقروا به
وقال جعفر بن محمد كان أبي إذا استلم الركن قال اللهم أمانتي أديتها وميثاقي وفيت به ليشهد لي عندك بالوفاء
قال وقام الرجل فذهب
قال جعفر بن محمد فأمرني أبي أن أرده عليه فخرجت في أثره وأنا أراه يحول بيني وبينه الزحام حتى دخل نحو الصفا فتبصرته على الصفا فلم أراه ثم ذهبت إلى المروة فلم أره عليها فجئت إلى أبي فأخبرته فقال لي أبي لم تكن لتجده وذلك الخضر عليه السلام
وخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عباس وصححه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم
ومن حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا وموقوفا قال إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب
ومن حديث ابن عباس أيضا قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قي الحجر والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق يشهد على من استلمه بحق

وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري من حديث عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول إن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض فرأى سعتها ولم ير فيها أحدا غيره قال يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبح بحمدك ويقدسك غيري
قال الله تعالى أني سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدي ويقدسني وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري ويسبح فيها خلقي ويذكر فيها اسمي وسأجعل من تلك البيوت بيتا أخصه بكرامتي وأوثره باسمي فأسميه بيتي وعليه وضعت جلالي ثم أنا مع ذلك في كل شيء ومع كل شيء أجعل ذلك البيت حرما آمنا يتحرم بحرمته من حوله ومن تحته ومن فوقه فمن حرمه بحرمتي استوجب بذلك كرامتي ومن أخاف أهله فقد أخفر ذمتي وأباح حرمتي أجعله أول بيت وضع للناس ببطن مكة مباركا يأتونه شعثا غبرا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق يزجون بالتلبية زجيجا ويثجون بالبكاء ثجيجا ويعجون بالتكبير عجيجا
فمن اعتمده لا يريد غيره فقد وفد إلى وزارني وضافني وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وأن يسعف كلا بحاجته
تعمره يا آدم ما كنت حي ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن
وفي حديث غير هذا عن عطاء وقتادة أن آدم عليه السلام لما أهبطه الله من الجنة وفقد ما كان يسمعه ويأنس إليه من أصوات الملائكة وتسبيحهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله تعالى في دعائه وصلاته فوجهه إلى مكة وأنزل الله تعالى ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت على موضع البيت الآن
وقال الله يا آدم إني قد أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي وتصلي عنده كما يصلي عند عرشي
فانطلق إليه آدم فطاف به هو ومن بعده من الأنبياء إلى أن كان الطوفان فرفعت تلك الياقوتة حتى أمر الله إبراهيم عليه السلام ببناء البيت فبناه فذلك قوله تعالى وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت

وعن ابن عباس أن الله أوحى إلى آدم أن لي حرما بحيال عرشي فانطلق فابن لي بيتا فيه ثم حف به كما رأيت ملائكتي يحفون بعرشي فهنالك أستجيب لك ولولدك من كان منهم في طاعتي
فقال آدم أي رب وكيف لي بذلك لست أقوى عليه ولا أهتدي لمكانه
فقيض الله له ملكا فانطلق به نحو مكة فكان آدم عليه السلام إذا مر بروضة ومكان يعجبه قال للملك انزل بنا هاهنا فيقول له الملك أمامك
حتى قدم مكة فبني البيت من خمسة أجبل من طور سيناء وطور زيتا ومن لبنان والجودي وبني قواعده من حراء
فلما فرغ من بنائه خرج به الملك إلى عرفات فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم ثم قدم به مكة فطاف بالبيت أسبوعا ثم رجع إلى أرض الهند فمات بها
وفي رواية أنه حج من الهند أربعين حجة على رجليه
وذكر الواقدي عن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة العدوى قال قلت لأبي جهم ابن حذيفة يا عم حدثني عن بناء البيت ونزول إسماعيل عليه السلام الحرم
قال يابن أخي سلني عنه على نشاط مني فإني أعلم من ذلك ما لا يعلمه غيري
قال فمكثت شهرا أذكره المرة بعد المرة فيقول مثل قوله الأول وكان قد كبر ورق وضعف فدخلت عليه يوما وهو مسرور فقال لي اسمع حديثك الذي سألتني عنه
إن البيت بناؤه حرم في السماء السابعة وفي الأرض السابعة يعني أن ما يقابله حرم
وإن آدم عليه السلام أمر بأساسه فبناه هو وحواء أسساه بصخر أمثال الخلفات يعني النوق التي في بطونها أجنة واحدتها خلفة أذن الله عز وجل للصخر أن يطيعهما
ثم نزل البيت من السماء من ذهب أحمر وكل به من الملائكة سبعون ألف ملك فوضعوه على أس آدم عليه السلام ونزل الركن وهو يومئذ درة بيضاء فوضع موضعه اليوم من البيت وطاف به آدم وصلى فيه
فلما مات آدم عليه السلام وليه بعده ابنه شيث فكان كذلك حتى حجه نوح عليه السلام

فلما كان الغرق يعني الطوفان بعث الله جل ثناؤه سبعين ألف ملك فرفعوه إلى السماء كي لا يصيبه الماء النجس وبقيت قواعده وجاءت السفينة فدارت به سبعا ثم دثر البيت فلم يحجه من بين نوح وبين إبراهيم أحد من الأنبياء على جميعهم السلام
وعن غير الواقدي في غير حديث أبي الجهم أن شيث بن آدم عليهما السلام هو أول من بنى الكعبة وأنها كانت قبل أن يبنيها خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم ويأنس بها لأنها أنزلت إليه من الجنة وكان قد حج إلى موضعها من الهند
وفي الخبر أن موضعها كان غثاء على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض فلما بدأ الله خلق الأشياء خلق التربة قبل السماء فلما خلق السماء وقضاهن سبع سماوات دحا الأرض أي بسطها وإنما دحاها من تحت الكعبة فلذلك سميت مكة أم القرى
وذكر ابن هشام أن الماء لم يصل الكعبة حين الطوفان ولكنه قام حولها وبقيت هي في هواء إلى السماء وأن نوحا قال لأهل السفينة وهي تطوف بالبيت إنكم في حرم الله عز وجل وحول بيته فأحرموا لله ولا يمس أحد امرأة وجعل بينهم وبين النساء حاجزا فتعدى حام فدعا عليه نوح بأن يسود الله لون بنيه فأجابه الله على وفق ما دعاه واسود كوش بن حام وولده إلى يوم القيامة
وقد قيل في سبب دعوته غير هذا فالله أعلم
ويروى أنه لما نضب ماء الطوفان بقي مكان البيت ربوة من مدرة فحج إليه بعد ذلك هود وصالح ومن آمن معهما وأن يعرب قال لهود عليه السلام ألا تبنيه قال إنما يبنيه نبي كريم يأتي من بعدي يتخذه الرحمن خليلا

قال أبو الجهم من حديث الواقدي حتى أراد الله بإبراهيم ما أراد فولد له إسماعيل وهو ابن تسعين سنة فكان بكر أبيه فلما أراد الله عز وجل أن يبوئ لإبراهيم مكان البيت وأعلامه أوحى الله إليه يأمره بالمسير إلى بلده الحرام فركب إبراهيم البراق وحمل إسماعيل أمامه وهو ابن سنتين وهاجر خلفه ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم فكان لا يمر بقرية إلا قال له إبراهيم بهذه أمرت يا جبريل فيقول جبريل لا حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاة وسلم وسمر والعماليق يومئذ حول الحرم وهم أول من نزل مكة ويكونون بعرفة وكانت المياه يومئذ قليلة وكان موضع البيت قد دثر وهو ربوة حمراء مدرة وهو يشرف على ما حوله فقال جبريل حين دخل من كداء وهو الجبل الذي يطلعك على الحجون والمقبرة بهذا أمرت قال إبراهيم بهذا أمرت قال نعم
فانتهى إلى موضع البيت فعمد إبراهيم إلى موضع الحجر فآوى فيه هاجر وإسماعيل وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا فلما أراد إبراهيم أن يخرج ورأت أم إسماعيل أنه ليس بحضرتها أحد من الناس ولا ماء ظاهر تركت ابنها في مكانه وتبعت إبراهيم فقالت يا إبراهيم إلى من تدعنا فسكت عنها حتى إذا دنا من كداء قال إلى الله عز وجل أدعكم فقالت فالله عز وجل أمرك بهذا قال نعم قالت فحسبي تركتنا إلى كاف
وانصرفت هاجر إلى ابنها وخرج إبراهيم حتى وقف على كداء ولا بناء ولا ظل ولا شيء يحول دون ابنه فنظر إليه فأدركه ما يدرك الوالد من الرحمة لولده فقال ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفي على الله من شيء في الأرض ولا في السماء

ثم انصرف إبراهيم راجعا إلى الشام وعمدت هاجر فجعلت عريشا في موضع الحجر من سمر وثمام ألقته عليه ومعها شن فيه شيء من ماء فلما نفد الماء عطش إسماعيل وعطشت أمه فانقطع لبنها فأخذ إسماعيل كهيئة الموت فظنت أنه ميت فجزعت وخرجت جزعا أن تراه على تلك الحال وقالت يموت وأنا غائبة عنه أهون علي وعسى الله أن يجعل لي في ممشاي خيرا
فانطلقت فنظرت إلى جبل الصفا فأشرفت عليه تستغيث ربها عز وجل وتدعوه ثم انحدرت إلى المروة فلما كانت في الوادي خبت حتى انتهت إلى المروة فعلت ذلك سبع مرار كلما أشرفت على الصفا نظرت إلى ابنها فتراه على حاله وإذا أشرفت على المروة فمثل ذلك
فكان ذلك أول ما سعى بين الصفا والمروة وكان من قبلها يطوفون بالبيت ولا يسعون بين الصفا والمروة ولا يقفون المواقف حتى كان إبراهيم
فلما كان الشوط السابع ويئست سمعت صوتا فاستمعت فلم تسمع إلا الأول فظنت أنه شيء عرض لسمعها من الظمأ والجهد
فنظرت إلى ابنها فإذا هو يتحرك فأقامت على المروة مليا ثم سمعت الصوت الأول فقالت إني سمعت صوتك فأعجبني فإن كان عندك خير فأغثني فإني قد هلكت وهلك ما عندي
فخرج الصوت يصوت بين يديها وخرجت تتلوه قد قويت له نفسها حتى انتهى الصوت عند رأس إسماعيل ثم بدا لها جبريل فانطلق بها حتى وقف على موضع زمزم فضرب بعقبة مكان البئر فظهر الماء فوق الأرض حين فحص بعقبه وفارت بالرواء وجعلت أم إسماعيل تحظر الماء بالتراب خشية أن يفوتها قبل أن تأتي بشنتها فاستقت وبادرت إلى ابنها فسقته وشربت فجعل ثدياها يتقطران لبنا فكان ذلك اللبن طعاما وشرابا لإسماعيل وكانت تجتزئ بماء زمزم فقال لها الملك لا تخافي أن ينفد هذا الماء وأبشرى فإن ابنك سيشب ويأتي أبوه من الشام فتبنون ها هنا بيتا يأتيه عباد الله من أقطار الأرضين ملبين لله جل ثناؤه شعثا غبرا فيطوفون به ويكون هذا الماء شرابا لضيفان الله عز وجل الذين يزورون بيته

فقالت بشرك الله بخير وطابت نفسها وحمدت الله عز وجل
ويقبل غلامان من العماليق يريدان بعيرا لهما أخطأهما فقد عطشا وأهلهما بعرفة فنظرا إلى طير يهوي قبل الكعبة فاستنكرا ذلك وقالا أنى يكون الطير على غير ماء فقال أحدهما لصاحبه أمهل حتى نبرد ثم نسلك في مهوى الطير
فأبردا ثم تروحا فإذا الطير ترد وتصدر فاتبعا الواردة منها حتى وقفا على أبي قبيس فنظرا إلى الماء وإلى العريش فنزلا وكلما هاجر وسألاها متى نزلت فأخبرتهما وقالا لمن هذا الماء فقالت لي ولابني فقالا من حفره فقالت سقيا الله جل ثناؤه
فعرفا أن أحدا لا يقدر على أن يحفر هناك ماء وعهدهما بما هناك قريب وليس به ماء
فرجعا إلى أهلهما من ليلتهما فأخبراهم فتحولوا حتى نزلوا معها على الماء فأنست بهم ومعهم الذرية فنشأ إسماعيل مع ولدانهم
وكان إبراهيم يزور هاجر في كل شهر على البراق يغدو غدوة فيأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله بالشام
فزارها بعد ونظر إلى من هناك من العماليق وإلى كثرتهم وغمارة الماء فسر بذلك
ولما بلغ إسماعيل عليه السلام تزوج امرأة من العماليق فجاء إبراهيم زائرا لإسماعيل وإسماعيل في ماشية يرعاها ويخرج متنكبا قوسه فيرمى الصيد مع رعيته فجاء إبراهيم عليه السلام إلى منزله فقال السلام عليكم يا أهل البيت
قال فسكتت فلم ترد إلا أن تكون ردت في نفسها فقال هل من منزل فقالت لا هيم الله إذن قال فكيف طعامكم وشرابكم وشاؤكم فذكرت جهدا فقالت أما الطعام فلا طعام وأما الشاء فإنما نحلب الشاة بعد الشاة المصر وأما الماء فعلى ما ترى من الغلظ قال فأين رب البيت قالت في حاجته
قال فإذا جاء فأقرئيه السلام وقولي له غير عتبة بيتك
ورجع إبراهيم إلى منزله وأقبل إسماعيل راجعا إلى منزله بعد ذلك بما شاء الله عز وجل فلما انتهى إلى منزله سأل امرأته هل جاءك أحد فأخبرته بإبراهيم وقوله وما قالت له ففارقها وأقام ما شاء الله أن يقيم

وكانت العماليق هم ولاة الحكم بمكة فضيعوا حرمة الحرم واستحلوا منه أمورا عظاما ونالوا ما لم يكونوا ينالون فقام فيهم رجل منهم يقال له عموق فقال يا قوم أبقوا على أنفسكم فقد رأيتم وسمعتم من أهلك من هذه الأمم فلا تفعلوا تواصلوا ولا تستخفوا بحرم الله عز وجل وموضع بيته
فلم يقبلوا ذلك منه وتمادوا في هلكة أنفسهم
ثم إن جرهما وقطوراء وهما أبناء عم خرجوا سيارة من اليمن أجدبت البلاد عليهم فساروا بذراريهم وأموالهم فلما قدموا مكة رأوا فيها ماء معينا وشجرا ملتفا ونباتا كثيرا وسعة من البلاد ودفئا في الشتاء
فقالوا إن هذا الموضوع يجمع لنا ما نريد
فأعجبهم ونزلوا به وكان لا يخرج من اليمن قوم إلا ولهم ملك يقيم أمرهم سنة فيهم جروا عليها واعتادوها ولو كانوا نفرا يسيرا
فكان مضاض بن عمرو على قومه من جرهم وكان على قطوراء السميدع رجل منهم
فنزل مضاض بمن معه من جرهم أعلى مكة بقعيقعان فما حاز
ونزل السميدع بقطوراء أسفل مكة بأجياد فما حاز
وذهبت العماليق إلى أن ينازعوهم أمرهم فعلت أيديهم على العماليق وأخرجوهم من الحرم كله فصاروا في أطرافه لا يدخلونه
وجعل مضاض والسميدع يقطعان المنازل لمن ورد عليهما من قومهما فكثروا وأثروا فكان مضاض يعشر كل من دخل مكة من أعلاها وكان السميدع يعشر كل من دخل من أسفلها وكل على قومه لا يدخل أحدهما على صاحبه وكانوا قوما عربا وكان اللسان عربيا
وكان إبراهيم يزور إسماعيل فلما نظر إلى جرهم نظر إلى لسان عجيب وسمع كلاما حسنا ونظر إسماعيل إلى رعلة بنت مضاض بن عمرو فأعجبته فخطبها إلى أبيها فتزوجها
فجاء إبراهيم زائرا لإسماعيل فجاء إلى بيت إسماعيل فقال السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله فقامت إليه المرأة فردت عليه ورحبت به فقال كيف عيشكم ولبنكم وماشيتكم فقالت خير عيش بحمد الله عز وجل نحن في لبن كثير ولحم كثير وماؤنا طيب قال هل من حب قالت يكون إن شاء الله ونحن في نعم قال بارك الله لكم

قال أبو جهم فكان أبي يقول ليس أحد يخلى عن اللحم والماء بغير مكة إلا اشتكى بطنه ولعمري لو وجد عندنا حبا لدعا فيه بالبركة فكانت أرض زرع
ويقال إن إبراهيم قال لها ما طعامكم قالت اللحم واللبن قال فما شرابكم قالت اللبن والماء قال بارك الله لكم في طعامكم وشرابكم فاللبن طعام وشراب
قالت فانزل رحمك الله فاطعم واشرب قال إني لا أستطيع النزول قالت فإني أراك شعثا أفلا أغسل رأسك وأدهنه قال بلى إن شئت فجاءته بالمقام وهو يومئذ حجر رطب أبيض مثل المهاة ملقى في بيت إسماعيل فوضع عليه قدمه اليمنى وقدم إليها رأسه وهو على دابته فغسلت شق رأسه الأيمن فلما فرغت حولت له المقام حتى وضع قدمه اليسرى وقدم إليها رأسه فغسلت شق رأسه الأيسر فالأثر الذي في المقام من ذلك قال أبو الجهم فقد رأيت موضع العقب والإصبع
وعن الواقدي من غير حديث أبي الجهم أن أبا سعيد الخدري سأل عبدالله بن سلام عن الأثر الذي في المقام فقال كانت الحجارة على ما هي عليه اليوم إلا أن الله جل ثناؤه أراد أن يجعل المقام آية من آياته
قال أبو الجهم فلما فرغت يعني المرأة من غسل رأس إبراهيم عليه السلام قال لها إذا جاء إسماعيل فقولي له أثبت عتبة بابك فإن صلاح المنزل العتبة
فلما جاء إسماعيل قال هل جاءك أحد بعدي فأخبرته بإبراهيم وما صنعت به ثم قال لها هل قال لك أن تقولي لي شيئا قالت قال لي أثبت عتبة بابك فإن صلاح المنزل العتبة
ففرح إسماعيل وقال أتدرين من هو قالت لا قال هذا خليل الله إبراهيم أبي وأما قوله أثبت عتبة بابك فقد أمرني أن أقرك وقد كنت علي كريمة وقد ازددت علي كرامة فصاحت وبكت فقال مالك قالت ألا أكون علمت بمن هو فأكرمه وأصنع به غير الذي صنعت فقال لها إسماعيل لا تبكي ولا تجزعي فقد أحسنت ولم تكوني تقدرين أن تفعلي فوق الذي فعلت ولم يكن ليزيدك على الذي صنع بك
فولدت لإسماعيل عشرة ذكور أحدهم نابت

فلما بلغ إسماعيل ثلاثين سنة وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة أوحى الله جل ثناؤه إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا قال إبراهيم أي رب أين أبنيه فأوحى الله إليه أن اتبع السكينة وهي ريح لها وجه وجناحان ومع إبراهيم الملك والصرد
فانتهوا بإبراهيم إلى مكة فنزل إسماعيل إلى الموضع الذي بوأه الله جل وعز لإبراهيم وموضع البيت ربوة حمراء مدرة مشرفة على ما حولها
فحفر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وليس معهما غيرهما أساس البيت يريدان أساس آدم الأول
فحفرا عن ربض البيت يعني حوله فوجدا صخرة لا يطيقها إلا ثلاثون رجلا وحفرا حتى بلغا أساس آدم ثم بنى عليه وحلقت السكينة كأنها سحابة على موضع البيت فقالت ابن علي
فلذلك لا يطوف بالبيت أحد أبدا كافر ولا جبار إلا رأيت عليه السكينة
فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فجعل طوله في السماء تسع أذرع وعرضه ثلاثين ذراعا وطوله في الأرض اثنين وعشرين ذراعا وأدخل الحجر وهو سبعة أذرع في البيت وكان قبل ذلك زربا لغنم إسماعيل
وإنما بناه بحجارة بعضها على بعض ولم يجعل له سقفا وجعل له بابا وحفر له بئرا عند بابه خزانة للبيت يلقى فيها ما أهدي للبيت وجعل الركن علما للناس
فذهب إسماعيل إلى الوادي يطلب حجرا ونزل جبريل بالحجر الأسود وكان قد رفع إلى السماء حين غرقت الأرض كما رفع البيت فنزل به جبريل فوضعه إبراهيم موضع الركن وجاء إسماعيل بالحجر من الوادي فوجد إبراهيم قد وضع الحجر فقال من أين هذا من جاءك به قال إبراهيم من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك
وعن الواقدي أيضا من غير حديث أبي الجهم أن يزيد بن رومان قال سمعت ابن الزبير يقول إن إبراهيم عليه السلام ابتغى الحجر فناداه من فوق أبي قبيس ألا أنا هذا فرقى إليه إبراهيم فأخذه فوضعه الذي هو فيه اليوم
وكان الله جل ثناؤه لما غرقت الأرض استودع أبا قبيس الركن وقال إذا رأيت خليلي يبني لي بيتا فأعطه الركن فأعطاه الركن

وعن غير ابن الزبير أن أبا قبيس لذلك كان يسمى في الجاهلية الأمين لوفائه بما استودعه الله إياه
قال أبو جهم ولما فرغ إبراهيم من بناء البيت وأدخل الحجر في البيت جعل المقام لاصقا بالبيت عن يمين الداخل فلما كانت قريش قصر الخشب عليهم فأخرجوا الحجر وكان ما أخرجوا منه سبعة أذرع
وأمر إبراهيم بعد فراغه من البناء أن يؤذن في الناس بالحج فقال يا رب وما يبلغ صوتي
قال الله جل ثناؤه أذن وعلي البلاغ
فارتفع على المقام وهو يومئذ ملصق بالبيت فارتفع به المقام حتى كان أطول الجبال فنادى وأدخل إصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه شرقا وغربا يقول أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم عز وجل
فأجابه من تحت البحور السبعة ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلها لبيك اللهم لبيك أفلا تراهم يأتون يلبون
فمن حج من يومئذ إلى يوم القيامة فهو ممن استجاب لله عز وجل
وذلك قول الله جل ثناؤه فيه آيات بينات مقام إبراهيم ( 97 آل عمران ) يعني نداء إبراهيم على المقام بالحج فهي الآية
قال الواقدي وقد روى أن الآية هي أثر إبراهيم على المقام
قال أبو الجهم فلما فرغ إبراهيم من الأذان ذهب به جبريل فأراه الصفا والمروة وأقامه على حدود الحرم وأمره أن ينصب عليها الحجارة ففعل إبراهيم ذلك وكان أول من أقام أنصاب الحرم ويريه إياها جبريل
فلما كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب إبراهيم عليه السلام بمكة حين زاغت الشمس قائما وإسماعيل جالس ثم خرجا من الغد يمشيان على أقدامهما يلبيان محرمين مع كل واحد منهما إداوة يحملها وعصا يتوكأ عليها فسمى ذلك اليوم يوم التروية

فأتيا مني فصليا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح وكانا نزلا في الجانب الأيمن ثم أقام حتى طلعت الشمس على ثبير ثم خرج يمشي هو وإسماعيل حتى أتيا عرفة وجبريل معهما يريهما الأعلام حتى نزلا بنمرة وجعل يريه أعلام عرفات وكان إبراهيم قد عرفها قبل ذلك فقال إبراهيم قد عرفت فسميت عرفات
فلما زاغت الشمس خرج بهما جبريل عليه السلام حتى انتهى بهما إلى موضع المسجد اليوم فقام إبراهيم فتكلم بكلمات وإسماعيل جالس ثم جمع بين الظهر والعصر ثم ارتفع بهما إلى الهضاب فقاما على أرجلهما يدعوان إلى أن غابت الشمس وذهب الشعاع ثم دفعا من عرفة على أقدامهما حتى انتهيا إلى جمع فنزلا فصلى إبراهيم المغرب والعشاء في ذلك الموضع الذي يصلى فيه اليوم ثم باتا حتى إذا طلع الفجر وقفا على قزح فلما أسفر قبل طلوع الشمس دفعا على أرجلهما حتى انتهيا إلى محسر فأسرعا حتى قطعاه ثم عادا إلى مشيهما الأول ثم رميا جمرة العقبة بسبع حصيات حملاها من جمع ثم نزلا من منى في الجانب الأيمن ثم ذبحا في المنحر اليوم وحلقا رءوسهما ثم أقاما أيام منى يرميان الجمار حين تزيغ الشمس ماشيين ذاهبين وراجعين وصدرا يوم الصدر فصليا الظهر بالأبطح وكل هذا يريه جبريل عليه السلام
قال أبو الجهم فلما فرغ إبراهيم من الحج انطلق إلى منزله بالشام فكان يحج البيت كل عام وحجته سارة وحجه إسحاق ويعقوب والأسباط والأنبياء هلم جرا
وحجه موسى بن عمران عليه السلام
روي الواقدي بإسناد له عن ابن عباس قال مر موسى عليه السلام بصفاح الروحاء يلبي تجاوبه الجبال عليه عباءتان قطوانيتان من عباء الشام
وعن جابر بن عبد الله قال حج هارون نبي الله البيت فمر بالمدينة يريد الشام فمرض بالمدينة فأوصى أن يدفن بأصل أحد ولا تعلم به يهود مخافة أن ينبشوه فدفنوه فقبره هناك
وعن ابن عباس أن الحواريين كانوا إذا بلغوا الحرم نزلوا يمشون حتى يأتوا البيت

وعن ابن الزبير أن الحواريين خلعوا نعالهم حين دخلوا الحرم إعظاما أن ينتعلوا فيه
ثم توفى الله خليله إبراهيم {صلى الله عليه وسلم} بعد أن وجه إليه ملك الموت فاستنظره إبراهيم ثم أعاده إليه لما أراد الله قبضه فأخبره بما أمر به فسلم إبراهيم لأمر ربه عز وجل فقال له ملك الموت يا خليل الله على أي حال تحب أن أقبضك
قال تقبضني وأنا ساجد فقبضه وهو ساجد وصعد بروحه إلى الله عز وجل ودفن إبراهيم عليه السلام بالشام
وعاش إسماعيل عليه السلام بعد أبيه ما عاش وتوفي بمكة فدفن داخل الحجر مما يلي باب الكعبة وهنالك قبر أمه هاجر دفن معها وكانت توفيت قبله
ولما توفي إسماعيل عليه السلام ولي البيت بعده ابنه نابت ولم يله أحد من ولد غيره
ثم مات فدفن في الحجر مع أمه رعلة بنت مضاض
فولى البيت بعده جده مضاض بن عمرو ثم أخواله من جرهم وقاموا عليه فكانوا هم ولاته وحجابه وولاة الأحكام بمكة
وكان البيت قد دخله السيل من أعلى مكة فانهدم فأعادته جرهم على بناء إبراهيم وجعلت له مصراعين وقفلا
قال ابن إسحاق ثم إن جرهما وقطوراء بغى بعضهم على بعض وتنافسوا الملك بها ومع مضاض يومئذ بنو إسماعيل وبنو نابت وإليه ولاية البيت دون السميدع
فسار بعضهم إلى بعض فخرج مضاض من قعيقعان في كتيبته سائرا إلى السميدع ومع كتيبته عدتها من الرماح والدرق والسيوف والجعاب يقعقع بذلك معه
فيقال ما سمي قعيقعان قعيقعان إلا لذلك
وخرج السميدع من أجياد ومعه الخيل والرجال
فيقال ما سمي أجياد أجيادا إلا لخروج الجياد من الخيل مع السميدع منه
وغير ابن إسحاق يقول إنما سمي أجيادا لأن مضاضا ضرب في ذلك الموضع أجياد مائة رجل من العمالقة وقيل بل أمر بعض الملوك غير مسمى بضرب رقاب فيه فكان يقول لسيافه توسط الأجياد وهذا ونحوه أصح في تسمية الموضع بأجياد مما قال ابن إسحاق
قال فالتقوا بفاضح فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل السميدع وفضحت قطوراء فيقال ما سمي فاضح فاضحا إلا بذلك

ثم إن القوم تداعوا إلى الصلح فساروا حتى نزلوا المطابخ شعبا بأعلى مكة فاصطلحوا به وأسلموا الأمر إلى مضاض
فلما رجع إليه أمر مكة فصار ملكها له نحر للناس وأطعمهم فاطبخ الناس وأكلوا فيقال ما سميت المطابخ المطابخ إلا لذلك وبعض أهل العلم يزعم أنها إنما سميت بذلك لما كان تبع نحر بها وأطعم وكانت منزله
فكان الذي كان بين مضاض والسميدع أول بغي كان بمكة فيما يزعمون
ثم نشر الله ولد إسماعيل بمكة وأخوالهم من جرهم ولاة البيت والحكام بمكة لا ينازعهم ولد إسماعيل في ذلك لخئولتهم وقرابتهم وإعظاما للحرمة أن يكون بها بغي أو قتال
فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل انتشروا في البلاد فلا يناوئون قوما إلا أظهرهم الله عليهم بدينهم فوطئوهم
ثم إن جرهم بغوا بمكة واستحلوا حلالا من الحرمة وظلموا من دخلها من غير أهلها وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها فرق أمرهم
فلما رأت ذلك بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وغبشان من خزاعة أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة فآذنوهم بالحرب
فاقتتلوا فغلبتهم بنو بكر وغبشان فنفوهم من مكة
وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلما ولا بغيا ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجته فكانت تسمى الناسة ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه فيقال ما سميت ببكة إلا أنها كانت تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئا
فلم يزل أهلها على وجه الدهر يصونون جنابها ويحافظون على حرمتها

يقال إنه اجتمع رأى بني إسماعيل وخيارهم على أن لا يدعوا أحدا أحدث في حرم الله حدثا إلا غربوه منه ثم لم يرجع فيه ويقال بل كان ذلك مما سن لهم أولوهم فصارت سنة فيهم يدينون بها ثم خلف من خلف بعدهم على ذلك يرون فيه رأيهم وتكبر مواقعة الظلم في حرم الله والتعدي به في نفوسهم ويعتقدون أن الباغي فيه معاقب في دنياه في نفسه وماله وأن الحالف عند البيت حانثا مخوف عليه مما أصاب قبله ممن فعل فعله وأن دعاء المظلوم عنده وخصوصا في الشهر الحرام مجاب في ظالمه ويؤثرون في ذلك أشياء أراها الله إياهم صونا لحرمه الكريم وتنزيها لبيت خليله إبراهيم
ذكر الواقدي من حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال عدا رجل من بني كنانة بن هذيل على ابن عم له وظلمه واضطهده فناشده بالرحم وعظم عليه فأبى إلا ظلمه فقال والله لألحقن بحرم الله في هذا الشهر ولأدعون الله عليك فقال له ابن عمه مستهزئا به هذه ناقتي فلانة فأنا أفقرك ظهرها فاذهب فاجتهد
فأعطاه ناقة وخرج حتى جاء الحرم في الشهر الحرام فقال اللهم إني أدعوك جاهدا مضطرا على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له
ثم انصرف فيجد ابن عمه قد رمى في بطنه فصار مثل الزق فما زال ينتفخ حتى انشق
قال عبد المطلب لحدثت بهذا الحديث ابن عباس فقال أنا رأيت رجلا دعا على ابن عم له بالعمى يعني في الحرم فرأيته يقاد أكمة العميان
وعن ابن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب يسأل رجلا من بني سليم عن ذهاب بصره فقال الرجل يا أمير المؤمنين كنا في بني ضبعاء عشرة وكان لنا ابن عم فكنا نظلمه ونضطهده فكان يذكرنا بالله والرحم وكنا أهل بيت نرتكب كل الأمور فلما رأى ابن عمنا أنا لا نكف عنه ولا نرد إليه ظلامته أمهل حتى دخلت الأشهر الحرم انتهى إلى الحرم فجعل يرفع يديه إلى الله جل ثناؤه ويقول
لا هم أدعوك دعاء جاهدا
اقتل بني الضبعاء إلا واحدا
ثم اضرب الرجل ودعه قاعدا
أعمى إذا قيد يعنى القائدا

قال فمات إخوتي تسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد وبقيت أنا فعميت ورماني الله عز وجل في رجلي وكمهت فليس يلائمني قائد
قال ابن عباس فسمعت عمر يقول سبحان الله إن هذا لهو العجب
قال وسمعت عمر يسأل ابن عمهم الذي دعا عليهم فقال دعوت عليهم كل ليلة في ليالي رجب الشهر كله بهذا الدعاء فأهلكوا في تسعة أشهر وأصاب الباقي ما أصابه
قال ابن عباس وعدا رجل على ابن عم له فاستاق ذودا له فخرج يطلبه حتى أصابه في الحرم فقال ذودي فقال اللص كذبت ليس لك قال فاحلف قال إذا أحلف فحلف عند المقام بالله الخالق رب هذا البيت ما هن لك
فقيل له لا سبيل لك عليه
فقام رب الذود بين الركن والمقام باسطا يديه يدعو على صاحبه فما برح مقامه يدعو عليه حتى فذهب عقله فجعل يصيح بمكة مالي وللذود مالي ولفلان رب الذود
فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الذود فدفعها إلى المظلوم فخرج بها وبقي الآخر مدلها حتى تردى من جبل فمات فأكلته السباع
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لو وجدت قاتل الخطاب في الحرم ما هجته
وكان يقول لأن أذنب بركبة سبعين ذنبا أحب إلى من أن أذنب ذنبا واحدا في الحرم
وركبة خارج الحرم محاذية لذات عرق
وذكر رضي الله عنه يوما وهو خليفة ما كان يعاقب به من حلف ظلما يعني في الحرم زمن الجاهلية فقال إن الناس ليرتكبون ما هو أعظم منها ثم لا يعجل لهم من العقوبة مثل ما كان يعجل لأولئك فما ترون ذلك
فقالوا أنت أعلم يا أمير المؤمنين
قال إن الله جل ثناؤه جعل في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وعظمها وشرفها وجعل العقوبة لمن استحل شيئا مما حرم ليتنكب عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة فلما بعث الله رسوله {صلى الله عليه وسلم} أوعدهم فيما انتهكوا مما حرم الساعة فقال والساعة أدهى وأمر ( 46 البقرة )
فأخر العقاب إلى يوم القيامة وأراهم الله الاستجابة بعضهم لبعض ليتناهوا عن الظلم وأخر أهل الإسلام ليوم الجمع ويستجيب الله لمن يشاء فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين

ومن المشهور في هذا الباب أمر إساف ونائلة وهما صنما قريش اللذان أقاموهما على زمزم ينحرون عندهما ذكروا أنهما كانا رجلا وامرأة من جرهم إساف بن بغي ونائلة بنت ديك فوقع إساف على نائلة في الكعبة فمسخهما الله حجرين ويقال أحدثا فيها فمسخهما الله فالله أعلم
وأمرهما معدود فيما بلغت إليه جرهم من الاستخفاف بحرمة الحرم وقلة مبالاتهم بالبغي فيه مع ما أراهم الله من عظيم الآية بمسخهما حجرين فما نهاهم ذلك عن قبيح ما كانوا عليه حتى أخرجهم الله عن جوار بيته بأيدي آخرين من عباده فكان من أمرهم مع خزاعة ما كان
فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنها في زمزم وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن وحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا
فقال عمرو بن الحارث بن مضاض في ذلك وليس بمضاض الأكبر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
ونحن ولينا البيت من بعد نابت
بعز فما يحظى لدينا المكاثر
ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا
فليس لحي غيرنا ثم فاخر
ألم تنكحوا من خير شخص علمته
فأبناؤه منا ونحن الأصاهر
فإن تنثني الدنيا علينا بحالها
فإن لها حالا وفيها التشاجر
فأخرجنا منها المليك بقدرة
كذلك يا للناس تجري المقادر
أقول إذا نام الخلي ولم أنم
أذا العرش لا يبعد سهيل وعامر
وبدلت منها أوجها لا أحبها
قبائل منها حمير ويحابر
وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة
بذلك عضتنا السنون الغوابر
فسحت دموع العين تبكي لبلدة
بها حرم أمن وفيها المشاعر
وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامه
يظل به أمنا وفيه العصافر
وفيه وحوش لا ترام أنيسة
إذا خرجت منه فليست تغادر
وقال عمرو بن الحارث أيضا يذكر بكر بكرا او غبشان وساكني مكة الذين خلفوا فيما بعدهم
يا أيها الناس سيروا إن قصركم
أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها
قبل الممات وقضوا ما تقضونا
كنا أناسا كما كنتم فغيرنا
دهر فأنتم كما كنا تكونونا
قال ابن هشام هذا ما صح له منها وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن ولم يسم لنا قائلها
ثم إن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بني بكر بن عبد مناة
وغبشان لقب واسمه الحارث وخزاعة يقال إنهم من ولد قمعة بن إلياس بن مضر وأن أباهم عمرو بن لحي هو عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف وخزاعة يأبون هذا النسب ويقولون إنهم من ولد كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن غسان
وقد روى أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال أريت عمرو بن لحي بن قمعة بن بن خندف يجر قصبة في النار فسألته عمن بيني وبينه من الأمم فقال هلكوا
فقيل له ومن عمرو بن لحي قال أبو هؤلاء الحي من خزاعة وهو أول من غير الحنيفية دين إبراهيم وأول من من نصب الأوثان حول الكعبة
فإن كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال هذا فرسول الله أعلم وما قال فهو الحق
وعمرو بن ربيعة الذي تنتسب إليه خزاعة يقال هو عمرو بن لحي وإن حارثة بن ثعلبة بن عمرو خلف على أم لحي ولحي هو ربيعة بعد أن تأيمت من قمعة ولحي صغير فتبناه حارثة وانتسب إليه
فيكون النسب على هذا صحيحا بالوجهين إلى قمعة بالولادة وفق ما روى أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قاله وإلى حارثة بن ثعلبة بالتبني والانتساب به موجود كثيرا في العرب
فلما وليت خزاعة البيت حفظوه مما كانت جرهم استباحته وتوافروا على تعظيمه والذب عنه وكان الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني ثم قومه من بعده وقريش إذ ذاك حلول وصرم متقطعون و بيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة
فأقامت خزاعة على ولاية البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي
وبعده انتقلت ولاية البيت إلى قصي بن كلاب

وكان من حديث قصي أنه لما هلك أبوه كلاب بن مرة خلف ولديه زهرة وقصيا مع أمها فاطمة بنت سعد بن سيل من عذرة وزهرة يومئذ رجل وقصي فطيم فقدم مكة بعد مهلك كلاب حاج من قضاعة فيهم ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد كبير بن عذرة فتزوج فاطمة بنت سعد فاحتملها إلى بلاده فاحتملت ابنها قصيا لصغره وأقام زهرة في قومه
فولدت فاطمة لربيعة رزاحا فكان أخا قصي لأمه وكان لربيعة بنون ثلاثة من امرأة أخرى وهم حن ومحمود وجلهمة بنو ربيعة
وأقام قصي بأرض قضاعة لا ينسب إلا إلى ربيعة بن حرام
فناضل يوما رجلا من قضاعة يدعى رفيعا فنضله قصي وهو يومئذ شاب فغضب المنضول فوقع بينهما حتى تقاولا وتنازعا فقال رفيع ألا تلحق ببلدك وبقومك فإنك لست منا
فرجع قصي إلى أمه وقد وجد في نفسه مما قال فسألها عن ذلك فقالت أوقد قال هذا أنت والله يا بني أكرم منه نفسا ووالدا ونسبا وأشرف منزلا أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي وقومك بمكة عند البيت الحرام وفيما حوله تفد
العرب إلى ذلك البيت وقد قالت لي كاهنة رأتك هذا يلي أمرا جليلا فطب نفسا
فأجمع قصي الخروج إلى قومه و اللحوق بهم وكره الغربة بأرض قضاعة وضاق ذرعا بالمقام فيهم فقالت له أمه لا تعجل حتى يدخل عليك الشهر الحرام فتخرج في حاج العرب فإني أخشى عليك أن يصيبك بعض الناس
فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام وخرج حاج قضاعة خرج معهم وهم يظنون أنه إنما يريد الحج ثم يرجع إلى بلاده حتى قدم مكة فلما فرغ من الحج أقام بها وعالجه القضاعيون على الخروج معهم فأبى
وكان رجلا جلدا نهدا نسيبا فلم ينشب أن خطب إلى حليل بن حبشية ابنته حبي فعرف حليل النسب ورغب في الرحل فزوجه وحليل يومئذ يلي أمر مكة والحكم فيها وحجابة البيت
فأقام قصي معه بمكة وولدت له حبي بنيه عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى وعبدا

فلما انتشر ولد قصي وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر وأن قريشا قرعة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وصريح ولده
فكلم رجالا من قريش وبني كنانة ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة فأجابوه إلى ذلك فكتب عند ذلك قصي إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة يدعوه إلى نصرته والقيام معه فخرج رزاح ومعه إخوته لأبيه حن ومحمود وجلهمة فيمن تبعهم من قضاعة في حاج العرب وهم مجمعون لنصر قصي والقيام معه
فلما إجتمع الناس بمكة وفرغوا من الحج ولم يبق إلا أن يصدر الناس كان أول ما تعرض له قصي من المناسك أمر الإجازة للناس بالحج
وكانت صوفة هي التي تلي ذلك مع الدفع بهم من عرفة ورمى الجمار وهم ولد الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر
والغوث هو أول من ولي ذلك منهم
وذلك أن أمه كانت امرأة من جرهم وكانت لا تلد فنذرت لله إن هي ولدت ولدا أن تصدق به على الكعبة عبدا لها يخدمها ويقوم عليها فولدت الغوث وكان يقوم على الكعبة في الدهر الأول مع أخواله من جرهم فولى الإجازة بالناس من عرفة لمكانه الذي كان به من الكعبة وولده من بعده حتى انقرضوا
فقال مر بن أد أبو الغوث لوفاء نذر أمه
إني جعلت رب من بنيه
ربطه بمكة العلية
فباركن لي بها إليه
واجعله لي من صالح البرية
وكان الغوث بن مر زعموا إذا دفع بالناس قال
لا هم إني تابع تباعه
إن كان إثم فعلى قضاعه

وذلك أن قضاعة كان منهم أحياء يستحلون الحرمة في الجاهلية فكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة وتجيز بهم إذا نفروا من منى إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار ورجل من صوفة يرمي للناس لا يرمون حتى يرمي فكان ذوو الحاجات المتعجلون يأتونه فيقولون له قم فارم حتى نرمي معك فيقول لا والله حتى تميل الشمس فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجيل يرمونه بالحجارة ويستعجلونه بذلك ويقولون له ويلك قم فارم بنا فيأبي عليهم حتى إذا مالت الشمس قام فرمى ورمى الناس معه
فإذا فرغوا من رمى الجمار وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بجانبي العقبة فحبسوا الناس وقالوا أجيزي صوفة فلم يجز أحد من الناس حتى
يمروا فإذا نفذت صوفة ومضت خلى سبيل الناس فانطلقوا بعدهم فكانوا كذلك حتى انقرضوا
فورثهم ذلك من بعدهم بالقعدد بنو سعد بن زيد مناة بن تميم وكانت من بني سعد في آل صفوان بن الحارث بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد
فكان صفوان هو الذي يجيز للناس بالحج من عرفة ثم بنوه من بعده حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام كرب بن صفوان
وفي ذلك يقول ابن مغراء السعدي
لا يبرح الناس ما حجوا معرفهم
حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
فأما قول ذي الإصبع العدواني واسمه حرثان بن عمرو وقيل له ذو الإصبع لحية لذعته في إصبعه فقطعها
عذير الحي من عدوان
كانوا حية الأرض
بغي بعضهم ظلما
فلم يرع على بعض
ومنهم كانت السادات
والموفون بالقرض
ومنهم من يجيز الناس
بالسنة والفرض
ومنهم حكم يقضي
فلا ينقض ما يقضي
وإنما قال ذلك لأن الإفاضة من المزدلفة كانت في عدوان وهو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو سيارة عميلة بن الأعزل
قال حويطب بن عبد العزي رأيت أبا سيارة يدفع بالناس من جمع على أتان له عقوق وذكروا أنه أجاز عليها أربعين سنة

قالوا وكان إذا وقف بالناس قال اتقوا الله ربكم وأصلحوا أموالكم واحفظوا جيرانكم وقاتلوا أعداءكم اللهم حبب بين نسائنا وبغض بين رعائنا واجعل أمر الناس بأيدي صلحائنا ثم يقول أفيضوا على بركة الله
وفيه يقول شاعر من العرب
نحن دفعنا عن أبي سياره
وعن مواليه بني فزاره
حتى أجاز سالما حماره
مستقبل القبلة يدعو جاره
قوله حكم يقضي يعني عامر بن ظرب العدواني وكانت العرب لا يكون بينها ثائرة ولا عضلة في قضاء إلا أسندوا ذلك إليه ثم رضوا بما قضى فيه
فاختصم إليه في بعض ما كانوا يختلفون فيه في رجل خنثي له ما للرجل وله ما للمرأة أيجعله رجلا أو امرأة ولم يأتوه بأمر كان أعضل منه
فقال حتى أنظر في أمركم فو الله ما نزل بي مثل هذه منكم يا معشر العرب
فاستأخروا عنه فبات ليلته ساهرا يقلب أمره وينظر في شأنه فلا يتوجه له منه وجه وكانت له جارية يقال لها سخيلة ترعى عليه غنمه فكان يعاتبها إذا سرحت فيقول صبحت والله يا سخيل وإذا راحت عليه يقول مسيت والله يا سخيل وذلك أنها كانت تؤخر السرح حتى يسبقها بعض الناس وتؤخر الإراحة حتى يسبقها بعض الناس
فلما رأت سهره وقلة قراره على فراشه قالت مالك لا أبا لك ما عراك في ليلتك هذه قال ويلك دعيني أمر ليس من شأنك ثم عادت له بمثل قولها فقال في نفسه عسى أن تأتي مما أنا فيه بفرج فقال ويحك اختصم إلي في ميراث خنثي أأجعله رجلا أو امرأة فو الله ما أدري ما أصنع وما يتوجه لي فيه وجه
فقالت سبحان الله لا أبالك أتبع القضاء المبال أقعده فإن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل وإن بال من حيث تبول المرأة فهو امرأة
قال مسي سخيل بعدها أو ضحي فرجتها والله
ثم خرج على الناس حين أصبح فقضى بالذي أشارت إليه
وهذا كله من الخبر معترض قطع اتصال حديث صوفة وقصي فنرجع الآن إليه ونصله بموضع انقطاعه

حيث ذكر أن صوفة هي التي كانت تلي الإجازة بالناس من منى والدفع بهم من عرفة وأن قصيا عزم على انتزاع ذلك من أيديهم والقيام به دونهم واستدعى لمظاهرته على ذلك أخاه رزاحا فوصله مع من ذكر وصوله معه
فلما كان ذلك العام فعلت صوفة مثل ما كانت تفعل قد عرفت ذلك لها العرب وهو دين في أنفسهم من عهد جرهم وخزاعة
فأتاهم قصي بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة فقال لنحن أولى بهذا الأمر منكم
فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدا ثم انهزمت صوفة وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك
وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة فلما انحازوا عنه بادأهم وأجمع لحربهم وخرجت له خزاعة وبنو بكر فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا بالأبطح حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا وفشت الجراح فيهم وأكثر ذلك في خزاعة
ثم إنهم تداعوا إلى الصلح وإلى أن يحكموا بينهم رجلا من العرب فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن قصي
فقضي بينهم أن قصيا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة وأن يخلى بين قصي وبين الكعبة ومكة
فسمي يعمر بن عوف يومئذ الشداخ لما شدخ من الدماء ووضع منها ويقال الشداح أيضا
فولى قصي البيت وأمر مكة وجمع قومه من منازلهم إلى مكة وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه إلا أنه قد أقر العرب على ما كانوا عليه وذلك أنه كان يراه دينا في نفسه لا ينبغي تغييره
فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومرة بن عوف على ما كانوا عليه حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله
وبنو مرة بن عوف هم أهل البسل وقد تقدم ذكرهم
وأما النسأة فهم بنو فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر

وهم الذين كانوا ينسأون الشهور على العرب في الجاهلية فيحلون الشهر من أشهر الحرم ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر ففيه أنزل الله سبحانه إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين 37 التوبة
وكان أول من نسأ الشهور منهم على العرب فأحلت منها ما أحل وحرمت منها ما حرم القلمس وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي وتوارث ذلك بنوه من بعده حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة وهو القلمس
قال الزبير وكان أبعدهم ذكرا وأطولهم أمرا يقال إنه نسأ أربعين سنة
وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فحرم الأشهر الحرم الأربعة رجبا وذا القعدة وذا الحجة والمحرم فإذا أراد أن يحل منها شيئا أحل المحرم فأحلوه وحرم مكانه صفرا فحرموه ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم
فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين الصفر الأول ونسأت الآخر للعام المقبل
وفي ذلك يقول عمير بن قيس جذل الطعان أحد بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة يفخر بالنسأة على العرب
لقد علمت معد أن قومي
كرام الناس إن لهم كراما
فأي الناس فاتونا بوتر
وأي الناس لم نعلك لجاما
ألسنا الناسئين على معد
شهور الحل نجعلها حراما
فهذا كان شأن النسأة في الجاهلية فأقره قصي على ما كان عليه مع سائر ما ذكر إقراره العرب عليه حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله
فكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء فحاز شرف مكة كله وقطع مكة رباعا بين قومه فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها

ويزعم الناس أن قريشا هابوا قطع الشجر من الحرم في منازلهم فقطعها قصي بيده وأعوانه فسمته قريش مجمعا لما جمع من أمرها وتيمنت بأمره فما تنكح امرأة ولا يزوج رجل من قريش ولا يشاورون في أمر نزل بهم ولا يعقدون لواء لحرب قوم غيرهم إلا في داره يعقده لهم بعض ولده ولا يعذر غلام إلا في داره ولا تدرع جارية من قريش إلا في داره يشق عليها فيها درعها إذا بلغت ذلك ثم تدرعه ثم ينطلق بها إلى أهلها
ولا تخرج عير من قريش فيرحلون إلا من داره ولا يقدمون إلا نزلوا في داره
فكان أمره في قريش في حياته ومن بعد موته كالدين المتبع لا يعمل بغيره
واتخذ لنفسه دار الندوة وجعل بابها إلى مسجد الكعبة ففيها كانت قريش تقضي أمورها
ولما فرغ قصي من حربه انصرف أخوه رزاح إلى بلاده بمن معه من قومه فلما استقر في بلاده نشره الله ونشر حبا فهما قبيلا عذرة اليوم
فهذا حديث قصي في ولاية البيت بعد حليل بن حبشية وإخراج خزاعة عنه
وخزاعة تزعم أن حليلا أوصى بذلك قصيا وأمره به حين انتشر له من ابنته من الولد ما انتشر وقال أنت أولى بالكعبة وبالقيام عليها وبأمر مكة من خزاعة فعند ذلك طلب قصي ما طلب
قال ابن إسحاق ولم يسمع ذلك من غيرهم فالله أعلم
وقد ذكر الواقدي الأمرين على نحو ما ذكر ابن إسحاق
قال وقد سمعنا في ذلك وجها آخر ذكر أن أبا غبشان رجلا من خزاعة كان ولي الكعبة فباع حجابتها من قصي بن كلاب بيعا وذكر غيره أنه باع منه مفتاح الكعبة بزق خمر فلذلك قيل أخسر صفقة من أبي غبشان

وذكر الواقدي أيضا بإسناد له أن رجلا من قضاعة يقال له أبو الشموس حدث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة حديث قصي بن كلاب وكيف استعان بإخوته على خزاعة فاستمع له عمر وتعجب لأول الحديث وقال ذكرتنا أمرا كان دثر منا فالحمد لله رب العالمين إن الله عز وجل ليصنع لهذا الحي من قريش وهم أولى الناس أن يتقوا الله وتحسن سيرة من ولي منهم بصنع الله لهم جعل فيهم الإمامة وقبل ذلك النبوة
قالوا فلما كبر قصي ورق وكان عبد الدار بكره وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه وذهب كل مذهب وعبد العزي وعبد قال قصي لعبد الدار أما والله يا بني لألحقنك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك
لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له ولا يعقد لقريش لواء إلا أنت بيدك ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك ولا يأكل أحد من أهل الحرم طعاما إلا من طعامك ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك
فأعطاه دار الندوة التي لا تقضي قريش أمرا من أمورها إلا فيها وأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة
وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب فيصنع به طعاما للحاج فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد
وذلك أن قصيا فرضها على قريش فقال لهم حين أمرهم به يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم وإن الحجاج ضيف الله وزوار بيته وهم أحق الضيف بالكرامة فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم
ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه فيصنعه طعاما للناس أيام منى فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام ثم جرى في الإسلام إلى يومنا هذا فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج
فمضى أمر قصي في عبد الدار ابنه وجعل إليه كل ما كان بيده من أمر قومه وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه
ثم إن قصيا هلك فأقام أمره في قومه وفي غيرهم بنوه من بعده

فاختطوا مكة رباعا بعد الذي كان قصي قطع لقومه بها فكانوا يقطعونها في قومهم وفي غيرهم من حلفائهم ويبيعونها
فأقامت قريش على ذلك معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع
ثم إن بني عبد مناف بن قصي عبد شمس وهاشما والمطلب ونوفلا أجمعوا أن يأخذوا ما في يدي بني عبد الدار بن قصي مما كان قصي جعل إلى عبد الدار من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم فتفرقت عند ذلك قريش فكانت طائفة منهم مع بني عبد مناف على رأيهم يرون أنهم أحق به من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم وكانت طائفة مع بني عبد الدار يرون ألا ينزع منهم ما كان قصي جعل إليهم
فكان صاحب أمر بني عبد مناف عبد شمس بن عبد مناف وذلك أنه كان أسنهم
وكان صاحب أمر بني عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار
وكانت بنو أسد بن عبد العزي بن قصي وبنو زهرة بن كلاب وبنو تيم ابن مرة بن كعب وبنو الحارث بن فهر مع بني عبد مناف
وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب وبنو جمح بن عمرو بن هصيص وبنو عدي بن كعب مع بني عبد الدار وخرجت عامر بن لؤي ومحارب بن فهر فلم يكونوا مع واحد من الفريقين
فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة
فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة ثم غمس القوم أيديهم فيها فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسموا المطيبين
وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على أن يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا فسموا الأحلاف
ثم سوند بين القبائل ولز بعضها ببعض فعبئت عبد مناف لبني سهم وعبئت بنو أسد لبني عبد الدار وعبئت زهرة لبني جمح وعبئت تيم لبني مخزوم وعبئت بنو الحارث بن فهر لبني عدي ثم قالوا لتغن كل قبيلة من أسند إليها

فبينما الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب إذ تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار كما كانت ففعلوا ورضي كل واحد من الفريقين بذلك وتحاجز الناس عن الحرب وثبت كل قوم مع من حالفوا حتى جاء الله بالإسلام فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة
فهذا حلف المطيبين
وقد كان في قريش حلف أخر بعده وهو حلف الفضول تداعت إليه قبائل من قريش فاجتمعوا إليه في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة لشرفه وسنه فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا
على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول
واختلف في السبب الذي دعا قريشا إلى هذا الحلف ولم سمي بهذا الاسم
فأما ما دعاهم إليه فذكر الزبير وغيره أن رجلا من أهل اليمن من بني زبيد قدم مكة معتمرا ومعه بضاعة له فاشتراها رجل من بني سهم ويقال أنه العاص بن وائل فلوى الرجل بحقه فسأله ماله فأبي عليه وسأله متاعه فأبى فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه فأغلظوا له فعرف أن لا سبيل إلى ماله فطوف في قبائل قريش يستعين بهم فتخاذلت القبائل عنه فلما رأى ذلك قام على الحجر ويقال بل أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها ثم نادى بأعلى صوته ثم قال
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الدار والنفر
وأشعث محرم لم يقض حرمته
بين الإله وبين الحجر والحجر
أقائم من بني سهم بذمتهم
أم ذاهب في ضلال مال معتمر
فلما سمعت ذلك قريش أعظموه وتكلموا فيه فقال المطيبون والله لئن تكلمنا في هذا ليغضبن الأحلاف وقال الأحلاف والله لئن قمنا في هذا لتغضبن المطيبون فقال ناس من قريش تعالوا فلنكن حلفا فضولا دون المطيبين ودون الأحلاف
فلذلك قيل له حلف الفضول

فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان وصنع لهم طعاما كثيرا وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ معهم قبل أن يوحى إليه فاجتمعت بنو هاشم وبنو المطلب وزهرة وأسد وتيم فتحالفوا على أن لا يظلم بمكة قريب ولا غريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه ويردوا إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم ثم عمدوا إلى ماء من ماء زمزم فجعلوه في جفنة ثم بعثوا به إلى البيت فغسلت فيه أركانه ثم أتوا به فشربوه ثم انطلقوا إلى الرجل الذي تعدى على
الرجل المستصرخ العاص بن وائل أو غيره فقالوا والله لا نفارقك حتى تؤدي إليه حقه
فأعطى الرجل حقه فمكثوا كذلك لا يظلم أحد حقه بمكة إلا أخذوه له
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت
وحكى الزبير أيضا أنه إنما سمي حلف الفضول لأنهم تحالفوا على أن لا يتركوا لأحد عند أحد فضلا إلا أخذوه
وقيل إنما سمي بذلك لأنه لما تداعى له من ذكر من قبائل قريش كره ذلك سائر المطيبين والأحلاف بأسرهم وسموه حلف الفضول عيبا له وقالوا هذا من فضول القوم
وقيل بل كان هذا الحلف على مثل حلف تقدم إليه نفر من جرهم يقال لهم الفضل و فضال و الفضيل فسمي لذلك هذا الآخر حلف الفضول
وأيا ما كان من ذلك فهي مأثرة لقريش من مآثرها الكرام وآثارها العظام نالتهم فيه بركة حضور رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فهو وإن كان فعلا جاهليا دعتهم السياسة إليه فقد صار لحضور رسول الله {صلى الله عليه وسلم} له وما قاله بعد النبوة فيه وأكده من أمره حكما شرعيا وفعلا نبويا
وقد نشأ بين حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما و بين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان زمن معاوية والوليد يومئذ أمير المدينة من قبله منازعة في مال كان بينهما بذي المروة فكأن الوليد تحامل على حسين في حقه لسلطانه فقال له حسين أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم لأدعون بحلف الفضول

فقال عبد الله بن الزبير وهو عند الوليد وأنا أحلف بالله لئن دعا به لأخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا
وبلغت المسور بن مخرمة الزهري فقال مثل ذلك
وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك
فلما بلغ ذلك الوليد أنصف الحسين من حقه حتى رضي
ولم تكن بنو عبد شمس دخلت في هذا الحلف
وقد سأل عبد الملك بن مروان عن ذلك محمد بن جبير ين مطعم إذ قدم عليه حين قتل ابن الزبير واجتمع الناس على عبد الملك بن مروان وكان محمد ابن جبير أعلم قريش فلما دخل عليه قال يا أبا سعيد ألم نكن نحن وأنتم يعني بني عبد شمس وبني نوفل ابني عبد مناف في حلف الفضول قال أنت أعلم قال عبد الملك لتخبرني يا أبا سعيد بالحق من ذلك فقال لا والله لقد خرجنا منه نحن وأنتم قال صدقت
فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول
وكانت لقريش أحلام عظام كانوا منها في جاهليتهم على مثل السلطان الضابط عناية من الله بهم ومنا منه سبحانه عليهم هم سكان الحرم وأهل الله وحجاب بيته وأهل السقاية والرفادة والرياسة واللواء والندوة ومكارم مكة وكانوا على إرث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما من قرى الضيف ورفد الحاج وتعظيم الحرم ومنعه من البغي فيه والإلحاد وقمع الظالم ومنع المظلوم
إلا أنه دخلت على أوليتهم أحداث غيرت أصول الحنيفية عندهم وطال الزمان حتى أفضى ذلك بهم إلى جهالات بشرائع الدين وضلالات عن سنن
التوحيد فتدارك الله ذلك كله بنبيه {صلى الله عليه وسلم} فهدى من الضلالة وعلم من الجهالة
فيقال أنه كان أول من غير الحنيفية دين إبراهيم ونصب الأوثان حول الكعبة ودعا إلى عبادتها عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر

روي أبو هريرة أنه سمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول لأكثم بن الجون الخزاعي يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبة في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه
فقال أكثم عسى أن يضرني بشبهه يا نبي الله قال لا لأنك مؤمن وهو كافر إنه كان أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي
فالبحيرة عند العرب الناقة تشق أذنها ولا يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف أو يتصدق به وتمهل لآلهتهم
والسائبة التي ينذر الرجل إن بريء من مرضه أو أصاب أمرا يطلبه أن يسيبها ترعى لا ينتفع بها
والوصيلة التي تلد أمها إثنين في كل بطن فيجعل صاحبها لآلهته الإناث منها ولنفسه الذكور فتلدها أمها ومعها ذكر في بطن فيقولون وصلت أخاها فيسيب أخوها معها فلا ينتفع به
والحامي الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى
ظهره فلم يركب ولم يجز وبره وخلي في إبله يضرب فيها لا ينتفع منه بغير ذلك
فلما بعث الله رسوله {صلى الله عليه وسلم} أنزل عليه ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون 103 المائدة
وذكر بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق وهم من ولد عملاق ويقال عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون قالوا هذه أصنام نعبدها ونستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا
فقال لهم أفلا تعطونني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه
فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه

قال ابن إسحاق ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسيح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيثما نزلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة
حتى سلخ ذلك بهم إلا أن كانوا يعبدون ما استحسنوه من الحجارة وأعجبهم حتى خلفت الخلوف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات
وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدى البدن والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه
فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك
فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد {صلى الله عليه وسلم} وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون 106 يوسف أي ما يوحدونني بمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي
وقد كانت لقوم نوح أصنام عكفوا عليها قص الله تبارك وتعالى خبرها على رسوله {صلى الله عليه وسلم} فقال وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا 23 نوح
وذكر الواقدي بإسناد له عن أبي هريرة أن أول ما عبدت الأصنام في زمن نوح عليه السلام وأن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كانوا رجالا صالحين من قوم نوح أهل عبادة وفضل فماتوا فوجد عليهم أهلوهم وتوحش الناس لفقدهم فقال لهم رجل ألا أصورهم لكم صورا من خشب فتنظرون إليهم وتسكنون إلى رؤيتهم قالوا بلى إن قدرت قال أنا أقدر على تصويرهم ولا أقدر أن أنفخ الروح فيهم
فجاء بالصور كهيئتهم أحياء فأخذ أهل كل بيت صورة صاحبهم فوضعوها في منزلهم ينظرون إليها فأذهب ذلك بعض حزنهم

فكانوا على ذلك ما شاء الله حتى هلك ذلك القرن ثم خلف قرن آخر ثم ثالث بعده فكانوا على ما كان عليه القرن الأول حتى هلكوا
ثم خلف القرن الرابع فقالوا لو أنا عبدنا هؤلاء لقربونا إلى الله وشفعوا لنا
عنده ولا يزيدوننا إلا خيرا إنما نريد ما يقربنا منه فعبدوها حتى هلكوا وعبدها من بعدهم
فلما غرقت الأرض زمن نوح عليه السلام غرقت تلك الأصنام فمكثت ما شاء الله أن تمكث ثم استخرجها عمرو بن لحي ففرقها في القبائل فالله تعالى أعلم
وقد خرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس موقوفا عليه في التفسير نحو ما ذكره الواقدي مختصرا أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام فلما هلكوا أوحى الشياطين إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت
قال ابن إسحاق واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره وإذا قدم من سفره تمسح به وكان أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله
فلما بعث الله رسوله محمد {صلى الله عليه وسلم} بالتوحيد قالت قريش أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب 5 ص
وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب وتهدي إليها كما تهدي للكعبة وتطوف بها كطوافها وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده
وسيمر في تضاعيف هذا الكتاب بعض أخبار هذه الطواغيت وكيف جعل الله عاقبة أمرها خسرا فأزهق الحق باطلها وعفي الإسلام أثارها وأكمل الله تعالى دينه وتمم نوره ونعمته ونصر دين الهدى والحق فأظهره على الدين كله

ومع إصفاق العرب مضرها ويمنها على هذا الضلال فقد كان وقع إلى بعضهم باليمن دين اليهودية فدانوا به ووقع أيضا دين النصرانية بنجران من أرض العرب على ما نذكره
فأما موقع اليهودية باليمن فمن جهة تبع الآخر وهو تبان أسعد أبو كرب بن كلكي كرب بن زيد وهو تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار
وتبان أسعد هو الذي قدم المدينة وساق الحبرين من يهود إلى اليمن وعمر البيت الحرام وكساه
وكان قد جعل طريقه حين أقبل من المشرق على المدينة وكان قد مر بها في بدأته فلم يهج أهلها وخلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها
فجمع له هذا الحي من الأنصار ورئيسهم عمرو بن ظلة أخو بني النجار
وقد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال له أحمر عدا على رجل من أصحاب تبع حين نزل بهم فقتله وذلك أنه وجده في عذق له يجده فضربه بمنجله فقتله وقال إنما التمر لمن أبره فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم
فاقتتلوا فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم ويقول والله إن قومنا لكرام
فبينا تبع على ذلك من حربهم إذ جاءه حبران من أحبار يهود من بني قريظة عالمان راسخان حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالا له أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ولم نأمن عليك عاجل العقوبة فقال لهما ولم ذلك قالا هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره
فتناهى ورأى أن لهما علما وأعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما
وهذا الحي من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تبع على هذا الحي من يهود الذين كانوا بين أظهرهم وإنما أراد هلاكهم فمنعوهم منه ثم انصرف عنهم ولذلك قال في شعره
حنقا على سبطين حلا يثربا
أولى لهم بعقاب يوم مفسد
وذكر ابن هشام أن الشعر الذي فيه هذا البيت مصنوع

وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها فوجه إلى مكة وهي طريقه إلى اليمن حتى إذا كان بين غسفان وأمج أتاه نفر من هذيل بن مدركة فقالوا له أيها الملك ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة قال بلى قالوا بيت بمكة يعبده أهله ويصلون عنده
وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده
فلما أجمع لما قالوا أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك فقالا ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك وما نعلم بيتا لله اتخذه في الأرض لنفسه غيره ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا
قال فماذا تأمراني أن أصنع إذا قدمت عليه قالا تصنع عنده ما يصنع أهله تطوف به وتعظمه وتكرمه وتحلق رأسك عنده وتذلل له حتى تخرج من عنده
قال فما يمنعكما أنتما من ذلك قالا أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يهريقون عنده وهم نجس أهل شرك أو كما قالا له
فعرف نصحهما وصدق حديثهما فقرب النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم
ثم مضى حتى قدم مكة فطاف بالبيت ونحر عنده وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل
وأري في المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملاء والوصائل
فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت
وأوصى به ولاته من جرهم وأمرهم بتطهيره وأن لا يقربوه دما ولا ميتة ولا مئلاة وهي المحائض وجعل له بابا ومفتاحا
ثم خرج موجها إلى اليمن بمن معه من جنوده وبالحبرين حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن
ويقال إنه لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا

فدعاهم إلى دينه وقال إنه خير من دينكم
قالوا فحاكمنا إلى النار
قال نعم وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه تأكل الظالم ولا تضر المظلوم
فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه فخرجت النار عليهم فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها فذمرهم من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير
وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما لم تضرهما
فأصفقت عند ذلك حمير على دينه
من هنالك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن
قال ابن إسحاق وقد حدثني محدث أن الحبرين ومن خرج من حمير إنما اتبعوا النار ليردوها وقالوا من ردها فهو أولى بالحق فدنا منها رجال حمير بأوثانهم ليردوها فدنت منهم لتأكلهم وحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها ودنا منها الحبران بعد ذلك وجعلا يتلوان التوراة وتنكص عنهما حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه
فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما فالله أعلم أي ذلك كان
وكان رئام بيتا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه إذ كانوا على شركهم فقال الحبران لتبع إنما هو شيطان يفتنهم فخل بيننا وبينه قال فشأنكما به فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلبا أسود فذبحاه ثم هدما ذلك البيت
قال ابن إسحاق فبقاياه اليوم كما ذكر لي بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه وتبع هذا هو أحد الملوك الذين وطئوا البلاد ودوخوا الأرض ودانت لهم الممالك
ويقال إنه المسمى في قوله تعالى أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم 37 الدخان
وذلك لأنه لما آمن في أخر عمره ووحد خالفته حمير فتفرقوا عنه فانتقم الله منهم
وحكى الحسن بن أحمد الهمداني أنه أول ملك بشر برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وآمن به وهو رتب الملوك وأبناء الملوك من قومه في قبائل العرب والعجم ومدائنها

و أمصارها وكان لكل قبيلة من العرب ولكل حي من العجم ملك من قومه إما حميري وإما كهلاني يسمع له ويطاع
ويذكر انه جمع الملوك وأبناء الملوك والأقاول وأبناء الأقاول من قومه وقال لهم
أيها الناس إن الدهر نفد أكثره ولم يبقى إلا أقله وإن الكثير إذا قل إلى النقصان أجرى منه إلى الزيادة سارعوا إلى المكارم فإنها تقربكم إلى الفلاح واعملوا على أنه من سلم من يومه لم يسلم من غده ومن سلم من الغد لا يسلم مما بعده وإنكم لتؤوبون مآب الآباء والأجداد وتصيرون إلى ما صاروا إليه والموت كل يوم أقرب إلى المرء من حياته منه ولكل زمان أهل ولكل دائرة سبب وسبب عطلان هذه الفترة التي من عز فيها بز من هو دونه ظهور نبي يعز الله به دينه ويخصه بالكتاب المبين على يأس من المرسلين رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين فليكن ذلك عندكم وعند أبنائكم بعدكم وأبناء أبنائكم قرنا فقرنا وجيلا فجيلا ليتوقعوا ظهوره وليؤمنوا به وليجتهدوا في نصره على كافة الأحياء حتى يفيء الناس له إلى أمر الله
وأنشد له
شهدت على أحمد أنه
رسول من الله باري النسم
فلو مد دهري إلى دهره
لكنت وزيرا له وابن عم
وألزمت طاعته كل من
على الأرض من عرب أوعجم
ولكن قولي له دائما
سلام على أحمد في الأمم )
في أبيات ذكرها وأشعار غير هذا أثبت في إكليله كثيرا منها
قال وذكروا أن الملوك وأبناء الملوك من حمير وكهلان لم تزل تتوقع ظهور النبي {صلى الله عليه وسلم} وتبشر به وتوصي بالطاعة له والإيمان به والجهاد معه والقيام بنصره منذ ذلك العصر إلى أن ظهر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكانوا بذلك حين بعث من أحرص الناس على نصره وطاعته
فمنهم من سمع له وأطاع وآمن به قبل أن يراه ومنهم من وصل إليه كتابه فسمع وأطاع وآمن وصدق ومنهم من آواه ونصره وأيده وجاهد في سبيل الله دونه

نطق بذلك الكتاب المنير في قوله والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة 9 الحشر
وقوله تبارك وتعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم إلى أخر الآية 54 - 55 المائدة
قال الهمداني عن أبي الحسن الخزاعي يقال إنهم همدان
ثم أشار إلى ذكر سيف بن ذي يزن للنبي {صلى الله عليه وسلم} وما ألقاه من أمره إلى جده عبد المطلب عند وفادته عليه
قال وذكروا أنه لم يكن لسيف بن ذي يزن ذلك العلم في قصة النبي {صلى الله عليه وسلم} إلا من جهة تبع وما تناهي إليه مما كان ألقاه إليهم وعرفهم به من خبر النبي {صلى الله عليه وسلم}
وسنذكر خبر سيف هذا في موضعه إن شاء الله
وأما موقع النصرانية بأرض العرب فقد كان بنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم على الإنجيل أهل فضل واستقامة من أهل دينهم لهم رأس يقال له عبد الله بن الثامر وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها أن رجلا من بقايا أهل ذلك الدين يقال له فيميون وقع بين أظهرهم فحملهم عليه فدانوا به
فحدث وهب بن منبه أن فيميون كان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة وكان سائحا ينزل القرى لا يعرف في قرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف بها وكان لا يأكل إلا من كسب يده وكان بناء يعمل الطين وكان يعظم الأحد فإذا كان يوم الأحد لم يعمل فيه شيئا وخرج إلى فلاة من الأرض فصلى فيها حتى يمسي

قال وكان في قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا ففطن لشأنه رجل من أهلها يقال له صالح فأحبه صالح حبا لم يحب شيئا كان قبله مثله فكان يتبعه حيث ذهب ولا يفطن له فيميون حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع وقد أتبعه صالح وفيميون لا يدري فجلس صالح منه منظر العين مستخفيا منه لا يحب أن يعلم بمكانه وقام فيميون يصلي فبينا هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين الحية ذات الرءوس السبعة فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت ورآها صالح ولم يدر ما أصابها فخاف عليه فعيل عوله فصرخ يا فيميون التنين قد أقبل نحوك
فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى فرغ منها
وأمسى فانصرف وعرف أنه قد عرف وعرف صالح أنه قد رأى مكانه فقال له يا فيميون تعلم والله أني ما أحببت شيئا قط حبك وقد أردت صحبتك والكينونة معك حيثما كنت
قال ما شئت أمري كما ترى فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم
فلزمه صالح وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه وكان إذا ما جاءه العبد به الضر دعا له فشفي وإذا دعي إلى أحد به ضر لم يأته وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير فسأل عن شأن فيميون فقيل له أنه لا يأتي أحدا دعاه ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجر فعمد الرجل إلى ابنه ذلك فوضعه في حجرته وألقى عليه ثوبا ثم جاءه فقال يا فيميون
إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملا فانطلق معي حتى تنظر إليه فأشارطك عليه
فانطلق معه حتى دخل حجرته ثم قال له ما تريد أن تعمل في بيتك هذا قال كذا وكذا ثم انتشط الثوب عن الصبي وقال يا فيميون عبد من عباد الله أصابه ما ترى فادع الله له
فدعا له فيميون فقام الصبي ليس به بأس
وعرف فيميون أنه قد عرف فخرج من القرية واتبعه صالح فبينا هو يمشي في بعض الشام إذ مر بشجرة عظيمة فناداه منها رجل فقال يا فيميون ما زلت أنتظرك وأقول متى هو جاء حتى سمعت صوتك فعرفت أنك هو لا تبرح حتى تقوم علي فإني ميت الآن
قال فمات وقام عليه حتى واراه

ثم انصرف ومعه صالح حتى وطئا بعض أرض العرب فاحتفظتهما سيارة من بعض العرب فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران وأهل نجران يومئذ على دين العرب يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم لها عيد في كل سنة إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحلى النساء ثم خرجوا إليها فعكفوا عليها يوما
فابتاع فيميون رجل من أشرافهم وابتاع صالحا أخر فكان فيميون إذا قام من الليل يصلي في بيت أسكنه إياه سيده استسرج له البيت نورا حتى يصبح من غير مصباح فرأى ذلك سيده فأعجبه ما يرى منه فساله عن دينه فأخبره به وقال له فيميون إنما أنتم في باطل إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع لو دعوت عليها إلهي الذي أعبد أهلكها وهو الله وحده لا شريك له فقال له سيده فافعل فإنك إن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه
فقام فيميون فتطهر وصلى ركعتين ثم دعا الله عليها فأرسل الله ريحا فجعفتها من أصلها فألقتها
فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه فحملهم على الشريعة من دين عيسى ابن مريم عليه السلام ثم دخلت عليهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض فمن هنالك كانت النصرانية بنجران فيما ذكر وهب بن منبه في حديثه هذا
وأما محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران فذكروا أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان وكان في قرية من قراها ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر فلما نزلها فيميون ولم يسمه محمد بن كعب ولا شركاؤه في الحديث قالوا رجل نزلها ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر فبعث الثامر ابنه عبد الله مع غلمان أهل نجران فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم فوحد الله وعبده وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم وكان يعلمه فكتمه إياه فقال يا بن أخي إنك لن تحمله أخشى عليك ضعفك عنه

والثامر أبو عبد الله بن الثامر لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان
فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه عمد إلى قداح فجمعها ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح لكل اسم قدح حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا حتى إذا مر بذلك الاسم الأعظم قذف فيها بقدحه فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا فأخذه ثم أتى صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الذي كتمه فقال وما هو
قال هو كذا وكذا قال وكيف علمته فأخبره بما صنع قال أي ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك وما أظن أن تفعل
فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال له يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني فأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء فيقول نعم فيوحد الله ويسلم ويدعو له فيشفي
حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي
حتى رفع شأنه إلى ملك نجران فدعاه فقال أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأمثلن بك
قال لا تقدر على ذلك
فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ليس به بأس وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يقع فيها أحد فيها إلا هلك فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس
فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر إنك والله لاتقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به فإنك إن فعلت سلطك الله علي فقتلتني
فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن الثامر ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله وهلك الملك مكانه
واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر وكان على ما جاء به عيسى من الإنجيل وحكمه ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث
فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران
قال ابن إسحاق فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر فالله أعلم أي ذلك كان

وحديث عبد الله بن الثامر هذا قد ورد في الصحيح مرفوعا إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} من طرق ثابتة خرجه مسلم بن الحجاج من حديث صهيب وبينه وبين حديث ابن إسحاق اختلاف وفيه مع ذلك زوائد تحسن لأجلها إعادة الحديث
فروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر
فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر
فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب افضل
فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس
فرماها وقتلها ومضى الناس
فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي
وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس سائر الأدواء فسمع به جليس للملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني
قال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فإن أمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله
فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك قال ربي قال ولك رب غيري قال ربي وربك الله
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والأبرص وتفعل و تفعل فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب
فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه

ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه
ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به وصعدوا به الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا
وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله
فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقورة فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك
فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله
فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به
قال وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني
فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم
وضع السهم في كبد القوس ثم قال باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات
فقال الناس آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام
فأتي الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس
فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه يعني فأقحموه فيها أو قيل له اقتحم
ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق
فهذا حديث مسلم عن عبد الله بن الثامر وأهل نجران وإن وقعت الأسماء فيه مبهمة فقد فسرها العلماء بما ورد من ذلك مبينا في حديث ابن إسحاق وغيره وجعلوا ذلك كله حديثا واحدا

وذكر ابن إسحاق أنه لما كان من اجتماع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر ما تقدم الحديث به سار إليهم ذو نواس بجنوده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بينها وبين القتل فاختاروا القتل فخد لهم الأخدود فحرق بالنار وقتل بالسيف ومثل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا ففي ذي نواس وجنده ذلك أنزل الله على نبيه محمد {صلى الله عليه وسلم} قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد إلى أخر الآيات
والأخدود هنا هو الحفر المستطيل في الأرض كالخندق والجدول ويقال أيضا لأثر السيف والسوط والسكين ونحوه في الجلد أخدود
قال ابن إسحاق ويقال كان فيمن قتل ذو نواس عبد الله بن الثامر رأسهم وإمامهم
وحدث عن عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أن رجلا من أهل نجران حفر خربة من خرب نجران في زمن عمر بن الخطاب فوجدوا عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعدا واضعا يده على ضربة في رأسه ممسكا عليها بيده فإذا أخرت يده عنها تثعبت دما وإذا أرسلت يده ردها عليها فأمسك دمها في يده خاتم مكتوب فيه ربي الله فكتب فيه إلى عمر فكتب إليهم أن أقروه على حاله وردوا عليه الدفن الذي كان عليه ففعلوا
وذو نواس هذا هو زرعة بن تبان أسعد أبي كرب وهو تبع الآخر وقد تقدم خبره وابنه زرعة ذو نواس هذا كان من صغار بنيه وصار إليه ملك اليمن وأمر حمير بعد أبيه بزمان
وذلك أنه ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة ربيعة بن نضر بن أبي حارثة ابن عمرو بن عامر وكان من سادات اليمن وأهل الشرف منها
وهو صاحب الرؤيا التي يعرف من تأويلها استيلاء الحبشة على اليمن والشارة بظهور النبي {صلى الله عليه وسلم}

وذلك أنه رأى رؤيا هالته وفظع بها فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه فقال لهم إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبروني بها وبتأويلها قالوا اقصصها علينا نخبرك بتأويلها قال إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها إنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها
فقال له رجل منهم فإن كان الملك يريد هذا فلبيعث إلى سطيح وشق فإنه ليس أحد أعلم منهما فهما يخبرانه بما سأل عنه
فبعث إليهما فقدم عليه سطيح قبل شق فقال إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها
فقال أفعل رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة فقال له الملك ما أخطأت منها شيئا يا سطيح فما عندك في تأويلها
فقال أحلف ما بين الحرتين من حنش ليهبطن أرضكم الحبش فليملكن ما بين أبين إلى جرش
فقال الملك وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده قال لا بل بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين
قال أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع قال بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ثم يقاتلون ويخرجون منها هاربين
قال ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم قال يليه إرم بن ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن
قال أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع قال بل ينقطع
قال ومن يقطعه قال نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي
قال ومن هو هذا النبي
قال رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر
قال وهل للدهر من آخر قال نعم يوم يجمع فيه الأولون والآخرون يسعد فيه المحسنون ويشقى فيها المسيئون
قال أحق ما تخبرني قال نعم والشفق والغسق والقمر إذا اتسق إن ما أنبأتك لحق
ثم قدم عليه شق فقال له كقوله لسطيح وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان
قال نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة

فلما قال له ذلك عرف أن قد اتفقا وأن قولهما واحد إلا أن سطحيا قال بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة وقال شق وقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة
فقال الملك ما أخطأت يا شق منها شيئا فما عندك في تأويلها قال أحلف بما بين الحرتين من إنسان ليهبطن أرضكم السودان فليغلبن على كل طفلة البنان وليملكن ما بين أبين إلى نجران
فقال له الملك وأبيك يا شق إن هذا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده فقال لا بل بعده بزمان ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان ويذيقهم أشد الهوان
قال ومن هذا العظيم الشأن قال غلام ليس بدني ولا مدن يخرج من بيت ذي يزن
قال أفيدوم سلطانه أم ينقطع
قال بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل
قال وما يوم الفصل قال يوم يجزى فيه الولاة يدعى فيه من السماء بدعوات يسمع منها الأحياء والأموات ويجمع فيه الناس للميقات يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات
قال أحق ما تقول قال إي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض إن ما أنبأتك لحق ما فيه أمض
فوقع في نفس ربيعة بن نضر ما قالا فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق ما يصلحهم وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاد فأسكنهم الحيرة
فمن بقية ولد ربيعة بن نضر فيما يزعمون النعمان بن المنذر فهو في نسب اليمن وعلمهم النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نضر ذلك الملك
وقد تقدم قول من قال من العلماء أن النعمان من ولد قنص بن معد وقد قيل أيضا إن النعمان من ولد الساطرون صاحب الحضر وهو حصن عظيم كالمدينة على شاطئ الفرات وهو الذي ذكره عدي بن زيد في قوله
وأخو الحضر إذا بناه وإذ دجلة
تجبي إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلسا
فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد الملك
عنه فبابه مهجور
وأما شق وسطيح فإن شقا هو ابن صعب بن يشكر من بني أنمار بن نزار أبي بجيلة وخثعم

وكان شق إنسان فيما زعموا إنما له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحد ولذلك سمي بشق
وسطيح هو ربيع بن ربيعة من بني ذبيان بن عدي بن مازن بن غسان وكانت العرب تسميه الذيبي وإياه عني ميمون بن قيس الأعشى بقوله
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها
حقا كما نطق الذيبي إذ سجعا
وإنما قيل له سطيح لانه كان جسدا ملقى له رأس وليس له جوارح فيما ذكروا
وكان لا يقدر على الجلوس فإذا غضب انتفخ وجلس
وذكر أنه قيل له أني لك هذا العلم فقال لي صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء حين كلم الله منه موسى عليه السلام فهو يؤدي إلي من ذلك ما يؤديه وعاش سطيح بعد هذا الحديث زمانا طويل حتى أدرك مولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فذكر الخطابي وغيره من حديث هانئ بن هانئ المخزومي وأتت عليه مائة وخمسون سنة أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ارتجس إيواء كسرى فسقط منه أربع عشر شرفة وغاضت بحيرة ساوة وفاض وادي السماوة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك ألف عام وأري الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها
فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك فصبر عليه تشجعا حتى إذا عيل صبره رأى ألا يدخر ذلك عن قومه ومرازبته فلبس تاجه وقعد على سريره ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده قال أتدرون فيم بعثت فيكم قالوا لا إلا أن يخبرنا الملك
فبينا هم كذلك إذ ورد عليه كتاب بخمود النار فازداد غما إلى غمه
ثم أخبر بما رأى وما هاله من ذلك فقال الموبذان وأنا أصلح الله الملك قد رأيت في هذه الليلة رؤيا ثم قص عليه رؤياه في الإبل فقال أي شيء يكون هذا يا موبذان قال حدث يكون من ناحية العرب وكان أعلمهم في أنفسهم
فكتب عند ذلك كسرى إلى النعمان بن المنذر أن يوجه إليه برجل عالم بما يريد أن يسأله عنه فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني

فلما قدم عليه قال له الملك ألك علم بما أريد أن أسألك عنه قال ليخبرني الملك عما أحب فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلمه
فأخبره بالذي وجه إليه فيه فقال له علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح قال فائته فسله عما سألتك عنه ثم أئتني بتفسيره
فخرج عبد المسيح حتى أتى إلى سطيح وقد أشفى على الموت فسلم عليه وكلمه فلم يرد عليه سطيح جوابا فأنشأ عبد المسيح يقول
أصم أم يسمع غطريف اليمن
أم فاد فازلم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن
اتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن حجن
أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم ينمى للوسن
لا يرهب الوغد ولا ريب الزمن
تجوب بي الأرض علنداة شزن
ترفعني وجنا وتهوى فيه وجن
حتى أتى عاري الجآحي والقطن
تلفه في الريح بوغاء الدمن
فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول عبد المسيح أتى إلى سطيح على جمل مشيح وقد أوفى على الضريح بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها
عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت
ثم قضى سطيح مكانه فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بمقالة سطيح فقال إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا قد كانت أمور
فملك منهم عشرة إلى أربع سنين وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه
فلما هلك ربيعة بن نصر رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب فسار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم حتى إذا كان بأرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن المسير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهلهم فكلموا أخا له يقال له عمرو وكان معه في جيشه فقالوا له أقتل أخاك حسان ونملكك علينا وترجع بنا إلى بلادنا فأجابهم

فاجتمعوا على ذلك إلا ذورعين الحميري فإنه نهاه عن ذلك ولم يقبل منه فقال ذورعين الحميري
ألا من يشتري سهرا بنوم
سعيد من يبيت قرير عين
فإما حمير غدرت وخانت
فمعذرة الإله لذي رعين
ثم كتبهما في رقعة وختم عليها ثم أتى بها عمرا فقال له ضع لي هذا الكتاب عندك ففعل
ثم قتل عمرو أخاه حسان ورجع بمن معه إلى اليمن
فلما نزل اليمن منع منه النوم وسلط عليه السهر فلما جهده ذلك سأل الأطباء والحزاة من الكهان والعرافين عما به فقال له قائل منهم إنه والله ما قتل رجل أخاه أو ذا رحمة بغيا على مثل ما قتلت أخاك عليه إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر
فلما قيل له ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف اليمن حتى خلص إلى ذي رعين
فقال له ذو رعين إن لي عندك براءة قال وما هي قال الكتاب الذي دفعت إليك
فأخرجه فإذا فيه البيتان فتركه ورأى أنه قد نصحه
وهلك عمرو فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة يقال له لخنيعة ينوف ذو شناتر فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم فقال قائل من حمير
تقتل أبناها وتنفي سراتها
وتبني بأيديها لها الذل حمير
تدمر دنياها بطيش حلومها
وما ضيعت من دينها فهو أكثر
كذاك القرون قبل ذاك بظلمها
وإسرافها تأتي الشرور فتخسر
وكان لخنيعة امرءا فاسقا يعمل عمل قوم لوط فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك لئلا يملك بعد ذلك ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه وجنده قد أخذ مسواكا فجعله في فيه علامة للفراغ من خبيث فعله

حتى بعث إلى زرعة ذي نواس بن تبان أسعد أخي حسان وكان صبيا صغيرا حين قتل حسان ثم شب غلاما جميلا وسيما ذات هيئة وعقل فلما أتاه رسوله عرف ما يريد به فأخذ سكينا حديدا لطيفا فخبأه بين قدمه ونعله ثم أتاه فلما خلا معه وثب إليه فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله ثم حز رأسه فوضعه في الكوة التي كان يشرف منها ووضع مسواكه في فيه ثم خرج على الناس فسألوه فأشار لهم إلى الرأس فنظروا فإذا رأس لخنيعة مقطوع فخرجوا في أثر ذي نواس حتى أدركوه فقالوا ما ينبغي أن يملكنا غيرك إذ أرحتنا من هذا الخبيث
فملكوه واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن فكان آخر ملوك حمير ويسمى يوسف فأقام في ملكه سنين
قال ابن قتيبة ثمانيا وستين سنة
إلى أن كان منه في أهل نجران ما تقدم ذكره فكان ذلك سببا لاستئصال ملكه واستيلاء الحبشة على اليمن

ذكر دخول الحبشة أرض اليمن واستيلائهم على ملكها وذكر السبب في ذلك مع ما يتصل به من أمر الفيل
ولما انتهى زرعة ذو نواس إلى ما انتهى إليه بأهل نجران من التحريق والقتل أفلت منهم رجل من سبأ يقال له دوس ذو ثعلبان على فرس له فسلك الرمل فأعجزهم فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر صاحب الروم فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما بلغ منهم فقال له بعدت بلادك منا ولكني سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين وهو أقرب إلى بلادك
فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره
فقدم دوس على النجاشي بكتاب قيصر فبعث معه سبعين ألفا من الحبشة وأمر عليهم رجلا منهم يقال له أرياط ومعه في جنده أبرهة الأشرم فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ومعه دوس فسار إليه ذو نواس في حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه إلى البحر ثم ضربه فدخل به فخاض به ضحضاح البحر حتى أفضى به إلى غمره فأدخله فيه فكان آخر العهد به
ودخل أرياط اليمن فملكها

فأقام بها سنين في سلطانه ذلك ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي حتى تفرقت الحبشة عليهما فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم ثم سار أحدهما إلى الآخر فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط أنك لا تصنع بأن تلقي الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا فأبرز لي وأبرز لك فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده فأرسل إليه أرياط أنصفت
فخرج إليه أبرهة وكان رجلا قصيرا لحيما وكان ذا دين في النصرانية وخرج إليه أرياط وكان رجلا عظيما جميلا طويلا وفي يده حربة له وخلف أبرهة غلام له يقال له عتودة يمنع ظهره فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته فبذلك سمى أبرهة الأشرم
وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله
فانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن وودى أبرهة أرياط
فلما بلغ ذلك النجاشي غضب غضبا شديدا وقال عدا على أميري فقتله بغير أمري ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته
فحلق ابرهة رأسه وملأ جرابا من تراب اليمن ثم بعث به إلى النجاشي وكتب إليه أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك اختلفنا في أمرك وكل طاعته لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة واضبط لها وأسوس منه وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه في
فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري
فأقام بها ثم إن أبرهة بني القليس بصنعاء فبني كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ثم كتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب

فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من النسأة أحد بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة فخرج حتى أتى القليس فأحدث فيها ثم لحق بأرضه فأخبر بذلك أبرهة فقال من صنع هذا فقيل له رجل من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة لما سمع قولك أصرف إليها حج العرب غضب فجاء فقعد فيها أي أنها ليست لذلك بأهل
فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه
ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ثم ساروا وخرج معه بالفيل
وسمعت بذلك العرب فأعظموه و فظعوا به ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام
فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله وما يريد من هدمه و إخرابه
فأجابه من أجابه إلى ذلك ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر وأصحابه وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا فلما أراد قتله قال له ذو نفر أيها الملك لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلى
وكان أبرهة رجلا حليما فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به فلما هم بقتله قال له نفيل أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب وهاتان يداي لك على قبيلي خثعم شهران وناهس بالسمع والطاعة
فخلى سبيله وخرج به معه يدله
حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب بن مالك الثقفي في رجال ثقيف فقالوا له أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد يعنون اللات إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه

فجاوز عنهم واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة فبعثوا معه أبا رغال يدل على الطريق إلى مكة
فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فرجمت قبره العرب فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس
فلما نزل ابرهة المغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وهو يومئذ كبير قريش وسيدها
فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له سل عن سيد أهل هذا البلد و شريفهم ثم قل له إن الملك يقول لك إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يرض حربي فائتني به
فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها فقيل له عبد المطلب بن هاشم
فجأه فقال له ما أمر به أبرهة فقال له عبد المطلب والله ما نريد حربه وما لنا بذلك منه طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم أو كما قال فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمته وإن يخل بينه وبينه فوا لله ما عندنا دفع عنه فقال حناطة فانطلق إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك
فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى المعسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا حتى دخل عليه في محبسه فقال له يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا فقال له ذو نفر وما غناء رجل أسير في يدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي فسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك قال حسبي

فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والوحوش في رءوس الجبال وقد أصاب له الملك مائتي بعير فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت قال أفعل
فكلم أنيس أبرهة قال له أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك فأذن له فليكلمك في حاجته
ووصفه له بما وصفه ذو نفر لأنيس
فأذن له أبرهة وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجمله وأعظمه فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال لترجمانه قل له حاجتك فقال له ذلك الترجمان فقال حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه قل
له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه
قال عبد المطلب أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه قال ما كان ليمتنع مني قال أنت وذاك
ويزعم بعض أهل العلم أنه كان ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد بني بكر وخويلد بن واثلة الهذلي وهو يومئذ سيد هذيل فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم فالله أعلم أكان ذلك أم لا
فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفا عليهم من معرة الجيش
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده
فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة
لا هم إن العبد يمنع
رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم
و محالهم غدوا محالك

ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبي جيشه وكان اسم الفيل محمودا وأبرهة مجمع لهدم البيت والانصراف إلى اليمن فلما وجهوا الفيل إلى مكة قام نفيل بن حبيب إلى جنب الفيل ثم أخذ بأذنه فقال له ابرك محمود وارجع
راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل
وضربوا الفيل ليقوم فأبي وضربوه في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك
وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك وليس كلهم أصابت
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته
أين المفر والإله الطالب
والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال نفيل أيضا
ألا حييت عنا يا ردينا
نعمناكم مع الإصباح عينا
ردينة لو رأيت ولا تريه
لدى جنب المحصب ما رأينا
إذا لعذرتني وحمدت أمري
ولم تأسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا
وخفت حجارة تلقى علينا
فكل القوم يسأل عن نفيل
كأن علي للحبشان دينا
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة كلما سقطت أنملة منها أتبعتها مدة تمث قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون

ويقال أنه أول ما رئيت الحصبة و الجدرى بأرض العرب ذلك العام وإنه أول ما رئي بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام
فلما بعث الله محمدا {صلى الله عليه وسلم} كان مما يعد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم فقال تبارك وتعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل الم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول
وقالت عائشة رضي الله عنها لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان
قال ابن إسحاق فلما رد الله الحبشة عن مكة وأصابهم ما أصابهم به من النقمة أعظمت العرب قريشا وقالوا هم أهل الله قاتل الله عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم فقالوا في ذلك أشعارا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة وما رد عن قريش من كيدهم فقال عبد الله بن الزبعري السهمي
تنكلوا عن بطن مكة إنها
كانت قديما لا يرام حريمها
لم تخلق الشعري ليالي حرمت
إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الحبش عنها ما رأى
ولسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم
بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
كانت بها عادوجرهم قبلهم
والله من فوق العباد يقيمها
وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري ثم الخطمي من قصيدة سيأتي ذكرها بجملتها
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا
بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء مصدق
غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمشي ورجله
على القاذفات في رءوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم
جنود المليك بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب
إلى قومه ملحبش غير عصائب
وقالت سبيعة بنت الأحب بن زبينة من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن ابن منصور لابنها خارجة بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة تعظم عليه حرمة مكة وتنهاه عن البغي فيها وتذكر تبعا وتذلله لها والفيل وهلاك جيشه عندها
أبني لا تظلم بمكة
لا الصغير ولا الكبير
واحفظ محارمها بني
ولا يغرنك الغرور

أبني من يظلم بمكة
يلق أطراف الشرور
أبني يضرب وجهه
ويلح بخديه السعير
أبني قد جربتها
فوجدت ظالمها يبور
الله آمنها وما
بنيت بعرصتها قصور
والله آمن طيرها
و العصم تأمن في ثبير
ولقد غزاها تبع
فكسا بنيتها الحبير
وأذل ربي ملكه
فيها فأوفى بالنذور
يمشي إليها حافيا
بفنائها ألفا بعير
ويظل يطعم أهلها
لحم المهارى والجزور
يسقيهم العسل المصفي
والرحيض من الشعير
والفيل أهلك جيشه
يرمون فيهابالصخور
والملك في أقصى البلاد
وفي الأعاجم و الجزير
فاسمع إذا حدثت وافهم
كيف عاقبة الأمور
ولم يزل شعراء أهل الجاهلية يذكرون ذلك في أشعارهم معتدين بصنع الله فيه وقد جرى على ذلك شعراء الإسلام فقال الفرزدق بن غالب التميمي يمدح سليمان بن عبد الملك بن مروان ويعرض للحجاج بن يوسف ويذكر الفيل وجيشه
فلما طغى الحجاج حين طغى به
غنى قال إني مرتق في السلالم
فقال كما قال ابن نوح سأرتقى
إلى جبل من خشية الماء عاصم
رمى الله في جثمانه مثل ما رمى
عن القبلة البيضاء ذات المحارم
جنودا تسوق الفيل حتى أعادهم
هباء وكانوا مطرخمي الطراخم
نصرت كنصر البيت إذ ساق فيله
إليه عظيم المشركين الأعاجم
قال ابن إسحاق فلما هلك أبرهة ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة وبه كان يكنى فلما هلك يكسوم ملك اليمن في الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة
فلما طال البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري حتى قدم على قيصر ملك الروم فشكا إليه ما هم فيه وسأله أن يخرجهم عنه ويليهم هو ويبعث إليهم من شاء من الروم فلم يشكه
فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق فشكا إليه أمر الحبشة فقال له النعمان إن لي على كسرى وفادة في كل عام فأقم حين يكون ذلك ففعل

ثم خرج معه فأدخله على كسرى وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه وكان تاجه مثل القلنقل العظيم فيما يزعمون يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك وكانت عنقه لا تحمل تاجه إنما يستر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك ثم يدخل رأسه في تاجه فإذا استوى في مجلسه كشفت عنه الثياب فلا يراه رجل لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له
فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن برك وقيل إنه لما دخل عليه طأطأ رأسه فقال الملك إن هذا لأحمق يدخل علي من هذا الباب الطويل ثم يطأطئ رأسه
فقيل ذلك لسيف فقال إنما فعلت هذا لهمي لأنه يضيق عنه كل شيء
ثم قال أيها الملك غلبنا على بلادنا الأغربة
فقال كسرى أي الأغربة الحبشة أم السند
قال بل الحبشة فجئتك لتنصرني ويكون ملك بلادي لك
قال بعدت بلادك مع قلة خيرها فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب لا حاجة لي بذلك
ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف وكساه كسوة حسنة
فلما قبض ذلك سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس
فبلغ ذلك الملك فقال إن لهذا لشأنا
ثم بعث إليه فقال عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس فقال وما أصنع بهذا ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة يرغبه فيها
فجمع كسرى مرازبته فقال ماذا ترون في أمر هذا الرجل وما جاء له فقال قائل أيها الملك إن في سجونك رجالا حبستهم للقتل فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت وإن ظفروا كان ملكا ازددته
فبعث معه كسرى من كان في سجونه وكانوا ثمانمائة رجل واستعمل عليهم رجلا منهم يقال له وهرز وكان ذا سن فيهم وأفضلهم حسبا وبيتا فخرجوا في ثمان سفائن فغرقت سفينتان ووصلت إلى ساحل عدن ست سفائن
فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له رجلي مع رجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا قال وهرز أنصفت
وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع إليه جنوده فأرسل إليهم

وهرز ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم فقتل ابن وهرز فزاده ذلك حنقا عليهم
فلم تواقف الناس على مصافهم قال وهرز أروني ملكهم قالوا له أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء قال نعم قالوا ذلك ملكهم قال اتركوه
فوقفوا طويلا ثم قال علام هو قالوا قد تحول على الفرس قال أتركوه
فوقفوا طويلا ثم قال علام هو قالوا على البغلة قال وهرز بنت الحمار ذل وذل ملكه إني سأرميه فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم فإني قد أخطأت الرجل وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاثوا به فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم
ثم أوتر قوسه وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها وأمر بحاجبيه فعصبا له ثم رمى فصك الياقوتة التي بين عينيه فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه ونكس عن دابته واستدارت الحبشة ولاثت به وحملت عليهم الفرس وانهزموا فقتلوا وهربوا في كل وجه
وأقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى إذا أتى بابها قال لا تدخل رايتي منكسة أبدا اهدموا الباب فهدم ثم دخلها ناصبا رايته
وقال في ذلك أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي وتروى لابنه أمية بن أبي الصلت
ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن
مذيم في البحر للأعداء أحوالا
يهم قيصر لما حاز رحلته
فلم يجد عنده بعض الذي سالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم
إنك عمري لقد اسرعت قلقالا
لله درهم من عصبة خرجوا
ما إن أرى لهم في الناس أمثالا
بيضا مرازبة غلبا أساورة
أسدا تربب في الغيضات أشبالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد
أضحى شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا
في رأس غمدان دارا منك محلالا
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم
وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وأقام وهرز والفرس باليمن فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم

وكان ملك الحبشة باليمن منذ دخلها أرياط إلا أن أخرجتهم الفرس عنها اثنتين وسبعين سنة وفق ما ذكره سطيح وشق في تأويل رؤيا ربيعة بن نصر
ثم مات وهرز فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن ثم مات المرزبان فأمر كسرى ابنه التينجان بن المرزبان ثم مات فأمر كسرى ابن التينجان ثم عزله وولى باذان فلم يزل عليها حتى بعث الله محمدا {صلى الله عليه وسلم}
فلما بلغ مبعثه كسرى كتب إلى باذان إنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه
فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكتب إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا
فلما أتى باذان الكتاب توقف لينظر وقال إن كان نبيا فسيكون ما قال
فقتل الله كسرى على يد ابنه شيرويه في اليوم الذي قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فقالت الرسل من الفرس إلى من نحن يا رسول الله قال أنتم منا وإلينا أهل البيت
قال الزهري فمن ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سلمان منا أهل البيت
وكل هذه الأخبار وإن قطعت بعض ما كنا بسبيله من أمر بني قصي فلها أيضا من الإفادة بنحو ما قصدناه وحسن الإمتاع بالشأن المناسب لما اعتمدناه ما يحسن اعتراضها وينظم في سلك واحد مع ما مر من ذلك أو يأتي أغراضها
وعلينا بمعونة الله في تجويد الترتيب لذلك كله تطبيق المنفصل ورد هذه الأحاديث المتفرقة في حكم الحديث المتصل فنطيل ولا نمل ونقصر فلا نخل كل ذلك ببركة المختار الذي يممنا تخليد أوليته وتيمنا بخدمة آثاره وسيرته صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين وصحابته
وكنا انتهينا من شأن بني قصي بعده إلى ما تراضوا به بينهم من الصلح على أن تكون السقاية والرفادة لبني عبد مناف وتكون حجابة البيت واللواء والندوة لبني عبد الدار على نحو ما جعله قصي إلى أبيهم
فولى السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف

وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا قلما يقيم بمكة وكان مقلا ذا ولد كثير وكان هاشم موسرا وكان فيما يزعمون إذا حضر الحج قام صبيحة هلال ذي الحجة فيسند طهره إلى الكعبة من تلقاء بابها فيحض قومه على رفادة الحاج التي سنها لهم قصي و يقول لهم في خطبته يا معشر قريش أنتم سادة العرب أحسنها وجوها وأعظمها أحلاما وأوسط العرب أنسابا وأقرب العرب بالعرب أرحاما
يا معشر قريش إنكم جيران بيت الله أكرمكم الله بولايته وخصكم بجواره دون بني إسماعيل حفظ منكم أحسن ما حفظ جار من جاره وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته فهم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيفه فأكرموا ضيفه وزواره فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح وقد أزحفوا وأرملوا فأقروهم وأعينوهم فورب هذه البنية لو كان لي مال يحمل ذلك لكفيتكموه وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم تقطع فيه رحم ولم يؤخذ بظلم ولم يدخل فيه حرام فواضعه
فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعله وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبا لم تقطع فيه رحم ولم يؤخذ غصبا
فكانت بنو كعب بن لؤي وسائر قريش يجتهدون في ذلك ويترافدون عليه ويخرجون ذلك من أموالهم حتى يأتوا به هاشم بن عبد مناف فيضعوه في داره حتى إن كان أهل البيت ليرسلون بالشيء اليسير على قدرهم وكان هاشم يخرج في كل سنة مالا كثيرا وكان قوم من قريش أهل يسار ربما أرسل كل إنسان منهم بمائة مثقال هرقلية
وكان هاشم يأمر بحياض من أدم فتجعل في موضع زمزم من قبل أن تحفر ثم يستقي فيها من البيار التي بمكة فيشرب الحاج
وكان يطعمهم أول ما يطعمهم بمكة قبل التروية بيوم ثم بمنى وبجمع وعرفة يثرد لهم الخبز واللحم والخبز والسمن والسويق والتمر ويحمل لهم الماء فيطعمهم ويسقيهم حتى يصدروا

وكان اسم هاشم عمرا ويقال له عمرو العلا وإنما سمي هاشما لهشمه الخبز بمكة لقومه وهو فيما يذكرون أول من سن الرحلتين لقريش رحلة الشتاء والصيف وفي ذلك يقول بعض شعرائهم
عمرو العلا هشم الثريد لقومه
قوم بمكة مسنتين عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما
سفر الشتاء ورحلة الإصياف
وذلك أن قريشا كانوا قوما تجارا وكانت تجارتهم لا تعدو مكة إنما يقدم الأعاجم بالسلع فيشترون منهم ويتبايعون فيما بينهم ويبيعون ممن حولهم من العرب
فلم يزالوا كذلك حتى ذهب هاشم إلى الشام فكان يذبح كل يوم شاة فيصنع جفنة ثريد ويدعو من حوله فيأكلون
وكان هاشم من أحسن الناس وأجملهم إلى شرف نفسه وكرم فعاله فذكر لقيصر فدعا به فلما رآه وكلمه أعجب به وأدناه
فلما رأى هاشم مكانه منه طلب منه أمانا لقومه ليقدموا بلاده بتجاراتهم فأجابه إلى ذلك وكتب لهم قيصر كتاب أمان لمن أتى منهم
فأقبل هاشم بذلك الكتاب فكلما مر بحي من أحياء العرب أخذ من أشرافهم إيلافا لقومه يأمنون به عندهم وفي أرضهم من غير حلف وإنما هو أمان الطريق
واستوفى أخذ ذلك ممن بين مكة والشام فأتى قومه بأعظم شيء أتوا به قط بركة فخرجوا بتجارة عظيمة وخرج هاشم معهم ليوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب فلم يزل يوفيهم إياه ويجمع بينهم وبين العرب حتى قدم بهم الشام
فهلك هاشم في سفره ذلك بغزة من أرض الشام
وكان أول بني عبد مناف هلكا
وخرج المطلب بن عبد مناف وهو يسمى الفيض لسماحته وفضله إلى اليمن فأخذ من ملوكهم أمانا لمن تجر من قومه إلى بلادهم ثم أقبل يأخذ لهم الإيلاف ممن كان على طريقه من العرب كما فعل أخوه هاشم حتى أتى مكة ثم رجع إلى اليمن فمات بردمان
وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى ملك الحبشة فأخذ منه أمانا كذلك لمن تجرمن قريش إلى بلاده ثم أخذ الإيلاف من العرب الذين على الطريق إليها حتى بلغ مكة وتوفي بها فقبره بالحجون

وخرج نوفل بن عبد مناف وكان أصغر ولد أبيه إلى العراق فأخذ عهدا من كسرى لتجار قريش ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن مر به من العرب حتى قدم مكة ثم رجع إلى العراق فمات بسلمان من ناحية العراق
فجبر الله قريشا بهؤلاء النفر الأربعة من بني عبد مناف فنمت أموالهم واتسعت تجارتهم فكان بنو عبد مناف يسمون لأجل ذلك المجيزين والعرب تسميهم أقداح النضار لطيب أحسابهم وكرم فعالهم
وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكيهم جميعا حين أتاه نعي نوفل منهم وكان آخرهم هلكا
يا ليلة هيجت ليلاتي
إحدى ليالي القسيات
وما أقاسي من هموم وما
عالجت من رزء المنيات
إذا تذكرت أخي نوفلا
ذكرني بالأوليات
ذكرني بالأرز الحمر والأردية
الصفر القشييبات
أربعة كلهم سيد
أبناء سادات لسادات
ميت بردمان وميت بسلمان
وميت بين غزات
وميت أسكن لحدا لدى الحجون
شرقي البنيات
أخلصهم عبد مناف فهم
من لوم من لام بمنجاة
إن المغيرات وأبناءها
من خير أحياء وأموات
وإنما سماهم المغيرات لأن عبد مناف أباهم كان اسمه المغيرة
فقيل لمطرود فيما يزعمون لقد قلت فأحسنت ولو كان أفحل مما هو كان أحسن
فقال أنظروني ليالي فمكث أياما ثم قال
ياعين جودي وأذري الدمع وانهمرى
وابكي على السر من كعب المغيرات
يا عين واستحنفري بالدمع واحتفلي
وابكي خبيئة نفسي في الملمات
وابكي على كل فياض أخي ثقة
ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات
محض الضريبة عالي الهم مختلق
جلد النحيزة ناء بالعظيمات
صعب البديهة لا نكس ولا وكل
ماضي العزيمة متلاف الكريمات
صقر توسط من كعب إذا نسبوا
بحبوحة المجد والشم الرفيعات
ثم اندبي الفيض والفياض مطلبا
واستخرطي بعد فياض بجمات
أمسى بردمان عنا اليوم مغتربا
يا لهف نفسي عليه بين أموات
وابكي لك الويل إما كنت باكية
لعبد شمس بشرقي البنيات
وهاشم في ضريح وسط بلقعة
تسفي الرياح عليه بين غزات
ونوفل كان دون القوم خالصتي
أمسى بسلمان في رمس بمومات
لم ألق مثلهم عجما ولا عربا

إذا استقلت بهم أدم المطيات
أمست ديارهم منهم معطلة
وقد يكونون زينا في السريات
أفناهم الدهر أم كلت سيوفهم
أم كل من عاش أزواد المنيات
أصبحت أرضي من الأقوام بعدهم
بسط الوجوه وإلقاء التحيات
يا عين وابكي أبا الشعث الشجيات
يبكينه حسرا مثل البليات
يبكين أكرم من يمشي على قدم
يعولنه بدموع بعد عبرات
يبكين شخصا طويل الباع ذا فخر
آبي الهضيمة فراج الجليلات
يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه
سمح السجية بسام العشيات
يبكينه مستكينات على حزن
يا طول ذلك من حزن وعولات
يبكين لما جلاهن الزمان له
خضر الخدود كأمثال الحميات
محتزمات على أوساطهن لما
جر الزمان من احداث المصيبات
أبيت ليلى أراعي النجم من ألم
أبكي وتبكي معي شجوي بنياتي
ما في القروم لهم عدل ولا خطر
ولا لمن تركوا شروى بقيات
أبناؤهم خير أبناء وأنفسهم
خير النفوس لدى جهد الأليات
كم وهبوا من طمر سابح أرن
ومن طمرة نهب في طمرات
ومن سيوف من الهندي مخلصة
ومن رماح كأشطان الركيات
ومن توابع مما يفضلون بها
عند المسائل من بذل العطيات
فلو حسبت وأحصى الحاسبون معي
لم أحص أفعالهم تلك الهنيات
هم المدلون إما معشر فخروا
عند الفخار بأنساب نقيات
زين البيوت التي خلوا مساكنها
فأصبحت منهم وحشا خليات
أقول والعين لا ترقا مدامعها
لا يبعد الله أصحاب الرزيات
وكان هاشم بن عبد مناف قد قدم المدينة فتزوج بها سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح فيما ذكر ابن إسحاق
قال وكانت لا تنكح الرجال لشرفها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها إن كرهت رجلا فارقته
فولدت لهاشم عبد المطلب فسمته شيبة فتركه هاشم عندها حتى كان وصيفا أو فوق ذلك
ثم خرج إليه عمه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه فقالت له سلمى لست بمرسلته معك

فقال لها المطلب إني غير منصرف حتى أخرج به معي إن ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه ونحن أهل بيت شرف في قومنا نلي كثيرا من أمرهم ورهطه وعشيرته وبلده خير له من الإقامة في غيرهم أو كما قال
وقال شيبة لعمه المطلب فيما يزعمون لست بمفارقها إلا أن تأذن لي
فأذنت له ودفعته إليه فاحتمله فدخل به مكة مردفة على بعيره فقالت قريش عبد المطلب ابتاعه
فبها سمي شيبة عبد المطلب
فقال المطلب ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم قدمت به من المدينة
وذكر الزبير أن شيبة إنما سمي عبد المطلب لأن عمه المطلب لما قدم به من يثرب ودخل به مكة ضحوة مردفه خلفه والناس في أسواقهم ومجالسهم قاموا يرحبون به ويقولون من هذا معك فيقول عبد لي ابتعته بيثرب فلما كان العشية ألبسه حلة ابتاعها له ثم أجلسه في مجلس بني عبد مناف وأخبرهم خبره
فجعل بعد ذلك يخرج في تلك الحلة فيطوف في سكك مكة وكان أحسن الناس فيقولون هذا عبد المطلب لقول المطلب فيه ذلك فلج اسمه عبد المطلب وترك شيبة
وكان يقال لعبد المطلب شيبة الحمد وإنما سمي شيبة لأنه كان في ذؤابته شعرة بيضاء
ثم ولى عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب فأقامها للناس وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم من أمرهم قبله وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه وأحبه قومه وعظم خطره فيهم
ويقال كان يعرف في عبد المطلب نور النبوة وهيبة الملك
قال الزبير ومكارم عبد المطلب أكثر من أن أحيط بها كان سيد قريش غير مدافع نفسا وأبا وبيتا وجمالا وبهاء وفعالا وكمالا
فصلي الله على المنتخب من ذريته المخصوص بأولية الفخر وآخريته وعلى آلة الأكرمين وعترته وسلم تسليما

ذكر حفر عبد المطلب زمزم
وما يتصل بذلك من حديث مولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قد تقدم الخبر عن زمزم أنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام التي سقاه الله حين ظمأ وهو صغير

وكانت جرهم دفنتها حين ظعنوا من مكة بين صنمي قريش إساف ونائلة عند منحر قريش فبقي أمرها كذلك إلى أن أمر عبد المطلب بن هاشم بحفرها
فذكر ابن إسحاق وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال عبد المطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال احفر طيبة قلت وما طيبة ثم ذهب عني
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر برة فقلت وما برة ثم ذهب عني
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر المضنونة قلت وما المضنونة ثم ذهب عني
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر زمزم قلت وما زمزم
قال لا تنزف أبدا ولا تذم تسقي الحجيج الأعظم وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل
فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث ليس له يومئذ ولد غيره فحفر
فلما بدا لعبد المطلب الطي كبر
فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها
قال ما أنا بفاعل إن هذا الأمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم
قالوا له فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها
قال اجعلوا بيني وبينكم من شئتم نحاكمكم إليه
قالوا كاهنة بني سعد بن هذيم قال نعم وكانت بأشراف الشام
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف وركب من كل قبيلة من قريش نفر قال والأرض إذ ذاك مفاوز
قال فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا إنا بمفازة ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم
فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال ماذا ترون قالوا ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت

قال فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخركم رجلا واحدا فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا
قالوا نعم ما أمرت به فقام كل رجل منهم فحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا
ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا لعجز فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ارتحلوا
فارتحلوا حتى إذا فرغوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم
ثم دعا القبائل من قريش فقال هلم إلي الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا
فجاءوا فشربوا واستقوا ثم قالوا قد والله قضي لك علينا يا عبد المطلب والله لا نخاصمك في زمزم أبدا إن الذي سقاك الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا
فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها
وفي غير حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن عبد المطلب قيل له حين أمر بحفر زمزم
ثم ادع بالماء الروي غير الكدر
يسقي حجيج الله في كل مبر
ليس يخاف منه شيء ما عمر
فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال تعلموا أني قد أمرت أن أحفر زمزم قالوا فهل بين لك أين هي قال لا قالوا فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت فإن يك حقا من الله يبين لك وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك
فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فيه فأتي فقيل له أحفر زمزم إنك إن حفرتها لم تندم وهي تراث من أبيك الأعظم لا
تنزف أبدا ولا تذم تستقي الحجيج الأعظم مثل نعام حافل لم يقسم ينذر فيها ناذر لمنعم تكون ميراثا وعقدا محكم ليست كبعض ما قد تعلم وهي بين الفرث والدم

فزعموا أنه حين قيل له ذلك قال وأين هي قيل له عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا
فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين إساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحهم
فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر فقامت إليه قريش حين رأوا جده فقالوا والله لا نتركنك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما
فقال عبد المطلب لابنه الحارث ذب عني فو الله لأمضين لما أمرت به
فلما عرفوا أن غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطي فكبر وعرف أنه قد صدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من ذهب وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم فيها حين خرجت من مكة ووجد فيها أسيافا قلعية وأدراعا
فقالت له قريش يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق قال لا ولكن هلموا إلى أمر نصف بيني وبينكم فضرب عليها بالقداح قالوا وكيف نصنع قال أجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين فمن خرج قدحاه على شيء فهو له ومن تخلف قدحاه فلا شيء له قالوا أنصفت
فجعل قدحين أصفرين للكعبة وقدحين أسودين لعبد المطلب وقدحين أبيضين لقريش
ثم أعطوا القداح الذي يضرب بها عند هبل وهبل صنم في جوف الكعبة وهو
أعظم أصنامهم وهو الذي عنى أبو سفيان بن حرب لما نادى يوم أحد اعل هبل أي ظهر دينك
وقام عبد المطلب يدعوا الله وضرب صاحب القداح فخرج الأصفران على الغزالين وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب وتخلف قدحا قريش
فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة وضرب في الباب الغزالين من ذهب فكان أول ذهب حليته الكعبة فيما يزعمون
وذكر الزبير أن عبد المطلب لما أنبط الماء في زمزم حفرها في القرار ثم بحرها حتى لا تنزف ثم بنى عليها حوضا فطفق هو وابنه ينزعان عليها فيملآن ذلك الحوض فيشرب منه الحاج

وكان قوم حسدة من قريش لا يزالون يكسرون حوضه ذلك بالليل ويغتسلون فيه فيصلحه عبد المطلب حين يصبح
فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه فقيل له في المنام قل اللهم إني لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل
فقام عبد المطلب في المسجد فنادى بالذي أرى ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه ذلك عليه أحد من قريش أو يغتسل فيه إلا رمي في جسده بداء حتى تركوا حوضه ذلك وسقايته فرقا
وذكر الزبير أيضا أن عبد المطلب لما حفر زمزم وأدرك منها ما أدرك وجدت قريش في أنفسها مما أعطي فلقيه خويلد بن أسد بن عبد العزى فقال يا ابن سلمى لقد سقيت ماء رغدا ونثلت عادية حتدا قال يا ابن أسد أما أنك تشرك في فضلها والله لا يساعفني أحد عليها ببر ولا يقوم معي بأزر إلا بذلت له خيرا لصهر فقال خويلد بن أسد
أقول وما قولي عليهم بسنة
إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم
حفيرة إبراهيم يوم ابن آجر
وركضة جبريل على عهد آدم
فقال عبد المطلب ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد
ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارا بمكة وكانت خارجا من مكة آبار حفائر قديمة من عهد مرة بن كعب وكلاب بن مرة وكبراء قريش الأول منها يشربون فعفت زمزم على تلك البئار التي كانت قبلها يسقى عليها الحاج
وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام ولفضلها على ما سواها من المياه ولأنها بئر اسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب
وكان عبد المطلب فيما يزعمون والله أعلم قد نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم لله عز وجل عند الكعبة

فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء به فأطاعوه وقالوا وكيف نصنع قال ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب اسمه فيه ثم ائتوني ففعلوا ثم اتوه فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة وكان على بئر في جوف الكعبة فيها يجمع ما يهدى للكعبة وكان عند هبل قداح سبعة بها يضربون على ما يريدون وإلى ما تخرج به القداح ينتهون في أمورهم
فقال عبد المطلب لصاحب القداح اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه
وأخبره بنذره الذي نذر وأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه وكان عبد الله بن عبد المطلب أحب بني أبيه إليه فيما زعموا فكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى
فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها قام عبد المطلب عند هبل يدعو الله ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على عبد الله فأخذ عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه فقامت إليه قريش من أنديتها وقالوا ماذا تريد يا عبد المطلب قال أذبحه فقالت له قريش وبنوه والله لا تذبحه أبدا حتى تعذرفيه لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه فما بقاء الناس على هذا
وقال له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان عبد الله ابن أخت القوم أمه وأم أخويه الزبير وأبي طالب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه وقالت له قريش وبنوه لا تفعل وانطلق إلى الحجاز فإن بها عرافة لها تابع فتسألها ثم أنت على رأس أمرك إن أمرتك بذبحه ذبحته وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته
فانطلقوا حتى قدموا المدينة فوجدوها فيما يزعمون بخيبر فركبوا حتى جاءوها فسألوها وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه وما أراد به ونذره فيه فقالت لهم ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله

فرجعوا من عندها فلما خرجوا عنها قام عبد المطلب يدعو الله ثم غدو عليها فقالت لهم قد جاءني الخبر كم الدية فيكم قالوا عشرة من الإبل وكانت كذلك قالت فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرة من الإبل ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى
يرضى ربكم وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم
فخرجوا حتى قدموا مكة فلما أجمعوا ذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل وعبد المطلب عند هبل يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل فبلغت الإبل عشرين وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل وما زالوا كذلك يزيدون عشر فعشرا من الإبل ويضربون عليها كل ذلك يخرج القدح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة من الابل وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل فقالت قريش قد انتهى رضى ربك يا عبد المطلب
فزعموا أن عبد المطلب قال لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات فضربوا على عبد الله وعلى الإبل وقام عبد المطلب يدعو الله فخرج القدح على الإبل ثم عادوا الثانية والثالثة وعبد المطلب قائم يدعو الله فخرج القدح في كلتيهما على الإبل
فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع
ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد عبد الله فمر به فيما يزعمون على امرأة من بني أسد بن عبد العزي وهي أخت ورقة بن نوفل بن أسد وهي عند الكعبة
قال الزبير وكان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش قط فقالت له حين نظرت إلى وجهه أين تذهب يا عبد الله قال مع أبي قالت لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع علي الآن قال أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة بن
كلاب بن مرة وهو يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا

فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فوقع عليها فحملت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها مالك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت بالأمس قالت له فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك اليوم حاجة وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل وكان تنصر واتبع الكتب أنه كائن في هذه الأمة نبي
ويقال إن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة ابنة وهب وقد عمل في طين له وبه آثار من الطين فدعاها إلى نفسها فأبطأت عليه لما رأت به من آثار الطين فخرج من عندها فتوضأ وغسل ما كان به من ذلك ثم خرج عائدا إلى آمنة فمر بتلك المرأة فدعته إلى نفسها فأبى عليها وعمد إلى آمنة فدخل عليها فأصابها فحملت بمحمد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم مر بامرأته تلك فقال لها هل لك قالت لا مررت بي وبين عينيك غرة فدعوتك فأبيت ودخلت على آمنة فذهبت بها
فزعموا أن امرأته تلك كانت تحدث أنه مر بها وبين عينيه مثل غرة الفرس قالت فدعوته رجاء أن تكون تلك بي فأبى علي ودخل على آمنة فأصابها فحملت برسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أوسط قومه نسبا وأعظمهم شرفا من قبل أبيه وأمه {صلى الله عليه وسلم}
ويزعمون فيما يتحدث الناس والله أعلم أن أمه كانت تحدث أنها أتيت حين حملت به فقيل لها إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع إلى الأرض فقولي
أعيذه بالواحد
من شر كل حاسد
ثم سميه محمدا
ثم لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن هلك وأمه حامل به
هذا قول ابن إسحاق وخالفه كثير من العلماء فقالوا إن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان في المهد حين توفي أبوه ذكره الدولابي وغيره وذكر ابن أبي خيثمة أنه كان ابن شهرين وقيل أكثر من ذلك والله أعلم
وولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول عام الفيل قيل بعد الفيل بخمسين يوما

وحكى الواقدي عن سليمان بن سحيم قال كان بمكة يهودي يقال له يوسف فلما كان اليوم الذي ولد فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن يعلم به أحد من قريش قال يا معشر قريش قد ولد نبي هذه الأمة في بحرتكم هذه اليوم وجعل يطوف في أنديتهم فلا يجد خبرا حتى انتهى إلى مجلس عبد المطلب فسأل فقيل له ولد لابن عبد المطلب غلام فقال هو نبي والتوراة
وقال حسان بن ثابت والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان أعقل كل ما أسمع إذا سمعت يهوديا يصرخ على أطمة بيثرب يا معشر يهود حتى إذا
اجتمعوا قالوا له ويلك مالك قال طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به
وذكر ابن السكن من حديث عثمان بن أبي العاص عن أمه فاطمة بنت عبد الله أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليلا
قالت فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي
وذكر ابن مخلد في تفسيره أن إبليس رن أربع رنات رنة حين لعن ورنة حين أهبط ورنة حين ولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب
قال ابن إسحاق فلما وضعته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب أنه قد ولد لك غلام فائته فانظر إليه فأتاه ونظر إليه وحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت أن تسميه
فيزعمون أن عبد المطلب أخذه فدخل به الكعبة فقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها
ويروى أن عبد المطلب إنما سماه محمدا لرؤيا رآها
زعموا أنه أري في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق وطرف في المغرب ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور وإذا أهل المشرق والمغرب يتعلقون بها
فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض فلذلك سماه محمدا مع ما حدثته أمه

ولا يعرف في العرب أحد تسمى بهذا الاسم قبله سوى نفر سموا به من أجله منهم محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي ومحمد بن أحيحة بن الجلاح وآخر من ربيعة
وكان آباؤهم قد وفدوا على بعض الملوك ممن كان عنده علم بالكتاب الأول فأخبرهم بمبعث النبي {صلى الله عليه وسلم} وتقارب زمانه وباسمه وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملا فنذر كل واحد منهم إن ولد له ذكر أن يسميه محمدا
ففعلوا ذلك رجاء أن يكونه
والله أعلم حيث يجعل رسالاته
وقد وقع في مواضع أخر أن هؤلاء النفر كانوا أربعة ولم يذكر فيهم محمد بن أحيحة وحديثهم مخالف لما ذكرناه خلافا يسيرا
روينا من حديث عبد الملك بن أبي سوية عن أبيه عن جده قال سألت محمد بن عدي بن ربيعة كيف سماك أبوك محمدا فقال سألت أبي عما سألتني عنه فقال خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا فيهم وسفيان بن مجاشع بن دارم وأسامة بن مالك بن خندف ويزيد بن ربيعة نريد ابن جفنة ملك غسان فلما شارفنا الشام نزلنا إلى غدير عليه شجرات وقربه شخص نائم فتحدثنا فاستمع كلامنا وأشرف علينا فقال إن هذه لغة ما هي لغة أهل هذه البلاد فقلنا نحن قوم من مضر قال من أي المضريين قلنا من خندف قال أما إنه يبعث فيكم وشيكا نبي خاتم النبيين فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا
فقلت له ما اسمه قال محمد فرجعنا من عند ابن جفنة فولد لكل رجل منا ابن سماه محمدا
والتمس لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} الرضعاء فاسترضع له من امرأة من بني سعد بن بكر يقال لها حليمة بنت أبي ذؤيب
وكانت تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر تلتمس الرضعاء قالت وفي سنة شهباء لم تبق لنا شيئا
قالت فخرجت على أتان لي قمراء معنا شارف لنا والله ما تبض بقطرة ولا ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع ما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذيه ولكنا نرجوا الغيث والفرج
فخرجت على أتاني تلك فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا

حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نكرهه لذلك
فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري
فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه
قال لا عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة
قالت فذهبت إليه فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره
فلما أخذته رجعت به إلى رحلى فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روى وشرب معه أخوه حتى روى ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل فحلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا
فبتنا بخير ليلة يقول صاحبي حين أصبحنا تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة قلت والله إني لأرجو ذلك
ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته عليها معي فوالله لقطعت بالركب ما يقدر علي شيء من حميرهم حتى إن صواحبي ليقلن يا بنت أبي ذؤيب ويحك اربعي علينا أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن بلى والله إنها لهي فيقلن والله إن لها لشأنا
قالت ثم قدمنا منازلنا من بني سعد ولا أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فكانت غنمى تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا لبنا فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعيانهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغناهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا
فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتان وفصلته
وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا
فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته

فكلمنا أمه وقلت لها لو تركت بني عندي حتى يغلظ فإني أخشى عليه وباء مكة
فلم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به
فوالله إنه بعد مقدمنا به بأشهر مع أخيه لفي بهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه
قالت فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا وجهه
قالت فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا ما لك يا بني
قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو
قالت فرجعنا به إلى خبائنا وقال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به
قالت فاحتملناه فقدمنا به على أمه فقالت ما أقدمك به يا ظئر ولقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك
قلت قد بلغ و الله بابني وقضيت الذي علي وتخوفت الأحداث عليه فأديته عليك كما تحبين
قالت ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك
قالت فلم تدعني حتى أخبرتها
قالت أفتخوفت عليه الشيطان قلت نعم
قالت كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وإن لبني لشأنا أفلا أخبرك خبره قلت بلى
قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام
ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء
دعيه عنك وانطلقي راشدة
ويروى أن نفرا من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قالوا له يا رسول الله أخبرنا عن نفسك
قال نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ابن مريم ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام واسترضعت في بني سعد بن بكر
فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا فأخذاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه

فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمته فوزنني بعشرة فوزنتهم ثم قال زنه بمائة من أمته فوزنني بهم فوزنتهم ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني بهم فوزنتهم فقال دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنها
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول ما من نبي إلا وقد رعى الغنم قيل وأنت يا رسول الله قال وأنا
وكان يقول لأصحابه أنا أعربكم أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر
وزعم الناس فيما يتحدثون والله أعلم أن أمه السعدية لما قدمت به مكة أضلها في الناس وهي مقبلة به نحو أهله فالتمسته فلم تجده فأتت عبد المطلب فقالت له إني قدمت بمحمد هذه الليلة فلما كنت بأعلى مكة أضلني فوالله ما أدري أين هو
فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده فيزعمون أنه وجده ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش فأتيا به عبد المطلب فقالا هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة فأخذه عبد المطلب فجعله على عنقه وهو يطوف بالكعبة يعوذه ويدعو له ثم أرسل به إلى أمه آمنة
وذكر بعض أهل العلم أن مما هاج أمه السعدية على رده ما ذكرت لأمه ما أخبرتها عنه أن نفرا من الحبشة نصارى رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه ثم قالوا لها لنأخذن هذا الغلام فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره فلم تكد تنفلت به منهم

وذكر الواقدي أن أمه حليمة السعدية بعد أن رجعت به من عند أمه حضرت به سوق ذي المجاز وبها يومئذ عراف من هوازن يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم فلما نظر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وإلى الحمرة في عينيه وإلى خاتم النبوة صاح يا معشر العرب فاجتمع إليه أهل الموسم فقال اقتلوا هذا الصبي وانسلت به حليمة فجعل الناس يقولون أي صبي هو فيقول هذا الصبي فلا يرون شيئا قد انطلقت به أمه فيقال له ما هو فيقول رأيت غلاما وآلهته ليغلبن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم فطلب بعكاظ فلم يوجد
ورجعت به حليمة إلى منزلها فكانت بعد هذا لا تعرضه لأحد من الناس
ولقد نزل بهم عراف فأخرج إليه صبيان أهل الحاضر وأبت حليمة أن تخرجه إليه إلى أن غفلت عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخرج من المظلة فرآه العراف فدعاه فأبى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودخل الخيمة فجهد بهم العراف أن يخرج إليه فأبت فقال هذا نبي
وقد عرضه عمه أبو طالب على عائف من لهب كان إذا قدم من مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فأتاه به أبو طالب وهو غلام مع من يأتيه قال فنظر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم شغله عنه شيء فقال الغلام علي به
فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه فجعل يقول ويلكم ردوا علي الغلام الذي رأيت آنفا فوالله ليكونن له شأن
وانطلق به أبو طالب
وكانت حليمة بعد رجوعها به من مكة لا تدعه أن يذهب مكانا بعيدا
فغفلت عنه يوما في الظهيرة فخرجت تطلبه حتى تجده مع أخته فقالت في هذا الحر فقالت أخته يا أمه ما وجد أخى حرا رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع
تقول أمها أحقا يا بنية قالت إي والله قال تقول حليمة أعوذ بالله من شر ما يحذر على ابني
فكان ابن عباس يقول رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين
وكان غيره يقول رجع إليها وهو ابن أربع سنين
هذا كله عن الواقدي

قال ابن إسحاق فكان النبي {صلى الله عليه وسلم} مع أمه آمنة وجده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامته
فلما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ست سنين توفيت أمه بالأبواء بين مكة والمدينة
وكانت قد قدمت به إلى أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم فماتت وهي راجعة به إلى مكة
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مع جده عبد المطلب
وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم دعوا ابني فوالله إن له لشأنا
ثم يجلسه معه عليه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع
قالوا وكانت أم أيمن تحدث تقول كنت أحضن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فغفلت عنه يوما فلم أدر إلا بعبد المطلب قائما على رأسي يقول يا بركة قلت لبيك قال أتدرين أين وجدت ابني قلت لا أدري قال وجدته مع غلمان قريبا من السدرة لا تغفلي عن ابني فإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة وأنا لا آمن عليه منهم
وكان لا يأكل طعاما إلا قال علي بابني فيؤتي به إليه
وحدث كعب بن مالك عن شيوخ من قومه أنهم خرجوا عمارا وعبد المطلب يومئذ حي بمكة ومعهم رجل من يهود تيماء صحبهم للتجارة يريد مكة أو اليمن فنظر إلى عبد المطلب فقال إنا نجد في كتابنا الذي لم يبدل أنه يخرج من ضئضي هذا نبي يقتلنا وقومه قتل عاد
وجلس عبد المطلب يوما في الحجر وعنده أسقف نجران وكان صديقا له وهو يحادثه وهو يقول إنا نجد صفة نبي بقي من ولد إسماعيل هذه مولده من صفته كذا وكذا
وأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على هذا الحديث فنظر إليه الأسقف وإلى عينيه وإلى ظهره وإلى قدميه فقال هو هذا فقال الأسقف ما هذا منك قال ابني
قال الأسقف لا ما نجد أباه حيا قال عبد المطلب هو ابن ابني مات أبوه وأمه حبلى به قال صدقت قال عبد المطلب تحفظوا بابن أخيكم ألا تسمعون ما يقال فيه

وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوما يلعب مع الغلمان حتى بلغ الردم فرآه قوم من بني مدلج فدعوه فنظروا إلى قدميه وإلى أثره ثم خرجوا في طلبه حتى صادفوا عبد المطلب قد لقيه فاعتنقه فقالوا لعبد المطلب ما هذا منك قال ابني قالوا فاحتفظ به فإنا لم نر قدما قط أشبه بالقدم الذي في المقام من قدمه
فقال عبد المطلب لأبي طالب اسمع ما يقول هؤلاء فكان أبو طالب يحتفظ به
وقد روي أبو داود السجستاني من حديث ابن عباس قال أتى نفر من قريش امرأة كاهنة فقالوا أخبرينا بأقربنا شبها بصاحب هذا المقام
قالت إن جررتم على السهلة عباءة ومشيتم عليها أنبأتكم بأقربكم شبها به
فجروا عليها عباءة ثم مشوا عليها فرأت أثر قدم لمحمد {صلى الله عليه وسلم} فقالت هذا والله أقربكم شبها به
قال ابن عباس فمكثوا بعد عشرين سنة ثم بعث محمد {صلى الله عليه وسلم}
ولما ظهر سيف بن ذي يزن على الحبشة وذلك بعد مولد النبي {صلى الله عليه وسلم} أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها يهنئونه ويمدحونه ويذكرون من حسن بلائه وطلبه بثأر قومه
فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم في أناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء فأذن لهم فلما دخلوا عليه دنا عبد المطلب منه فاستأذنه في الكلام فقال إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك
فقال عبد المطلب إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا وأنبتك منبتا طابت أرومته وعزت جرثومته وثبت أصله وبسق فرعه في أكرم موطن وأطيب معدن
وأنت أيها الملك رأس العرب الذي به تنقاد وعمودها الذي عليه العماد ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد سلفك لك خير سلف وأنت لنا فيه خير خلف فلم يخمل من أنت سلفه ولن يهلك من أنت خلفه نحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته أشخصنا إليك الذي أبهجنا بكشف الكرب الذي فدحنا فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة
فقال له سيف وأيهم أنت أيها المتكلم فقال أنا عبد المطلب بن هاشم قال ابن أختنا قال نعم قال أدنه فأدناه

ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال لهم مرحبا وأهلا قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم وأنتم أهل الليل والنهار فلكم الكرامة ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم
ثم أنهضوا إلى دار الضيافة والوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف
ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطلب فقال له إني مفوض إليك من
سني علمي أمرا لو يكون غيرك لم أبح له به ولكني رأيتك معدنه فأطلعتك عليه فليكن عندك مكنونا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره
إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اختزناه لأنفسنا واجتبيناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة
فقال له عبد المطلب مثلك أيها الملك سر وبر فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر
فقال إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة
فقال له عبد المطلب لقد أبت بخير ما آب بمثله وافد ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من ساره إياي ما أزداد به سرورا
فقال له ابن ذي يزن هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد اسمه محمد يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه قد ولدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا أنصارا يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه يضرب بهم الناس عن عرض ويستبيح بهم كرائم الأرض ويكسر الصلبان ويخمد النيران ويعبد الرحمن ويدحر الشيطان قوله فصل وحكمه عدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهي عن المنكر ويبطله
فقال له عبد المطلب عز جدك وعلا كعبك ودام ملكك وطال عمرك فهل الملك ساري بإفصاح فقد أوضح لي بعض الإيضاح
فقال له ابن ذي يزن والبيت والحجب والعلامات والنصب إنك يا عبد المطلب لجده غير الكذب
فخر عبد المطلب ساجدا فقال له ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا أمرك هل أحسست بشيء مما ذكرت لك

فقال عبد المطلب كان لي ابن وكنت عليه رفيقا فزوجته كريمة كرائم قومه فجاء بغلام فسميته محمدا فمات أبوه وأمه وكفلته أنا
فقال له ابن ذي يزن إن الذي قلت لك كما قلت فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود فإنهم أعداؤه ولن يجعل الله عليه سبيلا واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لا آمن أن تدخلهم التعاسة من أن تكون لكم الرياسة فيطلبون له الغوائل وينصبون له الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم ولولا أني أعلم أن الموت مخترمي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكه فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن بيثرب استحكام أمره وأهل النصرة له وموضع قبره ولولا أني أخاف عليه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه بذكره ولكني صارف ذلك إليك من غير تقصير بمن معك
ثم أمر لكل رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر إماء وحلس من البرود ومائة من الإبل وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضة وكرش مملوءة عنبرا
وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك كله وقال له إذا حال الحول فائتني
فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول فكان عبد المطلب كثيرا ما يقول يا معشر قريش لا يغبطني أحدكم بجزيل عطاء الملك وإن كثر فإنه إلى نفاد ولكن ليغبطني بما يبقى لي ولعقبي من بعدي ذكره وفخره وشرفه
فإذا قيل له فما ذاك قال ستعلمون نبأه ولو بعد حين
وحديث سيف بن ذي يزن هذا عن غير ابن إسحاق وهو عندنا بالإسناد وقد تقدم ما ألقاه تبع الآخر إلى ملوك حمير وأبنائهم من أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأن علم سيف بذلك إنما كان من تلك الجهات والله أعلم
ثم إن عبد المطلب بن هاشم هلك عن سن عالية مختلف في حقيقتها
أدناها فيما انتهى إلي ووقفت عليه خمس وتسعون سنة ذكره الزبير وأعلاها فيما ذكر الزبير أيضا عن نوفل بن عمارة قال كان عبيد بن الأبرص ترب عبد المطلب وبلغ مائة وعشرين سنة وبقي عبد المطلب بعده عشرين سنة

وقال محمد بن سعيد بن المسيب لما حضرت الوفاة عبد المطلب وعرف أنه ميت جمع بناته وكن ستا صفية وبرة وعاتكة وأم حكيم البيضاء وأميمة وأروى فقال لهن ابكين علي حتى أسمع ما تقلن قبل أن أموت
فقالت كل واحدة منهن شعرا ترثيه به وأنشدته إياه فاشار برأسه وقد أصمت أن هكذا فابكينني
وذكر إبن اسحاق تلك الأشعار
وقال ابن هشام إنه لم ير أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها
قال ابن إسحاق وقال حذيفة بن غانم أخو بني عدي بن كعب يبكي عبد المطلب بن هاشم ويذكر فضله وفضل قصي على قريش وفضل ولده من بعده عليهم
أعيني جودا بالدموع على الصدر
ولا تسأما أسقيتما سبل القطر
وجودا بدمع واشفحا كل شارق
بكاء امرئ لم يشوه نائب الدهر
وسحا وجما واسجما ما بقيتما
على ذي حياء من قريش وذي ستر
على رجل جلد القوى ذي حفيظة
جليل المحيا غير نكس ولا هذر
على المزد البهلول ذي البأس والندى
ربيع لؤي في القحوط وفي العسر
على خير حاف من معد وناعل
كريم المساعي طيب الخيم والنجر
على شيبة الحمد الذي كان وجهه
يضيء سواد الليل كالقمر البدر
وساقي الحجيج ثم للخير هاشم
وعبد مناف ذلك السيد الفهري
طوى زمزما عند المقام فأصبحت
سقايته فخرا على كل ذي فخر
ليبك عليه كل عان بكربة
وآل قصي من مقل وذي وفر
بنوه سراة كهلهم وشبابهم
تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر
قصي الذي عادى كنانة كلها
ورابط بيت الله في العسر واليسر
فإن تك غالته المنايا وصرفها
فقد عاش ميمون النقيبة والأمر
وأبقى رجالا سادة غير عزل
مصاليت أمثال الردينية السمر
أبو عتبة الملقي إلي حباءه
أغر هجان اللون من نفر غر
وحمزة مثل البدر يهتز للندى
نقي الثياب والذمام من الغدر
وعبد مناف ماجد ذو حفيظة
وصول لذي القربى رحيم بذي الصهر
كهولهم خير الكهول ونسلهم
كنسل الملوك لا تبور ولا تحري
متى ما تلاقي منهم الدهر منهم ناشئا
تجده بإجريا أوائله يجري
هم ملأوا البطحاء مجدا وسؤددا
إذا استبق الخيرات في سالف العصر

وهم حضروا والناس باد فريقهم
وليس بها إلا شيوخ بني عمرو
بنوها ديارا جمة وطووا بها
بئرا تسح الماء من ثبح بحر
لكي يشرب الحجاج منها وغيرهم
إذا ابتدروها صبح تابعة النحر
ثلاثة أيام تظل ركابهم
محبسة بين الأخاشب والحجر
وقدما غنينا قبل ذلك حقبة
ولا نستقي إلا بخم أو الحفر
هم يغفرون الذنب ينقم دونه
ويعفون عن قول السفاهة والهجر
أخارج إما أهلكن فلا تزل
لهم شاكرا حتى تغيب في القبر
ولا تنس ما أسدى ابن لبنى فإنه
قد أسدي يدا محقوقة منك بالشكر
وأنت ابن لبنى من قصي إذا انتموا
بحيث انتهى قصد الفؤاد من الصدر
وأمك سر من خزاعة جوهر
إذا حصل ألأنساب يوما ذوو الخبر
إلى سبأ الأبطال تنمي وتنتمي
وأكرم بها منسوبة في ذري الدهر
ابن لبني هذا أبو لهب عبد العزي بن عبد المطلب وهو أبو عتبة الذي ذكره قبل في هذا الشعر
وكانت أمه امرأة من خزاعة اسمها لبنى بنت هاجر ولذلك قال وأمك سر من خزاعة
ونماها إلى سبأ الأبطال بناء على ما قدمناه من انتماء خزاعة إلى عمرو بن عامر من غسان وانتفائهم من المضرية
واليد التي ذكر هذا الشاعر أنها ترتبت عليه لأبي لهب وذكر ابن إسحاق أنه كان أخذ بغرم أربعة ألف درهم بمكة فوقف بها فمر به أبو لهب فافتكه
ونسب الزبير هذا الشعر لحذافة بن غانم ودليله قوله فيه أخارج إما أهلكن البيت
فإن خارجه هو ابن حذافة وحذيفة الذي نسب ابن إسحاق إليه الشعر هو أخو حذافة ولا يعرف له ابن يسمى خارجة وانما هو والد أبي جهم بن حذيفة واسم أبي جهم عبيدوهو الذي بعث إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالخميصة ذات الأعلام التي ألهته عن صلاته وأمر أن يؤتي بأنبجانية
ولما هلك عبد المطلب ولي زمزم والسقاية عليها ابنه العباس وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا فلم تزل إليه حتى قام الإسلام وهي بيده فأقرها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ما مضى من ولايته وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يجله إجلال الولد الوالد

يقول كريب مولى ابن عباس وما ينبغي لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يجل إلا والدا أوعما فضيلة خص الله بها العباس دون من سواه
وقال {صلى الله عليه وسلم} احفظوني في عمي عباس فإن عم الرجل صنو أبيه
وطلع يوما على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال هذا العباس أجود قريش كفا وأوصلها
ولم يزل العباس سيدا في الجاهلية والإسلام يمنع الجار ويبذل المال ويعطي في النوائب
قال الزبير وكان يقال كان للعباس بن عبد المطلب ثوب لعارى بني هاشم وجفنة لجائعهم ومقطرة لجاهلهم والمقطرة خشبة ذات سلسلة يحبس فيها الناس
وفي ذلك يقول إبراهيم بن علي بن هرمة
وكانت لعباس ثلاث نعدها
إذا ما جناب الحي أصبح أشهبا
فسلسلة تنهي الظلوم وجفنة
تناخ فيكسوها السنام المرغبا
وحلمة عصب ما تزال معدة
لعار ضريك ثوبه قد تهدبا
وقال ابن شهاب لقد جاء الله بالإسلام وإن جفنة العباس لتدور على فقراء بني هاشم وإن قيده وسوطه لمعد لسفهائهم
قال فكان ابن عمر يقول هذا والله الشرف يطعم الجائع ويؤدب السفيه
وكان أبو بكر وعمر في ولايتهما لا يلقي العباس واحد منهما وهو راكب إلا نزل عن دابته وقادها ومشى مع العباس حتى يبلغ منزله أو مجلسه فيفارقه
وبقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد مهلك جده عبد المطلب مع عمه أبي طالب
وكان عبد المطلب يوصيه به فيما يزعمون
وذلك أن عبد الله أبا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبا طالب أخوان لأب وأم فكان أبو طالب هو الذي يلي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد جده فكان إليه ومعه
وذكر الواقدي أن أبا طالب كان مقلا من المال وكانت له قطعة من الإبل تكون بعرنة فيبدو إليها فيكون فيها ويؤتي بلبنها إذا كان حاضرا بمكة
فكان عيال أبي طالب إذا أكلوا جميعا وفرادى لم يشبعوا وإذا أكل معهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شبعوا
فكان أبو طالب إذا أراد أن يعشيهم أو يغديهم يقول كما أنتم حتى يأتي ابني

فيأتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيأكل معهم فيفضلون من طعامهم وإن كان لبنا شرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أولهم ثم يناول العيال القعب فيشربون منه فيروون من عند آخرهم من القعب الواحد وإن كان أحدهم ليشرب قعبا
فيقول أبو طالب إنك لمبارك
وكان الصبيان يصبحون شعثا رمضا ويصبح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دهينا كحيلا
وقالت أم أيمن وكانت تحضنه ما رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شكا جوعا قط ولا عطشا وكان يغدوا إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة فربما عرضنا عليه الغذاء فيقول لا أريده أنا شبعان
قال ابن إسحاق ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام فلما تهيأ للرحيل صب به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما يزعمون فرق له أبو طالب وقال والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا أو كما قال
فخرج به معه فلما نزل الركب بصري من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيري في صومعة له وكان إليه علم أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيها فيما يزعمون يتوارثونه كابر عن كابر
فلما نزلوا ذلك العام ببحيري وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته يزعمون أنه رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى استظل تحتها فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش وأحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم
فقال له رجل منهم والله يا بحيري إن لك اليوم لشأنا ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم
قال له بحيري صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم

فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم فلما نظر بحيري في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده فقال يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي
قالوا يا بحيري ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا فتخلف في رحالهم فقال لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم فقال رجل من قريش واللات والعزى إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم
فلما رآه بحيري جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته
حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيري فقال يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيري ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما فزعموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لا تسألني باللات والعزى شيئا فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما فقال له بحيري فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه قال له سلني عما بدا لك
فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره ويخبره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيوافق ذلك ما عند بحيري من صفته وأموره ويخبره ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده
فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال ما هذا الغلام منك قال ابني قال ماهو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا قال فإنه ابن أخي قال فما فعل أبوه قال مات وأمه حبلى به
قال صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده
فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام
فزعموا أن نفرا من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مثل ما رأى بحيري في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه فردهم

عنه بحيري وذكرهم الله و ما يجدون في الكتاب من ذكره وصفاته وأنهم إن أجمعوا إلى ما أرادوا لم يخلصوا إليه حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا عنه
فشب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته
حتى بلغ أن رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم حسبا وأحسنهم جوارا وأعظمهم حلما وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما
حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة
وكان {صلى الله عليه وسلم} يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة ثم قال شد عليك إزارك
قال فأخذته فشددته علي ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي
وذكر البخاري عنه {صلى الله عليه وسلم} أنه قال ما هممت بسوء من أمر الجاهلية إلا مرتين
وروى غيره أن إحدى المرتين كان في غنم يرعاها هو وغلام من قريش فقال لصاحبه اكفني أمر الغنم حتى آتي مكة وكان بها عرس فيها لهو فلما دنا من الدار ليحضر ذلك ألقي عليه النوم فنام حتى ضربته الشمس عصمة من الله له
والمرة الأخرى مثل الأولى سواء
وذكر الواقدي عن أم أيمن قالت كانت بوانة صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك له وتحلق عنده وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة فكان أبو طالب يحضره مع قومه ويكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يحضر ذلك العيد معهم فيأبى ذلك

قالت حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب وجعلن يقلن إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا ويقلن ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع مرعوبا فزعا فقلن له ما دهاك قال إني أخشى أن يكون بي لمم فقلن ما كان الله عز وجل ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذي رأيت قال إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي وراءك يا محمد لا تمسه
قالت فما عاد إلى عيد لهم حتى نبيء {صلى الله عليه وسلم} وعلى آله
وما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمسا وعشرين سنة تزوج خديجة بنت خويلد فيما ذكره غير واحد من أهل العلم
وذكر الواقدي بإسناد له إلى نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية وقد رويناه أيضا من طريق أبي علي ابن السكن وحديث أحدهما داخل في حديث الآخر مع تقارب اللفظ وربما زاد أحدهما الشيء اليسير وكلاهما ينمى إلى نفيسه قالت لما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين لما تكاملت فيه من خصال الخير قال أبو طالب يا بن أخي أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة وليست لنا مادة ولا تجارة وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها فيتجرون لها في مالها ويصيبون منافع
فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك وإن كنت لأكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من يهود ولكن لا تجد من ذلك بدا
وكانت خديحة امرأة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام فتكون عيرها كعامة عير قريش وكانت تستأجر الرجال وتدفع اليهم المال مضاربة
وكانت قريش قوما تجارا ومن لم يكن تاجرا من قريش فليس عندهم بشيء
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلعلها ترسل إلي في ذلك

فقال أبو طالب إني أخاف أن تولي غيرك فتطلب أمرا مدبرا فافترقا وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له وقبل ذلك ما قد بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكريم أخلاقه فقالت ما علمت أنه يريد هذا
ثم أرسلت إليه فقالت إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك
ففعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولقى أبا طالب فذكر له ذلك فقال إن هذا لرزق ساقه الله إليك
فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدم الشام فنزلا في سوق بصرى في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب يقال له نسطورا فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان يعرفه فقال يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة فقال ميسرة رجل من قريش من أهل الحرم فقال له الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي ثم قال له في عينيه حمرة قال ميسرة نعم لا تفارقه
فقال الراهب هو هو وهو آخر الأنبياء ويا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج فوعى ذلك ميسرة
ثم حضر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى فكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة فقال الرجل احلف باللات والعزى فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما حلفت بهما قط فقال الرجل القول قولك
ثم قال لميسرة وخلا به يا ميسرة هذا نبي والذي نفسي بيده إنه لهو تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم
فوعى ذلك ميسرة
ثم انصرف أهل العير جميعا
وكان ميسرة يرى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكان يظلانه من الشمس وهو على بعيره
قال وكان الله عز وجل قد ألقى على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المحبة من ميسرة
فكان كأنه عبد لرسول الله فلما فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران تقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية لها معها نساء فيهن نفيسة بنت منية فرأت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظلان عليه فأرته نساءها فعجبن لذلك

ودخل عليها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخبرها بما ربحوا فسرت بذلك فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت فقال لها ميسرة قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام وأخبرها بقول الراهب نسطورا وقول الآخر الذي خالفه في البيع
قالوا وقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح وأضعفت له ما سمت له
فلما استقر عندها هذا وكانت امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو يقدر عليه عرضت عليه نفسها
فقالت له فيما يزعمون يا بن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك وصيتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك
فلما قالت له ذلك ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب يرحمه الله حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها
هكذا ذكر ابن إسحاق وذكر الواقدي وغيره من حديث نفيسة أن خديجة أرسلت إليه دسيسا فدعته إلى تزوجها
فلما أجاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أرسلت إلى عمها عمرو بن أسد فحضر ودخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في عمومته فزوجه أحدهم
وقال عمرو هذا الفحل لا يقدع أنفه
قال ابن هشام وأصدقها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عشرين بكرة
وكانت أول إمرأة تزوجها ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت
قال ابن إسحاق فولدت خديجة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولده كلهم إلا إبراهيم القاسم وبه كان يكنى والطاهر والطيب وزينب ورقية وأم
كلثوم وفاطمة
فأما القاسم والطاهر والطيب فهلكوا في الجاهلية
وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه
هذا قول ابن إسحاق في ذكور البنين أنهم هلكوا في الجاهلية
وقال الزبير بن بكار وهو من أئمة هذا الشأن ولدت له القاسم وعبد الله وهو الطاهر والطيب ولد بعد النبوة ومات صغيرا
وفي مسند الفريابي ما يدل على أنه مات قبل أن يتم رضاعه وبعد النبوة

وذلك أن خديجة دخل عليها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد موت القاسم وهي تبكي عليه فقالت يا رسول الله لو كان عاش حتى تكمل رضاعته لهون علي فقال إن له مرضعا في الجنة تستكمل رضاعته فقالت لو أعلم ذلك لهون علي فقال إن شئت أسمعتك صوته في الجنة فقالت بل أصدق الله ورسوله
قال ابن هشام وأما إبراهيم فأمه مارية سرية النبي {صلى الله عليه وسلم} التي أهداها إليه المقوقس من حفن من كورة أنصناء وهي قبطية من قبط مصر وهذا هو الصهر الذي ذكره لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في قوله الله الله في أهل الذمة أهل المدرة السوداء السحم الجعاد فإن لهم نسبا وصهرا
قال مولى غفرة نسبهم أن أم إسماعيل النبي عليه السلام منهم وصهرهم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تسرر فيهم
وفي حديث آخر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إذا إفتتحتم معر فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما
قال ابن إسحاق وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل بن
أسد بن عبد العزى وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه
فقال ورقة لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه أو كما قال
فجعل ورقة يستبطى ء الأمر و يقول حتى متى وقال في ذلك
لججت وكنت في الذكرى لجوجا
لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف
فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي
حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قس
من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود يوما
ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور
يقيم به البرية أن تموجا
فيلقي من يحاربه خسارا
ويلقي من يسالمه فلوجا
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم
شهدت فكنت أولهم ولوجا
ولوجا في الذي كرهت قريش
ولو عجت بمكتها عجيجا
أرجي بالذي كرهوا جميعا
إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا
وهل أمر السفاهة غير كفر
بمن يختار من سمك البروجا
فإن يبقوا وأبق تكن أمور

يضج الكافرون لها ضجيجا
وإن أهلك فكل فتى سيلقى
من الأقدار متلفة حروجا
الوافر وقال ورقة بن نوفل أيضا في ذلك وهو مما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق
أتبكر أم أنت العشية رائح
وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح
لفرقة قوم لا أحب فراقهم
كأنك عنهم بعد يومين نازح
وأخبار صدق خبرت عن محمد
يخبرها عنه إذا غاب ناصح )
فتاك الذي وجهت يا خير حرة بغدو وبالنجدين حيث الصحاصح
إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت وهن من الأحمال قعص دوالح
فخبرنا عن كل حبر بعلمه وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظني به أن سوف يبعث صادقا كما أرسل العبدان هود وصالح
وموسى وإبراهيم حتى يرى له بهاء ومنشور من الذكر واضح
ويتبعه حيا لؤي بن غالب شبابهم والأشيبون الجحاجح
فإن أبق حتى يدرك الناس دهره فإني به مستبشر الود فارح
وإلا فإني يا خديجة فاعلمي عن أرضك في الأرض العريضة سائح
الطويل

ذكر بنيان قريش الكعبة مع ذكر ما أحدثوه في المناسك
ولما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة
قال موسى بن عقبة وإنما حمل قريشا على ذلك أن السيل كان أتى من فوق الردم الذي صنعوا فأخربه فخافوا أن يدخلها الماء وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة
فأرادوا أن يشدوا بنيانها وأن يرفعوا بابها حتى لايدخلها إلا من شاءوا وأعدوا لذلك نفقة وعمالا ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر من أن يمنعهم الله الذي أرادوا
قال ابن إسحاق وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها وإنما كانت رضما فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة
قال وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة قال إبن هشام فقطعت قريش يده
وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك

قال وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها وكان بمكة رجل قبطي نجار فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها
وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدى لها فتتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون وذلك أنه كان لا ما يدخلها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها فبينا هي يوما تتشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله إليها طائرا فاختطفها فذهب بها
فقالت قريش إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا لا تدخلوا فيها معر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس
والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
ثم إن قريشا تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب رهو الحطيم
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول اللهم لم ترع ويقال لم نزغ اللهم إنا لا نريد إلا الخير
ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة وقالوا ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء هدمنا فقد رضي الله ما صنعنا
فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله فهدم وهدم الناس معه حتى إذا
انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضا

وقال ابن إسحاق فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس
قال وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود فإذا هو أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها مبارك لأهلها في الماء واللبن
وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه مكة بيت الله الحرام يأتيها رزقها من ثلاثة سبل لا يحلها أول من أهلها
وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا حجرا في الكعبة قبل مبعث النبي {صلى الله عليه وسلم} بأربعين سنة إن كان ما يذكر حقا مكتوبا فيه من يزرع خيرا يحصد غبطة ومن يزرع شرا يحصد ندامة تعملون السيئات وتجزون الحسنات أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب
قال ابن إسحاق ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنيانها كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تجاوزوا وتحالفوا وأعدو للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنوا عدي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلها قال يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم ففعلوا
فكان أول داخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا هذا محمد

فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال {صلى الله عليه وسلم} هلم إلي ثوبا فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده {صلى الله عليه وسلم} ثم بني عليه
وكانت الكعبة على عهد النبي {صلى الله عليه وسلم} ثماني عشرة ذراعا كانت تكسي القباطي ثم كسيت البرود
وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف هذا قول ابن إسحاق
وقال الزبير أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير
وذكر جماعة سواهما منهم الدار قطني أن نتلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب كانت قد أضلت العباس يومئذ وهو صغير فنذرت إن هي وجدته أن تكسو الكعبة الديباج ففعلت ذلك حين وجدته
وذكر الزبير أن الذي أضلته نتلة بنت جناب إنما هو ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس ونذرت أن تكسو البيت إن وجدته فكسته حين وجدته ثيابا بيضا فالله تعالى أعلم
قال ابن إسحاق وكانت قريش لا أدري أقبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس رأيا رأوه وأداروه
فقالوا نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقاطن مكة وساكنها فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا فلا تعظمون شيئا من الحل كما تعظمون الحرم فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم وقالوا قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم
فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وان يفيضوا منها إلا أنهم قالوا نحن أهل الحرم وليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس والحمس أهل الحرم
ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم
وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك

ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن لهم حتى قالوا لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط ولا يسألوا السمن وهم حرم ولا يدخلوا بيتا من شعر ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما
ثم رفعوا في ذلك فقالوا لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجا أو عمارا ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة ولم يجد ثياب أحمس فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوافه ثم لم ينتفع بها ولم
يمسها هو ولا أحد غيره أبدا فكانت العرب تسمي تلك الثياب اللقي
فحملوا على ذلك العرب فدانت به فوقفوا على عرفات وأفاضوا منها وطافوا بالبيت عراة أما الرجال فيطوفون عراة وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا ثوبا مفرجا عليها ثم تطوف فيه
فكانوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا {صلى الله عليه وسلم} فأنزل الله عليه حين أحكم له دينه وشرع له سنن حجة ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس الآية البقرة 199 يعني قريشا والناس والعرب فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها
وأنزل عليهم فيما كانوا حرموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت حين طافوا عند البيت عراة وحرموا ما جاءوا به من الحل من الطعام يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية كلها ( التوبة 374 )
فوضع الله أمر الحمس وما كانت قريش ابتدعت منه عن الناس بالإسلام حيث بعث الله به رسوله
ولم يكن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالموافق قومه على تغيير مشاعر الحج والعدول عن مواقف الناس قال جبير بن مطعم لقد رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن ينزل عليه الوحي وإنه لواقف على بعيره بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقا من الله له

وقد تقدم ما أحدثوه في النسيء وما أبطل الله من حكمه بقوله سبحانه إنما النسيء زيادة في الكفر ( الأعراف 31 - 32 )
فأغني ذلك عن إعادته
ذكر ما حفظ عن الأخبار والرهبان
والكهان من أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل مبعثه سوى ما تقدم من ذلك مع ذكر شيء مما سمع من ذلك عند الأصنام أو هتفت به الهواتف
قال ابن إسحاق وكانت الأحبار من يهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل مبعثه لما تقارب من زمانه
أما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه
وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين فيما تسترق من السمع إذ كانت لا تحجب عن ذلك وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره لا تلقي العرب لذلك فيه بالا حتى بعثه الله ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها
فلما تقارب أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد فيها لاستراقه فرموا بالنجوم فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر الله في العباد
يقول الله لنبيه {صلى الله عليه وسلم} حين بعثه يقص عليه خبرهم إذ حجبوا قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا
يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبه ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشبها وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) ( الجن 1 - 10 )

فلما سمعت الجن القرآن عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك لئلا يشكل الوحي بشيء من خبر السماء فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله فيه لوقوع الحجة وقطع الشبهة فآمنوا به وصدقوا ثم ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ( الأحقاف 29 - 30 )
وقول الجن وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن الآية هو أن الرجل من العرب من قريش وغيرهم كان إذا سافر فنزل بطن واد من الأرض ليبيت فيه قال إني أعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة من شر ما فيه
وذكر أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمي بها ثقيف وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب وأنكرها رأيا فقالوا له يا عمرو ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم
قال بلى فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها
وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق فما هو
وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لنفر من الأنصار ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به
قالوا يا نبي الله كنا نقول حين رأيناها يرمى بها مات ملك ملك ملك ولد مولود مات مولود

فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليس ذلك كذلك ولكن الله تبارك وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعه حملة العرش فسبحوا فسبح من تحتهم لتسبيحهم فسبح من تحت ذلك فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيسبحوا ثم يقول بعضهم لبعض مم سبحتم فيقولون سبح من فوقنا فسبحنا لتسبيحهم فيقولون ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا فيقولون مثل ذلك حتى ينتهوا إلى حملة العرش فيقال لهم مم سبحتم فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا للأمر الذي كان فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيتحدثوا به فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف ثم يأتون به الكهان فيخطئون بعضا ويصيبون بعضا
ثم إن الله حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة
وذكر أبو جعفر العقيلي بإسناد له إلى لهيب بن مالك اللهبي قل حضرت عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فذكرت عنده الكهانة فقلت بأبي أنت وأمي نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائة سنة وثمانون سنة وكان من أعلم كهاننا فقلنا يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها
فقال ائتوني بسحر أخبركم الخبر ألخير أم ضرر ولأمن أو حذر
قال فانصرفنا عنه يومنا فلما كان من غد في وجه السحر أتيناه فإذا هو قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه فناديناه يا خطر يا خطر فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا
فانقض نجم عظيم من السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته أصابه أصابه خامره عقابه عاجله عذابه أحرقه شهابه زايلة جوابه يا ويحه ما حاله بلبله بلباله عاوده خباله تقطعت حباله وغيرت أحواله

ثم أمسك طويلا وقال يا معشر بني قحطان أخبركم بالحق والبيان أقسمت بالكعبة والأركان والبلد المؤتمن السدان لقد منع السمع عتاة الجان بثاقب بكف ذي سلطان من أجل مبعوث عظيم الشأن يبعث بالتنزيل والقرآن وبالهدى وفاصل الفرقان تبطل به عبادة الأوثان
قال فقلنا يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما فماذا ترى لقومك
فقال
أرى لقومي ما أرى لنفسي
أن يتبعوا خير بني الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس
يبعث في مكة دار الحمس
بمحكم التنزيل غير اللبس
الرجز
فقلنا له يا خطر وممن هو
فقال والحياة والعيش إنه لمن قريش ما في حلمه طيش ولا في خلقه هيش يكون في جيش وأي جيش من آل قحطان وآل أيش فقلنا بين لنا من أي قريش هو
فقال والبيت ذي الدعائم إنه لمن نجل هاشم من معشر أكارم يبعث بالملاحم وقتل كل ظالم
ثم قال هذا هو البيان أخبرني به رئيس الجان
ثم قال الله أكبر جاء الحق وظهر وانقطع عن الجن الخبر
ثم سكت وأغمى عليه فما أفاق إلا بعد ثالثة فقال لا إله إلا الله
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده
قال ابن إسحاق وحدثني بعض أهل العم أن امرأة من بني سهم يقال لها الغيطلة كانت كاهنة في الجاهلية جاءها صاحبها ليلة من الليالي فانقض تحتها ثم قال بدر ما بدر يوم عقر ونحر
فقالت قريش حين بلغها ذلك ما يريد
ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها ثم قال شعوب ما شعوب تصرع فيه كعب لجنوب
فلما بلغ ذلك قريشا قالوا ماذا يريد إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو
فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب فعرفوا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته
قال وحدثني علي بن نافع الجرشي أن جنبا بطنا من اليمن كان لهم كاهن في الجاهلية فلما ذكر أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وانتشر في العرب قالت له جنب انظر لنا في أمر هذا الرجل واجتمعوا له في أسفل جبله

فنزل عليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له فرفع رأسه إلى السماء طويلا ثم جعل ينزو ثم قال أيها الناس إن الله أكرم محمدا
واصطفاه وطهر قلبه وحشاه ومكثه فيكم أيها الناس قليل ثم أسند في جبله راجعا من حيث جاء
وحدثني من لا أتهم أن عمر بن الخطاب بينا هو جالس في الناس في مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذ أقبل رجل من العرب يريد عمر فلما نظر إليه عمر قال إن الرجل لعلى شركه ما فارقه أو لقد كان كاهنا في الجاهلية
فسلم عليه الرجل ثم جلس فقال له عمر هل أسلمت قال نعم يا أمير المؤمنين قال فهل كنت كاهنا في الجاهلية فقال الرجل سبحان الله يا أمير المؤمنين لقد خلت في واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت
فقال عمر اللهم غفرا قد كنا في الجاهلية على شر من هذا نعبد الأصنام ونعتنق الأوثان حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام
قال نعم والله يا أمير المؤمنين لقد كنت كاهنا في الجاهلية
قال فأخبرني ما جاء به صاحبك
قال جاءني قبيل الإسلام بشهر أو شيعه فقال ألم تر إلى الجن وإبلاسها وإياسها من دينها و لحوقها بالقلاص وأحلاسها
قال ابن هشام هذا الكلام سجع وليس بشعر وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر
عجبت للجن وإبلاسها
وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى
ما مؤمن الجن كأنجاسها
السريع
فقال عمر رضي الله عنه عند ذلك يحدث الناس والله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش قد ذبح لهم رجل من العرب عجلا فنحن
ننتظر قسمه ليقسم لنا منه إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت قط أنفذ منه وذلك قبيل الإسلام بشهر أو شيعه يقول يا ذريح أمر نجيح رجل يصيح يقول لا إله إلا الله
قال ابن هشام ويقال رجل يصيح بلسان فصيح يقول لا إله إلا الله
وهذا الرجل الذي ظن به عمر رضي الله عنه ما ظن هو سواد بن قارب الدوسي وكان يتكهن في الجاهلية

وقد ذكر خبره غير ابن إسحاق فساقه سياقة أحسن من هذه وأتم وذكر فيه أنه كان نائما على جبل من جبال السراة ليلة من الليالي فأتاه آت فضربه برجله وقال
قم يا سواد بن قارب أتاك رسول من لؤي بن غالب
قال فرفعت رأسي وجلست فأدبر وهو يقول
عجبت للجن وتطلابها
وشدها العيس بأقتابها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى
ما صادق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
ليس قداماها كأذنابها
السريع
وأتاه في الليلة الثانية فضربه برجله وقال قم يا سواد بن قارب أتاك رسول من لؤي بن غالب قال فرفعت رأسي وجلست فأدبر وهو يقول
عجبت للجن وأخبارها
ورحلها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى
ما مؤمنوها مثل كفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
ليس قداماها كأدبارها
السريع
وأتاه في الليلة الثالثة بعدما نام فضربه برجله وقال قم يا سواد بن قارب أتاك رسول الله من لؤي بن غالب قال فرفعت رأسي فجلست فأدبر وهو يقول
عجبت للجن وإبلاسها
ورحلها العيس بأحلاسها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى
ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
وارم بعينيك إلى رأسها
السريع
قال فلما أصبحت اقتعدت بعيري فأتيت مكة فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد ظهر فأخبرته الخبر وبايعته
وفي بعض طرق حديثه أنه أنشد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شعرا منه في معنى ما جاءه به رئيه
أتاني رئيي بعد هدء وهجعة
ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة
أتاك رسول من لؤي بن غالب
فرفعت أذيال الإزار وشمرت
بي العرمس الوجنا هجول السباسب
فأشهد أن الله لا شيء غيره
وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدني المرسلين وسيلة
إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك من وحي ربنا
وإن كان فيما جئت شيب الذوائب
وكن لي شفيعا حين لا ذو قرابة
بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
الطويل

ولسواد بن قارب هذا مقام حميد في قومه دوس حين بلغهم وفاة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يثبتهم في الدين ويحضهم على التمسك بالإسلام سنذكره إن شاء الله مع نظائره بعد استيفاء الخبر عن وفاة رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وذكر الواقدي بإسناد له قال كان أبو هريرة يحدث أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم فيقال لأبي هريرة هل كنت أنت تفعل ذلك فيقول قد والله فعلت فأكثرت فالحمد لله الذي تنقذني بمحمد {صلى الله عليه وسلم}
قال أبو هريرة فبينا الخثعميون عند صنمهم إذ سمعوا هاتفا يهتف
يا أيها الناس ذوو الأجسام
ومسندو الحكم إلى الأصنام
أكلكم أوره كالكهام
ألا ترون ما أرى أمامي
من ساطع يجلو دجي الظلام
ذاك نبي سيد الأنام
من هاشم في ذروة السنام
مستعلن بالبلد الحرام
جاء بهدم الكفر بالإسلام
أكرمه الرحمن من إمام
السريع
قال أبو هريرة فأمسكوا ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا فلم تمض بهم ثالثة حتى فجأهم خبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قد ظهر بمكة قال فما أسلم الخثعميون حتى استأخر إسلامهم ورأوا عبرا عند صنمهم
وذكر الواقدي أيضا أن رجلا من الأنصار حدث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال انطلقت أنا وصاحبان لي نريد الشام حتى إذا كنا بقفرة من الأرض نزلنا بها فبينا نحن كذلك لحقنا راكب فكنا أربعة وقد أصابنا سغب شديد والتفت فإذا أنا بظبية عضباء ترتع قريبا مني فوثبت إليها فقال الرجل الذي لحقنا خل سبيلها لا أبا لك والله لقد رأيتنا ونحن نسلك هذا الطريق ونحن عشرة أو أكثر فيختطف بعضنا بعضا فما هو إلا أن كانت هذه الظبية فما يهاج بها أحد
فأبيت وقلت لا لعمر الله لا أخليها فارتحلنا وقد شددتها معي حتى إذا ذهب سدف من الليل إذا هاتف يهتف بنا ويقول
يا أيها الركب السراع الأربعة
خلوا سبيل النافر المفزعة
خلوا عن العضباء في الوادي سعه
لا تذبحن الظبية المروعه
فيها لأيتام صغار منفعه
الرجز

قال فخليت سبيلها ثم انطلقنا حتى أتينا الشام فقضينا حوائجنا ثم أقبلنا حتى إذا كنا بالمكان الذي كنا فيه هتف بنا هاتف من خلفنا
إياك لا تعجل وخذها من ثقه
فإن شر السير سير الحقحقه
قد لاح نجم فأضاء مشرقه
يخرج من ظلما عسوف موبقه
ذاك رسول مفلح من صدقة
الله أعلى أمره وحققه
الرجز
قال الرجل فأتيت مكة فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يدعو إلى الإسلام
فقال عمر الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد {صلى الله عليه وسلم}
وروينا عن أبي المنذر هشام بن محمد الكلبي بإسناد متصل إليه قال لقيت شيوخا من شيوخ طييء المقدمين فسألتهم عن قصة مازن يعني مازن بن الغضوبة الطائي وسبب إسلامه ووفوده على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وإقطاعه أرض عمان وذلك بمن الله وفضله
وكان مازن بأرض عمان بقرية تدعى سنابل قال مازن فعترت ذات يوم عتيرة وهي الذبيحة فسمعت صوتا من الصنم يقول يا مازن أقبل أقبل فاسمع ما لا تجهل هذا نبي مرسل جاء بحق منزل فآمن به كي تعزل عن حر نار تشعل وقودها بالجندل
قال مازن فقلت إن هذا والله لعجب ثم عترت بعد أيام عتيرة أخرى فسمعت صوتا أبين من الأول وهو يقول يا مازن اسمع تسر ظهر خير وبطن شر بعث نبي من مضر بدين الله الأكبر فدع نحيتا من حجر تسلم من حر سقر
قال مازن فقلت إن هذا والله لعجب وإنه لخير يراد بي وقدم علينا رجل من أهل الحجاز فقلنا ما الخبر وراءك قال خرج بتهامة رجل يقول لمن أتاه أجيبوا داعي الله يقال له أحمد
فقلت هذا والله نبأ ما سمعت
فثرت إلى الصنم فكسرته جذاذا وشددت راحلتي ورحلت حتى أتيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فشرح لي الإسلام فأسلمت فأنشأت أقول
كسرت يا جر أجذاذا وكان لنا
ربا نطيف به ضلا بتضلال
بالهاشمي هدانا من ضلالتنا
ولم يكن دينه منا على بال
يا راكبا بلغن عمرا وإخوتها
أني لمن قال ربي ياجر قالي
البسيط

وقلت يا رسول الله إني امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر وبالهلوك إلى النساء وألحت علي السنون فأذهبن الأموال واهزلن الذراري والرجال وليس لي ولد فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحياء ويهب لي ولدا
فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال واتهم بالحياء وهب له ولدا
قال مازن فأذهب الله عني كل ما أجد وأخصبت عمان وتزوجت أربع حرائر ووهب الله لي حيان بن مازن وأنشأت أقول
إليك رسول الله سقت مطيتي
تجوب الفيافي من عمان إلى العرج
لتشفع لي يا خير من وطيء الحصي
فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج
إلى معشر خالفت في الله دينهم
فلا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي
وكنت امرءا بالزعب والخمر مولعا
شبابي حتى أذن الجسم بالنهج
فأصبحت همي في جهاد ونيتي
فلله ما صومى ولله ما حجي
الطويل
ومما يلحق بهذا الباب من حسان أخبار الكهان وإن كان بعد المبعث بزمان ولكنه يجتمع مع الأحاديث السابقة في الدلالة على صدق الرسول والإعلام بالغيب المجهول والإرشاد إلى سواء السبيل ما ذكره أبو علي إسماعيل بن القاسم في أماليه بإسناد له إلى ابن الكلبي عن أبيه قال
كان خنافر بن التوأم الحميري كاهنا وكان قد أوتى بسطة في الجسم وسعة في المال وكان عاتيا فلما وفدت وفود اليمن على النبي {صلى الله عليه وسلم} وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها وخرج بأهله وماله ولحق بالشحر فحالف جودان بن يحيى الفرضمي وكان سيدا منيعا ونزل بواد من أودية الشحر مخصب كثير الشجر من الأيك والعرين

قال خنافر وكان رئيي في الجاهلية لا يغيب عني فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة وساءني ذلك فبينا أنا ليلة في ذلك الوادي نائما إذ هوي هوي العقاب فقال خنافر قلت شصار فقال اسمع أقل قلت أسمع فقال عه تغنم لكل مدة نهاية وكل ذي أمد إلى غاية قلت أجل فقال كل دولة إلى أجل ثم يتاح لها حول انتسخت النحل ورجعت إلى حقائقها الملل إنك سجير موصول والنصح لك مبذول إني آنست بأرض الشام نفرا من أهل العزام حكاما على الحكام يذكرون ذا رونق من الكلام ليس بالشعر المؤلف ولا بالسجع المتكلف فأصغيت فزجرت فعاودت فظلفت فقلت بم تهينمون وإلام تعتزون فقالوا خطاب كبار جاء من عند الملك الجبار فاسمع يا شصار عن أصدق الأخبار واسلك أوضح الآثار تنج من أوار النار
قلت وما هذا الكلام قالوا فرقان بين الكفر والإيمان رسول من مضر ابتعث فظهر فجاء بقول قد بهر وأوضح نهجا قد دثر فيه مواعظ لمن اعتبر ومعاذ لمن ازدجر ألف بالآي الكبر
فقلت ومن هذا المبعوث من مضر قالوا أحمد خير البشر فإن آمنت أعطيت الشبر وإن خالفت أصليت سقر
فآمنت يا خنافر وأقبلت إليك أبادر فجانب كل نجس كافر وشايع كل مؤمن طاهر وإلا فهو الفراق عن لا تلاق
قلت من أين أبغي هذا الدين
قال من ذات الإحرين والنفر الميامين أهل الماء والطين
قلت أوضح قال الحق بيثرب ذات النخل والحرة ذات النعل فهنالك أهل الفضل والطول والمواساة والبذل
ثم املس عني فبت مذعورا أراعي الصباح فلما برق لي النور امتطيت راحلتي وآذنت أعبدي واحتملت بأهلي حتى وردت الجوف فرددت الإبل على أربابها بحولها وسقايها وأقبلت أريد صنعاء فأصبت فيها معاذ بن جبل أميرا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبايعته على الإسلام وعلمني من القرآن فمن الله علي بالهدى بعد الضلالة والعلم بعد الجهالة وقلت في ذلك
ألم تر أن الله عاد بفضله
فأنقد من لفح الزخيخ خنافرا
وكشف لي عن حجمتي عماهما
وأوضح لي نهجي وقد كان داثرا
دعاني شصار للتي لو رفضتها

لأصليت جمرا من لظى الهوب واهرا
فأصبحت والإسلام حشو جوانحي
وجانبت من أمسى عن الحق نائرا
وكان مضلي من هديت برشده
فلله مغو عاد بالرشد آمرا
نجوت بحمد الله من كل قحمة
تؤرث هلكا يوم شايعت شاصرا
فقد أمنتني بعد ذاك يحابر
بما كنت أغشى المنديات يحابرا
فمن مبلغ فتيان قومي ألوكة
بأني من أقتال من كان كافرا
عليكم سواء القصد لا فل حذكم
فقد أصبح الإسلام للكفر قاهرا
الطويل
وذكر ابن هشام أن بعض أهل العلم حدثه أنه كان لمرداس أبي عباس بن مرداس السلمي وثن يعبده وهو حجر يقال له ضمار فلما حضر مرداسا
الموت قال لعباس أي بني اعبد ضمار فإنه ينفعك ويضرك فبينما العباس يوما عند ضمار إذ سمع من جوف ضمار مناديا يقول
قل للقبائل من سليم كلها
أودى ضمار وعاش أهل المسجد
إن الذي ورث النبوة والهدى
بعد ابن مريم من قريش مهتدي
أودى ضمار وكان يعبد مرة
قبل الكتاب إلى النبي محمد
الكامل
فحرق العباس ضمار ولحق بالنبي {صلى الله عليه وسلم} فأسلم
والأخبار في هذا الباب مما نقل من ذلك عن الكهان أو سمع عند الأصنام أو هتفت به هواتف الجان كثيرة جدا وقد أتينا منها بما استحسناه مما ذكره ابن إسحاق أو ذكره سواه
قال ابن إسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله لنا وهداه لما كنا نسمع من أحبار يهود
كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم
فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم
فلما بعث الله رسوله محمدا {صلى الله عليه وسلم} أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتواعدوننا به فبادرنا إليه فآمنا به وكفروا به
ففينا وفيهم نزلت هذه الآية من البقرة ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ( البقرة 89 )

قال وحدثني صالح بن إبراهيم عن محمود بن لبيد عن سلمة بن سلامة بن
وقش وكان من أصحاب بدر قال كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت
فقالوا له ويحك يا فلان أوتري هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم
قال نعم والذي يحلف به ولود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدار يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه بأن ينجو من تلك النار غدا
فقالوا له ويحك يا فلان وما آية ذلك
قال نبي مبعوث من نحو هذه البلاد وأشار بيده إلى مكة واليمن
قالوا ومتى نراه
قال فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا فقال إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه
قال سلمة فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله محمدا {صلى الله عليه وسلم} وهو حي بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا
فقلنا له ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت
قال بلى ولكن ليس به
قال وحدثني عاصم بن عمر عن شيخ من بني قريظة قال قال لي هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد نفر من هدل إخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا ساداتهم في الإسلام قال قلت لا
قال فإن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل
الإسلام بيسير فحل بين أظهرنا لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه
فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا فيقول لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة فنقول له كم فيقول صاعا من تمر أو مدين من شعير
فنخرجهما ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا فيستسقي لنا فو الله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى

قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ثم حضرته الوفاة عندنا فلما عرف أنه ميت قال يا معشر يهود ما ترون أنه أخرجني من أرض الخمر والحمير إلى أرض البؤس والجوع
قلنا أنت أعلم
قال فإنما قدمت هذه البلدة أتو كف خروج نبي قد أظل زمانه وهذه البلدة مهاجره فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه فلا يمنعنكم ذلك منه
فلما بعث الله رسوله {صلى الله عليه وسلم} وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية وكنا شبابا أحداثا يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان قالوا ليس به قالوا بلى والله إنه لهو بصفته فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم
قال ابن إسحاق فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود
قال وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن محمود عن ابن عباس قال حدثني سلمان الفارسي من فيه قال
كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها جي وكان أبي دهقان قريته وكنت أحب خلق الله إليه لم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها ولا يتركها تخبو ساعة
وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوما فقال لي يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب إليها فاطلعها وأمرني فيها ببعض ما يريد ثم قال لي ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري
فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته
فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها ثم قلت لهم أين أصل هذا الدين قالوا بالشام

فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله فلما جئته قال أي بني أين كنت ألم أكن عهدت إليك ما عهدت قلت يا أبت مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت في دينهم فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس
قال أي بني ليس في ذلك الدين خير دينك ودين آبائك خير منه
فقلت له كلا والله إنه لخير من ديننا
قال فخافني فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته
وبعثت إلى النصارى فقلت لهم إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروني فقلت لهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم
قال فلما أرادوا الرجعة أخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام
فلما قدمتها قلت من أفضل أهل هذا الدين علما قالوا الأسقف في الكنيسة فجئته فقلت له إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك وأخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلى معك قال ادخل
فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق
فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع
ثم مات واجتمعت النصارى ليدفنوه فقلت لهم إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا
فقالوا لي وما علمك بذلك فقلت أنا أدلكم على كنزه فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا فلما رأوها قالوا والله لا ندفنه أبدا
فصلبوه ورجموه بالحجارة
وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ونهارا منه فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله فأقمت معه زمانا ثم حضرته
الوفاة فقلت له يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي وبم تأمرني

فقال أي بني والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه
فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك وأخبرني أنك على أمره فقال لي أقم عندي
فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه
فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي وبم تأمرني فقال يا بني والله ما أعلم رجلا على ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به
فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي فقال أقم عندي
فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل فو الله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصى بي وبم تأمرني
قال يا بني والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه فإن أحببت فأته
فلما مات وغيب لحقت بصاحب عموريه فأخبرته خبري فقال أقم عندي
فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له يا فلان إني كنت مع
فلان فأوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي وبم تأمرني
قال أي بني والله ما أعلمه أصبح علي مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفي يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل
ثم مات وغيب

فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه فقالوا نعم فأعطيتهموها وحملوني معهم حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي عبدا فكنت عنده فرأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق في نفسي
فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي فأقمت بها
وبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأقام بمكة ما أقام لا أسمع له به بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق
ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل له فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال يا فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي
فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني سأسقط على سيدي فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك ماذا تقول فغضب سيدي فلكمني لكمة
شديدة ثم قال مالك ولهذا أقبل على عملك فقلت لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال
وقد كان عندي شيء جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقربته إليه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأصحابه كلوا وأمسك يده فلم يأكل
فقلت في نفسي هذه واحدة
ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا وتحول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة ثم جئته به فقلت إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها فأكل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منها وأمر أصحابه فأكلوا معه
فقلت في نفسي هاتان ثنتان

ثم جئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة من أصحابه علي شملتان لي وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي فلما رآني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أستدير به عرف أني أستثبت في شيء وصف لي فألقى الرداء عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي فقال لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تحول فتحولت فجلست بين يديه فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس
فأعجب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يسمع ذلك أصحابه ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بدر وأحد
قال سلمان ثم قال لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كاتب يا سليمان فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية
والرجل بعشرين ودية والرجل بخمس عشرة والرجل بعشر يعين الرجل بقدر ما عنده حتى اجتمعت إلي ثلاثمائة ودية فقال لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فائتني أكن أنا أضعها بيدي
ففقرت وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته فأخبرته فخرج معي إليها فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيده حتى فرغت فو الذي نفس سليمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة
فأديت النخل وبقي علي المال فأتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال ما فعل الفارسي المكاتب فدعيت له فقال خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان قلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي قال خذها فإن الله سيؤدي بها عنك فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم فشهدت مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الخندق حرا ثم لم يفتني معه مشهد
وعن سلمان أنه قال لما قلت واين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله أخذها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلبها على لسانه ثم قال خذها فأوفهم منها فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية

وعنه أيضا أنه قال لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين أخبره خبره أن صاحب عمورية قال له أيت كذا وكذا من أرض الشام فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج في كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي فسله عن هذا الدين الذي تبتغي فهو يخبرك عنه
قال سلمان فخرجت حتى جئت حيث وصف لي فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى
الغيضتين إلى الأخرى فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفي وغلبوني عليه فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل إلا منكبه فتناولته فقال من هذا والتفت إلي فقلت يرحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم قال إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم قد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فائته فهو يحملك عليه ثم دخل فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى ابن مريم
ومن حديث غير ابن إسحاق عن أبي سفيان بن حرب قال خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت وآخر سقط اسمه من كتابي تجارا إلى الشام قال أبو سفيان فكلما نزلنا منزلا أخرج أمية سفرا يقرأه علينا فكنا كذلك حتى نزلنا بقرية من قرى النصارى فرأوه وعرفوه وأهدوا له فذهب معهم إلى بيعتهم ثم رجع في وسط النهار فطرح ثوبيه واستخرج ثوبين أسودين فلبسهما ثم قال يا أبا سفيان هل لك في عالم من علماء النصارى إليه تناهي علم الكتب تسله عما بدا لك قال قلت لا أرب لي فيه والله لئن حدثني ما أحب لا أثق به ولئن حدثني ما أكره لأوجلن منه

قال وذهب يخالفه شيخ من النصارى فدخل علينا فقال يعني له وللأخر الذي كان معه ما منعكما أن تذهبا إلى هذا الشيخ قلنا لسنا على دينه قال وإن فإنكما تسمعان عجبا وتريانه قال قلنا لا أرب لنا في ذلك قال أثقفيان أنتما قلنا لا ولكن من قريش قال فما منعكما من الشيخ فوالله إنه ليحبكم ويوصي بكم وخرج من عندنا ومكث أمية عنا حتى جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه فوالله ما قام ولا نام حتى أصبح قال فاصبح كئيبا حزينا ساقطا غبوقه على صبوحه ما يكلمنا ثم قال ألا ترحلان قلنا وهل بك من رحيل قال نعم فارحلا
فرحلنا فسرنا بذلك ليلتين من همه وبثه ثم قال ليلة ألا تحدث يا أبا
سفيان قلت وهل بك من حديث فوالله ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك قال أما إن ذلك شيء لست فيه إنما ذلك شيء وجلت به من منقلبي قلت وهل لك من منقلب قال إي والله لأموتن ولأحاسبن قلت فهل أنت قابل أماني قال وعلى ماذا قلت على أنك لا تبعث ولا تحاسب فضحك ثم قال بلى والله يا أبا سفيان لنبعثن ولنحاسبن وليدخلن فريق في الجنة وفريق في النار قلت في أيتهما أنت أخبرك صاحبك قال لا علم لصاحبي بذلك ولا في نفسه
فكنا في ذلك ليلتنا يعجب منا ونضحك منه حتى قدمنا غوطة دمشق وإياها كنا نريد فبعنا متاعنا وأقمنا بذلك شهرين ثم ارتحلنا حتى نزلنا بتلك القرية من قرى النصارى فلما رأوه جاءوه فأهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم حتى جاءنا مع نصف النهار فلبس ثوبيه الأسودين فذهب ولم يدعنا إليه كما دعانا أول مرة ثم جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ثم رمى بنفسه على فراشه فوالله ما نام ولا قام فأصبح مبثوثا حزينا لا يكلمنا ولا نكلمه ثم قال لي ألا ترحلان قلت بلى إن شئت قال فارحلا

فرحلنا فسرنا كذلك من بثه وحزنه ليالي ثم قال لي ليلة يا أبا سفيان هل لك في المسير وتخلف هذا الغلام يستأنس بأصحابنا ويستأنسون به قلت له ما شئت قال فسر فسرنا حتى برزنا قال هي يا صخر قلت مالك قال هي عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المحارم والمظالم قلت إي والله قال ويصل الرحم ويأمر بصلتها قلت نعم ويصل الرحم ويأمر بصلتها قال وكريم الطرفين واسط في العشيرة قلت كريم الطرفين واسط في العشيرة قال فهل تعلم قرشيا أشرف منه قلت لا والله ما أعلم قال ومحوج هو قلت لابل ذو مال قال فكم أتي له قلت هو ابن سبعين نظر إليها قد قاربها هو لها هو ابنها قال فالسن والشرف أزريا به قلت وما لهما أزريا به لا والله بل هما زاداه خيرا قال هو ذاك هل لك في المبيت قلت هل لك فيه حاجة قال فاضطجعنا حتى مر الثقل فسرنا حتى نزلنا فكنا في المنزل وبتنا
ثم رحلنا فلما كان الليل قال يا أبا سفيان قلت لبيك قال هل لك في البارحة قلت هل لي قال فسرنا على ناقتين ناجيتين حتى إذا برزنا قال يا صخر إيه عن عتبة قلت إيه عنه قال أيجتنب المحارم والمظالم ويأمر بصلة الرحم ويصلها قلت ويفعل قال ومحوج قلت ومحوج
قال هل تعلم قرشيا أسود منه قلت والله ما أعلمه قال اوكم أتى له قلت سبعون هو لها هو ابنها قد واقعها قال فإن السن والشرف أزريا به قلت لا والله ما أزريا به ولكنهما زاداه وأنت قائل شيئا فقله قال والله لا تذكر حديثي حتى يأتي ما هو آت قلت والله لا أذكره قال الذي رأيت أصابني فإني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء قلت أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر قال هو رجل من العرب قلت قد علمت فمن أي العرب قال هو من أهل بيت تحجه العرب قلت فينا بيت تحجه العرب قال لا هم إخوتكم وجيرانكم من قريش قال فأصابني والله شيء ما أصابني مثله قط وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة وكنت أرجو أن أكون أنا هو

قلت فإذا كان ما كان فصفه لي قال بلى هو شاب حين دخل في الكهولة بدء أمره أنه يجتنب المحارم والمظالم ويصل الرحم ويأمر بصلتها وهو محوج ليس ينازع شرفا كريم الطرفين متوسط في العشيرة أكثر جنده من الملائكة قلت وما آية ذلك قال قد رجف بالشام منذ هلك عيسى ابن مريم ثمانون رجفة كلها فيهم مصيبة عامة وبقيت رجفة عامة فيها مصيبة يخرج على أثرها
قال أبو سفيان قلت وإن هذا هو الباطل لئن بعث الله رسولا لا يأخذه إلا شريفا مسنا
قال والذي يحلف به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان هل لك في المبيت فبتنا حتى مر بنا الثقل فرحلنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة ليلتان أدركنا
الخبر من خلفنا أصاب الشام بعدكم رجفة دمر أهلها وأصابتهم فيها مصيبة عظيمة
قال كيف ترى يا أبا سفيان قلت أرى والله ما أظن صاحبك إلا صادقا
وقدمنا مكة فقضيت ما كان معي ثم انطلقت حتى جئت أرض الحبشة تاجرا فمكثت بها خمسة أشهر ثم أقبلت حتى قدمت مكة فبينا أنا في منزلي جاءني الناس يسلمون علي حتى جاءني في آخرهم محمد بن عبد الله {صلى الله عليه وسلم} وعندي هند جالسة تلاعب صبية لها فسلم علي ورحب بي وسألني عن سفري ومقدمي ثم انطلق فقلت والله إن هذا الفتى لعجب ما جاءنا أحد من قريش له معي بضاعة إلا سألني عنها وما بلغت ووالله إن له معي لبضاعة ما هو بأغناهم عنها ثم ما سألني فقالت أو ما علمت بشأنه قلت وفزعت ما شأنه قالت والله إنه ليزعم أنه رسول الله قال فوقذني ذلك وذكرني قول النصراني ووجمت حتى قالت لي مالك فانتبهت وقلت إن هذا والله لهو الباطل لهو أعقل من أن يقول هذا قالت بلى والله إنه ليقوله ويؤتي عليه وإن له لصحابة معه على أمره قلت هو والله باطل

فخرجت فبينا أنا أطوف إذ لقيته فقلت إن بضاعتك قد بلغت وكان فيها خير فأرسل إلي فخذها ولست آخذا فيها ما آخذ من قومك قال فإني غير آخذها حتى تأخذ مني ما تأخذ من قومي قلت ما أنا بفاعل قال فوالله إذا لا آخذها قلت فأرسل إليها فأخذت منها ما كنت آخذ وبعثت إليه ببضاعته
ولم أنشب أن خرجت تاجرا إلى اليمن فقدمت الطائف فنزلنا على أمية فتغديت معه ثم قلت يا أبا عثمان هل تذكر حديث النصراني قال أذكره قلت فقد كان قال ومن قلت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ثم قصصت عليه خبر هند قال فالله يعلم أنه تصبب عرقا ثم قال يا أبا سفيان لعله وإن
صفته لهيه ولئن ظهر وأنا حي لأبلين الله في نصرته عذرا
ومضيت إلى اليمن فلم أنشب أن جاءني هناك استهلاله وأقبلت حتى قدمت الطائف فنزلنا على أمية بن أبي الصلت قلت قد كان من هذا الرجل ما قد بلغك وسمعت قال قد كان قلت فأين أنت قال ما كنت لأومن برسول ليس من ثقيف قال أبو سفيان فأقبلت إلى مكة ووالله ما أنا منه ببعيد حتى جئت فوجدته هو وأصحابه يضربون ويقهرون فجعلت أقول فأين جنده من الملائكة ودخلني ما دخل الناس من النفاسة
ووقع في هذا الحديث من قول أبي سفيان أن عتبة بن ربيعة ذو مال ووقع بعد ذلك من قول أبي سفيان أيضا أنه محوج ولا يصح أن يجتمع الأمران وأحدهما غلط من الناقل والله أعلم
والمشهور من حال عتبة أنه كان فقيرا وكان يقال لم يسد من قريش مملق إلا عتبة وأبو طالب فإنهما سادا بغير مال
وأما أمية بن أبي الصلت فرجل من ثقيف لم يرض دين أهل الجاهلية ولا وفقه الله للدخول في السمحة الحنيفية
فكان كما روي عن عروة بن الزبير قال سئل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن أمية بن أبي الصلت فقال أوتي علما فضيعه
وكما روي عن الحسن وقتادة أنهما قالا في قول الله تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ( الأعراف 175 ) أنه أمية بن أبي الصلت

ولغيرهما من العلماء في المعنى بهذه الآية قول أشهر من هذا وهو أن المراد بها بلعام بن باعوراء فالله تعالى أعلم
قال إبن اسحاق واجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم
كانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده فخلص منهم أربعة نفر نجيا ثم قال بعضهم لبعض تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض
قالوا أجل وهم ورقة بن نوفل وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزي وزيد بن عمرو بن نفيل فقال بعضهم لبعض تعلموا والله مل قومكم على شيء لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم ما حجر نظيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء
فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم
فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها
وذكر الزبير بن أبي بكر بإسناد له إلى عروة بن الزبير قال سئل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن ورقة بن نوفل فقال لقد رأيته في المنام عليه ثياب بيض فقد أظن أن لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض
وكان يذكر الله في شعره في الجاهلية ويسبحه وهو الذي يقول
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم
أنا النذير فلا يغرركم أحد
لا تعبدن إلها غير خالقكم
فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد
سبحان ذي العرش سبحانا يدوم له
رب البرية فرد واحد صمد
سبحان ذي العرش سبحانا نعود له
وقبل سبحه الجودي والجمد
مسخر كل ما تحت السماء له
لا ينبغي أن ينادي ملكه أحد
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته
يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه
والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له
والإنس والجن فبما بينها برد
أين الملوك التي كانت لعزتها
من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود هناك بلا كذب
لا بد من ورده يوما كما وردوا
الكامل
وفي هذا الشعر ألفاظ عن غير الزبير والبيت الأخير كذلك وفيه أبيات
تروي لأمية بن أبي الصلت

قال ابن إسحاق وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة ومعه امرأته ام حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة فلما قدماها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانيا وخلف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعده على امرأته أم حبيبة وكان حين تنصر يمر بأصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيقول فقحنا وصأصأتم أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد
وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده
وذكر الزبير أن قيصر ملكه على أهل مكة وكتب له إليهم كتابا فأنفت قريش أن يدينوا لأحد وصاح فيه ابن عمه أبو زمعة الأسود بن المطلب بن أسد والناس في الطواف إن قريشا لقاح لا تملك ولا تملك فمضت قريش على كلامه ومنعوا عثمان ما جاء يطلب فرجع إلى قيصر ومات بالشام مسموما يقال سمه عمرو بن حفنة الغساني الملك وكان يقال لعثمان هذا البطريق ولا عقب له
قال ابن إسحاق وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان ونهى عن قتل الموءودة وقال أعبد رب إبراهيم وبادي قومه بعيب ما هم عليه
قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما لقد رأيت زيد بن عمرو ابن نفيل شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول يا معشر قريش والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري ثم يقول اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به ولكن لا أعلمه ثم يسجد على راحلته
وسأل ابنه سعيد بن زيد وابن عمه عمر بن الخطاب بن نفيل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنستغفر لزيد بن عمرو قال نعم فإنه يبعث أمة وحده
وقال زيد بن عمرو بن نفيل في فراق دين قومه
أربا واحدا أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعا
كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا عزي أدين ولا ابنتيها
ولا صنمى بني عمرو أزور
ولا غنما أدين وكان ربا
لنا في الدهر إذ حلمي يسير

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9