كتاب : مدارك التنزيل وحقائق التأويل
المؤلف : أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الأخر } ثم كرر الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه تقريراً وتأكيداً عليهم ، ولذا جاء به مصدراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد ، وأبدل من قوله { لَكُمْ } قوله { لّمَن كَانَ يَرْجُو الله } أي ثوابه أي يخشى الله وعقبه بقوله { وَمَن يَتَوَلَّ } يعرض عن أمرنا ويوال الكفار { فَإِنَّ الله هُوَ الغنى } عن الخلق { الحميد } المستحق للحمد فلم يترك نوعاً من التأكيد إلا جاء به ولما أنزلت هذه الآيات وتشدد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين أطمعهم في تحول الحال إلى خلافة فقال :
{ عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم } أي من أهل مكة من أقربائكم { مَّوَدَّةَ } بأن يوفقهم للإيمان ، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم فأسلم قومهم وتم بينهم التحاب . و «عسى» وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج عسى أو لعل فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك أو أريد به إطماع المؤمنين { والله قَدِيرٌ } على تقليب القلوب وتحويل الأحوال وتسهيل أسباب المودة { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن أسلم من المشركين { لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم أَن تَبَرُّوهُمْ } تكرموهم وتحسنوا إليهم قولاً وفعلاً . ومحل { أَن تَبَرُّوهُمْ } جر على البدل من { الذين لَمْ يقاتلوكم } وهو بدل اشتمال والتقدير عن بر الذين { وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ } وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم ، وإذا نهى عن الظلم في حق المشرك فكيف في حق المسلم { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم فِى الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم وظاهروا على إخراجكم أَن تَوَلَّوْهُمْ } هو بدل من { الذين قاتلوكم } والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ } منكم { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } حيث وضعوا التولي غير موضعه .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات } سماهن مؤمنات لنطقهن بكلمة الشهادة ، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان { مهاجرات } نصب على الحال { فامتحنوهن } فابتلوهن بالنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن . وعن ابن عباس : امتحانها أن تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله { الله أَعْلَمُ بإيمانهن } منكم فإنكم وإن رزتم أحوالهن لا تعلمون ذلك حقيقة وعند الله حقيقة العلم به { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات } العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بظهور الأمارات ، وتسمية الظن علماً يؤذن بأن الظن الغالب وما يفضي إليه القياس جارٍ مجرى العلم وصاحبه غير داخل في قوله
{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين .
{ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } أي لا حل بين المؤمنة والمشرك لوقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة { وَءاتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ } وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور . نزلت الآية بعد صلح الحديبية وكان الصلح قد وقع على أن يرد على أهل مكة من جاء مؤمناً منهم ، فأنزل الله هذه الآية بياناً لأن ذلك في الرجال لا في النساء لأن المسلمة لا تحل للكافر . وقيل : نسخت هذه الآية الحكم الأول { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } ثم نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات { ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن لأن المهر أجر البضع وبه احتج أبو حنيفة رضي الله عنه على أن لا عدة على المهاجرة { وَلاَ تُمْسِكُواْ } { وَلاَ تُمْسِكُواْ } بصري { بِعِصَمِ الكوافر } العصمة ما يعتصم به من عقد وسبب . والكوافر جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب أو لحقت بدار الحرب مرتدة أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية . قال ابن عباس رضي الله عنهما : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّنّ بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه { وَسْئَلُواْ مَا أَنفَقْتُم } من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار ممن تزوجها { وَلْيَسْئَلُواْ مَا أَنفَقُواْ } من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله } أي جميع ما ذكر في هذه الآية { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف الضمير أي يحكمه الله ، أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة وهو منسوخ فلم يبق سؤال المهر لا منا ولا منهم { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار } وإن انفلت أحد منهن إلى الكفار وهو في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أحد .
{ فعاقبتم } فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم عن الزجاج { فَأَتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ } فأعطوا المسلمين الذين ارتدت زوجاتهم ولحقن بدار الحرب مهور زوجاتهم من هذه الغنيمة { واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } وقيل : هذا الحكم منسوخ أيضاً .
{ يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ } حال { على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن } يريد وأد البنات { وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك ، كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً ، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ } طاعة الله ورسوله { فَبَايِعْهُنَّ واستغفر لَهُنَّ الله } عما مضى { إِنَّ الله غَفُورٌ } بتمحيق ما سلف { رَّحِيمٌ } بتوفيق ما ائتنف .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر قاعد أسفل منه يبايعهن عنه بأمره ويبلغهن عنه ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة فقال عليه السلام : « أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً » فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئاً فقال عليه السلام : « ولا يسرقن » فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات فقال أبو سفيان : ما أصبت فهو لك حلال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها : إنك لهند . قالت : نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال : « ولا يزنين » فقالت : أو تزني الحرة؟ فقال : « ولا يقتلن أولادهن » فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « ولا يأتين ببهتان » فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق . فقال : « ولا يعصينك في معروف » فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وهو يشير إلى أن طاعة الولاة لا تجب في المنكر .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ } ختم السورة بما بدأ به قيل هم المشركون { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الأخرة } من ثوابها لأنهم ينكرون البعث { كَمَا يَئِسَ الكفار } أي كما يئسوا إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير { مِنْ أصحاب القبور } أن يرجعوا إليهم أو كما يئس أسلافهم الذين هم في القبور من الآخرة أي هؤلاء كسلفهم . وقيل : هم اليهود أي لا تتولوا قوماً مغضوباً عليهم قد يئسوا من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة ، كما يئس الكفار من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء . وقيل : من أصحاب القبور بيان للكفار أي كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم ، والله أعلم .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } رُوي أنهم قالوا قبل أن يؤمروا بالجهاد : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه ، فنزلت آية الجهاد فتباطأ بعضهم فنزلت { يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } «لم» هي لام الإِضافة داخلة على «ما» الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : «بم وفيم ومم وعم وإلام وعلام» ، وإنما حذفت الألف لأن «ما» واللام أو غيرها كشيء واحد وهو كثير الاستعمال في كلام المستفهم ، وقد جاء استعمال الأصل قليلاً قال :
على ما قام يشتمني جرير
والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان ومن أسكن في الوصل فلإِجرائه مجرى الوقف { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله
غلت ناب كليب بواؤها
ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأسند إلى أن تقولوا ونصب مقتاً على التمييز ، وفيه دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، والمعنى : كبر قولكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله ، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض ، وعن بعض السلف أنه قيل له : حدثنا ، فقال : أتأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله .
ثم أعلم الله عز وجل ما يحبه فقال : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً } أي : صافين أنفسهم مصدر وقع موقع الحال { كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ } لاصق بعضه ببعض . وقيل : أريد به استواء نياتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رص بعضه إلى بعض وهو حال أيضاً { وَإِذْ } منصوب ب «اذكر» { قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِى } بجحود الآيات والقذف بما ليس فيّ { وَقَد تَّعْلَمُونَ } في موضع الحال أي : لم تؤذونني عالمين علماً يقيناً { أَنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } وقضية علمكم بذلك توقيري وتعظيمي لا أن تؤذوني { فَلَمَّا زَاغُواْ } مالوا عن الحق { أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } من الهداية ، أو لما تركوا أوامره نزع نور الإيمان من قلوبهم ، أو فلما اختاروا الزيع أزاغ الله قلوبهم أي : خذلهم وحرمهم توفيق اتباع الحق { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } أي : لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق .
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابنى إسراءيل } ولم يقل : يا قوم كما قال موسى لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه { إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التوراة وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسمه أَحْمَدُ } أي : أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة وفي حالٍ تبشيري برسول يأتي من بعدي يعني : أن ديني التصديق : التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر ، { بَعْدِى } حجازي وأبو عمرو وأبو بكر وهو اختيار الخليل وسيبويه ، وانتصب { مُصَدّقاً } و { مُبَشّرًا } بما في الرسول من معنى الإِرسال { فَلَمَّا جَآءَهُمُ } عيسى أو محمد عليهما السلام { بالبينات } بالمعجزات { قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } { ساحر } حمزة وعلي .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } وأيّ : الناس أشد ظلماً ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإِسلام الذي له فيه سعادة الدارين ، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق هذا سحر والسحر كذب وتمويه { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم } هذا تهكم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن : هذا سحر ، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه والمفعول محذوف واللام للتعليل ، والتقدير : يريدون الكذب ليطفئوا نور الله بأفواههم ، أي : بكلامهم { والله مُتِمُّ نُورِهِ } مكي وحمزة وعلي وحفص { مُتِمٌّ نُورِهِ } غيرهم أي : متم الحق ومبلغه غايته { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق } أي : الملة الحنيفية { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه { عَلَى الدين كُلّهِ } على جميع الأديان المخالفة له ، ولعمري لقد فعل فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام ، وعن مجاهد : إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } .
{ يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } { تُنجّيكُم } شامي { تُؤْمِنُونَ } استئناف كأنّهم قالوا كيف نعمل؟ فقال : { تؤمنون } وهو بمعنى آمنوا عند سيبويه ولهذا أجيب بقوله : { يَغْفِرْ لَكُمْ } ويدل عليه قراءة ابن مسعود { آمنوا بالله وَرَسُولِهِ وجاهدوا } وإنما جيء به على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل ، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين { بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ } أي : ما ذكر من الإيمان والجهاد { خَيْرٌ لَّكُمْ } من أموالكم وأنفسكم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه خير لكم كان خيراً حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتفلحون وتخلصون { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ومساكن طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : إقامة وخلود يقال عدن بالمكان إذا أقام به كذا قيل : { ذلك الفوز العظيم وأخرى تُحِبُّونَهَا } ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم ، ثم فسرها بقوله { نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي : عاجل ، وهو فتح مكة والنصر على قريش : أو فتح فارس والروم ، وفي { تُحِبُّونَهَا } شيء من التوبيخ على محبة العاجل ، وقال صاحب الكشف معناه : هل أدلكم على تجارة تنجيكم وعلى تجارة أخرى تحبونها ، ثم قال : { نَصْرُ } أي : نصر هي { وَبَشّرِ المؤمنين } عطف على { تُؤْمِنُونَ } لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا - يثبكم الله وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك : وقيل : عطف على «قل» مراداً قبل { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ } .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أَنْصَارُ الله } أي : أنصار دينه { أَنصَاراً لِلَّهِ } حجازي وأبو عمرو { كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ للحواريّن من أنصاري إلى الله } ظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى { مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله } ولكنه محمول على المعنى ، أي : كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم : { مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله } ومعناه : من جندي متوجهاً إلى نصرة الله ليطابق جواب الحواريين وهو قوله : { قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله } أي : نحن الذين ينصرون الله ، ومعنى { مَنْ أَنصَارِى } من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله والحواريون أصفياؤه ، وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً ، وحواري الرجل صفيه ، وخالصه من الحور وهو البياض الخالص ، وقيل : كانوا قصارين يحورون الثياب ، أي : يبيضونها { فَئَامَنَت طَّائِفَةٌ مّن بَنِى إسراءيل } بعيسى { وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ } به { فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ عَلَى عَدُوِهِمْ } فقوينا مؤمنيهم على كفارهم { فَأَصْبَحُواْ ظاهرين } فغلبوا عليهم والله ولي المؤمنين والله أعلم .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
{ يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم } التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقة يعني إذا نظرت إلى كل شيء دلتك خلقته على وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن الأشباه ، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كل شيء ما يعرف به الله تعالى وينزهه ، ألا ترى إلى قوله { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كل جوهر من غير معرفة له بذلك { هُوَ الذى بَعَثَ } أرسل { فِى الأميين رَسُولاً مّنْهُمْ } أي بعث رجلاً أمياً في قوم أميين . وقيل { مِنْهُمْ } كقوله { مّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] يعلمون نسبه وأحواله . والأمي منسوب إلى أمة العرب لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم . وقيل : بدئت الكتابة بالطائف وهم أخذوها من أهل الحيرة وأهل الحيرة من أهل الأنبار { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياته } القرآن { وَيُزَكّيهِمْ } ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب } القرآن { والحكمة } السنة أو الفقه في الدين { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ } من قبل محمد صلى الله عليه وسلم { لَفِى ضلال مُّبِينٍ } كفر وجهالة ، و«إن» مخففة من الثقيلة واللام دليل عليها أي كانوا في ضلال لا ترى ضلالاً أعظم منه .
{ وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ } مجرور معطوف على { الأميين } يعني أنه بعثه في الأميين الذين على عهده وفي آخرين من الأميين { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم ، أو هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم الدين . وقيل : هم العجم . أو منصوب معطوف على المنصوب في { وَيُعَلّمُهُمُ } أي يعلمهم ويعلم آخرين لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستنداً إلى أوله فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه { وَهُوَ العزيز الحكيم } في تمكينه رجلاً أمياً من ذلك الأمر العظيم وتأييده عليه واختياره إياه من بين كافة البشر { ذلك } الفضل الذي أعطاه محمداً وهو أن يكون نبي أبناء عصره ونبي أبناء العصور الغوابر هو { فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } إعطاءه وتقتضيه حكمته { والله ذُو الفضل العظيم مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة } أي كلفوا علمها والعمل بما فيها { ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } ثم لم يعملوا بها فكأنهم لم يحملوها { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } جمع سفر وهو الكتاب الكبير و { يَحْمِلُ } في محل النصب على الحال أو الجر على الوصف لأن الحمار كاللئيم في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بآياتها ، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به فلم يؤمنوا به بالحمار حمل كتباً كباراً من كتب العلم فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب ، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله { بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله } أي بئس مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ، أو بئس مثل القوم المكذبين مثلهم وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } أي وقت اختيارهم الظلم أو لا يهدي من سبق في علمه أنه يكون ظالماً .
{ قُلْ ياأيها الذين هَادُواْ } هاد يهود إذا تهود { إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صادقين } كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه أي إن كان قولكم حقاً وكنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه ، ثم قال { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ } أي بسبب ما قدموا من الكفر . ولا فرق بين «لا» و«لن» في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل إلا أن في «لن» تأكيداً وتشديداً ليس في «لا» فأتى مرة بلفظ التأكيد و { لَنْ يَتَمَنَّوْهُ } ومرة بغير لفظه و { لا يَتَمَنَّونَهُ } { والله عَلِيمٌ بالظالمين } وعيد لهم .
{ قُلْ إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ } ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم { فَإِنَّهُ ملاقيكم } لا محالة والجملة خبر «إن» ودخلت الفاء لتضمن الذي معنى الشرط { ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة } النداء الأذان و«من» بيان ل «إذا» وتفسير له ، ويوم الجمعة سيد الأيام وفي الحديث : " من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقى فتنة القبر " { فاسعوا } فامضوا وقرىء بها وقال الفراء : السعي والمضي والذهاب واحد وليس المراد به السرعة في المشي { إلى ذِكْرِ الله } أي إلى الخطبة عند الجمهور وبه استدل أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الخطيب إذا اقتصر على الحمد لله جاز { وَذَرُواْ البيع } أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا . وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال فقيل له بادروا تجارة الآخرة واتركوا تجارة الدنيا واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح ، وذروا البيع الذي نفعه يسير { ذلكم } أي السعي إلى ذكر الله { خَيْرٌ لَّكُمْ } من البيع والشراء { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } أي أديت { فانتشروا فِى الأرض } أمر إباحة { وابتغوا مِن فَضْلِ الله } الرزق أو طلب العلم أو عيادة المريض أو زيارة أخ في الله { واذكروا الله كَثِيراً } واشكروه على ما وفقكم لأداء فرضه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } تفرقوا عنك إليها وتقديره : وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه خص التجارة لأنها كانت أهم عندهم .
رُوي أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشأم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقاموا إليه فما بقي معه إلا ثمانية أو اثنا عشر فقال صلى الله عليه وسلم : « والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعاً لأضرم عليهم الوادي ناراً » وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق فهو المراد باللهو { وَتَرَكُوكَ } على المنبر { قَائِمَاً } تخطب ، وفيه دليل على أن الخطيب ينبغي أن يخطب قائماً { قُلْ مَا عِندَ الله } من الثواب { خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين } أي لا يفوتهم رزق الله بترك البيع فهو خيرالرازقين ، والله أعلم .
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
{ إِذَا جَاءكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } أرادوا شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } أي والله يعلم أن الأمر كما يدل عليه قولهم { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون } في ادعاء المواطأة أو إنهم لكاذبون فيه لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة فهم كاذبون في تسميته شهادة ، أو إنهم لكاذبون عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } وقاية من السبي والقتل وفيه دليل على أن أشهد يمين { فَصَدُّواْ } الناس { عَن سَبِيلِ الله } عن الإسلام بالتنفير وإلقاء الشبه { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله . وفي «ساء» معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين { ذلك } إشارة إلى قوله { سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا أي نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ، ثم كفروا ، ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بقولهم : إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن حمير ونحو ذلك ، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام كقوله { وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا } [ البقرة : 14 ] الآية . { فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ } فختم عليها حتى لا يدخلها الإيمان جزاء على نفاقهم { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } لا يتدبرون أو لا يعرفون صحة الإيمان .
والخطاب في { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم } لرسول الله أو لكل من يخاطب { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } كان ابن أبيّ رجلاً جسيماً صبيحاً فصيحاً ، وقوم من المنافقين في مثل صفته ، فكانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياً كلهم ويسمعون إلى كلامهم . وموضع { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ } رفع على «هم كأنهم خشب» ، أو هو كلام مستأنف لا محل له { مُّسَنَّدَةٌ } إلى الحائط ، شبهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكاً غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبهوا به في عدم الانتفاع ، أو لأنهم أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام ، { خُشُبٌ } أبو عمرو غير عباس وعلي جمع خشبة كبدنة وبدون خشب كثمرة وثمر { يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم } { كُلَّ صَيْحَةٍ } مفعول أول والمفعول الثاني { عَلَيْهِمْ } وتم الكلام أي يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم لخيفتهم ورعبهم يعني إذا نادى منادٍ في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوه إيقاعاً بهم .
ثم قال { هُمُ العدو } أي هم الكاملون في العداوة لأن أعدى الأعداء العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي { فاحذرهم } ولا تغترر بظاهرهم { قاتلهم الله } دعاء عليهم أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك { أنى يُؤْفَكُونَ } كيف يعدلون عن الحق تعجباً من جهلهم وضلالتهم .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ } عطفوها وأمالوها إعراضاً عن ذلك واستكباراً { لَوَّوْاْ } بالتخفيف : نافع { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ } يعرضون { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } عن الاعتذار والاستغفار . رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتلهم ، ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر وسنان الجهني حليف لابن أبي واقتتلا ، فصرخ جهجاه : يا للمهاجرين ، وسنان : يا للأنصار ، فأعان جهجاهاً جعال من فقراء المهاجرين ولطم سناناً فقال عبد الله لجعال وأنت هناك وقال : ما صحبنا محمداً إلا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال : سمن كلبك يأكلك . أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، عني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لقومه : والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد . فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث فقال : أنت والله الذليل المبغض في قومك ، ومحمد على رأسه تاج المعراج في عز من الرحمن وقوة من المسلمين . فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب . فأخبر زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله . فقال : إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب . قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصارياً . قال : فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه . وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله : أنت صاحب الكلام الذي بلغني؟ قال : والله أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك وإن زيداً لكاذب فهو قوله { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } فقال الحاضرون : يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام عسى أن يكون قدوهم . فلما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد : يا غلام إن الله قد صدقك وكذب المنافقين . فلما بان كذب عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك فلوى رأسه فقال : أمرتموني أن أومن فآمنت وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت وما بقي لي إلا أن أسجد لمحمد ، فنزل { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله } ولم يلبث إلا أياماً حتى اشتكى ومات .
{ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } أي ما داموا على النفاق . والمعنى سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم ، أو لأن الله لا يغفر لهم . وقرىء { استغفرت } على حذف حرف الاستفهام لأن «أم» المعادلة تدل عليه { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين * هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } يتفرقوا { وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السماوات والأرض } أي وله الأرزاق والقسم فهو رازقهم منها وإن أبى أهل المدينة أن ينفقوا عليهم { ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ } ولكن عبد الله وأضرابه جاهلون لا يفقهون ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان .
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا } من غزوة بني المصطلق { إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل وَلِلَّهِ العزة } الغلبة والقوة { وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين وهم الأخصاء بذلك كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين . وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة : ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه ، والغني الذي لا فقر معه! وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلاً قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً . قال : ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية { ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ * ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ } لا تشغلكم { أموالكم } والتصرف فيها والسعي في تدبير أمرها بالنماء وطلب النتاج { وَلاَ أولادكم } وسروركم بهم وشفقتكم عليهم والقيام بمؤنهم { عَن ذِكْرِ الله } أي عن الصلوات الخمس أو عن القرآن { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } يريد الشغل بالدنيا عن الدين . وقيل : من يشتغل بتثمير أمواله عن تدبير أحواله وبمرضاة أولاده عن إصلاح معاده { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } في تجارتهم حيث باعوا الباقي بالفاني .
{ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رزقناكم } «من» للتبعيض والمراد بالإنفاق الواجب { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت } أي من قبل أن يرى دلائل الموت ويعاين ما ييأس معه من الإمهال ويتعذر عليه الإنفاق { فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى } هلا أخرت موتي { إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } إلى زمان قليل { فَأَصَّدَّقَ } فأتصدق وهو جواب «لولا» { وَأَكُن مّنَ الصالحين } من المؤمنين . والآية في المؤمنين . وقيل : في المنافقين . { وأكون } أبو عمرو بالنصب عطفاً على اللفظ ، والجزم على موضع { فَأَصَّدَّقَ } كأنه قيل : إن أخرتني أصدق وأكن { وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً } عن الموت { إِذَا جَاء أَجَلُهَا } المكتوب في اللوح المحفوظ { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } { يَعْمَلُونَ } حماد ويحيى ، والمعنى أنكم إذا علمتم أن تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه ، وأنه هاجم لا محالة ، وأن الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها من منع واجب وغيره ، لم يبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجب والاستعداد للقاء الله تعالى ، والله أعلم بالصواب .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
{ يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل ، وذلك لأن الملك على الحقيقة له لأنه مبدىء كل شيء والقائم به ، وكذا الحمد لأن أصول النعم وفروعها منه ، وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء وحمد غيره اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده { هُوَ الذى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } أي فمنكم آتٍ بالكفر وفاعل له ، ومنكم آتٍ بالإيمان وفاعل له ، ويدل عليه { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي عالم وبصير بكفركم وإيمانكم اللذين هما من عملكم . والمعنى هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من العدم ، وكان يجب أن تكونوا بأجمعكم شاكرين ، فما بالكم تفرقتم أمماً فمنكم كافر ومنكم مؤمن؟ وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم وهو رد لقول من يقول بالمنزلة بين المنزلتين . وقيل : هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ، ومنكم مؤمن به .
{ خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } بالحكمة البالغة وهو أن جعلها مقار المكلفين ليعملوا فيجازيهم { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي جعلكم أحسن الحيوان كله وأبهاه بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور ، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب ، ومن كان دميماً مشوه الصورة سمج الخلقة فلا سماجة ثمّ ، ولكن الحسن على طبقات فلانحطاطها عما فوقها لا تستملح ولكنها غير خارجة عن حد الحسن ، وقالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما ، الجمال والبيان { وَإِلَيْهِ المصير } فأحسنوا سرائركم كما أحسن صوركم { يَعْلَمُ مَا فِى السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ والله عَلِيمُ بِذَاتِ الصدور } نبه بعلمه ما في السماوات والأرض ، ثم بعلمه بما يسره العباد ويعلنونه ، ثم بعلمه بذات الصدور أن شيئاً من الكليات والجزئيات غير خافٍ عليه فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه . وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد وكل ما ذكره بعده قوله { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصى الخالف ولا تشكر نعمته .
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } الخطاب لكفار مكة { نَبَؤُاْ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } يعني قوم نوح وهود وصالح ولوط { فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } أي ذاقوا وبال كفرهم في الدنيا { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في العقبى .
{ ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعد لهم من العذاب في الآخرة { بِأَنَّهُ } بأن الشأن والحديث { كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات } بالمعجزات { فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } أنكروا الرسالة للبشر ولم ينكروا العبادة للحجر { فَكَفَرُواْ } بالرسل { وَتَوَلَّواْ } عن الإيمان { واستغنى الله } أطلق ليتناول كل شيء ومن جملته أيمانهم وطاعتهم { والله غَنِىٌّ } عن خلقه { حَمِيدٌ } على صنعه .
{ زَعَمَ الذين كَفَرُواْ } أي أهل مكة ، والزعم ادعاء العلم ويتعدى تعدي العلم { أَن لَّن يُبْعَثُواْ } «أن» مع ما في حيزه قائم مقام المفعولين وتقديره أنهم لن يبعثوا { قُلْ بلى } هو إثبات لما بعد «لن» وهو البعث { وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ } أكد الإخبار باليمين . فإن قلت : ما معنى اليمين على شيء أنكروه؟ قلت : هو جائز لأن التهديد به أعظم موقعاً في القلب فكأنه قيل لهم : ما تنكرونه كائن لا محالة . { ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ } البعث { عَلَى الله يَسِيرٌ } هين { فَئَامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم { والنور الذى أَنزَلْنَا } يعني القرآن لأنه يبين حقيقة كل شيء فيهتدي به كما بالنور { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فراقبوا أموركم { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ } انتصب الظرف بقوله { لَتُنَبَّؤُنَّ } أو بإضمار «اذكر» { لِيَوْمِ الجمع } ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغبن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء ، كما ورد في الحديث ، ومعنى ذلك يوم التغابن . وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم استعظام له وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا } صفة للمصدر أي عملاً صالحاً { يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُدْخِلْهُ } وبالنون فيهما : مدني وشامي { جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفوز العظيم الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أُوْلَئِكَ أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير } .
{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } شدة ومرض وموت أهل أو شيء يقتضي همًّا { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } بعلمه وتقديره ومشيئته كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه { وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ } للاسترجاع عند المصيبة حتى يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون . أو يشرحه للازدياد من الطاعة والخير ، أو يهد قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وعن مجاهد : إن ابتلي صبر وإن أعطى شكر وإن ظلم غفر { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَولَّيْتُمْ } عن طاعة الله وطاعة رسوله { فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين } أي فعليه التبليغ وقد فعل { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التوكل عليه حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ } أي إن من الأزواج أزواجاً يعادين بعولتهن ويخاصمنهم ، ومن الأولاد أولاداً يعادون آباءهم ويعقّونهم { فاحذروهم } الضمير للعدو أو للأزواج والأولاد جميعاً أي لما علمتم أن هؤلاء لا يخلون من عدوّ فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم { وَإِن تَعْفُواْ } عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها { وَتَصْفَحُواْ } تعرضوا عن التوبيخ { وَتَغْفِرُواْ } تستروا ذنوبهم { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم . قيل : إن ناساً أرادوا الهجرة عن مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا : تنطلقون وتضيعوننا . فرقوا لهم ووقفوا ، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فزين لهم العفو .
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{ إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } بلاء ومحنة لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ولا بلاء أعظم منهما { والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي في الآخرة وذلك أعظم من منفعتكم بأموالكم وأولادكم . ولم يدخل فيه «من» كما في العداوة لأن الكل لا يخلو عن الفتنة وشغل القلب وقد يخلو بعضهم عن العداوة { فاتقوا الله مَا استطعتم } جهدكم ووسعكم ، قيل : هو تفسير لقوله { حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] { واسمعوا } ما توعظون به { وَأَطِيعُواْ } فيما تؤمرون به وتنهون عنه { وَأَنْفِقُواْ } في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها { خَيْراً لأَِنفُسِكُمْ } أي انفاقاً خيراً لأنفسكم . وقال الكسائي : يكن الإنفاق خيراً لأنفسكم والأصح أن تقديره ائتوا خيراً لأنفسكم وافعلوا ما هو خير لها ، وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر وبيان ، لأن هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وما أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } أي البخل بالزكاة والصدقة الواجبة { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون * إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً } بنية وإخلاص ، وذكر القرض تلطف في الاستدعاء { يضاعفه لَكُمْ } يكتب لكم بالواحدة عشراً أو سبعمائة إلى ما شاء من الزيادة { وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله شَكُورٌ } يقبل القليل ويعطي الجزيل { حَلِيمٌ } يقيل الجليل من ذنب البخيل أو يضعف الصدقة لدافعها ولا يعجل العقوبة لمانعها { عالم الغيب } أي يعلم ما استتر من سرائر القلوب { والشهادة } أي ما انتشر من ظواهر الخطوب { العزيز } المعز بإظهار العيوب { الحكيم } في الإخبار عن الغيوب ، والله أعلم .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
{ يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم يا فلان افعلوا كذا إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه وأنه قدوة قومه ، فكان هو وحده في حكم كلهم وسادّاً مسد جميعهم . وقيل : التقدير يا أيها النبي والمؤمنون . ومعنى { إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } إذا أردتم تطليقهن وهممتم به على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه كقوله عليه السلام « من قتل قتيلاً فله سلبه » ومنه : كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي . { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فطلقوهن مستقبلات لعدتهن ، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم { فِى قبل عدتهن } وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدتها ، والمراد أن تطلق المدخول بهن من المعتدات بالحيض في طهر لم يجامعهن فيه ، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن وهذا أحسن الطلاق { وَأَحْصُواْ العدة } واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن ، وخوطب الأزواج لغفلة النساء .
{ واتقوا الله رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ } حتى تنقضي عدتهن { مِن بُيُوتِهِنَّ } من مساكنهن التي يسكنها قبل العدة وهي بيوت الأزواج ، وأضيفت إليهن لاختصاصها بهن من حيث السكنى ، وفيه دليل على أن السكنى واجبة ، وأن الحنث بدخول دار يسكنها فلان بغير ملك ثابت فيما إذا حلف لا يدخل داره . ومعنى الإخراج أن لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن ، وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك إيذاناً بأن إذنهم لا أثر له في رفع الحظر { وَلاَ يَخْرُجْنَ } بأنفسهن إن أردن ذلك { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ } قيل : هي الزنا أي إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن . وقيل : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } أي الأحكام المذكورة { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى } أيها المخاطب { لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } بأن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها ، والمعنى فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ولا تخرجوهن من بيوتهن لعلكم تندمون فتراجعون .
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } قاربن آخر العدة { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي فأنتم بالخيار إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان ، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتقاء الضرار وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلاً للعدة عليها وتعذيباً لها { وَأَشْهِدُواْ } يعني عند الرجعة والفرقة جميعاً ، وهذا الإشهاد مندوب إليه لئلا يقع بينهما التجاحد { ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ } من المسلمين { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } لوجهه خالصاً وذلك أن يقيموها لا للمشهود له ولا للمشهود عليه ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الضرر { ذلكم } الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط { يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } أي إنما ينتفع به هؤلاء { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } هذه جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة ، والمعنى ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد { يَجْعَلِ الله لَهُ مَخْرَجاً } مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ويفرج عنه ويعطه الخلاص .
{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه ، ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ } . أي ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ومخلصاً من غموم الدنيا والآخرة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها فقال : « مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ومن يتق الله » فما زال يقرؤها ويعيدها ، ورُوي أن عوف بن مالك أسر المشركون ابناً له فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة فقال : « ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » فقالت : نعم ما أمرنا به فجعلا يقولان ذلك ، فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدو فاستاقها فنزلت هذه الآية { وَمَن يَتَوَكَّلْ على الله } يكل أمره إليه عن طمع غيره وتدبير نفسه { فَهُوَ حَسْبُهُ } كافيه في الدارين { إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ } حفص أي منفذ أمره ، غيره { بالغٌ أمرَه } أي يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَىْء قَدْراً } تقديراً وتوقيتاً ، وهذا بيان لوجوب التوكل على الله وتفويض الأمر إليه ، لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل .
{ واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ } رُوي أن ناساً قالوا : قد عرفنا عدة ذوات الإقراء فما عدة اللائي لم يحضن؟ فنزلت { إِنِ ارتبتم } أي أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن { فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } أي فهذا حكمهن .
وقيل : إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس ، وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين أهو دم حيض أو استحاضة فعدتهن ثلاثة أشهر ، وإذا كانت عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك { واللائي لَمْ يَحِضْنَ } هن الصغائر وتقديره واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر فحذفت الجملة لدلالة المذكور عليها { وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ } عدتهن { أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } والنص يتناول المطلقات والمتوفي عنهم أزواجهن . وعن علي وابن عباس رضي الله عنهم : عدة الحامل المتوفي عنها زوجها أبعد الأجلين { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } ييسر له من أمره ويحلل من عقده بسبب التقوى { ذَلِكَ أَمْرُ الله } أي ما علم من حكم هؤلاء المعتدات { أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } من اللوح المحفوظ { وَمَن يَتَّقِ الله } في العمل بما أنزله من هذه الأحكام وحافظ على الحقوق الواجبة عليه { يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } ثم بين التقوى في قوله { وَمَن يَتَّقِ الله } كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل { أَسْكِنُوهُنَّ } وكذا وكذا { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } هي «من» التبعيضية مبعضها محذوف أي أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم أي بعض مكان سكناكم { مّن وُجْدِكُمْ } هو عطف بيان لقوله { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } وتفسير له كأنه قيل : أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه والوجد : الوسع والطاقة . وقرىء بالحركات الثلاث والمشهور الضم . والنفقة والسكنى واجبتان لكل مطلقة ، وعند مالك والشافعي لا نفقة للمبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أبت طلاقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا سكنى لك ولا نفقة " وعن عمر رضي الله عنه : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " لها السكنى والنفقة " { وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ } ولا تستعملوا معهن الضرار { لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ } في المسكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن أو يشغل مكانهن أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج .
{ وَإِن كُنَّ } أي المطلقات { أولات حَمْلٍ } ذوات أحمال { فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وفائدة اشتراط الحمل أن مدة الحمل ربما تطول فيظن ظان النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل فنفي ذلك الوهم { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } يعني هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولداً من ظئرهن أو منهن بعد انقطاع عصمة الزوجية { فَئَاتُوهُنَ أُجُورَهُنَ } فحكمهن في ذلك حكم الأظآر ، ولا يجوز الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبن خلافاً للشافعي رحمه الله { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ } أي تشاوروا على التراضي في الأجرة ، أو ليأمر بعضكم بعضاً ، والخطاب للآباء والأمهات { بِمَعْرُوفٍ } بما يليق بالسنة ويحسن في المروءة فلا يماكس الأب ولا تعاسر الأم لأنه ولدهما وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ } تضايقتم فلم ترض الأم بما ترضع به الأجنبية ولم يزد الأب على ذلك { فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه ، وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة . وقوله { لَهُ } أي للأب أي سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه .
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله } أي لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه يريد ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات ، ومعنى { قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } ضيق أي رزقه الله على قدر قوته { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ مَآ ءاتَاهَا } أعطاها من الرزق { سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } بعد ضيق في المعيشة سعة وهذا وعد لذي العسر باليسر .
{ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ } من أهل قرية { عَتَتْ } أي عصت { عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ } أعرضت عنه على وجه العتو والعناد { فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً } بالاستقصاء والمناقشة { وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً } { نُّكْراً } مدني وأبو بكر منكراً عظيماً { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً } أي خساراً وهلاكاً ، والمراد حساب الآخرة وعذابها وما يذوقون فيها من الوبال ويلقون من الخسر . وجيء به على لفظ الماضي لأن المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة وما هو كائن فكأن قد { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } تكرير للوعيد وبيان لكونه مترقباً كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب { فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين ءامَنُواْ } فليكن لكم ذلك يا أولي الألباب من المؤمنين لطفاً في تقوى الله وحذر عقابه ، ويجوز أن يراد إحصاء السيئات واستقصاؤها عليهم في الدنيا وإثباتها في صحائف الحفظة وما أصيبوا به من العذاب في العاجل ، وأن يكون { عَتَتْ } وما عطف عليه صفة للقرية و { أَعَدَّ الله لَهُمْ } جواباً ل { كأين } { قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً } أي القرآن . وانتصب { رَسُولاً } بفعل مضمر تقديره أرسل رسولاً أو بدل من { ذِكْراً } كأنه في نفسه ذكراً وعلى تقدير حذف المضاف أي قد أنزل الله إليكم ذا ذكر رسولاً ، أو أريد بالذكر الشرف كقوله { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] أي ذا شرف ومجد عند الله وبالرسول جبريل أو محمد عليهما السلام { يَتْلُواْ } أي الرسول أو الله عز وجل { عَلَيْكُمْ ءايات الله مبينات لّيُخْرِجَ } الله .
{ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح ، أو ليخرج الذين علم أنهم يؤمنون { مِنَ الظلمات إِلَى النور } من ظلمات الكفر أو الجهل إلى نور الإيمان أو العلم { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا يُدْخِلْهُ } وبالنون : مدني وشامي { جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَدًا } وحد وجمع حملاً على لفظ «من» ومعناه { قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } فيه معنى التعجب والتعظيم لما رزق المؤمنين من الثواب { الله الذى خَلَقَ } مبتدأ وخبر { سَبْعَ سماوات } أجمع المفسرون على أن السماوات سبع { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } بالنصب عطفاً على { سَبْعَ سموات } قيل : ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه الآية ، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وغلظ كل سماء كذلك ، والأرضون مثل السماوات .
وقيل : الأرض واحدة إلا أن الأقاليم سبعة { يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ } أي يجري أمر الله وحكمه بينهن وملكه ينفذ فيهن { لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } اللام يتعلق ب { خُلِقَ } { وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا } هو تمييز أو مصدر من غير لفظ الأول أي قد علم كل شيء علماً وهو علام الغيوب .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
{ ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة رضي الله عنها وعلمت بذلك حفصة فقال لها : اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي ، فأخبرت به عائشة وكانتا مصادقتين . وقيل خلابها في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية فنزل جبريل عليه السلام وقال : راجعها فإنها صوّامة قوّامة وإنها لمن نسائك في الجنة . روي أنه شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة وقالتا له : إنا نشم منك ريح المغافير ، وكان يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم التفل فحرم العسل ، فمعناه لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين أو من العسل { تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أزواجك } تفسير ل { تُحَرّمُ } أو حال أو استئناف وكان هذا زلة منه لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله { والله غَفُورٌ } قد غفر لك ما زللت فيه { رَّحِيمٌ } قد رحمك فلم يؤاخذك به { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } قد قدر الله لكم ما تحللون به أيمانكم وهي الكفارة ، أو قد شرع لكم تحليلها بالكفارة ، أو شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها وذلك أن يقول «إن شاء الله» عقيبها حتى لا يحنث ، وتحريم الحلال يمين عندنا . وعن مقاتل« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية» . وعن الحسن أنه لم يكفر لأنه كان مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين { والله مولاكم } سيدكم ومتولي أموركم . وقيل : مولاكم أولى بكم من أنفسكم فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم أنفسكم { وَهُوَ العليم } بما يصلحكم فيشرعه لكم { الحكيم } فيما أحل وحرم .
{ وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه } يعني حفصة { حَدِيثاً } حديث مارية وإمامة الشيخين { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أفشته إلى عائشة رضي الله عنها { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } وأطلع النبي صلى الله عليه وسلم على إفشائها الحديث على لسان جبريل عليه السلام { عَرَّفَ بَعْضَهُ } أعلم ببعض الحديث { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } فلم يخبر به تكرماً . قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام { عَرَّفَ } بالتخفيف : عليّ أي جازى عليه من قولك للمسيء لأعرفن لك ذلك . وقيل : المعروف حديث الإمامة والمعرض عنه حديث مارية . وروي أنه قال لها : ألم أقل لك اكتمي عليّ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله بها أباها { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } نبأ النبي حفصة بما أفشت من السر إلى عائشة { قَالَتْ } حفصة للنبي صلى الله عليه وسلم { مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم } بالسرائر { الخبير } بالضمائر .
{ إِن تَتُوبَا إِلَى الله } خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما ، وجواب الشرط محذوف والتقدير : إن تتوبا إلى الله فهو الواجب ودل على المحذوف { فَقَدْ صَغَتْ } مالت { قُلُوبُكُمَا } عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } بالتخفيف : كوفي وإن تعاونا عليه بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه } وليه وناصره . وزيادة { هُوَ } إيذان بأنه يتولى ذلك بذاته { وَجِبْرِيلُ } أيضاً وليه { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } ومن صلح من المؤمنين أي كل من آمن وعمل صالحاً . وقيل : من بريء من النفاق . وقيل : الصحابة . وقيل : واحد أريد به الجمع كقولك لا يفعل هذا الصالح من الناس تريد الجنس . وقيل : أصله صالحو المؤمنين فحذفت الواو من الخط موافقة للفظ { والملئكة } على تكاثر عددهم { بَعْدَ ذَلِكَ } بعد نصرة الله وجبريل وصالحي المؤمنين { ظَهِيرٍ } فوج مظاهر له فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه ، ولما كانت مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله قال بعد ذلك تعظيماً لنصرتهم ومظاهرتهم .
{ عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ } { يُبْدِلَهُ } مدني وأبو عمرو فالتشديد للكثرة { أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ } فإن قلت : كيف تكون المبدلات خيراً منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟ قلت : إذا طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة ، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيراً منهن { مسلمات مؤمنات } مقرات مخلصات { قانتات } مطيعات ، فالقنوت هو القيام بطاعة الله وطاعة الله في طاعة رسوله { تائبات } من الذنوب أو راجعات إلى الله وإلى أمر رسوله { عابدات } لله { سائحات } مهاجرات أو صائمات . وقيل : للصائم سائح لأن السائح لا زاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره { ثيبات وَأَبْكَاراً } إنما وسط العاطف بين الثيبات والأبكار دون سائر الصفات لأنهما صفتان متنافيتان بخلاف سائر الصفات .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ } بترك المعاصي وفعل الطاعات { وَأَهْلِيكُمْ } بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم { نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة } نوعاً من النار لا تتقد إلا بالناس والحجارة كما يتقد غيرها من النيران بالحطب { عَلَيْهَا } يلي أمرها وتعذيب أهلها { مَلَئِكَةٌ } يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم { غِلاَظٌ شِدَادٌ } في أجرامهم غلظة وشدة أو غلاظ الأقوال شداد الأفعال { لاَّ يَعْصُونَ الله } في موضع الرفع على النعت { مَا أَمَرَهُمْ } في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي أمره كقوله
{ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } [ طه : 93 ] أو لا يعصونه فيما أمرهم { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وليست الجملتان في معنى واحد ، إذ معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ، ومعنى الثانية أنهم يؤدون ما يؤمرون به ولا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه { يأَيُّهَا الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار لا تعتذروا لأنه لا عذر لكم ، أو لأنه لا ينفعكم الاعتذار .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً } صادقة عن الأخفش رحمه الله . وقيل : خالصة . يقال : عسل ناصح إذا خلص من الشمع . وقيل : نصوحاً من نصاحة الثوب أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك ، ويجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها ، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها ، وبضم النون : حماد ويحيى وهو مصدر أي ذات نصوح أو تنصح نصوحاً وجاء مرفوعاً «إن التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع» وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم يعود فيه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي الاستغفار باللسان والندم بالجنان والإقلاع بالإركان .
{ عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سيئاتكم } هذا على ما جرت به عادة الملوك من الإجابة ب «عسى» و«لعل» ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت { وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } ونصب { يَوْمَ } ب { يدخلكم } { لاَ يُخْزِى الله النبى والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ } فيه تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر { نُورُهُم } مبتدأ { يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } في موضع الخبر { يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } يقولون ذلك إذا انطفأ نور المنافقين { واغفر لَنَا إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ياأيها النبى جاهد الكفار } بالسيف { والمنافقين } بالقول الغليظ والوعد البليغ . وقيل : بإقامة الحدود عليهم { واغلظ عَلَيْهِمْ } على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة باللسان { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } .
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
{ ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين } مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين بلا محاباة ، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من النسب والمصاهرة وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبياً بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين بإفشاء أسرارهما ، فلم يغن الرسولان عنهما أي عن المرأتين بحق ما بينهما وبينهما من الزواج اغناء ما من عذاب الله . وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة : ادخلا النار مع سائر الداخلين الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء ، أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط .
{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ } هي آسية بنت مزاحم آمنت بموسى فعذبها فرعون بالأوتاد الأربعة { إِذْ قَالَتِ } وهي تعذب { رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الجنة } فكأنها أرادت الدرجة العالية لأنه تعالى منزه عن المكان فعبرت عنها بقولها عندك { وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } أي من عمل فرعون أو من نفس فرعون الخبيثة وخصوصاً من عمله وهو الكفر والظلم والتعذيب بغير جرم { وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين } من القبط كلهم ، وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين { وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ التى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } من الرجال { فَنَفَخْنَا } فنفخ جبريل بأمرنا { فِيهِ } في الفرج { مِن رُّوحِنَا } المخلوقة لنا { وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا } أي بصحفه التي أنزلها على إدريس وغيره { وَكُتُبِهِ } بصري وحفص ، يعني الكتب الأربعة { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } لما كان القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين غلب ذكوره على إناثه . و«من» للتبعيض ، ويجوز أن يكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين لأنها من أعقاب هارون أخ موسى عليهما السلام . ومثل حال المؤمنين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص شيئاً من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله مع كونها زوجة أعدى أعداء الله ، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة ، والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفاراً . وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه ، وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين وأن لا يتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
مكية وهي ثلاثون آية وتسمى الواقية والمنجية لأنها تقي قارئها من عذاب القبر وجاء مرفوعاً من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب
بسم الله الرحمن الرحيم
{ تبارك } تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين { الذى بِيَدِهِ الملك } أي بتصرفه الملك والاستيلاء على كل موجود وهو مالك الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء { وَهُوَ على كُلّ شَىْءٍ } من المقدورات أو من الإنعام والانتقام { قَدِيرٌ } قادر على الكمال { الذى خَلَقَ الموت } خبر مبتدأ محذوف أو بدل من الذي قبله { والحياة } أي ما يصح بوجوده الإحساس والموت ضده ، ومعنى خلق الموت والحياة إيجاد ذلك المصحح وإعدامه ، والمعنى خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون { لِيَبْلُوَكُمْ } ليمتحنكم بأمره ونهيه فيما بين الموت الذي يعم الأمير والأسير والحياة التي لا تفي بعليل ولا طبيب فيظهر منكم ما علم أنه يكون منكم فيجازيكم على عملكم لا على علمه بكم { أَيُّكُمْ } مبتدأ وخبره { أَحْسَنُ عَمَلاً } أي أخلصه وأصوبه ، فالخالص أن يكون لوجه الله ، والصواب أن يكون على السنة . والمراد أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل ، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح فما وراءه إلا البعث والجزاء الذي لا بد منه . وقدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه ، فقدم لأنه فيما يرجع إلى المسوق له الآية أهم . ولما قدم الموت الذي هو أثر صفة القهر على الحياة التي هي أثر اللطف ، قدم صفة القهر على صفة اللطف بقوله { وَهُوَ العزيز } أي الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل { الغفور } الستور الذي لا ييأس منه أهل الإساءة والزلل .
{ الذى خَلَقَ سَبْعَ سماوات طِبَاقًا } مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا خصفها طبقاً على طبق ، وهذا وصف بالمصدر ، أو على ذات طباق أو على طوبقت طباقاً . وقيل : جمع طبق كجمال وجمال . والخطاب في { مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن } للرسول أو لكل مخاطب { مِن تفاوت } { تَفَوُتٍ } حمزة وعلي . ومعنى البناءين واحد كالتعاهد والتعهد أي من اختلاف واضطراب . وعن السدي : من عيب . وحقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه ، وهذه الجملة صفة ل { طِبَاقاً } وأصلها ما ترى فيهن من تفاوت ، فوضع { خَلْقِ الرحمن } موضع الضمير تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت ، وهو أنه خلق الرحمن وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب { فارجع البصر } رده إلى السماء حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة فلا تبقى معك شبهة فيه { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } صدوع وشقوق جمع فطر وهو الشق { ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } كرر النظر مرتين أي كرتين مع الأولى .
وقيل : سوى الأولى فتكون ثلاث مرات . وقيل : لم يرد الاقتصار على مرتين بل أراد به التكرير بكثرة أي كرر نظرك ودققه هل ترى خللاً أو عيباً . وجواب الأمر { يَنقَلِبَ } يرجع { إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا } ذليلاً أو بعيداً مما تريد وهو حال من البصر { وَهُوَ حَسِيرٌ } كليل معي ولم ير فيها خللاً .
{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا } القربى أي السماء الدنيا منكم { بمصابيح } بكواكب مضيئة كإضاءة الصبح ، والمصابيح السرج فسميت بها الكواكب ، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بإيقاد المصابيح . فقيل : ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بأي مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة { وجعلناها رُجُوماً للشياطين } أي لأعدائكم الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات ، قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به . والرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به . ومعنى كونها رجوماً للشياطين أن ينفصل عنها شهاب قبس يؤخذ من نار فيقتل الجني أو يخبله ، لأن الكواكب لا تزول عن أماكنها لأنها قارة في الفلك على حالها { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } للشياطين { عَذَابَ السعير } في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا .
{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } ولكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم { عَذَابُ جَهَنَّمَ } ليس الشياطين المرجومون مخصوصون بذلك { وَبِئْسَ المصير } المرجع جهنم { إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا } طرحوا في جهنم كما يطرح الحطب في النار العظيمة { سَمِعُواْ لَهَا } لجهنم { شَهِيقًا } صوتاً منكراً كصوت الحمير شبه حسيسها المنكر الفظيع بالشهيق { وَهِىَ تَفُورُ } تغلي بهم غليان المرجل بما فيه { تَكَادُ تَمَيَّزُ } أي تتميز يعني تتقطع وتتفرق { مِنَ الغيظ } على الكفار فجعلت كالمغتاظة عليهم استعارة لشدة غليانها بهم .
{ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ } جماعة من الكفار { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا } مالك وأعوانه من الزبانية توبيخاً لهم { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } رسول يخوفكم من هذا العذاب { قَالُواْ بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ } اعتراف منهم بعدل الله وإقرار بأنه تعالى أزاح عللهم ببعث الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه { فَكَذَّبْنَا } أي فكذبناهم { وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْءٍ } مما يقولون من وعد ووعيد وغير ذلك { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ } أي قال الكفار للمنذرين : ما أنتم إلا في خطأ عظيم . فالنذير بمعنى الإنذار . ثم وصف به منذروهم لغلوهم في الإنذار كأنهم ليسوا إلا إنذاراً ، وجاز أن يكون هذا كلام الخزنة للكفار عن إرادة القول ومرادهم بالضلال الهلاك ، أو سموا جزاء الضلال باسمه كما سمي جزاء السيئة والاعتداء سيئة واعتداء ويسمى المشاكلة في علم البيان ، أو كلام الرسل لهم حكوه للخزنة أي قالوا لنا هذا فلم نقبله { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ } الإنذار سماع طالب الحق { أَوْ نَعْقِلُ } أي نعقله عقل متأمل { مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير } في جملة أهل النار ، وفيه دليل على أن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وأنهما حجتان ملزمتان { فاعترفوا بِذَنبِهِمْ } بكفرهم في تكذيبهم الرسل { فَسُحْقًا لأصحاب السعير } وبضم الحاء : يزيد وعلي ، فبعداً لهم عن رحمة الله وكرامته اعترفوا أو جحدوا فإن ذلك لا ينفعهم .
وانتصابه على أنه مصدر وقع موقع الدعاء .
{ إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } قبل معاينة العذاب { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } للذنوب { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } أي الجنة { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ } ظاهره الأمر بأحد الأمرين : الإسرار والإجهار ، ومعناه ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما . رُوي أن مشركي مكة كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل بما قالوه فيه ونالوه منه فقالوا فيما بينهم : أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فنزلت . ثم علله بقوله { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها فكيف لا يعلم ما تكلم به؟ { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } «من» في موضع رفع بأنه فاعل { يَعْلَم } { وَهُوَ اللطيف الخبير } أنكر أن لا يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر من خلقها وصفته أنه اللطيف أي العالم بدقائق الأشياء الخبير العالم بحقائق الأشياء ، وفيه إثبات خلق الأقوال فيكون دليلاً على خلق أفعال العباد . وقال أبو بكر بن الأصم وجعفر بن حرب : { مَنْ } مفعول والفاعل مضمر وهو الله تعالى فاحتالا بهذا لنفي خلق الأفعال .
{ هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } لينة سهلة مذللة لا تمنع المشي فيها { فامشوا فِى مَنَاكِبِهَا } جوانبها استدلالاً واسترزاقاً أو جبالها أو طرقها { وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ } أي من رزق الله فيها { وَإِلَيْهِ النشور } أي وإليه نشوركم فهو سائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم { ءامِنْتُمْ مَّن فِى السماء } أي من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه فكأنه قال : أأمنتم خالق السماء وملكه ، أو لأنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء ، وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه فقيل لهم على حسب اعتقادهم : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعالٍ عن المكان { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض } كما خسف بقارون { فَإِذَا هِىَ تَمُورُ } تضطرب وتتحرك { أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السماء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا } حجارة أن يرسل بدل من بدل الاشتمال وكذا { أَن يَخْسِفَ } { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } أي إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم { وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } من قبل قومك { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي إنكاري عليهم إذ أهلكتهم .
ثم نبه على قدرته على الخسف وإرسال الحاصب بقوله { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير } جمع طائر { فَوْقَهُمْ } في الهواء { صافات } باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن { وَيَقْبِضْنَ } ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن . و { يقبضن } معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى أي يصففن ويقبضن ، أو صافات وقابضات . واختيار هذا التركيب باعتبار أن أصل الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والهواء للطائر كالماء للسابح . والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طارىء بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح { مَا يُمْسِكُهُنَّ } عن الوقوع عند القبض والبسط { إِلاَّ الرحمن } بقدرته وإلا فالثقيل يتسفل طبعاً ولا يعلو ، وكذا لو أمسك حفظه وتدبيره عن العالم لتهافتت الأفلاك و { مَا يُمْسِكُهُنَّ } مستأنف وإن جعل حالاً من الضمير في { يقبضن } يجوز { إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ } يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب .
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{ أَمَّنْ } مبتدأ خبره { هذا } ويبدل من { هذا } { الذى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ } ومحل { يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن } رفع نعت ل { جُندٌ } محمول على اللفظ والمعنى من المشار إليه بالنصر غير الله تعالى { إِنِ الكافرون إِلاَّ فِى غُرُورٍ } أي ما هم إلا في غرور { أَمَّنْ هذا الذى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه وهذا على التقدير ، ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم فكأنهم الجند الناصر والرازق . فلما لم يتعظوا أضرب عنهم فقال { بَل لَّجُّواْ } تمادوا { فِى عُتُوٍّ } استكبار عن الحق { وَنُفُورٍ } وشراد عنه لثقله عليهم فلم يتبعوه . ثم ضرب مثلاً للكافرين والمؤمنين فقال { أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ } أي ساقطاً على وجهه يعثر كل ساعة ويمشي معتسفاً وخبر من { أهدى } أرشد . فأكب مطاوع كبه يقال : كببته فأكب { أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً } مستوياً منتصباً سالماً من العثور والخرور { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } على طريق مستوٍ . وخبر { منْ } محذوف لدلالة { أهدى } عليه ، وعن الكلي : عني بالمكب أو جهل ، وبالسوي النبي عليه السلام { قُلْ هُوَ الذى أَنشَأَكُمْ } خلقكم ابتداء { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } خصها لأنها آلات العلم { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } هذه النعم لأنكم تشركون بالله ولا تخلصون له العبادة ، والمعنى تشكرون شكراً قليلاً و«ما» زائدة . وقيل : القلة عبارة عن العدم { قُلْ هُوَ الذى ذَرَأَكُمْ } خلقكم { فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } للحساب والجزاء .
{ وَيَقُولُونَ } أي الكافرون للمؤمنين استهزاء { متى هذا الوعد } الذي تعدوننا به يعني العذاب { إِن كُنتُمْ صادقين } في كونه فأعلمونا زمانه { قُلْ إِنَّمَا العلم } أي علم وقت العذاب { عِندَ الله وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ } مخوّف { مُّبِينٌ } أبين لكم الشرائع { فَلَمَّا رَأَوْهُ } أي الوعد يعني العذاب الموعود { زُلْفَةً } قريباً منهم وانتصابها على الحال { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } أي ساءت رؤية الوعد وجوههم بأن علتها الكآبة والمساءة وغشيتها القتَرة والسواد { وَقِيلَ هذا الذى } القائلون الزبانية { كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } تفتعلون من الدعاء أي تسألون تعجيله وتقولون ائتنا بما تعدنا ، أو هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون وقرأ يعقوب { تَدْعُونَ } .
{ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ الله } أي أماتني الله كقوله { إِن امرؤ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] { وَمَن مَّعِىَ } من أصحابي { أَوْ رَحِمَنَا } أو أخر في آجالنا { فَمَن يُجِيرُ } ينجي { الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } مؤلم . كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فأمر بأن يقول لهم : نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنيين ، إما أن نهلك كما تتمنون فتقلب إلى الجنة ، أو نرحم بالنصرة عليكم متربصون لإحدى الحسنيين ، إما أن نهلك كما تتمنون فتقلب إلى الجنة ، أو نرحم بالنصرة عليكم كما نرجو ، فأنتم ما تصنعون مِنْ مجيركم وأنتم كافرون من عذاب النار لا بد لكم منه { قُلْ هُوَ الرحمن } أي الذي أدعوكم إليه الرحمن { ءَامَنَّا بِهِ } صدقنا به ولم نكفر به كما كفرتم { وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } فوضنا إليه أمورنا { فَسَتَعْلَمُونَ } إذا نزل بكم العذاب وبالياء : علي { مَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ } نحن أم أنتم { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً } غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء ، وهو وصف بالمصدر كعدل بمعنى عادل { فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ } جارٍ يصل إليه من أراده .
وتليت عند ملحد فقال : يأتي بالمعول والمعن فذهب ماء عينه في تلك الليلة وعمي . وقيل : إنه محمد بن زكريا المتطبب زادنا الله بصيرة .
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
مكية وهي اثنتان وخمسون
آية بسم الله الرحمن الرحيم
{ ن } الظاهر أن المراد به هذا الحرف من حروف المعجم . وأما قول الحسن : إنه الدواة ، وقول ابن عباس : إنه الحوت الذي عليه الأرض واسمه بهموت ، فمشكل لأنه لا بد له من الإعراب سواء كان اسم جنس أو اسم علم ، فالسكون دليل على أنه من حروف المعجم { والقلم } أي ما كتب به اللوح ، أو قلم الملائكة ، أو الذي يكتب به الناس ، أقسم به لما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي ما يسطره الحفظة أو ما يكتب به من الخير من كتب . و«ما» موصولة أو مصدرية ، وجواب القسم { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ } أي بإنعامه عليك بالنبوة وغيرها ف { أَنتَ } اسم «ما» وخبرها { بِمَجْنُونٍ } و { بِنِعْمَةِ رَبّكَ } اعتراض بين الاسم والخبر ، والباء في { بِنِعْمَةِ رَبّكَ } تتعلق بمحذوف ومحله النصب على الحال والعامل فيها { بِمَجْنُونٍ } وتقديره : ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك . ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي وهو جواب قولهم { وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] { وَإِنَّ لَكَ } على احتمال ذلك والصبر عليه { لأَجْرًا } لثواباً { غَيْرَ مَمْنُونٍ } غير مقطوع أو غير ممنون عليك به { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قيل : هو ما أمره الله تعالى به في قوله : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] . وقالت عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن أي ما فيه من مكارم الأخلاق . وإنما استعظم خلقه لأنه جاد بالكونين وتوكل على خالقهما .
{ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } أي عن قريب ترى ويرون وهذا وعد له ووعيد لهم { بِأَيِيّكُمُ المفتون } المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون ، والباء مزيدة ، أو المفتون مصدر كالمعقول أي بأيكم الجنون . وقال الزجاج : الباء بمعنى «في» تقول : كنت ببلد كذا أي في بلد كذا ، وتقديره في أيكم المفتون أي في أي الفريقين منكم المجنون : فريق الإسلام أو فريق الكفر؟ { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } أي هو أعلم بالعقلاء هم والمهتدون { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } تهييج للتصميم على معاصاتهم وقد أرادوه على أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة ويكفوا عنه غوائلهم { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ } لو تلين لهم { فَيُدْهِنُونَ } فيلينون لك . ولم ينصب بإضمار «أن» وهو جواب التمني لأنه عدل به إلى طريق آخر ، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون أي فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك .
{ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ } كثير الحلف في الحق والباطل وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف { مَّّهِينٍ } حقير في الرأي والتمييز من المهانة وهي القلة والحقارة ، أو كذاب لأنه حقير عند الناس { هَمَّازٍ } عياب طعان مغتاب { مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم ، والنميم والنميمة : السعاية { مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ } بخيل ، والخير : المال أو مناع أهله من الخير وهو الإسلام ، والمراد الوليد بن المغيرة عند الجمهور وكان يقول لبنيه العشرة : من أسلم منكم منعته رفدي { مُعْتَدٍ } مجاوز في الظلم حده { أَثِيمٍ } كثير الآثام { عُتُلٍ } غليظ جاف { بَعْدَ ذَلِكَ } بعدما عد له من المثالب { زَنِيمٍ } دعي . وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده . وقيل : بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية ، والنطفة إذا خبثت الناشىء منها . رُوي أنه دخل على أمه وقال : إن محمداً وصفني بعشر صفات ، وجدت تسعاً فيّ ، فأما الزنيم فلا علم لي به ، فإن أخبرتني بحقيقته وإلا ضربت عنقك . فقالت : إن أباك عنين وخفت أن يموت فيصل ماله إلى غير ولده فدعوت راعياً إلى نفسي فأنت من ذلك الراعي .
{ أَن كَانَ ذَا مَالٍ } متعلق بقوله { وَلاَ تُطِعِ } أي ولا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال أي ليساره وحظه من الدنيا ، ويجوز أن يتعلق بما بعده أي لأن كان ذا مال { وَبَنِينَ } كذب بآياتنا يدل عليه { إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا } أي القرآن { قَالَ أساطير الأولين } ولا يعمل فيه { قَالَ } لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله . { أأن } حمزة وأبو بكر أي ألأن كان ذا مال كذب؟ { أأن } شامي ويزيد ويعقوب وسهل . قالوا : لما عاب الوليد النبي صلى الله عليه وسلم كاذباً باسم واحد وهو المجنون سماه الله تعالى بعشرة أسماء صادقاً ، فإن كان من عد له أن يجزي المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة ، كان من فضله أن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً { سَنَسِمُهُ } سنكويه { عَلَى الخرطوم } على أنفه مهانة له وعلماً يعرف به ، وتخصيص الأنف بالذكر لأن الوسم عليه أبشع . وقيل : خطم بالسيف يوم بدر فبقيت سمة على خرطومه .
{ إِنَّا بلوناهم } امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع حتى أكلوا الجيف والرمم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : « اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف » { كَمَا بَلَوْنَا أصحاب الجنة } هم قوم من أهل الصلات كانت لأبيهم هذه الجنة بقرية يقال لها ضروان وكانت على فرسخين من صنعاء ، وكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي على الفقراء .
فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال ، فحلفوا ليصرمنها مصبحين في السدف خيفة من المساكين ولم يستثنوا في يمينهم ، فأحرق الله جنتهم . وقال الحسن : كانوا كفاراً . والجمهور على الأول { إِذْ أَقْسَمُواْ } حلفوا { لَيَصْرِمُنَّهَا } ليقطعن ثمرها { مُّصْبِحِينَ } داخلين في الصبح قبل انتشار الفقراء ، حال من فاعل { لَيَصْرِمُنَّهَا } { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } ولا يقولون إن شاء الله . وسمي استثناء وإن كان شرطاً صورة لأنه يؤدي مؤدي الاستثناء من حيث إن معنى قولك «لأخرجن إن شاء الله» و«لا أخرج إلا أن يشاء الله» واحد { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ } نزل عليها بلاء . قيل : أنزل الله تعالى عليها ناراً فأحرقتها { وَهُمْ نَائِمُونَ } أي في حال نومهم { فَأَصْبَحَتْ } فصارت الجنة { كالصريم } كالليل المظلم أي احترقت فاسودت ، أو كالصبح أي صارت أرضاً بيضاء بلا شجر . وقيل : كالمصرومة أي كأنها صرمت لهلاك ثمرها .
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
{ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } نادى بعضهم بعضاً عند الصباح { أَنِ اغدوا } باكروا { على حَرْثِكُمْ } ولم يقل «إلى حرثكم» لأن الغدوّ إليه ليصرموه كان غدوّاً عليه أو ضمن الغدوّ معنى الإقبال أي فأقبلوا على حرثكم باكرين { إِن كُنتُمْ صارمين } مريدين صرامه { فانطلقوا } ذهبوا { وَهُمْ يتخافتون } يتسارّون فيما بينهم لئلا يسمعوا المساكين { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا } أي الجنة و«إن» مفسرة وقرىء بطرحها بإضمار القول أي يتخافتون يقولون لا يدخلنها { اليوم عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ } والنهي عن دخول المساكين . نهى عن التمكين أي لا تمكنوه من الدخول .
{ وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ } على جد في المنع { قادرين } عند أنفسكم على المنع كذا عن نفطويه ، أو الحرد القصد والسرعة أي وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وزي منفعتها عن منفعتها عن المساكين ، أو هو علم للجنة أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم .
{ فَلَمَّا رَأَوْهَا } أي جنتهم محترقة { قَالُواْ } في بديهة وصولهم { إِنَّا لَضَالُّونَ } أي ضللنا جنتنا وما هي بها لما رأوا من هلاكها ، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } أعدلهم وخيرهم { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ } هلا تستثنون إذ الاستثناء التسبيح لالتقائهما في معنى التعظيم لله ، لأن الاستثناء تفويض إليه والتسبيح تنزيه له ، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم . أو لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم! كان أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك : اذكروا الله وانتقامه من المجرمين وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة فعصوه فعيرهم ولهذا { قَالُواْ سبحان رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين } فتكلموا بعد خراب البصرة بما كان يدعوهم إلى التكلم به أولاً ، وأقروا على أنفسهم بالظلم في منع المعروف وترك الاستثناء ونزهوه عن أن يكون ظالماً { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يتلاومون } يلوم بعضهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين ، ويحيل كل واحد منهم اللائمة على الآخر .
ثم اعترفوا جميعاً بأنهم تجاوزوا الحد بقوله { قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين } بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء { عسى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا } وبالتشديد : مدني وأبو عمرو { خَيْراً مّنْهَا } من هذه الجنة { إِنَّا إلى رَبّنَا راغبون } طالبون منه الخير راجون لعفوه . عن مجاهد : تابوا فأبدلوا خيراً منها . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : بلغني أنهم أخلصوا فأبدلهم بها جنة تسمى الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً { كَذَلِكَ العذاب } أي مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه من عذاب الدنيا لمن سلك سبيلهم { وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ } أعظم منه { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } لما فعلوا ما يفضي إلى هذا العذاب .
ثم ذكر ما عنده للمؤمنين فقال :
{ إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ } عن الشرك { عِندَ رَبِّهِمْ } أي في الآخرة { جنات النعيم } جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص بخلاف جنات الدنيا { أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين } استفهام إنكار على قولهم لو كان ما يقول محمد حقاً فنحن نعطي في الآخرة خيراً مما يعطي هو ومن معه كما في الدنيا . فقيل لهم : أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين؟ ثم قيل لهم على طريقة الالتفات { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } هذا الحكم الأعوج وهو التسوية بين المطيع والعاصي ، كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم { أَمْ لَكُمْ كتاب } من السماء { فِيهِ تَدْرُسُونَ } تقرؤون في ذلك الكتاب { إنّ لكم فيه لما تخيّرون } أي إن ما تختارونه وتشتهونه لكم . والأصل تدرسون أن لكم ما تخيرون بفتح «أن» لأنه مدروس لوقوع الدرس عليه ، وإنما كسرت لمجيء اللام ، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين * سلام على نُوحٍ } [ الصافات : 78-79 ] . وتخير الشيء واختاره أخذ خيره { أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا } عهود مؤكدة بالأيمان { بالغة } نعت { أيمان } ويتعلق { إلى يَوْمِ القيامة } ببالغة أي أنها تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم ، أو بالمقدر في الظرف أي هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج من عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } به لأنفسكم وهو جواب القسم لأن معنى { أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا } أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد .
{ سَلْهُمْ } أي المشركين { أَيُّهُم بذلك } الحكم { زَعِيمٌ } كفيل بأنه يكون ذلك { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ } أي ناس يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فيه { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صادقين } في دعواهم يعني أن أحداً لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ، ولا عهد به عند الله ، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله بهذا { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } ناصب الظرف { فَلْيَأْتُواْ } أو «اذكر» مضمراً . والجمهور على أن الكشف عن الساق عبارة عن شدة الأمر وصعوبة الخطب ، فمعنى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } يوم يشتد الأمر ويصعب ولا كشف ثمة ولا ساق ، ولكن كنى به عن الشدة لأنهم إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق ، وهذا كما نقول : للأقطع الشحيح يده مغلولة ، ولا يد ثمة ولا غل ، وإنما هو كناية عن البخل . وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان ، ولو كان الأمر كما زعم المشبه لكان من حق الساق أن تعرف لأنها ساق معهودة عنده { وَيُدْعَوْنَ } أي الكفار ثمة { إِلَى السجود } لا تكليف ولكن توبيخاً على تركهم السجود في الدنيا { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } ذلك لأن ظهورهم تصير كصياصي البقر لا تنثني عند الخفض والرفع { خاشعة } ذليلة حال من الضمير في { يُدْعَونَ } { أبصارهم } أي يدعون في حال خشوع أبصارهم { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } يغشاهم صغار { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ } على ألسن الرسل { إِلَى السجود } في الدنيا { وَهُمْ سالمون } أي وهم أصحاء فلا يسجدون فلذلك منعوا عن السجود ثَمَّ .
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
{ فَذَرْنِى } . يقال : ذرني وإياه أي كله إليّ فإني أكفيكه { وَمَن يُكَذِّبُ } معطوف على المفعول أو مفعول معه { بهذا الحديث } بالقرآن ، والمراد كل أمره إليَّ وخل بيني وبينه فإني عالم بما ينبغي أن يفعل به ، مطيق له ، ولا تشغل قلبك بشأنه وتوكل عليّ في الانتقام منه ، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد للمكذبين { سَنَسْتَدْرِجُهُم } سندنيهم من العذاب درجة درجة . يقال : استدرجه إلى كذا أي استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه ، واستدراج الله تعالى العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة فيجعلون رزق الله ذريعة إلى ازياد المعاصي { مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج . قيل : كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها . قال عليه السلام " إذا رأيت الله تعالى ينعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وتلا الآية " { وَأُمْلِى لَهُمْ } وأمهلهم { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } قوي شديد فسمى إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للهلاك . والأصل أن معنى الكيد والمكر والاستدراج هو الأخذ من جهة الأمن ، ولا يجوز أن يسمى الله كائداً وماكراً ومستدرجاً .
{ أَمْ تَسْئَلُهُمْ } على تبليغ الرسالة { أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ } غرامة { مُّثْقَلُونَ } فلا يؤمنون استفهام بمعنى النفي أي لست تطلب أجراً على تبليغ الوحي فيثقل عليهم ذلك فيمتنعوا لذلك { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } أي اللوح المحفوظ عند الجمهور { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } منه ما يحكمون به { فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ } وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم لأنهم وإن أمهلوا لم يهملوا { وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت } كيونس عليه السلام في العجلة والغضب على القوم حتى لا تبتلى ببلائه . والوقف على الحوت لأن «إذ» ليس بظرف لما تقدمه ، إذ النداء طاعة فلا ينهى عنه بل مفعول محذوف أي اذكر { إِذْ نادى } دعا ربه في بطن الحوت ب { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] { وَهُوَ مَكْظُومٌ } مملوء غيظاً من كظم السقاء إذا { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ } رحمة { مّن رَّبِّهِ } أي لولا أن الله أنعم عليه بإجابة دعائه وقبول عذره { لَنُبِذَ } من بطن الحوت { بالعرآء } بالفضاء { وَهُوَ مَذْمُومٌ } معاتب بزلته لكنه رحم فنبذ غير مذموم { فاجتباه رَبُّهُ } اصطفاه لدعائه وعذره { فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين } من المستكملين لصفات الصلاح ولم يبق له زلة . وقيل : من الأنبياء . وقيل : من المرسلين . والوجه هو الأول لأنه كان مرسلاً ونبياً قبله لقوله تعالى : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين * إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون }
[ الصافات : 139-140 ] . الآيات .
{ وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم } وبفتح الياء : مدني . «إن» مخففة من الثقيلة واللام علمها . زلقة وأزلقة أزاله عن مكانه أي قارب الكفار من شدة نظرهم إليك شزراً بعيون العداوة أن يزيلوك بأبصارهم عن مكانك ، أو يهلكوك لشدة حنقهم عليك . وكانت العين في بني أسد فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله إلا هلك . فأريد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله مثل ذلك فقال : لم أر كاليوم مثله رجلاً فعصمه الله من ذلك . وفي الحديث : " العين حق وإن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر " وعن الحسن : رقية العين هذه الآية : { لَمَّا سَمِعُواْ الذكر } القرآن { وَيَقُولُونَ } حسداً على ما أوتيت من النبوة { إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } إن محمداً لمجنون حيرة في أمره وتنفيراً عنه { وَمَا هُوَ } أي القرآن { إِلاَّ ذِكْرٌ } وعظ { للعالمين } للجن والإنس يعني أنهم جننوه لأجل القرآن وما القرآن إلا موعظة للعالمين ، فكيف يجنن من جاء بمثله؟ وقيل : لما سمعوا الذكر أي ذكره عليه السلام وما هو أي محمد عليه السلام إلا ذكر شرف للعالمين فكيف ينسب إليه الجنون؟ والله أعلم .
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
{ الحاقة } الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها ، من حق يحق بالكسر أي وجب { مَا الحاقة } مبتدأ وخبر وهما خبر { الحاقة } والأصل الحاقة ما هي أي أيّ شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها أي حقها أن يستفهم عنها لعظمها ، فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التهويل { وَمَا أَدْرَاكَ } وأي شيء أعلمك { مَا الحاقة } يعني أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها ، لأنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية المخلوقين . و «ما» رفع بالابتداء و { أَدْرَاكَ } الخبر ، والجملة بعده في موضع نصب لأنها مفعول ثانٍ ل «أدرى» { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة } أي بالحاقة فوضعت القارعة موضعها لأنها من أسماء القيامة ، وسميت بها لأنها تقرع الناس بالأفزاع والأهوال . ولما ذكرها وفخمها أتبع ذكر ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم .
{ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة . واختلف فيها فقيل الرجفة ، وقيل الصيحة ، وقيل الطاغية مصدر كالعافية أي بطغيانهم ، ولكن هذا لا يطابق قوله { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ } أي بالدبور لقوله صلى الله عليه وسلم : " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " { صَرْصَرٍ } شديدة الصوت من الصرة الصيحة ، أو باردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها { عَاتِيَةٍ } شديد العصف أو عتت على خزانها فلم يضبطوها بإذن الله غضباً على أعداء الله { سَخَّرَهَا } سلطها { عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وثمانية أَيَّامٍ } وكان ابتداء العذاب يوم الأربعاء آخر الشهر إلى الأربعاء الأخرى { حُسُوماً } أي متتابعة لا تنقطع جمع حاسم كشهود تمثيلاً لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء بعد أخرى حتى ينحسم ، وجاز أن يكون مصدراً أي تحسم حسوماً بمعنى تستأصل استئصالاً { فَتَرَى } أيها المخاطب { القوم فِيهَا } في مهابها أو في الليالي والأيام { صرعى } حال جمع صريع { كَأَنَّهُمْ } حال أخرى { أَعْجَازُ } أصول { نَخْلٍ } جمع نخلة { خَاوِيَةٍ } ساقطة أو بالية { فَهَلْ ترى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ } من نفس باقية أو من بقاء كالطاغية بمعنى الطغيان .
{ وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ } ومن تقدمه من الأمم { وَمِن قَبْلِهِ } بصري وعلي أي ومن عنده من أتباعه { والمؤتفكات } قرى قوم لوط فهي ائتفكت أي انقلبت بهم { بِالْخَاطِئَةِ } بالخطأ أو بالفعلة أو بالأفعال ذات الخطأ العظيم { فَعَصَوْاْ } أي قوم لوط { رَسُولَ رَبّهِمْ } لوطاً { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } شديدة زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح { إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء } ارتفع وقت الطوفان على أعلى جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعاً { حملناكم } أي آباءكم { فِى الجارية } في سفينة نوح عليه السلام { لِنَجْعَلَهَا } أي الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين { لَكُمْ تَذْكِرَةً } عبرة وعظة { وَتَعِيَهَا } وتحفظها { أُذُنٌ } بضم الذال : غير نافع { واعية } حافظة لما تسمع .
قال قتادة : وهي أذن عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت .
{ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور نَفْخَةٌ واحدة } هي النفخة الأولى ويموت عندها الناس ، والثانية يبعثون عندها { وَحُمِلَتِ الأرض والجبال } رفعتا عن موضعهما { فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة } دقتا وكسرتا أي ضرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيباً مهيلاً وهباء منبثاً { فَيَوْمَئِذٍ } فحينئذ { وَقَعَتِ الواقعة } نزلت النازلة وهي القيامة ، وجواب «إذا» { وَقَعَتِ } و { يَوْمَئِذٍ } بدل من «إذا» { وانشقت السماء } فتّحت أبواباً { فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } مسترخية ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة { والملك } للجنس بمعنى الجمع وهو أعم من الملائكة { على أَرْجَائِهَا } جوانبها واحدها رجا مقصور لأنها إذا انشقت وهي مسكن الملائكة فيلجؤن إلى أطرافها { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ } فوق الملك الذين على أرجائها { يَوْمَئِذٍ ثمانية } منهم ، واليوم تحمله أربعة وزيدت أربعة أخرى يوم القيامة . وعن الضحاك : ثمانية صفوف . وقيل : ثمانية أصناف .
{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } للحساب ، والسؤال شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحواله { لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا . وبالياء : كوفي غير عاصم . وفي الحديث : " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات : فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعندها تطير الصحف فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله " { فَأَمَّا } تفصيل للعرض { مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ } سروراً به لما يرى فيه من الخيرات خطاباً لجماعته { هَاؤُمُ } اسم للفعل أي خذوا { اقرؤا كتابيه } تقديره هاؤم كتابي اقرؤا كتابيه فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، والعامل في { كتابيه } { اقرءوا } عند البصريين لأنهم يعملون الأقرب . والهاء في { كتابيه } و { حِسَابِيَهْ } و { مَالِيَهْ } و { سلطانيه } للسكت ، وحقها أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل ، وقد استحب إيثار الوقف إيثاراً لثباتها لثبوتها في المصحف { إِنّى ظَنَنتُ } علمت . وإنما أجرى الظن مجرى العلم ، لأن الظن الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام ، ولأن ما يدرك بالاجتهاد فلما يخلو عن الوسواس والخواطر وهي تفضي إلى الظنون ، فجاز إطلاق لفظ الظن عليها لما لا يخلو عنه { أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ } معاين حسابي { فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } ذات رضا يرضى بها صاحبها كلابن { فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } رفيعة المكان أو رفيعة الدرجات أو رفيعة المباني والقصور وهو خبر بعد خبر { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } ثمارها قريبة من مريدها ينالها القائم والقاعد والمتكىء يقال لهم :
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
{ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً } أكلاً هنيئاً لا مكروه فيهما ولا أذى أو هنئتم هنيئاً على المصدر { بِمَا أَسْلَفْتُمْ } بما قدمتم من الأعمال الصالحة { فِى الأيام الخالية } الماضية من أيام الدنيا . وعن ابن عباس : هي في الصائمين أي كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله .
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه } لما يرى فيها من الفضائح { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } أي يا ليتني لم أعلم ما حسابي { ياليتها } يا ليت الموتة التي متها { كَانَتِ القاضية } أي القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقي { مَا أغنى عَنِّى مَالِيَهْ } أي لم ينفعني ما جمعته في الدنيا ، ف «ما» نفي والمفعول محذوف أي شيئاً { هَلَكَ عَنّى سلطانيه } ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيراً ذليلاً . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ضلت عني حجتي أي بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا فيقول الله تعالى لخزنة جهنم { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } أي اجمعوا يديه إلى عنقه { ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ } أي أدخلوه يعني ثم لا تصلوه إلا الجحيم وهي النار العظمى ، أو نصب { الجحيم } بفعل يفسره { صَلُّوهُ } { ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا } طولها { سَبْعُونَ ذِرَاعاً } بذراع الملك . عن ابن جريج : وقيل لا يعرف قدرها إلا الله { فَاْسْلُكُوهُ } فأدخلوه . والمعنى في تقدم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية .
{ إِنَّهُ } تعليل كأنه قيل : ما له يعذب هذا العذاب الشديد؟ فأجيب بأنه { كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم * وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } على بذل طعام المسكين ، وفيه إشارة إلى أنه كان لا يؤمن بالبعث لأن الناس لا يطلبون من المساكين الجزاء فيما يطعمونهم وإنما يطعمونهم لوجه الله ورجاء الثواب في الآخرة ، فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم أي أنه مع كفره لا يحرّض غيره على إطعام المحتاجين ، وفيه دليل قوي على عظم جرم حرمان المسكين لأنه عطفه على الكفر وجعله دليلاً عليه وقرينة له ، ولأنه ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض إذا كان بهذه المنزلة فتارك الفعل أحق . وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلنخلع نصفها بهذا . وهذه الآيات ناطقة على أن المؤمنين يرحمون جميعاً ، والكافرين لا يرحمون لأنه قسّم الخلق نصفين فجعل صنفاً منهم أهل اليمين ووصفهم بالإيمان فحسب بقوله { إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ } وصنفاً منهم أهل الشمال ووصفهم بالكفر بقوله { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم } وجاز أن الذي يعاقب من المؤمنين إنما يعاقب قبل أن يؤتى كتابه بيمينه { فَلَيْسَ لَهُ اليوم هاهنا حَمِيمٌ } قريب يرفع عنه ويحترق له قلبه { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } غسالة أهل النار ، فعلين من الغسل ، والنون زائدة وأريد به هنا ما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون } الكافرون أصحاب الخطايا وخطىء الرجل إذا تعمد الذنب .
{ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } من الأجسام والأرض والسماء .
{ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } من الملائكة والأرواح فالحاصل أنه أقسم بجميع الأشياء { إِنَّهُ } أي إن القرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } أي محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل عليه السلام أي بقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند الله { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } كما تدعون { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ } كما تقولون { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } وبالياء فيهما : مكي وشامي ويعقوب وسهل . وبتخفيف الذال : كوفي غير أبي بكر . والقلة في معنى العدم يقال : هذه أرض قلما تنبت أي لا تنبت أصلاً ، والمعنى لا تؤمنون ولا تذكرون البتة { تَنزِيلٌ } هو تنزيل بياناً لأنه قول رسول نزل عليه { مّن رّبّ العالمين ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل } ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله { لأخَذْنَا مِنْهُ باليمين } لقتلناه صبراً كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معالجة بالسخط والانتقام ، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول ، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته ، وخص اليمين لأن القتّال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخد بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ، ومعنى لأخذنا منه باليمين لأخدنا بيمينه ، وكذا { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } لقطعنا وتينه وهو نياط القلب إذا قطع مات صاحبه { فَمَا مِنكُم } الخطاب للناس أو للمسلمين { مّنْ أَحَدٍ } «من» زائدة { عَنْهُ } عن قتل محمد وجمع { حاجزين } وإن كان وصف { أَحَدٍ } لأنه في معنى الجماعة ومنه قوله تعالى { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] { وَإِنَّهُ } وإن القرآن { لِتَذْكِرَةٌ } لعظة { لّلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ وَإِنَّهُ } وإن القرآن { لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين } به المكذبين له إذا رأوا ثواب المصدقين به { وَإِنَّهُ } وإن القرآن { لَحَقُّ اليقين } لعين اليقين ومحض اليقين { فَسَبِّحْ باسم رَبّكَ العظيم } فسبح الله بذكر اسمه العظيم وهو قوله سبحان الله .
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
مكية وهي أربع وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَأَلَ سَآئِلٌ } هو النضر بن الحرث قال : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] أو هو النبي صلى الله عليه وسلم دعا بنزول العذاب عليهم . ولما ضمن سأل معنى دعا عدى تعديته كأنه قيل : دعا داع { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } من قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ومنه قوله تعالى : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة } [ الدخان : 55 ] . و { سال } بغير همز : مدني وشامي وهو من السؤال أيضاً إلا أنه خفف بالتليين و { سَائِلٌ } مهموز إجماعاً { للكافرين } صفة ل { عَذَابِ } أي بعذاب واقع كائن للكافرين { لَيْسَ لَهُ } لذلك العذاب { دَافِعٌ } راد { مِّنَ الله } متصل بواقع أي واقع من عنده أو بدافع أي ليس له دافع من جهته تعالى إذا جاء وقته { ذِي المعارج } أي مصاعد السماء للملائكة جمع معرج وهو موضع العروج . ثم وصف المصاعد وبعد مداها في العلو والارتفاع فقال { تَعْرُجُ } تصعد . وبالياء : علي { الملائكة والروح } أي جبريل عليه السلام خصه بالذكر بعد العموم لفضله وشرفه ، أو خلق هم حفظة على الملائكة كما أن الملائكة حفظة علينا ، أو أرواح المؤمنين عند الموت { إِلَيْهِ } إلى عرشه ومهبط أمره { فِى يَوْمٍ } من صلة تعرج { كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } من سني الدنيا لو صعد فيه غير الملك ، أو «من» صلة { وَاقِعٍ } أي يقع في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم وهو يوم القيامة ، فإما أن يكون استطالة له لشدته على الكفار ، أو لأنه على الحقيقة كذلك فقد قيل فيه خمسون موطناً كل موطن ألف سنة ، وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر .
{ فاصبر } متعلق ب { سَأَلَ سَائِلٌ } لأن استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتكذيب بالوحي ، وكان ذلك مما يضجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بالصبر عليه { صَبْراً جَمِيلاً } بلا جزع ولا شكوى { إِنَّهُمْ } إن الكفار { يَرَوْنَهُ } أي العذاب أو يوم القيامة { بَعِيداً } مستحيلاً { وَنَرَاهُ قَرِيباً } كائناً لا محالة ، فالمراد بالبعيد من الإمكان وبالقريب القريب منه . نصب { يَوْمَ تَكُونُ السماء } ب { قَرِيبًا } أي يمكن في ذلك اليوم أو هو بدل عن { فِى يَوْمٍ } فيمن علقه ب { وَاقِعٍ } { كالمهل } كدردي الزيت أو كالفضة المذابة في تلونها { وَتَكُونُ الجبال كالعهن } كالصوف المصبوغ ألواناً لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ، فإذا بست وطيرت في الجو اشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } لا يسأل قريب عن قريب لاشتغاله بنفسه .
وعن البزي والبرجمي : بضم الياء أي ولا يسأل قريب عن قريب أي لا يطالب به ولا يؤخذ بذنبه .
{ يُبَصَّرُونَهُمْ } صفة أي حميماً مبصرين معرفين إياهم ، أو مستأنف كأنه لما قال { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } قيل : لعله لا يبصره . فقيل : يبصرونهم ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم . والواو ضمير الحميم الأول و «هم» ضمير الحميم الثاني أي يبصر الأحماء الأحماء فلا يخفون عليهم . وإنما جمع الضميران وهما للحميمين لأن فعيلاً يقع موقع الجمع { يَوَدُّ المجرم } يتمنى المشرك وهو مستأنف ، أو حال من الضمير المرفوع ، أو المنصوب من { يُبَصَّرُونَهُمْ } { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ } وبالفتح : مدني وعلي على البناء للإضافة إلى غير متمكن { بِبَنِيهِ * وصاحبته } وزوجته { وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ } وعشيرته الأدنين { التى تُئْوِيهِ } تضمه انتماء إليها . وبغير همز : يزيد . { وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً } من الناس { ثُمَّ يُنجِيهِ } الافتداء عطف على { يفتدى } .
{ كَلاَّ } ردع للمجرم عن الودادة وتنبيه على أنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب { إِنَّهَا } إن النار ، ودل ذكر العذاب عليها ، أو هو ضمير مبهم ترجم عنه الخبر أو ضمير القصة { لظى } علم للنار { نَزَّاعَةً } حفص والمفضل على الحال المؤكدة ، أو على الاختصاص للتهويل . وغيرهما بالرفع خبر بعد خبر ل «إن» أو على «هي نزاعة» { للشوى } لأطراف الإنسان كاليدين والرجلين ، أو جمع شواة وهي جلدة الرأس تنزعها نزعاً فتفرقها ثم تعود إلى ما كانت { تَدْعُواْ } بأسمائهم يا كافر يا منافق إليّ إليّ ، أو تهلك من قولهم دعاك الله أي أهلكك ، أو لما كان مصيره إليها جعلت كأنها دعته { مَنْ أَدْبَرَ } عن الحق { وتولى } عن الطاعة { وَجَمَعَ } المال { فَأَوْعَى } فجعله في وعاء ولم يؤد حق الله منه .
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
{ إِنَّ الإنسان } أريد به الجنس ليصح استثناء المصلين منه { خُلِقَ هَلُوعاً } عن ابن عباس رضي الله عنهما : تفسيره ما بعده { إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } والهلع : سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير . وسأل محمد بن عبد الله بن طاهر ثعلباً عن الهلع فقال : قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس ، وهذا طبعه وهو مأمور بمخالفة طبعه وموافقة شرعه . والشر : الضر والفقر . والخير : السعة والغنى أو المرض والصحة { إِلاَّ المصلين * الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ } أي صلواتهم الخمس { دَائِمُونَ } أي يحافظون عليها في مواقيتها . وعن ابن مسعود رضي الله عنه { والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ } يعني الزكاة لأنها مقدرة معلومة أو صدقة يوظفها الرجل على نفسه يؤديها في أوقات معلومة { لَّلسَّائِلِ } الذي يسأل { والمحروم } الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنياً فيحرم { والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين } أي يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة { والذين هُم مّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } خائفون . واعترض بقوله { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } بالهمز : سوى أبي عمرو أي لا ينبغي لأحد وإن بالغ في الاجتهاد والطاعة أن يأمنه وينبغي أن يكون مترجحاً بين الخوف والرجاء .
{ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون * إِلاَّ على أزواجهم } نسائهم { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم } أي إمائهم { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } على ترك الحفظ { فَمَنِ ابتغى } طلب منكحاً { وَرَآءَ ذلك } أي غير الزوجات والمملوكات { فأولئك هُمُ العادون } المتجاوزون عن الحلال والحرام . وهذه الآية تدل على حرمة المتعة ووطء الذكران والبهائم والاستمناء بالكف { والذين هُمْ لأماناتهم } { لأمانتهم } مكي ، وهي تتناول أمانات الشرع وأمانات العباد { وَعَهْدِهِمْ } أي عهودهم ويدخل فيها عهود الخلق والنذور والأيمان { راعون } حافظون غير خائنين ولا ناقضين . وقيل : الأمانات ما تدل عليه العقول والعهد ما أتى به الرسول .
{ وَالَّذِينَ هُمْ بشهاداتهم } { بشهادتهم } سهل . وبالألف : حفص وسهل ويعقوب . { قَائِمُونَ } يقيمونها عند الحكام بلا ميل إلى قريب وشريف وترجيح للقوي على الضعيف إظهاراً للصلابة في الدين ورغبة في إحياء حقوق المسلمين { وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } كرر ذكر الصلاة لبيان أنها أهم ، أو لأن إحداهما للفرائض والأخرى للنوافل . وقيل : الدوام عليها الاستكثار منها والمحافظة عليها أن لا تضيع عن مواقيتها ، أو الدوام عليها أداؤها في أوقاتها والمحافظة عليها حفظ أركانها وواجباتها وسننها وآدابها { أولئك } أصحاب هذه الصفات { فِى جنات مُّكْرَمُونَ } هما خبران .
{ فَمَالِ } كتب مفصولاً اتباعاً لمصحف عثمان رضي الله عنه { الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ } نحوك معمول { مُهْطِعِينَ } مسرعين حال من { الذين كَفَرُواْ } { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال } عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن شماله { عِزِينَ } حال أي فرقاً شتى جمع عزة وأصلها عزوة كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزى إليه الأخرى فهم مفترقون . كان المشركون يحتفّون حول النبي صلى الله عليه وسلم حلقاً حلقاً وفرقاً فرقاً يستمعون ويستهزئون بكلامه ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت { أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ } بضم الياء وفتح الخاء : سوى المفضل { جَنَّةَ نَعِيمٍ } كالمؤمنين { كَلاَّ } ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة { إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ } أي من النطفة المذرة ولذلك أبهم إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره ، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم ، ويقولون لندخلن الجنة قبلهم؟ أو معناه : إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلهم ، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد الجنة إلا بالإيمان فلم يطمع أن يدخلها من لا إيمان له { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق } مطالع الشمس { والمغارب } ومغاربها { إِنَّا لقادرون * على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مّنْهُمْ } على أن نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم وأطوع لله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } بعاجزين .
{ فَذَرْهُمْ } فدع المكذبين { يَخُوضُواْ } في باطلهم { وَيَلْعَبُواْ } في دنياهم { حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ } فيه العذاب { يَوْمَ } بدل من { يَوْمَهُمُ } { يَخْرُجُونَ } بفتح الياء وضم الراء : سوى الأعشى { مّنَ الأجداث } القبور { سِرَاعاً } جمع سريع حال أي إلى الداعي { كَأَنَّهُمْ } حال { إلى نُصُبٍ } شامي وحفص وسهل { نُصُبٍ } المفضل . { نَصَبٌ } غيرهم وهو كل ما نصب وعبد من دون الله { يُوفِضُونَ } يسرعون { خاشعة } حال من ضمير { يُخْرِجُونَ } أي ذليلة { أبصارهم } يعني لا يرفعونها لذلتهم { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } يغشاهم هوان { ذَلِكَ اليوم الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ } في الدنيا وهم يكذبون به .
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
{ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً } قيل : معناه بالسريانية الساكن { إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ } خوّف أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل . ومحله عند الخليل جر ، وعند غيره نصب ، أو «أن» مفسرة بمعنى «أي» لأن في الإرسال معنى القول { قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } عذاب الآخرة أو الطوفان { قَالَ ياقوم } أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة { إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ } مخوف { مُّبِينٌ } أبين لكم رسالة الله بلغة تعرفونها { أَنِ اعبدوا الله } وحدوه و «أن» هذه نحو { أَنْ أَنذِرِ } في الوجهين { واتقوه } واحذروا عصيانه { وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، وإنما اضافه إلى نفسه لأن الطاعة قد تكون لغير الله تعالى بخلاف العبادة { يَغْفِرْ لَكُمْ } جواب الأمر { مّن ذُنُوبِكُمْ } للبيان كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] . أو للتبعيض لأن ما يكون بينه وبين الخلق يؤاخذ به بعد الإسلام كالقصاص وغيره كذا في شرح التأويلات . { وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو وقت موتكم { إِنَّ أَجَلَ الله } أي الموت { إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء أجلكم لآمنتم . قيل : إن الله تعالى قضى مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة وإن لم يؤمنوا أهلكهم على رأس تسعمائة ، فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي تبلغوا ألف سنة ، ثم أخبر أن الأجل إذا جاء لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت . وقيل : إنهم كانوا يخافون على أنفسهم الإهلاك من قومهم بإيمانهم وإجابتهم لنوح عليه السلام ، فكأنه عليه السلام أمّنهم من ذلك ووعدهم أنهم بإيمانهم يبقون إلى الأجل الذي ضرب لهم لو لم يؤمنوا أي أنكم إن أسلمتم بقيتم إلى أجل مسمى آمنين من عدوكم .
{ قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً } دائباً بلا فتور { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلاَّ فِرَاراً } عن طاعتك ، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده وإن لم يكن الدعاء سبباً للفرار في الحقيقة وهو كقوله : { وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] . والقرآن لا يكون سبباً لزيادة الرجس وكان الرجل يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام فيقول : احذر هذا فلا يغرنك فإن أبي قد وصاني به { وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ } إلى الإيمان بك { لِتَغْفِرَ لَهُمْ } أي ليؤمنوا فتغفر لهم فاكتفى بذكر المسبب { جَعَلُواْ أصابعهم فِى * ءاذَانِهِمْ } سدوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي { واستغشوا ثِيَابَهُمْ } وتغطوا بثيابهم لئلا يبصرون كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله { وَأَصَرُّواْ } وأقاموا على كفرهم { واستكبروا استكبارا } وتعظموا عن إجابتي ، وذكر المصدر دليل على فرط استكبارهم .
{ ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا } مصدر في موضع الحال أي مجاهراً ، أو مصدر دعوتهم ك «قعد القرفصاء» لأن الجهار أحد نوعي الدعاء يعني أظهرت لهم الدعوة في المحافل { ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } أي خلطت دعاءهم بالعلانية بدعاء السر ، فالحاصل أنه دعاهم ليلاً ونهاراً في السر ، ثم دعاهم جهاراً ، ثم دعاهم في السر والعلن ، وهكذا يفعل الآمر بالمعروف يبتدىء بالأهون ثم بالأشد فالأشد ، فافتتح بالمناصحة في السر فلما لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة ، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان . و «ثُم» تدل على تباعد الأحوال لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما .
{ فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ } من الشرك لأن الاستغفار طلب المغفرة ، فإن كان المستغفر كافراً فهو من الكفر ، وإن كان عاصياً مؤمناً فهو من الذنوب { إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } لم يزل غفاراً لذنوب من ينيب إليه { يُرْسِلِ السماء } المطر { عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً } كثيرة الدرور ومفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث { وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ } يزدكم أموالاً وبنين { وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات } بساتين { وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } جارية لمزارعكم وبساتينكم ، وكانوا يحبون الأموال والأولاد فحرّكوا بهذا على الإيمان . وقيل : لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة أو سبعين ، فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخصب ورفع عنهم ما كانوا فيه . وعن عمر رضي الله عنه أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له : ما رأيناك استسقيت! فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر . شبه عمر الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء وقرأ الآيات . وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال : استغفر الله . وشكا إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، فأمرهم كلهم بالاستغفار . فقال له الربيع بن صبيح : أتاك رجال يشكون أبواباً فأمرتهم كلهم بالاستغفار فتلا الآيات .
{ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } لا تخافون لله عظمة . عن الأخفش قال : والرجاء هنا الخوف لأن مع الرجاء طرفاً من الخوف ومن اليأس والوقار العظمة ، أو لا تأملون له توقيراً أي تعظيماً . والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } في موضع الحال أي ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه ، وهي حال موجبة للإيمان به لأنه خلقكم أطواراً أي تارات وكرّاتٍ خلقكم أولاً نطفاً ثم خلقكم علقاً ثم خلقكم مضغاً ثم خلقكم عظاماً ولحماً ، نبههم أولاً على النظر في أنفسكم لأنها أقرب ، ثم على النظر في العالم وما سوّى فيه من العجائب الدالة على الصانع بقوله { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً } بعضاً على بعض { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } أي في السماوات وهو في السماء الدنيا ، لأن بين السماوات ملابسة من حيث إنها طباق وجاز أن يقال فيهن كذا وإن لم يكن في جميعهن كما يقال : في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها .
وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم . أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماوات ، وظهورهما مما يلي الأرض ، فيكون نور القمر محيطاً بجميع السماوات لأنها لطيفة لا تحجب نوره { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } مصباحاً يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره ، وضوء الشمس أقوى من نور القمر ، وأجمعوا على أن الشمس في السماء الرابعة { والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض } أنشأكم استعير الإنبات للإنشاء { نَبَاتاً } فنبتم نباتاً { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } بعد الموت { وَيُخْرِجُكُمْ } يوم القيامة { إِخْرَاجاً } أكده بالمصدر أي أيّ إخراج { والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً } مبسوطة { لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا } لتتقلبوا عليها كما يتقلب الرجل على بساطه { سُبُلاً } طرقاً { فِجَاجاً } واسعة أو مختلفة .
{ قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى } فيما أمرتهم به من الإيمان والاستغفار { واتبعوا } أي السفلة والفقراء { مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ } أي الرؤساء وأصحاب الأموال والأولاد { وَوُلْده } مكي وعراقي غير عاصم وهو جمع ولد كأسد وأسد { إَلاَّ خَسَارًا } في الآخرة .
{ وَمَكَرُواْ } معطوف على { لَّمْ يَزِدْهُ } وجمع الضمير وهو راجع إلى «من» لأنه في معنى الجمع . والماكرون هم الرؤساء ، ومكرهم احتيالهم في الدنيا وكيدهم لنوح وتحريش الناس على أذاه وصدهم عن الميل إليه { مَكْراً كُبَّاراً } عظيماً وهو أكبر من الكبار وقرىء به وهو أكبر من الكبير { وَقَالُواْ } أي الرؤساء لسفلتهم { لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ } على العموم أي عبادتها { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً } بفتح الواو وضمها وهو قراءة نافع ، لغتان : صنم على صورة رجل { وَلاَ سُوَاعاً } هو على صورة امرأة { وَلاَ يَغُوثَ } هو على صورة أسد { وَيَعُوقَ } هو على صورة فرس وهما لا ينصرفان للتعريف ووزن الفعل إن كانا عربيين ، وللتعريف والعجمة إن كانا أعجميين { وَنَسْراً } هو على صورة نسر أي هذه الأصنام الخمسة على الخصوص ، وكأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فخصوها بعد العموم ، وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب؛ فكان ود لكلب ، وسواع لهمدان ، ويغوث لمذحج ، ويعوق لمراد ، ونسر لحمير . وقيل : هي أسماء رجال صالحين كان الناس يقتدون بهم بين آدم ونوح ، فلما ماتوا صوروهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى العبادة ، فلما طال الزمان قال لهم إبليس : إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم { وَقَدْ أَضَلُّواْ } أي الأصنام كقوله
{ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ } [ ابراهيم : 36 ] { كَثِيراً } من الناس أو الرؤساء { وَلاَ تَزِدِ الظالمين } عطف على { رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى } على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد { قَالَ } وبعد الواو النائبة عنه ، ومعناه قال رب إنهم عصوني وقال لا تزد الظالمين أي قال هذين القولين وهما في محل النصب لأنهما مفعولاً { قَالَ } { إِلاَّ ضَلاَلاً } هلاكاً كقوله { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } { مّمَّا خطيئاتهم } { خطاياهم } أبو عمرو أي ذنوبهم { أُغْرِقُواْ } بالطوفان { فَأُدْخِلُواْ نَاراً } عظيمة وتقديم { مّمَّا خطيئاتهم } لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان وإدخالهم في النيران إلا من أجل خطيئاتهم . وأكد هذا المعنى بزيادة «ما» وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا ، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم ، وإن كانت كبراهن والفاء في { فادخلوا } للإيذان بأنهم عذبوا بالإحراق عقيب الإغراق فيكون دليلاً على إثبات عذاب القبر { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً } ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله .
{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } أي أحداً يدور في الأرض وهو فيعال من الدور وهو من الأسماء المستعملة في النفي العام { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ } ولا تهلكهم { يُضِلُّواْ عِبَادَكَ } يدعوهم إلى الضلال { وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } إلا من إذا بلغ فجر وكفر وإنما قال ذلك لأن الله تعالى أخبره بقوله : { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ } [ هود : 36 ] { رَّبّ اغفر لِى ولوالدى } وكانا مسلمين واسم أبيه لمك ، واسم أمه شمخاء ، وقيل : هما آدم وحواء وقرىء { ولولَدَيَّ } يريد ساماً وحاماً { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ } منزلي أو مسجدي أو سفينتي { مُؤْمِناً } لأنه علم أن من دخل بيته مؤمناً لا يعود إلى الكفر { وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } إلى يوم القيامة . خص أولاً من يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه ، ثم عم المؤمنين والمؤمنات { وَلاَ تَزِدِ الظالمين } أي الكافرين { إِلاَّ تَبَاراً } هلاكاً فأهلكوا . قال ابن عباس رضي الله عنهما : دعا نوح عليه السلام بدعوتين : إحداهما للمؤمنين بالمغفرة ، وأخرى على الكافرين بالتبار ، وقد أجيبت دعوته في حق الكفار بالتبار فاستحال أن لا تستجاب دعوته في حق المؤمنين . واختلف في صبيانهم حين أغرقوا فقيل : أعقم الله أرحام نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا . وقيل : علم الله براءتهم فأهلكوا بغير عذاب والله أعلم .
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
{ قُلْ } يا محمد لأمتك { أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ } أن الأمر والشأن . أجمعوا على فتح { أَنَّهُ } لأنه فاعل { أوحى } و { أَن لَّوْ استقاموا } و { أَن المساجد } للعطف على { أَنَّهُ استمع } ف «أن» مخفقة من الثقيلة و { أَن قَدْ أَبْلَغُواْ } لتعدي { يَعْلَمْ } إليها ، وعلى كسر ما بعد فاء الجزاء وبعد القول نحو { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } { وَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا } لأنه مبتدأ محكي بعد القول ، واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من { أَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } إلى { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } ففتحها شامي وكوفي غير أبي بكر عطفاً على { أَنَّهُ استمع } أو على محل الجار والمجرور في { آمَنا بِهِ } تقديره : صدقناه وصدقنا { أَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } إلى آخرها ، وكسرها غيرهم عطفاً على { إِنَّا سَمِعْنَا } وهم يقفون على آخر الآيات { استمع نَفَرٌ } جماعة من الثلاثة إلى العشرة { مّن الجن } جن نصيبين { فَقَالُواْ } لقومهم حين رجعوا إليهم من استماع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً } عجيباً بديعاً مبايناً لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه . والعجب ما يكون خارجاً عن العادة ، وهو مصدر وضع موضع العجيب { يَهْدِى إِلَى الرشد } يدعوا إلى الصواب أو إلى التوحيد والإيمان { فَآمَنا بِهِ } بالقرآن . ولما كان الإيمان به إيماناً بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً } من خلقه ، وجاز أن يكون الضمير في { بِهِ } لله تعالى لأن قوله { بِرَبّنَا } يفسره .
{ وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } عظمته . يقال : جد فلان في عيني أي عظم ، ومنه قول عمر أو أنس : كان الرجل إذ قرأ البقرة وآل عمران جد فينا أي عظم في عيوننا { مَا اتخذ صاحبة } زوجة { وَلاَ وَلَداً } كما يقول كفار الجن والإنس { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } جاهلنا أو إبليس إذ ليس فوقه سفيه { عَلَى الله شَطَطاً } كفراً لبعده عن الصواب من شطت الدار أي بعدت ، أو قولاً يجوز فيه عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد إليه ، والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً } قولاً كذباً ، أو مكذوباً فيه ، أو نصب على المصدر إذ الكذب نوع من القول أي كان في ظننا أن أحداً لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم؛ كان الرجل من العرب إذا نزل بمخوف من الأرض قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد كبير الجن فقال { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن فَزَادوهُمْ } أي زاد الإنس الجن باستعاذتهم بهم { رَهَقاً } طغياناً وسفهاً وكبراً بأن قالوا : سدنا الجن الإنس أو فزاد الجن الإنس رهقاً إثماً لاستعاذتهم بهم ، وأصل الرهق غشيان المحظور { وَأَنَّهُمْ } وأن الجن { ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ } يا أهل مكة { أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً } بعد الموت أي أن الجن كانوا ينكرون البعث كإنكاركم ، ثم بسماع القرآن اهتدوا وأقروا بالبعث فهلا أقررتم كما أقروا .
{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء } طلبنا بلوغ السماء واستماع أهلها ، واللمس . المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف { فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً } جمعاً أقوياء من الملائكة يحرسون : جمع حارس ، ونصب على التمييز . وقيل : الحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذا وصف بشديد ولو نظر إلى معناه لقيل شداداً { وَشُهُباً } جمع شهاب أي كواكب مضيئة .
{ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا } من السماء قبل هذا { مقاعد لِلسَّمْعِ } لاستماع أخبار السماء يعني كنا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشهب قبل المبعث { فَمَن يَسْتَمِعِ } يرد الاستماع { الآن } بعد المبعث { يَجِدْ لَهُ } لنفسه { شِهَاباً رَّصَداً } صفة ل { شِهَاباً } بمعنى الراصد أي يجد شهاباً راصداً له ولأجله ، أو هو اسم جمع للراصد على معنى ذوي شهاب راصدين بالرجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع ، والجمهور على أن ذلك لم يكن قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : كان الرجم في الجاهلية ولكن الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأوقات فمنعوا من الاستراق أصلاً بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم .
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
{ وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ } عذاب { أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض } بعدم استراق السمع { أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } خيراً ورحمة { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون } الأبرار المتقون { وَمِنَّا } قوم { دُونِ ذَلِكَ } فحذف الموصوف وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه أو أرادوا غير الصالحين { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً } بيان للقسمة المذكورة أي كنا ذوي مذاهب متفرقة أو أديان مختلفة . والقدد جمع قدة وهي القطعة من قددت السير أي قطعته { وَأَنَّا ظَنَنَّا } أيقنا { أَن لَّن نُّعْجِزَ الله } لن نفوته { فِى الأرض } حال أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } مصدر في موضع الحال أي ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء ، وهذه صفة الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى } القرآن { ءَامَنَّا بِهِ } بالقرآن أو بالله { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ } فهو لا يخاف مبتدأ وخبر { بَخْساً } نقصاً من ثوابه { وَلاَ رَهَقاً } أي ولا ترهقه ذلة من قوله : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [ يونس : 27 ] وقوله : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } [ يونس : 26 ] . وفيه دليل على أن العمل ليس من الإيمان { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } المؤمنون { وَمِنَّا القاسطون } الكافرون الجائرون عن طريق الحق ، قسط : جار وأقسط عدل { فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً } طلبوا هدى والتحري طلب الأحرى أي الأولى { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ } في علم الله { لِجَهَنَّمَ حَطَباً } وقوداً ، وفيه دليل على أن الجني الكافر يعذب في النار ويتوقف في كيفية ثوابهم { وَأَنْ } مخففة من الثقيلة يعني وأنه وهي من جملة الموحى أي أوحى إلى أن الشأن { لَوْ استقاموا } أي القاسطون { عَلَى الطريقة } طريقة الإسلام { لأسقيناهم مَّاءً غَدَقاً } كثيراً ، والمعنى لوسعنا عليهم الرزق ، وذكر الماء الغدق لأنه سبب سعة الرزق .
{ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ } القرآن أو التوحيد أو العبادة { يَسْلُكْهُ } بالياء : عراقي غير أبي بكر يدخله { عَذَاباً صَعَداً } شاقاً مصدر صعد يقال : صعد صعداً وصعوداً ، فوصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح . أي ما شق عليّ .
{ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } من جملة الموحى أي أوحي إلى أن المساجد أي البيوت المبنية للصلاة فيها لله . وقيل : معناه ولأن المساجد لله فلا تدعوا على أن اللام متعلقة ب { لاَّ تَدْعُواْ } أي { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } في المساجد لأنها خالصة لله ولعبادته .
وقيل : المساجد أعضاء السجود وهي الجبهة واليدان والركبتان والقدمان { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } محمد عليه السلام إلى الصلاة وتقديره وأوحي إلى أنه لما قام عبد الله { يَدْعُوهُ } يعبده ويقرأ القرآن ولم يقل نبي الله أو رسول الله لأنه من أحب الأسماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأنه لما كان واقعاً في كلامه صلى الله عليه وسلم عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع ، أو لأن عبادة عبد الله لله ليست بمستبعد حتى يكونوا عليه لبداً { كَادُواْ } كاد الجن { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } جماعات جمع لبدة تعجباً مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه به وإعجاباً بما تلاه من القرآن لأنهم رأوا ما لم يروا مثله { قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبّى } وحده { قَالَ } غير عاصم وحمزة { وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } في العبادة فلم تتعجبون وتزدحمون علي؟ { قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً } مضرة { وَلاَ رَشَداً } نفعاً ، أو أراد بالضر الغي بدليل قراءة أبي { غَيّاً وَلاَ رَشَداً } يعني لا أستطيع أن أضركم وأن أنفعكم لأن الضار والنافع هو الله .
{ قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ الله أَحَدٌ } لن يدفع عني عذابه أحد إن عصيته كقول صالح عليه السلام : { فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ } [ هود : 63 ] { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } ملتجأ .
{ إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله } استثناء من { لا أَمْلِكُ } أي لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغاً من الله و { قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى } اعتراض لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه . وقيل : { بَلاَغاً } بدل من { مُلْتَحَدًا } أي لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به يعني لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به فإن ذلك ينجيني . وقال الفراء : هذا شرط وجزاء وليس باستثناء و «إن» منفصلة من «لا» وتقديره : أن لا أبلغ بلاغاً أي إن لم أبلغ لم أجد من دونه ملتجأ ولا مجيراً لي كقولك إن لا قياماً فقعوداً ، والبلاغ في هذه الوجوه بمعنى التبليغ { ورسالاته } عطف على { بَلاَغاً } كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات أي إلا أن أبلغ عن الله فأقول قال الله كذا ناسباً لقوله إليه ، وأن أبلغ رسالته التي أرسلني بها بلا زيادة ونقصان . و «من» ليست بصلة للتبليغ لأنه يقال : بلّغ عنه ، إنما هي بمنزلة «من» في { بَرَاءةٌ مّنَ الله } [ التوبة : 1 ] أي بلاغاً كائناً من الله .
{ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } في ترك القبول ، لما أنزل على الرسول لأنه ذكر على أثر تبليغ الرسالة { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا أَبَداً } وحد في قوله { لَهُ } وجمع في { خالدين } للفظ من ومعناه { حتى } يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال كأنه قيل : لا يزالون على ما هم عليه حتى { إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } من العذاب { فَسَيَعْلَمُونَ } عند حلول العذاب بهم { مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } أهم أم المؤمنون؟ أي الكافر لا ناصر له يومئذ والمؤمن ينصره الله وملائكته وأنبياؤه { قُلْ إِنْ أَدْرِى } ما أدري { أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } من العذاب { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى } وبفتح الياء : حجازي وأبو عمرو { أَمَدًا } غاية بعيدة يعني أنكم تعذبون قطعاً ولكن لا أدري أهو حالّ أم مؤجل { عالم الغيب } هو خبر مبتدأ أي هو عالم الغيب { فَلاَ يُظْهِرُ } فلا يطلع { على غَيْبِهِ أَحَداً } من خلقه { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } إلا رسولاً قد ارتضاه لعلم بعض الغيب ليكون إخباره عن الغيب معجزة له فإن يطلعه على غيبة ما شاء .
و { مِن رَّسُولٍ } بيان ل { مَنِ ارتضى } والولي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم عليه ، ولكنه أخبر بناء على رؤياه أو بالفراسة على أن كل كرامة للولي فهي معجزة للرسول . وذكر في التأويلات قال بعضهم في هذه الآية بدلالة تكذيب المنجمة وليس كذلك فإن فيهم من يصدق خبره ، وكذلك المتطببة يعرفون طبائع النبات وذا لا يعرف بالتأمل فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره وبقي علمه في الخلق .
{ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ } يدخل { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } يدي رسول { وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم حتى يبلغ الوحي { لِيَعْلَمَ } الله { أَن قَدْ أَبْلَغُواْ } أي الرسل { رسالات رَبِّهِمْ } كاملة بلا زيادة ولا نقصان إلى المرسل إليهم أي ليعلم الله ذلك موجوداً حال وجوده كما كان يعلم ذلك قبل وجوده أنه يوجد ، وحد الضمير في { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } للفظ «من» ، وجمع في { أَبْلَغُواْ } لمعناه { وَأَحَاطَ } الله { بِمَا لَدَيْهِمْ } بما عند الرسل من العلم { وأحصى كُلَّ شَىْءٍ عَدَداً } من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحار ، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ و { عَدَدًا } حال أي وعلم كل شيء معدوداً محصوراً أو مصدر في معنى إحصاء ، والله أعلم .
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
مكية وهي تسع عشرة آية بصري وثمان عشرة شامي
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يأَيُّهَا المزمل } أي المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها بإدغام التاء في الزاي . كان النبي صلى الله عليه وسلم نائماً بالليل متزملاً في ثيابه فأمر بالقيام للصلاة بقوله { قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ } بدل من { اليل } و { إِلاَّ قَلِيلاً } استثناء من قوله { نّصْفَهُ } تقديره : قم نصف الليل إلا قليلاً من نصف الليل { أَوِ انقص مِنْهُ } من النصف . بضم الواو : غير عاصم وحمزة { قَلِيلاً } إلى الثلث { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } على النصف إلى الثلثين ، والمراد التخيير بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه ، وإن جعلت { نِّصْفَهُ } بدلاً من { قَلِيلاً } كان مخيراً بين ثلاثة أشياء : بين قيام نصف الليل تاماً ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه . وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل وإلا فإطلاق لفظ القليل ينطلق على ما دون النصف ولهذا قلنا : إذا أقرّ أن لفلان عليه ألف درهم إلا قليلاً أنه يلزمه أكثر من نصف الألف { وَرَتّلِ القرءان } بين وفصل من الثغر المرتل أي المفلج الأسنان ، وكلام رَتَلٌ بالتحريك أي مرتل ، وثغر رتل أيضاً إذا كان مستوي البنيان . أو اقرأ على تؤدة بتبيين الحروف وحفظ الوقوف وإشباع الحركات { تَرْتِيلاً } هو تأكيد في إيجاب الأمر به وأنه لا بد منه للقارىء { إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ } سننزل عليك { قَوْلاً ثَقِيلاً } أي القرآن لما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين ، أو ثقيلاً على المنافقين ، أو كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف الخفيف .
{ إِنَّ نَاشِئَةَ اليل } بالهمزة : سوى ورش : قيام الليل . عن ابن مسعود رضي الله عنه . فهي مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعلة كالعافية ، أو العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث ، أو ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة فساعة ، وكان زين العابدين رضي الله عنه يصلي بين العشاءين ويقول هذه ناشئة الليل { هِىَ أَشَدُّ } { وطاءً } { وفاقا } شامي وأبو عمرو أي يواطيء فيها قلب القائم لسانه . وعن الحسن : أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق . وغيرهما { وَطْأ } أي أثقل على المصلي من صلاة النهار لطرد النوم في وقته من قوله صلى الله عليه وسلم : « اللهم اشدد وطأتك على مضر » { وَأَقْوَمُ قِيلاً } وأشد مقالاً وأثبت قراءة لهدوء الأصوات وانقطاع الحركات { إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } تصرفاً وتقلباً في مهماتك وشواغلك ففرّغ نفسك في الليل لعبادة ربك أو فراغاً طويلاً لنومك وراحتك { واذكر اسم رَبِّكَ } ودم على ذكره في الليل والنهار ، وذكر الله يتناول التسبيح والتهليل والتكبير والصلاة وتلاوة القرآن ودراسة العلم { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ } انقطع إلى عبادته عن كل شيء .
والتبتل : الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره . وقيل : رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله { تَبْتِيلاً } في اختلاف المصدر زيادة تأكيد أي بتّلك الله فتبتل تبتيلاً أو جيء به مراعاة لحق الفواصل .
{ رَّبُّ المشرق والمغرب } بالرفع أي هو رب أو مبتدأ خبره { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } وبالجر : شامي وكوفي غير حفص بدل من { رَبَّكَ } وعن ابن عباس رضي الله عنهما على القسم بإضمار حرف القسم نحو : الله لأفعلن ، وجوابه لا إله إلا هو كقولك : والله لا أحد في الدار إلا زيد { فاتخذه وَكِيلاً } ولياً وكفيلاً بما وعدك من النصر ، أو إذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب وأن لا إله إلا هو فاتخذه كافياً لأمورك . وفائدة الفاء أن لا تلبث بعد أن عرفت في تفويض الأمور إلى الواحد القهار إذ لا عذر لك في الانتظار بعد الإقرار .
{ واصبر على مَا يَقُولُونَ } فيّ من الصاحبة والولد وفيك من الساحر والشاعر { واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً } جانبهم بقلبك وخالفهم مع حسن المحافظة وترك المكافأة . وقيل : هو منسوخ بآية القتال { وَذَرْنِى } أي كِلْهم إليّ فأنا كافيهم { والمكذبين } رؤساء قريش مفعول معه أو عطف على { ذَرْنِى } أي دعني وإياهم { أُوْلِى النعمة } التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرة { وَمَهِّلْهُمْ } إمهالاً { قَلِيلاً } إلى يوم بدر أو إلى يوم القيامة { إِنَّ لَدَيْنَا } للكافرين في الآخرة { أَنكَالاً } قيوداً ثقالاً جمع نِكْل { وَجَحِيماً } ناراً محرقة { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } أي الذي ينشب في الحلوق فلا ينساغ يعني الضريع والزقوم { وَعَذَاباً أَلِيماً } يخلص وجعه إلى القلب . ورُوي « أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق » وعن الحسن أنه أمسى صائماً فأتي بطعام فعرضت له هذه الآية فقال : ارفعه . ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال : ارفعه ، وكذلك الليلة الثالثة فأخبر ثابت البناني وغيره فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق .
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
{ يَوْمَ } منصوب بما في { لَدَيْنَا } من معنى الفعل أي استقر للكفار لدينا كذا وكذا يوم { تَرْجُفُ الأرض والجبال } أي تتحرك حركة شديدة { وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً } رملاً مجتمعاً من كثب الشيء إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول { مَّهِيلاً } سائلاً بعد اجتماعه { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ } يا أهل مكة { رَسُولاً } يعني محمداً عليه السلام { شاهدا عَلَيْكُمْ } يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم { كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } يعني موسى عليه السلام { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } أي ذلك الرسول «إذ» النكرة وإذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول { فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً } شديداً غليظاً . وإنما خص موسى وفرعون لأن خبرهما كان منتشراً بين أهل مكة لأنهم كانوا جيران اليهود { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً } هو مفعول { تَتَّقُونَ } أي كيف تتقون عذاب يوم كذا إن كفرتم؟ أو ظرف أي فكيف لكم التقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ أو منصوب ب { كَفَرْتُمْ } على تأويل جحدتم أي كيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء لأن تقوى الله خوف عقابه { يَجْعَلُ الولدان } صفة ل { يَوْماً } والعائد محذوف أي فيه { شِيباً } من هوله وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه السلام : قم فابعث بعث النار من ذريتك وهو جمع أشيب . وقيل : هو على التمثيل للتهويل يقال لليوم الشديد : يوم يشيب نواصي الأطفال .
{ السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } وصف لليوم بالشدة أيضاً أي السماء على عظمها وإحكامها تنفطر به أي تنشق فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ والتذكير على تأويل السماء بالسقف أو السماء شيء منفطر ، وقوله { بِهِ } أي بيوم القيامة يعني أنها تنفطر لشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشيء بما يفطر به { كَانَ وَعْدُهُ } المصدر مضاف إلى المفعول وهو اليوم ، أو إلى الفاعل وهو الله عز وجل { مَفْعُولاً } كائناً { إِنَّ هذه } الآيات الناطقة بالوعيد { تَذْكِرَةٌ } موعظة { فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } أي فمن شاء اتعظ بها واتخذ سبيلاً إلى الله بالتقوى والخشية .
{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى } أقل فاستعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز ، وإذا بعدت كثر ذلك { مِن ثُلُثَىِ اليل } بضم اللام : سوى هشام { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } منصوبان عطف على { أدنى } مكي وكوفي ، ومن جرهما عطف على { مِن ثُلُثَىِ } { وَطَائِفَةٌ } عطف على الضمير في { تَقُومُ } وجاز بلا توكيد لوجود الفاصل { مِّنَ الذين مَعَكَ } أي ويقوم ذلك المقدار جماعة من أصحابك { والله يقدراليل والنهار } أي ولا يقدر على تقدير الليل والنهار ولا يعلم مقادير ساعاتهما إلا الله وحده .
وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه { يقدر } هو الدال على أنه مختص بالتقدير ، ثم إنهم قاموا حتى انتفخت أقدامهم فنزل { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير إلا بشدة ومشقة وفي ذلك حرج { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } فخفف عليكم وأسقط عنكم فرض قيام الليل { فاقرءوا } في الصلاة والأمر للوجوب أو في غيرها والأمر للندب { مَا تَيَسَّرَ } عليكم { مِنَ القرءان } روى أبو حنيفة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : من قرأ مائة آية في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين . وقيل : أراد بالقرآن الصلاة لأنه بعض أركانها أي فصلوا ما تيسر عليكم ولم يتعذر من صلاة الليل وهذا ناسخ للأول ، ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس ، ثم بين الحكمة في النسخ وهي تعذر القيام على المرضى والمسافرين والمجاهدين فقال { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ } أي أنه مخففة من الثقيلة والسين بدل من تخفيفها وحذف اسمها { مَّرْضَى } فيشق عليهم قيام الليل .
{ وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأرض } يسافرون { يَبْتَغُونَ } حال من ضمير { يَضْرِبُونَ } { مِن فَضْلِ الله } رزقه بالتجارة أو طلب العلم { وَءاخَرُونَ يقاتلون فِى سَبِيلِ الله } سوّى بين المجاهد والمكتسب لأن كسب الحلال جهاد . قال ابن مسعود رضي الله عنه : أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء . وقال ابن عمر رضي الله عنهما : ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } كرر الأمر بالتيسير لشدة احتياطهم { وَأَقِيمُواْ الصلاوة } المفروضة { وَءَاتُواْ الزكواة } الواجبة { وَأَقْرِضُواُ الله } بالنوافل . والقرض لغة : القطع فالمقرض يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره ، وكذا المتصدق يقطع ذلك القدر من ماله فيجعله لله تعالى ، وإنما أضافه إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما تصدق به عليه وهذا لأن الفقير معاون له في تلك القربة فلا يكون له عليه منة بل المنة للفقير عليه { قَرْضًا حَسَنًا } من الحلال بالاخلاص { وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } أي ثوابه وهو جزاء الشرط { عِندَ الله هُوَ خَيْراً } مما خلفتم وتركتم فالمفعول الثاني ل { تَجِدُوهُ } { خيراً } و { هُوَ } فصل . وجاز وإن لم يقع بين معرفتين لأن أفعل من أشبه المعرفة لامتناعه من حرف التعريف { وَأَعْظَمَ أَجْراً } وأجزل ثواباً { واستغفروا الله } من السيئات والتقصير في الحسنات { إِنَّ الله غَفُورٌ } يستر على أهل الذنب والتقصير { رَّحِيمٌ } يخفف عن أهل الجهد والتوفيق وهو على ما يشاء قدير ، والله أعلم .
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
مكية وهي ست وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كنت على جبل حراء : فنوديت يا محمد إنك رسول الله . فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئاً ، فنظرت إلى فوقي فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض يعني الملك الذي ناداه فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت : دثروني دثروني » فدثرته خديجة فجاء جبريل وقرأ { ياأيها المدثر } أي المتلفف بثيابه من الدثار وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار . والشعار : الثوب الذي يلي الجسد وأصله المتدثر فأدغم { قُمْ } من مضجعك أو قم قيام عزم وتصميم { فَأَنذِرْ } فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا ، أو فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد . وقيل : سمع من قريش ما كرهه فاغتم فتغطى بثوبه مفكراً كما يفعل المغموم فقيل له : يا أيها الصارف أذى الكفار عن نفسك بالدثار ، قم فاشتغل بالأنذار وإن آذاك الفجار { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } واختص ربك بالتكبير وهو التعظيم أي لا يكبر في عينك غيره وقل عندما يعروك من غير الله : الله أكبر . ورُوي أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الله أكبر » فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي ، وقد يحمل على تكبير الصلاة . ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل : وما كان فلا تدع تكبيره .
{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } بالماء من النجاسة لأن الصلاة لا تصح إلا بها وهي الأولى في غير الصلاة ، أو فقصر مخالفة للعرب في تطويلهم الثياب وجرّهم الذيول إذ لا يؤمن معه إصابة النجاسة ، أو طهر نفسك مما يستقذر من الأفعال يقال : فلان طاهر الثياب إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ، وفلان دنس الثياب للغادر ولأن من طهر باطنه يطهر ظاهره ظاهراً { والرجز } بضم الراء : يعقوب وسهل وحفص ، وغيرهم بالكسر العذاب والمراد ما يؤدي إليه { فاهجر } أي أثبت على هجره لأنه كان بريئاً منه { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } بالرفع وهو منصوب المحل على الحال أي لا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه كثيراً أو طالباً أكثر مما أعطيت فإنك مأمور بأجلّ الأخلاق وأشرف الآداب ، وهو من منّ عليه إذا أنعم عليه . وقرأ الحسن { تَسْتَكْثِرُ } بالسكون جواباً للنهي { وَلِرَبِّكَ فاصبر } ولوجه الله فاستعمل الصبر على أوامره ونواهيه وكل مصبور عليه ومصبور عنه { فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور } نفخ في الصور وهي النفخة الأولى وقيل الثانية { فذلك } إشارة إلى وقت النقر وهو مبتدأ { يَوْمَئِذٍ } مرفوع المحل بدل من { ذلك } { يَوْمٌ عَسِيرٌ } خبر كأنه قيل : فيوم النقر يوم عسير .
والفاء في { فَإِذَا } للتسبيب وفي { فَذَلِكَ } للجزاء كأنه قيل : اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه . والعامل في { فَإِذَا } ما دل عليه الجزاء أي فإذا نقر في الناقور عسر الأمر { عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ } وأكد بقوله { غَيْرُ يَسِيرٍ } ليؤذن بأنه يسير على المؤمنين أو عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا .
{ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ } أي كله إليّ يعني الوليد بن المغيرة وكان يلقب في قومه بالوحيد و { مِنْ خلقت } معطوف أو مفعول معه { وَحِيداً } حال من الياء في { ذَرْنِى } أي ذرني وحدي معه فإني أكفيك أمره ، أو من التاء في { خلقت } أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد ، أو من الهاء المحذوفة ، أو من أي خلقته منفرداً بلا أهل ولا مال ثم أنعمت عليه { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } مبسوطاً كثيراً أو ممدوداً بالنماء وكان له الزرع والضرع والتجارة . وعن مجاهد : كان له مائة ألف دينار . وعنه أن له أرضاً بالطائف لا ينقطع ثمرها { وَبَنِينَ شُهُوداً } حضوراً معه بمكة لغناهم عن السفر وكانوا عشرة أسلم منهم خالد وهشام وعمارة { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } وبسطت له الجاه والرياسة فأتممت عليه نعمتي الجاه والمال واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه فيرجو أن أزيد في ماله وولده من غير شكر . وقال الحسن : أن أزيد أن أدخله الجنة فأوتيه مالاً وولداً كما قال { لأوتين مالاً وولداً } { كَلاَّ } [ مريم : 77 ] ردع له وقطع لرجائه أي لا يجمع له بعد اليوم بين الكفر والمزيد من النعم ، فلم يزل بعد نزول الآية في نقصان من المال والجاه حتى هلك { إِنَّهُ كان لآياتنا } للقرآن { عَنِيداً } معانداً جاحداً وهو تعليل للردع على وجه الاستئناف كأن قائلاً قال : لم لا يزاد؟ فقيل : إنه جحد آيات المنعم وكفر بذلك نعمته والكافر لا يستحق المزيد { سَأُرْهِقُهُ } سأغشيه { صَعُوداً } عقبة شاقة المصعد وفي الحديث " الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبد " { إِنَّهُ فَكَّرَ } تعليل للوعيد كأن الله تعالى عاجله بالفقر والذل بعد الغنى والعز لعناده ، ويعاقبه في الآخرة بأشد العذاب لبلوغه بالعناد غايته ، وتسميته القرآن سحراً يعني أنه فكر ماذا يقول في القرآن { وَقَدَّرَ } في نفسه ما يقوله وهيأه .
{ فَقُتِلَ } لعن { كَيْفَ قَدَّرَ } تعجيب من تقديره { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } كرر للتأكيد و«ثم» يشعر بأن الدعاء الثاني أبلغ من الأول { ثُمَّ نَظَرَ } في وجوه الناس أو فيما قدر { ثُمَّ عَبَسَ } قطب وجهه { وَبَسَرَ } زاد في التقبض والكلوح { ثُمَّ أَدْبَرَ } عن الحق { واستكبر } عنه أو عن مقامه وفي مقاله .
و { ثُمَّ نَظَرَ } عطف على { فَكَّرَ وَقَدَّرَ } والدعاء اعتراض بينهما ، وإيراد «ثم» في المعطوفات لبيان أن بين الأفعال المعطوفة تراحياً { فَقَالَ إِنْ هذا } ما هذا { إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } يروى عن السحرة . رُوي أن الوليد قال لبني مخزوم : والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى . فقالت قريش : صبأ والله الوليد . فقال أبو جهل وهو ابن أخيه : أنا أكفيكموه ، فقعد إليه حزيناً وكلمه بما أحماه فقام الوليد ، فأتاهم فقال : تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق؟ وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط؟ وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك : اللهم لا . ثم قالوا : فما هو؟ ففكر فقال : ما هو إلا ساحر ، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثر عن مسيلمة وأهل بابل ، فارتج النادي فرحاً وتفرقوا متعجبين منه . وذكر الفاء دليل على أن هذه الكلمة لما خطرت بباله نطق بها من غير تلبث { إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر } ولم يذكر العاطف بين هاتين الجملتين لأن الثانية جرت مجرى التوكيد للأولى .
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
{ سَأُصْلِيهِ } سأدخله بدل من { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } { سَقَرَ } علم لجهنم ولم ينصرف للتعريف والتأنيث { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } تهويل لشأنها { لاَ تُبْقِى } أي هي لا تبقى لحماً { وَلاَ تَذَرُ } عظماً أو لا تبقى شيئاً يبقى فيها إلا أهلكته ولا تذره هالكاً بل يعود كما كان { لَوَّاحَةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هي لواحة { لِّلْبَشَرِ } جمع بشرة وهي ظاهرة الجلد أي مسوّدة للجلود ومحرقة لها { عَلَيْهَا } على سقر { تِسْعَةَ عَشَرَ } أي يلي أمرها تسعة عشر ملكاً عند الجمهور . وقيل : صنفاً من الملائكة . وقيل : صفاً . وقيل : نقيباً { وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار } أي خزنتها { إِلاَّ ملائكة } لأنهم خلاف جنس المعذبين فلا تأخذهم الرأفة والرقة لأنهم أشد الخلق بأساً فللواحد منهم قوة الثقلين .
{ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ } تسعة عشر { إِلاَّ فِتْنَةً } أي ابتلاء واختبار { لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } حتى قال أبو جهل : لما نزلت { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } أما يستطيع كل عشر منكم أن يأخذوا واحداً منهم وأنتم الدهم ، فقال أبو الأشد وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين فنزلت { وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار إِلاَّ ملائكة } أي وما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون . وقالوا : في تخصيص الخزنة بهذا العدد مع أنه لا يطلب في الأعداد العلل أن ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار ، وستة يسوقونهم ، وستة يضربونهم بمقامع الحديد ، والآخر خازن جهنم وهو مالك وهو الأكبر . وقيل : في سقر تسعة عشر دركاً وقد سلط على كل درك ملك . وقيل : يعذب فيها بتسعة عشر لوناً من العذاب وعلى كل لون ملك موكل . وقيل : إن جهنم تحفظ بما تحفظ به الأرض من الجبال وهي تسعة عشر وإن كان أصلها مائة وتسعين إلا أن غيرها يشعب عنها { لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله { وَيَزْدَادَ الذين ءَامَنُواْ } بمحمد وهو عطف على { لِيَسْتَيْقِنَ } { إيمانا } لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل ، أو يزدادوا يقيناً لموافقة كتابهم كتاب أولئك { وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون } هذا عطف أيضاً ، وفيه توكيد للاستيقان وزيادة الإيمان إذ الاستيقان وازدياد الإيمان دالان على انتفاء الارتياب . ثم عطف على { لِيَسْتَيْقِنَ } أيضاً .
{ وَلِيَقُولَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } نفاق { والكافرون } المشركون فإن قلت : النفاق ظهر في المدينة والسورة مكية . قلت : معناه وليقول المنافقون الذين يظهرون في المستقبل بالمدينة بعد الهجرة والكافرون بمكة { مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } وهذا إخبار بما سيكون كسائر الإخبارات بالغيوب وذا لا يخالف كون السورة مكية .
وقيل : المراد بالمرض الشك والارتياب لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين . و { مَثَلاً } تمييز لهذا أو حال منه كقوله : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءَايَةً } [ الأعراف : 73 ] [ هود : 64 ] ولما كان ذكر العدد في غاية الغرابة وأن مثله حقيق بأن تسير به الركبان سيرها بالأمثال سمي مثلاً ، والمعنى أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب ، وأي معنى أراد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين ، وغرضهم إنكاره أصلاً وأنه ليس من عند الله وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء } الكاف نصب و«ذلك» إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يعني إضلال المنافقين والمشركين حتى قالوا ما قالوا ، وهدي المؤمنين بتصديقه ، ورؤية الحكمة في ذلك يضل الله من يشاء من عباده وهو الذي علم منه اختيار الضلال { وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ } وهو الذي علم منه اختيار الاهتداء ، وفيه دليل خلق الأفعال ووصف الله بالهداية والإضلال . لما قال أبو جهل لعنه الله : أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر نزل { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ } لفرط كثرتها { إِلاَّ هُوَ } فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها { وَمَا هِىَ } متصل بوصف سقر وهي ضميرها أي وما سقر وصفتها { إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ } أي تذكرة للبشر أو ضمير الآيات التي ذكرت فيها .
{ كَلاَّ } إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون { والقمر } أقسم به لعظم منافعه { واليل إِذْ أَدْبَرَ } نافع وحفص وحمزة ويعقوب وخلف . وغيرهم { إِذَا دبرٍ } ودبر بمعنى أدبر ومعناهما ولى وذهب . وقيل : أدبر ولى ومضى ، ودبر جاء بعد النهار { والصبح إِذَا أَسْفَرَ } أضاء وجواب القسم .
{ إِنَّهَا } إن سقر { لإِحْدَى الكبر } هي جمع الكبرى أي لإحدى البلايا أو الدواهي الكبر ، ومعنى كونها إحداهن أنها من بينهن واحدة في العظم لا نظيرة لها كما تقول : هو أحد الرجال وهي إحدى النساء { نَذِيراً } تمييز من { إِحْدَى } أي إنها لإحدى الدواهي إنذاراً كقولك : هي إحدى النساء عفافاً . وأبدل من { لّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مّنكُمْ } بإعادة الجار { أَن يَتَقَدَّمَ } إلى الخير { أَوْ يَتَأَخَّرَ } عنه . وعن الزجاج : إلى ما أمر وعما نهى . { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } هي ليست بتأنيث «رهين» في قوله { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } [ الطور : 21 ] لتأنيث النفس ، لأنه لو قصدت الصفة لقيل رهين ، لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهن ، والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك { إِلاَّ أصحاب اليمين } أي أطفال المسلمين لأنهم لا أعمال لهم يرهنون بها ، أو إلا المسلمين فإنهم فكوا رقابهم بالطاعة كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق { فِي جنات } أي هم في جنات لا يكتنه وصفها { يَتَسَاءَلُونَ عَنِ المجرمين } يسأل بعضهم بعضاً عنهم أو يتساءلون غيرهم عنهم { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ } أدخلكم فيها .
ولا يقال لا يطابق قوله { مَا سَلَكَكُمْ } وهو سؤال للمجرمين قوله { يَتَسَاءلُونَ* عَنِ المجرمين } وهو سؤال عنهم ، وإنما يطابق ذلك لو قيل يتساءلون المجرمين ما سلككم ، لأن { مَا سَلَكَكُمْ } ليس ببيان للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم ، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون : قلنا لهم ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ، إلا أنه اختصر كما هو نهج القرآن . وقيل : «عن» زائدة .
{ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } أي لم نعتقد فرضيتها { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين } كما يطعم المسلمون { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين } الخوض : الشروع في الباطل . أي نقول الباطل والزور في آيات الله { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين } الحساب والجزاء { حتى أتانا اليقين } الموت { فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين } من الملائكة والنبيين والصالحين لأنها للمؤمنين دون الكافرين . وفيه دليل ثبوت الشفاعة للمؤمنين في الحديث : " إن من أمتي من يدخل الجنة بشفاعته أكثر من ربيعة ومضر " { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة } عن التذكير وهو العظة أي القرآن { مُعْرِضِينَ } مولين حال من الضمير نحو : مالك قائماً { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ } أي حمر الوحش حال من الضمير في { مُعْرِضِينَ } { مُّسْتَنفِرَةٌ } شديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها . وبفتح الفاء : مدني وشامي أي استنفرها غيرها { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } حال و«قد» معها مقدرة . والقسورة : الرماة أو الأسد فعولة من القسر وهو القهر والغلبة ، شبهوا في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر بحمر جدت في نفارها .
{ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } قراطيس تنشر وتقرأ وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها : من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر فيها باتباعك . ونحوه قوله : { لَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 93 ] وقيل : قالوا إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار { كَلاَّ } ردع لهم عن تلك الإرادة وزجر عن اقتراح الآيات . ثم قال : { بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة } فلذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة وقال : إن القرآن تذكرة بليغة كافية { فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } أي فمن شاء أن يذكره ولا ينساه فعل . فإن نفع ذلك عائد إليه { وَمَا يَذْكُرُونَ } وبالتاء : نافع ويعقوب { إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله } إلا وقت مشيئة الله وإلا بمشيئة الله { هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } في الحديث : " هو أهل أن يتقي وأهل أن يغفر لمن اتقاه " والله أعلم .
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
{ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } أي أقسم . عن ابن عباس : و «لا» كقوله { لّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] وقوله :
في بئر لا حور سرى وما شعر ... وكقوله :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد ضمير القلب لا يتقطع
وعليه الجمهور وعن الفراء : «لا» رد لإنكار المشركين البعث كأنه قيل : ليس الأمر كما تزعمون ثم قيل : أقسم بيوم القيامة . وقيل : أصله لأقسم كقراءة ابن كثير على أن اللام للابتداء و { أُقْسِمُ } خبر مبتدأ محذوف أي لأنا أقسم ويقويه أنه في «الإمام» بغير الألف ثم أشبع فظهر من الإشباع ألف ، وهذا اللام يصحبه نون التأكيد في الأغلب وقد يفارقه { وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة } الجمهور على أنه قسم آخر . وعن الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة فهي صفة ذم وعلى القسم صفة مدح أي النفس المتقية التي تلوم على التقصير في التقوى وقيل : هي نفس آدم لم تزل تلوم على فعلها التي خرجت به من الجنة ، وجواب القسم محذوف أي لتبعثن دليله { أَيَحْسَبُ الإنسان } أي الكافر المنكر للبعث { أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } بعد تفرقها ورجوعها رفاتاً مختلطاً بالتراب .
{ بلى } أوجبت ما بعد النفي أي بلى نجمعها { قادرين } حال من الضمير في { نَّجْمَعَ } أي نجمعها قادرين على جمعها وإعادتها كما كانت { على أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ } أصابعه كما كانت في الدنيا بلا نقصان وتفاوت مع صغرها فكيف بكبار العظام . { بَلْ يُرِيدُ الإنسان } عطف على { أَيَحْسَبُ } فيجوز أن يكون مثله استفهاماً { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان { يَسْئَلُ أَيَّانَ } متى { يَوْمُ القيامة } سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة { فَإِذَا بَرِقَ البصر } تحير فزعاً وبفتح الراء : مدني شَخَصَ { وَخَسَفَ القمر } وذهب ضوؤه أو غاب من قوله { فَخَسَفْنَا بِهِ } [ القصص : 81 ] وقرأ أبو حيوة بضم الخاء { وَجُمِعَ الشمس والقمر } أي جمع بينهما في الطلوع من المغرب أو جمعاً في ذهاب الضوء ويجمعان فيقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى { يَقُولُ الإنسان } الكافر { يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر } هو مصدر أي الفرار من النار أو المؤمن أيضاً من الهول . وقرأ الحسن بكسر الفاء وهو يحتمل المكان والمصدر { كَلاَّ } ردع عن طلب المفر { لاَ وَزَرَ } لا ملجأ { إلى رَبِّكَ } خاصة { يَوْمَئِذٍ المستقر } مستقر العباد أو موضع قرارهم من جنة أو نار مفوّض ذلك لمشيئته ، من شاء أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار .
{ يُنَبَّؤُاْ الإنسان يَوْمَئِذٍ } يخبر { بِمَا قَدَّمَ } من عمل عمله { وَأَخَّرَ } ما لم يعمله .
{ بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } شاهد .
والهاء للمبالغة كعلامة أو أنثه لأنه أراد به جوارحه إذ جوارحه تشهد عليه ، أو هو حجة على نفسه والبصيرة الحجة قال الله تعالى : { قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } [ الأنعام : 104 ] وتقول لغيرك أنت حجة على نفسك . و { بَصِيرَةٌ } رفع بالابتداء وخبره { على نَفْسِهِ } تقدم عليه والجملة خبر الإنسان كقولك : زيد على رأسه عمامة . والبصيرة على هذا يجوز أن يكون الملك الموكل عليه { وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } أرخى ستوره والمعذار الستر . وقيل : ولو جاء بكل معذرة ما قبلت منه فعليه من يكذب عذره . والمعاذير ليس بجمع معذرة لأن جمعها معاذر بل هي اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ } بالقرآن { لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } بالقرآن . وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ في القرآن قبل فراغ جبريل كراهة أن يتفلت منه فقيل له : لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ لتأخذه على عجلة ، ولئلا يتفلت منك . ثم علل النهي عن العجلة بقوله { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } في صدرك { وَقُرْءَانَهُ } وإثبات قراءته في لسانك ، والقرآن القراءة ونحوه { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] { فَإِذَا قرأناه } أي قرأه عليك جبريل فجعل قراءة جبريل قراءته { فاتبع قُرْءَانَهُ } أي قراءته عليك { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } إذا أشكل عليك شيء من معانيه .
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
{ كَلاَّ } ردع عن إنكار البعث أو ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن العجلة وإنكار لها عليه ، وأكده بقوله { بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة } كأنه قيل : بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة الدنيا وشهواتها { وَتَذَرُونَ الآخرة } الدار الآخرة ونعيمها فلا تعملون لها والقراءة فيهما بالتاء : مدني وكوفي { وُجُوهٌ } هي وجوه المؤمنين { يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } حسنة ناعمة { إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } بلا كيفية ولا جهة ولا ثبوت مسافة . وحمل النظر على الانتظار لأمر ربها أو لثوابه لا يصح لأنه يقال : نظرت فيه أي تفكرت ، ونظرته انتظرته ، ولا يعدى ب «إلى» إلا بمعنى الرؤية مع أنه لا يليق الانتظار في دار القرار { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } كالحة شديدة العبوسة وهي وجوه الكفار { تَظُنُّ } تتوقع { أَن يُفْعَلَ بِهَا } فعل هو في شدته { فَاقِرَةٌ } داهية تقصم فقار الظهر { كَلاَّ } ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل : ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين { إِذَا بَلَغَتِ } أي الروح وجاز وإن لم يجر لها ذكر لأن الآية تدل عليها { التراقى } العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال جمع ترقوة { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } يقف حفص على { مَنْ } وقيفة أي قال حاضر والمحتضر بعضهم لبعض أيكم يرقيه مما به من الرقية من حد ضرب ، أو هو من كلام الملائكة : أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب من الرقي من حد علم .
{ وَظَنَّ } أيقن المحتضر { أَنَّهُ الفراق } أن هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة { والتفت الساق بالساق } التوت ساقاه عند موته . وعن سعيد بن المسيب : هما ساقاه حين تلفان في أكفانه . وقيل : شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة على أن الساق مثل في الشدة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هما همّان : همّ الأهل والولد وهمّ القدوم على الواحد الصمد { إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } هو مصدر ساقه أي مساق العباد إلى حيث أمر الله إما إلى الجنة أو إلى النار { فَلاَ صَدَّقَ } بالرسول والقرآن { وَلاَ صلى } الإنسان في قوله : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } [ القيامة : 3 ] { ولكن كَذَّبَ } بالقرآن { وتولى } عن الإيمان أو فلا صدق ماله يعني فلا زكاه { ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى } يتبختر وأصله يتمطط أي يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه فأبدلت الطاء ياء لاجتماع ثلاثة أحرف متماثلة .
{ أولى لَكَ } بمعنى ويل لك وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره { فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى } كرر للتأكيد كأنه قال : ويل لك فويل لك ثم ويل لك فويل لك .
وقيل : ويل لك يوم الموت ، وويل لك في القبر ، وويل لك حين البعث ، وويل لك في النار . { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى } أيحسب الكافر أن يترك مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يبعث ولا يجازى؟ { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىٍّ يمنى } بالياء : ابن عامر وحفص أي يراق المني في الرحم ، وبالتاء يعود إلى النطفة { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً } أي صار المني قطعة دم جامد بعد أربعين يوماً { فَخَلَقَ فسوى } فخلق الله منه بشراً سوياً { فَجَعَلَ مِنْهُ } من الإنسان { الزوجين الذكر والأنثى } أي من المني الصنفين { أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى } أليس الفعّال لهذه الأشياء بقادر على الإعادة؟ وكان صلى الله عليه وسلم إذا قرأها يقول : « سبحانك بلى » والله أعلم .
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
مكية وهي إحدى وثلاثون آية
{ هَلْ أتى } قد مضى { عَلَى الإنسان } آدم عليه السلام { حِينٌ مّنَ الدهر } أربعون سنة مصوراً قبل نفخ الروح فيه { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } لم يذكر اسمه ولم يدر ما يراد به لأنه كان طيناً يمر به الزمان ولو غير موجود لم يوصف بأنه قد أتى عليه حين من الدهر . ومحل { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } النصب على الحال من الإنسان أي أتى عليه حين من الدهر غير مذكور { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان } أي ولد آدم ، وقيل الأول ولد آدم أيضاً و { حِينٌ مِّنَ الدهر } على هذا مدة لبثه في بطن أمه إلى أن صار شيئاً مذكوراً بين الناس { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } نعت أو بدل منها أي من نطفة قد امتزج فيها الماآن . ومشجه ومزجه بمعنى و { نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } كبرمة أعشار فهو لفظ مفرد غير جمع ولذا وقع صفة للمفرد { نَّبْتَلِيهِ } حال أي خلقناه مبتلين أي مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي له { فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً } ذا سمع وبصر .
{ إِنَّا هديناه السبيل } بيّنا له طريق الهدى بأدلة العقل والسمع { إِمَّا شَاكِراً } مؤمناً { وَإِمَّا كَفُوراً } كافراً حالان من الهاء في { هديناه } أي إن شكر وكفر فقد هديناه السبيل في الحالين أو من السبيل أي عرّفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وأما سبيلاً كفوراً . ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز . ولما ذكر الفريقين أتبعهما ما أعد لهما فقال { إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسلا } جمع سلسلة بغير تنوين : حفص ومكي وأبو عمرو وحمزة ، وبه ليناسب { أغلالا وَسَعِيراً } إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب : غيرهم { وأغلالا } جمع غُلٍّ { وَسَعِيراً } ناراً موقدة . وقال { إِنَّ الأبرار } جمع بر أو بار كرب وأرباب وشاهد وأشهاد وهم الصادقون في الإيمان أو الذين لا يؤذون الذرّ ولا يضمرون الشر { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } خمر فنفس الخمر تسمى كأساً . وقيل : الكأس الزجاجة إذا كان فيها خمر { كَانَ مِزَاجُهَا } ما تمزج به { كافورا } ماء كافور وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده { عَيْناً } بدل منه { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } أي منها أو الباء زائدة أو هو محمول على المعنى أي يلتذ بها أو يروي بها . وإنما قال أولاً بحرف «من» وثانياً بحرف الباء لأن الكأس مبتدأ شربهم وأول غايته ، وأما العين فيها يمزجون شرابهم فكأنه قيل : يشرب عباد الله بها الخمر { يُفَجّرُونَهَا } يجرونها حيث شاءوا من منازلهم { تَفْجِيرًا } سهلاً لا يمتنع عليهم .
{ يُوفُونَ بالنذر } بما أوجبوا على أنفسهم ، وهو جواب «من» عسى أن يقول : ما لهم يرزقون ذلك؟ والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأن من وفّى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى { ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ } شدائده { مُسْتَطِيراً } منتشراً من استطار الفجر { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ } أي حب الطعام من الاشتهاء والحاجة إليه أو على حب الله { مِسْكِيناً } فقيراً عاجزاً عن الاكتساب { وَيَتِيماً } صغيراً لا أب له { وَأَسِيراً } مأسوراً مملوكاً أو غيره .
ثم عللوا إطعامهم فقالوا :
{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله } أي لطلب ثوابه أو هو بيان من الله عز وجل عما في ضمائرهم ، لأن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئاً { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً } هدية على ذلك { وَلاَ شُكُوراً } ثناء وهو مصدر كالشكر { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا } أي إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة ، أو إنا نخاف من ربنا فنتصدق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف { يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } وصف اليوم بصفة أهله من الأشقياء نحو : نهارك صائم . والقمطرير الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه .
{ فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم } صانهم من شدائده { ولقاهم } أعطاهم بدل عبوس الفجار { نَضْرَةً } حسناً في الوجوه { وَسُرُوراً } فرحاً في القلوب { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } بصبرهم على الإيثار . نزلت في علي وفاطمة وفضة جارية لهما ، لما مرض الحسن والحسين رضي الله عنهما نذروا صوم ثلاثة أيام فاستقرض علي رضي الله عنه من يهودي ثلاثة أصوع من الشعير ، فطحنت فاطمة رضي الله عنها كل يوم صاعاً وخبزت فآثروا بذلك ثلاثة عشايا على أنفسهم مسكيناً ويتيماً وأسيراً ولم يذوقوا إلا الماء في وقت الإفطار . { جَنَّةً } بستاناً فيه مأكل هنيء { وَحَرِيراً } ملبساً بهياً { مُتَّكِئِينَ } حال من «هم» في { جزاهم } { فِيهَا } في الجنة { على الأرآئك } الأسرة جمع الأريكة { لاَ يَرَوْنَ } حال من الضمير المرفوع في { مُتَّكِئِينَ } غير رائين { فِيهَا } في الجنة { شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير فظلها دائم وهواؤها معتدل ، لا حر شمس يحمي ولا شدة برد تؤذي . وفي الحديث : " هواء الجنة سجسج لا حر ولا قرّ " فالزمهرير البرد الشديد . وقيل : القمر أي الجنة مضيئة لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها } قريبة منهم ظلال أشجارها عطفت على جنة أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها كأنهم وعدوا بجنتين لأنهم وصفوا بالخوف بقوله : { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا } { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] { وَذُلِّلَتْ } سخرت للقائم والقاعد والمتكىء وهو حال من { دَانِيَةٌ } أي تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها عليهم ، أو معطوفة عليها أي ودانية عليهم ظلالها ومذللة { قُطُوفُهَا } ثمارها جمع قطف .
{ تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ } أي يدير عليهم خدمهم كئوس الشراب . والآنية جمع إناء وهو وعاء الماء { وَأَكْوابٍ } أي من فضة جمع كوب وهو إبريق لا عروة له { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ } «كان» تامة أي كونت فكانت قوارير بتكوين الله نصب على الحال { قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ } أي مخلوقة من فضة فهي جامعة لبياض الفضة وحسنها وصفاء القوارير وشفيفها حيث يرى ما فيها من الشراب من خارجها . قال ابن عباس رضي الله عنهما : قوارير كل أرض من تربتها وأرض الجنة فضة . قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بالتنوين فيهما . وحمزة وابن عامر وأبو عمرو وحفص بغير تنوين فيهما . وابن كثير بتنوين الأول والتنوين في الأول لتناسب الآي المتقدمة والمتأخرة ، وفي الثاني لإتباعه الأول . والوقف على الأول قد قيل ولا يوثق به لأن الثاني بدل من الأول { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } صفة ل { قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ } أي أهل الجنة قدروها على أشكال مخصوصة فجاءت كما قدروها تكرمة لهم ، أو السقاة جعلوها على قدر ريّ شاربها فهي ألذ لهم وأخف عليهم . وعن مجاهد : لا تفيض ولا تغيض .
{ وَيُسْقَوْنَ } أي الأبرار { فِيهَا } في الجنة { كَأْساً } خمراً { كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً } بدل من { زَنجَبِيلاً } { فِيهَا } في الجنة { تسمى } تلك العين { سَلْسَبِيلاً } سميت العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها ، والعرب تستلذه وتستطيبه . وسلسبيلاً لسلاسة انحدارها وسهولة مساغها . قال أبو عبيدة : ماء سلسبيل أي عذب طيب .
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان } غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين ، أو ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدماً لأهل الجنة { مُّخَلَّدُونَ } لا يموتون { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ } لحسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم { لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } وتخصيص المنثور لأنه أزين في النظر من المنظوم { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ } ظرف أي في الجنة وليس ل { رَأَيْت } مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع في كل مرئي تقديره وإذا اكتسبت الرؤية في الجنة { رَأَيْتَ نَعِيماً } كثيراً { وَمُلْكاً كَبِيراً } واسعاً . يروى أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه . وقيل : ملك لا يعقبه هلك ، أو لهم فيها ما يشاؤون أو تسلم عليهم الملائكة ويستأذنون في الدخول عليهم { عاليهم } بالنصب على أنه حال من الضمير في { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ } أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب . وبالسكون : مدني وحمزة على أنه مبتدأ خبره { ثِيَابُ سُندُسٍ } أي ما يعلوهم من ملابسهم ثياب سندس رقيق الديباج .
{ خُضْرٌ } جمع أخضر { وَإِسْتَبْرَقٌ } غليظ يرفعهما حملاً على الثياب : نافع وحفص ، وبجرهما : حمزة وعلي حملاً على { سُندُسٍ } وبرفع الأول وجر الثاني أو عكسه : غيرهم { وَحُلُّواْ } عطف على { وَيَطُوفُ } { أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } وفي سورة «الملائكة» : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } [ الحج : 23 ] . قال ابن المسيب : لا أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة : واحدة من فضة وأخرى من ذهب وأخرى من لؤلؤ . { وسقاهم رَبُّهُمْ } أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص . وقيل : إن الملائكة يعرضون عليهم الشراب فيأبون قبوله منهم ويقولون : لقد طال أخذنا من الوسائط فإذا هم بكاسات تلاقي أفواههم بغير أكف من غيب إلى عبد { شَرَاباً طَهُوراً } ليس برجس كخمر الدنيا لأن كونها رجساً بالشرع لا بالعقل ولا تكليف ثم ، أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة يقال لأهل الجنة { إِنَّ هَذَا } النعيم { كَانَ لَكُمْ جَزَاءً } لأعمالكم { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } محموداً مقبولاً مرضياً عندنا حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً .
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً } تكرير الضمير بعد إيقاعه اسماً لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليستقر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله مفرقاً إلا حكمة وصواباً ومن الحكمة الأمر بالمصابرة { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } عليك بتبليغ الرسالة واحتمال الأذية وتأخير نصرتك على أعدائك من أهل مكة { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ } من الكفرة للضجر من تأخير الظفر { ءَاثِماً } راكباً لما هوى إثم داعياً لك إليه { أَوْ كَفُوراً } فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه ، لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل ما هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر ، فنهى أن يساعدهم على الأولين دون الثالث .
وقيل : الآثم عتبة لأنه كان ركاباً للمآثم والفسوق . والكفور : الوليد لأنه كان غالياً في الكفر والجحود . والظاهر أن المراد كل آثم وكافر أي لا تطع أحدهما ، وإذا نهي عن طاعة أحدهما لا بعينه فقد نهى عن طاعتهما معاً ومتفرقاً . ولو كان بالواو لجاز أن يطيع أحدهما لأن الواو للجمع فيكون منهياً عن طاعتهما معاً لا عن طاعة أحدهما ، وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه كان عن طاعتهما جميعاً أنهى . وقيل : «أو» بمعنى «ولا» أي ولا تطع آثماً ولا كفوراً { واذكر اسم رَبِّكَ } صلِّ له { بُكْرَةً } صلاة الفجر { وَأَصِيلاً } صلاة الظهر والعصر .
{ وَمِنَ اليل فاسجد لَهُ } وبعض الليل فصّل صلاة العشاءين { وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } أي تهجد له هزيعاً طويلاً من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه .
{ إِنَّ هَؤُلآء } الكفرة { يُحِبُّونَ العاجلة } يؤثرونها على الآخرة { وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ } قدامهم أو خلف ظهورهم { يَوْماً ثَقِيلاً } شديداً لا يعبئون به وهو القيامة لأن شدائده تثقل على الكفار { نَّحْنُ خلقناهم وَشَدَدْنَا } أحكمنا { أَسْرَهُمْ } خلقهم عن ابن عباس رضي الله عنهما والفراء { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً } أي إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في الخلقة ممن يطيع { إِنَّ هذه } السورة { تَذْكِرَةٌ } عظة { فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } بالتقرب إليه بالطاعة له واتباع رسوله { وَمَا تَشَاءُونَ } اتخاذ السبيل إلى الله . وبالياء : مكي وشامي وأبو عمرو . ومحل { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } النصب على الظرف أي إلا وقت مشيئة الله ، وإنما يشاء الله ذلك ممن علم منه اختياره ذلك . وقيل : هو لعموم المشيئة في الطاعة والعصيان والكفر والإيمان فيكون حجة لنا على المعتزلة { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بما يكون منهم من الأحوال { حَكِيماً } مصيباً في الأقوال والأفعال { يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ } وهم المؤمنون { فِى رَحْمَتِهِ } جنته لأنها برحمته تنال وهو حجة على المعتزلة لأنهم يقولون قد شاء أن يدخل كلاً في رحمته لأنه شاء إيمان الكل ، والله تعالى أخبر أنه يدخل من يشاء في رحمته وهو الذي علم منه أنه يختار الهدى { والظالمين } الكافرين لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها ونصب بفعل مضمر يفسره { أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } نحو : أوعد وكافأ .
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
مكية وهي خمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والمرسلات عُرْفاً * فالعاصفات عَصْفاً * والناشرات نَشْراً * فالفارقات فَرْقاً * فالملقيات ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً } أقسم سبحانه وتعالى بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره فعصفن في مضيهن ، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي ، أو نشرن الشرائع في الأرض ، أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أو حين ففرقن بين الحق والباطل ، فألقين ذكراً إلى الأنبياء عليهم السلام عذراً للمحقين أو نذراً للمبطلين . أو أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن ، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه كقوله { ويجعله كِسَفًا } [ الروم : 48 ] فألقين ذكراً إما عذراً للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها ، واما نذراً للذين لا يشكرون وينسبون ذلك إلى الأنواء ، وجعلن ملقيات للذكر باعتبار السببية . { عُرْفاً } حال أي متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضه بعضاً ، أو مفعول له أي أرسلن للإحسان والمعروف . و { عَصْفاً } و { نَشْراً } مصدران . { أَوْ نُذْراً } أبو عمرو وكوفي غير أبي بكر وحماد . والعذر والنذر مصدران من عذر إذا محا الإساءة ، ومن أنذر إذا خوف على فعل كالكفر والشكر . وانتصابهما على البدل من { ذِكْراً } أو على المفعول له .
{ إِنَّمَا تُوعَدُونَ } إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة { لَوَاقِعٌ } لكائن نازل لا ريب فيه ، وهو جواب القسم ولا وقف إلى هنا لوصل الجواب بالقسم { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } محيت أو ذهب بنورها وجواب { فَإِذَا } محذوف والعامل فيها جوابها وهو وقوع الفصل ونحوه ، و { النجوم } فاعل فعل يفسره { طُمِسَتْ } { وَإِذَا السماء فُرِجَتْ } فتحت فكانت أبواباً { وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ } قلعت من أماكنها { وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ } أي وقتت كقراءة أبي عمرو أبدلت الهمزة من الواو ، ومعنى توقيت الرسل تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } أخرت وأمهلت ، وفيه تعظيم لليوم وتعجيب من هوله والتأجيل من الأجل كالتوقيت من الوقت { لِيَوْمِ الفصل } بيان ليوم التأجيل وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل } تعجيب آخر وتعظيم لأمره { وَيْلٌ } مبتدأ وإن كان نكرة لأنه في أصله مصدر منصوب ساد مسد فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه { سلام عَلَيْكُمُ } [ الرعد : 24 ] { يَوْمَئِذٍ } ظرفه { لّلْمُكَذِّبِينَ } بذلك اليوم خبره .
{ أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين } الأمم الخالية المكذبة { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين } مستأنف بعد وقف ، وهو وعيد لأهل مكة أي ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم .
{ كذلك } مثل ذلك الفعل الشنيع { نَفْعَلُ بالمجرمين } بكل من أجرم { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بما أوعدنا { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاءٍ مَّهِينٍ } حقير وهو النطفة { فجعلناه } أي الماء { فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ } مقر يتمكن فيه وهو الرحم ومحل { إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } الحال أي مؤخر إلى مقدار من الوقت معلوم قد علمه الله وحكم به وهو تسعة أشهر أو ما فوقها أو ما دونها { فَقَدَّرْنَا } فقدرنا ذلك تقديراً { فَنِعْمَ القادرون } فنعم المقدرون له نحن أو فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن ، والأول أحق لقراءة نافع وعلي بالتشديد ، ولقوله { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [ عبس : 19 ] { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بنعمة الفطرة .
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
{ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً } هو كفت الشيء إذا ضمه وجمعه وهو اسم ما يكفت كقولهم الضمام لما يضم وبه انتصب { أَحْيَاءً وأمواتا } كأنه قيل : كافتة أحياء وأمواتاً ، أو بفعل مضمر يدل عليه { كِفَاتاً } وهو تكفت أي تكفت أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها ، والتنكير فيهما للتفخيم أي تكفت أحياء لا يعدون وأمواتاً لا يحصرون { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ } جبالاً ثوابت { شامخات } عاليات { وأسقيناكم مَّاءً فُرَاتاً } عذاباً { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بهذه النعمة { انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي يقال للكافرين يوم القيامة سيروا إلى النار التي كنتم بها تكذبون { انطلقوا } تكرير للتوكيد { إلى ظِلٍّ } دخان جهنم { ذِى ثلاث شُعَبٍ } يتشعب لعظمه ثلاث شعب وهكذا الدخان العظيم يتفرق ثلاث فرق { لاَّ ظَلِيلٍ } نعت ظل أي لا مظل من حر ذلك اليوم وحر النار { وَلاَ يُغْنِى } في محل الجر أي وغير مغنٍ لهم { مِنَ اللهب } من حر اللهب شيئاً { إِنَّهَا } أي النار { تَرْمِى بِشَرَرٍ } هو ما تطاير من النار { كالقصر } في العظم . وقيل : هو الغليظ من الشجر الواحدة قصرة { كَأَنَّهُ جمالت } كوفي غير أبي بكر جمع جمل جمالات غيرهم جمع الجمع { صُفْرٌ } جمع أصفر أي سود تضرب إلى الصفرة ، وشبه الشرر بالقصر لعظمه وارتفاعه ، وبالجمال للعظم والطول واللون { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بأن هذه صفتها .
{ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } وقرىء بنصب اليوم أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ ، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية وعن قوله { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [ الزمر : 31 ] فقال : في ذلك اليوم مواقف في بعضها يختصمون وفي بعضها لا ينطقون . أو لا ينطقون بما ينفعهم فجعل نطقهم كلا نطق .
{ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ } في الاعتذار { فَيَعْتَذِرُونَ } عطف على { يُؤْذَنُ } منخرط في سلك النفي أي لا يكون لهم إذن واعتذار { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بهذا اليوم { هذا يَوْمُ الفصل } بين المحق والمبطل والمحسن والمسيء بالجزاء { جمعناكم } يا مكذبي محمد { والأولين } والمكذبين قبلكم { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ } حيلة في دفع العذاب { فَكِيدُونِ } فاحتالوا عليّ بتخليص أنفسكم من العذاب . والكيد متعدٍ تقول : كدت فلاناً إذا احتلت عليه { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بالبعث .
{ إِنَّ المتقين } من عذاب الله { فِى ظلال } جمع ظل { وَعُيُونٍ } جارية في الجنة { وفواكه مِمَّا يَشْتَهُونَ } أي لذيذة مشتهاة { كُلُواْ واشربوا } في موضع الحال من ضمير { المتقين } في الظرف الذي هو { فِى ظلال } أي هم مستقرون في ظلال مقولاً لهم ذلك { هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } فأحسنوا تجزوا بهذا { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بالجنة { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ } كلام مستأنف خطاب للمكذبين في الدنيا على وجه التهديد كقوله :
{ اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] { قَلِيلاً } لأن متاع الدنيا قليل { إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } كافرون أي إن كل مجرى يأكل ويتمتع أياماً قلائل ثم يبقى في الهلاك الدائم { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } بالنعم { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا } اخشعوا لله وتواضعوا إليه بقبول وحيه واتباع دينه ودعوا هذا الاستكبار { لاَ يَرْكَعُونَ } لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على استكبارهم ، أو إذا قيل لهم صلوا لا يصلون { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } بالأمر والنهي { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ } بعد القرآن { يُؤْمِنُونَ } أي إن لم يؤمنوا بالقرآن مع أنه آية مبصرة ومعجزة باهرة من بين الكتب السماوية فبأي كتاب بعده يؤمنون؟! والله أعلم .
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
مكية وهي أربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ عَمَّ } أصله «عن ما» وقرىء بها ، ثم أدغمت النون في الميم فصار «عما» وقرىء بها ، ثم حذفت الألف تخفيفاً لكثرة الاستعمال في الاستفهام وعليه الاستعمال الكثير ، وهذا استفهام تفخيم للمستفهم عنه لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية { يَتَسَاءلُونَ } يسأل بعضهم بعضاً أو يسألون غيرهم من المؤمنين ، والضمير لأهل مكة كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث ويسألون المؤمنين عنه على طريق الاستهزاء { عَنِ النبإ العظيم } أي البعث وهو بيان للشأن المفخم وتقديره : عم يتساءلون يتساءلون عن النبإ العظيم { الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } فمنهم من يقطع بإنكاره ومنهم من يشك . وقيل : الضمير للمسلمين والكافرين وكانوا جيعاً يتساءلون عنه ، فالمسلم يسأل ليزداد خشية ، والكافر يسأل استهزاء { كَلاَّ } ردع عن الاختلاف أو التساؤل هزؤاً { سَيَعْلَمُونَ } وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون عياناً أن ما يستاءلون عنه حق { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } كرر الردع للتشديد و«ثم» يشعر بأن الثاني أبلغ من الأول وأشد .
{ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض } لما أنكروا البعث . قيل لهم : ألم يخلق من أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة فلم تنكرون قدرته على البعث وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات؟ أو قيل لهم : لم فعل هذه الأشياء والحكيم لا يفعل عبثاً وإنكار البعث يؤدي إلى أنه عابث في كل ما فعل؟ { مهادا } فراشاً فرشناها لكم حتى سكنتموها { والجبال أَوْتَاداً } للأرض لئلا تيمد بكم { وخلقناكم أزواجا } ذكر أو أنثى { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } قطعاً لأعمالكم وراحة لأبدانكم والسبت القطع { وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً } ستراً يستركم عن العيون إذا أردتم إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه { وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } وقت معاش تتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً } سبع سموات { شِدَاداً } جمع شديدة أي محكمة قوية لا يؤثّر فيها مرور الزمان أو غلاظاً غلظ كل واحدة مسيرة خمسمائة عام { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } مضيئاً وقّاداً أي جامعاً للنور والحرارة والمراد الشمس { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات } أي السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر ، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض ، أو الرياح لأنها تنشىء السحاب وتدر أحلافه فيصح أن تجعل مبدأ للإنزال ، وقد جاء أن الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب { مَاءً ثَجَّاجاً } منصباً بكثرة { لِّنُخْرِجَ بِهِ } بالماء { حَبّاً } كالبر والشعير { وَنَبَاتاً } وكلأ { وجنات } بساتين { أَلْفَافاً } ملتفة الأشجار واحدها لف كجذع وأجذاع ، أو لفيف كشريف وأشراف ، أو لا واحد له كأوزاع ، أو هي جمع الجمع فهي جمع لف واللف جمع لفاء وهي شجرة مجتمعة .
ولا وقف من { أَلَمْ نَجْعَلِ } إلى { أَلْفَافاً } الوقف الضروري على { أَوْتَاداً } و { مَعَاشاً } .
{ إِنَّ يَوْمَ الفصل } بين المحسن والمسيء والمحق والمبطل { كَانَ ميقاتا } وقتاً محدوداً ومنتهى معلوماً لوقوع الجزاء أو ميعاداً للثواب والعقاب .
{ يَوْمَ يُنفَخُ } بدل من { يَوْمُ الفصل } أو عطف بيان { فِى الصور } في القرن { فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } حال أي جماعات مختلفة أو أمماً كل أمة مع رسولها { وَفُتِحَتِ السماء } خفيف : كوفي أي شقت لنزول الملائكة { فَكَانَتْ أبوابا } فصارت ذات أبواب وطرق وفروج ومالها اليوم من فروج { وَسُيِّرَتِ الجبال } عن وجه الأرض { فَكَانَتْ سَرَاباً } أي هباء تخيّل الشمس أنه ماء { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } طريقاً عليه ممر الخلق فالمؤمن يمر عليها والكافر يدخلها . وقيل : المرصاد الحد الذي يكون فيه الرصد أي هي حد الطاغين الذين يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم ، أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها لأن مجازهم عليها { للطاغين مَئَاباً } للكافرين مرجعاً { لابثين } ماكثين حال مقدرة من الضمير في { للطاغين } حمزة { لَّبِثِينَ } واللبث أقوى إذ اللابث من وجد منه اللبث وإن قل ، واللبث من شأنه اللبث والمقام في المكان { فِيهَا } في جهنم { أَحْقَاباً } ظرف جمع حقب وهو الدهر ولم يرد به عدد محصور بل الأبد كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية ، ولا يستعمل الحقب والحقبة إلا إذا أريد تتابع الأزمنة وتواليها . وقيل : الحقب ثمانون سنة . وسئل بعض العلماء عن هذه الآية فأجاب بعد عشرين سنة { لابثين فِيهَا أَحْقَاباً } .
{ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } أي غير ذائقين حال من ضمير { لابثين } فإذا انقضت هذه الأحقاب التي عذبوا فيها بمنع البرد والشراب بدلوا بأحقاب أخر فيها عذاب آخر وهي أحقاب بعد أحقاب لا انقطاع لها . وقيل : هو من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه حقاب فينتصب حالاً عنهم أي لابثين فيها حقبين جهدين و { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } تفسير له . وقوله { إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } استثناء منقطع أي { لاَ يَذُوقُونَ } في جهنم أو في الأحقاب { بَرْداً } روْحاً ينفس عنهم حر النار أو نوماً ومنه منع البرد البرد ، { وَلاَ شَرَاباً } يسكن عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً ماء حاراً يحرق ما يأتي عليه { وَغَسَّاقاً } ماء يسيل من صديدهم . وبالتشديد : كوفي غير أبي بكر { جَزَاءً } جوزوا جزاء { وفاقا } موافقاً لأعمالهم مصدر بمعنى الصفة أو ذا وفاق . ثم استأنف معللاً فقال { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } لا يخافون محاسبة الله إياهم أو لم يؤمنوا بالبعث فيرجوا حساباً { وَكَذَّبُواْ بئاياتنا كِذَّاباً } تكذيباً وفعّال في باب فعّل كله فاش { وَكُلَّ شىْءٍ } نصب بمضمر يفسره { أحصيناه كتابا } مكتوباً في اللوح حال أو مصدر في موضع إحصاء ، أو أحصيناً في معنى كتبنا لأن الاحصاء يكون بالكتابة غالباً . وهذه الآية اعتراض لأن قوله { فَذُوقُواْ } مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات أي فذوقوا جزاءكم والالتفات شاهد على شدة الغضب { فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } في الحديث " هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار» . "
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } مفعل من الفوز يصلح مصدراً أي نجاة من كل مكروه وظفراً بكل محبوب ويصلح للمكان وهو الجنة . ثم أبدل منه بدل البعض من الكل فقال { حَدَائِقَ } بساتين فيها أنواع الشجر المثمر جمع حديقة { وأعنابا } كروماً عطف على { حَدَائِقَ } { وَكَوَاعِبَ } نواهد { أَتْرَاباً } لدات مستويات في السن { وَكَأْساً دِهَاقاً } مملوءة .
{ لاّ يسمعون فيها } في الجنة حال من ضمير خبر «إن» { لغواً } باطلاً { ولا كِذَّاباً } الكسائي : خفيف بمعنى مكاذبة أي لا يكذب بعضهم بعضاً ولا يكاذبه { جزاءً } مصدر أي جزاهم جزاء { مّن رَّبِّكَ عطاءً } مصدر أو بدل من { جزاء } { حساباً } صفة يعني كافياً أو على حسب أعمالهم { رّبِّ السّماواتِ والأرضِ وما بينهما الرّحمنِ } بجرهما : ابن عامر وعاصم بدلاً من { ربك } ومن رفعهما ف { رب } خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره { الرحمن } أو { الرحمن } صفته و { لا يملكون } خبر ، أو هما خبران والضمير في { لا يملكونَ } لأهل السماوات والأرض ، وفي { منه خطاباً } لله تعالى أي لا يملكون الشفاعة من عذابه تعالى إلا بإذنه أو لا يقدر أحد أن يخاطبه تعالى خوفاً { يومَ يقومُ } إن جعلته ظرفاً ل { لا يملكون } لا تقف على { خطاباً } وإن جعلته ظرفاً ل { لا يتكلمون } تقف { الرُّوحُ } جبريل عند الجمهور وقيل هو ملك عظيم ما خلق الله تعالى بعد العرش خلقاً أعظم منه { والملائكة صَفَّاً } حال أي مصطفين { لاّ يتكلّمون } أي الخلائق ثم خوفاً من { إلاّ من أذن له الرَّحمانُ } في الكلام أو الشفاعة { وقال صواباً } حقاً بأن قال المشفوع له لا إله إلا الله في الدنيا أو لا يؤذن إلا لمن يتكلم بالصواب في أمر الشفاعة .
{ ذلك اليوم الحقُّ } الثابت وقوعه { فمن شاءَ اتّخَذَ إلى ربّه مئاباً } مرجعاً بالعمل الصالح { إنّا أنذرناكم } أيها الكفار { عذاباً قريباً } في الآخرة لأن ما هو آتٍ قريب { يَوْمَ ينظُرُ المرءُ } الكافر لقوله : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } { ما قدّمت يداه } من الشر لقوله : { وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم } [ الأنفال : 50-51 ] . وتخصيص الأيدي لأن أكثر الأعمال تقع بها وإن احتمل أن لا يكون للأيدي مدخل فيما ارتكب من الآثام { وَيقولُ الكَافِرُ } وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة الذم ، أو المرء عام وخص منه الكافر وما قدمت يداه ما عمل من خير وشر ، أو هو المؤمن لذكر الكافر بعده وما قدم من خير . و«ما» استفهامية منصوبة ب { قدمت } أي ينظر أي شيء قدمت يداه ، أو موصولة منصوبة ب { ينظر } يقال : نظرته يعني نظرت إليه والراجع من الصلة محذوف أي ما قدمته { يا ليتني كنت تراباً } في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف أوليتني كنت تراباً في هذا اليوم فلم أبعث . وقيل : يحشر الله الحيوان غير المكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ثم يرده تراباً ، فيود الكافر حاله . وقيل : الكافر إبليس يتمنى أن يكون كآدم مخلوقاً من التراب ليثاب ثواب أولاده المؤمنين ، والله أعلم .
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
ست وأربعون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والنّازعات غَرْقاً* والنّاشطاتِ نشطاً* والسّابحاتِ سبحاً* فالسّابقاتِ سبقاً* فالمدبّرات أمراً } لا وقف إلى هنا . ولزم هنا لأنه لو وصل لصار { يوم } ظرف { المدبرات } وقد انقضى تدبير الملائكة في ذلك اليوم . أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد غرقاً أي إغراقاً في النزع أي تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها ومواضع أظفارها ، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم كما رسم لهم . أو بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب ، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب من قولك ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد ، والتي تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر ، وإسناد التدبير إليها لأنها من أسبابه . أو بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب ، وإغراقها في النزع أن تقطع الفلك كله حتى تنحط في أقصى الغرب ، والتي تخرج من برج إلى برج والتي تسبح في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمراً من علم الحساب . وجواب القسم محذوف وهو «لتبعثن» لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة .
{ يوم تَرْجُفُ } تتحرك حركة شديدة والرجف شدة الحركة { الرَّاجِفَةُ } النفخة الأولى وصفت بما يحدث بحدوثها لأنها تضطرب بها الأرض حتى يموت كل من عليها { تَتْبَعُهَا } حال عن الراجفة { الرَّادِفَةُ } النفخة الثانية لأنها تردف الأولى وبينهما أربعون سنة ، والأولى تميت الخلق والثانية تحييهم { قلوبٌ يومئذٍ } قلوب منكري البعث { وَاجِفَةٌ } مضطربة من الوجيب وهو الوجيف . وانتصاب { يوم ترجف } بما دل عليه { قلوب يومئذ واجفة } أي يوم ترجف وجفت القلوب ، وارتفاع { قلوب } بالابتداء و { واجفة } صفتها { أبصارُها } أي أبصار أصحابها { خاشِعَةٌ } ذليلة لهول ما ترى حبرها { يقولونَ } أي منكرو البعث في الدنيا استهزاء وإنكاراً للبعث { أَءِنَّا لمردودون في الحافرةِ } استفهام بمعنى الإنكار أي أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر فنعود أحياء كما كنا؟ والحافرة الحالة الأولى يقال لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه : رجع إلى حافرته أي إلى حالته الأولى . ويقال : النقد عند الحافرة أي عند الحالة الأولى ، وهي الصفقة أنكروا البعث . ثم زادوا استبعاداً فقالوا { أَءِذا كنا عظاماً نَّخِرَةً } بالية { ناخرة } : كوفي غير حفص . وفَعِلَ أبلغ من فاعل يقال : نخر العظم فهو نخر وناخر . والمعنى أنرد إلى الحياة بعد أن صرنا عظاماً بالية؟ و«إذا» منصوب بمحذوف وهو «نبعث» { قالوا } أي منكرو البعث { تِلْكَ } رجعتنا { إذاً كَرَّةٌ خاسرةٌ } رجعة ذات خسران أو خاسر أصحابها ، والمعنى أنها إن صحت وبعثنا فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها وهذا استهزاء منهم { فَإِنَّما هي زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } متعلق بمحذوف أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله عز وجل فإنها سهلة هينة في قدرته فما هي إلا صيحة واحدة يريد النفخة الثانية من قولهم : زجر البعير إذا صاح عليه { فإذا هم بالسَّاهِرةِ } فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعدما كانوا أمواتاً في جوفها . وقيل : الساهرة أرض بعينها بالشأم إلى جنب بيت المقدس أو أرض مكة أو جهنم .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
{ هل أتاك حديث موسى } استفهام يتضمن التنبيه على أن هذا مما يجب أن يشيع والتشريف للمخاطب به { إذ ناداه رَبُّهُ } حين ناداه { بالوَادِ المقَدَّسِ } المبارك المطهر { طوًى } اسمه { اذهب إلى فرعون } على إرادة القول { إنَّهُ طغى } تجاوز الحد في الكفر والفساد .
{ فقل هل لّك إلى أن تزكى } هل لك ميل إلى أن تتطهر من الشرك والعصيان بالطاعة والإيمان . وبتشديد الزاي : حجازي { وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ } وأرشدك إلى معرفة الله بذكر صفاته فتعرفه { فتخشى } لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال الله تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] أي العلماء به . وعن بعض الحكماء : اعرف الله فمن عرف الله لم يقدر أن يعصيه طرفة عين . فالخشية ملاك الأمور من خشي الله أتى منه كل خير ، ومن آمن اجترأ على كل شر . ومنه الحديث « من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل » بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه باللطف في القول ويستنزله بالمداراة عن عتوه كما أمر بذلك في قوله تعالى : { فقولا له قولاً ليناً } [ طه : 44 ] { فأراه الآية الكبرى } أي فذهب فأرى موسى فرعون العصا أو العصا واليد البيضاء لأنهما في حكم آية واحدة { فَكَذَّبَ } فرعون بموسى والآية الكبرى وسماهما ساحراً وسحراً { وعصى } الله تعالى { ثمّ أدْبَرَ } تولى عن موسى { يسعى } يجتهد في مكايدته ، أو لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسرع في مشيته وكان طيّاشاً خفيفاً { فَحَشَرَ } فجمع السحرة وجنده { فنادى } في المقام الذي اجتمعوا فيه معه { فقال أنا ربّكم الأعلى } لا رب فوقي وكانت لهم أصنام يعبدونها { فأخذه الله نكال الآخرة } عاقبة الله عقوبة الآخرة والنكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم . ونصبه على المصدر لأن أخذ بمعنى نكل كأنه قيل : نكل الله به نكال الآخرة أي الإحراق { والأولى } أي الإغراق ، أو نكال كلمتيه الآخرة وهي { أنا ربكم الأعلى } والأولى وهي { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] وبينهما أربعون سنة أو ثلاثون أو عشرون { إنّ في ذلك } المذكور { لَعِبْرَةً لّمن يخشى } الله .
{ ءَأنتُمْ } يا منكري البعث { أشَدُّ خَلْقاً } أصعب خلقاً وإنشاء { أم السَّمَاءُ } مبتدأ محذوف الخبر أي أم السماء أشد خلقاً . ثم بين كيف خلقها فقال { بناها } أي الله . ثم بين البناء فقال { رَفَعَ سَمْكَهَا } أعلى سقفها . وقيل : جعل مقدار ذهابها في سمت العلو رفيعاً مسيرة خمسمائة عام { فسواها } فعدلها مستوية بلا شقوق ولا فطور { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } أظلمه { وأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أبرز ضوء شمسها ، وأضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلمتها والشمس سراجها { والأَرْضَ بَعْدَ ذلك دَحَاهَا } بسطها وكانت مخلوقة غير مدحوة فدحيت من مكة بعد خلق السماء بألفي عام .
ثم فسر البسط فقال { أَخْرَجَ منها مَاءَها } بتفجير العيون { ومَرْعَاهَا } كلأها ولذا لم يدخل العاطف على { أخرج } أو { أخرج } حال بإضمار «قد» .
{ والجبال أرساها } أثبتها وانتصاب الأرض والجبال بإضمار دحاً وأرسى على شريطة التفسير { متاعاً لَّكُمَ ولأنعامِكُمْ } فعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعماكم { فإذا جاءتِ الطَّامَّةُ الكبرى } الداهية العظمى التي تطم على الدواهي أي تعلو وتغلب وهي النفخة الثانية ، أو الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار .
{ يوم يَتَذَكَّرُ الإنسانُ } بدل من { إذا جاءت } أي إذا رأى أعماله مدونة في كتابه يتذكرها وكان قد نسيها { ما سعى } مصدرية أي سعيه أو موصولة { وبُرِّزَتِ الجحيم } وأظهرت { لمن يرى } لكل راء لظهورها ظهوراً بيناً .
{ فأمّا } جواب { فإذا } أي إذا جاءت الطامة فإن الأمر كذلك { من طغى } جاوز الحد فكفر { وَءَاثَرَ الحَياةَ الدُّنْيَا } على الآخرة باتباع الشهوات { فإن الجَحِيمَ هِيَ المأوى } المرجع أي مأواه ، والألف واللام بدل من الإضافة وهذا عند الكوفيين ، وعند سيبويه وعند البصريين هي المأوى له { وأمّا من خاف مَقَامَ رَبِّهِ } أي علم أن له مقاماً يوم القيامة لحساب ربه { ونهى النَّفْسَ } الأمارة بالسوء { عن الهوى } المؤذي أي زجرها عن اتباع الشهوات . وقيل : هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها ، والهوى ميل النفس إلى شهواتها { فإنّ الجَنَّةَ هِيَ المأوى } أي المرجع { يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أيَّانَ مُرْسَاهَا } متى إرساؤها أي إقامتها يعني متى يقيمها الله تعالى ويثبتها { فِيمَ أنتَ مِن ذِكْرَاهَآ } في شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به أي ما أنت من ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء كقولك : ليس فلان من العلم في شيء . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت ، فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها أي أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها .
{ إلى رَبِّكَ مُنتَهَاها } منتهى علمها متى تكون لا يعلمها غيره ، أو فيم إنكار لسؤالهم عنها أي فيم هذا السؤال . ثم قال { أنت من ذكراها } أي إرسالك وأنت آخر الأنبياء علامة من علاماتها فلا معنى لسؤالهم عنها ، ولا يبعد أن يوقف على هذا على { فيم } وقيل { فيم أنت من ذكراها } متصل بالسؤال أي يسألونك عن الساعة أيان مرساها ويقولون أين أنت من ذكراها . ثم استأنف فقال { إلى ربك منتهاها } { إنّما أنت منذر من يخشاها } أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يخاف شدائدها . { منذر } منون : يزيد وعباس { كَأنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا } أي الساعة { لم يَلْبَثُوا } في الدنيا { إلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } أي ضحى العشية استقلوا مدة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من الهول كقوله : { لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } [ الأحقاف : 35 ] [ يونس : 45 ] وقوله : { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } [ الكهف : 19 ] [ المؤمنون : 113 ] وإنما صحت إضافة الضحى إلى العشية للملابسة بينهما لاجتماعهما في نهار واحد ، والمراد أن مدة لبثهم لم تبلغ يوماً كاملاً ولكن أحد طرفي النهار عشيته أو ضحاه ، والله أعلم .
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
{ عَبَسَ } كلح أي النبي صلى الله عليه وسلم { وَتَوَلَّى } أعرض { أن جَاءَهُ } لأن جاءه ومحله نصب لأنه مفعول له ، والعامل فيه { عبس } أو تولى على اختلاف المذهبين { الأعمى } عبد الله بن أم مكتوم ، وأم مكتوم أم أبيه ، وأبوه شريح بن مالك ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو أشراف قريش إلى الإسلام فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه بعدها ويقول : " مرحباً بمن عاتبني فيه ربي " واستخلفه على المدينة مرتين { وما يدريك } وأي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى { لعلّه يزكى } لعل الأعمى يتطهر بما يسمع منك من دنس الجهل . وأصله يتزكى فأدغمت التاء في الزاي ، وكذا { أو يَذَّكَّرُ } يتعظ { فَتَنفَعَهُ } نصبه عاصم غير الأعشى جواباً ل «لعل» وغيره رفعه عطفاً على { يذكر } { الذكرى } ذكراك أي موعظتك أي أنك لا تدري ما هو مترقب منه من ترك ، أو تذكر ولو دريت لما فرط ذلك منك .
{ أمّا مَنِ استغنى } أي من كان غنياً بالمال { فأَنتَ لَهُ تصدى } تتعرض بالإقبال عليه حرصاً على إيمانه { تصدى } بإدغام التاء في الصاد : حجازي { وما عليك ألاّ يزّكّى } وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام إن عليك إلا البلاغ { وأمّا من جاءَكَ يسعى } يسرع في طلب الخير { وهو يخشى } الله أو الكفار أي أذاهم في إتيانك أو الكبوة كعادة العميان { فأنت عنه تلهّى } تتشاغل وأصله تتلهى . ورُوي أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط ولا تصدى لغني . ورُوي أن الفقراء في مجلس الشورى كانوا أمراء . { كَلاَّ } ردع أي لا تعد إلى مثله { إنَّها } إن السورة أو الآيات { تذكرةٌ } موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها { فمن شاء ذكره } فمن شاء أن يذكره ذكره . أو ذكر الضمير لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ ، والمعنى فمن شاء الذكر ألهمه الله تعالى إياه { في صُحُفٍ } صفة ل { تذكرة } أي أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هي في صحف { مُّكَرَّمَةٍ } عند الله { مَّرْفُوعَةٍ } في السماء أو مرفوعة القدر والمنزلة { مُّطَهَّرَةٍ } عن مس غير الملائكة أو عما ليس من كلام الله تعالى { بأيدي سفرةٍ } كتبة جمع سافر أي الملائكة ينتسخون الكتب من اللوح { كِرَامٍ } على الله أو عن المعاصي { بررةٍ } أتقياء جمع بار .
{ قتل الإنسَانُ } لعل الكافر أو هو أمية أو عتبة { ما أكْفَرَهُ } استفهام توبيخ أي أي شيء حمله على الكفر ، أو هو تعجب أي ما أشد كفره { مِنْ أيِّ شيءٍ خَلَقَهُ } من أي حقير خلقه! وهو استفهام ومعناه التقرير .
ثم بين ذلك الشيء فقال { مِن نُّطفةٍ خلقه فَقَدَّرَهُ } على ما يشاء من خلقه .
{ ثمّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ } نصب السبيل بإضمار يسر أي ثم سهل له سبيل الخروج من بطن أمه أو بين له سبيل الخير والشر { ثمّ أمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } جعله ذا قبر يواري فيه لا كالبهائم كرامة له قبر الميت دفنه وأقبره الميت أمره بأن يقبره ومكنه منه { ثمّ إذا شاء أنشره } أحياه بعد موته { كَلاَّ } ردع للإنسان عن الكفر { لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ } لم يفعل هذا الكافر ما أمره الله به من الإيمان .
ولما عدد النعم في نفسه من ابتداء حدوثه إلى آن انتهائه أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه فقال { فلينظر الإنسان إلى طعامه } الذي يأكله ويحيا به كيف دبرنا أمره { أَنَّا } بالفتح : كوفي على أنه بدل اشتمال من الطعام ، وبالكسر على الاستئناف : غيرهم { صَبَبْنَا الماءَ صبًّا } يعني المطر من السحاب { ثمّ شققنا الأرض شقًّا } بالنبات { فأنبتنا فيها حبًّا } كالبر والشعير وغيرهما مما يتغذى به { وعنباً } ثمرة الكرم أي الطعام والفاكهة { وَقَضْباً } رطبة سمي بمصدر قضبه أي قطعه لأنه يقضب مرة بعد مرة { وزيتوناً وَنَخْلاً وحدائِقَ } بساتين { غُلْباً } غلاظ الأشجار جمع غلباء { وفاكهةً } لكم { وأبًّا } مرعى لدوابكم { مَّتَاعاً } مصدر أي منفعة { لّكم ولأنعامكم فإذا جاءت الصَّاخَّةُ } صيحة القيامة لأنها تصخ الآذان أي تصمها وجوابه محذوف لظهوره { يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وأُمِّهِ وأَبِيهِ } لتبعات بينه وبينهم أو لاشتغاله بنفسه { وصاحِبَتِهِ } وزوجته { وَبَنِيهِ } بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أحب . قيل : أول من يفر من أخيه هابيل ، ومن أبويه إبراهيم ، ومن صاحبته نوح ولوط ، ومن ابنه نوح { لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنهُمْ يَوْمَئذٍ شَأْنٌ } في نفسه { يُغنِيهِ } يكفيه في الاهتمام به ويشغله عن غيره .
{ وجوهٌ يومئذٍ مُّسْفِرَةٌ } مضيئة من قيام الليل أو من آثار الوضوء { ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } أي أصحاب هذه الوجوه وهم المؤمنون ضاحكون مسرورون { ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرةٌ } غبار { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } يعلو الغبرة سواد كالدخان ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه { أولئك } أهل هذه الحالة { هُمُ الْكَفَرَةُ } في حقوق الله { الفَجَرَةُ } في حقوق العباد ، ولما جمعوا الفجور إلى الكفر جمع إلى سواد وجوههم الغبرة ، والله أعلم .
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
مكية وهي تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إذا الشّمس كُوِّرَتْ } ذهب بضوئها من كورت العمامة إذا لفقتها أي يلف ضوءها لفاً فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق . وارتفاع { الشمس } بالفاعلية ورافعها فعل مضمر يفسره { كورت } لأن «إذا» يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط { وإذا النّجوم انكدرت } تساقطت { وإذا الجبال سُيِّرَت } عن وجه الأرض وأبعدت أو سيرت في الجو تسيير السحاب { وإذا العشارُ } جمع عشراء وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة { عُطِّلَتْ } أهملت عطلها أهلها لاشتغالهم بأنفسهم وكانوا يحبسونها إذا بلغت هذه الحالة لعزتها عندهم ويعطلون ما دونها . { عطلت } بالتخفيف عن اليزيدي { وإذا الوُحُوشُ حُشِرَتْ } جمعت من كل ناحية . قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص فإذا قضى بينها ردت أتراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم كالطاوس ونحوه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : حشرها موتها . يقال : إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم حشرتم السنة .
{ وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ } { سُجّرَتْ } مكي وبصري من سجر التنور إذا ملأه بالحطب أي ملئت ، وفجر بعضاً إلى بعض حتى تعود بحراً واحداً . وقيل : ملئت نيراناً لتعذيب أهل النار { وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ } قرنت كل نفس بشكلها الصالح مع الصالح في الجنة والطالح مع الطالح في النار ، أو قرنت الأرواح بالأجساد ، أو بكتبها وأعمالها ، أو نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين { وَإِذَا الموءودة } المدفونة حية ، وكانت العرب تئد البنات خشية الإملاق وخوف الاسترقاق { سُئِلَتْ } سؤال تلطف لتقول بلا ذنب قتلت ، أو لتدل على قاتلها ، أو هو توبيخ لقاتلها بصرف الخطاب عنه كقوله : { أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] الآية { بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } وبالتشديد : يزيد . وفيه دليل على أن أطفال المشركين لا يعذبون ، وعلى أن التعذيب لا يكون بلا ذنب { وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ } { فُتِحَتْ } وبالتخفيف : مدني وشامي وعاصم وسهل ويعقوب . والمراد صحف الأعمال تطوى صحيفة الإنسان عند موته ثم تنشر إذا حوسب ، ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم { وَإِذَا السماء كُشِطَتْ } قال الزجاج : قلعت كما يقلع السقف { وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ } أوقدت إيقاداً شديداً . بالتشديد : شامي ومدني وعاصم غير حماد ويحيى للمبالغة { وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ } أدنيت من المتقين كقوله : { وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ ق : 31 ] . فهذه اثنتا عشرة خصلة ست منها في الدنيا والباقية في الآخرة . ولا وقف مطلقاً من أول السورة إلى { مَّا أَحْضَرَتْ } لأن عامل النصب في { إِذَا الشمس } وفيما عطف عليه جوابها وهو { عَلِمَتْ نَفْسٌ } أي كل نفس ولضرورة انقطاع النفس على كل آية جوز الوقف { مَّا أَحْضَرَتْ } من خير وشر .
{ فَلاَ أُقْسِمُ } «لا» زائدة { بالخنس } بالرواجع بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوله { الجوار } السيارة { الكنس } الغيب من كنس الوحش إذا دخل كناسه . قيل : هي الدراري الخمسة : بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري ، تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تختفي تحت ضوء الشمس ، فخنوسها رجوعها وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس . وقيل : هي جميع الكواكب { واليل إِذَا عَسْعَسَ } أقبل بظلامه أو أدبر فهو من الأضداد .
{ والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } امتد ضوءه . ولما كان إقبال الصبح يلازمه الروح والنسيم جعل ذلك نفساً له مجازاً وجواب القسم { إِنَّهُ } أي القرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ } أي جبريل عليه السلام . وإنما أضيف القرآن إليه لأنه هو الذي نزل به { كَرِيمٍ } عند ربه { ذِى قُوَّةٍ } قدرة على ما يكلف لا يعجز عنه ولا يضعف { عِندَ ذِى العرش } عند الله { مَّكِينٍ } ذي جاه ومنزلة . ولما كانت على حال المكانة على حسب حال المكين قال { عِندَ ذِى العرش } ليدل على عظم منزلته ومكانته { مطاع ثَمَّ } أي في السماوات يطيعه من فيها أو عند ذي العرش أي عند الله يطيعه ملائكته المقربون يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه { أَمِينٍ } على الوحي { وَمَا صاحبكم } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { بِمَجْنُونٍ } كما تزعم الكفرة وهو عطف على جواب القسم .
{ وَلَقَدْ رَءَاهُ } رأى محمد جبريل عليهما السلام على صورته { بالأفق المبين } بمطلع الشمس { وَمَا هُوَ عَلَى الغيب } وما محمد على الوحي { بِضَنِينٍ } ببخيل من الضن وهو البخل أي لا يبخل بالوحي كما يبخل الكهان رغبة في الحلوان بل يعلمه كما علم ولا يكتم شيئاً مما علم . { بظنين } مكي وأبو عمرو وعلي أي بمتهم فينقص شيئاً مما أوحي إليه أو يزيد فيه من الظنة وهي التهمة { وَمَا هُوَ } وما القرآن { بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ } طريد وهو كقوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } [ الشعراء : 210 ] . أي ليس هو بقول بعض المسترقة للسمع وبوحيهم إلى أوليائهم من الكهنة { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق أي تذهب؟ . مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدو لهم عنه إلى الباطل . وقال الزجاج : معناه فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم؟ وقال الجنيد : فأين تذهبون عنا وإن من شيء إلا عندنا { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين } ما القرآن إلا عظة للخلق { لِمَن شَاءَ مِنكُمْ } بدل من { العالمين } { أَن يَسْتَقِيمَ } أي القرآن ذكر لمن شاء الاستقامة يعني أن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعوظين جميعاً { وَمَا تَشَاءُونَ } الاستقامة { إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ العالمين } مالك الخلق أجمعين .
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
مكية وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا السماء انفطرت } انشقت { وَإِذَا الكواكب انتثرت } تساقطت { وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ } فتح بعضها إلى بعض وصارت البحار بحراً واحداً { وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ } بحثت وأخرج موتاها وجواب «إذا» { عَلِمَتْ نَفْسٌ } أي كل نفس برة وفاجرة { مَّا قَدَّمَتْ } ما عملت من طاعة { وَأَخَّرَتْ } وتركت فلم تعمل أو ما قدمت من الصدقات وما أخرت من الميراث { ياأيها الإنسان } قيل : الخطاب لمنكري البعث { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم * الذى خَلَقَكَ } أي شيء خدعك حتى ضيعت ما وجب عليك مع كرم ربك حيث أنعم عليك بالخلق والتسوية والتعديل؟ وعنه عليه السلام حين تلاها غره جهله . وعن عمر رضي الله عنه : غره حمقه . وعن الحسن : غره شيطانه . وعن الفضيل : لو خوطبت أقول غرتني ستورك المرخاة . وعن يحيى بن معاذ أقول : غرني برك بي سالفاً وآنفاً { فَسَوَّاكَ } فجعلك مستوي الخلق سالم الأعضاء { فَعَدَلَكَ } فصيّرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت فيه فلم يجعل إحدى اليدين أطول ، ولا إحدى العينين أوسع ، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود ، أو جعلك معتدل الخلق تمشي قائماً لا كالبهائم . وبالتخفيف : كوفي وهو بمعنى المشدد أي عدّل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت فكنت معتدل الخلقة متناسباً { فِى أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ } «ما» مزيد للتوكيد أي ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر ، ولم تعطف هذه الجملة كما عطف ما قبلها لأنها بيان ل { عدلك } والجار يتعلق ب { رَكَّبَكَ } على معنى وضعك في بعض الصور ومكنك فيها ، أو بمحذوف أي ركبك حاصلاً في بعض الصور .
{ كَلاَّ } ردع عن الغفلة عن الله تعالى { بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين } أصلاً وهو الجزاء أو دين الإسلام فلا تصدقون ثواباً ولا عقاباً { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين } أعمالكم وأقوالكم من الملائكة { كِرَاماً كاتبين } يعني أنكم تكذبون بالجزاء والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم . وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء وأنه عند الله من جلائل الأمور ، وفيه إنذار وتهويل للمجرمين ولطف للمتقين . وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال : ما أشدها من آية على الغافلين! { إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ } إن المؤمنين لفي نعيم الجنة { وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ } وإن الكفار لفي النار { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين } يدخلونها يوم الجزاء .
{ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ } أي لا يخرجون منها كقوله تعالى : { وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } [ المائدة : 37 ] [ البقرة : 167 ] . ثم عظم شأن يوم القيامة فقال { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين } فكرر للتأكيد والتهويل وبينه بقوله { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } أي لا تستطيع دفعاً عنها ولا نفعاً لها بوجه وإنما تملك الشفاعة بالإذن . { يَوْم } بالرفع : مكي وبصري أي هو يوم ، أو بدل من { يَوْم الدين } ومن نصب فبإضمار «اذكر» أو بإضمار يدانون لأن الدين يدل عليه { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } أي لا أمر إلا لله تعالى وحده فهو القاضي فيه دون غيره .
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
مختلف فيها وهي ست وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَيْلٌ } مبتدأ خبره { لّلْمُطَفّفِينَ } للذين يبخسون حقوق الناس في الكيل والوزن { الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ } أي إذا أخذوا بالكيل من الناس يأخذون حقوقهم وافية تامة . ولما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم أبدل على مكان من للدلالة على ذلك ، ويجوز أن يتعلق «على» ب { يَسْتَوْفُونَ } ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الاختصاص أي يستوفون على الناس خاصة . وقال الفراء : «من» و «على» يعتقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه ، فإذا قال : اكتلت عليك فكأنه قال : أخذت ما عليك ، وإذا قال : اكتلت منك فكأنه قال : استوفيت منك . والضمير المنصوب في { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } راجع إلى الناس أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل . وإنما لم يقل أو اتزنوا كما قيل { أَوْ وَّزَنُوهُمْ } اكتفاء ، ويحتمل أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء ، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين { يُخْسِرُونَ } ينقصون يقال خسر الميزان وأخسره .
{ أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني يوم القيامة . أدخل همزة الاستفهام على «لا» النافية توبيخاً وليست «ألا» هذه للتنبيه ، وفيه إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة ، ولو ظنوا أنهم يبعثون ما نقصوا في الكيل والوزن . وعن عبد الملك بن مروان أن أعرابياً قال له : لقد سمعت ما قال الله في المطففين ، أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن ونصب؟! { يَوْمَ يَقُومُ الناس } بمبعوثون { لِرَبّ العالمين } لأمره وجزائه . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ هنا بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده { كَلاَّ } ردع وتنبيه أي ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب ، ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه .
ثم اتبعه وعيد الفجار على العموم فقال { إِنَّ كتاب الفجار } صحائف أعمالهم { لَفِى } { سِجّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كتاب مَّرْقُومٌ } فإن قلت : قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سجين وفسر سجيناً بكتاب مرقوم فكأنه قيل : إن كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه؟ قلت : سجين كتاب جامع هو ديوان الشرّ دوّن الله فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس ، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة ، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه من رقم الثياب علامتها .
والمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان . وسمي سجيناً فعّيلاً من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم ، أو لأنه مطروح تحت الأرض السابعة في مكان وحش مظلم وهو مسكن إبليس وذريته ، وهو اسم علم منقول من وصف كحاتم منصرف لوجود سبب واحد وهو العلمية فحسب { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ } يوم يخرج المكتوب { لّلْمُكَذّبِينَ الذين يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدين } الجزاء والحساب { وَمَا يُكَذّبُ بِهِ } بذلك اليوم { إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ } مجاوز للحد { أَثِيمٍ } مكتسب للإثم { إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا } أي القرآن { قَالَ أساطير الأولين } أي أحاديث المتقدمين . وقال الزجاج : أساطير أباطيل واحدها أسطورة مثل أحدوثة وأحاديث .
{ كَلاَّ } ردع للمعتدي الأثيم عن هذا القول { بَلْ } نفي لما قالوا ويقف حفص على { بَل } وقيفة { رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } عطاها كسبهم أي غلب على قلوبهم حتى غمرها ما كانوا يكسبون من المعاصي . وعن الحسن : الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب . وعن الضحاك : الرين موت القلب . وعن أبي سليمان : الرين والقسوة زماماً الغفلة ودواؤهما إدمان الصوم فإن وجد بعد ذلك قسوة فليترك الإدام .
{ كَلاَّ } ردع عن الكسب الرائن على القلب { إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ } عن رؤية ربهم { يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } لممنوعون والحجب : المنع قال الزجاج : في الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم وإلا لا يكون التخصيص مفيداً . وقال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في العقبى عن رؤيته . وقال مالك بن أنس رحمه الله : لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه . وقيل : عن كرامة ربهم لأنهم في الدنيا لم يشكروا نعمه فيئسوا في الآخرة عن كرامته مجازاة . والأول أصح لأن الرؤية أقوى الكرامات فالحجب عنها دليل الحجب عن غيرها { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم } ثم بعد كونهم محجوبين عن ربهم لداخلون النار { ثُمَّ يُقَالُ هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي هذا العذاب هو الذي كنتم تكذبون به في الدنيا وتنكرون وقوعه .
{ كَلاَّ } ردع عن التكذيب { إِنَّ كتاب الأبرار } ما كتب من أعمالهم والأبرار المطيعون الذين لا يطففون ويؤمنون بالبعث لأنه ذكر في مقابلة الفجار ، وبيّن الفجار بأنهم المكذبون بيوم الدين . وعن الحسن : البر الذي لا يؤذي الذر { لَفِى عِلِّيِّينَ } هو علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع «عليّ» فعيل من العلو سمي به لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة ، أو لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريماً له { وَمَا أَدْرَاكَ } ما الذي أعلمك يا محمد { مَا عِلِّيُّونَ } أي شيء هو { كتاب مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المقربون } تحضره الملائكة .
قيل : يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء إذا رفع { إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ } تنعم في الجنان { على الأرآئك } الأسرة في الحجال { يَنظُرُونَ } إلى كرامة الله ونعمه وإلى أعدائهم كيف يعذبون { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم } بهجة التنعم وطراوته { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ } شراب خالص لا غش فيه { مَّخْتُومٍ * ختامه مِسْكٌ } تختم أوانيه بمسك بدل الطين الذي يختم به الشراب في الدنيا . أمر الله تعالى بالختم عليه إكراماً لأصحابه أو ختامه مسك مقطعه رائحة مسك أي توجد رائحة المسك عند خاتمة شربه . { خاتمه } عليّ { وَفِى ذَلِكَ } الرحيق أو النعيم { فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون } فليرغب الراغبون وذا إنما يكون بالمسارعة إلى الخيرات والانتهاء عن السيئات { وَمِزَاجُهُ } ومزاج الرحيق { مِن تَسْنِيمٍ } هو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنّمه إذا رفعه لأنها أرفع شراب في الجنة ، أو لأنها تأتيهم من فوق وتنصب في أوانيهم { عَيْناً } حال أو نصب على المدح { يَشْرَبُ بِهَا } أي منها { المقربون } عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم : يشربها المقربون صرفاً وتمزج لأصحاب اليمين .
{ إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ } كفروا { كَانُواْ مِنَ الذين ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ } في الدنيا استهزاء بهم .
{ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } يشير بعضهم إلى بعض بالعين طعناً فيهم وعيباً لهم . قيل : جاء علي رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا وقالوا : أترون هذا الأصلع فنزلت قبل أن يصل عليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ } أي إذا رجع إلى الكفار منازلهم { انقلبوا فَكِهِينَ } متلذذين بذكرهم والسخرية منهم . وقرأ غير حفص { فاكهين } أي فرحين { وَإِذَا رَأَوْهُمْ } وإذا رأى الكافرون المؤمنين { قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ } أي خدع محمد هؤلاء فضلوا وتركوا اللذات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات ، فقد تركوا الحقيقة بالخيال وهذا هو عين الضلال { وَمَا أُرْسِلُواْ } وما أرسل الكفار { عَلَيْهِمْ } على المؤمنين { حافظين } يحفظون عليهم أحوالهم ويرقبون أعمالهم بل أمروا بإصلاح أنفسهم فاشتغالهم بذلك أولى بهم من تتبع غيرهم وتسفيه أحلامهم { فاليوم } أي من يوم القيامة { الذين ءَامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ } ثم كما ضحكوا منهم هنا مجازاة { عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ } حال أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والاستكبار وهم على الأرائك آمنون . وقيل : يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم : هلموا إلى الجنة ، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم فيضحك المؤمنون منهم { هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } هل جوزوا بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا إذا فعل بهم ما ذكر؟ والله أعلم .
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
{ إِذَا السماء انشقت } تصدعت وتشققت { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا } سمعت وأطاعت وأجابت ربها إلى الانشقاق ولم تأب ولم تمتنع { وَحُقَّتْ } وحق لها أن تسمع وتطيع لأمر الله إذ هي مصنوعة مربوبة لله تعالى { وَإِذَا الأرض مُدَّتْ } بسطت وسويت باندكاك جبالها وكل أمت فيها { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا } ورمت ما في جوفها من الكنوز والموتى { وَتَخَلَّتْ } وخلت غاية الخلو حتى لم يبق شيء في باطنها كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو . يقال : تكرم الكريم إذا بلغ جهده في الكرم وتكلف فوق ما في طبعه { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا } في إلقاء ما في بطنها وتخليها { وَحُقَّتْ } وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع ، وحذف جواب «إذا» ليذهب المقدر كل مذهب ، أو اكتفاء بما على بمثلها من سورتي التكوير والانفطار ، أو جوابه ما دل عليه { فملاقيه } أي إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه .
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
{ ياأيها الإنسان } خطاب للجنس { إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً } جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت وما بعده من الحال الممثلة باللقاء { فملاقيه } الضمير للكدح وهو جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها ، والمراد جزاء الكدح إن خيراً فخير وإن شراً فشر . وقيل : لقاء الكدح لقاء كتاب فيه ذلك الكدح يدل عليه قوله { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ } أي كتاب عمله { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } سهلاً هيناً وهو أن يجازي على الحسنات ويتجاوز عن السيئات . وفي الحديث « من يحاسب يعذب » فقيل : فأين قوله { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } ؟ قال : « ذلكم العرض من نوقش في الحساب عذب » { وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ } إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين ، أو إلى فريق المؤمنين ، أو إلى أهله في الجنة من الحور العين { مَسْرُوراً } فرحاً { وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاءَ ظَهْرِهِ } قيل : تغل يمناه إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره { فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً } يقول : يا ثبوراه والثبور الهلاك { ويصلى } عراقي غير علي { سَعِيراً } أي ويدخل جهنم { إِنَّهُ كَانَ } في الدنيا { فِى أَهْلِهِ } معهم { مَسْرُوراً } بالكفر يضحك ممن آمن بالبعث . قيل : كان لنفسه متابعاً وفي مراتع هواه راتعاً .
{ إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } لن يرجع إلى ربه تكذيباً بالبعث . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت تفسيره حتى سمعت أعرابية تقول لبنتها : حوري أي ارجعي { بلى } إيجاب لما بعد النفي في { لَّن يَحُورَ } أي بلى ليحورن { إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ } وبأعماله { بَصِيراً } لا يخفى عليه فلا بد أن يرجعه ويجازيه عليها .
{ فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق } فأقسم بالبياض بعد الحمرة أو الحمرة { واليل وَمَا وَسَقَ } جمع وضم والمراد ما جمعه من الظلمة والنجم ، أو من عمل فيه من التهجد وغيره { والقمر إِذَا اتسق } اجتمع وتم بدراً افتعل من الوسق { لَتَرْكَبُنَّ } أيها الإنسان على إرادة الجنس { طَبَقاً عَن طَبقٍ } حالاً بعد حال ، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول . والطبق ما طابق غيره يقال : ما هذا بطبق لذا أي لا يطابقه ، ومنه قيل للغطاء الطبق ، ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة من قولهم : هو على طبقات ، أي لتركبن أحوالاً بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها . ومحل { عَن طَبقٍ } نصب على أنه صفة ل { طَبَقاً } أي طبقاً مجاوزاً لطبق ، أو حال من الضمير في { لَتَرْكَبُنَّ } أي لتركبن طبقاً مجاوزين لطبق .
وقال مكحول : في كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه . وبفتح الباء : مكي وعلي وحمزة . والخطاب له عليه السلام أي طبقاً من طباق السماء بعد طبق أي في المعراج .
{ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } فما لهم في أن لا يؤمنوا { وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرءان لاَ يَسْجُدُونَ } لا يخضعون { بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ } بالبعث والقرآن { والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أخبرهم خبراً يظهر أثره على بشرتهم { إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } استثناء منقطع { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } غير مقطوع أو غير منقوص ، والله أعلم .
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
مكية وهي اثنتان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والسماء ذَاتِ البروج } هي البروج الاثنا عشر . وقيل : النجوم أو عظام الكواكب { واليوم الموعود } يوم القيامة { وشاهد وَمَشْهُودٍ } أي وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه ، والمراد بالشاهد من يشهد فيه من الخلائق كلهم ، وبالمشهود فيه ما في ذلك اليوم من عجائبه . وطريق تنكيرهما إما ما ذكرته في قوله { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } [ التكوير : 14 ] كأنه قيل : ما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود ، وإما للإبهام في الوصف كأنه قيل : وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما . وقد كثرت أقاويل المفسرين فيهما فقيل : محمد صلى الله عليه وسلم ويوم القيامة أو عيسى وأمته لقوله : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [ المائدة : 117 ] . أو أمة محمد وسائر الأمم ، أو الحجر الأسود والحجيج ، أو الأيام والليالي وبنو آدم للحديث : « ما من يوم إلا وينادي أنا يوم جديد وعلى ما يفعل فيّ شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة » أو الحفظة وبنو آدم ، أو الله تعالى والخلق لقوله تعالى : { وكفى بالله شَهِيداً } [ الفتح : 28 ] [ النساء : 79 ] أو الأنبياء ومحمد عليهم السلام . وجواب القسم محذوف يدل عليه { قُتِلَ أصحاب الأخدود } أي لعن كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء إنهم ملعونون يعني كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود ، وهو خد أي شق عظيم في الأرض .
رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضموا إليه غلاماً ليعلمه السحر . وكان في طريق الغلام راهب فسمع منه فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس فأخذ حجراً فقال : « اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها » فقتلها فكان الغلام بعد ذلك يبرىء الأكمه والأبرص . وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله من رد عليك بصرك؟ فقال : ربي . فغضب فعذبه فدل على الغلام ، فعذبه فدل على الراهب ، فلم يرجع الراهب عن دينه فقدّ بالمنشار ، وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا ، فذهب به إلى قرقور فلجّجوا به ليغرقوه فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول : باسم الله رب الغلام ثم ترميني به ، فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه فمات فقال الناس : آمنا برب الغلام . فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر . فخدّ أخدوداً وملأها ناراً فمن لم يرجع عن دينه طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق فألقي الصبي وأمه فيها { النار } بدل اشتمال من الأخدود { ذَاتِ الوقود } وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس { إِذْ } ظرف لقتل أي لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها { هُمْ عَلَيْهَا } أي الكفار على ما يدنو منها من حافات الأخدود { قُعُودٌ } جلوس على الكراسي { وَهُمْ } أي الكفار { على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين } من الإحراق { شُهُودٌ } يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب ، وفيه حث للمؤمنين على الصبر وتحمل أذى أهل مكة { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ } وما عابوا منهم وما أنكروا إلا الإيمان كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... وقوله :
ما نقموا من بني أمية إل ... لاّ أنهم يحلمون إن غضبوا
وقرىء { نَقَمُواْ } بالكسر والفصيح هو الفتح { بالله العزيز الحميد } ذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به وهو كونه عزيزاً غالباً قادرا يخشى عقابه حميداً منعماً يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه { الذى لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقريراً لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل ، وأن الناقمين أهل لانتقام الله منهم بعذاب عظيم { والله على كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ } وعيد لهم يعني أنه علم ما فعلوا وهو مجازيهم عليه .
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
{ إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات } يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود ، ومعنى فتنوهم عذبوهم بالنار وأحرقوهم { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } لم يرجعوا عن كفرهم { فَلَهُمْ } في الآخرة { عَذَابُ جَهَنَّمَ } بكفرهم { وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } في الدنيا لما رُوي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم ، ويجوز أن يريد الذين فتنوا المؤمنين أي بلوهم بالأذى على العموم والمؤمنين المفتونين ، وأن للفاتنين عذابين في الآخرة لكفرهم ولفتنتهم .
{ إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ذَلِكَ الفوز الكبير } أي الذين صبروا على تعذيب الأخدود أو هو عام { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } البطش : الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم ، والمراد أخذه الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ } أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد أن صيرهم تراباً ، دل باقتداره على الابداء والإعادة على شدة بطشه ، أو أوعد الكفرة بأنه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم إذ لم يشكروا نعمة الابداء وكذبوا بالإعادة { وَهُوَ الغفور } الساتر للعيوب العافي عن الذنوب { الودود } المحب لأوليائه . وقيل : الفاعل لأهل الطاعة ما يفعله الودود من إعطائهم ما أرادوا { ذُو العرش } خالقه ومالكه { المجيد } وبالجر : حمزة وعلي على أنه صفة للعرش ومجد الله عظمته ومجد العرش علوه وعظمه { فَعَّالٌ } خبر مبتدأ محذوف { لِّمَا يُرِيدُ } تكوينه فيكون فيه دلالة خلق أفعال العباد .
{ هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود } أي قد أتاك خبر الجموع الطاغية في الأمم الخالية { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } بدل من { الجنود } وأراد بفرعون إياه وآله والمعنى قد عرفت تكذيب تلك الجنود للرسل وما نزل بهم لتكذيبهم { بَلِ الذين كَفَرُواْ } من قومك { فِى تَكْذِيبٍ } واستيجاب للعذاب ولا يعتبرون بالجنود لا لخفاء حال الجنود عليهم لكن يكذبونك عناداً { والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ } أي عالم بأحوالهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه ، والإحاطة بهم من ورائهم مثل لأنهم لا يفوتونه كما لا يفوت الشيء المحيط به { بَلْ هُوَ } بل هذا الذي كذبوا به { قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ } شريف عالي الطبقة في الكتب وفي نظمه وإعجازه ليس كما يزعمون أنه مفترى وأنه أساطير الأولين { فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } من وصول الشياطين إليه { مَّحْفُوظٍ } : نافع صفة للقرآن أي من التغيير والتبديل . واللوح عند الحسن شيء يلوح للملائكة فيقرؤونه ، وعند ابن عباس رضي الله عنهما وهو من درة بيضاء طولها ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، قلمه نور وكل شيء فيه مسطور . مقاتل : هو على يمين العرش . وقيل : أعلاه معقود بالعرش وأسفله في حجر ملك كريم ، والله أعلم .
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
مكية وهي سبع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والسماء والطارق * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق * النجم الثاقب } عظم قدر السماء في أعين الخلق لكونها معدن رزقهم ومسكن ملائكته ، وفيها خلق الجنة فأقسم بها وبالطارق والمراد جنس النجوم ، أو جنس الشهب التي يرجم بها لعظم منفعتها ، ثم فسره بالنجم الثاقب أي المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه ، ووصف بالطارق لأنه يبدو بالليل كما يقال للآتي ليلاً طارق ، أو لأنه يطرق الجني أي يصكه . وجواب القسم { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } لأن { لَّمّاً } إن كانت مشددة بمعنى «إلا» كقراءة عاصم وحمزة وابن عامر فتكون «إن» نافية أي ما كل نفس إلا عليها حافظ ، وإن كانت مخففة كقراءة غيرهم فتكون «إن» مخففة من الثقيلة أي إن كل نفس لعليها حافظ يحفظها من الآفات ، أو يحفظ عملها ورزقها وأجلها ، فإذا استوفى ذلك مات . وقيل : هو كاتب الأعمال ف «ما» زائدة واللام فارقة بين الثقيلة والخفيفة ، و { حَافِظٌ } مبتدأ و { عَلَيْهَا } الخبر ، والجملة خبر { كُلٌّ } وأيتهما كانت فهي مما يتلقى به القسم .
{ فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ } لما ذكر أن على كل نفس حافظاً أمره بالنظر في أول أمره ليعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل ليوم الجزاء ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته . و { مِمَّ خُلِقَ } استفهام أي من أي شيء خلق جوابه { خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ } والدفق : صب فيه دفع . والدفق في الحقيقة لصاحبه والإسناد إلى الماء مجاز . وعن بعض أهل اللغة : دفقت الماء دفقاً : صببته ودفق الماء بنفسه أي انصب . ولم يقل من ماءين لامتزاجهما في الرحم واتحادهما حين ابتدىء في خلقه { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب } من صلب الرجل وترائب المرأة وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة . وقيل : العظم والعصب من الرجل واللحم والدم من المرأة { إِنَّهُ } إن الخالق لدلالة خلق عليه ومعناه إن الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفة { على رَجْعِهِ } على إعادته خصوصاً { لَقَادِرٌ } لبيّن القدرة لا يعجز عنه كقوله : إنني لفقير أي لبيّن الفقر . ونصب { يَوْمَ تبلى } أي تكشف برجعه أو بمضمر دل عليه قوله { رَجْعِهِ } أي يبعثه يوم تبلى { السرائر } ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وما أخفى من الأعمال { فَمَا لَهُ } فما للإنسان { مِن قُوَّةٍ } في نفسه على دفع ما حل به { وَلاَ نَاصِرٍ } يعينه ويدفع عنه .
{ والسماء ذَاتِ الرجع } أي المطر وسمي به لعوده كل حين { والأرض ذَاتِ الصدع } هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات { إِنَّهُ } إن القرآن { لَقَوْلٌ فَصْلٌ } فاصل بين الحق والباطل كما قيل له فرقان { وَمَا هوَ بالهزل } باللعب والباطل يعني أنه جد كله ومن حقه ، وقد وصفه الله بذلك أن يكون مهيباً في الصدور معظماً في القلوب ، يرتفع به قارئه وسامعه أن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح { أَنَّهُمْ } يعني مشركي مكة { يَكِيدُونَ كَيْداً } يعملون المكايد في إبطال أمر الله وأطفاء نور الحق { وَأَكِيدُ كَيْداً } وأجازيهم جزاء كيدهم باستدراجي لهم من حيث لا يعلمون فسمي جزاء الكيد كيداً كما سمي جزاء الاعتداء والسيئة اعتداء وسيئة وإن لم يكن اعتداء وسيئة ، ولا يجوز إطلاق هذا الوصف على الله تعالى إلا على وجه الجزاء كقوله :
{ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] { يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] { الله يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] { فَمَهِّلِ الكافرين } أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به { أَمْهِلْهُمْ } أنظرهم فكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين والتصبير { رُوَيْداً } مهلاً يسيراً ولا يتكلم بها إلا مصغّرة وهي من رادت الريح ترود روداً تحركت حركة ضعيفة .