كتاب : مدارك التنزيل وحقائق التأويل
المؤلف : أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
{ وجدتّها وقومها يسجدون للشّمس من دون الله وزيّن لهم الشّيطان أعمالهم فصدّهم عن السّبيل } أي سبيل التوحيد { فهم لا يهتدون } إلى الحق ولا يبعد من الهدهد التهدي إلى معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وحرمة السجود للشمس إلهاماً من الذلة كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها .
{ ألاّ يسجدوا } بالتشديد أي فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا فحذف الجار مع «أن» وأدغمت النون في اللام ، ويجوز أن تكون «لا» مزيدة ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا . وبالتخفيف : يزيد وعلي ، وتقديره : ألا يا هؤلاء اسجدوا ف «ألا» للتنبيه و«يا» حرف نداء ومناداه محذوف ، فمن شدد لم يقف إلا على العرش العظيم ، ومن خفف وقف على { فهم لا يهتدون } ثم ابتدأ { ألا يسجدوا } أو وقف على { ألايا } ثم ابتدأ { اسجدوا } وسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً بخلاف ما يقوله الزجاج إنه لا يجب السجود مع التشديد ، لأن مواضع السجدة إما أمر بها أو مدح للآتي بها أو ذم لتاركها ، وإحدى القراءتين أمر والآخرى ذم للتارك { لله الذي يخرج الخبء } سمى المخبوء بالمصدر { في السّماوات والأرض } قتادة خبء السماء المطر وخبء الأرض النبات { ويعلم ما تخفون وما تعلنون } وبالتاء فيهما : علي وحفص { الله لا إله إلاّ هو ربّ العرش العظيم } وصف الهدهد عرش الله بالعظيم تعظيم به بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض ، ووصفه عرش بلقيس تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك إلى ههنا كلام الهدهد .
فلما فرغ من كلامه { قال } سليمان للهدهد { سننظر } من النظر الذي هو التأمل { أصدقت } فيما أخبرت { أم كنت من الكاذبين } وهذا أبلغ من «أم كذبت» لأنه إذا كان معروفاً بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً لا محالة ، وإذا كان كاذباً اتهم بالكذب فيما أخبر به فلم يوثق به ، ثم كتب سليمان كتاباً صورته : من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه وقال للهدهد :
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
{ اذهب بّكتابي هذا فألقه } بسكون الهاء تخفيفاً : أبو عمرو وعاصم وحمزة ، ويختلسها كسراً لتدل الكسرة على الياء المحذوفة : يزيد وقالون ويعقوب ، { فألقهي } بإثبات الياء : غيرهم { إليهم } إلى بلقيس وقومها لأنه ذكرهم معها في قوله { وجدتها وقومها يسجدون للشمس } وبني الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك { ثمّ تولّ عنهم } تنح عنهم إلى مكان قريب بحيث تراهم ولا يرونك ليكون ما يقولونه بمسمع منك { فانظر ماذا يرجعون } ما الذي يردونه من الجواب . فأخذ الهدهد الكتاب بمنقاره ودخل عليها من كوة فطرح الكتاب على نحرها وهي راقدة وتوارى في الكوة فانتبهت فزعة ، أو أتاها والجنود حواليها فرفرف ساعة وألقى الكتاب في حجرها وكانت قارئة ، فلما رأت الخاتم .
{ قالت } لقومها خاضعة خائفة { ياأيّها المللأ إنّي } وبفتح الياء : مدني { ألقي إليّ كتابٌ كريمٌ } حسن مضمونه وما فيه أو مختوم . قال عليه الصلاة والسلام : " كرم الكتاب ختمه " وقيل : من كتب إلى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخف به ، أو مصدر ببسم الله الرحمن الرحيم أو لأنه من عند ملك كريم { إنّه من سليمان وإنّه بسم الله الرّحمن الرّحيم } هو تبيين لما ألقى إليها كأنها لما قالت { إني ألقي إلى كتاب كريم } قيل لها : ممن هو وما هو؟ فقالت : { إنه من سليمان } وإنه كيت وكيت . و«أن» فيه { ألاّ تعلوا } لا تترفعوا { عليّ } ولا تتكبروا كما يفعل الملوك مفسرة كقوله { وانطلق الملأ منهم أن امشوا } [ ص : 6 ] يعني أي امشوا { وأتوني مسلمين } مؤمنين أو منقادين وكتب الأنبياء مبنية على الإيجاز والاختصار
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
{ قالت يا أيّها المللأ أفتوني في أمري } أشيروا علي في الأمر الذي نزل بي . والفتوى الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتاء في السن ، والمراد هنا بالفتوى الإشارة عليها بما عندهم من الرأي ، وقصدها بالرجوع إلى استشارتهم تطييب أنفسهم ليمالئوها ويقوموا معها { ما كنت قاطعةً أمراً } فاصلة أو ممضية حكماً { حتّى تشهدون } بكسر النون ، والفتح لحن لأن النون إنما تفتح في موضع الرفع وهذا في موضع النصب ، وأصله تشهدونني فحذفت النون الأولى للنصب والياء لدلالة الكسرة عليها . وبالياء في الوصل والوقف : يعقوب أي تحضروني وتشيروني وتشهدوا أنه صواب أي لا أبت الأمر إلا بمحضركم . وقيل : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل واحد على عشرة الاف .
{ قالوا } مجيبين لها { نحن أولوا قوّةٍ وأولوا بأسٍ شديدٍ } أرادوا بالقوة قوة الأجساد والآلات وبالبأس النجدة والبلاء في الحرب { والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين } أي موكول إليك ونحن مطيعون لك فمرينا بأمرك نطعك ولا نخالفك كأنهم أشاروا عليها بالقتال ، أو أرادوا نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأي والمشورة وأنت ذات الرأي والتدبير فانظري ماذا ترين نتبع رأيك . فلما أحست منهم الميل إلى المحاربة مالت إلى المصالحة ورتبت الجواب فزيفت أولاً ما ذكروه وأرتهم الخطأ فيه حيث { قالت إنّ الملوك إذا دخلوا قريةً } عنوة وقهراً { أفسدوها } خربوها { وجعلوا أعزّة أهلها أذلّةً } أذلوا أعزتها وأهانوا أشرافها وقتلوا وأسروا فذكرت لهم سوء عاقبة الحرب ثم قالت { وكذلك يفعلون } أرادت وهذه عادتهم المستمرة التي لا تتغير لأنها كانت في بيت الملك القديم فسمعت نحو ذلك ورأت . ثم ذكرت بعد ذلك حديث الهدية وما رأت من الرأي السديد . وقيل : هو تصديق من الله لقولها ، واحتج الساعي في الأرض بالفساد بهذه الآية . ومن استباح حراماً فقد كفر ، وإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
{ وإنّي مرسلةٌ إليهم بهديّةٍ } أي مرسلة رسلاً بهدية .
{ فناظرةٌ } فمنتظرة { بم } أي ب «ما» لأن الألف تحذف مع حرف الجر في الاستفهام { يرجع المرسلون } بقبولها أم بردها لأنها عرفت عادة الملوك وحسن مواقع الهدايا عندهم ، فإن كان ملكاً قبلها وانصرف ، وإن كان نبياً ردها ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه . فبعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر ، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت وحقاً فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب ، وبعثت رسلاً وأمرت عليهم المنذر بن عمرو بدليل قوله تعالى؛ { بم يرجع المرسلون } . وكتبت كتاباً فيه نسخة الهدايا وقالت فيه : إن كنت نبياً فميز بين الوصفاء والوصائف وأخبر بما في الحق واثقب الدرة ثقباً واسلك في الخرزة خيطاً . ثم قالت للمنذر : إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك منظره ، وإن رأيته بشاشاً لطيفاً فهو نبي . فأقبل الهدهد وأخبر سليمان الخبر كله فأمر سليمان الجن فضربوا لبنات الذهب والفضة وفرشوها في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ ، وجعلوا حول الميدان حائطاً شرفه من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبنات ، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين واليسار ، ثم قعد على سريره والكراسي من جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ ، والإنس صفوفاً فراسخ ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك ، فلما دنا القوم ورأوا الدواب تروث على اللبن رموا بما معهم من الهدايا ، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم سليمان بوجه طلق فأعطوه كتاب الملكة فنظر فيه وقال : أين الحق؟ فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت فيها ، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ثم رد الهدية وقال للمنذر : { ارجع إليهم } .
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
{ فَلَمَّا جَآء } رسولها المنذر بن عمرو { سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } بنونين وإثبات الياء في الوصل والوقف : مكي وسهل ، وافقهما مدني وأبو عمرو في الوصل . { أتمدوني } حمزة ويعقوب في الحالين ، وغيرهم بنونين بلا يا ء فيهما ، والخطاب للرسل { فَمَا ءاتانى الله } من النبوة والملك والنعمة . وبفتح الباء : مدني وأبو عمرو وحفص { خَيْرٌ مّمَّا ءاتاكم } من زخارف الدنيا { بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } الهدية اسم المهدي كما أن العطية اسم المعطي فتضاف إلى المهدي والمهدى له تقول «هذه هدية فلان» تريد هي التي أهداها أو أهديت إليه ، والمعنى إن ما عندي خير مما عندكم وذلك أن الله آتاني الدين الذي فيه الحظ الأوفر والغنى الأوسع ، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه فكيف يرضى مثلي بأن يمد بمال بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا فلذلك تفرحون بما تزادون ويهدى إليكم لأن ذلك مبلغ همتكم ، وحالي خلاف حالكم وما أرضي منكم بشيء ولا أفرح به إلا بالإيمان وترك المجوسية . والفرق بين قولك «أتمدونني بمال وأنا أغنى منكم» وبين أن تقوله بالفاء أني إذا قلته بالواو جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي في الغنى وهو مع ذلك يمدني بمال ، وإذا قلته بالفاء فقد جعلته ممن خفيت عليه حالي فأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده كأني أقول له : أنكر عليك ما فعلت فإني غني عنه ، وعليه ورد { فما آتاني الله } ووجه الإضراب أنه لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه وهو أنهم لا يعرفون سبب رضا ولا فرح إلا أن يهدي إليهم حظ من الدنيا التي يعلمون غيرها .
{ ارجع إِلَيْهِمْ } خطاب للرسول أو الهدهد محملاً كتاباً آخر إليهم ائت بلقيس وقومها { فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } لا طاقة لهم بها وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة أي لا يقدرون أن يقابلوهم { وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا } من سبأ { أَذِلَّةً وَهُمْ صاغرون } الذل أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك ، والصغار أن يقعوا في أسر واستعباد . فلما رجع إليها رسولها بالهدايا وقص عليها القصة قالت : هو نبي وما لنا به طاقة ثم جعلت عرشها في آخر سبعة أبيات وغلقت الأبواب ووكلت به حرساً يحفظونه ، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك لأنظر ما الذي تدعو إليه ، وشخصت إليه في إثني عشر ألف . قيل : تحت كل قيل ألوف فلما بلغت على رأس فرسخ من سليمان .
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
{ قَالَ يَا أَيُّهَا الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ } أراد أن يريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى به من إجراء العجائب على يده مع إطلاعها على عظم قدرة الله تعالى وعلى ما يشهد لنبوة سليمان ، أو أراد أن يأخذه قبل أن تسلم لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها وهذا بعيد عند أهل التحقيق ، أو أراد أن يؤتى به فينكر ويغير ثم ينظر أتثبته أم تنكره اختباراً لعقلها { قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الجن } وهو الخبيث المارد واسمه ذكوان { أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } مجلس حكمك وقضائك { وَإِنّى عَلَيْهِ } على حمله { لَقَوِىٌّ أَمِينٌ } آتي به كما هو لا آخذ منه شيئاً ولا أبدله . فقال سليمان عليه السلام : أريد أعجل من هذا .
{ قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب } أي ملك بيده كتاب المقادير أرسله الله تعالى عند قول العفريت ، أو جبريل عليه السلام ، والكتاب على هذا اللوح المحفوظ ، أو الخضر أو آصف بن برخيا كاتب سليمان وهو الأصح وعليه الجمهور ، وكان عنده اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وهو : يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أو يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً «واحداً» لا إله إلا أنت . وقيل : كان له علم بمجاري الغيوب إلهاماً { أنا ءَاتيك به } بالعرش و { آتيك } في الموضعين يجوز أن يكون فعلاً أو اسم فاعل . ومعنى قوله { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } أنك ترسل طرفك إلى شيء فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك . ويروى أن آصف قال لسليمان عليه السلام : مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد عينيه فنظر نحو اليمن فدعا آصف فغار العرش في مكانه ثم نبع عند مجلس سليمان بقدرة الله تعالى قبل أن يرتد طرفه { فَلَمَّا رَءاهُ } أي العرش { مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } ثابتاً لديه غير مضطرب { قَالَ هذا } أي حصول مرادي وهو حضور العرش في مدة ارتداد الطرف { مِن فَضْلِ رَبّى } عليّ وإحسانه إلي بلا استحقاق مني بل هو فضل خال من العوض صافٍ عن الغرض { ليبلونىِ ءَأشكر } ليمتحنني أأشكر إنعامه { أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } لأنه يحط به عنها عبء الواجب ويصونها عن سمة الكفران ويستجلب به المزيد وترتبط به النعمة ، فالشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة . وفي كلام بعضهم : إن كفران النعمة بوار وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها ، فاستدع شاردها بالشكر ، واستدم راهنها بكرم الجوار . واعلم أن سبوغ ستر الله تعالى متقلص عما قريب إذا أنت لم ترج لله وقاراً أي لم تشكر لله نعمة { وَمَن كَفَرَ } بترك الشكر على النعمة { فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ } عن الشكر { كَرِيمٌ } بالإنعام على من يكفر نعمته ، قال الواسطي : ما كان منا من الشكر فهو لنا ، وما كان منه من النعمة فهو إلينا وله المنة والفضل علينا .
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
{ قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } غيروا أي اجعلوا مقدمه مؤخره وأعلاه أسفله { نَنظُرْ } بالجزم على الجواب { أَتَهْتَدِى } إلى معرفة عرشها أو للجواب الصواب إذا سئلت عنه { أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءتْ } بلقيس { قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ } «ها» للتنبيه والكاف للتشبيه و «ذا» اسم إشارة ولم يقل «أهذا عرشك» ولكن أمثل هذا عرشك لئلا يكون تلقيناً { قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } فأجابت أحسن جواب فلم تقل «هو هو» و «لا ليس به» وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتمل للأمرين ، أو لما شبهوا عليها بقولهم : { أهكذا عرشك } شبهت عليهم بقولها { كَأَنَّهُ هُوَ } مع أنها علمت أنه عرشها { وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا } من كلام بلقيس أي وأوتينا العلم بقدرة الله تعالى وبصحة نبوتك بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل هذه المعجزة أي إحضار العرش أو من قبل هذه الحالة { وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } منقادين لك مطيعين لأمرك ، أو من كلام سليمان وملئه عطفوا على كلامها قولهم : وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها ، أو أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين موحدين خاضعين .
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
{ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله } متصل بكلام سليمان أي وصدها عن العلم بما علمناه أو عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين أظهر الكفرة . ثم بين نشأها بين الكفرة بقوله { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين } أو كلام مبتدأ أي قال الله تعالى وصدها قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل ، أو صدها الله ، أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل .
{ قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح } أي القصر أو صحن الدار { فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً } ماء عظيماً { وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } { سأقيها } بالهمزة : مكي . روي أن سليمان أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه السمك وغيره ، ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس . وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحقيقاً لنبوته . وقيل : إن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية . وقيل : خافوا أن يولد له منها ولد يجمع فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد فقالوا له : إن في عقلها شيئاً وهي شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار ، فاختبر عقلها بتنكير العرش ، واتخذ الصرح ليعرف ساقها ورجلها فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً إلا أنها شعراء فصرف بصره { قَالَ } لها { إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ } مملس مستو ومنه الأمرد { مّن قَوارِيرَ } من الزجاج . وأراد سليمان تزوجها فكره شعرها فعملت لها الشياطين النورة فأزالته فنكحها سليمان وأحبها وأقرها على ملكها وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له { قَالَتْ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى } بعبادة الشمس { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبّ العالمين } قال المحققون : لا يحتمل أن يحتال سليمان لينظر إلى ساقيها وهي أجنبية فلا يصح القول بمثله .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ } في النسب { صالحا } بدل { أَنِ اعبدوا الله } بكسر النون في الوصل : عاصم وحمزة وبصري ، وبضم النون : غيرهم اتباعاً للباء ، والمعنى بأن اعبدوا الله وحدوه { فَإِذَا } للمفاجأة { هُمْ } مبتدأ { فَرِيقَانِ } خبر { يَخْتَصِمُونَ } صفة وهي العامل في { إِذَا } والمعنى فإذا قوم صالح فريقان مؤمن به وكافر به يختصمون فيقول كل فريق الحق معي وهو مبين في قوله : { قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ قَالُواْ إِنَّا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي أمنتم به كافرون } [ الأعراف : 75 ] وقال الفريق الكافر : { ياصاح ائتنا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المرسلين } { [ الأعراف : 77 ] { قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة } بالعذاب الذي توعدون { قَبْلَ الحسنة } قبل التوبة { لَوْلاَ } هلا { تَسْتَغْفِرُونَ الله } تطلبون المغفرة من كفركم بالتوبة والإيمان قبل نزول العذاب بكم { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } بالإجابة { قَالُواْ اطيرنا بِكَ } تشاءمنا بك لأنهم قحطوا عند مبعثه لتكذيبهم فنسبوه إلى مجيئه . والأصل { تَطَيَّرْنَا } وقريء به فأدغمت التاء في الطاء وزيدت الألف لسكون الطاء { وَبِمَن مَّعَكَ } من المؤمنين { قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله } أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله وهو قدره وقسمته ، أو عملكم مكتوب عند الله فإنما نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وفتنة ومنه { وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] وأصله أن المسافر إذا مر بطائر فيزجره فإن مر سانحاً تيامن ، وإذا مر بارحاً تشاءم ، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته ، أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } تختبرون أو تعذبون بذنبكم .
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
{ وَكَانَ فِى المدينة } مدينة ثمود وهي الحجر { تِسْعَةُ رَهْطٍ } هو جمع لا واحد له ولذا جاز تمييز التسعة به فكأنه قيل تسعة أنفس ، وهو من الثلاثة إلى العشرة . وعن أبي دؤاد : رأسهم قدار بن سالف وهم الذين سعوا في عقر الناقة وكانوا أبناء أشرافهم { يُفْسِدُونَ فِى الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ } يعني أن شأنهم الإفساد البحت لا يخلط بشيء من الصلاح كما ترى بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح . وعن الحسن يظلمون الناس ولا يمنعون الظالمين من الظلم . وعن ابن عطاء : يتبعون معايب الناس ولا يسترون عوراتهم { قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله } { تحالفوا } خبر في محل الحال بإضمار «قد» أي قالوا متقاسمين أو أمر أي أمر بعضهم بعضاً بالقسم { لَنُبَيّتَنَّهُ } لنقتلنه بياتاً أي ليلاً { وَأَهْلَهُ } ولده وتبعه { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ } لولي دمه { لتبيتنه } بالتاء وبضم التاء الثانية ثم { لتقولن } بالتاء وضم اللام : حمزة وعلي { ماشهدنا } ما حضرنا { مَهْلِكَ أَهْلِهِ } حفص { مهلَك } أبو بكر وحماد والمفضل من هلك ، فالأول موضع الهلاك ، والثاني المصدر { مُهلَك غيرهم ، من أهلك وهو الإهلاك أو مكان الإهلاك أي لم نتعرض لأهله فكيف تعرضنا له؟ أو ما حضرنا موضع هلاكه فكيف توليناه؟ { وِإِنَّا لصادقون } فيما ذكرنا .
{ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } مكرهم ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله . ومكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون ، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة . روي أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثالث ، فخرجوا إلى الشعب وقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم ، فبعث الله صخرة من الهضب حيالهم فبادروا فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم ، وعذب الله كلاً منهم في مكانه ونجى صالحاً عليه السلام ومن معه
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
{ فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ أَنَّا دمرناهم } بفتح الألف : كوفي وسهل ، وبكسرها : غيرهم على الاستئناف ، ومن فتحه رفعه على أنه بدل من العاقبة ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هي تدميرهم ، أو نصبه على معنى لأنا أو على أنه خبر «كان» أي فكان عاقبة مكرهم الدمار { وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } بالصيحة { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط ، أو خالية من الخواء ، وهي حال عمل فيها ما دل عليه { تلك } { بِمَا ظَلَمُواْ } بظلمهم { إِنَّ فِى ذَلِكَ } فيما فعل بثمود { لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } قدرتنا فيتعظون { وَأَنجَيْنَا الذين ءامَنُواْ } بصالح { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } ترك أوامره وكانوا أربعة الآف نجوا مع صالح من العذاب .
{ وَلُوطًا إِذْ قَالَ } واذكر لوطاً ، و { إذ } بدل من { لوطاً } أي واذكر وقت قول لوط { لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة } أي إتيان الذكور { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها من بصر القلب ، أو يرى ذلك بعضهم من بعض لأنهم كانوا يرتكبونها في ناديهم معالنين بها لا يتستر بعضهم من بعض مجانة وانهماكاً في المعصية ، أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم . ثم صرح فقال { أَئِنَّكُمْ } بهمزتين : كوفي وشامي { لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً } للشهوة { مّن دُونِ النساء } أي إن الله تعالى إنما خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر ولا الأنثى للأنثى فهي مضادة لله في حكمته { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك ، أو أريد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها . وقد اجتمع الخطاب والغيبة في قوله { بل أنتم قوم تجهلون } و { بل أنتم قوم تفتنون } فغلب الخطاب على الغيبة لأنه أقوى إذ الأصل أن يكون الكلام بين الحاضرين .
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ } أي لوطاً ومتبعيه فخبر «كان» { جواب } واسمه { أن قالوا } { مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } يتنزهون عن القاذورات ينكرون هذا العمل القذر ويغيظنا إنكارهم . وقيل : هو استهزاء كقوله { إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد } { [ هود : 87 ] { فأنجيناه } فخلصناه من العذاب الواقع بالقوم { وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قدرناها } بالتشديد سوى حماد وأبي بكر أي قدرنا كونها { مِنَ الغابرين } من الباقين في العذاب { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } حجارة مكتوباً عليها اسم صاحبها { فَسَاء مَطَرُ المنذرين } الذين لم يقبلوا الإنذار .
{ قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى } أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بتحميده ثم بالصلاة على المصطفين من عباده توطئه لما يتلوه من الدلالة على وحدانيته وقدرته على كل شيء وهو تعليم لكل متكلم في كل أمر ذي بال بأن يتبرك بهما ويستظهر بمكانهما ، أو هو خطاب للوط عليه السلام بأن يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلم على من اصطفاه الله ونجاه من هلكتهم وعصمه من ذنوبهم { ءَآللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } بالياء : بصري وعاصم . ولا خير فيما أشركوه أصلاً حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل شيء ، وإنما هو إلزام لهم وتهكم بحالهم وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة ، فقيل لهم مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ولكن هوى وعبثاً لينبهوا على الخطأ المفرط والجهل المورط ، وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال : " بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم " ثم عدد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله فقال
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
{ أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض } والفرق بين «أم» و «أم» في { أما يشركون } و { أمن خلق السماوات } أن تلك متصلة إذ المعنى أيهما خير ، وهذه منقطعة بمعنى «بل» والهمزة ، ولما قال الله خير أم الآلهة قال بل أمن خلق السماوات والأرض خير ، تقريراً لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاءً } مطراً { فَأَنبَتْنَا } صرف الكلام عن الغيبة إلى التكلم تأكيداً لمعنى اختصاص الفعل بذاته وإيذاناً بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والأشكال مع حسنها بماء واحد لا يقدر عليه إلا هو وحده { بِهِ } بالماء { حَدَائِقَ } بساتين ، والحديقة : البستان وعليه حائط من الإحداق وهو الإحاطة { ذَاتُ } ولم يقل «ذوات» لأن المعنى جماعة حدائق كما تقول النساء ذهبت { بَهْجَةٍ } حسن لأن الناظر يبتهج به . ثم رشح معنى الاختصاص بقوله { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } ومعنى الكينونة الانبغاء أراد أنّ تأتّى ذلك محال من غيره { أءلاه مَّعَ الله } أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد و { بل هم } بعد الخطاب أبلغ في تخطئة رأيهم .
{ أَمَّن جَعَلَ الأرض } وما بعده بدل من { أمن خلق } فكان حكمها حكمه { قَرَاراً } دحاها وسواها للاستقرار عليها { وَجَعَلَ خِلاَلَهَا } ظرف أي وسطها وهو المفعول الثاني والأول { أَنْهَاراً } وبين البحرين مثله { وَجَعَلَ لَهَا } للأرض { رَوَاسِىَ } جبالاً تمنعها عن الحركة { وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين } العذب والمالح { حَاجِزاً } مانعاً أن يختلطا { أءلاه مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } التوحيد فلا يؤمنون { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } الاضطرار افتعال من الضرورة وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ . يقال اضطره إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر ، والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرع إلى الله ، أو المذنب إذا استغفر ، أو المظلوم إذا دعا ، أو من رفع يديه ولم ير لنفسه حسنة غير التوحيد وهو منه على خطر { وَيَكْشِفُ السوء } الضر أو الجور { وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرض } أي فيها وذلك توارثهم سكناها والتصرف فيها قرناً بعد قرن ، أو أراد بالخلافة الملك والتسلط { أءلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } وبالياء : أبو عمرو ، وبالتخفيف : حمزة وعلي وحفص . و «ما» مزيدة أي تذكرون تذكراً قليلاً .
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
{ أَمَّن يَهْدِيكُمْ } يرشدكم بالنجوم { فِى ظلمات البر والبحر } ليلاً وبعلامات في الأرض نهاراً { وَمَن يُرْسِلُ الرياح } { الريح } مكي وحمزة وعلى { بشرًا } من البشارة وقد مرّ في «الأعراف» { بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } قدام المطر { أءلاه مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الخلق } ينشيء الخلق { ثُمَّ يُعِيدُهُ } وإنما قيل لهم { ثُمَّ يُعِيدُهُ } وهم منكرون للإعادة لأنه أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار فلم يبق لهم عذر في الإنكار { وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء } أي المطر { والأرض } أي ومن الأرض النبات { أءلاه مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ برهانكم } حجتكم على إشراككم { إِن كُنتُمْ صادقين } في دعواكم أن مع الله إلهاً آخر .
{ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } { من } فاعل { يعلم } و { الغيب } هو ما لم يقم عليه دليل ولا أطلع عليه مخلوق مفعول و { الله } بدل مِن { مَن } والمعنى لا يعلم أحد الغيب إلا الله . نعم إن الله تعالى يتعالى عن أن يكون ممن في السماوات والأرض ولكنه جاء على لغة بني تميم حيث يجرون الاستثناء المنقطع مجرى المتصل ويجيزون النصب والبدل في المنقطع كما في المتصل ويقولون ما في الدار أحد إلا حمار . وقالت عائشة رضي الله عنها : من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } . وقيل : نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة { وَمَا يَشْعُرُونَ } وما يعلمون { أَيَّانَ } متى { يُبْعَثُونَ } ينشرون
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
{ بَلِ ادرك } { أدرك } مكي وبصري ويزيد والمفضل أي انتهى وتكامل من أدركت الفاكهة تكاملت نضجاً { بَلِ ادارك } عن الأعشى افتعل . { بَلِ ادّارك } غيرهم استحكم وأصله تدارك فأدغمت التاء في الدال وزيد ألف الوصل ليمكن التكلم بها { عِلْمُهُمْ فِى الآخرة } أي في شأن الآخرة ومعناها ، والمعنى أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون وذلك قوله { بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ } والإضرابات الثلاث تنزيل لأحوالهم وتكرير لجهلهم ، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة ، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى . وقد جعل الآخرة مبتدأ عماهم ومنشأة فلذا عداه ب «من» دون «عن» لأن الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي منعهم عن التدبر والتفكر . ووجه ملاءمة مضمون هذه الآية وهو وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة بما قبله وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب وأن العباد لا علم لهم بشيء منه ، أنه لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب وكان هذا بياناً لعجزهم ووصفاً لقصور علمهم ، وصل به أن عندهم عجزاً أبلغ منه وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد من كونه وهو وقت جزاء أعمالهم لا يكون مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به . وجاز أن يكون وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكماً بهم كما تقول لأجهل الناس «ما أعلمك» على سبيل الهزؤ وذلك حيث شكوا عموا عن إثباته الذي الطريق إلى علمه مسلوك فضلاً أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته ، ويجوز أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني من قولك «أدركت الثمرة» لأن تلك غايتها التي عندها تعدم ، وقد فسرها الحسن بإضمحل علمهم في الآخرة . وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ أَءذَا كُنَّا تُرَاباً وَءابَاؤُنَا أَءنَّا لَمُخْرَجُونَ } من قبورنا أحياء وتكرير حرف الاستفهام في { أءذا } و { أءنا } في قراءة عاصم وحمزة وخلف ، إنكار بعد إنكار وجحود عقيب جحود ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه . والعامل في { إذا } ما دل عليه { لمخرجون } وهو نخرج لأن اسم الفاعل والمفعول بعد همزة الاستفهام ، أو إن «أو لام الابتداء لا يعمل فيما قبله فكيف إذا اجتمعن»؟ والضمير في «إنا» لهم ولآبائهم لأن كونهم تراباً قد تناولهم وآباءهم لكنه غلبت الحكاية على الغائب ، و { آباؤنا } عطف على الضمير في { كنا } لأن المفعول جرى مجرى التوكيد { لَقَدْ وُعِدْنَا هذا } أي البعث { نَحْنُ وَءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ } من قبل محمد صلى الله عليه وسلم . قدم هنا { هذا } على { نحن وآباؤنا } وفي المؤمنون { نحن وآباؤنا } على { هذا } ليدل على أن المقصود بالذكر هو البعث هنا وثمة المبعوثون { إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين } ما هذا إلا أحاديثهم وأكاذيبهم { قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين } أي آخر أمر الكافرين . وفي ذكر الإجرام لطف بالمسلمين في ترك الجرائم كقوله تعالى : { فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ } [ الشمس : 15 ] وقوله { مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ } [ نوح : 25 ] { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } لأجل أنهم لم يتبعوك ولم يسلموا فيسلموا { وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ } في حرج صدر { مّمَّا يَمْكُرُونَ } من مكرهم وكيدهم لك فإن الله يعصمك من الناس . يقال ضاق الشيء ضيقاً بالفتح وهو قراءة غير ابن كثير وبالكسر وهو قراءته { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } أي وعد العذاب { إِن كُنتُمْ صادقين } أن العذاب نازل بالمكذب .
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
{ قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ } استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم عسى أن يكون ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو دنا لكم وأزف لكم ومعناه تبعكم ولحقكم ، وعسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر وجده فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ } أي إفضال { عَلَى الناس } بترك المعاجلة بالعذاب { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } أي أكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه ولا يشكرونه فيستعجلون العذاب بجهلهم { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ } تخفي { صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } يظهرون من القول فليس تأخير العذاب عنهم لخفاء حالهم ولكن له وقت مقدر ، أو أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقونه . وقرى { تكنّ } يقال كننت الشيء وأكننته إذا سترته وأخفيته { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السماء والأرض إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } سمى الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية ، والتاء فيهما كالتاء في العاقبة والعافية ونظائرهما الرمية والذبيحة والنطيحة في أنها أسماء غير صفات ، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة كالراوية كأنه قال : وما من شيء شديد الغيبوبة إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح المحفوظ . والمبين الظاهر البيّن لمن ينظر فيه من الملائكة .
{ إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل } أي يبين لهم { أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } فإنهم اختلفوا في المسيح فتحزبوا فيه أحزاباً ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضاً ، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا يريد اليهود والنصارى
وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
{ وَإِنَّهُ } وإن القرآن { لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ } لمن أنصف منهم وآمن أي من بني إسرائيل أو منهم ومن غيرهم { إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم } بين من آمن بالقرآن ومن كفر به { بِحُكْمِهِ } بعدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكماً ، أو بحكمته ويدل عليه قراءة من قرأ { بحكمه } جمع حكمة { وَهُوَ العزيز } فلا يرد قضاؤه { العليم } بمن يقضي له وبمن يقضي عليه أو العزيز في انتقامه من المبطلين العليم بالفصل بينهم وبين المحقين { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين { إِنَّكَ عَلَى الحق المبين } وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج وهو الدين الواضح الذي لا يتعلق به شك ، وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بالله وبنصرته { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم } لما كانوا لا يعون ما يسمعون ولا به ينتفعون ، شبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس ، وبالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون ، وبالعمي حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ويجعلهم هداة بصراء إلا الله تعالى . ثم أكد حال الصم بقوله { إذا ولوا مدبرين } لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن تولى عنه مدبراً كان أبعد عن إدراك صوته ، { ولا يسمع الصُّمُّ } مكي وكذا «في الروم» { وَمَا أَنتَ تَهْدِى العمى } وكذا في «الروم» : حمزة { إِنْ تُسْمعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بآياتنا } أي ما يجدي إسماعك إلا على الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته أي يصدقون بها { فَهُم مُّسْلِمُونَ } مخلصون من قوله { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ البقرة : 112 ] يعني جعله سالماً لله خالصاً له .
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
{ وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم } سمى معنى القول ومؤداه بالقول وهو ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب ، ووقوعه حصوله والمراد مشارفة الساعة وظهور أشراطها وحين لا تنفع التوبة { أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الأرض تُكَلّمُهُمْ } هي الجساسة ، في الحديث : طولها ستون ذراعاً لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ، ولها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان . وقيل : لها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن أيّل وعنق نعامة وصدر أسد ولون نمر وخاصرة هرة وذنب كبش وخف بعير ، وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية فتقول { أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } أي لا يوقنون بخروجي لأن خروجها من الآيات وتقول : ألا لعنة الله على الظالمين . أو تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام ، أو بأن هذا مؤمن وهذا كافر . وفتح { أن } كوفي وسهل على حذف الجار أي تكلمهم بأن ، وغيرهم كسروا لأن الكلام بمعنى القول ، أو بإضمار القول أي تقول الدابة ذلك ويكون المعنى بآيات ربنا أو حكاية لقول الله تعالى عند ذلك . ثم ذكر قيام الساعة فقال { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً } «من» للتبعيض أي واذكر يوم نجمع من كل أمة من الأمم زمرة { مّمَّن يُكَذّبُ } «من» للتبيين { بئاياتنا } المنزلة على أنبيائنا { فَهُمْ يُوزَعُونَ } يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يساقون إلى موضع الحساب وهذه عبارة عن كثرة العدد ، وكذا الفوج عبارة عن الجماعة الكثيرة { حتى إِذَا جَآءُو } حضروا موقف الحساب والسؤال { قَالَ } لهم تعالى تهديداً { أكذبتم بآياتي } المنزلة على رسلي { وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً } الواو للحال كأنه قال : أكذبتم بآياتي بادىء الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب { أَمَّاذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } حيث لم تتفكروا فيها فإنكم لم تخلقوا عبثاً
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
{ وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ } أي يغشاهم العذاب الموعود بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار كقوله : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } [ المرسلات : 35 ]
{ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً } حال ، جعل الإبصار للنهار وهو لأهله والتقابل مراعى من حيث المعنى لأن معنى { مبصراً } ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يصدقون فيعتبرون ، وفيه دليل على صحة البعث لأن معناه ألم يعلموا أنا جعلنا الليل والنهار قواماً لمعاشهم في الدنيا ليعلموا أن ذلك لم يجعل عبثاً بل محنة وابتلاء ولا بد عند ذلك من ثواب وعقاب فإذا لكم يكونا في هذه الدار فلا بد من دار أخرى للثواب والعقاب { وَيَوْمَ } واذكر يوم { يُنفَخُ فِى الصور } وهو قرن أو جمع صورة والنافخ إسرافيل عليه السلام { فَفَزِعَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض } اختير «فزع» على «يفزع» للإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة ، والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون { إِلاَّ مَن شَاء الله } إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة قالوا : هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام لأنه صعق مرة ، ومثله { وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله } ) الزمر : 68 ) { وَكُلٌّ أَتَوْهُ } حمزة وحفص وخلف ، { اتوه } غيرهم وأصله «آتيوه» { داخرين } حال أي صاغرين ومعنى الإتيان حضورهم الموقف ورجوعهم إلى أمره تعالى وانقيادهم له .
{ وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا } بفتح السين : شامي وحمزة ويزيد وعاصم ، وبكسرها : غيرهم حال من المخاطب { جَامِدَةً } واقفة ممسكة عن الحركة من جمد في مكانه إذا لم يبرح { وَهِىَ تَمُرُّ } حال من الضمير المنصوب في { تحسبها } { مَرَّ السحاب } أي مثل مر السحاب والمعنى أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة في مكان واحد لعظمها وهي تسير سيراً سريعاً كالسحاب إذا ضربته الريح ، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها كما قال النابغة في صفة جيش
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... وقوف الحاج والركاب تهملج
{ صُنْعَ الله } مصدر عمل فيه ما دل عليه { تمر } لأن مرورها كمر السحاب من صنع الله فكأنه قيل : صنع الله ذلك صنعاً وذكر اسم الله لأنه لم يذكر قبل { الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء } أي أحكم خلقه { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } { يفعلون } مكي وبصري غير سهل وأبو بكر غير يحي ، وغيرهم بالتاء أي أنه عالم بما يفعل العباد فيكافئهم على حسب ذلك .
ثم لخص ذلك بقوله
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
{ مَن جَاء بالحسنة } أي بقول لا إله إلا الله عند الجمهور { فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } أي فله خير حاصل من جهتها وهو الجنة ، وعلى هذا لا يكون { خير } بمعنى أفضل ويكون { منها } في موضع رفع صفة ل { خير } أي بسببها { وَهُمْ مّن فَزَعٍ } كوفي أي من فزع شديد مفرط الشدة وهو خوف النار أو من فزع ما وإن قل ، وبغير تنوين غيرهم { يَوْمَئِذٍ } كوفي ومدني ، وبكسر الميم غيرهم والمراد يوم القيامة { ءامِنُونَ } «أمن» يعدى بالجار وبنفسه كقوله { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله } [ الأعراف : 99 ] { وَمَن جَاء بالسيئة } بالشرك { فَكُبَّتْ } ألقيت { وُجُوهُهْم فِى النار } يقال كببت الرجل ألقيته على وجهه أي ألقوا على رؤوسهم في النار ، أو عبر عن الجملة بالوجه كما يعبر بالرأس والرقبة عنها أي ألقوا في النار ويقال لهم تبكيتاً عند الكب { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا من الشرك والمعاصي
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
{ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة } مكة { الذى حَرَّمَهَا } جعلها حرماً آمناً يأمن فيها اللاجيء إليها ولا يختلي خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها { وَلَهُ كُلُّ شَىء } مع هذه البلدة فهو مالك الدنيا والآخرة { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } المنقادين له .
{ وَأَنْ أَتلُوَا القرءان } من التلاوة أو من التلو كقوله : { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ } [ الأحزاب : 2 ] أمر رسوله بأن يقول أمرت أن أخص الله وحده بالعبادة ولا اتخذ له شريكاً كما فعلت قريش ، وأن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام ، وأن أتلو القرآن لأعرف الحلال والحرام وما يقتضيه الإسلام . وخص مكة من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأعظمها عنده وأشار إليها بقوله { هذه } إشارة تعظيم لها وتقريب دالاً على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه ، ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما { فَمَنُ اهتدى } باتباعه إياي فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفي الشركاء عنه والدخول في الملة الحنيفية واتباع ما أنزل عليّ من الوحي { فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ } فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إليّ { وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين } أي ومن ضل ولم يتبعني فلا عليّ وما أنا إلا رسول منذر { وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } ( العنكبوت ) { وَقُلِ الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ ءاياته فَتَعْرِفُونَهَا } ثم أمره أن يحمد الله على ما خوّله من نعمة النبوة التي لا توازيها نعمة ، وأن يهدد أعداءه بما سيريهم الله من آياته في الآخرة فيستيقنون بها . وقيل : هو انشقاق القمر والدخان وما حل بهم من نقمات الله في الدنيا { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } بالتاء مدني وشامي وحفص ويعقوب خطاب لأهل مكة ، وبالياء غيرهم أي كل عمل يعملونه فإن الله عالم به غير غافل عنه فالغفلة والسهو لا يجوزان عليه .
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
مكية وهي ثمان وثمانون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ طسم تِلْكَ ءايَاتُ الكتاب المبين } يقال بان الشيء وأبان بمعنى واحد ، ويقال أبنته فأبان لازم ومتعدٍ أي مبين خيره وبركته أو مبين للحلال والحرام والوعد والوعيد والإخلاص والتوحيد { نَتْلُواْ عَلَيْكَ } نقرأ عليك أي يقرؤه جبريل بأمرنا ومفعول { نتلو } { مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ } أي نتلو عليك بعض خبرهما { بالحق } حال أي محقين { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } لمن سبق في علمنا أنه مؤمن لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم { إِنَّ فِرْعَوْنَ } جملة مستأنفة كالتفسير للجمل كأن قائلاً قال : وكيف كان نبؤهما؟ فقال : إن فرعون { عَلاَ } طغى وجاوز الحد في الظلم واستكبر وافتخر بنفسه ونسي العبودية { فِى الأرض } أي أرض مملكته يعني مصر { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } فرقاً يشيعونه على ما يريد ويطيعونه . لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه أو فرقاً مختلفة يكرم طائفة ويهين أخرى فأكرم القبطي وأهان الإسرائيلي { يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ } هم بنو إسرائيل { يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ } أي يترك البنات أحياء للخدمة ، وسبب ذبح الأبناء أن كاهناً قال له : يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده . وفيه دليل على حمق فرعون فإنه إن صدق الكاهن لم ينفعه القتل ، وإن كذب فما معنى القتل . ويستضعف حال من الضمير في { وجعل } أو صفة ل { شيعاً } أو كلام مستأنف و { يذبح } بدل من { يستضعف } { إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين } أي إن القتل ظلماً إنما هو فعل المفسدين إذ لا طائل تحته صدق الكاهن أو كذب .
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
{ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ } نتفضل وهو دليل لنا في مسألة الأصلح ، وهذه الجملة معطوفة على { إن فرعون علا في الأرض } لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيراً لنبأ موسى وفرعون واقتصاصاً له ، أو حال من { يستضعف } أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم وإرادة الله تعالى كائنة فجعلت كالمقارنة لاستضعافهم { عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } قادة يقتدى بهم في الخير أو قادة إلى الخير أو ولاة وملوكاً { وَنَجْعَلَهُمْ الوارثين } أي يرثون فرعون وقومه ملكهم وكل ما كان لهم { وَنُمَكّنَ } مكن له إذا جعل له مكاناً يقعد عليه أو يرقد ، ومعنى التمكين { لَهُمْ فِى الأرض } أي أرض مصر والشام أن يجعلها بحيث لا تنبو بهم ويسلطهم وينفذ أمرهم { وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا } بضم النون ونصب فرعون وما بعده ، وبالياء ورفع فرعون وما بعده : علي وحمزة أي يرون منهم ما حذروه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم ، { ويرى } نصب عطف على المنصوب قبله كقراءة النون أو رفع على الاستئناف { مِنْهُمْ } من بني إسرائيل ويتعلق ب { نري } دون { يحذرون } لأن الصلة لا تتقدم على الموصول { مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } الحذر : التوقي من الضرر .
{ وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى } بالإلهام أو بالرؤيا أو بإخبار ملك كما كان لمريم ، وليس هذا وحي رسالة ولا تكون هي رسولاً { أَنْ أَرْضِعِيهِ } «أن» بمعنى أي أو مصدرية { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } من القتل بأن يسمع الجيران صوته فينمو عليه { فَأَلْقِيهِ فِى اليم } البحر ، قيل : هو نيل مصر { وَلاَ تَخَافِى } من الغرق والضياع { وَلاَ تَحْزَنِى } بفراقه { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } بوجه لطيف لتربيته { وجاعلوه مِنَ المرسلين } وفي هذه الآية أمران ونهيان وخبران وبشارتان . والفرق بين الخوف والحزن أن الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع ، والحزن غم يلحقه لواقع وهو فراقه والإخطار به فنهيت عنهما وبشرت برده إليها وجعله من المرسلين . ورُوي أنه ذبح في طلب موسى تسعون ألف وليد . ورُوي أنها حين ضربها الطلق وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها فعالجتها فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه ودخل حبه قلبها فقالت : ما جئتك إلا لأقتل مولودك وأخبر فرعون ولكن وجدت لابنك حباً ما وجدت مثله فاحفظيه ، فلما خرجت القابلة جاءت عيون فرعون فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها فطلبوا فلم يلقوا شيئاً فخرجوا وهي لا تدري مكانه فسمعت بكاءه من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار برداً وسلاماً ، فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحي إليها بإلقائه في اليم فألقته في اليم بعد أن أرضعته ثلاثة أشهر
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
{ فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ } أخذه ، قال الزجاج : كان فرعون من أهل فارس من اصطخر { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } أي ليصير الأمر إلى ذلك لا أنهم أخذوه لهذا كقولهم للموت ما تلده الوالدة وهي لم تلد لأن يموت ولدها ولكن المصير إلى ذلك كذا قاله الزجاج . وعن هذا قال المفسرون : إن هذه لام العاقبة والصيرورة . وقال صاحب الكشاف : هي لام كي التي معناها التعليل كقولك «جئتك لتكرمني» ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز لأن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء { وَحَزَناً } { وحُزناً } علي وحمزة وهما لغتان كالعدم والعدم { إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين } { خاطين } تخفيف خاطئين : أبو جعفر أي كانوا مذنبين فعاقبهم الله بأن ربى عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم ، أو كانوا خاطئين في كل شيء فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم .
{ وَقَالَتِ امرأت فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ } روي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه فعالجوا كسره فأعياهم فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نوراً فعالجته ففتحه فإذا بصبي نوره بين عينيه فأحبوه وكانت لفرعون بنت برصاء فنظرت إلى وجهه فبرئت ، فقالت الغواة من قومه : هو الذي نحذر منه فأذن لنا في قتله ، فهمّ بذلك فقالت آسية : قرة عين لي ولك . فقال فرعون : لك ، لا لي . وفي الحديث " لو قال كما قالت لهداه الله تعالى كما هداها " وهذا على سبيل الفرض أي لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها وكان أسلم كما أسلمت . و { قرة } خبر مبتدأ محذوف أي هو قرة و { لي ولك } صفتان لقرة { لاَ تَقْتُلُوهُ } خاطبته خطاب الملوك أو خاطبت الغواة { عسى أَن يَنفَعَنَا } فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وذلك لما عاينت من النور وبرء البرصاء { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } أو نتبناه فإنه أهل لأن يكون ولداً للملوك { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حال ، وذو حالها آل فرعون وتقدير الكلام : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ، وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه . وقوله { إن فرعون } الآية جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم ، وما أحسن نظم هذا الكلام عند أصحاب المعاني والبيان .
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
{ وَأَصْبَحَ } وصار { فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً } صفراً من العقل لما دهمها من فرط الجزع لما سمعت بوقوعه في يد فرعون { إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ } لتظهر به والضمير لموسى والمراد بأمره وقصته وأنه ولدها . قيل : لما رأت الأمواج تلعب بالتابوت كادت تصيح وتقول : وا ابناه . وقيل : لما سمعت أن فرعون أخذ التابوت لم تشك أنه يقتله فكادت تقول : وا ابناه شفقة عليه . و «إن» مخففة من الثقيلة أي إنها كادت { لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } لولا ربطنا على قلبها والربط على القلب تقويته بإلهام الصبر { لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين } من المصدقين بوعدنا وهو { إنا رادوه إليك } وجواب «لولا» محذوف أي لأبدته أو فارغاً من الهم حين سمعت أن فرعون تبناه إن كادت لتبدي بأنه ولدها لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً بما سمعت لولا أنا طمأنا قلبها وسكنا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لابتبني فرعون . قال يوسف بن الحسين : أمرت أم موسى بشيئين ونهيت عن شيئين وبشرت ببشارتين فلم ينفعها الكل حتى تولى الله حياطتها فربط على قلبها
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
{ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ } مريم { قُصّيهِ } اتبعي أثره لتعلمي خبره { فَبَصُرَتْ بِهِ } أي أبصرته { عَن جُنُبٍ } عن بعد حال من الضمير في { به } أو من الضمير في { بصرت } { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنها أخته { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع } تحريم منع لا تحريم شرع أي منعناه أن يرضع ثدياً غير ثدي أمه وكان لا يقبل ثدي مرضع حتى أهمهم ذلك . والمراضع جمع مرضع وهي المرأة التي ترضع أو جمع مرضع وهو موضع الرضاع وهو الثدي أو الرضاع { مِن قَبْلُ } من قبل قصها أثره أو من قبل أن نرده على أمه { فَقَالَتْ } أخته وقد دخلت بين المراضع ورأته لا يقبل ثدياً { هَلْ أَدُلُّكُمْ } أرشدكم { على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ } أي موسى { لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصحون } النصح إخلاص العمل من شائبة الفساد .
رُوي أنها لما قالت { وهم له ناصحون } قال هامان : إنها لتعرفه وتعرف أهله فخذوها حتى تخبر بقصة هذا الغلام ، فقالت : إنما أردت وهم للملك ناصحون . فانطلقت إلى أمها بأمرهم فجاءت بها والصبي على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع ، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها ، فقال لها فرعون : ومن أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني ، فدفعه إليها وأجرى عليها وذهبت به إلى بيتها وأنجز الله وعده في الرد فعندها ثبت واستقر في علمها أنه سيكون نبياً وذلك قوله :
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
{ فرددناه إلى أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } بالمقام معه { وَلاَ تَحْزَنْ } بفراقه { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي وليثبت علمها مشاهدة كما علمت خبراً . وقوله { ولا تحزن } معطوف على { تقر } وإنما حل لها ما تأخذه من الدينار كل يوم كما قال السدي لأنه مال حربي لا أنه أجرة على إرضاع ولدها { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } هو داخل تحت علمها أي لتعلم أن وعد الله حق ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون انه حق فيرتابون ، ويشبه التعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى فجزعت .
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } بلغ موسى نهاية القوة وتمام العقل وهو جمع شدة كنعمة وأنعم عند سيبويه { واستوى } واعتدل وتم استحكامه وهو أربعون سنة . ويروى أنه : « " لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة " { آتَيْنَاهُ حُكْمًا } نبوة { وَعِلْماً } فقهاً أو علماً بمصالح الدارين { وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } أي كما فعلنا بموسى وأمه نفعل بالمؤمنين . قال الزجاج : جعل الله تعالى إيتاء العلم والحكمة مجازاة على الإحسان لأنهما يؤديان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين ، والعالم الحكيم من يعمل بعلمه لأنه تعالى قال : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 102 ] فجعلهم جهالاً إذ لم يعملوا بالعلم { وَدَخَلَ المدينة } أي مصر { على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا } حال من الفاعل أي مختفياً وهو ما بين العشاءين أو وقت القائلة يعني انتصاف النهار . وقيل : لما شب وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم فأخافوه فلا يدخل المدينة إلا على تغفل { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ } ممن شايعه على دينه من بني إسرائيل . قيل : هو السامري ، وشيعة الرجل : أتباعه وأنصاره { وهذا مِنْ عَدُوّهِ } من مخالفيه من القبط وهو قانون ، وقيل : فيهما هذا وهذا وإن كانا غائبين على جهة الحكاية أي إذا نظر إليهما الناظر قال : هذا من شيعته وهذا من عدوه { فاستغاثه } فاستنصره { الذى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذى مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ موسى } ضربه بجمع كفه أو بأطراف أصابعه { فقضى عَلَيْهِ } فقتله { قَالَ هذا } إشارة إلى القتل الحاصل بغير قصد { مِنْ عَمَلِ الشيطان } وإنما جعل قتل الكافر من عمل الشيطان وسماه ظلماً لنفسه واستغفر منه لأنه كان مستأمناً فيهم ولا يحل قتل الكافر الحربي المستأمن ، أو لأنه قتله قبل أن يؤذن له في القتل ، وعن ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
{ قَالَ رَبّ } يا رب { إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى } بفعل صار قتلاً { فاغفر لِى } زلتي { فَغَفَرَ لَهُ } زلته { إِنَّهُ هُوَ الغفور } بإقالة الزلل { الرحيم } بإزالة الخجل { قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً } معيناً { لّلْمُجْرِمِينَ } للكافرين و { بما أنعمت } على قسم جوابه محذوف تقديره أقسم بإنعامك علي بالمغفرة لأتوبن فلن أكون ظهيراً للمجرمين ، أو استعطاف كأنه قال : رب اعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيراً للمجرمين ، وأراد بمظاهرة المجرمين صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد .
{ فَأَصْبَحَ فِى المدينة خَائِفاً } على نفسه من قتله القبطي أن يؤخذ به { يَتَرَقَّبُ } حال أي يتوقع المكروه وهو الاستقادة منه أو الأخبار أو ما يقال فيه ، وقال ابن عطاء : خائفاً على نفسه يترقب نصرة ربه . وفيه دليل على أنه لا بأس بالخوف من دون الله بخلاف ما يقوله بعض الناس أنه لا يسوغ الخوف من دون الله { فَإِذَا الذى } { إذا } للمفاجأة وما بعدها مبتدأ { استنصره } أي موسى { بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ } يستغيثه والمعنى أن الإسرائيلي الذي خلصه موسى استغاث به ثانياً من قبطي آخر { قَالَ لَهُ موسى } أي للإسرائيلي { إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ } أي ضال عن الرشد ظاهر الغي فقد قاتلت بالأمس رجلاً فقتلته بسببك ، والرشد في التدبير أن لا يفعل فعلاً يفضي إلى البلاء على نفسه وعلى من يريد نصرته .
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
{ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ } موسى { أَن يَبْطِشَ بالذى } بالقبطي الذي { هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا } لموسى والإسرائيلي لأنه ليس على دينهما ، أو لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل { قَالَ } الإسرائيلي لموسى عليه السلام وقد توهم أنه أراد أخذه لا أخد القبطي إذ قال له { إنك لغوي مبين } { ياموسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً } يعني القبطي { بالأمس إِن تُرِيدُ } ما تريد { إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً } أي قتالاً بالغضب { فِى الأرض } أرض مصر { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين } في كظم الغيظ ، وكان قتل القبطي بالأمس قد شاع ولكن خفي قاتله ، فلما أفشى على موسى عليه السلام علم القبطي أن قاتله موسى فأخبر فرعون فهموا بقتله .
{ وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَا المدينة } هو مؤمن آل فرعون وكان ابن عم فرعون { يسعى } صفة لرجل أو حال من رجل لأنه وصف بقوله { من أقصى المدينة } { قَالَ يَا موسى أَنِ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } أي يأمر بعضهم بعضاً بقتلك أو يتشاورون بسببك ، والائتمار : التشاور . يقال الرجلان يتآمران ويأتمران لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر { فاخرج } من المدينة { إِنّى لَكَ مِنَ الناصحين } { لك } بيان وليس بصلة { الناصحين } لأن الصلة لا تتقدم على الموصول كأنه قال : إني من الناصحين ، ثم أراد أن يبين فقال : لك كما يقال سقياً لك ومرحباً لك { فَخَرَجَ } موسى { مِنْهَا } من المدينة { خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } التعرض له في الطريق أو أن يلحقه من يقتله { قَالَ رَبّ نَجّنِى مِنَ القوم الظالمين } أي قوم فرعون .
{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ } نحوها ، والتوجه الإقبال على الشيء ، ومدين قرية شعيب عليه السلام سميت بمدين بن إبراهيم ولم تكن في سلطان فرعون ، وبينما وبين مصر مسيرة ثمانية أيام . قال ابن عباس رضي الله عنهما : خرج ولم يكن له علم بالطريق إلا حسن الظن بربه { قَالَ عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل } أي وسطه ومعظم نهجه فجاءه ملك فانطلق به إلى مدين
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
{ وَلَمَّا وَرَدَ } وصل { مَاء مَدْيَنَ } ماءهم الذي يسقون منه وكان بئراً { وَجَدَ عَلَيْهِ } على جانب البئر { أُمَّةً } جماعة كثيرة { مِنَ الناس } من أناس مختلفين { يُسْقَوْنَ } مواشيهم { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } في مكان أسفل من مكانهم { امرأتين تَذُودَانِ } تطردان غنمهما عن الماء لأن على الماء من هو أقوى منهما فلا تتمكنان من السقي أو لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ، والذود الطرد والدفع { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } ما شأنكما وحقيقته ما مخطوبكما أي ما مطلوبكما من الذياد فسمي المخطوب خطباً { قَالَتَا لاَ نَسْقِى } غنمنا { حتى يُصْدِرَ الرعاء } مواشيهم { يصدر } شامي ويزيد وأبو عمرو أي يرجع والرعاء جمع راعٍ كقائم وقيام { وَأَبُونَا شَيْخٌ } لا يمكنه سقي الأغنام { كَبِيرٌ } في حاله أو في السن لا يقدر على رعي الغنم ، أبدتا إليه عذرهما في توليهما السقي بأنفسهما .
{ فسقى لَهُمَا } فسقى غنمهما لأجلهما رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف . روي أنه نحى القوم عن رأس البئر وسألهم دلواً فأعطوه دلوهم وقالوا : استق بها وكانت لا ينزعها إلا أربعون فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا بالبركة . وترك المفعول في { يسقون } و { تذودان } و { لا نسقي } و { فسقى } لأن الغرض هو الفعل لا المعفول ، ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي ، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلاً ، وكذا في { لا نسقي } و { فسقى } فالمقصود هو السقي لا المسقى . ووجه مطابقة جوابها سؤاله أنه سألهما عن سبب الذود فقالتا : السبب في ذلك أنا امرأتان مستورتان ضعيفتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ونستحي من الاختلاط بهم فلا بدلنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا . وإنما رضي شعيب عليه السلام لابنتيه بسقي الماشية لأن هذا الأمر في نفسه ليس بمحظور والدين لا يأباه ، وأما المروءة فعادات الناس في ذلك متباينة وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصاً إذا كانت الحالة حالة ضرورة .
{ ثُمَّ تولى إِلَى الظل } أي ظل سمرة ، وفيه دليل جواز الاستراحة في الدنيا بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة ولما طال البلاء عليه أنس بالشكوى إذ لا نقص في الشكوى إلى المولى { فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا } لأي شيء { أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ } قليل أو كثير غثٍ أو سمين { فَقِيرٌ } محتاج ، وعدي { فقير } باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب . قيل : كان لم يذق طعاماً سبعة أيام وقد لصق بظهره بطنه . ويحتمل أن يريد أني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير الدارين وهو النجاة من الظالمين لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة ، قال ذلك رضاً بالبدل السني وفرحاً به وشكراً له . وقال ابن عطاء : نظر من العبودية إلى الربوبية وتكلم بلسان الافتقار لما ورد على سره من الأنوار
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
{ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحياء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } على استحياء في موضع الحال أي مستحية ، وهذا دليل كمال إيمانها وشرف عنصرها لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها ولم تعلم أيجيبها أم لا ، فأتته مستحية قد استترت بكم درعها ، و «ما» في { ما سقيت } مصدرية أي جزاء سقيك . روي أنهما ما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفّل قال لهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا . فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي فتبعها موسى عليه السلام فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق { فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص } أي قصته وأحواله مع فرعون ، والقصص مصدر كالعلل سمي به المقصوص { قَالَ } له { لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } إذ لا سلطان لفرعون بأرضنا ، وفيه دليل جواز العمل بخبر الواحد ولو عبداً أو أنثى والمشي مع الأجنبية مع ذلك الاحتياط والتورع . وأما أخذ الأجر على البر والمعروف فقيل : إنه لا بأس به عند الحاجة كما كان لموسى عليه السلام ، على أنه روي أنها لما قالت { ليجزيك } كره ذلك وإنما أجابها لئلا يخيب قصدها لأن للقاصد حرمة . ولما وضع شعيب الطعام بين يديه امتنع فقال شعيب : ألست جائعاً؟ قال : بلى ولكن أخاف أن يكون عوضاً مما سقيت لهما وإنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا ولا نأخذ على المعروف ثمناً . فقال شعيب عليه السلام : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا فأكل .
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استجره } اتخذه أجيراً لرعي الغنم . رُوي أن كبراهما كانت تسمى صفراء والصغرى صفيراء ، وصفراء هي التي ذهبت به وطلبت إلى أبيها أن يستأجره وهي التي تزوجها { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوى الأمين } فقال : وما علمك بقوته وأمانته؟ فذكرت نزع الدلو وأمرها بالمشي خلفه . وورد الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أن أمانته وقوته أمران متحققان . وقولها { إن خير من استأجرت القوي الأمين } كلام جامع لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك ، وقيل : القوي في دينه الأمين في جوارحه . وقد استغنت بهذا لكلام الجاري مجرى المثل عن أن تقول استأجره لقوته وأمانته . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاث : بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله { عسى أَن يَنفَعَنَا } [ يوسف : 21 ] { قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ } أزوجك { إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ } قوله { هاتين } يدل على أنه كان له غيرها وهذه مواعدة منه ولم يكن ذلك عقد نكاح إذ لو كان عقداً لقال قد أنكحتك { على أَن تَأْجُرَنِى } تكون أجيراً لي من أجرته إذا كنت له أجيراً { ثَمَانِىَ حِجَجٍ } ظرف والحجة السنة وجمعها حجج والتزوج على رعي الغنم جائز بالإجماع لأنه من باب القيام بأمر الزوجية فلا مناقضة بخلاف التزوج على الخدمة { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً } أي عمل عشر حجج { فَمِنْ عِندِكَ } فذلك تفضل منك ليس بواجبة عليك ، أو فإتمامه من عندك ولا أحتمه عليك ولكنك إن فعلته فهو منك تفضل وتبرع { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } بإلزام أتم الأجلين ، وحقيقة قولهم : شققت عليه وشق عليه الأمر أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين تقول تارة أطيقه وطوراً لا أطيقه { سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين } في حسن المعاملة والوفاء بالعهد ، ويجوز أن يراد الصلاح على العموم ويدخل تحته حسن المعاملة . والمراد باشتراطه مشيئة الله فيما وعد من الصلاح الاتكال على توفيقه فيه ومعونته لأنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ذلك
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
{ قَالَ } موسى { ذلك } مبتدأ وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب والخبر { بَيْنِى وَبَيْنَكَ } يعني ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم بيننا جميعاً لا يخرج كلانا عنه ، لا أنا فيما شرطت علي ولا أنت فيما شرطت على نفسك . ثم قال { أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ } أي أي أجل قضيت من الأجلين يعني العشرة أو الثمانية . و { أي } نصب ب { قضيت } و «ما» زائدة ومؤكدة لإبهام { أي } وهي شرطية وجوابها { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ } أي لا يعتدى علي في طلب الزيادة عليه ، قال المبرد : قد علم أنه لا عدوان عليه في أيهما ولكن جمعهما ليجعل الأقل كالأتم في الوفاء ، وكما أن طلب الزيادة على الأتم عدوان فكذا طلب الزيادة على الأقل { والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } هو من وكل إليه الأمر ، وعدي ب «على» لأنه استعمل في موضع الشاهد والرقيب .
رُوي أن شعيباً كانت عنده عصيّ الأنبياء عليهم السلام فقال لموسى بالليل : أدخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ، ولم يزل الأنبياء عليهم السلام يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفاً فضن بها فقال : خذ غيرهما فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأناً . ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أن فيها تنيناً أخشاه عليك وعلى الغنم ، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا التنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية ، فلما أبصرها دامية والتنين مقتولاً ارتاح لذلك . ولما رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأناً وقال له : إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع ودرعاء فأوحي إليه في المنام أن أضرب بعصاك مستقى الغنم ففعل ثم سقى فوضعت كلهن أدرع ودرعاء فوفى له بشرطه .
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
{ فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } قال عليه السلام " قضى أوفاهما وتزوج صغراهما " وهذا بخلاف الرواية التي مرت { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } بامرأته نحو مصر . قال ابن عطاء : لما تم أجل المحنة ودنا أيام الزلفة وظهرت أنوار النبوة سار بأهله ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه { ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إِنّى ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِي ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ } عن الطريق لأنه قد ضل الطريق { أَوْ جَذْوَةٍ مّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أتاها نُودِىَ مِن شَاطِىء الواد الأيمن } بالنسبة إلى موسى { فِى البقعة المباركة } بتكليم الله تعالى فيها { مِنَ الشجرة } العناب أو العوسج { أَن يا موسى } «أن» مفسرة أو مخففة من الثقيلة { إِنّى أَنَا الله رَبُّ العالمين } قال جعفر : أبصر ناراً دلته على الأنوار لأنه رأى النور في هيئة النار ، فلما دنا منها شملته أنوار القدس وأحاطت به جلابيب الأنس فخوطب بألطف خطاب واستدعى منه أحسن جواب فصار بذلك مكلماً شريفاً أعطى ما سأل وأمن مما خاف ، والجذوة باللغات الثلاث وقريء بهن ، فعاصم بفتح الجيم ، وحمزة وخلف بضمها ، وغيرهم بكسرها . العود الغليظ كانت في رأسه نار أو لم تكن ، و «من» الأولى والثانية لابتداء الغاية أي أتاه النداء من شاطيء الوادي من قبل الشجرة . و { من الشجرة } بدل { من شاطىء الواد } بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء أي الجانب
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
{ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } ونودي أن ألق عصاك فألقاها فقلبها الله ثعباناً { فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ } تتحرك { كَأَنَّهَا جَانٌّ } حية في سعيها وهي ثعبان في جثتها { ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ } يرجع فقيل له { ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين } أي أمنت من أن ينالك مكروه من الحية { اسلك } أدخل { يَدَكَ فِى جَيْبِكَ } جيب قميصك { تَخْرُجْ بَيْضَاء } لها شعاع كشعاع الشمس { مِنْ غَيْرِ سُوء } برص .
{ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } حجازي بفتحتين وبصري . { الرَّهب } حفص { الرُّهب } غيرهم ومعنى الكل الخوف والمعنى : واضمم يدك إلى صدرك يذهب ما بك من فرق أي لأجل الحية . عن ابن عباس رضي الله عنهما : كل خائف إذا وضع يده على صدره زال خوفه . وقيل : معنى ضم الجناح أن الله تعالى لما قلب العصا حية فزع موسى واتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له : إن اتقاءك بيدك غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار معجزة أخرى . والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر ، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه ، أو أريد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران . ومعنى { من الرهب } من أجل الرهب أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك ، جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه . ومعنى { واضمم إليك جناحك } و { اسلك يدك في جيبك } على أحد التفسيرين واحد ولكن خولف بين العبارتين لاختلاف الغرضين إذ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء ، وفي الثاني إخفاء الرهب . ومعنى { واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } [ طه : 22 ] في «طه» أدخل يمناك تحت يسراك { فَذَانِكَ } مخففاً مثنى «ذاك» ومشدداً : مكي وأبو عمرو مثنى ذلك فإحدى النونين عوض من اللام المحذوفة والمراد اليد والعصا { برهانان } حجتان نيرتان بينتان وسميت الحجة برهاناً لإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة { مِن رَّبّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإيهِ } أي أرسلناك إلى فرعون وملئه بهاتين الآيتين { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } كافرين .
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
{ قَالَ رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } به بغير يا ء وبالياء : يعقوب { وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ } حفص { رِدْءاً } حال أي عونا يقال ردأته أعنته ، وبلا همز : مدني { يُصَدّقُنِى } عاصم وحمزة صفة أي ردأ مصدقاً لي ، وغيرهما بالجزم جواب ل { أرسله } ومعنى تصديقه موسى إعانته إياه بزيادة البيان في مظان الجدال إن احتاج إليه ليثبت دعواه لا أن يقول له صدقت ، ألا ترى إلى قوله { هو أفصح مني لساناً فأرسله } وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لتقرير البرهان لا لقوله صدقت فسحبان وباقل فيه يستويان { إِنّى أَخَافُ أَنْ يُكَذّبُونِ } . { يكذبوني } في الحالين : يعقوب { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } سنقويك به إذ اليد تشد بشدة العضد لأنه قوام اليد والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا } غلبة وتسلطاً وهيبة في قلوب الأعداء { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا باياتنا } الباء تعلق ب { يصلون } أي لا يصلون إليكما بسبب آياتنا وتم الكلام ، أو ب { نجعل لكما سلطاناً } أي نسلطكما بآياتنا أو بمحذوف أي إذهبا بآياتنا ، أو هو بيان ل { الغالبون } لا صلة ، أو قسم جوابه { لا يصلون } مقدماً عليه { أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون }
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
واضحات { قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } أي سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله ، أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله { وَمَا سَمِعْنَا بهذا فِى ءابَائِنَا الأولين } حال منصوبة عن هذا أي كائناً في زمانهم يعني ما حدثنا بكونه فيهم { وَقَالَ موسى رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بالهدى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } أي ربي أعلم منكم بحال من أهله الله للفلاح الأعظم حيث جعله نبياً وبعثه بالهدى ووعده حسن العقبى يعني نفسه ، ولو كان كما تزعمون ساحراً مفترياً لما أهله لذلك لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ولا ينبيء الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون . وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة لقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار جنات عَدْنٍ } [ الرعد : 22 ] والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقي الملائكة بالبشرى والغفران . { قال موسى } بغير واو : مكي وهو حسن لأن الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم موسى عند تسميتهم مثل تلك الآيات العظام سحراً مفترى ، ووجه الأخرى أنهم قالوا ذلك وقال موسى هذا ليوازن الناظر بين القول والمقول ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر . ربي أعلم حجازي وأبو عمرو و { من يكون } حمزة وعلي .
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } قصد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده أي ما لكم من إله غيري أو هو على ظاهره وأن إلهاً غيره غير معلوم عنده { فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين } أي اطبخ لي الآجر واتخذه . وإنما لم يقل مكان الطين هذا لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلمه الصنعة بهذه العبارة ، ولأنه أفصح وأشبه بكلام الجبابرة إذ أمر هامان وهو وزيره بالإيقاد على الطين منادى باسمه ب «يا» في وسط الكلام دليل التعظيم والتجبر { فاجعل لّى صَرْحاً } قصراً عالياً { لَّعَلّي أَطَّلِعُ } أي أصعد والاطلاع الصعود { إلى إله موسى } حسب أنه تعالى في مكان كما كان هو في مكان { وَإِنّى لأظُنُّهُ } أي موسى { مِنَ الكاذبين } في دعواه أن له إلهاً وأنه أرسله إلينا رسولاً . وقد تناقض المخذول فإنه قال { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } ثم أظهر حاجته إلى هامان ، وأثبت لموسى إلهاً وأخبر أنه غير متيقن بكذبه وكأنه تحصن من عصا موسى عليه السلام فلبّس وقال { لعلى أطلع إلى إله موسى } روي أن هامان جمع خمسين ألف بناء وبنى صرحاً لم يبلغه بناء أحد من الخلق ، فضرب الصرح جبريل عليه السلام بجناحه فقطعه ثلاث قطع ، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل ، وقطعة في البحر ، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا هلك
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
{ واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ } تعظم { فِى الأرض } أرض مصر { بِغَيْرِ الحق } أي بالباطل ، فالاستكبار بالحق لله تعالى وهو المتكبر على الحقيقة أي المتبالغ في كبرياء الشأن كما حكى رسولنا عن ربه : { الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار } وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } { يَرجعون } نافع وحمزة وعلي وخلف ويعقوب { فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم } من الكلام المفخم الذي دل به على عظمة شأنه شبههم استقلالاً لعددهم وإن كانوا الجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ بكفه فطرحهن في البحر { فانظر } يا محمد { كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين } وحذر قومك فإنك منصور عليهم .
{ وجعلناهم أَئِمَّةً } قادة { يَدْعُونَ إِلَى النار } أي عمل أهل النار . قال ابن عطاء : نزع عن أسرارهم التوفيق وأنوار التحقيق فهم في ظلمات نفوسهم لا يدلون على سبيل الرشاد . وفيه دلالة خلق أفعال العباد { وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } من العذاب
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
{ وأتبعناهم فِى هَذِهِ لَعْنَةٍ } ألزمناهم طرداً وإبعاداً عن الرحمة . وقيل : هو ما يلحقهم من لعن الناس إياهم بعدهم { وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين } المطرودين المبعدين أو المهلكين المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون { ويوم } ظرف ل { المقبوحين } { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } التوراة { بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى } قوم نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام { بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } حال من { الكتاب } والبصيرة نور القلب الذي يبصر به الرشد والسعادة كما أن البصر نور العين الذي يبصر به الأجساد . يريد آتيناه التوراة أنواراً للقلوب لأنها كانت عمياء لا تستبصر ولا تعرف حقاً من باطل { وهدى } وإرشاداً لأنهم كانوا يخبطون في ضلال { وَرَحْمَةً } لمن اتبعها لأنهم إذا عملوا بها وصلوا إلى نيل الرحمة { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يتعظون .
{ وَمَا كُنْتَ } يا محمد { بِجَانِبِ } الجبل { الغربى } وهو المكان الواقع في شق الغرب وهو الذي وقع فيه ميقات موسى { إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر } أي كلمناه وقربناه نجياً { وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين } من جملة الشاهدين للوحي إليه حتى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى في ميقاته { وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا } بعد موسى { قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر } أي طالت أعمارهم وفترت النبوة وكادت الأخبار تخفى واندرست العلوم ووقع التحريف في كثير منها ، فأرسلناك مجدداً لتلك الأخبار مبيناً ما وقع فيه التحريف ، وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى كأنه قال : وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه ولكنا أوحيناه إليك ، فذكر سبب الوحي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب اختصاراً فإذا هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً } مقيماً { فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } وهم شعيب والمؤمنون به { تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا } تقرؤها عليهم تعلماً منهم يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه . و { تَتْلُو } في موضع نصب خبر ثانٍ أو حال من الضمير في { ثاويا } { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا } موسى أن خذ الكتاب بقوة { ولكن } أعلمناك وأرسلناك { رَحْمَةً } للرحمة { مّن رَّبِكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ } في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَلَوْ لاَ تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ } عقوبة { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من الكفر والظلم . ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي نسبت الأعمال إلى الأيدي وإن كانت من أعمال القلوب تغليباً للأكثر على الأقل عند العذاب { رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ ءاياتك وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } «لولا» الأولى امتناعية وجوابها محذوف ، والثانية تحضيضية ، والفاء الأولى للعطف والثانية جواب «لولا» لكونها في حكم الأمر إذ الأمر باعث على الفعل والباعث والمحضض من وادٍ واحد ، والفاء تدخل في جواب الأمر والمعنى : ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولاً محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم يعني أن إرسال الرسول إنما هو ليلزموا الحجة ولا يلزموها كقوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] فإن قلت : كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول «لولا» الامتناعية عليها دونه؟ قلت : القول هو المقصود بأن يكون سبباً للإرسال ولكن العقوبة لما كانت سبباً للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال فأدخلت عليها «لولا» وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية ، ويؤول معناه إلى قولك : ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا .
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
{ فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا } أي القرآن أو الرسول المصدق بالكتاب المعجز { قَالُواْ } أي كفار مكة { لَوْلا أُوتِىَ } هلا أعطي { مِثْلَ مَا أُوتِىَ موسى } من الكتاب المنزل جملة واحدة { أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ } يعني أبناء جنسهم ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم عنادهم وهم الكفرة في زمن موسى عليه السلام { بِمَا أُوتِىَ موسى مِن قَبْلُ } من قبل القرآن { قَالُواْ } في موسى وهارون { سِحْرانِ تَظَاهَرَا } { ساحران تظاهرا } تعاونا { سِحْرَانِ } كوفي أي ذوا سحر أو جعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر { وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلّ } بكل واحد منهما { كافرون } وقيل : إن أهل مكة كما كفروا بمحمد عليه السلام وبالقرآن فقد كفروا بموسى والتوراة وقالوا في موسى ومحمد . ساحران تظاهرا ، أو في التوراة والقرآن سحران تظاهرا ، وذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد فأخبروهم أنه في كتابهم فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود فقالوا عند ذلك : ساحران تظاهرا .
{ قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا } مما أنزل على موسى ومما أنزل على { أَتَّبِعْهُ } جواب { فأتوا } { إِن كُنتُمْ صادقين } في أنهما سحران { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ } فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم قد ألزموا ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله } أي لا أحد أضل ممن اتبع في الدين هواه و { بغير هدى } حال أي مخذولاً يخلى بينه وبين هواه { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين }
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
{ ولقد وصّلنا لهم القول لعلّهم يتذكّرون } التوصيل وتكريره يعني أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً وعداً ووعيداً وقصصاً وعبراً ومواعظ ليتذكروا فيفلحوا { الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ } من قبل القرآن وخبر { الذين } { هُم بِهِ } بالقرآن { يُؤْمِنُونَ } نزلت في مؤمني أهل الكتاب { وَإِذَا يتلى } القرآن { عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ } من قبل نزول القرآن { مُسْلِمِينَ } كائنين على دين الإسلام ، مؤمنين بمحمد عليه السلام ، وقوله { إنه } تعليل للإيمان به لأن كونه حقاً من الله حقيق بأن يؤمن به ، وقوله { إنا } بيان لقوله { آمنا } لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيده فأخبروا بأن إيمانهم به متقادم { أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن ، أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله ، أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب { وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة } يدفعون بالطاعة المعصية أو بالحلم الأذى { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } يزكون { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو } الباطل أو الشتم من المشركين { أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ } للاغين { لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ } أمان منا لكم بأن نقابل لغوكم بمثله { لاَ نَبْتَغِى الجاهلين } لا نريد مخالطتهم وصحبتهم .
{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم { ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } يخلق فعل الاهتداء فيمن يشاء { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } بمن يختار الهداية ويقبلها ويتعظ بالدلائل والآيات . قال الزجاج : أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب ، وذلك أنه قال عند موته : يا معشر بني هاشم صدقوا محمداً تفلحوا . فقال عليه السلام : " «يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك» " قال : فما تريد ابن أخي؟ قال : " «أريد منك أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله» " قال : يا ابن أخي أنا قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت . وإن كانت الصيغة عامة ، والآية حجة على المعتزلة لأنهم يقولون الهدى هو البيان وقد هدى الناس أجمع ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم فدل أن وراء البيان ما يسمى هداية وهو خلق الاهتداء وإعطاء التوفيق والقدرة
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
{ وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً } قالت قريش : نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك أن يتخطفونا من أرضنا ، فألقمهم الله الحجر بأنه مكن لهم في الحرم الذي أمنه بحرمة البيت وأمن قطانه بحرمته ، والثمرات تجبى إليه من كل أوب وهم كفرة ، فأنّى يستقيم أن يعرضهم للتخطف ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام؟ وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز { يجبى إِلَيْهِ } وبالتاء : مدني ويعقوب وسهل أي تجلب وتجمع { ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء } معنى الكلية الكثرة كقوله { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } [ النمل : 23 ] { رّزْقاً مّن لَّدُنَّا } هو مصدر لأن معنى { يجبى إليه } يرزق أو مفعول له أو حال من الثمرات إن كان بمعنى مرزوق لتخصصها بالإضافة كما تنصب عن النكرة المتخصصة بالصفة { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } متعلق ب { من لدنا } أي قليل منهم يقرون بأن ذلك رزق من عند الله وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به .
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم بإنعام الله عليهم فلم يشكروا النعمة وقابلوها بالبطر فأهلكوا . و { كم } نصب ب { أهلكنا } و { معيشتها } بحذف الجار وإيصال الفعل أي في معيشتها ، والبطر سوء احتمال الغني وهو أن لا يحفظ حق الله فيه { فَتِلْكَ مساكنهم } منازلهم باقية الآثار يشاهدونها في الأسفار كبلاد ثمود وقوم شعيب وغيرهم { لَمْ تُسْكَن } حال والعامل فيها الإشارة { مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } من السكنى أي لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوماً أو ساعة { وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } لتلك المساكن من ساكنيها أي لا يملك التصرف فيها غيرنا
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى } في كل وقت { حتى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا } وبكسر الهمزة : حمزة وعلي أي في القرية التي هي أمها أي أصلها ومعظمها { رَسُولاً } لإلزام الحجة وقطع المعذرة أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى يعني مكة لأن الأرض دحيت من تحتها رسولاً ، يعني محمداً عليه السلام { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي القرآن { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون } أي وما أهلكناهم للانتقام إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم وهو إصرارهم على كفرهم وعنادهم ومكابرتهم بعد الاعذار إليهم { وَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْء فمتاع الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا } وأي شيء أصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلا تمتع وزينة أياماً قلائل وهي مدة الحياة الفانية { وَمَا عِندَ الله } وهو ثوابه { خَيْرٌ } في نفسه من ذلك { وأبقى } لأنه دائم { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن الباقي خير من الفاني . وخيّر أبو عمرو بين الياء والتاء والباقون بالتاء لا غير . وعن ابن عباس رضي الله عنهما . إن الله تعالى خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف : المؤمن والمنافق والكافر . فالمؤمن يتزود ، والمنافق يتزين ، والكافر يتمتع .
ثم قرر هذه الآية بقوله :
{ أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً } أي الجنة فلا شيء أحسن منها لأنها دائمة ولذا سميت الجنة بالحسنى { فَهُوَ لاَقِيهِ } أي رائيه ومدركه ومصيبه { كَمَن مَّتَّعْنَاهُ متاع الحياة الدنيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين } من الذين أحضروا النار ونحوه فكذبوه فإنهم لمحضرون . نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل لعنه الله ، أو في علي وحمزة وأبي جهل ، أو في المؤمن والكافر ، ومعنى الفاء الأولى أنه لما ذكر التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله عقبه بقوله { أفمن وعدناه } أي أبعد هذا التفاوت الجلي يسوي بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة ، والفاء الثانية للتسبيب لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد . و «ثم» لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع ثم هو عليّ كما قيل عضدّ في عضد شبه المنفصل بالمتصل
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } ينادي الله الكفار نداء توبيخ وهو عطف على { يَوْمُ القيامة } أو منصوب ب «ذكر» { فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ } بناء على زعمهم { الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } ومفعولا { تزعمون } محذوفان تقديره : كنتم تزعمونهم شركائي ، ويجوز حذف المفعولين في باب ظننت ولا يجوز الاقتصار على أحدهما { قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } أي الشياطين أو أئمة الكفر . ومعنى حق عليهم القول وجب عليه مقتضاه وثبت وهو قوله : { لأمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] { رَبَّنَا هَؤُلاء } مبتدأ { الذين أَغْوَيْنَا } أي دعوناهم إلى الشرك وسولنا لهم الغي صفة والراجع إلى الموصول محذوف والخبر { أغويناهم } والكاف في { كَمَا غَوَيْنَا } صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غياً مثل ما غوينا يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً فلا فرق إذاً بين غينا وغيهم ، وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل وما بعث إليهم من الرسل وأنزل عليهم من الكتب وهو كقوله { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِىَ الامر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } إلى قوله { وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } منهم ومما اختاروه من الكفر { مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } بل يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم ، وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين لمعنى الجملة الأولى .
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
{ وَقِيلَ } للمشركين { ادعوا شُرَكَاءكُمْ } أي الأصنام لتخلصكم من العذاب { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } فلم يجيبوهم { وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } وجواب «لو» محذوف أي لما رأوا العذاب { وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين } الذين أرسلوا إليكم . حكى أولاً ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء ثم ما يقوله الشياطين أو أئمة الكفر عند توبيخهم ، لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة اعتذروا بأن الشياطين هم الذين استغووهم ، ثم ما يشبه الشماتة بهم لاستغاثتهم آلهتهم وعجزهم عن نصرتهم ، ثم ما يبكون به من الاحتجاح عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنباء يَوْمَئِذٍ } خفيت عليهم الحجج أو الأخبار . وقيل : خفي عليهم الجواب فلم يدروا بماذا يجيبون إذ لم يكن عندهم جواب { فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ } لا يسأل بعضهم بعضاً عن العذر والحجة رجاء أن يكون عنده عذر وحجة لأنهم يتساوون في العجز عن الجواب { فَأَمَّا مَن تَابَ } من الشرك { وءامن } بربه وبما جاء من عنده { وَعَمِلَ صالحا فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين } أي فعسى أن يفلح عند الله . و «عسى» من الكرام تحقيق ، وفيه بشارة للمسلمين على الإسلام وترغيب للكافرين على الإيمان . ونزل جواباً لقول الوليد بن المغيرة : { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] يعني نفسه أو أبا مسعود .
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء } وفيه دلالة خلق الأفعال ، ويوقف على { وَيَخْتَارُ } أي وربك يخلق ما يشاء وربك يختار ما يشاء { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } أي ليس لهم أن يختاروا على الله شيئاً ما وله الخيرة عليهم . ولم يدخل العاطف في { ما كان لهم الخيرة } لأنه بيان لقوله { ويختار } إذ المعنى أن الخيرة لله وهو أعلم بوجوه الحكمة في أفعاله فليس لأحد من خلقه أن يختار عليه . ومن وصل على معنى ويختار الذي لهم فيه الخيرة فقد أبعد بل «ما» لنفي اختيار الخلق تقريراً لاختيار الحق ، ومن قال : ومعناه ويختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح فهو مائل إلى الاعتزال . والخيرة من التخير يستعمل بمعنى المصدر وهو التخير وبمعنى المتخير كقولهم «محمد خيرة الله من خلقه» { سبحان الله وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي الله بريء من إشراكهم وهو منزه عن أن يكون لأحد عليه اختيار
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)
{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ } تضمر { صُدُورُهُمْ } من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسده { وَمَا يُعْلِنُونَ } من مطاعنهم فيه وقولهم هلا اختير عليه غيره في النبوة { وَهُوَ الله } وهو المستأثر بالإلهية المختص بها { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } تقرير لذلك كقولك «القبلة الكعبة لا قبلة إلا هي» . { لَهُ الحمد فِى الأولى } الدنيا { والآخرة } هو قولهم { الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } [ فاطر : 34 ] { الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [ الزمر : 74 ] { وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبّ العالمين } [ الزمر : 75 ] والتحميد ثمة على وجه اللذة لا الكلفة { وَلَهُ الحكم } القضاء بين عباده { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بالبعث والنشور . وبفتح التاء وكسر الجيم : يعقوب .
{ قُلْ أَرَءَيْتُمْ } أريتم محذوف الهمزة : علي { إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اليل سَرْمَداً } هو مفعول ثان ل { جعل } أي دائماً من السرد وهو المتابعة ومنه قولهم في الأشهر الحرم «ثلاثة سرد وواحد فرد» والميم مزيدة ووزنه فعمل { إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } والمعنى أخبروني من يقدر على هذا
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
{ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ولم يقل بنهار تتصرفون فيه كما قال { بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } بل ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثم قرن بالضياء { أفلا تسمعون } لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل { أفلا تبصرون } لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي لتسكنوا بالليل ولتبتغوا من فضل الله في النهار فيكون من باب اللف والنشر { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله على نعمه . وقال الزجاج : يجوز أن يكون معناه لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من فضل الله فيهما ، ويكون المعنى جعل لكم الزمان ليلاً ونهاراً لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله فيه { وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } كرر التوبيخ لاتخاذ الشركاء ليؤذن أن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده { وَنَزَعْنَا } وأخرجنا { مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } يعني نبيهم لأن الأنبياء للأمم شهداء عليهم يشهدون بما كانوا عليه { فَقُلْنَا } للأمم { هَاتُواْ برهانكم } فيما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسل { فَعَلِمُواْ } حينئذ { أَنَّ الحق لِلَّهِ } التوحيد { وَضَلَّ عَنْهُم } وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من ألوهية غير الله والشفاعة لهم .
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
{ إِنَّ قارون } لا ينصرف للعجمة والتعريف ولو كان فاعولاً من قرنت الشيء لانصرف { كَانَ مِن قَوْمِ موسى } كان إسرائيلياً ابن عم لموسى فهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، وموسى بن عمران بن قاهث ، وكان يسمى المنور لحسن صورته ، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ولكنه نافق كما نافق السامري { فبغى عَلَيْهِمْ } من البغي وهو الظلم . قيل : ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم ، أو من البغي الكبر تكبر عليهم بكثرة ماله وولده ، أو زاد عليهم في الثياب شبراً { وَءَاتيناه من الكنوز ما إِنْ مَفَاتِحَهُ } «ما» بمعنى الذي في موضع نصب ب { اتينا } و «إن» واسمها وخبرها صلة الذي ولهذا كسرت «إن» . والمفاتح جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به أو مفتح بالفتح وهو الخزانة والأصوب أنها المقاليد { لَتَنُوأُ بالعصبة } لتثقل العصبة فالباء للتعدية يقال : ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله ، والعصبة الجماعة الكثيرة وكانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلاً لكل خزانة مفتاح ولا يزيد المفتاح على أصبع وكانت من جلود { أُوْلِى القوة } الشدة { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ } أي المؤمنون وقيل : القائل موسى عليه السلام ومحل { إذ } نصب ب { تنوء } { لاَ تَفْرَحْ } لا تبطر بكثرة المال كقوله { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم } [ الحديد : 23 ] ولا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن ، وأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه يتركها عن قريب فلا يفرح بها { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } البطرين بالمال { وابتغ فِيمَا ءاتَاكَ الله } من الغنى والثروة { الدار الأخرة } بأن تتصدق على الفقراء وتصل الرحم وتصرف إلى أبواب الخير { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } وهو أن تأخذ ما يكفيك ويصلحك . وقيل : معناه واطلب بدنياك آخرتك فإن ذلك حظ المؤمن منها { وَأَحْسَنُ } إلى عباد الله { كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } أو أحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام كما أحسن إليك بالإنعام { وَلاَ تَبْغِ الفساد فِى الأرض } بالظلم والبغي { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين } .
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
{ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ } أي المال { على عِلْمٍ عِندِى } أي على استحقاق لما فيّ من العلم الذي فضلت به الناس وهو علم التوراة أو علم الكيمياء ، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهباً ، أو العلم بوجوه المكاسب من التجارة والزراعة . و { عندي } صفة ل { علم } قال سهل : ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح ، والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله وفتح له سبيل رؤية منة الله تعالى عليه في جميع الأفعال والأقوال ، والشقي من زين في عينه أفعاله وأقواله وأحواله ولم يفتح له سبيل رؤية منة الله فافتخر بها وادعاها لنفسه ، فشؤمه يهلكه يوماً كما خسف بقارون لما ادّعى لنفسه فضلاً { أَوَ لَمْ يَعْلَمْ } قارون { أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً } هو إثبات لعلمه بأن الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى لأنه قد قرأه في التوراة كأنه قيل : أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته ، أو نفي لعلمه بذلك لأنه لما قال { أوتيته على علم عندي } قيل : أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعى . ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين { وَأَكْثَرُ جَمْعاً } للمال أو أكثر جماعة وعدداً { وَلاَ يُسْئلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } لعلمه تعالى بهم بل يدخلون النار بغير حساب ، أو يعترفون بها بغير سؤال ، أو يعرفون بسيماهم فلا يسئولون ، أو لا يسئولون لتعلم من جهتهم بل يسئولون سؤال توبيخ ، أو لا يسئل عن ذنوب الماضين المجرمون من هذه الأمة .
{ فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ } في الحمرة والصفرة . وقيل : خرج يوم السبت على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة الاف على زيه . وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعن يمينه ثلثمائة غلام وعن يساره ثلثمائة جارية بيض عليهن الحليّ والديباج . و { فِى زِينَتِهِ } حال من فاعل { خرج } أي متزيناً { قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا } قيل : كانوا مسلمين وإنما تمنوا على سبيل الرغبة في اليسار كعادة البشر . وقيل : كانوا كفاراً { ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قارون } قالوه غبطة والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه كهذه الآية ، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه وهو كقوله تعالى؛ { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } [ النساء : 32 ] وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تضر الغبطة؟ قال : " «لا إلا كما يضر العضاه الخبط " { إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ } الحظ الجد وهو البخت والدولة
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
{ وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم } بالثواب والعقاب وفناء الدنيا وبقاء العقبى لغابطي قارون { وَيْلَكُمْ } أصل ويلك الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرضى ، وفي «التبيان في إعراب القرآن» هو مفعول فعل محذوف أي ألزمكم الله ويلكم { ثَوَابُ الله خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صالحا وَلاَ يُلَقَّاهَا } أي لا يلقن هذه الكلمة وهي { ثواب الله خير } { إِلاَّ الصابرون } على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير .
{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } كان قارون يؤذي موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة ، فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه فجمع بني إسرائيل وقال : إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت كبيرنا فمر بما شئت قال : نبرطل فلانة البغي حتى ترميه بنفسها فترفضه بنو إسرائيل ، فجعل لها ألف دينار أوطستاً من ذهب أو حكمها ، فلما كان يوم عيد قام موسى فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ومن افترى جلدناه ومن زنى وهو غير محصن جلدناه وإن أحصن رجمناه . فقال قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا . قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة ، فأحضرت فناشدها بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فقالت : جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي فخر موسى ساجداً يبكي وقال : يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي ، فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك . فقال : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل . فاعتزلوا جميعاً غير رجلين ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه ثم قال : خذيهم فانطبقت عليهم فقال الله تعالى : استغاث بك مراراً فلم ترحمه فوعزتي لو استرحمني مرة لرحمته ، فقال بعض بني إسرائيل : إنما أهلكه ليرث ماله فدعا الله حتى خسف بداره وكنوزه { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ } جماعة { يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله } يمنعونه من عذاب الله { وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين } من المنتقمين من موسى أو من الممتنعين من عذاب الله . يقال : نصره من عدوه فانتصره أي منعه منه فامتنع .
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
{ وَأَصْبَحَ } وصار { الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ } منزلته من الدنيا { بالأمس } ظرف ل { تمنوا } ولم يرد به اليوم الذي قبل يومك ولكن الوقت القريب استعارة { يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } و «ي» منفصلة عن «كأن» عند البصريين . قال سيبويه : «وي» كلمة تنبه على الخطأ وتندم يستعملها النادم بإظهار ندامته يعني أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم ، وقولهم { يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون } وتندموا { لَوْ لاَ أَن مَنَّ الله عَلَيْنَا } بصرف ما كنا نتمناه بالأمس { لَخَسَفَ بِنَا } لخَُسِفَ وبفتحتين : حفص ويعقوب وسهل ، وفيه ضمير الله تعالى { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } أي تندموا ثم قالوا : كأنه لا يفلح الكافرون { تِلْكَ الدار الآخرة } { تلك } تعظيم لها وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها ، وقوله { نَجْعَلُهَا } خبر { تلك } و { الدار } نعتها { لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرض } بغياً : ابن جبير ، وظلماً : الضحاك أو كبراً { وَلاَ فَسَاداً } عملاً بالمعاصي أو قتل النفس أو دعاء إلى عبادة غير الله . ولم يعلق الموعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما كما قال { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } [ هود : 113 ] فعلق الوعيد بالركون . وعن علي رضي الله عنه : إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها . وعن الفضيل : إنه قرأها ثم قال : ذهبت الأماني ههنا . وعن عمر بن عبد العزيز : إنه كان يرددها حتى قبض . وقال بعضهم : حقيقته التنفير عن متابعة فرعون وقارون متشبثاً بقوله { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض } { وَلاَ تَبْغِ الفساد فِى الأرض } { والعاقبة } المحمودة { لّلْمُتَّقِينَ } .
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
{ مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } مر في «النمل» { وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات } معناه فلا يجزون فوضع { الذين عملوا السيئات } موضع الضمير لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً ، فضل تهجين لحالهم وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين { إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إلا مثل ما كانوا يعملون ومن فضله العظيم أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة { إِنَّ الذى فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان } أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه { لَرَادُّكَ } بعد الموت { إلى مَعَادٍ } أيّ معاد وإلى معاد ليس لغيرك من البشر فلذا نكره ، أو المراد به مكة . والمراد رده إليها يوم الفتح لأنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شأن ومرجعاً له اعتداد لغلبة رسول الله وقهره لأهلها ولظهور عز الإسلام وأهله وذل الشرك وحزبه . والسورة مكية ولكن هذه الآية نزلت بالجحفة لا بمكة ولا بالمدينة حين اشتاق إلى مولده ومولد آبائه . ولما وعد رسوله الرد إلى معاده قال { قُلْ } للمشركين { رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى } يعني نفسه وما له من الثواب في معاده { وَمَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ } يعني المشركين وما يستحقونه من العذاب في معادهم { من } في محل نصب بفعل مضمر أي يعلم
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يلقى } يوحى { إِلَيْكَ الكتاب } القرآن { إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } هو محمول على المعنى أي وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ، أو «إلا» بمعنى «لكن» للاستدراك أي ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك الكتاب { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين } معيناً لهم على دينهم { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله } هو على الجمع أي ألا يمنعنك هؤلاء عن العمل بآيات الله أي القرآن { بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } الآيات أي بعد وقت إنزاله و { إذ } يضاف إليه أسماء الزمان كقولك «حينئذ» و «يومئذ» { وادع إلى رَبّكَ } إلى توحيده وعبادته { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما : الخطاب في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أهل دينه ، ولأن العصمة لا تمنع النهي ، والوقف على { آخر } لازم لأنه لو وصل لصار { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } صفة ل { الهاً آخر } وفيه من الفساد ما فيه { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } أي إلا إياه فالوجه يعبر به عن الذات . وقال مجاهد : يعني علم العلماء إذا أريد به وجه الله { لَهُ الحكم } القضاء في خلقه { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } تَرجِعون بفتح التاء وكسر الجيم : يعقوب ، والله أعلم .
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
مكية وهي تسع وستون
آية بسم الله الرحمن الرحيم
{ الم أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } الحسبان قوة أحد النقيضين على الآخر كالظن بخلاف الشك فهو الوقوف بينهما ، والعلم فهو القطع على أحدهما ، ولا يصح تعليقهما بمعاني المفردات ولكن بمضامين الجمل . فلو قلت «حسبت زيداً وظننت الفرس» لم يكن شيئاً حتى تقول «حسبت زيداً عالماً وظننت الفرس جواداً» لأن قولك «زيد عالم والفرس جواد» كلام دال على مضمون ، فإذا أردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتاً عندك على وجه الظن لا اليقين أدخلت على شطري الجملة فعل الحسبان حتى يتم لك غرضك والكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان هنا { أن يتركوا أن يقولوا امنا وهم لا يفتنون } وذلك أن تقديره : أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا؟ فالترك أول مفعولي حسب ولقولهم { آمنا } هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة الترك لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير كقول عنترة :
فتركنه جزر السباع ينشنه ... ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول «تركهم غير مفتونين» لقولهم «آمناً» على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام وهو استفهام توبيخ . والفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان ومجاهدة الأعداء وسائر الطاعات الشاقة وهجر الشهوات وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ومصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم . وروي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جزعوا من أذى المشركين ، أو في عمار بن يا سر وكان يعذب في الله .
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا } اختبرنا وهو موصول ب { أحسب } أو ب { لا يفتنون } { الذين مِن قَبْلِهِمْ } بأنواع الفتن فمنهم من يوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ، ومنهم من يمشط بأمشاط الحديد ما يصرفه ذلك عن دينه { فَلَيَعْلَمَنَّ الله } بالامتحان { الذين صَدَقُوا } في الإيمان { وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } فيه . ومعنى علمه تعالى وهو عالم بذلك فيما لم يزل أن يعلمه موجوداً عند وجوده كما علمه قبل وجوده أنه يوجد ، والمعنى وليتميزن الصادق منهم من الكاذب . قال ابن عطاء : يتبين صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء ، فمن شكر في أيام الرخاء وصبر في أيام البلاء فهو من الصادقين ، ومن بطر في أيام الرخاء وجزع في أيام البلاء فهو من الكاذبين { أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات } أي الشرك والمعاصي { أَن يَسْبِقُونَا } أي يفوتونا يعني أن الجزاء يلحقهم لا محالة ، واشتمال صلة «أن» على مسند ومسند إليه سد مسد مفعولين كقوله { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } [ البقرة : 214 ] ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر و «أم» منقطعة ، ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه . وقالوا : الأول في المؤمنين وهذا في الكافرين { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } «ما» في موضع رفع على معنى ساء الحكم حكمهم ، أو نصب على معنى ساء حكماً يحكمون ، والمخصوص بالذم محذوف أي بئس حكماً يحكمونه حكمهم { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله } أي يأمل ثوابه أو يخاف حسابه فالرجاء يحتملها { فَإِنَّ أَجَلَ الله } المضروب للثواب والعقاب { لأَتٍ } لا محالة فليبادر للعمل الصالح الذي يصدق رجاءه ويحقق أمله { وَهُوَ السميع } لما يقوله عباده { العليم } بما يفعلونه فلا يفوته شيء ما . وقال الزجاج : و «من» للشرط ويرتفع بالابتداء وجواب الشرط { فإن أجل الله لات } كقولك «إن كان زيد في الدار فقد صدق الوعد»
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{ وَمَن جَاهَدَ } نفسه بالصبر على طاعة الله أو الشيطان بدفع وساوسه أو الكفار { فَإِنَّمَا يجاهد لِنَفْسِهِ } لأن منفعة ذلك ترجع إليها { إِنَّ الله لَغَنِىٌّ عَنِ العالمين } وعن طاعتهم ومجاهدتهم ، وإنما أمر ونهى رحمة لعباده { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ } أي الشرك والمعاصي بالإيمان والتوبة { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام .
{ وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } وصى حكمه حكم أمر في معناه وتصرفه . يقال : وصيت زيداً بأن يفعل خيراً كما تقول : أمرته بأن يفعل . ومنه قوله { ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ } [ البقرة : 132 ] أي وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها ، وقولك : وصيت زيداً بعمرو معناه وصيته بتعهد عمرو ومراعاته ونحو ذلك . وكذلك معنى قوله { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } ووصيناه بإيتاء والديه حسناً أو بإيلاء والديه حسناً أي فعلاً ذا حسن ، أو ما هو في ذاته حسن لفرط حسنه كقوله { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا } [ البقرة : 83 ] ويجوز أن يجعل { حسناً } من باب قولك «زيداً» بإضمار «اضرب» إذا رأيته متهيئاً للضرب فتنصبه بإضمار أولهما ، أو افعل بهما لأن التوصية بهما دالة عليه وما بعده مطابق له كأنه قال : قلنا أولهما معروفاً ولا تطعهما في الشرك إذا حملاك عليه ، وعلى هذا التفسير إن وقف على { بوالديه } وابتدىء { حسناً } حسن الوقف ، وعلى التفسير الأول لا بد من إضمار القول معناه وقلنا { وَإِن جاهداك } أيها الإنسان { لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي لا علم لك بإلهيته والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال : لتشرك بي شيئاً لا يصح أن يكون إلهاً { فَلاَ تُطِعْهُمَا } في ذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } مرجع من آمن منكم ومن أشرك { فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فأجازيكم حق جزائكم ، وفي ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك وحث على الثبات والاستقامة في الدين . روي أن سعد بن أبي وقاص لما أسلم نذرت أمه أن لا تأكل ولا تشرب حتى يرتد فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، والتي في «لقمان» والتي في «الأحقاف»
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
{ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } هو مبتدأ والخبر { لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصالحين } في جملتهم . والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين وهو متمنى الأنبياء عليهم السلام قال سليمان عليه السلام { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين } [ النمل : 19 ] وقال يوسف عليه السلام { تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين } أ [ يوسف : 101 ] و في مدخل الصالحين وهو الجنة .
ونزلت في المنافقين { وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ ءامَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِىَ فِى الله } أي إذا مسه أذى من الكفار { جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } أي جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله تعالى { وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } أي وإذا نصر الله المؤمنين وغنمهم اعترضوهم وقالوا : إنا كنا معكم أي متابعين لكم في دينكم ثابتين عليه بثباتكم فأعطونا نصيبنا من الغنم { أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ العالمين } أي هو أعلم بما في صدور العالمين من العالمين بما في صدورهم ومن ذلك ما في صدور هؤلاء من النفاق وما في صدور المؤمنين من الإخلاص ، ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين بقوله
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
{ وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين ءامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين } أي حالهما ظاهرة عند من يملك الجزاء عليهما { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم } أمروهم باتباع سبيلهم وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم ، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم فعطف الأمر على الأمر وأرادوا ليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم . والمعنى تعليق الحمل بالاتباع أي إن تتبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم ، وهذا قول صناديد قريش كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم { وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَىْء إِنَّهُمْ لكاذبون } لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } أي أثقال أنفسهم يعني أوزارهم بسبب كفرهم { وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } أي أثقالاً أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها وهي أثقال الذين كانوا سبباً في ضلالهم وهو كما قال { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] { وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يختلقون من الأكاذيب والأباطيل .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } كان عمره ألفاً وخمسين سنة؛ بعث على رأس أربعين ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين . وعن وهب أنه عاش ألفاً وأربعمائة سنة فقال له ملك الموت : يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا؟ قال : كدار لها بابان دخلت وخرجت . ولم يقل تسعمائة وخمسين سنة لأنه لو قيل كذلك لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره وهذا التوهم زائل هنا فكأنه قيل : تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد إلا أن ذلك أخصر وأعذب لفظاً وأملأ بالفائدة ، ولأن القصة سيقت لما ابتلي به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة تسلية لنبينا عليه السلام فكان ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض . وجيء بالمميز أولاً بالسنة ثم بالعام ، لأن تكرار لفظ واحد في كلام واحد حقيق بالاجتناب في البلاغة { فَأَخَذَهُمُ الطوفان } هو ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما { وَهُمْ ظالمون } أنفسهم بالكفر
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
{ فأنجيناه } أي نوحاً { وأصحاب السفينة } وكانوا ثمانية وسبعين نفساً نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم { وجعلناها } أي السفينة أو الحادثة أو القصة { ءايَةً } عبرة وعظة { للعالمين } يتعظون بها .
{ وإبراهيم } نصب بإضمار اذكر وأبدل عنه { إِذْ قَالَ } بدل اشتمال لأن الأحيان تشتمل على ما فيها ، أو معطوف على { نوح } أي وأرسلنا إبراهيم ، أو ظرف ل { أرسلنا } يعني أرسلناه حين بلغ من السن ، أو العلم مبلغاً صلح فيه لأن يعظ قومه ويأمرهم بالعبادة والتقوى . وقرأ إبراهيم النخعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما : { وإبراهيمُ } بالرفع على معنى «ومن المرسلين إبراهيم» { لِقَوْمِهِ اعبدوا الله واتقوه ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } من الكفر { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } إن كان لكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أوثانا } أصناماً { وَتَخْلُقُونَ } وتكذبون أو تصنعون . وقرأ أبو حنيفة والسلمي رضي الله عنهما { وتخلّقون } من خلق بمعنى التكثير في خلق { إِفْكاً } وقرىء { أفكا } وهو مصدر نحو كذب ولعب . والإفك مخفف منه كالكذب واللعب من أصلهما واختلاقهم الإفك تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله { إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق { فابتغوا عِندَ الله الرزق } كله فإنه هو الرازق وحده لا يرزق غيره { واعبدوه واشكروا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه ، وبفتح التاء وكسر الجيم : يعقوب .
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
{ وَإِن تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } أي وإن تكذبوني فلا تضروني بتكذيبكم فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم وما ضروهم وإنما ضروا أنفسهم حيث حل بهم العذاب بسبب تكذيبهم ، وأما الرسول فقد تم أمره حيث بلغ البلاغ المبين الذي زال معه الشك وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته ، أو وإن كنت مكذباً فيما بينكم فلي في سائر الأنبياء أسوة حيث كذبوا وعلى الرسول أن يبلغ وما عليه أن يصدق ولا يكذب . وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله { فما كان جواب قومه } محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم عليه السلام لقومه ، والمراد بالأمم قبله قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم . وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأن قريش بين أول قصة إبراهيم وآخرها . فإن قلت : فالجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه فلا تقول «مكة وزيد قائم خير بلاد الله» . قلت : نعم وبيانه أن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن تكون مسلاة له بأن أباه إبراهيم عليه السلام كان مبتلى بنحو ما ابتلى به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان ، فاعترض بقوله { وإن تكذبوا } على معنى إنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمداً فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمة نبيها لأن قوله { فقد كذب أمم من قبلكم } لا بد من تناوله لأمة إبراهيم وهو كما ترى اعتراض متصل ، ثم سائر الآيات بعدها من توابعها لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله وهدم الشرك وتوهين قواعده وصفة قدرة الله تعالى وسلطانه ووضوح حجته وبرهانه .
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } وبالتاء : كوفي غير حفص { كَيْفَ يُبْدِىء الله الخلق } أي قد رأوا ذلك وعلموه . وقوله { ثُمَّ يُعِيدُهُ } ليس بمعطوف على { يبدىء } وليست الرؤية واقعة عليه وإنما هو إخبار على حياله بالإعادة بعد الموت كما وقع النظر في قوله { كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىء النشأة الآخرة } [ العنكبوت : 20 ] على البدء دون الإنشاء بل هو معطوف على جملة قوله { أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق } { إِنَّ ذلك } أي الإعادة { عَلَى الله يَسِيرٌ } سهل { قُلْ } يا محمد وإن كان من كلام إبراهيم فتقديره وأوحينا إليه أن قل { سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق } على كثرتهم واختلاف أحوالهم لتعرفوا عجائب فطرة الله بالمشاهدة ، وبدأ وأبدأ بمعنى { ثُمَّ الله يُنشِىء النشأة الآخرة } أي البعث . وبالمد حيث كان : مكي وأبو عمرو . وهذا دليل على أنهما نشأتان وأن كل واحدة منهما إنشاء أي ابتداء واختراع وإخراج من العدم إلى الوجود ، غير أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء مثله والأولى ليست كذلك ، والقياس أن يقال «كيف بدأ الله الخلق ثم ينشىء النشأة الآخرة» لأن الكلام معهم وقع في الإعادة ، فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء ، فإذا لم يعجزه الإبداء وجب أن لا يعجزه الإعادة فكأنه قال : ثم ذلك الذي أنشأ النشأة الأولى ينشيء النشأة الآخرة ، فللتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } قادر { يُعَذّبُ مَن يَشَاء } بالخذلان { وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء } بالهداية أو بالحرص والقناعة ، أو بسوء الخلق وحسنه ، أو بالإعراض عن الله وبالإقبال عليه ، أو بمتابعة البدع وبملازمة السنة { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } تردون وترجعون { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } ربكم أي لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه { فِى الأرض } الفسيحة { وَلاَ فِى السماء } التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها { وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ } يتولى أموركم { وَلاَ نَصِيرٍ } ولا ناصر يمنعكم من عذابي .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
{ والذين كَفَرُواْ بئايات الله } بدلائله على وحدانيته وكتبه ومعجزاته { وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى } جنتي { وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } قوم إبراهيم حين دعاهم إلى الإيمان { إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرّقُوهُ } قال بعضهم لبعض أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين فكانوا جميعاً في حكم القائلين فاتفقوا على تحريقه { فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار } حين قذفوه فيها { إِنَّ فِى ذَلِكَ } فيما فعلوا به وفعلنا { لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } روي أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بالنار يعني يوم ألقي إبراهيم في النار وذلك لذهاب حرها { وَقَالَ } إبراهيم لقومه { إِنَّمَا اتخذتم مّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا } حمزة وحفص ، { مودةً بينكم } مدني وشامي وحماد ويحيي وخلف { مودة بينكم } مكي وبصري وعلي ، { مودةٌ بينكم } الشمني والبرجمي ، النصب على وجهين على التعليل أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وأن يكون مفعولاً ثانياً كقوله { اتخذ إلهه هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] و «ما» كافة أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم على تقدير حذف المضاف ، أو اتخذتموها مودة بينكم أي مودة بينكم كقوله : { وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ الله } [ البقرة : 165 ] وفي الرفع وجهان : أن يكون خبراً ل { إن } و «ما» موصولة ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي مودة { بينكم } ، والمعنى أن الأوثان مودة بينكم أي مودودة أو سبب مودة . ومن أضاف المودة جعل بينكم اسماً لا ظرفاً كقوله { شهادة بَيْنِكُمْ } [ المائدة : 106 ] ومن نوّن { مودة } ونصب { بينكم } فعلى الظرف { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } تتبرأ الأصنام من عابديها { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } أي يوم القيامة يقوم بينكم التلاعن فيلعن الأتباع القادة . { وَمَأْوَاكُمُ النار } أي مأوى العابد والمعبود والتابع والمتبوع { وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين } ثمة .
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
{ فَئَامَنَ لَهُ } لإبراهيم عليه السلام { لُوطٌ } هو ابن أخي إبراهيم وهو أول من آمن له حين رأى النار لم تحرقه { وَقَالَ } إبراهيم { إِنّى مُهَاجِرٌ } من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى فلسطين وهي من برية الشام ، ومن ثم قالوا : لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان . وكان معه في هجرته لوط وسارة وقد تزوجها إبراهيم { إلى رَبّى } إلى حيث أمرني ربي بالهجرة إليه { إِنَّهُ هُوَ العزيز } الذي يمنعني من أعدائي { الحكيم } الذي لا يأمرني إلا بما هو خير { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق } ولداً { وَيَعْقُوبَ } ولد ولد ولم يذكر إسماعيل لشهرته { وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة } أي في ذرية إبراهيم فإنه شجرة الأنبياء { والكتاب } والمراد به الجنس يعني التوراة والإنجيل والزبور والفرقان { وَءاتَيْنَاهُ } أي إبراهيم { أَجْرُهُ } الثناء الحسن والصلاة عليه إلى آخر الدهر ومحبة أهل الملل له ، أو هو بقاء ضيافته عند قبره وليس ذلك لغيره { فِى الدنيا } فيه دليل على أنه تعالى قد يعطي الأجر في الدنيا { وَإِنَّهُ فِى الآخرة لَمِنَ الصالحين } أي من أهل الجنة : عن الحسن { وَلُوطاً } أي واذكر لوطاً { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة } الفعلة البالغة في القبح وهي اللواطة { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين } جملة مستأنفة مقررة لفحاشة تلك الفعلة كأن قائلاً قال : لم كانت فاحشة؟ فقيل : لأن أحداً قبلهم لم يقدم عليها ، قالوا : لم ينزل ذكر على ذكر قبل قوم لوط
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)
{ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل } بالقتل وأخذ المال كما هو عمل قطاع الطريق ، وقيل : اعتراضهم السابلة بالفاحشة { وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ } مجلسكم ولا يقال للمجلس نادٍ إلا ما دام فيه أهله { المنكر } أي المضارطة والمجامعة والسباب والفحش في المزاح والحذف بالحصى ومضغ العلك والفرقعة والسواك بين الناس { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فيما تعدنا من نزول العذاب . { إنكم } { أئنكم } شامي وحفص وهو الموجود في الإمام ، وكل واحدة بهمزتين كوفي غير حفص { آينكم } { آينكم } بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة : أبو عمرو { أينكم } { أينكم } بهمزة مقصورة بعدها ياء مكسورة : مكي ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد { قَالَ رَبّ انصرنى } بإنزال العذاب { عَلَى القوم المفسدين } كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش .
{ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى } بالبشارة لإبراهيم بالولد والنافلة يعني إسحق ويعقوب { قَالُواْ إِنَّآ مُهْلِكُو أَهْلِ هذه القرية } إضافة { مهلكوا } لم تفد تعريفاً لأنها بمعنى الاستقبال . والقرية سدوم التي قبل فيها أجور من قاضي سدوم وهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه السلام . قالوا : إنها كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم عليه السلام . { إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظالمين } أي الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة وهم عليه مصرون وظلمهم كفرهم وأنواع معاصيهم
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
{ قَالَ } إبراهيم { إِنَّ فِيهَا لُوطاً } أي أتهلكونهم وفيهم من هو بريء من الظلم وهو لوط { قَالُواْ } أي الملائكة { نَّحْنُ أَعْلَمُ } منك { بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ } { لننجينه } يعقوب وكوفي غير عاصم { وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } الباقين في العذاب . ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم بقوله { وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ } ساءه مجيئهم و «أن» صلة أكدت وجود الفعلين مرتباً أحدهما على الآخر كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان كأنه قيل : كما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث خيفة عليهم من قومهم أن يتناولوهم بالفجور { سِىء بِهِمْ } مدني وشامي وعلي { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } وضاق بشأنهم وبتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته ، وقد جعلوا ضيق الذرع والذراع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا «رحب الذراع» إذا كان مطيقاً ، والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلاً في العجز والقدرة وهو نصب على التمييز { وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ } وبالتخفيف : مكي وكوفي غير حفص { وَأَهْلَكَ } الكاف في محل الجر ونصب { أهلك } بفعل محذوف أي وننجي أهلك { إِلاَّ امرأتك كَانَتْ مِنَ الغابرين إِنَّا مُنزِلُونَ } { منزلّون } شامي { على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً } عذاباً { مّنَ السماء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } بفسقهم وخروجهم عن طاعة الله ورسوله { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا } من القرية { آيةً بَيّنَةً } هي آثار منازلهم الخربة . وقيل : الماء الأسود على وجه الأرض { لِقَوْمٍ } يتعلق ب { تركنا } أو ب { بينة } { يَعْقِلُونَ } .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
{ وإلى مَدْيَنَ } وأرسلنا إلى مدين { أخاهم شُعَيْباً فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر } وافعلوا ما ترجون به الثواب في العاقبة أو خافوه { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ } قاصدين الفساد { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } الزلزلة الشديدة أو صيحة جبريل عليه السلام لأن القلوب رجفت بها { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ } في بلدهم وأرضهم { جاثمين } باركين على الركب ميتين { وَعَاداً } منصوب بإضمار «أهلكنا» لأن قوله { فأخذتهم الرجفة } يدل عليه لأنه في معنى الإهلاك { وَثَمُودَاْ } حمزة وحفص وسهل ويعقوب { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم } ذلك يعني ما وصفه من إهلاكهم { مّن مساكنهم } من جهة مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها ، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } من الكفر والمعاصي { فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } السبيل الذي أمروا بسلوكه هو الإيمان بالله ورسله { وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } عقلاء متمكنين من النظر وتمييز الحق من الباطل ولكنهم لم يفعلوا { وقارون وَفِرْعَوْنَ وهامان } أي وأهلكناهم { وَلَقَدْ جَاءهُمْ موسى بالبينات فاستكبروا فِى الأرض وَمَا كَانُواْ سابقين } فائتين أدركهم أمر الله فلم يفوتوه { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } فيه رد على من يجوز العقوبة بغير ذنب { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } هي ريح عاصف فيها حصباء وهي لقوم لوط { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة } هي لمدين وثمود { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض } يعني قارون { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } يعني قوم نوح وفرعون { وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } ليعاقبهم بغير ذنب { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بالكفر والطغيان .
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
{ مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء } أي آلهة يعني مثل من أشرك بالله الأوثان في الضعف وسوء الاختيار { كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً } أي كمثل العنكبوت فيما تتخذه لنفسها من بيت فإن ذلك بيت لا يدفع عنها الحر والبرد ولا يقي ما تقي البيوت ، فكذلك الأوثان لا تنفعهم في الدنيا والآخرة ، جعل حاتم { اتخذت } حالاً { وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت } لا بيت أوهن من بيتها . عن عليّ رضي الله عنه : طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه يورث الفقر { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن . وقيل : معنى الآية مثل الشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل عنكبوت تتخذ بيتاً بالإضافة إلى رجل يبنى بيتاً بآجر وجص أو ينحته من صخر ، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون . وقال الزجاج : في جماعة تقدير الآية : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء لو كانوا يعلمون كمثل العنكبوت { إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ } بالياء : بصري وعاصم ، وبالتاء : غيرهما غير الأعشى والبرجمي . و «ما» بمعنى «الذي» وهو مفعول { يعلم } ومفعول { يدعون } مضمر أي يدعونه يعني يعبدونه { مِن دُونِهِ مِن شَىْء } «من» في { من شيء } للتبيين { وَهُوَ العزيز } الغالب الذي لا شريك له { الحكيم } في ترك المعاجلة بالعقوبة ، وفيه تجهيل لهم حيث عبدوا جماداً لا علم له ولا قدرة وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء الحكيم الذي لا يفعل كل شيء إلا بحكمة وتدبير
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
{ وَتِلْكَ الأمثال } الأمثال نعت والخبر { نَضْرِبُهَا } نبينها { لِلنَّاسِ } كان سفهاء قريش وجهلتهم يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ويضحكون من ذلك فلذلك قال { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون } به وبأسمائه وصفاته أي لا يعقل صحتها وحسنها ولا يفهم فائدتها إلا هم ، لأن الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المستورة حتى تبرزها وتصورها للأفهام كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية فقال « العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه » ودلت الآية على فضل العلم على العقل .
{ خَلَقَ الله السموات والأرض بالحق } أي محقاً يعني لم يخلقهما باطلاً بل لحكمة وهي أن تكونا مساكن عباده وعبرة للمعتبرين منهم ودلائل على عظم قدرته ، ألا ترى إلى قوله { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } وخصهم بالذكر لانتفاعهم بها { اتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } تقرباً إلى الله تعالى بقراءة كلامه ولتقف على ما أمر به ونهى عنه { وأقم الصلاة } أي دم على إقامة الصلاة { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء } الفعلة القبيحة كالزنا مثلاً { والمنكر } هو ما ينكره الشرع والعقل . قيل : من كان مراعياً للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوماً ما فقد روي أنه قيل يوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل . فقال : « إن صلاته لتردعه » روي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف له فقال « إن صلاته ستنهاه » فلم يلبث أن تاب . وقال ابن عوف : إن الصلاة تنهى إذا كنت فيها فأنت في معروف وطاعة وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر . وعن الحسن : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست صلاته بصلاة وهي وبال عليه { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } أي والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وإنما قال ( ولذكر الله ) ليستقل بالتعليل كأنه قال : والصلاة أكبر لأنها ذكر الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته . وقال ابن عطاء : ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له الآن ، لأن ذكره بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني ، ولأن ذكره لا يفنى وذكركم لا يبقى . وقال سلمان : ذكر الله أكبر من كل شيء وأفضل فقد قال عليه السلام « ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم » قالوا وما ذاك يا رسول الله قال « ذكر الله » وسئل أي الأعمال أفضل قال « أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله » أو ذكر الله أكبر من أن تحويه أفهامكم وعقولكم ، أو ذكر الله أكبر من تلقى معه معصية ، أو ذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من غيره : { والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } من الخير والطاعة فيثيبكم أحسن الثواب .
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
{ وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } بالخصلة التي هي أحسن للثواب وهي مقابلة الخشونة باللين والغضب بالكظم كما قال : { ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ } [ المؤمنون : 96 ] { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } فأفرطوا في الاعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق فاستعملوا معهم الغلظة . وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا { يد الله مغلولة } أو معناه ولا تجادلوا الداخلين في الذمة المؤدين للجزية إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمة ومنعوا الجزية فمجادلتهم بالسيف . والآية تدل على جواز المناظرة مع الكفرة في الدين ، وعلى جواز تعلم علم الكلام الذي به تتحقق المجادلة ، وقوله { وَقُولُواْ ءامَنَّا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } من جنس المجادلة بالأحسن . وقال عليه السلام " ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان باطلاً لم تصدقوهم وإن كان حقاً لم تكذبوهم» "
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
{ وكذلك } ومثل ذلك الإنزال { أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } أي أنزلناه مصدقاً لسائر الكتب السماوية ، أو كما أنزلنا الكتب إلى من قبلك أنزلنا إليك الكتاب { فالذين ءاتيناهم الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ } هم عبد الله بن سلام ومن معه { وَمِنْ هَؤُلاء } أي من أهل مكة { مَن يُؤْمِنُ } أو أراد بالذين أوتوا الكتاب الذين تقدموا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ومن هؤلاء الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا } مع ظهورها وزوال الشبهة عنها { إِلاَّ الكافرون } إلا المتوغلون في الكفر المصممون عليه ككعب بن الأشرف وأضرابه { وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ } من قبل القرآن { مِن كتاب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } خص اليمين لأن الكتابة غالباً تكون باليمين أي ما كنت قرأت كتاباً من الكتب ولا كنت كاتباً { إِذَا } أي لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة ومن الخط { لارتاب المبطلون } من أهل الكتاب وقالوا : الذي نجد نعته في كتبنا أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به ، أو لارتاب مشركو مكة وقالوا : لعله تعلمه أو كتبه بيده . وسماهم مبطلين لإنكارهم نبوته . وعن مجاهد والشعبي : ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ { بَلْ هُوَ } أي القرآن { بينات فِى صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم وَمَا } أي في صدور العلماء به وحفاظه وهما من خصائص القرآن كون آياته بينات الإعجاز وكونه محفوظاً في الصدور بخلاف سائر الكتب فإنها لم تكن معجزات ولا كانت تقرأ إلا من المصاحف { وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا } الواضحة { إِلاَّ الظالمون } أي المتوغلون في الظلم .
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايات مِّن رَّبِهِ } { آية } بغير ألف : مكي وكوفي غير حفص . أرادوا هلا أنزل عليه آيات مثل الناقة والعصا ومائدة عيسى عليهم السلام ونحو ذلك { قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله } ينزل أيتها شاء ولست أملك شيئاً منها { وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } كلفت الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات وليس لي أن أقول أنزل على آية كذا دون آية كذا مع علمي أن المراد من الآيات ثبوت الدلالة والآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ } أي أولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان ، فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول كما تزول كل آية بعد كونها ، أو تكون في مكان دون مكان { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر { لَرَحْمَةً } لنعمة عظيمة { وذكرى } وتذكرة { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } دون المتعنتين { قُلْ كفى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } أي شاهداً بصدق ما أدعيه من الرسالة وأنزل القرآن علي وبتكذيبكم { يَعْلَمُ مَا فِى السماوات والأرض } فهو مطلع على أمري وأمركم وعالم بحقي وباطلكم { والذين ءامَنُواْ بالباطل } باليهودية أو بالشرك إو بإبليس { وَكَفَرُواْ بالله } وآياته { أولئك هُمُ الخاسرون } المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان إلا أن الكلام ورد مورد الإنصاف كقوله { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] وروي أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا : يا محمد من يشهد لك بأنك رسول الله فنزلت
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } بقولهم { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] الآية . { وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى } وهو يوم القيامة أو يوم بدر أو وقت فنائهم بآجالهم ، والمعنى ولولا أجل قد سماه الله وبينه في اللوح لعذبهم والحكمة تقتضي تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى { لَّجَاءهُمُ العذاب } عاجلاً { وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ } العذاب عاجلاً أو ليأتينهم العذاب في الأجل المسمى { بَغْتَةً } فجأة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بوقت مجيئه .
{ يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } أي ستحيط بهم { يَوْمَ يغشاهم العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } لقوله تعالى : { مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] ولا وقف على { بالكافرين } لأن { يوم } ظرف إحاطة النار بهم { وَيَقُولُ } بالياء : كوفي ونافع ، وقوله { ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي جزاء أعمالكم { ياعبادى } وبسكون الياء : بصري وكوفي غير عاصم { الذين ءامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ } وبفتح الياء : شامي يعني أن المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه فليهاجر عنه إلى بلد يقدر أنه فيه أسلم قلباً وأصبح ديناً وأكثر عبادة ، والبقاع تتفاوت في ذلك تفاوتاً كثيراً . وقالوا : لم نجد أعون على قهر النفس وأجمع للقلب وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من الفتن وأربط للأمر الديني من مكة حرسها الله تعالى . وعن سهل : إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم « من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة » { فَإِيَّاىَ فاعبدون } وبالياء : يعقوب . وتقديره فإياي اعبدوا فاعبدوني . وجيء بالفاء في { فاعبدون } لأنه جواب شرط محذوف لأن المعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها ، ثم حذف الشرط وعوض عن حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص ، ثم شجع المهاجر بقوله
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت } أي واجدة مرارته وكربه كما يجد ، الذائق طعم المذوق لأنها إذا تيقنت بالموت سهل عليها مفارق وطنها { ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } بعد الموت للثواب والعقاب { يرجعون } يحيى { ترجعون } يعقوب .
{ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الجنة غُرَفَاً } لننزلنهم من الجنة علالي . { لنثوينهم } كوفي غير عاصم من الثواء وهو النزول للإقامة ، وثوى غير متعد فإذا تعدى بزيادة الهمزة لم يجاوز مفعولاً واحداً . والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف ، أما إجراؤه مجرى لننزلنهم أو لنؤينهم ، أو حذف الجار وإيصال الفعل ، أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العاملين } ويوقف على { العاملين } على أن { الذين صَبَرُواْ } خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين صبروا على مفارقة الأوطان وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب وعلى الطاعات وعن المعاصي ، والوصل أجود ليكون { الذين } نعتا ل { العاملين } { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ولم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله ، ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم من مكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فنزلت { وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ } أي وكم من دابة { وكائن } بالمد والهمز : مكي والدابة كل نفس دبت على وجه الأرض عقلت أم لم تعقل { لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله { الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي لا يرزق تلك الدّواب الضعاف إلا الله ، ولا يرزقكم أيضاً أيها الأقوياء إلا هو ، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها لأنه لو لم يقدركم ولم يقدر لكم أسباب الكسب لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل . وعن الحسن : لا تحمل رزقها لا تدخره إنما تصبح فيرزقها الله . وقيل : لا يدخر شيء من الحيوان قوتاً إلا ابن آدم والفأرة والنملة { وَهُوَ السميع } لقولكم نخشى الفقر والعيلة { العليم } بما في ضمائركم .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر } أي ولئن سألت هؤلاء المشركين من خلق السماوات والأرض على كبرهما وسعتهما ، ومن الذي سخر الشمس والقمر { لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } فكيف يصرفون عن توحيد الله مع إقرارهم بهذا كله! { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } أي لمن يشاء فوضع الضمير موضع { من يشاء } لأن { من يشاء } مبهم غير معين فكان الضمير مبهماً مثله . قدر الرزق وقتره بمعنى إذا ضيقه { إِنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم . في الحديث « إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك » { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله } أي هم مقرون بذلك { قُلِ الحمد لِلَّهِ } على إنزاله الماء لإحياء الأرض أو على أنه ممن أقر بنحو ما أقروا به ثم نفعه ذلك في توحيد الله ونفى الشركاء عنه ولم يكن إقراراً عاطلاً كإقرار المشركين { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } لا يتدبرون بما فيهم من العقول فيما نريهم من الآيات ونقيم عليهم من الدلالات ، أو لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد لله
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
{ وَمَا هذه الحياة الدنيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } أي وما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون ، وفيه ازدراء بالدنيا وتصغير لأمرها وكيف لا يصغرها وهي لاتزن عنده جناح بعوضة! واللهو ما يتلذذ به الإنسان فيلهيه ساعة ثم ينقضي { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِىَ الحيوان } أي الحياة أي ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة لا موت فيها فكأنها في ذاتها حياة . والحيوان مصدر حي وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واواً ولم يقل «لهي الحياة» لما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب ، والحياة حركة والموت سكون ، فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة مبالغة في معنى الحياة ، ويوقف على { الحيوان } لأن التقدير { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } حقيقة الدارين لما اختاروا اللهو الفاني على الحيوان الباقي ، ولو وصل لصار وصف الحيوان معلقاً بشرط علمهم ذلك وليس كذلك .
{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك } هو متصل بمحذوف دل عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم معناه : هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا في الفلك { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون معه إلاهاً آخر { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر } وأمنوا { إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } عادوا إلى حال الشرك { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } من النعمة . قيل : هي لام كي وكذا في { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } فيمن قرأها بالكسر أي لكي يكفروا وكي يتمتعوا ، والمعنى يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعود إلى شركهم كافرين بنعمة النجاة قاصدين التمتيع بها والتلذذ لا غير على خلاف عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة فإنهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم ، ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة لا إلى التلذذ والتمتع ، وعلى هذا لا وقف على { يشركون } . ومن جعله لام الأمر متثبتاً بقراءة ابن كثير وحمزة وعلي { وليتمتعوا } بسكون اللام على وجه التهديد كقوله : { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] وتحقيقه في أصول الفقه يقف عليه { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } سوء تدبيرهم عند تدميرهم .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ } أي أهل مكة { إِنَّا جَعَلْنَا } بلدهم { حَرَماً } ممنوعاً مصوناً { آمناً } يأمن داخله { وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } يستلبون قتلاً وسبياً { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } أي أبالشيطان والأصنام { وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ } أي بمحمد عليه السلام والإسلام { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } بأن جعل له شريكاً { أَوْ كَذَّبَ بالحق } بنبوة محمد عليه السلام والكتاب { لَمَّا جَاءهُ } أي لم يتلعثموا في تكذيبه حين سمعوه { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين } هذا تقرير لثوائهم في جهنم لأن همزة الإنكار إذا أدخلت على النفي صار إيجاباً يعني ألا يثوون فيها وقد افتروا مثل هذا التكذيب على الله وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب؟ أو ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين حين اجترؤوا مثل هذه الجراءة؟ وذكر المثوى في مقابلة { لنبوئنهم } يؤيد قراءة الثاني { والذين جاهدوا } أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول ليتناول كل ما تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين { فِينَا } في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصاً { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } { سبلنا } أبو عمرو أي لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقاً . وعن الداراني : والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا فقد قيل : من عمل بما علم وفق لما لا يعلم . وقيل : إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم إنما هو لتقصيرنا فيما نعلم . وعن فضيل : والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به . وعن سهل : والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة . وعن ابن عطاء : جاهدوا في رضانا لنهدينهم الوصول إلى محل الرضوان . وعن ابن عباس : جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا . وعن الجنيد : جاهدوا في التوبة لنهدينهم سبل الإخلاص ، أو جاهدوا في خدمتنا لنفتحن عليهم سبل المناجاة معنا والأنس بنا ، أو جاهدوا في طلبنا تحرياً لرضانا لنهدينهم سبل الوصول إلينا . { وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } بالنصرة والمعونة في الدنيا وبالثواب والمغفرة في العقبى .
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
مكية وهي ستون أوتسع وخمسون آية والاختلاف في بضع سنين
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الم غُلِبَتِ الروم } أي غلبت فارس الروم { فِى أَدْنَى الأرض } أي في أقرب أرض العرب لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم ، والمعنى غلبوا في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام ، أو أراد أرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه أي في أدنى أرضهم إلى عدوهم { وَهُمْ } أي الروم { مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ } أي غلبة فارس إياهم . وقرىء بسكون اللام فالغلب والغلب مصدران وقد أضيف المصدر إلى المفعول { سَيَغْلِبُونَ } فارس ، ولا وقف عليه لتعلق { فِى بِضْعِ سِنِينَ } به ، وهو ما بين الثلاث إلى العشرة . قيل : احتربت فارس والروم بين أذرعات وبصرى فغلبت فارس الروم والملك بفارس يومئذ كسرى ابرويز فبلغ الخبر مكة فشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لأن فارس مجوس لا كتاب لهم والروم أهل كتاب ، وفرح المشركون وشمتوا وقالوا : أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن نحن عليكم فنزلت . فقال لهم أبو بكر : والله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين ، فقال له أبيّ بن خلف : كذبت فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعل الأجل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام « زد في الخطر وأبعد في الأجل » فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين . ومات أبيّ من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية أو يوم بدر فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ فقال عليه السلام : « تصدق به » وهذه آية بينة على صحة نبوته وأن القرآن من عند الله لأنها إنباء عن علم الغيب وكان ذلك قبل تحريم القمار . عن قتادة ومن مذهب أبي حنيفة ومحمد أن العقود الفاسدة كعقد الربا وغيره جائزة في دار الحرب بين المسلمين وقد احتجا على صحة ذلك بهذه القصة .
{ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } أي من قبل كل شيء ومن بعد كل شيء أو حين غلبوا وحين يغلبون كأنه قيل : من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ، ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين يعني أن كونهم مغلوبين أولاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمر الله وقضائه { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } [ آل عمران : 140 ] { وَيَوْمَئِذٍ } ويوم تغلب الروم على فارس ويحل ما وعد الله من غلبتهم { يَفْرَحُ المؤمنون بنصر الله }
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له وغيظ من شمت بهم من كفار مكة . وقيل : نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم ، والباء يتصل ب { يفرح } فيوقف على { الله } على «المؤمنين» { ينصُر مَنْ يشاء وهو العزيز } الغالب على أعدائه { الرحيم } العاطف على أوليائه { وَعَدَ الله } مصدر مؤكد لأن قوله { وهم من بعد غلبهم سيغلبون } وعد من الله للمؤمنين ، فقوله { وعد الله } بمنزلة وعد الله المؤمنين وعداً { لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } بنصر الروم على فارس { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
{ يَعْلَمُونَ } بدل من { لا يعلمون } وفيه بيان أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز عن تحصيل الدنيا . وقوله { ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا } يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً ، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها ، وباطنها أنها مجاز إلى الآخرة يتزود منها إليها بالطاعة وبالأعمال الصالحة . وتنكير الظاهر يفيد أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها { وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غافلون } { هم } الثانية مبتدأ و { غافلون } خبره والجملة خبر { هم } الأولى ، وفيه بيان أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرها .
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ } يحتمل أن يكون ظرفاً كأنه قيل : أولم يثبتوا التفكير في أنفسهم أي في قلوبهم الفارغة من الفكر والتفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين كقوله «اعتقده في قلبك» ، وأن يكون صلة للتفكر نحو تفكر في الأمر وأجال فيه فكره ، ومعناه على هذا : أولم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات وهم أعلم بأحوالها منهم بأحوال ما عداها ، فيتدبروا ما أودعها الله ظاهراً وباطناً من غرائب الحكمة الدالة على التدبير دون الإهمال ، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى وقت تجازى فيه على الإحسان إحساناً وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جارٍ على الحكمة في التدبير ، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت؟ { مَّا خَلَقَ الله السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } متعلق بالقول المحذوف معناه : أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول؟ وقيل : معناه فيعلموا لأن في الكلام دليلاً عليه { إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًى } أي ما خلقها باطلاً وعبثاً بغير حكمة بالغة ولا لتبقى خالدة ، إنما خلقها مقرونة بالحق مصحوبة بالحكمة وبتقدير أجلٍ مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب ، ألا ترى إلى قوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثاً { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس بِلِقَاء رَبّهِمْ } بالبعث والجزاء { لكافرون } لجاحدون . وقال الزجاج : أي لكافرون بلقاء ربهم .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } هو تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المدمرين من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية . ثم وصف حالهم فقال { كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض } وحرثوها { وَعَمَرُوهَا } أي المدمرون { أَكْثَرَ } صفة مصدر محذوف . و«ما» مصدرية في { مِمَّا عَمَرُوهَا } أي من عمارة أهل مكة { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } وتقف عليها لحق الحذف أي فلم يؤمنوا فأهلكوا { فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } فما كان تدميره إياهم ظلماً لهم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم { ثُمَّ كَانَ عاقبة } بالنصب : شامي وكوفي { الذين أَسَآوُاْ السوأى } تأنيث الأسوأ وهو الأقبح كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ، ومحلها رفع على أنها اسم «كان» عند من نصب { عاقبة } على الخبر ونصب عند من رفعها ، والمعنى أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثم كانت عاقبتهم السوأى ، إلا أنه وضع المظهر وهو { الذين أساؤوا } موضع المضمر أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة وهي النار التي أعدت للكافرين { أَن كَذَّبُواْ } لأن كذبوا أو بأن وهو يدل على أن معنى أساؤوا كفروا { بآيات الله وكانوا بها يستهزئون } يعني ثم كان عاقبة الكافرين النار لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)
{ الله يَبْدَأُ الخلق } ينشئهم { ثُمَّ يُعِيدُهُ } يحييهم بعد الموت { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وبالياء : أبو عمرو وسهل .
{ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ } ييأس ويتحير . يقال : ناظرته فأبلس إذا لم ينبس ويئس من أن يحتج { المجرمون } المشركون { وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ } من الذين عبدوهم من دون الله . وكتب { شُفَعَاؤا } في المصحف بواو قبل الألف كما كتب { علمؤا بني إسرائيل } [ الشعراء : 197 ] وكذلك كتبت السوأى بالألف قبل الياء إثباتاً للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها { وَكَانُواْ بِشُرَكَائِهِمْ كافرين } أي يكفرون بآلهتهم ويجحدونها أو وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم .
{ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } الضمير في { يتفرقون } للمسلمين والكافرين لدلالة ما بعده عليه حيث قال { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ } أي بستان وهي الجنة ، والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه { يُحْبَرُونَ } يسرون . يقال : حبره إذا سره سروراً تهلل له وجهه وظهر فيه أثره ، ثم اختلف فيه لاحتمال وجوه المسار فقيل يكرمون ، وقيل يحلون ، وقيل هو السماء في الجنة { وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا وَلِقَاء الآخرة } أي البعث { فَأُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ } مقيمون لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم كقوله : { وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } [ البقرة : 167 ] لما ذكر الوعد والوعيد أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد فقال { فَسُبْحَانَ الله } والمراد بالتسبيح ظاهره الذي هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدد فيها من نعمة الله الظاهرة أو الصلاة ، فقيل لابن عباس : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ فقال : نعم وتلا هذه الآية . وهو نصب على المصدر والمعنى نزهوه عما لا يليق به أوصلوا لله { حِينَ تُمْسُونَ } صلاة المغرب والعشاء { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } صلاة الفجر
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
{ وَلَهُ الحمد فِى السماوات والأرض } اعتراض ومعناه أن على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أن يحمدوه ، و { في السماوات } حال من { الحمد } { وَعَشِيّاً } صلاة العصر وهو معطوف على { حين تمسون } ، وقوله : { عشياً } متصل بقوله : { حين تمسون } { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } صلاة الظهر أظهر أي : دخل في وقت الظهيرة والقول الأكثر أن الصلوات الخمس فرضت بمكة { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } الطائر من البيضة أو الإِنسان من النطفة أو المؤمن من الكافر { وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } أي : البيضة من الطائر أو النطفة من الإِنسان أو الكافر من المؤمن ، و { الميت } بالتخفيف فيهما مكي وشامي وأبو عمرو وأبو بكر وحماد ، وبالتشديد غيرهم { وَيحي الأرض } بالنبات { بَعْدَ مَوْتِهَا } يبسها { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } { تخرجون } حمزة وعلي وخلف ، أي : ومثل ذلك الإخراج تخرجون من قبوركم . والكاف في محل النصب ب { تخرجون } ، والمعنى أن الإبداء والإعادة يتساويان في قدرة من هو قادر على إخراج الميت من الحي وعكسه ، روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من قرأ فسبحان الله حين تمسون إلى الثلاث وأخر سورة والصافات دبر كل صلاة كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء وقطر الأمطار وورق الأشجار وتراب الأرض ، فإذا مات أجري له بكل حرف عشر حسنات في قبره » قال عليه السلام : « من قرأ حين يصبح { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } إلى قوله { وكذلك تخرجون } أدرك ما فاته في يومه ، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته » ومن آياته ومن علامات ربوبيته وقدرته { أَنْ خَلَقَكُمْ } أي : أباكم { مّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ } أي : آدم وذريته { تَنتَشِرُونَ } تنصرفون فيما فيه معاشكم و { إذا } للمفاجأة وتقديره : ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض .
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
{ وَمِنْ ءاياته أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا } أي حواء خلقت من ضلع آدم عليه السلام والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال ، أو من شكل أنفسكم وجنسها لا من جنس آخر وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الإلف والسكون وما بين الجنسين المختلفين من التنافر . يقال : سكن إليه إذا مال إليه { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } أي جعل بينكم التواد والتراحم بسبب الزواج . وعن الحسن : المودة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد . وقيل : المودة للشابة والرحمة للعجوز . وقيل : المودة والرحمة من الله والفرك من الشيطان أي بغض المرأة زوجها وبغض الزوج المرأة { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فيعلمون أن قوام الدنيا بوجود التناسل { وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ } أي اللغات أو أجناس النطق وأشكاله { وألوانكم } كالسواد والبياض وغيرهما ، ولاختلاف ذلك وقع التعارف وإلا فلو تشاكلت واتفقت لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت المصالح ، وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله متفاوتون . { إِنَّ فِى ذلك لآيات للعالمين } { للعالمين } جمع «عالَم» ، وبكسر اللام : حفص عالِم ويشهد للكسر قوله تعالى { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون } العنكبوت : 43 ) { وَمِنْ ءاياته مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغاؤكم مّن فَضْلِهِ } هذا من باب اللف ، وترتيبه ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار إلا أنه فصل بين القرينين الأولين بالقرينين الآخرين ، أو المراد منامكم في الزمانين وابتغاؤكم فيهما ، والجمهور على الأول لتكرره في القرآن وأسد المعاني ما دل عليه القرآن { إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي يسمعون سماع تدبر بآذان واعية .
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
{ وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق } في { يريكم } وجهان : إضمار أن كما في حرف ابن مسعود رضي الله عنه وإنزال الفعل منزلة المصدر وبهما فسر المثل «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» أي أن تسمع أو سماعك { خَوْفًا } من الصاعقة أو من الإخلاف { وَطَمَعًا } في الغيث أو خوفاً للمسافر وطمعاً للحاضر ، وهما منصوبان على المفعول له على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي إرادة خوف وإرادة طمع ، أو على الحال أي خائفين وطامعين { وَيُنَزّلُ مِنَ السماء } وبالتخفيف : مكي وبصري { ماءً } مطراً { فيحي به الأَرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } يتفكرون بعقولهم { وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ } تثبت بلا عمد { السماء والأرض بِأَمْرِهِ } أي بإقامته وتدبيره وحكمته { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ } للبعث { دَعْوَةً مّنَ الأرض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } من قبوركم هذا كقوله { يريكم } في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى كأنه قال : ومن آياته قيام السماوات والأرض واستمساكها بغير عمد ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة يا أهل القبور أخرجوا ، والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف . وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض ب «ثم» بياناً لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله وهو أن يقول : يا أهل القبور قوموا فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر كما قال { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] و«إذا» الأولى للشرط والثانية للمفاجأة وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط { ومن الأرض } متعلق بالفعل لا بالمصدر . وقولك «دعوته من مكان كذا» يجوز أن يكون مكانك ويجوز أن يكون مكان صاحبك
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
{ وَلَهُ مَن فِى السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قانتون } منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يمتنعون عليه أو مقرون بالعبودية .
{ وَهُوَ الذى يَبْدَأُ الخلق } أي ينشئهم { ثُمَّ يُعِيدُهُ } للبعث { وَهُوَ } أي البعث { أَهْوَنُ } أيسر { عَلَيْهِ } عندكم لأن الإعادة عندكم أسهل من الإنشاء فلم أنكرتم الإعادة ، وأخرت الصلة في قوله { وهو أهون عليه } وقدمت في قوله : { وَهُوَ عَليَّ هَيّنٌ } [ مريم : 9 ] لقصد الاختصاص هناك ، وأما هنا فلا معنى للاختصاص . وقال أبو عبيدة والزجاج وغيرهما الأهون بمعنى الهين فيوصف به الله عز وجل وكان ذلك على الله يسيراً كما قالوا : الله أكبر أي كبير ، والإعادة في نفسها عظيمة ولكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء ، أو هو أهون على الخلق من الإنشاء لأن قيامهم بصيحة واحدة أسهل من كونهم نطفاً ثم علقاً ثم مضغ إلى تكميل خلقهم { وَلَهُ المثل الأعلى فِى السماوات والأرض } أي الوصف الأعلى الذي ليس لغيره وقد عرف به ووصف في السماوات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدورات ويدل عليه قوله { وَهُوَ العزيز } أي القاهر لكل مقدور { الحكيم } الذي يجري كل فعل على قضايا حكمته وعلمه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : المثل الأعلى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السميع البصير } [ الشورى : 11 ] .
وعن مجاهد : هو قول لا إله إلا الله . ومعناه وله الوصف الأرفع الذي هو الوصف بالوحدانية ويعضده قوله { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ } فهذا مثل ضربه الله عز وجل لمن جعل له شريكاً من خلقه . و «من» للابتداء كأنه قال : أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم { هَلْ لَّكُمْ } معاشر الأحرار { مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم } عبيدكم و «من» للتبعيض { مّن شُرَكَاء } «من» مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي ومعناه : هل ترضون لأنفسكم وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد أن يشارككم بعضهم { فِى مَا رزقناكم } من الأموال وغيرها { فَأَنتُمْ } معاشر الأحرار والعبيد { فِيهِ } في ذلك الرزق { سَوَآء } من غير تفصلة بين حر وعبد يحكم مماليككم في أموالكم كحكمكم { تَخَافُونَهُمْ } حال من ضمير الفاعل في سواء أي متساوون خائفاً بعضكم بعضاً مشاركته في المال ، والمعنى : تخافون معاشرة السادة عبيدكم فيها فلا تمضون فيها حكماً دون إذنهم خوفاً من لائمة تلحقكم من جهتهم { كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } يعني كما يخاف بعض الأحرار بعضاً فيما هو مشترك بينهم ، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟ { كذلك } موضع الكاف نصب أي مثل هذا التفصيل { نُفَصّلُ الآيات } نبينها لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يتدبرون في ضرب الأمثال فلما لم ينزجروا أضرب عنهم فقال
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
{ بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ } أنفسهم بما أشركوا كما قال الله تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] { أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي اتبعوا أهواءهم جاهلين { فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله } أي أضله الله تعالى { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } من العذاب .
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ } فقوم وجهك له وعد له غير ملتفت عنه يميناً ولا شمالاً ، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه واهتمامه بأسبابه ، فإن من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه وسدد إليه نظره وقوم له وجهه { حَنِيفاً } حال عن المأمور أو من الدين { فِطْرَةَ الله } أي الزموا فطرة الله والفطرة الخلقة ، ألا ترى إلى قوله { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } [ الروم : 30 ] فالمعنى أنه خلقهم قابلين للتوحيد والإسلام غير نائين عنه ولا منكرين له لكونه مجاوباً للعقل مساوقاً للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما اختاروا عليه ديناً آخر ، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الجن والإنس ومنه قوله عليه السلام « كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري » وقوله عليه السلام « كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه » وقال الزجاج : معناه أن الله تعالى فطر الخلق على الإيمان به على ما جاء في الحديث « إن الله عز وجل آخرج من صلب آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم » فقال { وإذ أخذ ربك } إلى قوله { قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] وكل مولود هو من تلك الذرية التي شهدت بأن الله تعالى خالقها . فمعنى فطرة الله دين الله { التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } أي خلق { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } أي ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تغير . وقال الزجاج : معناه لا تبديل لدين الله ويدل عليه ما بعده وهو قوله { ذلك الدين القيم } أي المستقيم { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } حقيقة ذلك .
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
{ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } راجعين إليه وهو حال من الضمير في «الزموا» ، وقوله { واتقوه } و { أقيموا } و { لا تكونوا } معطوف على هذا المضمر ، أو من قوله { فأقم وجهك } لأن الأمر له عليه السلام أمر لأمته فكأنه قال : فأقيموا وجوهكم منيبين إليه ، أو التقدير كونوا منبيين دليله قوله { ولا تكونوا } { واتقوه وَأَقِيمُواْ الصلاة } أي أدوها في أوقاتها { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين } ممن يشرك به غيره في العبادة { مِنَ الذين } بدل من { المشركين } بإعادة الجار { فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } جعلوه أدياناً مختلفة لاختلاف أهوائهم { فارقوا } حمزة وعلي وهي قراءة علي رضي الله عنه أي تركوا دين الإسلام { وَكَانُواْ شِيَعاً } فرقاً كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها { كُلُّ حِزْبٍ } منهم { بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } فرح بمذهبه مسرور يحسب باطله حقاً .
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
{ وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ } شدة من هزال أو مرض أو قحط أو غير ذلك { دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً } أي خلاصاً من الشدة { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ } في العبادة { لِيَكْفُرُواْ } هذه لام كي . وقيل : لام الأمر للوعيد { بِمَآ آتيناهم } من النعم { فَتَمَتَّعُواْ } بكفركم قليلاً أمر وعيد { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وبال تمتعكم { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا } حجة { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ } وتكلمه مجاز كما تقول «كتابه ناطق بكذا» وهذا مما نطق به القرآن ، ومعناه الشهادة كأنه قال : فهو يشهد بشركهم وبصحته { بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } «ما» مصدرية أي بكونهم بالله يشركون ، أو موصولة ويرجع الضمير إليها أي فهو يتكلم بالأمر الذي بسببه يشركون ، أو معنى الآية أم أنزلنا عليهم ذا سلطان أي ملكاً معه برهان فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يشركون { وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً } أي نعمة من مطر أوسعة أوصحة { فَرِحُواْ بِهَا } بطروا بسببها { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } أي بلاء من جدب أو ضيق أو مرض { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بسبب شؤم معاصيهم { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } من الرحمة و { إذا } لمفاجأة جواب الشرط نابت عن الفاء لتآخيهما في التعقيب .
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أنكر عليهم بأنهم قد علموا بأنه القابض الباسط فما لهم يقنطون من رحمته ، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين عن المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها حتى يعيد إليهم رحمته! ولما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك فقال
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
{ فَئآتِ ذَا القربى } أعط قريبك { حَقَّهُ } من البر والصلة { والمساكين وابن السبيل } نصيبهما من الصدقة المسماة لهما ، وفيه دليل وجوب النفقة للمحارم كما هو مذهبنا { ذلك } أي إيتاء حقوقهم { خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } أي ذاته أي يقصدون بمعروفهم أياه خالصاً { وأولئك هُمُ المفلحون وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ الناس } يريد وما أعطيتم أكلة الربا من رباً ليربوا في أموالهم { فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله } فلا يزكوا عند الله ولا يبارك فيه . وقيل : هو من الربا الحلال أي وما تعطونه من الهدية لتأخذوا أكثر منها فلا يربوا عند الله لأنكم لم تريدوا بذلك وجه الله { وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن زكواة } صدقة { تُرِيدُونَ وَجْهَ الله } تبتغون به وجهه خالصاً لا تطلبون به مكافأة ولا رياء ولا سمعة { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المضعفون } ذوو الإضعاف من الحسنات ونظير المضعف المقوى والموسر لذي القوة واليسار . { أتيتم من ربا } بلامد : مكي أي وما غشيتموه من إعطاء ربا { لتربوا } مدني أي لتزيدوا في أموالهم . وقوله { فأولئك هم المضعفون } التفات حسن لأنه يفيد التعميم كأنه قيل : من فعل هذا فسبيله سبيل المخاطبين . والمعنى المضعفون به لأنه لا بد له من ضمير يرجع إلى «ما» الموصولة . وقال الزجاج : في قوله { فأولئك هم المضعفون } أي فأهلها هم المضعفون أي هم الذي يضاعف لهم الثواب يعطون بالحسنة عشر أمثالها .
ثم أشار إلى عجز آلهتهم فقال
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
{ الله الذى خَلَقَكُمْ } مبتدأ وخبر { ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } أي : هو المختص بالخلق والرزق والإماتة والإحياء { هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ } أي : أصنامكم التي زعمتم أنهم شركاء لله { مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ } أي : من الخلق والرزق والإماتة والإحياء { مِن شَىْءٍ } أي : شيئاً من تلك الأفعال فلم يجيبوا عجزاً فقال استبعاداً : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } و «من» الأولى الثانية والثالثة كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم .
{ ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر } نحو القحط وقلة الأمطار والريع في الزراعات والربح في التجارات ووقوع الموتان في الناس والدواب وكثرة الحرق والغرق ومحق البركات من كل شيء { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس } بسبب معاصيهم وشركهم كقوله : { وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذى عَمِلُواْ } أي : ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة وبالنون عن قنبل { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عما هم عليه من المعاصي ثم أكد تسبيب المعاصي لغضب الله ونكاله بقوله : { قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ } حيث أمرهم بأن يسيروا فينظروا كيف أهلك الله الأمم وأذاقهم سوء العاقبة بمعصايهم .
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم } البليغ الاستقامة الذي لا يتأتى فيه عوج { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ } هو مصدر بمعنى الرد { مِنَ الله } يتعلق بيأتي ، والمعنى : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد كقوله تعالى : { فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } [ الأنبياء : 40 ] أو بمرد على معنى لا يرده هو بعد أن يجيء به ولا رد له من جهته { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } يتصدعون أي : يتفرقون ثم أشار إلى غناه عنهم .
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
{ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي وبال كفره { وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأَِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي يسوون لأنفسهم ما يسويه لنفسه الذي يمهد لنفسه فراشه ويوطئه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه مرقده من نتوء وغيره ، والمعنى أنه يمهد لهم الجنة بسبب أعمالهم فأضيف إليهم . وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر ، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تجاوزه . ليجزى متعلق ب { يمهدون } تعليل له وتكرير { الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن { مِن فَضْلِهِ } أي عطائه . وقوله { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين } تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس { وَمِنْ ءاياته } أي ومن آيات قدرته { أَن يُرْسِلَ الرياح } هي الجنوب والشمال والصبا وهي رياح الرحمة ، وأما الدبور فريح العذاب ومنه قوله عليه السلام « اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » وقد عدد الفوائد في إرسالها فقال { مبشرات } أي أرسلها للبشارة بالغيث { وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ } ولإذاقة الرحمة وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه والروح الذي مع هبوب الريح وزكاء الأرض وغير ذلك . { وليذيقكم } معطوف على { مبشرات } على المعنى كأنه قيل : ليبشركم وليذيقكم { وَلِتَجْرِىَ الفلك } في البحر عند هبوبها { بِأَمْرِهِ } أي بتدبيره أو بتكوينه كقوله { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } [ يس : 82 ] الآية . { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يريد تجارة البحر { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ولتشكروا نعمة الله فيها .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بالبينات } أي فآمن بهم قوم وكفر بهم قوم ، ويدل على هذا الإضمار قوله { فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ } أي كفروا بالإهلاك في الدنيا { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } أي وكان نصر المؤمنين حقاً علينا بإنجائهم مع الرسل . وقد يوقف على { حقاً } ومعناه وكان الانتقام منهم حقاً ثم يبدأ { علينا نصر المؤمنين } والأول أصح { الله الذى يُرْسِلُ الرياح } { الريح } مكي { فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ } أي السحاب { فِى السماء } أي في سمت السماء وشقها كقوله { وَفَرْعُهَا فِى السماء } [ إبراهيم : 24 ] { كَيْفَ يَشَاء } من ناحية الشمال أو الجنوب أو الدبور أو الصبا { وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } قطعاً جمع كسفة أي يجعله منبسطاً يأخذ وجه السماء مرة ويجعله قطعاً متفرقة غير منبسطة مرة . { كسفا } يزيد وابن ذكوان { فَتَرَى الودق } المطر { يَخْرُجُ } في التارتين جميعاً { مِنْ خِلاَلِهِ } وسطه { فَإِذَا أَصَابَ بِهِ } بالودق { مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } يريد إصابة بلادهم وأراضيهم { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } يفرحون .
{ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } المطر { مِن قَبْلِهِ } كرر للتأكيد كقوله : { فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِى النار خالدين فِيهَا } [ الحشر : 17 ] ومعنى التوكيد فيها الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول فاستحكم بأسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك { لَمُبْلِسِينَ } آيسين { فانظر إلى ءاثار } شامي وكوفي غير أبي بكر . وغيرهم { أَثَرِ } { رَّحْمَةِ الله } أي المطر { كَيْفَ يُحْيىِ الأرض } بالنبات وأنواع الثمار { بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ } أي الله { لمحيي الموتى } يعني أن ذلك القادر الذي يحيي الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الناس بعد موتهم ، فهذا استدلال بإحياء الموات على إحياء الأموات { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } أي وهو على كل شيء من المقدورات قادر وهذا من جملة المقدورات بدليل الإنشاء .
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
{ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا } أي الدبور { فَرَأَوْهُ } أي أثر رحمة الله لأن رحمة الله هي الغيث وأثرها النبات . ومن قرأ بالجمع رجع الضمير إلى معناه لأن معنى آثار الرحمة النبات واسم النبات يقع على القليل والكثير لأنه مصدر سمي به ما ينبت { مُصْفَرّاً } بعد إخضراره . وقال { مصفرا } لأن تلك صفرة حادثة . وقيل : فرأوا السحاب مصفراً لأن السحاب الأصفر لا يمطر . واللام في { لئن } موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط ، وسد مسد جوابي القسم والشرط { لَّظَلُّواْ } ومعناه ليظلن { مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } أي من بعد اصفراره أو من بعد الاستبشار ، ذمهم الله تعالى بأنه إذا حبس عنهم المطر قنطوا من رحمته وضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين ، فإذا أصابهم برحمته ورزقهم المطر استبشروا ، فإذا أرسل ريحاً فضرب زروعهم بالصفار ضجوا وكفروا بنعمة الله فهم في جميع هذه الأحوال على الصفة المذمومة ، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله فقنطوا ، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها ففرحوا ، وأن يصبروا على بلائه فكفروا . { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } أي موتى القلوب أو هؤلاء في حكم الموتى فلا تطمع أن يقبلوا منك { وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء } { ولا يسمع الصم } مكي { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } فإن قلت : الأصم لا يسمع مقبلاً أو مدبراً ، فما فائدة هذا التخصيص؟ قلت : هو إذا كان مقبلاً يفهم بالرمز بالإشارة فإذا ولى لا يسمع ولا يفهم بالإشارة { وَمَا أَنتَ بِهَادِ العمى } أي عمى القلوب ، { وما أنت تهدى العمي } حمزة { عَن ضلالتهم } أي لا يمكنك أن تهدي الأعمى إلى طريق قد ضل عنه بإشارة منك له إليه { إِن تُسْمِعُ } ما تسمع { إلاَّ مَنْ يُؤمن بآياتنا فهم مسلمون } منقادون لأوامر الله تعالى .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
{ الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ } من النطف كقوله { مّن مَّاء مَّهِينٍ } [ المرسلات : 20 ] { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ } يعني حال الشباب وبلوغ الأشد { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } يعني حال الشيخوخة والهرم { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } من ضعف وقوة وشباب وشيبة { وَهُوَ العليم } بأحوالهم { القدير } على تغييرهم وهذا الترديد في الأحوال أبين دليل على الصانع العليم القدير . فتح الضاد في الكل : عاصم وحمزة ، وضم غيرهما وهو اختيار حفص ، وهما لغتان والضم أقوى في القراءة لما روي عن ابن عمر قال : قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم { من ضَعف } فأقرأني { من ضُعفٍ } { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة } أي القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا ، أو لأنها تقع بغتة كما تقول في ساعة لمن تستعجله وجرت علماً لها كالنجم للثريا { يُقْسِمُ المجرمون } يحلف الكافرون ، ولا وقف عليه لأن { مَا لَبِثُواْ } في القبور أو في الدنيا { غَيْرَ سَاعَةٍ } جواب القسم استقلوا مدة لبثهم في القبور أو في الدنيا لهول يوم القيامة وطول مقامهم في شدائدها أو ينسون أو يكذبون { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } أي مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق إلى الكذب في الدنيا ويقولون ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين .
{ وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان } هم الأنبياء والملائكة والمؤمنون { لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله } في علم الله المثبت في اللوح أو في حكم الله وقضائه { إلى يَوْمِ البعث } ردوا ما قالوه وحلفوا عليه وأطلعوهم على الحقيقة ، ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم { فهذا يَوْمُ البعث ولكنكم كُنتمْ } في الدنيا { لاَ تَعْلَمُونَ } أنه حق لتفريطكم في طلب الحق واتباعه . والفاء لجواب شرط يدل عليه الكلام تقديره : إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث الذي أنكرتموه
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ } بالياء : كوفي { الذين ظَلَمُواْ } كفروا { مَعْذِرَتُهُمْ } عذرهم { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة من قولك «استعتبني فلان فأعتبته» أي استرضاني فأرضيته { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَةٍ لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } أي ولقد وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن كصفة المبعوثين يوم القيامة وقصتهم وما يقولون وما يقال لهم وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم لقسوة قلوبهم إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا جئتنا بزور باطل { كذلك يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } أي مثل ذلك الطبع وهو الختم يطبع الله على قلوب الجهلة الذين علم الله منهم اختيار الضلال حتى يسموا المحقين مبطلين وهم أعرق خلق الله في تلك الصفة { فاصبر } على أذاهم أو عداوتهم { إِنَّ وَعْدَ الله } بنصرتك على أعدائك وإظهار دين الإسلام على كل دين { حَقّ } لا بد من إنجازه والوفاء به { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ } أي لا يحملنك هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة على الخفة والعجلة في الدعاء عليهم بالعذاب ، أو لا يحملنك على الخفة والقلق جزعاً مما يقولون ويفعلون فإنهم ضلال شاكون لا يستبدع منهم ذلك { ولا يستخفنك } بسكون النون عن يعقوب ، والله الموفق للصواب .
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
مكية وهي ثلاث أو أربع وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ آلم تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم } ذي الحكمة أو وصف بصفة الله عز وجل على الإسناد المجازي { هُدًى وَرَحْمَةً } حالان من الآيات والعامل معنى الإشارة في { تلك } حمزة بالرفع على أن { تلك } مبتدأ و { آيات الكتاب } خبره و { هدى } خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هي هدى ورحمة { لّلْمُحْسِنِينَ } للذين يعملون الحسنات المذكورة في قوله { الدين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } ونظيره قول أوس
الألمعيّ الذي يظن بك ال ... ظن كأن قد رأى وقد سمعا
أو للذين يعملون جميع ما يحسن . ثم خص منهم القائمين بهذه الثلاثة لفضلها
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
{ أولئك على هُدًى } مبتدأ وخبر { مّن رَّبّهِمُ } صفة ل { هدى } { وأولئك هُمُ المفلحون } عطف عليه { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث } نزلت في النضر بن الحرث وكان يشتري أخبار الأكاسرة من فارس ويقول : إن محمداً يقص طرفاً من قصة عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث الأكاسرة فيميلون إلى حديثه ويتركون استماع القرآن . واللهو كل باطل ألهى عن الخير وعما يعني ولهو الحديث نحو السمر بالأساطير التي لا أصل لها والغناء وكان ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما يحلفان أنه الغناء . وقيل : الغناء مفسدة للقلب منفدة للمال مسخطة للرب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين : أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت " والاشتراء من الشراء كما روي عن النضر ، أو من قوله { اشتروا الكفر بالإيمان } أي استبدلوه منه واختاروه عليه أي يختارون حديث الباطل على حديث الحق . وإضافة اللهو إلى الحديث للتبيين بمعنى «من» ، لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره فبيّن بالحديث والمراد بالحديث الحديث المنكر كما جاء في الحديث " الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش " أو للتبعيض كأنه قيل : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه .
{ لِيُضِلَّ } أي ليصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ، { ليضَل } مكي وأبو عمرو أي ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ويزيد فيه { عَن سَبِيلِ الله } عن دين الإسلام والقرآن { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي جهلاً منه بما عليه من الوزر به { وَيَتَّخِذَهَا } أي السبيل بالنصب كوفي غير أبي بكر عطفاً على { ليضل } ومن رفع عطفه على { يشتري } { هُزُواً } بسكون الزاي والهمزة : حمزة ، وبضم الزاي بلا همز : حفص ، وغيرهم بضم الزاي والهمزة { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي يهينهم و «من» لإبهامه يقع على الواحد والجمع أي النضر وأمثاله
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا ولى مُسْتَكْبِراً } أعرض عن تدبرها متكبراً رافعاً نفسه عن الإصغاء إلى القرآن { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } يشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو حال من { مستكبرا } والأصل كأنه والضمير ضمير الشأن { كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً } ثقلاً وهو حال من { لم يسمعها } { أذنيه } : نافع { فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات النعيم } ولا وقف عليه لأن { خالدين فِيهَا } حال من الضمير في { لهم } { وَعْدَ الله حَقّا } مصدران مؤكدان الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره إذ لهم جنات النعيم في معنى وعدهم الله جنات النعيم ، فأكد معنى الوعد بالوعد ، و { حقاً } يدل على معنى الثبات فأكد به معنى الوعد ومؤكدهما { لهم جنات النعيم } { وَهُوَ العزيز } الذي لا يغلبه شيء فيهين أعداءه بالعذاب المهين { الحكيم } بما يفعل فيثيب أولياءه بالنعيم المقيم .
{ خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ } جمع عماد { تَرَوْنَهَا } الضمير للسماوات وهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة على قوله { بغير عمد } كما تقول لصاحبك «أنا بلا سيف ولا رمح تراني» ، ولا محل لها من الأعراب لأنها مستأنفة أو في محل الجرصفة ل { عمد } أي بغير عمد مرئية يعني أنه عمدها بعمد لا ترى وهي إمساكها بقدرته { وألقى فِى الأرض رَوَاسِىَ } جبالاً ثوابت { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } لئلا تضطرب بكم { وَبَثَّ } ونشر { فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ } صنف { كَرِيمٍ } حسن { هذا } إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته { خَلَقَ الله } أي مخلوقه { فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ } يعني آلهتهم بكّتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله ، فأروني ما خلقته الهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة { بَلِ الظالمون فِى ضلال مُّبِينٍ } أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورط في ضلال ليس بعده ضلال .
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } وهو لقمان ابن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته . وقيل : كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام ، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له فقال : ألا أكتفي إذا كفيت؟ وقيل : كان خياطاً . وقيل نجاراً وقيل راعياً وقيل ، كان قاضياً في بني إسرائيل . وقال عكرمة والشعبي : كان نبياً . والجمهور على أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً . وقيل : خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة وهي الإصابة في القول والعمل . وقيل : تتلمذ لألف وتتلمذ له ألف نبي . و «أن» في { أَنِ اشكر للَّهِ } مفسرة والمعنى أي اشكر الله لأن إيتاء الحكمة في معنى القول ، وقد نبه الله تعالى على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما وعبادة الله والشكر له حيث فسر إيتاء الحكمة بالحث على الشكر . وقيل : لا يكون الرجل حكيماً حتى يكون حكيماً في قوله وفعله ومعاشرته وصحبته ، وقال السري السقطي : الشكر أن لا تعصي الله بنعمه . وقال الجنيد : أن لا ترى معه شريكاً في نعمه . وقيل : هو الإقرار بالعجز عن الشكر . والحاصل أن شكر القلب المعرفة ، وشكر اللسان الحمد ، وشكر الأركان الطاعة ، ورؤية العجز في الكل دليل قبول الكل . { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } لأن منفعته تعود إليه فهو يريد المزيد { وَمَن كَفَرَ } النعمة { فَإِنَّ الله غَنِىٌّ } غير محتاج إلى الشكر { حَمِيدٌ } حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد { وَإِذْ } أي واذكر إذ { قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ } أنعم أواشكم { وَهُوَ يَعِظُهُ يابنى } بالإسكان مكي { يا بني } حفص بفتحه في كل القرآن { لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا وهي منه ومن لا نعمة له أصلاً .
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
{ وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ } أي حملته تهن وهناً على وهن أي تضعف ضعفاً فوق ضعف أي يتزايد ضعفها ويتضاعف لأن الحمل كلما ازداد أو عظم ازدادت ثقلاً وضعفاً { وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ } أي فطامه عن الرضاع لتمام عامين { أَنِ اشكر لِى ولوالديك } هو تفسير ل { وصينا } أي وصيناه بشكرنا وبشكر والديه . وقوله { حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين } اعتراض بين المفسر والمفسر لأنه لما وصى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق في حمله وفصاله هذه المدة الطويلة تذكيراً «بحقها العظيم مفرداً» . وعن ابن عيينة : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكرهما { إِلَىَّ المصير } أي مصيرك إليّ وحسابك عليّ { وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أراد بنفي العلم به نفيه أي لا تشرك بي ما ليس بشيء يريد الأصنام { فَلاَ تُطِعْهُمَا } في الشرك { وصاحبهما فِى الدنيا مَعْرُوفاً } صفة مصدر محذوف أي صحاباً معروفاً حسناً بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة { واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ } أي سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه وإن كنت مأموراً بحسن مصاحبتهما في الدنيا . وقال ابن عطاء : صاحب من ترى عليه أنوار خدمتي . { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } أي مرجعك ومرجعهما { فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما . وقد اعترض بهاتين الآيتين على سبيل الاستطراد تأكيداً لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك يعني إنا وصيناه بوالديه وأمرناه أن لا يطيعهما في الشرك وإن جهدا كل الجهد لقبحه .
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
{ يابنى إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ } بالرفع : مدني ، والضمير للقصة وأنت المثقال لإضافته إلى الحبة كما قال :
كما شرقت صدر القناة من الدم
و«كان» تامة والباقون بالنصب والضمير للهنة من الإساءة والإحسان أي إن كانت مثلاً في الصغر كحبة خردل { فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السماوات أَوْ فِى الأرض } أي فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة ، أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي والأكثر على أنها التي عليها الأرض وهي السجين يكتب فيها أعمال الفجار وليست من الأرض { يَأتِ بِهَا الله } يوم القيامة فيحاسب بها عاملها { إِنَّ الله لَطِيفٌ } بتوصل علمه إلى كل خفي { خَبِيرٌ } عالم بكنهه أو لطيف باستخراجها خبير بمستقرها { يابنى أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر واصبر على مَا أَصَابَكَ } في ذات الله تعالى إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، أو على ما أصابك من المحن فإنها تورث المنح { إِنَّ ذلك } الذي وصيتك به { مِنْ عَزْمِ الأمور } أي مما عزمه الله من الأمور أي قطعه قطع إيجاب وإلزام أي أمر به أمراً حتماً ، وهو من تسمية المفعول بالمصدر وأصله من معزومات الأمور أي مقطوعاتها ومفروضاتها ، وهذا دليل على أن هذه الطاعات كانت مأموراً بها في سائر الأمم .
{ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } أي ولا تعرض عنهم تكبراً . { تصاعر } أبو عمرو ونافع وحمزة وعلي ، وهو بمعنى تصعّر ، والصعر داء يصيب البعير يلوي منه عنقه والمعنى : أقبل على الناس بوجهك تواضعاً ولا تولهم شق وجهك وصفحته كما يفعله المتكبرون { وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحًا } أي تمرح مرحاً ، أو أوقع المصدر موقع الحال أي مرحاً ، أو ولا تمش لأجل المرح والأشر { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ } متكبر { فَخُورٌ } من يعدد مناقبه تطاولا
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
{ واقصد } القصد التوسط بين العلو والتقصير { فِى مَشْيِكَ } أي اعدل فيه حتى يكون مشياً بين مشيين لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثوب الشطار . قال عليه السلام " سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن " وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنه : كان إذا مشى أسرع ، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ولكن مشياً بين ذلك . وقيل : معناه وانظر موضع قدميك متواضعاً { واغضض مِن صَوْتِكَ } وانقص منه أي اخفض صوتك { إِنَّ أَنكَرَ الأصوات } أي أوحشها { لَصَوْتُ الحمير } لأن أوله زفير وآخره شهيق كصوت أهل النار . وعن الثوري : صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار فإنه يصيح لرؤية الشيطان ولذلك سماه الله منكراً . وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير وتمثيل أصواتهم بالنهاق تنبيه على أن أرفع الصوت في غاية الكراهة يؤيده ما روي أنه عليه السلام كان يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت ويكره أن يكون مجهور الصوت . وإنما وحد صوت الحمير ولم يجمع لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من احاد هذا الجنس حتى يجمع ، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت ، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس فوجب توحيده .
{ أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات } يعني الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك { وَمَا فِى الأرض } يعني البحار والأنهار والمعادن والدواب وغير ذلك { وَأَسْبَغَ } وأتم { عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ } مدني وأبو عمرو وسهل وحفص . { نعمة } غيرهم والنعمة كل نفع قصد به الإحسان { ظاهرة } بالمشاهدة { وَبَاطِنَةً } ما لا يعلم إلا بدليل ثم قيل : الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح الظاهرة ، والباطنة القلب والعقل والفهم وما أشبه ذلك . ويروى في دعاء موسى عليه السلام : إلهي دلني على أخفى نعمتك على عبادك فقال : أخفى نعمتي عليهم النفس . وقيل : تخفيف الشرائع وتضعيف الذرائع والخلق ونيل العطايا وصرف البلايا وقبول الخلق ورضا الرب . وقال ابن عباس : الظاهرة ما سوّى من خلقك والباطنة ما ستر من عيوبك . { ومِنَ الناس مَن يجادل فِى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ } نزلت في النضر بن الحرث وقد مر في «الحج»
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير } معناه أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب .
{ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله } عدِّي هنا ب «إلى» ، وفي { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ البقرة : 112 ] باللام فمعناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالماً لله أي خالصاً له ، ومعناه مع «إلى» أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه والمراد التوكل عليه والتفويض إليه { وَهُوَ مُحْسِنٌ } فيما يعمل { فَقَدِ استمسك } تمسك وتعلق { بالعروة } هي ما يعلق به الشيء { الوثقى } تأنيث الأوثق مثل حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه { وإلى الله عاقبة الأمور } أي هي صائرة إليه فيجازي عليها { وَمَن كَفَرَ } ولم يسلم وجهه لله { فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ } من حزن ، { يُحزِنك } نافع من أحزن أي لا يهمنك كفر من كفر { إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ } فنعاقبهم على أعمالهم { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } إن الله يعلم ما في صدور عباده فيفعل بهم على حسبه
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
{ نُمَتّعُهُمْ } زماناً { قَلِيلاً } بدنياهم { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ } نلجئهم { إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } شديد شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطر إلى الشيء ، والغلظ مستعار من الأجرام الغليظة والمراد ، الشدة والثقل على المعذب } وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ } إلزام لهم على إقرارهم بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده ، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر وأن لا يعبد معه غيره . ثم قال { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن ذلك يلزمهم وإذا نبهوا عليه لم يتنبهوا { لِلَّهِ مَا فِى السماوات والأرض إِنَّ الله هُوَ الغنى } عن حمد الحامدين { الحميد } المستحق للحمد وإن لم يحمدوه .
قال المشركون : إن هذا أي الوحي كلام سينفذ فأعلم الله أن كلامه لا ينفذ بقوله { وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كلمات الله } والبحر بالنصب أبو عمرو ويعقوب عطفاً على اسم «أن» وهو «ما» ، والرفع على محل «أن» ومعمولها أي ولو ثبت كون الأشجار أقلاماً وثبت البحر ممدوداً بسبعة أبحر ، أو على الابتداء والواو للحال على معنى : ولو أن الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدوداً وقرىء يُمِدّهُ وكان مقتضى الكلام أن يقال : ولو أن الشجر أقلام والبحر مداد ، لكن أغنى عن ذكر المداد قوله { يمده } لأنه من قولك «مد الدواة وأمدها» جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة وجعل الأبحر السبعة مملوءة مداداً فهي تصب فيه مدادها أبداً صباً لا ينقطع . والمعنى : ولو أن أشجار الأرض أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله لما نفدت كلماته وتفدت الأقلام والمداد كقوله : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى } [ الكهف : 109 ] فإن قلت : زعمت أن قوله { والبحر يمده } حال في أحد وجهي الرفع وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال . قلت : هو كقولك «جئت والجيش مصطف» وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف . وإنما ذكر شجرة على التوحيد لأنه أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاماً ، وأوثر الكلمات وهي جمع قلة على الكلم وهي جمع كثرة لأن معناه أن كلمات لا تفي بكتبتهالبحار فكيف بكلمه { أَنَّ الله عَزِيزٌ } لا يعجزه شيء { حَكِيمٌ } لا يخرج من علمه وحكمته شيء فلا تنفد كلماته وحكمه
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
{ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة } إلا كخلق نفس واحدة وبعث نفس واحدة فحذف للعلم به أي سواء في قدرته القليل والكثير فلا يشغله شأن عن شأن { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لقول المشركين إنه لا بعث { بَصِيرٌ } بأعمالهم فيجازيهم .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار } يدخل ظلمة الليل في ضوء النهار إذا أقبل الليل { وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر } لمنافع العباد { كُلٌّ } أي كل واحد من الشمس والقمر { يَجْرِى } في فلكه ويقطعه { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى يوم القيامة أو إلى وقت معلوم الشمس إلى آخر السنة والقمر إلى آخر الشهر { وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وبالياء : عياش . دل أيضاً بتعاقب الليل والنهار وزيادتهما ونقصانهما وجرى النيرين في فلكيهما على تقدير وحساب وبإحاطته بجميع أعمال الخلق على عظم قدرته وكمال حكمته { ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ } بالياء : عراقي غير أبي بكر { مِن دُونِهِ الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير } أي ذلك الوصف الذي وصف به من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون ، فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون الله! إنما هو بسبب أنه هو الحق الثابت الإلهية وأن من دونه باطل الإلهية وأنه هو العلي الشأن الكبير السلطان .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك } وقريء { الفلك } وكل فُعْل يجوز فيه فعل كما يجوز في كل فُعُل فُعْل { تَجْرِى في البحر بنعمت الله } بإحسانه ورحمته أو بالريح لأن الريح من نعم الله { لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءاياته } عجائب قدرته في البحر إذا ركبتموها { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ } على بلائه { شَكُورٍ } لنعمائه ، وهما صفتا المؤمن فالإيمان نصفان : نصفه شكر ونصفه صبر فكأنه قال : إن في ذلك لآيات لكل مؤمن .
{ وَإِذَا غَشِيَهُمْ } أي الكفار { مَّوْجٌ كالظلل } الموج يرتفع فيعود مثل الظلل والظلة كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو غيرهما { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } أي باقٍ على الإيمان والإخلاص الذي كان منه ولم يعد إلى الكفر ، أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر يعني أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط والمقتصد قليل نادر { وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا } أي بحقيقتها { إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ } غدار والختر أقبح الغدر { كَفُورٌ } لربه { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } لا يقضي عنه شيئاً والمعنى لا يجزيء فيه فحذف { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه لأن الجملة الاسمية آكد من الجملة الفعلية وقد انضم إلى ذلك قوله { هو } وقوله { مولود } والسبب في ذلك أن الخطاب للمؤمنين وعليتهم قبض آباؤهم على الكفر فأريد حسم أطماعهم أن ينفعوا آباءهم بالشفاعة في الآخرة . ومعنى التأكيد لفظ المولود أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته فضلاً أن يشفع لأجداده إذ الولد يقع على الولد وولد الولد بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك كذا في الكشاف { إِنَّ وَعْدَ الله } بالبعث والحساب والجزاء { حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا } بزينتها فإن نعمتها دانية ولذتها فانية { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } الشيطان أو الدنيا أو الأمل .
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
{ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } أي وقت قيامها { وَيُنَزّلُ } بالتشديد : شامي ومدني وعاصم ، وهو عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل تقديره : إن الله يثبت عنده علم الساعة وينزل { الغيث } في إبّانه من غير تقديم ولا تأخير { وَيَعْلَمُ مَا في وَأُوْلُو الأرحام } أذكر أم أنثى وتام أم ناقص { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ } برة أو فاجرة { مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } من خير أو شر وربما كانت عازمة على خير فعملت شراً وعازمة على شر فعملت خيراً { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ } أي أين تموت؟ وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت لا أبرحها فترمي بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها . روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه فقال الرجل : من هذا؟ فقال له : ملك الموت . قال : كأنه يريدني وسأل سليمان عليه السلام أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند ففعل ثم قال ملك الموت لسليمان : كان دوام نظري إليه تعجباً منه لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك . وجعل العلم لله والدارية للعبيد لما في الدارية من معنى الختل والحيلة ، والمعنى أنها لا تعرف وإن أعملت حيلها ما يختص بها ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته ، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان معرفة ماعداهما أبعد وأما المنجم الذي يخبر بوقت الغيث والموت فإنه يقول بالقياس والنظر في الطالع وما يدرك بالدليل لا يكون غيباً على أنه مجرد الظن والظن غير العلم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « مفاتح الغيب خمس » وتلا هذه الآية . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من ادّعى علم هذه الخمسة فقد كذب . ورأى المنصور في منامه صورة ملك الموت وسأله عن مدة عمره فأشار بأصابعه الخمس فعبرها المعبرون بخمس سنوات وبخمسة أشهر وبخمسة أيام فقال أبو حنيفة رضي الله عنه : هو إشارة إلى هذه الآية ، فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بالغيوب { خَبِيرٌ } بما كان ويكون . وعن الزهريّ رضي الله تعالى عنه : أكثروا قراءة سورة لقمان فإن فيها أعاجيب والله أعلم .
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
مكية وهي ثلاثون آية مدني وكوفي ، وتسع وعشرون آية بصري
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الم } على أنها اسم السورة مبتدأ وخبره { تنزيل الكتاب } وإن جعلتها تعديداً للحروف ارتفع { تنزيل } بأنه خبر مبتدأ محذوف أو هو مبتدأ خبره { لا ريب فيه } أو يرتفع بالابتداء وخبره { من رّبّ العالمين } و { لا ريب فيه } اعتراض لا محل له ، والضمير في { فيه } راجع إلى مضمون الجملة كأنه قيل : لا ريب في ذلك أي في كونه منزلاً من رب العالمين لأنه معجز للبشر ومثله أبعد شيء من الريب . ثم أضرب عن ذلك إلى قوله { أم يقولون افتراه } أي اختلقه محمد لأن «أم» هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة معناه بل أيقولون افتراه إنكاراً لقولهم وتعجيباً منهم لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه { بل هو الحقّ } ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق { من رّبّك } ولم يفتره محمد صلى الله عليه وسلم كما قالوا تعنتاً وجهلاً { لتنذر قوماً } أي العرب { مّا أتاهم مّن نّذيرٍ مّن قبلك } «ما» للنفي والجملة صفة ل { قوماً } { لعلّهم يهتدون } على الترجي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان لعله يتذكر على الترجي من موسى وهارون .
{ الله الّذي خلق السّماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّامٍ ثمّ استوى على العرش } استولى عليه بإحداثه { ما لكم مّن دونه } من دون الله { من وليّ ولا شفيعٍ } أي إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم ولياً أي ناصراً ينصركم ولا شفيعاً يشفع لكم { أفلا تتذكّرون } تتعظون بمواعظ الله { يدبّر الأمر } أي أمر الدنيا { من السّماء إلى الأرض } إلى أن تقوم الساعة { ثمّ يعرج إليه } ذلك الأمر كله أي يصير إليه ليحكم فيه { في يومٍ كان مقداره ألف سنةٍ } وهو يوم القيامة { مّمّا تعدّون } من أيام الدنيا ولا تمسّك للمشبهة بقوله { إليه } في إثبات الجهة لأن معناه إلى حيث يرضاه أو أمره كما لا تشبث لهم بقوله : { إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] . { إني مهاجر إلى ربي } [ العنكبوت : 26 ] . { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله } [ النساء : 100 ] .
{ ذلك عالم الغيب والشّهادة } أي الموصوف بما مر عالم ما غاب عن الخلق وما شاهدوه { العزيز } الغالب أمره { الرّحيم } البالغ لطفه وتيسيره . وقيل : لا وقف عليه لأن { الّذي } صفته { أحسن كلّ شيءٍ } أي حسنه لأن كل شيء مرتب على ما اقتضته الحكمة { خلقه } كوفي ونافع وسهل على الوصف أي كل شيء خلقه فقد أحسن { خلقه } غيرهم على البدل أي أحسن خلق كل شيء { وبدأ خلق الإنسان } آدم { من طينٍ ثمّ جعل نسله } ذريته { من سلالةٍ } من نطفة { مّن مّاءٍ } أي مني وهو بدل من { سلالة } { مّهينٍ } ضعيف حقير { ثمّ سواه } قومه كقوله
{ في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] { ونفخ } أدخل { فيه من رّوحه } الإضافة للاختصاص كأنه قال : ونفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبعلمه { وجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة } لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا { قليلاً مّا تشكرون } أي تشكرون قليلاً .
{ وقالوا } القائل أبيّ بن خلف ولرضاهم بقوله أسند إليهم { أءذا ضللنا في الأرض } أي صرنا تراباً وذهبنا مختلطين بتراب الأرض لا نتميز منه كما يضل الماء في اللبن ، أو غبنا في الأرض بالدفن فيها . وقرأ عليٌّ { ضللنا } بكسر اللام يقال : ضل يضل وضل يضل . وانتصب الظرف في { أإذا ضللنا } بما يدل عليه { أءنّا لفي خلقٍ جديدٍ } وهو نبعث { بل هم بلقاء ربّهم كافرون } جاحدون . لما ذكر كفرهم بالبعث أضرب عنه إلى ما هو أبلغ وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة لا بالبعث وحده { قل يتوفّاكم مّلك الموت الّذي وكّل بكم ثمّ إلى ربّكم ترجعون } أي يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بقبض أرواحكم ثم ترجعون إلى ربكم بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء وهذا معنى لقاء الله . والتوفي استيفاء النفس وهي الروح أي يقبض أرواحكم أجمعين من قولك «توفيت حقي من فلان» إذا أخذته وافياً كاملاً من غير نقصان . وعن مجاهد : حويت لملك الموت الأرض وجعلت له مثل الطست يتناول منها حيث يشاء . وقيل : ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه ثم يأمر أعوانه بقبضها والله تعالى هو الآمر لذلك كله وهو الخالق لأفعال المخلوقات . وهذا وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله { توفته رسلنا } [ الأنعام : 61 ] وقوله { الله يتوفى الأنفس حين موتها } [ الزمر : 42 ] .
{ ولو ترى } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد و«لو» امتناعية والجواب محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً { إذ المجرمون } هم الذين قالوا { أءذا ضللنا في الأرض } و«لو» و«إذ» للمضي وإنما جاز ذلك لأن المترقب من الله بمنزلة الموجود ولا يقدر لترى ما يتناوله كأنه قيل : ولو تكون منك الرؤية و«إذ» ظرف له { ناكسوا رؤوسهم } من الذل والحياء والندم { عند ربّهم } عند حساب ربهم ويوقف عليه لحق الحذف إذ التقدير ويقولون { ربّنا أبصرنا } صدق وعدك وعيدك { وسمعنا } منك تصديق رسلنا أو كنا عمياً وصماً فأبصرنا وسمعنا { فارجعنا } إلى الدنيا { نعمل صالحاً } أي الإيمان والطاعة { إنّا موقنون } بالبعث والحساب الآن { ولو شئنا لآتينا كلّ نفسٍ هداها } في الدنيا أي لو شئنا أعطينا كل نفس ما عندنا من اللطف الذي لو كان منهم اختيار ذلك لاهتدوا لكن لم نعطهم ذلك اللطف لما علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره ، وهو حجة على المعتزلة فإن عندهم شاء الله أن يعطي كل نفس ما به اهتدت وقد أعطاها لكنها لم تهتد ، وهم أوّلوا الآية بمشيئة الجبر وهو تأويل فاسد لما عرف في تبصر الأدلة .
{ ولكن حقّ القول منّي لأملأنّ جهنّم من الجنّة والنّاس أجمعين } ولكن وجب القول مني بما علمت أنه يكون منهم ما يستوجبون به جهنم وهو ما علم منهم أنهم يختارون الرد والتكذيب . وفي تخصيص الإنس والجن إشارة إلى أنه عصم ملائكته عن عمل يستوجبون به جهنم .
{ فذوقوا } العذاب { بما نسيتم لقاء } بما تركتم من عمل لقاء { يومكم هذا } وهو الإيمان به { إنّا نسيناكم } تركناكم في العذاب كالمنسي { وذقوا عذاب الخلد } أي العذاب الدائم الذي لا انقطاع له { بما كنتم تعملون } من الكفر والمعاصي .
{ إنّما يؤمن بآياتنا الّذين إذا ذكّروا بها } أي وعظوا بها { خرّوا سجّداً } سجدوا لله تواضعاً وخشوعاً وشكراً على ما رزقهم من الإسلام { وسبّحوا بحمد ربّهم } ونزهوا الله عما لا يليق به وأثنوا عليه حامدين له { وهم لا يستكبرون } عن الإيمان والسجود له { تتجافى } ترتفع وتنتحي { جنوبهم عن المضاجع } عن الفرض ومضاجع النوم . قال سهل : وهب لقوم هبة وهو أن أذن لهم في مناجاته وجعلهم من أهل وسيلته ثم مدحهم عليه فقال { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } { يدعون } داعين { ربّهم } عابدين له { خوفاً وطمعاً } مفعول له أي لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته وهم المتهجدون . وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها قيام العبد من الليل . وعن ابن عطاء : أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة وطلبت بساط القربة يعني صلاة الليل . وعن أنس : كان أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة فنزلت فيهم . وقيل : هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها . { وممّا رزقناهم ينفقنون } في طاعة الله تعالى { فلا تعلم نفسٌ مّا أخفي لهم } «ما» بمعنى «الذي» { أخفي } على حكاية النفس : حمزة ويعقوب { مّن قرّة أعينٍ } أي لا يعلم أحد ما أعد لهؤلاء من الكرامة { جزاءً } مصدر أي جوزوا جزاء { بما كانوا يعملون } عن الحسن رضي الله عنه : أخفى القوم أعمالاً فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت . وفيه دليل على أن المراد الصلاة في جوف الليل ليكون الجزاء وفاقاً . ثم بين أن من كان في نور الطاعة والإيمان لا يستوي مع من هو في ظلمة الكفر والعصيان بقوله :
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
{ أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً } أي كافراً وهما محمولان على لفظ من وقوله { لاّ يستوون } على المعنى بدليل قوله { أمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم جنّات المأوى } هي نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء . وقيل : هي عن يمين العرش { نزلاً بما كانوا يعملون } عطاء بأعمالهم والنزل عطاء النازل ثم صار عاماً { وأمّا الّذين فسقوا فمأواهم النّار } أي ملجؤهم ومنزلهم { كلّما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم } أي تقول لهم خزنة النار { ذوقوا عذاب النّار الّذي كنتم به تكذّبون } وهذا دليل على أن المراد بالفاسق الكافر إذ التكذيب يقابل الإيمان { ولنذيقنّهم مّن العذاب الأدنى } أي عذاب الدنيا من الأسر وما محنوا به من السنة سبع سنين { دون العذاب الأكبر } أي عذاب الآخرة أي نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة . وعن الداراني : العذاب الأدنى الخذلان والعذاب الأكبر الخلود في النيران . وقيل : العذاب الأدنى عذاب القبر { لعلّهم } لعل المعذبين بالعذاب الأدنى { يرجعون } يتوبون عن الكفر { ومن أظلم ممّن ذكّر } وعظ { بآيات ربّه } أي بالقرآن { ثمّ أعرض عنها } أي فتولى عنها ولم يتدبر فيها . و«ثم» للاستبعاد أي أن الإعراض عن مثل هذه الآيات في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها ، مستبعد في العقل كما تقول لصاحبك «وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها» استبعاداً لتركه الانتهاز { إنّا من المجرمين منتقمون } ولم يقل «منه» لأنه إذا جعله أظلم كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم فقد دل على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام ، ولو قال بالضمير لم يفد هذه الفائدة .
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } التوراة { فلا تكن في مريةٍ } شك { من لقائه } من لقاء موسى الكتاب أو من لقائك موسى ليلة المعراج أو يوم القيامة أو من لقاء موسى ربه في الآخرة كذا عن النبي صلى الله عليه وسلم { وجعلناه هدًى لّبني إسرائيل } وجعلنا الكتاب المنزل على موسى لقومه هدى { وجعلنا منهم أئمّةً } بهمزتين : كوفي وشامي { يهدون } بذلك الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه { بأمرنا } إياهم بذلك { لمّا صبروا } حين صبروا على الحق بطاعة الله أو عن المعاصي { لما صبروا } حمزة وعلي أي لصبرهم عن الدنيا ، وفيه دليل على أن الصبر ثمرته إمامة الناس { وكانوا بآياتنا } التوراة { يوقنون } يعلمون علماً لا يخالجه شك { إنّ ربّك هو يفصل } يقضي { بينهم يوم القيامة } بين الأنبياء وأممهم أو بين المؤمنين والمشركين { فيما كانوا فيه يختلفون } فيظهر المحق من المبطل .
{ أو لم } الواو للعطف على معطوف عليه منوي من جنس المعطوف أي أو لم يدع { يهد } يبين والفاعل الله بدليل قراءة زيد عن يعقوب { نهد } { لهم } لأهل مكة { كم } لا يجوز أن يكون «كم» فاعل { يهدى } لأن «كم» للاستفهام فلا يعمل فيه ما قبله ومحله نصب بقوله { أهلكنا من قبلهم مّن القرون } كعاد وثمود وقوم لوط { يمشون في مساكنهم } أي أهل مكة يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم { إنّ في ذلك لآياتٍ أفلا يسمعون } المواعظ فيتعظوا { أو لم يروا أنّا نسوق الماء } نجري المطر والأنهار { إلى الأرض الجرز } أي الأرض التي جرز نباتها أي قطع إما لعدم الماء أو لأنه رعي ، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز بدليل قوله { فنخرج به } بالماء { زرعاً تأكل منه } من الزرع { أنعامهم } من عصفه { وأنفسهم } من حبه { أفلا يبصرون } بأعينهم فيستدلوا به على قدرته على إحياء الموتى { ويقولون متى هذا الفتح } النصر أو الفصل بالحكومة من قوله
{ ربنا افتح بيننا } [ الأعراف : 89 ] وكان المسلمون يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين أو بفتح بيننا وبينهم فإذا سمع المشركون ذلك قالوا : متى هذا الفتح أي في أي وقت يكون { إنّ كنتم صادقين } في أنه كائن .
{ قل يوم الفتح } أي يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم أو يوم نصرهم عليهم أو يوم بدر أو يوم فتح مكة { لا ينفع الّذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون } وهذا الكلام لم ينطبق جواباً على سؤالهم ظاهراً ولكن لما كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالاً منهم على وجه التكذيب والاستهزاء أجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلا ينفعكم الإيمان ، أو استنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا ، ومن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر فهو يريد المقتولين منهم فإنهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل كما لم ينفع فرعون إيمانه عند الغرق { فأعرض عنهم وانتظر } النصرة وهلاكهم { إنّهم مّنتظرون } الغلبة عليكم وهلاككم ، وكان عليه السلام لا ينام حتى يقرأ « { ألم تنزيل } » السجدة و { تبارك الذي بيده الملك } [ الملك : 1 ] وقال " من قرأ الم تنزيل في بيته لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام " وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سورة الم تنزيل هي المانعة تمنع من عذاب القبر . والله أعلم .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
مدنية وهي ثلاث وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه لزرّ : كم تعدون سورة الأحزاب؟ قال : ثلاثاً وسبعين . قال : فوالذي يحلف به أبيّ إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ولقد قرأنا منها آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم» . أراد أبيّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن . وأما ما يحكى أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة رضي الله عنها فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض .
{ يا أيّها النّبيّ } وبالهمز : نافع أي يا أيها المخبر عنا المأمون على أسرارنا المبلغ خطابنا إلى أحبابنا . وإنما لم يقل «يا محمد» كما قال { يا آدم } { يا موسى } تشريفاً له وتنويهاً بفضله ، وتصريحه باسمه في قوله { محمد رسول الله } [ الفتح : 29 ] ونحوه لتعليم الناس بأنه رسول الله { اتّق الله } اثبت على تقوى الله ودم عليه وازدد منه فهو باب لا يدرك مداه { ولا تطع الكافرين والمنافقين } ولا تساعدهم على شيء واحترس منهم فإنهم أعداء الله والمؤمنين . وروي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة بعد قتال أحد فنزلوا على عبد الله بن أبيّ وأعطاهم النبي الأمان على أن يكلموه فقالوا : ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تنفع وتشفع ، ووازرهم المنافقون على ذلك فهمّ المسلمون بقتلهم فنزلت . أي اتق الله في نقض العهد ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا { إنّ الله كان عليماً } بخبث أعمالهم { حكيماً } في تأخير الأمر بقتالهم .
{ واتّبع ما يوحى إليك من رّبّك } في الثبات على التقوى وترك طاعة الكافرين والمنافقين { إنّ الله } الذي يوحي إليك { كان بما تعملون خبيراً } أي لم يزل عالماً بأعمالهم وأعمالكم . وقيل : إنما جمع لأن المراد بقوله { اتبع } هو وأصحابه ، وبالياء : أبو عمر وأي بما يعمل الكافرون والمنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم { وتوكّل على الله } أسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره { وكفى بالله وكيلاً } حافظاً موكولاً إليه كل أمر ، وقال الزجاج : لفظه وإن كان لفظ الخبر فالمعنى اكتف بالله وكيلاً .
{ مّا جعل الله لرجلٍ مّن قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم الاىء تظاهرون منهنّ أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم } أي ما جمع الله قلبين في جوف ، ولا زوجية وأمومة في امرأة ، ولا بنوة ودعوة في رجل . والمعنى أنه تعالى كما لم يجعل لإنسان قلبين لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر فعلاً من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليه ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً عالماً ظاناً موقناً شاكاً في حالة واحدة .
لم يحكم أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أما لرجل زوجاً له ، لأن الأم مخدومة والمرأة خادمة وبينهما منافاة ، وأن يكون الرجل الواحد دعياً لرجل وابناً له لأن البنوة أصالة في النسب والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير ، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل . وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيراً فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له فطلبه أبوه وعمه فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه وكانوا يقولون «زيد بن محمد» ، فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب وكانت تحت زيد قال المنافقون : تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه فأنزل الله هذه الآية ، وقيل : كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان قلب معكم وقلب مع أصحابه . وقيل : كان أبو معمر أحفظ العرب فقيل له «ذو القلبين» فأكذب الله قولهم وضربه مثلاً في الظهار والتبني . والتنكير في { رجل } وإدخال «من» الاستغراقية على { قلبين } وذكر الجوف للتأكيد . { اللائي } بياء بعد الهمزة حيث كان : كوفي وشامي ، { اللاء } نافع ويعقوب وسهل وهي جمع . { التي تُظاهِرون } عاصم من ظاهر إذا قال لامرأته «أنت علي كظهر أمي» { تَظَاهَرون } علي وحمزة وخلف . { تَظَّاهرون } شامي من ظاهر بمعنى تظاهر . غيرهم { تظّهّرون } من اظّهّر بمعنى تظهر . وعُدي ب «من» لتضمنه معنى البعد لأنه كان طلاقاً في الجاهلية ونظيره «آلى من امرأته» لما ضمن معنى التباعد عدي ب «من» وإلا فآلى في أصله الذي هو معنى حلف وأقسم ليس هذا بحكمه . والدعي فعيل بمعنى مفعول وهو الذي يدعي ولداً ، وجمع على أفعلاء شاذاً لأن بابه ما كان منه بمعنى فاعل كتقي وأتقياء وشقي وأشقياء ولا يكون ذلك في نحو «رمي» و «سميّ» للتشبيه اللفظي .
{ ذلكم قولكم بأفواهكم } أي أن قولكم للزوجة هي أم وللدعي هو ابن قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له إذ الابن يكون بالولادة وكذا الأم { والله يقول الحقّ } أي ما حق ظاهره وباطنه { وهو يهدى السّبيل } أي سبيل الحق . ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق وهو قوله { ادعوهم لآبائهم هو أقسط } أعدل { عند الله } وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل . وقيل : كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه ولد الرجل ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه . وكان ينسب إليه فيقال فلان بن فلان . ثم انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث وصل الجملة الطلبية ثم فصل الخبرية عنها ووصل بينها ، ثم فصل الاسمية عنها ووصل بينها ثم فصل بالطلبية { فإن لّم تعلموا آباءهم } فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم { فإخوانكم في الدّين ومواليكم } أي فهم إخوانكم في الدين وأولياؤكم في الدين فقولوا هذا أخي وهذا مولاي ويا أخي ويا مولاي ، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه .
{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } أي لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهي { ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } ولكن الإثم عليكم فيما تعمدتموه بعد النهي . أولا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بني على سبيل الخطأ وسبق اللسان ، ولكن إذا قلتموه متعمدين ، و «ما» في موضع الجر عطف على «ما» الأولى ، ويجوز أن يراد العفو عن الخطأ دون العمد على سبيل العموم ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده . وإذا وجد التبني فإن كان المتبني مجهول النسب وأصغر سناً منه ثبت نسبه منه وعتق إن كان عبداً له ، وإن كان أكبر سناً منه لم يثبت النسب وعتق عند أبي حنيفة رضي الله عنه ، وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وعتق إن كان عبداً { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } لا يؤاخذكم بالخطأ ويقبل التوبة من المتعمد .
{ النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي أحق بهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، فعليهم أن يبذلوها دونه ويجعلوها فداءه ، أو هو أولى بهم أي أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم كقوله { بالمؤمنين رؤوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] وفي قراءة ابن مسعود { النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وهو لهم ، وقال مجاهد : كل نبي أبو أمته ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين { وأزواجه أمهاتهم } في تحريم نكاحهن ووجوب تعظيمهن وهن فيما وراء ذلك كالإرث ونحوه كالأجنبيات ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن { وَأُوْلُواْ الأرحام } وذوو القرابات { بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } في التوارث وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة ثم نسخ ذلك وجعل التوارث بحق القرابة { فِى كتاب الله } في حكمه وقضائه أو في اللوح المحفوظ أو فيما فرض الله { مِنَ المؤمنين والمهاجرين } يجوز أن يكون بياناً لأولي الأرحام أي الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب ، وأن يكون لابتداء الغاية أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين أي الأنصار بحق الولاية في الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة { إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً } الاستثناء من خلاف الجنس أي لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً جائز وهو أن توصوا لمن أحببتم من هؤلاء بشيء فيكون ذلك بالوصية لا بالميراث . وعدي { تَفْعَلُواْ } ب «إلى» لأنه في معنى تسدوا والمراد بالأولياء المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين { كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا } أي التوارث بالأرحام كان مسطوراً في اللوح .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ } واذكر حين أخذنا من النبيين ميثاقهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم { وَمِنْكَ } خصوصاً . وقدم رسول الله على نوح ومن بعده لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء لأنهم أولو العزم وأصحاب الشرائع ، فلما كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء قدم عليهم ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه { وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقًا غَلِيظاً } وثيقاً . وأعاد ذكر الميثاق لانضمام الوصف إليه وإنما فعلنا ذلك { لّيسئل } الله { الصادقين } أي الأنبياء { عَن صِدْقِهِمْ } عما قالوه لقومهم أو ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم لأن من قال للصادق صدقت كان صادقاً في قوله ، أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم أممهم وهو كقوله { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } [ المائدة : 109 ] { وَأَعَدَّ للكافرين } بالرسل { عَذَاباً أَلِيماً } وهو عطف على { أَخَذْنَا } لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد للكافرين عذاباً أليماً ، أو على ما دل عليه { لِّيَسْأَلَ الصادقين } كأنه قال : فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
ياأيها الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } أي ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق وكان بعد حرب أحد بسنة { إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } أي الأحزاب وهم : قريش وغطفان وقريظة والنضير { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } أي الصبا . قال عليه السلام « نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور » { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } وهم الملائكة وكانوا ألفاً بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية فأخصرتهم وأسفت التراب في وجوههم ، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم فانهزموا من غير قتال . وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة بإشارة سلمان ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنسوان فرفعوا في الآطام واشتد الخوف ، وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان ، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن ، وعامر بن الطفيل في هوازن وضامّتهم اليهود من قريظة والنضير ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى أنزل الله النصر { وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ } أي بعملكم أيها المؤمنون من التحصن بالخندق والثبات على معاونة النبي صلى الله عليه وسلم { بَصِيراً } وبالياء ، أبو عمرو أي بما يعمل الكفار من البغي والسعي في إطفاء نور الله .
{ إِذْ جَاءوكُمْ } بدل من { إِذْ جَاءتْكُمْ } { مّن فَوْقِكُمْ } أي من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار } مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة ، أو عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها لشدة الروع { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } الحنجرة رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم ، والحلقوم مدخل الطعام والشراب . قالوا : إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة . وقيل : هو مثل في اضطراب القلوب وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة . رُوي أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال : « نعم قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا » { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } خطاب للذين آمنوا ومنهم الثبت القلوب والأقدام والضعاف القلوب الذين هم على حرف والمنافقون ، فظن الأولون بالله أنه يبتليهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ، وأما الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم .
قرأ أبو عمرو وحمزة { الظنون } بغير ألف في الوصل والوقف وهو القياس ، وبالألف فيهما : مدني وشامي وأبو بكر إجراء للوصل مجرى الوقف ، وبالألف في الوقف : مكي وعلي وحفص ، ومثله { الرسولا } و { السبيلا } زادوها في الفاصلة كما زادها في القافية . من قال :
أقلي اللوم عاذل والعتابا ... وهن كلهن في الإمام بالألف { هُنَالِكَ ابتلى المؤمنون } امتحنوا بالصبر على الإيمان { وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } وحركوا بالخوف تحريكاً بليغاً .
{ وَإِذْ يَقُولُ المنافقون } عطف على الأول { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } قيل : هو وصف المنافقين بالواو كقوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
وقيل : هم قوم لا بصيرة لهم في الدين كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبه عليهم { مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } روي أن معتّب بن قشير حين رأى الأحزاب قال : يعدنا محمد فتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً ما هذا إلا وعد غرور { وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ } من المنافقين وهم عبد الله بن أبي وأصحابه { ياأهل . يَثْرِبَ } هم أهل المدينة { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } وبضم الميم : حفص أي لا قرار لكم ههنا ولا مكان تقومون فيه أو تقيمون { فارجعوا } عن الإيمان إلى الكفر أو من عسكر رسول الله إلى المدينة { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبى } أي بنو حارثة { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي ذات عورة { وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } العورة الخلل والعورة ذات العورة وهي قراءة ابن عباس . يقال : عور المكان عوراً إذا بدا منه خلل يخاف منه العدو والسارق ، ويجوز أن يكون عورة تخفيف عورة اعتذروا أن بيوتهم عرضة للعدو والسارق لأنها غير محصنة فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك وإنما يريدون الفرار من القتال { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ } المدينة أو بيوتهم من قولك «دخلت على فلاه داره» { مّنْ أَقْطَارِهَا } من جوانبها أي ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفاً منها مدينتهم أو بيوتهم من نواحيها كلها وانثالت على أهاليهم وأولاهم ناهبين سابين { ثُمَّ سُئِلُواْ } عند ذلك القزع { الفتنة } أي الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين { لآتَوْهَا } لأعطوها . { لأتَوْهَا } بلا مد : حجازي أي لجاءوها وفعلوها { وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا } بإجابتها { إِلاَّ يَسِيراً } ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف ، أو ما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيراً فإن الله يهلكهم ، والمعنى أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وعن مصافة الأحزاب الذين ملئوهم هولاً ورعباً ، وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر ، وقيل لهم كونوا على المسلمين لسارعوا إليه وما تعللوا بشيء وما ذلك إلا لمقتهم الإسلام وحبهم الكفر .
{ وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ } أي بنو حارثة من قبل الخندق أو من قبل نظرهم إلى الأحزاب { لاَ يُوَلُّونَ الأدبار } منهزمين { وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً } مطلوباً مقتضى حتى يوفى به .
{ قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي إن كان حضر أجلكم لم ينفعكم الفرار ، وإن لم يحضر وفررتم لم تمتعوا في الدنيا إلا قليلاً وهو مدة أعماركم وذلك قليل . وعن بعض المروانية أنه مر بحائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال : ذلك القليل نطلب . { قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله } أي مما أراد الله إنزاله بكم { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً } في أنفسكم من قتل أو غيره { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } أي إطالة عمر في عافية وسلامة أي من يمنع الله من أن يرحمكم إن أراد بكم رحمة لما في العصمة من معنى المنع { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } ناصراً { قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ } أي من يعوق عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يمنع وهم المنافقون { والقائلين لإخوانهم } في الظاهر من المسلمين { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي قربوا أنفسكم إلينا ودعوا محمداً وهي لغة أهل الحجاز فإنهم يسوون فيه بين الواحد والجماعة ، وأما تميم فيقولون «هلم يا رجل» و «هلموا يا رجال» وهو صوت سمي به فعل متعد نحو «أحضر وقرّب» { وَلاَ يَأْتُونَ البأس } أي الحرب { إِلاَّ قَلِيلاً } إلا إتياناً قليلاً أي يحضرون ساعة رياء ويقفون قليلاً مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون { أَشِحَّةً } جمع شحيح وهو البخيل نصب على الحال من الضمير في { يَأْتُونَ } أي يأتون الحرب بخلاء { عَلَيْكُمْ } بالظفر والغنيمة { فَإِذَا جَاء الخوف } من قبل العدو أو منه عليه السلام { رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } في تلك الحالة { تَدورُ أَعْيُنُهُمْ } يميناً وشمالاً { كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذراً وخوفاً ولواذاً بك .
{ فَإِذَا ذَهَبَ الخوف } زال ذلك الخوف وأمنوا وحيزت الغنائم { سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } خاطبوكم مخاطبة شديدة وآذوكم بالكلام . خطيب مسلق فصيح ورجل مسلاق مبالغ في الكلام أي يقولون : وفّروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبمكاننا غلبتم عدوكم { أَشِحَّةً عَلَى الخير } أي خاطبوكم أشحة على المال والغنيمة و { أَشِحَّةً } حال من فاعل { سَلَقُوكُم } { أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ } في الحقيقة بل بالألسنة { فَأَحْبَطَ الله أعمالهم } أبطل بإضمارهم الكفر ما أظهروه من الأعمال { وَكَانَ ذلك } إحباط أعمالهم { عَلَى الله يَسِيراً } هيناً .
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{ يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ } أي لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا ولم ينصرفوا مع أنهم قد انصرفوا { وَإِن يَأْتِ الأحزاب } كرة ثانية { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الأعراب } البادون جمع البادي أي يتمنى المنافقون لجبنهم أنهم خارجون من المدينة إلى البادية حاصلون بين الأعراب ليأمنوا على أنفسهم ويعتزلوا مما فيه الخوف من القتال { يُسْئَلُونَ } كل قادم منهم من جانب المدينة { عَنْ أَنبَائِكُمْ } عن أخباركم وعما جرى عليكم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ } ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال { مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً } رياء وسمعة .
{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } بالضم حيث كان : عاصم أي قدوة وهو المؤتسى به أي المقتدى به كما تقول «في البيضة عشرون مناً حديداً» أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد . أو فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها حيث قاتل بنفسه { لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر } أي يخاف الله ويخاف اليوم الآخر أو يأمل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر . قالوا { لِمَنْ } بدل من { لَكُمْ } وفيه ضعف لأنه لا يجوز البدل من ضمير المخاطب . وقيل : { لِمَنْ } يتعلق ب { حَسَنَةٌ } أي أسوة حسنة كائنة لمن كان { وَذَكَرَ الله كَثِيراً } أي في الخوف والرجاء والشدة والرخاء { وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب } وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه بقوله { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } إلى قوله { قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] فلما جاء الأحزاب واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد { قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } وعلموا أن الغلبة والنصرة قد وجبت لهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إن الأحزاب سائرون إليكم في آخر تسع ليال أو عشر . فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك ، وهذا إشارة إلى الخطب والبلاء { وَمَا زَادَهُمْ } ما رأوا من اجتماع الأحزاب عليهم ومجيئهم { إِلاَّ إِيمَانًا } بالله وبمواعيده { وَتَسْلِيماً } لقضائه وقدره .
{ مّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } أي فيما عاهدوه عليه فحذف الجار كما في المثل «صدقني سن بكره» أي صدقني في سن بكره بطرح الجار وإيصال الفعل . نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وهم عثمان بن عفان وطلحة وسعد بن زيد وحمزة ومصعب وغيرهم { فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } أي مات شهيداً كحمزة ومصعب . وقضاء النحب صار عبارة عن الموت لأن كل حي من المحدثات لا بد له أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته فإذا مات فقد قضى نحبه أي نذره { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } الموت أي على الشهادة كعثمان وطلحة { وَمَا بَدَّلُواْ } العهد { تَبْدِيلاً } ولا غيروه لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة ، وفيه تعريض لمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلوب كما مر في قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار } { لّيَجْزِىَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ } بوفائهم بالعهد { وَيُعَذّبَ المنافقين إِن شَاء } إذا لم يتوبوا { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } إن تابوا { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً } بقبول التوبة { رَّحِيماً } بعفو الحوبة . جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم ، لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب فكأنهما استويا في طلبها والسعي في تحصيلها .
{ وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ } الأحزاب { بِغَيْظِهِمْ } حال أي مغيظين كقوله { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } ظفراً أي لم يظفروا بالمسلمين وسماه خيراً بزعمهم وهو حال أي غير ظافرين { وَكَفَى الله المؤمنين القتال } بالريح والملائكة { وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً } قادراً غالباً .
{ وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم } عاونوا الأحزاب { مّنْ أَهْلِ الكتاب } من بني قريظة { مِن صَيَاصِيهِمْ } من حصونهم الصيصية ما تحصن به . " رُوي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم ، على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج فقال : ما هذا يا جبريل؟ قال : من متابعة قريش . فقال : يا رسول الله إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فإن الله داقهم دق البيض على الصفا وإنهم لكم طعمة . فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة . فحاصروهم خمساً وعشرين ليلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تنزلون على حكمي " فأبوا ، فقال : " على حكم سعد بن معاذ " فرضوا به فقال سعد : حكمت فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم ، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» " ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة . وقيل : كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب } الخوف وبضم العين : شامي وعلي . ونصب { فَرِيقاً } بقوله { تَقْتُلُونَ } وهم الرجال { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } وهم النساء والذراري { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم وَأَمولَهُمْ } أي المواشي والنقود والأمتعة . " روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار وقال لهم إنكم في منازلكم "
{ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } بقصد القتال وهي مكة أو فارس والروم أو خيبر أو كل أرض تفتح إلى يوم القيامة { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء قَدِيراً } قادراً .
{ ياأيها النبى قُل لأزواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } أي السعادة في الدنيا وكثرة الأموال { فَتَعَالَيْنَ } أصل تعال أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطيء ، ثم كثر حتى استوى في استعماله الأمكنة ، ومعنى { تعالين } أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد الأمرين ، ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن كقوله «قام يهددني» . { أُمَتّعْكُنَّ } أعطكن متعة الطلاق وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا المفوضة قبل الوطء { وَأُسَرّحْكُنَّ } وأطلقكن { سَرَاحاً جَمِيلاً } لا ضرار فيه أردن شيئاً من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن ، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فبدأ بعائشة رضي الله عنها وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم اختار جميعهن اختيارها . وروي أنه قال لعائشة : " «إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك» " ثم قرأ عليها القرآن فقالت : أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . وحكم التخيير في الطلاق أنه إذا قال لها اختاري فقالت اخترت نفسي أن تقع تطليقة بائنة ، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء . وعن علي رضي الله عنه : إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدار الآخرة فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ } «من» للبيان لا للتبعيض . { أَجْراً عَظِيماً يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة } سيئة بليغة في القبح { مُّبَيّنَةٍ } ظاهر فحشها . من بيّن بمعنى تبين وبفتح الياء : مكي وأبو بكر . قيل : هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهن . وقيل : الزنا والله عاصم رسوله من ذلك { يُضَاعَفْ لَهَا العذاب } { يضاعف لَهَا العذاب } مكي وشامي { يضاعف } أبو عمرو ويزيد ويعقوب { ضِعْفَيْنِ } ضعفي عذاب غيرهن من النساء لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن ، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل ، لأن المعصية من العالم أقبح ولذا فضل حد الأحرار على العبيد ولا يرجم الكافر { وَكَانَ ذلك } أي تضعيف العذاب عليهن { عَلَى الله يَسِيراً } هيناً .