كتاب : مدارك التنزيل وحقائق التأويل
المؤلف : أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي
{ وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ } - تلقف - تبتلع { تَلْقَفْ } حفص { مَا يَأْفِكُونَ } «ما» موصولة أو مصدرية يعني ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه ، أو إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك . روي أنها لما تلقفت ملء الوادي من الخشب والحبال ورفعها موسى فرجعت عصاً كما كانت ، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة ، أو فرقها أجزاء لطيفة قالت السحرة : لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا { فَوَقَعَ الحق } فحصل وثبت { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْلَمُونَ } من السحر { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } أي فرعون وجنوده والسحرة { وانقلبوا صاغرين } وصاروا أذلاء مبهوتين { وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين } وخروا سجداً لله كأنما ألقاهم ملقٍ لشدة خرورهم ، أو لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا فكانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة { قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين رَبّ موسى وهارون } هو بدل مما قبله { قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ } على الخبر : حفص . وهذا توبيخ منه لهم . وبهمزتين : كوفي غير حفص . فالأولى همزة الاستفهام ومعناه الإنكار والاستبعاد { قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } قبل إذني لكم { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا } إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الصحراء لغرض لكم وهو { أن تَخْرُجُواْ مِن مّصْرَ القبط وتسكنوا بني إسرائيل } { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وعيد أجمله ثم فصله بقوله :
{ لأَقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } من كل شق طرفاً { ثُمَّ لأَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } هو أول من قطع من خلاف وصلب { قَالُواْ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } فلا نبالي بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته ، أو إنا جميعاً يعنون أنفسهم وفرعون نقلب إلى الله فيحكم بيننا { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بئايات رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا } وما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله ، أرادوا وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر وهو الإيمان ومنه قوله
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي اصبب صباً ذريعاً . والمعنى هب لنا صبراً واسعاً وأكثره علينا حتى يفيض علينا ويغمرنا كما يفرغ الماء إفراغاً { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } ثابتين على الإسلام { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض } أرض مصر بالاستعلاء فيها وتغيير دين أهلها لأنه وافق السحرة على الإيمان ستمائة ألف نفر { ويذرك وءالهتك } عطف على { لِيُفْسِدُواْ } قيل : صنع فرعون لقومه أصناماً وأمرهم أن يعبدوها تقرباً إليه كما يعبد عبدة الأصنام الأصنام ويقولون ليقربونا إلى الله زلفى ، ولذلك
{ قَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] { قَالَ } فرعون مجيباً للملإ { سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون } { سَنُقَتّلُ } حجازي أي سنعيد عليهم قتل الأبناء ليعلموا أنا على ما كنا عليه من الغلبة والقهر وأنهم مقهورون تحت أيدينا كما كانوا ، ولئلا يتوهم العامة أنه هو المولود الذي تحدث المنجمون بذهاب ملكنا على يده فيثبطهم ذلك عن طاعتنا ويدعوهم إلى اتباعه { قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا } قال لهم ذلك حين جزعوا من قول فرعون سنقتل أبناءهم تسلية لهم ووعداً بالنصر عليهم { إِنَّ الأرض } اللام للعهد أي أرض مصر أو للجنس فيتناول أرض مصر تناولاً أولياً { للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } فيه تنميته إياهم أرض مصر { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } بشارة بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم ومن القبط . وأخليت هذه الجملة عن الواو لأنها جملة مستأنفة بخلاف قوله { وَقَالَ الملأ } لأنها معطوفة على ما سبقها من قوله { قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } { قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى إلى أن استنبىء وإعادته عليهم بعد لك ، وذلك اشتكاء من فرعون واستبطاء لوعد النصر { قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض } تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل وكشف عنه وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم . وعن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان ، وطلب المنصور زيادة لعمرو فلم توجد فقرأ عمرو هذه الآية ، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال : قد بقي { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } .
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين } سني القحط وهن سبع سنين ، والسنة من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم { وَنَقْصٍ مّن الثمرات } قيل : السنون لأهل البوادي ونقص الثمرات للأمصار { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } ليتعظوا فينتبهوا على أن ذلك لإصرارهم على الكفر ، ولأن الناس في حال الشدة أضرع حدوداً وأرق أفئدة . وقيل : عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروهاً في ثلثمائة وعشرين سنة ، ولو أصابه في تلك المدة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية { فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة } الصحة والخصب { قَالُواْ لَنَا هذه } أي هذه التي نستحقها { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } جدب ومرض { يَطَّيَّرُواْ } أصله «يّتطيروا» فأدغمت التاء في الطاء لأنها من طرف اللسان وأصول الثنايا { بموسى وَمَن مَّعَهُ } تشاءموا بهم وقالوا هذه بشؤمهم ولولا مكانهم لما أصابتنا . وإنما دخل «إذا» في الحسنة وعرفت الحسنة و «إن» في السيئة ونكرت السيئة ، لأن جنس الحسنة وقوعه كالكائن لكثرته ، وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ } سبب خيرهم وشرهم { عَندَ الله } في حكمه ومشيئته والله هو الذي قدر ما يصيبهم من الحسنة والسيئة { قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله } [ النساء : 78 ] { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أصل «مهما» ما ما ، فما الأولى للجزاء ضمت إليها «ما» المزيدة المؤكدة للجزاء في قوك «متى» ما تخرج أخرج { أَيْنَمَا تَكُونُواْ } [ النساء : 78 ] { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } [ الزخرف : 41 ] إلا أن الألف قلبت هاء استثقالاً لتكرير المتجانسين وهو المذهب السديد البصري ، وهو في موضع النصب ب { تَأْتِنَا } أي أيما شيء تحضرنا تأتنا به ، و { مّنْ ءايَةٍ } تبيين ل { مَهْمَا } والضمير في { بِهِ } و { بِهَا } راجع إلى { مَهْمَا } إلا أن الأول ذكر على اللفظ والثاني أنث على المعنى لأنها في معنى الآية ، وإنما سموها آية اعتباراً لتسمية موسى أو قصدوا بذلك الاستهزاء { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان } ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل . قيل : طفا الماء فوق حروثهم وذلك أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره . وقيل : دخل الماء في بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ، فمن جلس غرق ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة ، أو هو الجدري أو الطاعون { والجراد } فأكلت زروعهم وثمارهم وسقوف بيوتهم وثيابهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء { والقمل } وهي الدباء وهو أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها ، أو البراغيث ، أو كبار القردان { والضفادع } وكانت تقع في طعامهم وشرابهم حتى إذا تكلم الرجل تقع في فيه { والدم } أي الرعاف .
وقيل : مياههم انقلبت دماً حتى إن القبطي والإسرائيلي إذا اجتمعا على إناء فيكون ما يلي القبطي دماً . وقيل : سال عليهم النيل دماً { ءايات } حال من الأشياء المذكورة { مّفَصَّلاَتٍ } مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله أو مفرقات بين كل آيتين شهر { فاستكبروا } عن الإيمان بموسى { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } .
{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز } العذاب الأخير وهو الدم ، أو العذاب المذكور واحداً بعد واحد { قَالُواْ يا موسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } «ما» مصدرية أي بعهده عندك وهو النبوة ، والباء تتعلق ب { ادع } أي ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك { لئن كشفت عنّا الرّجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل .
فلمّا كشفنا عنهم الرّجز إلى أجلٍ } إلى حد من الزمان { هُم بالغوه } لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله { إذا هم ينكثون } جواب { لَّمّاً } أي فلما كشفنا عنهم فاجأوا النكث ولم يؤخروه { فانتقمنا مِنْهُمْ } هو ضد الإنعام كما أن العقاب هو ضد الثواب { فأغرقناهم فِي اليم } هو البحر الذي لا يدرك قعره ، أو هو لجة البحر ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لأن المنتفعين به يقصدونه { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بئاياتنا وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين } أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها وقلة فكرهم فيها { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } هم بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه بالقتل والاستخدام { مشارق الأرض ومغاربها } يعني أرض مصر والشام { التى بَارَكْنَا فِيهَا } بالخصب وسعة الأرزاق وكثرة الأنهار والأشجار { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى على بَنِى إِسْرءيلَ } هو قوله : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض } [ الأعراف : 129 ] أو { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض } إلى { مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } [ القصص : 5 ] . والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة و«على» صلة { تَمُتْ } أي مضت عليهم واستمرت من قولك تم علي الأمر إذا مضى عليه { بِمَا صَبَرُواْ } بسبب صبرهم وحسبك به حاثاً على الصبر ودالاً على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه ، ومن قابله بالصبر ضمن الله له الفرج { وَدَمَّرْنَا } أهلكنا { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } من العمارات وبناء القصور { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } من الجنات ، أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره . وبضم الراء : شامي وأبو بكر . وهذا آخر قصة فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله .
ثم أتبعه قصة بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من فرعون ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر وغير ذلك ، ليتسلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رآه من بني إسرائيل بالمدينة { وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر } روي أنهم عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعدما أهلك الله فرعون وقومه فصاموه شكراً لله { فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ } فمروا عليهم { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ } يواظبون على عبادتها وكانت تماثيل بقر .
وبكسر الكاف : حمزة وعلي . { قَالُواْ يا موسى اجعل لَّنَا إلها } صنماً نعكف عليه { كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ } أصنام يعكفون عليها . و «ما» كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها . قال يهودي لعلي رضي الله عنه : اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه . فقال : قلتم { اجعل لَّنَا إلها } ولم تجف أقدامكم { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى فوصفهم بالجهل المطلق وأكده { إِنَّ هَؤُلآء } يعني عبدة تلك التماثيل { مُتَبَّرٌ } مهلك من التبار { مَّا هُمْ فِيهِ } أي يتبر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدي . وفي إيقاع { هَؤُلاء } اسماً ل «إن» وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها واسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم ألبتة .
{ وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ما عملوا من عبادة الأصنام باطل مضمحل .
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
{ قال أغير الله أبغيكم إلهاً } أي أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبوداً { وهو فضّلكم على العالمين } حال أي على عالمي زمانكم { وإذ أنجيناكم مّن ءال فرعون } { أنجاكم } شامي { يسومونكم سوء العذاب } يبغونكم شدة العذاب من سام السلعة إذا طلبها ، وهو استئناف لا محل له ، أو حال من المخاطبين ، أو من { آل فرعون } { يقتّلون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم } { يقتلون } نافع { وفي ذلكم } أي في الإنجاء أو في العذاب { بلآءٌ } نعمة أو محنة { مّن رّبّكم عظيمٌ وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً } لإعطاء التوراة { وأتممناها بعشرٍ } روي أن موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهي شهر ذي القعدة ، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك ، فأوحى الله إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فأمره أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لذلك { فتمّ ميقات ربّه } ما وقت له من الوقت وضربه له { أربعين ليلةً } نصب على الحال أي تم بالغاً هذا العدد ، ولقد أجمل ذكر الأربعين في «البقرة» وفصلها هنا { وقال موسى لأخيه هارون } هو عطف بيان { لأخيه } { اخلفني في قومي } كن خليفتي فيهم { وأصلح } ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل { ولا تتّبع سبيل المفسدين } ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه .
{ ولمّا جآء موسى لميقاتنا } لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا . ومعنى اللام الاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا { وكلّمه ربّه } بلا واسطة ولا كيفية . وروي أنه كان يسمع الكلام من كل جهة . وذكر الشيخ في التأويلات أن موسى عليه السلام سمع صوتاً دالاً على كلام الله تعالى ، وكان اختصاصه باعتبار أنه أسمعه صوتاً تولى تخليقه من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسباً لأحد من الخلق ، وغيره يسمع صوتاً مكتسباً للعباد فيفهم منه كلام الله تعالى ، فلما سمع كلامه طمع في رؤيته لغلبة شوقه فسأل الرؤية بقوله { قال ربّ أرني أنظر إليك } ثاني مفعولي { أرني } محذوف أي أرني ذاتك أنظر إليك يعني مكني من رؤيتك بأن تتجلى لي حتى أراك { أرني } مكي . وبكسر الراء مختلسة : أبو عمرو ، وبكسر الراء مشبعة : غيرهما وهو دليل لأهل السنة على جواز الرؤية ، فإن موسى عليه السلام اعتقد أن الله تعالى يرى حتى سأله واعتقاد جواز ما لا يجوز على الله كفر { قال لن تراني } بالسؤال بعين فانية بل بالعطاء والنوال بعين باقية ، وهو دليل لنا أيضر لأنه لم يقل لن أرى ليكون نفياً للجواز ، ولو لم يكن مرئياً لأخبر به بأنه ليس بمرئي إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه } بقي على حاله { فسوف ترياني } وهو دليل لنا أيضاً لأنه علق الرؤية باستقرار الجبل وهو ممكن ، وتعليق الشيء بما هو ممكن يدل على إمكانه كالتعليق بالممتنع يدل على امتناعه ، والدليل على أنه ممكن قوله { جعله دكاً } ولم يقل «اندك» وما أوجده تعالى كان جائزاً أن لا يوجد لو لم يوجده لأنه مختار في فعله ، ولأنه تعالى ما أيأسه عن ذلك ولا عاتبه عليه ولو كان ذلك محالاً لعاتبه كما عاتب نوحاً عليه السلام بقوله :
{ إني أعظك أن تكون من الجاهلين } [ هود : 46 ] حيث سأل إنجاء ابنه من الغرق .
{ فلمّا تجلى ربّه للجبل } أي ظهر وبان ظهوراً بلا كيف . قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : معنى التجلي للجبل ما قاله الأشعري إنه تعالى خلق في الجبل حياة وعلماً ورؤية حتى رأى ربه ، وهذا نص في إثبات كونه مرئياً ، وبهذه الوجزة يتبين جهل منكري الرؤية وقولهم بأن موسى عليه السلام كان عالماً بأنه لا يرى ولكن طلب قومه أن يريهم ربه كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهره } [ البقرة : 55 ] فلطلب الرؤية ليبين الله تعالى أنه ليس بمرئي باطل إذ لو كان كما زعموا لقال أرهم ينظروا إليك ثم يقول له : لن يروني . ولأنها لو لم تكن جائزة لما أخر موسى عليه السلام الرد عليهم بل كان يرد عليهم وقت قرع كلامهم سماعه لما فيه من التقرير على الكفر ، وهو عليه السلام بعث لتغييره لا لتقريره ، ألا ترى أنهم لما قالوا له { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } لم يمهلهم بل رد عليهم من ساعته بقوله { إنكم قوم تجهلون } { جعله دكًّا } مدكوكاً مصدر بمصدر بمعنى المفعول كضرب الأمير والدق والدك أخوان . { دكاء } : حمزة وعلي . أي مستوية بالأرض لا أكمة فيها وناقة دكاء لا سنام لها { وخرّ موسى صعقاً } حال أي سقط مغشياً عليه { فلمّآ أفاق } من صعقته { قال سبحانك تبت إليك } من السؤال في الدنيا { وأنا أوّل المؤمنين } بعظمتك وجلالك ، وبأنك لا تعطي الرؤية في الدنيا مع جوازها . وقال الكعبي والأصم : معنى قوله { أرني أنظر إليك } أرني آية أعلمك بها بطريق الضرورة كأني أنظر إليك { لن تراني } لن تطيق معرفتي بهذه الصفة { ولكن انظر إلى الجبل } فإني أظهر له آية ، فإن ثبت الجبل لتجليها و { استقر مكانه } فسوف تثبت لها وتطيقها . وهذا فاسد لأنه قال { أرني أنظر إليك } ولم يقل «إليها» وقال { لن تراني } ولم يقل لن ترى آيتي وكيف يكون معناه لن ترى آيتي وقد أراه أعظم الآيات حيث جعل الجبل دكاً .
{ قَالَ ياموسى إِنَّي اصْطَفيْتُكَ عَلَى النَّاس } اخترتك على أهل زمانك { برسالتي } هي أسفار التوراة { برسالتي } : حجازي { وبكلامي } وبتكليمي إياك { فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ } أعطيتك من شرف النبوة والحكمة { وَكُن مِّنَ الشاكرين } على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم .
قيل : خر موسى صعقاً يوم عرفة ، وأعطي التوراة يوم النحر . ولما كان هارون وزيراً وتابعاً لموسى تخصص الاصطفاء بموسى عليه السلام .
{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح } الألواح التوراة جمع لوح وكانت عشرة ألواح . وقيل : سبعة وكانت من زمرد . وقيل : من خشب نزلت من السماء فيها التوراة { مِن كُلَّ شَيْءٍ } في محل النصب على أنه مفعول { كتبنا } { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } بدل منه والمعنى كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام . وقيل : أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعبر لم يقرأها كلها إلا أربعة نفر : موسى ويوشع وعزير وعيسى { فَخُذْهَا } فقلنا له خذها عطفاً على { كتبنا } والضمير للألواح أو { لكل شيء } لأنه في معنى الأشياء { بِقُوَّةٍ } بجد وعزيمة فعل أولي العزم من الرسل { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } أي فيها ما هو حسن وأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر ، فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب كقوله { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } [ الزمر : 55 ]
{ سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } دَارَ فرعون وقومه وهي مصر ، ومنازل عاد وثمود والقرون المهلكة كيف أقفرت منهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكّل بكم مثل نكالهم أو جهنم { سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي } عن فهمها . قال ذو النون قدس الله روحه : أبى الله أن يكرم قلوب الباطلين بمكنون حكمة القرآن { الَّذِينَ يَتكَبَّرُونَ } يتطاولون على الخلق ويأنفون عن قبول الحق . وحقيقته التكلف للكبرياء التي اختصت بالباري عزت قدرته { فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } هو حال أي يتكبرون غير محقين لأن التكبر بالحق لله وحده { وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ } من الآيات المنزلة عليهم { لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ } طريق صلاح الأمر وطريق الهدى . { الرَّشد } : حمزة وعلي . وهما كالسقم والسقم { لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ } الضلال { يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } ومحل { ذلك } الرفع أي ذلك الصرف { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بآياتنا } بسب تكذيبهم { وَكَانُوا عَنْهَا غافلين } غفلة عناد واعراض لا غفلة سهو وجهل { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بئاياتنا وَلِقَآءِ الآخِرةِ } هو من إضافة المصدر إلى المفعول به أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها { حَبِطَتْ أعمالهم } خبر { والذين } { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وهو تكذيب الأحوال بتكذيب الإرسال .
{ واتّخذ قوم موسى من بعده } من بعد ذهابه إلى الطور { من حليّهم } وإنما نسبت إليهم مع أنها كانت عواري في أيديهم لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة ، وفيه دليل على أن من حلف أن لا يدخل دار فلان فدخل داراً استعارها يحنث ، على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين كما ملكوا غيرها من أملاكهم .
وفيه دليل على أن الاستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها ، نعم المتخذ هو السامري ولكنهم رضوا به فأسند الفعل إليهم . والحلي جمع «حلى» وهو اسم ما يتحسن به من الذهب والفضة { حليهم } : حمزة وعلي للإتباع { عجلاً } مفعول { اتخذ } { جسداً } بدل منه أي بدناً ذا لحم ودم كسائر الأجساد { لّه خوارٌ } هو صورت البقر والمفعول الثاني محذوف أي إلهاً . ثم عجب من عقولهم السخيفة فقال { ألم يروا } حين اتخذوه إلهاً { أنّه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلاً } لا يقدر على كلام ولا على هداية سبيل حتى لا يختاروه على من { لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته } [ الكهف : 109 ] . وهو الذي هدى الخلق إلى سبيل الحق بما ركز في العقول من الأدلة وبما أنزل في الكتب . ثم ابتدأ فقال { اتّخذوه } إلهاً فأقدموا على هذا الأمر المنكر { وكانوا ظالمين ولمّا سقط في أيديهم } ولما اشتد ندمهم على عبادة العجل . وأصله أن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه وقع فيها وسقط مسند إلى في أيديهم وهو من باب الكناية . وقال الزجاج : معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم كما يقال «حصل في يده مكروه» وإن استحال أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين { ورأوا أنّهم قد ضلّوا } وتبينوا ضلالهم تبيناً كأنهم أبصروه بعيونهم { قالوا لئن لّم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا } { لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا } حمزة وعلي . وانتصاب { ربّنا } على النداء { لنكوننّ من الخاسرين } المغبونين في الدنيا والآخرة .
{ ولمّا رجع موسى } من الطور { إلى قومه } بني إسرائيل { غضبان } حال من { موسى } { أسفاً } حال أيضاً أي حزيناً { قال بئسما خلفتموني } قمتم مقامي وكنتم خلفائي { من بعدي } والخطاب لعبدة العجل من السامري وأشياعه ، أو لهارون ومن معه من المؤمنين ، ويدل عليه قوله { اخلفني في قومي } والمعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله ، أو حيث لم تكفوا من عبد غير الله ، وفاعل { بئس } مضمر يفسره { ما خلفتموني } والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم . ومعنى { من بعدي } بعد قوله { خلفتموني } من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله ونفي الشركاء عنه ، أو من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأكفهم عن عبادة البقرة حين قالوا { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف { أعجلتم } أسبقتم بعبادة العجل { أمر ربّكم } وهو إتياني لكم بالتوراة بعد أربعين ليلة . وأصل العجلة طلب الشيء قبل حينه . وقيل : عجلتم بمعنى تركتم { وألقى الألواح } ضجراً عند استماعه حديث العجل غضباً لله ، وكان في نفسه شديد الغضب وكان هارون ألين منه جانباً ، ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل من موسى ، فتكسرت فرفعت ستة أسباعها وبقي سبع واحد ، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي هدى ورحمة { وأخذ برأس أخيه } بشعر رأسه غضباً عليه حيث لم يمنعهم من عبادة العجل { يجرّه إليه } عتاباً عليه لا هواناً به وهو حال من موسى { قال ابن أمّ } بني الابن مع الأم على الفتح ك «خمسة عشر» وبكسر الميم : حمزة وعلي وشامي ، لأنه أصله أمي فحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة ، وكان ابن أمه وأبيه .
وإنما ذكر الأم لأنها كانت مؤمنة ولأن ذكرها أدعى إلى العطف { إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني } أي إني لم آل جهداً في كفهم بالوعظ والإنذار ولكنهم استضعفوني وهموا بقتلي { فلا تشمت بي الأعدآء } الذين عبدوا العجل أي لا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إلي { ولا تجعلني مع القوم الظّالمين } أي قريناً لهم بغضبك علي . فلما اتضح له عذر أخيه .
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
{ قال ربّ اغفر لي ولأخي } ليرضي أخاه وينفي الشماتة عنه بإشراكه معه في الدعاء ، والمعنى اغفر لي ما فرط مني في حق أخي ولأخي إن كان فرط في حسن الخلافة { وأدخلنا في رحمتك } عصمتك في الدنيا وجنتك في الآخرة { وأنت أرحم الراحمين إنّ الّذين اتّخذوا العجل } إلهاً { سينالهم غضبٌ مّن رّبّهم } هو ما أمروا به من قتل أنفسهم توبة { وذلّةٌ في الحياة الدّنيا } خروجهم من ديارهم فالغربة تذل الأعناق أو ضرب الجزية عليهم { وكذلك نجزي المفترين } الكاذبين على الله ولا فرية أعظم من قول السامري «هذا إلهكم وإله موسى» { والّذين عملوا السّيّئات } من الكفر والمعاصي { ثم تابوا } رجعوا إلى الله { من بعدها وءامنوآ } وأخلصوا الإيمان { إنّ ربّك من بعدها } أي السيئات أو التوبة { لغفورٌ } لستور عليهم محاء لما كان منهم { رّحيمٌ } منعم عليهم بالجنة . و «إن» مع اسمها وخبرها خبر { الذين } وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل وغيرهم عظم جنايتهم أولاً ، ثم أردفها بعظم رحمته ليعلم أن الذنوب وإن عظمت فعفوه أعظم . ولما كان الغضب لشدته كأنه هو الآمر لموسى بما فعل قيل :
{ ولمّا سكت عن مّوسى الغضب } وقال الزجاج : معناه سكن وقريء به { أخذ الألواح } التي ألقاها { وفي نسختها } وفيما نسخ منها أي كتب فعلة بمعنى مفعول كالخطبة { هدًى وّرحمةٌ لّلّذين هم لربّهم يرهبون } دخلت اللام لتقدم المفعول وضعف عمل الفعل فيه باعتباره { واختار موسى قومه } أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل { سبعين رجلاً } قيل : اختار من اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة فبلغوا اثنين وسبعين رجلاً فقال : ليتخلف منكم رجلان فقعد كالب ويوشع { لّميقاتنا } لاعتذارهم عن عبادة العجل { فلمّآ أخذتهم الرّجفة } الزلزلة الشديدة { قال ربّ لو شئت أهلكتهم مّن قبل } بما كان منهم من عبادة العجل { وإيّاى } لقتلي القبطي { أتهلكنا بما فعل السّفهآء منّا } أتهلكنا عقوبة بما فعل الجهال منا وهم أصحاب العجل { إن هي إلاّ فتنتك } ابتلاؤك وهو راجع إلى قوله { فإنا قد فتنا قومك من بعدك } [ طه : 85 ] فقال موسى : هي تلك الفتنة التي أخبرتني بها أو هي ابتلاء الله تعالى عباده بما شاء ، { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] { تضلّ بها } بالفتنة { من تشآء } من علمت منهم اختيار الضلالة { وتهدي } بها { من تشآء } من علمت منهم اختيار الهدى { أنت وليّنا } مولانا القائم بأمورنا { فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا } وأثبت لنا واقسم { في هذاه الدّنيا حسنةً } عاقبة وحياة طيبة وتوفيقا في الطاعة { وفي الآخرة } الجنة { إنّا هدنآ إليك } تبنا إليك وهاد إليه يهود إذا رجع وتاب والهود جمع هائد وهو التائب .
{ قال عذابي } من صفته أني { أصيب به من أشآء } أي لا أعفو عنه { ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ } أي من صفة رحمتي أنها واسعة تبلغ كل شيء ، ما من مسلم ولا كافر إلا وعليه أثر رحمتي في الدنيا { فسأكتبها } أي هذه الرحمة { للّذين يتّقون } الشرك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم { ويؤتون الزكواة } المفروضة { والّذين هم بآياتنا } بجميع كتبنا { يؤمنون } لا يكفرون بشيء منها { الّذين يتّبعون الرّسول } الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به وهو القرآن { النّبيّ } صاحب المعجزات { الأمّيّ الّذي يجدونه } أي يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بني إسرائيل { مكتوباً عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف } بخلع الأنداد وإنصاف العباد { وينهاهم عن المنكر } عبادة الأصنام وقطيعة الأرحام { ويحلّ لهم الطّيّبات } ما حرم عليهم من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها ، أو ما طاب في الشريعة مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح وما خلا كسبه من السحت { ويحرّم عليهم الخبائث } ما يستخبث كالدم والميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، أو ما خبث في الحكم كالربا والرشوة ونحوهما من المكاسب الخبيثة { ويضع عنهم إصرهم } هو الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه عن الحراك لثقله ، والمراد التكاليف الصعبة كقتل النفس في توبتهم وقطع الأعضاء الخاطئة .
{ آصارهم } شامي على الجمع { والأغلال الّتي كانت عليهم } هي الأحكام الشاقة نحو : بت القضاء بالقصاص عمداً كان أو خطأ من غير شرع الدية ، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب ، وإحراق الغنائم وظهور الذنوب على أبواب البيوت ، وشبهت بالغل للزومها لزوم الغل { فالّذين ءامنوا به } بمحمد صلى الله عليه وسلم { وعزّروه } وعظموه أو منعوه من العدو حتى لا يقوي عليه عدو وأصل العزر المنع ومنه التعزير لأنه منع عن معاودة القبيح كالحد فهو المنع { ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه } أي القرآن «ومع» متعلق ب { اتبعوا } أي واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته { أولئك هم المفلحون } الفائزون بكل خير والناجون من كل شر .
{ قل يا أيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم } بعث كل رسول إلى قومه خاصة وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الإنس وكافة الجن { جميعاً } حال من { إليكم } { الّذي له ملك السموات والأرض } في محل النصب بإضمار أعني وهو نصب على المدح { لآ إله إلاّ هو } بدل من الصلة وهي { له ملك السماوات والأرض } وكذلك { يحيي ويميت } وفي { لا إله إلا هو } بيان للجملة قبلها لأن من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة ، وفي { يحيي ويميت } بيان لاختصاصه بالإلهية إذ لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره { فئامنوا بالله ورسوله النّبيّ الأمّيّ الّذي يؤمن بالله وكلماته } أي الكتب المنزلة { واتّبعوه لعلّكم تهتدون } ولم يقل فآمنوا بالله وبي بعد قوله { إني رسول الله إليكم } لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه ، ولما في الالتفات من مزية البلاغة ، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به هو هذا الشخص الموصوف بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته كائناً من كان أنا أو غيري إظهاراً للنصفة وتفادياً من العصبية لنفسه { ومن قوم موسى أمّةٌ يهدون بالحقّ } أي يهدون الناس محقين أو بسبب الحق الذي هم عليه { وبه يعدلون } وبالحق يعدلون بينهم في الحكم لا يجورون .
قيل : هم قوم وراء الصين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج ، أو هم عبد الله بن سلام وأضرابه .
{ وقطعناهم } وصيرناهم قطعاً أي فرقاً وميزنا بعضهم من بعض { اثنتي عشرة أسباطاً } كقولك اثنتي عشرة قبيلة ، والأسباط أولاد الولد جمع سبط وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام . نعم مميز ما عدا العشرة مفرد فكان ينبغي أن يقال اثني عشر سبطاً ، لكن المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة وكل قبيلة أسباط لا سبط فوضع «أسباط» موضع «قبيلة» { أمماً } بدل من { اثنتي عشرة } أي وقطعناهم أمماً لأن كل أسباط كانت أمة عظيمة وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى { وأوحينآ إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بّعصاك الحجر } فضرب { فانبجست } فانفجرت { منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كلّ أناسٍ مّشربهم } هو اسم جمع غير تكسير { وظلّلنا عليهم الغمام } وجعلناه ظليلاً عليهم في التيه { وأنزلنا عليهم المنّ والسلوى } وقلنا لهم { كلوا من طيّبات ما رزقناكم وما ظلمونا } أي وما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم { ولكن كانوآ أنفسهم يظلمون } ولكن كانوا يضرون أنفسهم ويرجع وبال ظلمهم إليهم .
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } واذكر إذ قيل لهم { اسكنوا هذه القرية } بيت المقدس { وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيئاتكم } { تَغْفِر لَكُمْ } مدني وشامي { خطيئاتكم } مدني { خطاياكم } أبو عمرو { خَطِئتكم } شامي { سَنَزِيدُ المحسنين فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مّنَ السماء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } ولا تناقض بين قوله { اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا } في هذه السورة وبين قوله في سورة«البقرة» { ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ } [ البقرة : 85 ] لوجود الدخول والسكنى . وسواء قدموا الحطة على دخول الباب أو أخروها فهم جامعون بينهما . وترك ذكر الرغد لا يناقض إثباته ، وقوله { نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم سَنَزِيدُ المحسنين } موعد بشيئين بالغفران وبالزيادة ، وطرح الواو لا يخل بذلك لأنه استئناف مرتب على قول القائل : وماذا بعد الغفران؟ فقيل له : { سَنَزِيدُ المحسنين } وكذلك زيادة { مِنْهُمْ } زيادة بيان و { أَرْسَلْنَا } و { أَنزَلْنَا } و { يَظْلِمُونَ } و { يَفْسُقُونَ } من وادٍ واحد .
{ وَسْئَلْهُمْ } واسأل اليهود { عَنِ القرية } أيلة أو مدين وهذا السؤال للتقريع بقديم كفرهم { التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر } قريبة منه { إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت } إذ يتجاورون حد الله فيه وهو اصطيادهم في يوم السبت وقد نهوا عنه { إِذْ يَعْدُونَ } في محل الجر بدل من { القرية } والمراد بالقرية أهلها كأنه قيل : واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت وهو من بدل الاشتمال { إِذْ تَأْتِيهِمْ } منصوب ب { يَعْدُونَ } أو بدل بعد بدل { حِيتَانُهُمْ } جمع حوت أبدلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها { يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا } ظاهرة على وجه الماء جمع شارع حال من الحيتان ، والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد ، والمعنى إذ يعدون في تعظيم اليوم وكذا قوله { يَوْمَ سَبْتِهِمْ } معناه يوم تعظيمهم أمر السبت ويدل عليه { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } و { يَوْمٍ } ظرف { لاَ تَأْتِيهِمْ } { كذلك نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بفسقهم { وَإِذْ قَالَتِ } معطوف على { إِذْ يَعْدُونَ } وحكمه كحكمه في الإعراب { أُمَّةٌ مّنْهُمْ } جماعة من صلحاء القرية الذين أيسوا من وعظهم بعدما ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم لآخرين لا يقلعون عن وعظهم { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا } وإنما قالوا ذلك لعلمهم أن الوعظ لا ينفع فيهم { قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ } - معذرة - أي موعظتنا إبلاء عذر إلى الله لئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى التفريط { مَعْذِرَةً } حفص على أنه مفعول له أي وعظناهم للمعذرة { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ولطمعنا في أن يتقوا .
{ فَلَمَّا نَسُواْ } أي أهل القرية لما تركوا { مَا ذُكّرُواْ بِهِ } ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء } من العذاب الشديد { وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ } الراكبين للمنكر والذين قالوا لم تعظون من الناجين ، فعن الحسن : نجت فرقتان وهلكت فرقة وهم الذين أخذوا الحيتان { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } شديد . يقال : بؤس يبؤس بأساً إذا اشتد فهو بئيس . { بِئْسَ } : شامي { بيس } مدني { بيئس } على وزن فيعل : أبو بكر غير حماد { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين } أي جعلناهم قردة أذلاء مبعدين . وقيل : فلما عتوا تكرير لقوله { فَلَمَّا نَسُواْ } والعذاب البئيس : هو المسخ . قيل : صار الشبان قردة والشيوخ خنازير وكانوا يعرفون أقاربهم ويبكون ولا يتكلمون ، والجمهور على أنها ماتت بعد ثلاث . وقيل : بقيت وتناسلت .
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } أي أعلم وأجرى مجرى فعل القسم ، ولذا أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } أي كتب على نفسه ليسلطن على اليهود { إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ } من يوليهم { سُوء العذاب } فكانوا يؤدون الجزية إلى المجوس إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب } للكفار { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } للمؤمنين { وقطعناهم فِي الأرض } وفرقناهم فيها فلا تخلو بلد عن فرقة { أُمَمًا مّنْهُمُ الصالحون } الذين آمنوا منهم بالمدينة أو الذين وراء الصين { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه وهم الفسقة ومحل { دُونِ ذَلِكَ } الرفع وهو صفة لموصوف محذوف أي ومنهم ناس منحطون عن الصلاح { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } بالنعم والنقم والخصب والجدب { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ينتهون فينيبون { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } من بعد المذكورين { خَلْفٌ } وهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والخلف بدل السوء بخلاف الخلف فهو الصالح { وَرِثُواْ الكتاب } التوراة ووقفوا على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم ولم يعملوا بها { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى } هو حال من الضمير في { وَرِثُواْ } والعرض : المتاع أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها وهو من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب ، والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم . وفي قوله { هذا الأدنى } تخسيس وتحقير { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } لا يؤاخذنا الله بما أخذنا ، والفعل مسند إلى الأخذ أو إلى الجار والمجرور أي لنا { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } الواو للحال أي يرجعون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب } أي الميثاق المذكور في الكتاب { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } أي أخذ عليهم الميثاق في كتابهم أن لا يقولوا على الله إلا الصدق ، وهو عطف ل { مّيثَاقُ الكتاب } { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } وقرءوا ما في الكتاب وهو عطف على { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم } لأنه تقرير فكأنه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه { والدار الآخرة خَيْرٌ } من ذلك العرض الخسيس { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الرشا والمحارم { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أنه كذلك وبالتاء : مدني وحفص .
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
{ والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب } { يُمَسّكُونَ } أبو بكر والإمساك والتمسيك والتمسك الاعتصام والتعلق بشيء { وَأَقَامُواْ الصلاة } خص الصلاة مع أن التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة لأنها عماد الدين و { الذين } مبتدأ والخبر { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } أي إنا لا نضيع أجرهم . وجاز أن يكون مجروراً عطفاً على { الذين يَتَّقُونَ } و { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } اعتراض { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ } واذكروا إذا قلعناه ورفعناه كقوله { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } [ البقرة : 63 ] { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } هي كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب { وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } وعلموا أنه ساقط عليهم ، وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ . وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم . فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من سقوطه ، فلذلك لا ترى يهودياً يسجد على حاجبه الأيسر ويقولون هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة ، وقلنا لهم { خُذُواْ مَا ءاتيناكم } من الكتاب { بِقُوَّةٍ } وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه { واذكروا مَا فِيهِ } من الأوامر والنواهي ولا تنسوه { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ما أنتم عليه .
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ } أي واذكروا إذ أخذ { مِن ظُهُورِهِمْ } بدل من { بَنِى ءادَمَ } والتقدير : وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم { ذُرّيَّتُهُم } ومعنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم إخراجهم من أصلاب آبائهم { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا } هذا من باب التمثيل ، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الهدى والضلالة ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم : ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا : بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك { أَن تَقُولُواْ } مفعول له أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول كراهة أن يقولوا { يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين } لم ننبه عليه { أَوْ تَقُولُواْ } أو كراهة أن يقولوا { إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ } فاقتدينا بهم لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والاقتداء بالآباء ، كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } أي كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتركه سنة لنا { وكذلك } ومثل ذلك التفصيل البليغ { نُفَصّلُ الآيات } لهم { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن شركهم نفصلها .
إلى هذا ذهب المحققون من أهل التفسير ، منهم الشيخ أبو منصور والزجاج والزمخشري ، وذهب جمهور المفسرين إلى أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من ظهر آدم مثل الذر وأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم بقوله { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ } فأجابوه ب { بلى } . قالوا : وهي الفطرة التي فطر الله الناس عليها . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أخرج الله من ظهر آدم ذريته وأراه أياهم كهيئة الذر وأعطاهم العقل وقال : هؤلاء ولدك آخذ عليهم الميثاق أن يعبدوني . قيل : كان ذلك قبل دخول الجنة بين مكة والطائف . وقيل : بعد النزول من الجنة . وقيل : في الجنة . والحجة للأولين أنه قال { مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } ولم يقل من ظهر آدم ، ولأنا لا نتذكر ذلك فأنى يصير حجة . { ذرياتهم } مدني وبصري وشامي { أَن تَقُولُواْ } { أَوْ تَقُولُواْ } : أبو عمرو .
{ واتل عَلَيْهِمْ } على اليهود { نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا } هو عالم من علماء بني إسرائيل وقيل : هو بلعم بن باعوراء أوتي علم بعض كتب الله { فانسلخ مِنْهَا } فخرج من الآيات بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره { فَأَتْبَعَهُ الشيطان } فلحقه الشيطان وأدركه وصار قريناً له { فَكَانَ مِنَ الغاوين } فصار من الضالين الكافرين . روي أن قومه طلبوا منه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى فلم يزالوا به حتى فعل وكان عنده اسم الله الأعظم .
{ وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه } إلى منازل الأبرار من العلماء { بِهَا } بتلك الآيات { ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض } مال إلى الدنيا ورغب فيها { واتبع هَوَاهُ } في إيثار الدنيا ولذاتها على الآخرة ونعيمها { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ } أي تزجره وتطرده { يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ } غير مطرود { يَلْهَثْ } والمعنى فصفته التي هي مثل في الخسة والضعة كصفة الكلب في أخس أحواله وأذلها وهي حال دوام اللهث به ، سواء حمل عليه أي شد عليه وهيج فطرد ، أو ترك غير متعرض له بالحمل عليه ، وذلك أن سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا حرك ، أما الكلب فيلهث في الحالين فكان مقتضى الكلام أن يقال : ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعناه منزلته ، فوضع هذا التمثيل موضع فحططناه أبلغ حط . ومحل الجملة الشرطية النصب على الحال كأنه قيل : كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالين . وقيل : لما دعا بلعم على موسى خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب . وقيل : معناه هو ضال وعظ أو ترك . وعن عطاء : من علم ولم يعمل فهو كالكلب ينبح إن طرد أو ترك { ذلك مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } من اليهود بعد أن قرءوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه { فاقصص القصص } أي قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فيحذرون مثل عاقبته إذا ساروا نحو سيرته { سَاء مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } هي مثل القوم فحذف المضاف ، وفاعل { سَاء } مضمر أي ساء المثل مثلاً .
وانتصاب { مَثَلاً } على التمييز { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } معطوف على { كَذَّبُواْ } فيدخل في حيز الصلة أي الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم ، أو منقطع عن الصلة أي وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب ، وتقديم المفعول به للاختصاص أي وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعد إلى غيرها { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى } حمل على اللفظ { وَمَن يُضْلِلِ } أي ومن يضلله { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } حمل على المعنى ، ولو كان الهدي من الله البيان كما قالت المعتزلة ، لاستوى الكافر والمؤمن إذ البيان ثابت في حق الفريقين فدل أنه من الله تعالى التوفيق والعصمة والمعونة ، ولو كان ذلك للكافر لاهتدى كما اهتدى المؤمن .
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس } هم الكفار من الفريقين المعروضون عن تدبر آيات الله ، والله تعالى علم منهم اختيار الكفر فشاء منهم الكفر وخلق فيهم ذلك وجعل مصيرهم جهنم لذلك . ولا تنافي بين هذا وبين قوله { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] لأنه إنما خلق منهم للعبادة من علم أنه يعبده ، وأما من علم أنه يكفر به فإنما خلقه لما علم أنه يكون منه . فالحاصل أن من علم منه في الأزل أنه يكون منه العبادة خلقه للعبادة ، ومن علم منه أن يكون منه الكفر خلقه لذلك ، وكم من عامٍ يراد به الخصوص وقول المعتزلة بأن هذه لام العاقبة أي لما كان عاقبتهم جهنم جعل كأنهم خلقوا لها فراراً عن إرادة المعاصي عدول عن الظاهر { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } الحق ولا يتفكرون فيه { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } الرشد { وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا } الوعظ { أُوْلَئِكَ كالأنعام } في عدم الفقه والنظر الاعتبار والاستماع للتفكر { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } من الأنعام لأنهم كابروا العقول وعاندوا الرسول وارتكبوا الفضول ، فالأنعام تطلب منافعها وتهرب عن مضارها وهم لا يعلمون مضارهم حيث اختاروا النار ، وكيف يستوي المكلف المأمور والمخلى المعذور؟ فالآدمي روحاني شهواني سماوي أرضي ، فإن غلب روحه هواه فاق ملائكة السماوات ، وإن غلب هواه روحه فاقته بهائم الأرض { أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون } الكاملون في الغفلة .
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
{ وَللَّهِ الأسماء الحسنى } التي هي أحسن الأسماء لأنها تدل على معانٍ حسنة؛ فمنها ما يستحقه بحقائقه كالقديم قبل كل شيء ، والباقي بعد كل شيء ، والقادر على كل شيء ، والعالم بكل شيء ، والواحد الذي ليس كمثله شيء ، ومنها ما تستحسنه الأنفس لآثارها كالغفور والرحيم والشكور والحليم ، ومنها ما يوجب التخلق به كالفضل والعفو ، ومنها ما يوجب مراقبة الأحوال كالسميع والبصير والمقتدر ، ومنها ما يوجب الإجلال كالعظيم والجبار والمتكبر { فادعوه بِهَا } فسموه بتلك الأسماء { وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ } واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى ، وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه نحو أن يقولون : يا سخي يا رفيق ، لأنه لم يسم نفسه بذلك . ومن الإلحاد تسميته بالجسم والجوهر والعقل والعلة { يُلْحِدُونَ } حمزة لحد وألحد مال { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } للجنة لأنه في مقابلة { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } { أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } في أحكامهم . قيل : هم العلماء والدعاة إلى الدين ، وفيه دلالة على أن إجماع كل عصر حجة { والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم } سنستدنيهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم { مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ما يراد بهم وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع إنهماكهم في الغي ، فكلما جدد الله عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجددوا معصية فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن ترادف النعم أثره من الله تعالى وتقريب وإنما هو خذلان منه وتبعيد ، وهو استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة { وَأُمْلِى لَهُمْ } عطف على { سَنَسْتَدْرِجُهُم } وهو غير داخل في حكم السين أي أمهلهم { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } أخذي شديد . سماه كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان . ولما نسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجنون نزل { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم } محمد عليه السلام و «ما» نافية بعد وقف أي أولم يتفكروا في قولهم ، ثم نفى عنه الجنون بقوله ما بصاحبهم { مّن جِنَّةٍ } جنون { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } منذر من الله موضع إنذاره { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ } نظر استدلال { فِى مَلَكُوتِ السماوات والأرض } الملكوت الملك العظيم { وَمَا خَلَقَ الله مِن شَىْء } وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس لا يحصرها العدد { وَأَنْ عسى } «أن» مخففة من الثقيلة وأصله «وأنه عسى» ، والضمير ضمير الشأن وهو في موضع الجر بالعطف على { مَلَكُوتَ } ، والمعنى أولم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى { أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } ولعلهم يموتون عما قريب فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم قبل مفاجأة الأجل وحلول العقاب { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ } بعد القرآن { يُؤْمِنُونَ } إذا لم يؤمنوا به ، وهو متعلق ب { عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } كأنه قيل : لعل أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الفوت؟ وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق؟ وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا؟ { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } أي يضلله الله { وَيَذَرُهُمْ } بالياء : عراقي ، وبالجزم : حمزة وعلي عطفاً على محل { فَلاَ هَادِيَ لَهُ } كأنه قيل : من يضلل الله لا يهده أحد { وَيَذَرُهُمْ } والرفع على الاستئناف أي وهو يذرهم .
الباقون : بالنون { فِي طغيانهم } كفرهم { يَعْمَهُونَ } يتحيرون . ولما سألت اليهود أو قريش عن الساعة متى تكون نزل .
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة } وهي من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا . وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها ، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق { أَيَّانَ } متى واشتقاقه من «أي» فعلان منه لأن معناه أي وقت { مرساها } إرساؤها مصدر مثل المدخل بمعنى الإدخال ، أو وقت إرسائها أي إثباتها ، والمعنى متى يرسيها الله { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي } أي علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به لم يخبر به أحداً من ملك مقرب ولا نبي مرسل ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } لا يظهر أمرها لا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده { ثَقُلَتْ فِى السماوات واللأرض } أي كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة ، ويتمنى أن يتجلى له علمها وشق عليه خفاؤها ، وثقل عليه أو ثقلت فيها لأن أهلها يخافون شدائدها وأهوالها { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } فجأة على غفلة منكم { يسئلونك كأنّك خفيٌّ عنها } كأنك عالم بها وحقيقته كأنك بليغ في السؤال عنها ، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه استحكم علمه فيه . وأصل هذا التركيب المبالغة ، ومنه إحفاء الشارب ، أو { عَنْهَا } متعلق ب { يَسْأَلُونَكَ } أي يسألونك عنها كأنك حفي أي عالم بها { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } وكرر { يَسْأَلُونَكَ } و { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } للتأكيد ولزيادة { كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا } وعلى هذا تكرير العلماء في كتبهم لا يخلون المكرر من فائدة ، منهم محمد بن الحسن رحمه الله { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أنه المختص بالعلم بها { قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء الله } هو إظهار للعبودية وبراءة عما يختص بالربوبية من علم الغيب أي أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر كالمماليك إلا ما شاء مالكي من النفع لي والدفع عني { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِىَ السوء } أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها ، ولم أكن غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب .
وقيل : الغيب الأجل ، والخير العمل ، والسوء الوجل . وقيل : لاستكثرت لاعتددت من الخصب للجدب . والسوء الفقر وقد رد . { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } إن أنا إلا عبد أرسلت نذيراً وبشيراً ، وما من شأني أن أعلم الغيب . والسلام في { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يتعلق بالنذير والبشير لأن النذارة والبشارة إنما ينفعان فيهم ، أو بالبشير وحده والمتعلق بالنذير محذوف أي إلا نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون .
{ هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } هي نفس آدم عليه السلام { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } حواء خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } ليطمئن ويميل لأن الجنس إلى الجنس أميل خصوصاً إذا كان بعضاً منه ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه . وذكر { لِيَسْكُنَ } بعدما أنث في قوله { واحدة } منها زوجها ذهاباً إلى معنى النفس ليبين أن المراد بها آدم { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } جامعها { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا } خف عليها ولم تلق منه ما يلقي بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى ولم تستثقله كما يستثقلنه { فَمَرَّتْ بِهِ } فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق ، أو حملت حملاً خفيفاً يعني النطفة فمرت به فقامت به وقعدت .
{ فَلَمَّا أَثْقَلَت } حان وقت ثقل حملها { دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا } دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعي ويلتجأ إليه فقالا { لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا } لئن وهبت لنا ولداً سوياً قد صلح بدنه أو ولداً ذكراً لأن الذكورة من الصلاح { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } لك . والضمير في { ءاتَيْتَنَا } و { لَنَكُونَنَّ } لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما .
{ فَلَمَّا ءاتاهما صالحا } أعطاهما ما طلباه من الولد الصالح السوي { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء } أي آتى أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وكذلك { فِيمَا ءاتاهما } أي آتى أولادهما دليله { فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } حيث جمع الضمير ، وآدم وحواء بريئان من الشرك ، ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله تسميتهم أولادهم بعبد العزي وعبد مناف وعبد شمس ونحو ذلك ، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم ، أو يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم آل قصي أي هو الذي خلقكم من نفس واحدة قصي ، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزي وعبد قصي وعبد الدار .
والضمير في { أَيُشْرِكُونَ } لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك . { شركاً } مدني وأبو بكر أي ذوي شرك وهم الشركاء . { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } يعني الأصنام { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أجريت الأصنام مجرى أولي العلم بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة ، والمعنى أيشركون مالاً يقدر على خلق شيء وهم يخلقون لأن الله خالقهم ، أو الضمير في { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } للعابدين أي أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم مخلوقو الله فليعبدوا خالقهم ، أو للعابدين والمعبودين وجمعهم كأولي العلم تغليباً للعابدين { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ } لعبدتهم { نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث كالكسر وغيره بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم { وَإِن تَدْعُوهُمْ } وإن تدعوا هذه الأصنام { إِلَى الهدى } إلى ما هو هدى ورشاد أو إلى أن يهدوكم أي وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى { لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } إلى مرادكم وطلبتكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله . { لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } نافع { سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون } عن دعائهم في أنه لا فلاح معهم ولا يجيبونكم ، والعدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية لرؤوس الآي { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } أي مخلوقون مملوكون أمثالكم { فادعوهم } لجلب نفع أو دفع ضر { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } فليجيبوا { إِن كُنتُمْ صادقين } في أنهم آلهة . ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالهم فقال { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا } مشيكم { أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا } يتناولون بها { أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي فلم تعبدون ما هو دونكم { قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ } واستعينوا بهم في عدواتي { ثُمَّ كِيدُونِ } جميعاً أنتم وشركاؤكم . وبالياء : يعقوب وافقه أبو عمرو في الوصل { فَلاَ تُنظِرُونِ } فإني لا أبالي بكم وكانوا قد خافوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك . وبالياء يعقوب { إِنَّ وَلِيّىَ } ناصري عليكم { الله الذى نَزَّلَ الكتاب } أوحى إليّ وأعزني برسالته { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } ومن سنته أن ينصر الصالحين من عباده ولا يخذلهم .
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
{ والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } من دون الله { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه { وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } المرئي .
{ خُذِ العفو } هو ضد الجهد أي ما عفا لك من أخلاق الناس وأفعالهم ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا كقوله عليه السلام " يسروا ولا تعسروا " { وَأْمُرْ بالعرف } بالمعروف والجميل من الأفعال ، أو هو كل خصلة يرتضيها العقل ويقبلها الشرع { وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين } ولا تكافيء السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم واحلم عليهم ، وفسرها جبريل عليه السلام بقوله : صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك . وعن الصادق أمر الله نبيه عليه السلام بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ } وإما ينخسنك منه نخس أي بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به { فاستعذ بالله } ولا تطعه . والنزغ : والنخس كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي . وجعل النزع نازغاً كما قيل جد جده ، أو أريد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب كقول أبي بكر رضي الله عنه : إن لي شيطاناً يعتريني { إنّه سميعٌ } لنزغه { عَلِيمٌ } بدفعه { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان } { طيف } مكي وبصري وعليّ أي لمة منه مصدر من قولهم «طاف به الخيال يطيف طيفاً» . وعن أبي عمرو : هما واحد وهي الوسوسة . وهذا تأكيد لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان ، وأن عادة المتقين إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته { تَذَكَّرُواْ } ما أمر الله به ونهى عنه { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } فأبصروا السداد ودفعوا وسوسته . وحقيقته أن يفروا منه إلى الله فيزدادوا بصيرة من الله بالله { وإخوانهم } وأما إخوان الشياطين من شياطين الإنس فإن الشياطين { يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } أي يكونون مدداً لهم فيه ويعضدونهم { يَمُدُّونَهُمْ } من الإمداد : مدني { ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا ، وجاز أن يراد بالإخوان الشياطين ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين والأول أوجه ، لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا . وإنما جمع الضمير في { إخوانهم } والشيطان مفرد لأن المراد به الجنس .
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ } مقترحة { قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها } هلا اخترتها أي اختلقتها كما اختلقت ما قبلها { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى } ولست بمقترح لها { هذا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } هذا القرآن دلائل تبصركم وجوه الحق { وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } به .
{ وَإِذَا قُرِىء القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في الصلاة وغيرها . وقيل : معناه إذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له . وجمهور الصحابة رضي الله عنهم على أنه في استماع المؤتم . وقيل : في استماع الخطبة . وقيل : فيهما وهو الأصح { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك { تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } متضرعاً وخائفاً { وَدُونَ الجهر مِنَ القول } ومتكلماً كلاماً دون الجهر لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر { بالغدو والأصال } لفضل هذين الوقتين . وقيل : المراد إدامة الذكر باستقامة الفكر . ومعنى بالغدو بأوقات الغدو وهي الغدوات ، والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل وهو العشي { وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين } من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه { إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ } مكانة ومنزلة لا مكاناً ومنزلاً يعني الملائكة { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } لا يتعظمون عنها { وَيُسَبّحُونَهُ } وينزهونه عما لا يليق به { وَلَهُ يَسْجُدُونَ } ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره ، والله أعلم .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
مدنية وهي خمس أو ست أو سبع وسبعون آية
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول } النفل الغنيمة لأنها من فضل الله وعطائه ، والأنفال الغنائم . ولقد وقع اختلاف بين المسلمين في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله كيف تقسم ولمن الحكم في قسمتها للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعاً؟ فقيل له : قل لهم هي لرسول الله وهو الحاكم فيها خاصة يحكم ما يشاء ليس لأحد غيره فيها حكم . ومعنى الجمع بين ذكر الله والرسول أن حكمها مختص بالله ورسوله يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ، ويمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوضاً إلى رأي أحد { فاتقوا الله } في الاختلاف والتخاصم وكونوا متآخين في الله { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } أحوال بينكم يعني ما بينكم من الأحوال التي تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق ، وقال الزجاج : معنى { ذَاتَ بِيْنِكُمْ } حقيقة وصلكم . والبين الوصل أي فاتقوا الله وكونوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله به . قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين على السواء { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } فيما أمرتم به في الغنائم وغيرها { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } كاملي الإيمان { إِنَّمَا المؤمنون } إنما الكاملو الإيمان { الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فزعت لذكره استعظاماً له وتهيباً من جلاله وعزه وسلطانه { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاياته } أي القرآن { زَادَتْهُمْ إيمانا } ازدادوا بها يقيناً وطمأنينة ، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه ، أو زادتهم إيماناً بتلك الآيات لأنهم لم يؤمنوا بأحكامها قبل { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يعتمدون ولا يفوضون أمورهم إلى غير ربهم لا يخشون ولا يرجون إلا إياه { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } جمع بين أعمال القلوب من الوجل والإخلاص والتوكل ، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } هو صفة لمصدر محذوف أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً ، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون } كقولك «هو عبد الله حقاً» أي حق ذلك حقاً . وعن الحسن رحمه الله أن رجلاً سأله أمؤمن أنت؟ قال : إن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله : { إِنَّمَا المؤمنون } الآية . فلا أدري أنا منهم أم لا . وعن الثوري : من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ، أي كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقاً فلا يقطع بأنه مؤمن حقاً ، وبهذا يتشبث من يقول أنا مؤمن إن شاء الله .
وكان أبو حنيفة رحمه الله لا يقول ذلك . وقال لقتادة : لم تستثني في إيمانك؟ قال : اتباعاً لإبراهيم في قوله { والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين } [ الشعراء : 82 ] فقال له : هلا اقتديت به في قوله { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى } [ البقرة : 260 ] ، وعن إبراهيم التيمي : قل أنا مؤمن حقاً فإن صدقت أثبت عليه ، وإن كذبت فكفرك أشد من كذبك . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من لم يكن منافقاً فهو مؤمن حقاً . وقد احتج عبد الله على أحمد فقال : إيش اسمك؟ فقال : أحمد ، فقال : أتقول أنا أحمد حقاً أو أنا أحمد إن شاء الله؟ فقال : أنا أحمد حقاً . فقال : حيث سماك والداك لا تستثني وقد سماك الله في القرآن مؤمناً تستثني . { لَّهُمْ درجات } مراتب بعضها فوق بعض على قدر الأعمال { عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ } وتجاوز لسيئاتهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } صافٍ عن كد الاكتساب وخوف الحساب .
الكاف في { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } في محل النصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدر ، والتقدير : قل الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون { مِن بَيْتِكَ } يريد بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها لأنها مهاجرة ومسكنة فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه { بالحق } إخراجاً متلبساً بالحكمة والصواب { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ } في موضع الحال أي أخرجك في حال كراهتهم . وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان ، فأخبر جبريل النبي عليه السلام فأخبر أصحابه فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم ، فلما خرجوا علمت قريش بذلك فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهو النفير في المثل السائر : لا في العير ولا في النفير . فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فأبى وسار بمن معه إلى بدر وهو ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة ونزل جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين ، إما العير وإما قريشاً . فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال : « العير أحب إليكم أم النفير » قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدو . فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّد عليهم فقال : « إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل » فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو . فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال انظر أمرك فامض ، فوالله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار .
ثم قال المقداد بن عمرو : امض لما أمرك الله فإنا معك حيث أحببت ، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : { اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . ما دامت عين منا تطرف ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال سعد بن معاذ : امض يا رسول الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، فسر بنا على بركة الله . ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشطه قول سعد ثم قال : «سيروا على بركة الله أبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» وكانت الكراهة من بعضهم لقوله { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ } قال الشيخ أبومنصور رحمه الله : يحتمل أنهم منافقون كرهوا ذلك اعتقاداً ، ويحتمل أن يكونوا مخلصين ، وأن يكون ذلك كراهة طبع لأنهم غير متأهبين له .
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
{ يجادلونك فِي الحق } الحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقي النفير لإيثارهم عليه تلقي العير { بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } بعد إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ينصرون وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير ، وهلا قلت لنا لنستعد وذلك لكراهتهم القتال { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ } شبه حالهم في فرط فزعهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة بحال من يعتل إلى القتل ويساق على الصغار إلى الموت وهو مشاهد لأسبابه ناظر إليها لا يشك فيها . وقيل : كان خوفهم لقلة العدد وإنهم كانوا رجالة وماكان فيهم إلا فارسان { وإذ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين } «إذ» منصوب ب «اذكر» و { إِحْدَى } مفعول ثانٍ { أَنَّهَا لَكُمْ } بدل من { إِحْدَى الطائفتين } وهما العير والنفير والتقدير : وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ } أي العير وذات الشوكة ذات السلاح ، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم أي تتمنون أن تكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا سلاح لها ولا تريدون الطائفة الأخرى { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ } أي يثبته ويعليه { بكلماته } بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة ، وبما قضى من قتلهم وطرحهم في قليب بدر { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } آخرهم والدابر الآخر فاعل من دبر إذا أدبر . وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة ، وسفساف الأمور ، والله تعالى يريد معالي الأمور ، ونصرة الحق ، وعلو الكلمة ، وشتان ما بين المرادين ، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة وكسر قوتهم بضعفكم وأعزكم وأذلهم { لِيُحِقَّ الحق } متعلق ب { يقطع } أو بمحذوف تقديره ليحق الحق { وَيُبْطِلَ الباطل } فعل ذلك والمقدر متأخر ليفيد الاختصاص أي ما فعله إلا لهما ، وهو إثبات الإسلام وإظهاره ، وإبطال الكفر ، ومحقه ، وليس هذا بتكرار لأن الأول تمييز بين الإرادتين ، وهذا بيان لمراده فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } المشركون ذلك
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } بدل من { إِذْ يَعِدُكُمُ } أو متعلق بقوله { لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل } واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال طفقوا يدعون الله يقولون أي ربنا انصرنا على عدوك ، يا غياث المستغيثين أغثنا . وهي طلب الغوث وهو التخليص من المكروه { فاستجاب لَكُمْ } فأجاب . وأصل { أَنّي مُمِدُّكُمْ } «بأني ممدكم» فحذف الجار وسلط عليه { استجاب } فنصب محله { بِأَلْفٍ مّنَ الملئكة مُرْدِفِينَ } { مُردفِينَ } مدني . غيره بكسر الدال . فالكسر على أنهم أردفوا غيرهم ، والفتح على أنه أردف كل ملك ملكاً آخر .
يقال : ردفه إذا تبعه ، وأردفته إياه إذا اتبعه { وَمَا جَعَلَهُ الله } أي الإمداد الذي دل عليه ممدكم { إِلاَّ بشرى } إلا بشارة لكم بالنصر { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } يعني أنكم استغثتم وتضرعتم لقلتكم فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر وتسكيناً منكم وربطاً على قلوبكم { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } أي ولا تحسبوا النصر من الملائكة فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة ، أو وما النصر من الملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند الله ، والمنصور من نصره الله . واختلف في قتال الملائكة يوم بدر فقيل : نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر رضي الله عنه ، وميكائل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي رضي الله عنه في صورة الرجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلت حتى قال أبو جهل لابن مسعود : من أين كان يأتينا الضرب ، ولا نرى الشخص ، قال : من قبل الملائكة . قال : فهم غلبونا لا أنتم . وقيل : لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كافٍ في إهلاك أهل الدنيا . { أَنَّ الله عَزِيزٌ } بنصر أوليائه { حَكِيمٌ } بقهر أعدائه .
{ إِذْ يُغَشّيكُمُ } بدل ثانٍ من { إِذْ يَعِدُكُمُ } أو منصوب بالنصر أو بإضمار اذكر . { يُغَشّيكُمُ } مدني { النعاس } النوم والفاعل هو الله على القراءتين . { يُغَشّيكُمُ النعاس } مكي ، وأبو عمرو { ءامِنَةً } مفعول له أي إذ تنعسون أمنة بمعنى أمناً أي لأمنكم ، أو مصدر أي فأمنتم أمنة فالنوم يزيح الرعب ويريح النفس { مِنْهُ } صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من الله { وَيُنَزّلُ } بالتخفيف : مكي وبصري ، وبالتشديد : وغيرهم { عَلَيْكُم مّن السماء مَاء } مطراً { لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } بالماء من الحدث والجنابة { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } وسوسته إليهم وتخويفه إياهم من العطش ، أو الجنابة من الاحتلام ، لأنه من الشيطان وقد وسوس إليهم أن لا نصرة مع الجنابة { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } بالصبر { وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام } أي بالماء إذ الأقدام كانت تسوخ في الرمل ، أو بالربط لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر يثبت القدم في مواطن القتال { إِذْ يُوحِى } بدل ثالث من { إِذْ يَعِدُكُمُ } أو منصوب ب { يُثَبّتُ } { رَبُّكَ إِلَى الملئكة أَنّي مَعَكُمْ } بالنصر { فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ } بالبشرى وكان الملك يسير أمام الصف في صورة رجل ويقول : أبشروا فإن الله ناصركم { سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } هو امتلاء القلب من الخوف و { الرعب } شامي وعلي { فاضربوا } أمر للمؤمنين أو الملائكة ، وفيه دليل على أنهم قاتلوا { فَوْقَ الأعناق } أي أعالي الأعناق التي هي المذابح تطييراً للرؤوس ، أو أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق يعني ضرب الهام { واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } هي الأصابع يريد الأطراف ، والمعنى فاضربوا المقاتل والشوي لأن الضرب إما أن يقع على مقتل أو غير مقتل ، فأمرهم أن يجمعوا عليهم النوعين { ذلك } إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل وهو مبتدأ خبره { بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } أي ذلك العقاب وقع عليهم بسبب مشاقتهم أي مخالفتهم وهي مشتقة من الشق لأن كلا المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه ، وكذا المعاداة والمخاصمة لأن هذا في عدوة وخُصم أي جانب وذاك في عدوة وخصم { وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } والكاف في ذلك لخطاب الرسول أو لكل أحد ، وفي { ذلكم } للكفرة على طريقة الالتفات ، ومحله الرفع على «ذلكم العقاب أو العقاب» { ذلكم فَذُوقُوهُ } .
والواو في { وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار } بمعنى «مع» أي ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة فوضع الظاهر موضع الضمير .
{ ا يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً } حال من { الذين كَفَرُواْ } . والزحف الجيش الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيباً من زحف الصبي إذا دب على استه قليلاً قليلاً سمي بالمصدر { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } فلا تنصرفوا عنهم منهزمين أي إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير وأنتم قليل ، فلا تفروا فضلاً أن تدانوهم في العدد أو تساووهم ، أو حال من المؤمنين أو من الفريقين أي إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم .
{ وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً } مائلاً { لّقِتَالٍ } هو الكر بعد الفر يخيل عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه وهو من خدع الحرب { أَوْ مُتَحَيّزاً } منضماً { إلى فِئَةٍ } إلى جماعة من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها وهما حالان من ضمير الفاعل في { يُوَلّهِمْ } { فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } ووزن متحيز «متفيعل» لا «متفعل» ، لأنه من حاز يحوز ، فبناء متفعل منه متحوز . ولما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا وكان القاتل منهم يقول تفاخراً قتلت وأسرت قيل لهم { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } والفاء جواب لشرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم . ولما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : خذ قبضة من تراب فارمهم بها فرمى بها في وجوههم وقال " شاهت الوجوه " فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا قيل { وَمَا رَمَيْتَ } يا محمد { إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } يعني أن الرمية التي رميتها أنت لم ترمها أنت على الحقيقة ، لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمي البشر ، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم ، وفي الآية بيان أن فعل العبد مضاف إليه كسباً وإلى الله تعالى خلقاً لا كما تقول الجبرية والمعتزلة ، لأنه أثبت الفعل من العبد بقوله { إِذْ رَمَيْتَ } ثم نفاه عنه وأثبته لله تعالى بقوله { ولكن الله رمى } ، { ولكن الله قَتَلَهُمْ } ، { ولكن الله رمى } بتخفيف { لَكِنِ } شامي وحمزة وعلي { وَلِيُبْلِيَ المؤمنين } وليعطيهم { مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا } عطاء جميلاً ، والمعنى وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل وما فعل إلا لذلك { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لدعائهم { عَلِيمٌ } بأحوالهم { ذلكم } إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع أي الأمر ذلكم { وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين } معطوف على { ذلكم } أي المراد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين .
{ مُوهِنُ كَيْدِ } شامي وكوفي غير حفص . { مُوهِنُ كَيْدِ } حفص ، { مُوهِنُ } غيرهم .
{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } إن تستنصروا فقد جاءكم النصر عليكم وهو خطاب لأهل مكة ، لأنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة قالوا : اللهم إن كان محمد على حق فانصره ، وإن كنا على الحق فانصرنا . وقيل : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } خطاب للمؤمنين { وإن } للكافرين أي { وإن تنتهوا } عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { فهو } أي الانتهاء { خَيْرٌ لَّكُمْ } وأسلم { وَإِن تَعُودُواْ } لمحاربته { نَعُدْ } لنصرته عليكم { وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ } جمعكم { شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } عدداً { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } بالفتح مدني وشامي وحفص أي ولأن الله مع المؤمنين بالنصر كان ذلك ، وبالكسر غيرهم ويؤيده قراءة عبد الله { والله مَعَ المؤمنين } { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ } عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن المعنى أطيعوا رسول الله كقوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ولأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقوله «الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان» أو يرجع الضمير إلى الأمر بالطاعة أي ولا تولوا عن هذا الأمر وأمثاله ، وأصله ولا تتولوا فحذف إحدى التاءين تخفيفاً { وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } أي وأنتم تسمعونه ، أو ولا تتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تخالفوه وأنتم تسمعون أي تصدقون لأنكم مؤمنون لستم كالصم المكذبين من الكفرة .
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
{ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا } أي ادعوا السماع وهم المنافقون وأهل الكتاب { وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } لأنهم ليسوا بمصدقين فكأنهم غير سامعين ، والمعنى أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها أشبه سماعكم سماع من لا يؤمن . ثم قال { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ } أي إن شر من يدب على وجه الأرض البهائم ، وإن شر البهائم الذين هم صم عن الحق لا يعقلونه ، جعلهم من جنس البهائم ثم جعلهم شرها لأنهم عاندوا بعد الفهم وكابروا بعد العقل { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ } في هؤلاء الصم والبكم { خَيْرًا } صدقاً ورغبة { لأسْمَعَهُمْ } لجعلهم سامعين حتى يسمعوا سماع المصدقين { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ } عنه أي ولو أسمعهم وصدقوا لارتدوا بعد ذلك ولم يستقيموا { وَهُم مُّعْرِضُونَ } عن الإيمان . { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } وحد الضمير أيضاً كما وحده فيما قبله ، لأن استجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كاستجابته ، والمراد بالاستجابة الطاعة والامتثال وبالدعوة البعث والتحريض { لِمَا يُحْيِيكُمْ } من علوم الديانات والشرائع لأن العلم حياة كما أن الجهل موت قال الشاعر
لا تعجبنّ الجهول حلته ... فذاك ميت وثوبه كفن
أو لمجاهدة الكفار لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم ، أو للشهادة لقوله تعالى { بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ } [ آل عمران : 169 ] { واعلموا أَنَّ الله يحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } أي يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله ، أو بينه وبين ما تمناه بقلبه من طول الحياة فيفسخ عزائمه { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } واعلموا أنكم إليه تحشرون فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة { واتقوا فِتْنَةً } عذاباً { لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } هو جواب للأمر أي إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم ، وجاز أن تدخل النون المؤكدة في جواب الأمر لأن فيه معنى النهي كما إذا قلت «انزل عن الدابة لا تطرحك» وجاز «لا تطرحنك» . و «من» في { مّنكُمْ } للتبعيض { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } إذا عاقب .
{ واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } «إذ» مفعول به لا ظرف أي واذكروا وقت كونكم أقلة أذلة { مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرض } أرض مكة قبل الهجرة : يستضعفكم قريش { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس } لأن الناس كانوا لهم أعداء مضادين { فأواكم } إلى المدينة { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } بمظاهرة الأنصار وبإمداد الملائكة يوم بدر { وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات } من الغنائم ولم تحل لأحد قبلكم { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } هذه النعم .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله } بأن تعطلوا فرائضه { والرسول } بأن لا تستنوا به { وَتَخُونُواْ } جزم عطف على { لاَ تَخُونُواْ } أي ولا تخونوا { أماناتكم } فيما بينكم بأن لا تحفظوها { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } تبعه ذلك ووباله ، أو وأنتم تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو ، أو وأنتم علماء تعلمون حسن الحسن وقبح القبيح ، ومعنى الخون النقص كما أن معنى الإيفاء التمام ، ومنه تخوّنه إذا انتقصه ، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء ، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه { واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } أي سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم والعذاب ، أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده { وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } فعليكم أن تحرصوا على طلب ذلك وتزهدوا في الدنيا ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد { ياأيها الذين ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } نصراً لأنه يفرق بين الحق والباطل ، وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله ، أو بياناً وظهوراً يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض من قولهم «سطع الفرقان» أي طلع الفجر ، أو مخرجاً من الشبهات وشرحاً للصدور ، أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان وفضلاً ومزية في الدنيا والآخرة { وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } أي الصغائر { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ذنوبكم أي الكبائر { والله ذُو الفضل العظيم } على عباده .
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } لما فتح الله عليه ذكّره مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم . والمعنى واذكر إذ يمكرون بك ، وذلك أن قريشاً لما أسلمت الأنصار فرقوا أن يتفاقم أمره فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره ، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال : أنا شيخ من نجد دخلت مكة فسمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً . فقال أبو البختري : رأيي أن تحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتربصوا به ريب المنون . فقال إبليس : بئس الرأي ، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم . فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع واسترحتم . فقال إبليس : بئس الرأي ، يفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم . فقال أبو جهل لعنه الله : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا . فقال اللعين : صدق هذا الفتى هو أجودكم رأياً ، فتفرقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله ، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن له الله في الهجرة ، فأمر علياً فنام في مضجعه وقال له : اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه .
وباتوا مترصدين ، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله سعيهم واقتفوا أثره فأبطل الله مكرهم { لِيُثْبِتُوكَ } ليحبسوك ويوثقوك { أَوْ يَقْتُلُوكَ } بسيوفهم { أَوْ يُخْرِجُوكَ } من مكة { وَيَمْكُرُونَ } ويخفون المكايد له { وَيَمْكُرُ الله } ويخفي الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة { والله خَيْرُ الماكرين } أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيراً .
كان عليه السلام يقرأ القرآن ويذكر أخبار القرون الماضي في قراءته فقال النضر بن الحارث : لو شئت لقلت مثل هذا . وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وأحاديث العجم فنزل { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي القرآن { قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين } وهذا صلف منهم ووقاحة ، لأنهم دعوا إلى أن يأتوا بسورة واحدة من مثل هذا القرآن فلم يأتوا به .
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
{ وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا } أي القرآن { هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } هذا اسم «كان» و «هو» فصل و { الحق } خبر «كان» . رُوي أن النضر لما قال { إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين } قال له النبي عليه الصلاة والسلام " ويلك هذا كلام الله " فرفع النضر رأسه إلى السماء وقال { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } أي إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل { أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } بنوع آخر من جنس العذاب الأليم فقتل يوم بدر صبراً . وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال : أجهل من قومي قومك ، قالوا لرسول الله عليه السلام حين دعاهم إلى الحق { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } ولم يقولوا : إن كان هذا هو الحق فاهدنا له { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } اللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم لأنك بعثت رحمة للعالمين وسنته أن لا يعذب قوماً عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم ، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم { وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } هو في موضع الحال ومعناه نفي الاستغفار عنهم أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم ، أو معناه وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين . { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله } أي وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وهو معذبهم إذا فارقتهم ، وما لهم ألا يعذبهم الله { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، وإخراجهم رسول الله والمؤمنين من الصد وكانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء فقيل { وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ } وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمر الحرم { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون } من المسلمين . وقيل : الضميران راجعان إلى الله { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند أو أردا بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاءً } صفيراً كصوت المكاء وهو طائر مليح الصوت ، وهو فعال من مكا يمكوا إذا صفر { وَتَصْدِيَةً } وتصفيقاً تفعلة من الصدى ، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم ويصفرون فيها ويصفقون ، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته يخلطون عليه { فَذُوقُواْ العذاب } عذاب القتل والأسر يوم بدر { بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } بسبب كفركم .
ونزل في المطعين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً وكلهم من قريش ، وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وهو سبيل الله { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } ثم تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة ، فكأن ذاتها تصير ندماً وتنقلب حسرة { ثُمَّ يُغْلَبُونَ } آخر الأمر وهو من دلائل النبوة لأنه أخبر عنه قبل وقوعه فكان كما أخبر { والذين كَفَرُواْ } والكافرون منهم { إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه .
واللام في { لِيَمِيزَ الله الخبيث } الفريق الخبيث من الكفار { مِنَ الطيب } أي من الفريق الطيب من المؤمنين ، متعلقة ب { يُحْشَرُونَ } { ليميّز } حمزة وعلي { وَيَجْعَلَ الخبيث } الفريق الخبيث { بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً } فيجمعه { فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ } أي الفريق الخبيث { أولئك } إشارة إلى الفريق الخبيث { هُمُ الخاسرون } أنفسهم وأموالهم .
{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي أبي سفيان وأصحابه { إِن يَنتَهُواْ } عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام { يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } لهم من العداوة { وَإِن يَعُودُواْ } لقتاله { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين } بالإهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى ، أو معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي ، وبه احتج أبو حنيفة رحمه الله في أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط { وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ } ويضمحل عنهم كل دين باطل ويبقى فيهم دين الإسلام وحده { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن الكفر وأسلموا { فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يثيبهم على إسلامهم { وَإِن تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا { فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ } ناصركم ومعينكم فثقوا بولايته ونصرته { نِعْمَ المولى } لا يضيع من تولاه { وَنِعْمَ النصير } لا يغلب من نصره . والمخصوص بالمدح محذوف .
{ واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم } «ما» بمعنى «الذي» ، ولا يجوز أن يكتب إلا مفصولاً إذ لو كتب موصولاً لوجب أن تكون «ما» كافة و { غَنِمْتُمْ } صلته والعائد محذوف والتقدير : الذي غنمتموه { مِّن شَىْء } بيانه قيل حتى الخيط والمخيط { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } والفاء إنما دخلت لما في «الذي» من معنى المجازاة و «أن» وما عملت فيه في موضع رفع على أنه خبر مبدأ تقديره : فالحكم أن لله خمسة { وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } فالخمس كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم على خمسة أسهم : سهم لرسول الله ، وسهم لذي قرابته من بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل استحقوه حينئذ بالنصرة لقصة عثمان وجبير بن مطعم ، وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل ، وأما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسهمه ساقط بموته ، وكذلك سهم ذوي القربى ، وإنما يعطون لفقرهم ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان على ستة : لله والرسول سهمان ، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر رضي الله عنه الخمس على ثلاثة ، وكذا عمر ومن بعده من الخلفاء رضي الله عنهم ، ومعنى { لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } لرسول الله كقوله { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] { إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله } فاعملوا به وارضوا بهذه القسمة فالإيمان يوجب الرضا بالحكم والعمل بالعلم { وَمَا أَنزَلْنَا } معطوف على { بالله } أي إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل { على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان } يوم بدر { يَوْمَ التقى الجمعان } الفريقان من المسلمين والكافرين ، والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ وهو بدل من { يَوْمَ الفرقان } { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } يقدر على أن ينصر القليل على الكثير كما فعل بكم يوم بدر . { إِذْ أَنتُم } بدل من { يَوْمَ الفرقان } والتقدير : اذكروا إذ أنتم { بِالْعُدْوَةِ } شط الوادي ، وبالكسر فيهما : مكي وأبو عمرو { الدنيا } القربى إلى جهة المدينة تأنيث الأدنى { وَهُم بالعدوة القصوى } البعدى عن المدينة تأنيث الأقصى ، وكلتاهما فعلى من بنات الواو ، والقياس قلب الواو ياء كالعليا تأنيث الأعلى ، وأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل { والركب } أي العير وهو جمع راكب في المعنى { أَسْفَلَ مِنكُمْ } نصب على الظرف أي مكاناً أسفل من مكانكم يعني في أسفل الوادي بثلاثة أميال ، وهو مرفوع المحل لأنه خبر المبتدأ { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ } أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال { لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد } لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له { ولكن } جمع بينكم بلا ميعاد { لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } من إعزاز دينه وإعلاء كلمته ، أو اللام تتعلق بمحذوف أي ليقضي الله أمراً كان ينبغي أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك . قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : القضاء يحتمل الحكم أي ليحكم ما قد علم أنه يكون كائناً ، أو ليتم أمراً كان قد أراده ، وما أراد كونه فهو مفعول لا محالة وهو عز الإسلام وأهله وذل الكفر وحزبه ويتعلق ب { يَقْضِى } { لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ } { حيي } نافع وأبو عمرو ، فالإدغام لالتقاء المثلين ، والإظهار لأن حركة الثاني غير لازمة ، لأنك تقول في المستقبل «يحيا» والإدغام أكثر .
استعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة حتى لا يبقى له على الله حجة ، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به ، وذلك أن وقعة بدر من الآيات الواضحة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها ، ولهذا ذكر فيها مراكز الفريقين ، وأن العير كانت أسفل منهم مع أنهم قد علموا ذلك كله مشاهدة ليعلم الخلق أن النصر والغلبة لا تكون بالكثرة والأسباب بل بالله تعالى ، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضاً لا بأس بها ، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة ، وكان العيروراء ظهور العدو مع كثرة عددهم وعدتهم وقلة المسلمين وضعفهم ثم كان ما كان { بَيّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ } لأقوالهم { عَلِيمٌ } بكفر من كفر وعقابه وبإيمان من آمن وثوابه .
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ الله } نصب بإضمار «اذكر» ، أو هو متعلق بقوله { لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي بعلم المصالح إذ يقللهم في عينك { فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } أي في رؤياك ، وذلك أن الله تعالى أراه إياهم في رؤياه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فكان ذلك تشجيعاً لهم على عدوهم { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } لجبنتم وهبتم الإقدام { ولتنازعتم فِي الأمر } أمر القتال وترددتم بين الثبات والفرار { ولكن الله سَلَّمَ } عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع .
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ } الضميران مفعولان أي وإذ يبصركم إياهم { إِذِ التقيتم } وقت اللقاء { فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } هو نصب على الحال . وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا . قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة وكانوا ألفاً { وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور . قيل : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ثم كثرهم فيما بعده ليجترئوا عليه قلة مبالاة بهم ثم تفجأهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا ، ويجوز أن يبصروا الكثير قليلاً بأن يستر الله بعضهم بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين ، قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين وكان بين يديه ديك واحد فقال : مالي لا أرى هذين الديكين أربعة : { لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مفعولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } فيحكم فيها بما يريد { تَرْجَعُ } شامي وحمزة وعلي .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } إذا حاربتم جماعة من الكفار وترك وصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار ، واللقاء اسم غالب للقتال { فاثبتوا } لقتالهم ولا تفروا { واذكروا الله كَثِيراً } في مواطن الحرب مستظهرين بذكره مستنصرين به داعين له على عدوكم : اللهم اخذلهم اللهم اقطع دابرهم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة ، وفيه إشعار بأن على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هماً ، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } في الأمر بالجهاد والثبات مع العدو وغيرهما { وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ } فتجبنوا وهو منصوب بإضمار «أن» ويدل عليه { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي دولتكم يقال : «هبت رياح فلان» إذا دالت له الدولة ونفذ أمره ، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيته بالريح وهبوبها .
وقيل : لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله ، وفي الحديث " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " { واصبروا } في القتال مع العدو وغيره { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } أي معينهم وحافظهم { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم بَطَراً وَرِئَاءَ الناس } هم أهل مكة حين نفروا لحماية العير فأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فأبى أبو جهل وقال : حتى نقدم بدراً ونشرب بها الخمور وننحر الجزور وتعزف علينا القيان ونطعم بها العرب ، فذلك بطرهم ورياؤهم الناس بإطعامهم فوافوها فسقوا كأس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيام ، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم ، وأن يكونوا من أهل التقوى والكآبة والحزن من خشية الله مخلصين أعمالهم لله . والبطر أن تشغله كثرة النعمة عن شكرها . { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } دين الله { والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } عالم وهو وعيد .
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس } واذكر إذ زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون . وغالب مبني نحو «لا رجل» و { لَكُمْ } في موضع رفع خبر «لا» . تقديره : لا غالب كائن لكم { وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } أي مجير لكم أوهمهم أن طاعة الشيطان مما يجيرهم { فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان } فلما تلاقى الفريقان { نَكَصَ } الشيطان هارباً { على عَقِبَيْهِ } أي رجع القهقرى { وَقَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ } أي رجعت عما ضمنت لكم من الأمان . روي أن إبليس تمثل لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم في جند من الشياطين معه راية ، فلما رأى الملائكة تنزل نكص فقال له الحارث بن هشام : أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال : { إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ } أي الملائكة وانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة . فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم ، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان { إِنّي أَخَافُ الله } أي عقوبته { والله شَدِيدُ العقاب } اذكروا { إِذْ يَقُولُ المنافقون } بالمدينة { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هو من صفة المنافقين ، أو أريد والذين هم على حرف ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام { غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ } يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم فخرجوا وهم ثلثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف . ثم قال جواباً لهم { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله } يكل إليه أمره { فَإِنَّ الله عَزِيزٌ } غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي { حَكِيمٌ } لا يسوي بين وليه عدوه .
{ وَلَوْ تَرَى } ولو عاينت وشاهدت لأن «لو» ترد المضارع إلى معنى الماضي كما ترد «إن» الماضي إلى معنى الاستقبال { إِذْ } نصب على الظرف { يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ } بقبض أرواحهم { الملائكة } فاعل { يَضْرِبُونَ } حال منهم { وُجُوهُهُمْ } إذا أقبلوا { وأدبارهم } ظهورهم وأستاههم إذا أدبروا ، أو وجوههم عند الإقدام وأدبارهم عند الانهزام .
وقيل : في { يَتَوَفَّى } ضمير الله تعالى ، و { الملائكة } مرفوعة بالابتداء و { يَضْرِبُونَ } خبر والأول الوجه ، لأن الكفار لا يستحقون أن يكون الله متوفيهم بلا واسطة دليله قراءة ابن عامر { تتوفى } بالتاء { وَذُوقُواْ } ويقولون لهم ذوقوا معطوف على { يَضْرِبُونَ } { عَذَابَ الحريق } أي مقدمة عذاب النار ، أو ذوقوا عذاب الآخرة بشارة لهم به ، أو يقال لهم يوم القيامة : ذوقوا . وجواب «لو» محذوف أي لرأيت أمراً فظيعاً .
{ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي كسبت وهو رد على الجبرية ، وهو من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة . و { ذلك } رفع بالابتداء و { بِمَا قَدَّمَتْ } خبره { وَأَنَّ الله } عطف عليه أي ذلك العذاب بسببين : بسبب كفركم ومعاصيكم ، وبأن الله { لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } لأن تعذيب الكفار من العدل . وقيل : ظلام للتكثير لأجل العبيد ، أو لنفي أنواع الظلم . الكاف في { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } في محل الرفع أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون ، ودأبهم عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه أي داوموا عليه { والذين مِن قَبْلِهِمْ } من قبل قريش أو من قبل آل فرعون { كَفَرُواْ } تفسير لدأب آل فرعون { بئايات الله فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب } والمعنى جروا على عادتهم في التكذيب فأجرى عليه مثل ما فعل بهم في التعذيب { ذلك } العذاب أو الانتقام { بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } بسبب أن الله لم يصح في حكمته أن يغير نعمته عند قوم حتى يغيروا مابهم من الحال ، نعم لم يكن لآل فرعون ومشركي مكة حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة ، لكن لما تغيرت الحال المرضية إلى المسخوطة تغيرت الحال المسخوطة إلى أسخط منها ، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام ، فلما بعث إليهم بالآيات فكذبوه وسعوا في إراقة دمه ، غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ } لما يقولوا مكذبو الرسل { عَلِيمٌ } بما يفعلون { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } تكرير للتأكيد ، أو لأن في الأولى الأخذ بالذنوب بلا بيان ذلك ، وهنا بين أن ذلك هو الإهلاك والاستئصال { والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بئايات رَبِّهِمْ } وفي قوله { بآيات رَبِّهِمْ } زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق { فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَونَ } بماء البحر { وَكُلٌّ } وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش { كَانُواْ ظالمين } أنفسهم بالكفر والمعاصي .
{ إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي أصروا على الكفر فلا يتوقع منهم الإيمان { الذين عاهدت مِنْهُمْ } بدل من { الذين كَفَرُواْ } أي الذين عاهدتهم من الذين كفروا وجعلهم شر الدواب ، لأن شر الناس الكفار وشر الكفار المصرون وشر المصرين الناكثون للعهود { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } في كل معاهدة { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون بما فيه من العار والنار .
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب } فإما تصادفنهم وتظفرن بهم { فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } ففرق من محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم من وراءهم من الكفرة حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم . وقال الزجاج : افعل بهم ما تفرق به جمعهم وتطرد به من عداهم { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } لعل المشردين من ورائهم يتعظون { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ } معاهدين { خِيَانَةً } نكثاً بأمارات تلوح لك { فانبذ إِلَيْهِمْ } فاطرح إليهم العهد { على سَوَاءٍ } على استواء منك ومنهم في العلم بنقض العهد وهو حال من النابذ والمنبوذ إليهم أي حاصلين على استواء في العلم { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } الناقضين للعهود { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } بالياء وفتح السين : شامي وحمزة ويزيد وحفص ، وبالتاء وفتح السين : أبو كبر ، وبالتاء وكسر السين : غيرهم { الذين كَفَرُواْ سَبَقُواْ } فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم { أَنَّهُمْ } شامي أي لأنهم ، وكل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل غير أن المكسورة على طريقة الاستئناف ، والمفتوحة تعليل صريح؛ فمن قرأ بالتاء ف { الذين كَفَرُواْ } مفعول أول والثاني { سَبَقُواْ } ومن قرأ بالياء ف { الذين كَفَرُواْ } فاعل و { سَبَقُواْ } مفعول تقديره أن سبقوا فحذف «أن» ، و «أن» مخففة من الثقيلة أي أنهم سبقوا فسد مسد المفعولين ، أو يكون الفاعل مضمراً أي ولا يحسبن محمد الكافرين سابقين ومن ادعى . تفرد حمزة بالقراءة ، ففيه نظر لما بيناه من عدم تفرده بها . وعن الزهري أنها نزلت فيمن أفلت من فل المشركين .
{ وَأَعِدُّواْ } أيها المؤمنون { لَهُمْ } لناقضي العهد أو لجميع الكفار { مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ } من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها وفي الحديث " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثاً على المنبر . وقيل : هي الحصون { وَمِن رِّبَاطِ الخيل } هو اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، أو هو جمع ربيط كفصيل وفصال ، وخص الخيل من بين ما يتقوى به كقوله { وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] { تُرْهِبُونَ بِهِ } بما استطعتم { عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } أي أهل مكة { وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } غيرهم وهم اليهود ، أو المنافقون ، أو أهل فارس ، أو كفرة الجن . في الحديث " إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا دارا فيها فرس عتيق " وروي أن صهيل الخيل يرهب الجن { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } لا تعرفونهم بأعيانهم { الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } يوفر عليكم جزاؤه { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } في الجزاء بل تعطون على التمام { وَإِن جَنَحُواْ } ما لوا جنح له وإليه مال { لِلسَّلْمِ } للصلح وبكسر السين : أبو بكر وهو مؤنث تأنيث ضدها وهو الحرب { فاجنح لَهَا } فمل إليها { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم فإن الله كافيك وعاصمك من مكرهم { إِنَّهُ هُوَ السميع } لأقوالك { العليم } بأحوالك { وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ } يمكروا ويغدروا { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } كافيك الله { هُوَ الذي أَيَّدَكَ } قواك { بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين } جميعاً أو بالأنصار .
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } قلوب الأوس والخزرج بعد تعاديهم مائة وعشرين سنة { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي بلغت عداوتهم مبلغاً لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر عليه { ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } بفضله ورحمته وجمع بين كلمتهم بقدرته ، فأحدث بينهم التوادّ والتحابّ وأماط عنهم التباغض والتماقت { إِنَّهُ عَزَيْرٌ } يقهر من يخدعونك { حَكِيمٌ } ينصر من يتبعونك . { ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } الواو بمعنى «مع» وما بعده منصوب ، والمعنى كفاك وكفى أتباعك المؤمنين الله ناصراً . ويجوز أن يكون في محل الرفع أي كفاك الله وكفاك أتباعك من المؤمنين . قيل : أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت { ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال } التحريض المبالغة في الحث على الأمر من الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى يشفي على الموت { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الذين كَفَرُواْ } هذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله وتأييده { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } بسبب أن الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ، بخلاف من يقاتل على بصيرة وهو يرجو النصر من الله . قيل : كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة ، ثم ثقل عليهم ذلك فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين بقوله { الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } { ضعفاً } عاصم وحمزة { فَإِن يَكُن مِّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ } بالياء فيهما : كوفي ، وافقه البصري في الأولى والمراد الضعف في البدن { يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين } وتكرير مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده ، للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة لا تتفاوت ، إذ الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف ، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين .
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ } ما صح له ولا استقام { أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } { أَن تَكُونَ } : بصري { حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } الإثخان كثرة القتل والمبالغة فيه من الثخانة وهي الغلظ والكثافة حتى يذل الكفر بإشاعة القتل في أهله ، ويعز الإسلام بالاستيلاء والقهر ، ثم الأسر بعد ذلك . رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه وعقيل فاستشار النبي عليه السلام أبا بكر فيهم فقال : قومك وأهلك ، استبقهم لعل الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك . وقال عمر رضي الله عنه : كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر ، وإن الله أغناك عن الفداء ، مكن علياً من عقيل ، وحمزة من العباس ، ومكني من فلان لنسيب له ، فلنضرب أعناقهم . فقال عليه السلام : " مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم حيث قال : { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ) إبراهيم : 36 ) ومثلك يا عمر كمثل نوح حيث قال : { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } ) نوح : 26 ) " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم : " إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم " فقالوا : بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد فلما أخذوا الفداء نزلت الآية { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } متاعها يعني الفداء سماه عرضاً لقلة بقائه وسرعة فنائه { والله يُرِيدُ الآخرة } أي ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل { والله عَزِيزٌ } يقهر الأعداء { حَكِيمٌ } في عتاب الأولياء .
{ لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله } لولا حكم من الله { سَبَقَ } أن لا يعذب أحداً على العمل بالاجتهاد وكان هذا اجتهاداً منهم لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم ، وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد ، وخفي عليهم إن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم ، أو ما كتب الله في اللوح أن لا يعذب أهل بدر ، أو ألا يؤاخذ قبل البيان والإعذار . وفيما ذكر من الاستشارة دلالة على جواز الاجتهاد فيكون حجة على منكري القياس . { كِتَابٌ } مبتدأ و { مِنَ الله } صفته أي لولا كتاب ثابت من الله و { سَبَقَ } صفة أخرى له ، وخبر المبتدأ محذوف أي لولا كتاب بهذه الصفة في الوجود ، و { سَبَقَ } لا يجوز أن يكون خبراً لأن «لولا» أبداً { لَمَسَّكُمْ } لنالكم وأصابكم { فِيمَا أَخَذْتُمْ } من فداء الأسرى { عَذَابٌ عظِيمٌ } روي أن عمر رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت .
فقال : « أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة » لشجرة قريبة منه . وروي أنه عليه السلام قال : « لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ » لقوله كان الإثخان في القتل أحب إليّ { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } رُوي أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدوا أيديهم إليها فنزلت . وقيل : هو إباحة للفداء لأنه من جملة الغنائم . والفاء للتسبيب والسبب محذوف ، ومعناه قد أحللت لكم الغنائم فكلوا { حلالا } مطلقاً عن العتاب والعقاب من حل العقال وهو نصب على الحال من المغنوم ، أو صفة للمصدر أي أكلاً حلالاً { طَيِّباً } لذيذاً هنيئاً أو حلالاً بالشرع طيباً بالطبع { واتقوا الله } فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه { إِنَّ الله غَفُورٌ } لما فعلتم من قبل { رَّحِيمٌ } بإحلال ما غنمتم . { ياأيها النبي قُل لّمَن فِي أَيْدِيكُم } في ملكتكم كأن أيديكم قابضة عليهم { مِّنَ الاسرى } جمع أسير من الأسارى أبو عمرو جمع أسرى { إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } خلوص إيمان وصحة نية { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } من الفداء ، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه أو يثيبكم في الآخرة { وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } رُوي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفاً ، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ منه ما قدر على حمله وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة ، وكان له عشرون عبداً وإن أدناهم ليتجر في عشرين ألفاً وكان يقول : أنجز الله أحد الوعدين وأنا على ثقة من الآخر { وَإِن يُرِيدُواْ } أي الأسرى { خِيَانَتَكَ } نكث ما بايعوك عليه من الإسلام بالردة أو منع ما ضمنوه من الفداء { فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ } في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } فأمكنك منهم أي أظفرك بهم كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوالخيانة { والله عَلِيمٌ } بالمال { حَكِيمٌ } فيما أمر في الحال .
{ إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ } من مكة حباً لله ورسوله { وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } هم المهاجرون { والذين ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ } أي آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم وهم الأنصار { أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } أي يتولى بعضهم بعضاً في الميراث ، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة وبالنصرة دون ذوي القرابات حتى نسخ ذلك بقوله { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } وقيل : أراد به النصرة والمعاونة { والذين ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } من مكة { مَا لَكُم مّن ولايتهم } من توليهم في الميراث { ولايتهم } حمزة .
وقيل : هما واحد { مّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } فكان لا يرث المؤمن الذي لم يهاجر ممن آمن وهاجر ، ولما أبقى للذين لم يهاجروا اسم الإيمان وكانت الهجرة فريضة فصاروا بتركها مرتكبين كبيرة ، دل على أن صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان { وَإِنِ استنصروكم } أي من أسلم ولم يهاجر { فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر } أي إن وقع بينهم وبين الكفار قتال وطلبوا معونة فواجب عليكم أن تنصروهم على الكافرين { إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ } فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدئون بالقتال ، إذ الميثاق مانع من ذلك { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تحذير عن تعدي حد الشرع .
{ والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } ظاهره إثبات الموالاة بينهم ، ومعناه نهي المسلمين عن موالاة الكفار وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانوا أقارب وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضاً . ثم قال { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } أي إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضاً حتى في التوارث تفضيلاً لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ، ولم تجعلوا قرابة الكفار كلا قرابة { تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة ، لأن المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً { والذين ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والسكن والانسلاخ من المال والدنيا لأجل الدين والعقبى { لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لا منة فيه ولا تنغيص ولا تكرار ، لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم مع الوعد الكريم والأولى للأمر بالتواصل { والذين ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ } يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة { وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ } جعلهم منهم تفضلاً وترغيباً { وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } وأولوا القرابات أولى بالتوارث وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة { فِي كتاب الله } في حكمه وقسمته أوفى اللوح ، أو في القرآن وهو آية المواريث وهو دليل لنا على توريث ذوي الأرحام { أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه . قسم الناس أربعة أقسام : قسم آمنوا وهاجروا ، وقسم آمنوا ونصروا ، وقسم آمنوا ولم يهاجروا ، وقسم كفروا ولم يؤمنوا .
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
مدنية وهي مائة وتسع وعشرون آية كوفي ومائة وثلاثون غيره
لها أسماء : براءة ، التوبة ، المقشقشة ، المبعثرة ، المشردة ، المخزية ، الفاضحة ، المثيرة ، الحافرة ، المنكلة ، المدمدمة ، لأن فيها التوبة على المؤمنين وهي تقشقش من النفاق أي تبرىء منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين وتبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها ، وتفضحهم وتنكلهم وتشردهم وتخزيهم وتدمدم عليهم . وفي ترك التسمية في ابتدائها أقوال؛ فعن علي وابن عباس رضي الله عنهم ، أن بسم الله أمان وبراءة نزلت لرفع الأمان . وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه سورة أو آية قال : " اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا " وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أين نضعها ، وكانت قصتها تشبه قصة الأنفال لأن فيها ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود ، فلذلك قرنت بينهما وكانتا تدعيان القرينتين وتعدان السابعة من الطوال وهي سبع . وقيل : اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : الأنفال وبراءة سورة واحدة نزلت في القتال ، وقال بعضهم : هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان ، وتركت بسم الله لقول من قال هما سورة واحدة .
{ بَرَاءةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة { مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مّنَ المشركين } من لابتداء الغاية متعلق بمحذوف ، وليس بصلة كما في قولك « برئت من الذين»أي هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم كما تقول «كتاب من فلان إلى فلان» ، أو مبتدأ لتخصيصها بصفتها والخبر { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ } كقولك «رجل من بني تميم في الدار» والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم { فَسِيحُواْ فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } فسيروا في الأرض كيف شئتم . والسيح : السير على مهل . روي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا لا يتعرض لهم ، وهي الأشهر الحرم في قوله { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها . وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان ، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد ، وأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على موسم سنة تسع ، ثم أتبعه علياً راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر . فقال : لا يؤدّي عني إلا رجل مني . فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلما لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور . فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحثهم على مناسكهم وقال عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس ، إني رسول رسول الله إليكم فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ، ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ، فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف؛ والأشهر الأربعة : شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، أو عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر ، وكانت حرماً لأنهم أمنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم ، أو على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها . والجمهور على إباحة القتال في الأشهر الحرم وأن ذلك قد نسخ { واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } لا تفوتونه وإن أمهلكم { وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين } مذلهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب .
{ وَأَذّان مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس } ارتفاعه كارتفاع { بَرَاءةٌ } على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ، والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء ، والفرق بين الجملة الأولى والثانية أن الأولى إخبار بثبوت البراءة ، والثانية إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت . وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين ، وعلق الأذان بالناس ، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث { يَوْمَ الحج الأكبر } يوم عرفة لأن الوقوف بعرفة معظم أفعال الحج ، أو يوم النحر لأن فيه تمام الحج من الطواف ، والنحر ، والحلق ، والرمي ، ووصف الحج بالأكبر ، لأن العمرة تسمى الحج الأصغر { أَنَّ الله بَرِىء مّنَ المشركين } أي بأن الله حذفت صلة الأذان تخفيفاً { وَرَسُولُهُ } عطف على المنوي في { بَرِيء } أو على الابتداء وحذف الخبر أي ورسوله بريء ، وقرىء بالنصب عطفاً على إسم «إن» ، وبالجر على الجوار ، أو على القسم كقولك «لعمرك» . وحكي أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال : إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء ، فلببه الرجل إلى عمر فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعلم العربية { فَإِن تُبْتُمْ } من الكفر والغدر { فَهُوَ } أي التوبة { خَيْرٌ لَّكُمْ } من الأصرار على الكفر { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } عن التوبة أو تبتم على التولي والإعراض عن الإسلام { فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله } غير سابقين الله ولا فائتين أخذه وعقابه { وَبَشّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } مكان بشارة المؤمنين بنعيم مقيم { إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين } استثناء من قوله
{ فَسِيحُواْ فِى الأرض } والمعنى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم منهم { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } من شروط العهد أي وفوا بالعهد ولم ينقضوه . وقرىء { لَمْ ينقضوكم } أي عهدكم وهو أليق لكن المشهورة أبلغ لأنه في مقابلة التمام { وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً } ولم يعاونوا عليكم عدواً { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ } فأدوه إليهم تاماً كاملاً { إلى مُدَّتِهِمْ } إلى تمام مدتهم ، والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين : لكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ولا تجعلوا الوفي كالغادر { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } يعني أن قضية التقوى ألا يسوّي بين الفريقين فاتقوا الله في ذلك .
{ فَإِذَا انسلخ } مضى أو خرج { الأشهر الحرم } التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا { فاقتلوا المشركين } الذين نقضوكم وظاهروا عليكم { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } من حل أو حرم { وَخُذُوهُمْ } وأسروهم ، والأخذ : الأسر { واحصروهم } وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد { واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } كل ممر ومجتاز ترصدونهم به ، وانتصابه على الظرف . { فَإِن تَابُواْ } عن الكفر { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر ، أو فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم { أَنَّ الله غَفُورٌ } بستر الكفر والغدر بالإسلام { رَّحِيمٌ } برفع القتل قبل الأداء بالإلتزام { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } { أَحَدٌ } مرتفع بفعل شرط مضمر يفسره الظاهر أي وإن استجارك أحد استجارك ، والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه واستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمّنه { حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر على أن المستأمن لا يؤذي وليس له الإقامة في دارنا ويمكن من العود { ذلك } أي الأمر بالإجارة في قوله { فَأَجِرْهُ } { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا أو يفهموا الحق { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ } { كَيْفَ } استفهام في معنى الاستنكار أي مستنكر أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم . ثم استدرك ذلك بقوله { إِلاَّ الذين عاهدتم } أي ولكن الذين عاهدتم منهم { عِندَ المسجد الحرام } ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم { فَمَا استقاموا لَكُمْ } ولم يظهر منهم نكث أي فما أقاموا على وفاء العهد { فاستقيموا لَهُمْ } على الوفاء .
و «ما» شرطية أي فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } يعني أن التربص بهم من أعمال المتقين .
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، وحذف الفعل لكونه معلوماً أي كيف يكون لهم عهد وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم أي يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ } لا يراعوا حلفاً ولا قرابة { وَلاَ ذِمَّةً } عهداً { يُرْضُونَكُم بأفواههم } بالوعد بالإيمان والوفاء بالعهد وهو كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد { وتأبى قُلُوبُهُمْ } الإيمان والوفاء بالعهد { وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون } ناقضون العهد أو متمردون في الكفر ، لا مروءة تمنعهم عن الكذب ، ولا شمائل تردعهم عن النكث كما يوجد ذلك في بعض الكفرة من التفادي عنهما .
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
{ اشتروا } استبدلوا { بئايات الله } بالقرآن { ثَمَناً قَلِيلاً } عرضاً يسيراً وهو إتباع الأهواء والشهوات { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } فعدلوا عنه وصرفوا غيرهم { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي بئس الصنيع صنيعهم { لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } ولا تكرار ، لأن الأول على الخصوص حيث قال { فيكُمْ } والثاني على العموم لأنه قال { فِى مُؤْمِنٍ } { وَأُوْلَئِكَ هُمُ المعتدون } المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة { فَإِن تَابُواْ } عن الكفر { وَأَقَامُواْ الصلاة وَءاتَوُاْ الزكواة فإخوانكم } فهم إخوانكم على حذف المبتدأ { فِى الدين } لا في النسب { وَنُفَصّلُ الأيات } ونبينها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } يفهمون فيتفكرون فيها وهذا اعتراض ، كأنه قيل : وإن من تأمل تفصيلها فهو العالم تحريضاً على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها { وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } أي نقضوا العهود المؤكد بالأيمان { وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ } وعابوه { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم وهم رؤساء الشرك ، أو زعماء قريش الذين هموا بإخراج الرسول وقالوا : إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة . { أَئِمَّةَ } بهمزتين : كوفي وشامي ، الباقون : بهمزة واحدة غير ممدودة بعدها ياء مكسرورة ، أصلها «أأممة» لأنها جمع إمام كعماد وأعمدة ، فنقلت حركة الميم الأولى إلى الهمزة الساكنة وأدغمت في الميم الأخرى . فمن حقق الهمزتين أخرجهما على الأصل ، ومن قلب الثانية ياء فلكسرتها { إنهم لا أيمان لهم } وإنما أثبت لهم الإيمان في قوله { وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم } لأنه أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال { لا إيمان لَهُمْ } على الحقيقة وهو دليل لنا على أن يمين الكافر لا تكون يميناً ، ومعناه عند الشافعي رحمه الله أنهم لا يوفون بها لأن يمينهم يمين عنده حيث وصفها بالنكث . { لا أيمان } شامي أي لا إسلام { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } متعلق ب { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } وما بينها اعتراض أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم انتهاءهم عما هم عليه بعدما وجد منهم من العظائم ، وهذا من غاية كرمه على المسيء . ثم حرض على القتال فقال :
{ أَلاَ تقاتلون قَوْماً نَّكَثُواْ أيمانهم } التي حلفوها في المعاهدة { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } من مكة { وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } بالقتال والبادىء أظلم فما يمنعكم من أن تقاتلوهم ، وبخهم بترك مقاتلتهم وحضهم عليها ، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب { أَتَخْشَوْنَهُمْ } توبيخ على الخشية منهم { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } بأن تخشوه فقاتلوا أعداءه { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فاخشوه أي إن قضية الإيمان الكامل أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه .
ولما وبخهم الله على ترك القتال جرد لهم الأمر به بقوله :
{ قاتلوهم } ووعدهم النصر ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم بقوله { يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } قتلاً { وَيُخْزِهِمْ } أسراً { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } يغلّبكم عليهم { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } طائفة منهم وهم خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } لما لقوا منهم من المكروه وقد حصل الله هذه المواعيد كلها فكان دليلاً على صحة نبوته { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء } ابتداء كلام وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره وكان ذلك أيضاً ، فقد أسلم ناس منهم كأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ، وهي ترد على المعتزلة قولهم «إن الله تعالى شاء أن يتوب على جميع الكفرة لكنهم لا يتوبون باختيارهم» . { والله عَلِيمٌ } يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان { حَكِيمٌ } في قبول التوبة { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ } «أم» منقطعة والهمزة فيها للتوبيخ على وجود الحسبان أي لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين المخلص منكم وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً } أي بطانة من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ولما معناها التوقع ، وقد دلت على أن تبين ذلك متوقع كائن ، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين . { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } معطوف على { جاهدوا } داخل في حيز الصلة كأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله ، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كقولك «ما علم الله مني ما قيل فيّ» . تريد ما وجد ذلك مني ، والمعنى أحسبتم أن تتركوا بلا مجاهدة ولا براءة من المشركين { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من خير أو شر فيجازيكم عليه .
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ } ما صح لهم وما استقام { أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } { مساجد الله } مكي وبصري يعني المسجد الحرام ، وإنما جمع في القراءة بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد ، ولأن كل بقعة منه مسجد ، أو أريد جنس المساجد وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ، وهو آكد إذ طريقه طريق الكناية كما تقول : «فلان لا يقرأ كتب الله» فإنه أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك { شَهِدِينَ على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } باعترافهم بعبادة الأصنام وهو حال من الواو في { يَعْمُرُواْ } والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متضادين عمارة متعبدات الله مع الكفر بالله وبعبادته { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم وَفِى النار هُمْ خالدون } دائمون { إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله } عمارتها رمُّ ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا ، لأنها بنيت للعبادة والذكر ومن الذكر درس العلم { مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الأخر } ولم يذكر الإيمان بالرسول عليه السلام لما علم أن الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول لاقترانهما في الأذان والإقامة وكلمة الشهادة وغيرها ، أو دل عليه بقوله { وَأَقَامَ الصلاة وَءاتَى الزكواة } وفي قوله { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } تنبيه على الإخلاص ، والمراد الخشية في أبواب الدين بأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف ، إذ المؤمن قد يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها .
وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها : فأريد نفي تلك الخشية عنهم { فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسم لأطماعهم في الانتفاع بأعمالهم لأن { عَسَى } كلمة إطماع ، والمعنى إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتداً بها عند الله دون من سواهم .
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله واليوم الأخر وجاهد فِى سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية ، ولا بد من مضاف محذوف تقديره : أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله . وقيل : المصدر بمعنى الفاعل يصدقه قراءة ابن الزبير { سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام } والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة وأن يسوي بينهم ، وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر لأنهم وضعوا المدح والفخر في غير موضعهما . نزلت جواباً لقول العباس حين أسر فطفق علي رضي الله عنه يوبخه بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم تذكر مساوينا وتدع محاسننا . فقيل : أولكم محاسن؟ فقال : نعمر المسجد ونسقي الحاج ونفك العاني . وقيل : افتخر العباس بالسقاية وشيبة بالعمارة ، وعلي رضي الله عنه بالإسلام والجهاد ، فصدق الله تعالى علياً { الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ } أولئك { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } من أهل السقاية والعمارة { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون } لا أنتم والمختصون بالفوز دونهم { يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم } { يُبْشُرهم } حمزة { بِرَحْمَةٍ مّنْهُ ورضوان وجنات } تنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرف { لَّهُمْ فِيهَا } في الجنات { نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } دائم { خالدين فِيهَا أَبَداً إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لا ينقطع . لما أمر الله النبي عليه السلام بالهجرة جعل الرجل يقول لابنه ولأخيه ولقرابته : إنا قد أمرنا بالهجرة ، فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه ، ومنهم من تتعلق به زوجته أو ولده فيقول تدعنا بلا شيء فنضيع فيجلس معهم ويدع الهجرة فنزل { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وإخوانكم أَوْلِيَاء إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان } أي آثروه واختاروه { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ } أي ومن يتولى الكافرين { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } .
{ قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وإخوانكم وأزواجكم وَعَشِيرَتُكُمْ } أقاربكم وعشيراتكم أبو بكر { وأموال اقترفتموها } اكتسبتموها { وتجارة تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } فوات وقت نفاقها { ومساكن تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } وهو عذاب عاجل أو عقاب آجل أو فتح مكة { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } والآية تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين ، إذ لا تجد عند أورع الناس ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والأموال والحظوظ .
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } كوقعة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة . وقيل : إن المواطن التي نصر الله فيها النبي عليه السلام والمؤمنين ثمانون موطناً ، ومواطن الحرب مقاماتها ومواقفها { وَيَوْمَ } أي واذكروا يوم { حُنَيْنٍ } وادٍ بين مكة والطائف كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً ، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة ، فساءت رسول الله عليه الصلاة والسلام { إِذْ } بدل من { يَوْمٍ } { أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } فأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة وزل عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود ، فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهو ثابت في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجام دابته ، وأبو سفيان ابن الحارث بن عمه آخذاً بركابه فقال للعباس : «صح بالناس» وكان صيَّتاً ، فنادى : يا أصحاب الشجرة فاجتمعوا وهم يقولون : لبيك ، لبيك نزلت الملائكة عليهم الثياب البيض على خيول بلق ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفأ من تراب فرماهم به ثم قال :
" انهزموا ورب الكعبة " فانهزموا وكان من دعائه عليه السلام يومئذ " اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان " وهذا دعاء موسى عليه السلام يوم انفلاق البحر { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } «ما» مصدرية والباء بمعنى «مع» أي مع رُحبها وحقيقته ملتبسة برحبها على أن الجار والمجرور في موضع الحال كقولك «دخلت عليه بثياب السفر» أي متلبساً بها ، والمعنى لم تجدوا موضعاً لفراركم عن أعدائكم فكأنها ضاقت عليكم { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } ثم انهزمتم { ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ } رحمته التي سكنوا بها وأمنوا { على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } يعني الملائكة وكانوا ثمانية آلاف أو خمسة أو ستة عشر ألفاً { وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ } بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري . { وذلك جَزَاء الكافرين } .
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
{ ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاءُ } وهم الذين أسلموا منهم { والله غَفُورٌ } بستر كفر العدو بالإسلام { رَّحِيمٌ } بنصر الولي بعد الانهزام . { ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } أي ذوو نجس وهو مصدر ، يقال نجس نجساً وقذر قذراً لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم ، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في وصفهم بها { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام } فلا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية { بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبو بكر رضي الله عنه على الموسم ، ويكون المراد من نهي القربان النهي عن الحج والعمرة وهو مذهبنا ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله يمنعون من المسجد الحرام خاصة وعند مالك يمنعون منه ومن غيره . وقيل : نهى المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي فقراً بسبب منع المشركين من الحج وما كان لكم في قدومهم عليكم من الإرفاق والمكاسب { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } من الغنائم أو المطر والنبات أو من متاجر حجيج الإسلام { إِن شَاءَ } هو تعليم لتعليق الأمور بمشيئة الله تعالى لتنقطع الآمال إليه { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بأحوالكم { حَكِيمٌ } في تحقيق آمالكم ، أو عليم بمصالح العباد حكيم فيما حكم وأراد ونزل في أهل الكتاب { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } لأن اليهود مثنيّة والنصارى مثلثة { وَلاَ باليوم الأخر } لأنهم فيه على خلاف ما يجب حيث يزعمون أن لا أكل في الجنة ولا شرب { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ } لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة ، أو لا يعملون بما في التوراة والإنجيل { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق } ولا يعتقدون دين الإسلام الذي هو الحق . يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } بيان للذين قبله ، وأما المجوس فملحقون بأهل الكتاب في قبول الجزية ، وكذا الترك والهنود وغيرهما بخلاف مشركي العرب لما رُوي الزهري أن النبي عليه السلام صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب { حتى يُعْطُواْ الجزية } إلى أن يقبلوها ، وسميت جزية لأنه مما يجب على أهلها أن يجزوه أي يقضوه ، أو هي جزاء على الكفر على التحميل في تذليل { عَن يَدٍ } أي عن يدٍ مواتية غير ممتنعة ولذا قالوا : أعطى بيده إذا انقاد ، وقالوا : نزع يده عن الطاعة . أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة لا مبعوثاً على يدٍ أحد ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ { وَهُمْ صاغرون } أي تؤخذ منهم على الصغار والذل وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ، ويسلمها وهو قائم ، والمتسلم جالس ، وأن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيبه ويقال له أدِّ الجزية يا ذمي وإن كان يؤديها ويزخ في قفاه وتسقط بالإسلام .
{ وَقَالَتِ اليهود } كلهم أو بعضهم { عُزَيْرٌ ابن الله } مبتدأ وخبر كقوله { المسيح ابن الله } وعزير اسم أعجمي ، ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه ، ومن نون . وهم عاصم وعلي فقد جعله عربياً { وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بأفواههم } أي قول لا يعضده برهان ولا يستند إلى بيان ، فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ عن معنى تحته كالألفاظ المهملة { يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } لا بد فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم ، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً يعني أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم ، يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث ، أو الضمير للنصارى أي يضاهي قولهم { المسيح ابن الله } قول اليهود { عُزَيْرٌ ابن الله } لأنهم أقدم منهم { يضاهئون } عاصم . وأصل المضاهاة المشابهة ، والأكثر ترك الهمز واشتقاقه من قولهم «امرأة ضهياء» وهي التي أشبهت الرجال بأنها لا تحيض كذا قاله الزجاج ، { قاتلهم الله } أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا { أنى يُؤْفَكُونَ } كيف يصرفون عن الحق بعد قيام البرهان .
{ اتخذوا } أي أهل الكتاب { أحبارهم } علماءهم { ورهبانهم } نساكهم { أَرْبَابًا } آلهة { مِّن دُونِ الله } حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله كما يطاع الأرباب في أوامرهم ونواهيهم { والمسيح ابن مَرْيَمَ } عطف على { أحبارهم } أي اتخذوه رباً حيث جعلوه ابن الله { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا } يجوز الوقف عليه لأن ما بعده يصلح ابتداء يصلح وصفاً لواحداً { لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه له عن الإشراك { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى من الإشراق ليطفئه بنفخه . أجرى { ويأبى الله } مجرى { لاَ يُرِيدُ الله } ولذا وقع في مقابله { يُرِيدُونَ } وإلا فلا يقال : كرهت أو أبغضت إلا زيداً .
{ هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } محمداً عليه السلام { بالهدى } بالقرآن { وَدِينِ الحق } الإسلام { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه { عَلَى الدين كُلِّهِ } على أهل الأديان كلهم ، أو ليظهر دين الحق على كل دين { وَلَوْ كَرِهَ المشركون * يا أيها الذين آمنوا إنَّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس } استعار الأكل للأخذ { بالباطل } أي بالرشا في الأحكام { وَيَصُدُّونَ } سفلتهم { عَن سَبِيلِ الله } دينه { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة } يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان للدلالة على اجتماع خصلتين ذميمتين فيهم : أخذ الرشا وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الخير .
ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ، ويقرن بينهم وبين المرتشين من أهل الكتاب تغليظاً . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً ، وما بلغ أن يزكي فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً » ولقد كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم كعبد الرحمن بن عوف وطلحة يقتنون الأموال ويتصرفون فيها وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية ، لأن الإعراض اختيار للأفضل والاقتناء مباح لا يذم صاحبه { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } الضمير راجع إلى المعنى لأن كل واحد منهما دنانير ودراهم ، فهو كقوله : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] . أو أريد الكنوز ولأموال ، أو معناه ولا ينفقونها والذهب كما أن معنى قوله :
فإني وقيار بها لغريب ... وقيار كذلك . وخصا بالذكر من بين سائر الأموال لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء . وذكر كنزهما دليل على ما سواهما { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
ومعنى قوله { يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ } أن النار تحمي عليها أي توقد ، وإنما ذكر الفعل لأنه مسند إلى الجار والمجرور ، أصله يوم تحمى النار عليها ، فلما حذفت النار قيل { يحمى } لانتقاد الإسناد عن النار إلى عليها كما تقول «رفعت القصة إلى الأمير» فإن لم تذكر القصة قلت «رفع إلى الأمير» { فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } وخصت هذه الأعضاء لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم ، أو معناه يكوون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم { هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ } يقال لهم هذا ما كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وهو توبيخ { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } أي وبال المال الذي كنتم تكنزونه ، أو وبال كونكم كانزين .
{ إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } من غير زيادة ، والمراد بيان أن أحكام الشرع تبتني على الشهور القمري المحسوبة بالأهلة دون الشمسية { فِي كتاب الله } فيما أثبته وأوجبه من حكمته أو في اللوح { يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ثلاثة سرد : ذو القعدة للقعود عن القتال ، وذو الحجة للحج ، والمحرم لتحريم القتال فيه ، وواحد فرد وهو رجب لترجيب العرب إياه أي لتعظيمه { ذلك الدين القيم } أي الدين المستقيم لا ما يفعله أهل الجاهلية يعني أن تحريم الأربعة الأشهر هو الدين المستقيم ودين إبراهيم وإسماعيل ، وكانت العرب تمسكت به فكانوا يعظمونها ويحرمون القتال فيها حتى أحدثت النسيء فغيروا { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ } في الحرم أو في الاثني عشر { أَنفُسَكُمْ } بارتكاب المعاصي { وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً } حال من الفاعل أو المفعول { كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً } جميعاً { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أي ناصر لهم حثهم على التقوى بضمان النصرة لأهلها { إِنَّمَا النسيء } بالهمزة مصدر نسأه إذا أخره ، وهو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر . وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ، فكانوا يحرمون من بين شهور العام أربعة أشهر { زِيَادَةٌ فِي الكفر } أي هذا الفعل منهم زيادة في كفرهم { يُضَلُّ } كوفي غير أبي بكر { بِهِ الذين كَفَرُواْ } بالنسيء . والضمير في { يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا } للنسيء أي إذا أحلوا شهراً من الأشهر الحرم عاماً رجعوا فحرموه في العام القابل { لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين .
واللام تتعلق ب { يُحِلُّونَهُ } و { يحرمونه } أو ب { يحرمونه } فحسب وهو الظاهر { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله } أي فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله من القتال ، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها { زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أعمالهم } زين الشيطان لهم ذلك فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } حال اختيارهم الثبات على الباطل .
ا { ياأيها الذين ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا } اخرجوا { فِى سَبِيلِ الله اثاقلتم } تثاقلتم وهو أصله إلا أن التاء أدغمت في الثاء فصارت ثاء ساكنة ، فدخلت ألف الوصل لئلا يبتدأ بالساكن أي تباطأتم { إِلَى الأرض } ضمن معنى الميل والإخلاد فعدي ب «إلى» أي ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه ، أو ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم ، وكان ذلك في غزوة تبوك استنفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم ذلك . وقيل : ماخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلاّ ورّي عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة { أَرَضِيتُم بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } بدل الآخرة { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة } في جنب الآخر { إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ } إلى الحرب { يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا } سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين ، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع ، وأنه غني عنهم في نصرة دينه لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً . وقيل : الضمير في { وَلاَ تَضُرُّوهُ } للرسول عليه السلام لأن الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره ووعده كائن لا محالة { والله على كُلّ شَيْءٍ } من التبديل والتعذيب وغيرهما { قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد ، فدل بقوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت { إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ } أسند الإخراج إلى الكفار لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه { ثَانِيَ اثنين } أحد اثنين كقوله { ثالث ثلاثة } وهما رسول الله وأبو بكر ، وانتصابه على الحال { إِذْ هُمَا } بدل من { إِذْ أَخْرَجَهُ } { فِي الغار } هو نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثاً فيه ثلاثاً { إِذْ يَقُولُ } بدل ثانٍ { لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } بالنصرة والحفظ . قيل : طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه السلام :
« ما ظنك باثنين الله ثالثهما » وقيل : لما دخل الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم أعم أبصارهم » فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون قد أخذ الله بأبصارهم عنه وقالوا : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله وليس ذلك لسائر الصحابة { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ } ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه { عَلَيْهِ } على النبي صلى الله عليه وسلم أو على أبي بكر لأنه كان يخاف وكان عليه السلام ساكن القلب { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } هم الملائكة صرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه ، أو أيده بالملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ } أي دعوتهم إلى الكفر { السفلى وَكَلِمَةُ الله } دعوته إلى الإسلام { هِىَ } فصل { العليا } { وَكَلِمَةُ الله } بالنصب : يعقوب بالعطف ، والرفع على الاستئناف أوجه إذ هي كانت ولم تزل عالية { والله عَزِيزٌ } يعز بنصره أهل كلمته { حَكِيمٌ } يذل أهل الشرك بحكمته .
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
{ انفروا خِفَافًا } في النفور لنشاطكم له { وَثِقَالاً } عنه لمشقته عليكم ، أو خفافاً لقلة عيالكم وثقالاً لكثرتها ، أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه ، أو ركباناً ومشاة أو شباباً وشيوخاً ، أو مهازيل وسماناً ، أو صحاحاً ومراضاً { وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ } إيجاب للجهاد بهما إن إمكن ، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة { فِي سَبِيلِ الله ذلكم } الجهاد { خَيْرٌ لَّكُمْ } من تركه { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } كون ذلك خيراً فبادروا إليه . ونزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين { لَوْ كَانَ عَرَضًا } هو ما عرض لك من منافع الدنيا ، يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر أي لو كان ما دعوا إليه مغنماً { قَرِيبًا } سهل المأخذ { وَسَفَرًا قَاصِدًا } وسطاً مقارباً ، والقاصد والقصد المعتدل { لاَّتَّبَعُوكَ } لوافقوك في الخروج { ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة } المسافة الشاطة الشاقة { وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } . من دلائل النبوة لأنه أخبر بما سيكون بعد القفول فقالوا كما أخبر ، و { بالله } متعلق ب { سَيَحْلِفُونَ } ، أو هو من جملة كلامهم ، والقول مراد في الوجهين أي سيحلفون يعني المتخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ، أو سيحلفون بالله يقولون لو استطعنا . وقوله { لخرجنا } سد مسد جوابي القسم و { لَوْ } جميعاً . ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة أو استطاعة الأبدان كأنهم تمارضوا { يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ } بدل من { سَيَحْلِفُونَ } أو حال منه أي مهلكين ، والمعنى أنهم يهلكونها بالحلف الكاذب ، أو حال من { لَخَرَجْنَا } أي لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها على المسير في تلك الشقة { والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون } فيما يقولون . { عَفَا الله عَنكَ } كناية عن الزلة لأن العفو رادف لها وهو من لطف العتاب بتصدير العفو في الخطاب ، وفيه دلالة فضله على سائر الأنبياء عليهم السلام حيث لم يذكر مثله لسائر الأنبياء عليهم السلام { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } بيان لما كنى عنه بالعفو ، ومعناه مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلّوا لك بعللهم وهلا استأنيت بالإذن! { حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين } يتبين لك الصادق في العذر من الكاذب فيه . وقيل : شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما : إذنه للمنافقين ، وأخذه الفدية من الأسارى ، فعاتبه الله . وفيه دليل جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام لأنه عليه السلام إنما فعل ذلك بالاجتهاد ، وإنما عوتب مع أن له ذلك لتركه الأفضل وهم يعاتبون على ترك الأفضل { لا يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر أَن يجاهدوا } ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا { بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ والله عَلِيمٌ بالمتقين } عدة لهم بأجزل الثواب .
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } يعني المنافقين وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً { وارتابت قُلُوبُهُمْ } شكوا في دينهم واضطربوا في عقيدتهم { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } يتحيرون لأن التردد ديدن المتحير كما أن الثبات ديدن المتبصر { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ } للخروج أو للجهاد { عُدَّةً } أهبة لأنهم كانوا مياسير ، ولما كان { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج } معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو قيل : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } نهوضهم للخروج كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم { فَثَبَّطَهُمْ } فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث والتثبيط التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه { وَقِيلَ اقعدوا } أي قال بعضهم لبعض ، أو قاله الرسول عليه السلام غضباً عليهم ، أو قاله الشيطان بالوسوسة { مَعَ القاعدين } هو ذم لهم وإلحاق بالنساء والصبيان والزمني الذين شأنهم القعود في البيوت .
{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ } بخروجهم معكم { إِلاَّ خَبَالاً } إلا فساداً وشراً ، والاستثناء متصل لأن المعنى ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً ، والاستثناء المنقطع أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه كقولك «ما زداوكم خيراً إلا خبالاً» والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور ، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الشيء فكان استثناء متصلاً لأن الخبال بعضه { ولأَوْضَعُواْ خلالكم } ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين . يقال : وضع البعير وضعاً إذا أسرع . وأوضعته أنا . والمعنى ولأوضعوا ركائبهم بينكم ، والمراد الإسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشي . وخط في المصحف { وَلاَ أوضعوا } بزيادة الألف لأن الفتحة كانت تكتب ألفاً قبل الخط العربي ، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحها ألفاً أخرى ونحوه { أَوْ لاَ أذبحنه } [ النمل : 21 ] { يَبْغُونَكُمُ } حال من الضمير في { أوضعوا } { إِلَى الفتنة } أي يطلبون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم { وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ } أي نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم { والله عَلِيمٌ بالظالمين } بالمنافقين { لَقَدِ ابتغوا الفتنة } بصد الناس أو بأن يفتكوا به عليه السلام ليلة العقبة ، أو بالرجوع يوم أحد { مِن قَبْلُ } من قبل غزوة تبوك { وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور } ودبروا لك الحيل والمكايد ودوّروا الآراء في إبطال أمرك { حتى جَاءَ الحق } وهو تأييدك ونصرك { وَظَهَرَ أَمْرُ الله } وغلب دينه وعلا شرعه { وَهُمْ كارهون } أي على رغم منهم .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي وَلاَ تَفْتِنّي } ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت ، أولا تلقني في الهلكة فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي . وقيل : قال الجد بن قيس المنافق : قد علمت الأنصار إني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم ولكني أعينك بمالي فاتركني { أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ } يعني أن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } الآن لأن أسباب الإحاطة معهم أو هي تحيط بهم يوم القيامة { إِن تُصِبْكَ } في بعض الغزوات { حَسَنَةٌ } ظفر وغنيمة { تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } نكبة وشدة في بعضها نحو ما جرى يوم أحد { يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا } الذي نحن متسمون به من الحذ والتيقط والعمل بالحزم { مِن قَبْلُ } من قبل ما وقع { وَيَتَوَلَّواْ } عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم { وَّهُمْ فَرِحُونَ } مسرورون { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } أي قضى من خير أو شر { هُوَ مولانا } أي الذي يتولانا ونتولاه { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا } تنتظرون بنا { إِلا إِحْدَى الحسنيين } وهما النصرة والشهادة { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } إحدى السوءيين إما { أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ } وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود { أَوْ } بعذاب { بِأَيْدِينَا } وهو القتل على الكفر { فَتَرَبَّصُواْ } بنا ما ذكرنا { إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } ما هو عاقبتكم { قُلْ أَنفِقُواْ } في وجوه البر { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } طائعين أو مكرهين نصب على الحال . { كَرْهاً } حمزة وعلي وهو أمر في معنى الخبر ومعناه { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } أنفقتم طوعاً أو كرهاً ونحوه { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] وقوله
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، ولا نلومك أسأت إلينا أو أحسنت ، وقد جاز عكسه في قولك «رحم الله زيداً» ، ومعنى عدم القبول أنه عليه السلام يردها عليهم ولا يقبلها أو لا يثيبها الله . وقوله { طَوْعاً } أي من غير إلزام من الله ورسوله و { كَرْهاً } أي ملزمين ، وسمي الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه { إِنَّكُمْ } تعليل لرد إنفاقهم { كُنتُمْ قَوْماً فاسقين } متمردين عاتين .
{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم } وبالياء : حمزة وعلي { إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ } أنهم فاعل «منع» وهم و { أَن تُقْبَلَ } مفعولاه أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم { بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى } جمع كسلان { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون } لأنهم لا يريدون بهما وجه الله تعالى ، وصفهم بالطوع في قوله { طَوْعاً } وسلبه عنهم ههنا لأن المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو من رؤسائهم ، وما طوعهم ذلك إلا عن كراهة واضطرار لا عن رغبة واختبار .
{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا } الإعجاب بالشيء أن تسر به سرور راضٍ به متعجب من حسنه ، والمعنى فلا تستحسن ما أوتوا من زينة الدنيا فإن الله إنما أعطاهم ما أعطاهم ليعذبهم بالمصائب فيها ، أو بالإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له ، أو بنهب أموالهم وسبي أولادهم ، أو بجمعها وحفظها وحبها والبخل بها والخوف عليها وكل هذا عذاب { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون } وتخرج أرواحهم ، وأصل الزهوق الخروج بصعوبة ، ودلت الآية على بطلان القول بالأصلح لأنه أخبر أن إعطاء الأموال والأولاد لهم للتعذيب والأماتة على الكفر وعلى إرادة الله تعالى المعاصي ، لأن إرادة العذاب بإرادة ما يعذب عليه ، وكذا إرادة الإماتة على الكفر { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } لمن جملة المسلمين { وَمَا هُم مّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } يخافون القتل وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً } مكاناً يلجئون إليه متحصنين من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة { أَوْ مغارات } أو غيراناً { أَوْ مُدَّخَلاً } أو نفقاً يندسون فيه وهو مفتعل من الدخول { لَّوَلَّوَاْ إِلَيْهِ } لأقبلوا نحوه { وَهُمْ يَجْمَحُونَ } يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء من الفرس الجموح { وَمِنْهُمُ } ومن المنافقين { مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك { فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } «إذا» للمفاجأة أي وإن لم يعطوا منها فاجئوا السخط ، وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين وما فيه صلاح أهله ، لأنه عليه السلام استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله راغبون } جواب «لو» محذوف تقديره : ولو أنهم رضوا لكان خيراً لهم ، والمعنى ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم وقالوا : كفانا فضل الله وصنعه ، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون .
ثم بين مواضعها التي توضع فيها فقال :
{ إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء والمساكين } قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة أي هي مختصة بهم لا تتجاوز إلى غيرهم كأنه قيل : إنما هي لهم لا لغيرهم كقولك «إنما الخلافة لقريش» تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم ، فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها ، وأن تصرف إلى بعضها كما هو مذهبنا ، وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين أنهم قالوا : في أي صنف منها وضعتها أجزأك . وعند الشافعي رحمه الله : لا بد من صرفها إلى الأصناف وهو المروي عن عكرمة . ثم الفقير الذي لا يسأل لأن عنده ما يكفيه للحال والمسكين الذي يسأل لأنه لا يجد شيئاً فهو أضعف حالاً منه ، وعند الشافعي رحمه الله على العكس { والعاملين عَلَيْهَا } هم السعادة الذين يقبضونها { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } على الإسلام أشراف من العرب ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم على أن يسلموا وقوم منهم أسلموا فيعطيهم تقريراً لهم على الإسلام { وَفِي الرقاب } هم المكاتبون يعانون منها { والغارمين } الذين ركبتهم الديون { وَفِي سَبِيلِ الله } فقراء الغزاة أو الحجيج المنقطع بهم { وابن السبيل } المسافر المنقطع عن ماله ، وعدل عن اللام إلى «في» في الأربعة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن «في» للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها . وتكرير «في» في قوله { وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل } فيه فضل وترجيح لهذين على الرقاب والغارمين . وإنما وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ليدل بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات حاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم ، حسماً لأطماعهم وإشعاراً بأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم وما لها ، وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها! وسهم المؤلفة قلوبهم سقط بإجماع الصحابة في صدر خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم ، والحكم متى ثبت معقولاً لمعنى خاص يرتفع وينتهي بذهاب ذلك المعنى { فَرِيضَةً مّنَ الله } في معنى المصدر المؤكد لأن قوله { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ } معناه فرض الله الصدقات لهم { والله عَلِيمٌ } بالمصلحة { حَكِيمٌ } في القسمة .
{ وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد ، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة ، وإيذاؤهم له هو قولهم فيه { هُوَ أُذُنٌ } قصدوا به المذمة وأنه من أهل سلامة القلوب والعزة ، ففسره الله تعالى بما هو مدح له وثناء عليه فقال { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } كقولك «رجل صدق» تريد الجودة والصلاح كأنه قيل : نعم هو أذن ولكن نعم الأذن ، ويجوز أن يريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بأذن في غير ذلك .
ثم فسر كونه أذن خير بأنه { يُؤْمِنُ بالله } أي يصدق بالله لما قام عنده من الأدلة { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار ، وعدي فعل الإيمان بالباء إلى الله ، لأنه قصد به التصديق بالله الذي هو ضد الكفر به ، وإلى المؤمنين باللام لأنه قصد السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقه لكونهم صادقين عنده ، ألا ترى إلى قوله { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] كيف ينبو عن الباء { وَرَحْمَةٌ } بالعطف على { أذن } { وَرَحْمَةٌ } : حمزة عطف على { خَيْرٍ } أي هو أذن خير وأذن رحمة لا يسمع غيرها ولا يقبله { لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ } أي وهو رحمة الذين آمنوا منكم أي أظهروا الإيمان أيها المنافقون حيث يقبل إيمانكم الظاهر ولا يكشف أسراركم ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، أو هو رحمة للمؤمنين حيث استنقذهم من الكفر إلى الإيمان ويشفع لهم في الآخرة بإيمانهم في الدنيا { والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الدارين .
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{ يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الخطاب للمسلمين ، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم فقيل لهم { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } أي إن كنتم مؤمنين كما تزعمون ، فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق . وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسول الله فكانا في حكم شيء واحد كقولك «إحسان زيد وإجماله نعشني» أو والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك .
{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ } أن الأمر والشأن { مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ } يجاوز الحد بالخلاف وهي مفاعلة من الحد كالمشاقة من الشق { فَأَنَّ لَهُ } على حذف الخبر أي فحق أن له { نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلك الخزي العظيم * يَحْذَرُ المنافقون } خبر بمعنى الأمر أي ليحذر المنافقون { أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ } { تُنَزَّلَ } بالتخفيف : مكي وبصري { تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } من الكفر والنفاق ، والضمائر للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم دليله { قُلِ استهزءوا } ، أو الأولان للمؤمنين ، والثالث للمنافقين ، وصح ذلك لأن المعنى يقود إليه { قُلِ استهزءوا } أمر تهديد { إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } مظهر ما كنتم تحذرونه أي تحذرون إظهاره من نفاقكم ، وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم وفي استهزائهم بالإسلام وأهله حتى قال بعضهم : وددت أني قدّمت فجلدت مائة وأنه لا ينزل فينا شيء يفضحنا { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } بينا رسول الله يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونها ، هيهات هيهات . فأطلع الله نبيه على ذلك فقال : احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا . فقالوا : يا نبي الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك ، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر ، أي ولئن سألتهم وقلت لهم لم قلتم ذلك؟ لقالوا : إنما كنا نخوض ونلعب { قُلْ } يا محمد { قُلْ أبالله وءاياته وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه ، فجعلوا كأنهم معترفون ، باستهزائهم وبأنه موجود فيهم حتى وبخوا بإخطائهم موقع الاستهزاء حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير ، وذلك إنما يستقيم بعد ثبوت الاستهزاء { لاَ تَعْتَذِرُواْ } لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم { قَدْ كَفَرْتُمْ } قد أظهرتم كفركم باستهزائكم { بَعْدَ إيمانكم } بعد إظهاركم الإيمان { إن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ } بتوبتهم وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق { نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } مصرين على النفاق غير تائبين منه { أَن يُعفَ تُعَذّبَ طَائِفَةٌ } غير عاصم .
{ المنافقون والمنافقات } الرجال المنافقون كانوا ثلثمائة والنساء المنافقات مائة وسبعين { بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ } أي كأنهم نفس واحدة ، وفيه نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } [ التوبة : 56 ] وتقرير لقوله { وَمَا هُم مّنكُمْ } [ التوبة : 56 ] ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين فقال { يَأْمُرُونَ بالمنكر } بالكفر والعصيان { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف } عن الطاعة والإيمان { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } شحاً بالمبارّ والصدقات والإنفاق في سبيل الله { نَسُواْ الله } تركوا أمره أو أغفلوا ذكره { فَنَسِيَهُمْ } فتركهم من رحمته وفضله { إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون } هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير ، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف به المنافقون حين بالغ في ذمهم { وَعَدَ الله المنافقين والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا } مقدرين الخلود فيها { هِىَ } أي النار { حَسْبُهُمْ } فيه دلالة على عظم عذابها وأنه بحيث لا يزاد عليه { وَلَعَنَهُمُ الله } وأهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } دائم معهم في العاجل لا ينفكون عنه وهو ما يقاسونه من تعب النفاق ، والظاهر المخالف للباطن خوفاً من المسلمين وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم . الكاف في { كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فَاسْتَمْتَعْتُمْ بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم } محلها رفع أي أنتم مثل الذين من قبلكم ، أو نصب على فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم أي تلذذوا بملاذ الدنيا . والخلاق النصيب مشتق من الخلق وهو التقدير أي ما خلق للإنسان بمعنى قدر من خير { وَخُضْتُمْ } في الباطل { كالذي خَاضُواْ } كالفوج الذي خاضوا ، أو كالخوض الذي خاضوا . والخوض الدخول في الباطل واللهو ، وإنما قدم { فاستمتعوا بخلاقهم } وقوله ( كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } مغن عنه ليذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة } في مقابلة قوله { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [ العنكبوت : 27 ] { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون }
ثم ذكر نبأ من قبلهم فقال :
{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ } هو بدل من { الذين } { وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبراهيم وأصحاب مَدْيَنَ } وأهل مدين وهم قوم شعيب { والمؤتفكات } مدائن قوم لوط ، وائتفاكهن انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر { أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } فما صح منه أن يظلمهم بإهلاكهم لأنه حكيم فلا يعاقبهم بغير جرم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بالكفر وتكذيب الرسل { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } في التناصر والتراحم { يَأْمُرُونَ بالمعروف } بالطاعة والإيمان { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } عن الشرك والعصيان { وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله } السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في «سأنتقم منك يوماً» { إِنَّ الله عزيزٌ } غالب على كل شيء قادر عليه فهو يقدر على الثواب والعقاب { حَكِيمٌ } واضع كلا موضعه { وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيّبَةً } يطيب فيها العيش وعن الحسن رحمه الله : قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد { فِى جنات عَدْنٍ } هو علم بدليل قوله
{ جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن } [ مريم : 61 ] وقد عرفت أن «الذي» و «التي» وضعا لوصف المعارف بالجمل وهي مدينة في الجنة { ورضوان مّنَ الله } وشيء من رضوان الله { أَكْبَرُ } من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة { ذلك } إشارة إلى ما وعد أو إلى الرضوان { هُوَ الفوز العظيم } وحده دون ما يعده الناس فوزاً .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
{ ياأيها النبى جاهد الكفار } بالسيف { والمنافقين } بالحجة { واغلظ عَلَيْهِمْ } في الجهادين جميعاً ولا تحابهم ، وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه يجاهد بالحجة وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } جهنم . أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه . منهم الجلاس بن سويد فقال : والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لأخواننا الذين خلّفناهم وهم سادتنا فنحن شر من الحمير . فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس : أجل والله إن محمداً صادق وأنت شر من الحمار . وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضر فحلف بالله ما قال ، فرفع عامر يده فقال : اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزل { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر } يعني إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير ، أو هي استهزاؤهم فقال الجلاس : يا رسول الله والله لقد قلته وصدق عامر فتاب الجلاس وحسنت توبته { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم } وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام ، وفيه دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد لأنه قال { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم } { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } من قتل محمد عليه السلام أو قتل عامر لرده على الجلاس . وقيل : أرادوا أن يتوجوا ابن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا نَقَمُواْ } وما أنكروا وما عابوا { إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة ، فآثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى { فَإِن يَتُوبُواْ } عن النفاق { يَكُ } التوب { خَيْراً لَّهُمْ } وهي الآية التي تاب عندها الجلاس { وَإِن يَتَوَلَّوْا } يصروا على النفاق { يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا والأخرة } بالقتل والنار { وَمَا لَهُمْ فِى الأرض مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } ينجيهم من العذاب . { وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله } روي أن ثعلبة بن حاطب قال : يا رسول الله ادع الله يرزقني مالاً فقال عليه السلام : « يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه » فراجعه وقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه . فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل وادياً وانقطع عن الجمعة والجماعة ، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : كثر ماله حتى لا يسعه وادٍ فقال :
" يا ويح ثعلبة " فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ، ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال : ما هذه إلا جزية وقال : ارجعا حتى أرى رأيي ، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه : «يا ويح ثعلبة» مرتين ، فنزلت فجاء ثعلبة بالصدقة فقال : إن الله منعني أن أقبل منك فجعل التراب على رأسه ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ، وجاء بها إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها ، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه { لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ } أي المال { لَنَصَّدَّقَنَّ } لنخرجن الصدقة والأصل «لنتصدقن» ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين } بإخراج الصدقة { فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ } أعطاهم الله المال ونالوا مناهم { بَخِلُواْ بِهِ } منعوا حق الله ولم يفوا بالعهد { وَتَوَلَّواْ } عن طاعة الله { وَّهُم مُّعْرِضُونَ } مصرون على الإعراض .
{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ } فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم لأنه كان سبباً فيه { إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } أي جزاء فعلهم وهو يوم القيامة { بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين ، ومنه جعل خلف الوعد ثلث النفاق . { أَلَمْ يَعْلَمُواْ } يعني المنافقين { أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ } ما أسروه من النفاق بالعزم على إخلاف ما وعدوه { ونجواهم } وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها { وَأَنَّ الله علام الغيوب } فلا يخفى عليه شيء { الذين } محله النصب أو الرفع على الذم ، أو الجر على البدل من الضمير في { سِرَّهُمْ ونجواهم } { يَلْمِزُونَ المطوعين } يعيبون المطوعين المتبرعين { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصدقات } متعلق ب { يَلْمِزُونَ } . رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال : كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت أربعة لعيالي فقال عليه السلام : " بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت " فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً ، وتصدق عاصم بمائة وسق من تمر { والذين } عطف على { المطوعين } { لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } طاقتهم . وعن نافع { جَهْدَهُمْ } وهما واحد . وقيل : الجهد الطاقة والجهد المشقة وجاء أبو عقيل بصاعٍ من تمر فقال : بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعاً لعيالي ، وجئت بصاع فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء ، وأما صاع أبي عقيل فالله غني عنه { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } فيهزءون { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } جازاهم على سخريتهم وهو خبر غير دعاء { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم .
ولما سأل عبد الله بن عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبيه في مرضه نزل { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وقد مر أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير وليس على التحديد والغاية ، إذ لو استغفر لهم مدة حياته لن يغفر لهم لأنهم كفار والله لا يغفر لمن كفر به ، والمعنى وإن بالغت في الاستغفار فلن يغفر الله لهم . وقد وردت الأخبار بذكر السبعين وكلها تدل على الكثرة لا على التحديد والغاية ، ووجه تخصيص السبعين من بين سائر الأعداد أن العدد قليل وكثير ، فالقليل ما دون الثلاث ، والكثير الثلاث فما فوقها ، وأدنى الكثير الثلاث وليس لأقصاه غاية . والعدد أيضاً نوعان : شفع ووتر ، وأول الإشفاع اثنان ، وأول الأوتار ثلاثة ، والواحد ليس بعدد ، والسبعة أول الجمع الكثير من النوعين لأن فيها أوتاراً ثلاثة وأشفاعاً ثلاثة ، والعشرة كمال الحساب لأن ما جاوز العشرة فهو إضافة الآحاد إلى العشرة كقولك «اثنا عشر وثلاثة عشرة» إلى «عشرين» ، والعشرون تكرير العشرة مرتين ، والثلاثون تكريرها ثلاث مرات وكذلك إلى مائة ، فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه ، وكمال الحساب والكثرة منه ، فصار السبعون أدنى الكثير من العدد من كل وجه ولا غاية لأقصاه فجاز أن يكون تخصيص السبعين لهذا المعنى والله أعلم { ذلك } إشارة إلى اليأس من المغفرة { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ } ولا غفران لكافرين { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } الخارجين عن الإيمان ما داموا مختارين للكفر والطغيان { فَرِحَ المخلفون } المنافقون الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لهم وخلّفهم بالمدينة في غزوة تبوك ، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان { بِمَقْعَدِهِمْ } بقعودهم عن الغزو { خلاف رَسُولِ الله } مخالفة له وهو مفعول له ، أو حال أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له { وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله } أي لم يفعلوا ما فعله المؤمنون من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله ، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الحر } قال بعضهم لبعض أو قالوا للمؤمنين تثبيطاً { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } استجهال لهم لأن من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل .
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
{ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا } أي فيضحكون قليلاً على فرحهم بتخلفهم في الدنيا ويبكون كثيراً جزاء في العقبى ، إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيرهُ . يروي أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من النفاق { فَإِن رَّجَعَكَ الله } أي ردك من تبوك . وإنما قال { إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ } لأن منهم من تاب من النفاق ومنهم من هلك { فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ } إلى غزوة بدر غزوة تبوك { فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا } وبسكون الياء : حمزة وعلي وأبو بكر { وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا } { مَعِىَ } حفص { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ } أول ما دعيتم إلى غزوة تبوك { فاقعدوا مَعَ الخالفين } مع من تخلف بعد . وسأل ابن عبد الله بن أبي وكان مؤمناً أن يكفن النبي صلى الله عليه وسلم أباه في قميصه ويصلي عليه فقبل ، فاعترض عمر رضي الله عنه في ذلك فقال عليه السلام : " ذلك لا ينفعه وإني أرجو أن يؤمن به ألف من قومه " فنزل { وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم } من المنافقين يعني صلاة الجنازة . روي أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب التبرك بثوب النبي صلى الله عليه وسلم { مَّاتَ } صفة ل { أَحَدٌ } { أَبَدًا } ظرف ل { تَصِلُ } وكان عليه السلام إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فقيل : { وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون } تعليل للنهي أي أنهم ليسوا بأهل للصلاة عليهم لأنهم كفروا بالله ورسوله { وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون } التكرير للمبالغة والتأكيد وأن يكون على بال من المخاطب لا ينساه وأن يعتقد أنه مهم ، ولأن كل آية في فرقة غير الفرقة الأخرى .
{ وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } يجوز أن يراد سورة بتمامها وأن يراد بعضها كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه { أَنْ ءامِنُواْ بالله } بأن آمنوا أو هي «أن» المفسرة { وجاهدوا مَعَ رَسُولِهِ استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ } ذوو الفضل والسعة { وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين } مع الذين لهم عذر في التخلف كالمرضى والزمنى { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } أي النساء جمع «خالفة» { وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ } ختم عليها لاختيارهم الكفر والنفاق { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الهلاك والشقاوة { لكن الرسول والذين ءامَنُواْ جاهدوا *** بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ } أي إن تخلف هؤلاء فقد نهض إلى الغزو من هو خير منهم { وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الخيرات } تناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ .
وقيل : الحور لقوله { فِيهِنَّ خيرات } [ الرحمن : 70 ] { وأولئك هُمُ المفلحون } الفائزون بكل مطلوب { أَعَدَّ الله لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا ذلك الفوز العظيم } قوله { أَعَدَّ } دليل على أنها مخلوقة .
{ وَجَاء المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } هو من عذّر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ، وحقيقته أن يوهم أن له عذراً فيما فعل ولا عذر له ، أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين وهم الذين يعتذرون بالباطل قيل : هم أسد وغطفان قالوا : إن لنا عيالاً وإن بنا جهداً فأذن لنا في التخلف { وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ } هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا فظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان { سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ } من الأعراب { عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار { لَّيْسَ عَلَى الضعفاء } الهرمى والزمنى { وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } هم الفقراء من مزينة وجهينة وبني عذرة { حَرَجٌ } إثم وضيق في التأخر { إِذَا نَصَحُواْ الله وَرَسُولُهِ } بأن آمنوا في السر والعلن وأطاعوا كما يفعل الناصح بصاحبه { مَا عَلَى المحسنين } المعذورين النّاصحين { مّن سَبِيلٍ } أي لا جناح عليهم ولا طريق للعتاب عليهم { والله غَفُورٌ } يغفر تخلفهم { رَّحِيمٌ } بهم { وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } لتعطيهم الحمولة { قُلْتَ } حال من الكاف في { أَتَوْكَ } و «قد» قبله مضمرة أي إذا ما أتوك قائلاً { لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا } هو جواب «إذا» { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع } أي تسيل كقولك «تفيض دمعاً» وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض و «من» للبيان كقولك «أفديك من رجل» ، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز ، ويجوز أن يكون { قُلْتَ لاَ أَجِدُ } استئنافاً كأنه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولوا فقيل : ما لهم تولوا باكين؟ فقيل : { قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض { حَزَناً } مفعول له { أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } لئلا يجدوا ما ينفقون ومحله نصب على أنه مفعول له ، وناصبة { حَزَناً } والمستحملون أبو موسى الأشعري وأصحابه ، أو البكاؤون وهم ستة نفر من الأنصار .
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
{ إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَئْذِنُونَكَ } في التخلف { وَهُمْ أَغْنِيَاءُ } وقوله { رَضُواْ } استئناف كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل : رضوا { بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } أي بالانتظام في جملة الخوالف { وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ } يقيمون لأنفسهم عذراً باطلاً { إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } من هذه السفرة { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ } بالباطل { لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } لن نصدقكم وهو علة للنهي عن الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به { قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } علة لانتفاء تصديقهم لأنه تعالى إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم { وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } أتنيبون أم تثبتون على كفركم { ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة } أي تردون إليه وهو عالم كل سر وعلانية { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فيجازيكم على حسب ذلك .
{ سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } لتتركوهم ولا توبخوهم { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } فأعطوهم طلبتهم { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } تعليل لترك معاتبتهم أي أن المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم لأنهم أرجاسٍ لا سبيل إلى تطهيرهم { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمَ } ومصيرهم النار يعني وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً فلا تتكلفوا عتابهم { جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي يجزون جزاء كسبهم { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } أي غرضهم بالحلف بالله طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم { فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين } أي فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطاً عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها ، وإنما قيل ذلك لئلا يتوهم أن رضا المؤمنين يقتضي رضا الله عنهم .
{ الأعراب } أهل البدو { أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } من أهل الحضر لجفائهم وقسوتهم وبعدهم عن العلم والعلماء { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ } وأحق بأن لا يعلموا { حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ } يعني حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام ومنه قوله عليه السلام : « إن الجفاء والقسوة في الفدادين » يعني الأكرة لأنهم يفدون أي يصيحون في حروثهم والفديد الصياح { والله عَلِيمٌ } بأحوالهم { حَكِيمٌ } في إمهالهم { وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } أي يتصدق { مَغْرَمًا } غرامة وخسراناً لأنه لا ينفق إلا تقيّة من المسلمين ورياء لا لوجه الله وابتاء المثوبة عنده { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوآئر } أي دوائر الزمان وتبدل الأحوال بدور الأيام لتذهب غلبتكم عليه فيتخلص من إعطاء الصدقة { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء } أي عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعون وقوعها في المسلمين .
{ السوء } مكي وأبو عمرو وهو العذاب ، و { السوء } بالفتح ذم للدائرة كقولك «رجل سوء» في مقابلة قولك «رجل صدق» { والله سَمِيعٌ } لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة { عَلِيمٌ } بما يضمرونه . { وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } في الجهاد والصدقات { قربات } أسباباً للقربة { عَندَ الله } وهو مفعول ثان ل { يَتَّخِذُ } { وصلوات الرسول } أي دعاءه لأنه عليه السلام كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله «اللهم صل على آل أبي أوفى» { أَلا إِنَّهَا } أي النفقة أو صلوات الرسول { قُرْبَةٌ لَّهُمْ } { قُرْبَةٌ } نافع . وهذا شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات ، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفي التنبيه ، والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه ، وكذلك { سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ } أي جنته وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدل هذا الكلام على رضا الله من المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها { إِنَّ الله غَفُورٌ } يستر عيب المخل { رَّحِيمٌ } يقبل جهد المقل { والسابقون } مبتدأ { الأولون } صفة لهم { مِنَ المهاجرين } تبيين لهم وهم الذين صلوا إلى القبلتين ، أو الذين شهدوا بدراً أو بيعة الرضوان { والأنصار } عطف على { المهاجرين } أي ومن الأنصار وهم أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } من المهاجرين والأنصار فكانوا سائر الصحابة . وقيل : هم الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة والخبر { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ } بأعمالهم الحسنة { وَرَضُواْ عَنْهُ } بما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية { وَأَعَدَّ لَهُمْ } عطف على { رَضِيَ } { جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار } { مِن تَحْتِهَا } : مكي { خالدين فِيهَا أَبَداً ذلك الفوز العظيم } .
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم } يعني حول بلدتكم وهي المدينة { مّنَ الأعراب منافقون } وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حولها { وَمِنْ أَهْلِ المدينة } عطف على خبر المبتدأ الذي هو { مِمَّنْ حَوْلَكُم } والمبتدأ { منافقون } ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت «ومن أهل المدينة قوم» { مَرَدُواْ عَلَى النفاق } أي تمهروا فيه على أن مردوا صفة موصوف محذوف ، وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاماً مبتدأ ، أو صفة ل { منافقون } فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره ، ودل على مهارتهم فيه بقوله { لاَ تَعْلَمُهُمْ } أي يخفون عليك مع فطنتك وصدق فراستك لفرط تنوقهم في تحامي ما يشككك في أمرهم . ثم قال { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي لا يعلمهم إلا الله ولا يطلع على سرهم غيره ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } هما القتل وعذاب القبر ، أو الفضيحة وعذاب القبر ، أو أخذ الصدقات من أموالهم ونهك أبدانهم { ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ } أي عذاب النار .
{ وَءَاخَرُونَ } أي قوم آخرون سوى المذكورين { اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ } أي لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا نادمين وكانوا عشرة ، فسبعة منهم لما بلغهم ما نزل في المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين ، وكانت عادته كلما قدم من سفر فرآهم موثقين فسأل عنهم ، ففذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم فقال« : " وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم» " فنزلت ، فأطلقهم فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا فقال : " «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» " فنزل { خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً } { خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا } خروجاً إلى الجهاد { وَءاخَرَ سَيِّئاً } تخلفاً عنه ، أو التوبة والإثم وهو من قولهم «بعت الشاء شاة ودرهما» أي شاة بدرهم ، فالواو بمعنى الباء لأن الواو للجمع والباء للإلصاق فيتناسبان ، أو المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر فكل واحد منهما مخلوط ومخلوط به كقولك «خلطت الماء واللبن» تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه بخلاف قولك «خلطت الماء باللبن» لأنك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به . وإذا قلته بالواو فقد جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما كأنك قلت «خلطت الماء باللبن واللبن بالماء» { عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } ولم يذكر توبتهم لأنه ذكر اعترافهم بذنوبهم وهو دليل على التوبة { خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً } كفارة لذنوبهم .
وقيل : هي الزكاة { تُطَهِّرُهُمْ } عن الذنوب وهو صفة ل { صَدَقَة } والتاء للخطاب أو لغيبة المؤنث . والتاء في { وَتُزَكِّيهِمْ } للخطاب لا محالة { بِهَا } بالصدقة والتزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم ، والسنة أن يدعو المصدق لصاحب الصدقة إذا أخدها { إِنَّ صلواتك } { صلاتك } كوفي غير أبي بكر . قيل : الصلاة أكثر من الصلوات لأنها للجنس { صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ } يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم { والله سَمِيعٌ } لدعائك أو سميع لاعترافهم بذنوبهم ودعائهم { عَلِيمٌ } بما في ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم .
{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ } المراد المتوب عليهم أي ألم يعلموا قيل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم { أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } إذا صحت { وَيَأْخُذُ الصدقات } ويقبلها إذا صدرت على خلوص النية وهو للتخصيص أي إن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الله هو الذي يقبل التوبة ويردها فاقصدوه بها ووجهوها إليها { وَأَنَّ الله هُوَ التواب } كثير قبول التوبة { الرحيم } يعفو الحوبة .
{ وَقُلِ } لهؤلاء التائبين { اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون } أي فإن عملكم لا يخفى خيراً كان أو شراً على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم ، أو غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة ، فقد رُوي أنه لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا : هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت . وقوله تعالى { فَسَيَرَى الله } . وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة { وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب } ما يغيب عن الناس { والشهادة } ما يشاهدونه { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } تنبئة تذكير ومجازاة عليه { وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله } بغير همز : مدني وكوفي غير أبي بكر . { مرجئون } غيرهم من أرجيته وأرجأته إذا أخرته ، ومنه المرجئة أي وآخرون من المتخلفين موقوفون إلى أن يظهر أمر الله فيهم { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ } إن أصروا ولم يتوبوا { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } إن تابوا وهم ثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع ، تخلفوا عن غزوة تبوك وهم الذين ذكروا في قوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ } { والله عَلِيمٌ } برجائهم { حَكِيمٌ } في إرجائهم ، وإما للشك وهو راجع إلى العباد أي خافوا عليهم العذاب وارجو لهم الرحمة . ورُوي أنه عليه السلام أمر أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل ذلك الفريق من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم ، فلما علموا أن أحداً لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم ونصحت توبتهم فرحمهم الله .
{ والذين اتخذوا مَسْجِدًا } تقديره : ومنهم الذين اتخذوا . { الذين } بغير واو . مدني وشامي ، وهو مبتدأ خبره محذوف أي جازيناهم . رُوي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم ، فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله يصلي فيه ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام وهو الذي قال لرسول الله عليه السلام يوم أحد : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه فقال : " إني على جناح سفر وإذا قدمنا من تبوك إن شاء الله صلينا فيه " فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت عليه فقال لوحشي قاتل حمزة ومعن بن عدي وغيرهما : «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه» ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة ، ومات أبو عامر بالشام { ضِرَارًا } مفعول له وكذا ما بعد أي مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء { وَكُفْراً } وتقوية للنفاق { وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين } لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم { وَإِرْصَادًا لِّمَنْ } وإعداداً لأجل من { حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ } وهو الراهب أعدوه له ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياء أو سمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله ، أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار { مِن قَبْلُ } متعلق ب { حَارَبَ } أي من قبل بناء هذا المسجد يعني يوم الخندق { وَلَيَحْلِفُنَّ } كاذبين { إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين { والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون } في حلفهم { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } للصلاة { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى } اللام للابتداء و { أُسِّسَ } نعت له وهو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء أو وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة ، مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } من أيام وجوده . قيل : القياس فيه مذ ، لأنه لابتداء الغاية في الزمان ، و «من» لابتداء الغاية في المكان ، والجواب إن من عام في الزمان والمكان { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } مصلياً { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين } قيل : لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقفوا على باب مسجد قباء ، فإذا لأنصار جلوس فقال :
« أمؤمنون أنتم؟ » فسكت القوم . ثم أعادها فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم ، فقال عليه السلام : « أترضون بالقضاء » قالوا : نعم . قال : « أتصبرون على البلاء؟ » قالوا : نعم . قال : « أتشكرون في الرخاء؟ » قالوا : نعم . قال عليه السلام : « مؤمنون أنتم ورب الكعبة » فجلس ثم قال : « يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ » فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي عليه السلام : { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } قيل : هو عام في التطهر عن النجاسات كلها . وقيل : هو التطهر من الذنوب بالتوبة . ومعنى محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب للشيء ، ومعنى محبة الله إياهم أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه .
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } وضع أساس ما يبنيه { على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } هذا سؤال تقرير وجوابه مسكوت عنه لوضوحه ، والمعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة وهي تقوى الله ورضوانه ، خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وهو الباطل والنفاق الذي مثله شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك ، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى . والشفا : الحرف والشفير ، وجرف الوادي : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهياً ، والهار الهائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط ، ووزنه فعل قصر عن فاعل كخلف من خالف ، وألفه ليس فاعل إنما هي عينه وأصله «هور» فقلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل وكنه أمره { أَفَمَنْ أُسَّسَ بُنْيَانَهُ } شامي ونافع { جرْف } شامي وحمزة ويحيى { هارِ } بالإمالة : أبو عمرو وحمزة في رواية ويحيى { فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ } فطاح به الباطل في نار جهنم . ولما جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها . قال جابر : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حين انهار { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } لا يوفقهم للخير عقوبة لهم على نفاقهم { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ } لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم { إِلاَّ أَن تَقَطَّع قُلُوبُهُمْ } شامي وحمزة وحفص أي تتقطع . غيرهم { تُقطّع } أي إلا أن تقطع قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء فحينئذ يسلون عنه ، وأما ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة ، ثم يجوز أن يكون ذكر التقطع تصويراً لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار ، أو معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم { والله عَلِيمٌ } بعزائمهم { حَكِيمٌ } في جزاء جرائمهم .
{ إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء . ورُوي : تاجرهم ، فأغلى لهم الثمن . وعن الحسن : أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها . ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي وهو يقرؤها فقال : بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستشهد { يقاتلون فِى سَبِيلِ الله } بيان محل التسليم { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } أي تارة يقتلون العدو وطوراً يقتلهم العدو .
{ فَيُقتلون وَيَقْتلون } حمزة وعلي { وَعْدًا عَلَيْهِ } مصدر أي وعدهم بذلك وعداً { حَقّاً } صفته ، أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته { فِي التوراة والإنجيل والقرءان } وهو دليل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه . ثم قال { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكريم منا فكيف بأكرم الأكرمين ، ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ { فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذى بَايَعْتُمْ بِهِ } فافرحوا غاية الفرح فإنكم تبيعون فانياً بباقٍ { وذلك هُوَ الفوز العظيم } قال الصادق : ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها .
{ التائبون } رفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين ، أو هو مبتدأ خبره { العابدون } أي الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة ، وما بعده خبر بعد خبر أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال . وعن الحسن : هم الذين تابوا من الشرك وتبرءوا من النفاق { الحامدون } على نعمة الإسلام { السائحون } الصائمون لقوله عليه السلام « سياحة أمتي الصيام » أو طلبة العلم لأنهم يسيحيون في الأرض يطلبونه في مظانه ، أو السائرون في الأرض للاعتبار { الركعون الساجدون } المحافظون على الصلوات { الآمرون بالمعروف } بالإيمان والمعرفة والطاعة { والناهون عَنِ المنكر } عن الشرك والمعاصي ودخلت الواو للإشعار بأن السبعة عقد تام ، أو للتضاد بين الأمر والنهي كما في قوله : { ثيبات وَأَبْكَاراً } [ التحريم : 5 ] { والحافظون لِحُدُودِ الله } أوامره ونواهيه ، أو معالم الشرع { وَبَشّرِ المؤمنين } المتصفين بهذه الصفات .
وهمّ عليه السلام أن يستغفر لأبي طالب فنزل { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى } أي ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم } من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا على الشرك ، ثم ذكر عذر إبراهيم فقال { وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } أي وعد أبوه إياه أن يسلم أو هو وعد أباه أن يستغفر وهو قوله { لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] دليله قراءة الحسن { وَعَدَهَا أَبَاهُ } ومعنى استغفاره سؤاله المغفرة له بعد ما أسلم أو سؤاله إعطاء الإسلام الذي به يغفر له { فَلَمَّا تَبَيَّنَ } من جهة الوحي { لَهُ } لإبرهيم { أَنَّهُ } أن أباه { عَدُوٌّ لِلَّهِ } بأن يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه { تَبَرَّأَ مِنْهُ } وقطع استغفاره { إِنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ } هو المتأوه شفقاً وفرقاً ، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته كان يتعطف على أبيه الكافر { حَلِيمٌ } هو الصبور على البلاء الصفوح عن الأذى ، لأنه كان يستغفر لأبيه وهو يقول لأرجمنك { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } أي ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور ، لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ، ولا يخذلهم إلا إذا قدموا عليه بعد بيان حظره وعلمهم بأنه واجب الاجتناب ، وأما قبل العلم والبيان فلا ، وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين ، والمراد ب { مَّا يَتَّقُونَ } ما يجب اتقاؤه للنهي ، فأما ما يعلم بالعقل فغير موقوف على التوقيف { أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } .
{ إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{ لَقَدْ تَابَ الله على النبى } أي تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه كقوله { عَفَا الله عَنكَ } [ التوبة : 43 ] { والمهاجرين والأنصار } فيه بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار { الذين اتبعوه فِى سَاعَةِ العسرة } في غزوة تبوك ومعناه في وقتها . والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق وكانوا في عسرة من الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد ، ومن الزاد تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة ، وبلغت بهم الشدة حتى اقتسم التمرة اثنان وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء ، ومن الماء حتى نحروا الإبل وعصروا كرشها وشربوه ، وفي شدة زمان من حرارة القيظ ومن الجدب والقحط { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ } عن الثبات على الإيمان أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه . وفي { كَادَ } ضمير الشأن والجملة بعده في موضع النصب وهو كقولهم «ليس خلق الله مثله» أي ليس الشأن خلق الله مثله { يزيغ } حمزة وحفص { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } تكرير للتوكيد { إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثلاثة } أي وتاب على الثلاثة وهم : كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، وهو عطف على { النبى } { الذين خُلّفُواْ } عن الغزو { حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } برحبها أي مع سعتها وهو مثل للحيرة في أمرهم كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرون فيه قلقاً وجزعاً { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور لأنها حرجت من فرط الوحشة والغم { وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ } وعلموا أن لا ملجأ من سخط الله إلا إلى استغفاره { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } بعد خمسين يوماً { لِيَتُوبُواْ } ليكونوا من جملة التوابين { إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } عن أبي بكر الوراق أنه قال : التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة هؤلاء الثلاثة .
{ ا ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } في إيمانهم دون المنافقين ، أو مع الذين لم يتخلفوا ، أو مع الذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً . والآية تدل على أن الاجماع حجة لأنه أمر بالكون مع الصادقين فلزم قبول قولهم { مَا كَانَ لأهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله } المراد بهذا النفي النهي وخص هؤلاء بالذكر وإن استوى كل الناس في ذلك ، لقربهم منه ولا يخفى عليه خروجه { وَلاَ يَرْغَبُواْ } ولا أن يضنوا { بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } عما يصيب نفسه أي لا يختاروا إبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد بل أمروا بأن يصحبوه في البأساء والضراء ويلقوا أنفسهم بين يديه في كل شدة { ذلك } النهي عن التخلف { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } عطش { وَلاَ نَصَبٌ } تعب { وَلاَ مَخْمَصَةٌ } مجاعة { فِى سَبِيلِ الله } في الجهاد { وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا } ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم { يَغِيظُ الكفار } يغضبهم ويضيق صدورهم { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً } ولا يصيبون منهم إصابة بقتل أو أسر أو جرح أو كسر أو هزيمة { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } عن ابن عباس رضي الله عنهما : لكل روعة سبعون ألف حسنة .
يقال : نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام في كل ما يسوؤهم . وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك ، وعلى أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم ، وقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر وقد قدما بعد تقضي الحرب . والموطىء إما مصدر كالمورد ، وإما مكان . فإن كان مكاناً فمعنى { يَغِيظُ الكفار } يغيظهم وطؤه { إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } أي أنهم محسنون والله لا يبطل ثوابهم { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً } في سبيل الله { صَغِيرَةً } ولو تمرة { وَلاَ كَبِيرَةً } مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا } أي أرضاً في ذهابهم ومجيئهم وهو كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل ، وهو في الأصل فاعل من «ودى» إذا سال ومنه الودْيُ ، وقد شاع في الاستعمال بمعنى الأرض { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } من الإنفاق وقطع الوادي { لِيَجْزِيَهُمُ الله } متعلق ب { كتَبَ } أي أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء { أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي يجزيهم على كل واحد جزاء أحسن عمل كان لهم فيلحق ما دونه به توفيراً لأجرهم .
{ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } اللام لتأكيد النفي أي أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح للإفضاء إلى المفسدة { فَلَوْلاَ نَفَرَ } فحين لم يكن نفير الكافة فهلا نفر { مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ } أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير { لّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين } ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا المشاق في تحصيلها { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } وليجعلوا مرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم { إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ } دون الأغراض الخسيسة من التصدر والترؤس والتشبه بالظلمة في المراكب والملابس { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ما يجب اجتنابه . وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثاً بعد غزوة تبوك بعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن التفقه في الدين ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ، ويبقى سائرهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، إذ الجهاد بالحجاج أعظم أثراً من الجهاد بالنصال .
والضمير في { لّيَتَفَقَّهُواْ } للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة من بينهم { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصّلوا في أيام غيبتهم من العلوم . وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه { ياأيها الذين ءَامَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ } يقربون منكم { مِّنَ الكفار } . القتال واجب مع جميع الكفرة قريبهم وبعيدهم ، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب . وقد حارب النبي صلى الله عليه وسلم قومه ، ثم غيرهم من عرب الحجاز ، ثم الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق وغيره ، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } شدة وعنفاً في المقال قبل القتال { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } بالنصرة والغلبة .
{ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } «ما» صلة مؤكدة { فَمِنْهُمْ } فمن المنافقين { مَن يِقُولُ } بعضهم لبعض { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه } السورة { إيمانا } إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين و { أَيُّكُمْ } مرفوع بالابتداء وقيل : هو قول المؤمنين للحث والتنبيه { فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إيمانا } يقيناً وثباتاً أو خشية أ و إيماناً بالسورة لأنهم لم يكونوا آمنوا بها تفصيلاً { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } يعدون زيادة التكليف بشارة التشريف .
{ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شك ونفاق فهو فساد يحتاج إلى علاج كالفساد في البدن { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } كفراً مضموماً إلى كفرهم { وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون } هو إخبار عن إصرارهم عليه إلى الموت { أَوْ لاَ يَرَوْنَ } يعني المنافقين وبالتاء : حمزة خطاب للمؤمنين { أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ } يبتلون بالقحط والمرض وغيرهما { فِي كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ } عن نفاقهم { وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } لا يعتبرون . أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوبون بما يرون من دولة الإسلام ، ولا هم يذكرون بما يقع بهم من الاصطدام { وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي وسخرية به قائلين { هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ } من المسلمين لننصرف فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم ، أو إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين أشار بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد إن قمتم من حضرته عليه السلام { ثُمَّ انصرفوا } عن حضرة النبي عليه السلام مخافة الفضيحة { صَرَفَ الله قُلُوبَهُم } عن فهم القرآن { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } لا يتدبرون حتى يفقهوا { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ } محمد عليه السلام { مّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم ومن نسبكم عربي قرشي مثلكم { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } شديد عليه شاق لكونه بعضاً منكم عنتكم ولقاؤكم المكروه ، فهو يخاف عليكم الوقوع في العذاب { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } على إيمانكم { بالمؤمنين } منكم ومن غيركم { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } قيل : لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَإِن تَوَلَّوْاْ } فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك { فَقُلْ حَسْبِيَ الله } فاستعن بالله وفوض إليه أمورك فهو كافيك معرتهم وناصرك عليهم { لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } فوضت أمري إليه { وَهُوَ رَبُّ العرش } هوأعظم خلق الله ، خلق مطافاً لأهل السماء وقبلة للدعاء { العظيم } بالجر وقرىء بالرفع على نعت الرب جل وعز .
عن أبيّ : آخر آية نزلت { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } الآية .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
مئة وتسعة آيات مكية ، وكذا ما بعدها إلى سورة النور
{ الر } ونحوه ممال : حمزة وعلي وأبو عمرو ، وهو تعديد للحروف على طريق التحدي { تِلْكَ ءايات الكتاب } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات ، والكتاب السورة { الحكيم } ذي الحكمة لاشتماله عليها ، أو المحكم عن الكذب والافتراء والهمزة { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا } لإنكار التعجب والتعجب منه { أَنْ أَوْحَيْنَا } اسم « كان » و { عجباً } خبره ، واللام في { للناس } متعلق بمحذوف هو صفة ل { عجباً } فلما تقدم صار حالاً { إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس } بأن أنذر أو هي مفسرة إذ الإيحاء فيه معنى القول { وَبَشّرِ الذين ءَامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ } بأن لهم . ومعنى اللام في { للناس } أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منه ، والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر وأن يكون رجلاً من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم ، فقد كانوا يقولون : العجب أن الله لم يجد رسولاً إلى الناس إلا يتيم أبي طالب : وأن يذكر لهم البعث وينذر بالنيران ويبشر بالجنان ، وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب ، لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلاَّ بشراً مثلهم ، وإرسال اليتيم أو الفقير ليس بعجب أيضاً ، لأن الله تعالى إنما يختار للنبوة من جمع أسبابها ، والغنى والتقدم في الدنيا ليس من أسبابها . والبعث للجزاء على الخير والشر هو الحكمة العظمى ، فكيف يكون عجباً ، إنما العجب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء { قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ } أي : سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة . ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد ، وباعاً لأن صاحبها يبوع بها ، فقيل « لفلان : قدم في الخير » وإضافتها إلى { صدق } دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة ، أو مقام صدق ، أو سبق السعادة { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } { إن هذا } الكتاب { لسحر } مدني وبصري وشامي ، ومن قرأ { لساحر } فهذه إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كذابين في تسميته سحراً .
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
{ إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } أي استولى فقد يقدس الديان عن المكان والمعبود عن الحدود { يُدَبّرُ } يقضي ويقدر على مقتضى المحكمة { الأمر } أي أمر الخلق كله وأمر ملكوت السماوات والأرض والعرش . ولما ذكر ما يدل على عظمته وملكه من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش ، أتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة عل العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور عن قضائه وتقديره وكذلك قوله : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } دليل على عزته وكبريائه { ذلكم } العظيم الموصوف بما وصف به { الله رَبُّكُمُ } وهو الذي يستحق العبادة { فاعبدوه } وحدوه ولا تشركوا به بعض خلقه من إنسان أو ملك فضلاً عن جماد لا يضر ولا ينفع { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أفلا تتدبرون فتستدلون بوجوب المصالح والمنافع على وجود المصلح النافع { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } حال أي لا ترجعون لي العاقبة إلا إليه فاستعدوا للقائه والمرجع الرجوع أو مكان الرجوع { وَعَدَ الله } مصدر مؤكد لقوله إليه مرجعكم { حَقّاً } مصدر مؤكد لقوله : { وعد الله } { إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه { ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات } أي الحكمة بإبداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم { بالقسط } بالعدل وهو متعلق ب { يجزي } أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم أو بقسطهم أي بما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا إذ الشرك ظلم { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] وهذا أوجه لمقابلة قوله : { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } ولوجه كلامي
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
{ هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء } الياء فيه منقلبة عن واو «ضواء» لكثرة ما قبلها وقلبها قنبل همزة لأنها للحركة أجمل { والقمر نُوراً } والضياء أقوى من النور فلذا جعله للشمس { وَقَدَّرَهُ } وقدر القمر أي وقدر مسيره { مَنَازِلَ } أو وقدره ذا منازل كقوله { والقمر قدرناه منازل } [ ياس : 39 ] { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين } أي عدد السنين والشهور فاكتفى بالسنين لاشتمالها على الشهور { والحساب } وحساب الآجال والمواقيت المقدرة بالسنين والشهور { مَا خَلَقَ الله ذلك } المذكور { إِلاّ } ملتبساً { بالحق } الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثاً { يُفَصّلُ الآيات } مكي وبصري وحفص وبالنون غيرهم { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } فينتفعون بالتأمل فيها .
{ إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار } في مجيء كل واحد منهما خلف الآخر أو في اختلاف لونيهما { وَمَا خَلَقَ الله فِى السماوات والأرض } من الخلائق { لآيات لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } خصهم بالذكر لأنهم يحذرون الآخر فيدعوهم الحذر إلى النظر .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{ إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } لا يتوقعونه أصلاً ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم عن التفطن للحقائق أو لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف { وَرَضُواْ بالحياة الدنيا } من الآخرة وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي { واطمأنوا بِهَا } وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها فبنوا شديداً وأملوا بعيداً { والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا غافلون } لا يتفكرون فيها ، ولا وقف عليه لأن خبر «إن» { أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النار } ف { أولئك } مبتدأ و«مأواهم» مبتدأ ثان و«النار» خبره والجملة خبر أولئك والباء في { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يتعلق بمحذوف دل عليه الكلام وهو جوزوا { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك الطريق السديد المؤدي إلى الثواب ولذا جعل { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } بياناً له وتفسيراً ، إذ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها ، أو يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة ، ومنه الحديث " إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له : أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة ، والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له : أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار " وهذا دليل على أن الإيمان المجرد منج حيث قال : { بإيمانهم } ولم يضم إليه العمل الصالح { فِي جنات النعيم } متعلق ب { تجري } أو حال من { الأنهار } { دعواهم فِيهَا سبحانك اللهم } أي دعاؤهم لأن { اللهم } نداء لله ومعناه : اللهم إنا نسبحك أي يدعون الله بقولهم { سبحانك اللهم } تلذذا بذكره لا عبادة { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } أي يحيي بعضهم بعضاً بالسلام أو هي تحية الملائكة إياهم ، وأضيف المصدر إلى المفعول أو تحية الله لهم { وَءَاخِرُ دعواهم } وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح { أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } أن يقولوا الحمد الله رب العالمين { أن } مخففة من الثقيلة وأصله أنه الحمد لله رب العالمين ، والضمير للشأن . قيل : أو كلامهم التسبيح وآخره التحميد فيبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه ويختمون بالشكر والثناء عليه ويتكلمون بينهما بما أرادوا
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{ وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير } أصله ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير ، فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم ، والمراد أهل مكة وقولهم { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] أي ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } لأميتوا وأهلكوا . { لقضى إليهم أجلهم } شامي على البناء للفاعل وهو الله عز وجل { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِى طُغْيَانِهِمْ } شركهم وضلالهم { يَعْمَهُونَ } يترددون ، ووجه اتصاله بما قبله أن قوله { ولو يعجل الله } متضمن معنى نفي التعجيل كأنه قيل . ولا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم في طغيانهم أي فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم إلزاماً للحجة عليهم { وَإِذَا مَسَّ الإنسان } أصابه والمراد به الكافر { الضر دَعَانَا } أي دعا الله لإزالته { لِجَنبِهِ } في موضع الحال بدليل عطف الحالين أي { أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا } عليه أي دعانا مضطجعاً . وفائدة ذكر هذه الأحوال أن معناه أن المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر ، فهو يدعونا في حالاته كلها سواء كان مضطجعاً عاجزاً عن النهوض ، أو قاعداً لا يقدر على القيام ، أو قائماً لا يطيق المشي { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ } أزلنا ما به { مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرّ مَّسَّهُ } أي مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر ونسي حال الجهد ، أو مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به ، والأصل «كأنه لم يدعنا» فخفف وحذف ضمير الشأن { كذلك } مثل ذلك التزيين { زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ } للمجاوزين الحد في الكفر زين الشيطان بوسوسته { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الإعراض عن الذكر واتباع الكفر .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ } يا أهل مكة { لَمَّا ظَلَمُواْ } أشركوا وهو ظرف { أهلكنا } والواو في { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } للحال أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم { بالبينات } بالمعجزات { وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } إن بقوا ولم يهلكوا لأن الله علم منهم أنهم يصرون على كفرهم ، وهو عطف على { ظلموا } أو اعتراض ، واللام لتأكيد النفي يعني أن السبب في إِهلاكهم تكذيبهم للرسل ، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل { كذلك } مثل ذلك الجزاء يعني الإهلاك { نَجْزِي القوم المجرمين } وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثُمَّ جعلناكم خلائف فِى الأرض مِن بَعْدِهِم } الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناها { لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } أي لننظر أتعملون خيراً أو شراً فنعاملكم على حسب عملكم . و { كيف } في محل النصب ب { تعملون } لا ب { ننظر } ، لأن معنى الاستفهام فيه يمنع أن يتقدم عليه عامله ، والمعنى أنتم بمنظر منا فانظروا كيف تعملون ، أبالاعتبار بماضيكم أم الاغترار بما فيكم؟ قال عليه السلام : « الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون » {
وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ } حال { قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } لما غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد لأهل الطغيان { ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا } ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك { أَوْ بَدّلْهُ } بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها ، فأمر بأن يجيب عن التبديل لأنه داخل تحت قدرة الإنسان وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة وأن يسقط ذكر الآلهة بقوله : { قُلْ مَا يَكُونُ لِي } ما يحل لي { أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَائي نَفْسِي } من قبل نفسي { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } لا أتبع إلا وحي الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تبديل ، لأن الذي أتيت به من عند الله لا من عندي فأبدله { إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } بالتبديل من عند نفسي { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي يوم القيامة . وأما الإتيان بقرآن آخر فلا يقدر عليه الإنسان ، وقد ظهر لهم العجز عنه إلا أنهم كانوا لا يعترفون بالعجز ويقولون لو نشاء لقلنا مثل هذا . ولا يحتمل أن يريدوا بقوله { أئت بقرآن غير هذا أو بدله } من جهة الوحي لقوله : { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } وغرضهم في هذا الاقتراح الكيد ، أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله فأبدل مكانه آخر ، وأما اقتراح التبديل فلاختبار الحال ، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فينجوا منه أولا يهلكه فيسخروا منه ، فيجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لإفترائه على الله
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
{ قُل لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإظهاره أمراً عجيباً خارجاً عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يشاهد العلماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يغلب كل كلام فصيح ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحوناً بعلوم الأصول والفروع والإخبار عن الغيوب التي لا يعلمها إلا الله { وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } ولا أعلمكم الله بالقرآن على لساني { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ } من قبل نزول القرآن أي فقد أقمت فيما بينكم أربعين سنة ولم تعرفوني متعاطياً شيئاً من نحوه ولا قدرت عليه ، ولا كنت موصوفاً بعلم وبيان فتتهموني بإختراعه { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فتعلموا أنه ليس إلا من عند الله لا من مثلي ، وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم أئت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه .
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في أنه ذو شريك وذو ولد ، وأن يكون تفادياً مما أضافوه إليه من الافتراء { أو كذّب بآياته } بالقرآن ، فيه بيان أن الكاذب على الله والمكذب بآياته في الكفر سواء { إِنَّهُ لا يُفْلَحُ الْمُجرِمُون }
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
وَيَعَبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَالا يَضُرُّهُمْ } إن تركوا عبادتها { وَلاَ يَنفَعُهُمْ } إن عبدوها { وَيَقُولُونَ هَؤُلاء } أي الأصنام { شفعاؤنا عِندَ الله } أي في أمر الدنيا ومعيشتها لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } [ النحل : 38 ] أو يوم القيامة أن يكن بعث ونشور { قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ } أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله ، وإذا لم يكن معلوماً له وهو عالم بجميع المعلومات لم يكن شيئاً . وقوله { فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض } تأكيد لنفيه لأن ما لم يوجد فيهما فهو معدوم { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } نزَّه ذاته عن أن يكون له شريك . وبالتاء : حمزة وعلي وما موصولة أو مصدرية ، أي عن الشركاء الذين يشركونهم به ، أو عن إشراكهم { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم ، وذلك في عهد آدم عليه السلام إلى أن قتل قابيل هابيل ، أو بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين دياراً { فاختلفوا } فصاروا مللاً { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } عاجلاً { فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } فيما اختلفوا فيه وليميز المحق من المبطل وسبق كلمته لحكمة ، وهي أن هذه الدار دار تكليف وتلك الدار دار ثواب وعقاب .
{ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } أي آية من الآيات التي اقترحوها { فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ } أي هو المختص بعلم الغيب فهو العالم بالصارف عن إنزال الآيات المقترحة لا غير { فانتظروا } نزول ما اقترحتموه { إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرينَ } لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
{ وَإِذَا أَذَقْنَا الناس } أهل مكة { رَحْمَةً } خصباً وسعة { مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ } يعني القحط والجوع { إذا لهم مَّكْرٌ في ءاياتنا } أي مكروا بآياتنا بدفعها وإنكارها . رُوي أنه تعالى سلط القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم بالحياة ، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه ف { إذا } الأولى للشرط ، والثانية جوابها وهي للمفاجأة وهو كقوله { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [ الروم : 36 ] أي وإن تصبهم سيئة قنطوا ، وإذا أذقنا الناس رحمة مكروا . والمكر إخفاء الكيد وطيه من الجارية الممكورة المطوية الخلق ، ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم . وإنما قال : { قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا } ولم يصفهم بسرعة المكر لأن كلمة المفاجأة دلت على ذلك كأنه قال : وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجأوا وقوع المكر منهم وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤوسهم من مس الضراء { إِنَّ رُسُلَنَا } يعني الحفظة { يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } إعلام بأن ما تظنونه خافياً لا يخفى على الله وهو منتقم منكم . وبالياء : سهل .
{ هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ فِى البر والبحر } يجعلكم قادرين على قطع المسافات بالأرجل والدواب والفلك الجارية في البحار ، أو يخلق فيكم السير { ينشرُكم } شامي { حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك } أي السفن { وَجَرَيْنَ } أي السفن { بِهِمُ } بمن فيها رجوع من الخطاب إلى الغيبة للمبالغة { بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } لينة الهبوب لا عاصفة ولا ضعيفة { وَفَرِحُواْ بِهَا } بتلك الريح للينها واستقامتها { جَاءتْهَا } أي الفلك أو الريح الطيبة أي تلقتها { رِيحٌ عَاصِفٌ } ذات عصف أي شديدة الهبوب { وَجَاءهُمُ الموج } هو ما علا على الماء { مّن كُلّ مَكَانٍ } من البحر أو من جميع أمكنة الموج { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أهلكوا جعل إحاطة العدو بالحي مثلاً في الإهلاك { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } من غير إشراك به لأنهم لا يدعون حينئذ معه غيره يقولون : { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه } الأهوال أو من هذه الريح { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } لنعمتك مؤمنين بك متمسكين بطاعتك ، ولم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد { حتى } بما في حيزها كأنه قيل : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن بالهلاك والدعاء بالإنجاء ، وجواب : { إذا } { جاءتها } و { دعوا } بدل من { ظنوا } لأن دعاءهم من لوازم ظنهم للهلاك فهو ملتبس به
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
{ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُم يَبْغُونَ فِى الأرض } يفسدون فيها { بِغَيْرِ الحق } باطلاً أي مبطلين { ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } أي ظلمكم يرجع إليكم كقوله { مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] { مَّتَاعَ الحياة الدنيا } حفص أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا { وعلى أنفسكم } خبر ل { بغيكم } . غيره بالرفع على أنه خبر { بغيكم } و { على أنفسكم } صلته كقوله { فبغى عليهم } ) القصص : 76 ) ومعناه إنما بغيكم على أمثالكم ، أو هو خبر و { متاع } خبر بعد خبر أو { متاع } خبر مبتدأ مضمر أي هو متاع الحياة الدنيا ، وفي الحديث « أسرع الخير ثواباً صلة الرحم ، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة » ورُوي « ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين » وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لو بغى جبل على جبل لدك الباغي وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه : البغي والنكث والمكر . قال الله تعالى : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ وَمِنْ نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } [ الفتح : 10 ] { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فنخبركم به ونجازيكم عليه
{ إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء } من السحاب { فاختلط بِهِ } بالماء { نَبَاتُ الأرض } أي فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً { مِمَّا يَأْكُلُ الناس } يعني الحبوبِ والثمار والبقول { والأنعام } يعني الحشيش { حتى إِذَا أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا } زينتها بالنبات واختلاف ألوانه { وازينت } وتزينت به وهو أصله وأدغمت التاء في الزاي وهو كلام فصيح ، جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين { وَظَنَّ أَهْلُهَا } أهل الأرض { أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها { أَتَاهَا أَمْرُنَا } عذابنا وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم { لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا } فجعلناها زرعاً { حَصِيداً } شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } كأن لم يغن زرعها أي لم يلبث ، حذف المضاف في هذه المواضع لا بد منه ليستقيم المعنى { بالأمس } هو مقل في الوقت القريب كأنه قيل { كأن لم تغن } آنفاً { كذلك نُفَصّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فينتفعون بضرب الأمثال ، وهذا من التشبيه المركب شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال ، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه . وحكمة التشبيه ، التنبيه على أن الحياة صفوها شبيبتها وكدرها شيبتها كما أن صفو الماء في أعلى الإناء قال
ألم تر أن العمر كأس سلافة ... فأوله صفو وآخره كدْر
وحقيقته تزيين جثة الطين بمصالح الدنيا والدين كاختلاط النبات على اختلاف التلوين ، فالطينة الطيبة تنبت بساتين الأنس ، ورياحين الروح ، وزهرة الزهد ، وكروم الكرم ، وحبوب الحب ، وحدائق الحقيقة ، وشقائق الطريقة ، والخبيثة تخرج خلاف الخلف ، وثمام الاسم ، وشوك الشرك ، وشيح الشح ، وحطب العطب ، ولعاع اللعب ، ثم يدعوه معاده كما يحين للحرث حصاده فتزايله الحياة مغتراً كما يهيج النبات مصفراً فتغيب جثة في الرمس كأن لم تغن بالأمس إلى أن يعود ربيع البعث وموعد العرض والبحث ، وكذلك حال الدنيا كالماء ينفع قليله ويهلك كثيره ، ولا بد من ترك ما زاد كما لا بد من أخذ الزاد ، وآخذ المال لايخلو من زلة ، كما أن خائض الماء لا ينجو من بلة ، وجمعه وإمساكه تلف صاحبه ، وإهلاكه فما دون النصاب كضحضاح ماء يجاوز بلا احتماء ، والنصاب كنهر حائل بين المجتاز . والجواز إلى المفاز لا يمكن إلا بقنطرة وهي الزكاة ، وعمارتها بذل الصلات ، فمتى اختلت القنطرة غرّقته أمواج القناطير المقنطرة ، وعن هذا قال عليه السلام : « الزكاة قنطرة الإسلام » وكذا المال يساعد الأوغاد دون الأمجاد كما أن الماء يجتمع في الوهاد دون النجاد ، وكذلك الماء لا يجتمع إلا بكد البخيل كما أن الماء لا يجتمع إلا بسد المسيل ، ثم يفنى ويتلف ولا يبقى كالماء في الكف .
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{ والله يَدْعُواْ إِلَى دَارُ السلام } هي الجنة أضافها إلى اسمه تعظيماً لها ، أو السلام السلامة لأن أهلها سالمون من كل مكروه . وقيل : لفشو السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم { إلا قيلا سلاماً سلاماً } [ الواقعة : 26 ] { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } ويوفق من يشاء { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } إلى الإسلام أو طريق السنة ، فالدعوة عامة على لسان رسول الله بالدلالة ، والهداية خاصة من لطف المرسل بالتوفيق والعناية ، والمعنى يدعو العباد كلهم إلى دار السلام ولا يدخلها إلا المهديون
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
{ لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } آمنوا بالله ورسله { الحسنى } المثوبة الحسنى وهي الجنة { وَزِيَادَةٌ } رؤية الرب عز وجل كذا عن أبي بكر وحذيفة وابن عباس وأبي موسى الأشعري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم ، وفي بعض التفاسير أجمع المفسرون على أن الزيادة النظر إلى الله تعالى . وعن صهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا دخل أهل الجنة يقول الله تبارك وتعالى : أتريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال : فنرفع الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم » ثم تلا { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } والعجب من صاحب الكشاف أنه ذكر هذا الحديث لا بهذه العبارة وقال : إنه حديث مدفوع مع أنه مرفوع قد أورده صاحب المصابيح في الصحاح . وقيل : الزيادة المحبة في قلوب العباد . وقيل : الزيادة مغفرة من الله ورضوان { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ } ولا يغشى وجوههم { قَتَرٌ } غبرة فيها سواد { وَلاَ ذِلَّةٌ } ولا أثر هوان ، والمعنى ولا يرهقهم ما يرهق أهل النار { أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون } { والذين كَسَبُواْ } عطف على { للذين أحسنوا } أي وللذين كسبوا { السيئات } فنون الشرك { جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } الباء زائدة كقوله { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] أو التقدير جزاء سيئة مقدر بمثلها { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } ذل وهوان { مَا لَهُم مِنَ الله } من عقابه { مِنْ عَاصِمٍ } أي لا يعصمهم أحد من سخطه وعقابه { كأنما أُغشيت وجوهُهم قِطعاً من الليل مظلماً } أي جعل عليها غطاء من سواد الليل أي هم سود الوجوه . و { قطعاً } جمع قطعة وهو مفعول ثان { أُغشيت } . قِطْعاً مكي وعلي من قوله { بِقِطْعٍ مّنَ اليل } [ هود : 81 ] وعلى هذه القراءة { مظلماً } صفة لقطع ، وعلى الأول حال من { الليل } والعامل فيه { أغشيت } لأن { من الليل } صفة ل { قطعاً } فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة ، أو معنى الفعل في { من الليل } { أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون . }
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } أي الكفار وغيرهم { جَمِيعاً } حال { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ } أي الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم { أَنتُمْ } أكد به الضمير في { مكانكم } لسده مسد قوله الزموا { وَشُرَكَاؤُكُمْ } عطف عليه { فَزَيَّلْنَا } ففرَّقنا { بَيْنَهُمْ } وقطعنا أقرانهم والوصل التي كانت بينهم في الدنيا { وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ } من عبدوه من دون الله من أولي العقل أو الأصنام ينطقها الله عز وجل { مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا الله أنداداً فأطعتموهم وهو قوله : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ } إلى قوله : { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن ) } سبأ : 41 ) { فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي كفى الله شهيداً وهو تمييز { إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين } { إن } مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية { هُنَالِكَ } في ذلك المكان أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان { تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ } تختبر وتذوق { مَّا أَسْلَفَتْ } من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن ، أنافع أم ضار ، أمقبول أم مردود ، وقال الزجاج : تعلم كل نفس ما قدمت . { تتلو } حمزة وعلي ، أي تتبع ما أسلفت لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو النار ، أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر ، كذا على الأخفش { وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق } ربهم الصادق في ربوبيته لأنهم كانوا يتلون ما ليس لربوبيته حقيقة ، أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم العدل الذي لا يظلم أحداً { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } وضاع عنهم ما كانوا يدّعون أنهم شركاء لله ، أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة .