كتاب : مدارك التنزيل وحقائق التأويل
المؤلف : أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
{ يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ } بين { مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ } لضرب هذا المثل { أَنَّ الذين تَدْعُونَ } { يَدَّعُونَ } سهل ويعقوب { مِن دُونِ الله } آلهة باطلة { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً } «لن» تأكيد نفي المستقبل وتأكيده هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل كأنه قال : محال أن يخلقوا . وتخصيص الذباب لمهانته وضعفه واستقذاره ، وسمي ذباباً لأنه كلما ذب لاستقذاره آب لاستكباره { وَلَوِ اجتمعوا لَهُ } لخلق الذباب ومحله النصب على الحال كأنه قيل : مستحيل منهم أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه وتعاونهم عليه ، وهذا من أبلغ ما أنزل في تجهيل قريش حيث وصفوا بالإلالهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صوراً وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله لو اجتمعوا لذلك { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً } { شَيْئاً } ثاني مفعولي { يَسْلُبْهُمُ } { لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } أي هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئاً فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا . عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل فإذا سلبه الذباب عجز الأصنام عن أخذه { ضَعُفَ الطالب } أي الصنم بطلب ما سلب منه { والمطلوب } الذباب بما سلب وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف فإن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب { مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } ما عرفوه حق معرفته حيث جعلوا هذا الصنم الضعيف شريكاً له { إِنَّ الله لْقَوِيٌ عَزِيزٌ } أي إن الله قادر وغالب فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيهاً به ، أو لقوي بنصر أوليائه عزيز ينتقم من أعدائه .
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
{ الله يَصْطَفِى } يختار { مِنَ الملائكة رُسُلاً } كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم { وَمِنَ الناس } رسلاً كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم عليهم السلام . وهذا رد لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر ، وبيان أن رسل الله على ضربين ملك وبشر . وقيل : نزلت حين قالوا { أأنزل عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } [ القمر : 25 ] { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لقولهم { بَصِيرٌ } بمن يختاره لرسالته ، أو سميع لأقوال الرسل فيما تقبله العقول بصير بأحوال الأمم في الرد والقبول { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ما مضى { وَمَا خَلْفَهُمْ } ما لم يأت أو ما عملوه وما سيعملوه أو أمر الدنيا وأمر الآخرة { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } أي إليه مرجع الأمور كلها ، والذي هو بهذه الصفات لا يسئل عما يفعل وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله { ترجع } شامي وحمزة وعلي .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اركعوا واسجدوا } في صلاتكم ، وكان أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود ، وفيه دليل على أن الأعمال ليست من الإيمان وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة { وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } واقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله لا الصنم { وافعلوا الخير } قيل : لما كان للذكر مزية على غيره من الطاعات دعا المؤمنين أولاً إلى الصلاة التي هي ذكر خالص لقوله تعالى { وأقم الصلاة لذكري } [ طه : 14 ] ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج وغيرهما ، ثم عم بالحث على سائر الخيرات . وقيل : أريد به صلة الأرحام ومكارم الأخلاق { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي كي تفوزوا أو افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم .
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
{ وجاهدوا } أمر بالغزو أو مجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر أو هو كلمة حق عند أمير جائر { فِى الله } أي في ذات الله ومن أجله { حَقَّ جهاده } وهو أن لا يخاف في الله لومة لائم . يقال : هوحق عالم وجد عالم أن عالم حقاً وجداً ومنه { حق جهاده } وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه لكن الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص ، فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت إضافته إليه . ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله
ويوم شهدناه سليماً وعامراً ... { هُوَ اجتباكم } اختاركم لدينه ونصرته { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } ضيق بل رخص لكم في جميع ما كلفكم من الطهارة والصلاة والصوم والحج بالتيمم وبالإيماء وبالقصر والإفطار لعذر السفر والمرض وعدم الزاد والراحلة .
{ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم } أي اتبعوا ملة أبيكم ، أو نصب على الاختصاص أي أعني بالدين ملة أبيكم . وسماه أباً وإن لم يكن أباً للأمة كلها ، لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أباً لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده قال عليه السلام « إنما أنا لكم مثل الوالد » { هُوَ سماكم المسلمين } أي الله بدليل قراءة أبيّ : { الله سماكم المسلمين } { مِن قَبْلُ } في الكتب المتقدمة { وَفِى هذا } أي في القرآن أي فضلكم على سائر الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم { لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ } أنه قد بلغكم رسالة ربكم { وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة { فأقيموا الصلاة } بواجباتها { وءاتوا الزكاة } بشرائطها { واعتصموا بالله } وثقوا بالله وتوكلوا عليه لا بالصلاة والزكاة { هُوَ مولاكم } أي مالككم وناصركم ومتولي أموركم { فَنِعْمَ المولى } حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم { وَنِعْمَ النصير } أي الناصر هو حيث أعانكم على طاعتكم وقد أفلح من هو مولاه وناصره والله الموفق للصواب .
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
مكية وهي مائة وثمان عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } «قد» نقيضة لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه ، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه . والفلاح الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب أي فازوا بما طلبوا ونجوا مما هربوا ، والإيمان في اللغة التصديق ، والمؤمن المصدق لغة . وفي الشرع كل من نطق بالشهادتين مواطئاً قلبه لسانه فهو مؤمن . قال عليه السلام " خلق الله الجنة فقال لها : تكلمي . فقالت : قد أفلح المؤمنون ثلاثاً أنا حرام على كل بخيل مراء " لأنه بالرياء أبطل العبادات البدنية وليس له عبادة مالية { الذين هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خاشعون } خائفون بالقلب ساكنون بالجوارح . وقيل : الخشوع في الصلاة جمع الهمة لها والإعراض عما سواها وأن لا يجاوز بصره مصلاه وأن لا يلتفت ولا يعبث ولا يسدل ولا يفرقع أصابعه ولا يقلب الحصى ونحو ذلك . وعن أبي الدرداء : هو إخلاص المقال وإعظام المقام واليقين التام وجمع الاهتمام . وأضيفت الصلاة إلى المصلين لا إلى المصلى له لانتفاع المصلي بها وحده وهي عدته وذخيرته ، وأما المصلى له فغني عنها .
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
{ والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ } اللغو كل كلام ساقط حقه أن يلغى كالكذب والشتم والهزل يعني أن لهم من الجد ما شغلهم عن الهزل . ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف .
{ والذين هُمْ للزكواة فاعلون } مؤدون ولفظ { فاعلون } يدل على المداومة بخلاف «مؤدون» . وقيل : الزكاة اسم مشترك يطلق على العين وهو القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى الفقير ، وعلى المعنى وهو فعل المزكي الذي هو التزكية وهو المراد هنا ، فجعل المزكين فاعلين له لأن لفظ الفعل يعم جميع الأفعال كالضرب والقتل ونحوهما . تقول للضارب والقاتل والمزكي فعل الضرب والقتل والتزكية ، ويجوز أن يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء ، ودخل اللام لتقدم المفعول وضعف اسم الفاعل في العمل فإنك تقول «هذا ضارب لزيد» ولا تقول «ضرب لزيد» { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون } الفرج يشمل سوءة الرجل والمرأة { إِلاَّ على أزواجهم } في موضع الحال أي إلا والين على أزواجهم أو قوامين عليهن من قولك «كان زياد على البصرة» أي والياً عليها . والمعنى أنهم لفروجهم حافظون في جميع الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم ، أو تعلق «على» بمحذوف يدل عليه غير ملومين كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه . وقال الفراء : إلا من أزواجهم أي زوجاتهم { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم } أي إمائهم ولم يقل «من» لأن المملوك جرى مجرى غير العقلاء ولهذا يباع كما تباع البهائم { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } أي لا لوم عليهم إن لم يحفظوا فروجهم عن نسائهم وإمائهم
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
{ فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذلك } طلب قضاء شهوة من غير هذين { فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون } الكاملون في العدوان وفيه دليل تحريم المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة { والذين هُمْ لأماناتهم وَعَهْدِهِمْ } { لأمانتهم } مكي وسهل . سمي الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهداً ومنه قوله تعالى { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] وإنما تؤدى العيون لا المعاني والمراد به العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله عز وجل ومن جهة الخلق { راعون } حافظون والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم .
{ والذين هُمْ على صلواتهم } { صَلاَتِهِمْ } كوفي غير أبي بكر { يُحَافِظُونَ } يداومون في أوقاتها . وإعادة ذكر الصلاة لأنها أهم ، ولأن الخشوع فيها غير المحافظة عليها ، أو لأنها وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أية صلاة كانت ، وجمعت آخراً ليفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل { أولئك } الجامعون لهذه الأوصاف { هُمُ الوارثون } الأحقاء بأن يسموا ورّاثاً دون من عداهم . ثم ترجم الوارثون بقوله { الذين يَرِثُونَ } من الكفار في الحديث " ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات ودخل الجنة ورث أهل النار منزله ، وإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله " { الفردوس } هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر . وقال قطرب : هو أعلى الجنان { هُمْ فِيهَا خالدون } أنث الفردوس بتأويل الجنة .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } أي آدم { مِن سلالة } «من» للابتداء والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر . وقيل : إنما سمى التراب الذي خلق آدم منه سلالة لأنه سل من كل تربة { مِن طِينٍ } «من» للبيان كقوله { مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ]
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
{ ثُمَّ جعلناه } أي نسله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لأن آدم عليه السلام لم يصر نطفة وهو كقوله { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ } [ السجدة : 8 ] وقيل : الإنسان بنو آدم والسلالة النطفة والعرب تسمي النطف سلالة أي ولقد خلقنا الإنسان من سلالة يعني من نطفة مسلولة من طين أي من مخلوق من طين وهو آدم عليه السلام { نُّطْفَةٍ } ماء قليلاً { فِى قَرَارٍ } مستقر يعني الرحم { مَّكِينٍ } حصين { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة } أي صيرناها بدلالة تعديه إلى مفعولين والخلق يتعدى إلى مفعول واحد { عَلَقَةٍ } قطعة دم والمعنى أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء { فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً } لحماً قدر ما يمضغ { فَخَلَقْنَا المضغة عظاما } فصيرناها عظاماً { فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً } فأنبتنا عليها اللحم فصار لها كاللباس { عظماً } { العظم } شامي وأبو بكر { عظماً } { العظام } زيد عن يعقوب { عظاما } { العظم } عن أبي زيد ، وضع الواحد موضع الجمع لعدم اللبس إذ الإنسان ذو عظام كثيرة { ثُمَّ أنشأناه } الضمير يعود إلى الإنسان أو إلى المذكور { خَلْقاً ءاخَرَ } أي خلقاً مبايناً للخلق الأول حيث جعله حيواناً وكان جماداً وناطقاً وسميعاً وبصيراً وكان بضد هذه الصفات ، ولهذا قلنا إذا غصب بيضة فأفرخت عنده يضمن البيضة ولا يرد الفرخ لأن خلق آخر سوى البيضة { فَتَبَارَكَ الله } فتعالى أمره في قدرته وعلمه { أَحْسَنُ } بدل أو خبر مبتدأ محذوف وليس بصفة لأنه نكرة وإن أضيف لأن المضاف إليه عوض من «من» { الخالقين } المقدرين أي أحسن المقدرين تقديراً فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه . وقيل : إن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبي عليه السلام فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " اكتب هكذا نزلت " فقال عبد الله : إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي فارتد ولحق بمكة ثم أسلم يوم الفتح . وقيل : هذه الحكاية غير صحيحة لأن ارتداده كان بالمدينة وهذه السورة مكية . وقيل : القائل عمر أو معاذ رضي الله عنهما .
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك } بعد ما ذكرنا من أمركم { لَمَيّتُونَ } عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } تحيون للجزاء { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ } جمع طريقة وهي السماوات لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم { وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غافلين } أراد بالخلق السماوات كأنه قال خلقناها فوقكم وما كنا غافلين عن حفظها ، أو أراد به الناس وأنه إنما خلقها فوقهم عليهم الأرزاق والبركات منها وما كان غافلاً عنهم وعما يصلحهم { وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً } مطراً { بِقَدَرٍ } بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة أو بمقدار ما علمنا من حاجاتهم { فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأرض } كقوله { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض } [ الزمر : 21 ] وقيل : جعلناه ثابتاً في الأرض فماء الأرض كله من السماء . ثم استأدى شكرهم بقوله { وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون } أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه فقيدوا هذه النعمة بالشكر { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ } بالماء { جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب لَّكُمْ فِيهَا } في الجنات { فواكه كَثِيرَةٌ } سوى النخيل والأعناب { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي من الجنات أي من ثمارها ، ويجوز أن هذا من قولهم «فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن صنعة يغتلها» أي أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترزقون وتتعيشون .
{ وَشَجَرَةً } عطف على { جنات } وهي شجرة الزيتون { تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء } { طُورِ سَيْنَاء } و { طور سينين } لا يخلو إما أن يضاف الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإما أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامريء القيس وهو جبل فلسطين . وسيناء غير منصرف بكل حال مكسور السين كقراءة الحجازي وأبي عمرو للتعريف والعجمة ، أو مفتوحها كقراءة غيرهم لأن الألف للتأنيث كصحراء { تَنبُتُ بالدهن } قال الزجاج : الباء للحال أي تنبت ومعها الدهن { تُنبت } مكي وأبو عمرو . إما لأن أنبت بمعنى نبت كقوله «حتى إذا أنبت البقل» ، أو لأن مفعوله محذوف أي تنبت زيتونها وفيه الدهن { وَصِبْغٍ لّلآكِلِيِنَ } أي إدام لهم . قال مقاتل : جعل الله تعالى في هذه إداماً ودهناً ، فالإدام الزيتون والدهن الزيت . وقيل : هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان . وخص هذه الأنواع الثلاثة لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع .
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام } جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم { لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ } وبفتح النون : شامي ونافع وأبو بكر وسقى وأسقى لغتان { مّمَّا فِى بُطُونِهَا } أي نخرج لكم من بطونها لبناً سائغاً { وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ } سوى الألبان وهي منافع الأصواف والأوبار والأشعار { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي لحومها { وَعَلَيْهَا } وعلى الأنعام في البر { وَعَلَى الفلك } في البحر { تُحْمَلُونَ } في أسفاركم ، وهذا يشير إلى أن المراد بالأنعام الإبل لأنها هي المحمول عليها في العادة فلذا قرنها بالفلك التي هي السفائن لأنها سفائن البر قال ذوا الرمة
سفينة بر تحت خدي زمامها ... يريد ناقته .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله } وحِّدوه { مَا لَكُم مّنْ إله } معبود { غَيْرُهُ } بالرفع على المحل : وبالجر على اللفظ ، والجملة استئناف تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أفلا تخافون عقوبة الله الذي هو ربكم وخالقكم إذا عبدتم غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شيء
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
{ فَقَالَ الملؤا الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } أي أشرافهم لعوامهم { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } يأكل ويشرب { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أي يطلب الفضل عليكم ويترأس { وَلَوْ شَاء الله } إرسال رسول { لأَنزَلَ ملائكة } لأرسل ملائكة { مَّا سَمِعْنَا بهذا } أي بإرسال بشر رسولاً أو بما يأمرنا به من التوحيد وسب آلهتنا والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية للحجر ولم يرضوا بالنبوة للبشر { في ءَابائنا الأوَّلين * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } جنون { فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ } فانتظروا واصبروا عليه إلى زمان حتى ينجلي أمره فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه { قَالَ رَبّ انصرنى بِمَا كَذَّبُونِ } فلما أيس من إيمانهم دعا الله بالانتقام منهم ، والمعنى أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي إذ في نصرته إهلاكهم ، أو { انصرني } بدل { ما كذبون } كقولك «هذا بذاك» أي بدل ذاك والمعنى أبدلني من غنم تكذيبهم سلوة النصرة عليهم { فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ } أي أجبنا دعاءه فأوحينا إليه { أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا } أي تصنعه وأنت واثق بحفظ الله لك ورؤيته إياك ، أو بحفظنا وكلاءتنا كأن معك من الله حفاظاً يكلئونك بعيونهم لئلا يتعرض لك ولا يفسد عليك مفسد عملك ومنه قولهم «عليه من الله عين كالئة» . { وَوَحْيِنَا } أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها . رُوي أنه أوحي إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر .
{ فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا } أي عذابنا بأمرنا { وَفَارَ التنور } أي فار الماء من تنور الخبز أي أخرج سبب الغرق من موضع الحرق ليكون أبلغ في الإنذار والاعتبار . روي أنه قيل لنوح : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة ، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب وكان تنور آدم فصار إلى نوح وكان من حجارة . واختلف في مكانه فقيل : في مسجد الكوفة . وقيل : بالشام . وقيل : بالهند . { فاسلك فِيهَا } فأدخل في السفينة { مِن كُلّ زَوْجَيْنِ } من كلّ أمتي زوجين وهما أمة الذكر وأمة الأنثى كالجمال والنوق والحصن والرماك { اثنين } واحدين مزدوجين كالجمل والناقة والحصان والرمكة . روي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض من كل حفص والمفضل أي من كل أمة زوجين اثنين و { اثنين } تأكيد وزيادة بيان { وَأَهْلَكَ } ونساءك وأولادك { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } من الله بإهلاكه وهو ابنه وإحدى زوجتيه فجيء ب «على» مع سبق الضار كما جيء باللام مع سبق النافع في قوله { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين } [ الصافات : 171 ] ونحوها { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } { مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } ولا تسألني نجاة الذين كفروا فإني أغرقهم .
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
{ فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك } فإذا تمكنتم عليها راكبين { فَقُلِ الحمد للَّهِ الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين } أمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم . ولم يقل فقولوا وإن كان { فإذا استويت أنت ومن معك } في معنى إذا استويتم لأنه نبيهم وإمامهم فكان قوله قولهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة { وَقُلْ } حين ركبت على السفينة أو حين خرجت منها { رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً } أي إنزالاً أو موضع إنزال { منزلاً } أبو بكر أي مكاناً { مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين } والبركة في السفينة النجاة فيها وبعد الخروج منها كثرة النسل وتتابع الخيرات { إِنَّ فِى ذَلِكَ } فيم فعل بنوح وقومه { لأَيَاتٍ } لعبراً ومواعظ { وَإِنْ } هي المخففة من المثقلة واللام هي الفارقة بين النافية وبينها والمعنى وإن الشأن والقصة { كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد ، أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذكر كقوله تعالى { وَلَقَدْ تركناها ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 15 ] .
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
{ ثُمَّ أَنشَأْنَا } خلقنا { مّن بَعْدِهِمْ } من بعد نوح { قرناً آخرين } هم عاد قوم هود ويشهد له قول هود { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } [ الأعراف : 69 ] ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في «الأعراف» و «هود» و «الشعراء» { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ } الإرسال يعدى ب «إلى» ولم يعد ب «في» هنا وفي قوله { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ } [ الرعد : 30 ] { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ } [ الأعراف : 94 ] ولكن الأمة والقرية جعلت موضعا للإرسال كقول رؤبة :
أرسلت فيها مصعباً ذا إقحام ... { رَسُولاً } هو هود { مِنْهُمْ } من قومهم { أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } «أن» مفسرة ل { أرسلنا } أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله .
{ وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ } ذكر مقالة قوم هود في جوابه في «الأعراف» وهود بغير واو لأنه على تقدير سؤال سائل قال : فما قال قومه؟ فقيل له : قالوا كيت وكيت ، وههنا مع الواو لأنه عطف لما قالوه على ما قاله الرسول ، ومعناه أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل وليس بجواب للنبي صلى الله عليه وسلم متصل بكلامه ولم يكن بالفاء ، وجيء بالفاء في قصة نوح لأنه جواب لقوله واقع عقيبه { الذين كَفَرُواْ } صفة للملأ أو لقومه { وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة } أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك { وأترفناهم } ونعمناهم { في الحياة الدنيا } بكثرة الأموال والأولاد { مَا هذا } أي النبي { إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } أي منه فحذف لدلالة ما قبله عليه أي من أين يدعي رسالة الله من بينكم وهو مثلكم { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ } فيما يأمركم به وينهاكم عنه { إِنَّكُمْ إِذاً } واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم { لخاسرون } بالانقياد لمثلكم ، ومن حمقهم أنهم أبوا اتباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم .
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
{ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ } بالكسر : نافع وحمزة وعلي وحفص ، وغيرهم بالضم { وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } مبعوثون للسؤال والحساب والثواب والعقاب وثنى { أنكم } للتأكيد ، وحسن ذلك للفصل بين الأول والثاني بالظرف و { مخرجون } خبر عن الأول والتقدير : أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً
{ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ } وبكسر التاء : يزيد ، ورُوي عنه بالكسر والتنويم فيهما ، والكسائي يقف بالهاء وغيره بالتاء وهو اسم للفعل واقع موقع بعد فاعلها مضمر أي بعد التصديق أو الوقوع { لِمَا تُوعَدُونَ } من العذاب ، أو فاعلها { ما توعدون } واللام زائدة أي بعد ما توعدون من البعث { إِنْ هِىَ } هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه وأصله إن الحياة { إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } ثم وضع { هي } موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها ، والمعنى لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها ودنت منا ، وهذا لأن «إن» النافية دخلت على «هي» التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت «لا» التي لنفي الجنس { نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي يموت بعض ويولد بعض ، ينقرض قرن فيأتي قرن آخر ، أو فيه تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وهو قراءة أبي وابن مسعود رضي الله عنهما { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } بعد الموت { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً } أي ما هو إلا مفتر على الله فيما يدعيه من استنبائه وفيما يعدنا من البعث { وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } بمصدقين .
{ قَالَ رَبّ انصرنى بِمَا كَذَّبُونِ } فأجاب الله دعاء الرسول بقوله { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ } { قليل } صفة للزمان كقديم وحديث في قولك«ما رأيته قديماً ولا حديثاً» وفي معناه عن قريب و «ما» زائدة أو بمعنى شيء أو زمن وقليل بدل منها وجواب القسم المحذوف { لَّيُصْبِحُنَّ نادمين } إذا عاينوا ما يحل بهم
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } أي صيحة جبريل صاح عليهم فدمرهم { بالحق } بالعدل من الله يقال فلان يقضي بالحق أي بالعدل { فجعلناهم غُثَاء } شبههم في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما يلي واسودّ من الورق والعيدان { فَبُعْداً } فهلاكاً يقال بعد بعداً أو بعداً أي هلك وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا يستعمل إظهارها { لّلْقَوْمِ الظالمين } بيان لمن دعي عليه بالبعد نحو { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءاخَرِينَ } قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ } «من» صلة أي ما تسبق أمة { أَجَلُهَا } المكتوب لها والوقت الذي حدد لهلاكها وكتب { وَمَا يَسْتَئَخِرُونَ } لا يتأخرون عنه .
{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } فعلى والألف للتأنيث كسكرى لأن الرسل جماعة ولذا لا ينون لأنه غير منصرف { تترى } بالتنوين : مكي وأبو عمرو ويزيد على أن الألف للإلحاق كأرطى ، وهو نصب على الحال في القراءتين أي متتابعين واحداً بعد واحد ، وتاؤها فيهما بدل من الواو والأصل و «ترى» من الوتر وهو الفرد فقلبت الواوتاء كتراث { كُلَّمَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } الرسول يلابس المرسل والمرسل إليه والإضافة تكون بالملابسة فتصح إضافته إليهما { فَأَتْبَعْنَا } الأمم والقرون { بَعْضُهُم بَعْضاً } في الهلاك { وجعلناهم أَحَادِيثَ } أخباراً يسمع بها ويتعجب منها ، والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ، وتكون جمعاً للأحدوثة وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً وهو المراد هنا { فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون } بدل من { أخاه } { بأياتنا } التسع { وسلطان مُّبِينٍ } وحجة ظاهرة .
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
{ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلاَئِه فاستكبروا } امتنعوا عن قبول الإيمان ترفعاً وتكبراً { وَكَانُواْ قَوْماً عالين } متكبرين مترفعين { فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } البشر يكون واحداً وجمعاً ومثل وغير يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث { وَقَوْمُهُمَا } أي بنو إسرائيل { لَنَا عابدون } خاضعون مطيعون وكل من دان لملك فهو عابد له عند العرب { فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين } بالغرق .
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى } أي قوم موسى { الكتاب } التوراة { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } يعملون بشرائعها ومواعظها { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً } تدل على قدرتنا على ما نشاء لأنه خلق من غير نطفة واحدة ، لأن الأعجوبة فيهما واحدة ، أو المراد وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها { وءاويناهما } جعلنا مأواهما أي منزلهما { إلى رَبْوَةٍ } شامي وعاصم . { رُبوة } غيرهما أي أرض مرتفعة وهي بيت المقدس أو دمشق أو الرملة أو مصر { ذَاتِ قَرَارٍ } مستقر من أرض مستوية منبسطة أو ذات ثمار وماء يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها { وَمَعِينٍ } وماء ظاهر جارٍ على وجه الأرض وهو مفعول أي مدرك بالعين بظهوره من عانه إذا أدركه بعينه ، أو فعيل لأنه نفاع بظهوره وجريه من الماعون وهي المنفعة { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات } هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما لأنهم أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة ، وإنما المعنى الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك ووصى به ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه ، أو هو خطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام لفضله وقيامه مقام الكل في زمانه وكان يأكل من الغنائم ، أو لعيسى عليه السلام لاتصال الآية بذكره وكان يأكل من غزل أمه وهو أطيب الطيبات ، والمراد بالطيبات ما حل والأمر للتكليف أو ما يستطاب ويستلذ والأمر للترفيه والإباحة { واعملوا صالحا } موافقاً للشريعة { إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } فأجازيكم على أعمالكم .
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
{ وَإِنَّ هذه } كوفي على الاستئناف . { وأن } حجازي وبصري بمعنى ولأن أي فاتقون لأن هذه ، أو معطوف على ما قبله أي بما تعملون عليم وبأن هذه . أو تقديره واعلموا أن هذه { أُمَّتُكُمْ } أي ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها
{ أُمَّةً وَاحِدَةً } ملة واحدة وهي شريعة الاسلام . وانتصاب { أمة } على الحال والمعنى وإن الدين دين واحد وهو الاسلام ومثله { إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ } وحدي { فاتقون } فخافوا عقابي في مخالفتكم أمري { فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } تقطع بمعنى قطع أي قطعوا أمر دينهم { زُبُراً } جمع زبور أي كتباً مختلفة يعني جعلوا دينهم أدياناً . وقيل : تفرقوا في دينهم فرقاً كلٍ فرقة تنتحل كتاباً . وعن الحسن : قطعوا كتاب الله قطعاً وحرفوه . وقرىء { زَبرا } جمع زبرة أي قطعاً { كُلُّ حِزْبٍ } كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم { بِمَا لَدَيْهِمْ } من الكتاب والدين أو من الهوى والرأي { فَرِحُونَ } مسرورون معتقدون أنهم على الحق { فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ } جهالتهم وغفلتهم { حتى حِينٍ } أي إلى أن يقتلون أو يموتوا .
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } «ما» بمعنى الذي وخبر «أن»
{ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الخيرات } والعائد من خبر «أن» إلى اسمها محذوف أي نسارع لهم به ، والمعنى أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم إلى المعاصي وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعالجة بالثواب جزاء على حسن صنيعهم . وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح لأنهم يقولون إن الله لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدين ، وقد أخبر أن ذلك ليس بخير لهم في الدين ولا أصلح { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } بل استدراك لقوله أيحسبون أي أنهم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتأملوا في ذلك أنه استدراج أو مسارعة في الخير . ثم بين ذكر أوليائه فقال
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
{ إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ } أي خائفون { والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ } أي بكتب الله كلها لا يفرقون بين كتبه كالذين تقطعوا أمرهم بينهم وهم أهل الكتاب { والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ } كمشركي العرب { والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ } أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات . وقريء { يأتون ما أتوا } بالقصر أي يفعلون ما فعلوا { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } خائفة أي لا تقبل منهم لتقصيرهم { أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون } الجمهور على أن التقدير لأنهم وخبر { إن الذين } { أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات } يرغبون في الطاعات فيبادرونها { وَهُمْ لَهَا سابقون } أي لأجل الخيرات سابقون إلى الجنات أو لأجلها سبقوا الناس .
{ وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أي طاقتها يعني أن الذي وصف به الصالحون غير خارج عن حد الوسع والطاقة ، وكذلك كل ما كلفه عباده وهو رد على من جوز تكليف ما لا يطاق { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ } أي اللوح أو صحيفة الأعمال { يَنطِقُ بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } لا يقرؤون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل لا زيادة فيه ولا نقصان ، ولا يظلم منهم أحد بزيادة عقاب أو نقصان ثواب أو بتكليف ما لا وسع له به { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هذا } بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين { وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك } أي ولهم أعمال خبيثة متجاوزة متخطية لذلك أي لما وصف به المؤمنون { هُمْ لَهَا عاملون } وعليها مقيمون لا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب { حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ } متنعميهم { بالعذاب } عذاب الدنيا وهو القحط سبع سنين حين دعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام ، أو قتلهم يوم بدر . و «حتى» هي التي يبتدأ بعدها الكلام والكلام الجملة الشرطية { إذا هم يجئرون } يصرخون استغاثة والجؤار الصراخ باستغاثة فيقال لهم
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
{ لاَ تَجْئَرُواْ اليوم } فإن الجؤار غير نافع لكم { إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } أي من جهتنا لا يلحقكم نصر أو معونة .
{ قَدْ كَانَتْ ءايَتِى تتلى عَلَيْكُمْ } أي القرآن { فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ } ترجعون القهقرى والنكوص أن يرجع القهقرى وهو أقبح مشية لأنه لا يرى ما وراءه
{ مُسْتَكْبِرِينَ } متكبرين على المسلمين حال من { تنكصون } { بِهِ } بالبيت أو بالحرم لأنهم يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم ، والذي سوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت أو ب { آياتي } لأنها في معنى كتابي ، ومعنى استكبارهم بالقرآن تكذيبهم به استكباراً . ضمن مستكبرين معنى مكذبين فعدي تعديته أو يتعلق الباء بقوله { سامرا } تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه ، وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته شعراً وسحراً . والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع وقرىء { سمّارا } . أو بقوله { تَهْجُرُونَ } وهو من الهجر الهذيان { تهجرون } : نافع من أهجر في منطقه إذا فحش { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول } أفلم يتدبروا القرآن ليعلموا أنه الحق المبين فيصدقوا به وبمن جاء به { أم جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ الأولين } بل أجاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين فلذلك أنكروه واستبدعوه { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ } محمداً بالصدق والأمانة ووفور العقل وصحة النسب وحسن الأخلاق أي عرفوه بهذه الصفات { فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } بغياً وحسداً { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } جنون وليس كذلك لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً { بَلْ جَاءهُمْ بالحق } الأبلج والصراط المستقيم وبما خالف شهواتهم وأهواءهم وهو التوحيد والإسلام ولم يجدوا له مرداً ولا مدفعاً فلذلك نسبوه إلى الجنون { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كارهون } وفيه دليل على أن أقلهم ما كان كارهاً للحق بل كان تاركاً للإيمان به أنفة واستنكافاً من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه كأبي طالب .
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
{ وَلَوِ اتبع الحق } أي الله { أَهْوَاءضهُمْ } فيما يعتقدون من الآلهة { لَفَسَدَتِ السماوات والأرض } كما قال { لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] { وَمَن فِيهِنَّ } خص العقلاء بالذكر لأن غيرهم تبع { بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ } بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أو شرفهم لأن الرسول منهم والقرآن بلغتهم ، أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه { وَيَقُولونَ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاولين } [ الصافات : 168 ] الآية . { فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } بسوء اختيارهم { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ } حجازي وبصري وعاصم ، { خرجا فخرج } شامي ، { خراجا فخراج } علي وحمزة ، وهو ما تخرجه إلى الإمام من زكاة أرضك وإلى كل عامل من أجرته وجعله ، والخرج أخص من الخراج تقول «خراج القرية وخرج الكوفة» فزيادة اللفظ لزيادة المعنى ولذا حسنت لقراءة الأولى يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من الخالق خير { وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } أفضل المعطين { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } وهو دين الإسلام فحقيق أن يستجيبوا لك .
{ وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لناكبون } لعادلون عن هذا الصراط المذكور وهو الصراط المستقيم { وَلَوْ رحمناهم وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ } لما أخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز جاء أبو سفيان إلى " رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال : «بلى» فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية . " والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو القحط الذي أصابهم برحمته لهم ووجدوا الخصب { لَّلَجُّواْ } أي لتمادوا { فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ } يترددون يعني لعادوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ولذهب عنهم هذا التملق بين يديه .
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
{ وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } استشهد على ذلك بأنا أخذناهم أولاً بالسيوف وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم ، فما وجدت بعد ذلك منهم استكانة أي خضوع ولا تضرع . وقوله { وما يتضرعون } عبارة عن دوام حالهم أي وهم على ذلك بعد ولذا لم يقل وما تضرعوا . ووزن استكان استفعل من الكون أي انتقل من كون إلى كون كما قيل «استحال» إذا انتقل من حال إلى حال .
{ حتى إِذَا فَتَحْنَا } { فتّحنا } يزيد { عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } أي باب الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } متحيرون آيسون من كل خير . وجاء أعتاهم وأشدهم شكيمة في العناد ليستعطفك أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رؤي فيهم لين مقادة وهم كذلك حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون كقوله { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون } [ الروم : 12 ] { وَهُوَ الذى أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } خصهما بالذكر لأنها يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي تشكرون شكراً قليلاً . و «ما» مزيدة للتأكيد بمعنى حقاً ، والمعنى إنكم لم تعرفوا عظم هذه النعم ووضعتموها غير مواضعها فلم تعملوا أبصاركم وأسماعكم في آيات الله وأفعاله ، ولم تستدلوا بقلوبكم فتعرفوا المنعم ولم تشكروا له شيئا
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
{ وَهُوَ الذى ذَرَأَكُمْ } خلقكم وبثكم بالتناسل { فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم { وَهُوَ الذى يُحىِ وَيُمِيتُ } أي يحيى النسم بالإنشاء ويميتها بالإفناء { وَلَهُ اختلاف اليل والنهار } أي مجيء أحدهما عقيب الآخر واختلافهما في الظلمة والنور أو في الزيادة والنقصان وهو مختص به ولا يقدر على تصريفهما غيره { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فتعرفوا قدرتنا على البعث أو فتستدلوا بالصنع على الصانع فتؤمنوا { بَلْ قَالُواْ } أي أهل مكة { مِثْلَ مَا قَالَ الأولون } أي الكفار قبلهم . ثم بين ما قالوا بقوله { قَالُواْ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } { متنا } نافع وحمزة وعلي وحفص
{ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا } أي البعث { مِن قَبْلُ } مجيء محمد { إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين } جمع أسطار جمع سطر وهي ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له وجمع أسطور أوفق .
ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بإقامة الحجة على المشركين بقوله { قُل لّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } فإنهم { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } لأنهم مقرون بأنه الخالق فإذا قالوا { قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } فتعلموا أن من فطر الأرض ومن فيها كان قادراً على إعادة الخلق ، وكان حقيقاً بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية . { أفلا تذكرون } بالتخفيف : حمزة وعلي وحفص ، وبالتشديد : غيرهم
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
{ قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أفلا تخافونه فلا تشركوا به ، أو أفلا تتقون في جحودكم قدرته على البعث مع اعترافكم بقدرته على خلق هذه الأشياء؟ { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء } الملكوت الملك والواو والتاء للمبالغة فتنبيء عن عظم الملك { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أجرت فلاناً على فلان إذا أغثته منه ومنعته يعني وهو يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد منه أحداً { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ } تخدعون عن الحق أو عن توحيده وطاعته ، والخادع هو الشيطان والهوى الأول لله بالإجماع إذ السؤال لمن ، وكذا الثاني والثالث عند غير أهل البصرة على المعنى لأنك إذا قلت : من رب هذا؟ فمعناه لمن هذا فيجاب لفلان كقول الشاعر
إذا قيل من رب المزالف والقرى ... ورب الجياد الجرد قيل لخالد
أي لمن المزالف . ومن قرأ بحذفه فعلى الظاهر لأنك إذا قلت : من رب هذا؟ فجوابه فلان { بَلْ أتيناهم بالحق } بأن نسبة الولد إليه محال والشرك باطل { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } في قولهم اتخذ الله ولداً ودعائهم الشريك .
ثم أكد كذبهم بقوله { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ } لأنه منزه عن النوع والجنس وولد الرجل من جنسه { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله } وليس معه شريك في الألوهية { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ } لانفرد كل واحد من الآلهة بالذي خلقه فاستبدبه ولتمييز ملك كل واحد منهم عن الآخر { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } ولغلب بعضهم بعضاً كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون ، وحين لم تروا أثراً لتمايز المماليك وللتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء ، ولا يقال { إذاً } لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب وههنا وقع { لذهب } جزاء وجواباً ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل لأن الشرط محذوف وتقديره : ولو كان معه آلهة لدلالة { وما كان معه من إله } عليه وهو جواب لمن حآجه من المشركين { سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ } من الأنداد والأولاد
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
{ عالم } بالجر صفة لله ، وبالرفع مدني وكوفي غير حفص خبر مبتدأ محذوف { الغيب والشهادة } السر والعلانية { فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } من الأصنام وغيرها
{ قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ } «ما» والنون مؤكدان أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة { رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى القوم الظالمين } أي فلا تجعلني قريناً لهم ولا تعذبني بعذابهم ، عن الحسن رضي الله عنه : أخبره أن له في أمته نقمة ولم يخبره متى وقتها ، فأمر أن يدعو هذا الدعاء . ويجوز أن يسأل النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم ربه ما علم أنه يفعله وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه ، واستغفاره عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلسه سبعين مرة لذلك ، والفاء في { فلا } لجواب الشرط و { رب } اعتراض بينهما للتأكيد { وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون } كانوا ينكرون الموعد بالعذاب ويضحكون منه فقيل لهم : إن الله قادر على إنجاز ما وعد إن تأملتم فما وجه هذا الإنكار؟ .
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
{ ادفع بالتى } بالخصلة التي { هِىَ أَحْسَنُ السيئة } هو أبلغ من أن يقال بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل كأنه قال : ادفع بالحسنى السيئة والمعنى أصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الاحسان ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي شهادة أن لا إله إلا الله . والسيئة : الشرك أو الفحش بالسلام أو المنكر بالموعظة . وقيل : هي منسوخة بآية السيف . وقيل : محكمة إذ المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى ثلم دين { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } من الشرك أو بوصفهم لك وسوء ذكرهم فنجازيهم عليه { وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين } من وساوسهم ونخساتهم ، والهمزة : النخس ، والهمزات جمع الهمزة ومنه مهماز الرائض ، والمعنى أن الشياطين يحثون الناس على المعاصي كما تهمز الراضة الدواب حثاً لها على المشي { وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ } أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه المكرر لندائه وبالتعوذ من أن يحضروه أصلاً أو عند تلاوة القرآن أو عند النزع { حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت } «حتى» تتعلق ب { يصفون } أي لا يزالون يشركون إلى وقت مجيء الموت ، أو لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما مذكور على وجه الاعتراض ، والتأكيد للإغضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أن يستنزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم { قَالَ رَبّ ارجعون } أي ردوني إلى الدنيا خاطب الله بلفظ الجمع للتعظيم كخطاب الملوك { لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ } في الموضع الذي تركت وهو الدنيا لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى ، قال قتادة : ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ولكن ليتدارك ما فرط . { لعلي } ساكنة الياء كوفي وسهل ويعقوب { كَلاَّ } ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد { إِنَّهَا كَلِمَةٌ } المراد بالكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض وهو قوله : { رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت } { هُوَ قَائِلُهَا } لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والندم عليه { وَمِن وَرَائِهِمْ } أي أمامهم والضمير للجماعة { بَرْزَخٌ } حائل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } لم يرد أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو إقناط كلي لما علم أن لا رجوع بعد البعث إلا إلى الآخرة .
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
{ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور } قيل : إنها النفخة الثانية { فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ } وبالإدغام : أبو عمرو لاجتماع المثلين وإن كانا من كلمتين يعني يقع التقاطع بينهم حيث يتفرقون مثابين ومعاقبين ولا يكون التواصل بينهم بالأنساب إذ يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ، وإنما يكون بالأعمال . { وَلاَ يَتَسَاءلُونَ } سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا لأن كلاً مشغول عن سؤال صاحبه بحاله . ولا تناقض بين هذا وبين قوله { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } [ الصافات : 27 ] فللقيامة مواطن . ففي موطن يشتد عليهم الخوف فلا يتساءلون ، وفي موطن يفيقون فيتساءلون .
{ فَمَن ثَقُلَتْ موازينه } جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله تعالى من قوله : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ موازينه } بالسيئات والمراد الكفار { فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } غبنوها { فِى جَهَنَّمَ خالدون } بدل من { خسروا أنفسهم } ولا محل للبدل والمبدل منه لأن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر ل { أولئك } أو خبر مبتدأ محذوف { تَلْفَحُ } أي تحرق { وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كالحون } عابسون فيقال لهم
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
{ أَلَمْ تَكُنْ ءاياتى } أي القرآن { تتلى عَلَيْكُمْ } في الدنيا { فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ } وتزعمون أنها ليست من الله تعالى .
{ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا } ملكتنا { شِقْوَتُنَا } { شقاوتنا } حمزة وعلي وكلاهما مصدر أي شقينا بأعمالنا السيئة التي عملناها . وقول أهل التأويل غلب علينا ما كتب علينا من الشقاوة لا يصح ، لأنه إنما يكتب ما يفعل العبد وما يعلم أنه يختاره ولا يكتب غير الذي علم أنه يختاره فلا يكون مغلوباً ومضطراً في الفعل ، وهذا لأنهم إنما يقولون ذلك القول اعتذاراً لما كان منهم من التفريط في أمره فلا يجمل أن يطلبوا لأنفسهم عذراً فيما كان منهم { وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ } عن الحق والصواب { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا } أي من النار { فَإِنْ عُدْنَا } إلى الكفر والتكذيب { فَإِنَّا ظالمون } لأنفسنا .
{ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا } اسكتوا سكوت ذلة وهوان { وَلاَ تُكَلّمُونِ } في رفع العذاب عنكم فإنه لا يرفع ولا يخفف . قيل : هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير أن يحضروني . { ارجعوني } { ولا تكلموني } بالياء في الوصل والوقف : يعقوب وغيره بلا ياء { إِنَّهُ } إن الأمر والشأن { كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين فاتخذتموهم سِخْرِيّاً } مفعول ثان وبالضم : مدني وحمزة وعلي ، وكلاهما مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسبة مبالغة . قيل : هم الصحابة رضي الله عنهم . وقيل : أهل الصفة خاصة ومعناه اتخذتموهم هزؤوا وتشاغلتم بهم ساخرين { حتى أَنسَوْكُمْ } بتشاغلكم بهم على تلك الصفة { ذِكْرِى } فتركتموه أي كان التشاغل بهم سبباً لنسيانكم ذكري { وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } استهزاء بهم
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
{ إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ } بصبرهم { أَنَّهُمْ } أي لأنهم { هُمُ الفائزون } ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً أي جزيتهم اليوم فوزهم لأن جزى يتعدى إلى اثنين { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً } [ الدهر : 12 ] { إنهم } حمزة وعلي على الاستئناف أي إنهم هم الفائزون لا أنتم .
{ قَالَ } أي الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة . { قل } مكي وحمزة وعلي أمر لمالك أن يسألهم { كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرض } في الدنيا { عَدَدَ سِنِينَ } أي كم عدد سنين لبثتم فكم نصب ب { لبثتم } و { عدد } تمييز { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } استقصروا مدة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها ، لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة { فَاسْأَلِ العادين } أي الحساب أو الملائكة الذين يعدون أعمار العباد وأعمالهم { فسل } بلا همز : مكي وعلي { قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي ما لبثتم إلا زمناً قليلاً أو لبثاً قليلاً { لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } صدقهم الله تعالى في تقالهم لسني لبثهم في الدنيا ووبخههم على غفلتهم التي كانوا عليها { قل إن } حمزة وعلي { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً } حال أي عابثين أو مفعول له أي للعبث { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } وبفتح التاء وكسر الجيم : حمزة وعلي ويعقوب وهو معطوف على { أَنَّمَا خلقناكم } أو على { عبثاً } أي للعبث ولنترككم غير مرجوعين بل خلقناكم للتكليف ، ثم للرجوع من دار التكليف إلى دار الجزاء فنثيب المحسن ونعاقب المسيء { فتعالى الله } عن أن يخلق عبثاً { الملك الحق } الذي يحق له الملك لأن كل شيء منه وإليه ، أو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه { لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم } وصف العرش بالكرم لأن الرحمة تنزل منه أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين . وقرىء شاذاً برفع { الكريم } صفة للرب تعالى .
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
{ وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ } أي لا حجة { لَهُ بِهِ } اعتراض بين الشرط والجزاء كقولك «من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان منه فإن الله مثيبه» أو صفة لازمة جيء بها للتوكيد كقولك «يطير بجناحيه لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان» { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ } أي جزاؤه وهذا جزاء الشرط { عِندَ رَبّهِ } أي فهو يجازيه لا محالة { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } جعل فاتحة السورة { قد أفلح المؤمنون } وخاتمتها { إنه لا يفلح الكافرون } فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة . ثم علمنا سؤال المغفرة والرحمة بقوله { وَقُل رَّبّ اغفر وارحم } ثم قال { وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين } لأن رحمته إذا أدركت أحداً أغنته عن رحمة غيره ورحمة غيره لا تغنيه عن رحمته .
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
مدنية وهي ستون وأربع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سُورَةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هذه سورة { أنزلناها } صفة لها . وقرأ طلحة { سورةً } على «زيدا ضربته» أو على «اتل سورة» . والسورة الجامعة لجمل آيات بفاتحة لها وخاتمة واشتقاقها من سور المدينة { وفرضناها } أي فرضنا أحكامها التي فيها . وأصل الفرض القطع أي جعلناها مقطوعاً بها . وبالتشديد : مكي وأبو عمرو للمبالغة في الإيجاب وتوكيده ، أو لأن فيها فرائض شتى ، أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم { وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِْنَاتٍ } أي دلائل واضحات { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } لكي تتعظوا . وبتخفيف الذال : حمزة وعلي وخلف وحفص . ثم فصل أحكامها فقال { الزانية والزانى } رفعهما على الابتداء والخبر محذوف أي فيما فرض عليكم الزانية والزاني أي جلدهما ، أو الخبر { فاجلدوا } ودخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمينه معنى الشرط وتقديره : التي زنت والذي زنى فاجلدوهما كما تقول من زنى فاجلدوه . وكقوله : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فاجلدوهم } [ النور : 4 ] . وقرأ عيسى بن عمر بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من { سورة أنزلناها } لأجل الأمر .
{ فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ } الجلد ضرب الجلد وفيه إشارة إلى أنه لا يبالغ ليصل الألم إلى اللحم . والخطاب للأئمة لأن إقامة الحد من الدين وهي على الكل إلا أنهم لا يمكنهم الاجتماع فينوب الإمام منابهم ، وهذا حكم حر ليس بمحصن إذ حكم المحصن الرجم وشرائط إحصان الرجم : الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والتزوج بنكاح صحيح والدخول . وهذا دليل على أن التغريب غير مشروع لأن الفاء إنما يدخل على الجزاء وهو اسم للكافي ، والتغريب المروي منسوخ بالآية كما نسخ الحبس والأذى في قوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى البيوت } وقوله { فَئَاذُوهُمَا } [ النساء : 15 ] بهذه الآية { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } أي رحمة والفتح لغة وهي قراءة مكي . وقيل : الرأفة في دفع المكروه والرحمة في إيصال المحبوب . والمعنى أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ولا يأخذهم اللين في استيفاء حدوده فيعطلوا الحدود أو يخففوا الضرب { فِى دِينِ الله } أي في طاعة الله أو حكمه { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه ، وجواب الشرط مضمر أي فاجلدوا ولا تعطلوا الحد { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا } وليحضر موضع حدهما وتسميته عذاباً دليل على أنه عقوبة { طَائِفَةٌ } فرقة يمكن أن تكون حلقة ليعتبروا وينزجر هو وأقلها ثلاثة أو أربعة وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول شيء . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أربعة إلى أربعين رجلاً { مِنَ المؤمنين } من المصدقين بالله .
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
{ الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } أي الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في خبيثة من شكله ، أو في مشركة والخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة ، أو المشركين فالآية تزهيد في نكاح البغايا إذ الزنا عديل الشرك في القبح ، والإيمان قرين العفاف والتحصن وهو نظير قوله { الخبيثات للخبيثين } [ النور : 26 ] وقيل : كان نكاح الزانية محرماً في أول الإسلام ثم نسخ بقوله : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] وقيل : المراد بالنكاح الوطء ، لأن غير الزاني يستقذر الزانية ولا يشتهيها وهو صحيح لكنه يؤدي إلى قولك «الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا يزنى بها إلا زان» . وسئل صلى الله عليه وسلم عمن زنى بامرأة ثم تزوجها فقال " أوله سفاح وآخره نكاح " ومعنى الجملة الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر ، ومعنى الثانية صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة وهما معنيان مختلفان . وقدمت الزانية على الزاني أولاً ثم قدم عليها ثانياً لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا ، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن ، فلما كانت أصلاً في ذلك بديء بذكرها . وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه الخاطب ومنه بدء الطلب . وقريء { لا ينكح } بالجزم على النهي ، وفي المرفوع أيضاً معنى النهي ولكن أبلغ وآكد ، ويجوز أن يكون خبراً محضاً على معنى أن عادتهما جارية على ذلك وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة وينتصون عنها { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } أي الزنا أو نكاح البغايا لقصد التكسب بالزنا أو لما فيه من التشبيه بالفساق وحضور مواقع التهمة والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب .
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
{ والذين يَرْمُونَ المحصنات } وبكسر الصاد : علي؛ أي يقذفون بالزنا الحرائر والعفائف المسلمات المكلفات . والقذف يكون بالزنا وبغيره والمراد هنا قذفهن بالزنا بأن يقول يا زانية لذكر المحصنات عقيب الزواني ولاشتراط أربعة شهداء بقوله { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء } أي ثم لم يأتوا بأربعة شهود يشهدون على الزنا لأن القذف بغير الزنا بأن يقول يا فاسق يا آكل الربا يكفي فيه شاهدان وعليه التعزير . وشروط إحصان القذف : الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والعفة عن الزنا . والمحصن كالمحصنة في وجوب حد القذف { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } إن كان القاذف حراً ، ونصب { ثمانين } نصب المصادر كما نصب { مائة جلدة } و { جلدة } نصب على التمييز { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } نكر شهادة في موضع النفي فتعم كل شهادة . ورد الشهادة من الحد عندنا ويتعلق باستيفاء الحد أو بعضه على ما عرف ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يتعلق رد شهادته بنفس القذف . فعندنا جزاء الشرط الذي هو الرمي الجلد ورد الشهادة على التأبيد وهو مدة حياتهم { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } كلام مستأنف غير داخل في حيز جزاء الشرط كأنه حكاية حال الرامين عند الله تعالى بعد انقضاء الجملة الشرطية .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)
وقوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك } أي القذف { وَأَصْلَحُواْ } أحوالهم استثناء من الفاسقون ويدل عليه { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي يغفر ذنوبهم ويرحمهم . وحق الاستثناء أن يكون منصوباً عندنا لأنه عن موجب ، وعند من جعل الاستثناء متعلقاً بالجملة الثانية أن يكون مجروراً بدلاً من «هم» في { لهم } .
ولما ذكر حكم قذف الأجنبيات بين حكم قذف الزوجات فقال { والذين يَرْمُونَ أزواجهم } أي يقذفون زوجاتهم بالزنا { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء } أي لم يكن لهم على تصديق قولهم من يشهد لهم به { إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } يرتفع على البدل من شهداء { فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ } بالرفع كوفي غير أبي بكر على أنه خبر والمبتدأ { فشهادة أحدهم } وغيرهم بالنصب لأنه في حكم المصدر بالإضافة إلى المصدر ، والعامل فيه المصدر الذي هو { فشهادة أحدهم } وعلى هذا خبره محذوف تقديره فواجب شهادة أحدهم أربع { شهادات بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } فيما رماها به الزنا { والخامسة } لا خلاف في رفع الخامسة هنا في المشهور والتقدير والشهادة الخامسة { أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ } فهي مبتدأ وخبر { إِن كَانَ مِنَ الكاذبين } فيما رماها به من الزنا { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب } ويدفع عنها الحبس وفاعل يدرأ { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ } إن الزوج { لَمِنَ الكاذبين } فيما رماني به من الزنا
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
{ والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِن كَانَ } أي الزوج { مِنَ الصادقين } فيما رماني به من الزنا .
ونصب حفص { الخامسة } عطفاً على { أربع شهادات } وغيره رفعها بالابتداء و { أن غضب الله } خبره . وخفف نافع { أن لعنة الله } و { أن غضب الله } بكسر الضاد وهما في حكم المثقلة و { أن غضب الله } سهل ويعقوب وحفص وجعل في جانبها لأن النساء يستعملن اللعن كثيراً كما ورد به الحديث . «فربما يجترئن على الإقدام لكثرة جري اللعن على ألنستهن وسقوط وقوعه عن قلوبهن» ، فذكر الغضب في جانبهن ليكون رادعاً لهن . والأصل أن اللعان عندنا شهادات مؤكدات بالإيمان مقرونة باللعن قائمة مقام حد القذف في حقه ومقام حد الزنا في حقها ، لأن الله تعالى سماه شهادة . فإذا قذف الزوج زوجته بالزنا وهما من أهل الشهادة صح اللعان بينهما ، وإذا التعنا كما بين في النهر لا تقع الفرقة حتى يفرق القاضي بينهما . وعند زفر رحمه الله تعالى تقع بتلاعنهما والفرقة تطليقة بائنة ، وعند أبي يوسف وزفر والشافعي تحريم مؤبد . ونزلت آية اللعان في هلال بن أمية أو عويمر حيث قال : وجدت على بطن امرأتي خولة شريك بن سحماء فكذبته فلاعن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله } تفضله { عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } نعمته { وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ } جواب «لولا» محذوف أي لفضحكم أو لعاجلكم بالعقوبة .
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
{ إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك } هو أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وأصله الأفك وهو القلب لأنه قول مأفوك عن وجهه والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله عنها ، قالت عائشة : فقدت عقداً في غزوة بني المصطلق فتخلفت ولم يعرف خلو الهودج لخفتي ، فلما ارتحلوا أناخ لي صفوان بن المعطل بعيره وساقه حتى أتاهم بعد ما نزلوا فهلك فيّ من هلك ، فاعتللت شهراً وكان عليه الصلاة والسلام يسأل « كيف أنت » ولا أرى منه لطفاً كنت أراه حتى عثرت خالة أبي أم مسطح فقالت : تعس مسطح فأنكرت عليها فأخبرتني بالإفك ، فلما سمعت ازددت مرضاً وبت عند أبوي لا يرقأ لي دمع وما أكتحل بنوم وهما يظنان أن الدمع فالق كبدي حتى قال عليه الصلاة والسلام « ابشري يا حميراء فقد أنزل الله براءتك » فقلت : بحمد الله لا بحمدك { عُصْبَةٌ } جماعة من العشرة إلى الأربعين واعصوصبوا اجتمعوا وهم : عبد الله بن أبي رأس النفاق ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم { مّنكُمْ } من جماعة المسلمين وهم ظنوا أن الإفك وقع من الكفار دون من كان من المؤمنين { لاَ تَحْسَبُوهُ } أي الإفك { شَرّاً لَّكُمْ } عند الله { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } لأن الله أثابكم عليه وأنزل في البراءة منه ثماني عشرة آية ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان ومن ساءه ذلك من المؤمنين { لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم } أي على كل امريء من العصبة جزاء إثمه على مقدار خوضه فيه ، وكان بعضهم ضحك وبعضهم تكلم فيه وبعضهم سكت .
{ والذى تولى كِبْرَهُ } أي عظمه عبد الله بن أبيّ { مِنْهُمْ } أي من العصبة { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي جهنم . يحكى أن صفوان مر بهودجها عليه وهو في ملأ من قومه فقال : من هذه؟ فقالوا : عائشة . فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها . ثم وبخ الخائضين فقال :
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
{ لَوْلاَ } هلا { إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } أي الإفك { ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ } بالذين منهم فالمؤمنون كنفس واحدة وهو كقوله { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] { خَيْرًا } عفافاً وصلاحاً وذلك نحو ما يروى أن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام : أنا قاطع بكذب المنافقين لأن الله عصمك من وقوع الذباب على جلدك لأنه يقع على النجاسات فيتلطخ بها ، فلما عصمك الله من ذلك القدر من القذر فكيف لا يعصمك عن صحبة من تكون متلطخة بمثل هذه الفاحشة؟ وقال عثمان : إن الله ما أوقع ظلك على الأرض لئلا يضع إنسان قدمه على ذلك الظل ، فلما لم يمكن أحداً من وضع القدم على ظلك كيف يمكن أحداً من تلويث عرض زوجتك؟ وكذا قال علي رضي الله عنه : إن جبريل أخبرك أن على نعليك قذراً وأمرك بإخراج النعل عن رجلك بسبب ما التصق به من القذر فكيف لا يأمرك بإخراجها بتقدير أن تكون متلطخة بشيء من الفواحش . وروي أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته : ألا ترين ما يقال؟ فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرم رسول الله سوءاً؟ فقال : لا . قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله فعائشة خير مني وصفوان خير منك . وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر ولم يقل «ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم» ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات ، وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن ، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له ، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بإخوانه { وَقَالُواْ هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ } كذب ظاهر لا يليق بهما .
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
{ لَوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء } هلا جاؤوا على القذف لو كانوا صادقين بأربعة شهداء { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء } الأربعة { فَأُوْلَئِكَ عِندَ الله } أي في حكمه وشريعته { هُمُ الكاذبون } أي القاذفون لأن الله تعالى جعل التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب ثبوت الشهادة الشهود الأربعة وانتفاؤها ، والذين رموا عائشة رضي الله عنها لم يكن لهم بينة على قولهم فكانوا كاذبين { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدنيا والآخرة لَمَسَّكُمْ فِى مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } «لولا» هذه لامتناع الشيء لوجود غيره بخلاف ما تقدم أي : ولولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة ، وأن أترحم عليكم في الآخرة في العفو والمغفرة لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك ، يقال أفاض في الحديث وخاض واندفع { إِذْ } ظرف ل { مسكم } أو ل { أفضتم } { تَلَقَّوْنَهُ } يأخذه بعضكم من بعض . يقال تلقى القول وتلقنه وتلقفه { بِأَلْسِنَتِكُمْ } أي أن بعضكم كان يقول لبعض : هل بلغك حديث عائشة؟ حتى شاع فيما بينهم وانتشر فلم يبق بيت ولا نادٍ إلا طار فيه { وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } إنما قيد بالأفواه مع أن القول لا يكون إلا بالفم لأن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ثم يترجم عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب كقوله { يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 167 ] { وَتَحْسَبُونَهُ } أي خوضكم في عائشة رضي الله عنها { هَيّناً } صغيرة { وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ } كبيرة . وجزع بعضهم عند الموت فقيل له في ذلك فقال : أخاف ذنباً لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم .
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
{ وَلَوْلاَ } وهلا { إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا } فصل بين لولا و { قُلْتُمْ } بالظرف لأن للظروف شأناً وهو تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها وأنها لا تنفك عنها فلذا يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها . وفائدة تقديم الظرف أنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به ، فلما كان ذكر الوقت أهم قدم ، والمعنى هلا قلتم إذ سمعتم الإفك ما يصح لنا أن نتكلم بهذا { سبحانك } للتعجب من عظم الأمر ومعنى التعجب في كلمة التسبيح أن الأصل أن يسبح الله عن رؤية العجيب من صنائعه ، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه ، أو لتنزيه الله من أن تكون حرمة نبيه فاجرة . وإنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة لأن النبي مبعوث إلى الكفار ليدعوهم فيجب أن لا يكون معه ما ينفرهم عنه والكفر غير منفر عندهم ، وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات { هذا بهتان } زور تبهت من يسمع { عظِيمٌ } وذكر فيما تقدم هذا إفك مبين ، ويجوز أن يكونوا أمروا بهما مبالغة في التبري { يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ } في أن تعودوا { لِمِثْلِهِ } لمثل هذا الحديث من القذف أو استماع حديثه { أَبَدًا } ما دمتم أحياء مكلفين { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فيه تهييج لهم ليتعظوا وتذكير بما يوجب ترك العود وهو الإيمان الصادّ عن كل قبيح
{ وَيُبَيّنُ الله لَكُمُ الآيات } الدلالات الواضحات وأحكام الشرائع والآداب الجميلة { والله عَلِيمٌ } بكم وبأعمالكم { حَكِيمٌ } يجزي على وفق أعمالكم أو علم صدق نزاهتها وحكم ببراءتها .
{ إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِى الذين ءامَنُواْ } أي ما قبح جداً ، والمعنى يشيعون الفاحشة عن قصد الإشاعة ومحبة لها { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدنيا } بالحد . ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي وحساناً ومسطحاً الحد { والآخرة } بالنار وعدها إن لم يتوبوا { والله يَعْلَمُ } بواطن الأمور وسرائر الصدور { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي أنه قد علم محبة من أحب الإشاعة وهو معاقبه عليها
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } لعجل لكم العذاب وكرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب مع حذف الجواب مبالغة في المنة عليهم والتوبيخ لهم { وَأَنَّ الله رَءوفٌ } حيث أظهر براءة المقذوف وأثاب { رَّحِيمٌ } بغفرانه جناية القاذف إذا تاب .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } أي آثاره ووساوسه بالإصغاء إلى الإفك والقول فيه { وَمَن يَتَّبِعْ خطوات الشيطان فَإِنَّهُ } فإن الشيطان { يَأْمُرُ بالفحشاء } ما أفرط قبحه { والمنكر } ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً } ولولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة الممحصة لما طهر منكم أحد آخر الدهر من دنس إثم الإفك { ولكن الله يُزَكّى مَن يَشَاء } يطهر التائبين بقبول توبتهم إذا محضوها { والله سَمِيعٌ } لقولهم { عَلِيمٌ } بضمائرهم وإخلاصهم { وَلاَ يَأْتَلِ } ولا يحلف من ائتلى إذا حلف افتعال من الألية أولا يقصر من الألو { أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } في الدين { والسعة } في الدنيا { أَن يُؤْتُواْ } أي لا يؤتوا إن كان من الألية { أُوْلِى القربى والمساكين والمهاجرين فِى سَبِيلِ الله } أي لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان ، أو لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ } العفو الستر والصفح الإعراض أي ليتجاوزوا عن الجفاء وليعرضوا عن العقوبة { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } فليفعلوا بهم ما يرجون أن يفعل بهم ربهم مع كثرة خطاياهم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فتأدبوا بأدب الله واغفروا وارحموا ، نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح ابن خالته لخوضه في عائشة رضي الله عنها وكان مسكيناً بدرياً مهاجراً ، ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قال : بلى أحب أن يغفر الله لي ورد إلى مسطح نفقته .
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
{ إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات } العفائف { الغافلات } السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجر بن الأمور { المؤمنات } بما يجب الايمان به . عن ابن عباس رضي الله عنهما : هن أزواجه عليه الصلاة والسلام . وقيل : هن جميع المؤمنات إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب . وقيل : أريدت عائشة رضي الله عنها وحدها . وإنما جمع لأن من قذف واحدة من نساء النبي عليه الصلاة والسلام فكأنه قذفهن { لُعِنُواْ فِى الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } جعل القذفة ملعونين في الدارين وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة إن لم يتوبوا ، والعامل في { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ } يعذبون وبالياء حمزة وعلي { أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي بما أفكوا أو بهتوا والعامل في { يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق } بالنصب صفة للدين وهو الجزاء ، ومعنى الحق الثابت الذي هم أهله . وقرأ مجاهد بالرفع صفة لله كقراءة أبيّ { يوفيهم الله الحق دينهم } وعلى قراءة النصب يجوز أن يكون { الحق } وصفاً لله بأن ينتصب على المدح { وَيَعْلَمُونَ } عند ذلك { أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } لارتفاع الشكوك وحصول العلم الضروري . ولم يغلظ الله تعالى في القرآن في شيء من المعاصي تغليظه في إفك عائشة رضي الله عنها ، فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر ، وما ذاك إلا لأمر . وعن ابن عباس رضي الله عنه : من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة . وهذا منه تعظيم ومبالغة في أمر الإفك . ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهلها ، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه ، ومريم رضي الله عنها بإنطاق ولدها ، وعائشة رضي الله عنها بهذه الآي العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر بهذه المبالغات ، فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك ، وما ذلك إلا لإظهار علو منزلة رسوله والتنبيه على إنافة محله صلى الله عليه وسلم وعلى آله .
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
{ الخبيثات } من القول تقال { لِلْخَبِيثِينَ } من الرجال والسناء { والخبيثون } منهم يتعرضون { للخبيثات } من القول وكذلك { والطيبات لِلطَّيّبِينَ والطيبون للطيبات أُوْلَئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ } أي فيهم و { أولئك } إشارة إلى الطيبين وأنهم مبرؤون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلم ، وهو كلام جارٍ مجرى المثل لعائشة رضي الله عنها وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب ، ويجوز أن يكون إشارة إلى أهل البيت وأنهم مبرؤون مما يقول أهل الإفك ، وأن يراد بالخبيثات والطيبات النساء الخبائث يتزوجن الخباث والخباث تتزوج الخبائث وكذا أهل الطيب { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } مستأنف أو خبر بعد خبر { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } في الجنة . ودخل ابن عباس رضي الله عنهما على عائشة رضي الله عنها في مرضها وهي خائفة من القدوم على الله تعالى فقال : لا تخافي لأنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم وتلا الآية فغشي عليها فرحاً بما تلا . وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : لقد أعطيت تسعاً ما أعطيتهن امرأة ، نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر عليه الصلاة والسلام أن يتزوجني ، وتزوجني بكراً وما تزوج بكراً غيري ، وتوفي عليه الصلاة والسلام ورأسه في حجري ، وقبر في بيتي ، وينزل عليه الوحي وأنا في لحافه وأنا ابنة خليفته وصديقه ، ونزل عذري من السماء ، وخلقت طيبة عند طيب ، ووعدت مغفرة ورزقاً كريماً . وقال حسان معتذراً في حقها :
حصانٌ رزانٌ ما تزن بريبة ... وتسبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس ديناً ومنصباً ... نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حيّ من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل شين وباطل
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } أي بيوتاً لستم تملكونها ولا تسكنونها { حتى تَسْتَأْنِسُواْ } أي تستأذنوا ، عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد قرأ به ، والاستئناس في الأصل الاستعلام والاستكشاف استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً أي حتى تستعلموا أيطلق لكم الدخول أم لا ، وذلك بتسبيحة أو بتكبيرة أو بتحميدة أو بتنحنح { وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا } والتسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات ، فإن أذن له وإلا رجع ، وقيل : إن تلاقيا يقدم التسليم وإلا فالاستئذان { ذلكم } أي الاستئذان والتسليم { خَيْرٌ لَّكُمْ } من تحية الجاهلية والدمور وهو الدخول بغير إذن فكأن الرجل من أهل الجاهلية إذا دخل بيت غيره يقول حييتم صباحاً وحييتم مساء ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي قيل لكم هذا لكي تذكروا وتتعظوا وتعملوا ما أمرتم به في باب الاستئذان { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا } في البيوت { أَحَدًا } من الآذنين { فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ } حتى تجدوا من يأذن لكم ، أو فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخولها إلا بإذن أهلها لأن التصرف في ملك الغير لا بد من أن يكون برضاه { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا } أي إذا كان فيها قوم فقالوا ارجعوا { فارجعوا } ولا تلحوا في إطلاق الإذن ولا تلجوا في تسهيل الحجاب ولا تقفوا على الأبواب ، لأن هذا مما يجلب الكراهة فإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك ، وعن أبي عبيد : ما قرعت باباً على عالم قط . { هُوَ أزكى لَكُمْ } أي الرجوع أطيب وأطهر لما فيه من سلامة الصدور والبعد عن الريبة أو أنفع وأنمى خيراً { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } وعيد للمخاطبين بأنه عالم بما يأتون وما يذرون مما خوطبوا به فموف جزاءه عليه .
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
{ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ } في أن تدخلوا { بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها كالخانات والربط وحوانيت التجار { فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } أي منفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع . وقيل : الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز { والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة { قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم } «من» للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } عن الزنا ولم يدخل «من» هنا لأن الزنا لا رخصة فيه بوجه ، ويجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفها وقدميها في رواية ، وإلى رأس المحارم والصدر والساقين والعضدين { ذلك } أي غض البصر وحفظ الفرج { أزكى لَهُمْ } أي أطهر من دنس الاثم { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } فيه ترغيب وترهيب يعني أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم وكيف يجيلون أبصارهم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فعليهم إذا عرفوا ذلك أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون .
{ وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } أمرن بغض الأبصار فلا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبتيه ، وإن اشتهت غضت بصرها رأساً ولا تنظر إلى المرأة إلا إلى مثل ذلك وغض بصرها من الأجانب أصلاً أولى بها . وإنما قدم غض الأبصار على حفظ الفروج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور فبذر الهوى طموح العين { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب ، والمعنى ولا يظهرن مواضع الزينة إذ إظهار عين الزينة وهي الحلي ونحوها مباح فالمراد بها مواضعها أو إظهارها وهي في مواضعها لإظهار مواضعها لا لإظهار أعيانها ، ومواضعها الرأس والأذن والعنق والصدر والعضدان والذراع والساق فهي للإكليل والقرط والقلادة والوشاح والدملج والسوار والخلخال { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره وهو الوجه والكفان والقدمان ، ففي سترها حرج بين فإن المرأة لا تجد بداً من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها وخاصة الفقيرات منهن { وَلْيَضْرِبْنَ } وليضعن من قولك «ضربت بيدي على الحائط» إذا وضعتها عليه { بِخُمُرِهِنَّ } جمع خمار { على جُيُوبِهِنَّ } بضم الجيم : مدني وبصري وعاصم . كانت جيوبهن واسعة تبدو منها صدورهن وما حواليها وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من أقدامهن حتى تغطيها .
{ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } أي مواضع الزينة الباطنة كالصدر والساق والرأس ونحوها { إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } لأزواحهن جمع بعل { أو ءَابآئهن } ويدخل فيهم الأجداد { أو آباء بعولتهن } فقد صاروا محارم { أَوْ أَبْنَائِهِنَّ } ويدخل فيهم النوافل { أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ } فقد صاروا محارم أيضاً { أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أخواتهن } ويدخل فيهم النوافل وسائر المحارم كالأعمام والأخوال وغيرهم دلالة { أَوْ نِسَائِهِنَّ } أي الحرائر لأن مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن } أي إمائهن ولا يحل لبعدها أن ينظر إلى هذه المواضع منها خصياً كان أو عنيناً أو فحلاً .
وقال سعيد بن المسيب : لا تغرنكم سورة النور فإنها في الإماء دون الذكور . وعن عائشة رضي الله عنها أنها أباحت النظر إليها لعبدها { أَوِ التابعين غَيْرِ } بالنصب : شامي ويزيد وأبو بكر على الاستثناء أو الحال ، وغيرهم بالجر على البدل أو على الوصفية { أُوْلِى الإربة } الحاجة إلى النساء . قيل : هم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ولا حاجة لهم إلى النساء لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمرهن ، أو شيوخ صلحاء ، أو العنين أو الخصي والمخنث . وفي الأثر أنه المجبوب والأول الوجه { مِنَ الرجال } حال { أَوِ الطفل الذين } هو جنس فصلح أن يراد به الجمع { لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء } أي لم يطلعوا لعدم الشهوة من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه ، أو لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء من ظهر على فلان إذا قوي عليه { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } كانت المرأة تضرب الأرض برجليها إذا مشت لتسمع قعقعة خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال فنهين عن ذلك إذ سماع صوت الزينة كإظهارها ومنه سمي صوت الحلي وسواساً { وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون } { أَيُّهُ } شامي إتباعاً للضمة قبلها بعد حذف الألف لالتقاء الساكنين ، وغيره على فتح الهاء لأن بعدها ألفاً في التقدير { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } العبد لا يخلو عن سهو وتقصير في أوامره ونواهيه وإن اجتهد . فلذا وصى المؤمنين جميعاً بالتوبة وبتأميل الفلاح إذا تابوا وقيل : أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس له حاجة إلى التوبة ، وظاهر الآية يدل على أن العصيان لا ينافي الإيمان .
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
{ وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } الأيامى جمع أيم وهو من لا زوج له رجلاً أو امرأة ، بكراً كان أو ثيباً ، وأصله أيائم فقلبت { والصالحين } أي الخيرين أو المؤمنين ، والمعنى زوجوا من تأيم منكم من الأحرار والحرائر ومن كان فيه صلاح { مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } أي من غلمانكم وجواريكم والأمر للندب إذ النكاح مندوب إليه { إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء } من المال { يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } بالكفاية والقناعة أو باجتماع الرزقين ، وفي الحديث « التمسوا الرزق بالنكاح » وعن عمر رضي الله عنه روي مثله { والله واسع } غني ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق { عَلِيمٌ } يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . وقيل : في الآية دليل على أن تزويج النساء والأيامى إلى الأولياء كما أن تزوج العبيد والإماء إلى الموالي . قلنا : الرجل لا يلي على الرجل الأيم إلا بإذنه فكذا لا يلي على المرأة إلا بإذنها لأن الأيم ينتظمها
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين } وليجتهدوا في العفة كأن المستعف طالب من نفسه العفاف { لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } استطاعة تزوج من المهر والنفقة { حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } حتى يقدرهم على المهر والنفقة . قال عليه الصلاة والسلام « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحسن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » فانظر كيف رتب هذه الأوامر ، فأمر أولاً بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصرد ثم بالنكاح المحصن للدين المغني عن الحرام ، ثم بعزة النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن تقدر عليه .
{ والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم } أي المماليك الذين يطلبون الكتابة ف { الذين } مرفوع بالابتداء أو منصوب بفعل يفسره { فكاتبوهم } وهو للندب ودخلت الفاء لتضمنه معنى الشرط . والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة وهو أن يقول لمملوكه : كاتبتك على ألف درهم . فإن أداها عتق ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال ، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك . أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليّ العتق ، ويجوز حالاً ومؤجلاً ومنجماً وغير منجم لإطلاق الأمر { إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } قدرة على الكسب أو أمانة وديانة والندبية معلقة بهذا الشرط { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة لقوله تعالى { وَفِي الرقاب } [ البقرة : 177 ] وعند الشافعي رحمه الله : معناه حطوا من بدل الكتابة ربعاً . وهذا عندنا على وجه الندب والأول الوجه لأن الإيتاء هو التمليك فلا يقع على الحط . سأل صبيح مولاه حويطباً أن يكاتبه فأبى فنزلت .
واعلم أن العبيد أربعة : قن مقتنى للخدمة ، ومأذون في التجارة ، ومكاتب ، وآبق . فمثال الأول ولي العزلة الذي حصل العزلة بإيثار الخلوة وترك العشرة ، والثاني ولي العشرة فهو نجي الحضرة يخالط الناس للخبرة وينظر إليهم بالعبرة ويأمرهم بالعبرة فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم بحكم الله ويأخذ لله ويعطي في الله ويفهم عن الله ويتكلم مع الله ، فالدنيا سوق تجارته ، والعقل رأس بضاعته ، والعدل في الغضب والرضا ميزانه ، والقصد في الفقر والغنى عنوانه ، والعز مفزعه ومنحاه ، والقرآن كتاب الإذن من مولاه ، هو كائن في الناس بظواهره ، بائن منهم بسرائره ، فقد هجرهم فيما له عليهم في الله باطناً ، ثم وصلهم فيما لهم عليه لله ظاهراً
وما هو منهمو بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام
يأكل ما يأكلون ويشرب ما يشربون ، وما يدريهم أنه ضعيف الله يرى السماوات والأرض قائمات بأمره وكأنه قيل فيه
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
فحال ولي العزلة أصفى وأحلى ، وحال ولي العشرة أوفى وأعلى ، ونزل الأول من الثاني في حضرة الرحمن منزلة النديم من الوزير عند السلطان . أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو كريم الطرفين ومعدن الشذرين ومجمع الحالين ومنبع الزلالين ، فباطن أحواله مهتدي ولي العزلة ، وظاهر أعماله مقتدى ولي العشرة ، والثالث المجاهد المحاسب العامل المطالب بالضرائب كنجوم المكاتب عليه في اليوم والليلة خمس ، وفي المائتي درهم خمسة ، وفي السنة شهر ، وفي العمر زورة ، فكأنه اشترى نفسه من ربه بهذه النجوم المرتبة فيسعى في فكاك رقبته خوفاً من البقاء في ربقة العبودية ، وطمعاً في فتح باب الحرية ليسرح في رياض الجنة فيتمتع بمبياه ويفعل ما يشاؤه ويهواه . والرابع الإباق فما أكثرهم فمنهم القاضي الجائر والعالم الغير العامل ، والعامل المرائي ، والواعظ الذي لا يفعل ما يقول ويكون أكثر أقواله فضول وعلى كل ما لا ينفعه يصول فضلا عن السارق والزاني والغاصب فعنهم أخبر النبي عليه الصلاة والسلام : « إن الله لينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم في الآخرة » { وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء } كان لابن أبيّ ست جوار : معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة ، يكرههن على البغاء وضرب عليهن الضرائب ، فشكت اثنتان منهن إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فنزلت . ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة والبغاء الزنا للنساء خاصة وهو مصدر لبغت { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } تعففاً عن الزنا . وإنما قيده بهذا الشرط لأن الإكراه لا يكون إلا مع إرادة التحصن ، فآمر المطيعة للبغاء لا يسمى مكرهاً ولا أمره إكراهاً ، ولأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة ، وفيه توبيخ للموالي أي إذا رغبن في التحصن فأنتم أحق بذلك { لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا } أي لتبتغوا بإكراههن على الزنا أجورهن وأولادهن { وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي لهن ، وفي مصحف ابن مسعود كذلك وكان الحسن يقول : لهن والله لهن والله . ولعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة وهو الذي يخاف منه التلف فكانت آثمة أو لهم إذا تابوا
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات } بفتح الياء : حجازي وبصري وأبو بكر وحماد . والمراد الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت في معاني الأحكام والحدود ، وجاز أن يكون الأصل مبيناً فيها فاتسع في الظرف أي أجري مجرى المفعول به كقوله «ويوم شهدناه» وبكسرها غيرهم أي بينت هي الأحكام والحدود جعل الفعل لها مجازاً أو من بين بمعنى تبين ومنه المثل .
«قد بين الصبح لذي عينين»
{ وَمَثَلاً مّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ } ومثلاً من أمثال من قبلكم أي قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم يعني قصة عائشة رضي الله عنها { وَمَوْعِظَةً } ما وعظ به من الآيات والمثل من نحو قوله تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله } . { لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } . { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } { يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } { لّلْمُتَّقِينَ } أي هم المنتفعون بها وإن كانت موعظة للكل .
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
نظير قوله { الله نُورُ السماوات والأرض } مع قوله { مَثَلُ نُورِهِ } و { يَهْدِى الله لِنُورِهِ } قولك زيد كرم وجود ثم تقول : ينعش الناس بكرمه وجوده ، والمعنى ذو نور السماوات و { نُورُ السماوات والأرض } الحق شبهه بالنور في ظهوره وبيانه كقوله : { الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور } [ البقرة : 257 ] أي من الباطل إلى الحق . وأضاف النور إليهما للدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض ، وجاز أن المراد أهل السماوات والأرض وأنهم يستضيئون به { مَثَلُ نُورِهِ } أي صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة { كَمِشْكَاةٍ } كصفة مشكاة وهي الكوّة في الجدار غير النافذة { فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي سراج ضخم ثاقب { المصباح فِى زُجَاجَةٍ } في قنديل من زجاج شامي بكسر الزاي { الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ } مضيء بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدر لفرط ضيائه وصفائه ، وبالكسر والهمزة عمرو وعلي كأنه يدرأ الظلام بضوئه ، وبالضم والهمزة أبو بكر وحمزة شبه في زهوته بأحد الكواكب الدراري كالمشتري والزهرة ونحوهما { يُوقَدُ } { توقد } بالتخفيف : حمزة وعلي وأبو بكر الزجاجة و { يُوقَدُ } بالتخفيف : شامي ونافع وحفص { وتوقد } بالتشديد : مكي وبصري أي هذا المصباح { مِن شَجَرَةٍ } أي ابتدأ ثقوبه من زيت شجرة الزيتون يعني رويت ذبالته بزيتها { مباركة } كثيرة المنافع أو لأنها نبتت في الأرض التي بورك فيها للعالمين . وقيل : بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام { زَيْتُونَةٍ } بدل من { شجرة } نعتها { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } أي منبتها الشام يعني ليست من المشرق ولا من المغرب بل في الوسط منهما وهو الشام وأجود الزيتون زيتون الشام . وقيل : ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط بل يصيبها بالغداة والعشي جميعها فهي شرقية وغربية .
{ يَكَادُ زَيْتُهَا } دهنها { يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } وصف الزيت بالصفاء والوميض وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار { نُّورٌ على نُورٍ } أي هذا النور الذي شبه به الحق نور متضاعف قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم تبق بقية مما يقوي النور ، وهذا لأن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أجمع لنوره بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينتشر فيه . والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه ، وضرب المثل يكون بدنيء محسوس معهود لا بعلي غير معاين ولا مشهود فأبو تمام لما قال في المأمون :
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
قيل له : إن الخليفة فوق من مثلته بهم فقال مرتجلاً :
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس
{ يَهْدِى الله لِنُورِهِ } أي لهذا النور الثاقب { مَن يَشَآء } من عباده أي يوفق لإصابة الحق من يشاء من عباده بإلهام من الله أو بنظره في الدليل { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ } تقريباً إلى أفهامهم ليعتبروا فيؤمنوا { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } فيبين كل شيء بما يمكن أن يعلم به . وقال ابن عباس رضي الله عنه : مثل نوره أي نور الله الذي هدى به المؤمن . وقرأ ابن مسعود رحمه الله { مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة } وقرأ أبيّ { مثل نور المؤمن } .
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
{ فِى بُيُوتٍ } يتعلق { بمشكاة } أي كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد كأنه قيل : مثل نوره كما يرى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت ، أو ب { توقد } أي توقد في بيوت ، أو ب { يسبح } أي يسبح له رجال في بيوت . و { فيها } تكرير فيه توكيد نحو «زيد في الدار جالس فيها» أو بمحذوف أي سبحوا في بيوت { أَذِنَ الله } أي أمر { أَن تُرْفَعَ } تبنى كقوله { بناها رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } { وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد } [ البقرة : 127 ] أن تعظم من الرفعة . وعن الحسن : ما أمر الله أن ترفع بالبناء ولكن بالتعظيم { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } يتلى فيها كتابه أو هو عام في كل ذكر { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } أي يصلي له فيها بالغداة صلاة الفجر وبالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين . وإنما وحد الغدو لأن صلاته صلاة واحدة ، وفي الآصال صلوات والآصال جمع أصل جمع أصيل وهو العشي { رِجَالٌ } فاعل { يسبح } { يسبح } شامي وأبو بكر ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة أعني له فيها بالغدو و { رِجَالٌ } مرفوع بما دل عليه { يسبح } أي يسبح له { لاَّ تُلْهِيهِمْ } لا تشغلهم { تجارة } في السفر { وَلاَ بَيْعٌ } في الحضر . وقيل : التجارة الشراء إطلاقاً لاسم الجنس على النوع أو خص البيع بعد ماعم لأنه أوغل في الإلهاء من الشراء لأن الربح في البيعة الرابحة متيقن وفي الشراء مظنون { عَن ذِكْرِ الله } باللسان والقلب { وَإِقامِ الصلاة } أي وعن إقامة الصلاة . التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال والأصل إقوام ، فلما قلبت الواو ألفاً اجتمع ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فأدخلت التاء عوضاً عن المحذوف ، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام التاء فأسقطت { وَإِيتاء الزكاة } أي وعن إيتاء الزكاة والمعنى لا تجارة لهم حتى تلهيهم كأولياء العزلة ، أو يبيعون ويشترون ويذكرون الله مع ذلك وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها غير متثاقلين كأولياء العشرة .
{ يخافون يَوْماً } أي يوم القيامة و { يخافون } حال من الضمير في { تلهيهم } أو صفة أخرى ل { رجال } { تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب } ببلوغها إلى الحناجر { والأبصار } بالشخوص والزرقة أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران والأبصار إلى العيان بعد إنكاره للطغيان كقوله { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } [ ق : 22 ]
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
{ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } أي يسبحون ويخافون ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم أي ليجزيهم ثوابهم مضاعفاً ويزيدهم على الثواب الموعود على العمل تفضلاً { والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي يثيب من يشاء ثواباً لا يدخل في حساب الخلق .
هذه صفات المهتدين بنور الله فأما الذين ضلوا عنه فالمذكورون في قوله { والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ } هو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهر يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري { بِقِيعَةٍ } بقاع أو جمع قاع وهو المنبسط المستوي من الأرض كجيرة في جار { يَحْسَبُهُ الظمان } يظنه العطشان { مَاءً حتى إِذَا جَاءهُ } أي جاء إلى ما توهم أنه ماء { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } كما ظنه { وَوَجَدَ الله } أي جزاء الله كقوله { يجد الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 110 ] أي يجد مغفرته ورحمته { عِندَهُ } عند الكافر { فوفاه حِسَابَهُ } أي أعطاه جزاء عمله وافياً كاملاً . وحد بعد تقدم الجمع حملاً على كل واحد من الكفار { والله سَرِيعُ الحساب } لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد ولا يشغله حساب عن حساب ، أو قريب حسابه لأن ما هو آتٍ قريب شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد زبانية الله عنده يأخذونه فيعتلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله فيهم : { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الكهف : 104 ] قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان يترهب ملتمساً للدين في الجاهلية فلما جاء الإسلام كفر .
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
{ أَوْ كظلمات فِى بَحْرٍ } «أو» هنا ك «أو» في { أَوْ كَصَيّبٍ } { لُّجّىّ } عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر { يغشاه } يغشى البحر أو من فيه يعلوه ويغطيه { مَوْجٍ } هو ما ارتفع من الماء { مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } أي من فوق الموج موج آخر { مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } من فوق الموج الأعلى سحاب { ظلمات } أي هذه ظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } ظلمة الموج على ظلمة البحر وظلمة الموج على الموج وظلمة السحاب على الموج { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ } أي الواقع فيه { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } مبالغة في لم يرها أي لم يقرب أن يراها فضلاً عن أن يراها ، شبه أعمالهم أولاً في فوات نفعها وحضور ضررها بسراب لم يجد من خدعه من بعيد شيئاً ولم يكفه خيبة وكمداً أن لم يجد شيئاً كغيره من السراب حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى النار ، وشبهها ثانياً في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } من لم يهده الله لم يهتد عن الزجاج في الحديث " خلق الله الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " { أَلَمْ تَرَ } ألم تعلم يا محمد علماً يقوم مقام العيان في الإيقان { أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن فِى السماوات والأرض والطير } عطف على { من } { صافات } حال من { الطير } أي يصففن أجنحتهن في الهواء { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } الضمير في { علم } ل { كل } أو لله ، وكذا في صلاته وتسبيحه . والصلاة الدعاء ولم يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لايكاد العقلاء يتهتدون إليها { والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } لا يعزب عن علمه شيء
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
{ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } لأنه خالقهما ومن ملك شيئاً فبتمليكه إياه { وإلى الله المصير } مرجع الكل { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى } يسوق إلى حيث يريد { سَحَابًا } جمع سحابة دليله { ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ } وتذكيره للفظ أي يضم بعضه إلى بعض { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } متراكماً بعضه فوق بعض { فَتَرَى الودق } المطر { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبال في جبل { وَيُنَزّلُ } { وينزل } مكي ومدني وبصري { مّنَ السماء } لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء { مِن جِبَالٍ } «من» للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي { فِيهَا } في السماء { مِن بَرَدٍ } للبيان أو الأوليان للابتداء والآخرة للتبعيض ، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها . وعلى الأول مفعول { ينزل } { من جبال } أي بعض جبال فيها ومعنى { من جبال فيها من برد } أن يخلق الله في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر أو يريد الكثرة بذكر الجبال كما يقال «فلان يملك جبالاً من ذهب» { فَيُصِيبُ بِهِ } بالبرد { مَن يَشَآء } أي يصيب الإنسان وزرعه { وَيَصْرِفُهُ عَمَّن مَا يَشَاء } فلا يصيبه أو يعذب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء فلا يعذبه { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } ضوؤه { يَذْهَبُ بالأبصار } يخطفها به { يَذْهَبُ } يزيد على زيادة الباء
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
{ يُقَلّبُ الله اليل والنهار } يصرفهما في الاختلاف طولاً وقصراً والتعاقب { إِنَّ فِى ذَلِكَ } في إزجاء السحاب وإنزال الودق والبرد وتقليب الليل والنهار { لَعِبْرَةً لأَِوْلِى الأبصار } لذوي العقول . وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته حيث ذكر تسبيح من في السماوات والأرض وما يطير بينهما ودعاءهم له وتسخير السحاب إلى آخر ما ذكر ، فهي براهين لائحة على وجوده ودلائل واضحة على صفاته لمن نظر وتدبر . ثم بين دليلاً آخر فقال تعالى .
{ والله خَلَقَ كُلَّ } { خالق كل } حمزة وعلي { دَابَّةٍ } كل حيوان يدب على وجه الأرض { مِن مَّاء } أي من نوع من الماء مختص بتلك الدابة أو من ماء مخصوص وهو النطفة ، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة فمنها هوام ومنها بهائم ومنها أناسي وهو كقوله { يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل } [ الرعد : و ] هذا دليل على أن لها خالقاً ومدبراً وإلا لم تختلف لإتفاق الأصل . وإنما عرف الماء في قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَىّ } [ الأنبياء : 30 ] لأن المقصود ثم أن أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء وأنه هو الأصل وإن تخللت بينه وبينها وسائط . قالوا : إن أول ما خلق الله الماء فخلق منه النار والريح والطين ، فخلق من النار الجن ، ومن الريح الملائكة ، ومن الطين آدم ودواب الأرض ، ولما كانت الدابة تشمل المميز وغير المميز غلب المميز فأعطى ما وراءه حكمه كأن الدواب كلهم مميزون فمن ثم قيل { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ } كالحية والحوت . وسمي الزحف على البطن مشياً استعارة كما يقال في الأمر المستمر قد مشى هذا الأمر ، أو على طرائق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين { وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على رِجْلَيْنِ } كالإنسان والطير { وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ } كالبهائم وقدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو غيرها ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع { يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء } كيف يشاء { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } لا يتعذر عليه شيء .
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
{ لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات والله يَهْدِى مَن يَشَاء } بلطفه ومشيئته { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } إلى دين الإسلام الذي يوصل إلى جنته والآيات لإلزام حجته لما ذكر إنزال الآيات ، ذكر بعدها افتراق الناس إلى ثلاث فرق : فرقة صدقت ظاهراً وكذبت باطناً وهم المنافقون ، وفرقة صدقت ظاهراً وباطناً وهم المخلصون ، وفرقة كذبت ظاهراً وباطناً وهم الكافرون على هذا الترتيب . وبدأ بالمنافقين فقال : { وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول } بألسنتهم { وَأَطَعْنَا } الله والرسول { ثُمَّ يتولى } يعرض عن الانقياد لحكم الله ورسوله { فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذلك } أي من بعد قولهم آمنا بالله وبالرسول وأطعنا { وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين } أي المخلصين وهو إشارة إلى القائلين آمنا ، وأطعنا ، لا إلى الفريق المتولي وحده . وفيه إعلام من الله بأن جميعهم منتفٍ عنهم الإيمان لاعتقادهم ما يعتقد هؤلاء والإعراض وإن كان من بعضهم فالرضا بالإعراض من كلهم .
{ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ } أي إلى رسول الله كقولك «أعجبني زيد وكرمه» تريد كرم زيد { لِيَحْكُمَ } الرسول { بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } أي فاجأ من فريق منهم الإعراض نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض فجعل اليهودي يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافق إلى كعب بن الأشرف ويقول : إن محمداً يحيف علينا { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق } أي إذا كان الحق لهم على غيرهم { يَأْتُواْ إِلَيْهِ } إلى الرسول { مُذْعِنِينَ } حال أي مسرعين في الطاعة طلباً لحقهم لا رضا بحكم رسولهم . قال الزجاج : الإذعان الإسراع مع الطاعة . والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معك إلا الحق المر والعدل البحث يمتنعون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم ، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك لتأخذ لهم ما وجب لهم في ذمة الخصم
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
{ أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بأن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته أو خائفين الحيف في قضائه . ثم أبطل خوفهم حيفه بقوله { بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } أي لا يخافون أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله وإنما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم ، وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام فمن ثم يأبون المحاكمة إليه .
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين } وعن الحسن { قول } بالرفع ، والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لكان أوغلهما في التعريف وأن يقولوا أوغل بخلاف { قول المؤمنين } { إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ } النبي عليه الصلاة والسلام ليحكم أي ليفعل الحكم { بَيْنَهُمْ } بحكم الله الذي أنزل عليه { أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا } قوله { وَأَطَعْنَا } أمره { وأولئك هُمُ المفلحون } الفائزون { وَمَن يُطِعِ الله } في فرائضه { وَرَسُولُهُ } في سننه { وَيَخْشَ الله } على ما مضى من نوبه { وَيَتَّقْهِ } فيما يستقبل { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون } وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه الآية . وهي جامعة لأسباب الفوز { ويتقه } بسكون الهاء : أبو عمرو وأبو بكر بنية الوقف ، وبسكون القاف وبكسر الهاء مختلسة : حفص ، وبكسر القاف والهاء ، غيرهم .
{ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } أي حلف المنافقون بالله جهد اليمين لأنهم بذلوا فيها مجهودهم . وجهد يمينه مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وذلك إذا بالغٍ في اليمين وبلغ غاية شدتها ووكادتها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من قال بالله فقد جهد يمينه . وأصل أقسم جهد اليمين أقسم بجهد اليمين جهداً فحذف الفعل وقدم المصدر فوضع موضعه مضافاً إلى المفعول كقوله { فضرب الرقاب } [ محمد : 4 ] وحكم هذا المنصوب حكم الحال كأنه قال جاهدين أيمانهم { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } أي لئن أمرنا محمد بالخروج إلى الغزو لغزونا أو بالخروج من ديارنا لخرجنا { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ } لا تحلفوا كاذبين لأنه معصية { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة ، مبتدأ محذوف الخبر أو خبر مبتدأ محذوف أي الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب كطاعة الخلص من المؤمنين لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } يعلم ما في ضمائركم ولا يخفى عليه شيء من سرائركم وإنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
{ قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات وهو أبلغ في تبكيتهم { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ } يريد فإن تتولوا فما ضررتموه وإنما ضررتم أنفسكم فإن الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله تعالى وكلفه من أداء الرسالة فإذا أدى فقد خرج عن عهدة تكليفه ، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم من التلقي بالقبول والإذعان فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } أي وإن أطعتموه فيما يأمركم وينهاكم فقد أحرزتم نصيبكم من الهدى ، فالضرر في توليكم والنفع عائدان إليكم { وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } وما على الرسول إلا أن يبلغ ما له نفع في قلوبكم ولا عليه ضرر في توليكم . والبلاغ بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية ، والمبين الظاهر لكونه مقروناً بالآيات والمعجزات . ثم ذكر المخلصين فقال
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
ثم ذكر المخلصين فقال { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ولمن معه و { منكم } للبيان . وقيل : المراد به المهاجرون و «من» للتبعيض { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض } أي أرض الكفار . وقيل : أرض المدينة . والصحيح أنه عام لقوله عليه الصلاة والسلام " ليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل " { كَمَا استخلف } استخلف أبو بكر { الذين مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذى ارتضى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ } { وليبدلنهم } بالتخفيف : مكي وأبو بكر { مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } وعدهم الله أن ينصر الاسلام على الكفر ويورثهم الأرض ويجعلهم فيها خلفاء كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة ، وأن يمكن الدين المرتضى وهو دين الاسلام ، وتمكينه تثبيته وتعضيده وأن يؤمن سربهم ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ، ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام " لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس معه حديدة " فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وافتتحوا أبعد بلاد المشرق والمغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا . والقسم المتلقى باللام والنون في { ليستخلفنهم } محذوف تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم ، أو نزل وعد الله في تحققه منزلة القسم فتلقى بما يتلقى به القسم كأنه قيل : أقسم الله ليستخلفنهم { يَعْبُدُونَنِى } إن جعلته استئنافاً فلا محل له كأنه قيل : ما لهم يستخلفون ويؤمنون؟ فقال : يعبدونني موحدين ، ويجوز أن يكون حالاً بدلاً من الحال الأولى . وإن جعلته حالاً عن وعدهم أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم فمحله النصب { لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً } حال من فاعل يعبدون أي يعبدونني موحدين ، ويجوز أن يكون حالاً بدلاً من الحال الأولى .
{ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك } أي بعد الوعد والمراد كفران النعمة كقوله تعالى : { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله { } [ النحل : 112 ] { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة الجسيمة وجسروا على غمطها . قالوا : أول من كفر هذه النعمة قتلة عثمان رضي الله عنه فاقتتلوا بعدما كانوا إخواناً وزال عنهم الخوف ، والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
{ واقيموا الصلاة } معطوف على { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } ولا يضر الفصل وإن طال { وَاتُواْ الزكواة وَأَطِيعُواْ الرسول } فيما يدعوكم إليه وكررت طاعة الرسول تأكيداً لوجوبها { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي لكي ترحموا فإنها من مستجلبات الرحمة ثم ذكر الكافرين فقال { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض } أي فائتين الله بأن لا يقدر عليهم فيها ، فالتاء خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام وهو الفاعل والمفعولان { الذين كفروا } و { معجزين } وبالياء شامي وحمزة والفاعل النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره والمفعولان { الذين كَفَرُواْ } و { معجزين } { وَمَأْوَاهُمُ النار } معطوف على { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ } كَأَنَّهُ قِيلَ : الذين كَفَرُواْ لاَ يفوتون الله وَمَأْوَاهُمُ النار { وَلَبِئْسَ المصير } أي المرجع النار .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم } أمر بأن يستأذن العبيد والإماء { والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ } أي الأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار ، وقريء بسكون اللام تخفيفاً { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } في اليوم والليلة وهي { مّن قَبْلِ صلاة الفجر } لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة { وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مّنَ الظهيرة } وهي نصف النهار في القيظ لأنها وقت وضع الثياب للقيلولة { وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء } لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } أي هي أوقات ثلاثة عورات فحذف المبتدأ والمضاف . وبالنصب : كوفي غير حفص بدلاً من { ثلاث مرات } أي أوقات ثلاث عورات . وسمي كل واحد من هذه الأحوال عورة لأن الإنسان يختل تستره فيها ، والعورة : الخلل ومنها الأعور المختل العين . دخل غلام من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو على عمر رضي الله عنه وقت الظهيرة وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي الله عنه : وددت أن الله نهى عن الدخول في هذه الساعات إلا بالإذن ، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزلت عليه الآية . ثم عذرهم في ترك الاستئذان وراء هذه المرات بقوله { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } أي لا إثم عليكم ولا على المذكورين في الدخول بغير استئذان بعدهن . ثم بين العلة في ترك الاستئذان في هذه الأوقات بقوله { طَوافُونَ عَلَيْكُمْ } أي هم طوافون بحوائج البيت { بَعْضُكُمْ } مبتدأ خبره { على بَعْضٍ } تقديره بعضكم طائف على بعض فحذف طائف لدلالة { طوافون } عليه ، ويجوز أن تكون الجملة بدلاً من التي قبلها وأن تكون مبينة مؤكدة يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام ، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأفضى إلى الحرج وهو مدفوع في الشرح بالنص { كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات } أي كما بين حكم الاستئذان يبين لكم غيره من الآيات التي احتجتم إلى بيانها { والله عَلِيمٌ } بمصالح عباده { حَكِيمٌ } في بيان مراده .
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
{ وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ } أي الأحرار دون المماليك { الحلم } أي الاحتلام أي إذا بلغوا وأرادوا الدخول عليكم { فَلْيَسْتَأْذِنُواْ } في جميع الأوقات { كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي الذين بلغوا الحلم من قبلهم وهم الرجال ، أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ } الآية . والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في العورات الثلاث ، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم بلغوا بالاحتلام أو بالسن وجب أن يفطموا عن تلك العادة ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن ، والناس عن هذا غافلون ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله وقوله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] { وَإِذَا حَضَرَ القسمة } [ النساء : 8 ] . وعن سعيد بن جبير : يقولون هي منسوخة والله ما هي بمنسوخة وقوله { كذلك يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته والله عَلِيمٌ } بمصالح الأنام { حَكِيمٌ } فيما يبين من الأحكام .
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
{ والقواعد } جمع قاعد لأنها من الصفات المختصة بالنساء كالطالق والحائض أي اللاتي قعدن عن الحيض والولد لكبرهن { مّنَ النساء } حال { اللاتى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً } لا يطمعن فيه وهي في كل الرفع صفة للمبتدأ وهي القواعد والخبر { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ } إثم ودخلت الفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط بسبب الألف واللام { أَن يَضَعْنَ } في أن يضعن { ثِيَابَهُنَّ } أي الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار { غَيْرِ } حال { متبرجات بِزِينَةٍ } أي غير مظهرات زينة يريد الزينة الخفية كالشعر والنحر والساق ونحو ذلك أي لا يقصدن بوضعها التبرج ولكن التخفيف ، وحقيقة التبرج يكلف إظهاراً ما يجب إخفاؤه { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ } أي يطلبن العفة عن وضع الثياب فيستترون وهو مبتدأ خبره { خَيْرٌ لَّهُنَّ والله سَمِيعٌ } لما يعلن { عَلِيمٌ } بما يقصدن .
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
{ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } قال سعيد بن المسيب : كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والمريض والأعرج وعند أقاربهم ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم ، وكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة فنزلت الآية رخصة لهم { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ } أي حرج { أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } أي بيوت أولادكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه ولذا لم يذكر الأولاد في الآية ، وقد قال عليه الصلاة والسلام " أنت ومالك لأبيك " أو بيوت أزواجكم لأن الزوجين صار كنفس واحدة فصار بيت المرأة كبيت الزوج { أو بيوت ءَابائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم } لأن الإذن من هؤلاء ثابت دلالة { أوما ملكتم مّفاتحة } جمع مفتح وهو ما يفتح به الغلق ، قال ابن عباس رضي الله عنه : هو وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته ، له أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته . وأريد بملك المفاتح كونها في يده وحفظه . وقيل : أريد به بيت عبده لأن العبد وما في يده لمولاه { أَوْ صَدِيقِكُمْ } يعني أو بيوت أصدقائكم والصديق يكون واحداً وجمعاً وهو من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك ، وكان الرجل من السلف يدخل دارٍ صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء ، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سروراً بذلك ، فأما الآن فقد غلب الشح على الناس فلا يؤكل إلا بإذن .
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً } مجتمعين { أَوْ أَشْتَاتاً } متفرقين جمع شت . نزلت في بني ليث بن عمرو وكانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده فربما قعد منتظراً نهاره إلى الليل فإن لم يجد من يؤاكله أكل ضرورة ، أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم ، أو تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً } من هذه البيوت لتأكلوا { فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } أي فابدؤوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة أو بيوتاً فارغة أو مسجداً فقولوا : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين { تَحِيَّةً } نصب ب { سلموا } لأنها في معنى تسليماً نحو «قعدت جلوساً» { مِنْ عِندِ الله } أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، أو لأن التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه والمحيا من عند الله { مباركة طَيّبَةً } وصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق { كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لكي تعقلوا وتفهموا .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{ إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ } أي الذي يجمع له الناس نحو الجهاد والتدبير في الحرب وكل اجتماع في الله حتى الجمعة والعيدين { لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَذِنُوهُ } أي ويأذن لهم . ولما أراد الله عز وجل أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه إذا كانوا معه على أمر جامع ، جعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله ، وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره . وذلك مع تصدير الجملة ب { إنما } وإيقاعٍ المؤمنين مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين ، ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتشديداً حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله { إِنَّ الذين يَسْتَذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } وضمنه شيئاً آخر وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين وعرض بحال المنافقين وتسللهم لوإذاً { فَإِذَا استذنوك } في الانصراف { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } أمرهم { فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } فيه رفع شأنه عليه الصلاة والسلام { واستغفر لَهُمُ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وذكر الاستغفار للمستأذنين دليل على أن الأفضل أن لا يستأذن . قالوا : وينبغي أن يكون الناس كذلك مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يتفرقون عنهم إلا بإذن ، قيل : نزلت يوم الخندق كان المنافقون يرجعون إلى منازلهم من غير استئذان { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً } أي إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً ، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي أو لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمي بعضكم بعضاً ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه ، فلا تقولوا يا محمد ولكن يا نبي الله يا رسول الله مع التوقير والتعظيم والصوت المخفوض .
{ قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ } يخرجون قليلاً قليلاً { مِنكُمْ لِوَاذاً } حال أي ملاوذين اللواذ . والملاوذة هو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا أي ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض { فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ } أي الذين يصدون عن أمره دون المؤمنين وهم المنافقون . يقال : خالفه إلى الأمر إذا ذهب إليه دونه ومنه : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ } [ هود : 88 ] وخالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه . والضمير في { أمره } لله سبحانه أو للرسول عليه الصلاة والسلام والمعنى عن طاعته ودينه ومفعول { يحذر } { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } محنة في الدنيا أو قتل أو زلازل وأهوال أو تسليط سلطان جائر أو قسوة القلب عن معرفة الرب أو إسباغ النعم استدراجاً { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة . والآية تدل على أن الأمر للإيجاب .
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
{ أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السماوات والأرض } «ألا» تنبيه على أن لا يخالفوا أمر من له ما في السماوات والأرض { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } أدخل «قد» ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد ، والمعنى أن جميع ما في السماوات والأرض مختص به خلقاً وملكاً وعلماً فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين وإن كانوا يجهدون في سترها؟ { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } وبفتح الياء وكسر الجيم : يعقوب أي ويعلم يوم يردون إلى جزائه وهو يوم القيامة . والخطاب والغيبة في قوله { قد يعلم } { ما أنتم عليه } { ويوم يرجعون إليه } يجوز أن يكونا جميعاً للمنافقين على طريق الالتفات ، ويجوز أن يكون { ما أنتم عليه } عاماً و { يرجعون } للمنافقين { فَيُنَبّئُهُمْ } يوم القيامة { بِمَا عَمِلُواْ } بما أبطنوا من سوء أعمالهم ويجازيهم حق جزائهم { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } فلا يخفي عليه خافية . ورُوي أن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ سورة النور على المنبر في الموسم وفسرها على وجه لو سمعت الروم به لأسلمت والله أعلم .
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
مكية وهي سبع وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ تبارك } تفاعل من البركة وهي كثرة الخير وزيادته ، ومعنى تبارك الله تزايد خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله ، وهي كلمة تعظيم لم تستعمل إلا لله وحده والمستعمل منه الماضي فحسب { الذى نَزَّلَ الفرقان } هو مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما ، وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل والحلال والحرام ، أو لأنه لم ينزل جملة ولكن مفرقاً مفصولاً بين بعضه وبعض في الإنزال ألا ترى إلى قوله : { وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ ونزلناه تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] { على عَبْدِهِ } محمد عليه الصلاة والسلام { لِيَكُونَ } العبد أو الفرقان { للعالمين } للجن والإنس وعموم الرسالة من خصائصه عليه الصلاة والسلام { نَذِيراً } منذراً أي مخوفاً أو إنذاراً كالنكير بمعنى الإنكار ومنه قوله تعالى { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } [ القمر : 18 ] { الذى } رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو على الإبدال من { الذي نزل } وجوز الفصل بين البدل والمبدل منه بقوله { ليكون } لأن المبدل منه صلته { نزل } وليكون تعليل له فكأن المبدل منه لم يتم إلا به أو نصب على المدح { لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض } على الخلوص { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } كما زعم اليهود والنصارى في عزير والمسيح عليهما السلام { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك } كما زعمت الثنوية { وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء } أي أحدث كل شيء وحده لا كما يقوله المجوس والثنوية من النور والظلمة ويزدان واهرمن . ولا شبهة فيه لمن يقول إن الله شيء ويقول بخلق القرآن ، لأن الفاعل بجميع صفاته لا يكون مفعولاً له على أن لفظ شيء اختلص بما يصح أن يخلق بقرينة وخلق ، وهذا أوضح دليل لنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } فهيأه لما يصلح له بلا خلل فيه كما أنه خلق الإنسان على هذا الشكل الذي تراه فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في الدين والدنيا أو قدره للبقاء إلى أمد معلوم .
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
{ واتخذوا } الضمير للكافرين لاندراجهم تحت العالمين أو لدلالة { نذيراً } عليهم لأنهم المنذرون { مِن دُونِهِ ءالِهَةً } أي الأصنام { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والملك والخلق والتقدير عبادة عجزة لا يقدرون على خلق شيء وهم يخلقون { وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَِنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } ولا يستطيعون لأنفسهم دفع ضرر عنها ولا جلب نفع إليها { وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً } إماتة { ولا حياة } أي إحياء { وَلاَ نُشُوراً } إحياء بعد الموت وجعلها كالعقلاء لزعم عابديها { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا } ما هذا القرآن { إِلاَّ إِفْكٌ } كذب { افتراه } اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه { وَأعانَهُ عليه قومٌ آخرون } أي اليهود وعداس ويسار وأبو فكيهة الرومي قاله النضر بن الحارث { فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً } هذا إخبار من الله رد للكفرة فيرجع الضمير إلى الكفار وجاء يستعمل في معنى فعل فيعدى تعديتها ، أو حذف الجار وأوصل الفعل أي بظلم وزور . وظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من العجمي الرومي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب ، والزور أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه .
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
{ وَقَالُواْ أساطير الأولين } أي هو أحاديث المتقدمين وما سطروه كرستم وغيره جمع أسطار وأسطورة كأحدوثة { اكتتبها } كتبها لنفسه { فَهِىَ تملى عَلَيْهِ } أي تلقى عليه من كتابه { بُكْرَةً } أول النهار { وَأَصِيلاً } آخره فيحفظ ما يملى عليه ثم يتلوه علينا .
{ قُلْ } يا محمد { أَنزَلَهُ } أي القرآن { الذى يَعْلَمُ السر فِى السماوات والأرض } أي يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض ، يعني أن القرآن لما اشتمل على علم الغيوب التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد عليه الصلاة والسلام من غير تعليم ، دل ذلك على أنه من عند علام الغيوب { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } فيمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة وإن استوجبوها بمكابرتهم { وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول } وقعت اللام في المصحف مفصولة عن الهاء وخط المصحف سنة لا تغير ، وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم كأنهم قالوا : أي شيء لهذا الزاعم إنه رسول { يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الأسواق } حال والعامل فيها «هذا» { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقِى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } أي إن صح أنه رسول الله فما باله يأكل الطعام كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما تردد يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والتعيش ، ثم نزلوا عن ذلك الاقتراح إلى أن يكون إنساناً معه ملك حتى يتساندا في الإنذار والتخويف ، ثم نزلوا إلى أن يكون مرفوداً بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش ، ثم نزلوا إلى أن يكون رجلاً له بستان يأكل هو منه كالمياسير أو نأكل نحن كقراءة علي وحمزة . وحسن عطف المضارع وهو { يُلْقِى } و { تَكُونُ } على { أَنَزلَ } وهو ماض لدخول المضارع وهو { فَيَكُونُ } بينهما وانتصب { فَيَكُونُ } على القراءة المشهورة لأنه جواب { لَوْلاَ } بمعنى «هلا» وحكمه حكم الاستفهام . وأراد بالظالمين في قوله { وَقَالَ الظالمون } إياهم بأعيانهم غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوا وهم كفار قريش { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا } سحر فجن أو ذا سحر وهو الرئة عنوا أنه بشر لا ملك
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
{ انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ } بينوا { لَكَ الأمثال } الأشباه أي قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال من المفتري والمملي عليه والمسحور { فُضّلُواْ } عن الحق { فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } فلا يجدون طريقاً إليه .
{ تَبَارَكَ الذى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } أي تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا خيراً مما قالوا ، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور . و { جنات } بدل من { خيرا } ، { ويجعل } بالرفع : مكي وشامي وأبو بكر لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جزائه الجزم والرفع { بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة } عطف على ما حكى عنهم يقول : بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة ، أو متصل بما يليه كأنه قال : بل كذبوا بالساعة فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بها؟ { وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً } وهيأنا للمكذبين بها ناراً شديدة في الاستعار .
{ إِذَا رَأَتْهُمْ } أي النار أي قابلتهم { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } أي إذا كانت منهم بمرأى الناظرين في البعد { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } أي سمعوا صوت غليانها وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر ، أو إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضباً على الكفار .
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
{ وإِذَا أُلْقُواْ مِنْهَا } من النار { مَكَاناً ضَيّقاً } { ضيقاً } مكي فإن الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة ولذا وصفت الجنة بأن عرضها السماوات والأرض . وعن ابن عباس رضي الله عنها أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح { مُقْرِنِينَ } أي وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرّنون في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ، أو يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد { دَعَوْاْ هُنَالِكَ } حينئذ { ثُبُوراً } هلاكاً أي قالوا واثبوراه أي تعال يا ثبور فهذا حينك فيقال لهم { لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً } أي إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً إنما هو ثبور كثير { قُلْ أذلك خَيْرٌ } أي المذكور من صفة النار خير { أَمْ جَنَّةُ الخلد التى وَعِدَ المتقون } أي وعدها فالراجع إلى الموصول محذوف ، وإنما قال : { أذلك خير } ، ولا خير في النار توبيخاً للكفار { كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء } ثواباً { وَمَصِيراً } مرجعاً . وإنما قيل { كانت } لأن ما وعد الله كأنه كان لتحققه أو كان ذلك مكتوباً في اللوح قبل أن خلقهم { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءونَ } أي ما يشاؤونه { خالدين } حال من الضمير في { يشاؤون } والضمير في { كان } ل { ما يشاؤون } { على رَبّكَ وَعْداً } أي موعوداً { مَّسْئُولاً } مطلوباً أو حقيقاً أن يسأل أو قد سأله المؤمنون والملائكة في دعواتهم { رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } [ آل عمران : 194 ] { رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ }
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } للبعث عند الجمهور وبالياء : مكي ويزيد ويعقوب وحفص .
{ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } يريد المعبودين من الملائكة والمسيح وعزير . وعن الكلبي يعني الأصنام ينطقها الله . وقيل : عام وما يتناول العقلاء وغيرهم لأنه أريد به الوصف كأنه قيل ومعبوديهم { فَيَقُولُ } وبالنون شامي { ءأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل } والقياس ضلوا عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق والأصل إلى الطريق أو للطريق . وضل مطاوع أضله والمعنى أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق بإدخال الشبه أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟ وإنما لم يقل «أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل» وزيد «أنتم» و«هم» لأن السؤال ليس عن الفعل ووجوده لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب ، وإنما هو عن متوليه فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام ليعلم أنه المسؤول عنه . وفائدة سؤالهم مع علمه تعالى بالمسؤول عنه أن يجيبوا بما أجابوا به حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فتزيد حسرتهم { قَالُواْ سبحانك } تعجب منهم مما قيل لهم وقصدوا به تنزيهه عن الأنداد وأن يكون له نبي أو ملك أو غيرهما نداً . ثم قالوا { مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء } أي ما كان يصح لنا ولا يستقيم أن نتولى أحداً دونك فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك؟ { نتخذ } يزيد . و«اتخذ» يتعدى إلى مفعول واحد نحو «اتخذ ولياً» وإلى مفعولين نحو «اتخذ فلاناً ولياً» قال الله تعالى : { أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض } [ الأنبياء : 21 ] { اتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً } [ النساء : 125 ] فالقراءة الأولى لواحد وهو من أولياء والأصل أن تتخذ أولياء وزيدت «من» التأكيد معنى النفي ، والقراءة الثانية في المتعدي إلى المفعولين فالمفعول الأول ما بني له الفعل والثاني من أولياء و«من» للتبعيض أي لا نتخذ بعض أولياء لأن من لا تزاد في المفعول الثاني بل في الأول تقول «ما اتخذت من أحد ولياً» ولا تقول «ما اتخذت أحداً من ولي» { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ } بالأموال والأولاد . وطول العمر والسلامة من العذاب { حتى نَسُواْ الذكر } أي ذكر الله والإيمان به والقرآن والشرائع { وَكَانُواْ } عند الله { قَوْماً بُوراً } أي هلكى جمع بائر كعائذ وعوذ ثم يقال للكفار بطريق الخطاب عدولاً عن الغيبة .
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
{ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ } وهذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول ونظيرها : { ياأهل الكتاب قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل } إلى قوله { فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [ المائدة : 19 ] وقول القائل
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراساناً
{ بِمَا تَقُولُونَ } بقولكم فيهم إنهم آلهة ، والباء على هذا كقوله : { بَلْ كَذَّبُواْ بالحق } [ ق : ] والجار والمجرور بدل من الضمير كأنه قيل : فقد كذبوا بما تقولون . وعن قنبل بالياء ومعناه فقد كذبوكم بقولهم : { سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } والباء على هذا كقولك «كتبت بالقلم» { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً } { فما يستطيعون } أي فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو ينصرونكم . وبالتاء حفص أي فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم ولا نصر أنفسكم . ثم خاطب المكلفين على العموم بقوله { وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ } أي يشرك لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ومن جعل المخلوق شريك خالقه فقد ظلم يؤيده قوله تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] { نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } فسر بالخلود في النار وهو يليق بالشرك دون الفاسق إلا على قول المعتزلة والخوارج .
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الأسواق } كسرت «إن» لأجل اللام في الخبر والجملة بعد «إلا» صفة لموصوف محذوف ، والمعنى وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين ، وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور أي من المرسلين ونحوه { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] أَيُّ وَمَا مِنَّا أَحَدٌ . قِيلَ : هو احتجاج على من قال { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } وتسلية للنبي عليه الصلاة والسلام { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } أي محنة وابتلاء ، وهذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما عيروه به من الفقر ومشيه في الأسواق يعني أنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء فيغني من يشاء ويفقر من يشاء { أَتَصْبِرُونَ } على هذه الفتنة فتؤجروا أم لا تصبروا فيزداد غمكم . وحكي أن بعض الصالحين تبرم بضنك عيشه فخرج ضجراً فرأى خصياً في مواكب ومراكب فخطر بباله شيء فإذا بمن يقرأ هذه الآية فقال : بلى فصبراً ربنا . أو جعلتك فتنة لهم لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنان لكانت طاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا فإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك خالصة لنا { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } عالماً بالصواب فيما يبتلي به أو بمن يصبر ويجزع .
{ وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ } لا يأملون { لِقَاءنَا } بالخير لأنهم كفرة لا يؤمنون بالبعث أو لا يخافون عقابنا إما لأن الراجي قلق فيما يرجوه كالخائف ، أو لأن الرجاء في لغة تهامة الخوف { لَوْلاَ } هلا { أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة } رسلاً دون البشر أو شهوداً على نبوته ودعوى رسالته { أَوْ نرى رَبَّنَا } جهرة فيخبرنا برسالته واتباعه { لَقَدِ استكبروا فِى أَنفُسِهِمْ } أي أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد في قلوبهم { وَعَتَوْ } وتجاوزوا الحد في الظلم { عُتُوّاً كَبِيراً } وصف العتو بالكبر فبالغ في إفراطه أي أنهم لم يجسروا على هذا القول العظيم إلا أنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو . واللام في { لقد } جواب قسم محذوف
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الملئكة } أي يوم الموت أو يوم البعث و { يَوْم } منصوب بما دل عليه { لاَ بشرى } أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى . وقوله { يَوْمَئِذٍ } مؤكد ل { يوم يرون } أو بإضمار اذكر أي اذكر يوم يرون الملائكة ، ثم أخبر فقال : لا بشرى بالجنة يومئذ ولا ينتصب ب { يرون } لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف ، ولا ب { بشرى } لأنها مصدر والمصدر لا يعمل فيما قبله ولأن المنفي بلا لا يعمل فيما قبل «لا» { لّلْمُجْرِمِينَ } ظاهر في موضع ضمير أو عام يتناولهم بعمومه وهم الذين اجترموا الذنوب والمراد الكافرون لأن مطلق الأسماء يتناول أكمل المسميات { وَيَقُولُونَ } أي الملائكة { حِجْراً مَّحْجُوراً } حراماً محرماً عليكم البشرى أي جعل الله ذلك حراماً عليكم إنما البشرى للمؤمنين . والحجر مصدر والكسر والفتح لغتان وقريء بهما وهو من حجره إذا منعه ، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها ، و { مَّحْجُوراً } لتأكيد معنى الحجر كما قالوا «موت مائت» .
{ وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } هو صفة ولا قدوم هنا ولكن مثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف ونحو ذلك بحال من خالف سلطانه وعصاه فقدم إلى أشيائه وقصد إلى ما تحت يديه فأفسدها ومزقها كل ممزق ولم يترك لها أثراً . والهباء ما يخرج به من الكوة مع ضوء الشمس شبيهاً بالغبار ، والمنثور المفرق وهو استعارة عن جعله بحيث لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع . ثم بين فضل أهل الجنة على أهل النار فقال :
{ أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } تمييز والمستقر المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم يتجالسون ويتحادثون { وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } مكاناً يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم ، ولا نوم في الجنة ولكنه سمي مكان استراحتهم إلى الحور مقيلاً على طريق التشبيه . وروي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، وفي لفظ الأحسن تهكم بهم
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)
{ وَيَوْمَ } واذكر يوم { تَشَقَّقُ السماء } والأصل تتشقق فحذف التاء كوفي وأبو عمرو وغيرهم أدغمها في الشين { بالغمام } لما كان انشقاق السماء بسبب طلوع الغمام منها جعل الغمام كأنه الذي تشقق به السماء كما تقول «شققت السنام بالشفرة فانشق بها» { وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً } { وننزل الملائكة } مكي ، { وتنزيلاً } على هذا مصدر من غير لفظ الفعل . والمعنى أن السماء تنفتح بغمام أبيض يخرج منها وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد { الملك } مبتدأ { يَوْمَئِذٍ } ظرفه { الحق } نعته ومعناه الثابت لأن كل ملك يزول يومئذ فلا يبقى إلا ملكه { للرحمن } خبره { وَكَانَ } ذلك اليوم { يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً } شديداً . يقال عسر عليه فهو عسير وعسر ويفهم منه يسره على المؤمنين ففي الحديث " يهون يوم القيامة على المؤمنين حتى يكون عليهم أخف من صلاة مكتوبة صلوها في الدنيا " { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } عض اليدين كناية عن الغيظ والحسرة لأنه من روادفها فتذكر الرادفة ويدل بها على المردوف فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة ، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة ما لا يجده عند لفظ المكنّى عنه ، واللام في { الظالم } للعهد وأريد به عقبة لما تبين أو للجنس فيتناول عقبة وغيره من الكفار { يَقُولُ ياليتنى اتخذت } في الدنيا { مَعَ الرسول } محمد عليه الصلاة والسلام { سَبِيلاً } طريقاً إلى النجاة والجنة وهو الإيمان { يا ويلتى } وقرىء { يا ويلتي } بالياء وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته يقول لها تعالي فهذا أوانك . وإنما قلبت الياء ألفاً كما في «صحارى» و«مدارى» { لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } فلان كناية عن الأعلام فإن أريد بالظالم عقبة لما رُوي أنه اتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله عليه الصلاة والسلام فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل فقال له أبيّ بن خلف وهو خليله : وجهي من وجهك حرام إلا أن ترجع فارتد . فالمعنى يا ليتني لم أتخذ أبياً خليلاً ، فكنى عن اسمه . وإن أريد به الجنس فكل من اتخذ من المضلين خليلاً كان لخليله اسم علم لا محالة فجعل كناية عنه . وقيل : هو كناية عن الشيطان
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
{ لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذكر } أي عن ذكر الله أو القرآن أو الإيمان { بَعْدَ إِذْ جَاءنِى } من الله { وَكَانَ الشيطان } أي خليله سماه شيطاناً لأنه أضله كما يضله الشيطان ، أو إبليس لأنه الذي حمله على مخالة المضل ومخالفة الرسول { للإنسان } المطيع له { خَذُولاً } هو مبالغة من الخذلان أي من عادة الشيطان ترك من يواليه وهذا حكاية كلام الله أو كلام الظالم .
{ وَقَالَ الرسول } أي محمد عليه الصلاة والسلام في الدنيا { يارب إِنَّ قَوْمِى } قريشاً { اتخذوا هذا القرءان مَهْجُوراً } متروكاً أي تركوه ولم يؤمنوا به من الهجران وهو مفعول ثان ل { اتخذوا } في هذا تعظيم للشكاية وتخويف لقومه لأن الأنبياء إذا شكوا إليه قومهم حل بهم العذاب ولم ينظروا . ثم أقبل عليه مسلياً ووعده النصرة عليهم فقال { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ المجرمين وكفى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } أي كذلك كان كل نبي قبلك مبتلى بعداوة قومه وكفاك بي هادياً إلى طريق قهرهم والانتصار منهم ، وناصراً لك عليهم . والعدو يجوز أن يكون واحداً وجمعاً والباء زائدة أي وكفى ربك هادياً وهو تمييز
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } أي قريش أو اليهود { لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً } حال من القرآن أي مجتمعاً { واحدة } يعني هلا أنزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثلاثة ، وماله أنزل على التفاريق؟ وهو فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته ، لأن أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو متفرقاً . و { نزّل } هنا بمعنى أنزل وإلا لكان متدافعاً بدليل { جملة واحدة } وهذا اعتراض فاسد لأنهم تحدوا بالإتيان بسورة واحدة من أصغر السور فأبرزوا صفحة عجزهم حتى لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المحاربة وبذلوا المهج وما مالوا إلى الحجج { كذلك } جواب لهم أي كذلك أنزل مفرقاً في عشرين سنة أو في ثلاث وعشرين و«ذلك» في { كذلك } إشارة إلى مدلول قوله { لولا نزل عليه القرآن جملة } لأن معناه لم أنزل عليك القرآن مفرقاً فأعلم أن ذلك { لِنُثَبّتَ بِهِ } بتفريقه { فُؤَادَكَ } حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء وجزأ عقيب جزء ولو ألقي عليه جملة واحدة لعجز عن حفظه ، أو لنثبت به فؤادك عن الضجر بتواتر الوصول وتتابع الرسول لأن قلب المحب يسكن بتواصل كتب المحبوب { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } معطوف على الفعل الذي تعلق به { كذلك } كأنه قال : كذلك فرقناه ورتلناه أي قدرناه آية بعد آية ووقفة بعد وقفة ، أو أمرنا بترتيل قراءته وذلك قوله تعالى : { وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً } [ المزمل : 4 ] أي اقرأه بترسل وتثبت أو بيناه تبييناً ، والترتيل التبيين في ترسل وتثبت .
{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثل في البطلان { إِلاَّ جئناك بالحق } إلا أتيناك بالجواب الحق الذي لا محيد عنه { وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } وبما هو أحسن معنى ومؤدى من مثلهم أي من سؤالهم . وإنما حذف من مثلهم لأن في الكلام دليلاً عليه كما لو قلت «رأيت زيداً وعمراً وإن عمراً أحسن وجهاً» كان فيه دليل على أنك تريد من زيد . ولما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا : تفسير هذا الكلام كيت وكيت كما قيل : معناه كذا وكذا . أو لا يأتونك بحال وصفة عجيبة يقولون هلا أنزل عليك القرآن جملة إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفاً لما بعثت عليه ودلالة على صحته يعني أن تنزيله مفرقاً وتحديثهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلما نزل شيء منها ، أدخل في الإعجاز من أن ينزل كله جملة .
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
{ الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ } { الذين } مبتدأ و { أولئك } مبتدأ ثان و { شر } خبر { أولئك } و { أولئك } مع { شر } خبر { الذين } أو التقدير : هم الذين أو أعني الذين و { أولئك } مستأنف { مَكَاناً } أي مكانة ومنزلة أو مسكناً ومنزلاً { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } أي وأخطأ طريقاً ، وهو من الإسناد المجازي . والمعنى إن حاملكم على هذه السؤالات أنكم تضلون سبيله وتحتقرون مكانه ومنزلته ، ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوههم إلى جهنم لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله ، وفي طريقته قوله { قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] الآية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف على الدواب وصنف على أرجلهم وصنف على وجوههم » قيل : يا رسول الله ، كيف يمشون على وجوههم؟ فقال عليه الصلاة والسلام « الذي أمشاكم على أقداكم يمشيهم على وجوههم » { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } التوراة كما آتيناك القرآن { وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هارون } بدل أو عطف بيان { وَزِيراً } هو في اللغة من يرجع إليه من الوزر وهو الملجأ ، والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضاً { فَقُلْنَا اذهبا إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } إلى فرعون وقومه وتقديره فذهبا إليهم وأنذرا فكذبوهما { فدمرناهم تَدْمِيراً } التدمير الإهلاك بأمر عجيب أراد اختصار القصة فذكر أولها وآخرها لأنهما المقصود من القصة أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
{ وَقَوْمَ نُوحٍ } أي ودمرنا قوم نوح { لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل } يعني نوحاً وإدريس وشيثاً أو كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيباً للجميع { أغرقناهم } بالطوفان { وجعلناهم } وجعلنا إغراقهم أو قصتهم { لِلنَّاسِ ءايَةً } عبرة يعتبرون بها { وَأَعْتَدْنَا } وهيأنا { للظالمين } لقوم نوح وأصله وأعتدنا لهم إلا أنه أراد تظليمهم فأظهر ، أو هو عام لكل من ظلم ظلم شرك ويتناولهم بعمومه { عَذَاباً أَلِيماً } أي النار { وَعَاداً } دمرنا عاداً { وَثَمُودَ } حمزة وحفص على تأويل القبيلة وغيرهما ، وثموداً على تأويل الحي أو لأنه اسم الأب الأكبر { وأصحاب الرس } هم قوم شعيب كانوا يعبدون الأصنام فكذبوا شعيباً فبيناهم حول الرس وهي البئر غير مطوية انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم ، وقيل : الرس قرية قتلوا نبيهم فهلكوا ، أو هم أصحاب الأخدود والرس الأخدود { وَقُرُوناً } وأهلكنا أمماً { بَيْنَ ذلك } المذكور { كَثِيراً } لا يعلمها إلا الله أرسل إليهم فكذبوهم فأهلكوا { وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال } بينا له القصص العجيبة من قصص الأولين { وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً } أي أهلكنا إهلاكاً ، { وَكُلاًّ } الأول منصوب بما دل عليه { ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال } وهو أنذرنا أو حذرنا والثاني ب { تبرنا } لأنه فارغ له .
{ وَلَقَدْ أَتَوْا } يعني أهل مكة { عَلَى القرية } سدوم وهي أعظم قرى قوم لوط وكانت خمساً أهلك الله أربعاً مع أهلها وبقيت واحدة { التى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء } أي أمطر الله عليها الحجارة يعني أن قريشاً مروا مراراً كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء ، { ومطر السوء } مفعول ثانٍ والأصل أمطرت القرية مطراً ، أو مصدر محذوف الزوائد أي إمطار السوء { أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا } أما شاهدوا ذلك بأبصارهم عند سفرهم الشام فيتفكروا فيؤمنوا { بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } بل كانوا قوماً كفرة بالبعث لا يخافون بعثاً فلا يؤمنون ، أو لا يأملون نشوراً كما يأمله المؤمنون لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ } إن نافية { إِلاَّ هُزُواً } اتخذه هزواً في معنى استهزاء أي قائلين أي أهذا الذي { بَعَثَ الله رَسُولاً } والمحذوف حال والعائد إلى { الذين } محذوف أي بعثه .
{ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } «أن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة وهو دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم وعرض المعجزات عليهم حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب } هو وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال { مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } هو كالجواب عن قولهم { إن كاد ليضلنا } لأنه نسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الضلال إذ لا يضل غيره إلا من هو ضال في نفسه .
{ أَرَءيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } أي من أطاع هواه فيما يأتي ويذر فهو عابد هواه وجاعله إلهه فيقول الله تعالى لرسوله : هذا الذي لا يرى معبوداً إلا هواه كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى . يروى أن الواحد من أهل الجاهلية كان يعبد الحجر فإذا مر بحجر أحسن منه ترك الأوّل وعبد الثاني . وعن الحسن : هو في كل متبعٍ هواه { أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } أي حفيظاً تحفظه من متابعة هواه وعبادة ما يهواه ، أفأنت تكون عليه موكلاً فتصرفه عن الهوى إلى الهدى ، عرفه أن إليه التبليغ فقط
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } «أم» منقطعة معناه بل أتحسب كأن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونها مسلوبي الأسماع والعقول ، لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذناً ولا إلى تدبره عقلاً ، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلالة فقد ركبهم الشيطان بالاستذلال لتركهم الاستدلال ، ثم هم أرجح ضلالة منها لأن الأنعام تسبح ربها وتسجد له وتطيع من يعلفها وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي ، وقالوا : للملائكة . روح وعقل ، وللبهائم نفس وهوى ، والآدمي مجمع الكل ابتلاء . فإن غلبته النفس والهوى فضلته الأنعام ، وإن غلبته الروح والعقل فضل الملائكة الكرام . وإنما ذكر الأكثر لأن فيهم من لم يصده عن الإسلام إلا حب الرياسة وكفى به داء عضالاً ولأن فيهم من آمن .
{ أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ } ألم تنظر إلى صنع ربك وقدرته { كَيْفَ مَدَّ الظل } أي بسطه فعم الأرض وذلك من حين طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس في قول الجمهور لأنه ظل ممدود لا شمس معه ولا ظلمة ، وهو كما قال في ظل الجنة { وَظِلّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] إذ لا شمس معه ولا ظلمة { وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً } أي دائماً لا يزول ولا تذهبه الشمس { ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ } على الظل { دَلِيلاً } لأنه بالشمس يعرف الظل ولولا الشمس لما عرف الظل فالأشياء تعرف بأضدادها { ثُمَّ قبضناه } أي أخذنا ذلك الظل الممدود { إِلَيْنَا } إلى حيث أردنا { قَبْضاً يَسِيراً } سهلاً غير عسير أو قليلاً قليلاً أي جزءًا فجزءا بالشمس التي تأتي عليه . وجاء ب «ثم» لتفاضل ما بين الأمور فكأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم من الثاني ، شبه تباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
{ وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً } جعل الظلام الساتر كاللباس { والنوم سُبَاتاً } راحة لأبدانكم وقطعاً لأعمالكم ، والسبت القطع والنائم مسبوت لأنه انقطع عمله وحركته . وقيل : السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة وهو كقوله تعالى { وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل } [ الأنعام : 60 ] ويعضده ذكر النشور في مقابلته { وَجَعَلَ النهار نُشُوراً } إذ النشور انبعاث من النوم كنشور الميت أن ينشر فيه الخلق للمعاش . وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه لأن في الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية ودنيوية ، وفي النوم واليقظة المشبهين بالموت والحياة عبرة لمن اعتبر . وقال لقمان لابنه : كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر .
{ وَهُوَ الذى أَرْسَلَ الرياح } { الريح } مكي والمراد به الجنس { بُشَرًا } تخفيف بشر جمع بشور { بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } أي قدام المطر لأنه ريح ثم سحاب ثم مطر وهذه استعارة مليحة { وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء } مطراً { طَهُوراً } بليغاً في طهارته . والطهور صفة كقولك «ماء طهور» أي طاهر ، واسم كقولك لما يتطهر به طهور كالوضوء والوقود لما يتوضأ به وتوقد به النار ، ومصدر بمعنى التطهر كقولك تطهرت طهوراً حسناً ومنه قوله عليه الصلاة والسلام " لا صلاة إلا بطهور " أي بطهارة . وما حكي عن ثعلب هو ما كان طاهراً في نفسه مطهراً لغيره وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى إن كان هذا بيان زيادة الطهارة فحسن ويعضده قوله تعالى { وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } [ الأنفال : 11 ] وإلا فليس فعول من التفعيل في شيء ، وقياسه على ما هو مشتق من الأفعال المتعدية كقطوع ومنوع غير سديد لأن بناء الفعول للمبالغة ، فإن كان الفعل متعدياً فالفعول متعد وإن كان لازماً فلازم
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
{ لّنُحْيِىَ بِهِ } بالمطر { بَلْدَةً مَّيْتاً } ذكّر { ميتاً } على إرادة البلد أو المكان { وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أنعاما وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً } أي ونسقي الماء البهائم والناس . و { مما خلقنا } حال من { أنعاماً وأناسي } أي أنعاماً وأناسي . مما خلقنا . وسقى أو أسقى لغتان . وقرأ المفضل والبرجمي { ونسقيه } والأناسي جمع إنسي على القياس ككرسي وكراسي ، أو إنسان وأصله أناسين كسرحان وسراحين فأبدلت النون ياء وأدغمت . وقدم إحياء الأرض على سقي الأنعام والأناسي لأن حياتها سبب لحياتهما ، وتخصيص الأنعام من الحيوان الشارب لأن عامة منافع الأناسي متعلقة بها فكأن الإنعام عليها بسقي الإنعام كالأنعام بسقيهم ، وتنكير الأنعام والأناسي ووصفها بالكثرة لأن أكثر الناس منيخون بالقرب من الأودية والأنهار فيهم غنية عن سقي السماء وأعقابهم وبقاياهم كثير يعيشون بما ينزل الله من رحمته ، وتنكير البلدة لأنه يريد بعض بلاد هؤلاء المتبعدين عن مظان الماء . ولما سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصفه بالطهور إكراماً لهم ، وبيان أن من حقهم أن يؤثروا الطهارة في بواطنهم وظواهرهم لأن الطهورية شرط الإحياء .
{ وَلَقَدْ صرفناه بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ } { ليذكروا } حمزة وعلي يريد ولقد صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب المنزلة على الرسل ، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه فيشكروا { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا } فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الاكتراث لها . أو صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وجود ورذاذ وديمة ، فأبوا إلا الكفور وأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكروا صنع الله تعالى ورحمته . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما من عام أقل مطراً من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء وقرأ الآية . وروي أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام لأنه لا يختلف ولكن يختلف فيه البلاد ، وينتزع من هنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسي . ومن نسب الأمطار إلى الأنواء وجحد أن تكون هي والأنواء من خلق الله تعالى كفر ، وإن رأى أن الله تعالى خالقها وقد نصب الأنواء أمارات ودلالات عليها لم يكفر
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
{ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً فَلاَ تُطِعِ الكافرين } أي لو شئنا لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى ، ولبعثنا في كل قرية نبياً ينذرها ، ولكن شئنا أن تجمع لك فضائل جميع المرسلين بالرسالة إلى كافة العالمين فقصرنا الأمر عليك وعظمناك به فتكون وحدك ككلهم ، ولذا خوطب بالجمع { يا أيها الرسل } فقابل ذلك بالشكر والصبر والتشدد ، فلا تطع الكافرين فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم ، وكما آثرتك على جميع الأنبياء فآثر رضائي على جميع الأهواء ، وأريد بهذا تهييجه وتهييج المؤمنين وتحريكهم { وجاهدهم بِهِ } أي بالله يعني بعونه وتوفيقه أو بالقرآن أي جادلهم به وقرعهم بالعجز عنه { جِهَاداً كَبيراً } عظيماً موقعه عند الله لما يحتمل فيه من المشاق ، ويجوز أن يرجع الضمير في { به } إلى ما دل عليه { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً } من كونه نذير كافة القرى لأنه لو بعث في كل قرية نذيراً لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول الله تلك المجاهدات فكبر جهاده من أجل ذلك وعظم فقال له : وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهاداً كبيراً جامعاً لكل مجاهدة .
{ وَهُوَ الذى مَرَجَ البحرين } خلاّهما متجاورين متلاصقين . تقول : مرجت الدابة إذا خليتها ترعى ، وسمى الماءين الكثيرين الواسعين بحرين { هذا } أي أحدهما { عَذْبٌ فُرَاتٌ } صفة ل { عذب } أي شديد العذوبة حتى يقرب إلى الحلاوة { وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } صفة ل { ملح } أي شديد الملوحة { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } حائلاً من قدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج فهما في الظاهر مختلطان وفي الحقيقة منفصلان { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } وستراً ممنوعاً عن الأعين كقوله { حجاباً مستورا } [ الإسراء : 45 ] }
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
{ وَهُوَ الذى خَلَقَ مِنَ الماء } أي النطفة { بَشَرًا } إنساناً { فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } أراد تقسيم البشر قسمين : ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم فيقال فلان بن فلان وفلانة بنت فلان ، وذوات صهر أي إناثاً يصاهر بهن كقوله تعالى { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ] { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } حيث خلق من النطفة الواحدة بشراً نوعين ذكراً وأنثى . وقيل : فجعله نسباً أي قرابة وصهراً مصاهرة يعني الوصلة بالنكاح من باب الأنساب لأن التواصل يقع بها وبالمصاهرة لأن التوالد يكون بهما { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ } إن عبدوه { وَلاَ يَضُرُّهُمْ } إن تركوه { وَكَانَ الكافر على رَبّهِ } على معصية ربه { ظَهِيرًا } معيناً ومظاهراً . وفعيل بمعنى مفاعل غير عزيز والظهير والمظاهر كالعوين والمعاون والمظاهرة المعاونة ، والمعنى أن الكافر بعبادة الصنم يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الرحمن .
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا } للمؤمنين { وَنَذِيرًا } منذراً للكافرين
{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } على التبليغ { مِنْ أَجْرٍ } جعل { إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } والمراد إلا فعل من شاء واستثناؤه من الأجر قول ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه ، فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب ولكن صورة بصورة الثواب كأنه يقول : إن حفظت مالك اعتدّ حفظك بمنزلة الثواب لي ورضائي به كرضا المثاب بالثواب ، ولعمري إنه عليه الصلاة والسلام مع أمته بهذا الصدد . ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلاً تقربهم إليه بالإيمان والطاعة أو بالصدقة والنفقة . وقيل : المراد لكن من شاء أن يتخذ بالإنفاق إلى رضاء ربه سبيلاً فليفعل . وقيل : تقديره لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجراً إلا اتخاذ المدعو سبيلاً إلى ربه بطاعته فذلك أجري لأن الله يأجرني عليه .
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الحى الذى لاَ يَمُوتُ } اتخذ من لا يموت وكيلاً لا يكلك إلى من يموت ذليلاً يعني ثق به وأسند أمرك إليه في استكفاء شرورهم ولا تتكل على حي يموت . وقرأها بعض الصالحين فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق والتوكل الاعتماد عليه في كل أمر { وَسَبّحْ } من لا يكل إلى غيره من توكل عليه { بِحَمْدِهِ } بتوفيقه الذي يوجب الحمد أو قل سبحان الله وبحمده أو نزهه عن كل العيوب بالثناء عليه { وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } أي كفى الله خبيراً بذنوب عباده يعني أنه خبير بأحوالهم كافً في جزاء أعمالهم { الذى خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي في مدة مقدار هذه المدة لأنه لم يكن حينئذ ليل ونهار . روي عن مجاهد : أو لها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة ، وإنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة تعليماً لخلقه الرفق والتثبت { ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن } أي هو الرحمن ف { الرحمن } خبر مبتدأ محذوف أو بدل من الضمير في { استوى } أو { الذي خلق } مبتدأ و { الرحمن } خبره { فسئل } بلا همزة مكي وعلي { بِهِ } صلة «سل» كقوله { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [ المعارج : 1 ] كما تكون «عن» صلته في قوله تعالى { ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } [ التكاثر : 8 ] فسأل به كقولك اهتم به واشتغل به وسأل عنه كقولك بحث عنه وفتش عنه أو صلة { خَبِيراً } ويكون { خبيراً } مفعول { سل } أي فاسأل عنه رجلاً عارفاً يخبرك برحمته ، أو فاسأل رجلاً خبيراً به وبرحمته ، أو الرحمن اسم من أسماء الله تعالى مذكور في الكتب المتقدمة ولم يكونوا يعرفونه فقيل : فاسأل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتب حتى تعرف من ينكره ، ومن ثم كانوا يقولون ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة يعنون مسيلمة وكان يقال له رحمان اليمامة .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي إذا قال محمد عليه الصلاة والسلام للمشركين { اسجدوا للرحمن } صلوا لله واخضعوا له { قَالُواْ وَمَا الرحمن } أي لا نعرف الرحمن فنسجد له ، فهذا سؤال عن المسمى به لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم والسؤال عن المجهول ب «ما» أو «عن» معناه لأنه لم يكن مستعملاً في كلامهم كما استعمل الرحيم والراحم والرحوم { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } للذي تأمرنا بالسجود له أو لأمرك بالسجود يا محمد من غير علم منا به . { يأمرنا } علي وحمزة كأن بعضهم قال لبعض : أنسجد لما يأمرنا محمد أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو؟ فقد عاندوا لأن معناه عند أهل اللغة ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة لأن فعلان من أبنية المبالغة تقول : رجل عطشان إذا كان في نهاية العطش { وَزَادَهُمْ } قوله { اسجدوا للرحمن } { نُفُورًا } تباعداً عن الإيمان { تَبَارَكَ الذى جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً } هي منازل الكواكب السيارة لكل كوكب بيتان يقوي حاله فيهما . وللشمس بيت وللقمر بيت . فالحمل والعقرب بيتا المريخ ، والثور والميزان بيتا الزهرة ، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد ، والسرطان بيت القمر ، والأسد بيت الشمس ، والقوس والحوت بيتا المشتري ، والجدي والدلو بيتا زحل . وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع فيصيب كل واحد منها ثلاثة بروج : فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية . سميت المنازل بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها واشتقاق البروج من التبرج لظهوره . وقال الحسن وقتادة ومجاهد : البروج هي النجوم الكبار لظهورها { وَجَعَلَ فِيهَا } في السماء { سِرَاجاً } يعني الشمس لتوقدها . { سرجا } حمزة وعلى أي نجوماً { وَقَمَراً مُّنِيراً } مضيئاً بالليل .
{ وَهُوَ الذى جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً } فعلة من خلف كالركبة من ركب وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر ، والمعنى جعلهما ذوي خلفة يخلف أحدهما الآخر عند مضيه أو يخلفه في قضاء ما فاته من الورد { لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } يتدبر في تسخيرهما واختلافهما فيعرف مدبرهما . { يذكر } حمزة وخلف أي يذكر الله أو المنسي فيقضي { أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } أي يشكر نعمة ربه عليه فيهما .
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
{ وعباد الرّحمن } مبتدأ خبره { الذين يمشون } أو أولئك يجزون { والذين يمشون } وما بعدهما صفة والإضافة إلى الرحمن للتخصيص والتفضيل . وصف أولياءه بعدما وصف أعداءه { على الأرض هوناً } حال أو صفة للمشي أي هينين أو مشياً هيناً . والهون الرفق واللين أي يمشون بسكينة ووقار وتواضع دون مرح واختيال وتكبر فلا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً ولذا كره بعض العلماء الركوب في الأسواق ولقوله : { ويمشون في الأسواق } { وإذا خاطبهم الجاهلون } أي السفهاء بما يكرهون { قالوا سلاماً } سداداً من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإفك أو تسلماً منكم نتارككم ولا نجاهلكم فأقيم السلام مقام التسلم . وقيل : نسختها آية القتال . ولا حاجة إلى ذلك فالإغضاء عن السفهاء مستحسن شرعاً ومروءة . هذا وصف نهارهم ثم وصف ليلهم بقوله { والذين يبيتون لربّهم سجّداً } جمع ساجد { وقياماً } جمع قائم والبيتوتة خلاف الظلول وهي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم . وقالوا : من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجداً وقائماً . وقيل : هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء . والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره { والذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّمّ إنّ عذابها كان غراماً } هلاكاً لازماً ومنه الغريم لملازمته . وصفهم بإحياء الليل ساجدين قائمين ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون متضرعون إلى الله في صرف العذاب عنهم
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
{ إنّها ساءت مستقرًّا ومقاماً } أي إن جهنم . و «ساءت» في حكم «بئست» وفيها ضمير مبهم يفسره { مستقراً } والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقراً ومقاماً هي ، وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم «إن» وجعلها خبراً لها ، أو بمعنى أحزنت وفيها ضمير اسم «إن» و { مستقراً } حال أو تمييز ، ويصح أن يكون التعليلان متداخلين ومترادفن وأن يكونا من كلام الله تعالى وحكاية لقولهم .
{ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا } لم يجاوزوا الحد في النفقة أو لم يأكلوا للتنعم ولم يلبسوا للتصلف . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لم ينفقوا في المعاصي فالإسراف مجاوزة القدر . وسمع رجل رجلاً يقول : لا خير في الإسراف . فقال : لا إسراف في الخير ، وقال عليه الصلاة والسلام " من منع حقاً فقد قتر ومن أعطى في غير حق فقد أسرف " { ولم يقتروا } بضم التاء كوفي ، وبضم الياء وكسر التاء مدني وشامي ، وبفتح الياء وكسر التاء مكي وبصري . والقتر والإقتار والتقتير والتضييق الذي هو نقيض الإسراف { وكان } إنفاقهم { بين ذلك } أي الإسراف والإقتار { قواماً } أي عدلاً بينهما فالقوام العدل بين الشيئين والمنصوبان أي { بين ذلك قواماً } [ الإسراء : 29 ] خبران وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير ، وبمثله أمر عليه الصلاة والسلام { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } الآية . وسأل عبد الملك بن مروان عمر بن عبد العزيز عن نفقته حين زوجه ابنته فقال : الحسنة بين السيئتين . فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية . وقيل : أولئك أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثيابهم للجمال والزينة ولكن لسد الجوعة وستر العورة ودفع الحر والقر . وقال عمر رضي الله عنه : كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا أكله .
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
{ والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } أي لا يشركون { ولا يقتلون النّفس التي حرّم الله } أي حرمها يعني حرم قتلها { إلاّ بالحقّ } بقود أو رجم أو ردة أو شرك أو سعي في الأرض بالفساد ، وهو متعلق بالقتل المحذوف أو ب { لا يقتلون } { ولا يزّنون } ونفى هذه الكبائر عن عباده الصالحين تعريض لما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم كأنه قيل : والذي طهرهم الله مما أنتم عليه { ومن يفعل ذلك } أي المذكور { يلق أثاماً } جزاء الإثم { يضاعف } بدل من يلق لأنهما في معنى واحد إذ مضاعفة العذاب هي لقاء الآثام كقوله
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا
فجزم «تلمم» لأنه بمعنى «تأتنا» إذ الإتيان هو الإلمام . { يضعّف } مكي ويزيد ويعقوب . { يضعّف } شامي { يضاعف } أبو بكر على الاستئناف أو على الحال ومعنى يضاعف { له العذاب يوم القيامة } أي يعذب على مرور الأيام في الآخرة عذاباً على عذاب . وقيل : إذا ارتكب المشرك معاصي مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعاً فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه { ويخلد } جزمه جازم { يضاعف } ورفعه رافعه لأنه معطوف عليه { فيه } في العذاب { فيهي } مكي وحفص بالإشباع . وإنما خص حفص الإشباع بهذه الكلمة مبالغة في الوعيد . والعرب تمد للمبالغة مع أن الأصل في هاء الكناية الإشباع { مهاناً } حال أي ذليلاً { إلاّ من تاب } عن الشرك وهو استثناء من الجنس في موضع النصب { وآمن } بمحمد عليه الصلاة والسلام { وعمل عملاً صالحاً } بعد توبته { فأولئك يبدّل الله سيّئاتهم حسناتٍ } أي يوفقهم للمحاسن بعد القبائح أو يمحوها بالتوبة ويثبت مكانها الحسنات الإيمان والطاعة ، ولم يرد به أن السيئة بعينها حسنة ولكن المراد ما ذكرنا . { يبدل } مخففاً البرجمي { وكان الله غفوراً } يكفر السيئات { رّحيماً } يبدلها بالحسنات .
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
{ ومن تاب وعمل صالحاً فإنّه يتوب إلى الله متاباً } أي ومن تاب وحقق التوبة بالعمل الصالح فإنه يتوب بذلك إلى الله تعالى متاباً مرضياً عنده مكفراً للخطايا محصلاً للثواب { والذين لا يشهدون الزّور } أي الكذب يعني ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين فلا يقربونها تنزهاً عن مخالطة الشر وأهله إذ مشاهدة الباطل شركة فيه ، وكذلك النظارة إلى ما لم تسوغه الشريعة هم شركاء فاعليه في الآثام لأن حضورهم ونظرهم دليل على الرضا . وسبب وجود الزيادة فيه وفي مواعظ عيسى عليه السلام : إياكم ومجالسة الخاطئين . أو لا يشهدون شهادة الزور على حذف المضاف . وعن قتادة : المراد مجالس الباطل . وعن ابن الحنفية : لا يشهدون اللهو والغناء . { وإذا مرّوا باللّغو } بالفحش وكل ما ينبغي أن يلغى ويطرح ، والمعنى وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به { مرّوا كراماً } معرضين أنفسهم عن التلوث به كقوله . { وإذا سمعوا اللَّغْوَ أعرضوا عنه } [ القصص : 55 ] وعن الباقر رضي الله عنه : إذا ذكروا الفروج كنوا عنها { والذين إذا ذكّروا بأيات ربّهم } أي قرىء عليهم القرآن أو وعظوا بالقرآن { لم يخرّوا عليها صمًّا وعمياناً } هذا ليس بنفي الخرور بل هو إثباب له ونفي الصمم والعمى ونحوه «لا يلقاني زيد مسلماً» هو نفي للسلام لا للقاء يعني أنهم إذا ذكروا بها خروا سجداً وبكياً سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون واعية لما أمروا ونهوا عنه لا كالمنافقين وأشباههم دليله قوله تعالى : { وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً }
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
{ والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا } «من» للبيان كأنه قيل : هب لنا قرة أعين . ثم بينت القرة وفسرت بقوله من أزواجنا { وذرّيّاتنا } ومعناه أن يجعلهم الله لهم قرة أعين وهو من قولهم «رأيت منك أسداً» أي أنت أسد ، أو للابتداء على معنى هب لنا من جهتهم ما تقربه عيوننا من طاعة وصلاح { وذريتنا } أبو عمر وكوفي غير حفص لإرادة الجنس وغيرهم { ذرياتنا } { قرّة أعينٍ } وإنما نكر لأجل تنكير القرة لأن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه كأنه قال : هب لنا منهم سروراً وفرحاً . وإنما قيل { أعين } على القلة دون «عيون» لأن المراد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قال الله تعالى : { وقليل من عبادى الشكور } [ سبأ : 13 ] ويجوز أن يقال في تنكير { أعين } إنها أعين خاصة وهي أعين المتقين ، والمعنى أنهم سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجاً وأعقاباً عمالاً لله تعالى يسرون بمكانهم وتقر بهم عيونهم . وقيل : ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله تعالى . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو الولد إذا رآه يكتب الفقه { واجعلنا للمتّقين إماماً } أي أئمة يقتدون بنا في الدين فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ولعدم اللبس ، أو واجعل كل واحد منا إماماً . قيل : في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها .
{ أولئك يجزون الغرفة } أي الغرفات وهي العلالي في الجنة فوحد اقتصاراً على الواحد الدال على الجنس دليله قوله : { وهم في الغرفات آمنون } [ سبأ : 37 ] { بما صبروا } أي بصبرهم على الطاعات وعن الشهوات وعلى أذى الكفار ومجاهدتهم وعلى الفقر وغير ذلك { ويلقّون فيها } { ويلقون } كوفي غير حفص { تحيّةً } دعاء بالتعمير { وسلاماً } ودعاء بالسلامة يعني أن الملائكة يحيونهم ويسلمون عليهم أو يحيي بعضهم بعضاً ويسلم عليه
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
{ خالدين فيها } حال { حسنت } أي الغرفة { مستقرّا ومقاماً } موضع قرار وإقامة وهي في مقابلة { ساءت مستقرا ومقاما } { قل ما يعبأ بكم ربّي لولا دعاؤكم } «ما» متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب ومعناه ما يصنع بكم ربي لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام أو لولا عبادتكم له أي أنه خلقكم لعبادته كقوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] أي الاعتبار عند ربكم لعبادتكم . أو ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة ، وهو كقوله تعالى : { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم } [ النساء : 147 ] فقد كذّبتم } رسولي يا أهل مكة { فسوف يكون } العذاب { لزاماً } أي ذا لزام أو ملازماً وضع مصدر لازم موضع اسم الفاعل ، وقال الضحاك : ما يعبأ ما يبالي بمغفرتكم لولا دعاؤكم معه إلهاً آخر .
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
وهي مائتان وعشرون وسبع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ طاسام } طس ويس وحم ممالة كوفي غير الأعشى والبرجمي وحفص ، ويظهر النون عند الميم يزيد وحمزة . وغيرهما يدغمها { تلك آيات الكتاب المبين } الظاهر إعجازه ، وصحة أنه من عند الله والمراد به السورة أو القرآن ، والمعنى آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين { لعلّك باخعٌ } قاتل و «لعل» للإشفاق { نّفسك } من الحزن يعني أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة وحزناً على ما فاتك من إسلام قومك { ألاّ يكونوا مؤمنين } لئلا يؤمنوا أو لامتناع إيمانهم أو خيفة أن لا يؤمنوا { إن نّشأ } إيمانهم { ننزّل عليهم مّن السّماء آيةً } دلالة واضحة { فظلّت } أي فتظل لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي في معنى المستقبل تقول : إن زرتني أكرمتك أي أكرمك كذا قاله الزجاج { أعناقهم } رؤساؤهم ومقدموهم أو جماعاتهم يقال : جاءنا عنق من الناس لفوج منهم { لها خاضعين } منقادين . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت فينا وفي بني أمية فتكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزتهم
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
{ وما يأتيهم مّن ذكرٍ مّن الرّحمن محدثٍ ألاّ كانوا عنه معرضين } أي وما يجدد لهم الله بوحيه موعظة وتذكيراً إلا جددوا إعراضاً عنه وكفراً به { فقد كذّبوا } محمداً صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به { فسيأتيهم } فسيعلمون { أنباؤا } أخبار { ما كانوا به يستهزؤون } وهذا وعيد لهم وإنذار بأنهم سيعلمون إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة ما الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو القرآن وسيأتيهم أنباؤه وأحواله التي كانت خافية عليهم .
{ أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا } { كم } نصب ب { أنبتنا } { فيها من كلّ زوجٍ } صنف من النبات { كريمٍ } محمود كثير المنفعة يأكل منه الناس والأنعام كالرجل الكريم الذي نفعه عام . وفائدة الجمع بين كلمتي الكثرة والإحاطة أن كلمة { كل } تدل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل و { كم } تدل على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة ، وبه نبه على كمال قدرته { إنّ في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مّؤمنين } أي إن في إنبات تلك الأصناف لآية على أن مبنتها قادر على إحياء الموتى ، وقد علم الله أن أكثرهم مطبوع على قلوبهم غير مرجى إيمانهم { وإنّ ربّك لهو العزيز } في انتقامه من الكفرة { الرّحيم } لمن آمن منهم ووحد آية مع الإخبار بكثرتها لأن ذلك مشار به إلى مصدر أنبتنا ، أو المراد إن في كل واحد من تلك الأزواج لآية أي آية .
{ وإذ } مفعول به أي اذكر إذ { نادى } دعا { ربّك موسى أن ائت } إن بمعنى أي { القوم الظّالمين } أنفسهم بالكفر وبني إسرائيل بالاستعباد وذبح الأولاد سجل عليهم بالظلم ، ثم عطف
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
{ قوم فرعون } عليهم عطف البيان كأن معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون وكأنهما عبارتان تعتقبان على مؤدى واحد { ألا يتّقون } أي ائتهم زاجراً فقد آن لهم أن يتقوا ، وهي كلمة حث وإغراء . ويحتمل أنه حال من الضمير في { الظالمين } أي يظلمون غير متقين الله وعقابه فأدخلت همزة الإنكار على الحال .
{ قال ربّ إنّي أخاف } الخوف غم يلحق الإنسان لأمر سيقع { أن يكذّبون ويضيق صدري } بتكذيبهم إياي مستأنف أو عطف على أخاف { ولا ينطلق لساني } بأن تغلبني الحمية على ما أرى من المحال وأسمع من الجدال وبنصبهما يعقوب عطفاً على { يكذبون } فالخوف متعلق بهذه الثلاثة على هذا التقدير وبالتكذيب وحده بتقدير الرفع { فأرسل إلى هارون } أي أرسل إليه جبريل واجعله نبياً يعينني على الرسالة ، وكان هارون بمصر حين بعث موسى نبياً بالشام . ولم يكن هذا الالتماس من موسى عليه السلام توقفاً في الامتثال بل التماس عون في تبليغ الرسالة ، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر ليس بتوقف في امتثال الأمر ، وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل لا على التعلل { ولهم عليّ ذنبٌ } أي تبعة ذنب بقتل القبطي فحذف المضاف ، أو سمى تبعة الذنب ذنباً كما سمى جزاء السيئة سيئة { فأخاف أن يقتلون } أي يقتلوني به قصاصاً ، وليس هذا تعللاً أيضاً بل استدفاع للبلية المتوقعة ، وفرق من أن يقتل قبل أداء الرسالة ولذا وعده بالكلاءة والدفع بكلمة الردع .
وجمع له الاستجابتين معاً في قوله { قال كلاّ فاذهبا } لأنه استدفعه بلاءهم فوعده الله الدفع بردعه عن الخوف والتمس منه رسالة أخيه فأجابه بقوله { اذهبا } أي جعلته رسولاً معك فاذهبا . وعطف { فاذهبا } على الفعل الذي يدل عليه { كلا } كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهارون { بأياتنا } مع آياتنا وهي اليد والعصا وغير ذلك { إنّا معكم } أي معكما بالعون والنصرة ومع من أرسلتما إليه بالعلم والقدرة { مّستمعون } خبر ل «إن» و { معكم } لغو ، أو هما خبران أي سامعون ، والاستماع في غير هذا الإصغاء للسماع يقال : استمع فلان إلى حديثه أي أصغى إليه ولا يجوز حمله ههنا على ذلك فحمل على السماع
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
{ فأتيا فرعون فقولا إنّا رسول ربّ العالمين } لم يثن الرسول كما ثنى في قوله { إنا رسولا ربك } [ طه : 47 ] لأن الرسول يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة فجعل ثمة بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته ، وجعل هنا بمعنى الرسالة فيستوي في الوصف به الواحد والتثنية والجمع ، أو لأنهما لاتحادهما واتفاقهما على شريعة واحدة كأنهما رسول واحد ، أو أريد إن كل واحد منا { أن أرسل } بمعنى أي أرسل لتضمن الرسول معنى الإرسال وفيه معنى القول { معنا بني إسرائيل } يريد خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين وكانت مسكنهما فأتيا بابه فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب : إن ههنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين فقال : ائذن له لعلنا نضحك منه . فأديا إليه الرسالة فعرف فرعون موسى فعند ذلك .
{ قال ألم نربّك فينا وليداً } وإنما حذف فأتيا فرعون فقال اختصاراً . والوليد الصبي لقرب عهده من الولادة أي ألم تكن صغيراً فربيناك { ولبثت فينا من عمرك سنين } قيل : ثلاثين سنة { وفعلت فعلتك التي فعلت } يعني قتل القبطي فعرض إذ كان ملكاً { وأنت من الكافرين } بنعمتي حيث قتلت خبازي أو كنت على ديننا الذي تسميه كفراً ، وهذا افتراء منه عليه لأنه معصوم من الكفر وكان يعايشهم بالتقية { قال فعلتها إذاً } أي إذ ذاك { وأنا من الضّالّين } الجاهلين بأنها تبلغ القتل والضال عن الشيء هو الذاهب عن معرفته ، أو الناسين من قوله { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } [ البقرة : 282 ] فدفع وصف الكفر عن نفسه ووضع { الضالين } موضع الكافرين و { إذا } جواب وجزاء معاً ، وهذا الكلام وقع جواباً لفرعون وجزاء له لأن قول فرعون و { فعلت فعلتك } معناه أنك جازيت نعمتي بما فعلت فقال له موسى : نعم فعلتها مجازياً لك تسليماً لقوله لأن نعمته كانت جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
{ ففررت منكم } إلى مدين { لمّا خفتكم } أن تقتلوني وذلك حين قال له مؤمن من آل فرعون { إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج } [ القصص : 20 ] الآية . { فوهب لي ربّي حكماً } نبوة وعلماً فزال عني الجهل والضلالة { وجعلني من المرسلين } من جملة رسله { وتلك نعمةٌ تمنّها عليّ أن عبّدتّ بني إسرائيل } كر على امتنانه عليه بالتربية فأبطله من أصله وأبى أن تسمى نعمة لأنها نقمة حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بني إسرائيل لأن تعبيدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته ، ولو تركهم لرباه أبواه فكأن فرعون امتن على موسى بتعبيد قومه وإخراجه من حجر أبويه إذا حققت وتعبيدهم تذليلهم واتخاذهم عبيداً . ووحد الضمير في { تمنها } و { عبدت } وجمع في { منكم } و { خفتكم } لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله بدليل قوله { إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك } [ القصص : 20 ] . وأما الامتنان فمنه وحده وكذا التعبيد . وتلك { إشارة } إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدري ما هي إلا بتفسيرها ، ومحل { أن عبدت } الرفع عطف بيان لتلك أي تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي .
{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين } أي إنك تدعي أنك رسول رب العالمين فما صفته لأنك إذا أردت السؤال عن صفة زيد تقول : ما زيد؟ تعني أطويل أم قصير أفقيه أم طبيب نص عليه صاحب الكشاف وغيره { قَالَ } موسى مجيباً له على وفق سؤاله { رَبّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ } أي وما بين الجنسين { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } أي إن كنتم تعرفون الأشياء بالدليل فكفى خلق هذه الأشياء دليلاً ، أو إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب وإلا لم ينفع . والإيقان العلم الذي يستفاد بالاستدلال ولذا لا يقال الله موقن
{ قَالَ } أي فرعون { لِمَنْ حَوْلَهُ } من أشراف قومه وهم خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت للملوك خاصة { أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } معجباً قومه من جوابه لأنهم يزعمون قدمهما وينكرون حدوثهما وأن لهما رباً فاحتاج موسى إلى أن يستدل بما شاهدوا حدوثه وفناءه فاستدل حيث { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين } أي هو خالقكم وخالق آبائكم فإن لم تستدلوا بغيركم فبأنفسكم . وإنما قال { رَبّ ءابَائِكُمُ } لأن فرعون كان يدعي الربوبية على أهل عصره دون من تقدمهم .
{ قَالَ } أي فرعون { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } حيث يزعم أن في الوجود إلهاً غيري وكان فرعون ينكر إلهية غيره { قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } فتستدلون بما أقول فتعرفون ربكم ، وهذا غاية الإرشاد حيث عمم أولاً بخلق السماوات والأرض وما بينهما ، ثم خصص من العام للبيان أنفسهم وآباءهم لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد من أحواله من وقت ميلاده إلى وقت وفاته ، ثم خصص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستوٍ من أظهر ما استدل به ، ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الرحمن عن الاحتجاج بالأحياء والإماتة على نمروذ بن كنعان .
وقيل : سأله فرعون عن الماهية جاهلاً عن حقيقة سؤاله ، فلما أجاب موسى بحقيقة الجواب وقع عنده أن موسى حاد عن الجواب حيث سأله عن الماهية وهو يجيب عن ربوبيته وآثار صنعه فقال معجباً لهم من جواب موسى : ألا تستمعون؟ فعاد موسى إلى مثل قوله الأول فجننه فرعون زاعماً أنه حائد عن الجواب ، فعاد ثالثاً إلى مثل كلامه الأول مبيناً أن الفرد الحقيقي إنما يعرف بالصفات وأن السؤال عن الماهية محال وإليه الإشارة في قوله تعالى { إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } أي إن كان لكم عقل علمكم أنه لا تمكن معرفته إلا بهذا الطريق ، فلما تجير فرعون ولم يتهيأ له أن يدفع ظهور آثار صنعه .
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
{ قَالَ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى } أي غيري إلهاً { لأجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } أي لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني ، وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فرداً لا يبصر فيها ولا يسمع ، فكان ذلك أشد من القتل . ولو قيل لأسجننك لم يؤد هذا المعنى وإن كان أخصر { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ } الواو للحال دخلت عليها همزة الاستفهام أي أتفعل بي ذلك ولو جئتك { بِشَىء مُّبِينٍ } أي جائياً بالمعجزة { قَالَ فَأْتِ بِهِ } بالذي يبين صدقك { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أن لك بينة وجواب الشرط مقدر أي فأحضره { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } ظاهر الثعبانية لا شيء يشبه الثعبان كما تكون الأشياء المزورة بالشعوذة والسحر . روي أن العصا ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون وجعلت تقول : يا موسى مرني بما شئت . ويقول فرعون : أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها ، فأخذها فعادت عصا . { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين } فيه دليل على أن بياضها كان شيئاً يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة وكان بياضها نورياً . روي أن فرعون لما أبصر الآية الأولى قال : فهل غيرها فأخرج يده فقال لفرعون ما هذه؟ قال فرعون : يدك ، فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق { قَالَ } أي فرعون { لِلْمَلإِ حَوْلَهُ } هو منصوب نصبين نصب في اللفظ والعامل فيه ما يقدر في الظرف ، ونصب في المحل وهو النصب على الحال من الملأ أي كائنين حوله والعامل فيه قال { إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ } بالسحر . ثم أغوى قومه على موسى بقوله
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
{ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا } منصوب لأنه مفعول به من قولك أمرتك الخير { تَأْمُرُونَ } تشيرون في أمره من حبس أو قتل من المؤامرة وهي المشاورة ، أو من الأمر الذي هو ضد النهي .
لما تحير فرعون برؤية الآيتين وزال عنه ذكر دعوى الالهية وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وارتعدت فرائصه خوفاً طفق يؤامر قومه الذي هم بزعمه عبيده وهو إلههم ، أو جعلهم آمرين ونفسه مأموراً { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } أخر أمرهما ولا تباغت قتلهما خوفاً من الفتنة { وابعث فِى المدائن حاشرين } شرطاً يحشرون السحرة وعارضوا قول فرعون { إن هذا لساحر عليم } بقولهم
{ يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } فجاءوا بكلمة الإحاطة وصيغة المبالغة ليسكنوا بعض قلقه { فَجُمِعَ السحرة لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } أي يوم الزينة وميقاته وقت الضحى لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى عليه السلام من يوم الزينة في قوله تعالى : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } [ طه : 59 ] والميقات ما وقت به أي حدد من زمان أو مكان ومنه مواقيت الإحرام { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ } أي اجتمعوا وهو استبطاء لهم في الاجتماع والمراد منه استعجالهم { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة } في دينهم { إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين } أي غلبوا موسى في دينه وليس غرضهم اتباع السحرة وإنما الغرض الكلي أن لا يتبعوا موسى فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى .
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
{ فَلَمَّا جَاء السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ } وبكسر العين : علي ، وهما لغتان { وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين } أي قال فرعون نعم لكم أجر عندي وتكونون مع ذلك من المقربين عندي في المرتبة والجاه فتكونون أول من يدخل علي وآخر من يخرج . ولما كان قولهم : { أئن لنا لأجراً } في معنى جزاء الشرط لدلالته عليه وكان قوله : { وإنكم إذا لمن المقربين } معطوفاً عليه دخلت { إذا } قارة في مكانها الذي تقضيه من الجواب والجزاء { قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ } من السحر فسوف ترون عاقبته { فَأَلْقَوْاْ حبالهم } سبعين ألف حبل { وَعِصِيَّهُمْ } سبعين ألف عصا . وقيل : كانت الحبال اثنين وسبعين ألفاً وكذا العصي { وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } أقسموا بعزته وقوته وهو من أيمان الجاهلية { فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ } تبتلع { مَا يَأْفِكُونَ } ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم ويزوّرونه ويخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حياة تسعى { فَأُلْقِىَ السحرة ساجدين } عبر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة لأنه ذكر مع الإلقاءات ولأنهم لسرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقوا { قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين } عن عكرمة رضي الله عنه : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء
{ رَبّ موسى وهارون } عطف بيان ل { رب العالمين } لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا أن يعزلوه . وقيل؛ إن فرعون لما سمع منهم { آمنا برب العالمين } قال : إياي عنيتم؟ قالوا : { رب موسى وهارون } .
{ قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } بذلك { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذى عَلَّمَكُمُ السحر } وقد تواطأتم على أمر ومكر { فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وبال ما فعلتم . ثم صرح فقال { لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } من أجل خلاف ظهر منكم { وَلأصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } كأنه أراد به ترهيب العامة لئلا يتبعوهم في الإيمان
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)
{ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ } لا ضرر وخبر «لا» محذوف أي في ذلك أو علينا { إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خطايانا أَن كُنَّا } لأن كنا { أَوَّلُ المؤمنين } من أهل المشهد أو من رعية فرعون . أراد وإلا ضرر علينا في ذلك بل لنا أعظم النفع لما يحصل لنا في الصبر عليه لوجه الله من تكفير الخطايا ، أو لا ضير علينا فيما تتوعدنا به إنه لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بسبب من أسباب الموت ، والقتل أهون أسبابه وأرجاها ، أو لا ضير علينا في قتلك إنك إن قتلتنا انقلبنا إلى ربنا إنقلاب من يطمع في مغفرته ويرجو رحمته لما رزقنا من السبق إلى الإيمان { وَأَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ } وبوصل الهمزة : حجازي { بِعِبَادِى } بني إسرائيل سماهم عباده لإيمانهم بنبيه أي سر بهم ليلاً وهذا بعد سنين من إيمان السحرة { إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ } يتبعكم فرعون وقومه علل الأمر بالإسراء باتباع فرعون وجنوده آثارهم يعني إني بنيت تدبير أمركم وأمرهم على أن تتقدموا ويتبعوكم حتى يدخلوا مدخلكم من طريق البحر فأهلكهم . وروي أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه . وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن اجمع بني إسرائيل كل أربعة أبيات في بيت ثم اذبح الجداء واضربوا بدمائها على أبوابكم فإني سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم وسآمرهم بقتل أبكار القبط ، واخبزوا خبزاً فطيراً فإنه أسرع لكم ، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري .
{ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى المدائن حاشرين } أي جامعين للناس بعنف ، فلما اجتمعوا قال :
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
{ إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } والشرذمة الطائفة القليلة ذكرهم بالاسم الدال على القلة ، ثم جعلهم قليلاً بالوصف ، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً . واختار جمع السلامة الذي هو للقلة أو أراد بالقلة الذلة لا قلة العدد أي أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا تتوقع غلبتهم . وإنما استقل قوم موسى وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً لكثرة من معه . فعن الضحاك : كانوا سبعة الآف ألف { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } أي أنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا وهي خروجهم من مصرنا وحملهم حلينا وقتلهم أبكارنا { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون } شامي وكوفي وغيرهم { حذرون } فالحذر المتيقظ والحاذر الذي يجدد حذره . وقيل : المؤدي في السلاح وإنما يفعل ذلك حذراً واحتياطاً لنفسه يعني ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور ، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده ، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن به العجز والفتور .
{ فأخرجناهم مّن جنات } بساتين { وَعُيُونٍ } وأنهار جارية { وَكُنُوزٍ } وأموال ظاهرة من الذهب والفضة وسماها كنوزاً لأنهم لا ينفقون منها في طاعة الله تعالى { وَمَقَامٍ } ومنزل { كَرِيمٌ } بهي بهيج . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : المنابر { كذلك } يحتمل النصب على { أخرجناهم } مثل ذلك الآخراج الذي وصفنا ، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك { وأورثناها بَنِى إسراءيل } عن الحسن : لما عبروا النهر رجعوا وأخذوا ديارهم وأموالهم { فَأَتْبَعُوهُم } فلحقوهم { فاتبعوهم } يزيد { مُشْرِقِينَ } حال أي داخلين في وقت شروق الشمس وهو طلوعها أدرك قوم فرعون موسى وقومه وقت طلوع الشمس
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
{ فَلَمَّا تَرَاءا الجمعان } أي تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه والمراد بنو إسرائيل والقبط { قَالَ أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } أي قرب أي يلحقنا عدونا وأمامنا البحر { قَالَ } موسى عليه السلام ثقة بوعد الله إياه { كَلاَّ } ارتدعوا عن سوء الظن بالله فلن يدركوكم { إِنَّ مَعِىَ } { مَعِىَ } حفص { رَبّى سَيَهْدِينِ } أي سيهديني طريق النجاة من إدراكهم وإدرارهم { سيهديني } بالياء : يعقوب { فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر } أي القلزم أو النيل { فانفلق } أي فضرب فانفلق وانشق فصار اثني عشر فرقاً على عدد الأسباط { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ } أي جزء تفرق منه { كالطود العظيم } كالجبل المنطاد في السماء { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ } حيث انفلق البحر { الآخرين } قوم فرعون أي قربناهم من بني إسرائيل أو من البحر { وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ } من الغرق { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين } فرعون وقومه ، وفيه إبطال القول بتأثير الكواكب في الآجال وغيرها من الحوادث فإنهم اجتمعوا في الهلاك مع اختلاف طوالعهم . روي أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون فكان يقول لبني إسرائيل : ليلحق آخركم بأولكم . ويستقبل القبط فيقول : رويدكم يلحق آخركم بأولكم . فلما انتهى موسى إلى البحر قال يوشع لموسى : أين أمرت فهذا البحر أمامك وغشيك آل فرعون؟ قال موسى : ههنا . فخاض يوشع الماء وضرب موسى بعصاه البحر فدخلوا . وروي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال عند ذلك : يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما فعلنا بموسى وفرعون { لآيَةً } لعبرة عجيبة لا توصف { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ } أي المغرقين { مُّؤْمِنِينَ } قالوا : لم يؤمن منهم إلا آسية وحزقيل مؤمن آل فرعون ومريم التي دلت موسى على قبر يوسف { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز } بالانتقام من أعدائه { الرحيم } بالإنعام على أوليائه .
{ واتل عَلَيْهِمْ } على مشركي قريش { نَبَأَ إبراهيم } خبره { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ } قوم إبراهيم أو قوم الأب { مَا تَعْبُدُونَ } أي أي شيء تعبدون؟ وإبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة الأصنام ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه ليس بمستحق للعبادة { قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً } وجواب مَا تَعْبُدُونَ أَصْنَاماً ك . { يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ] { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق } [ سبأ : 23 ] لأنه سؤال عن المعبود لا عن العبادة . وإنما زادوا { نعبد } في الجواب افتخاراً ومباهاة بعبادتها ولذا عطفوا على { نعبد } { فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين } فنقيم على عبادتها طول النهار . وإنما قالوا { فنظل } لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل أو معناه الدوام { قَالَ } أي إبراهيم { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ } هل يسمعون دعاءكم على حذف المضاف لدلالة { إِذْ تَدْعُونَ } عليه { أَوْ يَنفَعُونَكُمْ } إن عبدتموها { أَوْ يَضُرُّونَ } إن تركتم عبادتها
{ قَالُواْ بَلْ } إضراب أي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر ولا نعبدها لشيء من ذلك ولكن { وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } فقلدناهم { قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ الأقدمون } الأولون
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
{ فَإِنَّهُمْ } أي الأصنام { عَدُوٌّ لِى } العدو والصديق يجيئان في معنى الوحدة والجماعة يعني لو عبدتهم لكانوا أعداء لي في يوم القيامة كقوله { سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] وقال الفراء : هو من المقلوب أي فإني عدوهم . وفي قوله { عدو لي } دون «لكم» زيادة نصح ليكون أدعى لهم إلى القبول ، ولو قال «فإنهم عدو لكم» لم يكن بتلك المثابة { إِلاَّ رَبَّ العالمين } استثناء منقطع لأنه لم يدخل تحت الأعداء كأنه قال : لكن رب العالمين .
{ الذى خَلَقَنِى } بالتكوين في القرار المكين { فَهُوَ يَهْدِينِ } لمناهج الدنيا ولمصالح الدين والاستقبال في يهديني مع سبق العناية لأنه يحتمل يهديني للأهم الأفضل والأتم الأكمل ، أو الذي خلقني لأسباب خدمته فهو يهديني إلى آداب خلته { والذى هُوَ يُطْعِمُنِى } أضاف الإطعام إلى ولي الإنعام لأن الركون إلى الأسباب عادة الأنعام { وَيَسْقِينِ } قال ابن عطاء : هو الذي يحييني بطعامه ويرويني بشرابه { وَإِذَا مَرِضْتُ } وإنما لم يقل أمرضني لأنه قصد الذكر بلسان الشكر فلم يضف إليه ما يقتضي الضر . قال ابن عطاء : وإذا مرضت برؤية الخلق { فَهُوَ يَشْفِينِ } بمشاهدة الحق . قال الصادق : إذا مرضت برؤية الأفعال فهو يشفين بكشف منة الإفضال { والذى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ } ولم يقل إذا مت لأنه الخروج من حبس البلاء ودار الفناء إلى روض البقاء لوعد اللقاء . وأدخل «ثم» في الإحياء لتراخيه عن الإفناء ، وأدخل الفاء في الهداية والشفاء لأنهما يعقبان الخلق والمرض لامعاً معاً . { والذى أَطْمَعُ } طمع العبيد في الموالي بالإفضال لا على الاستحقاق بالسؤال { أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى } قيل : هو قوله { إِنّى سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [ الأنبياء : 63 ] { هذا رَبّى } [ الأنعام : 67 ] للبازغ هي أختي لسارة ، وما هي إلا معاريض جائزة وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار ، واستغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم وتعليم للأمم في طلب المغفرة ، { يَوْمَ الدين } يوم الجزاء .
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
{ رَبّ هَبْ لِى حُكْماً } حكمة أو حكماً بين الناس بالحق أو نبوة لأن النبي عليه السلام ذو حكمة وذو حكم بين عباد الله { وَأَلْحِقْنِى بالصالحين } أي الأنبياء ولقد أجابه حيث قال { وَإِنَّهُ فِى الآخرة لَمِنَ الصالحين } [ البقرة : 30 ] { واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الآخرين } أي ثناء حسناً وذكراً جميلاً في الأمم التي تجيء بعدي فأعطي ذلك فكل أهل دين يتولونه ويثنون عليه ، ووضع اللسان موضع القول لأن القول يكون به .
{ واجعلنى مِن } يتعلق بمحذوف أي وارثاً من { وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم } أي من الباقين فيها { واغفر لأبِى } اجعله أهل المغفرة بإعطاء الإسلام وكان وعده الإسلام يوم فارقه { إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين } الكافرين { وَلاَ تُخْزِنِى } الإخزاء من الخزي وهو الهوان أو من الخزاية وهو الحياء وهذا نحو الاستغفار كما بينا { يَوْمِ يُبْعَثُونَ } الضمير فيه للعباد لأنه معلوم ، أو للضالين وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه أي ولا تخزني في يوم يبعث الضالون وأبي فيهم { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ } هو بدل من يوم الأول { وَلاَ بَنُونَ } أحداً { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } عن الكفر والنفاق وقلب الكافر والمنافق مريض لقوله تعالى : { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } [ البقرة : 10 ] أي إن المال إذا صرف في وجوه البر وبنوه صالحون فإنه ينتفع به وبهم سليم القلب ، أو جعل المال والبنون في معنى الغني كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه . وقد جعل { من } مفعولاً ل { ينفع } أي لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله ، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين وعلمهم الشرائع . ويجوز على هذا إلا من أتى الله بقلب سليم من فتنة المال والبنين . وقد صوب الجليل استثاء الخليل إكراماً له ثم جعله صفة له في قوله : { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات : 84 ] وما أحسن ما رتب عليه السلام كلامه مع المشركين حيث سألهم أولاً عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم ، ثم أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين فأخرجه من أن يكون شبهة فضلاً عن أن يكون حجة ، ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلّص منها إلى ذكر الله تعالى فعظم شأنه وعدد نعمته من حين إنشائه إلى وقت وفاته مع ما يرجّي في الآخرة من رحمته ، ثم أتبع ذلك أن دعا بدعوات المخلصين وابتهل إليه ابتهال الأوابين ، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا .
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
{ وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ } أي قربت عطف جملة على جملة أي تزلف من موقف السعداء فينظرون إليها
{ وَبُرّزَتِ الجحيم } أي أظهرت حتى يكاد يأخذهم لهبها { لِلْغَاوِينَ } للكافرين { وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ } يوبخون على إشراكهم فيقال لهم أين آلهتكم هل ينفعونكم بنصرتهم لكم ، أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
{ فَكُبْكِبُواْ } أنكسوا أو طرح بعضهم على بعض { فِيهَا } في الجحيم { هُمْ } أي الآلهة { والغاوون } وعبدتهم الذين برزت لهم . والكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة إثر مرة حتى يستقر في قعرها نعوذ بالله منها { وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } شياطينه أو متبعوه من عصاة الإنس والجن { قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } يجوز أن ينطق الله الأصنام حتى يصح التقاول والتخاصم ، ويجوز أن يجري ذلك بين العصاة والشياطين { تالله إِن كُنَّا لَفِى ضلال مُّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ } نعدلكم أيها الأصنام { بِرَبّ العالمين } في العبادة { وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ المجرمون } أي رؤساؤهم الذين أضلوهم أو إبليس وجنوده ومن سن الشرك .
{ فَمَا لَنَا مِن شافعين } كما للمؤمنين من الأنبياء والأولياء والملائكة { وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } كما نرى لهم أصدقاء إذ لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون وأما أهل النار فبينهم التعادي : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] أو { فَمَا لَنَا مِن شافعين وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 ] من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس . والحميم من الاحتمام وهو الاهتمام الذي يهمه ما يهمك ، أو من الحامّة بمعنى الخاصة وهو الصديق الخاص . وجمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة ، وأما الصديق وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك فقليل . وسئل حكيم عن الصديق فقال : اسم لا معنى له . وجاز أن يراد بالصديق الجمع
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
{ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } رجعة إلى الدنيا { فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } وجواب «لو» محذوف وهو لفعلنا كيت وكيت ، أو لو في مثل هذا بمعنى التمني كأنه قيل : فليت لنا كرة . لما بين معنى «لو» و «ليت» من التلاقي { إِنَّ فِى ذَلِكَ } فيما ذكر من الأنباء { لآيَةً } أي لعبرة لمن اعتبر { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } فيه أن فريقاً منهم آمنوا { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز } المنتقم ممن كذب إبراهيم بنار الجحيم { الرحيم } المسلم كل ذي قلب سليم إلى جنة النعيم .
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } القوم يذكر ويؤنث . قيل : ولد نوح في زمن آدم عليه السلام ونظير قوله المرسلين والمراد نوح عليه السلام قولك «فلان يركب الدواب ويلبس البرود» وماله إلا دابة أو برد ، أو كانوا ينكرون بعث الرسل أصلاً فلذا جمع ، أو لأن من كذب واحداً منهم فقد كذب الكل لأن كل رسول يدعو الناس إلى الإيمان بجميع الرسل وكذا جميع ما في هذه السورة { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ } نسباً لا ديناً { نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } خالق الأنام فتتركوا عبادة الأصنام { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } كان مشهوراً بالأمانة فيهم كمحمد عليه الصلاة والسلام في قريش .
{ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم به وأدعوكم إليه من الحق { وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ } على هذا الأمر { مِنْ أَجْرٍ } جزاء { إِنْ أَجْرِىَ } بالفتح مدني وشامي وأبو عمرو وحفص { إِلاَّ على رَبّ العالمين } فلذلك أريده { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } كرره ليقرره في نفوسهم مع تعليق كل واحد منهما بعلة ، فعلة الأول كونه أميناً فيهما بينهم ، وعلة الثاني حسم طمعه منهم كأنه قال : إذا عرفتم رسالتي وأمانتي فاتقوا الله ، ثم إذا عرفتم احترازي من الأجر فاتقوا الله .
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)
{ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك } الواو للحال و «قد» مضمرة بعدها دليله قراءة يعقوب { وأتباعك } جمع تابع كشاهد وأشهاد أو تبع كبطل وأبطال { الأرذلون } السّفلة والرذالة الخسة والدناءة . وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا . وقيل : كانوا من أهل الصناعات الدنيئة والصناعة لا تزري بالديانة فالغنى غنى الدين والنسب نسب التقوى ، ولا يجوز أن يسمى المؤمن رذلاً وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسباً وما زالت أتباع الأنبياء كذلك { قَالَ وَمَا عِلْمِى } وأي شيء أعلم { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الصناعات إنما أطلب منهم الايمان . وقيل : إنهم طعنوا مع استرذالهم في إيمانهم وقالوا : إن الذين آمنوا بك ليس في قلوبهم ما يظهرونه فقال : ما علي إلا اعتبار الظواهر دون التفتيش عن السرائر { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى لَوْ تَشْعُرُونَ } أن الله يحاسبهم على ما في قلوبهم { وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين } أي ليس من شأني أن أتبع شهواتكم بطرد المؤمنين طمعاً في إيمانكم { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ما علي إلا أن أنذركم إنذاراً بيناً بالبرهان الصحيح الذي يتميز به الحق من الباطل ثم أنتم أعلم بشأنكم { قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا نُوحُ } عما تقول { لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين } من المقتولين بالحجارة { قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ } ليس هذا إخباراً بالتكذيب لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم ولكنه أراد أنهم كذبوني في وحيك ورسالتك
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
{ فافتح بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } أي أي فاحكم بيني وبينهم حكماً ، والفتاحة الحكومة والفتاح الحاكم لأنه يفتح المستغلق كما سمي فيصلاً لأنه يفصل بين الخصومات { وَنَجّنِى وَمَن مَّعِى } { معي } حفص { مِنَ المؤمنين } من عذاب عملهم .
{ فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ فِى الفلك } الفلك السفينة وجمعه فالواحد بوزن قفل والجمع بوزن أسد { المشحون } المملوء ومنه شحنة البلد أي الذي يملؤه كفاية { ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ } أي بعد إنجاء نوح ومن آمن { الباقين } من قومه { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز } المنتقم بإهانة من جحد وأصر { الرحيم } المنعم بإعانة من وحد وأقر .
{ كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين } هي قبيلة وفي الأصل اسم رجل هو أبو القبيلة { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله } في تكذيب الرسول الأمين { وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبّ العالمين أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ } مكان مرتفع { ءايَةً } برج حمام أو بناء يكون لارتفاعه كالعلامة يسخرون بمن مر بهم { تَعْبَثُونَ } تلعبون { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ } مآخذ الماء أو قصوراً مشيدة أو حصوناً { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } ترجون الخلود في الدنيا { وَإِذَا بَطَشْتُمْ } أخذتم أحداً بعقوبة { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } قتلاً بالسيف وضرباً بالسوط والجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
{ فاتقوا الله } في البطش { وَأَطِيعُونِ } فيما أدعوكم إليه { واتقوا الذى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ } من النعم . ثم عددها عليهم فقال { أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ } قرن البنين بالأنعام لأنهم يعينونهم على حفظها والقيام عليها { وجنات وَعُيُونٍ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } إن عصيتموني { قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الواعظين } أي لا نقبل كلامك ودعوتك وعظت أم سكت . ولم يقل أم لم تعظ لرؤوس الآي { إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين } ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت واتخاذ الابتناء إلا عادة الأولين ، أو ما نحن عليه دين الأولين . { إلا خلق الأولين } مكي وبصري ويزيد وعلي أي ما جئت به اختلاق الأولين وكذب المتنبئين قبلك كقولك { أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] أو خلقنا كخلق الأولين نموت ونحيا كما حيوا { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } في الدنيا ولا بعث ولا حساب .
{ فَكَذَّبُوهُ } أي هوداً { فأهلكناهم } بريح صرصر عاتية . { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالح أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين أَتُتْرَكُونَ } إنكار لأن يتركوا خالدين في نعيمهم لا يزالون عنه { فِى مَا هَاهُنَا } في الذي استقر في هذا المكان من النعيم { ءامِنِينَ } من العذاب والزوال والموت . ثم فسره بقوله
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
{ فِى جنات وَعُيُونٍ } وهذا أيضاً إجمال ثم تفصيل { وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ } وعطف { نخل } على { جنات } مع أن الجنة تتناول النخل أول شيء تفضيلاً للنخل على سائر الشجر { طَلْعِهَا } هو ما يخرج من النخل كنصل السيف { هَضِيمٌ } لين نضيج كأنه قال : ونخل قد أرطب ثمره { وَتَنْحِتُونَ } تنقبون { مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين } شامي وكوفي حاذقين حال وغيرهم { فرهين } أشرين ، والفراهة الكيس والنشاط { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين } الكافرين أو التسعة الذين عقروا الناقة جعل الأمر مطاعاً على المجاز الحكمي والمراد الامر وهو كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه في العقل لضرب من التأول كقولهم «أنبت الربيع البقل» { الذين يُفْسِدُونَ فِى الأرض } بالظلم والكفر { وَلاَ يُصْلِحُونَ } بالإيمان والعدل والمعنى أن فسادهم مصمت ليس معه شيء من الصلاح كما تكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح . { قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين } المسحر الذي سحر كثيراً حتى غلب على عقله . وقيل : هو من السرح الرئة وأنه بشر { مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } في دعوى الرسالة
{ قَالَ هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ } نصيب من الماء فلا تزاحموها فيه { وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } لا تزاحمكم هي فيه ، روي أنهم قالوا : نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقباً ، فجعل صالح يتفكر فقال له جبريل : صل ركعتين واسأل ربك الناقة ، ففعل فخرجت الناقة ونتجت سقباً مثلها في العظم وصدرها ستون ذراعاً ، وإذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ، وإذا كان يوم شربهم لا تشرب فيه الماء ، وهذا دليل على جواز المهايأة لأن قولهم : { لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } من المهايأة
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
{ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء } بضرب أو عقر أو غير ذلك { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } عظم اليوم لحلول العذاب فيه ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب ، لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد { فَعَقَرُوهَا } عقرها قدار ولكنهم راضون به فأضيف إليهم ، روي أن عاقرها قال : لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون : أترضين؟ فتقول : نعم ، وكذلك صبيانهم { فَأَصْبَحُواْ نادمين } على عقرها خوفاً من نزول العذاب بهم لا ندم توبة أو ندموا حين لا ينفع الندم وذلك عند معاينة العذاب أو على ترك الولد { فَأَخَذَهُمُ العذاب } المقدم ذكره . { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } .
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين } أراد بالعالمين الناس ، أتطئون الذكور من الناس مع كثرة الإناث ، أو أتطئون أنتم من بين من عداكم من العالمين الذكران أي أنتم مختصون بهذه الفاحشة والعالمين على هذا كل ما ينكح من الحيوان
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
{ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أزواجكم } «من» تبيين لما خلق ، أو تبعيض والمراد بما خلق العضو المباح منهن وكانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم ، وفيه دليل على تحريم أدبار الزوجات والمملوكات ومن أجازه فقد أخطأ خطأ عظيماً { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } العادي المتعدي في ظلمه المتجاوز فيه الحد أي بل أنتم قوم أحق بأن توصفوا بالعدوان حيث ارتكبتم مثل هذه العظيمة .
{ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط } عن إنكارك علينا وتقبيح أمرنا { لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين } من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا وطردناه من بلدنا ، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ حال { قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ القالين } هو أبلغ من أن يقول قال ، فقول «فلان من العلماء» أبلغ من قولك «فلان عالم» لأنك تشهد بأنه مساهم لهم في العلم . والقلى البغض يقلي الفؤاد والكبد ، وفيه دليل على عظم المعصية لأن قلاه من حيث الدين { رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ } من عقوبة عملهم { فنجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } يعني بناته ومن آمن معه { إِلاَّ عَجُوزاً } هي امرأة لوط وكانت راضية بذلك والراضي بالمعصية في حكم العاصي ، واستثناء الكافرة من الأهل وهم مؤمنون للاشتراك في هذا الاسم وإن لم تشاركهم في الإيمان { فِى الغابرين } صفة لها في الباقين في العذاب فلم تنج منه ، والغابر في اللغة الباقي كأنه قيل : إلا عجوزاً غابرة أي مقدراً غبورها إذ الغبور لم يكن صفتها وقت تنجيتهم .
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)
{ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين } والمراد بتدميرهم الائتفاك بهم { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } عن قتادة : أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم الله . وقيل : لم يرض بالائتفاك حتى أتبعه مطراً من حجارة { فَسَاء } فاعله { مَطَرُ المنذرين } والمخصوص بالذم وهو مطرهم محذوف ولم يرد بالمنذرين قوماً بأعيانهم بل المراد جنس الكافرين { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم كَذَّبَ أصحاب لْئَيْكَةِ } بالهمزة والجر هي غيضة تنبت ناعم الشجر عن الخليل { ليكة } حجازي وشامي وكذا في «ص» علم لبلد . قيل : أصحاب الأيكة هم أهل مدين التجئوا إلى غيضة إذ ألح عليهم الوهج . والأصح أنهم غيرهم نزلوا غيضة بعينها بالبادية وأكثر شجرهم المقل بدليل أنه لم يقل هنا «أخوهم شعيب» لأنه لم يكن من نسبهم بل كان من نسب أهل مدين ففي الحديث أن شعيباً أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة { المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين أَوْفُواْ الكيل } أتموه { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين } ولا تنقصوا الناس حقوقهم فالكيل وافٍ وهو مأمور به ، وطفيف وهو منهي عنه ، وزائد وهو مسكوت عنه ، فتركه دليل على أنه إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعل فلا شيء عليه
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
{ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } وبكسر القاف كوفي غير أبي بكر وهو الميزان أو القبان ، فإن كان من القسط وهو العدل وجعلت العين مكررة فوزنه فعلاس وإلا فهو رباعي
{ وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس } يقال بخسته حقه إذا نقصته إياه { أَشْيَاءهُمْ } دراهمهم ودنانيرهم بقطع أطرافهما { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ } ولا تبالغوا فيها في الإفساد نحو : قطع الطريق والغارة وإهلاك الزروع . وكانوا يفعلون ذلك فنهوا عنه . يقال : عثا في الأرض إذا أفسد وعثي في الأرض لغة في عثا .
{ واتقوا الذى خَلَقَكُمْ والجبلة } { الجبلة } عطف على «كم» أي اتقوا الذي خلقكم وخلق الجبلة { الأولين } الماضين { قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } إدخال الواو هنا ليفيد معنيين كلاهما مناف الرسالة عندهم : التسحير والبشرية . وتركها في قصة ثمود ليفيد معنى واحداً وهو كونه مسحراً ، ثم كرر بكونه بشراً مثلهم { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين } «إن» مخففة من الثقيلة واللام دخلت للفرق بينهما وبين النافية . وإنما تفرقتا على فعل الظن وثاني مفعوليه لأن أصلهما أن يتفرقا على المبتدأ والخبر كقولك «إن زيداً لمنطلق» فلما كان بابا «كان» و«ظننت» من جنس باب المبتدأ والخبر فعل ذلك في البابين فقيل : إن كان زيد لمنطلقاً وإن ظننته لمنطلقاً { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً } { كِسُفا } حفص وهما جمعا كسفة وهي القطعة وكسفه قطعه { مّنَ السماء } أي السحاب أو الظلة { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أي إن كنت صادقاً أنك نبي فادع الله أن يسقط علينا كسفاً من السماء أي قطعاً من السماء عقوبة
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
{ قَالَ رَبّى } بفتح الياء : حجازي وأبو عمرو ، وبسكونها : غيرهم { أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي إن الله أعلم بأعمالكم وبما تستحقون عليها من العذاب ، فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل ، وإن أراد عقاباً آخر فإليه الحكم والمشيئة { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة } هي سحابة أظلتهم بعدما حبست عنهم الريح وعذبوا بالحر سبعة أيام فاجتمعوا تحتها مستجيرين بها مما نالهم من الحر فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } وقد كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر تقريراً لمعانيها في الصدور ليكون أبلغ في الوعظ والزجر ، ولأن كل قصة منها كتنزيل برأسه ، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها فكانت جديرة بأن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها وأن تختتم بما اختتمت به .
{ وَإِنَّهُ } أي القرآن { لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين } منزل منه { نَزَلَ بِهِ } مخفف والفاعل { الروح الأمين } أي جبريل لأنه أمين على الوحي الذي فيه الحياة . حجازي وأبو عمرو وزيد وحفص ، وغيرهم بالتشديد . ونصب { الروح } والفاعل هو الله تعالى أي جعل الله الروح نازلاً به ، والباء على القراءتين للتعدية { على قَلْبِكَ } أي حفظك وفهمك إياه وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى كقوله : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 5 ] { لِتَكُونَ مِنَ المنذرين بِلِسَانٍ عَرَبِىّ } بلغة قريش وجرهم { مُّبِينٌ } فصيح ومصحح عما صحفته العامة . والباء إما أن يتعلق ب { المنذرين } أي لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم هود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم السلام ، أو ب { نزل } أي نزله بلسان عربي لتنذر به لأنه لو نزله بلسان أعجمي لتجافوا عنه أصلاً ولقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به . وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك لأنك تفهمه وتفهّمه قومك ، ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك دون قلبك لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها ، وقد يكون الرجل عارفاً بعدة لغات فإذا كلم بلغته التي نشأ عليها لم يكن قلبه ناظراً إلا إلى معاني الكلام ، وإن كلم بغيرها كان نظره أولاً في ألفاظها ثم في معانيها ، وإن كان ماهراً بمعرفتها فهذا تقرير أنه نزل على قلبه لنزوله بلسان عربي مبين .
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
{ وَإِنَّهُ } وإن القرآن { لَفِى زُبُرِ الأولين } يعني ذكره مثبت في سائر الكتب السماوية . وقيل : إن معانيه فيها ، وفيه دليل على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية فيكون دليلاً على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة .
{ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً } { ولم تكن لهم آيةٌ } شامي ، جعلت آية اسم «كان» وخبره { أَن يَعْلَمَهُ } أي القرآن لوجود ذكره في التوراة . وقيل : في { تكن } ضمير القصة و { آية } خبر مقدم والمبتدأ { أن يعلمه } والجملة خبر «كان» . وقيل : «كان» تامة والفاعل { آية } و { أن يعلمه } بدل منها أو خبر مبتدأ محذوف أي أولم تحصل لهم آية . وغيره { يكن } بالتذكير و { آية } بالنصب على أنها خبره و { أن يعلمه } هو الاسم وتقديره : أولم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل { عُلماءُ بَنِى إسراءيل } كعبد الله بن سلام وغيره قال الله تعالى : { وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } [ القصص : 53 ] وخط في المصحف علماؤا بواو قبل الألف { وَلَوْ نزلناه على بَعْضِ الأعجمين } جمع أعجم وهو الذي لا يفصح وكذلك الأعجمي إلا أن فيه لزيادة يا ء النسبة زيادة تأكيد ، ولما كان من يتكلم بلسان غير لسانهم لا يفقهون كلامه قالوا له أعجم وأعجمي شبهوه بمن لا يفصح ولا يبين ، والعجمي الذي من جنس العجم أفصح أولم يفصح . وقرأ الحسن { الأعجميين } وقيل : الأعجمين تخفيف الأعجميين كما قالوا الأشعرون أي الأشعريون بحذف يا ء النسبة ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع السلامة لأن مؤنثه عجماء
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
{ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } والمعنى أنا أنزلنا القرآن على رجل عربي مبين ففهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز ، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتاب قبله على أن البشارة بإنزاله وصفته في كتبهم وقد تضمنت معانيه وقصصه وصح بذلك أنها من عند الله وليست بأساطير كما زعموا ، فلم يؤمنوا به وسموه شعراً تارة وسحراً أخرى وقالوا هذا من افتراء محمد عليه الصلاة والسلام ، ولو نزلناه على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية فضلاً أن يقدر على نظم مثله فقرأه عليهم هكذا معجزاً لكفروا به كما كفروا ولتمحلوا لجحودهم عذراً ولسموه سحراً .
ثم قال { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ } أي أدخلنا التكذيب أو الكفر وهو مدلول قوله { ما كانوا به مؤمنين } { فِى قُلُوبِ المجرمين } الكافرين الذين علمنا منهم اختيار الكفر والإصرار عليه يعني مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم وقررناه فيها فكيفما فعل بهم وعلى أي وجه دبر أمرهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الكفر به والتكذيب له كما قال : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ الأنعام : 7 ] وهو حجتنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد خيرها وشرها . وموقع قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } بالقرآن من قوله { سلكناه في قلوب المجرمين } موقع الموضح والملخص لأنه مسوق لثبات كونه مكذباً مجحوداً في قلوبهم ، فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد ، ويجوز أن يكون حالاً أي سلكناه فيها غير مؤمن به { حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } المراد معاينة العذاب عند الموت ويكون ذلك إيمان يأس فلا ينفعهم
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)
{ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً } فجأة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بإتيانه { فَيَقُولُواْ } وفيأتيهم معطوفان على { يروا } { هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } يسألون النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجابون إليها { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } توبيخ لهم وإنكار عليهم قولهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ونحو ذلك .
{ أَفَرَأَيْتَ إِن متعناهم سِنِينَ } قيل : هي سنو مدة الدنيا { ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ } من العذاب { مَا أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } به في تلك السنين . والمعنى أن استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن فقال الله تعالى : { أفبعذابنا يستعجلون } أشراً وبطراً واستهزاء واتكالاً على الأمل الطويل ، ثم قال : هب أن الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم؟ . قال يحيى ابن معاذ : أشد الناس غفلة من اغتر بحياته والتذ بمراداته وسكن إلى مألوفاته والله تعالى يقول : { أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } ، وعن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال : عظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية . فقال ميمون : قد وعظت فأبلغت . وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقرؤها عند جلوسه للحكم { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } رسل ينذرونهم . ولم تدخل الواو على الجملة بعد إلا كما في : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] لأن الأصل عدم الواو إذ الجملة صفة ل { قرية } وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
{ ذِكْرِى } منصوبة بمعنى تذكرة لأن أنذر وأذكر متقاربان فكأنه قيل : مذكرون تذكرة . أو حال من الضمير في { مُنذِرُونَ } أي بنذرونهم ذوي تذكرة أو مفعول له أي ينذرون لأجل التذكرة والموعظة ، أو مرفوعة على أنها خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى والجملة اعتراضية ، أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى ، أو تكون ذكرى متعلقة ب { أهلكنا } مفعولاً له ، والمعنى وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعدما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم { وَمَا كُنَّا ظالمين } فنهلك قوماً غير ظالمين .
ولما قال المشركون : إن الشياطين تلقى القرآن على محمد أنزل { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ } أي القرآن { الشياطين وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } وما يتسهل لهم ولا يقدرون عليه .
{ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } لممنوعون بالشهب { فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين } مورد النهي لغيره على التعريض والتحريك له زيادة الإخلاص { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين } خصهم لنفي التهمة إذ الإنسان يساهل قرابته ، أو ليعلموا أنه لا يغني عنهم من الله شيئاً وأن النجاة في اتباعه دون قربة . ولما نزلت صعد الصفا ونادى الأقرب فالأقرب وقال : « " يا بني عبد المطلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف يا عباس عم النبي يا صفية عمة رسول الله إني لا أملك لكم من الله شيئاً "
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
{ واخفض جَنَاحَكَ } وألن جانبك وتواضع ، وأصله أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه ، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلاً في التواضع ولين الجانب { لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } من عشيرتك وغيرهم { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ } يعني أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض جناحك لهم ، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره { وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم } على الذي قهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم ، والتوكل : تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره ، وقالوا : المتوكل من إذا دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله . وقال الجنيد رضي الله عنه التوكل أن تقبل بالكلية على ربك وتعرض بالكلية عما دونه فإن حاجتك إليه في الدارين . { فتوكل } مدني وشامي عطف على { فقل } أو { فلا تدع } .
{ الذى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } متهجداً { وَتَقَلُّبَكَ } أي ويرى تقلبك { فِى الساجدين } في المصلين . أتبع كونك رحيماً على رسوله ما هو من أسباب الرحمة وهو ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون ، وليعلم أنهم كيف يعبدون الله ويعملون لآخرتهم . وقيل : معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة . وتقلبه في الساجدين تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم . وعن مقاتل أنه سأل أبا حنيفة : هل تجد الصلاة بالجماعة في القرآن؟ فقال : لا يحضرني فتلا له هذه الآية .
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
{ إِنَّهُ هُوَ السميع } لما تقوله { العليم } بما تنويه وتعلمه ، هوّن عليه معاناة مشاق العبادات حيث أخبر برؤيته له إذ لا مشقة على من يعلم أنه يعمل بمرأى مولاه وهو كقولك
: بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي
نزل جواباً لقول المشركين إن الشياطين تلقى السمع على محمد صلى الله عليه وسلم { هَلْ أُنَبّئُكُمْ } أي هل أخبركم أيها المشركون { على مَن تَنَزَّلُ الشياطين } ثم نبأ فقال { تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } مرتكب للآثام وهم الكهنة والمتنبئة كسطيح وطليحة ومسيلمة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم يشتم الأفاكين ويذمهم فكيف تنزل الشياطين عليه { يُلْقُونَ السمع } هم الشياطين كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يستمعون إلى الملأ الأعلى فيحفظون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب ثم يوحون به إلى أوليائهم . و { يلقون } حال ، أي تنزل ملقين السمع ، أو صفة ل { كل أفاك } لأنه في معنى الجمع فيكون في محل الجزاء ، أو استئناف فلا يكون له محل كأنه قيل : لم تنزل على الأفاكين؟ فقيل : يفعلون كيت وكيت { وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون } فيما يوحون به إليهم لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا . وقيل : يلقون إلى أوليائهم السمع أي المسموع من الملائكة . وقيل : الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم ، والأفاك الذي يكثر الإفك ، ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك فأراد أن هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني وأكثرهم مفتر عليه ، وعن الحسن : وكلهم . وإنما فرق بين { وإنه لتنزيل رب العالمين } ، { وما تنزلت به الشياطين } ، و { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } ، وهن أخوات ، لأنه إذا فرق بينهن بآيات ليست منهن ثم رجع إليهن مرة بعد مرة دل ذلك على شدة العناية بهن كما إذا حدثت حديثاً وفي صدرك اهتمام بشيء فتعيد ذكره ولا تنفك عن الرجوع إليه . ونزل فيمن كان يقول الشعر ويقول نحن نقول كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم واتبعهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم .
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)
{ والشعراء } مبتدأ خبره { يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } أي لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب ومدح من لا يستحق المدح ، ولا يستحسن ذلك منهم إلا الغاوون أي السفهاء أو الراوون أو الشياطين أو المشركون . قال الزجاج : إذا مدح أو هجا شاعر بما لا يكون وأحب ذلك قوم وتابعوه فهم الغاوون { يتبعهم } نافع { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ } من الكلام { يَهِيمُونَ } خبر «أن» أي في كل فن من الكذب يتحدثون أو في كل لغو وباطل يخوضون ، والهائم الذاهب على وجهه لا مقصد له وهو تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة وأبخلهم على حاتم . عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله
فبتن بجانبيّ مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام
فقال : وجب عليك الحد . فقال : قد درأ الله عني الحد بقوله
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَالاً يَفْعَلُونَ } حيث وصفهم بالكذب والخلف في الوعد .
ثم استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين بقوله { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير وكعب بن مالك رضي الله عنهم { وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً } أي كان ذكر الله وتلاوة القرآن أغلب عليهم من الشعر وإذ قالوا شعراً قالوه في توحيد الله تعالى والثناء عليه والحكمة والموعظة والزهد والأدب ومدح رسول الله والصحابة وصلحاء الأمة ونحو ذلك مما ليس فيه ذنب . وقال أبو يزيد : الذكر الكثير ليس بالعدد والغفلة لكنه بالحضور { وانتصروا } وهجوا { مِنْ بَعْدَمَا ظَلَمُواْ } هجوا أي ردوا هجاء من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، وأحق الخلق بالهجاء من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجاه . وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له « اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل » وكان يقول لحسان « قل وروح القدس معك » ختم السورة بما يقطع أكباد المتدبرين وهو قوله { وَسَيَعْلَمْ } وما فيه من الوعيد البليغ وقوله { الذين ظَلَمُواْ } وإطلاقه ، وقوله { أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } وإبهامه ، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنه حين عهد إليه وكان السلف يتواعظون بها . قال ابن عطاء : وسيعلم المعرض عنا ما الذي فاته منا . و { أيّ } منصوب ب { ينقلبون } على المصدر لا ب { يعلم } لأن أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها أي ينقلبون أيّ انقلاب .
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
مكية وهي ثلاث وتسعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ طس تِلْكَ ءايات القرءان وكتاب مُّبِينٍ } أي وآيات كتاب مبين و { تلك } إشارة إلى آيات السورة ، والكتاب المبين : اللوح ، وآياته أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبين للناظرين فيه آياته ، أو القرآن وآياته إنه يبين ما أودع فيه من العلوم والحكم وعلى هذا عطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى نحو هذا فعل السخي والجود . ونكر الكتاب ليكون أفخم له . وقيل : إنما نكر الكتاب هنا وعرفه في «الحجر» وعرف القرآن هنا ونكره ثمّ ، لأن القرآن والكتاب اسمان علمان للمنزل على محمد عليه الصلاة والسلام ووصفان له لأنه يقرأ ويكتب ، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم ، وحيث جاء بلفظ التنكير فهو الوصف { هُدًى وبشرى } في محل النصب على الحال من آيات أي هداية وبشارة فالعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ، أو الجر على أنه بدل من { كتاب } أو صفة له أو الرفع على هي هدى وبشرى ، أو على البدل من { آيات } أو على أن يكون خبراً بعد خبر ل { تلك } أي تلك آيات وهادية من الضلالة ومبشرة بالجنة . وقيل : هدى لجميع الخلق وبشرى { لِلْمُؤْمِنِينَ } خاصة
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
{ الذين يُقِيمُونَ الصلاة } يديمون على فرائضها وسننها { وَيُؤْتُونَ الزكواة } يؤدون زكاة أموالهم { وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } من جملة صلة الموصول . ويحتمل أن تتم الصلة عنده وهو استئناف كأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة ، ويدل عليه أنه عقد جملة اسمية وكرر فيها المبتدأ الذي هو { هم } حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق .
{ إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم } بخلق الشهوة حتى رأوا ذلك حسناً كما قال : { أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً } [ فاطر : 8 ] { فَهُمْ يَعْمَهُونَ } يترددون في ضلالتهم كما يكون حال الضال عن الطريق { أُوْلَئِكَ الذين لَهُمْ سُوء العذاب } القتل والأسر يوم بدر بما كان منهم من سوء الأعمال { وَهُمْ فِى الآخرة هُمُ الأخسرون } أشد الناس خسراناً لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم فخسروا ذلك مع خسران النجاة وثواب الله { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان } لتؤتاه وتلقنه { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } من عند أيّ حكيم وأيّ عليم وهذا معنى تنكيرهما ، وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه .
{ إذ } منصوب ب «اذكر» كأنه قال : على أثر ذلك خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى عليه السلام { قَالَ موسى لاِهْلِهِ } لزوجته ومن معه عند مسيره من مدين إلى مصر { إِنّى آنَسْتُ } أبصرت { نَاراً سَئَاتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ } عن حال الطريق لأنه كان قد ضله { أو ءَاتيكم بشهابٍ } بالتنوين : كوفي أي شعلة مضيئة { قَبَسٍ } نار مقبوسة بدل أو صفة . وغيرهم { بشهاب قبس } على الإضافة لأنه يكون قبساً وغير قبس . ولا تدافع بين قوله { سآتيكم } هنا { ولعلي آتيكم } في القصص مع أن أحدهما ترجٍ والآخر تيقن ، لأن الراجي إذا قوي رجاؤه يقول سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة ، ومجيئه بسين التسويف عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ ، أو كانت المسافة بعيدة ، «بأو» لأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منها إما هداية الطريق وإما اقتباس النار ولم يدر أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين وهما عز الدنيا والآخرة ، واختلاف الألفاظ في هاتين السورتين والقصة واحدة دليل على جواز نقل الحديث بالمعنى ، وجواز النكاح بغير لفظ التزوج . { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } تستدفئون بالنار من البرد الذي أصابكم ، والطاء بدل من تاء افتعل لأجل الصاد
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
{ فَلَمَّا جَاءهَا } أي النار التي أبصرها { نُودِىَ } موسى { أَن بُورِكَ } مخففة من الثقيلة وتقديره ونودي بأنه بورك والضمير ضمير الشأن ، وجاز ذلك من غير عوض وإن منعه الزمخشري لأن قوله { بورك } دعاء والدعاء يخالف غيره في أحكام كثيرة ، أو مفسرة لأن في النداء معنى القول أي قيل له بورك أي قدس أو جعل فيه البركة والخير { مَن فِى النار وَمَنْ حَوْلَهَا } أي بورك من في مكان النار وهم الملائكة ومن حول مكانها أي موسى لحدوث أمر ديني فيها وهو تكليم الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه { وسبحان الله رَبّ العالمين } هو من جملة ما نودي فقد نزه ذاته عما لا يليق به من التشبيه وغيره .
{ ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم } الضمير في { إنه } للشأن والشأن أنا الله مبتدأ وخبره و { العزيز الحكيم } صفتان للخبر ، أو يرجع إلى ما دل عليه ما قبله أي إن مكلمك أنا والله بيان لأنا و { العزيز الحكيم } صفتان للمبين ، وهو تمهيد لما أراد أن يظهر على يده من المعجزات .
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
{ وَأَلْقِ عَصَاكَ } لتعلم معجزتك فتأنس بها وهو عطف على { بورك } لأن المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك كلاهما تفسير ل { نودي } والمعنى قيل له بورك من في النار وقيل له ألق عصاك ، ويدل عليه ما ذكر في سورة القصص { وأن ألق عصاك } بعد قوله { أَن يَا موسى إِنّى أَنَا الله } [ القصص : 30 ] على تكرير حرف التفسير { فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ } تتحرك حال من الهاء في { رَءاهَا } { كَأَنَّهَا جَانٌّ } حية صغيرة حال من الضمير في { تهتز } { وَلِىُّ } موسى { مُدْبِراً } أدبر عنها وجعلها تلي ظهره خوفاً من وثوب الحية عليه { وَلَمْ يُعَقّبْ } ولم يلتفت أولم يرجع . يقال قد عقب فلان إذا رجع يقاتل بعد أن ولى فنودي { ياموسى لاَ تَخَفْ إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون } أي لا يخاف عندي المرسلون حال خطابي إياهم أولا يخاف لدي المرسلون من غيري { إَلاَّ مَن ظَلَمَ } أي لكن من ظلم من غيرهم لأن الأنبياء لا يظلمون ، أو لكن من ظلم منهم من زل من المرسلين فجاء غير ما أذنت له مما يجوز على الأنبياء كما فرط من آدم ويونس وداود وسليمان عليهم السلام { ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً } أي أتبع توبة { بَعْدَ سُوء } زلة { فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أقبل توبته وأغفر زلته وأرحمه فأحقق أمنيته وكأنه تعريض بما قال موسى حين قتل القبطي : { رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى فَغَفَرَ لَهُ } .
{ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ } جيب قميصك وأخرجها { تَخْرُجْ بَيْضَاء } نيرة تغلب نور الشمس { مِنْ غَيْرِ سُوء } برص وبيضاء ومن غير سوء حالان { في تسع آيات } كلام مستأنف و«في» يتعلق بمحذوف أي اذهب في تسع آيات أو وألق عصاك وأدخل يدك في جملة تسع آيات { إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ } «إلى» يتعلق بمحذوف أي مرسلاً إلى فرعون وقومه { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } خارجين عن أمر الله كافرين
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
{ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءاياتنا } أي معجزاتنا { مُبْصِرَةً } حال أي ظاهرة بينة جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمليها لملابستهم إياها بالنظر والتفكر فيها ، أو جعلت كأنها تبصر فتهدي لأن الأعمى لا يقدر على الاهتداء فضلاً أن يهدي غيره ومنه قولهم «كلمة عيناء وعوراء» لأن الكلمة الحسنة ترشد والسيئة تغوي { قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } ظاهر لمن تأمله وقد قوبل بين المبصرة والمبين { وَجَحَدُواْ بِهَا } قيل : الجحود لا يكون إلا من علم من الجاحد وهذا ليس بصحيح ، لأن الجحود هو الإنكار وقد يكون الإنكار للشيء للجهل به وقد يكون بعد المعرفة تعنتاً كذا ذكره في شرح التأويلات . وذكر في الديوان يقال جحد حقه وبحقه بمعنى . والواو في { واستيقنتها } للحال و«قد» بعدها مضمرة والاستيقان أبلغ من الإيقان { أَنفُسِهِمْ } أي جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم { ظُلْماً } حال من الضمير في { وجحدوا } وأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات من عند الله ثم سماها سحراً بيناً { وَعُلُوّاً } ترفعاً عن الإيمان بما جاء به موسى { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } وهو الإغراق هنا والإحراق ثمة .
{ ولقد ءاتينا } أعطينا { داوود وسليمان علماً } طائفة من العلم أو علماً سنياً غزيراً والمراد علم الدين والحكم { وقالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثيرٍ مّن عباده المؤمنين } والآيات حجة لنا على المعتزلة في ترك الأصلح وهنا محذوف ليصح عطف الواو عليه ولولا تقدير المحذوف لكان الوجه الفاء كقولك «أعطيته فشكر» ، وتقديره : آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه وقالا الحمد لله الذي فضلنا ، والكثير المفضل عليه من لم يؤت علماً أو من لم يؤت مثل علمهما ، وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير . وفي الآية دليل على شرف العلم وتقدم حملته وأهله ، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم ، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من عباده ، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة لأنهم القوام بما بعثوا من أجله ، وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا الله على ما أوتوه ، وأن يعتقد العالم أنه إن فضل على كثير فقد فضل عليهم مثلهم ، وما أحسن قول عمر رضي الله عنه : كل الناس أفقه من عمر رضي الله عنه .
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
{ وورث سليمان داود } ورث منه النبوة والملك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر قالوا : أوتي النبوة مثل أبيه فكأنه ورثه وإلا فالنبوة لا تورث { وقال يا أيّها النّاس علّمنا منطق الطّير } تشهيراً لنعمة الله تعالى واعترافاً بمكانها ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير . والمنطق كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد ، وكان سليمان عليه السلام يفهم منها كما يفهم بعضها من بعض . روي أنه صاحب فاختة فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاوس فقال : يقول : كما تدين تدان ، وصاح هدهد فقال : يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، وصاح خطاف فقال : يقول : قدموا خيراً تجدوه . وصاحت رحمة فقال : تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه . وصاح قمري فأخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى . وقال : الحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله . والقطاة تقول من سكت سلم . والديك يقول : اذكروا الله ياغافلين والنسر يقول : يابن آدم عش ما شئت آخرك الموت . والعقاب يقول : في البعد من الناس أنس . والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس { وأوتينا من كلّ شيءٍ } المراد به كثرة ما أوتي كما تقول فلان يعلم كل شيء ومثله { وأوتيت من كل شيء } { إنّ هذا لهو الفضل المبين } قوله وارد على سبيل الشكر كقوله عليه السلام : « أنا سيد ولد آدم ولا فخر » أي أقول هذا القول شكراً ولا أقوله فخراً ، والنون في { علمنا } و { أوتينا } نون الواحد المطاع وكان ملكاً مطاعاً فكلم أهل طاعته على الحال التي كان عليها وليس التكبر من لوازم ذلك .
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
{ وحشر } وجمع { لسليمان جنوده من الجنّ والإنس والطّير } روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ ، خمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلثمائة منكوحة وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وابريسم فرسخاً في فرسخ ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب وفضة فيقعد وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فيقعد وحوله ، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه حر الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر . ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ويأمر الرخاء تسيره فأوحى الله تعالى إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدت في ملكك أن لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك ، فيحكى أنه مر بحراث فقال : لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال : إني جئت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال : لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود { فهم يوزعون } يحبس أولهم على آخرهم أي يوقف سلاف العسكر حتى يلحقهم التوالي ليكونوا مجتمعين وذلك للكثرة العظيمة . والوزع : المنع ، ومنه قول عثمان رضي الله عنه : «ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن» .
{ حتّى إذا أتوا على واد النّمل } أي ساروا حتى إذا بلغوا وادي النمل وهو واد بالشام كثير النمل . وعدي ب «على» لأن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء { قالت نملةٌ } عرجاء تسمى طاخية أو منذرة . وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم فسأله أبو حنيفة رضي الله عنه وهو شاب عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى؟ فأفحم فقال أبو حنيفة رضي الله عنه : كانت أنثى . فقيل له : بماذا عرفت؟ فقال : بقوله { قالت نملة } ولو كانت ذكراً لقال قال نملة ، وذلك أن النملة مثل الحمامة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي { ياأيّها النّمل ادخلوا مساكنكم } ولم يقل «ادخلن» لأنه لما جعلها قائلة والنمل مقولاً لهم كما يكون في أولي العقل أجرى خطابهن مجرى خطابهم { لا يحطمنّكم } لا يكسرنكم ، والحطم الكسر وهو نهي مستأنف وهو في الظاهر نهي لسليمان عن الحطم وفي الحقيقة نهي لهن عن البروز والوقوف على طريقة «لا أرينك هاهنا» أي لا تحضر هذا الموضع . وقيل : هو جواب الأمر وهو ضعيف يدفعه نون التوكيد لأنه من ضرورات الشعر { سليمان وجنوده } قيل : أراد لا يحطمنكم جنود سليمان فجاء بما هو أبلغ { وهم لا يشعرون } لا يعلمون بمكانكم أي لو شعروا لم يفعلوا ، قالت ذلك على وجه العذر واصفة سليمان وجنوده بالعدل فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
{ فتبسّم ضاحكاً مّن قولها } متعجباً من حذرها واهتدائها لمصالحها ونصيحتها للنمل ، أو فرحاً لظهور عدله . و { ضاحكاً } حال مؤكدة لأن تبسم بمعنى ضحك وأكثر ضحك الأنبياء التبسم كذا قاله الزجاج { وقال ربّ أوزعني } ألهمني وحقيقته كفني عن الأشياء إلا عن شكر نعمتك { أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ } من النبوة والملك والعلم { وعلى والديّ } لأن الإنعام على الوالدين إنعام على الولد { وأن أعمل صالحاً ترضاه } في بقية عمري { وأدخلني برحمتك } وأدخلني الجنة برحمتك لا بصالح عملي إذ لا يدخل الجنة أحد إلا برحتمه كما جاء في الحديث { في عبادك الصّالحين } أي في زمرة أنبيائك المرسلين أو مع عبادك الصالحين . روي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن ثم دعا بالدعوة .
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
{ وتفقّد الطّير فقال مالي } مكي وعلي وعاصم ، وغيرهم بسكون الياء . والتفقد صلب ما غاب عنك { لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين } «أم» بمعنى بل والمعنى أنه تعرف الطير فلم يجد فيها الهدهد فقال : مالي لا أراه على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : بل هو غائب . وذكر أن سليمان عليه السلام لما حج خرج إلى اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال فنزل ليصلي فلم يجد الماء وكان الهدهد قنّاقنه وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فتستخرج الشياطين الماء فتفقده لذلك . وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال ، فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب : عليّ به ، فارتفع فنظر فإذا هو مقبل فقصده فناشده الله فتركه ، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض وقال : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فارتعد سليمان وعفا عنه { لأعذّبنّه عذاباً شديداً } بنتف ريشه وإلقائه في الشمس ، أو بالتفريق بينه وبين إلفه ، أو بإلزامه خدمة أقرآنه ، أو بالحبس مع أضداده . وعن بعضهم أضيق السجون معاشرة الأضداد . أو بإبداعه القفص أو بطرحه بين يدي النمل ليأكله . وحل له تعذيب الهدهد لما رأى فيه من المصلحة كما حل ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع ، وإذا سخر له الطير لم يتم التسخير إلا بالتأديب والسياسة { أو لأذبحنّه أو ليأتينّي } بالنون الثقيلة ليشاكل قوله { لأعذبنه } وحذف نون العماد للتخفيف . { ليأتيني } بنونين : مكي الأول للتأكيد والثاني للعماد { بسلطانٍ مّبينٍ } بحجة له فيها عذر ظاهر على غيبته . والإشكال أنه حلف على أحد ثلاثة أشياء : اثنان منها فعله ولا مقال فيه ، والثالث فعل الهدهد وهو مشكل لأنه من أين درى أنه يأتي بسلطان حتى قال : والله ليأتيني بسلطان؟ وجوابه أن معنى كلامه ليكونن أحد الأمور يعني إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح ، وإن لم يكن كان أحدهما وليس في هذا دعاء دراية
{ فمكث } الهدهد بعد تفقد سليمان إياه ، وبضم الكاف غيره عاصم وسهل ويعقوب ، وهما لغتان
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
{ غير بعيدٍ } أي مكثاً غير طويل أو غير زمان بعيد كقوله «عن قريب» ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان . فلما رجع سأله عما لقي في غيبته { فقال أحطت } علماً شيئاً من جميع جهاته { بما لم تحط به } ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام مع ما أوتي من فضل النبوة والعلوم الجمة ابتلاء له في علمه ، وفيه دليل بطلان قول الرافضة أن الإمام لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه { وجئتك من سبإٍ } غير منصرف . أبو عمرو جعله اسماً للقبيلة أو المدينة وغيره بالتنوين جعله اسماً للحي أو الأب الأكبر { بنبإٍ يقينٍ } النبأ الخبر الذي له شأن ، وقوله من { سبأ بنبإٍ } من محاسن الكلام ويسمى البديع وقد حسن وبدع لفظاً ومعنى هاهنا ألا ترى أنه لو وضع مكان { بنبإ } بخبر لكان المعنى صحيحاً وهو كما جاء أصح لما في النبإ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال .
{ إنّي وجدتّ امرأةً } هي بلقيس بنت شراحيل وكان أبوها ملك أرض اليمن ولم يكن له ولد غيرها فغلبت على الملك وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس . والضمير في { تملكهم } راجع إلى سبأ على تأويل القوم أو أهل المدينة { وأوتيت } حال ، و«قد» مقدرة { من كلّ شيءٍ } من أسباب الدنيا ما يليق بحالها { ولها عرشٌ } سرير عظيم { عظيمٌ } كبير . قيل : كان ثمانين ذراعاً في ثمانين ذراعاً وطوله في الهواء ثمانون ذراعاً ، وكان من ذهب وفضة وكان مرصعاً بأنواع الجواهر وقوائمه من يا قوت أحمر وأخضر ودر وزمرد ، وعليه سبعة أبواب على كل بيت باب مغلق . واستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم عرضها لذلك ، وقد أخفى الله تعالى على سليمان ذلك لمصلحة رآها كما أخفى مكان يوسف على يعقوب عليهما السلام