كتاب : مدارك التنزيل وحقائق التأويل
المؤلف : أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي
{ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] { أُوْلَئِكَ فِى ضلال مُّبِينٍ } غواية ظاهرة .
{ الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } في إيقاع اسم { الله } مبتدأ وبناء { نَزَّلَ } عليه تفخيم لأحسن الحديث { كتابا } بدل من { أَحْسَنَ الحديث } أو حال منه { متشابها } يشبه بعضه بعضاً في الصدق والبيان والوعظ والحكمة والإعجاز وغير ذلك { مَّثانِىَ } نعت { كتابا } جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه ، فهو بيان لكونه متشابهاً لأن القصص المكررة وغيرها لا تكون إلا متشابهة . وقيل : لأنه يثنّى في التلاوة فلا يمل . وإنما جاز وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل ، وتفاصيل الشيء هي جملته ، ألا تراك تقول : القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات؟ فكذلك تقول : أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات . أو منصوب على التمييز من { متشابها } كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائل ، والمعنى متشابهة مثانية { تَقْشَعِرُّ } تضطرب وتتحرك { مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } يقال : اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضاً شديداً . والمعنى أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم ، وفي الحديث " إذا اقشعر جلد المؤمن من خشية الله تحاتّت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها " { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } أي إذا ذكرت آيات الرحمة لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة . وعُدي ب «إلى» لتضمنه معنى فعل متعد ب «إلى» كأنه قيل : اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير متقبضة . واقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة ، لأن رحمته سبقت غضبه فلأصالة رحمته إذا ذكر الله لم يخطر بالبال إلا كونه رءوفاً رحيماً . وذكرت الجلود وحدها أولاً ثم قرنت بها القلوب ثانياً لأن محل الخشية القلب فكان ذكرها يتضمن ذكر القلوب { ذلك } إشارة إلى الكتاب وهو { هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ } من عباده وهو من علم منهم اختيار الاهتداء { وَمَن يُضْلِلِ الله } يخلق الضلالة فيه { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } إلى الحق .
{ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ العذاب يَوْمَ القيامة } كمن أمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره وسوء العذاب شدته ، ومعناه أن الإنسان إذا لقي مخوفاً من المخاوف استقبله بيده وطلب أن يقي بها وجهه لأنه أعز أعضائه عليه ، والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه الذي كان يتقي المخاوف بغيره وقاية له ومحاماة عليه { وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ } أي تقول لهم خزنة النار { ذُوقُواْ } وبال { مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي كسبكم { كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } من قبل قريش { فأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بيناهم آمنون إذ فوجئوا من مأمنهم { فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى } الذل والصغار كالمسخ والخسف والقتل والجلاء ونحو ذلك من عذاب الله { فِى الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبْرُ } من عذاب الدنيا { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } لآمنوا .
{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ليتعظوا { قُرْءَاناً عَرَبِيّاً } حال مؤكدة كما تقول : جاءني زيد رجلاً صالحاً وإنساناً عاقلاً ، فتذكر رجلاً أو إنساناً توكيداً ، أو نصب على المدح { غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف . ولم يقل «مستقيماً» للإشعار بأن لا يكون فيه عوج قط . وقيل : المراد بالعوج الشك { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } الكفر .
{ ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً } بدل { فِيهِ شُرَكَآءُ متشاكسون } متنازعون ومختلفون { وَرَجُلاً سَلَماً } مصدر سلم والمعنى ذا سلامة { لِرَجُلٍ } أي ذا خلوص له من الشركة . { سالماً } مكي وأبو عمرو أي خالصاً له { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } صفة وهو تمييز ، والمعنى هل تستوي صفتاهما وحالاهما . وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس وقريء { مثلين } . { الحمد للَّهِ } الذي لا إله إلا هو { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } فيشركون به غيره . مثل الكافر ومعبوديه بعبد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع واختلاف ، وكل واحد منهم يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى وهو متحير لا يدري أيهم يرضي بخدمته ، وعلى أيهم يعتمد في حاجاته ، وممن يطلب رزقه ، وممن يلتمس رفقه ، فهمه شعاع وقلبه أوزاع ، والمؤمن بعبد له سيد واحد فهّمه واحد وقلبه مجتمع { إِنَّكَ مَيِّتٌ } أي ستموت { وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } وبالتخفيف من حل به الموت ، قال الخليل أنشد أبو عمرو :
وتسألني تفسير ميت وميّت ... فدونك قد فسرت إن كنت تعقلُ
فمن كان ذا روح فذلك ميت ... وما الميت إلا من إلى القبر يحملُ
كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته فأخبر أن الموت يعمهم فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني ، وعن قتادة : نعى إلى نبيه نفسه ونعى إليكم أنفسكم أي إنك وإياهم في عداد الموتى لأن ما هو كائن فكأن قد كان .
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ } أي إنك وإياهم فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب { يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا واجتهدت في الدعوة ، فلجّوا في العناد ويعتذرون بما لا طائل تحته ، تقول الأتباع : أطعنا ساداتنا وكبراءنا ، وتقول السادات : أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون . قال الصحابة رضى الله عنهم أجمعين : ما خصومتنا ونحن إخوان! فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا : هذه خصومتنا . عن أبي العالية : نزلت في أهل القبلة وذلك في الدماء والمظالم التي بينهم . والوجه هو الأوّل ألا ترى إلى قوله { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله } وقوله { والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } وما هو إلا بيان وتفسير للذين تكون بينهم الخصومة . { كَذَبَ علَى الله } افترى عليه بإضافة الولد والشريك إليه { وَكَذَّبَ بالصدق } بالأمر الذي هو الصدق بعينه وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم { إِذْ جَآءَهُ } فاجأه بالتكذيب لما سمع به من غير وقفة لإعمال روية أو اهتمام بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين } أي لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق . واللام في { للكافرين } إشارة إليهم { والذى جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } هو رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق وآمن به وأراد به إياه ومن تبعه كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [ المؤمنون : 49 ] فلذا قال تعالى { أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون } وقال الزجاج : رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال : والذي جاء بالصدق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي صدق به أبو بكر الصديق رضي الله عنه . ورُوي أن الذي جاء بالصدق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي صدق به المؤمنون ، والكل صحيح كذا قاله . قالوا : والوجه في العربية أن يكون «جاء» و «صدق» لفاعل واحد لأن التغاير يستدعي إضمار الذي ، وذا غير جائز ، أو إضمار الفاعل من غير تقدم الذكر وذا بعيد .
{ لَهُم مَّا يَشَآءَونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ المحسنين لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إضافة أسوأ وأحسن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل كقولك : الأشج أعدل بني مروان .
{ أَلَيْسَ الله بِكَافٍ } أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي فأفيد معنى إثبات الكفاية وتقريرها { عَبْدَهُ } أي محمداً صلى الله عليه وسلم . { عباده } حمزة وعلي أي الأنبياء والمؤمنين وهو مثل { إِنَّا كفيناك المستهزءين } [ الحجر : 95 ] { وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ } أي بالأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه ، وذلك أن قريشاً قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا وإنا نخشى عليك مضرتها لعيبك إياها { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ } بغالب منيع { ذِى انتقام } ينتقم من أعدائه ، وفيه وعيد لقريش ووعد للمؤمنين بأنه ينتقم لهم منهم وينصرهم عليهم .
ثم أعلم بأنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض بقوله { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله } بفتح الياء سوى حمزة { بِضُرٍّ } مرض أو فقر أو غير ذلك { هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرِّهِ } دافعات شدته عني { أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ } صحة أو غنى أو نحوهما { هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ } { كاشفات ضُرّهِ } ، و { ممسكات رَحْمَتِهِ } بالتنوين على الأصل : بصري ، وفرض المسئلة في نفسه دونهم لأنهم خوفوه معرة الأوثان وتخبيلها ، فأمر بأن يقررهم أولاً بأن خالق العالم هو الله وحده ثم يقول لهم بعد التقرير : فإن أرادني خالق العالم الذي أقررتم به بضر أو برحمة هل يقدرون على خلاف ذلك؟ فلما أفحمهم قال الله تعالى : { قُلْ حَسْبِىَ الله } كافياً لمعرة أوثانكم { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون } يُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم فسكتوا فنزل { قُلْ حَسْبِىَ الله } ، وإنما قال { كاشفات } و { ممسكات } على التأنيث بعد قوله { وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ } لأنهن إناث وهن اللات والعزى ومناة ، وفيه تهكم بهم وبمعبوديهم .
{ قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } على حالكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكنتم منها ، والمكانة بمعنى المكان فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا وحيث للزمان وهما للمكان { إِنِّى عامل } أي على مكانتي وحذف للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد والإيذان بأن حالته تزداد كل يوم قوّة لأن الله تعالى ناصره ومعينه ، ألا ترى إلى قوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } كيف توعدهم بكونه منصوراً عليهم غالباً عليهم في الدنيا والآخرة ، لأنهم إذا أتاهم الخزي والعذاب فذاك عزه وغلبته من حيث إن الغلبة تتم له بعز عزيز من أوليائه وبذل ذليل من أعدائه ، و { يُخْزِيهِ } صفة للعذاب ك { مُّقِيمٌ } أي عذاب مخزلة وهو يوم بدر ، وعذاب دائم وهو عذاب النار . { مكاناتكم } أبو بكر وحماد .
{ إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } القرآن { لِلنَّاسِ } لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه ليبشروا وينذروا فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية { بالحق فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ } فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه { وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } ومن اختار الضلالة فقد ضرها { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } بحفيظ .
{ ثم أخبر بأنه الحفيظ القدير عليهم بقوله { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } الأنفس الجمل كما هي ، وتوفيها إماتتها وهو أن يسلب ما هي به حية حساسة دراكة { والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا } ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها أي يتوفاها حين تنام تشبيهاً للنائمين بالموتى حيث لا يميزون ولا يتصرفون كما أن الموتى كذلك ، ومنه قوله تعالى : { وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل } [ الأنعام : 60 ] { فَيُمْسِكُ } الأنفس { التى قضى } { قُضِىَ } حمزة وعلي . { عَلَيْهَا الموت } الحقيقي أي لا يردها في وقتها حية { وَيُرْسِلُ الأخرى } النائمة { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى وقت ضربه لموتها . وقيل : يتوفى الأنفس أي يستوفيها ويقبضها وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة ، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في مقامها وهي أنفس التمييز . قالوا : فالتي تتوفى في المنام هي نفس التمييز لا نفس الحياة لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفسَ والنائم يتنفس ، ولكل إنسان نفسان : إحداهما نفس الحياة وهي التي تفارق عند الموت ، والأخرى نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام . ورُوي عن ابن عباس رضى الله عنهما : في ابن آدم نفس وروح بينهما شعاع مثل شعاع الشمس ، فالنفس هي التي بها العقل والتمييز ، والروح هي التي بها النفس والتحرك ، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه . وعن علي رضي الله عنه قال : تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعها في الجسد فذلك يرى الرؤيا ، فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة ، وعنه ما رأت عين النائم في السماء فهي الرؤيا الصادقة ، وما رأت بعد الإرسال فيلقنها الشيطان فهي كاذبة .
وعن سعيد بن جبير : أن أرواح الأحياء وأرواح الأموات تلتقي في المنام فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف ، فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجسادها إلى انقضاء حياتها . ورُوي أن أرواح المؤمنين تعرج عند النوم في السماء فمن كان منهم طاهراً أذن في السجود ، ومن لم يكن منهم طاهراً لم يؤذن له فيه { إِنَّ فِى ذَلِكَ } إن في توفي الأنفس ميتة ونائمة وإمساكها وإرسالها إلى أجل { لآيَاتٍ } على قدرة الله وعلمه { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون { أَمِ اتخذوا } بل اتخذ قريش والهمزة للإنكار { مِن دُونِ الله } من دون إذنه { شُفَعَآءَ } حين قالوا { هؤلاءآء شفعاؤنا عِندَ الله } [ يونس : 18 ] ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه { قُلْ أَوَ لَّوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } معناه أيشفعون ولو كانوا لا يملكون شيئاً قط ولا عقل لهم؟ { قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً } أي هو مالكها فلا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه وانتصب { جَمِيعاً } على الحال { لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض } تقرير لقوله { لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً } لأنه إذا كان له الملك كله والشفاعة من الملك كان مالكاً لها . { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } متصل بما يليه معناه له ملك السماوات والأرض واليوم ثم إليه ترجعون يوم القيامة فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له فله ملك الدنيا والآخرة .
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
{ وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ } مدار المعنى على قوله { وَحْدَهُ } أي إذا أفرد الله بالذكر ولم تذكر معه آلهتهم { اشمأزت } أي نفرت وانقبضت { قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ } يعني آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكر { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } لافتتانهم بها ، وإذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له نفروا لأن فيه نفياً لآلهتهم ، ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما غاية في بابه ، فالاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل ، والاشمئزاز أن يمتلىء غماً وغيظاً حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه ، والعامل في { إِذَا ذُكِرَ } هو العامل في «إذا» المفاجأة . تقديره : وقت ذكر الذين من دونه فاجئوا وقت الاستبشار { قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض } أي يا فاطر ، وليس بوصف كما يقوله المبرد والفراء { عالم الغيب والشهادة } السر والعلانية { أَنتَ تَحْكُمُ } تقضي { بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من الهدى والضلالة ، وقيل : هذه محاكمة من النبي للمشركين إلى الله . وعن ابن المسيب : لا أعرف آية قرئت فدعي عندها إلا أجيب سواها . وعن الربيع بن خيثم وكان قليل الكلام أنه أخبر بقتل الحسين رضي الله عنه وقالوا : الآن يتكلم فما زاد أن قال : آه أوقد فعلوا وقرأ هذه الآية . ورُوي أنه قال على أثره : قتل من كان صلى الله عليه وسلم يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه .
{ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } الهاء تعود إلى «ما» { لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ العذاب } شدته { يَوْمَ القيامة وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } وظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن قط في حسبانهم ولا يحدثون به نفوسهم . وقيل : عملوا أعمالاً حسبوها حسنات فإذا هي سيئات ، وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال : ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء . وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له فقال : أخشى آية من كتاب الله وتلاها ، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي سيئات أعمالهم التي كسبوها أو سيئات كسبهم حين تعرض صحائف أعمالهم وكانت خافية عليهم أو عقاب ذلك { وَحَاقَ بِهِم } ونزل بهم وأحاط { مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } جزاء هزئهم .
{ فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خولناه } أي أعطيناه تفضلاً . يقال : خولني إذا أعطاك على غير جزاء { نِعْمَةً مِّنَّا } ولا تقف عليه لأن جواب «إذا» { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } مني أني سأعطاه لما فيّ من فضل واستحقاق ، أو على علم مني بوجوه الكسب كما قال قارون
{ على عِلْمٍ عِندِى } [ القصص : 78 ] وإنما ذكر الضمير في { أُوتِيتُهُ } وهو للنعمة نظراً إلى المعنى لأن قوله { نِعْمَةً مّنَّا } شيئاً من النعمة وقسماً منها . وقيل : «ما» في «إنما» موصولة لا كافة فيرجع الضمير إليها أي إن الذي أوتيته على علم { بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ } إنكار له كأنه قال : ما خولناك من النعمة لما تقول بل هي فتنة أي ابتلاء وامتحان لك أتشكر أم تكفر . ولما كان الخبر مؤنثاً أعني فتنة ساغ تأنيث المبتدأ لأجله ، وقريء بل هو فتنة على وفق { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ } { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنها فتنة ، والسبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أول السورة بالواو ، أن هذه وقعت مسببة عن قوله { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت } على معنى أنهم يشمئزون من ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز بذكره دون من استبشر بذكره وما بينهما من الآي اعتراض .
فإن قلت : حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه . قلت : ما في الاعتراض من دعاء الرسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بأمر من الله وقوله { أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ } ثم ما عقبه من الوعيد العظيم ، تأكيد لإنكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم كأنه قيل : يا رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترئون عليك مثل هذه الجرأة إلا أنت ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } متناول هم ولكل ظالم إن جعل عاماً ، أو إياهم خاصة إن عنيتهم به كأنه قيل : ولو أن لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به حين حكم عليهم بسوء العذاب ، وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو نحو «قام زيد وقعد عمرو» ، وبيان وقوعها مسببة أنك تقول : زيد يؤمن بالله فإذا مسه ضر التجأ إليه ، فهذا تسبيب ظاهر ، ثم تقول : زيد كافر بالله فإذا مسه ضر التجأ إليه ، فتجيء بالفاء مجيئك بها ثمة كأن الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه مقيم كفره مقام الإيمان في جعله سبباً في الالتجاء { قَدْ قَالَهَا } هذه المقالة وهي قوله { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } { الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي قارون وقومه حيث قال : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى } [ القصص : 78 ] وقومه راضون بها ، فكأنهم قالوها ، ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من متاع الدنيا وما يجمعون منها .
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
{ فأصابهم سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي جزاء سيئات كسبهم ، أو سمى جزاء السيئة سيئة للازدواج كقوله : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] . { والذين ظَلَمُواْ } كفروا { مِنْ هَؤُلآءِ } أي من مشركي قومك { سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي سيصيبهم مثل ما أصاب أولئك ، فقتل صناديدهم ببدر وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } بفائتين من عذاب الله ، ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين فقيل لهم { أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } ويضيق . وقيل : يجعله على قدر القوت { إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بأنه لا قابض ولا باسط إلا الله عز وجل .
{ قُلْ ياعبادى الذين } وبسكون الياء : بصري وحمزة وعلي { أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلو فيها { لاَ تَقْنَطُواْ } لا تيأسوا ، وبكسر النون : علي وبصري { مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } بالعفو عنها إلا الشرك ، وفي قراءة النبي عليه السلام يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي ، ونظير نفي المبالاة نفي الخوف في قوله { وَلاَ يَخَافُ عقباها } [ الشمس : 16 ] . قيل : نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية " { إِنَّهُ هُوَ الغفور } بستر عظائم الذنوب { الرحيم } بكشف فظائع الكروب { وَأَنِيبُواْ إلى رَبِّكُمْ } وتوبوا إليه { وَأَسْلِمُواْ لَهُ } وأخلصوا له العمل { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب { واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } مثل قوله : { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وقوله { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } أي يفجؤكم وأنتم غافلون كأنكم لا تخشون شيئاً لفرط غفلتكم .
{ أَن تَقُولَ } لئلا تقول { نَفْسٌ } إنما نكرت لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر ، ويجوز أن يراد نفس متميزة من الأنفس إما بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم ، ويجوز أن يراد التكثير { ياحسرتى } الألف بدل من ياء المتكلم ، وقرىء : { يا حسرتي } على الأصل و { يا حسرتاي } على الجمع بين العوض والمعوض منه { على مَا فَرَّطَتُ } قصرت و«ما» مصدرية مثلها في { بِمَا رَحُبَتْ } [ التوبة : 25 ] { فِى جَنبِ الله } في أمر الله أو في طاعة الله أو في ذاته ، وفي حرف عبد الله في ذكر الله والجنب الجانب يقال : أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته ، وفلان لين الجانب والجنب ، ثم قالوا : فرط في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه ، وهذا من باب الكناية لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبته فيه ، ومنه الحديث :
" من الشرك الخفي أن يصلي الرجل لمكان الرجل " أي لأجله ، وقال الزجاج : معناه فرط في طريق الله وهو توحيده والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم { وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين } المستهزئين . قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها . ومحل { وَإِن كُنتُ } النصب على الحال كأنه قال : فرطت وأنا ساخر أي فرطت في حال سخريتي { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى } أي أعطاني الهداية { لَكُنتُ مِنَ المتقين } من الذين يتقون الشرك ، قال الشيخ الإمام أبو منصور رحمه الله تعالى : هذا الكافر أعرف بهداية الله من المعتزلة ، وكذا أولئك الكفرة الذين قالوا لأتباعهم : { لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ } [ إبراهيم : 21 ] يقولون : لو وفقنا الله للهداية وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه ، ولكن علم منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا ، والمعتزلة يقولون : بل هداهم وأعطاهم التوفيق لكنهم لم يهتدوا . والحاصل أن عند الله لطفاً من أعطى ذلك اهتدى ، وهو التوفيق والعصمة ومن لم يعطه ضل وغوى ، وكان استحبابه العذاب وتضييعه الحق بعدما مكن من تحصيله لذلك { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً } رجعة إلى الدنيا { فَأَكُونَ مِنَ المحسنين } من الموحدين { بلى قَدْ جَآءَتْكَ ءاياتى فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين } «بلى» رد من الله عليه كأنه يقول : بلى قد جاءتك آياتي وبينت لك الهداية من الغواية وسبيل الحق من الباطل ومكنتك من اختيار الهداية على الغواية واختيار الحق على الباطل ، ولكن تركت ذلك وضيعته واستكبرت عن قبوله ، وآثرت الضلالة على الهدى ، واشتغلت بضد ما أمرت به فإنما جاء التضييع من قبلك فلا عذر لك ، و { بلى } جواب لنفي تقديري لأن المعنى : لو أن الله هداني ما هديت وإنما لم يقرن الجواب به ، لأنه لا بد من حكاية أقوال النفس على ترتيبها ثم الجواب من بينها عما اقتضى الجواب .
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
{ وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله } وصفوه بما لا يجوز عليه من إضافة الشريك والولد إليه ، ونفى الصفات عنه { وُجُوهُهُمْ } مبتدأ { مُّسْوَدَّةٌ } خبر والجملة في محل النصب على الحال إن كان ترى من رؤية البصر ، وإن كان من رؤية القلب فمفعول ثانٍ { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى } منزل { لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } هو إشارة إلى قوله { واستكبرت } { وَيُنَجِّى الله } { وَيُنَجّى } : روح { الذين اتقوا } من الشرك { بِمَفَازَتِهِمْ } بفلاحهم يقال : فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه وتفسيره المفازة { لاَ يَمَسُّهُمُ السوء } النار { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } كأنه قيل : وما مفازتهم؟ قيل : لا يمسهم السوء أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم . أي لا يمس أبدانهم أذى ولا قلوبهم خزي ، أو بسبب منجاتهم من قوله تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب } [ آل عمران : 188 ] . أي بمنجاة منه؛ لأن النجاة من أعظم الفلاح وسبب منجاتهم العمل الصالح ، ولهذا فسر ابن عباس رضي الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة ويجوز بسبب فلاحهم لأن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة ، ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها ، ولا محل ل { لاَ يَمَسُّهُمُ } على التفسير الأول لأنه كلام مستأنف ، ومحله النصب على الحال على الثاني . { بمفازاتهم } كوفي غير حفص .
{ الله خالق كُلِّ شَىْءٍ } رد على المعتزلة والثنوية { وَهُوَ على كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ } حافظ . { لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض } أي هو مالك أمرها وحافظها ، وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها ، ومنه قولهم : فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي المفاتيح واحدها مقليد ، وقيل : لا واحد لها من لفظها ، والكلمة أصلها فارسية { والذين كَفَرُواْ بئايات الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } هو متصل بقوله { وَيُنَجّى الله الذين اتقوا } أي ينجي الله المتقين بمفازاتهم والذين كفروا هم الخاسرون . واعترض بينهما بأنه خالق كل شيء ، فهو مهيمن عليه ، فلا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يجزون عليها ، أو بما يليه على أن كل شيء في السماوات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه ، والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك أولئك هم الخاسرون ، وقيل : سأل عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله : { لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض } فقال « يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك ، تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير » وتأويله على هذا أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد وهي مفاتيح خير السماوات والأرض من تكلم بها من المتقين أصابه ، والذين كفروا بآيات الله وكلمات توحيده وتمجيده أولئك هم الخاسرون .
{ قُلْ } لمن دعاك إلى دين آبائك { أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ } { تَأْمُرُونِّىَّ } مكي ، { تأمرونني } على الأصل : شامي ، { تَأْمُرُونِىَ } مدني ، وانتصب . { أَفَغَيْرَ الله } ب { أَعْبُدُ } و { تَأْمُرُونّى } اعتراض ، ومعناه أفغير الله أعبد بأمركم بعد هذا البيان { أَيُّهَا الجاهلون } بتوحيد الله { وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } من الأنبياء عليهم السلام { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الذي علمت قبل الشرك { وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } وإنما قال { لَئِنْ أَشْرَكْتَ } على التوحيد والموحى إليهم جماعة لأن معناه أوحي إليك لئن أشركت ليحبطنّ عملك وإلى الذين من قبلك مثله ، واللام الأولى موطئة للقسم المحذوف ، والثانية لام الجواب ، وهذا الجواب ساد مسد الجوابين أعني جوابي القسم والشرط . وإنما صح هذا الكلام مع علمه تعالى بأن رسله لا يشركون لأن الخطاب للنبي عليه السلام والمراد به غيره ، ولأنه على سبيل الفرض ، والمحالات يصح فرضها . وقيل : لئن طالعت غيري في السر ليحبطن ما بيني وبينك من السر { بَلِ الله فاعبد } رد لما أمروه من عبادة آلهتهم كأنه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته بل إن عبدت فاعبد الله؛ فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضاً عنه { وَكُنْ مِّنَ الشاكرين } على ما أنعم به عليك من أن جعلك سيد ولد آدم { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } وما عظموه حق عظمته إذ دعوك إلى عبادة غيره ، ولما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق تعظيمه قيل : وما قدروا الله حق قدره .
ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريق التخييل فقال : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } والمراد بهذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقية أو جهة مجاز . والمراد بالأرض الأرضون السبع يشهد لذلك قوله { جَمِيعاً } ، وقوله { والسماوات } ولأن الموضع موضع تعظيم فهو مقتضٍ للمبالغة ، و { الأرض } مبتدأ و { قَبْضَتُهُ } الخبر و { جَمِيعاً } منصوب على الحال أي : والأرض إذا كانت مجتمعة قبضته يوم القيامة ، والقَبضة : المرة من القبضة . والقُبضة : المقدار المقبوض بالكف ، ويقال : أعطني قبضة من كذا تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر ، وكلا المعنين محتمل ، والمعنى والأرضون جميعاً قبضته أي ذوات قبضته بقبضهن قبضة واحدة يعني أن الأرضين مع عظمهن وبسطهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة كما تقول : الجزور أكلة لقمان أي لا تفي إلا بأكلة فذة من أكلاته .
وإذا أريد معنى القبضة فظاهر ، لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة . والمطويات من الطي الذي هو ضد النشر كما قال : { يَوْمَ نَطْوِى السماء كَطَىّ السجل لِلْكُتُبِ } [ الأنبياء : 104 ] . وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه ، وقيل : قبضته ملكه بلا مدافع ولا منازع وبيمينه بقدرته . وقيل : مطويات بيمينه مفنيات بقسمه لأنه أقسم أن يفنيها { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ما أبعد من هذه قدرته وعظمته وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء . { وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ } مات { مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله } أي جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، وقيل : هم حملة العرش أو رضوان والحور العين ومالك والزبانية { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى } هي في محل الرفع لأن المعنى ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه نفخة أخرى ، وإنما حذفت لدلالة { أخرى } عليها ، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب أو ينظرون أمر الله فيهم ، ودلت الآية على أن النفخة اثنتان : الأولى للموت والثانية للبعث ، والجمهور على أنها ثلاث : الأولى للفزع ، كما قال : { وَنُفِخَ فِى الصور فَفَزِعَ } [ النمل : 87 ] ، والثانية للموت والثالثة للإعادة .
{ وَأَشْرَقَتِ الأرض } أضاءت { بِنُورِ رَبِّهَا } أي بعدله بطريق الاستعارة . يقال للملك العادل : أشرقت الآفاق بعدلك ، وأضاءت الدنيا بقسطك . كما يقال أظلمت البلاد بجور فلان ، وقال عليه الصلاة والسلام : « الظلم ظلمات يوم القيامة » وإضافة اسمه إلى الأرض لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله ، وينصب فيها موازين قسطه ، ويحكم بالحق بين أهلها ، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ولا أعمر لها منه ، وقال الإمام أبو منصور رحمه الله : يجوز أن يخلق الله نوراً فينور به أرض الموقف ، وإضافته إليه تعالى للتخصيص كبيت الله وناقة الله { وَوُضِعَ الكتاب } أي صحائف الأعمال ، ولكنه اكتفى باسم الجنس أو اللوح المحفوظ { وَجَايئَ بالنبيين } ليسألهم ربهم عن تبليغ الرسالة وما أجابهم قومهم { والشهداء } الحفظة . وقيل : هم الأبرار في كل زمان يشهدون على أهل ذلك الزمان { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } بين العباد { بالحق } بالعدل { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ختم الآية بنفي الظلم كما افتتحها بإثبات العدل { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } أي جزاءه { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } من غير كتاب ولا شاهد ، وقيل : هذه الآية تفسير قوله { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } . أي ووفيت كل نفس ما عملت من خير وشر لا يزاد في شر ولا ينقص من خير .
{ وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ } سوقاً عنيفاً ، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل { زُمَراً } حال أي أفواجاً متفرقة بعضها في أثر بعض { حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ } بالتخفيف فيهما : كوفي { أبوابها } وهي سبعة { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } أي حفظة جهنم وهم الملائكة الموكلون بتعذيب أهلها { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } من بني آدم { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايات رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } أي وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة { قَالُواْ بلى } أتونا وتلوا علينا { ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } أي ولكن وجبت علينا كلمة الله
{ لأملأن جهنم } [ الأعراف : 18 ] بسوء أعمالنا كما قالوا : { غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ } [ المؤمنون : 106 ] ، فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب وهو الكفر والضلال .
{ قِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا } حال مقدرة أي مقدرين الخلود { فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } اللام فيه للجنس لأن { مَثْوَى المتكبرين } فاعل «بئس» و«بئس» فاعلها اسم معرف بلام الجنس أو مضاف إلى مثله ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره فبئس مثوى المتكبرين جهنم . { وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً } المراد سوق مراكبهم ، لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرم ويشرف من الوافدين على بعض الملوك { حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا } هي التي تحكى بعدها الجمل والجملة المحكية بعدها هي الشرطية إلا أن جزاءها محذوف ، وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف ، وقال الزجاج : تقديره حتى إذا جاءوها { وَفُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خالدين } دخلوها فحذف دخولها؛ لأن في الكلام دليلاً عليه . وقال قوم : حتى إذا جاءوها وجاءوها وفتحت أبوابها فعندهم جاءوها محذوف ، والمعنى : حتى إذا جاءوها وقع مجيئهم مع فتح أبوابها ، وقيل : أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها ، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها لقوله تعالى : { جنات عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب } [ ص : 50 ] . فلذلك جيء بالواو كأنه قال : حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها طبتم من دنس المعاصي ، وطهرتم من خبث الخطايا ، وقال الزجاج : أي كنتم طيبين في الدنيا ولم تكونوا خبيثين أي لم تكونوا أصحاب خبائث ، وقال ابن عباس : طاب لكم المقام ، وجعل دخول الجنة سببا عن الطيب والطهارة لأنها دار الطيبين ومثوى الطاهرين قد طهر من كل دنس وطيبها من كل قذر ، فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها .
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
{ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أنجزنا ما وعدنا في الدنيا من نعيم العقبى { وَأَوْرَثَنَا الأرض } أرض الجنة وقد أورثوها أي ملكوها وجعلوا ملوكها وأطلق تصرفهم فيها كما يشاءون تشبيهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه واتساعه فيه { نَتَبَوَّأُ } حال { مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ } أي يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة فيتبوأ أي فيتخذ متبوأ ومقراً من جنته حيث يشاء { فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } في الدنيا الجنة { وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ } حال من { الملائكة } { مِنْ حَوْلِ العرش } أي محدقين من حوله . و«من» لابتداء الغاية أي ابتداء حفوفهم من حول العرش إلى حيث شاء الله { يُسَبِّحُونَ } حال من الضمير في { حَافّينَ } { بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } أي يقولون : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، أو سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، وذلك للتلذذ دون التعبد لزوال التكليف { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } بين الأنبياء والأمم أو بين أهل الجنة والنار { بالحق } بالعدل { وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين } أي يقول أهل الجنة شكراً حين دخولها ، وتم وعد الله لهم كما قال { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر . الحوايم السبع كلها مكية عن ابن عباس رضي الله عنهما
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
{ حم } وما بعده بالإمالة : حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد ، وبني الفتح والكسر : مدني ، وغيرهم بالتفخيم ، وعن ابن عباس أنه اسم الله الأعظم { تَنزِيلُ الكتاب } أي هذا تنزيل الكتاب { مِنَ الله العزيز } أي المنيع بسلطانه عن أن يتقول عليه متقول { العليم } بمن صدق به وكذب ، فهو تهديد للمشركين وبشارة للمؤمنين { غَافِرِ الذنب } ساتر ذنب المؤمنين { وَقَابِلِ التوب } قابل توبة الراجعين { شَدِيدِ العقاب } على المخالفين { ذِى الطول } ذي الفضل على العارفين أو ذي الغنى عن الكل ، وعن ابن عباس : غافر الذنب وقابل التوب لمن قال لا إله إلا الله ، شديد العقاب لمن لا يقول لا إله إلا الله . والتوب والثوب والأوب أخوات في معنى الرجوع ، والطول الغنى والفضل ، فإن قلت : كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً والموصوف معرفة؟ قلت : أما غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين حتى يكونا في تقدير الانفصال فتكون إضافتهما غير حقيقية . وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه ، وأما شديد العقاب فهو في تقدير شديد عقابه فتكون نكرة ، فقيل هو بدل .
وقيل : لما وجدت هذه النكرة بين هذه المعارف آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف . وإدخال الواو في { وَقَابِلِ التوب } لنكتة وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات ، وأن يجعلها محّاءة للذنوب كأن لم يذنب كأنه قال : جامع المغفرة والقبول ، ورُوي أن عمر رضي الله عنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام ، فقيل له : تتابع في هذا الشراب ، فقال عمر لكاتبه : اكتب من عمر إلى فلان : سلام عليك وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو . بسم الله الرحمن الرحيم { حم } إلى قوله { إِلَيْهِ المصير } . وختم الكتاب قال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة . فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى ، ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته . فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا له الله أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه .
{ لآ إله إِلاَّ هُوَ } صفة أيضاً ل { ذِى الطول } ويجوز أن يكون مستأنفاً { إِلَيْهِ المصير } المرجع { مَا يجادل فِى ءايات الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ } ما يخاصم فيها بالتكذيب بها والإنكار لها ، وقد دل على ذلك في قوله { وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } [ غافر : 5 ] فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها واستنباط معانيها ورد أهل الزيغ بها فأعظم جهاد في سبيل الله { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد } بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة سالمين غانمين فإن عاقبة أمرهم إلى العذاب ، ثم بين كيف ذلك فأعلم أن الأمم الذين كذبت قبلهم أهلكت فقال { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } نوحاً { والأحزاب } أي الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم وهم عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم { مِّن بَعْدِهِمْ } من بعد قوم نوح { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ } من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب { بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } ليتمكنوا منه فيقتلوه .
والأخيذ : الأسير { وجادلوا بالباطل } بالكفر { لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } ليبطلوا به الإيمان { فَأَخَذَتْهُمْ } مظهر : مكي وحفص يعني أنهم قصدوا أخذه فجعلت جزاءهم على إرادة أخذ الرسل أن أخذتهم فعاقبتهم { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } وبالياء : يعقوب . أي فإنكم تمرون على بلادهم فتعاينون أثر ذلك ، وهذا تقرير فيه معنى التعجيب { وكذلك حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } { كلمات رَبكَ } مدني وشامي { أَنَّهُمْ أصحاب النار } في محل الرفع بدل من { كلمة ربك } أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار ، ومعناه كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة . أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل و { الذين كَفَرُواْ } قريش ، ومعناه كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء؛ لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار ، ويلزم الوقف على النار . لأنه لو وصل لصار
{ الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ } يعني حاملي العرش والحافين حوله وهم الكروبيون سادة الملائكة صفة لأصحاب النار وفساده ظاهر . رُوي أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورءوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وفي الحديث " إن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة " وقيل : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو «يسبح بما لا يسبح به الآخر» . { يُسَبِّحُونَ } خبر المبتدأ وهو { الذين } { بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } أي مع حمده إذ الباء تدل على أن تسبيحهم بالحمدلة { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } وفائدته مع علمنا بأن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع بالصلاح لذلك ، وكما عقب أعمال الخير بقوله : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } [ البلد : 17 ] . فأبان بذلك فضل الإيمان ، وقد روعي التناسب في قوله : { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } .
{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } كأنه قيل : ويؤمنون به ويستغفرون لمن في مثل حالهم ، وفيه دليل على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة والشفقة ، وإن تباعدت الأجناس والأماكن { رَبَّنَا } أي يقولون ربنا وهذا المحذوف حال { وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } والرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى ، إذ الأصل وسع كل شيء رحمتك وعلمك ، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم وأخرجا منصوبين على التمييز مبالغة في وصفه بالرحمة والعلم { فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ } أي للذين علمت منهم التوبة لتناسب ذكر الرحمة والعلم { واتبعوا سَبِيلَكَ } أي طريق الهدى الذي دعوت إليه { وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ } «من» في موضع نصب عطف على «هم» في { وَأَدْخِلْهُمْ } أو في { وَعَدْتَّهُمْ } والمعنى وعدتهم ووعدت من صلح من آبائهم { وأزواجهم وذرياتهم إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } أي الملك الذي لا يغلب ، وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئاً خالياً من الحكمة وموجب حكمتك أن تفي بوعدك { وَقِهِمُ السيئات } أي جزاء السيئات وهو عذاب النار { وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ } أي رفع العذاب { هُوَ الفوز العظيم } .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ } أي يوم القيامة إذا دخلوا النار ومقتوا أنفسهم فيناديهم خزنة النار { لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } أي لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم ، فاستغنى بذكرها مرة ، والمقت أشد البغض ، وانتصاب { إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان } بالمقت الأول عند الزمخشري ، والمعنى أنه يقال لهم يوم القيامة : كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشد مما تمقتونهن اليوم ، وأنتم في النار إذا وقعتم فيها باتباعكم هواهن ، وقيل : معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض كقوله : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [ العنكبوت : 25 ] ، و { إِذْ تَدْعُونَ } تعليل ، وقال جامع العلوم وغيره : «إذ» منصوب بفعل مضمر دل عليه { لَمَقْتُ الله } أي يمقتهم الله حين دعوا إلى الإيمان فكفروا ، ولا ينتصب بالمقت الأول لأن قوله { لَمَقْتُ الله } مبتدأ وهو مصدر وخبره { أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } ، فلا يعمل في { إِذْ تَدْعُونَ } ؛ لأن المصدر إذا أخبر عنه لم يجز أن يتعلق به شيء يكون في صلته لأن الإخبار عنه يؤذن بتمامه ، وما يتعلق به يؤذن بنقصانه ، ولا بالثاني لاختلاف الزمانين ، وهذا لأنهم مقتوا أنفسهم في النار وقد دعوا إلى الإيمان في الدنيا { فَتَكْفُرُونَ } فتصرون على الكفر .
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)
{ قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } أي إماتتين وإحياءتين أو موتتين وحياتين ، وأراد بالإماتتين خلقهم أمواتاً أولاً وإماتتهم عند انقضاء آجالهم ، وصح أن يسمى خلقهم أمواتاً إماتة ، كما صح أن يقال : سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل ، وليس ثمة نقل من كبر إلى صغر ، ولا من صغر إلى كبر ، والسبب فيه أن الصغر والكبر جائزان على المصنوع الواحد ، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله منه . وبالإحياءتين : الإحياءة الأولى في الدنيا ، والإحياءة الثانية البعث ، ويدل عليه قوله : { وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] . وقيل : الموتة الأولى في الدنيا ، والثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال ، والإحياء الأول إحياؤه في القبر بعد موته للسؤال ، والثاني للبعث { فاعترفنا بِذُنُوبِنَا } لما رأوا الإماتة والإحياء قد تكررا عليهم علموا أن الله قادر على الإعادة كما هو قادر على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم { فَهَلْ إلى خُرُوجٍ } من النار . أي إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء لنتخلص { مِّن سَبِيلٍ } قط أم اليأس واقع دون ذلك فلا خروج ولا سبيل إليه ، وهذا كلام من غلب عليه اليأس وإنما يقولون ذلك تحيراً ، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك وهو قوله { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ } أي ذلكم الذي أنتم فيه وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك به { فالحكم للَّهِ } حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد { العلى } شأنه ، فلا يرد قضاؤه { الكبير } العظيم سلطانه ، فلا يحد جزاؤه ، وقيل : كأن الحرورية أخذوا قولهم : لا حكم إلا لله من هذا . وقال قتادة : لما خرج أهل حروراء قال علي رضي الله عنه : من هؤلاء؟ قيل : المحكمون . أي يقولون : لا حكم إلا لله ، فقال علي رضي الله عنه : كلمة حق أريد بها باطل .
{ هُوَ الذى يُرِيكُمْ ءاياته } من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السماء } وبالتخفيف : مكي وبصري { رِزْقاً } مطراً؛ لأنه سبب الرزق { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ } وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلا من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله ، فإن المعاند لا يتذكر ولا يتعظ ، ثم قال للمنيبين : { فادعوا الله } فاعبدوه { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } من الشرك { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } وإن غاظ ذلك أعداءكم ممن ليس على دينكم { رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِى الروح } ثلاثة أخبار لقوله هو مرتبة على قوله : { الذى يريكم } . أو أخبار مبتدأ محذوف ، ومعنى رفيع الدرجات رافع السماوات بعضها فوق بعض ، أو رافع درجات عباده في الدنيا بالمنزلة ، أو رافع منازلهم في الجنة .
وذو العرش مالك عرشه الذي فوق السماوات خلقه مطافاً للملائكة إظهاراً لعظمته مع استغنائه في مملكته ، والروح جبريل عليه السلام ، أو الوحي الذي تحيا به القلوب { مِنْ أَمْرِهِ } من أجل أمره أو بأمره { على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ } أي الله أو الملقى عليه وهو النبي عليه السلام ويدل عليه قراءة يعقوب { لّتُنذِرَ } { يَوْمَ التلاق } يوم القيامة لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض والأولون والآخرون . { التلاقي } : مكي ويعقوب { يَوْمَ هُم بارزون } ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْءٌ } أي من أعمالهم وأحوالهم { لّمَنِ الملك اليوم } أي يقول الله تعالى ذلك حين لا أحد يجيبه ، ثم يجيب نفسه بقوله { للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } أي الذي قهر الخلق بالموت ، وينتصب { اليوم } بمدلول { لِمَنْ } أي لمن ثبت الملك في هذا اليوم ، وقيل : ينادي منادٍ فيقول : لمن الملك اليوم فيجيبه أهل المحشر : لله الواحد القهار .
{ اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } لما قرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدد نتائج ذلك وهي أن كل نفس تجزى بما كسبت عملت في الدنيا من خير وشر ، وأن الظلم مأمون منه لأنه ليس بظلام للعبيد ، وأن الحساب لا يبطيء لأنه لا يشغله حساب عن حساب ، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزفة } أي القيامة سميت بها لأزوفها أي لقربها ، ويبدل من يوم الآزفة { إِذِ القلوب لَدَى الحناجر } أي التراقي يعني ترتفع قلوبهم عن مقارها فتلصق بحناجرهم فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروّحوا { كاظمين } ممسكين بحناجرهم . من كظم القربة شد رأسها ، وهو حال من القلوب محمول على أصحابها ، أو إنما جمع الكاظم جمع السلامة لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء { مَا للظالمين } الكافرين { مِنْ حَمِيمٍ } محب مشفق { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } أي يشفع وهو مجاز عن الطاعة ، لأن الطاعة حقيقة لا تكون إلا لمن فوقك ، والمراد نفي الشفاعة والطاعة كما في قوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر ... يريد نفي الضب وانجحاره ، وإن احتمل اللفظ انتفاء الطاعة دون الشفاعة ، فعن الحسن : والله ما يكون لهم شفيع البتة . { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين } مصدر بمعنى الخيانة كالعافية بمعنى المعافاة والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل { وَمَا تُخْفِى الصدور } وما تسره من أمانة وخيانة ، وقيل : هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوة مسارقة ، ثم يتفكر بقلبه في جمالها ولا يعلم بنظرته وفكرته من بحضرته ، والله يعلم ذلك كله ويعلم خائنة الأعين خبر من أخبار هو في قوله : { هُوَ الذى يُرِيكُمْ ءاياته } .
مثل { يُلْقِى الروح } ولكن يلقي الروح قد علل بقوله : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } ثم استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } فبعد لذلك عن أخواته { والله يَقْضِى بالحق } أي والذي هذه صفاته لا يحكم إلا بالعدل { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَىْءٍ } وآلهتهم لا يقضون بشيء ، وهذا تهكم بهم لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي . { تَدْعُونَ } نافع { إِنَّ الله هُوَ السميع البصير } تقرير لقوله { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِى الصدور } ، ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون ، وأنه يعاقبهم عليه ، وتعريض بما يدعون من دونه وأنها لا تسمع ولا تبصر { أَوَ لَمْ يَسِيروُاْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ } أي آخر أمر الذين كذبوا الرسل من قبلهم { كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } «هم» فصل ، وحقه أن يقع بين معرفتين إلا أن أشد منهم ضارع المعرفة في أنه لا تدخله الألف واللام ، فأجري مجراه . { مّنكُمْ } : شامي . { وَءَاثَاراً فِى الأرض } أي حصوناً وقصوراً { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } عاقبهم بسبب ذنوبهم { وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ } ولم يكن لهم شيء يقيهم من عذاب الله .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } أي الأخذ بسبب أنهم { كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِىٌّ } قادر على كل شيء { شَدِيدُ العقاب } إذا عاقب . { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا } التسع { وسلطان مُّبِينٍ } وحجة ظاهرة { إلى فِرْعَوْنَ وهامان وقارون فَقَالُواْ } هو { ساحر كَذَّابٌ } فسموا السلطان المبين سحراً وكذباً { فَلَمَّا جَآءَهُمْ بالحق } بالنبوة { مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقتلوا أَبْنَآءَ الذين ءَامَنُواْ مَعَهُ } أي أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولاً { واستحيوا نِسَآءَهُمْ } للخدمة { وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِى ضلال } ضياع يعني أنهم باشروا قتلهم أولاً فما أغنى عنهم! ، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه فما يغني عنهم هذا القتل الثاني ، وكان فرعون قد كف عن قتل الولدان ، فلما بعث موسى عليه السلام وأحس بأنه قد وقع أعاده عليهم غيظاً وظناً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى عليه السلام ، وما علم أن كيده ضائع في الكرتين جميعاً { وَقَالَ فِرْعَوْنُ } لملئه { ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى } كان إذا همّ بقتله كفوه بقولهم : ليس بالذي تخافه وهو أقل من ذلك ، وما هو إلا ساحر ، وإذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة ، والظاهر أن فرعون قد استيقن أنه نبي وأن ما جاء به آيات وما هو بسحر ، ولكن كان فيه خب وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء ، فكيف لا يقتل من أحس بأنه هو الذي يهدم ملكه؟ ، ولكن كان يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك ، وقوله { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه ، وكان قوله : { ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى } تمويهاً على قومه وإيهاماً أنهم هم الذين يكفونه وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع { إِنِّى أَخَافُ } إن لم أقتله { أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ } أن يغير ما أنتم عليه . وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام { أَوْ أَن يُظْهِرَ } موسى { فِى الأرض الفساد } بضم الياء ونصب الدال : مدني وبصري وحفص ، وغيرهم بفتح الياء ورفع الدال ، والأول أولى لموافقة { يبدل } . والفساد في الأرض التقاتل والتهايج الذي يذهب معه الأمن ، وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش ويهلك الناس قتلاً وضياعاً كأنه قال : إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه ، وقرأ غير أهل الكوفة { وَأَنْ } ، ومعناه إني أخاف فساد دينكم ودنياكم معاً . { وَقَالَ مُوسَى } لما سمع بما أجراه فرعون من حديث قتله لقومه { إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب } وفي قوله { وَرَبِّكُمْ } بعث لهم على أن يقتدوا به فيعوذوا بالله عياذه ، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه ، وقال { مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ } لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة ، وليكون على طريقة التعريض فيكون أبلغ ، وأراد بالتكبر الاستكبارعن الاذعان للحق وهو أقبح استكبار ، وأدل على دناءة صاحبه وعلى فرط ظلمه ، وقال : { لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب } : لأنه إذا اجتمع في الرجل التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله وعباده ، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها ، وعذت ولذت أخوان .
{ وعت } بالإدغام : أبو عمرو وحمزة وعلي .
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانه } قيل : كان قبطياً ابن عم لفرعون آمن بموسى سراً ، و { مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } صفة ل { رَجُلٌ } ، وقيل : كان إسرائيلياً ومن آل فرعون صلة ليكتم أي يكتم إيمانه من آل فرعون واسمه سمعان أو حبيب أو خربيل أو حزبيل ، والظاهر الأول { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ } لأن يقول وهذا إنكار منه عظيم كأنه قيل : أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق؟ ، وهي قوله { رَبِّىَ الله } وهو ربكم أيضاً لا ربه وحده { وَقَدْ جَآءَكُمْ } الجملة حال { بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } يعني أنه لم يحضر لتصحيح قوله ببينة واحدة ولكن ببينات من عند من نسب إليه الربوبية وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به { وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ } احتج عليهم بطريق التقسيم فإنه لا يخلو من أن يكون كاذباً أو صادقاً ، فإن يك كاذباً فعليه وبال كذبه ولا يتخطاه ، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم من العذاب ، ولم يقل «كل الذي يعدكم» مع أنه وعد من نبي صادق القول مداراة لهم وسلوكاً لطريق الإنصاف فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم له وليس فيه نفي إصابة الكل ، فكأنه قال لهم : أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض ما يعدكم وهو العذاب العاجل وفي ذلك هلاككم ، وكان وعدهم عذاب الدنيا والآخرة ، وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل أيضاً ، وتفسير البعض بالكل مزيف { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } مجاوز للحد { كَذَّابٌ } في ادعائه ، وهذا أيضاً من باب المجاملة ، والمعنى أنه إن كان مسرفاً كذاباً خذله الله وأهلكه فتتخلصون منه ، أو لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله بالنبوة ولما عضده بالبينات ، وقيل : أو هم أنه عنى بالمسرف موسى وهو يعني به فرعون .
{ ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين } عالين وهو حال من «كم» في { لَكُمْ } { فِى الأرض } في أرض مصر { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا } يعني أن لكم ملك مصر ، وقد علوتم الناس وقهرتموهم ، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ، ولا تتعرضوا لبأس الله أي عذابه ، فإنه لا طاقة لكم به إن جاءكم ولا يمنعكم منه أحد ، وقال { يَنصُرُنَا } و { جَاءنَا } لأنه منهم في القرابة ، وليعلمهم بأن الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى } أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قتله يعني لا أستصوب إلا قتله ، وهذا الذي تقولونه غير صواب { وَمَا أَهْدِيكُمْ } بهذا الرأي { إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } طريق الصواب والصلاح ، أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا أدخر منه شيئاً ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر .
يعني أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول ، وقد كذب فقد كان مستشعراً للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام ، ولكنه كان يتجلد ، ولولا استشعاره لم يستشر أحداً ولم يقف الأمر على الإشارة .
{ وَقَالَ الذى ءَامَنَ ياقوم إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب } أي مثل أيامهم : لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسرهم بقوله { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ } ولم يلتبس أن كل حزب منهم كان له يوم دمار اقتصر على الواحد من الجمع ، ودأب هؤلاء دءوبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي وكون ذلك دائباً دائماً منهم لا يفترون عنه ، ولا بد من حذف مضاف ، أي مثل جزاء دأبهم ، وانتصاب { مثل } الثاني بأنه عطف بيان ل { مثل } الأول { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } أي وما يريد الله أن يظلم عباده فيعذبهم بغير ذنب أو يزيد على قدر ما يستحقون من العذاب . يعني أن تدميرهم كان عدلاً لأنهم استحقوه بأعمالهم ، وهو أبلغ من قوله : { وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] حيث جعل المنفي إرادة ظلم منكّر ومن بعد عن إرادة ظلم ما لعباده كان عن الظلم أبعد وأبعد ، وتفسير المعتزلة بأنه لا يريد لهم أن يظلموا بعيد ، لأن أهل اللغة قالوا : إذا قال الرجل لآخر «لا أريد ظلماً لك» معناه لا أريد أن أظلمك ، وهذا تخويف بعذاب الدنيا .
ثم خوفهم من عذاب الآخرة بقوله { وياقوم إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد } أي يوم القيامة . { التنادي } مكي ويعقوب في الحالين وإثبات الياء هو الأصل وحذفها حسن لأن الكسرة تدل على الياء وآخر هذه الآي على الدال ، وهو ما حكى الله تعالى في سورة الأعراف : { وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار } [ الآية : 44 ] . { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } [ الأعراف : 50 ] . { ونادى أصحاب الأعراف } [ الآية : 48 ] . وقيل : ينادي منادٍ : ألا إن فلانا سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، ألا إن فلاناً شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } منحرفين عن موقف الحساب إلى النار { مَالَكُمْ مِنَ الله } من عذاب الله { مِنْ عَاصِمٍ } مانع ودافع { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } مرشد { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات } هو يوسف بن يعقوب ، وقيل : يوسف بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نبياً عشرين سنة ، وقيل : إن فرعون موسى هو فرعون يوسف إلى زمنه .
وقيل : هو فرعون آخر وبخهم بأن يوسف أتاكم من قبل موسى بالمعجزات { فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ } فشككتم فيها ولم تزالوا شاكين { حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } حكماً من عند أنفسكم من غير برهان . أي أقمتم على كفركم وظننتم أنه لا يجدد عليكم إيجاب الحجة { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } أي مثل هذا الإضلال يضل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب شاك في دينه .
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)
{ الذين يجادلون } بدل من { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } وجاز إبداله منه وهو جمع لأنه لا يريد مسرفاً واحداً بل كل مسرف { فِى ءايات الله } في دفعها وإبطالها { بِغَيْرِ سلطان } حجة { أتاهم كَبُرَ مَقْتاً } أي عظم بغضاً ، وفاعل { كَبُرَ } ضمير { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } وهو جمع معنى وموحد لفظاً فحمل البدل على معناه والضمير الراجع إليه على لفظه ، ويجوز أن يرفع { الذين } على الابتداء ، ولا بد في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع إليه الضمير في { كَبُرَ } تقديره جدال الذين يجادلون كبر مقتاً { عِندَ الله وَعِندَ الذين ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } . { قَلْبٍ } بالتنوين : أبو عمرو . وإنما وصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما كما تقول : سمعت الأذن وهو كقوله : { فإنه آثم قلبه } [ البقرة : 283 ] وإن كان الآثم هو الجملة .
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ } تمويهاً على قومه أو جهلاً منه { ياهامان ابن لِى صَرْحاً } أي قصراً . وقيل الصرح : البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد ، ومنه يقال : صرح الشيء إذا ظهر { لَّعَلِّى } وبفتح الياء : حجازي وشامي وأبو عمرو { أَبْلُغُ الأسباب } ثم أبدل منها تفخيماً لشأنها وإبانة أنه يقصد أمراً عظيماً { أسباب السماوات } أي طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه كالرشاء ونحوه { فَأَطَّلِعَ } بالنصب : حفص على جواب الترجي تشبيهاً للترجي بالتمني . وغيره بالرفع عطفاً على { أبلغ } { إلى إله موسى } والمعنى فأنظر إليه { وَإِنِّى لأَظُنُّهُ } أي موسى { كاذبا } في قوله له إله غيري { وكذلك } ومثل ذلك التزيين وذلك الصد { زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءَ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل } المستقيم . وبفتح الصاد : كوفي ويعقوب أي غيره صداً أو هو بنفسه صدوداً . والمزين الشيطان بوسوسته كقوله : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } [ النمل : 24 ] . أو الله تعالى ، ومثله : { زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم فَهُمْ يَعْمَهُونَ } [ النمل : 4 ] { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ } خسران وهلاك .
{ وَقَالَ الذى ءَامَنَ ياقوم اتبعون } { اتبعوني } في الحالين : مكي ويعقوب وسهل . { أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد } وهو نقيض الغي ، وفيه تعريض شبيه بالتصريح أن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي . أجمل أولاً ، ثم فسر فافتتح بذم الدنيا وتصغير شأنها بقوله { ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا متاع } تمتع يسير ، فالإخلاد إليها أصل الشر ومنبع الفتن وثنى بتعظيم الآخرة وبين أنها هي الوطن والمستقر بقوله { وَإِنَّ الآخرة هِىَ دَارُ القرار } ثم ذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما ليثبط عما يتلف وينشط لما يزلف بقوله :
{ مَنْ عَمِلَ سَيَّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } { يُدخلون } مكي وبصري ويزيد وأبو بكر ، ثم وازن بين الدعوتين دعوته إلى دين الله الذي ثمرته الجنات ، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار بقوله { وياقوم مَالِيَ } وبفتح الياء : حجازي وأبو عمرو { أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاوة } أي الجنة { وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار تَدْعُونَنِى لأكْفُرَ بالله } هو بدل من { تَدْعُونَنِى } الأول يقال : دعاه إلى كذا ودعاه له كما يقال هداه إلى الطريق وهداه له { وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } أي بربوبيته والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال : وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يصح أن يعلم إلهاً { وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار } وهو الله سبحانه وتعالى ، وتكرير النداء لزيادة التنبيه لهم والإيقاظ عن سنة الغفلة ، وفيه أنهم قومه وأنه من آل فرعون .
وجيء بالواو في النداء الثالث دون الثاني ، لأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل وتفسير له بخلاف الثالث .
{ لاَ جَرَمَ } عند البصريين لا رد لما دعاه إليه قومه ، و «جرم» فعل بمعنى حق و «أن» مع ما في حيزه فاعله أي حق ووجب بطلان دعوته { أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدنيا وَلاَ فِى الآخرة } معناه أن تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط أي من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد إلى طاعته ، وما تدعون إليه وإلى عبادته لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعي الربوبية ، أو معناه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة أو دعوة مستجابة ، جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة كلا دعوة ، أو سميت الاستجابة باسم الدعوة كما سمي الفعل المجازي عليه بالجزاء في قوله : «كما تدين تدان» { وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله } وأن رجوعنا إليه { وَأَنَّ المسرفين } وأن المشركين { هُمْ أصحاب النار فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ } أي من النصيحة عند نزول العذاب { وَأُفَوِّضُ } وأسلم { أَمْرِى } وبفتح الياء : مدني وأبو عمرو { إِلَى الله } لأنهم توعدوه { إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد } بأعمالهم ومالهم { فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ } شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم ، وقيل : إنه خرج من عندهم هارباً إلى جبل فبعث قريباً من ألف في طلبه فمنهم من أكلته السباع ومن رجع منهم صلبه فرعون { وَحَاقَ } ونزل .
{ بِأَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العذاب النار } بدل من { سُوءُ العذاب } أو خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ما سوء العذاب؟ فقيل : هو النار ، أو مبتدأ خبره { يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } وعرضهم عليها إحراقهم بها يقال : عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به .
{ غُدُوّاً وَعَشِيّاً } أي في هذين الوقتين يعذبون بالنار ، وفيما بين ذلك إما أن يعذبوا بجنس آخر أو ينفس عنهم ، ويجوز أن يكون غدواً وعشياً عبارة عن الدوام هذا في الدنيا { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة } يقال لخزنة جهنم { أَدْخلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ } من الإدخال : مدني وحمزة وعلي وحفص وخلف ويعقوب ، وغيرهم { أدخلوا } أي يقال لهم ادخلوا يا آل فرعون { أَشَدَّ العذاب } أي عذاب جهنم ، وهذه الآية دليل على عذاب القبر . { وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ } واذكر وقت تخاصمهم { فِى النار فَيَقُولُ الضعفاؤا لِلَّذِينَ استكبروا } يعني الرؤساء { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } تباعاً كخدم في جمع خادم { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ } دافعون { عَنَّا نَصِيباً } جزاءً { مِّنَ النار قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا } التنوين عوض من المضاف إليه أي إنا كلنا فيها لا يغني أحد عن أحد { إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد } قضى بينهم بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار { وَقَالَ الذين فِى النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } للقُوَّام بتعذيب أهلها . وإنما لم يقل «لخزنتها» لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً ، ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعراً من قولهم «بئر جهنّام» بعيدة القعر وفيها أعتى الكفار وأطغاهم ، فلعل الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله تعالى فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم { ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً } بقدر يوم من الدنيا { مِّنَ العذاب قَالُواْ } أي الخزنة توبيخاً لهم بعد مدة طويلة { أَوَلَمْ تَكُ } أي ولم تك قصة ، وقوله { تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم } تفسير للقصة { بالبينات } بالمعجزات { قَالُواْ } أي الكفار { بلى قَالُواْ } أي الخزنة تهكماً بهم { فادعوا } أنتم ولا استجابة لدعائكم { وَمَا دعاؤا الكافرين إِلاَّ فِى ضلال } بطلان وهو من قول الله تعالى ، ويحتمل أن يكون من كلام الخزنة .
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءَامَنُواْ فِى الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } أي في الدنيا والآخرة يعني أنه يغلبهم في الدارين جميعاً بالحجة والظفر على مخالفيهم وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحاناً من الله والعاقبة لهم ، ويتيح الله من يقتص من أعدائهم ولو بعد حين . و { يوم } نصب محمول على موضع الجار والمجرور كما تقول جئتك في أمس واليوم ، والأشهاد جمع شاهد كصاحب وأصحاب يريد الأنبياء والحفظة ، فالأنبياء يشهدون عند رب العزة على الكفرة بالتكذيب والحفظة يشهدون على بني آدم بما عملوا من الأعمال . { تَقُومُ } بالتاء : الرازي عن هشام
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ } هذا بدل من { يَوْمَ يَقُومُ } أي لا يقبل عذرهم . { لاَّ ينفَعُ } كوفي ونافع { وَلَهُمُ اللعنة } البعد من رحمة الله { وَلَهُمْ سُوءُ الدار } أي سوء دار الآخرة وهو عذابها { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الهدى } يريد به جميع ما أتى به في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع { وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب } أي التوراة والإنجيل والزبور لأن الكتاب جنس أي تركنا الكتاب من بعد هذا إلى هذا { هُدًى وذكرى } إرشاداً وتذكرة ، وانتصابهما على المفعول له أو على الحال { لأُِوْلِى الألباب } لذوي العقول . { فاصبر } على ما يجرعك قومك من الغصص { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني إن ما سبق به وعدي من نصرتك وإعلاء كلمتك حق { واستغفر لِذَنبِكَ } أي لذنب أمتك { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشى والإبكار } أي دم على عبادة ربك والثناء عليه . وقيل : هما صلاتا العصر والفجر . وقيل : قل سبحان الله وبحمده . { إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان أتاهم } لا وقف عليه لأن خبر «إن» { إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ } تعظم وهو إرادة التقدم والرياسة وأن لا يكون أحد فوقهم ، فلهذا عادوك ودفعوا آياتك خيفة أن تتقدمهم ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة ، أو إرادة أن تكون لهم النبوة دونك حسداً وبغياً وبدل عليه قوله : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] أو إرادة دفع الآيات بالجدل { مَّا هُم ببالغيه } ببالغي موجب الكبر ومقتضيه وهو متعلق إرادتهم من الرياسة أو النبوة أو دفع الآيات { فاستعذ بالله } فالتجيء إليه من كيد من يحسدك ويبغي عليك { إِنَّهُ هُوَ السميع } لم تقول ويقولون { البصير } بما تعمل ويعملون فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم .
{ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } لما كانت مجادلتهم في آيات الله مشتملة على إنكار البعث ، وهو أصل المجادلة ومدارها حجوا بخلق السماوات الأرض لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقها فإن من قدر على خلقها مع عظمها كان على خلق الإنسان مع مهانته أقدر . { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } لأنهم لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم . { وَمَا يَسْتَوِى الأعمى والبصير والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسىء } «لا» زائدة { قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } تتعظون بتاءين : كوفي ، وبياء وتاء : غيرهم ، و { قَلِيلاً } صفة مصدر محذوف أي تذكراً قليلاً يتذكرون و«ما» صلة زائدة . { إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } لا بد من مجيئها وليس بمرتاب فيها لأنه لا بد من جزاء لئلا يكون خلق الخلق للفناء خاصة { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } لا يصدقون بها { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى } اعبدوني { أَسْتَجِبْ لَكُمْ } أثبكم فالدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن ويدل عليه قوله { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى } وقال عليه السلام :
" الدعاء هو العبادة " وقرأ هذه الآية صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : وحدوني أغفر لكم وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد . وقيل : سلوني أعطكم { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ } { سيُدخلون } مكي وأبو عمرو . { داخرين } صاغرين .
{ الله الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً } هو من الإسناد المجازي أي مبصراً فيه لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار . وقرن { اليل } بالمفعول له و { النهار } بالحال ولم يكونا حالين أو مفعولاً لهما رعاية لحق المقابلة لأنهما متقابلان معنى ، لأن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر ، ولأنه لو قيل لتبصروا فيه فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازي ، ولو قيل ساكناً لم تتميز الحقيقة من المجاز إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة ، ألا ترى إلى قولهم ليل ساجٍ أي ساكن لا ريح فيه { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } ولم يقل لمفضل أو لمتفضل لأن المراد تنكير الفضل وأن يجعل فضلاً لا يوازيه فضل وذلك إنما يكون بالإضافة { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } ولم يقل «ولكن أكثرهم» حتى لا يتكرر ذكر الناس لأن في هذا التكرير تخصيصاً لكفران النعمة بهم وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه كقوله : { إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ } [ الحج : 66 ] . وقوله : { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] .
{ ذلكم } الذي خلق لكم الليل والنهار { الله رَبُّكُمْ خالق كُلِّ شَىْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الربوبية والإلهية وخلق كل شيء والوحدانية { فأنى تُؤْفَكُونَ } فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان؟ { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بئايات الله يَجْحَدُونَ } أي كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يطلب الحق أفك كما أفكوا .
{ الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً } مستقراً { والسمآء بِنَاءً } سقفاً فوقكم { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } قيل : لم يخلق حيواناً أحسن صورة من الإنسان . وقيل : لم يخلقهم منكوسين كالبهائم { وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات } اللذيذات { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فتبارك الله رَبُّ العالمين هُوَ الحى لاَ إله إِلاَّ هُوَ فادعوه } فاعبدوه { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي الطاعة من الشرك والرياء قائلين { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين . ولما طلب الكفار منه عليه السلام عبادة الأوثان نزل { قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَمَّا جَآءَنِى البينات مِن رَّبِّى } هي القرآن وقيل العقل والوحي { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ } أستقيم وأنقاد { لِرَبِّ العالمين هُوَ الذى خَلَقَكُمْ } أي أصلكم { مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } اقتصر على الواحد لأن المراد بيان الجنس { ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ } متعلق بمحذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك { ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً } وبكسر الشين : مكي وحمزة وعلي وحماد ويحيى والأعشى { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ } أي من قبل بلوغ الأشد أو من قبل الشيوخة { وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى } معناه ويفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى وهو وقت الموت أو يوم القيامة { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ما في ذلك من العبر والحجج { هُوَ الذى يُحْيِى وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ } أي فإنما يكوّنه سريعاً من غير كلفة .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يجادلون فِى ءايات الله أنى يُصْرَفُونَ } ذكر الجدال في هذه السورة في ثلاثة مواضع فجاز أن يكون في ثلاثة أقوام أو ثلاثة أصناف أو للتأكيد { الذين كَذَّبُواْ بالكتاب } بالقرآن { وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } من الكتاب { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاغلال فِى أعناقهم } «إذا» ظرف زمان ماضٍ والمراد به هنا الاستقبال كقوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وهذا لأن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى مقطوعاً بها عبر عنها بلفظ ما كان ووجد ، والمعنى على الاستقبال { والسلاسل } عطف على { الأغلال } والخبر { فِى أعناقهم } والمعنى إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم { يُسْحَبُونَ فِى الحميم } يجرون في الماء الحار { ثُمَّ فِى النار يُسْجَرُونَ } من سجر التنور إذا ملأه بالوقود ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم وهم مسجورون بالنار مملوءة بها أجوافهم { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ } أي تقول لهم الخزنة { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله } يعني الأصنام التي تعبدونها { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا ننتفع بهم { بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً } أي تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئاً وما كنا نعبد بعبادتهم شيئاً كما تقول : حسبت أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء إذا خبرته فلم تر عنده خيراً . { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين } مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلون عن آلهتهم حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا ، أو كما أضل هؤلاء المجادلين يضل سائر الكافرين الذين علم منهم اختيار الضلالة على الدين { ذلكم } العذاب الذي نزل بكم { بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح بغير الحق وهو الشرك وعبادة الأوثان فيقال لهم { ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ } السبعة المقسومة لكم .
قال الله تعالى : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ } [ الحجر : 44 ] . { خالدين فِيهَا } مقدرين الخلود { فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } عن الحق جهنم { فاصبر } يا محمد { إِنَّ وَعْدَ الله } بإهلاك الكفار { حَقٌّ } كائن { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } أصله فإن نريك و«ما» مزيدة لتوكيد معنى الشرط ولذلك ألحقت النون بالفعل ، ألا تراك لا تقول إن تكرمني أكرمك ولكن إما تكرمني أكرمك { بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } هذا الجزاء متعلق ب { نَتَوَفَّيَنَّكَ } وجزاء { نُرِيَنَّكَ } محذوف وتقديره وإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب وهو القتل يوم بدر فذاك ، أو إن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ } إلى أممهم { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } قيل : بعث الله ثمانية آلاف نبي : أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس . وعن علي رضي الله عنه : إن الله تعالى بعث نبياً أسود فهو ممن لم تذكر قصته في القرآن { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } وهذا جواب اقتراحهم الآيات عناداً يعني إنا قد أرسلنا كثيراً من الرسل وما كان لواحد منهم أن يأتي بآية إلا بإذن الله فمن أين لي بأن آتي بآية مما تقترحونه إلا أن يشاء الله ويأذن في الإتيان بها؟ { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله } أي يوم القيامة وهو وعيد ورد عقيب اقتراحهم الآيات { قُضِىَ بالحق وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون } المعاندون الذين اقترحوا الآيات عناداً .
{ الله الذى جَعَلَ } خلق { لَكُمُ الأنعام } الإبل { لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها { وَلَكُمْ فيِهَا منافع } أي الألبان والأوبار { وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ } أي لتبلغوا عليها ما تحتاجون إليه من الأمور { وَعَلَيْهَا } وعلى الأنعام { وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } أي على الأنعام وحدها لا تحملون ولكن عليها وعلى الفلك في البر والبحر { وَيُرِيكُمْ ءاياته فَأَىَّ ءايات الله تُنكِرُونَ } أنها من عند الله . و { أَي } نصب ب { تُنكِرُونَ } وقد جاءت على اللغة المستفيضة . وقولك «فأية آيات الله» قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في «أي» أغرب لإبهامه { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ } عدداً { وَأَشَدَّ قُوَّةً } بدناً { وَءَاثَاراً فِى الأرض } قصوراً ومصانع . { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ } «ما» نافية { مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم } يريد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غافلون } [ الروم : 7 ] فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات ، لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزءوا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به ، أو علم الفلاسفة والدهريين فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم . وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام وقيل له : لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا ، أو المراد فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به كأنه قال : استهزءوا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوحي فرحين مرحين ، ويدل عليه قوله { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } أو الفرح للرسل أي الرسل لما رأوا جهلهم واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم .
{ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } شدة عذابنا { قَالُواْ ءَامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } أي فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم { سُنَّتَ الله } بمنزلة وعد الله ونحوه من المصادر المؤكدة { التى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ } أن الإيمان عند نزول العذاب لا ينفع وأن العذاب نازل بمكذبي الرسل { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون } هنالك مكان مستعار للزمان والكافرون خاسرون في كل أوان ، ولكن يتبين خسرانهم إذا عاينوا العذاب ، وفائدة ترادف الفاءات في هذه الآيات أن { فَمَا أغنى عَنْهُمْ } نتيجة قوله { كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ } و { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } كالبيان والتفسير لقوله { فَمَا أغنى عَنْهُمْ } كقولك رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء ، و { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } تابع لقوله { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ } كأنه قال : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا ، وكذلك { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم } تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله ، والله أعلم .
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
{ حم } إن جعلته اسماً للسورة كان مبتدأ { تَنزِيلٌ } خبره ، وإن جعلته تعديداً للحروف كان { تَنزِيل } خبراً لمبتدأ محذوف و { كِتَابٌ } بدل من { تَنزِيل } أو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف أو { تنزيل } مبتدأ { مِّنَ الرحمن الرحيم } صفته { كِتَابٌ } خبره { فُصِّلَتْ ءاياته } ميزت وجعلت تفاصيل في معانٍ مختلفة من أحكام وأمثال ومواعظ ووعد ووعيد وغير ذلك { قُرْءَاناً عَرَبِيّاً } نصب على الاختصاص والمدح أي أريد بهذا الكتاب المفصل قرآناً من صفته كيت وكيت ، أو على الحال أي فصلت آياته في حال كونه قرآناً عربياً { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي . و { لِقَوْمٍ } يتعلق ب { تَنزِيل } أو ب { فُصّلَتْ } أي تنزيل من الله لأجلهم أو فصلت آياته لهم ، والأظهر أن يكون صفته مثل ما قبله وما بعده أي قرآناً عربياً كائناً لقوم عرب { بَشِيراً وَنَذِيراً } صفتان ل { قُرْءَاناً } { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي لا يقبلون من قولك «تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي» ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه فكأنه لم يسمعه .
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ } أغطية جمع كنان وهو الغطاء { مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } من التوحيد { وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ } ثقل يمنع من استماع قولك { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } ستر . وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبل الحق واعتقاده كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها ومج إسماعهم له كأنه بها صمماً عنه ، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وماهم عليه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه حجاباً ساتراً وحاجزاً منيعاً من جبل أو نحوه فلا تلاقي ولا ترائي { فاعمل } على دينك { إِنَّنَا عاملون } على ديننا أو فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك . وفائدة زيادة «من» أن الحجاب ابتداء منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها ، ولو قيل بينا وبينك حجاب لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين .
{ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ } هذا جواب لقولهم { قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ } ووجهه أنه قال لهم : إني لست بملك وإنما أنا بشر مثلكم وقد أوحي إلي دونكم فصحت نبوتي بالوحي إليّ وأنا بشر ، وإذا صحت نبوتي وجب عليكم اتباعي وفيما يوحى إليّ أن إلهكم إله واحد { فاستقيموا إِلَيْهِ } فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة غير ذاهبين يميناً ولا شمالاً ولا ملتفتين إلى ما يسول لكم الشيطان من اتخاذ الأولياء والشفعاء { واستغفروه } من الشرك { وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة } لا يؤمنون بوجوب الزكاة ولا يعطونها أو لا يفعلون ما يكونون به أزكياء وهو الإيمان { وَهُم بالآخرة } بالبعث والثواب والعقاب { هُمْ كافرون } وإنما جعل منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه ، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته وصدق نيته ونصوع طويته ، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا فقرت عصبيتهم ولانت شكيمتهم ، وما ارتدت بنو حنيفة إلا بمنع الزكاة ، وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة وتخويف شديد من منعها { إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } مقطوع .
قيل : نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون .
{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ } الأحد والاثنين تعليماً للأناة ولو أراد أن يخلقها في لحظة لفعل { وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } شركاء وأشباهاً { ذلك } الذي خلق ما سبق { رَبُّ العالمين } خالق جميع الموجودات وسيدها ومربيها { وَجَعَلَ فِيهَا } في الأرض { رَوَاسِىَ } جبالاً ثوابت { مِّن فَوْقِهَا } إنما اختار إرساءها فوق الأرض لتكون منافع الجبال ظاهرة لطالبيها ، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال كلها مفتقرة إلى ممسك وهو الله عز وجل { وبارك } بالماء والزرع والشجر والثمر { فِيهَا } وفي الأرض . وقيل : وبارك فيها وأكثر خيرها { وَقَدَّرَ فِيهَآ أقواتها } أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم ، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه { وقسم فيها أقواتها } { فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } في تتمة أربعة أيام يريد بالتتمة اليومين تقول : سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة وإلى الكوفة في خمسة عشر أي تتمة خمسة عشر ولا بد من هذا التقدير ، لأنه لو أجرى على الظاهر لكانت ثمانية أيام لأنه قال { خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ } ثم قال { وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } ثم قال { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات فِى يَوْمَيْنِ } فيكون خلاف قوله { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [ ق : 38 ] في موضع آخر ، وفي الحديث : « إن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد والإثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والعمران والخراب فتلك أربعة أيام ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة ، وخلق آدم عليه السلام في آخر ساعة من يوم الجمعة » قيل : هي الساعة التي تقوم فيها القيامة { سَوَآءً } { سَوَآءٍ } : يعقوب صفة للأيام أي في أربعة أيام مستويات تامات ، { سَوَآء } بالرفع : يزيد أي هي سواء ، غيرهما { سَوَآء } على المصدر أي استوت سواء أي استواء أو على الحال { لِّلسَّائِلِينَ } متعلق ب { قدر } أي قدر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها والمحتاجين إليها ، لأن كلاً يطلب القوت ويسأله ، أو بمحذوف كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها .
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
{ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } هو مجاز عن إيجاد الله تعالى السماء على ما أراد ، تقول العرب : فعل فلان كذا . ثم استوى إلى عمل كذا يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني ، ويفهم منه أن خلق السماء كان بعد خلق الأرض وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما ، وعنه أنه قال : أول ما خلق الله تعالى جوهرة طولها وعرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة فنظر إليها بالهيبة فذابت واضطربت ، ثم ثار منها دخان بتسليط النار عليها فارتفع واجتمع زبد فقام فوق الماء فجعل الزبد أرضاً والدخان سماء . ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد أن يكونهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما ، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع . وإنما ذكر الأرض مع السماء في الأمر بالإتيان والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين لأنه قد خلق جرم الأرض أولاً غير مدحوة ثم دحاها بعد خلق السماء كما قال : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } [ النازعات : 30 ] فالمعنى أن ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، ائتي يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك وائتي يا سماء مقبية سقفاً لهم . ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما تقول أتى عمله مرضياً ، وقوله { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } لبيان تأثير قدرته فيهما وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال كما تقول لمن تحت يدك . لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً . وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين . وإنما لم يقل طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى لأنهما سموات وأرضون لأنهن لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بالطوع والكره . قيل : طائعين في موضع طائعات كقوله { ساجدين } [ يوسف : 4 ] . { فَقَضَاهُنَّ } فأحكم خلقهن . قال :
وعليهما مسرودتان قضاهما ... والضمير يرجع إلى السماء لأن السماء للجنس ، ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بقوله { سَبْعَ سماوات } .
والفرق بين النصبين في { سَبْعَ سموات } أن الأول على الحال والثاني على التمييز { فِى يَوْمَيْنِ } في يوم الخميس والجمعة { وأوحى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيران وغير ذلك { وَزَيَّنَّآ السمآء الدنيا } القريبة من الأرض { بمصابيح } بكواكب { وَحِفْظاً } وحفظناها من المسترقة بالكواكب حفظاً { ذلك تَقْدِيرُ العزيز } الغالب غير المغلوب { العليم } بمواقع الأمور .
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ } عن الإيمان بعد هذا البيان { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ } خوفتكم { صاعقة } عذاباً شديد الوقع كأنه صاعقة وأصلها رعد معه نار { مِّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أي أتوهم من كل جانب وعملوا فيهم كل حيلة فلم يروا منهم إلا الإعراض .
وعن الحسن : أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة { أَن } بمعنى «أي» أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه { لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله قَالُواْ } أي القوم { لَوْ شَآءَ رَبُّنَا } إرسال الرسل فمفعول { شَاء } محذوف { لأَنزَلَ ملائكة فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } معناه فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به ، وقوله { أُرْسِلْتُمْ بِهِ } ليس بإقرار بالإرسال وإنما هو على كلام الرسل وفيه تهكم كما قال فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] وقولهم : { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } . خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم . رُوي أن قريشاً بعثوا عتبة بن ربيعة وكان أحسنهم حديثاً ليكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظر ما يريد ، فأتاه وهو في الحطيم فلم يسأل شيئاً إلا أجابه ثم قرأ عليه السلام السورة إلى قوله { مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ } فناشده بالرحم وأمسك على فيه ووثب مخافة أن يصب عليهم العذاب فأخبرهم به وقال : لقد عرفت السحر والشعر فوالله ما هو بساحر ولا بشاعر فقالوا : لقد صبأت أما فهمت منه كلمة؟ فقال : لا ولم أهتد إلى جوابه . فقال عثمان بن مظعون : ذلك والله لتعلموا أنه من رب العالمين .
ثم بين ما ذكر من صاعقة عاد وثمود فقال { فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِى الأرض بِغَيْرِ الحق } أي تعظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم وهو القوة وعظم الأجرام ، أو استولوا على الأرض بغير استحقاق للولاية { وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم ، وبلغ قوتهم أن الرجل كان يقتلع الصخرة من الجبل بيده { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } أولم يعلموا علماً يقوم مقام العيان { أَنَّ الله الذى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } أوسع منهم قدرة لأنه قادر على كل شيء وهم قادرون على بعض الأشياء بإقداره { وَكَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ } معطوف على { فاستكبروا } أي كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } عاصفة تصرصر أي تصوت في هبوبها من الصرير ، أو باردة تحرق بشدة بردها تكرير لبناء الصر وهو البرد قيل إنها الدبور { فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } مشئؤومات عليهم . { نَّحِسَاتٍ } مكي وبصري ونافع . ونُحِس نحساً نقيض سعد سعداً وهو نحس ، وأما نحس فإما مخفف نحس أو صفة على فعل أو وصف بمصدر وكانت من الأربعاء في آخر شوال إلى الأربعاء ، وما عذب قوم إلا في الأربعاء . { لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا } أضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل على أنه وصف للعذاب كأنه قال عذاب خزي كما تقول فعل السوء تريد الفعل السيء ، ويدل عليه قوله { وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى } وهو من الإسناد المجازي ، ووصف العذاب بالخزي أبلغ من وصفهم به فشتان ما بين قوليك «هو شاعر» و «له شعر شاعر» . { وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } من الأصنام التي عبدوها على رجاء النصر لهم .
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
{ وَأَمَّا ثَمُودُ } بالرفع على الابتداء وهو الفصيح لوقوعه بعد حرف الابتداء والخبر { فهديناهم } وبالنصب المفضّل بإضمار فعل يفسره { فهديناهم } أي بينا لهم الرشد { فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } فاختاروا الكفر على الإيمان { فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب } داهية العذاب { الهون } الهوان وصف به العذاب مبالغة أو أبدله منه { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بكسبهم وهو شركهم ومعاصيهم ، وقال الشيخ أبو منصور : يحتمل ما ذكر من الهداية التبيين كما بينا ، ويحتمل خلق الاهتداء فيهم فصاروا مهتدين ثم كفروا بعد ذلك وعقروا الناقة ، لأن الهدى المضاف إلى الخالق يكون بمعنى البيان والتوفيق وخلق فعل الاهتداء ، فأما الهدى المضاف إلى الخلق يكون بمعنى البيان لا غير . وقال صاحب الكشاف فيه : فإن قلت : أليس معنى قولك هديته جعلت فيه الهدى والدليل عليه قولك هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها كما تقول : ردعته فارتدع ، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت : للدلالة على أنه مكنهم فأزاح عللهم ولم يبق لهم عذر فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها وإنما تمحل بهذا لأنه لا يتمكن من أن يفسره بخلق الاهتداء لأنه يخالف مذهبه الفاسد { وَنَجَّيْنَا الذين ءَامَنُواْ } أي اختاروا الهدى على العمى من تلك الصاعقة { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } اختيار العمى على الهدى .
{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار } أي الكفار من الأولين والآخرين . { نَحْشُرُ أَعْدَاءَ } نافع ويعقوب { فَهُمْ يُوزَعُونَ } يحبس أولهم على آخرهم أي يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم ، وهي عبارة عن كثرة أهل النار وأصله من وزعته أي كففته { حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا } صاروا بحضرتها و«ما» مزيدة للتأكيد ومعنى التأكيد أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ولا وجه لأن يخلو منها { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } شهادة الجلود بملامسة الحرام وقيل : وهي كناية عن الفروج { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } لما تعاظمهم من شهادتها عليهم { قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ } من الحيوان والمعنى أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وهو قادر على إنشائكم أول مرة وعلى إعادتكم ورجوعكم إلى جزائه { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلآ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ } أي أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش ، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلاً { ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } ولكنكم إنما استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم .
{ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } وذلك الظن هو الذي أهلككم ، و { ذلكم } مبتدأ و { ظَنُّكُمُ } خبر و { الذى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ } صفته و { أَرْدَاكُمْ } خبر ثانٍ أو { ظَنُّكُمُ } بدل من { ذلكم } و { أَرْدَاكُمْ } الخبر { فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ } أي فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر ولم ينفكوا به من الثواء في النار { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين } وإن يطلبوا الرضا فما هم من المرضيّين ، أو إن يسألوا العتبى وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعاً مما هم فيه لم يعتبوا لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ } أي قدرنا لمشركي مكة ، يقال : هذان ثوبان قيضان أي مثلان والمقايضة المعاوضة ، وقيل : سلطنا عليهم { قُرَنَآءَ } أخداناً من الشياطين جمع قرين كقوله { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] { فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي ما تقدم من أعمالهم وما هم عازمون عليها ، أو ما بين أيديهم من أمر الدنيا واتباع الشهوات وما خلفهم من أمر العاقبة وأن لا بعث ولا حساب { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول } كلمة العذاب { فِى أُمَمٍ } في جملة أمم ومحله النصب على الحال من الضمير في { عَلَيْهِمْ } أي حق عليهم القول كائنين في جملة أمم { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ } قبل أهل مكة { مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين } هو تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم وللأمم .
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان } إذًّا قريء { والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وعارضوه بكلام غير مفهوم حتى تشوشوا عليه وتغلبوا على قراءته واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته { فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً } يجوز أن يريد بالذين كفروا هؤلاء اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة ، ولكن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم وهو الكفر .
{ ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله } ذلك إشارة إلى الأسوأ ويجب أن يكون التقدير أسوأ جزاء الذي كانوا يعملون حتى تستقيم هذه الإشارة { النار } عطف بيان للجزاء أو خبر مبتدأ محذوف { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } أي النار في نفسها دار الخلد كما تقول : لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها { جَزَآءً } أي جوزوا بذلك جزاء { بِمَا كَانُوا بئاياتنا يَجْحَدُونَ وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا } وبسكون الراء لثقل الكسرة كما قالوا في فخْذِ فَخْذ : مكي وشامي وأبو بكر . وبالاختلاس : أبوعمرو { اللذين أضلانا } أي الشيطانين اللذين أضلانا { مِّنَ الجن والإنس } لأن الشيطان على ضربين جني وإنسي ، قال تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شياطين الإنس والجن } { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين } في النار جزاء إضلالهم إيانا .
{ إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله } أي نطقوا بالتوحيد { ثُمَّ استقاموا } ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضيانه ، وعن الصديق رضي الله عنه : استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً : وعنه أنه تلاها ثم قال : ما تقولون فيها؟ قالوا : لم يذنبوا . قال : حملتم الأمر على أشده . قالوا : فما تقول؟ قال : لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان . وعن عمر رضي الله عنه : لم يروغوا روغان الثعالب أي لم ينافقوا . وعن عثمان رضي الله عنه : أخلصوا العمل . وعن علي رضي الله عنه : أدوا الفرائض . وعن الفضيل : زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية . وقيل : حقيقة الاستقامة القرار بعد الإقرار لا الفرار بعد الإقرار { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة } عند الموت { أن } بمعنى «أي» أو مخففة من الثقيلة وأصله بأنه { لاَ تَخَافُواْ } والهاء ضمير الشأن أي لا تخافوا ما تقدمون عليه { وَلاَ تَحْزَنُواْ } على ما خلفتهم فالخوف غم يلحق الإنسان لتوقع المكروه ، والحزن غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار والمعنى أن الله كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه { وَأَبْشِرُواْ بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } في الدنيا ، وقال محمد بن علي الترمذي : تتنزل عليهم ملائكة الرحمن عند مفارقة الأرواح الأبدان أن لا تخافوا سلب الإيمان ، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان ، وأبشروا بدخول الجنان التي كنتم توعدون في سالف الزمان { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الحياة الدنيا وَفِى الآخرة } كما أن الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } من النعيم { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } تتمنون { نُزُلاً } هو رزق نزيل وهو الضيف وانتصابه على الحال من الهاء المحذوفة أو من «ما» { مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } نعت له .
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله } إلى عبادته هو رسول الله دعا إلى التوحيد { وَعَمِلَ صالحا } خالصاً { وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين } تفاخراً بالإسلام ومعتقداً له ، أو أصحابه عليه السلام ، أو المؤذنون ، أو جميع الهداة والدعاة إلى الله . { وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ } يعني أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك كما لو أساء إليك رجل إساءة ، فالحسنة أن تعفو عنه ، والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك مثل أن يذمك فتمدحه أو يقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوه { فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ } فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاق مثل الولي الحميم مصافاة لك . ثم قال { وَمَا يُلَقَّاهَآ } أي وما يلقي هذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } إلا أهل الصبر { وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } إلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير . وإنما لم يقل «فادفع بالتي هي أحسن» لأنه على تقدير قائل قال : فكيف أصنع؟ فقيل : { ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ } وقيل : «لا» مزيدة للتأكيد والمعنى : لا تستوي الحسنة والسيئة ، وكان القياس على هذا التفسير أن يقال : ادفع بالتي هي حسنة ، ولكن وضع { التى هِىَ أَحْسَنُ } موضع «الحسنة» ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة ، لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : بالتي هي أحسن : الصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة وفسر الحظ بالثواب ، وعن الحسن : والله ما عظم حظ دون الجنة ، وقيل : نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان عدواً مؤذياً للنبي صلى الله عليه وسلم فصار ولياً مصافياً { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ } النزغ شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه يبعثه على ما لا ينبغي ، وجعل النزغ نازغاً كما قيل جد جده ، أو أريد وإما ينزغنك نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر أو لتسويله ، والمعنى وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن { فاستعذ بالله } من شره وامض على حلمك ولا تطعه { إِنَّهُ هُوَ السميع } لاستعاذتك { العليم } بنزغ الشيطان .
{ وَمِنْ ءاياته } الدالة على وحدانيته { الليل والنهار } في تعاقبهما على حد معلوم وتناوبهما على قدر مقسوم { والشمس والقمر } في اختصاصهما بسير مقدور ونور مقرر { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ } فإنهما مخلوقان وإن كثرت منافعهما { واسجدوا لِلَّهِ الذى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } الضمير في { خَلَقَهُنَّ } للآيات أو الليل والنهار والشمس والقمر ، لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث ، تقول : الأقلام بريتها وبريتهن ، ولعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لها السجود لله تعالى ، فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله خالصاً إن كانوا إياه يعبدون وكانوا موحدين غير مشركين ، فإن من عبد مع الله غيره لا يكون عابداً لله .
{ فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ } أي الملائكة { يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ } لا يملون . والمعنى فإن استكبروا ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله خالصاً ، فدعهم وشأنهم فإن الله تعالى لا يعدم عابد أو ساجد بالإخلاص وله العباد المقربون الذين ينزهونه بالليل والنهار عن الأنداد . و { عِندَ رَبّكَ } عبارة عن الزلفى والمكانة والكرامة . وموضع السجدة عندنا { لاَ يَسْئَمُونَ } وعند الشافعي رحمه الله عند { تَعْبُدُونَ } والأول أحوط .
{ وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الأرض خاشعة } يابسة مغبرة والخشوع التذلل فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء } المطر { اهتزت } تحركت بالنبات { وَرَبَتْ } انتفخت { إِنَّ الذى أحياها لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } فيكون قادراً على البعث ضرورة { إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فِى ءاياتنا } يميلون عن الحق في أدلتنا بالطعن ، يقال : ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق فاستعير لحال الأرض إذا كانت ملحودة ، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة . { يُلْتحِدُونَ } حمزة { لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } وعيد لهم على التحريف { أَفَمَن يلقى فِى النار خَيْرٌ أم مَّن يَأْتِى ءَامِناً يَوْمَ القيامة } هذا تمثيل للكافر والمؤمن { اعملوا مَا شِئْتُمْ } هذا نهاية في التهديد ومبالغة في الوعيد { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم عليه { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر } بالقرآن لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا تأويله { لَمَّا جَآءَهُمْ } حين جاءهم . وخبر «إن» محذوف أي يعذبون أو هالكون أو { أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } وما بينهما اعتراض { وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ } أي منيع محمي بحماية الله { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل } التبديل أو التناقض { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } أي بوجه من الوجوه { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } مستحق للحمد .
{ مَّا يُقَالُ لَكَ } ما يقول لك كفار قومك { إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ } ورحمة لأنبيائه { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } لأعدائهم ، ويجوز أن يكون ما يقول لك الله إلا مثل ما قال للرسل من قبلك ، والمقول هو قوله { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } .
{ وَلَوْ جعلناه } أي الذكر { قُرْءَاناً أَعْجَمِيَّاً } أي بلغة العجم كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم فقيل في جوابهم : لو كان كما يقترحون { لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءاياته } أي بينت بلسان العرب حتى نفهمها تعنتاً { ءَأَعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ } بهمزتين كوفي غير حفص ، والهمزة للإنكار يعني لأنكروا وقالوا : أقرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي . الباقون بهمزة واحدة ممدودة مستفهمة . والأعجمي الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه سواء كان من العجم أو العرب ، والعجمي منسوب إلى أمة العجم فصيحاً كان أو غير فصيح ، والمعنى أن آيات الله على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتاً لأنهم غير طالبين للحق وإنما يتبعون أهواءهم ، وفيه إشارة إلى أنه لو أنزله بلسان العجم لكان قرآناً فيكون دليلاً لأبي حنيفة رضي الله عنه في جواز الصلاة إذا قرأ بالفارسية . { قُلْ هُوَ } أي القرآن { لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى } إرشاد إلى الحق { وَشِفَاءٌ } لما في الصدور من الشك إذ الشك مرض { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ } في موضع الجر لكونه معطوفاً على { الذين آمَنْوا } أي هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر أي صمم إلا أن فيه عطفاً على عاملين وهو جائز عند الأخفش ، أو الرفع وتقديره والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ أو في آذانهم منه وقر { وَهُوَ } أي القرآن { عَلَيْهِمْ عَمًى } ظلمة وشبهة { أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } يعني أنهم لعدم قبولهم وانتفاعهم كأنهم ينادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعون لبعد المسافة . وقيل : ينادون في القيامة من مكان بعيد بأقبح الأسماء . { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ } فقال بعضهم : هو حق . وقال بعضهم : هو باطل كما اختلف قومك في كتابك { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } بتأخير العذاب { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } لأهلكهم إهلاك استئصال . وقيل : الكلمة السابقة هي العدة بالقيامة وأن الخصومات تفصل في ذلك اليوم ولولا ذلك لقضي بينهم في الدنيا { وإِنَّهُمْ } وإن الكفار { لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } موقع في الريبة { مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ } فنفسه نفع { وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } فنفسه ضر { وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ } فيعذب غير المسيء .
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة } أي علم قيامها يرد إليه أي يجب على المسؤول أن يقول الله يعلم ذلك { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثمرات } مدني وشامي وحفص وغيرهم بغير ألف { مِّنْ أَكْمَامِهَا } أوعيتها قبل أن تنشق جمع «كم» { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى } حملها { وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي ما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع إلا وهو عالم به ، يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِى } أضافهم إلى نفسه على زعمهم وبيانه في قوله { أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ } وفيه تهكم وتقريع { قَالُواْ ءَاذَنَّاكَ } أعلمناك وقيل أخبرناك وهو الأظهر إذ الله تعالى كان عالماً بذلك وإعلام العالم محال ، أما الإخبار للعالم بالشيء فيتحقق بما علم به إلا أن يكون المعنى إنك علمت من قلوبنا الآن إنا لنشهد تلك الشهادة الباطلة ، لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنه أعلموه .
{ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } أي ما منا أحد اليوم يشهد بأن لك شريكاً وما منا إلا من هو موحد لك ، أو مامنا من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم لا يبصرونها في ساعة التوبيخ . وقيل : هو كلام الشركاء أي ما منا من شهيد يشهد بما أضافوا إلينا من الشركة { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ } يعبدون { مِن قَبْلُ } في الدنيا { وَظَنُّواْ } وأيقنوا { مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ } مهرب . { لاَّ يَسْئَمُ } لا يمل { الإنسانث } الكافر بدليل قوله { وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } { مِن دُعَآءِ الخير } من طلب السعة في المال والنعمة والتقدير من دعائه الخير فحذف الفاعل وأضيف إلى المفعول { وَإِن مَّسَّهُ الشر } الفقر { فَيَئُوسٌ } من الخير { قَنُوطٌ } من الرحمة بولغ فيه من طريقين : من طريق بناء فعول ، ومن طريق التكرير . والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر أي يقطع الرجاء من فضل الله وروحه وهذا صفة الكافر بدليل قوله تعالى { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] { وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِى } وإذا فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق قال هذا لي أي هذا حقي وصل إليّ لأني استوجبته بما عندي من خير وفضل وأعمال بر ، أو هذا لي لا يزول عني { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } أي ما أظنها تكون قائمة { وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى رَبِّى } كما يقول المسلمون { إِنَّ لِى عِندَهُ } عند الله { للحسنى } أي الجنة أو الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة قائساً أمر الآخرة على أمر الدنيا { فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ } فلنخبرنهم بحقيقة ما علموا من الأعمال الموجبة للعذاب { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } شديد لا يفتر عنهم .
{ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ } هذا ضرب آخر من طغيان الإنسان إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة فنسي المنعم وأعرض عن شكره { وَنَئَا بِجَانِبِهِ } وتباعد عن ذكرالله ودعائه أو ذهب بنفسه وتكبر وتعظم ، وتحقيقه أن يوضع جانبه موضع نفسه لأن مكان الشيء وجهته ينزل منزلة نفسه ومنه قول الكتاب كتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز يريدون نفسه وذاته فكأنه قال : ونأى بنفسه { وَإِذَا مَسَّهُ الشر } الضر والفقر { فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } كثير أي أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع . وقد استعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه وهو من صفة الأجرام كما استعير الغلظ لشدة العذاب ، ولا منافاة بين قوله { فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } وبين قوله { فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } لأن الأول في قوم والثاني في قوم ، أو قنوط في البر وذو دعاء عريض في البحر ، أو قنوط بالقلب ذو دعاء عريض باللسان ، أو قنوط من الصنم ذو دعاء لله تعالى .
{ قُلْ أَرَءَيْتُمْ } أخبروني { إِن كَانَ } القرآن { مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ } ثم جحدتم أنه من عند الله { مَنْ أَضَلُّ } منكم إلا أنه وضع قوله { مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } موضع «منكم» بياناً لحالهم وصفتهم { سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الآفاق } من فتح البلاد شرقاً وغرباً { وَفِى أَنفُسِهِمْ } فتح مكة { حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } أي القرآن أو الإسلام { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } موضع { بِرَبّكَ } الرفع على أنه فاعل والمفعول محذوف وقوله { أَنَّهُ على كُلّ شَىْءٍ شَهِيدٌ } بدل منه تقديره أولم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد أي أولم تكفهم شهادة ربك على كل شيء ، ومعناه أن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كل شيء شهيد . { أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ } شك { مِّن لّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ } عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها فلا تخفى عليه خافية فيجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم .
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
فصل { حم } من { عسق } كتابة مخالفاً ل { كهيعص } تلفيقاً بأخواتها ولأنه آيتان و { كهيعص } آية واحدة { كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ } أي مثل ذلك الوحي أو مثل ذلك الكتاب يوحي إليك { وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } وإلى الرسل من قبلك { الله } يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله وفي غيرها من السور ، وأوحاه إلى من قبلك يعني إلى رسله . والمعنى أن الله كرر هذه المعاني في القرآن وفي جميع الكتب السماوية لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من نبي صاحب كتاب إلا أوحي إليه ب { حم عسق } . { يُوحَى } بفتح الحاء : مكي . ورافع اسم الله على هذه القراءة ما دل عليه { يُوحَى } كأن قائلاً قال : من الموحي؟ فقيل : الله { العزيز } الغالب بقهره { الحكيم } المصيب في فعله وقوله { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } ملكاً وملكاً { وَهُوَ العلى } شأنه { العظيم } برهانه .
{ تَكَادُ السماوات } وبالياء : نافع وعلي . { يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } يتشققن ، { ينفطرن } : بصري وأبو بكر ومعناه يكدن ينفطرن من علو شأن الله وعظمته يدل عليه مجيئه بعد قوله { العلى العظيم } وقيل : من دعائهم له ولداً كقوله { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } [ مريم : 90 ] ومعنى { مِن فَوْقِهِنَّ } أي يبتدىء الانفطار من جهتهن الفوقانية . وكان القياس أن يقال ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها كلمة الكفر لأنها جاءت من الذين تحت السماوات ، ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق كأنه قيل : يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن مع الجهة التي تحتهن . وقيل : من فوقهن من فوق الأرض فالكناية راجعة إلى الأرض لأنه بمعنى الأرضين . وقيل : يتشققن لكثرة ما على السماوات من الملائكة ، قال عليه السلام « أطت السماء أطاً وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد » { والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } خضوعاً لما يرون من عظمته { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرض } أي للمؤمنين منهم كقوله : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } [ غافر : 7 ] خوفاً عليهم من سطواته أو يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات حامدين له على ما أولاهم من ألطافه ، متعجبين مما رأوا من تعرضهم لسخط الله تعالى ، ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض الذين تبرءوا من تلك الكلمة ، أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب { أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم } لهم { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } أي جعلوا له شركاء وأنداداً { الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } رقيب على أقوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء فيجازيهم عليها { وَمَآ أَنتَ } يا محمد { عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } بموكل عليهم ولا مفوض إليك أمرهم إنما أنت منذر فحسب .
{ وكذلك } ومثل ذلك { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } وذلك إشارة إلى معنى الآية التي قبلها من أن الله رقيب عليهم لا أنت بل أنت منذر لأن هذا المعنى كرره الله في كتابه أو هو مفعول به ل { أَوْحَيْنَا } { قُرْءَاناً عَرَبِيّاً } حال من المفعول به أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي بيّن { لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى } أي مكة لأن الأرض دحيت من تحتها ولأنها أشرف البقاع والمراد أهل أم القرى { وَمَنْ حَوْلَهَا } من العرب { وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع } يوم القيامة لأن الخلائق تجتمع فيه { لاَ رَيْبَ فِيهِ } اعتراض لا محل له ، يقال : أنذرته كذا وأنذرته بكذا . وقد عدي { لّتُنذِرَ أُمَّ القرى } إلى المفعول الأول { وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع } إلى المفعول الثاني { فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير } أي منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير ، والضمير للمجموعين لأن المعنى يوم جمع الخلائق .
{ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة } أي مؤمنين كلهم { ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ } أي يكرم من يشاء بالإسلام { والظالمون } والكافرون { مَا لَهُمْ مِّن وَلِىٍّ } شافع { وَلاَ نَصِيرٍ } دافع { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فالله هُوَ الولى } الفاء لجواب شرط مقدر كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواه إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بالحق ، وهو الذي يجب أن يتولى وحده لا ولي سواه . { وَهُوَ يُحْىِ الموتى وَهُوَ على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء { وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَىْءٍ } حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أي ما خالفتكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين { فَحُكْمُهُ } أي حكم ذلك المختلف فيه مفوض { إِلَى الله } وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين { ذلكم } الحاكم بينكم { الله رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } فيه رد كيد أعداء الدين { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أرجع في كفاية شرهم . وقيل : وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه فقولوا : الله أعلم كمعرفة الروح وغيره .
{ فَاطِرُ السماوات والأرض } ارتفاعه عل أنه أحد أخبار { ذلكم } أو خبر مبتدأ محذوف { جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } خلق لكم من جنسكم من الناس { أزواجا وَمِنَ الأنعام أزواجا } أي وخلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً { يَذْرَؤُكُمْ } يكثركم . يقال : ذرأ الله الخلق بثهم وكثرهم { فِيهِ } في هذا التدبير وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، واختير { فِيهِ } على «به» لأنه جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير .
والضمير في { يَذْرَؤُكُمْ } يرجع إلى المخاطبين والأنعام مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ } قيل : إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التماثل وتقديره ليس مثله شيء . وقيل : المثل زيادة وتقديره ليس كهو شيء كقوله تعالى : { فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] . وهذا لأن المراد نفي المثلية ، وإذا لم تجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل . وقيل : المراد ليس كذاته شيء لأنهم يقولون «مثلك لا يبخل» يريدون به نفي البخل عن ذاته ويقصدون المبالغة في ذلك بسلوك طريق الكناية ، لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده فقد نفوه عنه فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله «ليس كالله شيء» وبين قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها وكأنهم عبارتان متعقبتان على معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته ونحوه { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] فمعناه بل هو جواد من غير تصور يد ولا بسط لها ، لأنها وقعت عبارة عن الجود حتى إنهم استعملوها فيمن لا يد له فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له { وَهُوَ السميع } لجميع المسموعات بلا أذن { البصير } لجميع المرئيات بلا حدقة ، وكأنه ذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له كما لا مثل له .
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
{ لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض } مر في «الزمر» { يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } أي يضيق { إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ } بين وأظهر { لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى } أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء عليهم السلام ، ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله { أَنْ أَقِيمُواْ الدين } والمراد إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء وسائر ما يكون المرء بإقامته مسلماً ، ولم يرد به الشرائع فإنها مختلفة قال الله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا } [ المائدة : 48 ] . ومحل { أَنْ أَقِيمُواْ } نصب بدل من مفعول { شَرَعَ } والمعطوفين عليه ، أو رفع على الاستئناف كأنه قيل وما ذلك المشروع؟ فقيل : هو إقامة الدين { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } ولا تختلفوا في الدين قال علي رضي الله عنه : لا تتفرقوا فالجماعة رحمة والفرقة عذاب . { كَبُرَ عَلَى المشركين } عظم عليهم وشق عليهم { مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } من إقامة دين الله والتوحيد { الله يَجْتَبِى } يجتلب ويجمع { إِلَيْهِ } إلى الدين بالتوفيق والتسديد { مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } يقبل على طاعته { وَمَا تَفَرَّقُواْ } أي أهل الكتاب بعد أنبيائهم { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلال وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء عليهم السلام { بَغْياً بَيْنَهُمْ } حسداً وطلباً للرياسة والاستطالة بغير حق { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهي { بل الساعة موعدهم } { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } لأهلكوا حين افترقوا لعظم ما اقترفوا { وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ } هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم { لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ } من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان { مُرِيبٍ } مدخل في الريبة . وقيل : وما تفرق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } { وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ } [ الشورى : 14 ] . هم المشركون أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل .
{ فَلِذَلِكَ } فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعباً { فادع } إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القوية { واستقم } عليها وعلى الدعوة إليها { كَمَا أُمِرْتَ } كما أمرك الله { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } المختلفة الباطلة { وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ الله مِن كتاب } بأي كتاب صح أن الله تعالى أنزله يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض كقوله : { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } إلى قوله
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً } [ النساء : 150-151 ] { وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ } في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ { الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي كلنا عبيده { لَنَآ أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم } هو كقوله { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] ويجوز أن يكون معناه إنا لا نؤاخذ بأعمالكم وأنتم لا تؤاخذون بأعمالنا { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي لا خصومة لأن الحق قد ظهر وصرتم محجوبين به فلا حاجة إلى المحاجة ، ومعناه لا إيراد حجة بيننا لأن المتحاجين يورد هذا حجته وهذا حجته { الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا } يوم القيامة { وَإِلَيْهِ المصير } المرجع لفصل القضاء فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم { والذين يُحَآجُّونَ فِى الله } يخاصمون في دينه { مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ } من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام ليردوهم إلى دين الجاهلية كقوله : { وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا } [ البقرة : 109 ] . كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين : كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن خير منكم وأولى بالحق . وقيل : من بعد ما استجيب لمحمد عليه السلام دعاؤه على المشركين يوم بدر { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } باطلة وسماها حجة وإن كانت شبهة لزعمهم أنها حجة { عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } بكفرهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرة .
{ الله الذى أَنزَلَ الكتاب } أي جنس الكتاب { بالحق } بالصدق أو ملتبساً به { والميزان } والعدل والتسوية . ومعنى إنزال العدل أنه أنزله في كتبه المنزلة . وقيل : هو عين الميزان أنزله في زمن نوح عليه السلام { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } أي لعل الساعة قريب منك وأنت لا تدري والمراد مجيء الساعة ، أوالساعة في تأويل البعث . ووجه مناسبة اقتراب الساعة مع إنزال الكتب والميزان أن الساعة يوم الحساب ووضع الموازين بالقسط فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم ووزن أعمالكم . { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } استهزاء { والذين ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ } خائفون { مِنْهَا } وجلون لهولها { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق } الكائن لا محالة { أَلآ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَى الساعة } المماراة الملاحّة لأن كل واحد منهما يمري ما عند صاحبه { لَفِى ضلال بَعِيدٍ } عن الحق لأن قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله تعالى ، وقد دل الكتاب والسنة على وقوعها ، والعقول تشهد على أنه لا بد من دار جزاء .
{ الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } في إيصال المنافع وصرف البلاء من وجه يلطف إدراكه وهو بر بليغ البر بهم قد توصل بره إلى جميعهم . وقيل : هو من لطف بالغوامض علمه وعظم عن الجرائم حلمه ، أو من ينشر المناقب ويستر المثالب ، أو يعفو عمن يهفو ، أو يعطي العبد فوق الكفاية ويكلفه الطاعة دون الطاقة .
وعن الجنيد : لطف بأوليائه فعرفوه ولو لطف بأعدائه ما جحدوه { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } أي يوسع رزق من يشاء إذا علم مصلحته فيه ، في الحديث " إن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك " { وَهُوَ القوى } الباهر القدرة الغالب على كل شيء { العزيز } المنيع الذي لا يغلب . { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة } سمى ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة حرثاً مجازاً { نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ } بالتوفيق في عمله أو التضعيف في إحسانه أو بأن ينال به الدنيا والآخرة { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا } أي من كان عمله للدنيا ولم يؤمن بالآخرة { نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي شيئاً منها لأن «من» للتبعيض وهو رزقه الذي قسم له لا ما يريده ويبتغيه { وَمَا لَهُ فِى الآخرة مِن نَّصِيبٍ } وماله نصيب قط في الآخرة وله في الدينا نصيب ، ولم يذكر في عامل الآخرة أن رزقه المقسوم يصل إليه للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب { أَمْ لَهُمْ شركاؤا } قيل : هي «أم» المنقطعة وتقديره بل ألهم شركاء . وقيل : هي المعادلة لألف الاستفهام . وفي الكلام إضمار تقديره أيقبلون ما شرع الله من الدين أم لهم آلهة { شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله } أي لم يأمر به؟ { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل } أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء أي ولولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } بين الكافرين والمؤمنين أو لعجلت لهم العقوبة { وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وإن المشركين لهم عذاب أليم في الآخرة وإن أخر عنهم في دار الدنيا { تَرَى الظالمين } المشركين في الآخرة { مُشْفِقِينَ } خائفين { مِمَّا كَسَبُواْ } من جزاء كفرهم { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } نازل بهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا { والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِى روضات الجنات } كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها { لَهُم مَّا يَشَآءَونَ عِندَ رَبِّهِمْ } عند نصب بالظرف لا ب «يشاؤون» { ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } على العمل القليل .
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)
{ ذلك } أي الفضل الكبير { الذى يُبَشِّرُ الله } { يَبْشُر } مكي وأبو عمرو وحمزة وعلي { عِبَادَهُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي به عباده الذين آمنوا فحذف الجار كقوله { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ثم حذف الراجع إلى الموصول كقوله { أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] . ولما قال المشركون : أيبتغي محمد على تبليغ الرسالة أجراً نزل { قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ } على التبليغ { أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى } يجوز أن يكون استثناء متصلاً أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا وهو أن تودوا أهل قرابتي ، ويجوز أن يكون منقطعاً أي لا أسألكم عليه أجراً قط ولكني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم . ولم يقل إلا مودة القربى أو المودة للقربى لأنهم جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها كقولك «لي في آل فلان مودة ولي فيهم حب شديد» تريد أحبهم وهم مكان حبي ومحله . وليست «في» بصلة ل { المودة } كاللام إذا قلت إلا المودة للقربى ، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك «المال في الكيس» وتقديره إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها . والقربى مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة ، والمراد في أهل القربى . ورُوي أنه لما نزلت قيل : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال : علي وفاطمة وابناهما . وقيل : معناه إلا أن تودوني لقرابتي فيكم ولا تؤذوني ولا تهيجوا علي إذ لم يكن من بطون قريش إلا بين رسول الله وبينهم قرابة . وقيل : القربى التقرب إلى الله تعالى أي إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً } يكتسب طاعة . عن السدي : أنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ومودته فيهم والظاهر العموم في أي حسنة كانت إلا أنها تتناول المودة تناولاً أولياً لذكرها عقيب ذكر المودة في القربى .
{ نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } أي نضاعفها كقوله { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] وقرىء { حسنى } وهو مصدر كالبشرى والضمير يعود إلى الحسنة أو إلى الجنة { إِنَّ الله غَفُورٌ } لمن أذنب بطوله { شَكُورٌ } لمن أطاع بفضله . وقيل : قابل للتوبة حامل عليها . وقيل : الشكور في صفة الله تعالى عبارة عن الاعتداد بالطاعة وتوفية ثوابها والتفضل على المثاب { أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً } «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيه التوبيخ كأنه قيل : أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها؟ { فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } قال مجاهد : أي يربط على قلبك بالصبر على أذاهم وعلى قولهم { افترى عَلَى الله كَذِبًا } لئلا تدخله مشقة بتكذيبهم { وَيَمْحُ الله الباطل } أي الشرك وهو كلام مبتدأ غير معطوف على { يَخْتِمْ } لأن محو الباطل غير متعلق بالشرط بل هو وعد مطلق دليله تكرار اسم الله تعالى ورفع { وَيُحِقُّ } وإنما سقطت الواو في الخط كما سقطت في
{ وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير } [ الاسراء : 11 ] و { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] على أنها مثبتة في مصحف نافع { وَيُحِقُّ الحق } ويظهر الإسلام ويثبته { بكلماته } مما أنزل من كتابه على لسان نبيه عليه السلام وقد فعل الله ذلك فمحا باطلهم وأظهر الإسلام .
{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي عليم بما في صدرك وصدورهم فيجزي الأمر على حسب ذلك . { وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } يقال : قبلت منه الشيء إذا أخذته منه وجعلته مبدأ قبولي . ويقال : قبلته عنه أي عزلته عنه وأبنته عنه . والتوبة أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما والعزم على أن لا يعود ، وإن كان لعبد فيه حق لم يكن بد من التفصي على طريقه . وقال علي رضي الله عنه : هو اسم يقع على ستة معانٍ : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقناها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته . وعن السدي : هو صدق العزيمة على ترك الذنوب والإنابة بالقلب إلى علام الغيوب . وعن غيره : هو أن لا يجد حلاوة الذنب في القلب عند ذكره . وعن سهل : هو الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة . وعن الجنيد : هو الإعراض عما دون الله { وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات } وهو ما دون الشرك ، يعفو لمن يشاء بلا توبة { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } بالتاء : كوفي غير أبي بكر أي من التوبة والمعصية ولا وقف عليه للعطف عليه واتصال المعنى : { وَيَسْتَجِيبُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ } أي إذا دعوه استجاب دعاءهم وأعطاهم ما طلبوه وزادهم على مطلوبهم . واستجاب وأجاب بمعنى ، والسين في مثله لتوكيد الفعل كقولك «تعظم» و«استعظم» والتقدير ويجيب الله الذين آمنوا . وقيل : معناه ويستجيب للذين فحذف اللام . مَنَّ عَليهم بأن يقبل توبتهم إذا تابوا ويعفو عن سيآتهم ويستجيب لهم إذا دعوه ويزيدهم على ما سألوه ، وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له : ما لنا ندعوه فلا نجاب؟ قال : لأنه دعاكم فلم تجيبوه { والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرة .
{ وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ } أي لو أغناهم جميعاً { لَبَغَوْاْ فِى الأرض } من البغي وهو الظلم أي لبغي هذا على ذاك وذاك على هذا لأن الغني مبطرة مأشرة ، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة أو من البغي وهو الكبر أي لتكبّروا في الأرض { ولكن يُنَزِّلُ } بالتخفيف : مكي وأبو عمرو { بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } بتقدير يقال قدره قدراً وقدراً { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ } يعلم أحوالهم فيقدر لهم ما تقتضيه حكمته فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ويقبض ويبسط ، ولو أغناهم جميعاً لبغوا ولو أفقرهم لهلكوا ، وما ترى من البسط على من يبغي ومن البغي بدون البسط فهو قليل ، ولا شك أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب .
{ وَهُوَ الذى يُنَزِّلُ الغيث } بالتشديد : مدني وشامي وعاصم { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } وقرىء { قِنطواْ } { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } أي بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب . وقيل لعمر رضي الله عنه : اشتد القحط وقنط الناس . فقال : مطروا إذا أراد هذه الآية . أو أراد رحمته في كل شيء { وَهُوَ الولى } الذي يتولى عباده بإحسانه { الحميد } المحمود على ذلك يحمده أهل طاعته { وَمِنْ ءاياته } أي علامات قدرته { خَلْقُ السماوات والأرض } مع عظمهما { وَمَا بَثَّ } فرق { وَمَا } يجوز أن يكون مرفوعاً ومجروراً حملاً على المضاف أو المضاف إليه { فِيهِمَا } من السماوات والأرض { مِن دَابَّةٍ } الدواب تكون في الأرض وحدها لكن يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور وإن كان ملتبساً ببعضه كما يقال : بنو تميم فيهم شاعر مجيد وإنما هو في فخذ من أفخاذهم ومنه قوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] وإنما يخرج من الملح ، ولا يبعد أن يخلق في السماوات حيوانات يمشون فيها مشي الأناسي على الأرض ، أو يكون للملائكة مشي مع الطيران فوصفوا بالدبيب كما وصف به الأناسي { وَهُوَ على جَمْعِهِمْ } يوم القيامة { إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } «إذا» تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي ، قال الله تعالى : { واليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] .
{ وَمَآ أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ } غم وألم ومكروه { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي بجناية كسبتموها عقوبة عليكم . { بِمَا كَسَبَتْ } بغير الفاء : مدني وشامي على أن «ما» مبتدأ و { بِمَا كَسَبَتْ } خبره من غير تضمين معنى الشرط ، ومن أثبت الفاء فعلى تضمين معنى الشرط . وتعلق بهذه الآية من يقول بالتناسخ وقال لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألموا . وقلنا : الآية مخصومة بالمكلفين بالسباق والسياق وهو { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي من الذنوب فلا يعاقب عليه أو عن كثير من الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة ، وقال ابن عطاء : من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه وأن ما عفا عنه مولاه أكثر كان قليل النظر في إحسان ربه إليه . وقال محمد بن حامد : العبد ملازم للجنايات في كل أوان وجناياته في طاعته أكثر من جناياته في معاصيه لأن جناية المعصية من وجه وجناية الطاعة من وجوه والله يطهر عبده من جناياته بأنواع من المصائب ليخفف عنه أثقاله في القيامة ، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة ، وعن علي رضي الله تعالى عنه : هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن لأن الكريم إذا عاقب مرة لا يعاقب ثانياً وإذا عفا لا يعود { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض } أي بفائتين ما قضى عليكم من المصائب { وَمَا لَكُم مِّن دُونِ الله مِن وَلِىٍّ } متول بالرحمة { وَلاَ نَصِيرٍ } ناصر يدفع عنكم العذاب إذا حل بكم .
{ وَمِنْ ءاياته الجوار } جمع جارية وهي السفينة { الجواري } في الحالين : مكي وسهل ويعقوب ، وافقهم مدني وأبو عمر في الوصل { فِى البحر كالاعلام } كالجبال .
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح } { الرياح } مدني { فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ } ثوابت لا تجري { على ظَهْرِهِ } على ظهر البحر { إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّكُلِّ صَبَّارٍ } على بلائه { شَكُورٍ } لنعمائه أي لكل مؤمن مخلص فالإيمان نصفان : نصف شكر ونصف صبر . أو صبار على طاعته شكور لنعمته { أَوْ يُوبِقْهُنَّ } يهلكهن فهو عطف على { يُسْكِنِ } والمعنى إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها { بِمَا كَسَبُواْ } من الذنوب { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } منها فلا يجازي عليها . وإنما أدخل العفو في حكم الإيباق حيث جزم جزمه لأن المعنى أو إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم { وَيَعْلَمَ } بالنصب عطف على تعليل محذوف تقديره لينتقم منهم ويعلم { الذين يجادلون فِى ءاياتنا } أي في إبطالهما ودفعها ، { وَيَعْلَمُ } مدني وشامي على الاستئناف { مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ } مهرب من عذابه { فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَىْءٍ فمتاع الحياة الدنيا وَمَا عِندَ الله } من الثواب { خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } «ما» الأولى ضمنت معنى الشرط فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية . نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بجميع ماله فلامه الناس { والذين يَجْتَنِبُونَ } عطف على { الذين آمَنُواْ } وكذا ما بعده { كبائر الإثم } أي الكبائر من هذا الجنس ، { كَبِيرَ الإثم } علي وحمزة . وعن ابن عباس : كبير الإثم هو الشرك . { والفواحش } قيل : ما عظم قبحه فهو فاحشة كالزنا { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ } من أمور دنياهم { هُمْ يَغْفِرُونَ } أي هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب والمجيء بهم . وإيقاعه مبتدأ وإسناد { يَغْفِرُونَ } إليه لهذه الفائدة ومثله { هُمْ يَنتَصِرُونَ } . { والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ } نزلت في الأنصار دعاهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه { وَأَقَامُوا الصلاوة } وأتموا الصلوات الخمس { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } أي ذو شورى لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه ، وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم ، والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } يتصدقون .
{ والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى } الظلم { هُمْ يَنتَصِرُونَ } ينتقمون ممن ظلمهم أي يقتصرون في الانتصار على ما جعله الله تعالى لهم ولا يعتدون ، وكانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجتريء عليهم الفساق . وإنما حمدوا على الانتصار لأن من انتصر وأخذ حقه ولم يجاوز في ذلك حد الله فلم يسرف في القتل إن كان ولي دم فهو مطيع لله وكل مطيع محمود . ثم بين حد الانتصار فقال { وجزاؤا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } فالأولى سيئة حقيقة والثانية لا .
وإنما سميت لأنها مجازاة السوء ، أو لأنها تسوء من تنزل به ، ولأنه لو لم تكن الأولى لكانت الثانية سيئة لأنها إضرار ، وإنما صارت حسنة لغيرها ، أو في تسمية الثانية سيئة إشارة إلى أن العفو مندوب إليه . والمعنى أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء { فَأَجْرُهُ عَلَى الله } عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } الذين يبدءون بالظلم أو الذين يجاوزون حد الانتصار . في الحديث : " ينادي منادٍ يوم القيامة من كان له أجر على الله فليقم فلا يقوم إلا من عفا " { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ } أي أخذ حقه بعدما ظلم على إضافة المصدر إلى المفعول { فَأُوْلَئِكَ } إشارة إلى معنى من دون لفظه { مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } للمعاقب ولا للمعاتب والمعايب { إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس } يبتدئونهم بالظلم { وَيَبْغُونَ فِى الأرض } يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون { بِغَيْرِ الحق أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وفسر السبيل بالتبعة والحجة { وَلَمَن صَبَرَ } على الظلم والأذى { وَغَفَرَ } ولم ينتصر { إِنَّ ذلك } أي الصبر والغفران منه { لَمِنْ عَزْمِ الأمور } أي من الأمور التي ندب إليها أو مما ينبغي أن يوجبه العاقل على نفسه ولا يترخص في تركه . وحذف الراجع أي «منه» لأنه مفهوم كما حذف من قولهم : السمن منوان بدرهم ، وقال أبو سعيد القرشي : الصبر على المكاره من علامات الانتباه ، فمن صبر على مكروه يصيبه ولم يجزع أورثه الله تعالى حال الرضا وهو أجل الأحوال ، ومن جزع من المصيبات وشكا وكله الله تعالى إلى نفسه ثم لم تنفعه شكواه . { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ } فما له من أحد يلي هدايته من بعد إضلال الله إياه ويمنعه من عذابه { وَتَرَى الظالمين } يوم القيامة { لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } حين يرون العذاب واختير لفظ الماضي للتحقيق { يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } يسألون ربهم الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا به .
{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } على النار إذ العذاب يدل عليها { خاشعين } متضائلين متقاصرين مما يلحقهم { مِنَ الذل يَنظُرُونَ } إلى النار { مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ } ضعيف بمسارقة كما ترى المصبور ينظر إلى السيف . { وَقَالَ الذين ءَامَنُواْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة } { يَوْمٍ } متعلق ب { خَسِرُواْ } وقول المؤمنين واقع في الدنيا أو يقال أي يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة { أَلآ إِنَّ الظالمين فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ } دائم { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله } من دون عذابه { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } إلى النجاة { استجيبوا لِرَبِّكُمْ } أي أجيبوه إلى ما دعاكم إليه { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ } أي يوم القيامة { لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله } «من» يتصل ب { لاَّ مَرَدَّ } أي لا يرده الله بعدما حكم به ، أو ب { يَأْتِىَ } أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده { مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ } أي ليس لكم مخلص من العذاب ولا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه ودوّن في صحائف أعمالكم ، والنكير الإنكار { فَإِنْ أَعْرَضُواْ } عن الإيمان { فَمَآ أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } رقيباً { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ } ما عليك إلا تبليغ الرسالة وقد فعلت { وَإِنَّآ إِذَا أَذَقْنَا الإنسان } المراد الجمع لا الواحد { مِنَّا رَحْمَةً } نعمة وسعة وأمناً وصحة { فَرِحَ بِهَا } بطر لأجلها { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } بلاء كالمرض والفقر ونحوهما .
وتوحيد فرح باعتبار اللفظ والجمع في { وَإِن تُصِبْهُمْ } باعتبار المعنى { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بسبب معاصيهم { فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ } ولم يقل فإنه كفور ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال : { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] . والكفور البليغ الكفران . والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها . قيل : أريد به كفران النعمة . وقيل : أريد به الكفر بالله تعالى .
{ لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ } أي يقرنهم { ذُكْرَاناً وإناثا وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها ، أتبع ذلك أن له تعالى الملك وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد ويهب لعباده من الأولاد ما يشاء ، فيخص بعضاً بالإناث ، وبعضاً بالذكور ، وبعضاً بالصنفين جميعاً ، ويجعل البعض عقيماً . والعقيم التي لا تلد وكذلك رجل عقيم إذا كان لا يولد له . وقدم الإناث أولاً على الذكور لأن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم والأهم واجب التقديم ، وليلي الجنس الذي كانت العرب تعدّه بلاء ذكر البلاء . ولما أخر الذكور وهم أحقاء بالتقديم تدارك تأخيرهم بتعريفهم لأن التعريف تنويه وتشهير ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير وعرّف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتض آخر فقال { ذُكْرَاناً وإناثا } . وقيل : نزلت في الأنبياء عليهم السلام حيث وهب للوط وشعيب إناثاً ، ولإبراهيم ذكوراً ، ولمحمد صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً ، وجعل يحيى وعيسى عليهما السلام عقيمين { إِنَّهُ عَلِيمٌ } بكل شيء { قَدِيرٌ } قادر على كل شيء .
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ } وما صح لأحد من البشر { أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً } أي إلهاماً كما روي «نفث في روعي» أو رؤيا في المنام كقوله عليه السلام " رؤيا الأنبياء وحي " وهو كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح الولد { أَوْ مِن وَرَآءِ } حِجَابٍ أي يسمع كلاماً من الله كما سمع موسى عليه السلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه . وليس المراد به حجاب الله تعالى لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من الحجاب ولكن المراد به أن السامع محجوب عن الرؤية في الدنيا { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } أي يرسل ملكاً { فَيُوحِىَ } أي الملك إليه . وقيل : وحياً كما أوحي إلى الرسل بواسطة الملائكة { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } أي نبياً كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم . و { وَحْياً } و { أَن يُرْسِلَ } مصدران واقعان موقع الحال لأن { أَن يُرْسِلَ } في معنى إرسالاً و { مِن وَرَاء حِجَابٍ } ظرف واقع موقع الحال كقوله { وعلى جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 191 ] . والتقدير : وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً . ويجوز أن يكون المعنى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بأن يوحي أو أن يسمع من وراء حجاب أو أن يرسل رسولاً وهو اختيار الخليل ، { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ } بالرفع : نافع على تقدير أو هو يرسل { بِإِذْنِهِ } إذن الله { مَا يَشَآءُ } من الوحي { إِنَّهُ عَلِىٌّ } قاهر فلا يمانع { حَكِيمٌ } مصيب في أقواله وأفعاله فلا يعارض .
{ وكذلك } أي كما أوحينا إلى الرسل قبلك أو كما وصفنا لك { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } إيحاء كذلك { رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } يريد ما أوحى إليه لأن الخلق يحيون به في دينهم كما يحيا الجسد بالروح { مَا كُنتَ تَدْرِى } الجملة حال من الكاف في { إِلَيْكَ } . { مَا الكتاب } القرآن { وَلاَ الإيمان } أي شرائعه أو ولا الإيمان بالكتاب لأنه إذا كان لا يعلم بأن الكتاب ينزل عليه لم يكن عالماً بذلك الكتاب . وقيل : الإيمان يتناول أشياء بعضها الطريق إليه العقل ، وبعضها الطريق إليه السمع ، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل وذاك بما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي { ولكن جعلناه } أي الكتاب { نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى } { لتدعو } وقرىء به { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } الإسلام { صراط الله } بدل { الذى لَهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض } ملكاً وملكاً { أَلآ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور } هو وعيد بالجحيم ووعد بالنعيم والله أعلم بالصواب .
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
{ حم والكتاب المبين } أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن ، وجعل قوله { إِنَّا جعلناه } صيرناه { قُرْءَاناً عَرَبِيّاً } جواباً للقسم وهو من الأيمان الحسنة البديعة لتناسب القسم والمقسم عليه ، والمبين البين للذين أنزل عليهم لأنه بلغتهم وأساليبهم أو الواضح للمتدبرين أو الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة وأبان كل ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لكي تفهموا معانيه { وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا } وإن القرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ ، دليله قوله : { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 21-22 ] . وسمي أم الكتاب لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب منه تنقل وتستنسخ . { أُمُّ الكتاب } بكسر الألف : علي وحمزة { لَّعَلِىٌّ } خبر «إن» أي في أعلى طبقات البلاغة أو رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزاً من بينها { حَكِيمٌ } ذو حكمة بالغة { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر } أفننحي عنكم الذكر ونذوده عنكم على سبيل المجاز من قولهم «ضرب الغرائب عن الحوض» . والفاء للعطف على محذوف تقديره أنهملكم فنضرب عنكم الذكر إنكاراً لأن يكون الأمر على خلاف ما قدم من إنزاله الكتاب؟ وجعله قرآناً عربياً ليعقلوه وليعلموا بمواجبه { صَفْحاً } مصدر من صفح عنه إذا أعرض ، منتصب على أنه مفعول له على معنى أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم . ويجوز أن يكون مصدراً على خلاف الصدر لأنه يقال «ضربت عنه» أي أعرضت عنه كذا قاله الفراء { إِن كُنتُمْ } لأن كنتم { إِن كُنتُمْ } مدني وحمزة . وهو من الشرط الذي يصدر عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته كما يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي وهو عالم بذلك { قَوْماً مُّسْرِفِينَ } مفرطين في الجهالة مجاوزين الحد في الضلالة .
{ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الأولين } أي كثيراً من الرسل أرسلنا من تقدمك { وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِىٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } هي حكاية حال ماضية مستمرة أي كانوا على ذلك وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء قومه .
{ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } تمييز ، والضمير للمسرفين لأنه صرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره عنهم { ومضى مَثَلُ الأولين } أي سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تسير مسير المثل ، وهذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم . { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } أي المشركين { مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً } كوفي وغيره مهاداً أي موضع قرار { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } طرقاً { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لكي تهتدوا في أسفاركم .
{ والذى نَزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ } بمقدار يسلم معه العباد ويحتاج إليه البلاد { فَأَنشَرْنَا } فأحيينا عدول من المغايبة إلى الإخبار لعلم المخاطب بالمراد { بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } يريد ميّتاً { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } من قبوركم أحياء { تُخْرَجُونَ } حمزة وعلي ولا وقف على { العليم } لأن { الذى } صفته ، وقد وقف عليه أبو حاتم على تقدير «هو الذي» ، لأن هذه الأوصاف ليست من مقول الكفار لأنهم ينكرون الإخراج من القبور فكيف يقولون { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } بل الآية حجة عليهم في إنكار البعث { والذى خَلَقَ الأزواج } الأصناف { كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ } أي تركبونه . يقال : ركبوا في الفلك وركبوا الأنعام فغلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المتعدي بواسطة فقيل تركبونه { لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ } على ظهور ما تركبونه وهو الفلك والأنعام { ثُمَّ تَذْكُرُواْ } بقلوبكم { نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ } بألسنتكم { سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا } ذلل لنا هذا المركوب { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } مطيقين . يقال : أقرن الشيء إذا أطاقه وحقيقة أقرنه وجده قرينته لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف { وَإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } لراجعون في المعاد . قيل : يذكرون عند ركوبهم مراكب الدنيا آخر مركبهم منها وهو الجنازة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : بسم الله . فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال ، { سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا } إلى قوله { لَمُنقَلِبُونَ } وكبر ثلاثاً وهلل ثلاثاً . وقالوا : إذا ركب في السفينة قال : { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ هود : 41 ] وحكي أن قوماً ركبوا وقالوا { سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا } الآية . وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هزالاً فقال : إني مقرن لهذه فسقط منها لوثبتها واندقت عنقه . وينبغي أن لا يكون ركوب العاقل للتنزه والتلذذ بل للاعتبار ، ويتأمل عنده أنه هالك لا محالة ومنقلب إلى الله غير منفلت من قضائه .
{ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً } متصل بقوله { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } أي ولئن سألتهم عن خالق السماوات والأرض ليعترفن به وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزأ أي قالوا الملائكة بنات الله فجعلوهم جزأ له وبعضاً منه كما يكون الولد جزأ لوالده { جُزُؤاً } أبو بكر وحماد { إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } لجحود للنعمة ظاهر جحوده لأن نسبة الولد إليه كفر والكفر أصل الكفران كله { أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وأصفاكم بالبنين } أي بل أتخذ والهمزة للإنكار تجهيلاً لهم وتعجيباً من شأنهم حيث ادعوا أنه اختار لنفسه المنزلة الأدنى ولهم الأعلى { وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً } بالجنس الذي جعله له مثلاً أي شبهاً لأنه إذا جعل الملائكة جزءاً لله وبعضاً منه فقد جعله من جنسه ومماثلاً له لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } يعني أنهم نسبوا إليه هذا الجنس ، ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له قد ولدت لك بنت اغتم واربد وجهه غيظاً وتأسفاً وهو مملوء من الكرب والظلول بمعنى الصيرورة { أَوْ مَن يُنَشَّؤُا فِى الحلية وَهُوَ فِى الخصام غَيْرُ مُبِينٍ } أي أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته وهو أنه ينشأ في الحلية أي يتربى في الزينة والنعمة ، وهو إذا احتاج إلى مجاناة الخصوم ومجاراة الرجال كان غير مبين ، ليس عنده بيان ولا يأتي ببرهان وذلك لضعف عقولهن .
قال مقاتل : لا تتكلم المرأة إلا وتأتي بالحجة عليها . وفيه أنه جعل النشأة في الزينة من المعايب ، فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويتزين بلباس التقوى ، و { من } منصوب المحل والمعنى أو جعلوا من ينشأ في الحلية يعني البنات لله عز وجل { يُنَشَّأُ } حمزة وعلي وحفص أي يربي قد جمعوا في كفرهم ثلاث كفرات ، وذلك أنهم نسبوا إلى الله الولد ، ونسبوا إليه أخس النوعين ، وجعلوه من الملائكة المكرمين فاستخفوا بهم .
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
{ وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } أي سموا وقالوا إنهم إناث { عِندَ الرحمن } مكي ومدني وشامي ، أي عندية منزلة ومكانة لا منزل ومكان . والعباد جمع عبد وهو ألزم في الحجاج مع أهل العناد لتضاد بين العبودية والولاد { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } وهذا تهكم بهم يعني أنهم يقولون ذلك من غير أن يستند قولهم إلى علم ، فإن الله لم يضطرهم إلى علم ذلك ولا تطرقوا إليه باستدلال ولا أحاطوا به عن خبر يوجب العلم ولم يشاهدوا خلقهم حتى يخبروا عن المشاهدة { سَتُكْتَبُ شهادتهم } التي شهدوا بها على الملائكة من أنوثتهم { وَيُسْئَلُونَ } عنها وهذا وعيد .
{ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عبدناهم } أي الملائكة . تعلقت المعتزلة بظاهر هذه الآية في أن الله تعالى لم يشأ الكفر من الكافر وإنما شاء الإيمان ، فإن الكفار ادعوا أن الله شاء منهم الكفر وما شاء منهم ترك عبادة الأصنام حيث قالوا { لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عبدناهم } أي لو شاء منا أن نترك عبادة الأصنام لمنعنا عن عبادتها ، ولكن شاء منا عبادة الأصنام ، والله تعالى رد عليهم قولهم واعتقادهم بقوله { مَّا لَهُم بِذَلِكَ } المقول { مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } أي يكذبون ، ومعنى الآية عندنا أنهم أرادوا بالمشيئة الرضا وقالوا : لو لم يرض بذلك لعجل عقوبتنا ، أو لمنعنا عن عبادتها منع قهر واضطرار ، وإذ لم يفعل ذلك فقد رضي بذلك ، فرد الله تعالى عليهم بقوله { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } الآية . أو قالوا ذلك استهزاءً لا جداً واعتقاداً ، فأكذبهم الله تعالى فيه وجهلهم حيث لم يقولوا عن اعتقاد كما قال مخبراً عنهم . { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] . وهذا حق في الأصل ، ولكن لما قالوا ذلك استهزاءً كذبهم الله بقوله { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ } [ يس : 47 ] وكذلك قال الله تعالى : { قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } ثم قال { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] لأنهم لم يقولوه عن اعتقاد وجعلوا المشيئة حجة لهم فيما فعلوا باختيارهم ، وظنوا أن الله لا يعاقبهم على شيء فعلوه بمشيئته ، وجعلوا أنفسهم معذورين في ذلك ، فرد الله تعالى عليهم { أَمْ ءاتيناهم كتابا مِّن قَبْلِهِ } من قبل القرآن أو من قبل قولهم هذا { فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } آخذون عاملون . وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديره أشهدوا خلقهم أم آتيناهم كتاباً من قبله فيه أن الملائكة إناث { بَلْ قَالُوآ } بل لا حجة لهم يتمسكون بها لا من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث السمع إلا قولهم { إِنَّا وَجَدْنَآ ءابَآءَنَا } على دين فقلدناهم وهي من الأم وهو القصد فالأمة الطريقة التي تؤم أي تقصد { وإِنّا على آثَارِهِمْ مُّهْتَدُونَ } الظرف صلة المهتدون أو هما خبران .
{ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } نبي { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } أي متنعموها وهم الذين أترفتهم النعمة أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ويعافون مشاق الدين وتكاليفه { إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَى ءاثارهم مُّقْتَدُونَ } وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان أن تقليد الآباء داء قديم { قال } شامي وحفص أي النذير ، { قُلْ } : غيرهما أي قيل للنذير قل { أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ } أي أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ { قَالُوآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } إنا ثابتون على دين آبائنا وإن جئتنا بما هو أهدى وأهدى { فانتقمنا مِنْهُمْ } فعاقبناهم بما استحقوه على إصرارهم { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ } أي واذكر إذ قال { إِنَّنِى بَرَآءٌ } أي بريء وهو مصدر يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث كما تقول : رجل عدل وامرأة عدل وقوم عدل والمعنى ذو عدل وذات عدل { مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذى فَطَرَنِى } استثناء منقطع كأنه قال : لكن الذي فطرني { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } يثبتني على الهداية { وَجَعَلَهَا } وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله { إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذى فَطَرَنِى } { كَلِمَةً باقية فِى عَقِبِهِ } في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم والترجي لإبراهيم . { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلآءِ وَءَابَآءَهُمْ } يعني أهل مكة وهم من عقب إبراهيم بالمد في العمر والنعمة فاغتروا بالمهلة وشغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد { حتى جَآءَهُمُ الحق } أي القرآن { وَرَسُولٌ } أي محمد عليه السلام { مُّبِينٌ } واضح الرسالة بما معه من الآيات البينة . { وَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق } القرآن { قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافرون وَقَالُواْ } فيه متحكمين بالباطل { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرءان } فيه استهانة به { على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } أي رجل عظيم من إحدى القريتين كقوله { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] أي من أحدهما ، والقريتان : مكة والطائف . وعنوا بعظيم مكة الوليد بن المغيرة ، وبعظيم الطائف عروة بن مسعود الثقفي ، وأرادوا بالعظيم من كان ذا مال وذا جاه ولم يعرفوا أن العظيم من كان عند الله عظيماً . { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتِ رَبِّكَ } أي النبوة ، والهمزة للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من تحكمهم في اختيار من يصلح للنبوة { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ } ما يعيشون به وهو أرزاقهم { فِى الحياوة الدنيأ } أي لم نجعل قسمة الأدون إليهم وهو الرزق فكيف النبوة؟ أو كما فضلت البعض على البعض في الرزق فكذا أخص بالنبوة من أشاء { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات } أي جعلنا البعض أقوياء وأغنياء وموالي والبعض ضعفاء وفقراء وخدماء { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } ليصرف بعضهم بعضاً في حوائجهم ويستخدموهم في مهنهم ويتسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويصلوا إلى منافعهم هذا بماله وهذا بأعماله { وَرَحْمَتُ رَبِّكَ } أي النبوة أو دين الله وما يتبعه من الفوز في المآب { خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا . ولما قلل أمر الدنيا وصغرها أردفه بما يقرر قلة الدنيا عنده فقال .
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
{ وَلَوْلآ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة } ولولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه { لَّجَعَلْنَا } لحقارة الدنيا عندنا { لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أبوابا وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً } أي لجعلنا للكفار سقوفاً ومصاعد وأبواباً وسرراً كلها من فضة ، وجعلنا لهم زخرفاً أي زينة من كل شيء . والزخرف الذهب والزينة ، ويجوز أن يكون الأصل سقفاً من فضة وزخرف أي بعضها من فضة وبعضها من ذهب فنصب عطفاً على محل { مِن فِضَّةٍ } لبيوتهم بدل اشتمال من { لِمَن يَكْفُرُ } . { سَقْفاً } على الجنس : مكي وأبو عمرو ويزيد . والمعارج جمع معرج وهي المصاعد إلى العلالي عليها يظهرون على المعارج يظهرون السطوح أي يعلونها { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا متاع الحياة الدنيا } «إن» نافية و«لما» بمعنى إلا أي وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا ، وقد قرىء به . وقرأ { لَمَا } غير عاصم وحمزة على أن اللام هي الفارقة بين «إن» المخففة والنافية و«ما» صلة أي وإن كل ذلك متاع الحياة الدينا { والآخرة } أي ثواب الآخرة { عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } لمن يتقي الشرك .
{ وَمَن يَعْشُ } وقرىء { وَمَن يعش } والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل عشى يعشى ، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل عشا يعشو . ومعنى القراءة بالفتح ومن يعم { عَن ذِكْرِ الرحمن } وهو القرآن كقوله { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } ومعنى القراءة بالضم : ومن يتعام عن ذكره أي يعرف أنه الحق وهو يتجاهل كقوله : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ } [ النمل : 14 ] { نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } قال ابن عباس رضي الله عنهما : نسلطه عليه فهو معه في الدنيا والآخرة يحمله على المعاصي . وفيه إشارة إلى أن من داوم عليه لم يقرنه الشيطان { وَإِنَّهُمْ } أي الشياطين { لَيَصُدُّونَهُمْ } ليمنعون العاشين { عَنِ السبيل } عن سبيل الهدى { وَيَحْسَبُونَ } أي العاشون { أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } وإنما جمع ضمير { من } وضمير الشيطان لأن { من } مبهم في جنس العاشي وقد قيض له شيطان مبهم في جنسه فجاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعاً { حتى إِذَا جَآءَنَا } على الواحد : عراقي غير أبي بكر أي العاشي { جاآنا } غيرهم أي العاشي وقرينه { قَالَ } لشيطانه { ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين } يريد المشرق والمغرب فغلب كما قيل : العمران والقمران ، والمراد بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق { فَبِئْسَ القرين } أنت .
{ وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ } إذ صح ظلمكم أي كفركم وتبين ولم يبق لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين و«إذ» بدل من { اليوم } { أَنَّكُمْ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ } { أَنَّكُمْ } في محل الرفع على الفاعلية أي ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب ، أو كونكم مشتركين في العذاب كما كان عموم البلوى يطيب القلب في الدنيا كقول الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
ولا يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
أما هؤلاء فلا يؤسّيهم اشتراكهم ولا يروحهم لعظم ما هم فيه . وقيل : الفاعل مضمر أي ولن ينفعكم هذا التمني أو الاعتذار لأنكم في العذاب مشتركون لاشتراككم في سببه وهو الكفر ، ويؤيده قراءة من قرأ { إِنَّكُمْ } بالكسر .
{ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم } أي من فقد سمع القبول { أَوْ تَهْدِى العمى } أي من فقد البصر { وَمَن كَانَ فِى ضلال مُّبِينٍ } ومن كان في علم الله أنه يموت على الضلال .
{ فَإِمَّا } دخلت «ما» على «إن» توكيداً للشرط ، وكذا النون الثقيلة في { نَذْهَبَنَّ بِكَ } أي نتوفينك قبل أن ننصرك عليهم ونشفي صدور المؤمنين منهم { فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } أشد الانتقام في الآخرة { أَوْ نُرِيَنَّكَ الذى وعدناهم } قبل أن نتوفاك يعني يوم بدر { فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } قادرون وصفهم بشدة الشكيمة في الكفر والضلال بقوله { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم } الآية . ثم أوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة بقوله { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } الآيتين . { فاستمسك } فتمسك { بالذى أُوحِىَ إِلَيْكَ } وهو القرآن واعمل به { إِنَّكَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ } أي على الدين الذي لا عوج له { وَإِنَّهُ } وإن الذي أوحي إليك { لَذِكْرٌ لَّكَ } لشرف لك { وَلِقَوْمِكَ } ولأمتك { وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ } عنه يوم القيامة وعن قيامكم بحقه وعن تعظيمكم له وعن شكركم هذه النعمة { وَسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ } ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء ، وكفاه نظراً وفحصاً نظره في كتاب الله المعجز المصدق لما بين يديه ، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً ، وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها . وقيل : إنه عليه السلام جمع له الأنبياء ليلة الإسراء فأمهم ، وقيل له : سلهم فلم يشكك ولم يسأل . وقيل : معناه سل أمم من أرسل وهم أهل الكتابين أي التوراة والإنجيل ، وإنما يخبرونه عن كتب الرسل فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء ، ومعنى هذا السؤال التقرير لعبدة الأوثان أنهم على الباطل . و { سَلْ } بلا همزة : مكي وعلي { رُسُلُنَا } أبو عمرو .
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإَِيْهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ العالمين } ما أجابوه به عند قوله { إِنِّى رَسُولُ رَبِّ العالمين } محذوف دل عليه قوله { فَلَمَّا جَآءَهُم بئاياتنا } وهو مطالبتهم إياه بإحضار البينة على دعواه وإبراز الآية { إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } يسخرون منها ويهزءون بها ويسمونها سحراً .
و«إذا» للمفاجأة وهو جواب «فلما» لأن فعل المفاجأة معها مقدر وهو عامل النصب في محل «إذا» كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقت ضحكهم .
{ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها في نقض العادة ، وظاهر النظم يدل على أن اللاحقة أعظم من السابقة وليس كذلك بل المراد بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر ولا يكدن يتفاوتن فيه وعليه كلام الناس . يقال : هما أخوان كل واحد منهما أكرم من الآخر { وأخذناهم بالعذاب } وهو ما قال تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين وَنَقْصٍ مّن الثمرات } { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان } [ الأعراف : 133 ] الآية . { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن الكفر إلى الإيمان { وَقَالُواْ ياأيه الساحر } كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لتعظيمهم علم السحر . { وَقَالُواْ ياأيه الساحر } بضم الهاء بلا ألف : شامي . ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت لالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها { ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } بعهده عندك من أن دعوتك مستجابة ، أو بعهده عندك وهو النبوة ، أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدى { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } مؤمنون به .
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } ينقضون العهد بالإيمان ولا يفون به { ونادى فِرْعَوْنُ } نادى بنفسه عظماء القبط أو أمر منادياً فنادى كقولك «قطع الأمير اللص» إذا أمر بقطعه { فِى قَوْمِهِ } جعلهم محلاً لندائه وموقعاً له { قَالَ ياقوم أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار } أي أنهار النيل ومعظمها أربعة { تَجْرِى مِن تَحْتِى } من تحت قصري . وقيل : بين يدي في جناني . والواو عاطفة للأنهار على { مُلْكُ مِصْرَ } و { تَجْرِى } نصب على الحال منها ، أو الواو للحال واسم الإشارة مبتدأ ، والأنهار صفة لاسم الإشارة ، و { تَجْرِى } خبر للمبدأ ، وعن الرشيد أنه لما قرأها قال : لأولينها أخس عبيدي فولاها الخصيب وكان خادمه على وضوئه ، وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها فلما شارفها قال : أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال { أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ } والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثني عنانه { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } قوتي وضعف موسى وغناي وفقره .
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
{ أَمْ أَنَا خَيْرٌ } «أم» منقطعة بمعنى «بل» والهمزة كأنه قال : أثبت عندكم وأستقر أني أنا خير وهذه حالي؟ { أمّن هذا الذى هُوَ مَهِينٌ } ضعيف حقير { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } الكلام لما كان به من الرتة { فَلَوْلآ } فهلا { أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسُوِرَةٌ } حفص ويعقوب وسهل جمع سوار ، غيرهم { أساورة } جمع أسورة وأساوير جمع أسوار وهو السوار ، حذف الياء من أساوير وعوض منها التاء { مِّن ذَهَبٍ } أراد بإلقاء الأسورة عليه إلقاء مقاليد الملك إليه لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب { أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملئكة مُقْتَرِنِينَ } يمشون معه يقترن بعضهم ببعض ليكونوا أعضاده وأنصاره وأعوانه .
{ فاستخف قَوْمَهُ } استفزهم بالقول واستنزلهم وعمل فيهم كلامه . وقيل : طلب منهم الخفة في الطاعة وهي الإسراع { فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } خارجين عن دين الله { فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ } «آسف» منقول من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه ومعناه أنهم أفرطوا في المعاصي فاستوجبوا أن يعجل لهم عذابنا وانتقامنا وأن لا نحلم عنهم { فجعلناهم سَلَفاً } جمع سالف كخادم وخدم { سُلُفاً } حمزة وعلي ، جمع سليف أي فريق قد سلف { وَمَثَلاً } وحديثاً عجيب الشأن سائراً مسير المثل يضرب بهم الأمثال ويقال مثلكم مثل قوم فرعون { لّلآخِرِينَ } لمن يجيء بعدهم ، ومعناه فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم لإتيانهم بمثل أفعالهم ومثلاً يحدثون به .
{ وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً } لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] غضبوا فقال ابن الزبعري : يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام : " هو لكم ولآلهتكم . ولجميع الأمم " فقال : ألست تزعم أن عيسى بن مريم نبي وتثني عليه وعلى أمه خيراً؟ وقد علمت أن النصارى يعبدونهما وعزيز يعبد ، والملائكة يعبدون . فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وءآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا ، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [ الأنبياء : 101 ] ونزلت هذه الآية . والمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى بن مريم مثلاً لآلهتهم وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه { إِذَا قَوْمُكَ } قريش { مِنْهُ } من هذا المثل { يَصِدُّونَ } يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحاً وضحكاً بما سمعوا منه من إسكات النبي صلى الله عليه وسلم بجدله ، { يَصدُونَ } مدني وشامي والأعشى وعلي ، من الصدود أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه . وقيل : من الصديد وهو الجلبة وأنهما لغتان نحو يعكف ويعكف { وَقَالُوآ ءَالِهَتِنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } يعنون أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، فإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هينا { مَا ضَرَبُوهُ } أي ما ضربوا هذا المثل { لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ } إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لطلب الميز بين الحق والباطل .
{ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } لد شداد الخصومة دأبهم اللجاج وذلك أن قوله تعالى { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } لم يرد به إلا الأصنام لأن ما لغير العقلان إلا أن ابن الزبعري بخداعه لما رأى كلام الله محتملاً لفظه وجه العموم مع علمه بأن المراد به أصنامهم لا غير ، وجد للحيلة مساغاً فصرف اللفظ إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله على طريق اللجاج والجدال وحب المغالبة والمكابرة وتوقح في ذلك فتوقر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه { إِنْ هُوَ } ما عيسى { إِلاَّ عَبْدٌ } كسائر العبيد { أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } بالنبوة { وجعلناه مَثَلاً لِّبَنِى إسراءيل } وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لبني إسرائيل { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً فِى الأرض } أي بدلاً منكم كذا قاله الزجاج . وقال جامع العلوم : لجعلنا بدلكم و«من» بمعنى البدل { يَخْلُفُونَ } يخلفونكم في الأرض أو يخلف الملائكة بعضهم بعضاً . وقيل : ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور لجعلنا منكم ، لولّدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم كما ولّدنا عيسى من أنثى من غير فحل ، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ، ولتعلموا أن الملائكة أجساد لا تتولد إلا من أجسام والقديم متعالٍ عن ذلك .
{ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } وإن عيسى مما يعلم به مجيء الساعة . وقرأ ابن عباس { لعلم للساعة } وهو العلامة أي وإن نزوله علم للساعة { فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا } فلا تشكن فيها من المرية وهو الشك { واتبعون } وبالياء فيهما : سهل ويعقوب أي واتبعوا هداي وشرعي أو رسولي أو هو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } أي هذا الذي أدعوكم إليه { وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان } عن الإيمان بالساعة أو عن الاتباع { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة إذ أخرج أباكم من الجنة ونزع عنه لباس النور .
{ وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات } بالمعجزات أو بآيات الإنجيل والشرائع البينات الواضحات { قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة } أي الإنجيل والشرائع { وَلابَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } وهو أمر الدين لا أمر الدنيا { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ إِنَّ الله هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } هذا تمام كلام عيسى عليه السلام . { فاختلف الأحزاب } الفرق المتحزبة بعد عيسى وهم : اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية { مِن بَيْنِهِمْ } من بين النصارى { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ } حيث قالوا في عيسى ما كفروا به { مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } وهو يوم القيامة { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة } الضمير لقوم عيسى أو للكفار { أَن تَأْتِيَهُم } بدل من { الساعة } أي هل ينظرون إلا إتيان الساعة { بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم كقوله
{ تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ } [ يس : 49 ] { الأخلاء } جمع خليل { يَوْمَئِذٍ } يوم القيامة { بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } أي المؤمنين . وانتصاب { يَوْمَئِذٍ } ب { عَدُوٌّ } أي تنقطع في ذلك اليوم كل خلة بين المتخالين في غير ذات الله وتنقلب عداوة ومقتاً إلا خلة المتصادقين في الله فإنها الخلة الباقية { ياعباد } بالياء في الوصل والوقف : مدني وشامي وأبو عمرو ، وبفتح الياء : أبو بكر . الباقون : بحذف الياء { لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } هو حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذ { الذين } منصوب المحل على صفة لعبادي لأنه منادى مضاف { ءَامَنُواْ بئاياتنا } صدقوا بآياتنا { وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } لله منقادين له { ادخلوا الجنة أَنتُمْ وأزواجكم } المؤمنات في الدنيا { تُحْبَرُونَ } تسرون سروراً يظهر حباره أي أثره على وجوهكم .
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بصحاف } جمع صفحة { مِّن ذَهَبٍ وأكواب } أي من ذهب أيضاً والكوب الكوز لا عروة له { وَفِيهَا } في الجنة { مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس } مدني وشامي وحفص بإثبات الهاء العائدة إلى الموصول ، وحذفها غيرهم لطول الموصول بالفعل والفاعل والمفعول . و { وَتَلَذُّ الأعين } وهذا حصر لأنواع النعم لأنها إما مشتهيات في القلوب أو مستلذة في العيون { وَأَنتُمْ فِيهَا خالدون وَتِلْكَ الجنة التى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } { تِلْكَ } إشارة إلى الجنة المذكورة وهي مبتدأ و { الجنة } خبر و { التى أُورِثْتُمُوهَا } صفة الجنة ، أو { الجنة } صفة للمبتدأ الذي هو اسم الإشارة و { التى أُورِثْتُمُوهَا } خبر المبتدأ ، أو { التى أُورِثْتُمُوهَا } صفة المبتدأ و { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } الخبر ، والباء تتعلق بمحذوف أي حاصلة أو كائنة كما في الظروف التي تقع أخباراً ، وفي الوجه الأول تتعلق ب { أُورِثْتُمُوهَا } وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة { لَكُمْ فِيهَا فاكهة كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ } «من» للتبعيض أي لا تأكلون إلا بعضها وأعقابها باقية في شجرها فهي مزينة بالثمار أبداً ، وفي الحديث «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلاها» .
{ إِنَّ المجرمين فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خالدون } خبر بعد خبر { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } خبر آخر أي لا يخفف ولا ينقص { وَهُمْ فِيهِ } في العذاب { مُّبْلِسُونَ } آيسون من الفرج متحيرون { وَمَا ظلمناهم } بالعذاب { ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين } هم فصل { وَنَادَوْاْ يامالك } لما آيسوا من فتور العذاب نادروا يا مالك وهو خازن النار . وقيل لابن عباس : إن ابن مسعود قرأ «يا مال» فقال : ما أشغل أهل النار عن الترخيم { لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } ليمتنامن قضى عليه إذا أماته { فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ } [ القصص : 15 ] والمعنى سل ربك أن يقضي علينا { قَالَ إِنَّكُمْ ماكثون } لا بثون في العذاب لا تتخلصون عنه بموت ولا فتور { لَقَدْ جئناكم بالحق } كلام الله تعالى . ويجب أن يكون في { قَالَ } ضمير الله لما سألوا مالكاً أن يسأل القضاء عليهم أجابهم الله بذلك . وقيل : هو متصل بكلام مالك والمراد بقوله جئناكم الملائكة إذ هم رسل الله وهو منهم { ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارهون } لا تقبلونه وتنفرون منه لأن مع الباطل الدعة ومع الحق التعب .
{ أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً } أم أحكم مشركو مكة أمراً من كيدهم ومكرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم { فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } كيدنا كما أبرموا كيدهم وكانوا يتنادون فيتناجون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ } حديث أنفسهم { ونجواهم } ما يتحدثون فيما ببينهم ويخفونه عن غيرهم { بلى } نسمعها ونطلع عليها { وَرُسُلُنَا } أي الحفظة { لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } عندهم يكتبون ذلك ، وعن يحيى بن معاذ : من ستر من الناس عيوبه وأبداها لمن لا تخفى عليه خافية فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من أمارات النفاق .
{ قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ } وصح ذلك ببرهان { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد إليه كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه ، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والمراد نفي الولد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق بها محالاً مثلها ، ونظيره قول سعيد بن جبير للحجاج حين قال له : والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى : لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلهاً غيرك . وقيل : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين أي الموحدين لله المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه . وقيل؛ إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد ، من عبد يعبد إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد . وقرىء { العبدين } وقيل : هي «إن» النافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد . ورُوي أن النضر قال : الملائكة بنات الله فنزلت : فقال النضر : ألا ترون أنه صدقني فقال له الوليد : ما صدقك ولكن قال ما كان للرحمن ولد فأنا أو الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له . { وُلْد } حمزة وعلي . ثم نزه ذاته على اتخاذ الولد فقال { سبحان رَبِّ السماوات والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } أي هو رب السماوات والأرض والعرش فلا يكون جسماً إذ لو كان جسماً لم يقدر على خلقها ، وإذا لم يكن جسماً لا يكون له ولد لأن التولد من صفة الأجسام { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ } في باطلهم { وَيَلْعَبُواْ } في دنياهم { حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ } أي القيامة ، وهذا دليل على أن ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب .
{ وَهُوَ الذى فِى السمآء إله وَفِى الأرض إله } ضمن اسمه تعالى معنى وصف فلذلك علق به الظرف في قوله { فِى السماء } { وَفِى الأرض } كما تقول : هو حاتم في طيّ وحاتم في تغلب . على تضمين معنى الجواد الذي شهر به كأنك قلت : هو جواد في طيّ جواد في تغلب . وقرىء { وهو الذي فى السماء الله وفى الأرض الله } ومثله قوله { وَهُوَ الله فِى السماوات وَفِى الأرض } فكأنه ضمن معنى المعبود . والراجع إلى الموصول محذوف لطول الكلام كقولهم «ما أنا بالذي قائل لك شيئاً» والتقدير : وهو الذي هو في السماء إله . و { إِلَه } يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر ولا يرتفع { إِلَه } بالابتداء وخبره { فِى السماء } لخلو الصلة حينئذ من عائد يعود إلى الموصول { وَهُوَ الحكيم } في أقواله وأفعاله { العليم } بما كان ويكون { وَتَبَارَكَ الذى لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة } أي علم قيامها { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { يَرْجِعُونَ } : مكي وحمزة وعلي { وَلاَ يَمْلِكُ } آلهتهم { الذين يَدْعُونَ } أي يدعونهم { مِن دُونِهِ } من دون الله { الشفاعة } كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله { إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق } أي ولكن من شهد بالحق بكلمة التوحيد { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن الله ربهم حقاً ويعتقدون ذلك هو الذي يملك الشفاعة ، وهو استثناء منقطع أو متصل لأن في جملة الذين يدعون من دون الله الملائكة { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } أي المشركين { مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } لا الأصنام والملائكة { فأنى يُؤْفَكُونَ } فكيف أو من أين يصرفون عن التوحيد مع هذا الإقرار
{ وَقِيلِهِ } بالجر : عاصم وحمزة أي وعنده علم الساعة وعلم قيله { يارب } والهاء يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره في قوله : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } .
وبالنصب : الباقون عطفاً على محل { الساعة } أي يعلم الساعة ويعلم قيله أي قيل محمد يا رب . والقيل والقول والمقال واحد ، ويجوز أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه . وجواب القسم { إِنَّ هَؤُلآءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } كأنه قيل : وأقسم بقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، وإقسام الله بقيله رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه { فاصفح عَنْهُمْ } فأعرض عن دعوتهم يائساً عن إيمانهم وودعهم وتاركهم و { وَقُلْ } لهم { سلام } أي تسلم منكم ومتاركة { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وعيد من الله لهم وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم . وبالتاء : مدني وشامي .
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
في الخبر «من قرأها ليلة جمعة أصبح مغفوراً له» . { حم والكتاب المبين } أي القرآن . الواو في { والكتاب } واو القسم . إن جعلت { حم } تعديداً للحروف ، أو اسماً للسورة مرفوعاً على خبر الابتداء المحذوف ، وواو العطف إن كانت { حم } مقسماً بها وجواب القسم { إِنَّآ أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة } أي ليلة القدر أو ليلة النصف من شعبان . وقيل : بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة . والجمهور على الأول لقوله { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] وقوله { شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان . ثم قالوا : أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل به جبريل في وقت وقوع الحاجة إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : ابتداء نزوله في ليلة القدر . والمباركة الكثيرة الخير لما ينزل فيها من الخير والبركة ويستجاب من الدعاء ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ } هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان فسر بهما جواب القسم كأنه قيل : أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً ، لأن إنزال القرآن من الأمور الحكمية وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم . ومعنى { يُفْرَقُ } يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى ليلة القدر التي تجيء في السنة المقبلة { حَكِيمٍ } ذي حكمة أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة ، وهو من الإسناد المجازي لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ووصف الأمر به مجازاً .
{ أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَا } نصب على الاختصاص جعل كل أمر جزلاً فخماً بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة وفخامة بأن قال : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا كما اقتضاه علمنا وتدبيرنا { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } بدل من { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } مفعول له على معنى أنزلنا القرآن . لأن من شأننا وعادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم ، أو تعليل لقوله { أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا } ، و { رَحْمَةً } مفعول به . وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] والأصل إنا كنا مرسلين رحمة منا فوضع الظاهر موضع الضمير إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين { إِنَّهُ هُوَ السميع } لأقوالهم { العليم } بأحوالهم { رَبِّ } كوفي بدل من { رَبَّكَ } وغيرهم بالرفع أي هو ربٌ { السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } ومعنى الشرط أنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض رباً وخالقاً فقيل لهم : إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب ، ثم قيل : إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرّون به ومعترفون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم وإيقان كما تقول : إن هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته { لآ إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِى وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ } أي هو ربكم { وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الأولين } عطف عليه .
ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله { بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ } وإن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن بل قول مخلوط بهزؤ ولعب { فارتقب } فانتظر { يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ } يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص . وقيل : إن قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال : " اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز ، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان وكان يحدث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان { مُّبِينٍ } ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان { يَغْشَى الناس } يشملهم ويلبسهم وهو في محل الجر صفة ل { دُخَان } وقوله { هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ } أي سنؤمن إن تكشف عنا العذاب منصوب المحل بفعل مضمر وهو يقولون ويقولون منصوب المحل على الحال أي قائلين ذلك { أنى لَهُمُ الذكرى } كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب { وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } أي وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الاذّكار من كشف الدخان ، وهو ما ظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات والبينات من الكتاب المعجز وغيره فلم يذكروا وتولوا عنه وبهتوه بأن عدّاساً غلاماً أعجمياً لبعض ثقيف هو الذي علمه ونسبوه إلى الجنون { إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلاً } زماناً قليلاً أو كشفاً قليلاً { إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } إلى الكفر الذي كنتم فيه أو إلى العذاب { يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى } هي يوم القيامة أو يوم بدر { إِنَّا مُنتَقِمُونَ } أي ننتقم منهم في ذلك اليوم . وانتصاب { يَوْمَ نَبْطِشُ } ب «اذكر» أو بما دل عليه { إِنَّا مُنتَقِمُونَ } وهو ننتقم لا ب { مُنتَقِمُونَ } لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها . { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ } قبل هؤلاء المشركين أي فعلنا بهم فعل المختبر ليظهر منهم ما كان باطناً { قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } على الله وعلى عباده المؤمنين ، أو كريم في نفسه حسيب نسيب لأن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا من سراة قومه وكرامهم { أَنْ أَدُّوآ إِلَىَّ } هي «أن» المفسرة لأن مجيء الرسول إلى من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله ، أو المخففة من الثقيلة ومعناه وجاءهم بأن الشأن والحديث أدوا إليَّ سلِّموا إلي { عِبَادَ الله } هو مفعول به وهم بنو إسرائيل يقول : أدوهم إلي وأرسلوهم معي كقوله :
{ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل وَلاَ تُعَذّبْهُمْ } [ طه : 47 ] . ويجوز أن يكون نداء لهم على معنى أدوا إلي يا عباد الله ما هو واجب لي عليكم من الإيمان لي وقبول دعوتي واتباع سبيلي ، وعلل ذلك بقوله { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي على رسالتي غير متهم { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله } «أن» هذه مثل الأولى في وجهيها أي لا تستكبروا على الله بالاستهانة برسوله ووحيه ، أو لا تستكبروا على نبي الله { أَنِّى ءَاتِيكُم بسلطان مُّبِينٍ } بحجة واضحة تدل على أني نبي { وَإِنِّى عُذْتُ } مدغم : أبو عمرو وحمزة وعلي { بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } أن تقتلوني رجماً ومعناه أنه عائذ بربه متكل على أنه يعصمه منهم ومن كيدهم فهو غير مبالٍ بما كانوا يتوعدونه من الرجم والقتل { وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون } أي إن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن فتنحوا عني ، أو فخلوني كفافاً لا لي ولا عليَّ ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم ، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم ذلك . { ترجموني } ، { فاعتزلوني } في الحالين : يعقوب .
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
{ فَدَعَا رَبَّهُ } شاكياً قومه { أَنَّ هَؤُلآءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } بأن هؤلاء أي دعا ربه بذلك . قيل : كان دعاؤه : اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم . وقيل : هو قوله { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين } وقرىء { إِنَّ هَؤُلآء } بالكسر على إضمار القول أي فدعا ربه فقال إن هؤلاء { فَأَسْرِ } من أسرى . { فَأَسْرِ } بالوصل : حجازي من سرى والقول مضمر بعد الفاء أي فقال أسر { بِعِبَادِى } أي بني إسرائيل { لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } أي دبر الله أن تتقدموا ويتبعكم فرعون وجنوده فينجي المتقدمين ويغرق التابعين { واترك البحر رَهْواً } ساكناً . أراد موسى عليه السلام لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق فأمر بأن يتركه ساكناً على هيئته قاراً على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبساً لا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئاً ليدخله القبط ، فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم . وقيل : الرهو : الفجوة الواسعة أي اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً { إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } بعد خروجكم من البحر ، وقرىء بالفتح أي لأنهم . { كَمْ } عبارة عن الكثرة منصوب بقوله : { تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } هو ما كان لهم من المنازل الحسنة وقيل : المنابر { وَنَعْمَةٍ } تنعم { كَانُواْ فِيهَا فاكهين } متنعمين { كذلك } أي الأمر كذلك فالكاف في موضع الرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر { وأورثناها قَوْماً ءَاخَرينَ } ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء وهم بنو إسرائيل { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض } لأنهم ماتوا كفاراً ، والمؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض فيبكي على المؤمن من الأرض مصلاه ومن السماء مصعد عمله ، وعن الحسن : أهل السماء والأرض { وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } أي لم ينظروا إلى وقت آخر ولم يمهلوا .
{ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسراءيل مِنَ العذاب المهين } أي الاستخدام والاستعباد وقتل الأولاد { مِن فِرْعَوْنَ } بدل من { العذاب المهين } بإعادة الجار كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم ، أو خبر مبتدأ محذوف أي ذلك من فرعون { إِنَّهُ كَانَ عَالِياً } متكبراً { مِّنَ المسرفين } خبر ثانٍ أي كان متكبراً مسرفاً { وَلَقَدِ اخترناهم } أي بني إسرائيل { على عِلْمٍ } حال من ضمير الفاعل أي عالمين بمكان الخيرة وبأنهم أحقاء بأن يختاروا { عَلَى العالمين } على عالمي زمانهم { وءاتيناهم مِنَ الأيات } كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك { مَا فِيهِ بَلَؤٌاْ مُّبِينٌ } نعمة ظاهرة أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون { إِنَّ هَؤُلآءِ } يعني كفار قريش { لَيَقُولُونَ إِنْ هِىَ } ما الموتة { إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى } والإشكال أن الكلام وقع في الحياة الثانية لا في الموت ، فهلا قيل : إن هي إلا حياتنا الأولى؟ وما معنى ذكر الأولى كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى جحدوها وأثبتوا الأولى؟ والجواب أنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة وذلك قول تعالى :
{ وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] فقالوا : إن هي إلا موتتنا الأولى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلا الموتة الأولى فلا فرق إذاً بين هذا وبين قوله { إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } [ الأنعام : 29 ] في المعنى . ويحتمل أن يكون هذا إنكاراً لما في قوله : { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } [ غافر : 11 ] { وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } بمبعوثين يقال : أنشر الله الموتى . ونشرهم إذا بعثهم { فَأْتُواْ بِئَابَآئِنَا } خطاب الذين كانوا يعدونهم النشور من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين { إِن كُنتُمْ صادقين } أي إن صدقتم فيما تقولون فعجلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ذلك حتى يكون دليلاً على أن ما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى حق .
{ أَهُمْ خَيْرٌ } في القوة والمنعة { أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } هو تبع الحميري كان مؤمناً وقومه كافرين . وقيل : كان نبياً في الحديث : « وما أدرى أكان تبع نبياً أو غير نبي » { والذين مِن قَبْلِهِمْ } مرفوع بالعطف على { قَوْمُ تُبَّعٍ } { أهلكناهم إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } كافرين منكرين للبعث { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ } أي وما بين الجنسين { لاَعِبِينَ } حال ولو لم يكن بعث ولا حساب ولا ثواب كان خلق الخلق للفناء خاصة فيكون لعباً { مَا خلقناهمآ إِلاَّ بالحق } بالجد ضد اللعب { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنه خلق لذلك .
{ إِنَّ يَوْمَ الفصل } بين المحق والمبطل وهو يوم القيامة { ميقاتهم أَجْمَعِينَ } وقت موعدهم كلهم { يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } أيّ ولي كان عن أي ولي كان شيئاً من إغناء أي قليلاً منه { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } الضمير للمولى لأنهم في المعنى لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كل مولى { إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله } في محل الرفع على البدل من الواو في { يُنصَرُونَ } أي لا يمنع من العذاب إلا من رحمة الله { إِنَّهُ هُوَ العزيز } الغالب على أعدائه { الرحيم } لأوليائه .
{ إنّ شَجَرَةَ الزقوم } هي على صورة شجرة الدنيا لكنها في النار والزقوم ثمرها وهو كل طعام ثقيل { طَعَامُ الأثيم } هو الفاجر الكثير الآثام . وعن أبي الدرداء أنه كان يقرىء رجلاً فكان يقول : طعام اليتيم . فقال : قل طعام الفاجر يا هذا . وبهذا تستدل على أن إبدال الكلمة مكان الكلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها ، ومنه أجاز أبو حنيفة رضي الله عنه القراءة بالفارسية بشرط أن يؤدي القارىء المعاني كلها على كمالها من غير أن يخرم منها شيئاً .
قالوا : وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة لأن في كلام العرب خصوصاً في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والدقائق ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها . ويُروى رجوعه إلى قولهما وعليه الاعتماد { كالمهل } هو دردي الزيت ، والكاف رفع خبر بعد خبر { يَغْلِى فِى البطون } بالياء : مكي وحفص ( وقرىء بالتاء ) فالتاء للشجرة والياء للطعام { كَغَلْىِ الحميم } أي الماء الحار الذي انتهى غليانه ومعناه غلياً كغلي الحميم فالكاف منصوب المحل . ثم يقال للزبانية { خُذُوهُ } أي الأثيم { فاعتلوه } فقودوه بعنف وغلظة ، { فاعتلوه } مكي ونافع وشامي وسهل ويعقوب { إلى سَوَآءِ الجحيم } إلى وسطها ومعظمها { ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم } المصبوب هو الحميم لا عذابه إلا أنه إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدته وصب العذاب استعارة ويقال له { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } على سبيل الهزؤ والتهكم . { إِنَّكَ } أي لأنك : عليّ { إِنَّ هَذَا } أي العذاب أو هذا الأمر هو { مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } تشكون .
{ إِنَّ المتقين فِى مَقَامٍ } بالفتح وهو موضع القيام والمراد المكان وهو من الخاص الذي وقع مستعملاً في معنى العموم ، وبالضم : مدني وشامي وهو موضع الإقامة { أَمِينٍ } من أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو ضد الخائن ، فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره { فِى جنات وَعُيُونٍ } بدل من { مَقَامٍ أَمِينٍ } { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ } ما رقّ من الديباج { وَإِسْتَبْرَقٍ } ما غلظ منه وهو تعريب استبر ، واللفظ إذا عرب خرج من أن يكون أعجمياً لأن معنى التعريب أن يجعل عربياً بالتصرف فيه وتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب فساغ أن يقع في القرآن العربي { متقابلين } في مجالسهم وهو أتم للأنس { كذلك } الكاف مرفوعة أي الأمر كذلك { وزوجناهم } وقرناهم ولهذا عدي بالباء { بِحُورٍ } جمع حوراء وهي الشديدة سواد العين والشديدة بياضها { عِينٍ } جمع عيناء وهي الواسعة العين { يَدْعُونَ فِيهَا } يطلبون في الجنة { بِكلِّ فاكهة ءَامِنِينَ } من الزوال والانقطاع وتولد الضرر من الإكثار { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا } أي في الجنة { الموت } البتة { إِلاَّ الموتة الأولى } أي سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا . وقيل : لكن الموتة قد ذاقوها في الدنيا { ووقاهم عَذَابَ الجحيم فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ } أي للفضل فهو مفعول له أو مصدر مؤكد لما قبله لأن قوله { ووقاهم عَذَابَ الجحيم } تفضل منه لهم لأن العبد لا يستحق على الله شيئاً { ذلك } أي صرف العذاب ودخول الجنة { هُوَ الفوز العظيم فَإِنَّمَا يسرناه } أي الكتاب وقد جرى ذكره في أول السورة { بلسانك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يتعظون { فارتقب } فانتظر ما يحل بهم { إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } منتظرون ما يحل بك من الدوائر .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
{ حم } إن جعلتها إسماً للسورة فهو مرفوعة بالابتداء والخبر { تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله } صلة للتنزيل ، وإن جعلتها تعديداً للحروف كان { تَنزِيلُ الكتاب } مبتدأ والظرف خبراً { العزيز } في انتقامه { الحكيم } في تدبيره { إِنَّ فِى السماوات والأرض لآيات } لدلالات على وحدانيته ، ويجوز أن يكون المعنى إن في خلق السماوات والأرض لآيات { لِلْمُؤْمِنِينَ } دليله قوله { وَفِى خَلْقِكُمْ } ويعطف { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ } على الخلق المضاف لأن المضاف إليه ضمير مجرور متصل يقبح العطف عليه { ءايات } حمزة وعلي بالنصب . وغيرهما بالرفع مثل قولك إن زيداً في الدار وعمراً في السوق أو وعمرو في السوق { لِِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ واختلاف اليل والنهار وَمَا أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِزْقٍ } أي مطر وسمي به لأنه سبب الرزق { فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرياح } { الريح } حمزة وعلي . { ءايات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } بالنصب : علي وحمزة ، وغيرهما بالرفع ، وهذا من العطف على عاملين سواء نصبت أو رفعت فالعاملان إذا نصبت «إن» و «في» . أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر في { واختلاف اليل والنهار } والنصب في { ءايات } . وإذا رفعت فالعاملان الابتداء و «في» . عملت الواو الرفع في آيات والجر في { واختلاف } هذا مذهب الأخفش لأنه يجوز العطف على عاملين ، وأما سيبويه فإنه لا يجيزه وتخريج الآية عنده ، أن يكون على اضمار «في» والذي حسنه تقديم ذكر «في» في الآيتين قبل هذه الآية ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه { وَفِى اختلاف اليل والنهار } ويجوز أن ينتصب { ءايات } على الاختصاص بعد انقضاء المجرور معطوفاً على ما قبله ، أو على التكرير توكيداً لآيات الأولى كأنه قيل : آيات آيات ، ورفعها بإضمار هي . والمعنى في تقديم الإيمان على الإيقان وتوسيطه وتأخير الآخر ، أن المنصفين من العباد إذا نظروا في السماوات والأرض نظراً صحيحاً علموا أنها مصنوعة وأنه لا بد لها من صانع فآمنوا بالله ، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وفي خلق ما ظهر على الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيماناً وأيقنوا ، فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بها بعد موتها ، وتصريف الرياح جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً ، عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم { تِلْكَ } إشارة إلى الآيات المتقدمة أي تلك الآيات { ءايات الله } وقوله { نَتْلُوهَا } في محل الحال أي متلوة { عَلَيْكَ بالحق } والعامل ما دل عليه { تِلْكَ } من معنى الإشارة { فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وءاياته } أي بعد آيات الله كقولهم «أعجبني زيد وكرمه» يريدون أعجبني كرم زيد { يُؤْمِنُونَ } حجازي وأبو عمرو وسهل وحفص ، وبالتاء غيرهم على تقدير قل يا محمد .
{ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ } كذاب { أَثِيمٍ } متبالغ في اقتراف الآثام { يَسْمَعُ ءايات الله } في موضع جر صفة { تتلى عَلَيْهِ } حال من آيات الله { ثُمَّ يُصِرُّ } يقبل على كفره ويقيم عليه { مُسْتَكْبِراً } عن الإيمان بالآيات والإذعان لما تنطق به من الحق مزدرياً لها معجباً بما عنده . قيل : نزلت في النضر بن الحرث وما كان يشتري من أحاديث العجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن . والآية عامة في كل من كان مضاراً لدين الله . وجيء ب «ثم» لأن الإصرار على الضلالة والاستكبار عن الإيمان عند سماع آيات القرآن مستبعد في العقول { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } «كأن» مخففة والأصل كأنه لم يسمعها والضمير ضمير الشأن ومحل الجملة النصب على الحال أي يصر مثل غير السامع { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فأخبره خبراً يظهر أثره على البشرة .
{ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً } وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها { اتخذها } اتخذ الآيات { هُزُواً } ولم يقل اتخذه للإشعار بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء لأنه في معنى الآية كقول أبي العتاهية :
نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله والقائم المهدي يكفيها
حيث أراد عتبة { أولئك } إشارة إلى كل أفاك أثيم لشموله الأفاكين { لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } مخز { مِّن وَرَآئِهِمْ } من قدامهم الوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام { جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ } من الأموال { شَيْئاً } من عذاب الله { وَلاَ مَا اتخذوا } «ما» فيهما مصدرية أو موصلة { مِن دُونِ الله } من الأوثان { أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } في جهنم .
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
{ هذا هُدًى } إشارة إلى القرآن ويدل عليه { والذين كَفَرُواْ بئايات رَبِّهِمْ } لأن آيات ربهم هي القرآن أي هذا القرآن كامل في الهداية كما تقول : زيد رجل أي كامل في الرجولية { لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ } هو أشد العذاب { أَلِيمٌ } بالرفع : مكي ويعقوب وحفص صفة ل { عذاب } وغيرهم بالجر صفة ل { رجز } { الله الذى سَخَّرَ لَكُمُ البحر لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ } بإذنه { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } بالتجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان واستخراج اللحم الطري { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض جَمِيعاً } هو تأكيد ما في السموات وهو مفعول { سَخَّرَ } وقيل : { جَمِيعاً } نصب على الحال { مِّنْهُ } حال أي سخر هذه الأشياء كائنة منه حاصلة من عنده ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هذه النعم كلها منه ، أو صفة للمصدر أي تسخيراً منه { إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ } أي قل لهم اغفروا يغفروا فحذف المقول لأن الجواب يدل عليه . ومعنى يغفروا يعفوا ويصفحوا . وقيل : إنه مجزوم بلام مضمر تقديره ليغفرو فهو أمر مستأنف وجاز حذف اللام للدلالة على الأمر { لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله } لا يتوقعون وقائع الله بأعدائه من قولهم لوقائع العرب أيام العرب . وقيل : لا يؤملون الأوقات التي وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها . قيل : نزلت في عمر رضي الله عنه حين شتمه رجل من المشركين من بني غفار فهم أن يبطش به { لِيَجْزِىَ } تعليل للأمر بالمغفرة أي إنما أمروا بأن يغفروا ليوفيهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة . وتنكير { قَوْماً } على المدح لهم كأنه قيل : ليجزي أيما قوم و { قَوْماً } مخصوصين بصبرهم على أذى أعدائهم . { لنجزى } شامي وحمزة وعلي . { ليُجْزَىَ قَوْماً } يزيد أي ليجزى الخير قوماً فأضمر الخير لدلالة الكلام عليه كما أضمر الشمس في قوله { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] لأن قوله { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشى } دليل على تواري الشمس ، وليس التقدير ليجزي الجزاء قوماً لأن المصدر لا يقوم مقام الفاعل ومعك مفعول صحيح ، أما إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل فجائز وأنت تقول جزاك الله خيراً { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من الإحسان .
{ مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } أي لها الثواب وعليها العقاب { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي إلى جزائه . { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب } التوراة { والحكم } الحكمة والفقه أو فصل الخصومات بين الناس لأن الملك كان فيهم { والنبوة } خصها بالذكر لكثرة الأنبياء عليهم السلام فيهم { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات } مما أحل الله لهم وأطاب من الأرزاق { وفضلناهم عَلَى العالمين } على عالمي زمانهم { وءاتيناهم بينات } آيات ومعجزات { مِّنَ الأمر } من أمر الدين { فَمَا اختلفوآ } فما وقع الخلاف بينهم في الدين { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ } أي إلا من بعد ما جاءهم ما هو موجب لزوال الخلاف وهو العلم وإنما اختلفوا لبغي حدث بينهم أي لعداوة وحسد بينهم { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } قيل : المراد اختلافهم في أوامر الله ونواهيه في التوراة حسداً وطلباً للرياسة لا عن جهل يكون الإنسان به معذوراً .
{ ثُمَّ جعلناك } بعد اختلاف أهل الكتاب { على شَرِيعَةٍ } على طريقة ومنهاج { مِّنَ الأمر } من أمر الدين { فاتبعها } فاتبع شريعتك الثابتة بالحجج والدلائل { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال ودينهم المبني على هوى وبدعة وهم رؤساء قريش حين قالوا : ارجع إلى دين آبائك { إِنَّهُمْ } إن هؤلاء الكافرين { لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ والله وَلِىُّ المتقين } وهم موالوه وما أبين الفضل بين الولايتين .
{ هذا } أي القرآن { بصائر لِلنَّاسِ } جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب كما جعل روحاً وحياة { وَهُدَىً } من الضلالة { وَرَحْمَةٌ } من العذاب { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } لمن آمن وأيقن بالبعث { أَمْ حَسِبَ الذين } «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان { اجترحوا السيئات } اكتسبوا المعاصي والكفر ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله أي كاسبهم { أَن نَّجْعَلَهُمْ } أن نصيرهم وهو من «جعل» المتعدي إلى مفعولين فأولهما الضمير والثاني الكاف في { كالذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } والجملة التي هي { سَوَآءً محياهم ومماتهم } بدل من الكاف لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً فكانت في حكم المفرد ، { سَوَآء } علي وحمزة وحفص بالنصب على الحال من الضمير في { نَّجْعَلَهُمْ } ويرتفع { محياهم ومماتهم } ب { سَوَآء } . وقرأ الأعمش { ومماتهم } بالنصب جعل { محياهم ومماتهم } ظرفين كمقدم الحاج أي سواء في محياهم وفي مماتهم . والمعنى إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً وأن يستووا مماتاً لافتراق أحوالهم أحياء ، حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات وأولئك على اقتراف السيئات ، ومماتاً حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والكرامة وأولئك على اليأس من الرحمة والندامة ، وقيل : معناه إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة في الرزق والصحة ، وعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام فبلغ هذه الآية فجعل يبكي ويردد إلى الصباح ، وعن الفضيل أنه بلغها فجعل يرددها ويبكي ويقول : يا فضيل ليت شعري من أي الفريقين أنت { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } بئس ما يقضون إذا حسبوا أنهم كالمؤمنين فليس من أقعد على بساط الموافقة كمن أقعد على مقام المخالفة بل نفرق بينهم فنعلي المؤمنين ونخزي الكافرين .
{ وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق } ليدل على قدرته { ولتجزى } معطوف على هذا المعلل المحذوف { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } أي هو مطواع لهوى النفس يتبع ما تدعوه إليه فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه { وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ } منه باختياره الضلال أو أنشأ فيه فعل الضلال على علم منه بذلك { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ } فلا يقبل وعظاً { وَقَلْبِهِ } فلا يعتقد حقاً { وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة } فلا يبصر عبرة ، { غشاوة } حمزة وعلي { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله } من بعد إضلال الله إياه { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } بالتخفيف : حمزة وعلي وحفص ، وغيرهم بالتشديد . فأصل الشر متابعة الهوى والخير كله في مخالفته فنعم ما قال :
إذا طلبتك النفس يوماً بشهوة ... وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنما ... هواك عدو والخلاف صديق
{ وَقَالُواْ مَا هِىَ } أي ما الحياة لأنهم وعدوا حياة ثانية { إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } التي نحن فيها { نَمُوتُ وَنَحْيَا } نموت نحن ونحيا ببقاء أولادنا ، أو يموت بعض ويحيا بعض ، أو نكون مواتاً نطفاً في الأصلاب ونحيا بعد ذلك ، أو يصيبنا الأمران الموت والحياة يريدون الحياة في الدنيا والموت بعدها وليس وراء ذلك حياة . وقيل : هذا كلام من يقول بالتناسخ أي يموت الرجل ثم تجعل روحه في موات فيحيا به { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر } كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس وينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح بإذن الله ، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان ، وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان ومنه قوله عليه السلام : « لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر » أي فإن الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } وما يقولون ذلك من علم ويقين ولكن من ظن وتخمين .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي القرآن يعني ما فيه من ذكر البعث { بينات مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ } وسمى قولهم حجة وإن لم يكن حجة لأنه في زعمهم حجة { إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بِأَبَآءِنَا } أي أحيوهم .
{ الله إِن كُنتُمْ صادقين } في دعوى البعث ، و { حُجَّتَهُمْ } خبر «كان» واسمها { أَن قَالُواْ } والمعنى ما كان حجتهم إلا مقالتهم : { ائتوا بِئَابَائِنَا } وقرىء { حُجَّتَهُمْ } بالرفع على أنها اسم «كان» و { أَن قَالُواْ } الخبر . { قُلِ الله يُحْيِيكُمْ } في الدنيا { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } فيها عند انتهاء أعماركم { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة } أي يبعثكم يوم القيامة جميعاً ومن كان قادراً على ذلك كان قادراً على الإتيان بآبائكم ضرورة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في الجمع { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } قدرة الله على البعث لإعراضهم عن التفكر في الدلائل { وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون } عامل النصب في { يَوْمٍ تَقُومُ } { يَخْسَرُ } و { يَوْمَئِذٍ } بدل من { يَوْمٍ تَقُومُ } { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } جالسة على الركب ، يقال : جثا فلان يجثو إذا جلس على ركبتيه وقيل جاثية مجتمعة { كُلُّ أُمَّةٍ } بالرفع على الابتداء { كُلَّ } بالفتح : يعقوب على الإبدال من { كُلَّ أُمَّةٍ } { تدعى إلى كتابها } إلى صحائف أعمالها فاكتفى باسم الجنس فيقال لهم { اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا .
{ هذا كتابنا } أضيف الكتاب إليهم لملابسته إياهم لأن أعمالهم مثبتة فيه وإلى الله تعالى لأنه مالكه والآمر ملائكته أن يكتبوا فيه أعمال عباده { يَنطِقُ عَلَيْكُم } يشهد عليكم بما عملتم { بالحق } من غير زيادة ولا نقصان { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي نستكتب الملائكة أعمالكم . وقيل : نسخت واستنسخت بمعنى وليس ذلك بنقل من كتاب بل معناه نثبت { فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ } جنته { ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين وَأَمَّا الذين كَفَرُوآ } فيقال لهم { أَفَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ } والمعنى ألم يأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم فحذف المعطوف عليه { فاستكبرتم } عن الإيمان بها { وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } كافرين { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله } بالجزاء { حَقٌّ والساعة } بالرفع عطف على محل «إن» واسمها . { والساعة } : حمزة عطف على { وَعَدَ الله } { لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا الساعة } أي شيء الساعة { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً } أصله نظن ظناً ومعناه إثبات الظن فحسب فأدخل حرف النفي والاستثناء ليفاد إثبات الظن مع نفي ما سواه ، وزيد نفي ما سوى الظن توكيداً بقوله { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدَا لَهُمْ } ظهر لهؤلاء الكفار { سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } قبائح أعمالهم أو عقوبات أعمالهم السيئات كقوله :
{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } ونزل بهم جزاء استهزائهم .
{ وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } أي نترككم في العذاب كما تركتم عدة لقاء يومكم وهي الطاعة ، وإضافة اللقاء إلى اليوم كإضافة المكر في قوله { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] أي نسيتم لقاء الله تعالى في يومكم هذا ولقاء جزائه { وَمَأْوَاكُمُ النار } أي منزلكم { وَمَا لَكُمْ مِّن ناصرين ذلكم } العذاب { بِأَنَّكُمُ } بسبب أنكم { اتخذتم ءايات الله هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا } { لاَ يَخْرُجُونَ } حمزة وعلي { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه { فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوات وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين } أي فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء من السماوات والأرض والعالمين ، فإن مثل هذه الربوبية العامة توجب الحمد والثناء على كل مربوب { وَلَهُ الكبريآء فِى السماوات والأرض } وكبّروه فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته في السماوات والأرض { وَهُوَ العزيز } في انتقامه { الحكيم } في أحكامه .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
{ حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق } ملتبساً بالحق { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } وبتقدير أجل مسمى ينتهي إليه وهو يوم القيامة { والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ } عما أنذروه من هول ذلك اليوم الذي لا بد لكل مخلوق من انتهائه إليه { مُّعْرِضُونَ } لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له ، ويجوز أن تكون «ما» مصدرية أي عن إنذارهم ذلك اليوم { قُلْ أَرَءَيْتُمْ } أخبروني { مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } تعبدونه من الأصنام { أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } أي شيء خلقوا مما في الأرض إن كانوا آلهة { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السماوات } شركة مع الله في خلق السماوات والأرض { ائتونى بكتاب مِّن قَبْلِ هذا } أي من قبل هذا الكتاب وهو القرآن يعني أن هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك ، وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك ، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله { أَوْ أثارة مِّنْ عِلْمٍ } أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين { إِن كُنتُمْ صادقين } أن الله أمركم بعبادة الأوثان .
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غافلون } أي أبداً { وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً } أي الأصنام لعبدتها { وَكَانُواْ } أي الأصنام { بِعِبَادَتِهِمْ } بعبادة عبدتهم { كافرين } يقولون ما دعوناهم إلى عبادتنا . ومعنى الاستفهام في { مَنْ أَضَلَّ } إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالاً من عبدة الأوثان حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على كل شيء ويدعون من دونه جماداً لا يستجيب لهم ولا قدرة له على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة ، وإذا قامت القيامة وحشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا عليهم ضداً فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة ، وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم . ولما أسند إليهم ما يسند إلى أولي العلم من الاستجابة والغفلة قيل «من» و «هم» ، ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة ، طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها ونحوه قوله تعالى : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر : 14 ] .
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيِّنَاتٍ } جمع بينة وهي الحجة والشاهد أو واضحات مبينات { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ } المراد بالحق الآيات وبالذين كفروا المتلو عليهم فوضع الظاهران موضع الضميرين للتسجيل عليهم بالكفر وللمتلو بالحق { لَمَّا جَآءَهُمْ } أي بادهوه بالجحود ساعة أتاهم وأول ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر { هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } ظاهر أمره في البطلان لا شبهة فيه { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحراً إلى ذكر قولهم إن محمداً عليه السلام افتراه أي اختلقه وأضافه إلى الله كذباً ، والضمير للحق والمراد به الآيات { قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئاً } أي إن افتريته على سبيل الفرض عاجلني الله بعقوبة الافتراء عليه فلا تقدرون على كفه عن معاجلتي ، ولا تطيقون دفع شيء من عقابه فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه؟ .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } أي تندفعون فيه من القدح في وحي الله والطعن في آياته وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى { كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } يشهد لي بالصدق والبلاغ ويشهد عليكم بالجحود والإنكار ، ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم { وَهُوَ الغفور الرحيم } موعدة بالغفران والرحمة إن تابوا عن الكفر وآمنوا .
{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل } أي بديعاً كالخف بمعنى الخفيف ، والمعنى إني لست بأول مرسل فتنكروا نبوّتي { وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ } أي ما يفعل الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان . وعن الكلبي قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين : حتى متى تكون على هذا؟ فقال : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، أأترك بمكة أم أو أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها يعني في منامه ذات نخيل وشجره و «ما» في { مَّا يَفْعَلُ } يجوز أن يكون موصولة منصوبة ، وأن تكون استفهامية مرفوعة . وإنما دخل «لا» في قوله { وَلاَ بِكُمْ } مع أن { بفعل } مثبت غير منفي لتناول النفي في { مَا أَدْرِى } «ما» وما في حيزه { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ } القرآن { مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل } هو عبد الله بن سلام عند الجمهور ولهذا قيل : إن هذه الآية مدنية لأن إسلام بن سلام بالمدينة . رُوي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب . قال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام يأكله أهل الجنة ، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه وإن سبق ماء المرأة نزعته " فقال : أشهد أنك رسول الله حقاً .
{ على مِثْلِهِ } الضمير للقرآن أي مثله في المعنى وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك ، ويجوز أن يكون المعنى إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك يعني كونه من عند الله { فَئَامَنَ } الشاهد { واستكبرتم } عن الإيمان به . وجواب الشرط محذوف تقديره إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين ، ويدل على هذا المحذوف . { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } والواو الأولى عاطفة ل { كَفَرْتُمْ } على فعل الشرط ، وكذلك الواو الأخيرة عاطفة ل { استكبرتم } على { شَهِدَ شَاهِدٌ } ، وأما الواو في { وَشَهِدَ } فقد عطفت جملة قوله { شَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ فَئَامَنَ واستكبرتم } على جملة قوله { كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ } والمعنى قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به ، واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله ، فإيمانه به مع استكباركم عنه وعن الإيمان به ، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ .
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } أي لأجلهم وهو كلام كفار مكة قالوا : إن عامة من يتبع محمداً السقاط يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ } العامل في «إذ» محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم وقوله { فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ } مسبب عنه وقولهم { إِفْكٌ قَدِيمٌ } أي كذب متقادم كقولهم { أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] { وَمِن قَبْلِهِ } أي القرآن { كِتَابُ موسى } أي التوراة وهو مبتدأ و { مِن قَبْلِهِ } ظرف واقع خبراً مقدماً عليه وهو ناصب { إِمَاماً } على الحال نحو : في الدار زيد قائماً . ومعنى { إِمَاماً } قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه كما يؤتم بالإمام { وَرَحْمَةً } لمن آمن به وعمل بما فيه { وهذا } القرآن { كتاب مُّصَدِّقٌ } لكتاب موسى أو لما بين يديه وتقدمه من جميع الكتب { لِّسَاناً عَرَبِيّاً } حال من ضمير الكتاب في { مُّصَدّق } والعامل فيه { مُّصَدّق } أو من كتاب لتخصصه بالصفة ويعمل فيه معنى الإشارة ، وجوز أن يكون مفعولاً ل { مُّصَدّق } أي يصدق ذا لسان عربي وهو الرسول { لِّيُنذِرَ } أي الكتاب ، { لّتُنذِرَ } حجازي وشامي . { الذين ظَلَمُواْ } كفروا { وبشرى } في محل النصب معطوف على محل { لّيُنذِرَ } لأنه مفعول له { لِّلْمُحْسِنِينَ } للمؤمنين المطيعين .
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)
{ إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } على توحيد الله وشريعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } في القيامة { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } عند الموت { أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة خالدين فِيهَا } حال من { أصحاب الجنة } والعامل فيه معنى الإشارة الذي دل عليه { أولئك } { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } جزاء مصدر لفعل دل عليه الكلام أي جوزوا جزاء .
{ وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إحسانا } كوفي أي وصيناه بأن يحسن بوالديه إحساناً ، { حُسْنًا } غيرهم أي وصيناه بوالديه أمراً ذا حسن أو بأمر ذي حسن ، فهو في موضع البدل من قوله { بوالديه } وهو من بدل الاشتمال { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } وبفتح الكافين : حجازي وأبو عمرو وهما لغتان في معنى المشقة ، وانتصابه على الحال أي ذات كره ، أو على أنه صفة للمصدر أي حملاً ذاكره { وَحَمْلُهُ وفصاله } ومدة حمله وفطامه { ثَلاَثُونَ شَهْراً } وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع إذا كانت حولين لقوله تعالى : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] بقيت للحمل ستة أشهر ، وبه قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : المراد به الحمل بالأكف . { وَفِصْلُهُ } يعقوب . والفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } هو جمع لا واحد له من لفظه ، وكان سيبويه يقول : واحده شدة ، وبلوغ الأشد أن يكتهل ويستوفي السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين . وعن قتادة : ثلاث وثلاثون سنة ووجهه أن يكون ذلك أول الأشد وغايته الأربعون .
{ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى } ألهمني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ } المراد به نعمة التوحيد والإسلام ، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه لأن النعمة عليهما نعمة عليه { وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه } قيل : هي الصلوات الخمس { وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى } أي اجعل ذريتي موقعاً للصلاح ومظنة له { إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ } من كل ذنب { وَإِنِّى مِنَ المسلمين } من المخلصين { أُوْلَئِكَ الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سيئاتهم } حمزة وعلي وحفص . { يُتَقَبَّل } { ويُتَجاوز } { أَحْسَنُ } غيرهم { فِى أصحاب الجنة } هو كقولك : أكرمني الأمير في ناس من أصحابه تريد أكرمني في جملة من أكرم منهم ونظمني في عدادهم ، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم { وَعْدَ الصدق } مصدر مؤكد لأن قوله { يُتَقَبَّل } { ويتجاوز } وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز . قيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي أبيه أبي قحافة وأمه أم الخير وفي أولاده واستجابة دعائه فيهم ، فإنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ودعا لهما وهو ابن أربعين سنة ولم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبي بكر رضي الله عنه { الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ } في الدنيا .
{ والذى قَالَ لوالديه } مبتدأ خبره { أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } والمراد بالذي قال ، الجنس القائل ذلك القول ولذلك وقع الخبر مجموعاً . وعن الحسن : هو في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث . وقيل : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه قبل إسلامه ، ويشهد لبطلانه كتاب معاوية إلى مروان ليأمر الناس بالبيعة ليزيد فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : لقد جئتم بها هرقلية أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان : يا أيها الناس هذا الذي قال الله تعالى فيه : { والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا } . فسمعت عائشة رضي الله عنها فغضبت وقالت : والله ما هو به ولو شئت أن أسميه لسميته ، ولكن الله تعالى لعن أباك وأنت في صلبه فأنت فضض من لعنة الله أي قطعة { أُفّ لَّكُمَآ } مدني وحفص ، { أُفَّ } مكي وشامي ، { أُفِّ } غيرهم وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر كما إذا قال «حس» علم أنه متوجع . واللام للبيان أي هذا التأفيف لكما خاصة ولأجلكما دون غيركما . { أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ } أن أبعث وأخرج من الأرض { وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى } ولم يبعث منهم أحد { وَهُمَا } أبواه { يَسْتَغِيثَانِ الله } يقولان الغياث بالله منك ومن قولك وهو استعظام لقوله ويقولان له { وَيْلَكَ } دعاء عليه بالثبور والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك { ءَامِنْ } بالله وبالبعث { إِنَّ وَعْدَ الله } بالبعث { حَقٌّ } صدق { فَيَقُولُ } لهما { مَا هذا } القول { إِلاَّ أساطير الأولين أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } أي لأملأن جهنم { فِى أُمَمٍ } في جملة أمم { قَدْ خَلَتْ } قد مضت { مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين وَلِكُلّ } من الجنسين المذكورين الأبرار والفجار { درجات مِّمَّا عَمِلُواْ } أي منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، أو من أجل ما عملوا منهما ، وإنما قال { درجات } وقد جاء «الجنة درجات والنار دركات» على وجه التغليب { وَلِيُوَفِّيَهُمْ أعمالهم } بالياء : مكي وبصري وعاصم { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم ، قدّر جزاءهم على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات فاللام متعلقة بمحذوف { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار } عرضهم على النار تعذيبهم بها من قولهم : عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به . وقيل : المراد عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض يريدون عرض الحوض عليها فقلبوا { أَذْهَبْتُمْ } أي يقال لهم أذهبتم وهو ناصب الظرف { طيباتكم فِى حياتكم الدنيا } أي ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم وقد ذهبتم به وأخذتموه فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها .
وعن عمر رضي الله عنه : لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ولكني أستبقي طيباتي { واستمتعتم بِهَا } بالطيبات { فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون } أي الهوان وقرىء به { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } تتكبرون { فِى الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } أي باستكباركم وفسقكم .
{ واذكر أَخَا عَادٍ } أي هوداً { إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف } جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج . عن ابن عباس رضي الله عنهما : هو وادٍ بين عمان ومهرة { وَقَدْ خَلَتِ النذر } جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } من قبل هود ومن خلف هود ، وقوله { وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } وقع اعتراضاً بين { أَنذَرَ قَوْمَهُ } وبين { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } والمعنى واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك { قَالُواْ } أي قوم هود { أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } لتصرفنا فالأفك الصرف يقال : أفكه عن رأيه { عَنْ ءَالِهَتِنَا } عن عبادتها { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من معاجلة العذاب على الشرك { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } في وعيدك .
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
{ قَالَ إِنَّمَا العلم } بوقت مجيء العذاب { عَندَ الله } ولا علم لي بالوقت الذي يكون فيه تعذيبكم { وَأُبَلِّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ } وبالتخفيف : أبو عمرو أي الذي هو شأني أن أبلغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف { ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } أي ولكنكم جاهلون لا تعلمون أن الرسل بعثوا منذرين لا مقترحين ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه . { فَلَمَّا رَأَوْهُ } الضمير يرجع إلى { مَا تَعِدُنَا } أو هو مبهم وضح أمره بقوله { عَارِضاً } إما تمييزاً أو حالاً . والعارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء { مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } رُوي أن المطر قد احتبس عنهم فرأوا سحابة استقبلت أوديتهم فقالوا : هذا سحاب يأتينا بالمطر وأظهروا من ذلك فرحاً . وإضافة { مُّسْتَقْبِلَ } و { ممطر } مجازية غير معرفة بدليل وقوعهما وهما مضافان إلى معرفتين وصفاً للنكرة { بَلْ هُوَ } أي قال هود : بل هو ، ويدل عليه قراءة من قرأ { قَالَ هُود بَلْ هُوَ } { مَا استعجلتم بِهِ } من العذاب . ثم فسره فقال { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ } تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير فعبر عن الكثرة بالكلية { بِأَمْرِ رَبِّهَا } رب الريح { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم } عاصم وحمزة وخلف أي لا يرى شيء إلا مساكنهم . غيرهم { لاَّ ترى إِلاَّ مساكنهم } والخطاب للرائي من كان .
{ كَذَلِكَ نَجْزِى القوم المجرمين } أي مثل ذلك نجزي من أجرم مثل جرمهم وهو تحذير لمشركي العرب . عن ابن عباس رضي الله عنهما : اعتزل هود عليه السلام ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلذه الأنفس ، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة .
{ وَلَقَدْ مكناهم فِيمَآ إِن مكناكم فِيهِ } «إن» نافية أي فيما ما مكنا كم فيه إلا أن «إن» أحسن في اللفظ لما في مجامعة ما مثلها من التكرير المستبشع ، ألا ترى أن الأصل في «مهما» «ما ما» فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء . وقد جعلت «إن» صلة وتؤول بأنا مكناهم في مثل { مَا إِنَّ مكناكم فِيهِ } [ الأحقاف : 26 ] والوجه هو الأول لقوله تعالى : { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئياً } [ مريم : 74 ] { كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَاراً } [ غافر : 82 ] و «ما» بمعنى الذي أو نكرة موصوفة { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبصارا وَأَفْئِدَةً } أي آلات الدرك والفهم { فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَىْءٍ } أي من شيء من الإغناء وهو القليل منه { إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بئايات الله } «إذ» نصب بقوله { فَمَا أغنى } وجرى مجرى التعليل لاستواء مؤدي التعليل والظرف في قولك : ضربته لإساءته وضربته إذ أساء ، لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه إلا أن «إذ» و «حيث» غلبتا دون سائر الظروف في ذلك { وَحَاقَ بِهِم } ونزل بهم { مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } جزاء استهزائهم وهذا تهديد لكفار مكة ثم زادهم تهديداً بقوله :
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ } يا أهل مكة { مِّنَ القرى } نحو حجر ثمود وقرى قوم لوط والمراد أهل القرى ولذلك قال { وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي كررنا عليهم الحجج وأنواع العبر لعلهم يرجعون عن الطغيان إلى الإيمان فلم يرجعوا { فَلَوْلا } فهلا { نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً ءَالِهَةً } القربان ما تقرب به إلى الله تعالى أي اتخذوهم شفعاء متقرباً بهم إلى الله تعالى حيث قالوا { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وأحد مفعولي «اتخذ» الراجع إلى «الذين» محذوف أي اتخذوهم والثاني { ءالِهَةً } و { قُرْبَاناً } حال { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } غابوا عن نصرتهم { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } { وَذَلِكَ } إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم أي وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب .
{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً } أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك والنفردون العشرة { مِّن الجن } جن نصيبين { يَسْتَمِعُونَ القرءان } منه عليه الصلاة والسلام { فَلَمَّا حَضَرُوهُ } أي الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن أي كانوا منه بحيث يسمعون { قَالُواْ } أي قال بعضهم لبعض { أَنصِتُواْ } اسكتوا مستمعين رُوي أن الجن كانت تسترق السمع ، فلما حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا : ما هذا إلا لنبأ حدث . فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى منهم زوبعة فضربوا حتى بلغوا تهامة ثم اندفعوا إلى وادي نخلة فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم في جوف الليل يصلي أو في صلاة الفجر فاستمعوا لقراءته . وعن سعيد بن جبير : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما كان يتلو في صلاته فمروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر فأنبأه الله باستماعهم . وقيل : بل الله أمر رسوله أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فصرف إليه نفراً منهم فقال : إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني؟ قالها ثلاثاً . فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لم يحضره ليلة الجن أحد غيري فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون فخط لي خطاً وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك ، ثم اففتح القرآن وسمعت لغطاً شديداً فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل رأيت شيئاً؟ قلت : نعم رجالاً سوداً . فقال : أولئك جن نصيبين "
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
{ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي أعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام أوصدوا غيرهم عنه . قال الجوهري : صد عنه يصد صدوداً أعرض ، وصده عن الأمر صداً منعه وصرفه عنه . وهم المطعمون يوم بدر أو أهل الكتاب أو عام في كل من كفر وصد { أَضَلَّ أعمالهم } أبطلها وأحبطها ، وحقيقته جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها كالضالة من الإبل ، وأعمالهم ما عملوه في كفرهم من صلة الأرحام وإطعام الطعام وعمارة المسجد الحرام ، أو ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والصد عن سبيل الله { والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } هم ناس من قريش أو من الأنصار أو من أهل الكتاب أو عام { وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ } وهو القرآن ، وتخصيص الإيمان بالمنزل على رسوله من بين ما يجب الإيمان به لتعظيم شأنه ، وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية وهي قوله { وَهُوَ الحق مِن رَّبِّهِمْ } أي القرآن . وقيل : إن دين محمد هو الحق إذ لا يرد عليه النسخ وهو ناسخ لغيره { كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم } ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم عنها وتوبتهم { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين وبالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصرة والتأييد { ذلك بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وَأَنَّ الذين ءَامَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ } { ذلك } مبتدأ وما بعده خبره أي ذلك الأمر وهو إضلال أعمال أحد الفريقين وتكفير سيئات الثاني والإصلاح كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهو الشيطان وهؤلاء الحق وهو القرآن { كذلك } مثل ذلك الضرب { يَضْرِبُ الله } أي يبين الله { لِلنَّاسِ أمثالهم } والضمير راجع إلى الناس أو إلى المذكورين من الفريقين على معنى أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم ، وقد جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكافرين ، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين ، أو جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلاً لفوز الأبرار .
{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ } من اللقاء وهو الحرب { فَضَرْبَ الرقاب } أصله فاضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول ، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد لأنك تذكر المصدر وتدل على الفعل بالنصبة التي فيه { وَضَرَبَ الرقاب } عبارة عن القتل لا أن الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء ، ولأن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته فوقع عبارة عن القتل وإن ضرب غير رقبته { حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ } أكثرتم فيهم القتل { فَشُدُّواْ الوثاق } فأسروهم والوثاق بالفتح والكسر اسم ما يوثق به ، والمعنى فشدوا وثاق الأسارى حتى لا يفلتوا منكم { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ } أي بعد أن تأسروهم { وَإِمَّآ فِدَاءً } { منَّا } و { فِدَاء } منصوبان بفعليهما مضمرين أي فإما تمنون مناً أو تفدون فداء ، والمعنى التخيير بين الأمرين بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم فيطلقوهم وبين أن يفادوهم ، وحكم أسارى المشركين عندنا القتل أو الاسترقاق ، والمن والفداء المذكوران في الآية منسوخ بقوله