كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي


وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ مِنْهُ إِقْرَارٌ بِالْحُرِّيَّةِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِهَا ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَهَا بِالرِّقِّ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ . فَإِذَا حُكِمَ بِرِقِّهِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ وَكَانَ فِي يَدَيْ سَيِّدِهِ فَأَقَرَّ بِهِ السَّيِّدُ لِزَيْدٍ وَأَقَرَّ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ لِعَمْرٍو فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ دُونَ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ إِقْرَارًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَنَفَذَ فِيهِ إِقْرَارُ السَّيِّدِ لِأَجْلِ يَدِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ السَّيِّدِ نُظِرَ فِيهِ فَإِنْ قَبِلَ زَيْدٌ إِقْرَارَ السَّيِّدِ حُكِمَ لَهُ بِرِقِّهِ وَكَانَ عَمْرٌو إِنِ ادَّعَى رِقَّهُ خَصْمًا لِزَيْدٍ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ زَيْدٌ إِقْرَارَ السَّيِّدِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِيرُ حُرًّا يَرْتَفِعُ رِقُّهُ بِإِنْكَارِ مَنْ صَارَ مَحْكُومًا لَهُ بِمُلْكِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى رِقِّهِ ، وَلَا يَصِيرُ حُرًّا ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمِلْكِ لَا تُزِيلُ عَنِ السَّبْيِ حُكْمَ الْمِلْكِ . فَعَلَى هَذَا ، هَلْ تَرْتَفِعُ عَنْهُ يَدُ السَّيِّدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَرْتَفِعُ عَنْهُ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالْإِقْرَارِ ، فَعَلَى هَذَا مَنْ سَبَقَ إِلَى ادِّعَائِهِ مِلْكًا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ سَوَاءٌ سَبَقَ إِلَى الدَّعْوَى مَنِ اعْتَرَفَ لَهُ الْعَبْدُ بِالْمِلْكِ وَهُوَ عَمْرٌو ، أَوْ غَيْرُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تُقَرُّ يَدُ السَّيِّدِ الْمُقَرِّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ ، وَيَسْتَحِقُّ بِالْيَدِ دَفْعَ الْمُدَّعِي عَنْهُ إِلَّا أَنْ تَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ بِمِلْكِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَانِيًا عَلَى مَا مَلَكَهُ لَمْ يَصِرْ مَالِكًا لِلْعَبْدِ فِي إِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ زَالَ مِلْكُهُ فَلَمْ يَنْفُذْ إِقْرَارُهُ وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ بِالْإِقْرَارِ الثَّانِي رَفْعُ يَدِهِ ، وَلَا يُمْنَعُ الثَّانِي مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْمِلْكِ لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ لَهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي تَرَكَهُ أَبُوهُ لِفُلَانٍ ثُمَّ وَصَلَ ، أَوْ لَمْ يَصِلْ دَفَعَهُ ، أَوْ لَمْ يَدْفَعْهُ فَقَالَ بَلْ لِفُلَانٍ آخَرَ فما الحكم فَهُوَ لِلْأَوَّلِ ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ ، وَلَا يُصَدِّقُ عَلَى إِبْطَالِ إِقْرَارِهِ فِي مَالٍ قَدْ قَطَعَهُ لِلْأَوَّلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى نَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ وَارِثُ مَيِّتٍ قَدْ تَرَكَ أَبُوهُ عَبْدًا : هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي تَرَكَهُ أَبِي لِزَيْدٍ لَا بَلْ لِعَمْرٍو ، فَهُوَ لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا ، أَوْ مُنْفَصِلًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَصَلَ ، أَوْ لَمْ يَصِلْ هَلْ يُلْزَمُ غُرْمَ قِيمَتِهِ لِلثَّانِي أَمْ لَا ؟ . عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَا وَجْهَهُمَا ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوْضُوعِهِمَا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ الْقَوْلَانِ إِذَا سَلَّمَهُ الْحَاكِمُ فَإِنْ كَانَ هَذَا الدَّافِعَ ، لَهُ غَرِمَ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : بَلِ الْقَوْلَانُ فِي


الْمَوْضِعَيْنِ مَعًا ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هَاهُنَا : دَفَعَهُ ، أَوْ لَمْ يَدْفَعْهُ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ وَسَوَاءٌ كَانَ عَامِدًا فِي إِقْرَارِهِ لِلْأَوَّلِ ، أَوْ خَاطِئًا ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ ، وَالْخَطَأَ فِي الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ . وَحَكَى أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا إِنْ أَخْطَأَ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَمِدَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ ، وَالْأَصَحُّ مَا قُلْنَاهُ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَرَدَّا ثُمَّ اشْتَرَيَاهُ فما الحكم فَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْبَائِعُ رَدَّ الثَمَنَ وَكَانَ لَهُ الْوَلَاءُ وَإِنْ كَذَّبَهُمَا عُتِقَ بِإِقْرَارِهِمَا ، وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ مَالًا كَانَ مَوْقُوفًا حَتَى يُصَدِّقَهُمَا فَيَرُدُّ الثَّمَنَ إِلَيْهِمَا ، وَالْوَلَاءُ لَهُ دُونَهُمَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصْلُ قَوْلِهِ أَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ مُنِعَهُ ثُمَّ قَدَرَ عَلَيْهِ أَخَذَهُ ، وَلَا يَخْلُو الْمُشْتَرِيَانِ فِي قَوْلِهِمَا فِي الْعِتْقِ مِنْ صِدْقٍ ، أَوْ كَذِبٍ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا صِدْقًا فَالثَّمَنُ دَيْنٌ لَهُمَا عَلَى الْجَاحِدِ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَوْلًى لَهُ ، وَمَا تَرَكَ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ وَلَهُمَا أَخْذُ الثَّمَنِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا كَذِبًا فَهُوَ عَبْدُهُمَا ، وَمَا تَرَكَ فَهُوَ لَهُمَا ، وَالْيَقِينُ أَنَّ لَهُمَا قَدْرَ الثَّمَنِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ بَائِعِهِ وَتَرَكَ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مَا تَرَكَ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا غَيْرُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ ادَّعَى عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فَأَنْكَرَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ عَلَى الرِّقِّ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِالْعِتْقِ ، وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ لَا غَيْرَ فَإِنْ شَهِدَ عَلَى السَّيِّدِ بِعِتْقِهِ شَاهِدَانِ فَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمَا وَعُتِقَ الْعَبْدُ بِهَا وَصَارَ حُرًّا وَلِلسَّيِّدِ وَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِعِتْقِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُوجِبٌ لِلْوَلَاءِ ، وَقَدْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِالْوَلَاءِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذَهُ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ بَعْدِ الْعِتْقِ إِلَى حِينِ الْحُكْمِ إِلَّا قَدْرَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ . وَإِنْ لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ رُدَّا وَكَانَ الْعَبْدُ عَلَى الرِّقِّ وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ كَتَصَرُّفِهِ مِنْ قَبْلُ فِي تَمَلُّكِ اكْتِسَابِهِ ، وَالْتِزَامِ نَفَقَتِهِ ، وَالتَّمْكِينِ مِنْ بِيعِهِ . فَإِذَا عَادَ الشَّاهِدَانِ بِعِتْقِهِ فَاشْتَرَيَاهُ بعد أن شهدا بعتقه صَحَّ الشِّرَاءُ وَلَزِمَهُمَا الثَّمَنُ وَكَانَ الْعَقْدُ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ بَيْعًا وَمِنْ جِهَةِ الشَّاهِدَيْنِ اقْتِدَاءً وَإِنَّمَا صَحَّ الشِّرَاءُ وَإِنِ اعْتَقَدَا حُرِّيَّتَهُ اسْتِنْقَاذًا لَهُ مِنْ رِقِّ ظُلْمٍ وَأَسْرِ عُدْوَانٍ كَالْمُسْلِمِ إِذَا اشْتَرَى مَأْسُورًا مِنْ مُشْرِكٍ صَحَّ الشِّرَاءُ وَإِنْ كَانَ حُرًّا اسْتِنْقَاذًا مِنْ أَسْرِ الظُّلْمِ وَيَدِ التَّغَلُّبِ لَا لِمِلْكِ مَا اشْتَرَى كَمَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ ثُمَّ بَذَلَ لِلزَّوْجِ فِي خَلْعِهَا مَالًا صَحَّ الْخُلْعُ وَلَزِمَهُ الْعِوَضُ وَإِنِ اعْتَقَدَ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الْخُلْعِ اسْتِنْقَاذًا لَهَا مِنْ فَرْجٍ حَرَامٍ فَلِذَلِكَ صَحَّ الشِّرَاءُ وَلَزِمَ الثَّمَنُ وَلَيْسَ كَمَنْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ مِنَ الرَّضَاعِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْتِنْقَاذٌ مِنْ مَعْصِيَةٍ ، وَلَا غَرَضٌ يَصِحُّ لِقَاصِدٍ .




فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ الشِّرَاءِ وَلَزِمَ الثَّمَنُ بعد أن شهدا بعتقه عُتِقَ عَلَيْهِمَا وَصَارَ حُرًّا بِسَابِقِ إِقْرَارِهِمَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا وَإِنْ كَانَ يُرَدُّ عَلَى غَيْرِهِمَا فَهُوَ إِقْرَارٌ مِنْهُمَا نَافِذٌ عَلَيْهِمَا فَصَارَ كَمَنْ أَتَى بِمَالٍ مِنْ دَيْنٍ لَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ قَبْضِهِ وَقَالَ : هُوَ مَغْصُوبٌ مِنْ فُلَانٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ مَا لَمْ يُكْمِلْ بِقَوْلِهِ بَيِّنَةً عَادِلَةً وَكَانَ لِغَرِيمِهِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى قَبْضِهِ ، أَوْ إِبْرَائِهِ فَإِذَا قَبَضَهُ لَزِمَهُ رَدُّهُ عَلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِغَصْبِهِ مِنْهُ بِسَابِقِ إِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ رُدَّ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مَقْبُولٌ عَلَى نَفْسِهِ وَإِذَا عُتِقَ صَارَ حُرًّا مَلَكَ كَسْبَهُ وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهُ عَنْهُ . وَلَوْ كَانَ بَدَلَ الْعَبْدِ أَمَةً جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ . وَلَوْ كَانَتِ الْأَمَةُ قَدْ وَلَدَتْ فِي يَدِ السَّيِّدِ فَمَلَكَ الشَّاهِدَانِ أَوْلَادَهَا بعد أن شهدا بعتقها عُتِقُوا لِإِقْرَارِهِمَا بِعِتْقِ الْأُمِّ ، وَأَوْلَادُ الْحُرَّةِ أَحْرَارٌ . فَلَوْ مَلَكَ الشَّاهِدَانِ أَنَّ النِّصْفَ مِمَّنْ شَهِدَا بِعِتْقِهِ عُتِقَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ النِّصْفُ ، وَلَا تَقْوِيمَ عَلَيْهِمَا فِي النِّصْفِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نُمْضِ الْعِتْقَ عَلَيْهِمَا بِمُبَاشَرَةٍ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا أَمْضَيْنَاهُ بِإِقْرَارِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا وَلِأَنَّهُمَا ، وَالْعَبْدَ مُعْتَرِفُونَ بِحُرِّيَّةِ جَمِيعِهِ ، وَالْبَالِغُ مُعْتَرِفٌ بِرِقِّ جَمِيعِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُعْتَرِفٌ بِمَا يُوجِبُ التَّقْوِيمَ فَسَقَطَ ثُمَّ هَكَذَا الْكَلَامُ لَوْ كَانَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ هُوَ الْمُشْتَرِي فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَنُفُوذِ الْعِتْقِ إِذْ هُوَ بِهِ مُقِرٌّ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِهِ وَلَكِنْ وِرِثَهُ عُتِقَ عَلَيْهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ حُصُولَ مِلْكِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ مُوجِبٌ لِعِتْقِهِ بِالْإِقْرَارِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ نُفُوذُ عِتْقِهِ فَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ الْمُشْتَرِيَيْنِ يُقِرَّانِ بِهِ لِلْبَائِعِ ، وَالْبَائِعُ بِإِنْكَارِ الْعِتْقِ مُنْكِرٌ لَهُ . فَإِذَا عَادَ الْبَائِعُ فَاعْتَرَفَ بِالْعِتْقِ بعد إنكاره فما الحكم ثَبَتَ لَهُ الْوَلَاءُ سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِهِ فِي حَيَاةِ الْعَبْدِ ، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ تَرَكَ مَالًا ، أَوْ لَمْ يَتْرُكْ ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا عَلَى حَالِ الْإِنْكَارِ حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ الْمَحْكُومُ بِعِتْقِهِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ وَتَرَكَ مَالًا وَجَبَ أَنْ يُعَانَ مِنْهُ حَتَّى يُوَارَى فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ بِغَيْرِ الْوَلَاءِ مِنْ ذِي فَرْضٍ ، أَوْ عَصَبَةٍ فَلَهُ مِيرَاثُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ ، وَلَا بِالْوَلَاءِ فَمِيرَاثُهُ مَوْقُوفٌ لِوُقُوفِ وَلَائِهِ حَتَّى يُتَبَيَّنَ فَيُورَثُ بِهِ

فَصْلٌ : وَإِنْ طَلَبَ الشَّاهِدَانِ الْمُشْتَرِيَانِ مِنْ تَرِكَتِهِ قَدْرَ مَا وَرِثَاهُ فِي ثَمَنِهِ ، قَالَ الْمُزَنِيُّ : لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو قَوْلُهُمَا بِالْعِتْقِ مِنْ صِدْقٍ ، أَوْ كَذِبٍ . فَإِنْ كَانَ صِدْقًا فَالثَّمَنُ دَيْنٌ لَهُمَا عَلَى الْبَائِعِ الْجَاحِدِ ، وَالتَّرِكَةُ مَالُهُ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا الْوُصُولُ إِلَى الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يَتَوَصَّلَا مِنْهُ إِلَى أَخْذِهِ . وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا كَذِبًا فَهُوَ عَبْدُهُمَا ، وَمَا تَرَكَهُ مَالٌ لَهُمَا فَصَارَا مَالِكَيْنِ لِقَدْرِ الثَّمَنِ مِنْهُ يَقِينًا . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ :


أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَالْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ وَأَنَّهُ يُحْكَمُ لِلْمُشْتَرِيَيْنِ بِقَدْرِ الثَّمَنَ مِنْ تَرِكَتِهِ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ . وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا : كَانَ مَالُهُ مَوْقُوفًا يَعْنِي فِي اسْتِحْقَاقِهِ إِرْثًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِيَانِ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا وَنَسَبَ قَائِلَ هَذَا الْوَجْهِ الْمُزَنِيُّ إِلَى الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ تَعْلِيلًا بِأَنَّ مَا بَذَلَهُ الْمُشْتَرِيَانِ فِدْيَةٌ تَطَوُّعًا بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَا فَلَمْ يَجُزْ لَهُمَا بَعْدَ التَّطَوُّعِ الرُّجُوعُ بِهَا وَهَذَا التَّعْلِيلُ مِنْ قَائِلِهِ خَطَأٌ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ الْأَسِيرِ مِنَ الْمُشْرِكِ مُتَطَوِّعٌ بِمَا بَذَلَ مِنْ ثَمَنِهِ عَلَى وَجْهِ الْفِدْيَةِ ثُمَّ لَهُ ارْتِجَاعُهُ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَوْ غَنِمَ الْمَالَ مِنْ يَدِ الْمُشْرِكِ لَمْ يَمْلِكْهُ الْغَانِمُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لِمُسْلِمٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَلَوْ أَسْلَمَ الْمُشْرِكُ ، وَالْمَالُ فِي يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ وَلِبَاذِلِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَا مَا بَذَلَهُ الْمُشْتَرِيَانِ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا مِنْهُمَا يَجُوزُ لَهُمَا ارْتِجَاعُهُ مَعَ التَّطَوُّعِ بِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ ثُمَّ قَالَ هِيَ نَقْضٌ ، أَوْ زَيْفٌ لَمْ يُصَدَّقْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الدِّرْهَمَ فِي حَقِيقَتِهِ عِبَارَةٌ عَنْ وَزْنٍ وَقَدْرٍ ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمَضْرُوبِ غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَدْرِ مِنْهُ وَمَقَادِيرُهَا مُخْتَلِفَةٌ فِي الْبِلَادِ . فَدَرَاهِمُ الْإِسْلَامِ أَوْسَطُهَا وَهِيَ الَّتِي وَزْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا سِتَّةُ دَوَانِقَ وَكُلُّ دَانَقٍ مِنْهَا ثَمَانِ حَبَّاتٍ وَوَزْنُ كُلِّ عَشْرَةِ مِنْهَا سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ وَهِيَ أَوْسَطُ الدَّرَاهِمِ قَدْرًا وَهِيَ الدَّرَاهِمُ الْهِرَقْلِيَّةُ . وَالدِّرْهَمُ الثَّانِي وَهُوَ الْبَغْلِيُّ وَهُوَ أَعْلَاهَا وَوَزْنُهُ ثَمَانِيَةُ دَوَانِقَ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمِ الْإِسْلَامِ ثُلُثَ وَزْنِهِ ، وَالدِّرْهَمُ الثَّالِثُ وَهُوَ الطَّبَرَيُّ وَهُوَ أَدْنَاهَا وَوَزْنُهُ أَرْبَعَةُ دَوَانِقَ بِنَقْصٍ عَنْ دِرْهَمِ الْإِسْلَامِ ثُلُثَ وَزْنِهِ . وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ ذَلِكَ دَرَاهِمُ بِلَادٍ تُقَارِبُ فِي الْقَدْرِ وَزْنَ هَذِهِ كَالدِّرْهَمِ الْخُوَارَزْمِيِّ وَوَزْنُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّرْهَمِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَأَقَرَّ الرَّجُلُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ : هِيَ مِنْ دَرَاهِمَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَقْبُولٌ مِنْهُ سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا ، أَوْ مُنْفَصِلًا لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الْأَغْلَبُ مِنْ دَرَاهِمَ النَّاسِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا الْمَعْهُودُ عُرْفًا مِنْ مُطْلَقِ دَرَاهِمِ النَّاسِ .


فَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ الدَّرَاهِمُ الْبَغْلِيَّةَ بعد إقراره فَمَقْبُولٌ لِزِيَادَتِهَا عَلَى دَرَاهِمِ غَالِبِ النَّاسِ ، وَإِنْ قَالَ : مِنَ الدَّرَاهِمِ الطَّبَرِيَّةِ وَهِيَ طَبَرَيَّةُ الشَّامِ فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا فَهُوَ مَقْبُولٌ كَالِاسْتِثْنَاءِ ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الْوَزْنِ كَنَقْصِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْأَعْدَادِ . وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ مُنْفَصِلًا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّتِي هِيَ وَزْنُ دَرَاهِمِهِمْ . أَوْ لَا . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَكَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ ، أَوْ مِنْهُمْ وَلَكِنْ فِي غَيْرِ بَلَدِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْفَصِلُ ؛ لِأَنَّهُمَا نَقَصَا عَدَدًا وَقَدْرًا . وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ وَفِيهِ كَأَهْلِ طَبَرِيَّةِ الشَّامِ إِذَا أَقَرَّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ مُنْفَصِلًا : أَرَدْتُ الدِّرْهَمَ الطَّبَرَيِّ ، أَوْ كَأَهْلِ خُوَارِزْمَ إِذَا قَالَ الْمُقِرُّ فِيهَا بِالدَّرَاهِمِ : أَرَدْتُ الدِّرْهَمَ الْخُوَارِزْمِيَّ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ بِالْحُكْمِ : الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ كَمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي إِطْلَاقِ الْبَيْعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا دَرَاهِمُ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ عُرْفَ الْبِلَادِ فِي الْإِقْرَارِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْبَيْعِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفِ : هِيَ زَيْفٌ فَهَذَا نَقَصَ الْجِنْسُ دُونَ الْقَدْرِ فَلَا يَخْلُو حَالُ تِلْكَ الزَّيْفِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا فِضَّةٌ أَمْ لَا . فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا فِضَّةٌ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ سَوَاءٌ قَالَهُ مُتَّصِلًا ، أَوْ مُنْفَصِلًا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ لَا يَتَنَاوَلُهَا فَصَارَ كَالِاسْتِثْنَاءِ الرَّافِعِ لِكُلِّ الْجُمْلَةِ يَكُونُ مَرْدُودًا مُتَّصِلًا ، أَوْ مُنْفَصِلًا ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا فِضَّةٌ فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا قُبِلَ مِنْهُ وَإِنْ قَالَهُ مُنْفَصِلًا لَمْ يُقْبَلْ كَالِاسْتِثْنَاءِ لِبَعْضِ الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ تِلْكَ دَرَاهِمُهُمْ فَيُخْرِجُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ كَبِيرٌ ، فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ مِنْ وَزْنِ دَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ وَزْنُهُ سِتَّةُ دَوَانِقَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْبَغْلِيَّ الَّذِي هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ فَيَلْزَمُهُ بِإِرَادَتِهِ . وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ صَغِيرٌ ، وَقَالَ أَرَدْتُ الطَّبَرِيَّ الَّذِي وَزْنُهُ أَرْبَعَةُ دَوَانِقَ فما الحكم قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَصْغَرُ الدَّرَاهِمِ وَزْنًا فَكَانَ إِقْرَارُهُ لِبَيَانِهِ مُحْتَمَلًا وَخَالَفَ حَالَ الْإِطْلَاقِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَإِنْ قَالَ هِيَ مِنْ سَكَّةِ كَذَا وَكَذَا صُدِّقَ مَعَ يَمِينِهِ كَانَ أَدْنَى الدَّرَاهِمِ ، أَوْ أَوْسَطُهَا جَائِزَةً بِغَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ ، أَوْ غَيْرُ جَائِزَةٍ كَمَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ ثَوْبٌ . أَعْطَاهُ أَيَّ ثَوْبٍ أَقَرَّ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَلْبَسُهُ أَهْلُ بَلَدِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ إِذَا


قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دُرَيْهِمٌ ، أَوْ دُرَيْهِمَاتٍ فما الحكم فَهِيَ وَازِنَةٌ قَضَاءً عَلَى قَوْلِهِ وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ فَهِيَ وَازِنَةٌ ، وَلَا يُشْبِهُ الثَّوْبُ نَقْدَ الْبَلَدِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى بِدِرْهَمٍ سِلْعَةً جَازَ لِمَعْرِفَتِهِمَا بِنَقْدِ الْبَلَدِ وَإِنِ اشْتَرَاهَا بِثَوْبٍ لَمْ يَجُزْ لِجَهْلِهِمَا بِالثَّوْبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمُقِرَّ بِالدَّرَاهِمِ يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِ فِي صِفَتِهَا وَسَكَّتِهَا فَإِنْ قَالَ : هِيَ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَصْرَةِ ، أَوْ سَكَّةِ بَغْدَادَ قُبِلَ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، أَعْلَى ، أَوْ أَدْنَى ، مُتَّصِلًا ، أَوْ مُنْفَصِلًا . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : يَلْزَمُهُ فِي إِطْلَاقِ إِقْرَارِهِ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنْ بَيَّنَ مِنْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَعْلَى اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُطْلَقَ الدَّرَاهِمِ وَزْنًا يُوجِبُ حَمْلَهَا عَلَى دَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِ فِيهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقَ الدَّرَاهِمِ جِنْسًا يُوجِبُ حَمْلُهَا عَلَى الْعُرْفِ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ ، وَلَا يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُطْلَقُ ذِكْرِهَا فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ حَمْلَهَا عَلَى دَرَاهِمِ الْبَلَدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقُ ذِكْرِهَا فِي الْإِقْرَارِ يُوجِبُ حَمْلَهَا عَلَى دَرَاهِمِ الْبَلَدِ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِقْرَارُ بِالْمُطْلَقِ مِنَ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى بَيَانِهِ ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى ثِيَابِ بَلَدِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالْمُطْلَقِ مِنَ الدَّرَاهِمِ يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى بَيَانِهِ ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى دَرَاهِمِ بَلَدِهِ وَلَيْسَ إِذَا لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُ الثِّيَابِ فِي الْبَيْعِ وَجَازَ إِطْلَاقُ الدَّرَاهِمِ فِيهِ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِقْرَارَ هُوَ إِخْبَارٌ بِمُسْتَحَقٍّ فِي الذِّمَّةِ ، وَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُسْتَحَقَّ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ بِقَرْضٍ ، أَوْ غَصْبٍ ، أَوْ تَسْمِيَةٍ فِي عَقْدٍ فَصَحَّ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ فِي بَيَانِ إِقْرَارِهِ وَخَالَفَ الْبَيْعَ الَّذِي اسْتَشْهَدَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْبَيْعَ ابْتِدَاءٌ حَتَّى يُوجِبَ إِطْلَاقَهُ الْعُرْفُ الْمَقْصُودُ فِيهِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْوَزْنِ مِنْ دَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ فَلِأَنَّ غَيْرَهَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي الْقَدْرِ فَلَمْ يُقْبَلْ فِي الِانْفِصَالِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي الْقَدْرِ فَصَحَّ وَقُبِلَ كَالصِّحَاحِ ، وَالْمُكَسَّرَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي دِينَارٍ فَإِنْ أَرَادَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي دِينَارٍ فَإِنْ أَرَادَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا وَجَبَا عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ أَطْلَقَ ، وَلَمْ يُرِدْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا دِرْهَمٌ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدِّينَارَ ظَرْفًا ، وَالظَّرْفُ لَا


يَدْخُلُ فِي الْإِقْرَارِ كَمَا لَوْ قَالَ : ثَوْبٌ فِي سَفَطٍ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ فِي دِرْهَمٍ فَإِنْ أَرَادَهُمَا لَزِمَاهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُمَا لَزِمَهُ الدِّينَارُ الْمُتَّصِلُ بِلَفْظِ الْإِقْرَارِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الدِّرْهَمُ الَّذِي جَعَلَهُ ظَرْفًا ، فَإِنْ قِيلَ فَالدِّرْهَمُ لَا يَكُونُ ظَرْفًا لِلدِّينَارِ ، وَلَا الدِّينَارُ ظَرْفًا لِلدِّرْهَمِ ، قِيلَ هُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا عِيَانًا جَازَ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا حُكْمًا .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي ثَوْبٍ فما الحكم فَعَلَيْهِ الدِّرْهَمُ دُونَ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ ظَرْفٌ وَإِنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي ثَوْبٍ مَرْوِيٍّ اشْتَرَيْتُهُ ، مُؤَجَّلًا فما الحكم فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ إِقْرَارًا بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ دِرْهَمًا مِنْ سَلَمٍ افْتَرَقَا عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَكَانَ بَاطِلًا . وَإِنْ كَذَّبَهُ فَفِي بُطْلَانِهِ قَوْلَانِ مِنْ تَبْعِيضِ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِقْرَارَهُ بَعْدَ إِبْطَالِهِ كَمَنْ قَالَ : ضُمِّنْتُ أَلْفًا عَلَى أَنَّنِي بِالْخِيَارِ ، وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ ثَوْبٌ مَرْوِيٌّ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ إِلَى أَجَلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ فَلَهُ عَلَيْهِ الثَّوْبُ دُونَ الْخَمْسَةِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَلَهُ عَلَيْهِ الْخَمْسَةُ دُونَ الثَّوْبِ وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ أَنَّهُ أَعْطَانِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ سَلَمًا فِي ثَوْبٍ مَرْوِيٍّ مُؤَجَّلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ اعْتِرَافٌ بِعَقْدِ سَلَمٍ يَسْتَحِقُّ فِيهِ الثَّوْبَ الْمُسْلَمَ فِيهِ دُونَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَذَّبَهُ صَارَ مُنْكِرًا لِلْعَقْدِ فَاسْتَحَقَّ الثَّمَنَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ فَهُمَا دِرْهَمَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَى الْأَوَّلِ بِوَاوِ النَّسَقِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحُكْمِ كَمَا لَوْ قَالَ : رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا ، وَهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الْإِقْرَارُ ، وَالطَّلَاقُ فِي قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فِي لُزُومِ طَلْقَتَيْنِ وَيُخَالِفُهُ فِي الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فِي أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُطَلِّقُ ثَلَاثًا . وَالثَّانِي : يُطَلِّقُ اثْنَتَيْنِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالثَّالِثَةِ اسْتِئْنَافًا . وَلَوْ قَالَ فِي الْإِقْرَارِ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ فما الحكم لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يُخْرِجُ الدِّرْهَمَ الثَّالِثَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالطَّلَاقِ وَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ مُؤَكَّدٌ فِي الْعَادَةِ فَجَازَ أَنْ يَحْمِلَ الثَّالِثَ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى التَّأْكِيدِ ، وَالْإِقْرَارُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ فِي الْعَادَةِ فَحُمِلَ الثَّالِثُ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ فما الحكم قِيلَ إِنْ أَرَدْتَ فَدِرْهَمٌ لَازِمٌ فَهُوَ دِرْهَمٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ دِرْهَمَيْنِ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ لَزِمَهُ طَلْقَتَانِ .


وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ : يَلْزَمُهُ فِي الْأُولَى دِرْهَمَانِ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي الطَّلَاقِ طَلْقَتَانِ ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ . وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ ، وَالطَّلَاقِ أَنَّ الدِّرْهَمَ فِي الْإِقْرَارِ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُوصَفَ بِالْجَوْدَةِ ، وَالرَّدَاءَةِ ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ : فَدِرْهَمٌ أَجْوَدُ مِنْهُ ، أَوْ أَرْدَأُ ، وَالطَّلَاقُ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ فَزَالَ الِاحْتِمَالُ عَنْهُ . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يُوصَفُ الطَّلَاقُ بِمِثْلِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقُ سُنَّةٍ وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ قِيلَ : لَيْسَ هَذَا صِفَةً لِلطَّلَاقِ وَإِنَّمَا هُوَ حَالٌ يَرْجِعُ إِلَى صِفَاتِ الْمُطَلَّقَةِ ، وَالْمُطَلِّقِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي الْأَحْوَالِ عَلَى السَّوَاءِ . فَإِنْ قِيلَ الْفَاءُ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ ، وَالنَّسَقِ كَالْوَاوِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ ، قِيلَ : الْفَاءُ قَدْ تَصْلُحُ لِلْعَطْفِ ، وَالصِّفَةِ فَلَمَّا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا الْيَقِينُ وَخَالَفَتِ الْوَاوُ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِلْعَطْفِ دُونَ الصِّفَةِ وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمُ ثُمَّ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ ؛ لِأَنَّ " ثُمَّ " مَوْضُوعَةٌ لِعَطْفِ التَّرَاخِي ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَلَوْ قَالَ دِرْهَمٌ تَحْتَ دِرْهَمٍ ، أَوْ دِرْهَمٌ فَوْقَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ لِجَوَازِ أَنْ يَقُولَ فَوْقَ دِرْهَمٍ فِي الْجَوْدَةِ ، أَوْ تَحْتَهُ فِي الرَّدَاءَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ تَحْتَ دِرْهَمٍ ، أَوْ دِرْهَمٌ فَوْقَ دِرْهَمٍ ، أَوْ دِرْهَمٌ تَحْتَهُ دِرْهَمٌ ، أَوْ دِرْهَمٌ فَوْقَهُ دِرْهَمٌ فما الحكم فَإِنْ أَرَادَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ دِرْهَمَيْنِ فَهُمَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُمَا فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ وَاخْتَارَهُ الرَّبِيعُ : لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ، لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّعْلِيلِ ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ ، وَالْمَوَاهِبِ مِنَ الْأُمِّ عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَظْهَرُ مِنْ حَالِ الْكَلَامِ ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ دِرْهَمٌ مَعَ دِرْهَمٍ ، أَوْ دِرْهَمٌ مَعَهُ دِينَارٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقُولُ مَعَ دِينَارٍ لِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : إِذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ مَعَ دِرْهَمٍ ، أَوْ دِرْهَمٌ مَعَهُ دِرْهَمٌ ، أَوْ مَعَ دِينَارٍ ، أَوْ مَعَهُ دِينَارٌ ، فما الحكم فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ مَا لَمْ يُرِدِ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ : مَعَ دِينَارٍ لِي ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الْإِقْرَارِ إِلَّا الْيَقِينَ وَيَجِيءُ فِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ أَنَّ عَلَيْهِ دِرْهَمَيْنِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ قَالَ : لِزَيْدٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ مَعَ عَمْرٍو ، فَالظَّاهِرُ مِنْ إِقْرَارِهِ أَنَّهُ مُقِرٌّ لِزَيْدٍ بِدِرْهَمٍ هُوَ مَعَ عَمْرٍو ، وَالْيَقِينُ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِدِرْهَمٍ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَيُرْجَعُ إِلَى بَيَانِهِ فَإِنْ بَيَّنَ الْأَظْهَرَ مِنْ حَالَتَيْ إِقْرَارِهِ قَبِلْنَا وَإِنْ بَيَّنَ الْيَقِينَ مِنْهُ وَأَنَّ الدِّرْهَمَ لَهُمَا قَبِلْنَاهُ . وَمِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ : يَا هِنْدُ أَنْتِ طَالِقٌ


مَعَ زَيْنَبَ ، فَتُطَلَّقُ هِنْدُ دُونَ زَيْنَبَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَهَا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ زَانِيَةٌ مَعَ زَيْنَبَ كَانَ قَاذِفًا لِلْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ قَبْلَهُ دِرْهَمٌ ، أَوْ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ : عَلَيَّ دِرْهَمٌ قَبْلَهُ دِرْهَمٌ ، أَوْ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ ، أَوْ قَبْلَ دِرْهَمٍ ، أَوْ بَعْدَ دِرْهَمٍ ، فما الحكم فَعَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ دِرْهَمَانِ ؛ لِأَنَّ قَبْلَ وَبَعْدَ يَقْتَضِي التَّقْدِيمَ ، وَالتَّأْخِيرَ فِي الْمَحَلِّ دُونَ الصِّفَةِ وَمَحَلُّ الدِّرْهَمِ الْأَوَّلِ هُوَ الذِّمَّةُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ شَيْئًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ وَعَلَّلَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّ قَبْلَ وَبَعْدَ رَاجِعٌ إِلَى الزَّمَانِ فَلَزِمَهُ دِرْهَمَانِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ قَفِيزُ حِنْطَةٍ مَعَهُ دِينَارٌ فما الحكم كَانَ عَلَيْهِ قَفِيزٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَقُولُ مَعَ دِينَارٍ لِي وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ قَفِيزٌ لَا بَلْ قَفِيزَانِ فما الحكم لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا قَفِيزَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ قَفِيزُ حِنْطَةٍ لَا بَلْ قَفِيزَانِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا قَفِيزَانِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ فِي الِاسْتِحْسَانِ قَفِيزَانِ وَفِي الْقِيَاسِ ثَلَاثَةُ أَقْفِزَةٍ وَوَافَقْنَا اسْتِحْسَانًا وَخَالَفْنَا قِيَاسًا : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ رَاجِعٌ بِذَلِكَ عَنِ الْقَفِيزِ الْأَوَّلِ مُثْبِتٌ بَعْدَهُ لِقَفِيزَيْنِ آخَرَيْنِ فَلَزِمَ الْجَمِيعَ ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الرُّجُوعُ . وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْقِيَاسِ شَرْعًا ، وَفِي مُقْتَضَى اللِّسَانِ لُغَةً مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّفْظَ الْمُتَّصِلَ بِالْإِقْرَارِ أَكْثَرُ امْتِزَاجًا مِنَ اللَّفْظِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ قَفِيزٌ ثُمَّ أَمْسَكَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ بَعْدَ انْفِصَالِ كَلَامِهِ : عَلَيَّ قَفِيزَانِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا قَفِيزَانِ لَا غَيْرَ ، فَإِذَا قَالَ مُتَّصِلًا بِهِ : عَلَيَّ قَفِيزٌ لَا بَلْ قَفِيزَانِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إِلَّا قَفِيزَانِ لَا غَيْرَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ لَا بَلْ قَفِيزَانِ يُوجِبُ ضَمَّهُمَا إِلَى الْقَفِيزِ الْأَوَّلِ قِيَاسًا لَوَجَبَ إِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ قَفِيزٌ لَا بَلْ أَكْثَرُ مِنْ قَفِيزٍ ، وَقَدْ أَجْمَعُوا قِيَاسًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا قَفِيزٌ وَشَيْءٌ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لَا بَلْ قَفِيزَانِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ لَا بَلْ قَفِيزَانِ ، لَيْسَ بِنَفْيٍ لِلْقَفِيزِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاكُ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ لِأَمْرَيْنِ


أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُثْبَتَ الْبَاقِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْمَنْفِيُّ ، وَالْقَفِيزُ دَاخِلٌ فِي الْقَفِيزَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إِثْبَاتُ الْقَفِيزَيْنِ نَفْيًا لِلْقَفِيزِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَفْهُومَ اللِّسَانِ فِي اللُّغَةِ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ : رَأَيْتُ رَجُلًا لَا بَلْ رَجُلَيْنِ ، أَنَّهُ مُخْبِرٌ عَنْ رُؤْيَةِ رَجُلَيْنِ بِكَلَامِهِ كُلِّهِ غَيْرُ رَاجِعٍ بِآخِرِهِ عَنْ أَوَّلِهِ . وَفِي هَذَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ لَا نَفْيٌ فَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ لُغَةً وَقِيَاسًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا خَالَفَ بَيْنَ جِنْسَيْنِ فَقَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ لَا بَلْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ فما الحكم فَعَلَيْهِ الْأَمْرَانِ دِينَارٌ وَقَفِيزٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُدْخِلِ الْأَوَّلَ فِي الثَّانِي لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ صَارَ رُجُوعًا ، وَلَمْ يَكُنِ اسْتِدْرَاكًا ، وَالْمُقِرُّ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ بِغَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ رُجُوعُهُ عَنِ الْأَوَّلِ وَلَزِمَهُ اعْتِرَافُهُ بِالثَّانِي كَمَنْ طَلَّقَ إِحْدَى نِسَائِهِ فَأَخَذَ بِالْبَيَانِ فَقَالَ : هِيَ حَفْصَةُ لَا بَلْ هِيَ عَمْرَةُ طُلِّقَتَا جَمِيعًا .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ لَا بَلْ دِرْهَمٌ فما الحكم فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ لِدُخُولِ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنِ اسْتِدْرَاكًا وَكَانَ رُجُوعًا فَلَزِمَاهُ مَعًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ لَا بَلْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ فما الحكم كَانَ مُقِرًّا بِهِمَا ثَابِتًا عَلَى الْقَفِيزِ رَاجِعًا عَنِ الدِّينَارِ فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعًا وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ فَقَفِيزُ حِنْطَةٍ فما الحكم لَزِمَهُ الدِّينَارُ ، وَلَمْ تَلْزَمْهُ الْحِنْطَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ فَقَفِيزُ حِنْطَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِينَارٌ لِمَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَفِيزَ حِنْطَةٍ خَبَرٌ مِنْهُ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ فَدِرْهَمٌ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِينَارٌ لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يُرِيدَ : فَدِرْهَمٌ أَقَلُّ مِنْهُ ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرَانِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ : دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ ، فَكَذَا فِي الْجِنْسَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ فما الحكم فَعَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّهَا عَدَدٌ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ ، وَالْعَشَرَةِ وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ إِلَى عَشْرَةٍ فما الحكم فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَبِهِ قَالَ زُفَرُ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ حَدٌّ لِلِابْتِدَاءِ ، وَالْعَاشِرَ حَدٌّ لِلِانْتِهَاءِ فَلَمْ يَدْخُلَا لِخُرُوجٍ مِنَ الْمَحْدُودِ .


وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ الْعَاشِرَ حَدٌّ خَارِجٌ عَنِ الْمَحْدُودِ ، وَالْأَوَّلُ مُبْتَدَأٌ بِهِ فَدَخَلَ فِي الْمَحْدُودِ إِذْ دَخَلَ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَلْزَمُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِيهِ لِعَاشِرٍ مَعَ كَوْنِهِ حَدًّا وَهَذَا مَذْهَبٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : رِضَيَ اللَّهُ عَنْهُ " وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ يَوْمَ السَّبْتِ بِدِرْهَمٍ وَأَقَرَّ لَهُ يَوْمَ الْأَحَدِ بِدِرْهَمٍ فما الحكم فَهُوَ دِرْهَمٌ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا أَقَرَّ بِدِرْهَمٍ دُفْعَتَيْنِ فَهُوَ إِقْرَارٌ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ يُخَالِفْ بَيْنَ صِفَتَيْهِمَا ، أَوْ سَبَبَيْهِمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسِ حُكْمٍ فَهُوَ إِقْرَارٌ بِدِرْهَمَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَكْتُوبًا فِي صَكٍّ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ ، وَالطَّلَاقِ يَشْتَرِكَانِ فِي حُكْمِ اللُّزُومِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، وَقَالَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، لَزِمَهُ طَلْقَتَانِ ، هَذَا إِذَا أَقَرَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهُمَا بِدِرْهَمٍ لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ ، وَلِأَنَّ إِعَادَةَ الْإِقْرَارِ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ أَغْلَظُ حُكْمًا مِنْ تَكْرَارِ اللَّفْظِ فِي الْمَجْلِسِ فَلَمَّا كَانَ لَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ ، فَإِذَا أَعَادَ الْإِقْرَارَ فِي وَقْتَيْنِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ دِرْهَمَانِ . وَدَلِيلُنَا مَفْهُومُ الْخِطَابِ لِسَانًا ثُمَّ مُقْتَضَى الشَّرْعِ حِجَاجًا ، فَأَمَّا مَفْهُومُ الْخِطَابِ فِي اللُّغَةِ ، وَاللِّسَانِ فَهُوَ أَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ وَتَكْرَارُ الْخَبَرِ لَا يُوجِبُ تَكْرَارَ الْمُخْبَرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : رَأَيْتُ زَيْدًا ، ثُمَّ قَالَ ثَانِيَةً : رَأَيْتُ زَيْدًا لَمْ يَقْتَضِ مَفْهُومُ كَلَامِهِ تَكْرَارَ رُؤْيَةٍ لِزَيْدٍ فَكَذَلِكَ مُوجِبُ إِقْرَارِهِ . وَأَمَّا مُقْتَضَى الشَّرْعِ حِجَاجًا فَهُوَ أَنَّ تَكْرَارَ الْإِقْرَارِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ أَوْكَدُ لُزُومًا مِنْ تَكْرَارِهِ فِي مَجْلِسَيْنِ فَلَمَّا لَمْ يَتَضَاعَفِ الْإِقْرَارُ بِتَكْرَارِهِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتَضَاعَفَ فِي الْمَجْلِسَيْنِ ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَتَكَرَّرْ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسَيْنِ كَالْمَكْتُوبِ فِي صَكٍّ ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمُجْمَلِ كَقَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ لَا يُوجِبُ مُضَاعَفَةَ الْإِقْرَارِ بِشَيْئَيْنِ وَإِعَادَتِهِ الْمُفَسَّرَ عِنْدَ الشُّهُودِ لَا يَصِيرُ إِقْرَارًا بِحَقَّيْنِ فَكَذَا الْمُفَسَّرُ عِنْدَ الْحَاكِمِ . وَيَتَحَرَّرُ فِيهِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِقْرَارٌ لَا يَتَكَرَّرُ بِالْمُجْمَلِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ بِالْمُفَسَّرِ كَالْإِقْرَارِ عِنْدَ الشُّهُودِ .


وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِقْرَارٌ لَا يَتَكَرَّرُ عِنْدَ الشُّهُودِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ عِنْدَ الْحَاكِمِ كَالْإِقْرَارِ بِالْمُجْمَلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِ بِالطَّلَاقِ فَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ إِيقَاعٌ ، وَالْإِقْرَارٌ إِخْبَارٌ فَإِذَا أَعَادَ لَفْظَ طَلَاقِهِ وَقَعَ بِهِ طَلَاقٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ ، وَإِذَا أَعَادَ لَفْظَ إِقْرَارِهِ لَمْ يَكُنْ خَبَرًا غَيْرَ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ لَكَانَ إِقْرَارُهُ بِالْمَالِ لَا يَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ كَمَا لَا يَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ الْمَالُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ فَالْمَعْنَى فِي لُزُومِ الدِّرْهَمَيْنِ أَنَّهُ قَدْ عَطَفَ عَلَى الْأَوَّلِ مِثْلَهُ بِوَاوِ الْعَطْفِ ، وَالنَّسَقِ فَلَزِمَاهُ ، وَلَوْ حَذَفَ الْوَاوَ لَمْ يَلْزَمَاهُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا خَالَفَ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ ، أَوْ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ لَزِمَهُ أي الدين الدِّرْهَمَانِ ، وَمُخَالَفَتُهُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ أَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَصْرِيٌّ ، وَفِي الْيَوْمِ الْآخَرِ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَغْدَادِيٌّ فما الحكم . وَمُخَالَفَتُهُ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ أَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ مِنْ ثَمَنِ ثَوْبٍ ، وَفِي الْيَوْمِ الْآخَرِ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ ، أَوْ مِنْ قَرْضٍ فما الحكم فَيَلْزَمُهُ الدِّرْهَمَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا مُخْتَلِفَيْنِ فَسَقَطَ احْتِمَالُ التَّكْرَارِ فِيهِمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَإِذَا قَالَ : عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فما الحكم فَكَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ فَلَوْ سَكَتَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ مِنْ بَعْدِهِ هِيَ وَدِيعَةٌ ، وَقَدْ هَلَكَتْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ ضَمِنَ ثُمَّ ادَّعَى الْخُرُوجَ فَلَا يُصَدَّقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَأَلْفَاظُ الْإِقْرَارِ خَمْسَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : لَهُ عِنْدِي . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ : لَهُ بِيَدِي . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَقُولَ : لَهُ قِبَلِي . وَالْخَامِسُ : أَنْ يَقُولَ : لَهُ فِي ذِمَّتِي . فَأَمَّا قَوْلُهُ : فِي ذِمَّتِي ، فَكَقَوْلِهِ : لَهُ فِي ذِمَّتِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَيَقْتَضِي الدُّيُونَ الثَّابِتَةَ فِي الذِّمَمِ فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ فَإِنِ ادَّعَى هَلَاكَهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ الْوَدِيعَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَا يُوجِبُ تَعَلُّقَهَا بِالذِّمَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً بِيَدِهِ فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ أَنَّهَا الَّتِي أَقَرَّ بِهَا فِي ذِمَّتِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :


أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا أَنْكَرَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ إِلَّا بَعْدَ التَّلَفِ فَامْتَنَعَ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْوَدِيعَةُ الْبَاقِيَةُ هِيَ الثَّابِتَةُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَضْمَنُهَا بِالتَّعَدِّي فَتَصِيرُ ثَابِتَةً فِي ذِمَّتِهِ إِنْ هَلَكَتْ فَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ : فِي يَدِي ، هل تعد من ألفاظ الإقرار فَكَقَوْلِهِ : لَهُ فِي يَدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَيَقْتَضِي الْأَعْيَانَ الَّتِي لَمْ يَسْتَقِرَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَمِ ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً كَالْغُصُوبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَمَانَةً كَالْوَدَائِعِ ، وَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْمُقِرِّ ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا فِي يَدِهِ هِيَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ أَغْلَظُ ثُبُوتًا لِكَوْنِهِ دَيْنًا مَضْمُونًا مِمَّا بِيَدِهِ ، وَقَدْ تَكُونُ أَمَانَةً وَمَضْمُونَةً ، وَقَدْ يَسْتَهْلِكُ مَا بِيَدِهِ فَيَصِيرُ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ قَالَ هِيَ وَدِيعَةٌ فَإِنْ أَحْضَرَهَا قُبِلَ مِنْهُ ، وَإِنِ ادَّعَى هَلَاكَهَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ دَعْوَاهُ الْهَلَاكُ مُنْفَصِلًا عَنْ حَالِ الْإِخْبَارِ قَبْلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْوَدِيعَةِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَهْلِكَ عُقَيْبَ إِقْرَارِهِ ، وَإِنْ وَصَلَ وَقَالَ لَهُ بِيَدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً ، وَقَدْ هَلَكَتْ فَفِي قَبُولِ ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ مَا قَدْ هَلَكَ . وَالثَّانِي : يُقْبَلُ مِنْهُ لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ كَانَ بِيَدِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ : قِبَلِي ، فَكَقَوْلِهِ : لِفُلَانٍ قِبَلِي أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَلَفْظٌ مُحْتَمَلٌ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا فِي الذِّمَّةِ مِنَ الدُّيُونِ وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا فِي الْيَدِ مِنَ الْأَعْيَانِ ، وَالِاحْتِمَالِ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ ، فَإِذَا بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ صَارَ بِالْإِرَادَةِ مُقْتَضًى وَكَلَامُهُ فَيَكُونُ عَلَى مَا أَوْضَحْنَاهُ مِنْ حُكْمِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ : عَلَيَّ ، فَكَقَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ من ألفاظ الإقرار أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَيَقْتَضِي مَا كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ مِنْ عَيْنٍ وَدَيْنٍ ، وَخَالَفَ قَوْلُهُ : فِي ذِمَّتِي مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ : أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يَقْتَضِي مَا ثَبَتَ فِيهَا مِنْ دَيْنٍ ، وَلَا يَقْتَضِي مَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ ضَمَانِ عَيْنٍ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْمَجَازِ إِذِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي احْتِمَالِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُهُ : عِنْدِي ، فَكَقَوْلِهِ : لَهُ عِنْدِي من ألفاظ الإقرار أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا بِيَدِهِ مِنْ عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ ، أَوْ أَمَانَةٍ ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا فِي الذِّمَّةِ مِنْ دَيْنٍ مَضْمُونٍ وَخَالَفَ قَوْلُهُ : بِيَدِي ، مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ : أَنَّ مَا بِيَدِهِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْأَعْيَانِ الَّتِي بِيَدِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنْ يَقُولَ : عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ يَذْكُرُ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ فما الحكم فَإِنْ أَحْضَرَهَا ، وَلَمْ يَدَّعِ تَلَفَهَا فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ فِيهَا ، وَقَدْ مَضَى خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْكَلَامُ مَعَهُ ، وَإِنِ ادَّعَى تَلَفَهَا ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ :


أَحَدُهُمَا : أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ مُنْفَصِلًا عَنْ إِقْرَارِهِ فَقَوْلُهُ فِي تَلَفِهَا وَسُقُوطِ غُرْمِهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ سَوَاءٌ وَصَلَ إِقْرَارَهُ بِالْوَدِيعَةِ فَقَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِيعَةً ، أَوْ لَمْ يَصِلْ وَلَوْ كَانَ قَالَ : لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً ثُمَّ ادَّعَى تَلَفَهَا مِنْ بَعْدُ قُبِلَ مِنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِهِ : " عَلَيَّ " وَ " عِنْدِي " . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِإِقْرَارِهِ فَيَقُولُ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً ، وَقَدْ تَلِفَتْ فَفِي قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُ وَسُقُوطِ الْغُرْمِ عَنْهُ قَوْلَانِ : مِنْ تَبْعِيضِ الْإِقْرَارِ فِيمَنْ قَالَ : ضَمِنْتُ أَلْفًا عَلَى أَنَّنِي بِالْخِيَارِ فَيَبْطُلُ أَوَّلُ كَلَامِهِ بِآخِرِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ . أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : يُقْبَلُ لِارْتِبَاطِ بَعْضِ الْكَلَامِ بِبَعْضِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ إِبْطَالَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى كَإِبْطَالِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ لَهُ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فما الحكم سُئِلَ فَإِنْ قَالَ هِبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُتَبَيَّنَ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ وَرَثَتُهُ وَلَوْ قَالَ لَهُ مِنْ دَارِي هَذِهِ نِصْفُهَا فما الحكم فَإِنْ قَالَ هِبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُتَبَيَّنَ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ وَرَثَتُهُ وَلَوْ قَالَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ نِصْفُهَا لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا قَالَ : لَهُ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَظَاهِرُهُ أَنَّهَا هِبَةٌ لَا تُلْزَمُ إِلَّا بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمَالَ إِلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يَمْلِكُ الْمَالَ وَهُوَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يُعْمِلَ إِقْرَارَهُ بِمَا يَزُولُ مَعَهُ الِاحْتِمَالُ بِأَنْ يَقُولَ : لَهُ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَاجِبَةٌ ، أَوْ بِحَقٍّ فَيَكُونُ إِقْرَارٌ بِدَيْنٍ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ مِنْ دَارِي هَذِهِ نَصِفُهَا كَانَتْ هِبَةً إِنِ ادَّعَاهَا ، أَوْ وَارِثُهُ قُبِلَ مِنْهُ ، وَلَمْ تَلْزَمْ إِلَّا بِالْقَبْضِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ فِي إِضَافَتِهَا إِلَى نَفْسِهِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِ لَهَا . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ مِنْ مِيرَاثِي عَنْ أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ كَانَتْ هِبَةً . فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ يَسْتَوِي حُكْمُهَا لِاسْتِوَاءِ تَعْلِيلِهَا إِلَّا أَنْ يَقُولَ : بِحَقٍّ وَاجِبٍ فَيَصِيرُ إِقْرَارًا بِمِلْكٍ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ؛ لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا إِذَا قَالَ : لَهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فما الحكم كَانَ هَذَا إِقْرَارًا لَازِمًا ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِاسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يُضِفْهُ إِلَى مِلْكِهِ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : مِنْ هَذِهِ الدَّارِ نَصِفُهَا كَانَ إِقْرَارًا بِحَقٍّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ مِنْ مِيرَاثِ أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فما الحكم كَانَ إِقْرَارًا بِدَيْنٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ . فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ يَسْتَوِي حُكْمُهَا لِاسْتِوَاءِ تَعْلِيلِهَا .




فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : لَهُ فِي مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : كَانَ إِقْرَارًا بِدَيْنٍ وَخَالَفَ فِي الْجَوَابِ بَيْنَ قَوْلِهِ : مِنْ مَالِي ، فَجَعَلَهُ هِبَةً وَبَيْنَ قَوْلِهِ : فِي مَالِي ، فَجَعَلَهُ إِقْرَارًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّهُ بِقَوْلِهِ : فِي مَالِي ، جَعَلَ مَالَهُ ظَرْفًا لِلْأَلْفِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا فَلَمْ يَمْنَعْ إِضَافَةُ الْمَالِ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ ثُبُوتِ الْأَلْفِ فِيهِ لِغَيْرِهِ وَإِذَا قَالَ : مِنْ مَالِي لَمْ يَصِرِ الْمَالُ ظَرْفًا وَكَانَتِ الْأَلْفَ جُزْءًا مِنَ الْمَالِ فَيَمْنَعُ إِضَافَةُ الْمَالِ إِلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ . وَأَمَّا إِذَا قَالَ : لَهُ فِي دَارِي هَذِهِ نِصْفُهَا . فَهُوَ هِبَةٌ وَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ ، وَيَسْتَوِي قَوْلُهُ فِي دَارِي ، وَمِنْ دَارِي ، وَيُخَالِفُ قَوْلَهُ : فِي مَالِي ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَلْفٍ مِنَ الْمَالِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى الْبَاقِي مَالًا وَاسْتِحْقَاقُ نِصْفِ الدَّارِ يَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى الْبَاقِي دَارًا . وَلَوْ قَالَ فِي مِيرَاثِي عَنْ أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فما الحكم كَانَ كَقَوْلِهِ : مِنْ مِيرَاثِي عَنْ أَبِي وَخَالَفَ قَوْلَهُ : فِي مَالِي ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِنِصْفِهَا لِرَجُلٍ وَكَذَّبَهُ الشَّرِيكُ فما الحكم وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ كَانَ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِالنِّصْفِ ثُلُثُ الدَّارِ وَلِلْمُقِرِّ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ النِّصْفِ ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لِلشَّرِيكِ الْمُكَذِّبِ ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ : أَنَّ الْمُقِرَّ بِالنِّصْفِ يَقُولُ : لِي وَلِشَرِيكِي النِّصْفُ ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لَكَ أَيُّهَا الْمَقَرُّ لَهُ . فَيَكُونُ ذَلِكَ مَثَلًا مَالِي - فَإِذَا تَفَرَّدَ الشَّرِيكُ بِتَكْذِيبِهِ بِالنِّصْفِ - صَارَ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَنَا أَثْلَاثًا لِي مِنْهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَلَكَ مِنْهُ سَهْمَانِ مِثْلَا مَالِي . وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الرَّجَاءِ الْبَصْرِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَذْهَبَهُ سُؤَالُ الْمُقَرِّ لَهُ بِالنِّصْفِ : أَلَهُ فِي الدَّارِ بَاقِي مِلْكٍ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالَ : لَا شَيْءَ لِي فِي الدَّارِ صَحَّ إِقْرَارُهُ فِيهَا بِالنِّصْفِ وَكَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ لِلشَّرِيكِ . وَإِنْ قَالَ : لِي نِصْفُهَا لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ بِرُبْعِهَا ، وَكَانَ الرُّبْعُ الْآخَرُ لَهُ ، وَالنِّصْفُ لِلشَّرِيكِ ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ شَرِيكِهِ فَقُبِلَ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَرُدَّ عَلَى شَرِيكِهِ ، وَهَذَا وَجْهٌ . وَلَوْ قِيلَ يُلْزَمُ إِقْرَارَهُ فِي النِّصْفِ كُلِّهِ كَانَ لَهُ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ .

فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتِ الدَّارُ مُشَاعَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِبَيْتٍ مِنْهُ لِرَجُلٍ فَكَذَّبَهُ الشَّرِيكُ فما الحكم يَكُونُ إِقْرَارُهُ مَرْدُودًا مَا لَمْ يَقْتَسِمَا ، فَإِذَا اقْتَسَمَا وَصَارَ الْبَيْتُ لِلْمُقِرِّ لَهُ لَزِمَهُ بِالْإِقْرَارِ الْمُتَقَدِّمِ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ ، وَلَوْ صَارَ الْبَيْتُ لِلشَّرِيكِ ضُرِبَ لِلْمُقَرِّ لَهُ مَعَ الْمُقِرِّ بِقِيمَةِ الْبَيْتِ فِيمَا صَارَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ .


وَعَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ رَجَاءٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ لِلْمُقَرِّ لَهُ رُبْعُ الْبَيْتِ مَشَاعًا وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ احْتِمَالِ التَّخْرِيجِ يَكُونُ لَهُ نِصْفُ الْبَيْتِ مَشَاعًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّا دُونَهُ بِقِسْمَتِهِ . فَإِنِ اقْتَسَمَاهُ وَصَارَ الْبَيْتُ فِي حِصَّةِ الْمُقِرِّ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ جَمِيعِهِ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ ، وَإِنْ صَارَ لِلشَّرِيكِ لَزِمَ الْمُقِرَّ أَنْ يَغْرَمَ لِلْمُقَرِّ لَهُ قِيمَةَ مَا بَقِيَ مِنَ الْبَيْتِ بَعْدَ مَا صَارَ لَهُ بِالْإِقْرَارِ مِنْ رُبْعٍ ، أَوْ نِصْفٍ . وَإِنَّمَا لَزِمَ غُرْمُ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُعَاوِضًا عَلَيْهِ بِالْقِسْمَةِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ إِلَّا بِنَاءَهَا فما الحكم صَحَّ وَكَانَ إِقْرَارًا بِالْأَرْضِ دُونَ الْبِنَاءِ وَقَالَ : أَبُو حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ بِجَمِيعِ الدَّارِ ، وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَا تُسَمَّى دَارًا بِغَيْرٍ بِنَاءٍ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ إِلَّا نَصِفُهَا ، صَحَّ الْإِقْرَارُ بِنِصْفِهَا وَلَوْ كَانَ النِّصْفُ بِانْفِرَادِهِ لَا يُسَمَّى دَارًا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِغَيْرِ حُكْمِ الْجُمْلَةِ عَنْ إِطْلَاقِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْمَعَ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا أَقَرَّ بِحَائِطٍ لَمْ يَدْخُلْ أَرْضُ الْحَائِطِ فِي إِقْرَارِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَدْخُلُ الْأَرْضُ فِي إِقْرَارِهِ بِالْحَائِطِ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِنِصْفِهِ فَلَا يَدْخُلُ فِي إِقْرَارِهِ . وَكَفَى بِمُنَاقَضَةِ قَوْلِهِ كَسْرًا لِمَذْهَبِهِ ، وَقَدْ وَافَقَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ بِنَخْلَةٍ لَمْ يَدْخُلْ قَرَارُهَا فِي الْإِقْرَارِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِنِصْفِهَا فَهَلَّا اسْتَوَى فِي الْحَائِطِ حُكْمُ الْإِقْرَارِ بِنِصْفِهِ وَجَمِيعِهِ كَمَا اسْتَوَى فِي النَّخْلَةِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ يَصِحُّ أَنْ يَخْتَلِفَ لَهُ الْحُكْمُ ؟ !

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا لِي ، فما الحكم صَحَّ وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ إِلَّا هَذَا الْبَيْتَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ وَرُجُوعٌ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ أَلْفَاظَ الِاسْتِثْنَاءِ مُخْتَلِفَةٌ فَكَانَ اسْتِثْنَاءً ، وَلَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : هَذَا الْخَاتَمُ لِزَيْدٍ وَفَصُّهُ لِي صَحَّ ، وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَلَّا يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ إِلَّا بِفَصِّهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : هَذِهِ الثَّمَرَةُ لِزَيْدٍ مِنْ نَخْلَتِي هَذِهِ ، وَهَذَا الْعَبْدُ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ وَهَذَا الْبَيْضُ لَهُ مِنْ هَذِهِ الدَّجَاجَةِ فما الحكم كَانَ إِقْرَارًا بِمَا أَسْمَى مِنَ الثَّمَرَةِ ، وَالْوَلَدِ ، وَالْبَيْضِ دُونَ أَصْلِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنَ النَّخْلَةِ ، وَالْأَمَةِ ، وَالدَّجَاجَةِ وَلَيْسَ مِلْكُ النَّمَاءِ مُوجِبًا لِتَمَلُّكِ الْأَصْلِ لِجَوَازِ حُدُوثِهِ بِابْتِيَاعٍ ، أَوْ هِبَةٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَكَ هِبَةَ عَارِيَّةٍ ، أَوْ هِبَةَ سُكْنَى فما الحكم كَانَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْهَا مَتَى شَاءَ " .


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، إِذَا قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ هِبَةَ عَارِيَّةٍ ، أَوْ هِبَةَ سُكْنَى ، قُبِلَ مِنْهُ وَكَانَ إِقْرَارًا بِإِعَارَتِهَا وَإِبَاحَةِ سُكْنَاهَا ، وَلَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا بِمِلْكِ رَقَبَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إِقْرَارَهُ بِمَا اقْتَضَاهُ فَصَارَ أَوَّلُ كَلَامِهِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لَكَ لَكَانَ إِقْرَارًا بِمِلْكِهَا فَلَمَّا وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ : عَارِيَّةَ ، أَوْ هِبَةَ سُكْنَى خَرَجَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لَكَ إِقْرَارًا بِمِلْكٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا قَدْ رَفَعَ أَوَّلَ كَلَامِهِ بِآخِرِهِ ، فَهَلَّا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ قَضَيْتُهَا . قِيلَ لَهُ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي ادِّعَاءِ الْقَضَاءِ رَافِعٌ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ فَلَمْ يُقْبَلْ ، وَفِي وَصْلِهِ ذَلِكَ بِالْعَارِيَّةِ مُثْبِتٌ لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَ عَلَى صِفَةٍ مُحْتَمَلَةٍ فَيُقْبَلُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لَكَ هِبَةً ، فما الحكم لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِقْرَارًا بِمِلْكٍ حَتَّى يَصِلَ ذَلِكَ بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَلْزَمُ إِلَّا بِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُقِرِّ ، أَوِ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَلَوْ قَالَ لَكَ سُكْنَى هَذِهِ الدَّارِ فما الحكم فَهَذَا إِقْرَارٌ لَازِمٌ بِمِلْكِ السُّكْنَى عَنْ إِجَارَةٍ فِي الظَّاهِرِ فَإِنِ ادَّعَاهَا وَطَلَبَ الْأُجْرَةَ لَزِمَ الْمُقَرَّ لَهُ دَفْعُ الْأُجْرَةِ إِنْ قَبِلَ الْإِقْرَارَ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا مَلَكَ السُّكْنَى مُلِكَتْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَإِنْ رَدَّ الْإِقْرَارَ فَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ كَمَا لَا سُكْنَى لَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَلَوْ أَقَرَّ الْمَيِّتُ بِحَقٍّ وَقَالَ هَذَا ابْنُهُ وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ فما الحكم قُبِلَ مِنْهُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْإِقْرَارِ بِالْوَكَالَةِ فِي الْمَالِ وَهَذَا عِنْدِي أَصَحُّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِمَيِّتٍ بَدَيْنٍ ماذا يلزمه لَزِمَهُ دَفْعُ الدَّيْنِ إِلَى وَارِثِهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِوَكَالَةٍ قُبِضَ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ الدَّيْنِ إِلَى وَكِيلِهِ وَسَوَّى الْمُزَنِيُّ بَيْنَهُمَا فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ دَفْعَ الْمَالِ إِلَى الْوَكِيلِ كَمَا أَوْجَبَ الْمَالَ إِلَى الْوَرَثَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا . فَإِذَا صَحَّ مَا وَصَفْنَاهُ وَأَقَرَّ لِمَيِّتٍ بَدَيْنٍ وَقَالَ : هَذَا ابْنُهُ . وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَيِّتِ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُمَا ، أَوْ لَا يُعْرَفُ . فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُمَا لَزِمَهُ تَسْلِيمُ الْمَالِ إِلَيْهِمَا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى الثُّمُنُ إِلَى الزَّوْجَةِ ، وَالْبَاقِي إِلَى الِابْنِ فَلَوْ عَادَ بَعْدَ إِقْرَارِهِ فَقَالَ : بَلِ ابْنُ الْمَيِّتِ وَزَوْجَتُهُ هَذَانِ الْأَخِيرَانِ ، لَزِمَهُ تَسْلِيمُ ذَلِكَ إِلَى الْأَوَّلَيْنِ ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ غُرْمُ ذَلِكَ لِلْآخَرَيْنِ أَمْ لَا ؟ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَزِمَهُ غُرْمُهُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِمَّنْ قَالَ : غَصَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ لَا بَلْ مِنْ عَمْرٍو .




فَصْلٌ : وَإِنَّ عُرِفَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ غَيْرُ مَنْ ذَكَرَهُ الْمُقِرُّ فما الحكم أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِدَفْعِهِ إِلَى وَارِثِهِ الْمَعْرُوفِ فَإِنِ اعْتَرَفَ الْوَارِثُ الْمَعْرُوفُ بِمَنْ ذَكَرَهُ الْمُقِرُّ فما الحكم اشْتَرَكُوا فِي الْإِرْثِ . وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ الوارث المعروف بمن ذكره المقر تَفَرَّدَ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَإِنْ دَفَعَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ لَمْ يُغَرَّمْ لِلْأَوَّلِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْحَاكِمِ بِدَفْعِ جَمِيعِهِ إِلَى الْمَعْرُوفِ حُكْمٌ مِنْهُ بِإِبْطَالِ مِيرَاثِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ دَفَعَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ غُرِّمَ لِلْأَوَّلِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ قَدْرَ حَقِّهِ فِي الِاشْتِرَاكِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْمَعْرُوفِ قَوْلًا وَاحِدًا سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا ، أَوْ دَيْنًا لِتَقْدِيمِ الْإِقْرَارِ لَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنَ الدَّيْنِ إِلَى مَنْ أَقَرَّ بِهِمْ مِنَ الْوَرَثَةِ ثُمَّ قَدِمَ صَاحِبُ الدَّيْنِ حَيًّا فما الحكم كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُقِرِّ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى آخِذِهِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا أَقَرَّ لِوَرَثَةِ فُلَانٍ بِمَالٍ ، فما الحكم قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : كَانَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ . وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ تَعْرِيفٍ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ عَلَى الْوَارِثِ . وَإِنْ قَالَ : أَرَدْتُ الْإِرْثَ وَأَنْكَرَهُ مَنْ قَلَّ سَهْمُهُ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُقِرِّ لِاحْتِمَالِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَوْ قَالَ بِعْتُكَ جَارِيَتِي هَذِهِ فَأَوْلَدْتَهَا فَقَالَ بَلْ زَوَّجْتَنِيهَا وَهِيَ أَمَتُكَ فَوَلَدُهَا حُرٌّ ، وَالْأَمَةُ أُمُّ وَلَدٍ بِإِقْرَارِ السَّيِّدِ وَإِنَّمَا ظَلَمَهُ بِالثَّمَنِ وَيَحْلِفُ وَيُبَرَّأُ فَإِنْ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لِوَلَدِهِ مِنَ الْأَمَةِ وَوَلَاؤُهَا مَوْقُوفٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ وَطَأَ أَمَةً تَسَلَّمَهَا مِنْ سَيِّدِهَا ثُمَّ اخْتَلَفَ السَّيِّدُ ، وَالْوَاطِئُ ، فَقَالَ السَّيِّدُ : بِعْتُكَهَا بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِكَ فَأَنْتَ وَاطِئٌ فِي مِلْكٍ ، وَقَالَ الْوَاطِئُ : بَلْ زَوَّجْتَنِيهَا فَأَنَا وَاطِئٌ فِي نِكَاحٍ ، فَيَصِيرُ السَّيِّدُ مُدَّعِيًا عَلَى الْوَاطِئِ بِشِرَائِهَا ، وَالْوَاطِئُ مُنْكِرٌ ثُمَّ الْوَاطِئُ مُدَّعٍ عَلَى السَّيِّدِ بِتَزْوِيجِهَا ، وَالسَّيِّدُ مُنْكِرٌ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَاطِئِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْلَدَهَا بِوَطْئِهِ أَمْ لَا . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَوْلَدَهَا حَلَفَ الْوَاطِئُ لِلسَّيِّدِ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا اشْتَرَى وَحَلَفَ السَّيِّدُ لِلْوَاطِئِ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا زَوَّجَ ، فَيَحْلِفُ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي الْيَمِينِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَحْلِفَا فَلَا يَلْزَمُ الْوَاطِئَ الشِّرَاءُ ، لِيَمِينِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ التَّزْوِيجُ لِيَمِينِهِ وَلِلسَّيِّدِ بَيْعُهَا لَا يَخْتَلِفُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ فِيهَا بِمَا يَمْنَعُ مِنَ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِهَا لِلْوَاطِئِ بِثَمَنٍ يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ عَلَى الْوَاطِئِ الثَّمَنَ الَّذِي ادَّعَاهُ لَمْ يَمْلِكِ الْوَاطِئُ عَلَيْهِ الْأَمَةَ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا لَهُ وَتَحْرُمُ عَلَى الْوَاطِئِ إِصَابَتُهَا بَعْدَ إِيمَانِهِمَا وَجْهًا وَاحِدًا . وَهَلْ يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى السَّيِّدِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :


أَحَدُهُمَا : لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : تَحْرُمُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِمَّا ادَّعَاهُ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا عَلَى مَلِكِ الْوَاطِئِ وَإِنَّمَا ظَلَمَهُ بِمَنْعِ الثَّمَنِ فَجَعَلَ لَهُ بَيْعَهَا لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى ثَمَنِهَا . وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ فَضَلَ مِنْ ثَمَنِهَا بَعْدَ بَيْعِهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي ادَّعَاهُ مِنْ ثَمَنِهَا فَهَلْ يَسُوغُ لَهُ تَمَلُّكُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : ثُمَّ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ مُطَالَبَةُ الْوَاطِئِ بِثَمَنٍ ، وَلَا مَهْرٍ ؛ دعوى السيد بيعها للواطئ لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالْبَيْعِ ، وَالْمَهْرُ لَا يَدَّعِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِوَطْئِهِ فِي مِلْكٍ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْمَالَ فَهَذَا الْحُكْمُ إِنْ حَلَفَا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَنْكُلَا فَهُوَ نُكُولٌ عَنْ يَمِينِ نَفْيٍ وَإِنْكَارٍ وَتُرَدُّ عَلَيْهِمَا يَمِينُ الدَّعْوَى فِي الْإِثْبَاتِ فَيَحْلِفُ السَّيِّدُ بِاللَّهِ لَقَدْ بَاعَهُ الْأَمَةَ بِالْأَلْفِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْوَاطِئَ نَاكِلٌ عَنْ يَمِينِ إِنْكَارِهِ لِلشِّرَاءِ ، وَالثَّمَنِ . وَيَحْلِفُ الْوَاطِئُ بِاللَّهِ لَقَدْ زَوَّجَهُ السَّيِّدُ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ نَاكِلٌ عَنْ يَمِينِ إِنْكَارٍ بِالتَّزْوِيجِ . فَإِنْ نَكَلَا عَنْهَا أَيْضًا لَمْ يَحْكُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِمَّا ادَّعَاهُ مِنْ تَزْوِيجٍ ، وَلَا شِرَاءٍ وَحَرُمَتْ عَلَى الْوَاطِئِ بِنُكُولِهِ عَمَّا ادَّعَاهُ مِنَ النِّكَاحِ وَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَى السَّيِّدِ وَجْهَانِ . وَإِنْ حَلَفَ السَّيِّدُ وَنَكَلَ الْوَاطِئُ حَلَفَ السَّيِّدُ عَلَى الْوَاطِئِ بِالشِّرَاءِ وَقُضِيَ لَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَحَرُمَتْ عَلَى السَّيِّدِ وَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْوَاطِئِ وَجْهَانِ . وَإِنْ حَلَفَ الْوَاطِئُ وَنَكَلَ السَّيِّدُ حُكِمَ لَهُ بِالتَّزْوِيجِ وَبَطَلَ عَنْهُ دَعْوَى الشِّرَاءِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى السَّيِّدِ حَلَّالٌ لِلْوَاطِئِ وَجْهًا وَاحِدًا . وَإِنْ حَلَفَا مَعًا قُضِيَ بِيَمِينِ السَّيِّدِ فِي الشِّرَاءِ وَلُزُومِ الثَّمَنِ عَلَى يَمِينِ الْوَاطِئِ فِي ادِّعَاءِ التَّزْوِيجِ ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَهُ لَهَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ ابْتِيَاعِهَا وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى السَّيِّدِ حَلَالٌ لِلْوَاطِئِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَحْلِفَ السَّيِّدُ وَيَنْكُلَ الْوَاطِئُ في الجارية التي ادعى السيد بيعها للواطئ فَهَذِهِ الْيَمِينُ مِنَ السَّيِّدِ إِنَّمَا هِيَ لِنَفْيِ مَا ادَّعَاهُ الْوَاطِئُ مِنَ التَّزْوِيجِ ، وَقَدْ نَكَلَ الْوَاطِئُ عَنْ يَمِينِ إِنْكَارِهِ لِمَا ادَّعَاهُ السَّيِّدُ مِنَ الشِّرَاءِ وَيُرَدُّ عَلَى السَّيِّدِ الْيَمِينَ لِيَحْلِفَ ثَانِيَةً عَلَى إِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الشِّرَاءِ فَتَكُونُ يَمِينُهُ الْأُولَى لِنَفْيِ التَّزْوِيجِ ، وَالثَّانِيَةُ لِإِثْبَاتِ الشِّرَاءِ وَلُزُومِ الثَّمَنِ فَتَحْرُمُ عَلَى السَّيِّدِ وَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْوَاطِئِ وَجْهَانِ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا فَلَا ثَمَنَ لَهُ ، وَالْجَارِيَةُ فِي يَدِهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْوَاطِئِ جَمِيعًا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَحْلِفَ الْوَاطِئُ وَيَنْكُلَ السَّيِّدُ في الجارية التي ادعى السيد بيعها للواطئ فَهَذِهِ الْيَمِينُ مِنَ الْوَاطِئِ إِنَّمَا هِيَ لِنَفْيِ مَا ادَّعَاهُ السَّيِّدُ مِنَ الشِّرَاءِ ، وَقَدْ نَكَلَ السَّيِّدُ عَنْ يَمِينِ إِنْكَارِهِ لِمَا ادَّعَاهُ الْوَاطِئُ مِنَ التَّزْوِيجِ فَتُرَدُّ عَلَى الْوَاطِئِ الْيَمِينُ لِيَحْلِفَ بِهَا ثَانِيَةً عَلَى إِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ التَّزْوِيجِ فَتَكُونُ يَمِينُهُ الْأُولَى لِنَفْيِ الشِّرَاءِ ، وَالثَّانِيَةُ لِإِثْبَاتِ التَّزْوِيجِ فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ بِهَا زَوْجَةً لَهُ وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا


فَلَيْسَتْ لَهُ بِزَوْجَةٍ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَلِلسَّيِّدِ فِي الْحَالَيْنِ بَيْعُهَا لِبَقَاءِ مِلْكِهِ بِإِنْكَارِ الشِّرَاءِ . فَهَذَا حُكْمُهَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَاطِئُ قَدْ أَحْبَلَهَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْوَاطِئُ قَدْ أَحْبَلَهَا وَأَوْلَدَهَا فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَدَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَتَضَمَّنُ أَحْكَامًا : فَدَعْوَى السَّيِّدِ الشِّرَاءَ تَتَضَمَّنُ اسْتِحْقَاقَ الثَّمَنِ وَأَنَّ الْأَمَةَ أُمُّ وَلَدٍ وَأَنَّ الْأَوْلَادَ أَحْرَارٌ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْوَاطِئَ مَالِكًا وَدَعْوَى الْوَاطِئِ الزَّوْجِيَّةَ تَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا بِالْمَهْرِ وَثُبُوتًا لِلزَّوْجِيَّةِ وَأَنَّ الْأَمَةَ وَأَوْلَادَهُ مِنْهَا مَرْقُوقُونَ لِلسَّيِّدِ فَيُلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ضَرَّهُ مِنْ دَعْوَاهُ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا مَا يَنْفَعُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَتْهُومٌ فِيمَا نَفَعَهُ فَصَارَ مُدَّعِيًا لَهُ ، وَغَيْرَ مَتْهُومٍ فِيمَا ضَرَّهُ فَصَارَ مُقِرًّا بِهِ ، وَالَّذِي يَضُرُّ السَّيِّدَ مِنْ دَعْوَاهُ حُرِّيَّةُ الْأَوْلَادِ وَكَوْنُ الْأَمَةِ أُمَّ وَلَدٍ ، وَالَّذِي يَنْفَعُهُ اسْتِحْقَاقُ الثَّمَنِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ادِّعَاءِ الثَّمَنِ وَلَزِمَهُ عِتْقُ الْأَوْلَادِ وَكَوْنُ الْأَمَةِ أُمَّ وَلَدٍ ، وَمِثَالُهُ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي تَشْهَدُ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ بَيْعَ عَبْدِهِ بِأَلْفٍ عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَعْتَقَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ فَيُنْكِرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الشِّرَاءَ ، وَالْعِتْقَ فَيَصِيرُ الْعَبْدُ حُرًّا عَلَى السَّيِّدِ بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ ثَمَنِهِ . وَكَمَنِ ادَّعَى عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ خَالَعَهَا بِأَلْفٍ عَلَيْهَا فَأَنْكَرَتْ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ادِّعَاءِ الْمَالِ . وَالَّذِي يَضُرُّ الْوَاطِئَ مِنْ دَعْوَاهُ الْإِقْرَارُ بِالْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَدَّعِيهِ ، وَالَّذِي يَنْفَعُهُ ادِّعَاءُ الزَّوْجِيَّةِ وَثُبُوتُ النِّكَاحِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَعَلَى الْوَاطِئِ الْيَمِينُ لِلسَّيِّدِ فِي إِنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ السَّيِّدُ مِنَ الشِّرَاءِ ، وَالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ لَزِمَهُ ، وَهَلْ تَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ الْيَمِينُ لِلْوَاطِئِ فِي إِنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ الْوَاطِئُ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَمِينَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ الزَّوْجِيَّةِ إِزَالَةُ الضَّرَرِ عَنْهُ فِي إِيقَاعِ الْحُرِّيَّةِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ رَجَعَ عَنْ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الشِّرَاءِ وَصَدَّقَ الْوَاطِئَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الشِّرَاءِ ، وَلَا فِي التَّصْدِيقِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ عَلَى إِنْكَارِهِ لَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْوَاطِئِ فِي إِثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ ؛ لِإِنْكَارِهِ مَا لَا يَجْعَلُ ثُبُوتَهُ رَافِعًا لِضَرَرِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ رَجَعَ عَنْ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الشِّرَاءِ وَصَدَّقَ الْوَاطِئَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرُّجُوعِ عَنِ الشِّرَاءِ وَقُبِلَ فِي التَّصْدِيقِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَكَانَتْ فِي الْحُكْمِ أُمَّ وَلَدٍ وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ عَلَى إِنْكَارِهِ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَى الْوَاطِئِ فَإِذَا حَلَفَ حُكِمَ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا ، وَالْتَزَمَا مِنَ الْأَيْمَانِ مَا بَيَّنَّا تَوَجَّهَ الْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : لُزُومُ الْمَهْرِ .


وَالثَّانِي : جَوَازُ الْوَطْءِ . وَالثَّالِثُ : وُجُوبُ النَّفَقَةِ . وَالرَّابِعُ : اسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ . فَأَمَّا لُزُومُ الْمَهْرِ في الجارية التي ادعى سيدها بيعها وادعى الواطئ انكاحها فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ السَّيِّدُ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ ، أَوْ أَقَلَّ فَفِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ عَلَى الْوَاطِئِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمَهْرِ ، أَوِ الثَّمَنِ لِاعْتِرَافِهِ لِلسَّيِّدِ بِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِدَفْعِ شَيْءٍ مِنْهُ أَمَّا الثَّمَنُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهُ بِيَمِينِهِ وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَدَّعِيهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْوَطْءُ فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى السَّيِّدِ الجارية التي ادعى سيدها بيعها لمن ادعى انكاحها لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ ، هَلْ يَحِلُّ وَطْئُهَا لِمُدَّعِي الزَّوْجِيَّةِ أَمْ لَا ؟ في الجارية التي ادعى سيدها بيعها له وادعى هو انكاحها عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَحِلُّ لَهُ وَطْئُهَا لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى إِبَاحَتِهِ إِمَّا بِالْمِلْكِ عَلَى قَوْلِ السَّيِّدِ وَإِمَّا بِالزَّوْجِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الْوَاطِئِ فَصَارَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : بِعْتُكَ أَمَتِي وَقَبَضْتُ عَنْهَا وَقَالَ : بَلْ وَهَبْتَنِيهَا فَيَجُوزُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا أَنْ يَطَأَهَا وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي سَبَبِ مِلْكِهَا لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى إِبَاحَتِهِ مَعَ اخْتِلَافِ سَبَبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْئُهَا ؛ لِأَنَّهُمَا بِإِنْكَارِ الْعَقْدَيْنِ قَدْ أَبْطَلَا أَنْ يَكُونَ لِلْوَاطِئِ أَمَةٌ ، وَلَا زَوْجَةٌ فَصَارَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : بِعْتُكَ أَمَتِي بِأَلْفٍ لَمْ أَقْبِضْهَا ، وَقَالَ : بَلْ وَهَبْتَنِيهَا ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا أَنْ يَطَأَهَا ؛ لِأَنَّهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى سَبَبِ الْإِبَاحَةِ فَهُنَاكَ ثَمَنٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَنْعَ مِنَ الْإِبَاحَةِ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِهِ وَخَالَفَ حَالَ الْمُقِرِّ بِقَبْضِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا النَّفَقَةُ في الجارية التي ادعى سيدها بيعها وادعى واطئها انكاحها فَنَفَقَتَانِ : نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ . وَنَفَقَةُ الْأُمِّ . أَمَّا نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ ، فَعَلَى الْأَبِ الْوَاطِئِ لَا يُخْتَلَفُ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ عُتِقُوا بِإِقْرَارِ السَّيِّدِ ، وَالْوَلَدِ إِذَا أُعْتِقَ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى أَبِيهِ الْمُنَاسِبِ بِدُونِ مَوْلَاهُ الْمُعْتِقِ . وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأُمِّ فَإِنْ جَعَلْنَا الْوَاطِئَ مُدَّعِي الزَّوْجِيَّةَ أَنْ يَطَأَ وَيَسْتَمْتِعَ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ دُونَ السَّيِّدِ بَدَلًا مِنِ اسْتِمْتَاعِهِ . وَإِنْ مُنِعَ الْوَاطِئُ مِنْ وَطْئِهَا ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا عَنْهُ لَا يُخْتَلَفُ . وَأَيْنَ تَجِبُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي كَسْبِهَا إِنْ كَانَ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ مَلَكَ الْكَسْبَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَى السَّيِّدِ وَيَكُونُ كَسْبُهَا مَوْقُوفًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إِسْقَاطِ النَّفَقَةِ .




فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمِيرَاثُ في الجارية التي ادعى سيدها بيعها وادعى واطئها انكاحها فَهُوَ ثَلَاثَةُ مَوَارِيثَ : مِيرَاثُ الْوَاطِئِ وَمِيرَاثُ الْأَوْلَادِ وَمِيرَاثُ الْأُمِّ . فَأَمَّا مِيرَاثُ الْوَاطِئِ فَلِأَوْلَادِهِ لِكَوْنِهِمْ أَحْرَارًا ، وَلَا شَيْءَ لِلْأُمِّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ أَحْسَنَ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ يَتَحَرَّرُ عِتْقُهَا بِمَوْتِهِ . وَأَمَّا مِيرَاثُ الْأَوْلَادِ فَلِأَبِيهِمْ إِنْ كَانَ حَيًّا ، وَلَا شَيْءَ لِأُمِّهِمْ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ مَوْتِ الْأَبِ فِي حُكْمِ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُ الْأَوْلَادِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ مِنْ تَرِكَتِهِمْ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ حُرَّةً بِمَوْتِ أَبِيهِمْ ثُمَّ الْبَاقِي بَعْدَهُ لِعَصَبَتِهِ إِنْ كَانَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَمَوْقُوفٌ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْوَلَاءِ الْمَوْقُوفِ . وَأَمَّا مِيرَاثُهَا فَإِنْ كَانَ مَوْتُهَا بَعْدَ عِتْقِهَا بِمَوْتِ الْوَاطِئِ فَمُوَرَّثٌ لِأَوْلَادِهَا إِنْ كَانُوا ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَمَوْقُوفٌ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْوَلَاءِ الْمَوْقُوفِ . وَإِنْ كَانَ مَوْتُهَا قَبْلَ عِتْقِهَا بِمَوْتِ الْوَاطِئِ فَلَا مِيرَاثَ لِأَوْلَادِهَا ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُورَثُ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا بَيْنَ الْوَاطِئِ ، وَالسَّيِّدِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْمِلْكِ لَا بِالْإِرْثِ ، وَالْمِلْكُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ طَلَبَ السَّيِّدُ بَاقِي فِي ثَمَنِهَا مِنَ الْمَوْقُوفِ مِنْ مَالِهَا حِينَ قُضِيَ لَهُ عَلَى الْوَاطِئِ الْمَهْرُ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ ، أَوْ طَلَبَ جَمِيعَ الثَّمَنِ حِينَ لَمْ يُقْضَ لَهُ عَلَى الْوَاطِئِ بِشَيْءٍ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ تَعْلِيلًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي الشَّاهِدَيْنِ إِذَا طَلَبَا ثَمَنَ الْعَبْدِ الَّذِي ابْتَاعَاهُ بَعْدَمَا شَهِدَا بِعِتْقِهِ مِمَّا تَرَكَ بَعْدَ مَوْتِهِ .

فَصْلٌ : إِذَا ادَّعَى رِجَالٌ جَارِيَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ فَجَحَدَهَا صَاحِبُ الْيَدِ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فَحَلَفَ الْمُدَّعِي وَاسْتَحَقَّ الْجَارِيَةَ وَأَوْلَدَهَا وَلَدًا ثُمَّ قَالَ : كَذَبْتُ فِي دَعْوَايَ وَيَمِينِي فما الحكم لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي رَدِّ الْجَارِيَةِ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحُكْمِ ، وَالْأَوْلَادُ أَحْرَارٌ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهَا وَقِيمَةُ أَوْلَادِهَا لِإِقْرَارِهِ بِمِلْكِهَا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحُكْمِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطَأَهَا إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْقِيمَةَ لَا يَصِيرُ مَالِكًا ؛ لِأَنَّهُ يُغَرَّمُ قِيمَةَ مُسْتَهْلَكٍ فَإِذَا اشْتَرَى قَبْلَ دَفْعِ الْقِيمَةِ سَقَطَتِ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَنْهَا بَدَلٌ وَاحِدٌ وَإِنِ اشْتَرَاهَا بَعْدَ دَفْعِ الْقِيمَةِ كَانَتِ الْقِيمَةُ قِصَاصًا مِنْ ثَمَنِهَا وَتَرَاجَعَا الْفَصْلَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ قَالَ لَا أُقِرُّ ، وَلَا أُنْكِرُ أي المدعى عليه بجارية في يده فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حَلَفَ صَاحِبُهُ مَعَ نُكُولِهِ وَاسْتَحَقَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . إِذَا قَالَ جَوَابًا عَنِ الدَّعْوَى : لَا أُقِرُّ ، وَلَا أُنْكِرُ ، فَلَيْسَ هَذَا جَوَابًا بِإِقْرَارٍ ، وَلَا إِنْكَارًا وَهُوَ كَالْمَسْكُوتِ مِنْهُ عَنِ الْجَوَابِ فَيَقُولُ لَهُ الْحَاكِمُ : إِنْ أَجَبْتَ عَنِ الدَّعْوَى بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ : إِمَّا بِإِقْرَارٍ ، أَوْ إِنْكَارٍ ، وَإِلَّا جَعَلْنَاكَ نَاكِلًا وَرُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى خَصْمِكَ . يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنْ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا فَحَسَنٌ .


وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَسْتَقِرُّ بِحُكْمِ النُّكُولِ إِلَّا بِتَكْرَارِهِ ثَلَاثًا . وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَقَالَ بِهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ النُّكُولِ يَسْتَقِرُّ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِتَكْرَارِهِ ثَلَاثًا إِلَّا مَا عَلِمَهُ مِنْ حُكْمِ النُّكُولِ بِالْأَوَّلِ وَلِأَنَّ النُّكُولَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالْإِقْرَارِ ، أَوْ بِالْإِنْكَارِ ، وَلَيْسَ التَّكْرَارُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرًا فَلَمْ يَكُنْ فِي النُّكُولِ مُعْتَبَرًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا قَالَ : لَا أُنْكِرُ أي المدعى عليه بجارية في يده لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ : لَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا ، وَيَحْتَمِلُ : لَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُحِقًّا ، فَلَمْ يَصِرْ مَعَ الِاحْتِمَالِ مُقِرًّا ، وَلَوْ قَالَ : لَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُحِقًّا لَمْ يَصِرْ مُقِرًّا لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ مُحِقًّا فِي دِينِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : لَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُحِقًّا بِهَذِهِ الدَّعْوَى كَانَ مُقِرًّا ؛ لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : أُقِرُّ لَمْ يَصِرْ مُقِرًّا ؛ لِأَنَّهُ مَوْعِدٌ . وَلَوْ قَالَ أَنَا مُقِرٌّ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ لَا يَكُونُ مُقِرًّا ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَا مُقِرٌّ بِبُطْلَانِ دَعْوَاكَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ جَوَابًا عَنِ الدَّعْوَى انْصَرَفَ الْإِقْرَارُ إِلَيْهَا وَكَانَ أَبْلَغَ جَوَابًا مِنْ نِعَمْ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ أَجَابَ عَنِ الدَّعْوَى بِأَنْ قَالَ بَلَى ، أَوْ نَعَمْ ، أَوْ أَجَلْ ، أَوْ صَدَقَتْ ، أَوْ أَيْ لَعَمْرِي أي المدعى عليه بجارية في يده كَانَ مُقِرًّا بِجَمِيعِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ الْجَوَابِ لِتَصْدِيقٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْمَعَانِي وَإِنْ قَالَ : لَعَلَّ ، وَعَسَى ، وَيُوشِكُ المدعى عليه بجارية في يده ، لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا ؛ لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ لِلشَّكِّ ، وَالتَّرَجِّي وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : أَظُنُّ وَأُقَدِّرُ وَأَحْسَبُ وَأَتَوَهَّمُ المدعى عليه بجارية في يده ، فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ لِمَا تَضَمَّنَتْهَا مِنَ الشَّكِّ وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ فِي عِلْمِي كَانَ إِقْرَارًا ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقِرُّ بِهَا فِي عِلْمِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَكُونُ إِقْرَارًا لِتَشْكِيكِهِ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ : أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا فِي عِلْمِي صَحَّتِ الشَّهَادَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَبَطَلَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ الطَّالِبُ أَقْضِينِي الْأَلْفَ الَّتِي لِي عَلَيْكَ فَقَالَ نَعَمْ ، أَوْ أَجَلْ ، أَوْ غَدًا ، أَوْ أَنْظِرْنِي بِهَا ، كَانَ إِقْرَارًا وَإِذَا قَالَ : أَنْظِرْنِي ، أَوِ ارْفُقْ بِي ، أَوْ أَنْفِذْ رَسُولَكَ إِلَيَّ لمن قال له أفضيني الألف التي لي عليك لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا لِاحْتِمَالِهِ . وَلَوْ قَالَ اشْتَرِ عَبْدِي هَذَا ، أَوْ قَالَ أَعْطِنِي عَبْدِي هَذَا فَقَالَ نَعَمْ الإقرار كَانَ إِقْرَارًا بِهِ . وَلَوْ قَالَ لَا أَفْعَلُ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا لمن قال له اشتر عبدي وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ إِقْرَارًا وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ إِنْكَارَ الْجَوَابِ لَا يَكُونُ إِقْرَارًا بِالْجَوَابِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ جَوَابًا عَنِ ادِّعَاءِ أَلْفٍ عَلَيْهِ خُذْ ، أَوِ اتَّزِنْ الإقرار لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ خُذِ الْجَوَابَ مِنِّي وَاتَّزِنْ حَقًّا إِنْ كَانَ لَكَ عَلَى غَيْرِي ، وَلَوْ قَالَ خُذْهَا ، أَوِ اتَّزِنْهَا لمن ادعى عليه ألف فَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ


الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ إِقْرَارًا وَبِهِ قَالَ أَهْلَ الْعِرَاقِ ؛ لِأَنَّ هَاءَ الْكِنَايَةِ فِي الْجَوَابِ تَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّعْوَى . وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : لَا يَكُونُ إِقْرَارًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَزِنُ وَيُعْطِي مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَجَابَ عَنِ الدَّعْوَى بِأَنْ قَالَ : صِحَاحٌ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا وَلَوْ قَالَ : هِيَ صِحَاحٌ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ : يَكُونُ إِقْرَارًا ؛ لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ بِصِفَتِهَا فَصَارَ إِقْرَارًا بِهَا ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالصِّفَةِ إِقْرَارٌ بِالْمَوْصُوفِ وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : لَا يَكُونُ إِقْرَارًا ؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ تَرْجِعُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الدَّعْوَى ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِإِقْرَارٍ لَمْ يُذْكَرْ .

فَصْلٌ : وَإِذْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فما الحكم لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا ؛ لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ رَافِعَةٌ لِحُكْمِ مَا نِيطَ بِهَا وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مَا فِي حِسَابِي ، أَوْ مَا خَرَجَ بِخَطِّي ، أَوْ مَا أَقَرَّ بِهِ زَيْدٌ عَنِّي فما الحكم فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِقْرَارٌ يُلْزِمُ ؛ لِأَنَّهُ مُحِيلٌ بِالْإِقْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِمُقِرٍّ . فَلَوْ قَالَ : مَا شَهِدَ بِهِ زَيْدٌ عَلَيَّ فَهُوَ لَازِمٌ لِي ، فما الحكم وَلَمْ يَصِرْ مُقِرًّا بِمَا شَهِدَ بِهِ فَإِنْ كَمُلَتْ بِزَيْدٍ بَيِّنَةُ عَدْلٍ حُكِمَ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ دُونَ إِقْرَارِهِ وَقَالَ مَالِكٌ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا شَهِدَ بِهِ زَيْدٌ وَإِنْ لَمْ تَصِرْ بَيِّنَةً مَسْمُوعَةً ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَ ذَلِكَ نَفْسَهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ بِزَيْدٍ بَيِّنَةُ عَدْلٍ فَهِيَ حِوَالَةٌ بِالْإِقْرَارِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ شَاءَ فما الحكم لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْإِقْرَارَ بِصِفَةٍ فَصَارَ كَقَوْلِهِ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ ، أَوْ مَاتَ عَمْرٌو وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ مُتُّ فما الحكم كَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِقْرَارًا مَاتَ ، أَوْ عَاشَ وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِإِقْرَارٍ مَاتَ أَوْ عَاشَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْإِقْرَارِ بِشَرْطٍ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ لَا فما الحكم فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ شَكٍّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ أَلْفٌ ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ عَنْهَا بَعْدَ إِثْبَاتِهَا ، وَالتَّعْلِيلُ بِالشَّكِّ فِي نَفْيِ اللُّزُومِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِالْكَلَامِ وَأَشْبَهُ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ فَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ أَلْفٌ لِزَيْدٍ ، أَوْ عَمْرٍو فما الحكم فَفِيهِ وَجْهَانِ " . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي الْإِقْرَارِ لَهُ فَصَارَ كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ لَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا لِأَحَدِهِمَا بِالْأَلْفِ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ فَيُؤْخَذُ بِالْبَيَانِ ، وَلَا يَسْقُطُ الْإِقْرَارُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَقَرَّ بِوَاحِدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ لَمْ يَبْطُلْ إِقْرَارُهُ مَعَ الْجَهْلِ بِتَعْيِينِ الْمُقَرِّ بِهِ كَذَا إِذَا أَقَرَّ لِوَاحِدٍ مِنْ رَجُلَيْنِ لَمْ يَبْطُلْ إِقْرَارُهُ مَعَ الْجَهْلِ بِتَعْيِينِ الْمُقَرِّ لَهُ وَخَالَفَ قَوْلُهُ : عَلَيَّ أَلْفٌ ، أَوْ لَا لِكَوْنِهِ شَاكًّا فِي ثُبُوتِ الْإِقْرَارِ وَسُقُوطِهِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَيَقِّنٌ لِلْإِقْرَارِ شَاكٌّ فِي مُسْتَحِقِّهِ فَافْتَرَقَا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .




مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَلَوْ قَالَ : وَهَبْتُ لَكَ هَذِهِ الدَّارَ وَقَبَضْتَهَا ثُمَّ قَالَ لَمْ تَكُنْ قَبَضْتَهَا فَأُحْلِفَ أَحْلِفَتَهُ لَقَدْ قَبَضَهَا فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى صَاحِبِهِ وَرَدَدْتُهَا إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتِمُّ الْهِبَةُ إِلَّا بِالْقَبْضِ عَنْ رِضَا الْوَاهِبِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا مِمَّا قَدْ تَقَدَّمَ فِي الرَّهْنِ اسْتِيفَاؤُهُ فِي الْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الرَّاهِنِ . فَإِذَا أَقَرَّ مَالِكُ الدَّارِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِهِبَتِهَا لِرَجُلٍ وَأَنَّهُ أَقْبَضَهُ إِيَّاهَا وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى قَبْضِهَا وَهِبَتِهَا ثُمَّ عَادَ الْوَاهِبُ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُقْبِضْهَا وَأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ سَهْوٌ ، أَوْ كَذِبٌ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَالدَّارُ الْمَوْهُوبَةُ عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ أَقْبَضَ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَ فَإِنْ أَكْذَبَهُ وَادَّعَى الْقَبْضَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقْرَارِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ مُقِرٌّ بِالْقَبْضِ رَاجِعٌ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ إِقْرَارُهُ ، وَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ فَإِنْ سَأَلَ الْوَاهِبُ إِحْلَافَ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِاللَّهِ لَقَدْ قَبَضَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَاهِبِ عِنْدَ إِقْرَارِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِإِقْبَاضِهَا بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِوَكِيلِهِ . فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ غَائِبَةً وَأَقَرَّ أَنَّ وَكِيلَهُ أُقْبِضَ أُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ مِنْ إِحْلَافِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِاللَّهِ لَقَدْ قَبَضَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْبِرُهُ الْوَكِيلُ ثُمَّ يَعْلَمُ كَذِبَهُ ، أَوْ يُزَوَّرُ عَلَى الْوَكِيلِ كِتَابٌ مِنْهُ بِالْقَبْضِ ثُمَّ يُعْلَمُ تَزْوِيرُهُ فَإِنْ حَلَفَ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَلَى الْقَبْضِ اسْتَقَرَّ لَهُ الْمِلْكُ وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْوَاهِبِ فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا كَانَتِ الدَّارُ عَلَى مِلْكِهِ . وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ حَاضِرَةً فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُقْبِضَهَا بِنَفْسِهِ ، أَوْ غَائِبَةً فَأَقَرَّ بِإِقْبَاضِهَا بِنَفْسِهِ فَفِي إِجَابَتِهِ إِلَى إِحْلَافِ الْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى قَبْضِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يُجَابُ إِلَى إِحْلَافِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْوَاهِبِ ، وَالدَّارُ لَهُ لِاحْتِمَالِ مَا ادَّعَاهُ أَنْ يَكُونَ سَابِقَ الْإِقْرَارِ عَنِ اتِّفَاقٍ أَنْ يُعْقِبَهُ الْإِقْبَاضَ وَذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَفْعَلُهُ النَّاسُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يُجَابُ إِلَى إِحْلَافِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَذَّبَ هَذِهِ الدَّعْوَى بِسَابِقِ إِقْرَارِهِ فَرُدَّتْ وَلَيْسَ لِتَخْرِيجِ الِاحْتِمَالِ وَجْهٌ إِلَّا عَلَى كَذِبٍ فِي إِحْدَى الْحَالَيْنِ فَكَانَ حَمْلُ الْإِقْرَارِ عَلَى الصِّدْقِ ، وَالدَّعْوَى عَلَى الْكَذِبِ أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ الْوَاهِبُ : قَدْ وَهَبْتُ لَهُ هَذِهِ الدَّارَ وَخَرَجْتُ إِلَيْهِ مِنْهَا فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ عِنْدَ هَذَا الْإِقْرَارِ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ كَانَ قَوْلُهُ وَخَرَجْتُ إِلَيْهِ مِنْهَا مَحْمُولًا عَلَى الْإِقْبَاضِ ؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَاهُ ، وَقَدْ رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ نَصًّا فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ .


وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُقِرِّ سُئِلَ عَنِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ وَخَرَجْتُ إِلَيْهِ مِنْهَا لِاحْتِمَالِهِ مَعَ كَوْنِ الدَّارِ فِي يَدِهِ فَمَا قَالَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْقَبْضِ قُبِلَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ بِأَلْفٍ فما الحكم فَإِنْ صَدَّقَهُ الْعَبْدُ عُتِقَ ، وَالْأَلْفُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَنْكَرَ فَهُوَ حُرٌّ ، وَالسَّيِّدُ مُدَّعِي الْأَلْفِ وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ إِنْ أَعْطَيْتَنِي أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَهَذَا عِتْقٌ بِصِفَةٍ وَلَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي يُعْطِيهَا الْعَبْدُ فِي حَالِ الرِّقِّ هِيَ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ فَلَا تَصِحُّ مُعَاوَضَةُ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ عَلَى مَالِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ عِتْقًا بِصِفَةٍ ، وَلَمْ تَكُنْ مُعَاوَضَةً وَخَالَفَ قَوْلُهُ لِزَوْجَتِهِ إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ جَعَلْنَاهُ مُعَاوَضَةً ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ تَمْلِكُ . فَلَوِ ادَّعَى السَّيِّدُ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَنْكَرَ الْعَبْدُ لَمْ تَكُنْ دَعْوَى ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَضَمَّنُ اسْتِحْقَاقَ مَالٍ وَكَانَ إِقْرَارًا مِنْهُ بِالْعِتْقِ لَا يُرَاعَى فِيهِ تَصْدِيقُ الْعَبْدِ ، وَلَوِ ادَّعَى الْعَبْدُ ذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ كَانَ مُدَّعِيًا عِتْقًا يُنْكِرُهُ السَّيِّدُ فَيَحْلِفُ لَهُ وَيَكُونُ الْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ . وَالْفَصْلُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ : إِنْ ضَمِنْتَ لِي أَلْفًا تُؤَدِّيهَا إِلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ فَهَذَا غَيْرُ مُعَاوَضَةٍ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِيهِ مُوجِبٌ لِمَالٍ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فِي وَقْتٍ يَصِحُّ مِلْكُهُ فَصَارَ مُعَاوَضَةً عَلَى عِتْقِهِ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ ، وَإِنْ تَضَمَّنَ عِتْقًا بِصِفَةٍ لِتَعَلُّقِهِ بِالضَّمَانِ . وَلَوِ ادَّعَى السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَلَى أَلْفٍ ضَمِنَهَا وَأَنْكَرَ الْعَبْدُ فما الحكم حَلَفَ لِسَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَعُتِقَ الْعَبْدُ عَلَى السَّيِّدِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِعِتْقِهِ وَصَارَ كَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ : بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ عَلَيْكَ فَأَعْتَقْتَهُ ، فَأَنْكَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي إِنْكَارِ الْأَلْفِ ، وَقَدْ عَتَقَ الْعَبْدَ عَلَى السَّيِّدِ إِقْرَارُهُ بِالْعِتْقِ وَلَوِ ادَّعَى الْعَبْدُ ذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ حَلَفَ لَهُ وَكَانَ الْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ . وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنْ يَبِيعَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَلْفٍ وَيَقْبَلُ الْعَبْدُ ذَلِكَ مِنْ سَيِّدِهِ ابْتِيَاعًا فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ وَمُخْتَصَرِهِ جَوَازُ ذَلِكَ وَصِحَّتُهُ قَالَ الرَّبِيعُ : وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَحْكِيَانِهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَلَا يُخْرِجَانِهِ مَذْهَبًا لِتَفَرُّدِ الرَّبِيعِ بِتَخْرِيجِهِ لِنَفْسِهِ وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ ، وَالْإِسْفَرَايِينِيُّ يَحْكِيَانِهِ وَيُخْرِجَانِهِ وَتَبِعَهُمَا مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الْأَصَحُّ ، جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتُ مِنْ عَقْدِ الْكِتَابَةِ حُكْمًا وَأَعْجَلُ مِنْهُ تَحْرِيرًا وَعِتْقًا .


وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ تَخْرِيجُ الرَّبِيعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ بَاعَهُ نَفْسَهُ بِمَالٍ فِي يَدِهِ فَذَاكَ لِسَيِّدِهِ ، وَإِنْ بَاعَهُ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ مَالٌ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلثَّمَنِ مَحَلٌّ ثَبَتَ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ بَيْعُ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ بَاطِلًا لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ ثَمَنًا ، وَلَا يَلْتَزِمُ بِهِ ثَمَنًا عِتْقًا ، وَلَا يَكُونُ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ ، وَلَا لِاخْتِلَافِهِمَا فِيهِ أَثَرٌ . فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الصَّحِيحِ فَجَوَازُهُ وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ بِمِلْكِهِ نَفْسَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ لِأَحَدٍ رِقٌّ عَلَى نَفْسِهِ . فَإِنِ اخْتَلَفَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَادَّعَى السَّيِّدُ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَنْكَرَهُ الْعَبْدُ حَلَفَ لِسَيِّدِهِ وَبَرِئَ ظَاهِرًا مِنْ ثَمَنِهِ وَعُتِقَ عَلَى سَيِّدِهِ لِإِقْرَارِهِ بِعِتْقِهِ . فَإِنْ قِيلَ إِذَا أَقَرَّ بِمِلْكِ نَفْسِهِ بَيْعًا عَلَى ثَمَنٍ فَهَلَّا إِذَا فَاتَ الثَّمَنُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ كَمَا إِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِابْتِيَاعِ عَبْدِهِ عَلَى ثَمَنٍ أَنْكَرَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِعَبْدِهِ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْبَيْعِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِقْرَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَلَمْ يَصِحَّ بِإِقْرَارِ أَحَدِهِمَا ، وَالْعِتْقُ لَا يَقِفُ عَلَى مُتَعَاقِدَيْنِ فَلَزِمَ بِإِقْرَارِ الْمَالِكِ مِنْهُمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ يَصِحُّ نَقْضُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ لِإِعْوَازِ الثَّمَنِ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ إِعْوَازُهُ بِالْإِنْكَارِ أَحَقُّ بِالْفَسْخِ ، وَالْعِتْقُ لَا يَصِحُّ نَقْضُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ ، وَلَا الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ . وَمِثْلُ مَسْأَلَتِنَا فِي الْبَيْعِ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي عِتْقَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَيُنْكِرُهُ فَيُعْتَقُ عَلَى الْبَائِعِ بِإِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقِفُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِذِكْرِ حَقٍّ مِنْ بَيْعٍ ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضِ الْمَبِيعَ أَحَلَفْتُهُ مَا قَبَضَ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ إِلَّا بِالْقَبْضِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفٍ مُطْلَقَةٍ ثُمَّ ادَّعَى مِنْ بَعْدُ أَنَّهَا ثَمَنُ مَبِيعٍ لَمْ يَقْبِضْهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ . فَأَمَّا إِذَا أَضَافَ إِقْرَارَهُ إِلَى ثَمَنِ مَبِيعٍ فَقَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِذِكْرِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضِ الْعَبْدَ فما الحكم فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ مَا قَبَضَ الْعَبْدَ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّ عَيَّنَ الْعَبْدَ الَّذِي هِيَ مِنْ ثَمَنِهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : مِنْ ثَمَنِ هَذَا الْعَبْدِ ، كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ وَقَالَ : مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ ، لَزِمَهُ الْأَلْفُ ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ : إِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَمُحَمَّدٌ : هُوَ مُقِرٌّ بِالْأَلْفِ مُدَّعٍ أَنَّهَا مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّهَا مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ إِنَّهُ لَمْ يَقْبِضِ الْعَبْدَ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّهَا مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ اسْتِدْلَالًا مِنْهُمَا بِأَنَّ مَا يَعْقُبُ الْإِقْرَارَ مِنْ قَوْلٍ بِرَفْعِهِ


مَرْدُودٌ كَدَعْوَاهُ الْقَضَاءَ وَاسْتِثْنَائِهِ الْكُلَّ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ عَقْدَ الْمُعَاوَضَةِ يَجْمَعُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا ، فَلَمَّا كَانَ إِقْرَارُهُ بِالْمُثَمَّنِ مِنْ عَبْدٍ بَاعَهُ غَيْرَ لَازِمٍ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِقَبْضِ ثَمَنِهِ ، كَذَلِكَ إِقْرَارُهُ بِثَمَنِ عَبْدٍ ابْتَاعَهُ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ بِقَبْضِ الْعَبْدِ الَّذِي ابْتَاعَهُ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ عِوَضٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لُزُومُ الْإِقْرَارِ بِهِ لَهُ مَوْقُوفًا عَلَى لُزُومِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ وَخَالَفَ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الْإِقْرَارِ وَفِي ادِّعَائِهِ الْقَضَاءَ مُتَّصِلًا بِالْإِقْرَارِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَلُ وَيَسْتَوِيَانِ . وَالثَّانِي : لَا يُقْبَلُ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الثَّمَنَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرَ لَازِمٍ أَدَاؤُهُ فَقُبِلَ فِيهِ قَوْلُهُ ، وَالدَّيْنُ لَازِمٌ فَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْقَضَاءِ قَوْلُهُ . فَلَوِ ادَّعَى الْبَائِعُ تَسْلِيمَ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ اسْتَوْجَبَ قَبْضَ ثَمَنِهِ وَأَنْكَرَهُ الْمُشْتَرِي فما الحكم لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي التَّسْلِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مُدَّعِي الْقَضَاءَ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مُدَّعِيَ الْقَضَاءِ لَا يَثْبُتُ بِدَعْوَاهُ حَقٌّ فَجَازَ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ وَمُدَّعِيَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ يُثْبِتُ فِي دَعْوَاهُ حَقًّا فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : أَقْرَضَنِي فَلَانٌ أَلْفًا ، ثُمَّ قَالَ : لَمْ أَقْبِضْهَا ، فما الحكم كَانَ قَوْلُهُ عِنْدَنَا مَقْبُولًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَصَاحِبَاهُ : لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ، وَالْأَلْفُ لَازِمَةٌ لَهُ . وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَاهُ فِي الْإِقْرَارِ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ يُلْزَمُ بِالْقَبْضِ فَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ الْمُقِرُّ فِي إِقْرَارِهِ فَلَيْسَ بِمُقِرٍّ بِلُزُومِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى إِقْرَارِهِ بِأَلْفٍ وَآخَرُ بِأَلْفَيْنِ فَإِنْ زَعَمَ الَّذِي شَهِدَ بِالْأَلْفِ أَنَّهُ شَكَّ فِي الْأَلْفَيْنِ وَأَثْبَتَ أَلْفًا فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ أَلْفٌ بِشَاهِدَيْنِ فَإِنْ أَرَادَ الْأَلْفَ الْأُخْرَى حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَكَانَتْ لَهُ وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ وَقَالَ الْآخَرُ مِنْ ثَمَنِ ثِيَابٍ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَلْفَيْنِ غَيْرُ الْأَلْفِ فَلَا يَأْخُذُ إِلَّا بِيَمِينٍ مَعَ كُلِّ شَاهِدٍ مِنْهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَلْفٍ وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِأَلْفَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الشَّهَادَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَ جِهَاتُهَا . أَوْ لَا يَخْتَلِفَ . فَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُهُمَا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ مِنْ ثَمَنِ دَارٍ فَلَمْ يَجْتَمِعِ الشَّاهِدَانِ عَلَى أَحَدِ الْحَقَّيْنِ ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ غَيْرَ ثَمَنِ الدَّارِ فَاخْتَلَفَا وَيُقَالُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ : احْلِفْ إِنْ شِئْتَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَاسْتَحَقَّ مَا شَهِدَ بِهِ فَإِنْ حَلَفَ مَعَهُمَا حُكِمَ لَهُ بِثَلَاثَةِ


آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ جِهَتَيْنِ كُلُّ جِهَةٍ مِنْهُمَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، وَإِنْ حَلَفَ مَعَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ حُكِمَ لَهُ بِالْحَقِّ الَّذِي حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ دُونَ الْحَقِّ الَّذِي نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ بِهِ .

فَصْلٌ : وَإِنِ اتَّفَقَتِ الْجِهَتَانِ فَشَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ ، أَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ مُطْلَقَةً ، أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً ، وَالْأُخْرَى مُقَيَّدَةً صَارَ الشَّاهِدَانِ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى إِثْبَاتِ أَلْفٍ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ أَلْفٍ فَحُكِمَ لِلْمُدَّعِي بِأَلْفٍ بِشَاهِدَيْنِ وَلَهُ أَلْفٌ ثَانِيَةٌ بِشَاهِدٍ إِنْ حَلَفَ مَعَهُ حُكِمَ لَهُ بِهَا فَيَصِيرُ آخِذًا لِأَلْفٍ بِشَاهِدَيْنِ ، وَأَلِفٍ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هَذَا اخْتِلَافٌ فِي الشَّهَادَةِ يَمْنَعُ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا فِيهَا عَلَى شَيْءٍ فَلَا أَحْكُمُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْقَدْرِ وَصِيغَةِ اللَّفْظِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى قَدْرٍ وَصَارَ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي جِهَةِ الْحَقِّ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهَا مَعَ إِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا عَلَى شُرُوطِهَا كَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَلَى شُرُوطِهَا لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا مَعَ إِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا ، وَلَا تَكُونُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا بِحَقَّيْنِ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْآخَرِ بِأَحَدِ الْحَقَّيْنِ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَبْدٍ ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَلِأَنَّ التَّنَافِيَ فِي الشَّهَادَةِ يُوجِبُ مُضَاعَفَةَ الْإِقْرَارِ ، وَالْمُوَافَقَةَ تُوجِبُ الْمُدَاخَلَةَ فِي الْإِقْرَارِ . فَلَمَّا كَانَ إِقْرَارُهُ بِأَلْفٍ إِذَا أَقَرَّ بَعْدَهَا بِأَلْفَيْنِ أَوْجَبَ دُخُولَ الْأَلْفِ فِي الْأَلْفَيْنِ دَلَّ عَلَى اتِّفَاقِهِمَا وَعَدَمِ تُنَافِيهِمَا . وَلِأَنَّ لَفْظَ الْأَلْفِ عَلَى صِيغَتِهِ دَاخِلٌ فِي لَفْظِ الْأَلْفَيْنِ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ عَلَامَةُ التَّثْنِيَةِ فَكَانَ أَحَقَّ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَنْ تَنْضَمَّ إِلَيْهِ أَعْدَادٌ زَائِدَةٌ وَزِيَادَةُ الْأَعْدَادِ عِنْدَهُ لَا يَقْتَضِي التَّنَافِي كَشَهَادَةِ أَحَدِهِمَا بِأَلْفٍ ، وَالْآخَرِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَزِيَادَةُ التَّثْنِيَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَقْتَضِيَ التَّنَافِيَ وَيَبْطُلُ بِهَذَا مَا ادَّعَاهُ مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي صِيغَةِ اللَّفْظِ . فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْقَدْرِ فَالشَّاهِدُ بِأَلْفَيْنِ قَدْ أَثْبَتَ أَلْفًا وَزَادَ أَلْفًا ، وَالْآخَرُ قَدْ أَثْبَتَ أَلْفًا فَصَارَا عَلَيْهَا مُتَّفِقَيْنِ وَفِي الْأُخْرَى غَيْرَ مُتَّفِقَيْنِ ، وَلَا مُخْتَلِفَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمِائَةٍ ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ حُكِمَ بِمِائَةٍ مِنْ جُمْلَتِهَا بِشَاهِدَيْنِ ، وَلَا يَكُونُ اخْتِلَافُ صِيغَةِ اللَّفْظِ مِنْهُمَا مَانِعًا مِنْ دُخُولِ الْأَقَلِّ فِي الْأَكْثَرِ وَاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِهِ وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إِقْرَارِهِ بِأَلْفٍ بِالْعَرَبِيَّةِ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ بِالْفَارِسِيَّةِ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِأَلْفٍ مِنْهَا وَتَفَرَّدَ الْآخَرُ فِي شَهَادَتِهِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ عَدَمِ التَّنَافِي فِي شَهَادَتِهِمَا وَدُخُولِ الْأَلْفِ الَّتِي شَهِدَ بِهَا أَحَدُهُمَا فِي الْأَلْفَيْنِ الَّتِي شَهِدَ بِهَا الْآخَرُ في الإقرار عَجَّلَ الْحَاكِمُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ الْحُكْمَ بِأَلْفٍ وَتَوَقَّفَ عَلَى إِحْلَافِهِ فِي إِثْبَاتِ الْأَلْفِ الثَّانِيَةِ حَتَّى يَسْأَلَ الشَّاهِدَ بِالْأَلْفِ : هَلْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْهَا ؟ فَإِنْ قَالَ : لَا


عِلْمَ لِي بِهَا ، أُحْلِفَ الْمُدَّعِي مَعَ شَاهِدِهِ الْآخَرِ وَقُضِيَ لَهُ بِالْأَلْفِ الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ قَالَ : قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَهَا وَلَكِنْ قَبْضَهَا مِنَ الْمُقِرِّ بِهَا فَشَهِدْتُ بِالْأَلْفِ الْبَاقِيَةِ ، وَلَمْ أَشْهَدْ بِالْأَلْفِ الْمَقْبُوضَةِ ، قِيلَ لِلْمُدَّعِي قَدْ حَصَلَ لَكَ أَلْفٌ بِشَاهِدَيْنِ ، وَأَلْفٌ ثَانِيَةٌ بِشَاهِدٍ وَعَلَيْكَ بِقَبْضِهَا شَاهِدٌ ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ مَعَ شَاهِدِهِ لَمْ يُحْكَمْ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَكْمُلْ ، وَإِنْ أَجَابَ إِلَى الْيَمِينِ مَعَ شَاهِدِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُحَلِّفَهُ مَعَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَلِّفَهُ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِقَبْضِهَا قَدْ قَابَلَ الشَّاهِدَ فِي إِثْبَاتِهَا فَتَعَارَضَا فَلَمْ يَجُزْ إِحْلَافُهُ مَعَ الشَّهَادَةِ وَتَعَارُضِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُحَلِّفُهُ ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ مَعَ شَاهِدِهِ لِكَمَالِ بَيِّنَةٍ فَجَرَتْ مَجْرَى شَاهِدٍ آخَرَ . وَلَا يَجُوزُ لِحَاكِمٍ أَنْ يَمْنَعَ شَاهِدًا ثَانِيًا أَنْ يَشْهَدَ بِهَا فَكَذَا لَا يَمْنَعُ الْمُدَّعِيَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا ، فَعَلَى هَذَا إِذَا أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ مَعَ شَاهِدِهِ فَقَدْ تَمَّتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَيُقَالُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ قَدْ لَزِمَتْكَ أَلْفٌ ثَانِيَةٌ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَلَكَ أَنْ تَدْفَعَهَا بِشَاهِدٍ فَإِنْ حَلَفْتَ مَعَهُ تَمَّتْ بَيِّنَتُكَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَسَقَطَتْ عَنْكَ وَإِنْ لَمْ تَحْلِفْ لَزِمَتْكَ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ بِهَا عَلَيْكَ تَامَّةٌ ، وَالْبَيِّنَةُ لَكَ بِدَفْعِهَا غَيْرُ تَامَّةٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى مِنْهُ أَلْفًا فَشَهِدَ لَهُ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ بِاقْتِصَارِهِ فِي الدَّعْوَى عَلَى أَلْفٍ مُكَذِّبًا لِلشَّاهِدِ لَهُ بِأَلْفَيْنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلزِّيَادَةِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَا ادَّعَى ، فَعَلَى هَذَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَيْنِ وَيَبْقَى مَعَهُ الشَّاهِدُ بِالْأَلْفِ ، فَيَحْلِفُ مَعَهُ وَيَسْتَحِقُّهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُكَذِّبًا لَهُ لِجَوَازِ اقْتِصَارِهِ فِي الدَّعْوَى عَلَى بَعْضِ حَقِّهِ وَلِجَوَازِ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمِ الشَّاهِدُ بِقَبْضِهِ إِلَّا أَنْ يَظْهَرَ فِي الدَّعْوَى تَكْذِيبُ الشَّاهِدِ مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ ثَمَنَ عَبْدِهِ أَلْفًا فَيَشْهَدُ بِأَنَّ ثَمَنَهُ أَلْفَانِ فَتُرَدُّ الشَّهَادَةُ لِتَكْذِيبِهِمَا بِالدَّعْوَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ تَكَفَّلَ لَهُ بِمَالٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ وَأَنْكَرَ الْمَكْفُولُ لَهُ الْخِيَارَ فما الحكم فَمَنْ جَعَلَ الْإِقْرَارَ وَاحِدًا أَحْلَفَهُ عَلَى الْخِيَارِ وَأَبْرَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِخِيَارٍ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بِبَعْضِ إِقْرَارِهِ أَلْزَمَهُ مَا يَضُرُّهُ وَأَسْقَطَ مَا ادَّعَى الْمُخْرِجُ بِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفْ أَنَّ الْإِقْرَارَ وَاحِدٌ وَكَذَا قَالَ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْخِيَارِ أَنَّ


الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَقَدْ قَالَ إِذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ فَوَصَفَهُ وَوَصَلَهُ قَبْلَ قَوْلِهِ ، وَلَمْ أَجْعَلْ قَوْلًا وَاحِدًا إِلَّا حُكْمًا وَاحِدًا وَمَنْ قَالَ أَجْعَلُهُ فِي الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ مُقِرًّا وَفِي الْأَجَلِ مُدَّعِيًا لَزِمَهُ إِذَا أَقَرَّ بِدِرْهَمِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَزِمَهُ فَإِنْ وَصَلَ إِقْرَارُهُ بِأَنْ يَقُولَ طَبَرِيٌّ جَعَلَهُ مُدَّعِيًا ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى نَقْصًا مِنْ وَزْنِ الدِّرْهَمِ وَمِنْ عَيْنِهِ وَلَزِمَهُ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا عَشْرَةٌ أَنْ يُلْزِمَهُ أَلْفًا وَلَهُ أَقَاوِيلُ كَذَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الضَّمَانَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَاطِلٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : جَائِزٌ لِدُخُولِ الضَّامِنِ فِيهِ عَلَى شَرْطِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ أَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَبَطَلَ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ كَالرَّهْنِ ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ يَقْتَضِي اللُّزُومَ ، وَالْإِثْبَاتَ ، وَالْخِيَارُ يُنَافِي اللُّزُومَ ، وَالْإِثْبَاتَ ، وَإِذَا انْضَمَّ إِلَى الْعَقْدِ مَا يُنَافِيهِ أَبْطَلَهُ ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ مَوْضُوعٌ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ وَطَلَبِ الْحَظِّ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَلِذَلِكَ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الثَّلَاثِ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ بِهَا وَمُخْتَصًّا بِالْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَيْسَ الضَّمَانُ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ يُسْتَدْرَكُ بِالْخِيَارِ فِيهِ الْمُعَايَنَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِاشْتِرَاطِهِ كَالنِّكَاحِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ ضَمَانَ مَالٍ فما الحكم ضَمِنَ تَمَامَ الدَّعْوَى أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ الْمَالِ الْمَضْمُونِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَجْهُولِ عِنْدَنَا بَاطِلٌ وَلُزُومُهُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ مَا لَا يَلْزَمُ بَاطِلٌ فَتَصِحُّ الدَّعْوَى حِينَئِذٍ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ وَلَيْسَ تَسْمِيَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ شَرَطًا فِي الدَّعْوَى عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَإِذَا كَمُلَتِ الدَّعْوَى بِأَنْ قَالَ : ضَمِنَ لِي أَلْفَا دِينَارٍ عَلَى غَرِيمٍ . سُئِلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الضَّمَانَ عَنْهَا ، فَإِذَا أَنْكَرَ حَلَفَ وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالضَّمَانِ عَلَى شَرْطِ الْخِيَارِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَسَائِلَ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَقُولَ قَدْ ضَمِنْتُ إِلَّا بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، أَوْ يَقُولُ : إِنَّمَا ضَمِنْتُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ إِنَّمَا فَمَعْلُومٌ مِنْ صِيغَةِ كَلَامِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ الضَّمَانَ بِغَيْرِهِ فَتَصِيرُ الصِّلَةُ لِتَقَدُّمِ أَمَارَتِهَا كَالْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَقْبُولًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْقَوْلِ ضَمَانٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُقِرَّ بِالضَّمَانِ مُطْلَقًا ثُمَّ يَدَّعِي بَعْدَ انْفِصَالِ كَلَامِهِ أَنَّ ضَمَانَهُ كَانَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَقَدْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ بِالْإِقْرَارِ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْخِيَارِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفِ فِيهِ الْمَذْهَبُ كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُقِرَّ بِالضَّمَانِ مَوْصُولًا بِالْخِيَارِ فَيَقُولُ : ضَمِنْتُ لَهُ أَلْفًا عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُدَّعِي عَلَى الْخِيَارِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ وَإِنْ كَذَّبَهُ عَلَى الْخِيَارِ وَادَّعَى إِطْلَاقَ الضَّمَانِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ :


أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ فِي ادِّعَاءِ الْخِيَارِ مَقْبُولٌ وَإِقْرَارَهُ بِالضَّمَانِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُجْمَلٍ فِي كَلَامِهِ عُرْفًا فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ شَرَعَا كَالِاسْتِثْنَاءِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ صِلَةُ إِقْرَارِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَقْبُولَةً فِي رَفْعِ الْإِقْرَارِ كَانَ صِلَتَهُ بِمَا يَصِلُ مِنْ حُكْمِهِ مِنَ الْخِيَارِ مَقْبُولَةً فِي بُطْلَانِ الضَّمَانِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِقْرَارُهُ بِالْبَيْعِ إِذَا وَصَلَهُ بِصِفَةٍ يَبْطُلُ مَعَهَا مَقْبُولًا ، وَلَا يُجْعَلُ فِي الْبَيْعِ مُقِرًّا وَفِي الْفَسَادِ مُدَّعِيًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ بِالضَّمَانِ إِذَا وَصَلَهُ بِمَا يَبْطُلُ مَعَهُ مَقْبُولًا ، وَلَا يُبَعَّضُ إِقْرَارُهُ فَيُجْعَلُ فِي الضَّمَانِ مُقِرًّا وَفِي الْخِيَارِ مُدَّعِيًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ فِي ادِّعَاءِ الْخِيَارِ مَرْدُودٌ وَإِقْرَارَهُ بِالضَّمَانِ لَازِمٌ يَنْقُضُ إِقْرَارَهُ وَيَحْلِفُ لَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِمَا يَضُرُّهُ لَزِمَهُ وَمَنِ ادَّعَى مَا يَنْفَعُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَهُوَ فِي الضَّمَانِ مُقِرٌّ بِمَا يَضُرُّهُ وَفِي الْخِيَارِ مَعَ مَا يَنْفَعُهُ ، وَلِأَنَّهُ أَسْقَطَ أَوَّلَ كَلَامِهِ بِآخِرِهِ فَصَارَ كَاسْتِثْنَاءِ جَمِيعِ مَا أَقَرَّ بِهِ . وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي تَبْعِيضِ الْإِقْرَارِ إِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ قَضَيْتُهُ إِيَّاهَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَا يُبَعَّضُ إِقْرَارُهُ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَيُبَعَّضُ عَلَيْهِ إِقْرَارُهُ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ ، أَوْ خِنْزِيرٍ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَأَمَّا إِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ إِلَى سَنَةٍ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَخَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ وَيُقْبَلُ مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّأْجِيلِ شَيْءٌ مِنَ الْإِقْرَارِ . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَرَائِنَ ، وَالصَّلَاةَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يُقْبَلُ فِي الِاتِّصَالِ ، وَالِانْفِصَالِ وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِمَالٍ ثُمَّ يَقُولُ : مِنْ شَرِكَةٍ كَذَا ، فما الحكم فَيُقْبَلُ مِنْهُ وَصْلٌ ، أَوْ فَصْلٌ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يُقْبَلُ فِي الِاتِّصَالِ ، وَالِانْفِصَالِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا أَلْفًا ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَصْلٌ ، أَوْ فَصْلٌ لِفَسَادِهِ فِي الْكَلَامِ وَإِحَالَتِهِ فِي مَفْهُومِ الْخِطَابِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يُقْبَلُ فِي الِاتِّصَالِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الِانْفِصَالِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالنَّقْصِ ، وَالزَّيْفِ ، وَمَا لَا يَرْفَعُ جَمِيعَ الْإِقْرَارِ إِنْ وَصَلَ قُبِلَ ، وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُقْبَلْ ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ وَاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ ؟ قِيلَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْبَعْضِ مَسْمُوعٌ فِي الْكَلَامِ وَصَحِيحٌ فِي مَفْهُومِ الْخِطَابِ فَجَازَ وَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ غَيْرُ مَسْمُوعٍ فِي كَلَامِهِمْ ، وَلَا يَصِحُّ فِي مَفْهُومِ خِطَابِهِمْ فَبَطَلَ لِإِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا صَحِيحًا .


وَالثَّانِي : أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْبَعْضِ مُثْبِتٌ لِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَصَحَّ وَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مُبْطِلٌ لِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَصِحُّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا لَا يُقْبَلُ فِي الِانْفِصَالِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي قَبُولِهِ فِي الِاتِّصَالِ وَهُوَ مَا رَفَعَ جَمِيعَ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ ، وَالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وَكَانَ صَحِيحًا فِي كَلَامِ النَّاسِ وَمَفْهُومِ خِطَابِهِمْ كَقَوْلِهِ : ضَمِنْتُ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ، أَوْ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ ، أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ قَضَيْتُهُ ، أَوْ : لَهُ عَلَيَّ مَالٌ مُؤَجَّلٌ ، فَهَذَا قَدْ يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَصِحُّ فِي كَلَامِهِمْ وَإِنَّمَا بَطَلَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لَا بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ وَاسْتِحَالَةُ الْكَلَامِ بِاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ الَّذِي هُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي الْكَلَامِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ إِنِ اتَّصَلَ : أَحَدُهُمَا : يُقْبَلُ لِصِحَّتِهِ فِي الْكَلَامِ . وَالثَّانِي : لَا يُقْبَلُ جَمْعًا بَيْنَ مَا رَفَعَ أَوَّلَ كَلَامِهِ لَفْظًا وَبَيْنَ مَا رَفَعَهُ حُكْمًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ قَبُولَ إِقْرَارِهِ فِي الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَبْعِيضٍ ثُمَّ احْتَجَّ لِنُصْرَتِهِ بِالْبَيْعِ إِذَا أَقَرَّ بِهِ الْبَائِعُ بِخِيَارٍ ادَّعَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِيهِ . فَيُقَالُ لِلْمُزْنِيِّ : إِنْ أَرَدْتَ خِيَارَ الثَّلَاثِ الْجَائِزَ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَإِنْ أَرَدْتَ خِيَارَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمُبْطِلَ لِلْعَقْدِ فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ فِيهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ ، وَالضَّمَانِ أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُمَلِّكُ بِهِ عِوَضَ مَا مُلِكَ عَلَيْهِ وَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي فَسَادِهِ لِرُجُوعِهِ إِلَى الْعِوَضِ وَلَيْسَ كَالضَّمَانِ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ لِنَفْسِهِ مَا يَبْطُلُ لِبُطْلَانِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي فَسَادِهِ ثُمَّ قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَلَا أَجْعَلُ قَوْلًا وَاحِدًا إِلَّا حُكْمًا وَاحِدًا وَهَذَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ بِاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ ضَمِنَ لَهُ عُهْدَةَ دَارٍ اشْتَرَاهَا وَخَلَاصَهَا وَاسْتُحِقَّتْ فما الحكم رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الضَامِنِ إِنْ شَاءَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : ضَمَانُ دَرْكِ الْبَيْعِ جَائِزٌ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ وَضَمَانُ الدَّرْكِ ، وَالْعُهْدَةِ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ وَإِنِ اخْتَلَفَا لَفْظًا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ ضَمَانِ الْعُهْدَةِ فَقَالَ : مَا أَدْرِي مَا الْعُهْدَةُ ، الْعُهْدَةُ الْكِتَابُ ، فَكَأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ ضَمَانِ الدَّرْكِ بِضَمَانِ الْعُهْدَةِ وَهَذِهِ عِبَارَةٌ قَدْ أَلَّفَهَا النَّاسُ وَاتَّسَعُوا فِيهَا فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهَا مَعَ أَنَّ إِنْكَارَ الْعِبَارَةِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْحُكْمِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : ضَمَانُ الدَّرْكِ حكمه بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَا يَجِبُ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَحِقَّ ، أَوْ لَا يَسْتَحِقَّ .


وَالثَّانِي : أَنَّهُ ضَمَانٌ مَجْهُولٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْكُلِّ ، أَوِ الْبَعْضِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَزُفَرُ : إِنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ صَحَّ وَإِنَّ ضَمِنَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بَطَلَ ، لِالْتِزَامِهِ حُكْمَ عَقْدِهِ وَهَذَا خَطَأٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ صَحَّ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِهِ ، وَالضَّرُورَةُ تَدْعُو إِلَى ضَمَانِ الدَّرْكِ لِمَا لِلنَّاسِ مِنْ حَاجَةٍ مَاسَّةٍ إِلَى التَّوَثُّقِ فِي أَمْوَالِهِمْ ، وَقَدْ لَا يُوثَقُ بِذِمَّةِ الْبَائِعِ لِهَوَانِهَا فَاحْتِيجَ إِلَى التَّوْثِيقِ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ ، وَالْوَثَائِقُ ثَلَاثٌ : الشَّهَادَةُ ، وَالرَّهْنُ ، وَالضَّمَانُ . وَالشَّهَادَةُ إِنَّمَا تُقَيِّدُ التَّوْثِيقَ مِنْ ذِمَّتِهِ لَا غَيْرَ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ ، وَالرَّهْنُ فِيهِ اسْتِدَامَةُ ضَرَرٍ لِاحْتِبَاسِهِ إِلَى مُدَّةٍ لَا يُعْلَمُ غَايَتُهَا وَأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَصِلُ إِلَى غَرَضِهِ مِنَ الثَّمَنِ إِذَا أَعْطَاهُ رِهَانَهُ وَهَذَا الضَّرَرُ زَائِلٌ عَنِ الضَّمَانِ ، وَالتَّوَثُّقُ الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِهِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ وَجَوَازِهِ ، وَلَا يَكُونُ ضَمَانًا مَوْقُوفًا كَمَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا حِينَ الْعَقْدِ فَالضَّمَانُ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ فَلَا ضَمَانَ فَلَمْ يَتَرَدَّدْ بَيْنَ حَالٍ نَظَرًا فَيَصِيرُ مَوْقُوفًا ، وَلَا يَكُونُ ضَمَانًا مَجْهُولًا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَعْلُومٌ وَيَكُونُ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِهِ مُفْضِيًا إِلَى جَهَالَتِهِ كَمَا يَكُونُ ضَمَانُهُ إِذَا قَامَتْ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ بَيِّنَةٌ بِأَدَاءِ بَعْضِهِ فَسُقُوطُ الضَّمَانِ فِيهِ مُفْضٍ إِلَى جَهَالَتِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ جَائِزٌ فَهُوَ مُوجِبٌ لِغُرْمِ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَسَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعُثْمَانِ الْبَتِّيِّ أَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ مُوجِبٌ لِتَخْلِيصِ الْمَبِيعِ مَا كَانَ مَوْجُودًا إِلَّا أَنْ يَتْلَفَ فَيَغْرَمُ مِثْلَهُ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا ، أَوْ عَقَارًا . وَحُكِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ : أَنَّ ضَامِنَ الدَّرْكِ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ ضَمَانِهِ لَزِمَهُ تَخْلِيصُ الْمَبِيعِ . وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ غَرِمَ ثَمَنَهُ . وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ مُوجِبٌ لِفَسَادِ الْعَقْدِ وَفَسَادُهُ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ مَا تَضَمَّنَهُ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِالْمَدْفُوعِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْتَحَقِّ غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَ امْتِنَاعِ الْمُسْتَحِقِّ فَلَمْ يَنْصَرِفِ الضَّمَانُ إِلَيْهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ ضَمِنَ لَهُ خَلَاصَ الْمَبِيعِ فَقَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى جَوَازِهِ وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَقَالَ بِهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ ضَمِنَ لَهُ عُهْدَةَ دَارِهِ وَخَلَاصِهَا وَهَذَا خَطَأٌ عَلَيْهِ فِي التَّأْوِيلِ ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْخَلَاصِ إِنَّمَا هُوَ خَلَاصُ مَا يَجِبُ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنَ الثَّمَنِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ : فَالثَّمَنُ عَلَى الضَّامِنِ ؟ وَإِنَّمَا بَطَلَ ضَمَانُ خَلَاصِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ مُوجِبٌ لِغُرْمِ الثَّمَنِ فَالْمُشْتَرِي يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الِاسْتِحْقَاقُ . وَالْإِقَالَةُ . وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ .



فَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ بِكَوْنِ الْمَبِيعِ مَغْصُوبًا فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى ضَامِنِ الدَّرْكِ ، وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الرُّجُوعِ عَلَى الضَّامِنِ ، أَوِ الْبَائِعِ ؟ وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فِيهَا عَلَى الْبَائِعِ دُونَ ضَامِنِ الدَّرْكِ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ فِيهَا مُسْتَحَقٌّ بِتَرَاضِيهِمَا فَلَمْ يُضْطَّرَّ الْمُشْتَرِي إِلَى اسْتِدْرَاكِ حَقِّهِ بِضَمَانِ الدَّرْكِ . وَأَمَّا الْفَسْخُ بِالْعَيْبِ فَفِي الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَلَى ضَامِنِ الدَّرْكِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُرْجَعُ بِهِ عَلَى ضَامِنِ الدَّرْكِ ؛ لِأَنَّهُ يُرْجَعُ بِهِ جَبْرًا مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ فَصَارَ كَالِاسْتِحْقَاقِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُرْجَعُ بِهِ عَلَى صَاحِبِ الدَّرْكِ ؛ لِأَنَّ رَدَّهُ وَاسْتِحْقَاقَ ثَمَنِهِ عَنْ رِضًى مِنْهُ وَاخْتِيَارٍ كَالْإِقَالَةِ . وَهَكَذَا الرُّجُوعُ بِأَرْضِ الْعَيْبِ عَلَى ضَامِنِ الدَّرْكِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ بَعْضِ الْمَبِيعِ فَمُوجِبٌ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِيهِ وَفِي قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ فِي الْجَمِيعِ ، فَعَلَى هَذَا يُرْجَعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عَلَى ضَامِنَ الدَّرْكِ . وَالثَّانِي : بَاطِلٌ فِي الْمُسْتَحَقِّ صَحِيحٌ فِي الْبَاقِي ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِهِ عَيْبًا فِي بَاقِيهِ فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ فِيهِ ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ رَجَعَ بِثَمَنِ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى ضَامِنِ الدَّرْكِ وَإِنْ فَسَخَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِثَمَنِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ مَا فُسِخَ فِيهِ الْبَيْعُ مِنْ بَاقِيهِ ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ :

فَصْلٌ : وَإِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ أَرْضًا فَبَنَى فِيهَا وَغَرَسَ ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ فما الحكم مِنْهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِ غَرْسِ الْمُشْتَرِي وَبِنَائِهِ ، فَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ : لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَتِهِ قَائِمًا عَلَى الْبَائِعِ وَيَكُونُ الْمُسْتَحِقُّ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَخْذِ الْغَرْسِ مِنَ الْبَائِعِ وَقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا وَبَيْنَ إِجْبَارِهِ عَلَى قَلْعِهِ . وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي جَاهِلًا بِالْغَصْبِ عِنْدَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ كَانَ الْمُشْتَرِي مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ قَائِمًا ، أَوْ يُقِرَّهُ فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْغَرْسِ ، وَالْبِنَاءِ ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَخَذَ بِالْقَلْعِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى عَلَى الْبَائِعِ فِي الْحَالَيْنِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَأْخُوذٌ بِقَلْعِ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ وَغَرِمَ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْأَرْضِ بِقَلْعِهِ عَالِمًا بِالْحَالِ ، أَوْ جَاهِلًا ، ثُمَّ لَهُ إِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالْحَالِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا بَيْنَ قِيمَةِ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ قَائِمًا وَمَقْلُوعًا وَبِمَا غَرِمَ مِنْ نَقْصِ الْأَرْضِ بِالْقَلْعِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَلْجَأَهُ


بِالْغُرُورِ إِلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ اطِّرَادًا وَأَقْوَاهَا حِجَاجًا ثُمَّ لَا رُجُوعَ لِلْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى ضَامِنِ الدَّرْكِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ بِغُرْمٍ وَجَبَ بِالْغُرُورِ وَلَيْسَ يَضْمَنُ مُسْتَحِقُّ الْعَقْدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ أَقَرَّ أَعْجَمِيٌّ بِأَعْجَمِيَّةٍ فما الحكم كَانَ كَالِإِقْرَارِ بِالْعَرَبِيَّةِ الْعَقْلِ فَهُوَ عَلَى الصَحَّةِ حَتَى يَعْلَمَ غَيْرَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [ الرُّومِ : 22 ] ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ مَوْضُوعٌ لِيُبَيِّنَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ عَنْ غَرَضِهِ فَاسْتَوَى فِيهِ كُلُّ كَلَامٍ فُهِمَ عَنْ قَائِلِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِيمَانُ الْأَعْجَمِيِّ بِلِسَانِهِ كَالْعَرَبِيِّ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ بِلِسَانِهِ كَالْعَرَبِيِّ الأعجمي فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَسَوَاءٌ أَقَرَّ بِالْأَعْجَمِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَا فِي لُزُومِ إِقْرَارِهِ لَهُ ، وَهَكَذَا الْعَرَبِيُّ إِذَا أَقَرَّ بِالْأَعْجَمِيَّةِ حكم إقراره لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ فَأَمَّا الْعَرَبِيُّ الَّذِي لَا يُحْسِنُ بِالْأَعْجَمِيَّةِ إِذَا أَقَرَّ بِالْأَعْجَمِيَّةِ أَنَّهُ يُسْأَلُ : هَلْ قَصَدَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالَ : أَعْرِفُهُ ، لَزِمَهُ إِقْرَارُهُ ، وَإِنْ قَالَ : لَسْتُ أَعْرِفُهُ وَإِنَّمَا جَرَى لِسَانِي بِهِ قُبِلَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ . وَهَكَذَا الْأَعْجَمِيُّ إِذَا أَقَرَّ بِالْعَرَبِيَّةِ سُئِلَ ، فَإِنْ قَالَ : عَرَفْتُ مَعْنَى مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ لَزِمَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ لَازِمٌ فما الحكم لَمْ يَخْلُ حَالُ الْحَاكِمِ الْمُقَرِّ عِنْدَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِهِ أَمْ لَا . فَإِذَا كَانَ عَارِفًا بِهِ اكْتَفَى بِمَعْرِفَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ احْتَاجَ إِلَى تُرْجُمَانٍ يُتَرْجِمُ لَهُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهِ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجَزِئُ تُرْجُمَانٌ وَاحِدٌ إذا أقر بغير العربية ولم يكن الحاكم عارفا بلسانه وَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْخَبَرِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجْزِي أَقَلُّ مِنْ تُرْجُمَانَيْنِ في حالة الإقرار بالأعجمية اعْتِبَارًا بِالشَّهَادَةِ لِمَا فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ إِثْبَاتٍ لِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ لِيُجْبَرَ عَلَى الْحُكْمِ وَخَالَفَ مَعْنَى الْخَبَرِ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الْمُخْبِرُ ، وَالْمُخْبَرُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِهِ ، وَلَمْ يَقُولُوا بِأَنَّهُ صَحِيحٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْأَوْلَى بِالشُّهُودِ إِذَا شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَلَمْ يَسْتَوْفُوا الشَّهَادَةَ بِمَا يَنْفِي عَنْهَا الِاحْتِمَالَ فَيَقُولُونَ : أَشْهَدْنَا وَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ جَائِزُ التَّصَرُّفِ فما الحكم فَإِنْ أَطْلَقُوا الشَّهَادَةَ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا صِحَّةَ الْعَقْلِ وَجَوَازَ الْأَمْرِ جَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَهَا . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِهَا لِاحْتِمَالٍ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَجْنُونًا ، أَوْ مُكْرَهًا . وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :


أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَغْلَبِ مِنْ ظَاهِرِ الْحَالِ ، وَالْأَغْلَبُ السَّلَامَةُ ، وَالصِّحَّةُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ مَا تَحَمَّلُوا إِلَّا عِنْدَ وُجُوبِ إِثْبَاتِهِ وَلُزُومِ الْحُكْمِ بِهِ غَيْرَ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْحَاكِمِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَأْمُرَ الشُّهُودَ بِإِكْمَالِ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَلْقِينٍ لَهُمْ لِيَزُولَ الْخِلَافُ وَيَنْتَفِيَ الِاحْتِمَالُ . وَإِنْ جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْحُكْمِ بِهَا : فَإِنِ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْجُنُونَ عِنْدَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ فما الحكم لَمْ يَقْبَلْ دَعْوَاهُ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ حَتَّى يَعْلَمَ خِلَافَهَا ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ ، وَالْجُنُونَ عَارِضٌ . وَلَوِ ادَّعَى الْإِكْرَاهَ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ : يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْجُنُونِ ، وَالْإِكْرَاهِ ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْمُكْرَهِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَأَحْكَامَ الْمَجْنُونِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا . وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ مَا احْتَمَلَتْهُ الشَّهَادَةُ مِنْ مَعَانِي الرَّدِّ فَهُوَ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِهَا كَالْجَهَالَةِ بِالْعَدَالَةِ وَفِي إِنْفَاذِ الْحُكْمِ بِهَا مَانِعٌ مِنِ احْتِمَالِ الْإِكْرَاهِ كَمَا فِي إِنْفَاذِهِ مَانِعٌ مِنِ احْتِمَالِ الْجُنُونِ وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ فَقْدَ الْعَقْلِ أَظْهَرَ لَكَانَ أَعْذَرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالَيْنِ عُذْرٌ .

فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ : لِفُلَانٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ ، وَأَخَذَهُ الْحَاكِمُ بِالْبَيَانِ فَقَالَ : هُوَ بَابٌ ، أَوْ جِذْعٌ ، أَوْ قُمَاشٌ ، أَوْ إِيجَارَةُ سَنَةٍ ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا أَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى فِي الشَّرِكَةِ كَمَا لَوْ قَالَ : لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ سَهْمٌ . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ شَائِعٌ ، وَالْحَقَّ مُتَمَيِّزٌ .

فَصْلٌ : وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا مِائَةً قَضَيْتُهُ إِيَّاهَا ، فما الحكم قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكُونُ مُقِرًّا بِالْأَلْفِ مُدَّعِيًا لِقَضَاءِ مِائَةٍ فَأُلْزِمُهُ الْأَلْفَ ، وَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْقَضَاءِ فَجُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقَضَاءِ دُونَ الْمَقْضِيِّ . وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً صَحِيحًا يَرْجِعُ إِلَى الْمَقْضِيِّ دُونَ الْقَضَاءِ وَصْفًا وَسَبَبًا لِصِحَّتِهِ وَلَوْ أَمْسَكَ عَنْهُ وَعُدِمَ مَا ذَكَرَهُ مُنِعَ مِنْهُ فَيَصِيرُ مُقِرًّا بِتِسْعِمِائَةٍ قَدِ ادَّعَى قَضَاءَهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ إِقْرَارِ الْوَارِثِ بِوَارِثٍ

مَسْأَلَةٌ إِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَادَّعَى ثَالِثٌ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ وَأَخُو الِابْنَيْنِ



بَابُ إِقْرَارِ الْوَارِثِ بِوَارِثٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : الَّذِي أَحْفَظُ مِنْ قَوْلِ الْمَدَنِيِّينَ فِيمَنْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدَهُمَا بِأَخٍ أَنَّ نَسَبَهُ لَا يَلْحَقُ ، وَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَعْنَى إِذَا ثَبَتَ وَرِثَ وَوَرَّثَ فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ عَلَيْهِ حَقٌّ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ وَهَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ عِنْدَنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ بَاعَ دَارًا مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ فَجَحَدَ الْمُقَرُّ لَهُ الْبَيْعَ فَلَمْ نُعْطِهِ الدَّارَ وَإِنْ أَقَرَّ صَاحِبُهَا لَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِنَّهَا مِلْكٌ لَهُ إِلَّا وَمَمْلُوكٌ عَلَيْهِ بِهَا شَيْءٌ فَلَمَّا سَقَطَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا عَلَيْهِ سَقَطَ الْإِقْرَارُ لَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَادَّعَى ثَالِثٌ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ وَأَخُو الِابْنَيْنِ ، فَلِصِحَّةِ دَعْوَاهُ شَرْطَانِ إِنْ لَمْ يُوجَدَا بَطَلَتْ : أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ : أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ يَجُوزُ أَنْ يُولَدَ لِمِثْلِ الْمَيِّتِ بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَ سِنَّيْهِمَا زَمَانٌ أَقَلُّهُ عَشْرُ سِنِينَ فَصَاعِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُولَدَ لِمَنْ لَهُ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ . فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ فَدَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ لِاسْتِحَالَتِهَا . وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مَجْهُولَ النَّسَبِ لِيَصِحَّ أَنْ يَلْحَقَ نَسَبُهُ بِمَنْ يَدَّعِيهِ فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ فَدَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ لِبُطْلَانِهَا . فَإِذَا اجْتَمَعَ الشَّرْطَانِ صَحَّتِ الدَّعْوَى وَسُمِعَتْ عَلَى الِابْنَيْنِ ، وَلَا يَخْلُو حَالُ الِابْنَيْنِ فِي جَوَازِ الدَّعْوَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يُقِرَّا بِهِ . أَوْ يُنْكِرَاهُ . أَوْ يُقِرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا وَيُنْكِرَهُ الْآخَرُ . فَإِنْ أَقَرَّا بِهِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَشَارَكَهُمَا فِي الْإِرْثِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْخِلَافَ فِيهِ مِنْ بَعْدُ . وَإِنْ أَنْكَرَاهُ فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ وَهِيَ إِنْ كَانَتْ عَلَى إِقْرَارِ الْمَيِّتِ عَدْلَانِ لَا غَيْرَ ، وَإِنْ كَانَتْ وِلَادَتُهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَعَدْلَانِ ، أَوْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ثُمَّ يُحْكَمُ


لَهُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ ، فَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي لَمْ يَسْتَحِقَّ الِابْنَانِ إِرْثَهُ مَا أَقَامَا عَلَى الْإِنْكَارِ فَإِنْ رَجَعَا عَنْهُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ وَرِثَاهُ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أُحْلِفَ الِابْنَانِ عَلَى إِنْكَارِ نَسَبِهِ عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ فَإِنْ حَلَفَا فَهُوَ مَدْفُوعُ النَّسَبِ عَنْهُمَا ، وَإِنْ نَكَلَا رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ . فَإِنْ حَلَفَ فَيَمِينُهُ عَلَى الْبَتِّ دُونَ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينُ إِثْبَاتٍ وَثَبَتَ نَسَبُهُ وَاسْتَحَقَّ الْإِرْثَ ، وَإِنْ نَكَلَ فَهُوَ مَدْفُوعُ النَّسَبِ عَنْهُمَا ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ حَلَفَ وَنَكَلَ الْآخَرُ لَمْ تُرَدَّ يَمِينُهُ عَلَى الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ ، وَلَا يُسْتَحَقُّ بِهَا إِرْثٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا إِنْ أَقَرَّ بِهِ أَحَدُ الِابْنَيْنِ وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ من ادعى أنه أخ لهما فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَيَسْتَحِقُّ إِحْلَافَ الْمُنْكِرِ ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إِجْمَاعًا مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُنْكِرِ نُكُولٌ . وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَسْتَحِقُّ مُشَارَكَةَ الْمُقِرِّ فِي الْمِيرَاثِ ؟ . فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَسْتَحِقُّ مُشَارَكَتَهُ ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْهُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْتَحِقُّ نِصْفَهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَسْتَحِقُّ ثُلُثَهُ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ : أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ مِيرَاثِ الْمُقِرِّ شَيْئًا . وَأَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ ( وَالَّذِي أَحْفَظُ مِنْ قَوْلِ الْمَدَنِيِّينَ ) مَنْ تَقَدَّمَ مَالِكًا مِنَ الْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّهُ عَاصَرَ مَالِكًا فَرَدَّ قَوْلَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَالَفَ مَنْ قَبْلَهُ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ الْمُقَرَّ بِهِ وَارِثًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَسَبُهُ ثَابِتًا بِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَضْمَّنَ شَيْئَيْنِ : نَسَبًا وَإِرْثًا . فَإِذَا رَدَّ إِقْرَارَهُ بِالنَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يُوجِبْ رَدَّ إِقْرَارِهِ بِالْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ . وَالْأُصُولُ تَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ أَلَا تَرَى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : بِعْتُكَ نَفْسَكَ بِأَلْفٍ وَأَنْكَرَ الْعَبْدُ فما الحكم لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْعَبْدِ بِادِّعَاءِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ . وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفٍ ، فما الحكم وَأَنْكَرَتْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَلْفِ وَلَزِمَهُ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ أُخْتِي مِنَ الرَّضَاعَةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهَا فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ وَلَزِمَهُ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّحْرِيمِ . وَلَوِ ادَّعَى بَيْعَ شِقْصٍ مِنْ دَارٍ عَلَى رَجُلٍ أَنْكَرَهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ فِي ادِّعَاءِ الثَّمَنِ وَلَزِمَهُ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي تَسْلِيمِ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ . قَالُوا فَكَانَتْ شَوَاهِدُ الْأُصُولِ تُوجِبُ قِيَاسًا عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ الْإِرْثَ مَعَ انْتِفَاءِ النَّسَبِ .


وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ إِقْرَارٌ يُفْضِي إِلَى ثُبُوتِ حَقَّيْنِ يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا فَجَازَ إِذَا انْتَفَى مَا يَخْتَصُّ بِغَيْرِهِ أَنْ يُلْزِمَهُ مَا اخْتَصَّ بِنَفْسِهِ كَالشَّوَاهِدِ الْمَذْكُورَةِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ قَدْ يُوجِبُ أَحْكَامًا ثَلَاثَةً : مِنْهَا الْعِتْقُ . وَمِنْهَا التَّحْرِيمُ . وَمِنْهَا الْمِيرَاثُ . ثُمَّ كَانَ الْعِتْقُ ، وَالتَّحْرِيمُ قَدْ يَثْبُتَانِ مَعَ انْتِفَاءِ مُوجِبِهِمَا مِنَ النَّسَبِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأُخُوَّةِ عَبْدٍ تَرَكَهُ أَبُوهُ ، عُتِقَ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ إِقْرَارُهُ بِنَسَبِهِ . وَمَنْ أَقَرَّ بِأُخُوَّةِ امْرَأَةٍ أَنْكَرَتْهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمِيرَاثُ بِمَثَابَتِهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِهِ مَعَ انْتِفَاءِ مُوجِبِهِ مِنَ النَّسَبِ ، وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ ثُبُوتُ النَّسَبِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ مَعَ انْتِفَائِهِ كَالْعِتْقِ ، وَالتَّحْرِيمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا أَوْجَبَ عِتْقَ النَّسَبِ . وَتَحْرِيمَهُ أَوْجَبَ إِرْثَهُ كَالنَّسَبِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْإِرْثَ قَدْ يُسْتَحَقُّ بِنَسَبٍ وَسَبَبٍ فَلَمَّا كَانَ اعْتِرَافُ أَحَدِهِمَا بِالزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ إِرْثَهَا مِنْ حَقِّهِ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتِ الزَّوْجِيَّةُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَافُهُ بِالنَّسَبِ يُوجِبُ إِرْثَهُ مِنْ حَقِّهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ . وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا أَوْجَبَ الْإِرْثَ مَعَ ثُبُوتِهِ جَازَ أَنْ يُوجِبَهُ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِهِ كَالزَّوْجِيَّةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِقْرَارٌ أَوْجَبَ الْإِرْثَ بِالزَّوْجِيَّةِ فَاقْتَضَى أَنْ يُوجَبَ الْإِرْثُ بِالنَّسَبِ كَقَرَارِهِمَا . قَالُوا : وَلِأَنَّ التَّرِكَةَ قَدْ تُسْتَحَقُّ بِسَبَبَيْنِ إِرْثٍ وَدَيْنٍ ، فَلَمَّا كَانَ إِقْرَارُ أَحَدِهِمَا بِالدَّيْنِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْتِزَامَ حِصَّتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ بِالْإِرْثِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْتِزَامَ حِصَّتِهِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتُحِقَّتْ بِهِ التَّرِكَةُ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ إِقْرَارُ أَحَدِهِمَا بِالدَّيْنِ .

فَصْلٌ : وَدَلِيلُنَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : - قَوْلُهُ تَعَالَى - : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، [ النِّسَاءِ : 11 ] .


فَأُثْبِتَ الْمِيرَاثُ لِلِابْنِ فَإِذَا لَمْ تَثْبُتِ الْبُنُوَّةُ لَمْ يَثْبُتِ الْمِيرَاثُ . وَالدَّلِيلُ الثَّانِي : أَنَّ النَّسَبَ يُوجِبُ التَّوَارُثَ بَيْنَ الْمُتَنَاسِبَيْنِ فَيَرِثُ بِهِ وَيُورَثُ فَلَمَّا لَمْ يَرِثْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُورَثَ بِهِ . وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالٍ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِرْثٌ مُسْتَحَقٌّ بِنَسَبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ مَعَ انْتِفَاءِ النَّسَبِ كَإِرْثِ الْمُقِرِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِقْرَارٌ بِنَسَبٍ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ إِرْثًا فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ أَنْ يَلْتَزِمَ بِهِ إِرْثًا كَالْإِقْرَارِ بِمَعْرُوفِ النَّسَبِ . وَالدَّلِيلُ الثَّالِثُ : أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِالْإِقْرَارِ قَدْ يَمْتَنِعُ تَارَةً مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ إِذَا لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ ، وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ الْمُقَرِّ بِهِ إِذَا أَنْكَرَ الْإِقْرَارَ فَلَمَّا كَانَ انْتِفَاءُ النَّسَبِ بِإِنْكَارِ الْمُقِرِّ بِهِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَإِنْ طَلَبَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ انْتِفَاءُ النَّسَبِ بِعَدَمِ اجْتِمَاعِ الْوَرَثَةِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَإِنْ طَلَبَهُ . وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِقْرَارٌ مُفْرَدٌ يُعْتَبَرُ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهُ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعِي وَحْدَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِقْرَارٌ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَسَبٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ بِهِ إِرْثٌ كَالْإِقْرَارِ بِمُنْكَرٍ . وَالدَّلِيلُ الرَّابِعُ : أَنَّ اخْتِصَاصَ الْمُقِرِّ بِإِقْرَارِهِ أَوْلَى مِنْ تَعَدِّيهِ إِلَى غَيْرِهِ فَلَمَّا لَمْ يُسْتَحَقَّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ مِيرَاثُ الْمُقِرِّ لَوْ مَاتَ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ بِمَا وَرِثَهُ الْمُقِرُّ . وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِقْرَارٌ يَسْقُطُ حُكْمُهُ فِي الْمُقِرِّ فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهُ فِي غَيْرِ الْمُقِرِّ كَإِقْرَارِ الصَّغِيرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِقْرَارٌ رُدَّ فِي النَّسَبِ فَوَجَبَ أَنْ يُرَدَّ فِي الْإِرْثِ قِيَاسًا عَلَى الْإِرْثِ مِنْ تَرِكَةِ الْمُقِرِّ . وَالدَّلِيلُ الْخَامِسُ : أَنَّ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَلُزُومِهِ حُكْمَيْنِ : أَقْوَاهُمَا : ثُبُوتُ النَّسَبِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ . وَأَضْعَفُهُمَا : اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ الَّذِي هُوَ فَرْعٌ .


لِأَنَّ النَّسَبَ قَدْ ثَبَتَ مَعَ عَدَمِ الْمِيرَاثِ ، وَلَا يَنْتَفِي النَّسَبُ وَيَكْمُلُ الْمِيرَاثُ ، فَلَمَّا انْتَفَى ثُبُوتُ النَّسَبِ عَنْ هَذَا الْإِقْرَارِ فَأَوْلَى أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ ثُبُوتُ الْمِيرَاثِ وَيَتَحَرَّرَ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَحَدُ حُكْمَيْ إِقْرَارِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ بِإِقْرَارِ أَحَدِهِمَا كَالنَّسَبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا مَنَعَ النَّسَبَ مَنْعَ الْإِرْثَ كَالسِّنِّ إِذَا اسْتَوَى فِيهَا الْمَيِّتُ ، وَالْمُدَّعِي . وَالدَّلِيلُ السَّادِسُ : أَنَّ الْمِيرَاثَ مُسْتَحَقٌّ بِالْإِقْرَارِ تَارَةً وَبِالْبَيِّنَةِ أُخْرَى فَلَمَّا كَانَتْ شَهَادَةُ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِشَهَادَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُ أَحَدِ الْوَارِثِينَ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِإِقْرَارِهِ . وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ اسْتُحِقَّ الْمِيرَاثُ بِقَوْلِهِمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا كَالشَّاهِدَيْنِ . وَالدَّلِيلُ السَّابِعُ : أَنَّهُ مَالٌ يَقْتَضِي ثُبُوتُهُ ثُبُوتَ سَبَبِهِ فَلَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بِإِثْبَاتِ سَبَبِهِ . أَصْلُهُ أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ اشْتَرَى عَبْدَ زَيْدٍ بِأَلْفٍ وَأَنْكَرَ لَمْ نَقْضِ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ إِقْرَارٌ تَضَمَّنَ شَيْئَيْنِ فَلَزِمَ فِيمَا عَلَيْهِ وَرُدَّ فِيمَا لَهُ فَبُطْلَانُهُ بِمَعْرُوفِ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَيَّزَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ فِي مَجْهُولِ النَّسَبِ لَتَمَيَّزَ فِي مَعْرُوفِ النَّسَبِ وَكَانَ يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ وَإِنْ كَانَ مُنْكَرَ النَّسَبِ وَكَانَ لَا يَقْتَضِي قِسْمَتَهُ عَلَى الْمَوَارِيثِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالنَّسَبِ ، وَفِي كُلِّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اتِّصَالِهِ بِالنَّسَبِ وَعَدَمِ انْفِصَالِهِ عَنْهُ . ثُمَّ نُجِيبُ عَنْ كُلِّ أَصْلٍ جَعَلُوهُ شَاهِدًا ، أَمَّا قَوْلُهُ لِعَبْدِهِ بِعْتُكَ نَفْسَكَ وَلِزَوْجَتِهِ ( خَالَعْتُكِ ) فَإِنَّمَا لَزِمَهُ عِتْقُ عَبْدِهِ وَطَلَاقُ زَوْجَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ يَنْفَرِدُ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ ، وَالْمِيرَاثُ لَا يَنْفَرِدُ عَنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ ، وَأَمَا قَوْلُهُ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ أُخْتِي مِنَ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّمَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ وَلَزِمَهُ التَّحْرِيمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَعْ لِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ حَقًّا ثَبَتَ لِثُبُوتِهِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ وَفِي إِقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ قَدِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ حَقًّا ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُورَثُونَ مِنْ حَيْثُ يَرِثُونَ فَلَمَّا لَمْ يَرِثْ لَمْ يُورَثْ . وَأَمَّا مُدَّعِي الْبَيْعِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ شَرْحَهُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا شُفْعَةَ ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الشُّفْعَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ فَلَزِمَهُ التَّسْلِيمُ لِحُصُولِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الثَّمَنِ ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِلْمُقِرِّ بِالنَّسَبِ مِيرَاثُ الْمُدَّعِي فَلَمْ يُثْبِتْ إِقْرَارُهُ لِلْمُدَّعِي حَقًّا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمُ الثَّانِي بِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ النَّسَبُ مِنَ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيمِ قَدْ يَثْبُتُ مَعَ انْتِفَاءِ النَّسَبِ فَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ مِنْ وَجْهَيْنِ :


أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَقَعَ الْعِتْقُ وَالتَّحْرِيمُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ النَّسَبِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ . وَلَمَّا أَنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَحَقَّ الْمِيرَاثُ بِغَيْرِ النَّسَبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ إِذَا لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فِي إِقْرَارِهِ بِالْعِتْقِ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ حَقًّا فَلَزِمَهُ وَفِي الْمِيرَاثِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَةٍ ذَلِكَ مِيرَاثًا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمِ الثَّالِثِ فِي الْإِقْرَارِ بِالزَّوْجِيَّةِ فَلِأَصْحَابِنَا فِي الزَّوْجِيَّةِ إِذَا أَقَرَّ بِهَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إِرْثًا ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ ، وَالزَّوْجِيَّةِ فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا يُسْتَحَقُّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ إِرْثًا ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّوْجِيَّةِ ، وَالنَّسَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الزَّوْجَةَ تَرِثُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْمَوْتِ فَجَازَ أَنْ تَرِثَ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَالْمُنَاسَبُ لَا يَرْتَفِعُ نَسَبُهُ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرِثَ مَعَ عَدَمِ النَّسَبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزَّوْجِيَّةِ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَةِ إِقْرَارِهِ بِمِيرَاثِهَا مِيرَاثًا لِنَفْسِهِ مِنْهَا فَلَزِمَهُ إِقْرَارُهُ ، وَالْمُنَاسِبُ بِخِلَافِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمِ الرَّابِعِ فِي الدَّيْنِ فِي لُزُومِ الْمُقَرِّ فَسَقَطَ مِنْهُ فِي الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَنْفَرِدُ عَنِ النَّسَبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُرَاعِي لِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَتِهِ حَقًّا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ بُطْلَانِ الْإِرْثِ لِبُطْلَانِ النَّسَبِ وَأَنَّ الْمُقِرَّ لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ شَيْءٍ مِنْ سَهْمِهِ الَّذِي وَرِثَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا عَلِمَ صِدْقَ الْمُدَّعِي أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ الَّذِي وَرِثَهُ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِ النَّسَبِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ . وَالثَّانِي : يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ النَّسَبِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ دُونَ بَاطِنِهِ . وَنَحْنُ نُلْزِمُهُ فِي بَاطِنِ الْحُكْمِ دُونَ ظَاهِرِهِ . فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :


أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْفَاضِلِ مِنْ سَهْمِهِ إِذَا اشْتَرَكُوا وَهُوَ السُّدُسُ الزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَدْفَعُ إِلَيْهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ وَإِيَّاهُ فِي مَالِ أَبِيهِ سَوَاءٌ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : يُعْطِيهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِهِ وَيَضْمَنُ لَهُ سُدُسًا فِي يَدِ أَخِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَاسَمَهُ بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلَا يَضْمَنُ مِمَّا فِي يَدِ أَخِيهِ شَيْئًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " فَإِنْ أَقَرَّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ لمن ادعى أنه ابن للمتوفى ثَبَتَ نَسَبُهُ وَوَرِثَ وَوُرِّثَ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ وَقَوْلُهُ هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِقْرَارَ الْوَارِثِينَ بِمُدَّعِي الْبُنُوَّةِ يُوجِبُ ثُبُوتَ نَسَبِهِ وَهَكَذَا لَوْ كَانُوا جَمَاعَةً وَأَقَرُّوا ، أَوْ كَانَ وَاحِدًا وَأَقَرَّ ؛ لَأَنَّ الْمُرَاعَى إِقْرَارُ مَنْ يَحُوزُ الْمِيرَاثَ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمِيرَاثُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا لَمْ يَثْبُتْ بِإِقْرَارِهِ النَّسَبُ ، وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا أَقَلُّهُمُ اثْنَانِ ثَبَتَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمْ لَا مِنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَالَةُ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ لُحُوقَ النَّسَبِ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ بِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا مُسَاعَاةَ فِي الْإِسْلَامِ يَعْنِي السَّعْيَ إِلَى ادِّعَاءِ النَّسَبِ . وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يُوَرِّثُ الْحَمِيلَ وَهُوَ الَّذِي يُحْمَلُ نَسَبُهُ عَلَى غَيْرِ مُقِرٍّ بِهِ ، وَالْمَيِّتُ غَيْرُ مُقِرٍّ وَإِنْ أَقَرَّ وَارِثُهُ . قَالُوا : وَلِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ فِي مُقَابَلَةِ نَفْيِهِ فَلَمَّا لَمْ يَنْتَفِ النَّسَبُ بِنَفْيِ الْوَارِثِ وَلِعَانِهِ لَمْ يَنْتَفِ بِتَصْدِيقِهِ وَإِقْرَارِهِ وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَحَدُ حَالَيِ النَّسَبِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ الْوَارِثُ كَالنَّفْيِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْيَ النَّسَبِ لَمْ يَمْلِكْ إِثْبَاتَهُ كَالْأَجَانِبِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ إِلْحَاقُ وَلَاءٍ بِالْمَيِّتِ بِعِتْقِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُلْحِقُوا بِهِ نَسَبًا بِإِقْرَارِهِمْ .


وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَحَدُ اللُّحْمَتَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ إِثْبَاتُهُ كَالْوَلَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِثْبَاتُ الْوَلَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِثْبَاتُ النَّسَبِ كَالْأَوْصِيَاءِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِإِقْرَارِهِمْ إقرار الورثة مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ ، فَقَالَ سَعْدٌ : عَهِدَ إِلَيَّ أَخِي فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ أَنْ أَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ : أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ فَأَلْحَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَلَدَ بِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ بِاعْتِرَافِ أَبِيهِ وَجَعَلَهُ أَخَاهُ . فَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ قَالُوا : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا جَعَلَهُ عَبْدًا لِعَبْدٍ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ أَخَاهُ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ لَكَ عَبْدُ . فَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ مُسَدَّدًا رَوَى عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ قَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ وَوِلَادَتِهِ حُرًّا عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ فَلَمْ يَجُزْ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ بِحُرِّيَّتِهِ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِرِقِّهِ . وَمَا رَوَوْهُ مِنْ قَوْلِهِ : هُوَ لَكَ عَبْدُ فَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِالْقَوْلِ اخْتِصَارًا يُحْذَفُ النِّدَاءُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [ يُوسُفَ : 29 ] . وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي عَلَيْهِ : أَنْ قَالُوا إِنَّمَا أَلْحَقَهُ بِالْفِرَاشِ لَا بِالْإِقْرَارِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ الْفِرَاشَ بِإِقْرَارِهِ وَإِقْرَارُهُ بِالْفِرَاشِ إِقْرَارٌ بِالنَّسَبِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ بِثُبُوتِ الْفِرَاشِ فَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِالْفِرَاشِ الْمُوجِبِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ الدَّالِّ عَلَى ثُبُوتِ الْفِرَاشِ . وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ عَلَيْهِ : أَنْ قَالُوا : لَا دَلِيلَ لَكُمْ فِيهِ ؛ لِأَنَّ عَبْدًا هُوَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ وَسَوْدَةُ زَوْجَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُخْتُهُ ، وَلَمْ تَكُنْ مِنْهَا دَعْوَى لَهُ ، وَلَا إِقْرَارٌ بِهِ ، وَلَا دَعْوَى لَهُ . وَإِقْرَارُ أَحَدِ الْوَرَثَةِ لَا يُوجِبُ بِالْإِجْمَاعِ ثُبُوتَ النَّسَبِ . وَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَبْدًا هُوَ وَارِثُ أَبِيهِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ سَوْدَةَ كَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهَا وَكَانَ عَبْدٌ عَلَى كُفْرِهِ فَكَانَ هُوَ الْوَارِثَ لِأَبِيهِ الْكَافِرِ دُونَ أُخْتِهِ الْمُسْلِمَةِ ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَسْلَمَتْ أُخْتِي سَوْدَةُ فَحَمَلْتُهَا وَلَيْتَنِي أَسْلَمْتُ يَوْمَ أَسْلَمَتْ . وَالثَّانِي : أَنَّ سَوْدَةَ قَدْ كَانَتْ مُعْتَرِفَةً بِهِ وَاسْتَنَابَتْ أَخَاهَا فِي الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ مِنْ


عَادَتِهِنَّ الِاسْتِنَابَةُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ فَلَوْلَا أَنَّهَا كَانَتْ مُعْتَرِفَةً بِهِ كَانَتْ مُقِيمَةً عَلَى الِاحْتِجَابِ الْأَوَّلِ . وَالِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ عَلَيْهِ : أَنْ قَالُوا : أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَوْدَةَ بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ أُخْتًا لَهُ . وَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : لِقُوَّةِ الشَّبَهِ الَّذِي رَأَى فِيهِ مِنْ عُتْبَةَ أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ إِمَّا كَرَاهَةُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهَا نِزَاعٌ مِنْ قَضَائِهِ ، وَإِمَّا اسْتِظْهَارٌ لِمَا تَتَخَوَّفُهُ بَاطِنًا مِنْ فَسَادٍ أَصَابَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ لِلزَّوْجِ مَنْعَ زَوْجَتِهِ مِنَ الظُّهُورِ لِأَخِيهَا وَأَهْلِهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَنْعِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِلَافِ النَّسَبِ . وَالدَّلِيلُ الثَّانِي مِنَ الْمَسْأَلَةِ : مَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى أَنَّ كُلَّ مُسْتَلْحِقٍ اسْتُلْحِقَ بَعْدَ أَبِيهِ فَقَدْ لَحِقَ بِمَنِ اسْتَلْحَقَهُ . وَهَذَا نَصٌّ عَامٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ . وَالدَّلِيلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَ مُورِثَهُمْ فِي حُقُوقِهِ إِثْبَاتًا كَالْحُجَجِ ، وَالْبَيِّنَاتِ وَقَبْضًا كَالدَّيْنِ ، وَالْقِصَاصِ ، وَالنَّسَبُ حَقٌّ لَهُ إِثْبَاتُهُ حَيًّا فَكَانَ لِلْوَرَثَةِ إِثْبَاتُهُ مَيِّتًا . وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا مَلَكَ الْمُوَرِّثُ إِثْبَاتَهُ مِنْ حُقُوقِهِ مَلَكَ الْوَرَثَةُ إِثْبَاتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالدَّيْنِ ، وَالْقِصَاصِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ مَلَكَ إِثْبَاتَ الْحُقُوقِ مَلَكَ إِثْبَاتَ الْأَنْسَابِ كَالْمَوْرُوثِ . وَالدَّلِيلُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ : ثُبُوتُهُ وَإِرْثُهُ . فَلَمَّا اسْتَحَقَّ الْإِرْثَ بِإِقْرَارِهِمْ ثَبَتَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمْ وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ ثَبَتَ الْمِيرَاثُ بِإِقْرَارِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ كَالْمَوْرُوثِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ حُقُوقِ النَّسَبِ بِإِقْرَارِ الْمَوْرُوثِ لَزِمَ بِإِقْرَارِ الْوَارِثِ كَالْمِيرَاثِ . وَالدَّلِيلُ الْخَامِسُ : أَنَّ إِقْرَارَ الْوَرَثَةِ بِالْحَقِّ أَقْوَى ثُبُوتًا مِنَ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ فَلَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ بِالشَّهَادَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ ، وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا صَحَّ ثُبُوتُهُ بِالشَّهَادَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ ثُبُوتُهُ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يَثْبُتَ بِالْحُقُوقِ صَحَّ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْأَنْسَابُ كَالشَّهَادَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مُسَاعَاةَ فِي الْإِسْلَامِ فَوَارِدٌ بِاسْتِلْحَاقِ الْأَنْسَابِ بِالزِّنَى ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْخَبَرِ دَالٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ لَا مُسَاعَاةَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ سَاعَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ لَحِقَهُ بِعَصَبَتِهِ وَمَنِ ادَّعَى وَلَدًا مِنْ غَيْرِ رِشْدَةٍ فَلَا يَرِثُ ، وَلَا يُورَثُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يُوَرِّثُ الْحَمِيلَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَنْ حُمِلَ نَسَبُهُ عَلَى غَيْرِهِ مَعَ إِنْكَارِ وَرَثَتِهِ .


وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمَسْبِيِّ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ إِذَا أَقَرَّ بِنَسَبٍ لِيَرْتَفِعَ إِرْثُ الْوَلَاءِ بِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِنَفْيِ النَّسَبِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالِابْنِ لَوْ أَقَرَّ لَحِقَ وَلَوْ أَرَادَ نَفْيَ أَبٍ لَمْ يَجُزْ فَكَذَا الْأَخُ لَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ جَازَ وَلَوْ نَفَاهُ لَمْ يَجُزْ . وَأَجَابَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ عَنْ ذَلِكَ فِي إِفْصَاحِهِ أَنْ قَالَ : هُمَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ وَدُخُولِ الْمُقَرِّ بِهِ فِي جُمْلَتِهِمْ ، فَكَذَلِكَ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ وَدُخُولِ الْمَنْفِيِّ فِي جُمْلَتِهِمْ فَيَقُولُ إِذَا نَفَوْهُ عَنْ أَبِيهِمْ : لَسْتُ بِابْنِ أَبِيكُمْ ، تَصْدِيقًا لَهُمْ فَيَنْتَفِي . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا أَجَابَ بِهِ أَبُو عَلِيٍّ هَلْ يَصِحُّ فِي الْحُكْمِ أَوْ لَا ؛ فَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ فَيَقُولُ : إِنَّ مَنْ لَحِقَ نَسَبَ مَنْ لَمْ يَنْتِفْ عَنْهُ بِاجْتِمَاعِهِ مَعَ الْوَرَثَةِ عَلَى نَفْيِهِ . وَقَالَ غَيْرُهُ : هُوَ فِي الْحُكْمِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ بِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ انْتَفَى بِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْوَلَاءِ فَهُوَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِنَسَبٍ مُتَقَدِّمٍ وَلَوِ اسْتَحْدَثُوهُ لَمْ يَجُزْ وَبَطَلَ إِلْحَاقُهُمْ بِوَلَاءٍ مُسْتَحْدَثٍ وَلَوْ أَقَرُّوا بِوَلَاءٍ مُتَقَدِّمٍ جَازَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا صَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ فَالْأَنْسَابُ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ لَا يَدْخُلُ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ لَهُ وَسِيطٌ فِي لُحُوقِهِ ، وَضَرْبٌ يَدْخُلُ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَسِيطٌ فِي لُحُوقِهِ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا لَا يَدْخُلُ بَيْنَ مُتَدَاعِيَيْهِ وَسِيطٌ فِي لُحُوقِهِ فَشَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : الِابْنُ فِي ادِّعَاءِ الْبُنُوَّةِ . وَالثَّانِي : الْأَبُ فِي ادِّعَاءِ الْأُبُوَّةِ . لِأَنَّ لُحُوقَ أَنْسَابِهِمَا مُبَاشَرَةً لَا يَتَفَرَّعُ عَنْ أَصْلٍ يَجْمَعُ بَيْنَ النَّسَبَيْنِ ، وَلَا يَدْخُلُ بَيْنَهُمَا وَسِيطٌ فِي لُحُوقِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ ، وَالْأَوْلَى فِي ادِّعَاءِ مِثْلِ هَذَا النَّسَبِ إِنْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الْمُدَّعِي أَنْ يَقُولَ لِمَنِ ادَّعَاهُ أَبًا : أَنَا ابْنُكَ ، وَيَقُولُ الْأَبُ لِمَنِ ادَّعَاهُ ابْنًا : أَنْتَ ابْنِي ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَبِ فَأُضِيفَتِ الدَّعْوَى فِيهِ إِلَيْهِ فَلَوْ قَالَ الِابْنُ : أَنْتَ أَبِي ، وَقَالَ الْأَبُ أَنَا أَبُوكَ ، صَحَّتِ الدَّعْوَى حُكْمًا وَإِنْ فَسَدَتِ اخْتِيَارًا ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُبُوَّةِ ، وَالْبُنُوَّةِ دَلِيلٌ عَلَى الْآخَرِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي هُوَ الْأَبُ ، أَوْ الِابْنُ . فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الِابْنُ فَلَا تُسْمَحُ دَعْوَاهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الدَّعْوَى بِالْبُلُوغِ ، وَالْعَقْلِ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ مَضَيَا . أَحَدُهُمَا : جَهَالَةُ النَّسَبِ .


وَالثَّانِي : جَوَازُ أَنْ يُولَدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ . وَبِشَرْطٍ آخَرَ فِي الْأَبِ الْمُدَّعِي وَهُوَ الْعَقْلُ الَّذِي يَصِحُّ مَعَهُ الْإِقْرَارُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلِابْنِ بَيِّنَةٌ فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَجْنُونًا . فَإِذَا كَمُلَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الْأَرْبَعُ : ثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِيهِ وَهُوَ : أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الدَّعْوَى . وَأَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ النَّسَبِ . وَأَنْ يَجُوزَ وِلَادَةُ مِثْلِهِ لِمِثْلِهِ . وَرَابِعٌ فِي الْأَبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَصِحُّ عَلَيْهِ الدَّعْوَى . سُمِعَتْ حِينَئِذٍ وَسُئِلَ الْأَبُ عَنْهَا فَإِنْ أَنْكَرَهُ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ فَإِنْ حَلَفَ الْأَبُ عَلَى إِنْكَارِهِ انْتَفَى عَنْهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ عَصَبَاتِ الْأَبِ أَنْ يُقِرَّ بِنَسَبِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ حَيًّا ، أَوْ مَيِّتًا لِبُطْلَانِ النَّسَبِ بِيَمِينِ الْأَبِ . وَإِنِ اعْتَرَفَ الْأَبُ بِدَعْوَاهُ وَأَقَرَّ بِبُنُوَّتِهِ لَحِقَ بِهِ وَصَارَ وَلَدًا لَهُ صَحِيحًا كَانَ عِنْدَ الْإِقْرَارِ ، أَوْ مَرِيضًا ، صَدَّقَهُ الْعَصَبَةُ ، وَالْوَرَثَةُ عَلَيْهِ ، أَوْ لِأَخٍ سَوَاءٌ كَانَ الِابْنُ مِمَّنْ يَرِثُ بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْحُرِّيَّةِ ، وَالدِّينِ ، أَوْ كَانَ غَيْرَ وَارِثٍ لِاخْتِلَافِهِمَا بِرِقٍّ ، أَوْ فِي دِينٍ ، حَجَبَ الْوَرَثَةَ ، أَوْ لَمْ يَحْجُبْهُمْ : فَلَوْ عَادَ الْأَبُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ فَأَنْكَرَهُ فَإِنْ لَمْ يُتَابِعْهُ الِابْنُ عَلَى الْإِنْكَارِ وَنَفْيِ النَّسَبِ وَأَقَامَ عَلَى الدَّعْوَى فَهُوَ عَلَى نَسَبِهِ فِي اللُّحُوقِ بِهِ يَرِثُهُ إِنْ مَاتَ وَيَرِثُ سَائِرَ عَصَبَاتِهِ . وَإِنْ تَابَعَهُ الِابْنُ عَلَى الْإِنْكَارِ وَصَدَّقَهُ عَلَى نَفْيِ النَّسَبِ فَإِنْ كَانَ الْفِرَاشُ مَعْرُوفًا لَمْ يَنْتَفِ النَّسَبُ بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى نَفْيِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْفِرَاشُ مَجْهُولًا فَالنَّسَبُ مُلْحَقٌ بِالْإِقْرَارِ الْمُتَقَدِّمِ وَفِي رَفْعِهِ بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى نَفْيِهِ وَجْهَانِ حَكَيْنَاهُمَا : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَطَائِفَةٍ يَنْتَفِي النَّسَبُ وَتَرْتَفِعُ الْأُبُوَّةُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ النَّسَبَ عَلَى ثُبُوتِهِ لَا يَرْتَفِعُ وَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى نَفْيِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ ارْتِفَاعُ مَا ثَبَتَ بِالْفِرَاشِ الْمَعْرُوفِ وَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى نَفْيِهِ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْأَبُ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ فِي الْوَلَدِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَهُمَا : جَهْلُ نَسَبِهِ . وَجَوَازُ أَنْ يُولَدَ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ . ثُمَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الدَّعْوَى بِكَمَالِ الْعَقْلِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ صَغِيرًا ، أَوْ


كَبِيرًا ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أُلْحِقَ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي لُحُوقِهِ تَصْدِيقُ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلصَّغِيرِ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ بَلَغَ فَأَنْكَرَ لَمْ يُؤَثِّرْ إِنْكَارُهُ فِي نَفْيِ النَّسَبِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُكْمِ بِثُبُوتِهِ . وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ ، وَلَمْ يُلْحَقْ بِالْمُدَّعِي إِلَّا بِإِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّ لِلْكَبِيرِ حُكْمًا فِي نَفْسِهِ ، فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِالْبُنُوَّةِ لَحِقَ بِهِ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ أَحْكَامُ الْأَبْنَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَوْلَادُ أَنْكَرُوا ، أَوْ لَا ، وَإِنْ أَنْكَرُوا فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ . فَإِنِ ادَّعَى الْأَبُ وَلَدًا بَعْدَ مَوْتِهِ أي بعد موت الولد فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْمَيِّتُ صَغِيرًا لَحِقَ بِهِ وَوَرِثَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَصَارَ بِدَعْوَاهُ لَاحِقًا بِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُوسِرًا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِادِّعَائِهِ لِإِرْثِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأَنْسَابِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا التُّهْمَةُ فِي الْأَمْوَالِ أَلَا تَرَى لَوْ أَقَرَّ وَهُوَ زَمِنٌ فَقِيرٌ بِابْنٍ صَغِيرٍ مُوسِرٍ لُحِقَ بِهِ ، وَلَا تَكُونُ التُّهْمَةُ فِي وُجُوبِ نَفَقَتِهِ فِي مَالِ الِابْنِ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ إِقْرَارِهِ كَذَلِكَ فِي مِيرَاثِ الْمَيِّتِ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْوَلَدُ الَّذِي ادَّعَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَبِيرًا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ لِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى يُقِرَّ بِهِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ . فَهَذَا أَحَدُ ضَرْبَيِ الْأَنْسَابِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّلُهَا وَسِيطٌ فِي لُحُوقِهَا وَاتِّصَالِهَا .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْأَنْسَابِ وَهِيَ الَّتِي يَتَخَلَّلُهَا وَسِيطٌ فِي لُحُوقِهَا وَاتِّصَالِهَا كَالْأُخُوَّةِ يَصِلُ الْأَبُ بَيْنَ أَنْسَابِهِمْ وَكَالْجَدِّ الَّذِي يَصِلُ الْأَبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الِابْنِ . فَإِنْ كَانَ الْوَسِيطُ الْوَاصِلُ بَيْنَ أَنْسَابِهِمْ بَاقِيًا فَلَا اعْتِبَارَ بِإِقْرَارِ مَنْ سِوَاهُ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا اعْتُبِرَ إِقْرَارُ جَمِيعِ وَرَثَتِهِ فِي ثُبُوتِ نَسَبِ الْمُدَّعِي مِنْ عَصَبَتِهِ ، أَوْ ذِي فَرْضٍ رَحِمٍ ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ إِقْرَارُ الزَّوْجِ ، وَالزَّوْجَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ يُعْتَبَرُ إِقْرَارُهُمَا فِي لُحُوقِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِمَا الْإِرْثَ كَالْمُنَاسِبِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُعْتَبَرُ إِقْرَارُهُمَا فِي لُحُوقِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ لَهُمَا فِي النَّسَبِ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا إِقْرَارَهُمَا بِالنَّسَبِ . وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هَلْ يُرَاعَى فِيمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ أَخٌ لِأُمٍّ تَصْدِيقُ الْأَخِ لِلْأَبِ إِذَا كَانَ وَارِثًا ؟ وَفِيمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ أَخٌ لِأَبٍ هَلْ يُرَاعَى تَصْدِيقُ الْأَخِ لِلْأُمِّ إِذَا كَانَ وَارِثًا ؟ فَعَلَى مَذْهَبِ الْبَغْدَادِيِّينَ يُرَاعَى تَصْدِيقُهُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ لِكَوْنِهِ وَارِثًا ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُرَاعَى تَصْدِيقُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا .


فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدَ يَكُونُ بَيْنَ أَنْسَابِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَسِيطٌ وَاحِدٌ ، وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَسِيطَانِ ، وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ وَسَائِطَ ، وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَى حُكْمِهِ بِمَا تَقَدَّمَ . فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَسِيطٌ وَاحِدٌ فَكَالْإِخْوَةِ فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ إِخْوَتَهُ وَأَنَّهُ ابْنُ أَبِيهِمْ فَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُرُوطِ دَعْوَى النَّسَبِ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ مَيِّتًا ، ثُمَّ يَكُونُ لُحُوقُهُ مُعْتَبَرًا بِإِقْرَارِ وَرَثَةِ الْأَبِ كُلِّهِمْ . فَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَدْ تَرَكَ ابْنًا وَاحِدًا فَصَدَّقَ الْمُدَّعَى عَلَى نَسَبِهِ ثَبَتَ نَسَبُهُ ، وَإِنَّ تَرْكَ ابْنَيْنِ فَصَدَّقَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَثْبُتْ ، وَإِنْ تَرَكَ أَبًا وَابْنًا فَاجْتَمَعَا عَلَى تَصْدِيقِهِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَثْبُتْ ، وَإِنْ تَرَكَ بِنْتًا وَأَخَا فَاجْتَمَعَا عَلَى تَصْدِيقِهِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَثْبُتْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَأَخًا وَأُخْتًا ، وَلَوْ تَرَكَ أَخَا وَاحِدًا فَصَدَّقَهُ في ادعائه أنه ابن المتوفي ثَبَتَ النَّسَبُ ؛ لِأَنَّ الْأَخَ يَحُوزُ الْمِيرَاثَ وَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا وَاحِدَةً فَصَدَّقَتْهُ في ادعائه أنه ابن المتوفي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ تَرِثُ النِّصْفَ ، وَلَا تَحُوزُ الْمِيرَاثَ ، وَالْبَاقِيَ بَعْدَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْإِمَامُ مَعَهَا ثَبَتَ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ فِي حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ نَافِذُ الْإِقْرَارِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ مَعَ الْأُخْتِ إِقْرَارًا مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ . وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَمْلِكُ حَقَّ بَيْتِ الْمَالِ فَيَثْبُتُ الْإِقْرَارُ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مُسْتَحِقُّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيُرَاعَى إِقْرَارُهُمْ فِيهِ فَإِنْ كَانَ إِقْرَارُ الْإِمَامِ لِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عِنْدَهُ بِنَسَبِهِ فَذَلِكَ حُكْمٌ مِنْهُ تَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ ، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ إِقْرَارُ الْأُخْتِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ قَامَتْ بِهِ فَإِقْرَارُهُ لَغْوٌ وَنَسَبُ الْمُدَّعِي غَيْرُ ثَابِتٍ ، وَلَوْ كَانَ لِلْأُخْتِ وَلَاءُ عِتْقٍ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَقَرَّتْ بِالْمُدَّعِي ثَبَتَ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّهَا تَحُوزُ الْمِيرَاثَ بِالْفَرْضِ ، وَالْوَلَاءِ . وَهَكَذَا إِقْرَارُ الْبِنْتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ابْنٌ كَإِقْرَارِ الْأُخْتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَخٌ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحُوزُ الْمِيرَاثَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا عَلَى الْأَبِ وَلَاءٌ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَحُوزُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ بِالْفَرْضِ ، وَالْوَلَاءِ . فَلَوْ كَانَ الْأَبُ الْمَيِّتُ مُسْلِمًا وَتَرَكَ ابْنَيْنِ مُسْلِمًا وَكَافِرًا فَصَدَّقَهُ الْمُسْلِمُ ثَبَتَ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ وَارِثٍ فَلَمْ يُعْتَبَرْ إِقْرَارُهُ وَسَوَاءٌ كَانَ مُدَّعِي النَّسَبِ مُسْلِمًا ، أَوْ كَافِرًا فَلَوْ أَسْلَمَ الِابْنُ الْكَافِرُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي لَمْ يَنْتَفِ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَارِثَ أَبِيهِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ إِنْكَارُهُ . وَلَوْ كَانَ الْأَبُ الْمَيِّتُ كَافِرًا وَتَرَكَ ابْنَيْنِ مُسْلِمًا وَكَافِرًا فَصَدَّقَهُ الِابْنُ الْكَافِرُ ثَبَتَ نَسَبَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَارِثُ أَبِيهِ وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمُسْلِمُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِثٍ لِأَبِيهِ . وَهَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ حُرًّا ، وَالْآخَرُ عَبْدًا كَانَ ثُبُوتُ النَّسَبِ بِإِقْرَارِ الْحُرِّ دُونَ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ وَارِثٌ ، وَالْعَبْدُ غَيْرُ وَارِثٍ ، وَإِنْ عُتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ لَمْ يُعْتَبَرْ تَصْدِيقُهُ ، وَلَا إِنْكَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا . فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ صَغِيرًا ، أَوْ مَعْتُوهًا فَأَقَرَّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ مِنْهُمَا بِنَسَبِ


الْمُدَّعِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْوَارِثِينَ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ وَيُفِيقَ الْمَعْتُوهُ فَيُقِرُّ بِهِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ ، وَهَلْ يَجِبُ أَنْ نُوقِفَ حِصَّةَ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْ حِصَّةِ الْمُقِرِّ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تُوقَفُ كَمَا فِي حِصَّةِ الصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَثْبُتْ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُوقَفُ مِنْهُ قَدْرُ حِصَّتِهِ اعْتِبَارًا بِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ مَا لَمْ يَبْطُلْ بِإِنْكَارِ أَخِيهِ . فَإِنْ مَاتَ الصَّغِيرُ ، أَوِ الْمَعْتُوهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، أَوِ الْإِفَاقَةِ رُوعِيَ إِقْرَارُ وَارِثِهِ فَإِنْ كَانَ وَارِثُهُ الْأَخُ الْمُقِرُّ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُدَّعِي بِالْإِقْرَارِ السَّابِقِ ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِقْرَارٍ ثَانٍ بَعْدَ مَوْتِ الصَّغِيرِ ، وَالْمَعْتُوهِ . فَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فَإِنْ مَاتَ الْمُكَذِّبُ فَوَرِثَهُ الْمُصَدِّقُ فَفِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ صَارَ حَائِزًا لِلْإِرْثِ كُلِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَثْبُتُ ؛ لِأَنَّ تَكْذِيبَ شَرِيكِهِ فِي الْمِيرَاثِ مُبْطِلٌ لِلدَّعْوَى فَصَارَ كَتَكْذِيبِ الْأَبِ فِي حَيَاتِهِ يَكُونُ مُبْطِلًا لِنَسَبِهِ وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِهِ الْوَرَثَةُ بَعْدَهُ .

فَصْلٌ : فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنًا وَاحِدًا فَصَدَّقَ الْمُدَّعِي في ادعائه أنه ابن المتوفي ثَبَتَ نَسَبُهُ فَإِنِ ادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ فَإِنْ صَدَّقَهُ الِابْنَانِ الْأَوَّلُ الْمَعْرُوفُ ، وَالثَّانِي الْمُقَرُّ بِهِ ثَبَتَ نَسَبُ الثَّالِثِ وَخَرَجَ الثَّانِي مِنَ النَّسَبِ إِلَّا بِتَصْدِيقِ الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالتَّصْدِيقِ ابْنًا ، فَرُوعِيَ إِقْرَارُهُ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ ، وَلَوْ كَانَ الثَّالِثُ حِينَ ادَّعَى النَّسَبَ أَنْكَرَهُ الثَّانِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الثَّالِثِ وَكَانَ الثَّانِي عَلَى نَسَبِهِ . وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي رَابِعٍ وَخَامِسٍ لَوِ ادَّعَى نَسَبَ الْمَيِّتِ فَلَوْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأَخَوَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُمَا حَتَّى يُصَدِّقَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فَيَثْبُتُ حِينَئِذٍ نَسَبُهُمَا فَإِنْ تَكَاذَبَا انْتَفَيَا . وَإِنْ صَدَّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَأَكْذَبَهُ الْآخَرُ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُصَدِّقِ مِنْهُمَا دُونَ الْمُكَذِّبِ ، وَلَوْ كَانَا عَلَى تَكَاذُبِهِمَا فَعَادَ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ وَاسْتَأْنَفَ الْإِقْرَارَ ثَانِيَةً بِأَحَدِهِمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ وَكَانَ نَسَبُ الثَّالِثِ مُعْتَبَرًا بِتَصْدِيقِ الثَّانِي فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَبَتَ نَسَبَهُ وَخَرَجَ الثَّانِي مِنَ النَّسَبِ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَ الثَّالِثُ . وَإِذَا أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِتَوْأَمَيْنِ لَمْ يُعْتَبَرْ تَصْدِيقُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ ؛ لِأَنَّ نَسَبَ التَّوْأَمَيْنِ وَاحِدٌ . وَلَوْ أَقَرَّ الِابْنُ بِأَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مَعًا ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُمَا لَا يَفْتَرِقُ فَلَوْ أَنْكَرَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ النَّسَبَ الَّذِي ادَّعَاهُ أَخُوهُ ، وَقَدْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِهِ نُظِرَ فِي إِنْكَارِهِ فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ مَعَهُ نَسَبًا إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ إِنْكَارُهُ وَلَحِقَ نَسَبُهُمَا مَعًا بِمَنِ ادَّعَاهُ أَخُوهُ ؛ لِأَنَّ فِي إِنْكَارِهِ إِبْطَالُ نَسَبِهِ وَنَسَبُ أَخِيهِ إِلَى غَيْرِهِ نَسَبٌ يَدَّعِيهِ وَإِنِ ادَّعَى مَعَ إِنْكَارِهِ نَسَبًا إِلَى غَيْرِهِ فَصَارَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ مُدَّعِيًا نَسَبًا إِلَى رَجُلٍ قَدْ أَقَرَّ بِهِ وَارِثُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِوَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ ؛ لِأَنَّ


نَسَبَ التَّوْأَمَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ وَلُحُوقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنِ ادَّعَاهُ يُوجِبُ اجْتِذَابَ الْآخَرِ إِلَيْهِ فَتَمَانَعَا لِتَعَارُضِهِمَا وَوَجَبَ عَرْضُ ذَلِكَ عَلَى الْقَافَةِ لِيَحْكُمُوا فِيهِمَا بِالشَّبَهِ كَمَا يَحْكُمُونَ عِنْدَ تَنَازُعِ الْأَبَوَيْنِ . فَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْمُتَدَاعِيَيْنِ إِذَا كَانَ الْوَسِيطُ فِي نَسَبِهِمَا وَاحِدًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَوَسَّطَ بَيْنَ نَسَبِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ اثْنَانِ يَتَّصِلُ النَّسَبُ بِهِمَا فَمِثَالُهُ أَنْ يُقِرَّ رَجُلٌ ابْنَ أَخٍ لَهُ فَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ اثْنَانِ . أَحَدُهُمَا أَخُوهُ الَّذِي هُوَ أَبُ الْمُقَرِّ بِهِ ، وَالثَّانِي أَبُوهُ الَّذِي يَجْمَعُهُ وَأَخَاهُ فَإِنْ كَانَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْوَسِيطَيْنِ بَاقِيًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ إِلَّا بِتَصْدِيقِهِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَخُ بَاقِيًا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ ابْنٌ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ بَاقِيًا دُونَ الْأَخِ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ ابْنُ ابْنٍ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَخُ ، وَالْأَبُ الْوَسِيطَانِ بَيْنَهُمَا فِي النَّسَبِ مَيِّتَيْنِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْوَارِثُ لِأَخِيهِ وَحْدَهُ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ وَصَارَ ابْنَ أَخٍ لِلْمُقِرِّ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ هُوَ وَارِثُ ابْنِهِ الَّذِي هُوَ أَخُ الْمُقِرِّ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَخُ هُوَ وَارِثُ ابْنِهِ وَحْدَهُ ثَبَتَ نَسَبُ ابْنِ الْأَخِ ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ الْأَخِ قَدْ أَفْضَى إِلَيْهِ عَنِ الْأَبِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي مِيرَاثِ الِابْنِ غَيْرُهُ مِمَّنْ بَيْنَهُمَا فِي النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ حَتَّى يُصَدِّقَهُ عَلَى إِقْرَارِهِ مَنْ بَقِيَ مِنْ وَرَثَةِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ مَنْ أَفْضَى إِلَيْهِ مِيرَاثُ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ نَسَبِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ ثَلَاثَةٌ يَتَّصِلُ بِهِمْ مالحكم فَمِثَالُهُ : أَنْ يُقِرَّ رَجُلٌ بِابْنِ عَمٍّ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةٌ : أَبَوَانِ ، وَالْجَدُّ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بَاقِيًا لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ الْبَاقِي مِنَ الثَّلَاثَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَحَدٌ نُظِرَ فِي حَالِ وَارِثِ الْعَمِّ الَّذِي أَقَرَّ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ ابْنٌ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَدُّهُ وَارِثَ عَمِّهِ فَوَرِثَهُ بِأُبُوَّتِهِ . أَوْ يَكُونُ أَبُوهُ وَارِثَ عَمِّهِ فَوَرِثَهُ بِالْأُخُوَّةِ . أَوْ يَكُونُ هُوَ وَارِثَ عَمِّهِ فَوَرِثَهُ بِأَنَّهُ ابْنُ أَخٍ لَهُ . فَإِنْ كَانَ هُوَ وَارِثَ عَمِّهِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ وَارِثَ عَمِّهِ نُظِرَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي مِيرَاثِ أَبِيهِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقِرِّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ الْمُقَرِّ بِهِ قَدْ أَفْضَى إِلَيْهِ عَنْ أَبِيهِ . وَإِنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي مِيرَاثِ أَبِيهِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ عَلَى إِقْرَارِهِ الْمُشَارِكُ لَهُ فِي مِيرَاثِ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ مَنْ أَفْضَى إِلَيْهِ مِيرَاثُ الْعَمِّ ، وَإِنْ كَانَ جَدُّهُ وَارِثَ عَمِّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِجَدِّهِ وَارِثٌ غَيْرُ أَبِيهِ ، وَلَا لِأَبِيهِ وَارِثٌ غَيْرُهُ ، أَوْ كَانَ هُوَ وَارِثَ جَدِّهِ لِمَوْتِ أَبِيهِ قَبْلَ جَدِّهِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ عَمِّهِ قَدْ أَفْضَى إِلَيْهِ عَنْ أَبِيهِ ثُمَّ عَنْ جَدِّهِ .


وَإِنْ كَانَ لِجَدِّهِ وَارِثٌ غَيْرُ أَبِيهِ وَلِأَبِيهِ وَارِثٌ غَيْرُهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ إِلَّا بِتَصْدِيقِ الْبَاقِينَ مِنْ وَرَثَةِ الْجَدِّ ثُمَّ بِالْمُشَارِكِينَ لَهُ فِي مِيرَاثِ الْأَبِ . وَإِنْ كَانَ لِجَدِّهِ وَارِثٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَبِيهِ وَارِثُ غَيْرُهُ اعْتُبِرَ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ تَصْدِيقُ الْبَاقِينَ مِنْ وَرَثَةِ الْجَدِّ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِجَدِّهِ وَارِثٌ غَيْرُ أَبِيهِ لَكِنْ كَانَ لِأَبِيهِ وَارِثٌ غَيْرُهُ اعْتُبِرَ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ تَصْدِيقُ الْبَاقِينَ مِنْ وَرَثَةِ أَبِيهِ . عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ يَكُونُ ثُبُوتُ الْأَنْسَابِ بِالْإِقْرَارِ .


فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا أَوْضَحْنَا مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِالْإِقْرَارِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مِيرَاثِ الْمُقَرِّ بِهِ فَنَقُولُ : لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِالْإِقْرَارِ مِنْ أَنْ يَحْجُبَ الْمُقِرَّ عَنْ إِرْثِهِ ، أَوْ لَا يَحْجُبُهُ . فَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهُ وَرِثَ مَعَهُ كَابْنِ الْمَيِّتِ إِذَا أَقَرَّ بِأَخٍ مِنْ أَبِيهِ صَارَا ابْنَيْنِ لِلْمَيِّتِ فَاشْتَرَكَا فِي مِيرَاثِهِ ، وَكَانَ الْمَيِّتُ إِذَا أَقَرَّ بِابْنٍ لِابْنِهِ الْمَيِّتِ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ ابْنًا لَا يَحْجُبُ الْأَبَ عَنْ فَرْضِهِ فَيَأْخُذُ الْأَبُ فَرْضَهُ ، وَالِابْنَ مَا بَقِيَ بَعْدَهُ ، وَكَأَخِ الْمَيِّتِ إِذَا أَقَرَّ بِبِنْتٍ لِأَخِيهِ الْمَيِّتِ وَرِثَتْ مِنْهُ فَرْضَهَا وَكَانَ الْبَاقِي لِلْأَخِ لَا يُحْجَبُ بِهَا . وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ يَحْجُبُ الْمُقِرَّ عَنْ إِرْثِهِ كَأَخِ الْمَيِّتِ إِذَا أَقَرَّ بِابْنٍ لِأَخِيهِ الْمَيِّتِ ، وَكَابْنِ الِابْنِ إِذَا أَقَرَّ بِابْنٍ لِجَدِّهِ ؛ لِأَنَّ الِابْنَ يَحْجُبُ الْأَخَ وَيَحْجُبُ ابْنَ الِابْنِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَظَائِرِهِ فَإِنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لَا يَرِثُ وَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ فِي تَوْرِيثِهِ حَجْبًا لِلْمُقِرِّ عَنْ إِرْثِهِ وَحَجْبُ الْمُقِرِّ عَنْ إِرْثِهِ مُوجِبٌ لِرَدِّ إِقْرَارِهِ وَرَدُّ إِقْرَارِهِ مُوجِبٌ لِسُقُوطِ نَسَبِ الْمُقَرِّ بِهِ وَسُقُوطُ نَسَبِهِ مَانِعٌ مِنْ إِرْثِهِ فَصَارَ تَوْرِيثُهُ مُفْضِيًا إِلَى سُقُوطِ نَسَبِهِ وَمِيرَاثِهِ فَمُنِعَ مِنَ الْمِيرَاثِ لِيَثْبُتَ لَهُ النَّسَبُ ؛ لِأَنَّ مَا أَفْضَى ثُبُوتُهُ إِلَى سُقُوطِهِ وَسُقُوطِ غَيْرِهِ مُنِعَ مِنْ ثُبُوتِهِ لِيَكُونَ مَا سِوَاهُ عَلَى ثُبُوتِهِ . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرَةٌ وَسَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا يُوَضِّحُ تَعْلِيلَهَا وَيُمَهِّدُ أُصُولَهَا فَمِنْهَا : أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ أَبَاهُ فِي مَرَضِهِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَرِثُهُ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ وَصِيَّةٌ وَتَوْرِيثَهُ مَانِعٌ مِنَ الْوَصِيَّةِ لَهُ ، وَالْمَنْعُ مِنَ الْوَصِيَّةِ لَهُ مُوجِبٌ لِبُطْلَانِ عِتْقِهِ وَبُطْلَانُ عِتْقِهِ مُوجِبٌ لِسُقُوطِ إِرْثِهِ فَصَارَ تَوْرِيثُهُ مُفْضِيًا إِلَى إِبْطَالِ عِتْقِهِ وَمِيرَاثِهِ فَثَبَتَ عِتْقُهُ وَسَقَطَ مِيرَاثُهُ . وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِأَبِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُعْتَقُ ، وَلَا يَرِثُ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُعْتَقُ وَيَرِثُ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ لَا يَكُونُ وَصِيَّةً إِذِ الْوَصِيَّةُ زَوَالُ مِلْكٍ بِغَيْرٍ بَدَلٍ وَهُوَ لَمْ يَمْلِكْ أَبَاهُ ، وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْأَبِ عَلَيْهِ بَعْدَ مِلْكِهِ إِيَّاهُ وَلَوْلَا الْمَلِكُ لَمْ يُعْتَقْ فَصَارَ عِتْقُهُ بَعْدَ الْمِلْكِ زَوَالَ مِلْكٍ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَكَانَ وَصِيَّةً . وَمِنْهَا أَنْ يُوصِيَ لَهُ بِابْنِهِ وَهُوَ عَبْدٌ فَيَمُوتُ قَبْلَ قَبُولِهِ وَيَخْلُفُ أَخَاهُ فَيَقْبَلُهُ الْأَخُ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ ، وَلَا يَرِثُ ؛ لِأَنَّ الِابْنَ لَوْ وَرَّثْنَاهُ لَحَجَبَ الْأَخَ ، وَلَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ لِلْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ فَيَعُودُ الِابْنُ رَقِيقًا فَأَثْبَتْنَا عِتْقَهُ وَأَبْطَلْنَا إِرْثَهُ .


وَمِنْهَا أَنْ يُعْتِقَ الْمَرِيضُ أَمَتَهُ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فَيَصِحُّ نِكَاحُهَا وَيَبْطُلُ مِيرَاثُهَا ؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا وَصِيَّةٌ لَوْ وَرِثَتْ بَطَلَتْ وَبُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهَا مُوجِبٌ لِبُطْلَانِ نِكَاحِهَا وَإِرْثِهَا فَثَبَتَ النِّكَاحُ وَسَقَطَ الْإِرْثُ . وَمِنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ الَّتِي أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِهِ عَلَى صَدَاقٍ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَكَانَ قِيمَتُهَا حِينَ أَعْتَقَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ سِوَاهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَيَسْقُطُ مِيرَاثُهَا وَمَهْرُهَا . أَمَّا الْمِيرَاثُ فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ وَأَمَّا مَهْرُهَا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهَا إِذَا أَخَذَتْهُ مِنَ التَّرِكَةِ وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا يَخْرُجُ قِيمَتُهَا وَهِيَ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنَ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ بَعْدَ الصَّدَاقِ يَكُونُ مَعَ قِيمَتِهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ثُلُثُهَا : سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ ، وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا فَتَوَجَّبُ أَنْ يُعْتَقَ ثُلُثَاهَا وَيُرَقَّ ثُلُثُهَا وَفِي اسْتِرْقَاقِ ثُلُثِهَا بُطْلَانُ نِكَاحِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَةً يَمْلِكُهَا ، أَوْ يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا وَبُطْلَانُ النِّكَاحِ مُوجِبٌ لِبُطْلَانِ صَدَاقِهَا فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ الصَّدَاقُ لِيَخْرُجَ قِيمَتُهَا مِنَ الثُّلُثِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ لِمَا فِي دَفْعِهِ مِنْ بُطْلَانِ الصَّدَاقِ ، وَالنِّكَاحِ . وَمِنْهَا أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ بِعَبْدٍ عَلَى صَدَاقٍ مِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ يُعْتِقُهَا فِي مَرَضِهِ وَقِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَيُخَلِّفُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَتَصِيرُ التَّرِكَةُ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمِ مِائَةُ دِرْهَمٍ قِيمَتُهَا وَمِائَةُ دِرْهَمٍ صَدَاقُهَا وَمِائَةُ دِرْهَمٍ تَرِكَةُ سَيِّدِهَا فَتُعْتَقُ لِخُرُوجِ قِيمَتِهَا مِنَ الثُّلُثِ ، وَلَا يَكُونُ لَهَا إِذَا عُتِقَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا الْعَبْدِ خِيَارٌ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لِأَنَّ فَسْخَهَا لِنِكَاحِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ لِصَدَاقِهَا فَتَصِيرُ التَّرِكَةُ بَعْدَ الصَّدَاقِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَا يَخْرُجُ قِيمَتُهَا مِنْ ثُلُثِهَا فَيُرَقُّ بَعْضُهَا لِعَجْزِ الثُّلُثِ وَرِقُّ بَعْضِهَا يَمْنَعُهَا مِنِ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ فَصَارَ اخْتِيَارُهَا لِلْفَسْخِ مُفْضِيًا إِلَى بُطْلَانِ الْعِتْقِ وَالْفَسْخِ فَأُثْبِتَ الْعِتْقُ وَأُبْطِلَ الْفَسْخُ . وَمِنْهَا أَنْ يُعْتِقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدَيْنِ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا فَيَدَّعِي عَلَيْهِ رَجُلٌ دَيْنًا يَحُطُّ بِقِيمَتِهِمَا فَيَشْهَدُ لَهُ الْمُعَتَقَانِ بِدَيْنِهِ فَلَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمَا لِمَا فِي إِثْبَاتِهَا مِنْ إِبْطَالِ عِتْقِهِمَا وَرَدِّ شَهَادَتِهِمَا .

فَصْلٌ : وَإِذْ قَدْ مَضَى شَوَاهِدُ تِلْكَ الْأُصُولِ فَلَوْ خَلَّفَ الْمَيِّتُ أَخًا فَادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ فَأَنْكَرَهُ الْأَخُ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ فَرُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَحَلَفَ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَفِي مِيرَاثِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي يَمِينِ الْمُدَّعِي : هَلْ تَجْرِي مَجْرَى الْبَيِّنَةِ ، أَوْ مَجْرَى الْقَرَارِ ؟ أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا مِيرَاثَ لِلْمُدَّعِي وَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِالْبُنُوَّةِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِمَا فِيهِ تَوْرِيثُهُ مِنْ حَجْبِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ يَمِينَهُ بَعْدَ النُّكُولِ تَجْرِي مَجْرَى الْبَيِّنَةِ ، فَعَلَى هَذَا يَرِثُ الِابْنُ كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِنَسَبِهِ



فَصْلٌ : وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بَعْدَ اقْتِسَامِهِمُ التَّرِكَةَ ، أَوْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِدَيْنٍ عَلَى مُوَرِّثِهِمْ وَأَنْكَرَ بَاقِي الْوَرَثَةِ فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ عَدْلًا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شُرَكَائِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ ، أَوِ امْرَأَتَيْنِ ، أَوْ يَمِينِ الْمُدَّعِي وَيُحْكَمُ لَهُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فِي التَّرِكَةِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُقِرُّ مِنْهُمْ عَدْلًا حَلَفَ الْمُنْكِرُونَ . مِنَ الْوَرَثَةِ وَبَرِئُوا . وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الدَّيْنِ فِي حِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ التَّرِكَةِ إِذَا هَلَكَ بَعْضُهَا كَمَا يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِهَا وَاسْتُحِقَّ قَضَاؤُهَا مِنْ حِصَّةِ الْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُهَا ، وَقَدْ فَاتَ الْقَضَاءُ مِنْ غَيْرِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : هُوَ الْأَصَحُّ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ جَمِيعُ الدَّيْنِ لَمَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِهِ مَعَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالشَّهَادَةِ حِينَئِذٍ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ وَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ إِلَّا قَدْرُ حِصَّتِهِ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ بِالْبَاقِي شَاهِدًا عَلَى غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِقْرَارَ كَالشَّهَادَةِ ، وَالدَّيْنَ كَالْعَيْنِ فَلَمَّا اسْتَوَى حَالُ الشَّهَادَةِ فِي الدَّيْنِ ، وَالْعَيْنِ فِي الْتِزَامِهِ مِنْهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حَالُ إِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ ، وَالْعَيْنِ فِي الْتِزَامِهِ مِنْهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ . وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا لَزِمَهُ بِالشَّهَادَةِ لَزِمَهُ بِالْإِقْرَارِ كَالْعِتْقِ ، وَالْوَقْفِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْعِتْقِ ، وَالْوَقْفِ لَزِمَهُ مِنَ الدَّيْنِ كَالشَّهَادَةِ .

فَصْلٌ : فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ التَّرِكَةُ أَلْفًا ، وَالْوَرَثَةُ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ دَيْنًا لَزِمَهُ مِنْهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهَا جَمِيعُ حِصَّتِهِ فَلَا يُلْزَمُ أَكْثَرَ مِنْهَا وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُهَا وَهِيَ جَمِيعُ حِصَّتِهِ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَلْزَمُهُ مِنْهَا نِصْفُهَا مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ . فَلَوْ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَتَرَكَ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ أَلْفًا وَحَضَرَ رَجُلٌ فَادَّعَى عَلَى أَبِيهِمْ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الْأَكْبَرُ عَلَى جَمِيعِهَا وَصَدَّقَهُ الْأَوْسَطُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَصَدَّقَهُ الْأَصْغَرُ عَلَى أَلْفٍ مِنْهَا ، فَعَلَى الْأَكْبَرِ جَمِيعُ الْأَلْفِ وَهِيَ كُلُّ مَا بِيَدِهِ لَا يَخْتَلِفُ وَأَمَّا الْأَوْسَطُ الْمُصَدِّقُ عَلَى أَلْفَيْنِ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ الَّتِي بِيَدِهِ ، وَالثَّانِي يَلْزَمُهُ ذَلِكَ الْأَلْفُ الَّتِي بِيَدِهِ وَأَمَّا الْأَصْغَرُ الْمُصَدِّقُ عَلَى أَلْفٍ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ الَّتِي بِيَدِهِ ، وَالثَّانِي يَلْزَمُهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ الَّتِي بِيَدِهِ .




فَصْلٌ : فَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ عَنِ ابْنٍ ، وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَخَلَّفَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ . فَقَالَ رَجُلٌ : أَوْصَى لِي أَبُوكَ بِثُلُثِ مَالِهِ ، فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى قَالَ آخَرُ : لِي عَلَى أَبِيكَ أَلْفٌ ، فَصَدَّقَهُمَا مَعًا ، وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ لِمُدَّعِي الْوَصِيَّةِ رُبْعُ الْعَبْدِ وَلِمُدَّعِي الدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي التَّصْدِيقِ لَهُمَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ الْعَبْدُ مَقْسُومًا عَلَى عَبْدٍ وَثُلُثٍ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لِلْوَصِيَّةِ وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلدَّيْنِ . وَلَوْ كَانَ صَدَّقَ مُدَّعِي الدَّيْنِ قَبْلَ مُدَّعِي الْوَصِيَّةِ صَارَ الْعَبْدُ مُسْتَحِقًّا فِي الدَّيْنِ وَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ ، وَلَوْ صَدَّقَ مُدَّعِي الْوَصِيَّةِ قَبْلَ مُدَّعِي الدَّيْنِ كَانَ لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ ثُلُثُ الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ ثُلُثَاهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ : أَعْتَقَنِي أَبُوكَ فِي صِحَّتِهِ ، وَقَالَ آخَرُ لِي عَلَى أَبِيكَ أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفٌ ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَصَدَّقَهُمَا مَعًا صَارَ نِصْفُ الْعَبْدِ حُرًّا وَنَصِفُهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ يُبَاعُ فِي دِينِهِ ، فَلَوْ كَانَ سَبَقَ إِقْرَارُهُ لِلْعَبْدِ صَارَ جَمِيعُهُ حُرًّا ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ وَلَوْ سَبَقَ إِقْرَارُهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ صَارَ لَهُ جَمِيعُهُ ، وَلَمْ يُعْتَقْ شَيْءٌ مِنْهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ تَقْدُمُ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ وَمَعَهَا وَلَدٌ فَيَدَّعِيهِ رَجُلٌ بِأَرْضِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ ابْنُهُ وَلَمْ يَكُنْ يُعَرَفُ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ مِنْ بَلَدِ الْإِسْلَامِ وَلَدَ امْرَأَةٍ قَدِمَتْ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ ، وَلَمْ نَعْلَمْهُ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِتَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ ، أَوْ تَكْذِيبِهَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي نَسَبِ الْمَوْلُودِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ مِنْ جِهَتِهَا التَّصْدِيقُ ، أَوِ التَّكْذِيبُ مَا لَمْ يَدَّعِ نِكَاحَهَا وَإِنَّمَا لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ دُخُولُهُ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ ؛ لِأَنَّ الْأَنْسَابَ يُلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ أَرْضَ الرُّومِ ، وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِ . وَلَوْ أَحَطْنَا عِلْمًا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ أَرْضَ الرُّومِ فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَدْ دَخَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يُعْلَمْ بِهَا فَصَارَ اجْتِمَاعُهُمَا مُمْكِنًا فَلُحِقَ بِهِ الْوَلَدُ مَعَ الْإِمْكَانِ .

فَصْلٌ : وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً فِي مَجْلِسِ حَاكِمٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا عُقَيْبَ الْعَقْدِ فِي مَجْلِسِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُلْحَقُ بِهِ إِنْ وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ سَوَاءً ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْعَقْدِ فِرَاشًا . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْإِمْكَانِ يَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِ النَّسَبِ وَمِنَ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ فِي عَقْدٍ يَعْقُبُهُ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي طَلَاقٌ أَنْ يُمْكِنَ فِيهِ إِصَابَةٌ تُوجِبُ لُحُوقَ الْوَلَدِ فَانْتَفَى .

فَصْلٌ : وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِالْمَشْرِقِ امْرَأَةً بِالْمَغْرِبِ فَجَاءَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُلْحَقُ بِهِ لِأَجْلِ الْفِرَاشِ .


وَنَحْنُ نَعْتَبِرُ الْإِمْكَانَ وَإِمْكَانُ اجْتِمَاعِهِمَا قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ مُحَالٌ فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ . وَهَكَذَا إِنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ الْعَقْدِ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقَدْرِ الْمَسَافَةِ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ ، فَأَمَّا إِنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقَدْرُ الْمَسَافَةِ يُلْحَقُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهَا بِأَنْ سَافَرَ إِلَيْهَا سِرًّا ، أَوْ سَافَرَتْ إِلَيْهِ سِرًّا ، وَالْأَنْسَابُ تُلْحَقُ بِالْإِمْكَانِ فَإِنْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ لِتَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ . وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَنْزَلَ مَنِيًّا فِي قُطْنَةٍ وَأَرْسَلَهَا إِلَيْهَا فَاسْتَدْخَلَتْ فَعَلِقَتْ مِنْهَا فَلَحِقَهُ بِهِ لِأَجْلِ هَذَا الْإِمْكَانِ وَهَذَا مَذْهَبٌ شَنِيعٌ وَتَعْلِيلٌ قَبِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ وَإِحْبَالٌ بِالْمُرَاسَلَةِ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَإِذَا كَانَتْ لَهُ أَمَتَانِ لَا زَوْجَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَوَلَدَتَا وَلَدَيْنِ فَأَقَرَّ السَّيِّدُ أَنَّ أَحَدَهُمَا ابْنُهُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فَمَاتَ أَرَيْتُهُمَا الْقَافَةَ فَأَيُّهُمَا أَلْحَقُوهُ بِهِ جَعَلْنَاهُ ابْنَهُ وَوَرَّثْنَاهُ مِنْهُ وَجَعَلْنَا أُمَّهُ أُمَّ وَلَدٍ وَأَوْقَفْنَا ابْنَهُ الْآخَرَ وَأُمَّهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَافَةٌ لَمْ نَجْعَلْ وَاحِدًا مِنْهُمَا ابْنَهُ وَأَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا خَرَجَ سَهْمُهُ أَعْتَقْنَاهُ وَأُمَّهُ وَأَوْقَفْنَا الْآخَرَ وَأُمَّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ لَهُ أَمَتَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ ، قَالَ : أَحَدُ هَذَيْنِ ابْنِي فَتَأْثِيرُ إِقْرَارِهِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا زَوْجٌ فَإِنَّ ذَاتَ الزَّوْجِ وَلَدُهَا لَاحِقٌ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا تُعْلَمَ إِحْدَاهُمَا فِرَاشًا لِلسَّيِّدِ بِالْإِصَابَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا إِذَا صَارَتْ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطَانِ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي تَأْثِيرِ إِقْرَارِهِ . وَلَهُ فِي الْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَقُولَ وَطِئْتُهَا فِي مِلْكِي . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ وَطِئْتُهَا فِي غَيْرِ مِلْكِي . وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يُطْلِقَ . فَيُؤْخَذُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِبَيَانِ وَلَدِهِ مِنْهُمَا فَإِذَا أَبَانَ أَحَدَهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ وَصَارَ حُرًّا وَصَارَتْ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ إِنْ أَقَرَّ أَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ وَهِيَ فِي مِلْكِهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَانَتْ أَمَةً . وَإِنْ أَطْلَقَ سُئِلَ وَعُمِلَ عَلَى قَوْلِهِ مِنْهَا . فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ سُئِلَ وَارِثُهُ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ بَيَانٌ عُمِلَ عَلَيْهِ وَكَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ بَيَانِهِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَلُحُوقِ الرَّدِّ وَكَوْنِ أَمَتِهِ أُمَّ وَلَدٍ إِنْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا فِي مِلْكِهِ وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَهَا


فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَهِيَ أَمَةٌ لَا تُعْتَقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَلَكِنْ تُعْتَقُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمِيرَاثِ الِابْنِ لَهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ أُمَّهُ عُتِقَتْ عَلَيْهِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْوَارِثِ بَيَانٌ وَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى بَيَانِ الْقَافَةِ إِنْ وُجِدُوا لِمَا فِي قَوْلِهِمْ مِنْ تَمْيِيزِ الْأَنْسَابِ الْمُشْتَبِهَةِ فَإِذَا بَيَّنُوا أَحَدَهُمَا لَحِقَ بِهِ وَصَارَ حُرًّا وَعُتِقَتْ أُمُّهُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ إِنْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ بِإِقْرَارِهِ ، أَوْ يَمْلِكُهَا ابْنُهَا إِنْ جُعِلَتْ أُمُّهُ بِوَطْئِهَا فِي غَيْرِ مِلْكٍ . وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِي ظَاهِرِ إِطْلَاقِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : الْإِصَابَةُ فِي الْمِلْكِ فَتَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ . وَالثَّانِي : فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لِيَسْتَدِيمَ لَهَا حُكْمُ الرِّقِّ . فَإِنْ جُعِلَتْ أُمَّ وَلَدٍ عُتِقَتْ عَلَى السَّيِّدِ بِمَوْتِهِ . وَإِنْ جُعِلَتْ أَمَةً عُتِقَتْ عَلَى الِابْنِ بِمِلْكِهِ وَكَانَ الْوَلَدُ الْآخَرُ وَأُمُّهُ مَمْلُوكَيْنِ . وَاسْتِدْلَالُ الْقَافَةِ فِي إِلْحَاقِ أَحَدِهِمَا بِالْمُقِرِّ بَعْدَ مَوْتِهِ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَارِفِينَ بِالْمُقِرِّ فَيَسْتَدِلُّوا بِمَا قَدْ عَرَفُوهُ مِنْ شَبَهِهِ بِالْوَلَدِ . وَإِمَّا أَنْ لَا يَعْرِفُوهُ فَيَتَعَجَّلُوا النَّظَرَ إِلَيْهِ قَبْلَ دَفْنِهِ . وَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُمْ ذَلِكَ فَيَسْتَدِلُّوا بِشَبَهِ عَصَبَتِهِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَافَةِ بَيَانٌ لَعَدَمِهِمْ أَوْ لِاشْتِبَاهِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ فَاتَ مَا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ مِنْ لُحُوقِ النَّسَبِ وَهُوَ أَحَدُ أَحْكَامِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَحْكَامًا ثَلَاثَةً : أَحَدُهُمَا : ثُبُوتُ النَّسَبِ . وَالثَّانِي : الْحُرِّيَّةُ . وَالثَّالِثُ : الْمِيرَاثُ . فَإِذَا انْتَفَى ثُبُوتُ النَّسَبِ سَقَطَ الْمِيرَاثُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ عَنِ النَّسَبِ وَتَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ الَّتِي تَجُوزُ أَنْ تَنْفَرِدَ عَنِ النَّسَبِ وَيُمْكِنُ تَمْيِيزُهَا بِالْقُرْعَةِ إِذَا فَاتَ الْبَيَانُ بِالْقَافَةِ فَيُقْرَعُ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ فَإِذَا قُرِعَ أَحَدُهُمَا صَارَ حُرًّا ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ : فَيَصِيرُ بِالْقُرْعَةِ وَلَدًا حُرًّا ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ لَهُ بِالْوِلَادَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ أَصْلُهَا وَيَبْقَى حُكْمُهَا . وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تَدْخُلُ فِي تَمْيِيزِ الْأَنْسَابِ الْمُشْتَبِهَةِ وَتَدْخُلُ فِي تَمْيِيزِ الْحُرِّيَّةِ الْمُشْتَبِهَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَنَازُعَ رَجُلَيْنِ فِي وَلَدٍ يُمْنَعُ مِنَ الْإِقْرَارِ بَيْنَهُمَا فِي نَسَبِهِ ، وَإِشْكَالُ الْحُرِّيَّةِ بَيْنَ عَبْدَيْنِ يُوجِبُ دُخُولَ الْقُرْعَةِ بَيْنَهُمَا فِي حُرِّيَّتِهِ وَصَارَتِ الْقُرْعَةُ هَاهُنَا فِي إِثْبَاتِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ بِمَثَابَةِ الشَّاهِدِ ، وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي السَّرِقَةِ فِي ثُبُوتِ الْغُرْمِ دُونَ الْقَطْعِ ثُمَّ إِذَا عُتِقَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ بِالْقُرْعَةِ نُظِرَ حَالُ أُمِّهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا فِي مِلْكِهِ عُتِقَتْ لِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ ثُمَّ يَجْرِي عِتْقُهَا بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَإِنْ كَانَ قَدْ


أَقَرَّ بِوَطْئِهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَهِيَ مَرْقُوقَةٌ لَا تُعْتَقُ عَلَى الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمْ يَرِثْ فَتُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطْلَقَ إِقْرَارَهُ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ صَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فَعُتِقَتْ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا أَمَةٌ لِوَرَثَتِهِ . وَأَمَّا الْوَلَدُ الْآخَرُ وَأُمُّهُ ، فَعَلَى رِقِّهِمَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَسَمِعْتُ الشَّافِعِيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : لَوْ قَالَ عِنْدَ وَفَاتِهِ لِثَلَاثَةِ أَوْلَادٍ لِأَمَتِهِ أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَلَدِي ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَلَهُ ابْنٌ مَعْرُوفٌ يُقْرَعْ بَيْنَهُمْ فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ عُتِقَ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ نَسَبٌ ، وَلَا مِيرَاثٌ وَأُمُّ الْوَلَدِ تُعْتَقُ بِأَحَدِ الثَّلَاثَةِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ عَلَى أَصْلِهِ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَجْعَلْ لِلِابْنِ الْمَجْهُولِ مُوَرَّثًا مَوْقُوفًا يُمْنَعُ مِنْهُ الِابْنَ الْمَعْرُوفُ وَلَيْسَ جَهْلُنَا بِأَيِّهَا الِابْنُ جَهْلًا بِأَنَّ فِيهِمُ ابْنًا وَإِذَا عَقَلْنَا أَنَّ فِيهِمُ ابْنًا فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ لَهُ مُوَرَّثَ ابْنٍ وَلَوْ كَانَ جَهْلُنَا بِأَيِّهِمْ الِابْنُ جَهْلًا بِأَنَّ فِيهِمُ ابْنًا لَجَهِلْنَا بِذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ حُرًّا وَبِيعُوا جَمِيعًا وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ طَلَّقَ نِسَاءَهُ إِلَّا وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ يُوقَفُ مُوَرَّثُ وَاحِدَةٍ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ ، وَلَمْ يَجْعَلْ جَهْلَهُ بِهَا جَهْلًا بِمُوَرَّثِهَا وَهَذَا وَذَاكَ عِنْدِي فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَقُولُ أَنَا فِي الثَّلَاثَةِ الْأَوْلَادِ إِنْ كَانَ الْأَكْبَرُ هُوَ الِابْنُ فَهُوَ حُرٌّ ، وَالْأَصْغَرُ ، وَالْأَوْسَطُ حُرَّانِ بِأَنَّهُمَا ابْنَا أُمِّ وَلَدٍ وَإِنْ كَانَ الْأَوْسَطُ هُوَ الِابْنُ فَهُوَ حُرٌّ ، وَالْأَصْغَرُ حُرٌّ بِأَنَّهُ ابْنُ أُمِّ وَلَدٍ وَإِنْ كَانَ الْأَصْغَرُ هُوَ الِابْنُ فَهُوَ حُرٌّ بِالْبُنُوَّةِ فَالْأَصْغَرُ عَلَى كُلِ حَالٍ حُرٌّ لَا شَكَ فِيهِ فَكَيْفَ يُرَقِّ إِذَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ بِالرِّقِّ وَتُمْكِنُ حُرِّيَّةُ الْأَوْسَطِ فِي حَالَيْنِ وَيَرِقُّ فِي حَالٍ وَتُمْكِنُ حُرِّيَّةُ الْأَكْبَرِ فِي حَالٍ وَيَرِقُّ فِي حَالَيْنِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا رَقِيقَيْنِ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ ، وَالِابْنِ الْمَجْهُولِ نِصْفَيْنِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ هُوَ الْأَكْبَرُ فَيَكُونُ الثَّلَاثَةُ أَحْرَارًا فَالْقِيَاسُ عِنْدِي عَلَى مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنْ أُعْطِيَ الْيَقِينَ وَأَقِفَ الشَّكَ فَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ نِصْفُ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُ وَالَّذِي أَقَرَّ بِهِ ابْنَانِ فَلَهُ النِّصْفُ ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مَوْقُوفٌ حَتَّى يُعْرَفَ ، أَوْ يَصْطَلِحُوا ، وَالْقِيَاسُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْوَقْفُ إِذَا لَمْ أَدْرِ أَهُمَا عَبْدَانِ ، أَوْ حُرَّانِ أَمْ عَبْدٌ وَحُرٌّ أَنْ يُوقَفَا . وَمُوَرِّثُ ابْنٍ حَتَّى يَصْطَلِحُوا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا فِي سَيِّدِ أَمَةٍ لَهَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : أَحَدُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ ابْنِي فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي الْأُمِّ عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ : وَطِئْتُ أُمَّهُ فِي مِلْكِي . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : وَطِئْتُهَا فِي غَيْرِ مِلْكِي .


وَالثَّالِثُ : أَنْ يُطْلِقَ . فَإِنْ قَالَ وَطِئْتُهَا فِي غَيْرِ مِلْكِي لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ وَأُخِذَ بِبَيَانِ الْوَلَدِ فَإِنْ قَالَ : هُوَ الْأَكْبَرُ ، لَحِقَهُ وَحْدَهُ وَصَارَ حُرًّا يَرِثُهُ وَرَقَّ الْأَوْسَطُ ، وَالْأَصْغَرُ . وَإِنْ قَالَ : هُوَ الْأَوْسَطُ لَحِقَهُ وَحْدَهُ وَصَارَ حُرًّا يَرِثُهُ وَيَرِقُّ الْأَكْبَرُ ، وَالْأَصْغَرُ . وَإِنْ قَالَ : هُوَ الْأَصْغَرُ ، لَحِقَهُ وَحْدَهُ وَصَارَ حُرًّا يَرِثُهُ وَرَقَّ الْأَكْبَرُ ، وَالْأَوْسَطُ .

فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ قَالَ : وَطِئْتُهَا فِي مِلْكِي ، أم الولد صَارَتْ بِهَذَا الْقَوْلِ أُمَّ وَلَدٍ وَأُخِذَ بِبَيَانِ الْوَلَدِ فَإِنْ قَالَ : هُوَ الْأَكْبَرُ لَحِقَهُ بِهِ وَصَارَ حُرًّا وَارِثًا ، وَهَلْ يُلْحَقُ بِهِ الْأَوْسَطُ ، وَالْأَصْغَرُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَلْحَقَانِ بِهِ أَيْضًا مَعَ الْأَكْبَرِ وَيَصِيرُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهُمْ أَوْلَادًا يَرِثُونَهُ ؛ لِأَنَّهَا بِالْأَوَّلِ صَارَتْ فِرَاشًا فَلَحِقَ بِهِ كُلُّ وَلَدٍ جَاءَتْ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَخَالَفَ حُكْمَ قَوْلِهِ : وَطِئْتُهَا فِي غَيْرِ مِلْكِي ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ قَدِ ارْتَفَعَ بِحَقٍّ دُونَ مِلْكِهِ فَارْتَفَعَ الْفِرَاشُ بِهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِإِصَابَتِهَا فِي الْمِلْكِ فَالْفِرَاشُ بَاقٍ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْأَكْبَرَ لَاحِقٌ بِهِ دُونَ الْأَوْسَطِ ، وَالْأَصْغَرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ وَضَعَتِ الْأَوَّلَ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ بِيعَتْ عَلَيْهِ فِي رَهْنٍ فَوَلَدَتِ الْأَوْسَطَ ، وَالْأَصْغَرَ مِنْ زَوْجٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا ، وَالْوَلَدَيْنِ مَعَهَا تَكُونُ قَدْ زَوَّجَهَا عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ شِرَائِهَا فَجَاءَتْ بِالْوَلَدَيْنِ مِنْ زَوْجِهَا فَصَارَ لُحُوقُهُمَا بِهِ شَكًّا عَلَى تَجْوِيزٍ مُتَرَجَّحٍ ، وَالْأَنْسَابُ لَا تُلْحَقُ بِالشَّكِّ ، وَالتَّجْوِيزِ ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ هَلْ يَكُونَانِ فِي حُكْمِ أُمِّ الْوَلَدِ يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : صَارَا فِي حُكْمِهَا يُعْتَقَانِ بِالْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُمَا وَلَدَا أُمِّ وَلَدٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا عَلَى الرِّقِّ لَا يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا مِنْ زَوْجٍ بَعْدَ بَيْعِهَا عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ ثُمَّ ابْتَاعَهُمَا مَعَ الْأُمِّ فَصَارَتِ الْأُمُّ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ ، وَلَمْ يَصِرِ الْوَلَدَانِ فِي حُكْمِ أُمِّ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُمَا فِي حَالٍ لَمْ تَكُنْ فِيهَا أُمَّ وَلَدٍ ، وَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ حُرِّيَّةٍ بِالشَّكِّ كَمَا لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ نَسَبٍ بِالشَّكِّ . فَهَذَا حُكْمُ بَيَانِهِ فِي الِابْنِ الْأَكْبَرِ . أَمَّا لَوْ قَالَ : وَلَدِي مِنَ الثَّلَاثَةِ هُوَ الْأَوْسَطُ ، فَالْأَوْسَطُ لَاحِقٌ بِهِ ، وَالْأَكْبَرُ عَلَى الرِّقِّ لَا يَلْحَقُ بِهِ . وَفِي لُحُوقِ الْأَصْغَرِ بِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا : أَحَدُهُمَا : هُوَ لَاحِقٌ بِهِ . وَالثَّانِي : لَا يُلْحَقُ بِهِ . وَفِي حُرِّيَّتِهِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَجْهَانِ .


وَإِنْ قَالَ : وَلَدِي مِنَ الثَّلَاثَةِ هُوَ الْأَصْغَرُ لَحِقَ بِهِ وَحْدَهُ وَرَقَّ الْأَكْبَرُ ، وَالْأَوْسَطُ .

فَصْلٌ : وَإِنْ أَطْلَقَ ذِكْرَ الْأُمِّ حِينَ أَقَرَّ بِالْوَلَدِ بَعْدَ تَعْيِينِهِ حَتَّى فَاتَ بَيَانُهُ بِالْمَوْتِ السيد إذا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ اسْتِصْحَابًا لِحُكْمِ الرِّقِّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ حُرِّيَّةٍ بِالشَّكِّ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُلْحَقُ بِهِ إِلَّا الْوَلَدُ الَّذِي بَيَّنَهُ وَحْدَهُ سَوَاءٌ بَيَّنَ الْأَكْبَرَ ، أَوِ الْأَصْغَرَ مِنْهُمْ وَيَكُونُ الْآخَرَانِ عَلَى رِقِّهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِ الْفِرَاشِ أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ الْمَوْجُودِ مِنَ الْمِلْكِ دُونَ مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ مِنْ نِكَاحٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَهَا فِي مِلْكِهِ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا اسْتُدْرِكَ مِنْ جِهَتِهِ بَيَانُ الْوَلَدِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِنْ فَاتَ مِنْ جِهَتِهِ بَيَانُ الْوَلَدِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ وَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ إِلَى بَيَانِ الْقَافَةِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِقَوْلِهِمْ مَا اشْتَبَهَ مِنَ الْأَنْسَابِ ، السيد وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَافَةَ فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِمَّا بِحَذْفِ الْكَاتِبِ إِيَّاهُ وَإِمَّا لِاخْتِصَارِ الْمُزَنِيِّ لَهُ تَعْوِيلًا عَلَى مَا قَدْ عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ مِنْ ذِكْرِ الْقَافَةِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَإِنْ أَلْحَقَتِ الْقَافَةُ بِهِ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ لَحِقَ بِهِ وَرَقَّ مَنْ سِوَاهُ وَكَانَتِ الْأُمُّ أَمَةً تُعْتَقُ عَلَى الِابْنِ بِإِرْثِهِ لَهَا وَإِنْ أَلْحَقَتِ الْقَافَةُ بِهِ اثْنَيْنِ مِنَ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَلْحَقَا بِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ وَخَرَجَ مَنْ نَفَتْهُ الْقَافَةُ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُكْمِهِمْ وَصَارَ حُكْمُ النَّسَبِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الِاثْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَيَّنَ نَسَبُ أَحَدِهِمْ ، وَلَا يُسْتَفَادُ بِهَذِهِ الْقَافَةِ إِلَّا خُرُوجُ نَسَبِ الْمَنْفِيِّ مِنْهُمْ ، وَالْحُكْمُ بِرِقِّهِ مِنْ بَيْنِهِمْ . وَإِنْ أَلْحَقُوا الثَّلَاثَةَ بِهِ فَلَا بَيَانَ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا فِي مِلْكِهِ فَإِنْ أَلْحَقُوا بِهِ أَحَدَهُمْ لَحِقَ بِهِ وَهَلْ يَتْبَعُهُ مَنْ دُونَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَتْبَعُهُ وَيَرِقُّ . وَالثَّانِي : يَتْبَعُهُ . فَعَلَى هَذَا إِنْ أَلْحَقُوا بِهِ الْأَكْبَرَ تَبِعَهُ الْأَوْسَطُ ، وَالْأَصْغَرُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ وَصَارَ الثَّلَاثَةُ لَهُ أَوْلَادًا يَرِثُونَهُ . وَإِنْ أَلْحَقُوا بِهِ الْأَوْسَطَ تَبِعَهُ الْأَصْغَرُ فَلَحِقَا بِهِ مَعًا ، وَكَانَ الْأَكْبَرُ مَمْلُوكًا . وَإِنْ أَلْحَقُوا بِهِ الْأَصْغَرَ لَحِقَ بِهِ وَحْدَهُ دُونَ الْأَكْبَرِ ، وَالْأَوْسَطِ . وَلَوْ أَلْحَقَتِ الْقَافَةُ بِهِ ابْنَيْنِ مِنْهُ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا لَكِنْ يَخْرُجُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُمَا وَيَصِيرُ مَمْلُوكًا وَيَتَرَدَّدُ النَّسَبُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : يَلْحَقُ بِهِ الِاثْنَانِ مَعًا ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَلْحَقُوا بِهِ الْأَكْبَرَ ، وَالْأَوْسَطَ لَحِقَا بِهِ مَعَ الْأَصْغَرِ أَيْضًا وَكَانَ تَبَعًا لَهُمَا ، وَإِنْ أَلْحَقُوا بِهِ الْأَكْبَرَ ، وَالْأَصْغَرَ لَحِقَا بِهِ مَعَ


الْأَوْسَطِ وَكَانَ تَبَعًا لِلْأَكْبَرِ وَإِنْ أَلْحَقُوا بِهِ الْأَوْسَطَ ، وَالْأَصْغَرَ لَحِقَا بِهِ مَعًا لَا غَيْرَ وَرَقَّ الْأَكْبَرُ وَحْدَهُ . وَلَوْ أَلْحَقَتِ الْقَافَةُ بِهِ الثَّلَاثَةَ لَحِقُوا بِهِ .

فَصْلٌ : وَإِنْ فَاتَ الْبَيَانُ مِنْ جِهَةِ الْقَافَةِ لَعَدَمِهِمْ ، أَوْ لِإِشْكَالِ الشَّبَهِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ إِقْرَارُهُ بِالْوَطْءِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَهِيَ عَلَى الرِّقِّ ، السيد بعد موته وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِفَوَاتِ بَيَانِهِ لَكِنْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ تَمْيِيزًا لِحُرِّيَّةِ أَحَدِهِمْ . فَإِذَا أُقْرِعَ أَحَدُهُمْ عُتِقَ وَحْدَهُ وَرَقَّ الْآخَرَانِ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الْمُزَنِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا . وَإِنْ كَانَ إِقْرَارُهُ بِالْوَطْءِ فِي مِلْكِهِ فَفِي ثُبُوتِ نَسَبِ الْأَصْغَرِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَثْبُتُ نَسَبُهُ إِذَا قِيلَ إِنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ بِبَيَانِ الْمُقِرِّ ، أَوِ الْقَافَةِ يُوجِبُ ثُبُوتَ نَسَبِ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ مِنْ دُونِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْغَرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ثَابِتُ النَّسَبِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْأَكْبَرُ هُوَ الِابْنُ تَبِعَهُ الْأَوْسَطُ ، وَالْأَصْغَرُ وَإِنْ كَانَ الْأَوْسَطُ هُوَ الِابْنُ تَبِعَهُ الْأَصْغَرُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْغَرُ ، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَحْدَهُ وَصَارَ الْأَصْغَرُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ وَارِثًا . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَإِنَّمَا حَذَفَهُ الْكَاتِبُ مِنْ كَلَامِهِ . فَعَلَى هَذَا تَسْقُطُ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ وَيَرِقَّانِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ نَسَبَ الْأَصْغَرِ لَا يَثْبُتُ إِذَا قِيلَ إِنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ أَحَدِهِمْ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ نَسَبِ مَنْ سِوَاهُ ، فَعَلَى هَذَا : هَلْ يُعْتَقُ الْأَصْغَرُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُعْتَقُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ أَحَدِهِمْ يَجْعَلُ مَنْ دُونَهُ وَلَدَ أُمٍّ وُلِدَ ، فَعَلَى هَذَا تَسْقُطُ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَيَرِقَّانِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ أَحَدِهِمْ لَا يَجْعَلُ مَنْ دُونَهُ وَلَدَ أُمِّ وَلَدٍ ، فَعَلَى هَذَا يُقْرَعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فَيُعْتَقُ أَحَدُهُمْ بِالْقُرْعَةِ تَمْيِيزًا لِلْحُرِّيَّةِ فَإِذَا أُقْرِعَ أَحَدُهُمْ عُتِقَ وَحْدَهُ وَرَقَّ مَا سِوَاهُ ، وَالْأُمُّ حُرَّةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ بِأَحَدِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَا يَرِثُ مَنْ عُتِقَ بِالْقُرْعَةِ ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ لَمْ يَثْبُتْ . فَأَمَّا مِيرَاثُ الْمُقِرِّ فَالْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ : أَنَّ الْمُقِرَّ تَرَكَ مَعَ الثَّلَاثَةِ ابْنًا مَعْرُوفًا فَهَلْ يُوقَفُ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْءٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُوقَفُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ جَهْلُنَا بِأَيِّهِمْ الِابْنُ جَهْلًا بِأَنَّ فِيهِمِ ابْنًا كَمَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا مِنْ نِسَائِهِ وُقِفَ مِيرَاثُ زَوْجَةٍ ، وَلَا يَكُونُ جَهْلُنَا بِأَيِّهِمِ الزَّوْجَةُ جَهْلًا بِأَنَّ فِيهِمْ زَوْجَةً وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : " وَلَا مِيرَاثَ " يَعْنِي لِمَنْ عُتِقَ بِالْقُرْعَةِ لَا أَنَّهُ أَرَادَ تَرْكَ وَقْفِهِ .


وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُوقَفُ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْءَ لِفَوَاتِ الْبَيَانِ بِمَا يَسْتَدْرِكُ بِهِ مِنَ الْمُقِرُّ فِي حَيَاتِهِ وَمِنَ الْقَافَةِ مِنْ بَعْدِهِ ، وَلَا يَكُونُ عِلْمُنَا بِأَنَّ فِيهِمِ ابْنًا مُوجِبًا لِوَقْفِ مِيرَاثِهِ عِنْدَ فَوَاتِ الْبَيَانِ كَالْعَرَبِيِّ إِذَا مَاتَ مَجْهُولَ الْعُصْبَةِ لَا يُوقَفُ مِيرَاثُهُ إِذَا مَاتَ وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّ لَهُ فِي الْعَرَبِ عُصْبَةً وَكَانَ الْجَهْلُ بِأَقْرَبَ عُصْبَتِهِ مُسْقِطًا لِحُكْمِ عُصْبَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُوقَفَ بَعْضُ التَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّ فِي الثَّلَاثَةِ ابْنًا لَجَازَ أَنْ يُوقَفَ مِنْ مِيرَاثِ مَنْ مَاتَ مِنَ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِمِ ابْنًا ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ وَارِثًا كَانَ مَوْرُوثًا ، فَأَمَّا وَقْفُ مِيرَاثِ الزَّوْجَةِ الْمَجْهُولَةِ مِنَ الْأَرْبَعِ فَوَاجِبٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّنَا فِي الزَّوْجَاتِ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ثُبُوتِ الزَّوْجَةِ وَوَقْفِ الْمِيرَاثِ لَهُنَّ ، وَلَسْنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ فَلَمْ يَقِفِ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمْ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَإِنْ قُلْنَا بِسُقُوطِ الْوَقْفِ وَتَعْجِيلِ الْقِسْمَةِ نُظِرَ فَإِنْ حُكِمَ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْأَصْغَرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَالتَّرِكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ الْمَعُرُوفِ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ كَانَتِ التَّرِكَةُ كُلُّهَا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ . وَإِنْ قُلْنَا يُوقَفُ الْمِيرَاثُ ، وُقِفَ نِصْفُ التَّرِكَةِ وَكَانَ نِصْفُهَـا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ إِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْأَصْغَرِ . فَإِنْ حُكِمَ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ كَانَ بَيْنَهُمَا . وَهَكَذَا وَقْفُ الْمِيرَاثِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَلَدِ إِحْدَى الِاثْنَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ مِيرَاثَ مَيِّتٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِاسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَتَجُوزُ الشَهَادَةُ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَ فُلَانٍ إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ وَإِنْ قَالُوا بَلَغَنَا أَنَّ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ لَمْ يُقَسَّمِ الْمِيرَاثُ حَتَّى يُعْلَمَ كَمْ هُوَ فَإِنْ تَطَاوَلَ ذَلِكَ دُعِيَ الْوَارِثُ بِكَفِيلٍ لِلْمِيرَاثِ ، وَلَا نَجْبُرُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ مِيرَاثَ مَيِّتٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِاسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِهِ لَمْ تُسْمَعِ الشَّهَادَةُ مِنْهُمَا حَتَّى يَذْكُرَانِ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ مِيرَاثَهُ مِنْ سَبَبٍ ، أَوْ نَسَبٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَوَارِيثِ الْمُسْتَحَقَّةِ ، وَالْأَحَقِّ بِهَا مِنَ الْوَرَثَةِ فَإِذَا شَهِدَا بِمَا يَصِيرُ بِهِ وَارِثًا مِنْ نَسَبٍ ، أَوْ سَبَبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ فَرْضًا ، أَوْ تَعْصِيبًا لَمْ يَخْلُ حَالُ شَهَادَتِهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَضَمَّنَ إِثْبَاتَ مِيرَاثِ الْمُدَّعِي وَنَفْيَ مِيرَاثِ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَضَمَّنَ إِثْبَاتَ مِيرَاثِهِ وَمِيرَاثَ غَيْرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَتَضَمَّنَ إِثْبَاتَ مِيرَاثِهِ ، وَلَا يَتَضَمَّنَ ذِكْرَ غَيْرِهِ فِي إِثْبَاتِ ، وَلَا نَفْيٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَتَضَمَّنَ إِثْبَاتَ مِيرَاثِهِ وَنَفْيَ مِيرَاثِ غَيْرِهِ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدَانِ : نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا هَذَا وَارِثُ فُلَانِ الْمَيِّتِ وَأَنَّ الْمَيِّتَ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَيَصِيرَانِ


شَاهِدَيْنِ بِإِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ . أَمَّا الْإِثْبَاتُ فَشَهَادَتُهُمَا بِهِ عَلَى الْبَتِّ ، وَالْقَطْعِ ، وَهِيَ مَقْبُولَةٌ سَوَاءٌ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِالْمَيِّتِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَصِلَانِ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ كَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ مِنْ خُلَطَائِهِ ، وَأَمَّا النَّفْيُ فَشَهَادَتُهُمَا عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْبَتِّ ، وَالْقَطْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ غَالِبِ أَحْوَالِهِ ، وَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ إِذَا كَانَ تَبَعًا لِلْإِثْبَاتِ ، وَلَا تَصِحُّ عَلَى نَفْيٍ مُجَرَّدٍ وَهِيَ هَاهُنَا تَبَعًا لِلْإِثْبَاتِ فَصَحَّتْ أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَا كَانَ يَحْجِزُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَابَةَ . فَصَحَّ نَفْيُهُ لَمَّا اقْتَرَنَ بِإِثْبَاتٍ وَإِذَا صَحَّتِ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ تَبَعًا لِلْإِثْبَاتِ اعْتُبِرَ حَالُ الشَّاهِدَيْنِ بِهِ . فَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِالْمَيِّتِ قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا فِي النَّفْيِ ، وَالْإِثْبَاتِ مَعًا وَدُفِعَ الْمَالُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ . أَلَا تَرَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَحَّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالنَّفْيِ تَبَعًا لِلْإِثْبَاتِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْجِزُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَابَةَ . وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّاهِدَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِالْمَيِّتِ ، وَلَا مِمَّنْ خَبَرَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِ فِي حَضَرِهِ وَسَفَرِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى النَّفْيِ لِوَارِثٍ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا خَفِيَ عَلَيْهِمَا مِنْ حَالِهِ نَسَبٌ لَمْ يَعْلَمَا بِهِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَدْ خَالَفَ مَا شَهِدَا بِهِ مِنَ الْإِثْبَاتِ فَتُعْتَبَرُ الشَّهَادَةَ بِهَا بِإِثْبَاتٍ مُجَرَّدٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَهَذَا قِسْمٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ تَتَضَمَّنَ الشَّهَادَةُ إِثْبَاتَ مِيرَاثِهِ وَمِيرَاثَ غَيْرِهِ إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ مِيرَاثَ مَيِّتٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُثْبِتَا مِيرَاثَ غَيْرِهِ إِثْبَاتَ شَهَادَةٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يُثْبِتَا مِيرَاثَ غَيْرِهِ إِثْبَاتَ خَبَرٍ . فَإِنْ كَانَ إِثْبَاتَ شَهَادَةٍ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ : نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ الْغَائِبِ يَرِثَانِهِ بِوَجْهِ كَذَا فَإِنْ وَصَلَا الشَّهَادَةَ بِأَنْ قَالَا : لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا تَمَّتْ إِذَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ وَدُفِعَ إِلَى الْحَاضِرِ حَقَّهُ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَوُقِفَ لِلْغَائِبِ حَقُّهُ مِنْهَا . وَإِنْ لَمْ يَقُولَا : لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا صَارَتْ شَهَادَةً بِإِثْبَاتِ مِيرَاثِ الْحَاضِرِ ، وَالْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ نَفْيِ الْمِيرَاثِ عَنْ غَيْرِهِمَا فَيَكُونُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ الشَّاهِدَانِ مِنْ مِيرَاثِ غَيْرِهِ إِثْبَاتَ خَبَرٍ لَا شَهَادَةً فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَا : نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ وَنَعْلَمُ أَنَّ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَوْ بَلَغَنَا أَنَّ لَهُ وَارِثًا خَيْرًا مِنْهُمَا يُوجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ الِاحْتِيَاطَ ، وَالْكَشْفَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ حُكْمُ الْإِثْبَاتِ ، وَالْقَطْعِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَاضِرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :


أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ وَلَهُ فَرْضُ مِقْدَارٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ لَهُ فَرْضٌ مُقَدَّرٌ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَدْ يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ . فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ وَلَهُ فَرْضٌ مُقَدَّرٌ وَجَبَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ أَقَلُّ فَرْضَيْهِ وَتُوقَفُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَبًا دُفِعَ إِلَيْهِ السُّدُسُ مَعُولًا وَكَذَا الْأُمُّ ، وَإِنْ كَانَ زَوْجًا دُفِعَ إِلَيْهِ الرُّبْعُ مَعُولًا ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً دُفِعَ إِلَيْهَا رُبْعُ الثُّمُنِ مَعُولًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُنَّ أَرْبَعًا . وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ لَهُ فَرْضٌ مُقَدَّرٌ كَالِابْنِ وَبِمَثَابَتِهِ الْبِنْتُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ قَدْ لَا يَسْتَحِقُّهُ لِجَوَازِ أَنْ يُوجَدَ مَنْ يَحْجُبُهُ عَنْ بَعْضِهِ وَفِي دَفْعِ بَعْضِهِ لَا تُقَدَّرُ حُكْمٌ بِجَهَالَةٍ فَوَجَبَ مَنْعُهُ مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ لِيَقَعَ الْكَشْفُ فَإِذَا كَشَفَ الْحَاكِمُ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ فَلَمْ يَعْلَمْ وَارِثًا غَيْرَهُ وَطَلَبَ الْمِيرَاثَ وَجَبَ دَفْعُهُ إِلَيْهِ بِهَا ؛ لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ وَفِي شَكٍّ مِنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ قَدْ يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ كَالْأَخِ ، وَالْجَدِّ وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ جَمِيعِهَا قَبْلَ الْكَشْفِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْكَشْفِ وَعَدَمِ ظُهُورِ غَيْرِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُمْنَعُ مَا لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّنَا عَلَى شَكٍّ مِنْ مِيرَاثِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَمُتَأَخِّرُو أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَيْهِ الْمِيرَاثُ ، وَلَا يُمْنَعُ ؛ لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ كَوْنِهِ وَارِثًا وَعَلَى شَكٍّ بَعْدَ الْكَشْفِ مِنْ أَنْ يَجِدَ لَهُ مِمَّنْ نَرَاهُ مُسْقِطًا ، أَوْ مُشَارِكًا . فَهَذَا قِسْمٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ تَتَضَمَّنَ الشَّهَادَةُ إِثْبَاتَ مِيرَاثِهِ ، وَالْإِمْسَاكَ عَنْ غَيْرِهِ بِإِثْبَاتٍ ، أَوْ نَفْيٍ . فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَا : نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ بِوَجْهِ كَذَا إذا قال شاهدان فَإِنْ كَانَ ذَا فَرْضٍ لَا يُحْجَبُ عَنْهُ دُفِعَ إِلَيْهِ أَقَلُّ فَرْضَيْهِ وَكَانَ الْبَاقِي مِنْهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْكَشْفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا فَرْضٍ مُنِعَ مِنَ التَّرِكَةِ حَتَّى يَقَعَ الْكَشْفُ ثُمَّ يَدْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْكَشْفِ وَعَدَمِ ظُهُورِهِ غَيْرَهُ سَوَاءُ كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِغَيْرِهِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ كَوْنِهِ وَارِثًا وَعَلَى إِيَاسٍ مِنْ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مُشَارِكٌ ، وَلَمْ يَكُنْ وَهِيَ كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَخْبَرَ الشَّاهِدَانِ بِغَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يُمْنَعَ الْمَحْجُوبُ بَعْدَ الْكَشْفِ لِأَجْلِ هَذَا الْخَبَرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَعَ ضَعْفِهِ وَإِذَا وَجَبَ دَفْعُ التَّرِكَةِ إِلَيْهِ فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْمِيرَاثِ خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ مُسْقِطٍ عَنْهُ ، أَوْ شَرِيكٍ فِيهِ .

قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : هَاهُنَا لَا أُجْبِرُهُ وَقَالَ فِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ : أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى كَفِيلٍ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكَفِيلَ اسْتِحْبَابٌ ، وَلَا نُجْبِرُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعٌ كَقَوْلٍ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَمْ يُجْبِرْ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ بِسَبَبِهِ لِيُؤْخَذَ كَفِيلًا بِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْكَفِيلَ وَاجِبٌ وَيُمْنَعُ حَتَّى يَدْفَعَ كَفِيلًا بِهِ ؛ لِأَنَّنَا لَسْنَا عَلَى يَقِينٍ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ وَإِنَّمَا دَفَعْنَا إِلَيْهِ تَغْلِيبًا لِحَالِهِ مَعَ تَجْوِيزِ غَائِبٍ يَلْزَمُ الِاحْتِيَاطُ لَهُ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَنَصُّهُ هَاهُنَا عَلَى " أَنَّهُ لَا يُجْبِرُ إِذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَسْقُطُ وَنَصُّهُ فِي الدَّعْوَى عَلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ . وَقَالَ آخَرُونَ : عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ مِنِ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فَنَصُّهُ عَلَى الْإِجْبَارِ إِذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ ، وَنَصُّهُ عَلَى عَدَمِ الْإِجْبَارِ إِذَا كَانَ ثِقَةً . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَإِنْ قَالُوا لَا وَارِثَ غَيْرُهُ قُبِلَتْ عَلَى مَعْنَى لَا نَعْلَمُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى الْإِحَاطَةِ كَانَ خَطَأً ، وَلَمْ أَرُدَّهُمْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَؤُولُ بِهِمْ إِلَى الْعِلْمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا شَهِدُوا بَعْدَ إِثْبَاتِ الْوَارِثِ بِنَفْيِ غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ بِهِ عَلَى الْعِلْمِ الشهود فَيَقُولُوا : لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ فِيهِ بِظَاهِرٍ لَا يَصِلُونَ إِلَى يَقِينِهِ ، فَإِنْ شَهِدُوا قَطْعًا فَقَالُوا : لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : شَهَادَتُهُمْ مَرْدُودَةٌ ؛ لِأَنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنَ الْقَطْعِ مُسْتَحِيلٌ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ إِلَّا هَكَذَا ، وَلَا أَقْبَلُهَا عَلَى الْعِلْمِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْحَدْسِ ، وَالظَّنِّ ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا خَطَأٌ ، وَشَهَادَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ الْيَقِينِ فِيهِ تَمْنَعُ مِنَ الْقَطْعِ بِهِ بِخِلَافِ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ يُؤَوَّلُ إِلَى مَنْ قَطَعَ بِهِ إِلَى الْعِلْمِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِينَارًا ، وَلَا دِرْهَمًا تَعْنِي فِي عِلْمِهَا ، فَصَحَّ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
_____كِتَابُ الْعَارِيَّةِ _____

تعريف العارية


كِتَابُ الْعَارِيَّةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَكُلُّ عَارِيَّةٍ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَإِنْ تَلَفَتْ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ . اسْتَعَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَفْوَانَ سِلَاحَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ مُؤَدَّاةٌ وَقَالَ مَنْ لَا يَضْمَنُ الْعَارِيَةَ فَإِنْ قُلْنَا إِذَا اشْتَرَطَ الْمُسْتَعِيرُ الضَّمَانَ ضُمِنَ قُلْتُ إِذَا تَتْرُكُ قَوْلَكَ قَالَ وَأَيْنَ ؟ قُلْتُ مَا تَقُولُ فِي الْوَدِيعَةِ إِذَا اشْتَرَطَ الْمُسْتَوْدِعُ ، أَوِ الْمُضَارِبُ الضَّمَانَ أَهُوَ ضَامِنٌ ؟ قَالَ لَا يَكُونُ ضَامِنًا قُلْتُ فَإِنِ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْتَسْلِفِ أَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ أَيَبْرَأُ ؟ قَالَ لَا قُلْتُ وَيَرُدُّ مَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ إِلَى أَصْلِهِ ، وَمَا كَانَ مَضْمُونًا إِلَى أَصْلِهِ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ فِيهِمَا ؟ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ فِي الْعَارِيَةِ وَكَذَلِكَ شَرَطَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ لِمَا لَا يُضْمَنُ قَالَ فَلِمَ شَرَطَ ؟ قُلْتُ لِجَهَالَةِ صَفْوَانَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُشْرِكًا لَا يَعْرِفُ الْحُكْمَ وَلَوْ عَرَفَهُ مَا ضَرَّهُ شَرْطُهُ لَهُ قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا أَحَدٌ قُلْتُ فِي هَذَا كِفَايَةٌ ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الْعَارِيَةُ تعريفها وحكمها فَهِيَ عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ جَاءَ الشَّرْعُ بِهَا وَنَدَبَ النَّاسَ إِلَيْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [ الْمَائِدَةِ : 2 ] ، وَالْعَارِيَةُ مِنَ الْبِرِّ . قَالَ تَعَالَى : لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [ النِّسَاءِ : 114 ] . وَالْعَارِيَةُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَقَالَ تَعَالَى : وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [ الْمَاعُونِ : 7 ] . وَرَوَى ابْنُ أَبِي النَّجُودِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كُنَّا نَعُدُ الْمَاعُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَارِيَةُ الدَّلْوِ ، وَالْقِدْرِ . وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَاعُونِ عَلَى خَمْسِ تَأْوِيلَاتٍ أَحَدُهَا مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ . وَهَذَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ


كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ الْمَالُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَالرَّابِعُ أَنَّهُ الزَّكَاةُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ الرَّاعِي : قَوْمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ لَمَّا يَمْنَعُوا مَاعُونَهُمْ وَيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلَا وَالْخَامِسُ أَنَّهُ الْمَنَافِعُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ اسْتُشْهِدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ أَعْشَى بْنِ ثَعْلَبَةَ : بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَاعُونِهِ إِذَا مَا سَمَاؤُهُمْ لَمْ تَغِمْ وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : الْعَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ ، وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ مَضْمُونٌ ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ فَتَطَأُهُ بِخِفَافِهَا كُلَّمَا مَضَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا قِيلَ فَمَا حَقُّهَا فَمَا حَقُّ الْإِبِلِ ؟ قَالَ : يُعْطِي الْكَرِيمَةَ وَيَمْنَحُ الْعَزِيرَةَ وَيَعْقِرُ الظَّهْرَ وَيُطْرِقُ الْفَحْلَ وَيَسْقِي اللَّبَنَ . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ مِنْ حَقِّهَا إِعَارَةُ دَلْوِهَا وَإِطْرَاقُ فَحْلِهَا وَمِنْحَةِ لَبَنِهَا يَوْمَ وَرْدِهَا فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ الْعَارِيَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ الْعَارِيَةُ هِيَ هِبَةُ الْمَنَافِعِ مَعَ اسْتِيفَاءِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ

فَصْلٌ : وَالْعَارِيَةُ تعريفها وأركانها هِيَ هِبَةُ الْمَنَافِعِ مَعَ اسْتِيفَاءِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَتَفْتَقِرُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : مُعِيرٌ وَمُسْتَعِيرٌ وَمُعَارٌ . فَأَمَّا الْمُعِيرُ تعريفه فَمَنْ كَانَ مَالِكًا مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعِيرًا ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ مَالِكِ ، وَلَا مِنْ مَمْنُوعِ التَّصَرُّفِ وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَنْ يُعِيرَ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ لَا يُبِيحُ التَّصَرُّفُ فِي غَيْرِ التِّجَارَةِ . وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ تعريفه فَمَنْ صَحَّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ صَحَّ مِنْهُ طَلَبُ الْعَارِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الْهِبَةِ وَمَنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ قَبُولُهَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا طَلَبُهَا . وَأَمَّا الْمُعَارُ تعريفه فَهُوَ كُلُّ مَمْلُوكٍ يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ ، وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالْمَأْكُولَاتِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْمَنَافِعِ دُونَ الرِّقَابِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْفِضَّةُ ، وَالذَّهَبُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَإِجَارَتُهُ وَهُوَ الْحُلِيُّ إعارة وإجارة لِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ ، وَقِسْمٌ لَا تَجُوزُ إِعَارَتُهُ ، وَلَا إِجَارَتُهُ وَهِيَ الْأَوَانِي الْمَحْظُورَةُ إعارة وإجارة لِتَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَفِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ وَجْهَانِ : وَهُوَ الدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ ؛ إعارة وإجارة لِأَنَّ فِي التَّجَمُّلِ بِهَا نَفْعًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَارِيَةِ ، وَالْإِجَارَةِ فَإِنِ اخْتَصَّا بِمِلْكِ


الْمَنْفَعَةِ إِنَّ حُكْمَ الْعَارِيَةِ أَوْسَعُ مِنْ حُكْمِ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعِيرَ مَا يَرْهَنُهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَا يَرْهَنُهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَعِيرَ فَحْلًا لِطَرْقِ مَاشِيَتِهِ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِذَلِكَ فَلِذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَسْتَعِيرَ الدَّرَاهِمَ إِنْ لَمْ يَجُزْ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَيَوَانُ ، فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَإِجَارَتُهُ وَهُوَ كُلُّ مَمْلُوكٍ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ أَبَدًا كَالدَّوَابِّ الْمُنْتَفَعِ بِظُهُورِهَا ، وَالْجَوَارِحِ الْمُنْتَفَعِ بِصَيْدِهَا ، وَالرَّقِيقِ الْمُنْتَفَعِ بِاسْتِخْدَامِهِمْ فَيَجُوزُ إِعَارَتُهُمْ حَتَّى الْجَوَارِي وَتُكْرَهُ إِذَا كَانَتْ مَوْسُومَةً بِالْجَمَالِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا فِي الِاسْتِخْدَامِ خَوْفًا مِنْ غَلَبَةِ السَّهْوِ فَإِنْ وَطِئَهَا كَانَ زَانِيًا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَقَالَ دَاوُدُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مَنَافِعَهَا بِالْعَارِيَةِ ، أَوِ الْإِجَارَةِ شُبْهَةٌ فِي إِدْرَاءِ الْحَدِّ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ إِصَابَتِهَا قَبْلَ الْعَارِيَةِ وَبَعْدَهَا عَلَى سَوَاءٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْحَدِّ عَلَى سَوَاءٍ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا لَا تَجُوزُ إِعَارَتُهُ ، وَلَا إِجَارَتُهُ من الحيوان فَهُوَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ مُحَرَّمًا ، وَالثَّانِي : مَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ عَيْنًا فَأَمَّا الْمُحَرَّمُ الِانْتِفَاعُ فَالسِّبَاعُ ، وَالذِّئَابُ ، وَالْكِلَابُ غَيْرُ الْمُعَلَّمَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعَارَ ، وَلَا أَنْ تُؤَجَّرَ وَأَمَّا مَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ عَيْنًا فَذَاتُ الدَّرِّ مِنَ الْمَوَاشِي كَالْغَنَمِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعَارَ ، وَلَا أَنْ تُؤَجَّرَ ؛ لِاخْتِصَاصِ الْعَارِيَةِ ، وَالْإِجَارَةِ بِالْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ تُمْنَحَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْمِنْحَةُ تعريفها أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ نَاقَتَهُ ، أَوْ شَاتَهُ لِرَجُلٍ لِيَحْلِبَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا فَيَكُونُ اللَّبَنُ مَمْنُوحًا ، وَلَا يُنْتَفَعُ فِيهَا بِغَيْرِ اللَّبَنِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْمِنْحَةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ تَغْدُو بَاتًّا وَتَرُوحُ بِأَجْرٍ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يَجُوزُ إِعَارَتُهُ ، وَلَا تَجُوزُ إِجَارَتُهُ من الحيوان وَهُوَ الْفُحُولُ الْمُعَدَّةُ لِلطَّرْقِ فَيَحْرُمُ إِجَارَتُهَا ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَيْهَا ثَمَنٌ لِعَسْبِهَا . وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَمَنِ عَسْبِ الْفَحْلِ وَتَجُوزُ إِعَارَتُهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ فِي حَقِّ الْإِبِلِ إِطْرَاقُ فَحْلِهَا وَمِنَحَةُ لَبَنِهَا يَوْمَ وَرْدِهَا . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا تَجُوزُ إِعَارَتُهُ وَفِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ وَجْهَانِ من الحيوان : وَهُوَ مَا انْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْكِلَابِ ، وَالْفَحْلُ بِغَيْرِ الثَّمَنِ مِنْ رَبْطِ السَّفَرِ ، وَالْبَهَائِمِ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَفْعٌ وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ إِجَارَتِهَا وَإِعَارَتِهَا مَا ذَكَرْنَاهُ . وَإِذَا صَحَّتْ إِعَارَةُ الْبَهَائِمِ دُونَ إِجَارَتِهَا فَعَلَفُهَا وَمَؤُنَتُهَا عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْمُسْتَعِيرِ ، وَالْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ . وَتَمَامُ الْعَارِيَةِ يَكُونُ بِطَلَبِ الْمُسْتَعِيرِ إِجَابَةَ الْمُعِيرِ ثُمَّ بِإِقْبَاضٍ مِنْهُ ، أَوْ إِذَنٍ بِقَبْضِهِ فَتَكُونُ


مُوَافِقَةً لِلْهِبَةِ فِي أَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِقَبْضٍ وَمُخَالِفَةً لَهَا فِي صِفَةِ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِقْبَاضٍ مِنَ الْوَاهِبِ ، أَوْ وَكِيلِهِ فِيهِ ، وَلَا يَصِحُّ بِالْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ إِقْبَاضٍ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ قَبْضَ الْمُسْتَعِيرِ لَا يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمُعِيرِ فَجَازَ أَنْ يَأْذَنَ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَالْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ مُزِيلٌ لِمِلْكِ الْوَاهِبِ فَلَمْ تَتِمَّ إِلَّا بِإِقْبَاضِ الْوَاهِبِ .

فَصْلٌ : ثُمَّ الْعَارِيَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ حكم تَامَّةٌ ، وَغَيْرُ لَازِمَةٍ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ ارْتِفَاقٍ وَمَعُونَةٍ وَسَوَاءٌ قَدَّرَهَا بِمُدَّةٍ أَمْ لَا . وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ قَدَّرَهَا الْمُعِيرُ بِمُدَّةٍ لَزِمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ تَقَضِّيهَا وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْهَا لَمْ يَلْزَمْ وَرَجَعَ فِيهَا مَتَى شَاءَ لِيَكُونَ لِذِكْرِ الْمُدَّةِ تَأْثِيرٌ مُفِيدٌ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ لُزُومَهَا يُخْرِجُهَا عَنْ حُكْمِ الْعَارِيَةِ إِلَى حُكْمِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُهَا بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ فِي حَقِّ الْمُعِيرِ لَاخْتَلَفَ فِي حَقِّ الْمُسْتَعِيرِ وَفَائِدَةُ الْمُدَّةِ مَنْعُ الْمُسْتَعِيرِ مِنَ التَّصَرُّفِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شُرُوطِ الْعَارِيَةِ وَتَمَامِهَا بِالْقَبْضِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا تَلَفَ مِنْ أَجْزَائِهَا بِالِاسْتِعْمَالِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ العارية وَاخْتَلَفُوا فِي تَلَفِ عَيْنِهَا أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ سَوَاءٌ تَلِفَتْ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ ، أَوْ بِجَائِحَةٍ سَمَاوِيَّةٍ العارية وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّعَدِّي وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ إِنْ كَانَ مِمَّا يَخْفَى هَلَاكُهُ ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَظْهَرُ هَلَاكُهُ لَمْ يَضْمَنْ . وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَذْهَبُ رَبِيعَةَ إِنْ تَلِفَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ تَلَفَ بِغَيْرِهِ ضَمِنَ . وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ وَهُوَ مَذْهَبُ جَبَّارَةَ وَأَبِي قَتَّالَةَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ الْعَنْبَرِيِّ وَدَاوُدَ إِنْ شَرَطَ ضَمَانَهَا لَزِمَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَلْزَمْ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ وَهَذَا نَصٌّ بِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِذَا أَتَتْكَ رُسُلِي فَأَعْطِهِمْ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا فَقُلْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ أَمْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ


قَالَ بَلْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ . فَقَدْ نَفَى الضَّمَانَ عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا قَالُوا : وَلِأَنَّهُ مُسْتَعَارٌ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَضْمَنُوا الْمُسْتَعِيرَ قِيَاسًا عَلَى تَلَفِ الْأَجْزَاءِ قَالُوا : وَلِأَنَّ مَا لَمْ تَكُنْ أَجْزَاءُهُ مَضْمُونَةً لَمْ تَكُنْ جُمْلَتُهُ مَضْمُونَةً كَالْوَدَائِعِ طَرْدًا ، وَالْغُصُوبِ عَكْسًا . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّي فَفِيهِ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَعَلَ عَلَيْهَا مَا أَخَذَتْ وَهَذَا تَضْمِينٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَاجِبُ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ بِمُقْتَضَى عُمُومِ الْحَالَيْنِ مِنْ قِيمَةٍ وَعَيْنٍ . وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَارَ مِنْهُ دِرْعًا يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ أَغَصْبٌ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَقَالَ : بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ فَوَصْفُهَا بِالضَّمَانِ بَيَانٌ لِحُكْمِهَا عِنْدَ جَهْلِهِ بِهِ فَإِنْ قِيلَ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ضَمَانِ الرَّدِّ كَالْوَدَائِعِ الَّتِي هِيَ مَضْمُونَةُ الرَّدِّ وَلَيْسَتْ مَضْمُونَةَ الْعَيْنِ قِيلَ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ يَتَنَاوَلُ ضَمَانَ الْأَعْيَانِ وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْأَمَانَاتِ الْمُؤَدَّاةِ حُكْمُ الضَّمَانِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ مُؤَدَّاةٌ فَكَانَ الْأَدَاءُ مَحْمُولًا عَلَى الرَّدِّ ، وَالضَّمَانُ عَلَى التَّلَفِ . وَرَوَى خَالِدٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصْعَتَهَا الَّتِي فِي بَيْتِهَا وَدَفَعَهَا بَدَلًا مِنَ الْقَصْعَةِ الْمَكْسُورَةِ فَلَوْلَا أَنَّ ضَمَانَ الْعَارِيَةِ وَاجِبٌ لَمَا اسْتَجَازَ أَنْ يَدْفَعَ مَالَهَا بَدَلًا . ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهَا عَيْنٌ تَفَرَّدَ بِاحْتِبَاسِهَا لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ كَالْقَرْضِ وَلِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ لَمْ يَزَلْ مِلْكَ صَاحِبِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ تَعَجَّلَ الِانْتِفَاعَ بِهِ كَالْإِجَارَةِ ، وَالْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّ تَعْجِيلَ النَّفْعِ الْمُودَعِ ، وَالْمُؤَجَّرِ لِمَا يَتَعَجَّلُهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ وَفِي الْعَارِيَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَضْمُونُ الرَّدِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونَ الْعَيْنِ كَالْغَصْبِ وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ أَعَارَ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْهُ ضَامِنًا وَلَوْ أَوْدَعَ كَانَ الْمُسْتَوْدَعُ مِنْهُ غَيْرُ ضَامِنٍ ؛ لَأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ لَوْ أُغْرِمَ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَالْمُسْتَعِيرُ إِذَا غَرِمَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَاصِبِ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَقْبُوضًا مِنَ الْمَالِكِ وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ :


أَحَدُهُمَا : فِي كُلِّ قَبْضٍ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ مَضْمُونًا وَقَعَ مِنَ الْمَالِكِ مَضْمُونًا كَالْغَصْبِ طَرْدًا ، وَالْوَدِيعَةِ عَكْسًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَعَارٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَالْمَغْصُوبِ قِيَاسًا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ مِنَ الْغَاصِبِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ضَمَانِ الْأَجْزَاءِ التَّالِفَةِ بِالِاسْتِعْمَالِ ، وَهَذَا إِنْ كَانَ تَخْصِيصًا فَلِمَا عَارَضَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُخَصِّصَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُغِلَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ بِمَأْخُوذٍ مِنَ الْخِيَانَةِ ، وَالْغُلُولُ إِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتِغْلَالِ الْغَلَّةِ . يُقَالُ : قَدْ أَغَلَّ فَهُوَ مُغِلٌّ إِذَا أَخَذَ الْغَلَّةَ . قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى : فَتَغْلُلْ لَكُمْ مَا لَا تُغِلُّ لِأَهْلِهَا قُرًى بِالْعِرَاقِ مِنْ قَفِيزٍ وَدِرْهَمِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْخَبَرِ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ أَيْ غَيْرِ الْقَابِضِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ يَصِيرُ مُسْتَغِلًّا وَهَذَا صَحِيحٌ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُئِلَ أَعَارِيَةً مَضْمُونَةً ، أَوْ عَارِيَةً مُؤَدَّاةً فَقَالَ : بَلْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ فَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَعَارِيَةً مَضْمُونَةً بِالْبَدَلِ ، أَوْ مُؤَدَّاةَ الْعَيْنِ ؟ اسْتِعْلَامًا لِحُكْمِهَا هَلْ تُوجَدُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ ، وَالْمُعَاوَضَةِ ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ الرَّدِّ ، وَالْأَدَاءِ فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مُؤَدَّاةُ الْعَيْنِ لَا يَمْلِكُهَا الْآخِذُ بِالْبَدَلِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِلضَّمَانِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَلَفِ الْأَجْزَاءِ فَهُوَ أَنَّ تَلَفَ الْأَجْزَاءِ بِغَيْرِ الِاسْتِعْمَالِ مَضْمُونٌ كَالْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا نَلُفُّهَا بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَالثَّوْبِ الْمُسْتَعَارِ إِذَا بَلِيَ بِاللَّبْسِ لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُسْتَعِيرُ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ فَسَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُهُ ، وَالْعَارِيَةُ تَلِفَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ وَرِضَاهُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي إِتْلَافِهَا لَسَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُهَا كَالْأَجْزَاءِ وَلَوْ تَلِفَتِ الْأَجْزَاءُ بِغَيْرِ اللَّبْسِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَالثَّوْبِ إِذَا نَقَلَ فِيهِ تُرَابًا ، أَوْ شَدَّ فِيهِ مَتَاعًا ضَمِنَ كَالْعَارِيَةِ فَصَارَتِ الْأَجْزَاءُ ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى سَوَاءٍ فَفِيهِ جَوَابٌ عَنِ الْقِيَاسَيْنِ مَعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ ضَمَانِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهَا إِذَا تَلِفَتْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ العارية : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا مِثْلٌ ، أَوْ لَا يَكُونُ لَهَا مِثْلٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ ضَمِنَهَا بِالْقِيمَةِ وَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا يَوْمَ التَّلَفِ لِسُقُوطِ ضَمَانِ الْأَجْزَاءِ التَّالِفَةِ بِالِاسْتِعْمَالِ .


وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ يَضْمَنُ أَكْثَرَ قِيمَتِهَا مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ كَالْغَصْبِ وَتَصِيرُ الْأَجْزَاءُ تَبَعًا لِلْجُمْلَةِ إِنْ سَقَطَ ضَمَانُهَا بِالرَّدِّ سَقَطَ غُرْمُ الْأَجْزَاءِ وَإِنْ وَجَبَ ضَمَانُهَا بِالتَّلَفِ وَجَبَ غُرْمُ الْأَجْزَاءِ تَبَعًا . وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَارِيَةِ مِثْلٌ فَفِي مَا يَضْمَنُهَا بِهِ وَجْهَانِ : بِنَاءً عَلَى صِفَةِ ضَمَانِ مَالَا مِثْلَ لَهُ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُهَا بِالْمِثْلِ إِذَا جُعِلَ ضَمَانُهَا فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ كَالْغَصْبِ ، وَالثَّانِي يَضْمَنُهَا بِالْقِيمَةِ إِذَا جُعِلَ ضَمَانُهَا وَقْتَ التَّلَفِ . فَأَمَّا الْعَارِيَةُ إِذَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ ضَمَانُهَا ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمَضْمُونَةِ مَضْمُونٌ كَالْمَغْصُوبَةِ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِيَ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الضَّمَانِ فِي الْأُمِّ مَعْدُومٌ فِي الْوَلَدِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْعَارِيَةِ لَا يَكُونُ مُعَارًا وَوَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ يَكُونُ مَغْصُوبًا . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ إِنَّ الْعَارِيَةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ إِلَّا بِالتَّعَدِّي فَلَيْسَ بِقَوْلٍ ثَانٍ فِي سُقُوطِ ضَمَانِهَا كَمَا وَهِمَ فِيهِ الرَّبِيعُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إِمَّا عَلَى سُقُوطِ ضَمَانِ الْأُجْرَةِ ، أَوْ عَلَى ضَمَانِ الْأَجْزَاءِ ، أَوْ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ وَفَرَّعَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ وَالرَّاكِبُ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِعَارَةِ

مَسْأَلَةٌ : فِي الْحُكْمِ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ ، وَالرَّاكِبُ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِعَارَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَوْ قَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ أَكْرَيْتُكَهَا إِلَى مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ الرَّاكِبُ بَلْ عَارِيَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَوْ قَالَ أَعَرْتَنِيهَا وَقَالَ رَبُّهَا غَصَبْتَنِيهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا عِنْدِي خِلَافُ أَصْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَنْ سَكَنَ دَارَ رَجُلٍ كَمَنْ تَعَدَّى عَلَى سِلْعَتِهِ فَأَتْلَفَهَا فَلَهُ قِيمَةُ السُّكْنَى وَقَوْلُهُ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئَا ضَمِنَ وَمَنِ ادَّعَى الْبَرَاءَةَ لَمْ يَبْرَأْ فَهَذَا مُقِرٌّ بِأَخْذِ سُكْنَى وَرُكُوبِ دَابَّةٍ وَمُدَّعٍ الْبَرَاءَةَ فَعَلَيْهِ الْبَرَاءَةُ وَعَلَى الْمُنْكِرِ رَبِّ الدَابَّةِ ، وَالدَّارِ الْيَمِينُ وَيَأْخُذُ الْقِيمَةَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَجُمْلَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكَلَامَ يَشْتَمِلُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ : فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَوَّلُ مَسْطُورٍ مِنْهَا صُورَتُهُ فِي رَجُلٍ رَكِبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمَالِكُ : أُجْرَتُهَا فَلِيَ الْأُجْرَةُ . وَقَالَ الرَّاكِبُ : أَعَرْتَنِيهَا فَلَيْسَ لَكَ أُجْرَةٌ . فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ دُونَ الْمَالِكِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْأَرْضِ وَزَارِعُهَا فَقَالَ رَبُّهَا أَجَّرْتُكَهَا وَقَالَ الزَّارِعُ أَعَرْتَنِيهَا : إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَا الْجَوَابِ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُهُمْ يَنْقُلُونَ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَيُخْرِجُونَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ ، وَالرَّبِيعِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي الدَّابَّةِ ، وَالْأَرْضِ عَلَى مَا


نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَلَهُ الْأُجْرَةُ وَوُجْهَةُ مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ أَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَمْلُوكَةَ تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا كَالْأَعْيَانِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَا فِي الْعَيْنِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهَا فَقَالَ رَبُّهَا بِعْتُهَا لَكَ وَقَالَ الْمُسْتَهْلِكُ بَلْ وَهَبْتَنِيهَا إِلَيَّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ دُونَ الْمُتْلِفِ وَلَهُ الْبَدَلُ كَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْمَنْفَعَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ دُونَ الْمُتْلِفِ وَلَهُ الْأُجْرَةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ ، وَالزَّارِعِ فِي الدَّابَّةِ ، وَالْأَرْضِ مَعًا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْعَارِيَةِ ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ . وَوُجْهَتُهُ : هُوَ أَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ قَدِ اسْتَهْلَكَ مَنَافِعَ نَفْسِهِ إِمَّا بِعَارِيَةٍ ، أَوْ إِجَارَةٍ وَمَنِ ادَّعَى ثُبُوتَ عِوَضٍ عَلَى غَيْرِهِ فِي اسْتِهْلَاكِ مَنَافِعِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَخَالَفَ اسْتِهْلَاكُ الْعَيْنِ الَّتِي قَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لِرَبِّهَا دُونَ مُسْتَهْلِكِهَا وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ تَوْجِيهًا . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الدَّابَّةِ قَوْلَ رَاكِبِهَا وَفِي الْأَرْضِ قَوْلَ مَالِكِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الدَّوَابِّ جَارِيَةٌ بِإِعَارَتِهَا دُونَ إِجَارَتِهَا فَكَانَ الظَّاهِرُ فِي الْعَادَةِ تَشْهَدُ لِرَاكِبِهَا ، وَالْعَادَةُ فِي الْأَرْضِ جَارِيَةٌ بِإِجَارَتِهَا دُونَ إِعَارَتِهَا فَكَانَتِ الْعَادَةُ شَهَادَةً لِمَالِكِهَا وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ لِأَبِي الْعَبَّاسِ تَعْتَبِرُ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ فِيهَا وَلَيْسَتْ مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ؛ لِأَنَّ مَنْ يُؤَجِّرُ قَدْ يُعِيرُ وَمَنْ يُعِيرُ قَدْ يُؤَجِّرُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الدَّابَّةِ ، وَالْأَرْضِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ الْأُجْرَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي سَمَّاهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ : أَنَّ لَهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي الْأُجْرَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْإِجَارَةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ فِيهَا فَأَوْلَى أَلَّا يُقْبَلَ قَوْلُهُ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا المعير والمستعير فِيهَا فَإِنْ نَكَلَ الْمَالِكُ عَنِ الْيَمِينِ لَمْ تُرَدَّ عَلَى الْمُتَصَرِّفِ الْمُسْتَعِيرِ ؛ لِأَنَّ رَدَّهَا لَا يُفِيدُ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ بِنُكُولِ الْمَالِكِ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنَ الْأُجْرَةِ وَرَدَّ الدَّابَّةَ وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَالِكِ لِيَسْتَحِقَّ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْأُجْرَةِ فَإِذَا حَلَفَ فَلَهُ الْمُسَمَّى ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ بَعْدَ النُّكُولِ إِمَّا أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الْبَيِّنَةِ ، أَوِ الْإِقْرَارِ وَأَيُّهُمَا كَانَ فَيُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْمُسَمَّى .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَتِ الدَّابَّةُ قَدْ تَلِفَتْ بَعْدَ الرُّكُوبِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَالْمَالِكُ يَدَّعِي الْأُجْرَةَ دُونَ الْقِيمَةِ ، وَالرَّاكِبُ يُقِرُّ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْأُجْرَةِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ حُكِمَ لَهُ بِالْأُجْرَةِ وَحْدَهَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110