كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَرْسُمُونَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ ، وَيَنْقُلُونَ إِلَيْهِ الْحِجَارَةَ فَقُلْتُ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا نَنْقُلُ كَمَا يَنْقُلُونَ " قَالَ : " لَا وَلَكِنِ اخْلِطْ لَهُمُ الطِّينَ يَا أَخَا الْيَمَامَةِ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ " ، فَجَعَلْتُ أَخْلِطُ الطِّينَ وَيَنْقُلُونَهُ ، وَقَدْ رَوَى وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّهِ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ أَسْلَمَ سَنَةَ سَبْعٍ ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ قِيلَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا فِي آخِرِ أَيَّامِهِ وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ : " هَلْ هُوَ إِلَّا بُضْعَةٌ مِنْكَ " لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى نَفْيِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهَا مَعْنًى يَسْتَجْلِبُ بِهِ الْإِنْزَالَ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقُضَ الطُّهْرَ كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ ، وَلِأَنَّهَا مُلَاقَاةُ فَرْجٍ لَوْ قَارَنَهَا انْتِشَارٌ تَعَلَّقَتْ بِهَا طَهَارَةٌ فَوَجَبَ إِذَا فَقَدَتِ الِانْتِشَارَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهَا تِلْكَ الطَّهَارَةُ كَالْغُسْلِ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَلِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُضُوءُ إِذَا قَارَنَهُ انْتِشَارٌ تَعَلَّقَ بِهِ الْوُضُوءُ وَإِنْ خَلَا عَنِ انْتِشَارِ الْبَوْلِ ، وَلِأَنَّهَا إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِنَوْعٍ مِنَ الْمُلَاقَاةِ كَالْغُسْلِ وَلِأَنَّهُ لَمْسٌ ( يَتَعَلَّقُ بِهِ ) فِي الْغَالِبِ خُرُوجُ خَارِجٍ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِضَ الْوُضُوءُ كَاللَّمْسِ مَعَ الِانْتِشَارِ ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْفَرْجِ إِذَا أَوْجَبَ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى كَانَ مِنْ جِنْسِهِ مَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى كَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ قَيْسٍ فَقَدْ مَضَى ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَسِّ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ جَسَدِهِ فَالْمَعْنَى فِيهِ ، وَفِي قِيَاسِهِمْ عَلَى مَسِّ ذَكَرِهِ بِغَيْرِ كَفِّهِ أَنَّهُ لَمْسٌ لَا يَسْتَجْلِبُ بِهِ الْإِنْزَالَ ، وَلَا يُفْضِي فِي الْغَالِبِ إِلَى نَقْضِ الطُّهْرِ .

مَسْأَلَةٌ الْقَوْلُ فِي مَسِّ الْغَيْرِ

مَسْأَلَةٌ : الْقَوْلُ فِي مَسِّ الْغَيْرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا مَسَّ فَرْجَ غَيْرِهِ كَانَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ كَمَا لَوْ مَسَّ فَرْجَ نَفْسِهِ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ الْوُضُوءُ " فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ مَسَّ فَرْجِ الْغَيْرِ أَغْلَظُ مِنْ مَسِّ فَرْجِهِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْغَيْرِ فَكَانَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ أَحَقَّ ، فَأَمَّا الْمَمْسُوسُ فَرْجُهُ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلْمُوسِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اسْمَ الْمُلَامَسَةِ تَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَانْتَقَضَ وُضُوءُهُمَا لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمُلَامَسَةِ عَلَيْهِمَا ، وَمَسْحُ الْفَرْجِ لَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى الْمَاسِّ دُونَ الْمَمْسُوسِ ، فَانْتَقَضَ وُضُوءُ الْمَاسِّ لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُ الْمَمْسُوسِ لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ حُكْمُ مَسِّ فَرْجِ الصَّغِيرِ

مَسْأَلَةٌ : حُكْمُ مَسِّ فَرْجِ الصَّغِيرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمَسَّ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ ، قَالَ مَالِكٌ وَالزُّهْرِيُّ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ فَرْجِ الصَّغِيرِ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَّ ذَبِيبَةَ الْحَسَنِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يَنْتَقِضْ بِمَسِّهِ الْوُضُوءُ كَسَائِرِ الْبَدَنِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الصَّغِيرَةِ فَلَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ بِمَسِّ فَرْجِ الصَّغِيرِ ، وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ الْوُضُوءُ " ، وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ كَانَ الْخَارِجُ مِنْهُ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ وَكَانَ مَسُّهُ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ قِيَاسًا عَلَى فَرْجِ الْكَبِيرِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَسٍّ لَوْ كَانَ مَعَ الْكَبِيرِ نَقَضَ الْوُضُوءَ ، وَجَبَ إِذَا كَانَ مَعَ الصَّغِيرِ أَنْ يَنْتَقِضَ الْوُضُوءَ كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِهِمْ فَهُوَ أَنْ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ مَسَّهُ وَصَلَّى قَبْلَ وُضُوئِهِ فَيُحْمَلْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ فِي الْحَالِ حَتَّى قَامَ عَنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ تَوَضَّأَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ غَيْرَ مُحَرَّمٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ نَقْضُ الْوُضُوءِ اسْتَوَى فِيهِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ ، أَلَا تَرَى الْمُلَامَسَةَ ، لَا فَرْقَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهَا بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ لَمْسَ الصَّغِيرِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ قُلْنَا فِيهِ مَذْهَبَانِ : أَحَدُهُمَا : يَنْقُضُ . وَالثَّانِي : لَا يَنْقَضُ . فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ مَسَّ الْفَرْجِ أَغْلَظُ حُكْمًا مِنَ الْمُلَامَسَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ فَيَكُونُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَلَا يَكُونُ مِنَ الذَّكَرَيْنِ وَلَا بَيْنَ الْأُنْثَيَيْنِ فَجَازَ أَنْ يُخْتَصَّ بِالْكِبَارِ دُونَ الصِّغَارِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَسُّ الْفَرْجِ لِاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ بَيْنَ الذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ، فَاسْتَوَى بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَسَّ مِنْ ذَكَرِ الصَّغِيرِ الْأَغْلَفِ مَا يُقْطَعُ فِي الْخِتَانِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الذَّكَرِ مَا لَمْ يُقْطَعْ ، وَلَوْ مَسَّهُ بَعْدَ قَطْعِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ لِأَنَّهُ بَايَنَ مِنَ الذَّكَرِ فَلَمْ يَنْطَلِقِ اسْمُ الذَّكَرِ عَلَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ حُكْمُ مَسِّ فَرْجِ الْمَيِّتِ

مَسْأَلَةٌ : حُكْمُ مَسِّ فَرْجِ الْمَيِّتِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْوُضُوءُ يُنْقَضُ بِمَسِّ فَرْجِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيِّتِ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى عَوْرَتِهِ

وَمُبَاشَرَةِ مَسِّ فَرْجِهِ كَتَحْرِيمِ ذَلِكَ مِنَ الْحَيِّ فِي حُرْمَتِهِ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ الْحَيِّ " وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجِ مَيِّتَةٍ لَزِمَهُ الْغُسْلُ لِانْتِهَاكِ حُرْمَتِهَا وَإِنَّ حُكْمَ الْحَيَاةِ فِي ذَلِكَ جَارٍ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَسِّ فَرْجِهَا ، فَأَمَّا إِذَا مَسَّ ذَكَرًا مَقْطُوعًا وضوءه فَفِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَنْتَقِضُ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ . وَالثَّانِي : لَا يَنْتَقِضُ لِفَقْدِ الْمَعْنَى وَهُوَ وُجُودُ اللَّذَّةِ غَالِبًا ، وَخَالَفَ ذَكَرَ الْمَيِّتِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُرْمَةِ . وَهَكَذَا لَوْ لَمَسَ ذَكَرَ حَيٍّ بِيَدٍ شَلَّاءَ كَانَ نَقْضُ الْوُضُوءِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، وَيَجْرِي عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ حُكْمُ مَنْ مَسَّ ذَكَرًا أَشَلَّ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ذَكَرُ الْحَيِّ الْأَشَلُّ بِأَخَفَّ مِنْ ذَكَرِ الْمَيِّتِ ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُ مِنْ مُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ فِي ذَكَرِ الْمَيِّتِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ .

مَسْأَلَةٌ حُكْمُ مَسِّ الْمَرْأَةِ لِفَرْجِهَا

مَسْأَلَةٌ : حُكْمُ مَسِّ الْمَرْأَةِ لِفَرْجِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ مَسُّ فَرْجِ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَمَسِّ ذَكَرِ الرَّجُلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَمَسُّونَ ذُكُورَهُمْ وَيُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : فَهَذَا لِلرِّجَالِ فَمَا بَالُ النِّسَاءِ ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِذَا مَسَّتْ إِحْدَاكُنَّ فَرْجَهَا تَوَضَّأَتْ " . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ " .

فَصْلٌ أَحْكَامُ الْخُنْثَى فِي النَّقْضِ بِالْمَسِّ

فَصْلٌ : أَحْكَامُ الْخُنْثَى فِي النَّقْضِ بِالْمَسِّ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ فَرْجَ الْمَرْأَةِ كَذَكَرِ الرَّجُلِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْخُنْثَى وَمَسَائِلُهُ تُبْنَى عَلَى تَنْزِيلَيْنِ يَنْزِلُ فِي أَحَدِهِمَا رَجُلًا ، وَيَنْزِلُ فِي الْآخَرِ امْرَأَةٌ ، فَإِنِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ فِي التَّنْزِيلَيْنِ مَعًا لَزِمَ ، وَإِنِ انْتَقَضَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يَلْزَمْ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَنْتَقِضُ إِلَّا بِالْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ ، فَعَلَى هَذَا إِذَا مَسَّ رَجُلٌ ذَكَرَ خُنْثَى انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخُنْثَى رَجُلًا فَقَدْ مَسَّ ذَكَرَهُ ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَقَدْ لَمَسَ بَدَنَهَا ، وَلَوْ مَسَّ رَجُلٌ فَرْجَ خُنْثَى لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا فَيَكُونُ الْفَرْجُ عُضْوًا زَائِدًا فِيهِ فَلَوْ مَسَّتِ امْرَأَةٌ فَرْجَ خُنْثَى انْتَقَضَ وُضُوءُهَا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْخُنْثَى امْرَأَةً فَقَدْ مَسَّتْ فَرْجَهَا ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ لَمَسَتْ بَدَنَهُ وَلَوْ مَسَّتِ امْرَأَةٌ ذَكَرَ خُنْثَى لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى امْرَأَةً فَيَكُونُ الذَّكَرُ عُضْوًا زَائِدًا ، وَلَوْ أَنَّ خُنْثَى مَسَّ ذَكَرَ نَفْسِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا ، وَلَوْ مَسَّهُمَا مَعًا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ مَسَّ ذَكَرَهُ ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَقَدْ مَسَّتْ فَرْجَهَا ، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ خُنْثَى مَسَّ ذَكَرَ خُنْثَى لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ ، وَلَوْ مَسَّ فَرْجَهُ لَمْ يَنْتَقِضْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ ، وَلَوْ مَسَّ ذَكَرَهَ وَفَرْجَهُ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ . وَلَوْ لَمَسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَرَ صَاحِبِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ ، وَكَذَا لَوْ مَسَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرْجَ صَاحِبِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ ، وَلَوْ مَسَّ أَحَدُهُمَا ذَكَرَ صَاحِبِهِ وَمَسَّ الْآخَرُ فَرْجَ صَاحِبِهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ طُهْرَ أَحَدِهِمَا قَدِ انْتَقَضَ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُتَيَقَّنْ مَنِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ مِنْهُمَا لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا وُضُوءٌ لِأَنَّهُ كَمَا لَوْ سُمِعَ صَوْتٌ مِنْ أَحَدِ رَجُلَيْنِ كَانَ مُوجِبًا لِنَقْضِ وُضُوءِ أَحَدِهِمَا وَلَا يَلْزَمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا وُضُوءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنَ الصَّوْتِ مِنْهُ ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ حَالَ الْخُنْثَيَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَنَزِّلْهُمَا ( هَاهُنَا ) أَرْبَعَ تَنْزِيلَاتٍ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ التَّنْزِيلَاتِ الْأَرْبَعَةِ أَنْ يَكُونَ وُضُوءُ أَحَدِهِمَا مُنْتَقَضًا فَأَمَّا إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ذَكَرَانِ يَبُولُ مِنْهُمَا فَمَسَّ أَحَدَ ذَكَرَيْهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّهُ ذَكَرُ رَجُلٍ بِخِلَافِ الْخُنْثَى ، وَهَكَذَا لَوْ أَوْلَجَهُ فِي فَرْجٍ لَزِمَ الْغُسْلُ ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا بَلَلٌ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ لِلْحَدَثِ ، وَلَوْ كَانَ يَبُولُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَحُكْمُ الذَّكَرِ جَارٍ عَلَى الَّذِي يَبُولُ مِنْهُ ، وَالْآخَرُ زَائِدٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي نَقْضِ الطُّهْرِ حُكْمًا ، فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ إِحْدَى فَرْجَيْهِ بَلَلٌ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّائِدَ ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْهُمَا تَوَضَّأَ .

مَسْأَلَةٌ حُكْمُ مَسِّ الدُّبُرِ وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ

مَسْأَلَةٌ : حُكْمُ مَسِّ الدُّبُرِ وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَرْجُ قُبُلًا أَوْ دُبُرًا ، أَوْ مَسَّ الْحَلْقَةَ نَفْسَهَا مِنَ الدُّبُرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ مَسُّ الدُّبُرِ كَمَسِّ الْقُبُلِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ . وَقَالَ مَالِكٌ

وَدَاوُدَ : لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الدُّبُرِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ، فَخَصَّ الذَّكَرَ بِالْحُكْمِ . وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ الْوُضُوءُ " ، وَاسْمُ الْفَرْجِ يُطْلَقُ عَلَى الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ جَمِيعًا ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ سَبِيلَيِ الْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسُّهُ حَدَثًا كَالْقُبُلِ ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الدُّبُرِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسِّ الْحَلْقَةِ دُونَ مَا قَارَبَهَا وَاتَّصَلَ بِهَا ، وَهَكَذَا الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ يَتَعَلَّقُ بِهِ دُونَ مَا قَارَبَهُ مِنَ الْعَانَةِ أَوِ الْأُنْثَيَيْنِ أَوْ مَا بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ : مَسُّ الْخُصْيَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَالذَّكَرِ تَعَلُّقًا بِمَا رَوَاهُ عَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ أَوْ أُنْثَيَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ " . هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَرْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفَتْ فِي مَسِّ الْفَرْجِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعَ عَدَمِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا سِوَاهُ ، وَالْخَبَرُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُرْوَةَ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ مَسَّ الْفَرْجَيْنِ قُبُلًا وَدُبُرًا نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ نَقْضُ الْوُضُوءِ بِمَسِّهِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ دُونَ ظَاهِرِهَا ، وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَأَحْمَدُ إِذَا مَسَّهُ بِظَاهِرِ كَفِّهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ مس الذكر كَمَا لَوْ مَسَّهُ بِبَاطِنِ كَفِّهِ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : " إِذَا مَسَّهُ بِأَحَدِ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ " وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَظَاهِرُ الْيَدِ مِنَ الْيَدِ ، وَلِأَنَّهُ مَسَّ فَرْجَهُ بِيَدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقُضَ وُضُوءَهُ كَمَا لَوْ مَسَّ رَاحَتَهُ ، وَجَعَلَ الْأَوْزَاعِيُّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ قِيَاسًا عَلَى الْيَدِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بَيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ " . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَالْإِفْضَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِبَاطِنِ الْكَفِّ . وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَصَّتْ بِهِ الْيَدُ فِي مَسِّهِ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ دُونَ سَائِرِ الْجَسَدِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِحُصُولِ اللَّذَّةِ الْمُقْتَضِي إِلَى نَقْضِ الطُّهْرِ وَإِمَّا لِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ الطَّعَامِ فَخِيفَ تَنَجُّسُهَا بِآثَارِ الِاسْتِنْجَاءِ ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُخْتَصٌّ بِبَاطِنِ الْكَفِّ دُونَ ظَاهِرِهَا كَمَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْيَدِ دُونَ غَيْرِهَا ، وَفِيهِ مَعَ الِاسْتِدْلَالِ انْفِصَالٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ اخْتِصَاصُ نَقْضِ الْوُضُوءِ فِي مَسِّ الْفَرْجِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ دُونَ ظَاهِرِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ بُطُونِ الرَّاحَةِ أَوْ بُطُونِ الْأَصَابِعِ لِاسْتِوَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الِالْتِذَاذِ بِمَسِّهِ ، فَأَمَّا مَسُّهُ بِمَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى ظَاهِرِ الْكَفِّ أَوْ بَاطِنِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى بَاطِنِ الْكَفِّ وَأَنَّ الْوُضُوءَ يَنْتَقِضُ بِمَسِّ الْفَرْجِ بِهَا لِأَنَّهَا بِبَاطِنِ الْكَفِّ أَشْبَهُ مِنْهَا بِظَاهِرِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى ظَاهِرِ الْكَفِّ وَأَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْمَسِّ بِهَا لِفَقْدِهَا اللَّذَّةِ مِنْهَا ، وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يَقُولُ إِنْ مَسَّ ذَكَرَهُ بِمَا بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ مُسْتَقْبِلًا لِعَانَتِهِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ ، وَإِنْ كَانَ

مُسْتَقْبِلًا بِظَاهِرِ كَفِّهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ مُرَاعَاةً لِلْأَغْلَبِ فِي مُقَارَنَةِ الْبَاطِنِ وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ لِاسْتِوَاءِ الْمَعْنَى فِي الْحَالَتَيْنِ . فَأَمَّا إِنْ مَسَّهُ بِبَاطِنِ أُصْبُعٍ زَائِدَةٍ فِي كَفِّهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لِأَنَّ الزَّائِدَ نَادِرٌ فَلَمْ يُسَاوِ حُكْمَ الْمُعْتَادِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْيَدِ فَأُلْحِقَ حُكْمُهُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ مَسُّ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ

مَسْأَلَةٌ : مَسُّ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ مَسَّ ذَلِكَ مِنْ بَهِيمَةٍ : لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهَا وَلَا تَعَبُّدَ ، وَكُلُ مَا خَرَجَ مِنْ دُبُرٍ أَوْ قُبُلٍ مِنْ دُودٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَذْيٍ أَوْ وَدْيٍ أَوْ بَلَلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَذَلِكَ كُلُّهُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ كَمَا وَصَفْتُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ كُلِّهَا أَنَّ مَسَّ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : مَسُّ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَمَسِّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي تَرْجَمَتِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ هَذَا الْمَذْهَبُ لَهُ ، وَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَلَعَلَّهُ قَالَهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ اللَّيْثِ ، وَقَالَ عَطَاءٌ : مَنْ مَسَّ فَرْجَ بَهِيمَةٍ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ التَّعْلِيلِ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : لَا حُرْمَةَ لَهَا وَلَا تَعَبُّدَ عَلَيْهَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ لَا حُرْمَةَ لَهَا فِي وُجُوبِ سَتْرِهِ ، وَتَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَيْهِ ، وَقَوْلِهِ لَا تَعَبُّدَ عَلَيْهَا أَنَّ الْخَارِجَ مِنْهُ لَا يَنْقُضُ طُهْرًا وَلَا يُوجِبُ وُضُوءًا .

عَدَمُ وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ فِي أَحْوَالٍ

عَدَمُ وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ فِي أَحْوَالٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا اسْتِنْجَاءَ عَلَى مَنْ نَامَ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ . ( قَالَ ) وَنُحِبُّ لِلنَّائِمِ قَاعِدًا أَنْ يَتَوَضَّأَ وَلَا يَبِينُ أَنْ أُوجِبَهُ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ فَيَنَامُونَ أَحْسَبُهُ قَالَ قُعُودًا ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ قَاعِدًا وَيُصَلِّي فَلَا يَتَوَضَّأُ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَوْ صِرْنَا إِلَى النَّظَرِ كَانَ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ النَوْمُ تَوَضَّأَ بِأَيِّ حَالَاتِهِ كَانَ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا وَرُوِيَ عَنْ

صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَوْ سَفْرًا أَنْ لَا نَنْزَعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ لَكِنْ مِنْ بَوْلٍ وَغَائِطٍ وَنَوْمٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فَلَمَّا جَعَلَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي ، فِي مَعْنَى الْحَدَثِ وَاحِدًا اسْتَوَى الْحَدَثُ فِي جَمِيعِهِنَّ مُضْطَجِعًا " كَانَ أَوْ قَاعِدًا وَلَوِ اخْتَلَفَ حَدَثُ النَّوْمِ لِاخْتِلَافِ حَالِ النَّائِمِ لَاخْتَلَفَ كَذَلِكَ حَدَثُ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَلَأَبَانَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا أَبَانَ أَنَّ الْأَكْلَ فِي الصَّوْمِ عَامِدًا مُفْطِرٌ أَوْ نَاسِيًا غَيْرُ مُفْطِرٍ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ " مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَنِ اسْتَجْمَعَ نَوْمًا مُضْطَجِعًا أَوْ قَاعِدًا وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنِ اسْتَجْمَعَ نَوْمًا فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَعَنِ الْحَسَنِ إِذَا نَامَ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا تَؤَضَّا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) فَهَذَا اخْتِلَافٌ يُوجِبُ النَّظَرَ وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي النَّظَرِ فِي مَعْنَى مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ تَوَضَّأَ فَكَذَلِكَ النَّائِمُ فِي مَعْنَاهُ كَيْفَ كَانَ تَوَضَّأَ وَاحْتَجَّ فِي الْمُلَامَسَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ وَبِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ : قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَجَسَّهَا بِيَدِهِ مِنَ الْمُلَامَسَةِ ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَاحْتَجَّ فِي مَسِّ الذَّكَرِ بِحَدِيثِ بُسْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَقَاسَ الدُّبُرَ بِالْفَرْجِ مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : إِذَا مَسَّتِ الْمَرْأَةُ فَرْجَهَا تَوَضَّأَتْ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَعْتَقَ شِرْكَا لَهُ فِي عَبْدِ قَوْمٍ عَلَيْهِ " فَكَانَتِ الْأَمَةُ فِي مَعْنَى الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ الدُّبُرُ فِي مَعْنَى الذَكَرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ وَدَلِيلُهُ الْإِجْمَاعُ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَمِعَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ خَلْفِهِ صَوْتًا فَلَمَّا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ عَزَمْتُ عَلَى مَنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا قَامَ فَتَوَضَّأَ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَوْ عَزَمْتَ عَلَى جَمَاعَتِنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عُمَرُ : عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنَا مَعَكُمْ ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَتَوَضَّئُوا وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ جَمِيعًا وَلَمْ يَسْتَنْجُوا فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى سُقُوطِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْخَوَارِجِ إِلَى وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ .

مَسْأَلَةٌ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ

مَسْأَلَةٌ : الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ مِنْ قَيْءٍ أَوْ رُعَافٍ أَوْ دَمٍ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ حكم الوضوء منه فَلَا وُضُوءَ فِيِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِي الْجَشَأِ الْمُتَغَيِّرِ وَلَا الْبُصَاقِ لِخُرُوجِهِمَا مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ فَاهُ وَمَا أَصَابَ الْقَيْءُ مِنْ جَسَدِهِ بِوَجْهِهِ فَخَرَجَ مِنْهَا دَمٌ فَدَلَكَهُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَغْسِلْ يَدَهُ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اغْسِلْ أَثَرَ الْمَحَاجِمِ عَنْكَ وَحَسْبُكَ ، وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ رَعُفَ فَمَسَحَ أَنْفَهُ بِصُوفَةٍ ثُمَّ صَلَّى ، وَعَنِ الْقَاسِمِ لَيْسَ عَلَى الْمُحْتَجِمِ وُضُوءٌ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ مَا خَرَجَ مِنَ الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ سَوَاءٌ كَانَ طَاهِرًا كَالدُّمُوعِ وَالْبُصَاقِ أَوْ كَانَ نَجِسًا كَالْقَيْءِ وَدَمِ الْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ وَالرُّعَافِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنَ النَّجَاسَةِ عَلَى بَدَنِهِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ، وَرَبِيعَةُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : النَّجَاسَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ حكم الوضوء إِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَاطِنِ الْبَدَنِ إِلَى ظَاهِرِهِ انْتَقَضَ بِهَا الْوُضُوءُ إِلَّا الْقَيْءُ حَتَّى يَمْلَأَ الْفَمَ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ قَاءَ أَوْ قَلَسَ في صلاته هَلْ يَنْصَرِف وَيَتَوَضَّأْ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ ؟ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ " وَبِمَا رَوَى يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْوُضُوءُ مِنْ كُلِ دَمٍ سَائِلٍ ثَلَاثًا وَبِمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ رَبَاحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ هل يتَوَضَّأ ثُمَّ يبَنَى عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ ؟ تَوَضَّأَ ثُمَّ بَنَى عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ . وَبِمَا رَوَى مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَأَفْطَرَ قَالَ : فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ ثَوْبَانُ : أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ . وَرُوِيَ أَنَّ

سَلْمَانَ رَعَفَ فِي حَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا سَلْمَانُ : أَحْدِثْ وُضُوءًا وَهَذَا أَمْرٌ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ خَرَجَتْ إِلَى مَحَلٍّ يَلْزَمُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فَوَجَبَ أَنْ تَنْقُضَ الْوُضُوءَ كَالْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ ، وَلِأَنَّ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إِنَّمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْبَدَنِ كَمَا أَنَّ مَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ يَكُونُ بِدَاخِلٍ إِلَى الْبَدَنِ فَلَمَّا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْفِطْرُ بَيْنَ وُصُولِهِ مِنْ سَبِيلٍ مُعْتَادٍ وَغَيْرِ مُعْتَادٍ وَجَبَ أَلَّا يَقَعَ الْفَرْقُ فِيمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ خُرُوجِهِ مِنْ سَبِيلٍ مُعْتَادٍ وَغَيْرِ مُعْتَادٍ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ ، وَالْحَدَثُ أَنْ يَفْسُوَ أَوْ يَضْرِطَ " فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ انْتِفَاءَ الْوُضُوءِ عَمَّا سِوَاهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ ، وَرَوَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : " احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ وَهَذَا نَصٌّ . وَرَوَى ثَوْبَانُ قَالَ : قَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَكَبْتُ عَلَيْهِ وَضُوءًا وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَمِنْ هَذَا وُضُوءٌ ، قَالَ : " لَوْ كَانَ مِنْهُ وُضُوءٌ لَوَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى " . وَرَوَى عَقِيلُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِكَلَانِيَةٍ فِي اللَّيْلِ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِفَمِ الشِّعْبِ فَصَلَّى فَرُمِيَ بِسَهْمٍ فَنَزَعَهُ ، وَرُمِيَ بِسَهْمٍ آخَرَ حَتَّى رُمِيَ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ بِالْوُضُوءِ وَإِعَادَةِ الصَّلَاةِ فَإِنْ قِيلَ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِغَسْلِ الدَّمِ وَهُوَ عِنْدَكُمْ وَاجِبٌ وَالصَّلَاةُ مَعَهُ فَاسِدَةٌ وَكَذَلِكَ حَالُ الْوُضُوءِ ، قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ الدَّمَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ دَمِهِ وَيَسِيرٌ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْكَثْرَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَصِيرُ كَدَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْهَا ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ الْمُعْتَادِ فَوَجَبَ أَلَّا يَنْقُضَ الْوُضُوءَ قِيَاسًا عَلَى الدُّودِ الْخَارِجِ مِنَ الْمَخْرَجِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَنْقُضِ الْوُضُوءَ بِقَلِيلِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ بِكَثِيرِهِ كَالدُّمُوعِ وَالْعَرَقِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَلِيلِ الْقَيْءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِكَثِيرِهِ

كَإِفْسَادِ الصَّوْمِ بِالْقَيْءِ إِذَا ذَرَعَهُ طَرْدًا ، وَإِذَا اسْتَدْعَاهُ عَكْسًا ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنْ مَخْرَجِ الْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ كَالْغُسْلِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : مَنْ قَاءَ أَوْ قَلَسَ فَلْيَتَوَضَّأْ ، فَهُوَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ : هُوَ مُرْسَلٌ لِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمُرْسَلُ حجيته عِنْدَنَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ، عَلَى أَنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا عَلَى الْوُضُوءِ اسْتِحْبَابًا . وَإِمَّا عَلَى غَسْلِ مَا أَصَابَ الْفَمَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلَسَ وَهُوَ الرِّيقُ الْحَامِضُ يَخْرُجُ مِنَ الْحَلْقِ هل يُوجِبُ الْوُضُوءَ ؟ وَلَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وِفَاقًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ ، فَالرَّاوِي يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمْ يَلْقَ تَمِيمًا الدَّارِيَّ فَصَارَ مُنْقَطِعًا يَحْمِلُ عَلَى غَسْلِ الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَاوِيهِ عُمَرُ بْنُ رَبَاحٍ ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ، وَالثَّابِتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : اغْسِلْ أَثَرَ الْمَحَاجِمِ عَنْكَ وَحَسْبُكَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَهُوَ أَنَّ وَجْهَ الدَّلِيلِ فِيهِ سَاقِطٌ لِأَنَّ ثَوْبَانِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَبَّ عَلَيْهِ وَضُوءًا لِغَسْلِ فَمِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحَدَثٍ كَانَ بِهِ أَوْ لِاسْتِحْبَابِهِ ، عَلَى أَنَّنَا قَدْ رَوَيْنَا عَنْ ثَوْبَانَ نَصًّا خِلَافَهُ ، وَحَدِيثُ سَلْمَانَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صَحَّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ مُنْتَقِضٌ بِالْقَيْءِ إِذَا لَمْ يَمْلَأِ الْفَمَ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي السَّبِيلَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الصَّوْتُ وَالرِّيحُ الْخَارِجُ مِنْهُمَا نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ كَانَ غَيْرُهُ كَذَلِكَ ، وَلَمَّا كَانَ الصَّوْتُ وَالرِّيحُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يَنْقُضَانِ الْوُضُوءَ كَانَ غَيْرُهُمَا كَذَلِكَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ بِالدَّاخِلِ مِنْ مُعْتَادٍ وَغَيْرِ مُعْتَادٍ ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالْعَكْسِ وَلَا نَقُولُ بِهِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا أَفْطَرَ بِقَلِيلِهِ أَفْطَرَ بِكَثِيرِهِ ، وَلَمَّا لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ بِقَلِيلِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ بِكَثِيرِهِ .

لَيْسَ فِي قَهْقَهَةِ مُصَلٍّ وَلَا فِيمَا مَسَّتِ النَّارُ وُضُوءٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَيْسَ فِي قَهْقَهَةِ مُصَلٍّ وَلَا فِيمَا مَسَّتِ النَّارُ وُضُوءٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي الْقَهْقَهَةِ .

وَالثَّانِيَةُ : فِي أَكْلِ مَا مَسَّتِ النَّارُ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا وَعَطَفَ بِالْجَوَابِ عَلَيْهِمَا وَنَحْنُ نُفْرِدُهُمَا لِاخْتِلَافِ الْكَلَامِ فِيهِمَا : أَمَّا الْقَهْقَهَةُ وَالضَّحِكُ في الصلاة فَقَدْ يَتَنَوَّعُ الضَّحِكُ نَوْعَيْنِ : تَبَسُّمٌ وَقَهْقَهَةٌ ، فَأَمَّا التَّبَسُّمُ هل يُؤَثِّرُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي الْوُضُوءِ ؟ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي الْوُضُوءِ إِجْمَاعًا ، وَأَمَّا الْقَهْقَهَةُ فَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ إِجْمَاعًا وَإِنْ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ وَاخْتَلَفُوا فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِهَا . فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ نُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ ضَرِيرٌ فَوَقَعَ فِي حُفْرَةٍ فَضَحِكْنَا مِنْهُ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوُضُوءِ وَإِعَادَةِ الصَّلَاةِ مِنْ أَوَّلِهَا وَرَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ ، وَبِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدِ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ وَرَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَقَعُ تَارَةً بِاخْتِيَارِهِ وَتَارَةً بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَانَ حَدَثًا كَالْبَوْلِ وَالرِّيحِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ عِبَادَةٌ وَرَدَتْ مِنَ الْأَكْثَرِ إِلَى الْأَقَلِّ فِي حَالِ الْعُذْرِ فَجَازَ أَنْ تُبْطِلَهَا الْقَهْقَهَةُ كَالصَّلَاةِ ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى

الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَلَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ . وَرَوَى سَهْلُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الضَّاحِكُ فِي صَلَاتِهِ وَالْمُتَكَلِّمُ سَوَاءٌ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَكَذَلِكَ الضَّحِكُ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ كَالْكَلَامِ طَرْدًا وَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ عَكْسًا وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنَى لَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ بِقَلِيلِهِ لَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ بِكَثِيرِهِ كَالْمَشْيِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ فَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ الْحَسَنِ ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ ضَعِيفًا ، وَمَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ الَّذِي أَسْنَدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْهُ تَابِعِيٌّ وَلَا صُحْبَةَ لَهُ ، وَكَانَ حَدِيثُهُ مُرْسَلًا ، ثُمَّ يُحْمَلُ إِمَّا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ زَجْرًا وَتَغْلِيظًا وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُمْ صَوْتًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ وَأَنَسٍ فَهُوَ أَنَّ حَدِيثَ عِمْرَانَ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ ضَعِيفًا مَتْرُوكَ الْحَدِيثِ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَلَمْ يَرِدْ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيِّ وَكَانَ ضَعِيفًا مُنْكَرَ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَحَادِيثَ الْحَسَنِ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ بِمَكَانَةٍ مِنَ الثِّقَةِ وَالدِّينِ لِأَنَّهُ كَانَ يَرْوِي بِالْبَلَاغَاتِ وَالْمُرَاسَلَاتِ ، وَيَرَى ذَلِكَ مَذْهَبًا وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَخْبَرَنِي بِهِ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا ، وَلَمْ يَلْقَ بَدْرِيًّا غَيْرَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَمِعَ مِنْهُ حَدِيثًا وَاحِدًا بِالْوُضُوءِ وَهُوَ صَغِيرٌ ، وَكَانَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ مِنْهُ أَنَّهُ بَلَغَنِي عَنْ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا وَقَدْ قِيلَ إِنَّ رِوَايَتَهُ خَبَرَ الْقَهْقَهَةِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ : أَخْبَارُ الرِّيَاحِيِّ رِيَاحٌ كُلُّهَا ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : حَدِّثُونِي عَمَّنْ شِئْتُمْ إِلَّا عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ

فَإِنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ عَمَّنْ أَخَذَا ، ثُمَّ وَلَوْ سَلِمَ الْحَدِيثُ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْإِرْشَادِ وَالنَّدْبِ ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ غَضِبَ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ " وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ أَنَّهُ يَقَعُ تَارَةً بِاخْتِيَارٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ فَمُنْتَقَضٌ بِالْبُكَاءِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ ، أَوْ أَنَّ قَلِيلَهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ ، فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ ، فَبَطَلَتْ بِالْقَهْقَهَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوُضُوءُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي أَكْلِ مَا مَسَّتِ النَّارُ هل ينْقُضُ الْوُضُوءَ ؟ فَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِحَالٍ ، وَبِهِ قَالَ فِي الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَكَافَّةُ التَّابِعِينَ ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ بِهِ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ حكم الوضوء منه دُونَ غَيْرِهِ وَقَالَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ كُلِّ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ ، وَبِهِ قَالَ الْجَمَاعَةُ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَأَنَسٌ ، وَأَبُو طَلْحَةَ ، وَعَائِشَةُ اسْتِدْلَالًا بِمَا " رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَلَوْ عَلَى ثَوْرٍ مِنْ أَقِطٍ " وَالثَّوْرُ هُوَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَقِطِ هَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ ، " وَدَلِيلُنَا " مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ، وَرَوَى عُبَيْدُ بْنُ ثُمَامَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَرْثِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ أَوْ سَادِسَ سِتَّةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فِي دَارِ رَجُلٍ فَنَادَاهُ بِالصَّلَاةِ ، فَخَرَجْنَا فَمَرَرْنَا بِرَجُلٍ وَبُرْمَتُهُ عَلَى النَّارِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَطَابَتْ بُرْمَتُكَ فَقَالَ : نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَتَنَاوَلَ مِنْهَا بَضْعَةً ، فَلَمْ يَزَلْ يَعْلُكُهَا حَتَّى " أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ . وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْهَاشِمِيِّ عَنْ أُمِّ حَكِيمِ بِنْتِ الزُّبَيْرِ قَالَتْ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَتِفٍ ، فَجَعَلْتُ أَسْحَلُهَا لَهُ فَأَكَلَهَا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَمَعْنَى أَسْحَلُهَا أَيْ أَكْشِطُ مَا عَلَيْهَا ، وَمِنْ هَذَا سَاحِلُ الْبَحْرِ لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ سَحَلَهُ ، وَرَوَى شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( تَرْكُ الْوُضُوءِ وَمَا غَيَّرَتِ النَّارُ ) فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَنْسُوخٌ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَإِنَّا نَتَوَضَّأُ بِالْحَمِيمِ وَقَدْ أُغْلِيَ بِالنَّارِ وَإِنَّا لَنَدَّهِنُ بِالدُّهْنِ وَقَدْ طُبِخَ عَلَى النَّارِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَا ابْنَ أَخِي إِذَا سَمِعْتَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَضْرِبْ لَهُ الْأَمْثَالَ ، فَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي تَخْصِيصِهِ لَحْمَ الْجَزُورِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى مَنْ أَكَلَهُ فَمُسْتَدِلٌّ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ فَقَالَ : تَوَضَّئُوا مِنْهَا ، وَسُئِلَ عَنْ لَحْمِ الْغَنَمِ فَقَالَ : تَوَضَّئُوا مِنْهَا ، وَسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَقَالَ : لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ ، وَسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ فَقَالَ : صَلُّوا فِيهَا فِإِنَّهَا بَرَكَةٌ . وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْإِرْشَادِ وَفَرْقٌ بَيْنَ لُحُومِ الْغَنَمِ وَلُحُومِ الْإِبِلِ لِمَا فِي لُحُومِ الْإِبِلِ مِنْ شِدَّةِ السَّهُوكَةِ وَفَرْقٌ بَيْنَ مَبَارِكِ الْإِبِلِ وَمَرَابِضِ الْغَنَمِ فِي الصَّلَاةِ لِمَا فِي الْإِبِلِ مِنَ النُّفُورِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

كُلُّ مَا أَوْجَبَ الْوُضُوءَ فَهُوَ بِالْعَهْدِ وَالسَّهْوِ سَوَاءٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَكُلُّ مَا أَوْجَبَ الْوُضُوءَ فَهُوَ بِالْعَهْدِ وَالسَّهْوِ سَوَاءٌ " .

وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا فَرْقَ فِي الْأَحْدَاثِ الْمُوجِبَةِ لِلْوُضُوءِ هل يعتبر العَمْد والسَهْوِ أو الْقَصْد وَالْخَطَأ فيها ؟ بَيْنَ عَمْدِهَا وَسَهْوِهَا وَالْقَصْدِ وَالْخَطَأِ فِيهَا لِأَنَّ النَّوْمَ مُوجِبُ الْوُضُوءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا وَالِاحْتِلَامُ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَامِدًا وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوُضُوءِ مِنَ الْمَذْيِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَبِالِانْصِرَافِ مِنَ الصَّلَاةِ عِنْدَ سَمَاعِ الصَّوْتِ وَالرِّيحِ وَهُوَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ .

مَسْأَلَةٌ الْيَقِينُ يَزُولُ بِالشَّكِّ

مَسْأَلَةٌ : الْيَقِينُ يَزُولُ بِالشَّكِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنِ اسْتَيْقَنَ الطَّهَارَةَ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَدَثِ أَوِ اسْتَيْقَنَ الْحَدَثَ ثُمَّ شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَكِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ بَعْدَهُ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَيَتَوَضَّأُ وَلَا يَأْخُذُ بِالشَّكِّ إِجْمَاعًا ، فَأَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ بَعْدَهُ أَمْ لَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ ، وَقَالَ مَالِكٌ يَبْنِي عَلَى الشَّكِّ وَيَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ مَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : وَإِذْ طَرَأَ الشَّكُّ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أأحدث أم لا . بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بَنَى عَلَى الشَّكِّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِطُهْرٍ لَا شَكَّ فِيهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ زَمَانِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ هل لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا ؟ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الشَّكِّ لِتَكُونَ الطَّهَارَةُ مُؤَدَّاةً بِيَقِينٍ كَذَلِكَ إِذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : شُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ الشَّيْءُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ : لَا يَنْتَقِلُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ جَاءَ الشَّيْطَانُ فَأَنْشَرَ كَمَا يَنْشُرُ الرِّجَالُ بِدَابَّتِهِ فَإِذَا سَكَنَ لَهُ جَاءَ الشَّيْطَانُ فَأَضْرَطَ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ يِفْتِنُهُ عَنْ صَلَاتِهِ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدَكُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا وَلِأَنَّ طُرُوءَ الشَّكِّ عَلَى الْيَقِينِ يُوجِبُ الْبَقَاءَ عَلَى الْيَقِينِ كَمَا لَوْ طَرَأَ شَكُّ الطُّهْرِ عَلَى الْحَدَثِ بِيَقِينٍ . فَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي تَغْلِيبِ الشَّكِّ لِيَقْضِيَ زَمَانَ الْمَسْحِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُغَلَّبِ الشَّكُّ فِيهِ وَإِنَّمَا غُلِّبَ حُكْمُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الْمَسْحِ إِلَّا عَلَى صِفَةٍ فَمَا لَمْ يَنْقُضِ الصِّفَةَ وَهُوَ بَقَاءُ الزَّمَانِ كَانَ الظَّاهِرُ مَانِعًا مِنْ زَوَالِ الْمَسْحِ ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ نُغَلِّبَ حُكْمَ الظَّاهِرِ ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنَعُ أَنْ نُغَلِّبَ حُكْمَ الشَّكِّ ، وَكَذَلِكَ كَانَ الشَّكُّ فِي الصَّلَاةِ وَفِي الطَّلَاقِ مُلْغًى وَفِي الْيَقِينِ مُعْتَبَرًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - .

بَابُ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ

الَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ

بَابُ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : " إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ " فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاغْتَسَلْنَا . وَرَوَاهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ . ( قَالَ ) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَامِرٍ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِثْلَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَمَّا فَرَغَ الشَّافِعِيُّ مِنْ ذِكْرِ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ ، وَالَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ : شَيْئَانِ مِنْهُمَا يَشْتَرِكُ فِيهِمَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ، وَشَيْئَانِ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِهِمَا النِّسَاءُ ، دُونَ الرِّجَالِ ، فَأَمَّا الشَّيْئَانِ اللَّذَانِ يَشْتَرِكُ فِيهِمَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ : فَأَحَدُهُمَا : الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ . وَالثَّانِي : إِنْزَالُ الْمَنِيِّ ، فَأَمَّا الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ فَمُوجِبٌ لِلْغُسْلِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ إِنْزَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْجُمْهُورِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : لَا غُسْلَ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِنْزَالٌ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ " يَعْنِي الِاغْتِسَالَ مِنَ الْإِنْزَالِ فَدَلَّ عَلَى انْتِفَائِهِ مِنْ غَيْرِ الْإِنْزَالِ .

وَبِمَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : سَأَلْتُ الْنَبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ هل يُوجِب الْغُسْلِ ؟ ، فَقَالَ : يَتَوَضَّأُ وَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ . وَمَعْنَى يُكْسِلُ : يَقْطَعُ جِمَاعَهُ . وَبِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا كَسِلَ أَحَدُكُمْ أَوْ أَقْحَطَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ " قَوْلُهُ : أَقْحَطَ أَيْ لَمْ يُنْزِلْ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ " . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنِ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا قَعَدَ بَيْنَ الْشُعَبِ الْأَرْبَعِ ثُمَّ أَلْزَقَ الْخِتَانَ بِالْخِتَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ ، عَنْ مُيَسَّرٍ الْحَلَبِيِّ ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ الْفُتْيَا الَّتِي كَانُوا يُفْتُونَ أَنَّ الْمَاءَ مِنَ الْمَاءِ كَانَتْ رُخْصَةً ، رَخَّصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُدُوِّ الْإِسْلَامُ ثُمَّ أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ بَعْدُ . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ ، عَنْ

أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَأَلْزَقَ الْخِتَانَ بِالْخِتَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ " . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَخْبَارِهِمْ [ فَهُوَ ] أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِمَا رُوِّينَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ . وَرُوِيَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَمَّنْ أَوْلَجَ وَلَمْ يُنْزِلْ فَقَالَ :

يَغْتَسِلُ فَقُلْتُ : إِنَّ أُبَيًّا كَانَ يَقُولُ لَا يَغْتَسِلُ فَقَالَ : إِنَّ أُبَيًّا كَانَ نَزَعَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ أَيْ : رَجَعَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الصَّحَابِيُّ عَنْ نَصٍّ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِالنَّسْخِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى النَّسْخِ ، وَيَتَأَوَّلُهَا فِيمَنْ هَمَّ بِالْجِمَاعِ فَأَكْسَلَ عَنِ الْإِيلَاجِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ دُونَ الْغُسْلِ ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَعَ انْتِشَارِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ رُجُوعِ مَنْ خَالَفَ مَعَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ فَاسِدٌ ، وَإِنْ كَانَ لَوْلَا ذَلِكَ مُحْتَمَلًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ حدود التقائهما الموجب للغسل ، وَالْتِقَاؤُهُمَا أَنْ تَغِيبَ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ فَيَكُونُ خِتَانُهُ حِذَاءَ خِتَانِهَا فَذَاكَ الْتِقَاؤُهُمَا كَمَا يُقَالُ الْتَقَى الْفَارِسَانِ إِذَا تَحَاذَيَا وَإِنْ لَمْ يَتَضَامَّا فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ أَنْ يُحَاذِيَ خِتَانُ الرَّجُلِ خِتَانَ الْمَرْأَةِ لَا أَنْ يُصِيبَ خِتَانُهُ خِتَانَهَا وَذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الْمَرْأَةِ مُسْتَعْلٍ وَيَدْخُلُ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِنْ خِتَانِ الْمَرْأَةِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَسَمِعْتُ الْشَافِعِيَّ يَقُولُ : الْعَرَبُ تَقُولُ إِذَا حَاذَى الْفَارِسُ الْفَارِسَ الْتَقَى الْفَارِسَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الَّذِي وَصَفَهُ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ صَحِيحٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الرَّجُلِ هُوَ مَا بَعْدَ بَشَرَةِ الذَّكَرِ مِنَ الْمَوْضِعِ الْمَقْطُوعِ فِي الْخِتَانَةِ ، وَالْحَشَفَةُ : هِيَ الْجِلْدَةُ الْمَقْطُوعَةُ فِي الْخِتَانِ ، وَأَصْلُهَا عِنْدَ مَوْضِعِ الْقَطْعِ مِنْ خِتَانِ الرَّجُلِ ، وَأَمَّا خِتَانُ الْمَرْأَةِ فَهُوَ جِلْدَةٌ مُسْتَعْلِيَةٌ فَوْقَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ تُقْطَعُ فِي الْخِتَانَةِ ، لِأَنَّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ مِنْهَا أَسْفَلَ الْفَرْجِ وَهُوَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ ، وَالْحَيْضِ وَفَوْقَهُ ثُقْبَةٌ هِيَ مَخْرَجُ الْبَوْلِ وَعَلَيْهِ جِلْدَةٌ تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا ، وَهِيَ خِتَانُ الْمَرْأَةِ وَتِلْكَ الْجِلْدَةُ تَقْطَعُهَا الْخَافِضَةُ فِي الْخِتَانَةِ وَقَدْ شَبَّهَ الْعُلَمَاءُ الْفَرْجَ بِعَقْدِ الْأَصَابِعِ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ فَعَقْدُ الثَّلَاثِينَ هِيَ صُورَةُ الْفَرْجِ وَعَقْدُ الْخَمْسَةِ بَعْدَهَا فِي أَسْفَلِهَا هِيَ مَدْخَلُ الذَّكَرِ ، وَمَخْرَجُ الْحَيْضِ وَالْخِتَانُ خَارِجٌ مِنْهُ فِي أَعْلَى الْفَرْجِ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ هُوَ أَنْ تَغِيبَ بَشَرَةُ الذَّكَرِ فِي مَدْخَلِهِ مِنَ الْفَرْجِ حَتَّى يَصِيرَ خِتَانُ الرَّجُلِ مُحَاذِيًا لِخِتَانِ الْمَرْأَةِ ، فَذَلِكَ الْتِقَاؤُهُمَا وَإِنْ لَمْ يَتَضَامَّا فَإِذَا انْتَهَى وُلُوجُ الذَّكَرِ فِي الْفَرْجِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يُنْزِلَا ، فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ مِنْ حَدِ الْخِتَانِ متى يجب الغسل عند التقاء الختانين إذا فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ إِنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِيلَاجِ مَا بَقِيَ مِنَ الذَّكَرِ كُلِّهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ فِي حُكْمِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إِنَّهُ مَتَى أَوْلَجَ مِنْ بَقِيَّتِهِ بِقَدْرِ الْحَشَفَةِ الَّتِي كَانَ يَلْتَقِي مَعَ سَلَامَتِهَا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا ، وَصَارَ فِي حُكْمِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ وَالْمَحْكِيُّ مِنَ الْمَنْصُوصِ مَا وَصَفْنَا فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ حَشَفَةُ الرَّجُلِ بَاقِيَةً لَمْ تُقْطَعْ فِي الْخِتَانِ فَأَوْلَجَهَا إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يَصِيرُ خِتَانُهُ حِذَاءَ خِتَانِهَا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا وَلَا يَكُونُ بَقَاءُ الْحَشَفَةِ مَانِعًا مِنْ

وُجُوبُ الْغُسْلِ وَلَكِنْ لَوْ لَفَّ عَلَى ذَكَرِهِ خِرْقَةً وَأَوْلَجَهُ إِلَى حَدِّ الْخِتَانِ حكم الغسل فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَتَعَقَّبْهُ إِنْزَالٌ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ عَلَيْهِمَا كَمَا لَوْ كَانَ الذَّكَرُ مَسْتُورًا بِالْحَشَفَةِ وَأَنَّهُ يُولِجُ الذَّكَرَ وَالْخِرْقَةَ مَعَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُولِجًا فِي خِرْقَةٍ وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ وُصُولِ اللَّذَّةِ وَخَالَفَ الْحَشَفَةَ لِأَنَّهَا مِنَ الذَّكَرِ ، وَلَا يَمْنَعُ اللَّذَّةَ وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يُفَصِّلُ حَالَ الْخِرْقَةِ فَيَقُولُ : " إِنْ كَانَتِ الْخِرْقَةُ كَثِيفَةً تَمْنَعُ مِنَ اللَّذَّةِ فَلَا غُسْلَ وَإِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً لَا تَمْنَعُ مِنَ اللَّذَّةِ وَجَبَ الْغُسْلُ " .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُولِجَ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ أَوْ يَتَلَوَّطَ حكم الغسل فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهِمَا لِوُلُوجِ الذَّكَرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِنْزَالٌ وَهَكَذَا لَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجِ بَهِيمَةٍ حكم الغسل وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ ، لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مُولِجٌ فِي فَرْجِ مَاشِيَةٍ فَأَشْبَهَ قُبُلَ الْمَرْأَةِ ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِقُبُلِ الْمَرْأَةِ ، فَلَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجِ خُنْثَى مُشْكِلٍ حكم الغسل فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا فَيَكُونُ الْفَرْجُ عُضْوًا زَائِدًا فَلَمْ يَلْزَمْ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ الْغُسْلُ كَمَا لَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجٍ مُنْدَمِلٍ وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ خُنْثَى مُشْكِلٍ أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ حكم الغسل فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى امْرَأَةً فَيَكُونُ الذَّكَرُ عُضْوًا زَائِدًا ، وَلَوْ أَنَّ خُنْثَى أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ وَأَوْلَجَ فِي فَرْجِهِ ذَكَرَ رَجُلٍ حكم الغسل وَجَبَ الْغُسْلُ يَقِينًا ، فَلَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجِ مَيِّتَةٍ حكم الغسل ، وهل عليه المهر ، وهل يجب عليه الحد ؟ وَجَبَ الْغُسْلُ وَلَمْ يَجِبِ الْمَهْرُ ، وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَجْهَانِ ، وَإِذَا أَوْلَجَ مِنْ ذَكَرِهِ مَا لَا يَلْتَقِي مَعَهُ الْخِتَانَانِ حكم الْوُضُوءُ والْغُسْلِ . فَعَلَيْهِمَا الْوُضُوءُ دُونَ الْغُسْلِ لِحُصُولِ الْمُلَامَسَةِ ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا حَصَلَ عَلَى الذَّكَرِ مِنْ بَلَلِ الْفَرْجِ ؟ إِذَا أَوْلَجَ مِنْ ذَكَرِهِ مَا لَا يَلْتَقِي مَعَهُ الْخِتَانَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ ؟ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ نَجِسٌ يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْبَوْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَقَدْ حُكِيَ نَصًّا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْمَنِيِّ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَنْزَلَ الْمَاءَ الدَّافِقَ مُتَعَمِّدًا أَوْ نَائِمًا أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ حكم الغسل ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا ، وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَإِنْزَالُ الْمَنِيِّ : هُوَ الثَّانِي مِمَّا يُوجِبُ الْغُسْلَ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَأَيُّهُمَا أَنْزَلَهُ مِنْ جِمَاعٍ أَوِ احْتِلَامٍ بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِ شَهْوَةٍ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ فَالْغُسْلُ مِنْهُ وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ " يَعْنِي : أَنَّ إِنْزَالَ الْمَنِيِّ يُوجِبُ الْغُسْلَ بِالْمَاءِ ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ لَا مِنِ احْتِلَامٍ ، وَمِنِ احْتِلَامٍ لَا مِنْ جِمَاعٍ ، فَيَغْتَسِلُ وَيُتَمِّمُ صَوْمَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ الْغُسْلُ مِنَ الْمَنِيِّ إذا كان يسيراً أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ حَتَّى يَخْرُجَ دَافِقًا لِلشَّهْوَةِ وَلَا يَجِبُ إِنْ كَانَ يَسِيرًا ، أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ إِلْحَاقًا بِالْمَذْيِ ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُمُومِ الْخَبَرَيْنِ ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ الِاغْتِسَالَ إِذَا كَانَ لِشَهْوَةٍ ، أَوْجَبَهُ إِذَا كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ إِنْزَالُ مَنِيٍّ فَأَوْجَبَ الِاغْتِسَالَ كَالِاحْتِلَامِ . وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ " فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ " .

إِيجَابُ الْغُسْلِ بِظُهُورِ الْمَنِيِّ

فَصْلٌ : إِيجَابُ الْغُسْلِ بِظُهُورِ الْمَنِيِّ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ إِذَا أَنْزَلَهُ الرَّجُلُ مِنْ ذَكَرِهِ وَظَهَرَ المني وحكم الغسل منه ، أَوْ خَرَجَ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ المني وحكم الغسل منه فَإِذَا انْحَدَرَ مِنَ الصُّلْبِ إِلَى إِحْلِيلِ الذَّكَرِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ فَلَا غُسْلَ ، وَلَوْ أَنْزَلَتِ الْمَرْأَةُ الْمَنِيَّ إِلَى فَرْجِهَا وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ حكم الغسل عليها إن كانت بكراً أو ثيباً نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَا يَلْزَمُهَا تَطْهِيرُ دَاخِلِ فَرْجِهَا لَمْ يَلْزَمْهَا الْغُسْلُ حَتَّى يَنْزِلَ الْمَنِيُّ مِنْ فَرْجِهَا ، لِأَنَّ دَاخِلَ فَرْجِهَا فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ فَجَرَى مَجْرَى دَاخِلِ الذَّكَرِ ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهَا : لِأَنَّهُ يَلْزَمُهَا تَطْهِيرُ دَاخِلِهِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَجَرَى مَجْرَى الْعُضْوِ الظَّاهِرِ .

فَصْلٌ : فَلَوِ انْكَسَرَ صُلْبُ رَجُلٍ فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَنِيُّ حكم الغسل ، فَلَمْ يَنْزِلْ مِنَ الذَّكَرِ ، فَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهُ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ " فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ " فِيمَا خَرَجَ مِنْ سَبِيلٍ مُسْتَحْدَثٍ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَكِنْ لَوْ كَانَ الْخَارِجُ لَمْ يَصِرْ مَنِيًّا مُسْتَحْكِمًا فَلَا غُسْلَ فِيهِ وَجْهًا وَاحِدًا ، فَأَمَّا إِذَا اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ فَرَأَى إِنْزَالَ الْمَنِيِّ عَنْ غَيْرِ أَنْ يُحِسَّ بِهِ فِي نَوْمِهِ حكم الغسل ، فَالْغُسْلُ مِنْهُ وَاجِبٌ ، وَلَوْ أَحَسَّ فِي النَّوْمِ بِالْإِنْزَالِ وَلَمْ يَرَ بَعْدَ اسْتِيقَاظِهِ شَيْئًا حكم الغسل ، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ ، وَذَاكَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ ، فَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلَا يَذْكُرُ الِاحْتِلَامَ فَقَالَ : " يَغْتَسِلُ " . وَعَنِ الرَّجُلِ يَرَى أَنْ قَدِ احْتَلَمَ وَلَا يَجِدُ الْبَلَلَ قَالَ : " لَا غُسْلَ عَلَيْهِ " . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : الْمَرْأَةُ تَرَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : " نَعَمِ ، النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ " ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ . فَلَوْ رَأَى الرَّجُلُ الْمَنِيَّ فِي ثَوْبٍ هُوَ لَابِسُهُ وَلَمْ يُحِسَّ مِنْ نَفْسِهِ الْإِنْزَالَ فِيهِ حكم الغسل ، فَلَا يَخْلُو

حَالُ ذَلِكَ الثَّوْبِ مِنْ أَنْ يَلْبَسَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا ، فَإِنْ لَبِسَهُ غَيْرُهُ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ ، وَلَا عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ غُسْلٌ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ لَا يَلْبَسُهُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يَلْبَسْهُ غَيْرُهُ مُنْذُ غَسَلَهُ ، وَقَدْ كَانَ يَلْبَسُهُ غَيْرُهُ قَبْلَ الْغَسْلِ ، نَظَرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَنِيُّ مِنْ ظَاهِرِهِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَاقَى مَنِيًّا عَلَى ثَوْبِ غَيْرِهِ فَتَعَدَّى عَلَيْهِ ، أَوْ قَدْ حَاكَّهُ رَجُلٌ أَنْزَلَ فَوَقَعَ مَنِيُّهُ عَلَى ثَوْبِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَنِيُّ مِنْ دَاخِلِ الثَّوْبِ فَالْغُسْلُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ مِنْهُ ، وَامْتِنَاعِ كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَعَادَ كُلَّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا مِنْ أَقْرَبِ نَوْمَةٍ نَامَهَا فِيهِ ، لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ إِنْزَالِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَامَ فِيهِ لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ شَيْءٍ مِمَّا صَلَّى لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ آخِرِ صَلَاةٍ ، وَلَيْسَ هُنَاكَ ظَاهِرٌ يَغْلُبُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْيَقِينِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا بُوشِرَتِ الْمَرْأَةُ دُونَ الْفَرْجِ فَاسْتَدْخَلَتْ مَنِيَّ الرَّجُلِ إِلَى فَرْجِهَا حكم الغسل فَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ لَوْ أَلْقَتْهُ مِنْ فَرْجِهَا بَعْدَ اسْتِدْخَالِهِ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إِذَا أَلْقَتْهُ بَعْدَ اسْتِدْخَالِهِ لَزِمَهَا الْغُسْلُ قِيَاسًا عَلَى إِنْزَالِ مَاءِ نَفْسِهَا وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَائِهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِإِلْقَائِهِ وُجُوبُ الْغُسْلِ كَمَا لَوِ اسْتَدْخَلَتْ دَوَاءً ، فَأَلْقَتْهُ أَوْ لَمْ تُلْقِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَنْزَلَ الْمَاءَ الدَّافِقَ مُتَعَمِّدًا أَوْ نَائِمًا أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ حكم الغسل فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا وَمَاءُ الرَّجُلِ الَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ صفته هُوَ الْمَنِيُّ الْأَبْيَضُ الثَّخِينُ الَّذِي يُشْبِهُ رَائِحَةَ الطَّلْعِ فَمَتَى خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنْ ذَكَرِ الرَّجُلِ أَوْ رَأَتِ الْمَرْأَةُ الْمَاءَ الدَّافِقَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَنِيَّ الرَّجُلِ مُخَالِفٌ لِمَنِيِّ الْمَرْأَةِ فِي صِفَتِهِ ، فَمَنِيُّ الرَّجُلِ هُوَ ثَخِينٌ أَبْيَضُ تُشْبِهُ رَائِحَتُهُ رَائِحَةَ الطَّلْعِ ، وَهَذِهِ صِفَةٌ فِي حَالِ السَّلَامَةِ وَالصِّحَّةِ ، وَقَدْ يَتَغَيَّرُ بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَغْذِيَةِ وَكَثْرَةِ الْجِمَاعِ ، وَمَنِيُّ الْمَرْأَةِ صفة هُوَ أَصْفَرُ رَقِيقٌ لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الرَّائِحَةُ ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمَا الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِتَجْرِبَتِهِمَا عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ . وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا يُؤَيِّدُ هَذَا .

رُوِيَ عَنْ أَبِي عُرْوَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَتْ فَعَلَيْهَا الْغُسْلُ " ، فَقَالَتْ أَمُّ سُلَيْمٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يَكُونُ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، مَاءُ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ فَأَيُّهُمَا سَبَقَ أَوْ عَلَا أَشْبَهَهُ الْوَلَدُ ، وَأَمَّا إِنْ تَغَيَّرَ الْمَنِيُّ بِحُدُوثِ مَرَضٍ أَوِ اخْتِلَافِ غِذَاءٍ أَوْ كَثْرَةِ جِمَاعٍ فَصَارَ رَقِيقَ الْقَوَامِ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ إِلَى صُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَةٍ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَتِهِ وَقَلَّ مَا يَخْفَى عَلَى مُنْزِلِهِ ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَنْزَلَ الْمَنِيَّ لَزِمَهُ الْغُسْلُ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ ، وَإِنْ شَكَّ فِيهِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ ، وَلَوِ احْتَاطَ كَانَ أَوْلَى .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَذْيُ صفته وحكمه فَهُوَ أَبْيَضُ رَقِيقٌ لَا يَنْدَفِقُ جَارِيًا كَالْمَنِيِّ ، وَلَكِنْ يَخْرُجُ قَطْرَةً بَعْدَ قَطْرَةٍ عِنْدَ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ ، وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ الْغُسْلِ . رَوَى حُصَيْنُ بْنُ قَبِيصَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنْتُ رَجُلًا مَذَاءً فَجَعَلْتُ أَغْتَسِلُ حَتَّى تَشَقَّقَ ظَهْرِي قَالَ : فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَفْعَلْ إِذَا رَأَيْتَ الْمَذْيَ فَاغْسِلْ ذَكَرَكَ وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ فَإِذَا نَضَحْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ . وَرَوَى الْحَارِثُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَرَامِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَعَنِ الْمَاءِ يَكُونُ بَعْدَ الْمَاءِ . فَقَالَ : ذَاكَ الْمَذْيُ وَكُلُ فَحْلٍ يُمْذِي فَتَغْسِلُ مِنْ ذَلِكَ فَرْجَكَ وَأُنْثَيَيْكَ وَتَوَضَّأَ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ذَكَرَهُمَا أَبُو دَاوُدَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي السُّوَعَاءِ الْوُضُوءُ يَعْنِي الْمَذْيَ ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " . فَأَمَّا الْوَدْيُ صفته وحكمه فَهُوَ كَدِرٌ يَخْرُجُ بَعْدَ الْبَوْلِ قَطْرَةً أَوْ قَطْرَتَيْنِ وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ الْغُسْلِ كَالْمَذْيِ فَصَارَتِ الْمَائِعَاتُ الْخَارِجَةُ مِنَ الذَّكَرِ غَيْرُ الْبَوْلِ الْمُعْتَادِ ثَلَاثَةً ، الْمَنِيُّ وَهُوَ طَاهِرٌ يُوجِبُ الْغُسْلَ ، وَالْمَذْيُ وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ ، وَالْوَدْيُ وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ ، فَلَوْ شَكَّ فِيمَا أَنْزَلَهُ هَلْ هُوَ مَنِيٌّ أَوْ

وَدْيٌ حكم الغسل فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِلشَّكِّ فِيهِ ، وَيَتَوَضَّأُ وَلَا يَلْزَمُهُ غَسْلُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَنِيًّا طَاهِرًا وَإِنِ احْتَاطَ فِي الْأَمْرَيْنِ فَغَسَلَهُ وَاغْتَسَلَ كَانَ أَوْلَى وَأَفْضَلَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَقَبْلَ الْبَوْلِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَنْزَلَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ أَنْزَلَ ثَانِيَةً هل يغْتَسل غُسْلًا ثَانِيًا سَوَاءٌ كَانَ الْإِنْزَالُ الثَّانِي قَبْلَ الْبَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ ؟ اغْتَسَلَ غُسْلًا ثَانِيًا ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِنْزَالُ الثَّانِي قَبْلَ الْبَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ وَقَالَ مَالِكٌ : الْغُسْلُ الْأَوَّلُ يَجْزِيهِ وَلَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الْغُسْلِ بَعْدَ الْإِنْزَالِ الثَّانِي سَوَاءٌ كَانَ الْإِنْزَالُ قَبْلَ الْبَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ ، لِأَنَّهُ بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ الْأَوَّلِ الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَهُ إِذَا كَانَ سَبَبُهُمَا وَاحِدًا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إِنْ أَنْزَلَ ثَانِيَةً قَبْلَ الْبَوْلِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَنْزَلَ بَعْدَ الْبَوْلِ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْبَوْلِ هُوَ مِنَ الْمَنِيِّ الْأَوَّلِ وَكَفَاهُ الْغُسْلُ الْأَوَّلُ ، وَمَا بَعْدَ الْبَوْلِ هُوَ مَنِيٌّ ثَانٍ فَلَزِمَهُ غُسْلٌ ثَانٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ أَنْزَلَ ثَانِيَةً قَبْلَ الْبَوْلِ اغْتَسَلَ لَهُ غُسْلًا ثَانِيًا لِأَنَّهُ مِنْ إِنْزَالٍ عَنْ شَهْوَةٍ وَإِنْ أَنْزَلَ بَعْدَ الْبَوْلِ لَمْ يَغْتَسِلْ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فَاسِدَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ " الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ " وَلِأَنَّهُ إِنْزَالٌ فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ بِهِ الِاغْتِسَالُ كَالْإِنْزَالِ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ الْغُسْلَ فِي الْأُولَى أَوْجَبَهُ فِي الثَّانِيَةِ كَالْجِمَاعِ ، وَلِأَنَّ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ مُوجِبُهُ كَذَلِكَ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَتَغْتَسِلُ الْحَائِضُ إِذَا طَهُرَتْ وَالنُّفَسَاءُ إِذَا ارْتَفَعَ دَمُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ، فَأَمَّا الْآخَرَانِ اللَّذَانِ يُوجِبَانِ الْغُسْلَ عَلَى النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ . فَأَحَدُهُمَا : انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ . وَالثَّانِي : انْقِطَاعُ دَمِ النِّفَاسِ . فَأَمَّا وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنِ انْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ حكمه فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . يَعْنِي بِقَوْلِهِ : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ : يَعْنِي : " اغْتَسَلْنَ " وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ : فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي ، فَأَمَّا دَمُ النِّفَاسِ حكم الغسل منه فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ دَمِ الْحَيْضِ فِي

الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ كَانَ كَدَمِ الْحَيْضِ ، فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ مِنْهُ إِجْمَاعٌ فَلَوْ وَلَدَتِ الْحَامِلُ وَلَدًا لَمْ تَرَ مَعَهُ دَمًا حكم الغسل فَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا غُسْلَ عَلَيْهَا لِعَدَمِ مُوجِبِهِ مِنَ الدَّمِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : عَلَيْهَا الْغُسْلُ ، لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [ الطَّارِقِ : ، ، ] . يَعْنِي أَصْلَابَ الرِّجَالِ وَتَرَائِبَ النِّسَاءِ ، وَقَالَ : مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ [ الْإِنْسَانِ : ] . يَعْنِي اخْتِلَاطًا ، فَإِذَا وَلَدَتْ وَالْوَلَدُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهَا فَقَدْ أَنْزَلَتْ وَالْإِنْزَالُ ، مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ ، فَكَذَلِكَ وِلَادَتُهَا مُوجِبَةٌ لِلْغُسْلِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِسْلَامُ الْمُشْرِكِ حكم الغسل في ذلك فَلَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ : إِسْلَامُ الْمُشْرِكِ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ أَمَرَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ بِالْغُسْلِ حِينَ أَسْلَمَ " وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِمَّنْ أَسْلَمَ بِالْغُسْلِ غَيْرَ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِهِ كُلَّ مَنْ أَسْلَمَ ، وَلِأَنَّ الِاعْتِقَادَاتِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الطَّهَارَةِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ جُنُبًا قَبْلَ إِسْلَامِهِ حكم غسل الكافر بعد إسلامه . فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولُ : لَا حُكْمَ لِجَنَابَةٍ ، وَمَا مَضَى عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ مَغْفُورٌ عَنْهُ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا جَنَابَتُهُ ثَابِتَةٌ وَالْغُسْلُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ ، فَلَوْ كَانَ قَدِ اغْتَسَلَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَفِي صِحَّةِ غُسْلِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ

بَابُ غُسْلِ الْجَنَابَةِ

بَابُ غُسْلِ الْجَنَابَةِ كيفيته قَالَ الشَّافِعِيُّ : يَبْدَأُ الْجُنُبُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ ثُمَّ يَغْسِلُ مَا بِهِ مِنَ الْأَذَى ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ الْعَشْرَ فِي الْإِنَاءِ يُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعْرِهِ ثُمَّ يَحْثِي عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهِ حَتَى يَعُمَّ جَمِيعَ جَسَدِهِ وَشَعْرِهِ وَيُمِرُّ يَدَيْهِ عَلَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ جَسَدِهِ . وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَالَ ) : فَإِنْ تَرَكَ إِمْرَارَ يَدَيْهِ عَلَى جَسَدِهِ فَلَا يَضُرُّهُ وَفِي إِفَاضَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُدَلِّكْهُ أَجْزَأَهُ وَبِقَوْلِهِ : " إِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ قَالَ : وَفِي أَمْرِهِ الْجُنُبَ الْمُتَيَمِّمَ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ اغْتَسِلْ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِوُضُوءٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ حكمه قبل الغسل من الجنابة لَيْسَ بِفَرْضٍ قَالَ : وَإِنْ تَرَكَ الْوُضُوءَ لِلْجَنَابَةِ وَالْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ المغتسل من الجنابة فَقَدْ أَسَاءَ وَيُجْزِئُهُ وَيَسْتَأْنِفُ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى غَسْلَ الْوَجْهِ مِنَ الْحَدَثِ كَمَا فَرَضَ غَسْلَهُ مَعَ سَائِرِ الْبَدَنِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَكَيْفَ يُجْزِئُهُ تَرْكُ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَا يُجْزِئُهُ مِنَ الْآخَرِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا غُسْلُ الْجَنَابَةِ فَيَنْطَلِقُ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ شَيْئَيْنِ : إِنْزَالُ الْمَنِيِّ وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ حكم الغسل منهما ، وَسُمِّيَ جُنُبًا لِأَنَّهُ يَتَجَنَّبُ الصَّلَاةَ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَالْمَسْجِدَ ، أَيْ : لِيَبْعُدَ مِنْهُ وَيَعْتَزِلَهُ حَتَّى يَغْتَسِلَ ، وَالْجُنُبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبَعِيدُ . وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْجَارِ الْجُنُبِ [ النِّسَاءِ : ] . أَيِ : الْجَارُ الْبَعِيدُ ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا ، هُوَ الْجَارُ الْمُشْرِكُ : سُمِّيَ جُنُبًا لِبُعْدِ دِينِهِ مِنْ دِينِكَ وَقَالَ أَعْشَى قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ : أَتَيْتُ حُرَيْثًا زَائِرًا عَنْ جَنَابَةٍ فَكَانَ حُرَيْثٌ فِي عَطَائِيَ جَامِدَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ عَنْ جَنَابَةٍ عَنْ بُعْدٍ وَغُرْبَةٍ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ : وَلَمْ أَرَ مِثْلَيْنَا خَلِيلَيْ جَنَابَةٍ إِسْدًا عَلَى رَغْمِ الْعَدُوِّ وَتَصَافَيَا وَقَدْ تَقَدَمَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي تَفْصِيلِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَالدَّلِيلُ

عَلَيْهِ [ فِي الْجُمْلَةِ ] قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [ النِّسَاءِ : ] . وَرَوَى خُلَيْدٌ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [ الطَّارِقِ ] . قَالَ : الِاغْتِسَالُ مِنَ الْجَنَابَةِ . وَرَوَى طَلْحَةُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ ، عَنْ أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ كَفَّارَةُ مَا بَيْنَهَا " فَقُلْتُ : وَمَا أَدَاءُ الْأَمَانَةِ ؟ فَقَالَ : " غُسْلُ الْجَنَابَةِ ، فَإِنَّ تَحَتَ كُلِّ شَعَرَةٍ جَنَابَةٌ " .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ ، فَكَمَالُ الْغُسْلِ مِنْهَا فَرْضًا وَسُنَّةً أَنْ يَفْعَلَ عَشَرَةَ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : التَّسْمِيَةُ من سنن الغسل لِرِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَغْسِلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ من سنن الغسل لِرِوَايَةِ النَّخَعِيِّ عَنِ الْأُسُودِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ بِكَفَّيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثًا ، ثُمَّ غَسَلَ مَرَافِقَهُ فَأَفَاضَ الْمَاءَ عَلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَغْسِلَ مَا بِهِ مِنْ نَجَاسَةٍ وَأَذَى من سنن الغسل يَعْنِي بِالنَّجَاسَةِ الْمَذْيَ وَبِالْأَذَى الْمَنِيَّ ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَتْ لَهُ غُسْلًا يَغْتَسِلُ بِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَأَكْفَأَ الْإِنَاءَ عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى فَغَسَلَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ صَبَّ عَلَى فَرْجِهِ بِشِمَالِهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَغَسَلَهَا . الرَّابِعُ : أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ كَامِلًا لِرِوَايَةِ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَنَحْنُ نُفِيضُ عَلَى رُءُوسِنَا خَمْسًا مِنْ أَجْلِ الضُّفُرِ .

وَالْخَامِسُ : أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي الْإِنَاءِ فَيُخَلِّلُ بِبَلَلِ أَصَابِعِهِ أُصُولَ شَعْرِهِ من سنن الغسل وَلِحْيَتِهِ لِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَيُخَلِّلُ شَعَرَهُ حَتَى إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ الْبَشَرَةَ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا . وَالسَّادِسُ : أَنْ يَحْثِيَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ من سنن الغسل مِنْ مَاءٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ الْمُقَدَّمِ . وَالسَّابِعُ : أَنْ يَبْدَأَ بِإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ من سنن الغسل ، لِرِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ أَخَذَ بِكَفَّيْهِ فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ ثُمَّ أَخَذَ بِكَفِّهِ فَقَالَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ . وَالثَّامِنُ : أَنْ يَمُرَّ بِيَدَيْهِ عَلَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ جَسَدِهِ من سنن الغسل لِرِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعَرَةٍ جَنَابَةً فَاغْسِلُوا الشَّعَرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِنْقَاءَ الْبَشَرَةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالدَّلْكِ وَالْإِمْرَارِ . وَالتَّاسِعُ : إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : بُلُّوا الشَّعَرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ . وَالْعَاشِرُ : نِيَّةُ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ وَالْأَخْبَارِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالنِّيَّةِ مَعَ التَّسْمِيَةِ وَيَسْتَدِيمَهَا إِلَى إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى جَسَدِهِ ، وَالْأُخْرَى أَنْ يَنْوِيَ [ مَعَ ابْتِدَاءِ ] إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى جَسَدِهِ ، وَلَكِنْ هَلْ يُعِيدُ بِهَا فِعْلَهُ قَبْلَ نِيَّتِهِ مِنْ سُنَّةِ غُسْلِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الْوُضُوءِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَفْرُوضُ فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ ، فَقَدْ تَنْقَسِمُ هَذِهِ الْعَشْرَةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَكُونُ فَرْضًا ، وَقِسْمٌ يَكُونُ سُنَّةً ، وَقِسْمٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ ، فَأَمَّا الْفَرْضُ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ الْغُسْلُ مِنْهُ بِحَالٍ فَشَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : النِّيَّةُ حكمها في الغسل . وَالثَّانِي : إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرَةِ وَالشَّعَرِ ، وَأَمَّا السُّنَّةُ الَّتِي لَا تَجِبُ فِي الْغُسْلِ

بِحَالٍ فَسِتَّةُ أَشْيَاءَ وَهِيَ التَّسْمِيَةُ وَغَسْلُ الْكَفَّيْنِ ثَلَاثًا وَتَخْلِيلُ الشَّعْرِ وَالْإِفَاضَةُ عَلَى الرَّأْسِ ثَلَاثًا وَالْبِدَايَةُ بِالْمَيَامِنِ وَإِمْرَارُ الْيَدَيْنِ عَلَى الْجَسَدِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إِمْرَارُ الْيَدَيْنِ عَلَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَسَدِ فَرْضٌ ، كَمَا أَنَّ إِمْرَارَ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ فَرْضٌ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ : " إِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَكَ " وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ فِي الْحَدَثِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْجَسَدِ كَالْوُضُوءِ ، لِأَنَّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْمَاءُ سَقَطَ فَرْضُ الْجَنَابَةِ عَنْهُ قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ الْيَدُ ، وَلَيْسَ يَسْقُطُ عَنْهُ ذَاكَ لِعَجْزِهِ لِأَنَّ مَالِكًا يُوجِبُ عَلَى الْأَقْطَعِ اسْتِئْجَارَ مَنْ يُمِرُّ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا ، وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ مَذْرُورٌ لَا يَصِلُ إِلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ إِلَّا بِإِمْرَارٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاءُ لِوُصُولِهِ إِلَيْهِ بِجَرَيَانِهِ ، وَأَمَّا الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فَشَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : غَسْلُ النَّجَاسَةِ حكمها في الغسل من الجنابة فَإِنْ كَانَتْ عَلَى جَسَدِهِ كَانَ غَسْلُهَا فَرْضًا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى جَسَدِهِ سَقَطَ فَرْضُهَا . وَالثَّانِي : وُضُوءُهُ لِلصَّلَاةِ حكمه للمغتسل من الجنابة محدثا وغير محدث ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْدَثَ مَعَ الْجَنَابَةِ أَمْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَحْدَثَ لَزِمَهُ الْغُسْلُ ، وَسَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْوُضُوءِ وَكَانَ مَسْنُونًا فِي غُسْلِهِ لَا فَرْضًا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ فَلَا يَخْلُو حَالُ حَدَثِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ جَنَابَةٍ أَوْ بَعْدَهَا ، فَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ بَعْدَ جَنَابَةٍ حكم الوضوء في هذه الحال سَقَطَ حُكْمُهُ لِدُخُولِهِ فِيمَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْجُنُبُ فِي الْحَدَثِ كَانَ دُخُولُ الْحَدَثِ فِي الْجَنَابَةِ أَوْلَى ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوُضُوءُ فِي غُسْلِهِ مَسْنُونًا لَا فَرْضًا ، وَإِنْ كَانَ الْحَدَثُ قَبْلَ الْجَنَابَةِ حكم الوضوء وصفته في هذه الحال وَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ الْجُنُبِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ بِحَدَثِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْغُسْلُ لِجَنَابَتِهِ الْحَادِثَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَلَا يُجْزِئُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ الْوُضُوءَ عَلَى الْغُسْلِ ، فَإِنْ أَخَّرَهُ أَجْزَأَهُ فَيَصِيرُ غَاسِلًا لِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ : مَرَّةً عَنْ حَدَثِهِ فَيُرَتِّبُهَا ، وَمَرَّةً عَنْ جَنَابَتِهِ فَلَا يُرَتِّبُهَا ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَّبَا سَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَوَجَبَا أَنْ لَا يَتَدَاخَلَا ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا أَعْظَمَ كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَسْقُطُ حُكْمُ التَّكْرَارِ وَيَبْقَى حُكْمُ التَّرْتِيبِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْوُضُوءِ فَيَغْتَسِلُ غُسْلًا وَاحِدًا يُرَتِّبُ فِيهِ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ إِذَا اتَّفَقَتْ تَدَاخَلَتْ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ لَمْ تَتَدَاخَلْ فَلَمَّا كَانَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ فِي الْحَدَثِ مُوَافِقًا لِغَسْلِهَا فِي الْجَنَابَةِ دَخَلَ

أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ فَسَقَطَ التَّكْرَارُ ، وَلَمَّا كَانَ تَرْتِيبُ الْحَدَثِ مُخَالِفًا لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ ثَبَتَ التَّرْتِيبُ زَائِدًا عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ - مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يَسْقُطُ حُكْمُ التَّكْرَارِ وَالتَّرْتِيبِ ، وَيَدْخُلُ الْحَدَثُ فِي الْجَنَابَةِ وَيَلْزَمُهُ الْغُسْلُ وَحْدَهُ دُونَ الْوُضُوءِ بِأَيِّ مَوْضِعٍ بَدَأَ مِنْ بَدَنِهِ أَجْزَأَهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَدَثَ مَعَ الْجَنَابَةِ هُوَ أَصْغَرُ نَوْعَيِ الْجِنْسِ . فَإِذَا اجْتَمَعَا دَخَلَ الْأَصْغَرُ فِي الْأَكْبَرِ كَمَا تَدْخُلُ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِذَا قَرَنَ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَجْعَلُ الْحَدَثَ الطَّارِئَ عَلَى الْجَنَابَةِ كَالْحَدَثِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْجَنَابَةِ فِي تَخْرِيجِ الْوُضُوءِ عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ ، وَأَنْكَرَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا ذَلِكَ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحَدَثِ الْمُتَقَدِّمِ وَبَيْنَ الْحَدَثِ الْمُتَأَخِّرِ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَمَّا طَرَأَ عَلَى أَعْضَاءٍ ظَاهِرَةٍ ثَبَتَ حُكْمُهُ وَالْمُتَأَخِّرُ لَمَّا طَرَأَ عَلَى أَعْضَاءٍ غَيْرِ ظَاهِرَةٍ سَقَطَ حُكْمُهُ .

فَصْلٌ : وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَاخْتِلَافِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ فُرُوعٌ خَمْسَةٌ : فَالْفَرْعُ الْأَوَّلُ مِنْهَا : صُورَتُهُ فِي جُنُبٍ غَسَلَ بَعْضَ بَدَنِهِ لِلْجَنَابَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ تَمَامِ الْغُسْلِ حكم الوضوء وصفته في هذه الحال فَلَا يَخْلُو أَعْضَاءُ الْوُضُوءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ أَعْضَاءُ وُضُوئِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْبَاقِي مِنْ بَدَنِهِ الَّذِي لَمْ يَغْسِلْهُ مِنْ جَنَابَتِهِ ، فَهَذَا يُتَمِّمُ غَسْلَ الْبَاقِي مِنْ بَدَنِهِ ، وَيُجْزِيهِ عَنْ جَنَابَتِهِ وَحَدَثِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فِي بَاقِي غَسْلِهِ ، لِأَنَّ الْحَدَثَ طَرَأَ عَلَيْهَا ، وَحُكْمُ الْجَنَابَةِ لَمْ يَزَلْ عَنْهَا فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَدَثِ تَأْثِيرٌ ، وَلَمْ يُسْتَحَقَّ لِأَجْلِهِ تَرْتِيبٌ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَكُونَ أَعْضَاءُ وُضُوئِهِ قَدْ غَسَلَهَا قَبْلَ حَدَثِهِ حكم الوضوء وصفته في هذه الحال فَهَذَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُتَمِّمَ بَاقِيَ غُسْلِهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مُرَتَّبًا مِنْ بَعْدِهِ ، فَيَكُونُ غَسْلُ بَاقِي الْبَدَنِ لِتَمَامِ الْغُسْلِ مِنْ جَنَابَتِهِ ، وَاسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ لِمَا طَرَأَ مِنْ حَدَثِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ غَسْلَ جَمِيعِ جَسَدِهِ فَيُجْزِئَهُ عَنْ جَنَابَتِهِ وَعَنْ حَدَثِهِ : لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ غَسْلُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ أَجْزَأَ فَإِذَا فَعَلَهُ بَعْدَ غَسْلِ بَعْضِهَا أَوْلَى ، لَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ إِذَا اسْتَأْنَفَ غَسْلَ جَمِيعِ جَسَدِهِ أَنْ يُرَتِّبَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ فِي غُسْلِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ الْمُحْدِثِ إِذَا اغْتَسَلَ بَدَلًا مِنْ وُضُوئِهِ هَلْ يَسْقُطُ حُكْمُ التَّرْتِيبِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ وَبَقِيَ بَعْضُهَا حكم الوضوء وصفته في هذه الحال كَأَنْ أَحْدَثَ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وَبَقِيَ رَأْسُهُ وَرِجْلَاهُ ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُتَمِّمَ غَسْلَهُ ثُمَّ يَغْسِلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ مُرَتَّبًا دُونَ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ ، لِأَنَّ طُرُوءَ الْحَدَثِ كَانَ بَعْدَ بَقَاءِ حُكْمِ الْجَنَابَةِ فِي رَأْسِهِ

وَرِجْلَيْهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَدَثِ تَأْثِيرٌ فِيهِمَا ، وَأَثَّرَ فِي الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ لِزَوَالِ حُكْمِ الْجَنَابَةِ عَنْهُمَا قَبْلَ طُرُوءِ الْحَدَثِ عَلَيْهِمَا ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْغُسْلَ مِنْ أَوَّلِهِ لَا يَلْزَمُهُ فِيهِ تَرْتِيبُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ ، لِبَقَاءِ حُكْمِ الْجَنَابَةِ فِيهِمَا ، وَهَلْ يَلْزُمُهُ تَرْتِيبُ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فَمَنِ اغْتَسَلَ بَدَلًا مِنَ الْوُضُوءِ لِأَنَّ الْوَجْهَ وَالذِّرَاعَيْنِ قَدْ نَزَلَ عَنْهُمَا حُكْمُ الْجَنَابَةِ فَلَحِقَهُمَا حُكْمُ الْحَدَثِ .

فَصْلٌ : وَالْفَرْعُ الثَّانِي : صُورَتُهُ فِي مُحْدِثٍ عَدِمَ الْمَاءَ فِي سَفَرِهِ ، فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ اجْتَنَبَ وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِي أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ بَاقٍ لَا يَدْخُلُ فِي الْجَنَابَةِ الطَّارِئَةِ عَلَيْهَا لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ فِي أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ بَدَلًا مِنْ حَدَثِهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ فِي وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ بَدَلًا مِنْ جَنَابَتِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مِنَ الْجَنَابَةِ [ وَالْوُضُوءُ بَدَلٌ مِنَ الْحَدَثِ ] وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ قَدْ سَقَطَ بِطُرُوءِ الْجَنَابَةِ عَلَيْهَا فَهَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِيمَنْ وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ . أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ وَيَقْتَصِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ وَحْدَهُ ، وَيُجْزِئُهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ بَدَنِهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ بَعْدَهُ لِبَاقِي بَدَنِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ التَّيَمُّمُ هَاهُنَا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ : لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْمَاءُ .

فَصْلٌ : وَالْفَرْعُ الثَّالِثُ : صُورَتُهُ فِي مُسَافِرٍ جُنُبٍ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا غَسَلَ بِهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ لَا غَيْرَ ، وَيَتَيَمَّمُ لِبَاقِي بَدَنِهِ ثُمَّ أَحْدَثَ وَوَجَدَ الْمَاءَ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ كَانَ أَوْلَى ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْغُسْلِ بِهِ فَبَدَأَ بِرِجْلَيْهِ ثُمَّ بِوَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسِهِ مَاسِحًا بِرَأْسِهِ لَا غَاسِلًا أَجْزَأَهُ ، لِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ هُمَا فِي حَدَثِ الْجَنَابَةِ فَلَمْ يَلْحَقْهُمَا حُكْمُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَجَازَ تَقْدِيمُ غَسْلِهِمَا ، وَزَالَ حَدَثُ الْجَنَابَةِ عَنِ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَالرَّأْسِ فَلَحِقَهُمَا حُكْمُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَاسْتَحَقَّ فِيهَا التَّرْتِيبَ وَمَسْحَ الرَّأْسِ دُونَ الْغَسْلِ وَلَكِنْ لَوْ بَدَأَ بِذِرَاعَيْهِ قَبْلَ وَجْهِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، لِارْتِفَاعِ حَدَثِ الْجَنَابَةِ وَلُحُوقِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ الْمُوجِبِ لِلتَّرْتِيبِ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَقٌّ مِمَّا غَسَلَهُ قَبْلَ حَدَثِهِ ، فَإِنْ خَالَفَ التَّرْتِيبَ فِيهِ لَمْ يُجْزِهِ لِطُرُوءِ الْحَدَثِ عَلَيْهِ بِارْتِفَاعِ الْجَنَابَةِ عَنْهُ [ وَالتَّرْتِيبُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِيمَا غَسَلَهُ بَعْدَ حَدَثِهِ لِبَقَاءِ الْجَنَابَةِ ] وَامْتِنَاعِ لُحُوقِ الْحَدَثِ بِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ غَسَلَ رَأْسَهُ بَدَلًا مِنْ مَسْحِهِ صَارَ مُغْتَسِلًا بَدَلًا مِنْ وُضُوءٍ أَلْحَقَهُ حُكْمُ الْحَدَثِ ، فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُ التَّرْتِيبِ أَمْ لَا ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ : وَالْفَرْعُ الرَّابِعُ : صُورَتُهُ فِي جُنُبٍ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ فِي سَفَرِهِ مَا يَكْفِيهِ إِلَّا مَوْضِعًا يَسِيرًا مِنْ بَدَنِهِ فَاغْتَسَلَ بِهِ إِلَّا كَقَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ طُهْرِهِ ، فَتَيَمَّمَ لَهُ وَصَلَّى فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا ، ثُمَّ أَحْدَثَ وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ مَا تَرَكَهُ مِنْ بَدَنِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنْ طُهْرِهِ فِي جَنَابَتِهِ وَلَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي أَعْضَاءِ حَدَثِهِ : لِأَنَّهُ يَكْفِيهِ لِمَا بَقِيَ مِنْ جَنَابَتِهِ وَلَا يَكْفِيهِ لِحَدَثِهِ فَإِذَا اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ طُهْرِهِ فَقَدْ أَكْمَلَ غُسْلَ جَنَابَتِهِ وَصَارَ مُحْدِثًا عَادِمًا لِلْمَاءِ فَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي مَا أَرَادَ مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ . فَإِنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْمَاءِ فِيمَا بَقِيَ عَلَى طُهْرِهِ فِي الْجَنَابَةِ جَازَ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لِلْحَدَثِ الطَّارِئِ وَاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِلْجَنَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَلَوْ أَرَاقَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْمَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ الَّذِي قَدَّمَهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَيَمُّمًا ثَانِيًا بَعْدَ إِرَاقَةِ الْمَاءِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ الْأَوَّلَ كَانَ مَرَّةً ، وَفَرْضُ مَا بَقِيَ مِنَ الْجَنَابَةِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهِ فَلَمَّا أَرَاقَهُ انْتَقَلَ فَرْضُهُ عَنِ الْمَاءِ إِلَى التَّيَمُّمِ ، فَلَزِمَهُ فِعْلُهُ بَعْدَ فَرْضِهِ .

فَصْلٌ : الْفَرْعُ الْخَامِسُ : صُورَتُهُ فِي جُنُبٍ عَدِمَ الْمَاءَ فِي سَفَرِهِ ، فَتَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَّى ، ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِلَ وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ لِأَعْضَاءِ حَدَثِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ الْجُنُبَ إِذَا وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ لِغُسْلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ ، فَطُهْرُهُ مِنْ جَنَابَتِهِ تَامٌّ لِلنَّوَافِلِ بِالتَّيَمُّمِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَقَدْ أَحْدَثَ بَعْدَهُ وَهُوَ وَاجِدٌ لِمَاءِ حَدَثِهِ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هَذَا الْمَاءَ فِي أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ وَقَدِ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ فَيُصَلِّي مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْجُنُبَ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ فِيمَا شَاءَ مِنْ بَدَنِهِ وَتَيَمَّمَ لِمَا بَقِيَ مِنْهُ ، وَيَكُونُ حُكْمُ الْحَدَثِ الطَّارِئِ سَاقِطًا لِعَوْدِ الْجَنَابَةِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ بِمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادُوا الْمَسْأَلَةَ عَلَى حَالِهَا أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةً ثَانِيَةً بَعْدَ الظُّهْرِ فَحَدَثُ جَنَابَتِهِ بَاقٍ ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَيَمُّمِهِ كَانَ طُهْرًا لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ النَّوَافِلِ وَلَا يَكُونُ لِفَرِيضَةٍ ثَانِيَةٍ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِحَدَثِهِ تَأْثِيرٌ لِطُرْئِهِ عَلَى جَنَابَةٍ بَاقِيَةِ الْحُكْمِ ، وَيَصِيرُ جُنُبًا وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ ، فَإِنْ قِيلَ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى الْفَرِيضَةَ ، وَمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ بِهِ . وَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ بَدَنِهِ وَتَيَمَّمَ بَعْدَهُ لِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَصَلَّى الْفَرِيضَةَ وَمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ فَصَارَ تَحْرِيرُ مَا ذَكَرْنَا شَرْحَهُ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الظُّهْرِ نَفْلًا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ التَّيَمُّمُ ؟ وَهَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَاعْتَبِرْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرْحِ تَجِدْهُ صَرِيحًا وَعَلَى الْأُصُولِ مُطَّرِدًا " .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ غُسْلُ الْمَرْأَةِ إِلَّا أَنَّهَا تَحْتَاجُ مِنْ غَمْرِ ضَفَائِرِهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ أُصُولَ الشَّعْرِ إِلَى أَكْثَرِ مِمَّا يِحْتَاجُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ . وَرُوِيَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِلْغُسْلِ مِنَ الْجِنَابَةِ ؟ فَقَالَ : " لَا

إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ تُفِيضِي عَلَيْكِ الْمَاءَ " ( قَالَ ) وَأُحِبَّ أَنْ يُغَلْغِلَ الْمَاءَ فِي أُصُولِ الشَّعَرِ وَكَمَا وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى شَعَرِهَا وَبَشَرِهَا أَجْزَأَهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : غُسْلُ الْمَرْأَةِ مِنْ جَنَابَتِهَا صفته للبكر والثيب كَغُسْلِ الرَّجُلِ سَوَاءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَرْضٌ وَسُنَّةٌ إِلَّا أَنَّهَا تَزِيدُ فِي تَفَقُّدِ بَدَنِهَا وَتَعَاهُدِ جَسَدِهَا لِمَا تَخْتَصُّ بِهِ غَالِبًا مِنَ الْعُكَنِ وَالْمَغَابِنِ الَّتِي يَعْدِلُ الْمَاءُ عَنْهَا فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَعَلَيْهَا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى فَرْجِهَا : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِزَوَالِ الْبَكَارَةِ فِي حُكْمِ الْبَشَرَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَقَدْ شَبَّهَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَلَيْسَ عَلَيْهَا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى فَرْجِهَا : لِأَنَّهُ بَشَرَةٌ ظَاهِرَةٌ ، وَعَلَيْهَا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى تَكَاسِيرِ عُكَنِهَا وَغُضُونِ وَجْهِهَا وَدَاخِلِ سُرَّتِهَا ، وَكَذَا الرَّجُلُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَمَّا شَعَرُ رَأْسِهَا ، فَإِنْ كَانَ مَحْلُولًا أَوَصَلَتِ الْمَاءَ إِلَى جَمِيعِهِ مِنْ أُصُولِ مَنَابِتِهِ إِلَى مَا اسْتَرْسَلَ عَنْهُ لَا يُجْزِئُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أُصُولٍ ثَابِتَةٍ دُونَ الْمُسْتَرْسِلِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ دُونَ أُصُولِ الْمَنَابِتِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بُلُّوا الشَعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ " وَإِنْ كَانَ شَعْرُهَا مَضْفُورًا لَمَّةً أَوْ عِقْصَةً فَإِنْ كَانَ فِيهِ طَيِبٌ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا حَلٌّ بَلْ تُغَلْغِلُ الْمَاءَ فِي أُصُولِهِ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إِلَى مَنَابِتِهِ وَتَفِيضُ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مُسْتَرْسِلِهِ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ ؟ " ، فَقَالَ : " لَا إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ ، ثُمَّ تُفِيضِي عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِي " . أَوْ قَالَ : " فَإِذَا أَنْتِ قَدْ طَهُرْتِ فَإِذَا اسْتَظْهَرَتْ لِنَفْسِهَا فِي حَلِّهِ كَانَ أَوْلَى وَأَحَقَّ ، قَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ بِنَقْضِ شُعُورِهِنَّ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ : " هَلَّا أَمَرَهُنَّ بِحَلْقِهِ " فَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ وُجُوبَ حَلِّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ أَمَرَ بِذَلِكَ احْتِيَاطًا لَا وَاجِبًا وَهَكَذَا الرَّجُلُ إِذَا كَانَ ذَا جُمَّةٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ إِيصَالِ الْمَاءِ فِي الْجَنَابَةِ إِلَى جَمِيعِ الشَّعَرِ فَتَرَكَ الْجُنُبُ شَعَرَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ حكمها في غسل الجنابة لَمِ يُجْزِهِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْزِئُهُ غَسْلُهُ وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَحْتَ كُلِ شَعْرَةٍ جَنَابَةٍ " وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ زَاذَانَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعَرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ . قَالَ عَلِيٌّ فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي وَكَانَ يَجُزُّ شَعْرَهُ فَلَوْ نَتَفَ الشَّعْرَ الَّتِي لَمْ يَغْسِلْهَا

فَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى أَصْلِهَا أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى أَصْلِهَا لَزِمَهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَلَ الْمَاءَ إِلَى أُصُولِ شَعَرِهِ دُونَ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْهُ ثُمَّ جَزَّهُ أَوْ حَلَقَهُ حكمه في غسل الجنابة أَجْزَأَهُ وَلَوْ صَلَّى قَبْلَ جَزِّهِ أَوْ حَلْقِهِ الشعر المسترسل للجنب وحكمه في غسل الجنابة أَعَادَ لِبَقَاءِ الْجَنَابَةِ فِي الْمُسْتَرْسِلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ غُسْلُهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالنُّفَاسِ وَلَمَّا أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ قَالَ : " خُذِي فِرْصَةً - وَالْفِرْصَةُ الْقِطْعَةُ مِنْ مِسْكٍ - فَتَطَهَّرِي بِهَا " فَقَالَتْ عَائِشَةُ تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَطِيبًا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَالْمَاءُ كَافٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : غُسْلُ الْمَرْأَةِ مِنْ حَيْضِهَا وَنُفَاسِهَا صفته كَغُسْلِهَا مِنْ جَنَابَتِهَا فِيمَا تُؤْمَرُ بِهِ مِنْ فَرْضٍ وَسُنَّةٍ وَتُؤْمَرُ زِيَادَةً عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ بِاسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنَ الْمِسْكِ فِي فَرْجِهَا لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ عَنِ الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ فَقَالَ : " خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا ، فَقَالَتْ : كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا ، فَقَالَ : تَطَهَّرِي بِهَا ، فَقَالَتْ : كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " سُبْحَانَ اللَّهِ وَاسْتَتَرَ بِثَوْبِهِ تَطَهَّرِي بِهَا ، قَالَتْ فَاجْتَذَبْتُهَا وَعَرَفْتُ الَّذِي أَرَادَ فَقُلْتُ لَهَا تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ " يَعْنِي الْفَرْجَ . وَالْفِرْصَةُ قَالَ أَبُو عَمْرٍو : وَهِيَ مِنَ الْمِسْكِ الْمَعْجُونِ بِالْمِسْكِ يَكُونُ عِنْدَ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا مِسْكٌ سُمِّيَتْ فِرْصَةً بِالْفَاءِ مَكْسُورَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِسْكٌ سُمِّيَتْ سَكْتَكَةَ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَإِنَّمَا هِيَ قُرْضَةٌ مِنْ مِسْكٍ بِالْقَافِ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ الضَّادِ أَيْ قِطْعَةٌ مِنْ جِلْدٍ لِتَتَّقِيَ آثَارَ الدَّمِ ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمِسْكِ الَّذِي هُوَ الطِّيبُ فَإِنْ كَانَ رِوَايَةُ أَبِي عُبَيْدٍ مَحْفُوظَةً لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَيَكُونُ الْجِلْدُ لِتَتَبُّعِ الدَّمِ وَإِنْقَاءِ آثَارِهِ ، وَأَمَّا الْمِسْكُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَقْصُودِ بِاسْتِعْمَالِهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ : الْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ تَزُولَ رَائِحَةُ الدَّمِ فَيَكُونُ اسْتِمْتَاعُ الزَّوْجِ بِإِثَارَةِ الشَّهْوَةِ وَكَمَالِ اللَّذَّةِ ، وَقَالَ آخَرُونَ لِأَنَّهُ يُسْرِعُ إِلَى عُلُوقِ الْوَلَدِ فَإِنْ أَعْوَزَهَا الْمِسْكُ فَمَنْ قَالَ الْمَقْصُودُ بِهِ كَمَالُ الِاسْتِمْتَاعِ بِطِيبِ الرَّائِحَةِ ، قَالَ : تَسْتَعْمِلُ عِنْدَ إِعْوَازِهِ مَا كَانَ خَلَفًا مِنْهُ فِي طِيبِ الرَّائِحَةِ ، وَمَنْ قَالَ الْمَقْصُودُ بِهِ إِسْرَاعُ الْعُلُوقِ قَالَ تَسْتَعْمِلُ عِنْدَ إِعْوَازِهِ مَا قَامَ مَقَامَهُ فِي إِسْرَاعِ الْعُلُوقِ مِنَ الْقِسْطِ وَالْأَظْفَارِ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ اسْتِعْمَالِهِ ، هَلْ هُوَ قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْ بَعْدَهُ ؟ فَمَنْ قَالَ : الْمَقْصُودُ بِهِ كَمَالُ الِاسْتِمْتَاعِ نَدَبَ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ الْغُسْلِ وَمَنْ قَالَ الْمَقْصُودُ بِهِ إِسْرَاعُ الْعُلُوقِ أَمَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ قَبْلَ الْغُسْلِ ، فَإِنْ

تَرَكَتِ اسْتِعْمَالَ الْمِسْكِ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فَالْمَاءُ كَافٍ ، لِأَنَّ رَفْعَ الْحَدَثِ مَقْصُودٌ عَلَى الْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَا بَدَأَ بِهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْغُسْلِ أَجْزَأَهُمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَيْسَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ حكم الترتيب فيه تَرْتِيبٌ مُسْتَحَقٌّ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الِاخْتِيَارِ مَنْدُوبٌ فِيهِ إِلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَكَيْفَ مَا اغْتَسَلَ حَتَّى وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى جَمِيعِ الشَّعَرِ وَالْبَشَرَةِ أَجْزَأَهُ وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ مِنْ وُجُوبِ الْبِدَايَةِ بِأَعْلَى الْجَسَدِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ " .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ أَدْخَلَ الْجُنُبُ أَوِ الْحَائِضُ أَيْدِيهِمَا فِي الِإِنَاءِ وَلَا نَجَاسَةَ فِيهِمَا لَمْ يَضُرُّهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : بَدَنُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ طاهر أم نجس طَاهِرٌ فَإِنْ أَدْخَلَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ وَشَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ فِي الْمَاءِ قَبْلَ الْغُسْلِ لَمْ يَضُرَّهُ ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ نُجِّسَ ، وَكَذَا لَوْ أَدْخَلَهَا فِي مَاءٍ ثَانٍ ، وَإِنْ أَدْخَلَهَا فِي ثَالِثٍ لَمْ يُنَجَّسْ ، وَلَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ لَمْ يُنَجِّسِ الْمَاءَ وَفَرَّقَ بَيْنَ يَدِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ جَسَدِهِ بِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى إِدْخَالِ يَدِهِ فِي الْمَاءِ لِاسْتِعْمَالِهِ وَغَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى إِدْخَالِ مَا سِوَاهَا مِنْ جَسَدِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا فِي الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَ إِلَيَّ رَأْسَهُ فَغَسَلْتُهُ وَأَنَا حَائِضٌ " . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ : قَالَتْ مَيْمُونَةُ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِرْطٍ كَانَ بَعْضُهُ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُ عَلَيَّ وَأَنَا حَائِضٌ " . وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ يَعْنِي : الْبِسَاطَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنِّي حَائِضٌ فَقَالَ هَاتِيهِ فَلَيْسَتِ الْحَيْضَةُ فِي يَدِكِ ، وَلَا الْمُؤْمِنُ يَنْجُسُ " . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَمَدَّ يَدَهُ لِيُصَافِحَنِي فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جُنُبٌ فَقَالَ : الْمُؤْمِنُ لَا يَجْنُبُ يَعْنِي : أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ : وَلِأَنَّ غَسْلَ الْبَدَنِ قَدْ يَجِبُ مِنَ الْحَدَثِ كَوُجُوبِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ لَوْ أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ مُحْدِثًا

لَمْ يَنْجُسْ فَكَذَا الْمَاءُ أَدْخَلَهُ جُنُبًا لَمْ يَنْجُسْ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا غَاصَ فِي الْمَاءِ نَاوِيًا وَالْمَاءُ كَثِيرٌ هل يطَهُر مِنْ جَنَابَتِهِ ؟ طَهُرَ مِنْ جَنَابَتِهِ ، وَمِنْ نَجَاسَتِهِ إِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَالْمَاءُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِلنَّجَاسَةِ فِيهِ أَثَرٌ ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وغاص فيه ناويا التطهر طَهُرَ مِنْ جَنَابَتِهِ وَصَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا ، فَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَطْهُرْ مِنْ جَنَابَتِهِ وَلَا مِنْ نَجَاسَتِهِ لِأَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ وَصَارَ نَجِسًا ، فَلَوِ اغْتَسَلَ هَذَا الْجُنُبُ بَعْدَ نَجَاسَةِ بَدَنِهِ غُسْلًا وَاحِدًا طَهُرَ مِنْ نَجَاسَتِهِ وَهَلْ يَطْهُرُ مِنْ جَنَابَتِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ مِنَ الْجَنَابَةِ حَتَّى يَغْتَسِلَ غُسْلًا ثَانِيًا ، لِأَنَّ مَاءَ الْغُسْلِ الْأَوَّلِ صَارَ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ مُسْتَعْمَلًا فِيهَا ، وَمَا اسْتُعْمِلَ فِي النَّجَاسَةِ لَمْ يَرْتَفِعْ بِهِ حَدَثُ الْجَنَابَةِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ مِنْ جَنَابَتِهِ بِالْغُسْلِ الْأَوَّلِ كَمَا طَهُرَ مِنْ نَجَاسَتِهِ لِمُلَاقَاةِ الْمَاءِ لَهُمَا فِي حَالِهِ وَلَيْسَ ارْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ دَافِعًا لَهُمَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ فَضْلِ الْجُنُبِ وَغَيْرِهِ

بَابُ فَضْلِ الْجُنُبِ وَغَيْرِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّأَ النَّاسُ مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ . عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُوُنَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ جَمِيعًا وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ تَعْنِي مِنَ الْجَنَابَةِ ، وَأَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حَائِضٌ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَغْتَسِلَ بِفَضْلِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اغْتَسَلَ وَعَائِشَةُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ فَقَدِ اغْتَسَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَفَضْلِ صَاحِبِهِ قَالَ وَلَيْسَتِ الْحَيْضَةُ فِي الْيَدِ وَلَا الْمُؤْمِنُ بِنَجِسٍ إِنَّمَا تَعَبُّدٌ أَنْ يَمَاسَّ الْمَاءَ فِي بَعْضِ حَالَاتِهِ وَكَذَلِكَ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَوَضَّأَ بِفَضْلِ صَاحِبِهِ . [ فَصْلٌ ] قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ فَضْلَ الطَّهُورِ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ فَضُلَ عَنِ الْأَعْضَاءِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ فِيهَا حكم فضل الطهور فَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَضَرْبٌ فَضُلَ فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ حكم فضل الطهور فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِكَ الْجَمَاعَةُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ ، وَاشْتِرَاكُ الْجَمَاعَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا جِنْسًا وَاحِدًا كَاشْتِرَاكِ الرِّجَالِ أَوْ كَاشْتِرَاكِ النِّسَاءِ ، فَهَذَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ ، وَلِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ يَدَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا فَرَأَيْتُ الْمَاءَ نَبَعَ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّئُوا

مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ " . فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِعْجَازِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاكِ الْجَمَاعَةِ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْمَاءِ الْوَاحِدِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمِثْلُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الظَّاهِرَةِ كَيْفَ جَاءَ بِهَا خَبَرٌ وَاحِدٌ وَلَمْ تُنْقَلْ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ مُعْجِزَةِ

مُوسَى فِي خُرُوجِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ : لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنَ الْحَجَرِ مُعْتَادٌ ، وَمِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ غَيْرُ مُعْتَادٍ : قِيلَ : هَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْهُ غَيْرُ أَنَسٍ فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى التَّوَاتُرِ ، لِأَنَّ أَنَسًا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى غَزَاةٍ كَانَتِ الصَّحَابَةُ فِيهَا وَرَوَاهُ وَعَصْرُ الصَّحَابَةِ بَاقٍ وَأَكْثَرُهُمْ حَيٌّ فَنَقَلُوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ اعْتِرَافًا بِصِحَّتِهِ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى نَقْلِهِ ، وَلَوْلَا ذَاكَ لَرَدُّوهُ عَلَى أَنَسٍ وَأَنْكَرُوهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِكَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ إِمَّا مِنْ حَدَثٍ وَإِمَّا مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ مِنْ حَدَثٍ وَحَيْضٍ وَجَنَابَةٍ ، فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَيْضًا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمَنَعَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيُّ قَالَ : لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ سِنِينَ كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ ، أَوْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ " . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُونَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ جَمِيعًا " وَرَوَتْ مُعَاذَةُ الْعَدَوِيَّةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ : أَبْقِ لِي أَبْقِ لِي " . وَرَوَى أَبُو الشَّعْثَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ . وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ خَرَّبُوذَ عَنْ أُمِّ صُبَيَّةَ الْجُهَنِيَّةِ قَالَتْ : " اخْتَلَفَتْ يَدِي وَيَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ " وَلِأَنَّ مَا فَضُلَ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ فَقَدْ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ كَالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا فَعَنْهُ جَوَابَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَضْلِ الْمُسْتَعْمَلِ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " كُلُّ ذَلِكَ دَلَالَةٌ أَنَّهُ لَا تَوْقِيتَ فِيمَا يَتَطَهَّرُ بِهِ الْمُغْتَسِلُ وَالْمُتَوَضِّئُ إِلَّا عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَقَدْ يُخْرَقُ بِالْكَثِيرِ فَلَا يَكْفِي وَيُرْفَقُ بِالْقَلِيلِ فَيَكْفِي ( قَالَ ) وَأُحِبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِالْمُدِّ وَاغْتَسَلَ بِالصَّاعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَا حَدَّ لِلْمَاءِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ الْمُحْدِثُ وَيَغْتَسِلُ بِهِ الْجُنُبُ ، لِأَنَّ اشْتِرَاكَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَاءِ الْوَاحِدِ يَمْنَعُ مِنْ تَحْدِيدِ مَا يَسْتَعْمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ الْمَاءُ لِمُغْتَسِلٍ فِي غُسْلِهِ مِنَ الصَّاعِ ، وَالْمُتَوَضِّئُ فِي وُضُوئِهِ مِنَ الْمُدِّ ، لِرِوَايَةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَسَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ بَالصَّاعِ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ هُوَ صَاعُ الزَّكَاةِ وَمُدُّهَا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ صَاعُ الزَّكَاةِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ ، وَقَالَ آخَرُونَ : صَاعُ الْمَاءِ ، غَيْرُ الزَّكَاةِ قَدْرُ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ وَالْمُدُّ مِنْهُ رِطْلَانِ رَوَاهُ أَنَسٌ ، فَإِنْ نَقَصَ الْمُغْتَسِلُ مِنَ الصَّاعِ وَعَمَّ جَمِيعَ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ ، وَنَقَصَ الْمُتَوَضِّئُ مِنَ الْمُدِّ وَأَسْبَغَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ ، كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَأَجْزَأَهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُمْكِنُ الْمُغْتَسِلَ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ بِدُونِ الصَّاعِ ، وَلَا الْمُتَوَضِّئَ أَنْ يُسْبِغَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ بِأَقَلَّ مِنْ مُدٍّ ، وَهَذَا دَفْعُ الْعَيَانِ وَإِنْكَارُ السُّنَّةِ رَوَى عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : " تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثُلُثَيْ مُدٍّ وَجَعَلَ يُدَلِّكُ ذِرَاعَيْهِ : وَلِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ عَيَانًا إِسْبَاغُ الْبَدَنِ بِدُونِ الصَّاعِ لِمَنْ رَفِقَ وَلَا يُمْكِنُ بِالصَّاعِ لِمَنْ خَرِقَ لِاخْتِلَافِ الْخَلْقِ وَالْعَادَاتِ وَظُهُورِ ذَلِكَ فِي الْمُشَاهَدَاتِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ - .

بَابُ التَّيَمُّمِ

الْأَصْلُ فِي التَّيَمُّمِ وَبَيَانِ حُكْمِهِ

بَابُ التَّيَمُّمِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [ النِّسَاءِ : ] . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَيَمَّمَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ ( قَالَ ) وَمَعْقُولٌ إِذَا كَانَ بَدَلًا مِنَ الْوُضُوءِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ أَنْ يُؤْتَى بِالتَّيَمُّمِ عَلَى مَا يُؤْتَى بِالْوُضُوءِ عَلَيْهِ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَالْأَصْلُ فِي التَّيَمُّمِ وَبَيَانِ حُكْمِهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَقَطَتْ قِلَادَتُهَا لَيْلَةَ الْأَبْوَاءِ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَلَبِهَا فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ وَلَمْ يَدْرِيَا كَيْفَ يَصْنَعَانِ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ : فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُصَيْنٍ : جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا فَمَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ مِنْهُ مَخْرَجًا وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا : فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ فَرْضِ التَّيَمُّمِ ، فَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ ، فَقَالَ : فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ . وَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَصْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [ الْبَقَرَةِ : ، ] أَيْ : وَلَا تَقْصِدُوا ، وَقَالَ الشَّاعِرُ : تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مَهْمَةٍ ذِي شَزَنِ وَقَالَ آخَرُ : وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي أَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي

فَصَارَ مَعْنَى قَوْلِهِ : فَتَيَمَّمُوا أَيِ اقْصُدُوا ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ فَأَتُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ، فَأَمَّا الصَّعِيدُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا تَصَاعَدَ مِنَ الْأَرْضِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ اسْمٌ لِلتُّرَابِ وَحْدَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ طَيِّبًا فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَعْنِي حَلَالًا ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ . وَالثَّانِي : يَعْنِي طَاهِرًا ، وَهُوَ أَشْبَهُ ، ثُمَّ قَالَ : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ فَاقْتَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّيَمُّمِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ ، دُونَ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ ، لِأَنَّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ بِالتُّرَابِ مُضَاهَاةً لِأَرْبَابِ الْمَصَائِبِ وَالرِّجْلَانِ لَا يَخْلُو التُّرَابُ مِنْهُمَا فِي السَّفَرِ غَالِبًا .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ أَعْضَاءَ التَّيَمُّمِ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِوَجْهِهِ فَيَسْتَوْعِبَ مَسْحَ جَمِيعِهِ ، فَإِنْ تَرَكَ مَوْضِعًا مِنْهُ كَانَ يَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ لِيَمْسَحَهُ بِالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ قَلَّ .

فَصْلٌ : ثُمَّ يَمْسَحُ يَدَيْهِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْحِ الْيَدَيْنِ في التيمم وصفته عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : مَا حُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنْ يَمْسَحَهُمَا إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ . وَالثَّانِي : مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَمَنْصُوصَاتُ الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَمْسَحُ الذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ . وَالثَّالِثُ : مَا قَالَهُ مَالِكٌ : أَنَّهُ يَمْسَحُ الْكَفَّيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عِكْرِمَةُ ، وَمَكْحُولٌ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ، وَرَوَاهُ أَبُو ثَوْرٍ ، عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَحَكَى الزَّعْفَرَانِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ فِي الْقَدِيمِ كَانَ يَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ عَمَّارٍ وَمَنْصُوصُهُ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ خِلَافُ هَذَا وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ

الْوَاجِبَ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [ الْمَائِدَةِ : ] وَمُطْلَقُ اسْمِ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ الْكَفَّ ، بِدَلِيلِ الِاقْتِصَارِ فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ عَلَيْهَا ، وَبِرِوَايَةِ الْحَكَمِ ، عَنْ ذَرٍّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ فِي الْإِبِلِ فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فَتَمَعَّكْتُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ فَتَمْسَحَ بِهَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ " وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِهِمَا إِلَى الْمِرْفَقِ صفة مسح اليدين في التيمم قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ الْمَنْكِبَ فَدَخَلَ الذِّرَاعُ فِي عُمُومِ الِاسْمِ ، ثُمَّ اقْتَصَرَ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى تَقْيِيدِهِ فِي الْوُضُوءِ [ بِهِ ] ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ ، عَنْ أَبِي الْأَعْرَجِ ، عَنِ ابْنِ الصِّمَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَيَمَّمَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ . وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الْعَبْدِيُّ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْحَائِطِ وَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ ، ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَمَسَحَ ذِرَاعَيْهِ . وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَسْلَعَ قَالَ : كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةِ الْمُرَيْسِيعِ فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قُمْ فَارْحَلْ

بِي " فَقُلْتُ : " إِنِّي جُنُبٌ فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِآيَةِ التَيَمُّمِ فَأَرَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ أَتَيَمَّمُ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَضَرَبَ أُخْرَى فَمَسَحَ ذِرَاعَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ فِي التَّيَمُّمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْحُهُ كَغَسْلِهِ قِيَاسًا عَلَى الْوَجْهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَقَدْ رَوَى عَمَّارٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ وَطَرِيقُهُ مُضْطَرِبٌ وَالِاخْتِلَافُ فِي نَقْلِهِ كَثِيرٌ فَلَمْ

يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِمَا رَوَيْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ مِنَ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ مَعَ زِيَادَتِهَا ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : " وَالتَّيَمُّمُ صفته أَنْ يَضْرِبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ تفسيره وَهُوَ التُّرَابُ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ سَبْخِهَا وَمَدَرِهَا وَبَطْحَائِهَا وَغَيْرِهِ مِمَّا يَعْلَقُ بِالْيَدِ مِنْهُ غُبَارٌ مَا لَمْ تُخَالِطْهُ نَجَاسَةٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، التَّيَمُّمُ مُخْتَصٌّ بِالتُّرَابِ ذِي الْغُبَارِ ، وَلَا يَجُوزُ بِمَا سِوَاهُ مِنْ نُورَةٍ أَوْ كُحْلٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا يَصْعَدُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ زِرْنِيخٍ أَوْ نُورَةٍ أَوْ كُحْلٍ إِذَا لَمْ تَدْخُلْهُ صَنْعَةُ آدَمِيٍّ مِثْلِ مَسْحُوقِ الْآجُرِّ وَغَيْرِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا كَالْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا وَالصَّعِيدُ هُوَ مَا تَصَاعَدَ مِنَ الْأَرْضِ ، وَبِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَطَهُورًا " فَلَمَّا كَانَ غَيْرُ التُّرَابِ مِنَ الْأَرْضِ مُسَاوِيًا لِلتُّرَابِ فِي كَوْنِهِ مَسْجِدًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ غَيْرُ التُّرَابِ مُسَاوِيًا لِلتُّرَابِ ، فِي كَوْنِهِ طَهُورًا ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ مِنَ الْأَرْضِ فَجَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ قِيَاسًا عَلَى التُّرَابِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ إِذَا وَقَعَتْ بِالْجَامِدِ مَسْحًا لَمْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ الْجِنْسِ نَوْعًا كَالِاسْتِنْجَاءِ وَالدِّبَاغِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [ الْمَائِدَةِ : ] . وَالصَّعِيدُ : اسْمٌ لِلتُّرَابِ فِي اللُّغَةِ ، وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُمْ ، وَهُوَ قُدْوَةٌ فِيهِمْ ، وَقَدْ سُئِلَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ الصَّعِيدِ فَقَالَا : هُوَ التُّرَابُ الَّذِي يُغَبِّرُ يَدَيْكَ ، وَيَشْهَدُ لِمَا فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [ الْكَهْفِ : ] يَعْنِي أَرْضًا لَا نَبَاتَ عَلَيْهَا وَلَا زَرْعَ ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِكُلِّ مَا يَصْعَدُ مِنَ الْأَرْضِ فَإِنْ قِيلَ : فَالصَّعِيدُ مُشْتَقٌّ مِمَّا تَصَعَّدَ مِنَ الْأَرْضِ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى اشْتِقَاقِهِ أَوْلَى .

قِيلَ : وَإِنْ كَانَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ هَذَا فَإِطْلَاقُهُ يَتَنَاوَلُ التُّرَابَ لِأَنَّ الْكُحْلَ وَالزِّرْنِيخَ لَا يُسَمَّى صَعِيدًا ، وَإِذَا كَانَ لِلِاسْمِ إِطْلَاقٌ وَاشْتِقَاقٌ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى اشْتِقَاقِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً ، حَنِثَ بِرُكُوبِ الْخَيْلِ ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِرُكُوبِ النَّعَمِ ، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الدَّابَّةِ مُشْتَقًّا مِمَّا يَدِبُّ . ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ : " سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُعْطِيتُ مَا لَا يُعْطَى نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ ، وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ ، وَجُعِلَ لِيَ التُّرَابُ طَهُورًا ، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ " فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرُ التُّرَابِ طَهُورًا لَهُ لَذَكَرَهُ فِيمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَرَوَى ابْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُصِيبُ أَهْلِي وَإِنْ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى الْمَاءِ ، قَالَ : " أَصِبْ أَهْلَكَ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْمَاءِ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِنَّ التُّرَابَ كَافِيكَ " فَلَمَّا جَعَلَ اكْتِفَاءَ أَبِي ذَرٍّ فِي التَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِغَيْرِ التُّرَابِ ، وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ التَّخْيِيرُ فِيمَا يَتَطَهَّرُ بِهِ كَالْوُضُوءِ ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ : لِأَنَّهَا إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ فَلَمْ يَتَخَيَّرْ فِيهَا بَيْنَ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْوُضُوءِ ، وَلِأَنَّهُ جَوْهَرٌ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يُجْزِ التَّيَمُّمُ بِهِ كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ جَامِدًا وَمَائِعًا ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهَا فِي الْمَائِعِ تَخْتَصُّ بِأَعَمِّ الْمَائِعَاتِ وُجُودًا وَهُوَ الْمَاءُ ، فَكَذَلِكَ فِي الْجَامِدِ يَجِبُ أَنْ تَخْتَصَّ بِأَعَمِّ الْجَامِدَاتِ وُجُودًا وَهُوَ التُّرَابُ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا نَقَلَنَا مِنَ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَتَعَذُّرِهِ إِلَى مَا هُوَ أَيْسَرُ وُجُودًا وَأَهْوَنُ فَقْدًا ، وَالْكُحْلُ وَالزِّرْنِيخُ أَعَزُّ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ وُجُودًا مِنَ الْمَاءِ ، فَلَمْ يُجِزْ أَنْ نَنْتَقِلَ عَنِ الْأَهْوَنِ إِلَى

الْأَعَزِّ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ إِلَيْهَا ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَقَوْلُهُ : " وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَطَهُورًا " فَالْأَرْضُ اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الطِّينِ دُونَ الزِّرْنِيخِ وَالْكُحْلِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الِاسْمِ عُمُومٌ ، وَلَا فِي الظَّاهِرِ دَلِيلٌ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التُّرَابِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي التُّرَابِ أَنَّهُ أَعَمُّ الْجَامِدَاتِ وُجُودًا كَمَا أَنَّ الْمَاءَ أَعَمُّ الْمَائِعَاتِ وُجُودًا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ وَالدِّبَاغِ فَلَا يَصِحُّ ، الِاسْتِنْجَاءُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا لِوَاجِبٍ ، وَعِنْدَنَا إِنَّهُ وَاجِبٌ وَلَيْسَتِ الْأَحْجَارُ مُزِيلَةً لِنَجَاسَتِهِ فَاسْتَوَى فِي تَحْقِيقِهَا سَائِرُ الْجَامِدَاتِ ، وَأَمَّا الدِّبَاغُ فَلَيْسَتْ عِبَادَةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا لِعِبَادَةٍ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الدِّبَاغِ تَنْشِيفُ الْفُضُولِ وَتَطْيِيبُ الرَّائِحَةِ فَاسْتَوَى حُكْمُ مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِيهَا ، وَالتَّيَمُّمُ طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَأُلْحِقَتْ بِجِنْسِهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّيَمُّمَ مُخْتَصٌّ بِالتُّرَابِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمَذْرُورَاتِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ سَبْخِهَا وَمَدَرِهَا وَبَطْحَائِهَا ، فَالسَّبَخَةُ : هِيَ الْأَرْضُ الْمَالِحَةُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ ، وَالْمَدَرُ : هِيَ الْأَرْضُ ذَاتُ التِّلَالِ وَالْجِبَالِ ، وَالْبَطْحَاءُ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الْأَرْضُ الْقَاعُ الْفَسِيحَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ فِي التُّرَابِ بَيْنَ عَذْبِهِ وَمَالِحِهِ وحكم التيمم بهما ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِالتُّرَابِ الْعَذْبِ تُرَابِ الْحَرْثِ ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا وَالطَّيِّبُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّعْمِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَيَمَّمَ مِنْ أَرْضِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ أَرْضٌ سَبَخَةٌ وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أُرِيتُ أَرْضًا سَبْخَةً " يَعْنِي الْمَدِينَةَ ، وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ أَغْلَظُ حُكْمًا فِيهَا بِالتُّرَابِ فَلَمَّا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِي الْمَاءِ بَيْنَ عَذْبِهِ وَمَالِحِهِ وَجَبَ أَلَّا يَقَعَ الْفَرْقُ فِي التُّرَابِ بَيْنَ عَذْبِهِ وَمَالِحِهِ ، فَأَمَّا تَأْوِيلُهُ لِلْآيَةِ فَقَدْ ذَهَبَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِلَى خِلَافِهِ ، وَأَنْ بَعْضَهُمْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ : " طَيِّبًا " أَيْ حَلَالًا ، وَبَعْضُهُمْ تَأَوَّلَهُ : طَاهِرًا وَهُوَ الْأَشْبَهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي التُّرَابِ بَيْنَ عَذْبِهِ وَمَالِحِهِ ، فَكَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَبْيَضِهِ وَأَحْمَرِهِ وَسَائِرِ أَلْوَانِهِ التراب في التيمم كَالْمَاءِ لَا يَكُونُ اخْتِلَافُ أَلْوَانِهِ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ مُغَيِّرًا لِحُكْمِ اسْتِعْمَالِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالطِّينِ الْمَأْكُولِ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّ وَالْبَحْرِيِّ حكمه ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَإِنِ

اخْتَلَفَ طَعْمُهُ ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالطِّينِ الْمَخْتُومِ وَبِالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ حكمه ، وَلَا يَكُونُ تَغَيُّرُ لَوْنِهِ بِمَا يَقَعُ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْدِنًا فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ كَالْكُحْلِ فَأَمَّا الْحَمْأَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ الرَّائِحَةِ إِذَا جَفَّتْ وَسُحِقَتْ حكم التيمم جَازَ التَّيَمُّمُ بِهَا : لِأَنَّهَا طِينٌ خُلِقَتْ فَصَارَ كَالْمَاءِ إِذَا خُلِقَ مُنْتِنًا ، فَأَمَّا الطِّينُ الرَّطْبُ حكم التيمم فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ لِعَدَمِ غُبَارِهِ ، وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا فِي أَنَّ اسْتِعْمَالَ التُّرَابِ فِي الْأَعْضَاءِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الرَّمْلُ صفته وحكم التيمم به فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهِ وَنَصَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا الرَّمْلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : ضَرْبٌ مِنْهُ يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ يَعْلِقُ بِالْيَدِ ، فَالتَّيَمُّمُ بِهِ جَائِزٌ ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَطَبَقَاتِ الْأَرْضِ ، وَضَرْبٌ مِنْهُ لَا غُبَارَ لَهُ ، فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ ؟ لِعَدَمِ غُبَارِهِ الَّذِي يَقَعُ التَّيَمُّمُ بِهِ ، لَا لِخُرُوجِهِ مِنْ جِنْسِ التُّرَابِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْجِصُّ فَإِنْ كَانَ مُحَرَّقًا حكم التيمم به لَمْ يُجْزِ التَّيَمُّمُ بِهِ : لِأَنَّ النَّارَ قَدْ غَيَّرَتْهُ ، وَكَذَا مَسْحُوقُ الْآجُرِّ وَالْخَزَفِ حكم التيمم به ، وَإِنْ كَانَ الْجِصُّ غَيْرَ مُحَرَّقٍ حكم التيمم به جَازَ التَّيَمُّمُ ، وَكَذَلِكَ الْإِسْفِيدَاجُ إِذَا كَانَ لَهُ غُبَارٌ حكم التيمم به ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْدِنًا فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالرُّخَامِ وَالْبِرَامِ حكمه : لِأَنَّهُمَا مَعْدِنٌ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِمَسْحُوقِ الْحِجَارَةِ حكمه ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ أَيْضًا بِالْمَسْلَحِ : لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِلْحًا جَمُدَ فَلَيْسَ بِتُرَابٍ ، وَإِنْ كَانَ مِلْحَ مَعْدِنٍ فَهُوَ كَالْكُحْلِ . فَأَمَّا التُّرَابُ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ مَائِعَةٌ ، أَوْ جَامِدَةٌ حكم التيمم به نُجِّسَ بِهَا ، وَلَمْ يُجْزِ التَّيَمُّمُ بِهِ سَوَاءٌ تَغَيَّرَ ، أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ ، بِخِلَافِ الْمَاءِ : لِأَنَّ الْمَاءَ يُزِيلُ نَجَاسَةَ غَيْرِهِ فَجَازَ إِذَا كَثُرَ أَنْ يَرْفَعَ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَمَّا التُّرَابُ فَلَا يُزِيلُ نَجَاسَةَ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَدْفَعِ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا التُّرَابُ إِذَا خَالَطَهُ طِيبٌ ، أَوْ زَعْفَرَانُ وتغير بذلك فما حكم التيمم به ، وكذا إن لم يتغير فَإِنْ تَغَيَّرَ بِمَا خَالَطَهُ مِنَ الطِّيبِ لَمْ يُجْزِ التَّيَمُّمُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا أُخْلِطَ بِهِ فِي الطِّيبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَائِعًا كَمَاءِ الْوَرْدِ أَوْ مَذْرُورًا كَالزَّعْفَرَانِ ، فَإِنْ كَانَ مَائِعًا جَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ : لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ وَجَفَّ صَارَ مُسْتَهْلَكًا ، وَكَذَا سَائِرُ الْمَائِعَاتِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ إِذَا خَالَطَتِ التُّرَابَ ، وَإِذَا كَانَ مَذْرُورًا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِذَلِكَ التُّرَابِ وَجْهَانِ : وَكَذَا مَا خَالَطَهُ مِنْ سَائِرِ الْمَذْرُورَاتِ الطَّاهِرَاتِ إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهَا كَالدَّقِيقِ وَالرَّمَادِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِذَلِكَ التُّرَابِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ مُخَالَطَةُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ وَيُؤَثِّرْ فِيهِ كَالْمَاءِ ، وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ بِخِلَافِ الْمَاءِ : لِأَنَّ الْمَاءَ مَائِعٌ فَلَمْ يَمْنَعْ مُخَالَطَةُ

الْمَذْرُورِ بِهِ مِنْ وُصُولِ بَلَلِهِ إِلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ ، وَالتُّرَابُ جَامِدٌ وَرُبَّمَا سَبَقَ حُصُولُ الْمَذْرُورِ عَلَى الْعُضْوِ فَمَنَعَ مِنْ وُصُولِ التُّرَابِ إِلَيْهِ وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا التُّرَابُ الْمُسْتَعْمَلُ صفته وحكم التيمم به فَهُوَ أَنْ يَنْقُلَ مِنْ وَجْهِهِ مَا تَيَمَّمَ بِهِ مِنَ التُّرَابِ فَيَسْتَعْمِلَهُ فِي ذِرَاعَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ ، كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ، قَالَ : بَلْ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ إِنَّ اسْتِعْمَالَهُ جَائِزٌ بِخِلَافِ الْمَاءِ : لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَصَارَ مُسْتَعْمَلًا بِرَفْعِهِ ، وَالتَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَمْ يَصِرِ التُّرَابُ مُسْتَعْمَلًا بِهِ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ الْجَمَاعَةُ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ كَمَا يَتَوَضَّئُونَ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْقُلَ مَا حَصَلَ عَلَى قَدَمِهِ وَيَدَيْهِ مِنْ غُبَارِ التُّرَابِ فَيَتَيَمَّمُ بِهِ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي عِبَادَةٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا اسْتَقْبَلَ الْمُتَيَمِّمُ الرِّيحَ حَتَّى سَفَّتِ التُّرَابَ عَلَى وَجْهِهِ فَتَيَمَّمَ بِهِ هل يجزئه ؟ ، الشَّافِعِيُّ لَمْ يُجِزْهُ ، وَقَالَ : فِي الْجُنُبِ إِذَا وَقَفَ تَحْتَ مِيزَابٍ حَتَّى عَمَّ الْمَاءُ جَمِيعَ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ هل يجزئه إِذَا أَحْضَرَ النِّيَّةَ ، وَمَاذَا لَوْ تَأَخَّرَتِ النِّيَّةُ أَجْزَأَهُ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ نَصِّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِذَا لَمْ يَمُرَّ يَدَهُ عَلَى الْعُضْوِ فَيُجْزِئُهُ فِي الْغُسْلِ وَلَا يُجْزِئُهُ فِي التَّيَمُّمِ : لِأَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي بِطَبْعِهِ فَيَصِلُ إِلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التُّرَابُ ، وَلِأَنَّهُ مَذْرُورٌ لَا يَصِلُ إِلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ إِلَّا بِالْإِمْرَارِ ، وَلَوْ كَانَ أَمَرَّهُ لَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ كَمَا يُجْزِئُهُ الْغُسْلُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ آخَرِينَ إِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَقَوْلُهُ فِي التَّيَمُّمِ : إِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ : يُرِيدُ بِهِ إِذَا حَصَلَ التُّرَابُ عَلَى وَجْهِهِ قَبْلَ تَقَدُّمِ النِّيَّةِ في الْمُتَيَمِّم يسْتَقْبَل الرِّيحَ فسَفَّتِ التُّرَابَ عَلَى وَجْهِهِ فَتَيَمَّمَ بِهِ ، وَإِنْ أَحْضَرَ النِّيَّةَ عِنْدَ حُصُولِ التُّرَابِ في الْمُتَيَمِّم يسْتَقْبَل الرِّيحَ فسَفَّتِ التُّرَابَ عَلَى وَجْهِهِ فَتَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ ، وَقَوْلُهُ فِي الْغُسْلِ : إِنَّهُ يُجْزِئُهُ ، وَيُرِيدُ بِهِ إِذَا أَحْضَرَ النِّيَّةَ عِنْدَ إِصَابَةِ الْمَاءِ لِجَسَدِهِ ، وَلَوْ تَأَخَّرَتِ النِّيَّةُ لَمْ يُجْزِهِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ التُّرَابَ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لِلتُّرَابِ فِي أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ ولم يعلق بيده غبار فما حكم التيمم ثُمَّ يَعْلَقُ بِيَدِهِ مِنْ غُبَارِهِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ غُبَارٌ لَمْ يُجْزِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ يُجْزِئُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهُ حَتَّى لَوْ أَمَرَّ يَدَهُ عَلَى طِينٍ يَابِسٍ ، أَوْ صَخْرَةٍ مَلْسَاءَ وَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ هل يجزئه ؟ أَجْزَأَهُ ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنِ ابْنِ الصِّمَّةِ قَالَ : مَرَرْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُولُ فَتَمَسَّحَ بِجِدَارٍ ثُمَّ تَيَمَّمَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ . قَالُوا : " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِدَارَ أَمْلَسُ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى عَنْ

عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ نَفَخَ وَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ " قَالُوا : وَبِالنَّفْخِ يَزُولُ مَا عَلَقَ بِالْيَدِ مِنْ تُرَابٍ أَوْ غُبَارٍ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ قَدْ بَاشَرَ بِيَدِهِ مَا يَتَيَمَّمَ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا عَلِقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهُ ، وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِهِ إِيصَالُ الطَّهُورِ إِلَى الْعُضْوِ ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [ الْمَائِدَةِ : ] فَأَوْجَبَ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصَّعِيدِ مَمْسُوحًا بِهِ فِي الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَقْ بِالْيَدِ شَيْءٌ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مَمْسُوحًا بِهِ فَلَمْ يَجُزْ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَجُعِلَ لِي التُّرَابُ طَهُورًا " وَمَا لَا يُلَاقِي مَحَلَّ الطَّهَارَةِ لَا يَكُونُ طَهُورًا ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا يَكُونُ طَهُورًا فِيهَا كَالْوُضُوءِ ، وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ أُبْدِلَ مِنْ غَسْلٍ فَوَجَبَ إِيصَالُ الْمَمْسُوحِ بِهِ إِلَى مَحَلِّهِ ، قِيَاسًا عَلَى مَسْحِ الْجَبَائِرِ وَالْخُفَّيْنِ فِي الطَّهَارَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى مَمْسُوحٍ بِهِ قِيَاسًا عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِالْجِدَارِ حكم التيمم به ، فَهُوَ أَنَّ الْجِدَارَ لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْغُبَارِ ، وَأَنَّ الْمَاسِحَ بِيَدِهِ لَا يَخْلُو مِنْ حُصُولِ ذَلِكَ فِيهَا ، وَذَلِكَ مُدْرَكٌ بِالْمُشَاهَدَةِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَخَ فِي يَدِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَفَخَ مَا يَعْلَقُ بِهَا مِنْ كَثِيرِ التُّرَابِ : لِأَنَّ النَّفْخَ لَا يُذْهِبُ جَمِيعَ مَا عَلِقَ بِهَا مِنَ الْغُبَارِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْفُخُ فِكْرَةَ حُصُولِ الْغُبَارِ عَلَى وَجْهِهِ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِالتَّيَمُّمِ التَّعْلِيمَ لِعَمَّارٍ : لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِنَفْسِهِ ، وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي فَعَلَهُ كِفَايَةٌ فِي التَّعْلِيمِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِ إِذَا عَلِقَ بِيَدِهِ غُبَارٌ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ جُعِلَ مُسْتَعْمَلًا لِمَا يَتَطَهَّرُ بِهِ فِي أَعْضَائِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَيُقْلَبُ عَلَيْهِمْ ، فَيُقَالُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ إِيصَالُ الطَّهُورِ إِلَى مَحَلِّ التَّطْهِيرِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ قَدْ أُقِيمَ مَقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فَلَمْ يَلْزَمْ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الرِّجْلَيْنِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَعْضَاءُ التَّيَمُّمِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْدِلْ بِهَا غَيْرَهَا فَيَجْزِي تَطْهِيرُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

النِّيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيَنْوِي بِالتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةَ ، وَهَذَا صَحِيحٌ ، النِّيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ وَاجِبَةٌ ، وَقَدْ وَافَقَ عَلَى وُجُوبِهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَإِنْ خَالَفَا فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالتَّيَمُّمُ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِيهِ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ ، وَإِنَّمَا يُبِيحُ فِعْلَ

الصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلْوُضُوءِ فِي اسْتِبَاحَتِهِ الصَّلَاةَ ، وَمُخَالِفًا لَهُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : التَّيَمُّمُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَالْوُضُوءِ أم لا يرفعه اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورٌ " فَجَعَلَهُ مُطَهِّرًا ، قَالَ : وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ إِذَا اسْتَبَاحَ بِهَا فِعْلَ الصَّلَاةِ أَنْ يُسْتَفَادَ بِهَا رَفْعُ الْحَدَثِ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَرْفَعَ الْحَدَثَ كَالْمَاءِ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ التَّيَمُّمُ رَافِعًا لِلْحَدَثِ لَمَا أَثَّرَ فِي إِبْطَالِهِ طُرُوءُ الْحَدَثِ ، فَلَمَّا بَطَلَ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ الْأَوَّلِ . وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ يَرْفَعِ الْحَدَثَ ، كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثًا كَالْمُصَلِّي مَعَ فَقْدِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ مَعًا ، وَلِأَنَّهُ أَحْدَثَ طَهَارَةً لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ كَالْمُتَوَضِّئِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِذَا ارْتَفَعَ حَدَثُهُ كَالْمُتَوَضِّئِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ كَالْمُتَوَضِّئِ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَرْفَعِ الْحَدَثَ فِي الْحَضَرِ لَا يَرْفَعُهُ فِي السَّفَرِ قِيَاسًا عَلَى الْمَاءِ إِذَا لَمْ يَكْفِ جَمِيعَ الْبَدَنِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ : لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرٍ مَجْهُولًا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَوْلُهُ " طَهُورٌ " مَحْمُولًا عَلَى سُقُوطِ الْفَرْضِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوُضُوءِ فَمُنْتَقَضٌ بِطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُ لَمَّا يَلْزَمْ مَعَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ دَلَّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ بِهِ ، وَلَمَّا لَزِمَ الْمُتَيَمِّمَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَرْتَفِعْ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَاءِ فَالْمَعْنَى فِي

الْمَاءِ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ ، فَكَانَتِ الطَّهَارَةُ بِهِ عَامَّةً فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ دُونَ رَفْعِ الْحَدَثِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّهُ لَمَّا بَطَلَ التَّيَمُّمُ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِهِ مُحْدِثًا ، فَهُوَ أَنَّهُ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ : لَوْ أَنَّ جُنُبًا تَيَمَّمَ لِجَنَابَتِهِ ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ وَوَجَدَ الْمَاءَ لَزِمَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ بِهِ ، فَلَوْ كَانَ التَّيَمُّمُ رَافِعًا لِحَدَثِهِ لَكَانَ حُكْمُ الْجَنَابَةِ سَاقِطًا وَلَزِمَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ : لِمَا طَرَأَ مِنْ حَدَثِهِ ، وَفِي ذَلِكَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى بَقَاءِ الْحَدَثِ الْأَوَّلِ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ ، ثُمَّ يُقَالُ إِنَّمَا بَطَلَ تَيَمُّمُهُ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ تُبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ بِالْحَدَثِ الْأَوَّلِ لَا بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ ، وَأَنَّ النِّيَّةَ فِيهِ وَاجِبَةٌ فَلَهُ فِي نِيَّتِهِ سِتَّةُ أَحْوَالٍ المتيمم : أَحَدُهَا : أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ بتيممه فما حكم التيمم فَتَيَمُّمُهُ بَاطِلٌ بِهِ : لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِذَا كَانَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَهَذِهِ النِّيَّةُ مُخَالِفَةٌ لِحُكْمِهِ فَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِهَا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ يُجْزِئُهُ تَيَمُّمُهُ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ . وَالتَّيَمُّمُ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِعِ الْحَدَثُ . وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : يَنْوِي اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةَ بتيممه فما حكم ذلك للنوافل والفرائض ؟ . فَيَصِحُّ التَّيَمُّمُ لِلنَّوَافِلِ وَلَا يَصِحُّ لِلْفَرَائِضِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ تُسْتَبَاحُ بِهِ النَّوَافِلُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ، وَلَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْفَرْضُ وحكمه للمتيمم إِلَّا بِتَعْيِينٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطُوفَ بِهِ لِأَنَّ الطَّوَافَ هل يجوز بالتيمم لَيْسَ بِصَلَاةٍ ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَا نَوَى مِنِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ التيمم ، وهل يصح ؟ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ " فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ " فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِهَذَا التَّيَمُّمِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهَا سُنَّةٌ ، جَازَ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَ بِهِ الْمُصْحَفَ ، وَيَقْرَأَ بِهِ الْقَرْآنَ إِنْ كَانَ جُنُبًا هل يجوز للمتيمم ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ : لِأَنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَنْوِيَ صَلَاةَ النَّافِلَةِ بتيممه فما حكم التيمم فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ مِنَ النَّوَافِلِ مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّي بِهِ الْفَرِيضَةَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا تَيَمَّمَ لِلنَّافِلَةِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ الْفَرِيضَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ صَحَّ اسْتِبَاحَةُ النَّفْلِ بِهَا صَحَّ اسْتِبَاحَةُ الْفَرْضِ بِهَا كَالْوُضُوءِ : لِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ صَحَّ فِعْلُهَا مِنَ الْمُتَوَضِّئِ صَحَّ فِعْلُهَا مِنَ الْمُتَيَمِّمِ كَالنَّفْلِ .

وَدَلِيلُنَا هُوَ تَيَمُّمٌ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْفَرْضَ حكم صلاة الفرض به فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ الْفَرْضَ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا تَيَمَّمَ وَلَمْ يَنْوِ التيمم ما حكمه ؟ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ ، وَإِذَا لَمْ يَرْفَعْهُ تَعَيَّنَتِ النِّيَّةُ لِمَا يُسْتَبَاحُ بِهِ لِتَكَونَ النِّيَّةُ مُخْتَصَّةً بِعِبَادَةٍ ، وَإِذَا لَزِمَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ بِالْعِبَادَةِ الْمُسْتَبَاحَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ لِأَنَّ الْفَرْضَ مُتَنَوِّعٌ ، وَهَذَا أَغْلَظُ حُكْمًا ، وَالنَّفْلُ تَبَعٌ ، وَهُوَ أَخَفُّ حُكْمًا . وَالْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ التَّيَمُّمَ الْوَاحِدَ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ أَدَاءُ فَرْضَيْنِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي وَمَعْنَاهُ الْمَانِعُ مِنْهُ أَنَّ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ تَبَعًا لِلْأُولَى وَكَذَا الْفَرِيضَةَ لَيْسَتْ تَبَعًا لِلنَّافِلَةِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْوُضُوءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهَا طَهَارَةُ رَفَاهَةٍ فَكَانَ حُكْمُهَا أَقْوَى فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ بِتَيَمُّمِ النَّفْلِ ، وَالتَّيَمُّمُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَضَعُفَ حُكْمُهَا عَنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ بِتَيَمُّمِ النَّفْلِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى النَّفْلِ فَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ إِذَا نَوَى بِهِ الْفَرْضَ فَصِرْنَا قَائِلِينَ بِمُوجِبِهِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي النَّفْلِ أَنَّهُ كَانَ أَخَفَّ حُكْمًا جَازَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِتَيَمُّمٍ لَمْ يُقْصَدْ لَهُ وَالْفَرْضُ أَغْلَظُ حُكْمًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِتَيَمُّمٍ لَمْ يُقْصَدْ لَهُ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَنْوِيَ تَيَمُّمَ صَلَاةِ الْفَرْضِ هل يُجْزِئُهُ لِلْفَرِيضَةِ وَالنَّوَافِلِ ؟ فَيُجْزِئُهُ لِلْفَرِيضَةِ وَالنَّوَافِلِ ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ الْفَرْضِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ فَإِذَا نَوَى تَيَمُّمَ صَلَاةِ الْفَرْضِ جَازَ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ أَيَّ فَرْضٍ شَاءَ مِنْ ظُهْرٍ أَوْ عَصْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِذَا أَدَّى بِهِ فَرْضًا وَاجِبًا التيمم ، وهل يصح أن يُؤَدِّيَ بِهِ فَرْضًا فَائِتًا ؟ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ فَرْضًا فَائِتًا ، وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَلَمْ يُصَلِّهَا وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا غَيْرَهَا مِنْ فَائِتَةٍ أَوْ غَيْرِ فَائِتَةٍ هل يجوز ؟ جَازَ : لِأَنَّهُ تَيَمُّمٌ كَامِلٌ لِفَرْضٍ لَمْ يُؤَدِّهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ تَعْيِينَ نِيَّةِ الْفَرْضِ فِي تَيَمُّمِهِ وَاجِبَةٌ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا ، وَجَازَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّوَافِلَ ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ أَضْعَفُ مِنَ الْوُضُوءِ فَلَزِمَهُ تَعْيِينُ الصَّلَاةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِي نِيَّتِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِتَيَمُّمِهِ عِنْدَ الظُّهْرِ فَرْضًا فَائِتًا لَمْ يَجُزْ . وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يَنْوِيَ بِتَيَمُّمِهِ مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ فما حكم التيمم ، مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ الْمُحْدِثُ بِتَيَمُّمِهِ حَمْلَ الْمُصْحَفِ أَوْ يَنْوِيَ الْجُنُبُ بِتَيَمُّمِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَوْ تَنْوِيَ الْحَائِضُ بِتَيَمُّمِهَا وَطْأَ الزَّوْجِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا نَوَى ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا : لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّفْلَ أَمْ لَا ينوي بتيممه ما لا يجوز فعله بغير طهارة عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : يُجْزِئُهُ لِأَنَّ النَّفْلَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ بِخِلَافِ الْفَرْضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ نَفْلَ الصَّلَاةِ أَوْكَدُ مِمَّا يَتَيَمَّمُ لَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَبِيحَهُ بِتَيَمُّمِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ كَمَا أَنَّ الْفَرْضَ لَمَّا كَانَ أَوْكَدَ مِنَ النَّفْلِ لَمْ يُسْتَبَحْ بِتَيَمُّمِ النَّفْلِ . الْحَالُ السَّادِسَةُ : أَنْ يَنْوِيَ التَّيَمُّمَ وَحْدَهُ أَوْ يَنْوِيَ الطَّهَارَةَ وَحْدَهَا فما حكم التيمم فَيَكُونُ تَيَمُّمًا بَاطِلًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبِيحَ بِهِ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا وَلَا مَا كَانَ عَلَى الْمُحْدِثِ مَحْظُورًا : لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ عِنْدَ حُضُورِ فِعْلٍ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِهِ ، فَضَعُفَ حُكْمُهُ عَنْ أَنْ يَصِحَّ إِلَّا بِمُجَرَّدِ نِيَّتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَيَضْرِبُ عَلَى التُّرَابِ ضَرْبَةً وَيُفَرِّقُ أَصَابِعَهُ حَتَّى يُثِيرَ التُّرَابَ ثُمَّ يَمْسَحُ بِيَدِهِ وَجْهَهُ كَمَا وَصَفْتُ فِي الْوُضُوءِ ثُمَّ يَضْرِبُ ضَرْبَةً أُخْرَى كَذَلِكَ " ثُمَّ يَمْسَحُ ذِرَاعَهُ الْيُمْنَى فَيَضَعُ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُمْنَى وَأَصَابِعِهَا ثُمَّ يُمِرُّهَا عَلَى ظَهْرِ الذِّرَاعِ إِلَى مِرْفَقِهِ ثُمَّ يُدِيرُ كَفَّهُ إِلَى بَطْنِ الذِّرَاعِ ثُمَّ يُقْبِلُ بِهَا إِلَى كُوعِهِ ثُمَّ يُمِرُّهَا عَلَى ظَهْرِ إِبْهَامِهِ وَيَكُونُ بَطْنُ كَفِّهِ الْيُمْنَى لَمْ يَمَسَّهَا شَيْءٌ مِنْ يَدِهِ فَيَمْسَحُ بِهَا الْيُسْرَى كَمَا وَصَفْتُ فِي الْيُمْنَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ هُوَ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ دُونَ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ ، وَهَذَا صَرِيحُ الْكِتَابِ وَنَصُّ السُّنَّةِ . وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ مَسْحُ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ به من الضربات فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ ضَرَبَاتٍ ضَرْبَةٍ لِوَجْهِهِ وَضَرْبَةٍ لِكَفَّيْهِ وَضَرْبَةٍ لِذِرَاعَيْهِ ، وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِوَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إِنْ تَيَمَّمَ بِأَقَلَّ مِنْ ضَرْبَتَيْنِ ضَرْبَةٍ لِوَجْهِهِ وَضَرْبَةٍ لِذِرَاعَيْهِ لِرِوَايَةِ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " فِي التَّيَمُّمِ ضَرْبَيَتْنِ : ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذَّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " . وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " التَيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِضَرْبَتَيْنِ لَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْهُمَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى التُّرَابِ في التيمم وصفته وَفَرَّقَ أَصَابِعَهُ حَتَّى يُثِيرَ التُّرَابَ ، وَلَيْسَ ضَرْبُ يَدَيْهِ عَلَى التُّرَابِ شَرْطًا بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَعْلَقَ الْغُبَارُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْغُبَارُ يَعْلَقُ بِيَدَيْهِ إِذَا أَبْسَطَهُمَا عَلَى التُّرَابِ حكم بسط اليدين في التيمم دون الضرب جَازَ أَنْ يَبْسُطَهُمَا عَلَى التُّرَابِ ، وَإِنْ كَانَ الْغُبَارُ لَا يَعْلَقُ بِيَدَيْهِ لَزِمَهُ أَنْ يَضْرِبَ بِهِمَا عَلَى التُّرَابِ حَتَّى يَعْلَقَ الْغُبَارُ بِهِمَا ، فَأَمَّا تَفْرِيقُ أَصَابِعِهِ فَلِيَصِلَ غُبَارُ التُّرَابِ إِلَى مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ ، وَإِيصَالُ الْغُبَارِ إِلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ فَإِذَا ضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى التُّرَابِ ، وَعَلِقَ بِهِمَا الْغُبَارُ فَقَدْ

حَكَى الزَّعْفَرَانِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ قَالَ : أَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يَنْفُخَ فِي يَدَيْهِ وَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ فِي الْجَدِيدِ ، فَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ نَفْخَ الْيَدَيْنِ في التيمم ما حكمه ؟ سُنَّةٌ لِأَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ ، وَرَوَاهُ جَابِرٌ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ، فَنَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ عَلَى اسْتِحْبَابِ نَفْخِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَا عَلِقَ بِيَدِهِ مِنَ التُّرَابِ كَثِيرٌ ، فَكَانَتِ السُّنَّةُ فِي نَفْخِهِمَا لِيَقِلَّ مَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي وَجْهِهِ مِنَ الْغُبَارِ فَلَا يَصِحُّ ، وَنَصُّهُ فِي الْجَدِيدِ عَلَى اسْتِحْبَابٍ عَلَى تَرْكِ الِاسْتِحْبَابِ لِنَفْخِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَا عَلِقَ بِيَدِهِ مِنَ التُّرَابِ غُبَارٌ قَلِيلٌ إِنْ نَفَخَهُمَا لَمْ يُبْقِ فِيهِمَا شَيْئًا يَسْتَعْمِلُهُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ عَدَدِ ضَرَبَاتِ التُّرَابِ وَصِفَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ بِالضَّرْبَةِ الْأُولَى وَجْهَهُ بِكَفَّيْهِ مَعًا ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَبْدَأَ بِأَعْلَى وَجْهِهِ كَالْوُضُوءِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يَبْدَأُ بِأَسْفَلِ وَجْهِهِ ، ثُمَّ يَسْتَعْلِي لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْعُضْوِ إِذَا اسْتَعْلَى بِهِ انْحَدَرَ بِطَبْعِهِ فَعَمَّ جَمِيعَ وَجْهِهِ ، وَالتُّرَابُ لَا يَجْرِي عَلَى الْوَجْهِ إِلَّا بِإِمْرَارِهِ بِالْيَدِ فَيَبْدَأُ بِأَسْفَلِ وَجْهِهِ لِيَقِلَّ مَا يَحْصُلُ فِي أَعْلَاهُ مِنَ الْغُبَارِ لِيَكُونَ أَجْمَلَ وَأَسْلَمَ لِعَيْنِهِ ، ثُمَّ يَضْرِبُ الضَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ لِذِرَاعَيْهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَيَمْسَحُ ذِرَاعَهُ الْيُمْنَى بِكَفِّهِ الْيُسْرَى فَيَبْدَأُ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ لَا يَخْتَلِفُ جَمِيعُ أَصْحَابِنَا فِيهِ فَيَضَعُ ظَاهِرَ كَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى بُطُونِ أَصَابِعِ كَفِّهِ الْيُسْرَى ، ثُمَّ يُمِرُّ بُطُونَ أَصَابِعِ كَفِّهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَاهِرِ كَفِّهِ الْيُمْنَى وَظَاهِرِ ذِرَاعِهِ إِلَى مِرْفَقِهِ ثُمَّ يُدِيرُ بَاطِنَ رَاحَتِهِ عَلَى بَاطِنِ ذِرَاعَيْهِ ، وَيُمِرُّهَا إِلَى كُوعِهِ ثُمَّ بَاطِنِ إِبْهَامِهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَاهِرِ إِبْهَامِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَمْسَحُ ذِرَاعَهُ الْيُسْرَى بِكَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى مَا وَصَفْنَا فَهَذِهِ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ وَرَوَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ظَاهِرَ ذِرَاعِهِ بِجَمِيعِ كَفِّهِ إِلَّا بَاطِنَ إِبْهَامِهِ ثُمَّ يُدِيرُ بَاطِنَ إِبْهَامِهِ عَلَى بَاطِنِ ذِرَاعِهِ ، وَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ تَعْدِيلًا بَيْنَ ظَاهِرِ الذِّرَاعِ وَبَاطِنِهَا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَيَمْسَحُ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ بِأُخْرَى ، وَيُخَلِّلُ بَيْنَ أَصَابِعِهِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا مَسْحُ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ بِالْأُخْرَى في التيمم وحكمه فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ : لِأَنَّ الْغُبَارَ قَدْ وَصَلَ إِلَى جَمِيعِهَا ، فَلَمْ يَلْزَمْ مَسْحُهَا كَالْمَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِخِلَافِ الْمَاءِ : لِأَنَّ الْمَاءَ جَارٍ بِطَبْعِهِ فَيَصِلُ إِذَا جَرَى

إِلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التُّرَابُ : لِأَنَّهُ جَامِدٌ لَا يَكَادُ يَصِلُ إِلَى تَكَاسِيرِ الْعُضْوِ إِلَّا بِإِمْرَارِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ ، فَأَمَّا تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَصَلَ غُبَارُ التُّرَابِ إِلَى مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ فما حكم تخليلهما كَانَ تَخْلِيلُهَا وَاجِبًا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهَا فَفِي وُجُوبِ تَخْلِيلِهَا وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ ضَيَّقَ الشَّافِعِيُّ صِفَةَ التَّيَمُّمِ بِهَاتَيْنِ الضَّرْبَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ ؟ فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّهُ اتَّبَعَ فِيهِ الرِّوَايَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ زَعَمَ أَنَّ مَسْحَ الذِّرَاعَيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ مُسْتَحِيلٌ فَبَيَّنَ وَجْهَ صِحَّتِهِ ، وَبُطَلَانَ اسْتِحَالَتِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَكْتَفِ بِضَرْبَتَيْنِ اسْتَعْمَلَ ضَرْبَةً ثَالِثَةً وَرَابِعَةً حَتَّى يَعُمَّ جَمِيعَ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ أَبْقَى شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ حَتَى صَلَّى أَعَادَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ التَّيَمُّمِ ثُمَّ يُصَلِّي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، اسْتِيعَابُ جَمِيعِ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ وَاجِبٌ كَالْوُضُوءِ ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ مِنْهُمَا لَزِمَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ لَزِمَ إِيصَالُ الْغُبَارِ إِلَيْهِ فِي التَّيَمُّمِ ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْ وَجْهِهِ أَوْ مِنْ ذِرَاعَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَصِلِ الْغُبَارُ إِلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يُجْزِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ تَرَكَ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ المتيمم في تيممه هل يجزئه ؟ أَجْزَأَهُ وَكَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ وَإِنْ تَرَكَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ فَصَاعِدًا لَمْ يُجْزِهِ ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ حَدٌّ لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي النَّجَاسَةِ ، فَصَارَ أَصْلًا لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي التَّيَمُّمِ ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْغَسْلَ إِذَا تَبَدَّلَ بِالْمَسْحِ جَازَ أَنْ لَا يَقَعَ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَقَدْ ثَبَتَ اتِّفَاقُنَا وَإِيَّاهُ أَنَّ الْبَاءَ لَمْ تَدْخُلْ هَاهُنَا لِلتَّبْعِيضِ فَصَارَتِ الْآيَةُ مُوجِبَةً لِلتَّيَمُّمِ ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ لَمْ يُسَامَحْ فِيهَا بِالدِّرْهَمِ فَلَمْ يُسَامَحْ فِيهَا بِأَقَلَّ مِنَ الدِّرْهَمِ كَالْوُضُوءِ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ مِنْ مَحَلِّ وُضُوئِهِ لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ مِنْ مَحَلِّ تَيَمُّمِهِ كَالدِّرْهَمِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ بِنَائِهِ عَلَى أَصْلِهِ فِي النَّجَاسَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَنَى خِلَافًا يُنَازَعُ فِيهِ عَلَى أَصْلٍ لَا يُسَلَّمُ لَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَمْعٌ فَاسِدٌ : لِأَنَّهُ جَعَلَ الدِّرْهَمَ فِي النَّجَاسَةِ مُلْحَقًا بِمَا دُونَهُ فِي الْقِلَّةِ فَكَانَ الدِّرْهَمُ فِي النَّجَاسَةِ قَلِيلًا ، وَجَعَلَ الدِّرْهَمَ فِي التَّيَمُّمِ مُلْحَقًا بِمَا فَوْقَهُ فِي الْكَثْرَةِ فَكَانَ الدِّرْهَمُ فِي التَّيَمُّمِ كَثِيرًا فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْمَسْحِ عَلَى اللُّصُوقِ وَالْجَبَائِرِ هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْغَسْلِ ، وَيَلْزَمُ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ بَدَلُ رُخْصَةٍ يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْغَسْلِ ، فَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ تَرَفُّهًا ، وَالتَّيَمُّمُ بَدَلُ ضَرُورَةٍ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ فَلَزِمَ الِاسْتِيعَابُ فِيهِ تَغْلِيظًا .



فَصْلٌ : فَإِذَا أُثْبِتَ أَنَّهُ تَرَكَ فِي تَيَمُّمِهِ شَيْئًا مِنْ وَجْهِهِ أَوْ مِنْ ذِرَاعَيْهِ حكمه لَمْ يُجْزِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتَمِّمَ مَسْحَ مَا تَرَكَ ، فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا بُنِيَ عَلَى الْمَسْحِ الْأَوَّلِ وَأَجْزَأَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى قَبْلَ إِتْمَامِ الْمَسْحِ أَعَادَهَا بَعْدَ إِتْمَامِهِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بَعِيدًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يُخَرِّجُ جَوَازَ الْبِنَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَفْرِيقَ الْوُضُوءِ يَجُوزُ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَفْرِيقَ الْوُضُوءِ لَا يَجُوزُ ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا : بَلْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ هَاهُنَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ التَّيَمُّمِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالصَّلَاةِ الَّتِي تَيَمَّمَ لَهَا ، فَإِذَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ وَالْوُضُوءُ بِخِلَافِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ بَدَأَ بِيَدَيْهِ قَبْلَ وَجْهِهِ في التيمم فما حكمه ؟ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ وَيَمْسَحَ يَدَيْهِ حَتَى يَكُونَا بَعْدَ وَجْهِهِ مِثْلَ الْوُضُوءِ سَوَاءً وَإِنْ قَدَّمَ يُسْرَى يَدَيْهِ عَلَى الْيُمْنَى في التيمم فما حكمه ؟ أَجْزَأَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : التَّرْتِيبُ فِي التَّيَمُّمِ وَاجِبٌ كَوُجُوبِهِ فِي الْوُضُوءِ ، وَخَالَفَنَا فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا خَالَفَ فِي الْوُضُوءِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ ، وَقَدْ مَضَى ، فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ ذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ فِي الْوُضُوءِ فَالتَّيَمُّمُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مِنْ فَرْضٍ وَسُنَّةٍ وَهَيْئَةٍ ، فَأَمَّا الْفَرْضُ فَخَمْسَةٌ وَهِيَ التُّرَابُ الطَّاهِرُ وَالنِّيَّةُ وَمَسْحُ جَمِيعِ الْوَجْهِ وَمَسْحُ الذِّرَاعَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ وَتَرْتِيبُ الْوَجْهِ عَلَى الذِّرَاعَيْنِ ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَشَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : التَّسْمِيَةُ حِينَ يَضْرِبُ بِيَدَيْهِ عَلَى التُّرَابِ في التيمم حكمها . وَالثَّانِي : تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى في التيمم حكمها ، فَأَمَّا تَكْرَارُ الْمَسْحِ فَلَا يُسَنُّ فِي التَّيَمُّمِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْبِيحِ الْوَجْهِ بِالْغُبَارِ ، فَلَوْ أَنَّ مُتَيَمِّمًا نَوَى وَأَمَرَ غَيْرَهُ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ جَازَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ فَوَضَّأَهُ أَوْ غَسَّلَهُ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ لَا يُجْزِيهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا [ الْمَائِدَةِ : ] . أَيْ فَاقْصِدُوا ، وَهَذَا الْآمِرُ لِغَيْرِهِ لَمْ يَقْصِدْ صَعِيدًا ، وَإِنَّمَا غَيْرُهُ الْقَاصِدُ لَهُ .

لَوْ نَسِيَ الْجَنَابَةَ فَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَوْ نَسِيَ الْجَنَابَةَ فَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ أَجْزَأَهُ : لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الْجَنَابَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنَ الْتَيَمُّمِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْجُنُبُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي سَفَرِهِ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ لَا غَيْرَ كَالْوُضُوءِ سَوَاءٍ ، وَيُصَلِّي الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَكَافَّةِ الْفُقَهَاءِ ،

وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَتَيَمَّمُ وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ فَيَغْتَسِلَ وَيَقْضِي مَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عِبَادِ بْنِ مَنْصُورٍ ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعَطَارِدِيِّ ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ جُنُبًا أَنْ يَتَيَمَّمَ ثُمَّ يُصَلِّي فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ اغْتَسَلَ ، وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ : " كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إِنَّا نَكُونُ بِالْمَكَانِ الشَهْرَ أَوِ الشَّهْرَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَكُنْ أُصَلِّي حَتَّى أَجِدَ الْمَاءَ : قَالَ : فَقَالَ عَمَّارُ أَمَا تَذْكُرُ إِذْ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ فِي الْإِبِلِ فَأَصَابَتْنَا جَنَابَةٌ ، فَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ ، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا وَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ نَفَخَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا عَمَّارُ اتَقِ اللَّهَ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شِئْتَ وَاللَّهِ لَمْ أَذْكُرْهُ أَبَدًا فَقَالَ عُمَرُ : كَلَّا ، وَاللَّهِ لَنُوَلِّيَنَّكَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَوَلَّيْتَ " . وَرَوَى حَمَّادٌ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عَنْ رَجُلٍ مِنِ بَنِي عَامِرٍ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : " كُنْتُ أَعْزَبُ عَنِ الْمَاءِ وَمَعِي أَهْلِي فَتُصِيبُنِي الْجَنَابَةُ فَأُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : وَمَا أَهْلَكَكَ قُلْتُ : كُنْتُ أَعْزَبُ عَنِ الْمَاءِ وَمَعِي أَهْلِي فَتُصِيبُنِي الْجَنَابَةُ ، فَأُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فَاغْتَسَلْتُ ، ثُمَّ جِئْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ الصَّعِيدَ طَهُورٌ وَإِنْ لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ مَعَ اخْتِلَافِ طُرُقِهَا عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ تَيَمَّمَ يَنْوِي اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُحْدِثٌ وَصَلَّى بَعْدَ تَيَمُّمِهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا فَتَيَمُّمُهُ جَائِزٌ وَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ وَالصَّلَاةُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اتِّفَاقَ مُوجِبِهَا مَعَ اخْتِلَافِ حُكْمِهَا لَا يُوجِبُ نِيَابَةَ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ ، كَمَنْ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ عَصْرًا

فَصَلَّاهَا ثُمَّ بَانَتْ ظُهْرًا ، وَلِأَنَّهُ تَطَهَّرَ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ عَنْ طَهَارَةِ الْجَنَابَةِ كَالْوَاجِدِ لِلْمَاءِ ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ مُتَّفِقَتَانِ فِي الصُّورَةِ وَالنِّيَّةِ ، فَلَمْ يَكُنِ الْخَطَأُ فِيهِمَا مَانِعًا مِنْ إِجْزَائِهِمَا قِيَاسًا عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ جَنَابَةٍ فَكَانَ حَيْضًا ، أَوِ الْمُحْدِثِ يَتَوَضَّأُ عَنْ صَوْتٍ وَكَانَ نُوَّمًا ، وَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ عَنْ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ فِيهِ غَيْرَ مَانِعٍ مِنَ الْإِجْزَاءِ قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا تَيَمَّمَ عَنْ جَنَابَةٍ فَكَانَ مُحْدِثًا ، فَكَذَا إِذَا تَيَمَّمَ عَنْ حَدَثٍ فَكَانَ جُنُبًا ، فَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمْ بِالصَّلَاةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ ، وَتَعْيِينُهَا فِي الْحَدَثِ غَيْرُ وَاجِبٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَحْدَاثَ إِذَا اجْتَمَعَتْ تَدَاخَلَتْ ، وَالصَّلَوَاتِ إِذَا تَرَادَفَتْ لَمْ تَتَدَاخَلْ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ ، عَلَى الْمَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ طَهَارَةَ الْجُنُبِ بِالْمَاءِ أَعَمُّ مِنْ طَهَارَةِ الْمُحْدِثِ فَلَمْ " يُجْزِهِ وَطَهَارَةُ الْجُنُبِ بِالتُّرَابِ كَطَهَارَةِ الْمُحْدِثِ فَأَجْزَأَهُ .

فَصْلٌ : ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : لَيْسَ عَلَى الْمُحْدِثِ عِنْدِي مَعْرِفَةُ أَيِّ الْأَحْدَاثِ كَانَ مِنْهُ وَإِنَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِلْحَدَثِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَيِّ الْأَحْدَاثِ كَانَ مِنْهُ كَمَا عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَيِّ الصَلَوَاتِ عَلَيْهِ لَوَجَبَ لَوْ تَوَضَّأَ مِنْ رِيحٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ حَدَثَهُ بَوْلٌ أَوِ اغْتَسَلَتِ امْرَأَةٌ تَنُوِي الْحَيْضَ وَإِنَمَا كَانَتْ جُنُبًا أَوْ مِنْ حَيْضٍ وَإِنَّمَا كَانَتْ نُفَسَاءَ لَمْ يُجْزِئْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى يَعْلَمَ الْحَدَثَ الَّذِي تَطَهَّرَ مِنْهُ وَلَا يَقُولُ بِهَذَا أَحَدٌ نَعْلَمُهُ وَلَوْ كَانَ الْوُضُوءُ يَحْتَاجُ إِلَى الْنِيَّةِ لِمَا يَتَوَضَّأُ لَهُ لَمَا جَازَ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ لِقِرَاءَةِ مُصْحَفٍ أَوْ لِصَلَاةٍ عَلَى جِنَازَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ الْفَرْضَ فَلَمَّا صَلَّى بِهِ الْفَرْضَ لَمْ يَتَوَضَّأْ لِلْفَرْضِ أَجْزَأَهُ أَنْ لَا يَنْوِيَ لِأَيِّ الْفُرُوضِ وَلَا لِأَيِّ الْأَحْدَاثِ تَوَضَّأَ وَلَا لِأَيِّ الْأَحْدَاثِ اغْتَسَلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا أَوَّلُ كَلَامِهِ فَصَحِيحٌ ، وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ عِنْدِي مَعْرِفَةُ أَيِّ الْأَحْدَاثِ كَانَ مِنْهُ لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ لَيْسَ لَهُ بِلَازِمٍ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِلْحَدَثِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَرَادَ التَّيَمُّمَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ كَالْوُضُوءِ ، فَإِنْ أَرَادَ هَذَا وَذَهَبَ إِلَيْهِ وَقَدْ حَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ خَالَفْنَاهُ فِيهِ وَقُلْنَا إِنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَرَادَ بِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ بِالتَّيَمُّمِ ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا ، وَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ : وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِلْحَدَثِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا فِي الْوُضُوءِ أَوْ فِي التَّيَمُّمِ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ فِي الْوُضُوءِ فَهُوَ مُصِيبٌ فِي الْجَوَابِ مُخْطِئٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ فِي التَّيَمُّمِ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي الْجَوَابِ وَالِاسْتِدْلَالِ : لِأَنَّهُ فِي التَّيَمُّمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِذَا وَجَدَ الْجُنُبُ الْمَاءَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ اغْتَسَلَ وَإِذَا وَجَدَهُ الَّذِي لَيْسَ بِجُنُبٍ تَوَضَّأَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْمُحْدِثُ لِعَدَمِ الْمَاءِ ، ثُمَّ وَجَدَهُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ حكم تيممه ، بَطَلَ تَيَمُّمُهُ ، وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ مُغْتَسِلًا بِهِ إِنْ كَانَ جُنُبًا ، وَمُتَوَضِّئًا بِهِ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ تَيَمُّمَهُ صَحِيحٌ ، لَا يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ وُجُودَ الْمُبْدَلِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْبَدَلِ لَا يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ كَالْمُكَفِّرِ إِذَا وَجَدَ الرَّقَبَةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصِّيَامِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ : " الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورٌ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ وَهَذَا وَاجِدٌ لَهُ ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يُرَادُ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ بِهِ ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْمَقْصُودِ لَزِمَهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ ، كَالْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ ثُمَّ بَانَ لَهُ النَّصُّ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ مَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الصِّيَامِ فِي الْكَفَّارَةِ : لِأَنَّ الصِّيَامَ لَهَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالتَّيَمُّمُ إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى أَدَاءِ الْمَقْصُودِ .

إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ دُخُولِهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ دُخُولِهِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا دَخَلَ الْمُتَيَمِّمُ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِهَا ، وَقَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا صلاته فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ بِرُؤْيَتِهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِرُؤْيَتِهِ ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ ، قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ سُرَيْجٍ ، وَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ أَحَبُّ إِلَيْنَا ، وَالْمُزَنِيُّ سَوَّى بَيْنَ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالْعِيدَيْنِ فِي بُطْلَانِهَا بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَأَبْطَلَ بِرُؤْيَةٍ صَلَاةَ الْفَرْضِ دُونَ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالنَّفْلِ ، وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا بَيْنَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ ، وَبَيْنَ سُؤْرِ الْحِمَارِ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ ، وَأَنَّهُ كَالْحَدَثِ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [ الْمَائِدَةِ : ] . فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعَالَى لِلتَّيَمُّمِ حُكْمًا مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ : فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا ، قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ مَا أَبْطَلَ التَّيَمُّمَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَبْطَلَهُ فِي الصَّلَاةِ كَالْحَدَثِ ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ ضَرُورَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ حُكْمُهَا بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا ارْتَفَعَتِ اسْتِحَاضَتُهَا ، وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطَلَ بِظُهُورِ أَصْلِهِ ، كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ يُبْطَلُ بِظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إِذَا جَازَ أَدَاؤُهَا بِالْعُذْرِ عَلَى

صِفَةٍ كَانَ زَوَالُ ذَلِكَ الْعُذْرِ مَانِعًا مِنْ إِجْزِائِهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ، كَالْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ ، وَالْأُمِّيِّ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ ، وَالْعُرْيَانِ إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا ، وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِدَلِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّيَمُّمَ فِي الطَّهَارَةِ بَدَلٌ مِنَ الْمَاءِ عِنْدَ فَقْدِهِ كَمَا أَنَّ الشُّهُورَ فِي الْعِدَّةِ بَدَلٌ مِنَ الْأَقْرَاءِ عِنْدَ فَقْدِ الْحَيْضِ ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ بِالْأَشْهُرِ إِذَا رَأَتِ الْحَيْضَ لَزِمَهَا الِانْتِقَالُ إِلَى الْأَقْرَاءِ ، وَجَبَ إِذَا رَأَى الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ حَدَثٌ اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ تَيَمَّمَ أَحَدُهُمَا ، وَتَوَضَّأَ الْآخَرُ ثُمَّ أَحْدَثَ الْمُتَوَضِّئُ وَوَجَدَ الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ كَانَ طُهْرُهُمَا مُنْتَقَضًا ، وَاسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَهُمَا لَازِمًا ، وَإِذَا كَانَ بِمَا دَلَّ الشَّاهِدُ عَلَيْهِ حَدَثًا ، كَانَ حُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ وَقَبْلَهَا سَوَاءً . فَصْلٌ : وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] إِلَى قَوْلِهِ : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا . فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهَا هُوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَوْ لَمْ يَجِدْ فِيهَا الْمَاءَ لَتَيَمَّمَ فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْأَمْرِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَوْ رَأَى فِيهَا سُؤْرَ الْحِمَارِ لَمْ تَبْطُلْ وَجَبَ إِذَا رَأَى فِيهَا الْمَاءَ الْمُطْلَقَ أَنْ لَا تَبْطُلَ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ طَرْدًا ، وَمَنْ عَلَى بَدَنِهِ النَّجَاسَةُ عَكْسًا ، وَلِأَنَّهُ مَاءٌ لَوْ وَجَدَهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لَمْ تَبْطُلْ فَإِذَا وَجَدَهَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ لَمْ تَبْطُلْ ، كَسُؤْرِ الْحِمَارِ ، وَلِأَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِطُهُورٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ بِرُؤْيَةِ الطَّهُورِ ، كَالْمُتَوَضِّي إِذَا رَأَى الْمَاءَ أَوِ التُّرَابَ ، وَالْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى التُّرَابَ ، وَلِأَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ تَيَمُّمُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ ، كَالْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ لَوِ اتَّصَلَ عَدَمُهُ إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ لَخَلَتِ الذِّمَّةُ عَنْ وُجُوبِهَا بِأَدَائِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فِي تَضَاعِيفِهَا كَالْعُرْيَانِ إِذَا وَجَدَ ثُوبًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ وُصِفَا فِي الشَّرْعِ لِاسْتِبَاحَةِ غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ بَعْدَ اسْتِبَاحَةِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ سَقَطَ حُكْمُهُ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالشُّهُورِ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ وَقَدْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَكَذَا الْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَصَّلُ إِلَى الْوُضُوءِ بِثَمَنِ الْمَاءِ ، كَمَا يَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالْمَاءِ ، فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِوُجُودِ الثَّمَنِ بَعْدَ عَدَمِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِوُجُودِ الْمَاءِ بَعْدَ عَدَمِهِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا عَلَى أَنَّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْوُضُوءِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ بَعْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لَمْ يُؤَثِّرْ وُجُودُهُ فِي الصَّلَاةِ ، كَالثَّمَنِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالَةٍ لَا يَلْزَمُهُ التَّوَصُّلُ إِلَى الْأَصْلِ لِوُجُودِ ثَمَنِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَصْلِ بِوُجُودِ عَيْنِهِ ، كَالْمُكَفِّرِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ صَوْمِهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَلْزَمُهُ فِيهَا طَلَبُ الْمَاءِ لَا يَلْزَمُهُ فِيهَا اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ ، قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ

الصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَصِحُّ بِشَرْطَيْنِ : السَّفَرُ وَعَدَمُ الْمَاءِ ، ثُمَّ لَوْ نَقَضَ السَّفَرَ بِالْإِقَامَةِ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ المتيمم لَمْ يَبْطُلْ بِهِ التَّيَمُّمُ ، وَإِنْ كَانَ يَبْطُلُ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ . فَكَذَا إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ المتيمم لَمْ يَبْطُلْ بِهِ التَّيَمُّمُ ، وَإِنْ كَانَ يَبْطُلُ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَكَذَا إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ التَّيَمُّمُ ، وَإِنْ كَانَ يَبْطُلُ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيِ التَّيَمُّمِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي التَّيَمُّمِ بَعْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ مَا كَانَ مُؤَثِّرًا فِيهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَالْإِقَامَةِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا وَهُوَ أَنَّهَا تَقْتَضِي قَبْلَ التَّيَمُّمِ وَصِحَّتِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ ، وَقَدْ تَيَمَّمَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ تَيَمُّمًا صَحِيحًا ، وَهُمْ يَمْنَعُونَهُ مِنِ اسْتِصْحَابِ حُكْمِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ صِحَّتِهِ فَكَانَ ظَاهِرُهَا دَالًّا عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ " فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ " مَحْمُولٌ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ بِالْمَاءِ يَسْتَقْبِلُ مِنَ الصَّلَاةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَمْرَ بِاسْتِعْمَالِهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى حَالَةِ الطَّلَبِ لِلْمَاءِ ، وَذَلِكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَكَذَا وُجُوبُ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الصَّلَاةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحَدَثِ فَمُنْتَقِضٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَلَائِلِنَا يَبْطُلُ بِهَا التَّيَمُّمُ قَبْلَ الصَّلَاةِ ، وَلَا يَبْطُلُ بِهَا التَّيَمُّمُ فِي الصَّلَاةِ ، وَيَنْتَقِضُ بِوُجُودِ الثَّمَنِ أَيْضًا ، وَقَدْ جَعَلْنَاهُ دَلِيلًا ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَدَثِ أَنَّهُ يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ، فَأَبْطَلَهُ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ ، وَرُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تُبْطِلُ التَّيَمُّمَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ فَلَمْ تُبْطِلْهُ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ فَلِأَصْحَابِنَا فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهَا بِارْتِفَاعِ الِاسْتِحَاضَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ ، أَنَّ صَلَاتَهَا لَا تَبْطُلُ كَالْمُتَيَمِّمِ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا بَاطِلَةٌ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ حَامِلَةٌ لِلنَّجَاسَةِ فَلَزِمَهَا اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِإِزَالَتِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَيْسَتْ فِي طَهَارَةٍ مِنْ وُضُوءٍ وَلَا فِي بَدَلٍ مِنَ التَّيَمُّمِ ، وَهَذَا

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُضُوءٍ فَهُوَ فِي تَيَمُّمٍ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي ظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ أَنْ يُبْطِلَ صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ رُؤْيَةُ الْمَاءِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعُرْيَانِ إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا وَالْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ فَهُوَ أَنَّنَا قَدْ جَعَلْنَا الْعُرْيَانَ أَصْلًا وَاسْتَخْرَجْنَا مِنْهُ دَلِيلًا ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَحْوَالُ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا تُغَيِّرُ صِفَةَ إِتْمَامِهَا ثُمَّ مُنْتَقَضٌ عَلَيْهِ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ ، وَوُجُودِ الثَّمَنِ وَحُدُوثِ الْإِقَامَةِ ثُمَّ تُغَلَّبُ عَلَيْهِمْ . فَيُقَالُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ كَالصِّحَّةِ وَوُجُودِ الثَّوْبِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنَ الْعِدَّةِ فَهُوَ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الشُّهُورِ إِلَى الْأَقْرَاءِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَاضِي مِنْ شُهُورِهَا قَبْلَ رُؤْيَةِ الدَّمِ هَلْ يَكُونُ قُرْءًا يُعْتَدُّ بِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قُرْءٌ مُعْتَدٌّ بِهِ . وَالثَّانِي : لَيْسَ بِقُرْءٍ ، وَلَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ فَإِنْ جَعَلْنَا مَا مَضَى قُرْءًا لَمْ تَبْطُلِ الشُّهُورُ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ وَالتَّيَمُّمُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ ، وَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ مُنْعَكِسًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلِ الْمَاضِي قُرْءًا وَأَبْطَلْنَا الشُّهُورَ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ ، كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَيَمِّمِ وَبَيْنَ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَمَّا جَازَ أَنْ تَعْتَدَّ بِزَمَنٍ لَا تُحْتَسَبُ بِهِ وَهُوَ الْحَيْضُ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَاضِي قَبْلَ دَمِهَا عَفْوًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ بِالشُّهُورِ دَخَلَتْ فِيهَا بِالشَّكِّ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي تَأْخِيرِ الْحَيْضِ ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ كَالْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ ثُمَّ عَلِمَ مُخَالَفَةَ النَّصِّ وَالْمُتَيَمِّمُ مُتَيَقِّنٌ لِعَدَمِ الْمَاءِ فَصَارَ كَالْحَاكِمِ إِذَا حَدَثَ بَعْدَ حُكْمِهِ بِالِاجْتِهَادِ نَصٌّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعِدَّةِ بِانْتِهَائِهَا ، وَكَذَلِكَ إِنْ جَازَ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنَ الْحَيْضِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَهُوَ الْحَمْلُ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ ، وَالصَّلَاةُ فِي الطَّهَارَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِابْتِدَائِهَا وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْتَقَلْ عَنِ الْمَاءِ إِلَى التُّرَابِ عَلَى أَنَّنَا قَدْ جَعَلْنَا الْعِدَّةَ لَنَا دَلِيلًا فَكَانَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فِي الْجَوَابِ كَافِيًا ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ حَدَثٌ فَهُوَ أَنَّهُ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الْمُتَيَمِّمَ مُحْدِثٌ وَالْحَدَثُ لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ إِذَا طَرَأَ عَلَى الْحَدَثِ ، وَالْمَانِعُ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَاءِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا إِنَّ مُتَيَمِّمَيْنِ لَوْ تَيَمَّمَ أَحَدُهُمَا عَنْ حَدَثٍ ، وَالْآخِرُ عَنْ جَنَابَةٍ ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ لَزِمَ الْجُنُبَ أَنْ يَغْتَسِلَ ، وَالْمُحْدِثَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَلَوْ كَانَ رُؤْيَتُهُ حَدَثًا لَاسْتَوَى حُكْمُهُـمَا فِيمَا يَلْزَمُهُمَا مِنْ وُضُوءٍ وَغَسْلٍ : لِأَنَّ الْحَدَثَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ .

فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ بِرُؤْيَتِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ بِرُؤْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ . قِيلَ : لِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ فِي عِبَادَةٍ مَنَعَتْ حُرْمَتُهَا مِنَ الِانْتِقَالِ عَنْهَا وَهُوَ قَبْلَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِهَا .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ اثناء صلاة المتيم فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : بَيْنَ أَنْ يَقْطَعَ صَلَاتَهُ وَيَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ وَيَسْتَأْنِفَ الصَّلَاةَ ، وَهُوَ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَفْضَلُ لِيَكُونَ خَارِجًا مِنَ الْخِلَافِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى يُكْمِلَهَا ، وَهُوَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَفْضَلُ لِئَلَّا تَبْطُلَ عِبَادَةٌ هُوَ فِيهَا فَإِذَا أَتَمَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ بَعْدَهَا : لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ كَانَ قَدْ أُبْطِلَ لِغَيْرِ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَلَّمَ مِنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي رَأَى الْمَاءَ فِيهَا فَقَدَّمَ الْمَاءَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ التَّيَمُّمِ لِمَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ بَعْدَ إِحْدَاثِ الطَّلَبِ ، فَلَوْ كَانَ قَدْ رَأَى الْمَاءَ وَهُوَ فِي صَلَاةِ نَافِلَةٍ المتيمم كَانَ لَهُ أَنْ يُتَمِّمَ مَا نَوَى مِنْ عَدَدِهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى أَرْبَعًا بِسَلَامٍ كَانَ لَهُ أَنْ يُكْمِلَهَا أَرْبَعًا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَ الْإِحْرَامِ نِيَّةٌ مِنَ الْعَدَدِ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ : لِأَنَّ الشَّرْعَ قَرَّرَ لَهُ اخْتِلَافَ النَّوَافِلِ أَنْ تَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى ، فَلَوْ أَنَّ مُتَيَمِّمًا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ يَنْوِي الْقَصْرَ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ ، ثُمَّ نَوَى بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ أَوِ الْمُقَامَ بِمَكَانِهِ أَرْبَعًا . قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ : قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ : لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ صَحَّ لِرَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، وَقَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ أَرْبَعًا : فَكَانَتْ رُؤْيَةُ الْمَاءِ مُبْطِلَةً لِصَلَاتِهِ ، وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا يُتَمِّمُ صَلَاتَهُ ، وَلَا تَبْطُلُ : لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ صَحَّ لِأَدَائِهَا تَامَّةً وَمَقْصُورَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

إِذَا تَيَمَّمَ فَفَرَغَ مِنْ تَيَمُّمِهِ بَعْدَ طَلَبِ الْمَاءِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا تَيَمَّمَ فَفَرَغَ مِنْ تَيَمُّمِهِ بَعْدَ طَلَبِ الْمَاءِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَاءِ ، وَإِنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ دُخُولِهِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَأَجْزَأَتْهُ الصَّلَاةُ ( وَقَالَ الْمُزَنِيُّ ) وُجُودُ الْمَاءِ عِنْدِي يَنْقُضُ طُهْرَ التَّيَمُّمِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ ، كَمَا أَنَّ مَا نَقَضَ الطُّهْرَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ وَلَوْ كَانَ الَّذِي مَنَعَ نَقْضَ طُهْرِهِ الصَّلَاةُ لَمَا ضَرَّهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ أَجْمَعُوا وَالشَّافِعِيُّ مَعَهُمْ أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ تَوَضَّأَ أَحَدُهُمَا وَتَيَمَّمَ الْآخَرُ فِي سَفَرٍ لِعَدَمِ الْمَاءِ أَنَّهُمَا طَاهِرَانِ وَأَنَّهُمَا قَدْ أَدَّيَا فَرْضَ الطُّهْرِ فَإِنْ أَحْدَثَ الْمُتَوَضِّئُ وَوَجَدَ الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ أَنَّهُمَا فِي نَقْضِ الطُّهْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ سَوَاءٌ فَلِمَ لَا ، كَانَا فِي نَقْضِ الطُّهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا سَوَاءً ؟ وَمَا الْفَرْقُ وَقَدْ قَالَ فِي جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ إِنَّ عِدَّةَ مَنْ لَمْ تَحِضِ الشُّهُورَ فَإِنِ اعْتَدَّتْ بِهَا إِلَّا يَوْمًا ثُمَّ حَاضَتْ أَنَّ الشُّهُورَ تَنْتَقِضُ لِوُجُودِ الْحَيْضِ فِي بَعْضِ الطُّهْرِ فَكَذَلِكَ

الْتَيَمُّمُّ يَنْتَقِضُ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ وُجُودُ الْمَاءِ كَمَا يَنْتَقِضُ طُهْرُ الْمُتَوَضِّئِ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ الْحَدَثُ وَهَذَا عِنْدِي بِقَوْلِهِ أَوْلَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ فَمَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ بِالتَّيَمُّمِ مُجْزِئٌ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَمَالِكٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ بَاقِيًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ كَالنَّصِّ الَّذِي يَبْطُلُ حُكْمُ الِاجْتِهَادِ مَعَهُ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ وَحَضَرَتْهُمَا الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ بَعْدُ فِي الْوَقْتِ فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ بِوُضُوءٍ ، وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ أَصَبْتَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ ، وَقَالَ لَلَذِيَ تَوَضَّأَ وَأَعَادَ لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ . وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي السَّفَرِ بِعَدَمِ الْمَاءِ عُذْرٌ مُعْتَادٌ فَإِذَا صَلَّى مَعَ وُجُودِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ بَعْدَ زَوَالِهِ لَهُ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ وُجُودِ النَّصِّ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ ، فَهُوَ أَنَّنَا نَلْتَزِمُ مِنَ الْقَوْلِ بِمُوجِبِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ النَّصُّ الْمُخَالِفُ مَوْجُودًا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ كَانَ الِاجْتِهَادُ بَاطِلًا ، وَالْحُكْمُ بِهِ مَنْقُوضًا ، وَمِثَالُهُ فِي التَّيَمُّمِ : أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فِي رَحْلِهِ وَقْتَ التَّيَمُّمِ مَوْجُودًا ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَإِنْ كَانَ النَّصُّ حَادِثًا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ ، فَهَذَا يُتَصَوَّرُ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ نَافِذٌ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِفَسْخٍ ، وَهُوَ مِثَالُ مَسْأَلَتِنَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ الْمَاضِيَةُ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ نَافِذَةً .

لَا يَجْمَعُ بِالتَّيَمُّمِ صَلَاتَيْ فَرْضٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَجْمَعُ بِالتَّيَمُّمِ صَلَاتَيْ فَرْضٍ بَلْ يُجَدِّدُ لِكُلِ فَرِيضَةٍ طَلَبًا لِلْمَاءِ وَتَيَمُّمًا بَعْدَ الطَّلَبِ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " لَا تُصَلَّى الْمَكْتُوبَةُ إِلَّا بِتَيَمُمٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فَرَضِينَ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ مَا شَاءَ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ مَا لَمْ يُحْدِثْ كَالْوُضُوءِ ، وَقَالَ

أَبُو ثَوْرٍ : يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بِهِ بَيْنَ الْفَوَائِتِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُؤَقَّتَاتِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ : " الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ " فَجَعَلَهُ طَهُورًا مُسْتَدَامًا ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا النَّفْلُ ، فَجَازَ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا الْفَرْضُ كَالْوُضُوءِ وَلِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يُؤَدَّى بِالْوُضُوءِ جَازَ أَنْ يُؤَدَّى بِالتَّيَمُّمِ كَالنَّوَافِلِ ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ تَخْتَصَّ بِفَرْضٍ وَاحِدٍ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَعَادَ التَّيَمُّمَ لِكُلِّ فَرْضٍ لَلَزِمَهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِلْحَدَثِ الْوَاحِدِ مِرَارًا ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأُصُولِ فِي الطَّهَارَاتِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] إِلَى قَوْلِهِ : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [ الْمَائِدَةِ : ] فَكَانَ الظَّاهِرُ مُوجِبًا أَنْ يَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ تَيَمَّمَ لَهَا ، فَلَمَّا جَاءَ النَّصُّ بِالْوُضُوءِ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ نَفَى حُكْمَ التَّيَمُّمِ عَلَى مُوجِبِ الظَّاهِرِ ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ تَتَّسِعْ لِأَدَاءِ فَرْضَيْنِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ فِي وَقْتَيْنِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، لِأَنَّهَا طَهَارَةُ رُخْصَةٍ وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ فَرِيضَةٍ لَمْ يُحْدِثْ لَهَا وُضُوءًا ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْدِثَ لَهَا بَعْدَ الطَّلَبِ تَيَمُّمًا كَالْفَرْضِ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ إِعَادَتُهُ فِي كُلِّ فَرِيضَةٍ كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ بَدَلٍ قَصُرَتْ عَنْ أَصْلِهَا فِعْلًا ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْصَرَ عَنْهُ وَقْتًا ، كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَلِأَنَّ الطَّهَارَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : طَهَارَةٌ تَرْفَعُ الْحَدَثَ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ من أنواع الطهارات الوضوء ، وَهُوَ الْوُضُوءُ الْكَامِلُ ، فَيُؤَدِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ . وَطَهَارَةٌ تَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ من أنواع الطهارات المسح على الخفين ، وَهُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، فَيَقْصُرُ بِتَجْدِيدِ الْوَقْتِ عَنِ الْوُضُوءِ الْكَامِلِ . وَطَهَارَةٌ لَا تَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ من أنواع الطهارات التيمم وَهُوَ التَّيَمُّمُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْهَا حُكْمًا ، وَأَنْ لَا يُؤَدَّى بِهَا إِلَّا فَرْضًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ تَرْكَ الْأَخْذِ بِظَاهِرِهِ يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى ابْتِدَاءِ التَّيَمُّمِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوُضُوءِ فَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ لَمَّا كَانَ طَهَارَةَ رَفَاهِيَةٍ تَرْفَعُ الْحَدَثَ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا ، وَالتَّيَمُّمُ لَمَّا كَانَ طَهَارَةً ضَرُورِيَّةً لَا تَرْفَعُ الْحَدَثَ كَانَ حُكْمُهَا خَاصًّا ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النَّوَافِلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّوَافِلَ لَمَّا كَانَتْ تَبَعًا لِلْفَرَائِضِ جَازَ أَنْ تُؤَدَّى بِتَيَمُّمِ الْفَرْضِ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْفَرْضُ تَبَعًا لِفَرْضٍ غَيْرَهُ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يُؤَدَّى فَرْضٌ بِتَيَمُّمِ فَرْضٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّوَافِلَ لَمَّا كَثُرَتْ وَتَرَادَفَتْ ، وَكَانَتِ الْمَشَقَّةُ لَاحِقَةً فِي إِعَادَةِ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةِ مِنْهَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ سُقُوطَ إِعَادَةِ قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ عَنِ الْحَائِضِ ، وَالْمَفْرُوضَاتُ لَمَّا انْحَصَرَتْ وَلَمْ تَشُقَّ إِعَادَةُ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ فَرْضٍ مِنْهَا وَجَبَ اعْتِبَارُهُ ، كَوُجُوبِ قَضَاءِ الصِّيَامِ عَلَى الْحَائِضِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْحَدَثَ الْوَاحِدَ لَا يُتَطَهَّرُ لَهُ مِرَارًا فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ كَالْحَدَثِ فِي آخِرِ زَمَانِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَلْزَمُ إِعَادَةُ الطَّهَارَةِ لَهُ بَعْدَ تَقَضِّي زَمَانَ الْمَسْحِ وَوَاجِدُ الْمَاءِ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ إِذَا عَدِمَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا أَعَادَ التَّيَمُّمَ ثَانِيَةً لِحَدَثِهِ الْأَوَّلِ ، عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمْ يَكُنْ طُهْرًا لِلْحَدَثِ فَيَمْتَنِعُ مِنْ إِحْدَاثِ طُهْرٍ ثَانٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِفَرْضٍ ثَانٍ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَدْ جَعَلْنَا الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَنَا دَلِيلًا ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْسِيمِ الطَّهَارَاتِ لَنَا كَافٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بِالتَّيَمُّمِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ فَسَوَاءٌ كَانَ الْفَرْضَانِ فِي وَقْتٍ ، أَوْ وَقْتَيْنِ وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ طَوَافَيْنِ وَاجِبَيْنِ ، وَلَا بَيْنَ طَوَافٍ وَصَلَاةِ فَرْضٍ الجمع بينهما بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ ، فَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا لَزِمَهُ فِعْلُ الْخَمْسِ كُلِّهِنَّ يَنْوِي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ الْفَائِتَةَ ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيهِنَّ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ، لِأَنَّ الْفَرْضَ مِنْ جُمْلَتِهِنَّ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لَا يَجُوزُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ : لِأَنَّ فِعْلَهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَمْسِ صَلَاتَانِ لَا يَعْرِفْهُمَا صَلَّى الْخَمْسَ كُلَّهُنَّ يَنْوِي الْفَائِتَةَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَيَتَيَمَّمُ لِلْخَمْسِ كُلِّهِنَّ وَجْهًا وَاحِدًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَيَمُّمٍ وَاحِدٍ لِبَقَاءِ الْفَرْضِ الثَّانِي مَعَ جَهَالَةِ عَيْنِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْأَوَّلِ الْمَجْهُولِ قُرْبًا وَبُعْدًا ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَيَمَّمَ ثَانِيَةً لِلْفَرِيضَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الطَّلَبِ ثَانِيَةً ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ تَيَمُّمٍ يَلْزَمُهُ فَإِذَا أَعَادَ الطَّلَبَ لَزِمَهُ إِعَادَتُهُ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ فَأَمَّا الطَّلَبُ فِي رَحْلِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُ ثَانِيَةً : لِأَنَّهُ عَلَى إِحَاطَةٍ مِنْ رَحْلِهِ ، وَلَيْسَ عَلَى إِحَاطَتِهِ مَنْ فِي رَحْلِ غَيْرِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَيُصَلِّي بَعْدَ الْفَرِيضَةِ النَّوَافِلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِتَيَمُّمِ الْفَرْضِ مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ جَمْعُهَا بِسَلَامٍ وَاحِدٍ ، فَجَازَ أَدَاءُ جَمِيعِهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ ،

وَالْفَرَائِضُ لَا يَجُوزُ جَمْعُهَا بِسَلَامٍ وَاحِدٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَدَاؤُهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ النَّوَافِلَ وَإِنْ كَثُرَتْ جَازَ أَنْ تُؤَدَّى بِتَيَمُّمِ الْفَرْضِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بَعْدَ الْفَرِيضَةِ : لِأَنَّهَا تَبَعٌ فَأُخِّرَتْ فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ المتيمم فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَلَى جَوَازِهِ كَمَا يَجُوزُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ : لِأَنَّ مَا جَازَ أَدَاؤُهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ بِالطَّهَارَةِ الْوَاحِدَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَرْتِيبُهُ ، لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بَعْدَهَا ، وَبِهِ قَالَ [ مَالِكٌ ] لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنَّ مِنْ شَرْطِ التَّيَمُّمِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِالْفَرْضِ مِنْ غَيْرِ مَفْصَلٍ ، وَتَقْدِيمُ النَّافِلَةِ فَصْلٌ قَاطِعٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ النَّافِلَةَ تَبَعٌ لِلْفَرِيضَةِ ، وَمِنْ حُكْمِ التَّبَعِ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنِ اعْتِلَالِهِ مَدْخُولٌ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فِي كَوْنِهِ فَصْلًا فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ مَسْنُونُ تِلْكَ الصَّلَاةِ فَكَانَ فِعْلُهُ بَعْدَ التَّيَمُّمِ جَائِزًا كَالْأَذَانِ وَإِنَّمَا يَكُونُ قَطْعًا إِذَا طَالَ التَّنَفُّلُ بَعْدَ مَسْنُونَاتِهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيهِ ، وَأَمَّا الثَّانِي : بِأَنَّهَا تَبَعٌ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ بِأَنْ يَكُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّوَافِلِ تَبَعًا لِلْفَرْضِ الْمُتَأَخِّرِ كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فِي تَقْدِيمِهِمَا عَلَى الصُّبْحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَعَلَى الْجَنَائِزِ وَيَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ وَيَسْجُدُ سُجُودَ الْقُرْآنِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُهَا أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَرْضُهَا لِوُجُودِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُصَلِّي عَلَيْهَا جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ : لِأَنَّهَا سُنَّةٌ لَهَا كَالنَّوَافِلِ ، وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُهَا لِعَدَمِ غَيْرِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ لَهَا تَيَمُّمًا لِكَوْنِهَا فَرْضًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهَا أَنَّ فَرْضَهَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَكَانَ حُكْمُ النَّادِرِ مُلْحَقًا بِالْأَغْلَبِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ ، وَأَبِي إِسْحَاقَ فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْفَرْضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتَيْنِ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يُصَلِّي عَلَيْهِمَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ ، فَأَمَّا سُجُودُ الشُّكْرِ وَالسَّهْوِ وَالْقُرْآنِ وَحَمْلُ الْمُصْحَفِ فَكُلُّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ إِذْ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُهُ فَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ نَذْرٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ لَهَا تَيَمُّمًا : لِأَنَّهَا فَرْضٌ

عَلَيْهِ مُعَيَّنٌ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ : لِأَنَّ فَرْضَهَا الْخَتْمُ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ ، وَأَنَّهَا قَدْ تَكْثُرُ وَلَيْسَتْ كَالْفَرَائِضِ الْمَحْصُورَةِ ، وَأَمَّا رَكْعَتَا الطَّوَافِ صلاتهما بتيمم الطواف فَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا بِتَيَمُّمِ الطَّوَافِ سَوَاءٌ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا أَمْ لَا : لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلطَّوَافِ وَجَبَتْ أَوِ اسْتُحِبَّتْ وَلَكِنْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمِ فَرِيضَةِ صَلَاتِهَا ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا سُنَّةٌ جَازَ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ النَّذْرِ : لِأَنَّ وُجُوبَهَا رَاتِبٌ بِأَصْلِ الشَّرْعِ .

إِنْ تَيَمَّمَ بِزِرْنِيخٍ أَوْ نُورَةٍ أَوْ ذُرَاوَةٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ تَيَمَّمَ بِزِرْنِيخٍ أَوْ نُورَةٍ أَوْ ذُرَاوَةٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يُجْزِهِ " . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ التُّرَابِ وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاسْتَوْفَيْنَا الْحِجَاجَ لَهُ وَعَلَيْهِ ، فَإِنْ تَيَمَّمَ بِمَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ التُّرَابِ مِنْ نُورَةٍ أَوْ كُحْلٍ أَوْ ، زِرْنِيخٍ أَوْ مِلْحٍ أَوْ رَمَادٍ أَوْ دَقِيقٍ لَمْ يُجْزِهِ ، وَكَانَ تَيَمُّمُهُ بَاطِلًا ، فَإِنْ صَلَّى أَعَادَ التَّيَمُّمَ وَالصَّلَاةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ جَامِعِ التَّيَمُّمِ وَالْعُذْرِ فِيهِ

لَيْسَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَإِعْوَازِ الْمَاءِ بَعْدَ طَلَبِهِ

بَابُ جَامِعِ التَّيَمُّمِ وَالْعُذْرِ فِيهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَيْسَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَإِعْوَازِ الْمَاءِ بَعْدَ طَلَبِهِ وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْبَابِ بَيَانُ شُرُوطِ التَّيَمُّمِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعَهَا فَالْبَابُ الْأَوَّلُ بَيَانُ فَرْضِ التَّيَمُّمِ الَّتِي لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهَا . فَأَمَّا شُرُوطُ التَّيَمُّمِ فَقَدْ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَالَيْنِ هُمَا : السَّفَرُ وَالْمَرَضُ ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [ الْمَائِدَةِ : ] إِلَى قَوْلِهِ : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَأَمَّا السَّفَرُ فَلِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ فِيهِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا من شروط التيمم . وَالثَّانِي : عَدَمُ الْمَاءِ بَعْدَ طَلَبِهِ . فَأَمَّا دُخُولُ الْوَقْتِ فَهُوَ شَرْطٌ فِي التَّيَمُّمِ لِصَلَاةِ الْوَقْتِ ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ الْفَائِتَةُ وَالنَّافِلَةُ فَلَيْسَ الْوَقْتُ شَرْطًا فِي التَّيَمُّمِ لَهَا ، وَإِنَّمَا إِرَادَةُ فِعْلِهَا شَرْطٌ فِي التَّيَمُّمِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِفَرْضٍ مُؤَقَّتٍ يُؤَدِّيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي وَقْتِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَإِنْ تَيَمَّمَ أَعَادَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [ الْمَائِدَةِ : ] فَأَمَرَ بِالتَّيَمُّمِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ ، فَمَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا قَبْلَ الْوَقْتِ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَرُبَّمَا حَرَّرُوا هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مِنَ الْآيَةِ قِيَاسًا فَقَالُوا : كُلُّ وَقْتٍ جَازَ فِيهِ الْوُضُوءُ جَازَ فِيهِ التَّيَمُّمَ قِيَاسًا عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ يَجُوزُ فِعْلُهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَجَازَ فِعْلُهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ كَالْوُضُوءِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ مَا صَحَّ مِنَ التَّيَمُّمِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ صَحَّ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ كَالْمُتَيَمِّمِ لِفَائِتَةٍ وَالنَّفْلِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : ] إِلَى قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ الْمَنْعَ مِنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ إِلَّا عِنْدَ الْقِيَامِ

إِلَى الصَّلَاةِ ، وَالْقِيَامُ إِلَيْهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَمَّا خَرَجَ بِالدَّلِيلِ جَوَازُ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْوَقْتِ بَقِيَ التَّيَمُّمُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا لِلْفَرِيضَةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْفَرِيضَةِ قِيَاسًا عَلَى طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ فِي حَالِ اسْتِغْنَائِهِ عَنِ التَّيَمُّمِ فَلَمْ يَجُزْ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ ثُمَّ انْقَلَبَ ، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَلٍ لَمْ يَصِحَّ الْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ لَمْ يَصِحَّ الْإِتْيَانُ بِهِ قَبْلَ لُزُومِ الْأَصْلِ قِيَاسًا عَلَى التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ قَبْلَ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَجُوزُ فِي حَالَيْنِ فِي الْمَرَضِ وَالْعُذْرِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ التَّيَمُّمِ قَبْلَ زَمَانِ الْمَرَضِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ زَمَانِ الْعُذْرِ ، وَتَحْرِيرُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدَّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا مَضَى مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا بَعْدَ الْوَقْتِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَيَمُّمٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوُضُوءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُهُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى النَّوَافِلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُ فِعْلِهَا عَقِيبَ التَّيَمُّمِ لَهَا . فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي : وَهُوَ طَلَبُ الْمَاءِ من شروط التيمم فَهُوَ لَازِمٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الطَّلَبُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَإِذَا فَقَدَ الْمَاءَ جَازَ التَّيَمُّمُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تَعَلَّقَ وُجُوبُهَا بِوُجُودِ شَرْطٍ لَمْ يَلْزَمْ طَلَبُ ذَلِكَ الشَّرْطِ كَالْمَالِ لَا يَلْزَمُهُ طَلَبُهُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ ، فَكَذَلِكَ الْمَاءُ لَا يَلْزَمُهُ طَلَبُهُ لِوُجُوبِ التَّيَمُّمِ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ عَنْ عَدَمٍ فَصَحَّ تَيَمُّمُهُ كَالْعَادَةِ بَعْدَ الطَّلَبِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [ الْمَائِدَةِ : ] فَأَبَاحَ التَّيَمُّمَ بَعْدَ الْوُجُودِ وَالْوُجُودُ هُوَ الطَّلَبُ : لِأَنَّ اللِّسَانَ يَقْتَضِيهِ وَعُرْفُ الْخِطَابِ يُوجِبُهُ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِهِ اشْتَرِ لَحْمًا فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَشَحْمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ الشَّحْمَ قَبْلَ طَلَبِ اللَّحْمِ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَكُونُ الْوُجُودُ بِطَلَبٍ وَغَيْرِ طَلَبٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [ الْكَهْفِ : ] . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ قَبْلَ الْوُجُودِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى طَلَبٍ ، وَمَسْأَلَةٌ التَّيَمُّمِ إِنَّمَا هِيَ فِي عَدَمِ الْوُجُودِ ، لَا فِي الْوُجُودِ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " أَنْفَذَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِ الْمَاءِ ثُمَّ تَيَمَّمَ : فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَبَ شَرْطٌ

فِي التَّيَمُّمِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَوْ تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ فِيهِ مَنْعُ التَّيَمُّمِ وَجَبَ إِذَا جَوَّزَ وُجُودَ الْمَاءِ فِيهِ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ التَّيَمُّمُ قِيَاسًا عَلَى رَحْلِهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَلٍ لَا يَصِحُّ الْإِتْيَانُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِ الْعَجْزِ عَنْ مُبْدَلِهِ لَمْ يَصِحَّ الْإِتْيَانُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِ مُبْدَلِهِ كَالصَّوْمِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِ الرَّقَبَةِ ، وَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ . أَصْلُهُ : إِذَا عَلِمَ أَنَّ بِئْرًا بِقَرْيَةٍ وَشَكَّ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى مَائِهَا بِرِشَائِهِ تيممه لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ رِشَائِهِ ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ فَلَمْ تَجُزْ مُفَارَقَتُهُ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِهِ بِحَسْبَ الْعَادَةِ فِي مِثْلِهِ ، أَصْلُهُ جِهَةُ الْقِبْلَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُوبُ الْعَادَاتِ لَا يَلْزَمُ طَلَبُهَا فَهُوَ إِنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْعِبَادَةِ لَمْ يَلْزَمْ طَلَبُهُ كَالْمَالِ فِي الْحَجِّ ، وَمَا كَانَ شَرْطًا فِي

الِانْتِقَالِ عَنِ الْعِبَادَةِ لَزِمَ طَلَبُهُ كَالرَّقَبَةِ ، وَعَدَمُ الْمَاءِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ ، فَلَزِمَ فِيهِ الطَّلَبُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعِبَادَةِ بَعْدَ الطَّلَبِ ، فَمَمْنُوعٌ مِنْهُ لِافْتِرَاقِ حَالِ مَنْ تَيَقَّنَ الْعَجْزَ وَمَنْ لَمْ يَتَيَقَّنْهُ كَمَا لَا يَسْتَوِي حَالُ مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ وَبَيْنَ مَنْ عَجَزَ عَنْهَا بَعْدَ الطَّلَبِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الطَّلَبِ ، فَالطَّلَبُ طَلَبَانِ : طَلَبُ إِحَاطَةٍ ، وَطَلَبُ اسْتِخْبَارٍ ، فَأَمَّا طَلَبُ الْإِحَاطَةِ من أنواع طلب الماء للتيمم فَمُسْتَحَقٌّ فِي رَحْلِهِ وَمِمَّا تَحْتَ يَدِهِ فَيَلْتَمِسُ فِيهِ الْمَاءَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، إِمَّا بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِمَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ ، وَأَمَّا طَلَبُ الِاسْتِخْبَارِ من أنواع طلب الماء للتيمم فَمُعْتَبَرٌ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ مِنْ مَنَازِلِ سَفَرِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ [ طَلَبُهُ ] فِي غَيْرِ الْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى نُزُولِهِ فَيَسْتَخْبِرُ مَنْ فِيهِ مِنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِ أَهْلِهِ ، بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِمَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ عَنِ الْمَاءِ مَعَهُمْ ، أَوْ فِي مَنْزِلِهِمْ فَمَنِ اسْتَخْبَرَ عَنِ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْمَنْزِلِ لَمْ يَعْمَلْ عَلَى خَبَرِهِ إِلَّا أَنْ يَثِقَ بِصِدْقِهِ ، وَمَنِ اسْتَخْبَرَهُ عَنِ الْمَاءِ الَّذِي بِيَدِهِ عَمِلَ عَلَى خَبَرِهِ صَادِقًا كَانَ أَوْ كَاذِبًا ، [ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ كَاذِبًا ] فَهُوَ كَالْمَانِعِ مِنْهُ ، فَإِنْ وَهَبَ لَهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْمَاءُ في التيمم لَزِمَهُ قَبُولُهُ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الطَّلَبِ لِاسْتِحْقَاقِ الْقَبُولِ ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَالِ فِي الْحَجِّ : لِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَبُولُ ، فَإِنْ بَقِيَ فِي الْمَنْزِلِ نَاحِيَةٌ يَرْجُو الْمَاءَ فِيهَا بِنَفْسِهِ في التيمم رَاعَاهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا بِخِلَافِ رَحْلِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى النُّزُولِ فِيهِ فَإِذَا تَحَقَّقَ عَدَمَ الْمَاءِ إِحَاطَةً وَاسْتِخْبَارًا تَيَمَّمَ ، فَلَوْ رَأَى بَعْدَ طَلَبِهِ وَتَيَمُّمِهِ سَوَادًا أَوْ رَاكِبًا المتيمم لَزِمَهُ طَلَبُ الْمَاءِ مِنْهُ ، فَإِنْ وَجَدَهُ اسْتَعْمَلَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ أَعَادَ التَّيَمُّمَ : لِأَنَّهُ بَعْدَ رُؤْيَةِ الرَّاكِبِ صَارَ مُتَيَمِّمًا قَبْلَ كَمَالِ الطَّلَبِ ، ثُمَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ تَيَمُّمٍ أَنْ يُعِيدَ طَلَبَ الْمَاءِ المتيمم فِي غَيْرِ رَحْلِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ طَلَبِهِ فِي رَحْلِهِ : لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ يَقِينٌ وَوُجُودُهُ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ مُجَوَّزٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الطَّلَبِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ : لِأَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ التَّيَمُّمِ ، فَإِنْ طَلَبَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَتَيَمَّمَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ طلب الماء لَمْ يُجْزِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ تَيَمَّمَ أَوْ طَلَبَ وَهُوَ شَاكٌ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ ، فَلَوْ أَنَّهُ تَيَقَّنَ بَعْدَ شَكِّهِ أَنَّ طَلَبَهُ وَتَيَمُّمَهُ صَادَفَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ : لِأَنَّهُ حِينَ تَيَمَّمَ كَانَ شَاكًّا فِي جَوَازِ تَيَمُّمِهِ ، فَإِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ فَطَلَبَ وَتَيَمَّمَ فَهَلْ يَلْزَمُهُ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ عَقِيبَ تَيَمُّمِهِ أَوْ يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهَا مَا لَمْ يَفُتِ الْوَقْتُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يَلْزَمُهُ تَعْجِيلُ

الصَّلَاةِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ إِلَّا بِقَدْرِ أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ وَالتَّنَفُّلِ بِمَا هُوَ مِنْ مَسْنُونَاتِ فَرِيضَتِهِ ، فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ ذَلِكَ مَتَى تَرَاخَى بِهِ الزَّمَانُ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ : لِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَكَانَتْ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ يَلْزَمُهَا تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ عَقِيبَ طَهَارَتِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا وَلَا يَلْزَمُ تَعْجِيلُهَا بِخِلَافِ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ : لِأَنَّ حَدَثَ الْمُسْتَحَاضَةِ يَتَوَالَى عَقِيبَ الطَّهَارَةِ فَبَطَلَتْ طَهَارَتُهَا بِالتَّأْخِيرِ ، وَلَيْسَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ حَدَثٌ فَمُنِعَ مِنَ التَّأْخِيرِ . فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى تَيَمُّمٍ ثَانٍ ، وَالتَّيَمُّمُ الثَّانِي يَفْتَقِرُ إِلَى طَلَبٍ ثَانٍ ، وَالطَّلَبُ يَقْطَعُ الْجَمْعَ : لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْمُوَالَاةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ سَفَرٍ طَالَ أَوْ قَصُرَ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ سَفَرٍ طَالَ أَوْ قَصُرَ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَبِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ مِنْ حَالَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ ، فَإِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ ، وَصَلَاتُهُ بِهِ مُجْزِئَةٌ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا . وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ ، وَقَدْ حَكَاهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ بَلْ هُوَ مَنْصُوصٌ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ ، وَرَوَاهُ عَنْهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ ، وَلَعَلَّ حِكَايَةَ الْبُوَيْطِيِّ إِنْ صَحَّتْ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ فِي كُلِّ سَفَرٍ طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [ الْمَائِدَةِ : ] وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَيَمَّمُ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ مَرْبِضُ النَّعَمِ ، وَهُوَ يَرَى بُيُوتَ الْمَدِينَةِ ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ قَدْ يُوجَدُ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ كَمَا يُوجَدُ فِي طَوِيلِهِ ، فَاقْتَضَى جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِأَجْلِهِ فِي الْحَالَيْنِ . وَجُمْلَةُ الرُّخَصِ الْمُخْتَصَّةِ بِالسَّفَرِ سِتَّةٌ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ مِنْهَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ قَدْرَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : الْقَصْرُ ، وَالْفِطْرُ ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا . وَقِسْمٌ يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ وَهُوَ شَيْئَانِ التَّيَمُّمُ وَالتَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ .

وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ في السفر فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ كَالْفِطْرِ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ كَالنَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا فَرْقَ فِي التَّيَمُّمِ بَيْنَ طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ ، فَالسَّفَرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : وَاجِبٌ ، وَمُبَاحٌ ، وَمَعْصِيَةٌ : فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَكَسَفَرِ الْحَجِّ ، وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَكَسَفَرِ التِّجَارَةِ ، التَّيَمُّمُ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي الْحَالَيْنِ صَحِيحٌ ، وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ التيمم وإعادة الصلاة في سفر المعصية فَكَسَفَرِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَإِذَا عُدِمَ فِيهِ الْمَاءُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ، وَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، لِأَنَّ الْعَاصِيَ لَا يُتَرَخَّصُ كَمَا لَا يَقْصُرُ ، وَلَا يُفْطِرُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي السَّفَرِ فَرْضٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَلَيْسَ كَالرُّخْصَةِ بِالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ الَّذِي هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ . وَالْعَاصِي يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ مَعَ مَعْصِيَتِهِ ، وَأَمَّا الْعَادِمُ لِلْمَاءِ فِي الْحَضَرِ تيممه وصلاته كَالْقَرْيَةِ الَّتِي مَاؤُهَا مِنْ بِئْرٍ تَغُورُ أَوْ عَيْنٍ تَغِيضُ أَوْ نَهْرٍ يَنْقَطِعُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ فِي الْحَضَرِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ ثُمَّ يُعِيدُ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ وَلَا يُصَلِّي فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ اسْتَعْمَلَهُ وَصَلَّى ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ زُفَرَ عَنْهُ ، وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ مِثْلَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا بِالتَّيَمُّمِ كَالْمُسَافِرِ ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ إِذَا لَزِمَتْ فِي السَّفَرِ سَقَطَ بِهَا الْفَرْضُ فَوَجَبَ إِذَا لَزِمَتْ فِي الْحَضَرِ أَنْ يَسْقُطَ بِهَا الْفَرْضُ كَالْوُضُوءِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَجَعَلَ لِلتَّيَمُّمِ شَرْطَيْنِ : هُمَا السَّفَرُ وَالْمَرَضُ ، فَلَمْ يُسْقِطِ الْفَرْضَ إِلَّا بِهِمَا لِيَكُونَ لِلشَّرْطِ فَائِدَةٌ ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ شَرْطٌ أُبِيحَ التَّيَمُّمُ لِأَجْلِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ الْفَرْضُ بِعَقْدِهِ كَالْمَرَضِ ، وَلِأَنَّهُ مُقِيمٌ صَحِيحٌ ، فَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهُ بِالتَّيَمُّمِ كَالْوَاجِدِ لِلْمَاءِ ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي الْحَضَرِ عُذْرٌ نَادِرٌ : لِأَنَّ الْأَوْطَانَ لَا تُبْنَى عَلَى غَيْرِ مَاءٍ ، وَعَدَمُهُ فِي السَّفَرِ عُذْرٌ عَامٌ وَالْأَعْذَارُ الْعَامَّةُ إِذَا سَقَطَ الْفَرْضُ بِهَا لَمْ تُوجِبْ سُقُوطَ الْفَرْضِ بِالنَّادِرِ مِنْهَا كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ وَالتُّرَابِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمُسَافِرِ فَالْمَعْنَى فِي السَّفَرِ أَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي عُذْرٍ عَامٌّ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوُضُوءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ ارْتِفَاعُ الضَّرُورَةِ عَنْهُ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [ الْمَائِدَةِ : ] . وَهَذَا لَيْسَ بِمَرِيضٍ وَلَا مُسَافِرٍ ، قَالَ : وَلِأَنَّهُ تَيَمُّمٌ لَا يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ كَالتَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ النَّجَسِ ، وَلِأَنَّهُ مُقِيمٌ سَلِيمٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّيَمُّمُ كَالْوَاجِدِ لِلْمَاءِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا تُؤَدَّى فَرْضًا ، فَلَمْ يَلْزَمْ فِعْلُهَا كَصَلَاةِ الْحَائِضِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [ الْمَائِدَةِ : ] وَهَذَا غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا ذَرٍّ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالرَّبَذَةِ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَكَانَتْ وَطَنًا ، وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ إِدْرَاكَ الْوَقْتِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَالْمُسَافِرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَوْ حَدَثَ فِي السَّفَرِ أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ فَإِذَا حَدَثَ فِي الْحَضَرِ أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ كَالْمَرَضِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَجْزٍ لَوْ حَصَلَ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ لَمْ يَسْقُطْ فِعْلُهَا فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ فِعْلُهَا فِي الْحَضَرِ ، كَالْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ وَالثَّوْبِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ عَجَزَ عَنْ فِعْلِهَا بِالْمَاءِ فَجَازَ لَهُ فِعْلُهَا بِالتُّرَابِ ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَإِنَّمَا جُعِلَ السَّفَرُ شَرْطًا فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ لَا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى التُّرَابِ النَّجَسِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي التُّرَابِ النَّجَسِ أَنَّهُ لَمَّا يَلْزَمِ اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ لَهُ يَلْزَمُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَضَرِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوَاجِدِ لِلْمَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ أَعْلَى الطَّهَارَتَيْنِ سَقَطَ عَنْهُ أَدْنَاهُمَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَادِمُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحَائِضِ فَهُوَ أَنَّ الْحَائِضَ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهَا فَرْضٌ لَمْ يَلْزَمْهَا النَّفْلُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَادِمُ ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ جَمِيعُ التَّكْلِيفِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ لَا يَرَى أَنَّ يَوْمَهُ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَصُومُ وَيَقْضِي وَلَوْ أَفْسَدَ حَجَّهُ مَضَى فِيهِ وَقَضَاهُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَادِمُ لِلْمَاءِ وَالتُّرَابِ مَعًا صلاته فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَيُعِيدَ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا فِي الْحَالِ وَاجِبًا وَإِعَادَتُهَا وَاجِبَةً ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ ، وَالْإِمْلَاءِ : يُصَلِّي فِي الْحَالِ اسْتِحْبَابًا وَيُعِيدُهَا وَاجِبًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الطَّهَارَةِ فَيَتَطَهَّرَ وَيُصَلِّيَ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ " فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجُوزَ افْتِتَاحُهَا بِغَيْرِ وُضُوءٍ قَالَ : وَلِأَنَّ عَدَمَ الطَّهَارَةِ أَصْلًا وَبَدَلًا يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الصَّلَاةِ كَالْحَائِضِ : قَالَ : وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ بِفِعْلِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْيَانُ بِهَا كَالْمُحْدِثِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [ الْإِسْرَاءِ : ] وَلَمْ يُفَرِّقْ ، وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالصَّلَاةِ عَدِمَ شَرْطًا مِنْ شَرَائِطِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ فِعْلُهَا كَالْعُرْيَانِ ،

وَلِأَنَّهُ تَطْهِيرٌ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ لَزِمَهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ عَجَزَ عَنْ إِزَالَتِهَا بِالْمَاءِ ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِفَقْدِ الْمَاءِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ تَطْهِيرِ الْحَدَثِ بِالتُّرَابِ وَالْمَاءِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَتَيْنِ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا شَرْطًا فِي أَدَاءِ الْأُخْرَى عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهَا لَمْ يَكُنِ الْعَجْزُ عَنِ الشَّرْطِ مُسْقِطًا فَرْضَ الْمَشْرُوطِ لَهَا كَالتَّوَجُّهِ وَالْقِرَاءَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ " فَهُوَ أَنَّ لَفْظَهُ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْخَبَرِ فَمَعْنَاهُ مَضَى الْأَمْرُ وَالْأَوَامِرُ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُطِيقِ لَهَا ، فَصَارَ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْمُرَادِ بِهِ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَائِضِ ، فَالْمَعْنَى فِيهَا : أَنَّهَا لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهَا فَرْضٌ لَمْ يَلْزَمْهَا فِعْلُهَا ، وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ الْمُحْدِثُ ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَاجِدِ لِلْمَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهَا بِالطَّهَارَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْهَا .

فَصْلٌ : إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ فِي سَفَرِهِ مُقَامَ أَرْبَعٍ ثُمَّ عَدِمَ الْمَاءَ فِي مَقَامِهِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ، نَظَرَ ، فَإِنْ كَانَ وَقْتُ عَدَمِهِ فِي وَطَنٍ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ كَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ فِي مِصْرٍ : لِأَنَّ الْأَوْطَانَ لَا تُبْنَى إِلَّا عَلَى مَاءٍ وَإِنْ كَانَ وَقْتُ عَدَمِهِ فِي غَيْرِ وَطَنٍ ، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَرَضُ هُوَ الْحَالُ الثَّانِيَةُ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى التَّيَمُّمَ فِيهَا

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا يَتَيَمَّمُ مَرِيضٌ فِي شِتَاءٍ وَلَا صَيْفٍ إِلَّا مَنْ بِهِ قَرْحٌ لَهُ غَوْرٌ وِبِهِ ضَنًى مِنْ مَرَضٍ يَخَافُ أَنْ يَمَسَّهُ الْمَاءُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ التَّلَفُ ، أَوْ يَكُونَ مِنْهُ الْمَرَضُ الْمُخَوِّفُ لَا لِشَيْنٍ وَلَا لِإِبْطَاءِ بُرْءٍ ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : يَتَيَمَّمُ إِذَا خَافَ إِنْ مَسَّهُ الْمَاءُ شِدَّةَ الضَّنَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَالْمَرَضُ هُوَ الْحَالُ الثَّانِيَةُ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى التَّيَمُّمَ فِيهَا ، وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي الْمَرَضِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي الْمَرَضِ إِلَّا مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [ الْمَائِدَةِ : ] إِلَى قَوْلِهِ : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا فَلَمَّا كَانَ عَدَمُ الْمَاءِ فِي السَّفَرِ شَرْطًا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ كَذَلِكَ فِي الْمَرَضِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَاسْمُهُ - أَسْعَدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا فِي سَرِيَّةٍ فَأَصَابَهُ

كَلْمٌ وَأَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ فَصَلَّى وَلَمْ يَغْتَسِلْ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ فَعَابَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَجَاءَ فَأَخْبَرَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفَرْضُ يَتَغَيَّرُ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ التَّلَفِ كَالْمُسَافِرِ يُفْطِرُ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ ، وَالْمَرِيضِ يُفْطِرُ ، وَتَرْكِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فَلَأَنْ يَتَغَيَّرَ الْفَرْضُ لِخَوْفِ التَّلَفِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَوْلَى .

فَصْلٌ أَقْسَامُ الْمَرَضِ

فَصْلٌ : أَقْسَامُ الْمَرَضِ فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ فِي الْمَرَضِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فَالْمَرَضُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ من أقسام المرض بالنسبة للتيمم - أَنْ لَا يَكُونَ يَسْتَضِرُّ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ كَالْيَسِيرِ مِنَ الْحُمَّى وَوَجَعِ الضِّرْسِ أَوْ نُفُورِ الطِّحَالِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ : يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [ الْمَائِدَةِ : ] لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ التَّيَمُّمَ فِي حَالَتَيْنِ مِنْ مَرَضٍ وَسَفَرٍ ، فَلَمَّا جَازَ فِي قَلِيلِ السَّفَرِ وَكَثِيرِهِ ، جَازَ فِي قَلِيلِ الْمَرَضِ وَكَثِيرِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ وَالْأَذَى وَخَوْفِ التَّلَفِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِذَا أَمِنَ مِنَ الْخَوْفِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ارْتَفَعَتِ الْإِبَاحَةُ ، وَعَادَ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ : وَلِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ لَا يَسْتَضِرُّ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالصَّحِيحِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِطْلَاقِ الْآيَةِ فَهُوَ إِضْمَارُ الْفُرُوقِ فِيهَا ، وَإِضْمَارُ الضَّرُورَةِ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ الِاسْتِضْرَارِ بِالْمَاءِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السَّفَرِ فَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ يَجُوزُ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِلَّا أَنَّ الضَّرُورَةَ فِي السَّفَرِ عَدَمُ الْمَاءِ ، فَاسْتَوَى حُكْمُ طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ ، وَالضَّرُورَةُ فِي الْمَرَضِ حُدُوثُ الْأَذَى وَالِاسْتِضْرَارِ بِالْمَاءِ فَافْتَرَقَ حُكْمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ . فَصْلٌ : [ الْقِسْمُ الثَّانِي ] : وَالْقِسْمُ الثَّانِي من أقسام المرض بالنسبة للتيمم مِنَ الْمَرَضِ أَنْ يَخَافَ التَّلَفَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ سَوَاءً كَانَ قُرُوحًا أَوْ جِرَاحًا أَوْ كَانَ غَيْرَ قُرُوحٍ وَلَا جِرَاحٍ ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِلَّا مِنَ الْقُرُوحِ وَالْجِرَاحِ ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنْ شِدَّةِ الضَّنَا فَلَا ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى [ الْمَائِدَةِ : ] وَلِأَنَّهُ مَرِيضٌ يَخَافُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ التَّلَفَ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالْمَجْرُوحِ وَالْمَقْرُوحِ ، فَإِذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِذَا صَحَّ وَبَرَأَ كَالْعَادِمِ سَوَاءً .

فَصْلٌ : [ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ] وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ من أقسام المرض بالنسبة للتيمم مِنَ الْمَرَضِ أَنْ يَخَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ شِدَّةَ الْأَلَمِ وَتَطَاوُلَ الْبُرْءِ وَيَأْمَنَ التَّلَفَ ، فَفِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ ، وَالْبُوَيْطِيُّ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى [ الْمَائِدَةِ : ] وَلِأَنَّهُ مَرِيضٌ يَسْتَضِرُّ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ تيممه فَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالَّذِي يَخَافُ التَّلَفَ ، وَلِأَنَّ رُخَصَ الْمَرَضِ تُسْتَبَاحُ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ لَا لُحُوقِ التَّلَفِ ، كَالْمَرِيضِ يُفْطِرُ وَيَتْرُكُ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ ، فَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِذَا بُذِلَ لَهُ الْمَاءُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ لِمَا يُقَابِلُهُ مِنَ الضَّرَرِ فِي مَالِهِ ، فَلَأَنْ يَجُوزَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الضَّرَرِ فِي نَفْسِهِ أَوْلَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ هَاهُنَا وَفِي الْأُمِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ ، وَوَجْهُهُ : أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمَاءِ لَا يَخَافُ التَّلَفَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالَّذِي بِهِ صُدَاعٌ أَوْ حُمَّى ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنَى أَنْ يُسْتَبَاحَ بِهِ التَّيَمُّمُ ، فَهُوَ مَشْرُوطٌ لِخَوْفِ التَّلَفِ كَالْعَطَشِ وَالْمَرَضِ سَوَاءً ، فَكَانَ أَصَحَّ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا خَافَ الْعَطْشَانُ مِنِ اسْتِعْمَالِ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ شِدَّةَ الضَّرَرِ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَمَا لَوْ خَافَ التَّلَفَ ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَصَحُّ . فَصْلٌ : [ الْقِسْمُ الرَّابِعُ ] وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ من أقسام المرض بالنسبة للتيمم مِنَ الْمَرَضِ أَنْ يَخَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَيَنْدُرُ الشَّيْنُ وَالشَّلَلُ وَيَأْمَنُ التَّلَفَ وَشِدَّةَ الْأَلَمِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يُخَرِّجُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْقِسْمِ الثَّالِثِ سَوَاءً ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ ، وَأَبُو سَعِيدٍ يَقُولَانِ يَتَيَمَّمُ قَوْلًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ مَا مَضَى ، لِأَنَّ ضَرَرَ هَذَا مُتَأَبِّدٌ وَضَرَرَ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَأَبِّدٍ ، وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يَقُولُ يَتَيَمَّمُ فِي الشَّلَلِ وَلَا يَتَيَمَّمُ فِي الشَّيْنِ : لِأَنَّ فِي الشَّلَلِ إِبْطَالًا لِلْعُضْوِ ، وَفِي الشَّيْنِ قُبْحُهُ ، فَكَانَ الشَّيْنُ ضَرَرًا وَلَمْ يَكُنِ الشَّلَلُ ضَرَرًا .

فَصْلٌ التَّيَمُّمُ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ

فَصْلٌ : [ التَّيَمُّمُ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ ] فَأَمَّا إِذَا خَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ التَّلَفَ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ لَا لِلْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِسْخَانِ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ : لِأَنَّهُ يَقْدِرُ بَعْدَ إِسْخَانِ الْمَاءِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِحِرَاسَةِ نَفْسِهِ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ الْحَجِّ : ] . وَلِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ وَأَنَا فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِذِ

اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا عَمْرٌو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [ النِّسَاءِ : ] فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ فِيَّ شَيْئًا . فَإِذَا تَقَرَّرَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّيَمُّمِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فَإِنْ كَانَ فِي حَضَرٍ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ : لِأَنَّ تَعَذُّرَ إِسْخَانِ الْمَاءِ فِي الْحَضَرِ نَادِرٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إِنْ كَانَ مُقِيمًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا قِيلَ : بِسُقُوطِ الْإِعَادَةِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُسَافِرِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُسَافِرِ وَالْحَاضِرِ فَوَجْهُ مَا حَكَيْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَلَوْ وَجَبَتْ لَأَبَانَهَا مَعَ حَاجَةِ عَمْرٍو إِلَى مَعْرِفَتِهَا ، وَلِأَنَّ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْمَاءِ بِالتَّيَمُّمِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ بِالتَّيَمُّمِ كَالْمَرِيضِ الْعَاجِزِ ، وَالْعَادِمِ الْمُسَافِرِ . فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ فِي الْحَاضِرِ ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُسَافِرِ فَوَجْهُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [ الْمَائِدَةِ : ] وَهَذَا لَيْسَ بِمَرِيضٍ وَلَا مُسَافِرٍ عَادِمٍ ، وَلِأَنَّ الْأَعْذَارَ النَّادِرَةَ لَا تَسْقُطُ مَعَهَا الْإِعَادَةُ كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالْأَعْذَارُ الْعَامَّةُ يَسْقُطُ مَعَهَا الْإِعَادَةُ كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ فِي السَّفَرِ وَكَالْمَرِيضِ فِي الْحَضَرِ ، وَتَعَذُّرُ إِسْخَانِ الْمَاءِ فِي الْبَرْدِ وَالْخَوْفِ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ مِنَ الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ مَعَهُ الْإِعَادَةُ ، فَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرٍو فَإِنْكَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ ثُمَّ وَكَّلَهُ فِي تَصْرِيحِ الْأَمْرِ بِهِ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ عِلْمِهِ ، إِذْ قَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا اسْتَبَاحَهُ مِنَ التَّيَمُّمِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مُوجِبُهُ وَالْمَرَضُ وَالسَّفَرُ مِنَ الْأَعْذَارِ الْعَامَّةِ .

مَسْأَلَةٌ حُكْمُ تَيَمُّمِ مَنْ بِبَعْضِ جَسَدِهِ قُرْحٌ أَوْ جُرْحٌ

مَسْأَلَةٌ : حُكْمُ تَيَمُّمِ مَنْ بِبَعْضِ جَسَدِهِ قُرْحٌ أَوْ جُرْحٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ جَسَدِهِ دُونَ بَعْضٍ غَسَلَ مِمَّا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ وَتَيَمَّمَ لَا يُجْزِئُهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَصُورَتُهَا : فِي رَجُلٍ بَعْضُ جَسَدِهِ جَرِيحٌ أَوْ قَرِيحٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ مَا صَحَّ مِنْ جَسَدِهِ وَيَتَيَمَّمُ فِي وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ بَدَلًا مِنَ الْجَرِيحِ وَالْقَرِيحِ ، هَذَا مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَقَالَ فِيمَنْ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِجَمِيعِ جَسَدِهِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ . وَالثَّانِي : يَقْتَصِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ وَحْدَهُ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صَاحِبِ الْقُرُوحِ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجَانِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا ، كَالْوَاجِدِ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْعَاجِزِ عَنْ بَعْضِ طَهَارَتِهِ لِعَدَمٍ وَبَيْنَ الْعَاجِزِ عَنْ طَهَارَتِهِ لِمَرَضٍ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ صَاحِبَ الْقُرُوحِ يَلْزَمُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاجِدِ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ قَوْلَانِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَجْزَ إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْمُسْتَعْمَلِ سَقَطَ حُكْمُ الْمَوْجُودِ مِنْهُ كَالْوَاجِدِ بَعْضَ الرَّقَبَةِ لَا يَلْزَمُهُ عِتْقُهَا ، وَكَذَلِكَ الْوَاجِدُ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ ، وَالْعَجْزُ إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْفَاعِلِ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْمَعْذُورِ مِنْهُ كَالْمُكَفِّرِ بِنِصْفِ الْحُرِّ إِذَا كَانَ مُوسِرًا بِالرَّقَبَةِ لَزِمَهُ عِتْقُهَا وَلَا يَكُونُ عَجْزُهُ بِنِصْفِهِ الْمَرْقُوقِ مُسْقِطًا لِحُكْمِ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ ، كَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي بَعْضِ جَسَدِهِ لَا يَسْقُطُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ جَسَدِهِ وَكَذَا الْمُحْدِثُ فِي أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ مِنْ جَسَدِهِ أَوْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ قَرِيحًا تيممه تَيَمَّمَ وَلَمْ يَغْتَسِلْ ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ صَحِيحًا غَسَلَ الصَّحِيحَ ، وَلَمْ يَتَيَمَّمْ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَغْلَبَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ وَمَا لَيْسَ بِغَالِبٍ تَبَعٌ ، قَالَ : وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ لَا يَجِبُ كَالصَّوْمِ وَالرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ . وَدَلِيلُنَا عَلَى وُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : " خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَقَالَ : هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ : قَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا فِإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ " وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي

الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْ إِيصَالِهِ إِلَى مَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ ، قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا كَانَ عَادِمًا لِبَعْضِ أَعْضَائِهِ ، وَلِأَنَّ تَطْهِيرَ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِالْمَاءِ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الطُّهْرِ عَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْمَاءُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْأَعْضَاءِ ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ يُعْفَ فِيهَا إِلَّا عَنْ قَدْرِ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلٌ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْضَحُ وَهُوَ الْوَاجِدُ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ مَعَهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْأَغْلَبِ ، فَهُوَ أَنَّهُ أَصْلٌ لَا يُعْتَبَرُ فِي الطَّهَارَاتِ ، أَلَا تَرَى لَوْ غَسَلَ أَكْثَرَ جَسَدِهِ مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ أَكْثَرَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ مِنْ حَدَثِهِ لَمْ يُجْزِهِ تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ ، فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ ، فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلُ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْمَاءُ فَلَمْ يَجُزْ جَمْعًا فِي مَحَلٍّ بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - .

فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ تَيَمُّمِ مَنْ بِبَعْضِ جَسَدِهِ قُرْحٌ

فَصْلٌ : [ كَيْفِيَّةُ تَيَمُّمِ مَنْ بِبَعْضِ جَسَدِهِ قُرْحٌ ] فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَوَّلًا فِيمَا صَحَّ مِنْ بَدَنِهِ إِنْ كَانَ جُنُبًا أَوْ فِيمَا صَحَّ مِنْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا ثُمَّ يَتَيَمَّمُ فِي وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ بَدَلًا مِنَ الْقَرِيحِ فِي أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ ، فَلَوْ كَانَ الْقَرِيحُ مِنْ أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ وَكَانَ يَخَافُ أَنْ يُوصِلَ التُّرَابَ إِلَى أَفْوَاهِ قُرُوحِهِ أَمَرَّ التُّرَابَ عَلَى مَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ ، فَلَوْ كَانَ مُحْدِثًا وَوَجْهُهُ وَذِرَاعَاهُ صَحِيحَانِ وَرَأْسُهُ وَرِجْلَاهُ قَرِيحَيْنِ في التيمم غَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ بَدَلًا مِنْ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ : لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ فَلَوْ قَدَّمَ هَذَا الْقَرِيحُ التَّيَمُّمَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ جَازَ ، وَكَانَ عَادِلًا عَنِ الْأَوْلَى بِخِلَافِ الْوَاجِدِ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَيَمُّمَ الْقَرِيحِ لِعَجْزِ الْمَرَضِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَتَيَمُّمَ الْوَاجِدِ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ ، إِنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ الْمَاءِ ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِذَا فَرَغَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَعْضَائِهِ ، وَالتَّيَمُّمِ بَدَلًا مِنْ قَرِيحِ أَعْضَائِهِ صَلَّى بِهَذِهِ الطَّهَارَةِ الْفَرِيضَةَ ، وَمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ وَلَا يُصَلِّي فَرِيضَةً ثَانِيَةً : لِأَنَّ طَهَارَةَ الضَّرُورَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بِهَا بَيْنَ فَرْضَيْنِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِلْفَرِيضَةِ الثَّانِيَةِ أَعَادَ التَّيَمُّمَ وَحْدَهُ وَلَمْ يُعِدِ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ مَا لَمْ يُحْدِثْ : لِأَنَّ مَا اسْتَعْمَلَهُ مِنَ الْمَاءِ تَطْهِيرٌ لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعِيدَهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ وَالتَّيَمُّمُ تَطْهِيرٌ لِفَرْضٍ وَاحِدٍ فَلَزِمَهُ إِعَادَتُهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ أَحْدَثَ أَعَادَ الطَّهَارَتَيْنِ مَعًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا وَالْمَاءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ أَعْضَاءِ حَدَثِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ غَسْلِهِ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ : لِأَنَّ طُهْرَ الْجَنَابَةِ لَا يَنْتَقِضُ بِالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ .

مَسْأَلَةٌ حُكْمُ مَنْ كَانَ عَلَى قُرْحِهِ دَمٌ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110