كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

أَنَّ آخِرَ مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ ، وَدَاوَمَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيَخْتَارُ أَنْ يُصَلِّيَهَا ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ عدد ركعات صلاة الضحى اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَوَقْتُهَا صلاة الضحى فِي الِاخْتِيَارِ إِذَا مَضَى مِنَ النَّهَارِ رُبُعُهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَعِشَاءِ الْآخِرَةِ عِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَيَقُولُ : " هَذِهِ صَلَاةُ الْأَوَّلِينَ فَمَنْ صَلَّاهَا غُفِرَ لَهُ وَكَانَ الصَّالِحُونَ مِنَ السَّلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُصَلُّونَهَا ، وَيُسَمُّونَهَا صَلَاةَ الْغَفْلَةِ أَيِّ النَّاسُ غَفَلُوا عَنْهَا وَتَشَاغَلُوا بِالْعَشَاءِ وَالنَّوْمِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخْتَارٌ ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا أَفْضَلُ ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [ الْعَنْكَبُوتِ : ] . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ فَيُخْتَارُ فَضْلُ الدَّوَامِ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُعِينٌ .

الْقَوْلُ فِي قَضَاءِ الْوِتْرِ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ

الْقَوْلُ فِي قَضَاءِ الْوِتْرِ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ فَاتَهُ الْوِتْرُ حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ لَمْ يَقْضِ . قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الْوِتْرُ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ وَإِنْ فَاتَهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ حَتَّى تُقَامَ الظُّهْرُ لَمْ يَقْضِ ، لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . أَمَّا إِذَا نَسِيَ الْوِتْرَ ، وَذَكَرَهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيُصَلِّيهَا وَتَكُونُ أَدَاءً لَا قَضَاءً ، فَأَمَّا إِذَا نَسِيَ الْوِتْرَ ، وَذَكَرَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، أَوْ نَسِيَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، ثُمَّ ذَكَرَهَا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَقْضِي وَنَقَلَهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عُمُومُهُ عَلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ : يَقْضِي ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَأَجَابَ عَمَّا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ قَوْلِهِ : " لَا يُقْضَى بِجَوَابَيْنِ " : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ أَوْجَبَ قَضَاءَ الْوِتْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَإِعَادَةَ الصُّبْحِ وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلَيْنِ لَهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيهِمَا وَهُمَا . الْأَوَّلُ : إِيجَابُ الْوِتْرِ . وَالثَّانِي : إِيجَابُ تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ . فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَا يَقْضِي " . يَعْنِي : وَاجِبًا ، فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِحْبَابِ ، فَيَقْضِي وَلَوْ بَعْدَ نَوْمٍ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ صَلَاةَ وِتْرٍ ، وَرَكْعَتَيْ فَجْرٍ فَهَذَا جَوَابٌ .

وَالْجَوَابُ الثَّانِي : وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْأَوَّلِ : أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِقَضَاءِ ذَلِكَ أَمْرًا لَازِمًا مِنْ أَجْلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " الْوِتْرُ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ " . وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ فَصَرَفَ وُجُوبَ الْقَضَاءِ مِنْ أَجْلِ هَذَا ، وَأَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بِالْفَرْضِ أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنَ النَّفْلِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْفَرْضِ ، فَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : فِي قَضَاءِ الْوِتْرِ بَعْدَ الْفَجْرِ ، وَرَكْعَتَيِ الصُّبْحِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَا تُقْضَى . وَوَجْهُهُ : أَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْكُسُوفِ ، وَالْخُسُوفِ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إِنَّمَا تُفْعَلُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْوَقْتِ ، أَوْ لِتَعَلُّقِهَا بِالذِّمَّةِ ، أَوْ تَبَعًا لِفِعْلِ فَرِيضَةٍ ، وَالْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ لَمْ يَتَعَلَّقَا بِالْوَقْتِ ، وَلِأَنَّ وَقْتَيْهِمَا قَدْ فَاتَا وَهِيَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالذِّمَّةِ ، لِأَنَّ النَّافِلَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ ، وَلَيْسَ يُفْعَلَانِ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ ، لِأَنَّ مَتْبُوعَهَا قَدْ سَقَطَ فَعُلِمَ أَنَّهُمَا لَا يُفْعَلَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تُقْضَى وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَوَجْهُهُ عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا وَقْتٌ رَاتِبٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْفَرَائِضِ فَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، فَإِذَا أَكْمَلَ فَرْضَهُ رَكَعَهُمَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَرْكَعْهُمَا قَبْلَ فَرْضِهِ ، وَهَذَا غَلَطٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ فَأَمَّا إِذَا قِيلَ : لَا يَقْضِي ، فَهَلْ يَسْقُطُ فِعْلُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى ، أَوْ بِدُخُولِ وَقْتِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِدُخُولِ الْوَقْتِ ، فَعَلَى هَذَا تَسْقُطُ صَلَاةُ الْوِتْرِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ . وَالثَّانِي لَا : بِفِعْلِ الصَّلَاةِ ، فَعَلَى هَذَا يُصَلِّي الْوِتْرَ بَعْدَ الْفَجْرِ ، وَقَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَإِذَا صَلَّاهَا سَقَطَ فِعْلُ الْوِتْرِ ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَإِذَا صَلَّاهَا سَقَطَ فِعْلُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَفِي ذَلِكَ دَلَالَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّوَافِلَ مَثْنَى مَثْنَى ، بِسَلَامٍ مَقْطُوعَةٍ ، وَالْمَكْتُوبَةُ مَوْصُولَةٌ ، وَالْأُخْرَى أَنَّ الْوِتْرَ وَاحِدَةٌ فَيُصَلِّي النَّافِلَةَ مَثْنَى مَثْنَى قَائِمًا وَقَاعِدًا إِذَا كَانَ

مُقِيمًا وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَحَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ دَابَّتُهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْوِتْرَ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . الْقَوْلُ فِي كَيْفِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ الْأَفْضَلُ فِي نَوَافِلِ اللَّيْلِ ، وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى ، يَقْطَعُ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ ، بِسَلَامٍ ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ مَا بَعْدَهُمَا بِإِحْرَامٍ ، وَأَيَّ عَدَدٍ صَلَّى بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ ، وَلَا يُكْرَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْأَفْضَلُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَرْبَعًا بِسَلَامٍ ، وَآكَدُهُ أَنْ يَزِيدَ فِي النَّهَارِ عَلَى أَرْبَعٍ ، وَفِي اللَّيْلِ عَلَى ثَمَانٍ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا يُسَلِّمُ فِيهِنَّ إِلَّا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ يُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى مَالِكٌ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِنْ خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بِوَاحِدَةٍ قَبْلَهَا . وَرَوَى شُعْبَةُ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ ، عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثْنَى : أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي كُلِّ مَثْنَى ، قِيلَ : لَا يَكُونُ مَثْنَى إِلَّا بِسَلَامٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا جَمْعُ الصَّلَاةِ ، وَالصَّلَاةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَى سَلَامٍ وَإِحْرَامٍ . وَرَوَتْ عَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النَّوَافِلُ الْمَسْنُونَةُ فِي الْجَمَاعَةِ أَوْكَدَ ، وَكَانَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ اقْتَضَى وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يُسَنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّوَافِلِ أَفْضَلَهَا رَكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ مِنْ جِنْسِهَا ، وَلِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ غَالِبِ الْفَرَائِضِ وَبَيْنَهَا .

فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّنَا نَقُولُ إِنَّهَا تُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَنَقْلُ فِعْلٍ قَدْ رَوَيْنَا مَا يُعَارِضُهُ ، مَعَ قَوْلٍ يُعَارِضُهُ ، فَكَانَ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَوْلَى .

الْقَوْلُ فِي فِعْلِ النَّافِلَةِ قَاعِدًا

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي فِعْلِ النَّافِلَةِ قَاعِدًا فَأَمَّا صَلَاةُ النَّافِلَةِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ فَجَائِزٌ ، وَلَوْ صَلَّاهَا قَائِمًا فَكَانَ أَوْلَى ، وَلَوْ صَلَّاهَا قَائِمًا مُضْطَجِعًا مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ ، وَلَا سَفَرٍ جَازَ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلَاةُ الْقَاعِدِ فِي الْأَجْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ ، وَهَذَا وَارِدٌ فِي النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ دُونَ الْفَرْضِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ إِذَا صَلَّى قَاعِدًا حَسْبَ طَاقَتِهِ كَانَ كَالْمُصَلِّي قَاعِدًا فِي التَّمَامِ وَالْأَجْرِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا مِنْ أَحَدٍ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ عَمَلًا فَعَجَزَ عَنْهُ عِنْدَ مَرَضِهِ إِلَّا وَكَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مَلَكًا يَكْتُبُ لَهُ ثَوَابَ مَا تَرَكَ مِمَّا عَجَزَ عَنْهُ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ النَّوَافِلُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَأَمَّا قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ ، وَرَأَيْتُهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَقُومُونَ لِتِسْعٍ وَثَلَاثِينَ ، وَأَحَبُّ إِلَيَّ عِشْرُونَ ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ يَقُومُونَ بِمَكَّةَ وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْأَصْلُ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَهِيَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَجَمَعَهُمْ وَصَلَّى بِهِمْ ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ ، فَجَمَعَهُمْ ، وَصَلَّى بِهِمْ ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ انْتَظَرُوهُ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ ، فَصَلَّوْا مُتَفَرِّقِينَ ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ عَلِمْتُ بِاجْتِمَاعِكُمْ ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرْتُ لِأَنِّي خِفْتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَأَوَّلِ خِلَافَةِ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، يَجْمَعُ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلِّي بِهِمُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ ، وَالْعَشْرَ الثَّانِيَ ، وَيَتَخَلَّى لِنَفْسِهِ فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ ، إِلَى أَنْ قَرَّرَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا

سَمِعُوا قِرَاءَةً طَيِّبَةً تَبِعُوا ، فَقَالَ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، جَعَلْتُمُ الْقُرْآنَ أَغَانِيَ ، فَجَمَعَهُمْ إِلَى أُبَيٍّ ، فَصَارَتْ سُنَّةً قَائِمَةً ، ثُمَّ عَمِلَ بِهَا عُثْمَانُ ، وَعَلِيٌّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَالْأَئِمَّةُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ ، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ سُنَّةٍ سَنَّهَا إِمَامٌ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَثَبَتَ ، فَالَّذِي أَخْتَارُ عِشْرُونَ رَكْعَةً : خَمْسُ تَرْوِيحَاتٍ عدد ركعات قيام رمضان ، كُلُّ تَرْوِيحَةٍ شَفْعَانِ ، كُلُّ شَفْعٍ رَكْعَتَانِ بِسَلَامٍ ، ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ : لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً جَرَى بِهِ الْعَمَلُ وَعَلَيْهِ النَّاسُ بِمَكَّةَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَرَأَيْتُهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَقُومُونَ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً بِسَبْعِ تَرْوِيحَاتٍ ، وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ " ، وَإِنَّمَا خَالَفُوا أَهْلَ مَكَّةَ فِي ذَلِكَ ، وَزَادُوا فِي عَدَدِ رَكَعَاتِهِمْ : لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا إِذَا صَلَّوْا تَرْوِيحَةً طَافُوا سَبْعًا إِلَّا التَّرْوِيحَةَ الْخَامِسَةَ ، فَإِنَّهُمْ يُوتِرُونَ بَعْدَهَا ، وَلَا يَطُوفُونَ فَيَحْصُلُ لَهُمْ خَمْسُ تَرْوِيحَاتٍ ، وَأَرْبَعُ طَوَافَاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مُسَاوَاتُهُمْ فِي الطَّوَافِ الْأَرْبَعِ ، وَقَدْ سَاوَوْهُمْ فِي التَّرْوِيحَاتِ الْخَمْسِ جَعَلُوا مَكَانَ أَرْبَعِ طَوَافَاتٍ أَرْبَعَ تَرْوِيحَاتٍ زَوَائِدَ ، فَصَارَ لَهُمْ تِسْعُ تَرْوِيحَاتٍ ، تَكُونُ سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً لِتَكُونَ صَلَاتُهُمْ مُسَاوِيَةً لِصَلَاةِ أَهْلِ مَكَّةَ وَطَوَافِهِمْ ، وَقِيلَ : بَلْ كَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَانَ لَهُ تِسْعُ أَوْلَادٍ ، فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ جَمِيعَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ، فَقَدَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَصَلَّى تَرْوِيحَةً ، فَصَارَتْ سُنَّةً ، وَقِيلَ : بَلْ كَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ تِسْعَ قَبَائِلَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ سَارَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ ، وَاقْتَتَلُوا ، فَقَدَّمَ كُلُّ قَبِيلَةٍ رَجُلًا ، فَصَلَّى بِهِمْ تَرْوِيحَةً ، ثُمَّ صَارَتْ سُنَّةً ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " وَقِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ فَفِي النَّوَافِلِ الَّتِي تُفْعَلُ فُرَادَى مَا هُوَ أَوْكَدُ مِنْهُ ، وَذَلِكَ الْوِتْرُ ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَفْضَلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي انْفِرَادِهِ تَعْطِيلُ الْجَمَاعَةِ ، فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، لِرِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ . فَأَمَّا إِنْ تَعَطَّلَتِ الْجَمَاعَةُ بِانْفِرَادِهِ ، فَصَلَاتُهُ جَمَاعَةً أَفْضَلُ لِمَا فِي تَعْطِيلِهَا مِنْ إِطْفَاءِ نُورِ الْمَسَاجِدِ ، وَتَرْكِ السُّنَّةِ الْمَأْثُورَةِ .

الْقَوْلُ فِي قُنُوتِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ

مَسْأَلَةٌ : الْقَوْلُ فِي قُنُوتِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يَقْنُتُ إِلَّا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ ابْنُ عُمَرَ ، وَمُعَاذٌ الْقَارِي " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ .

وَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي جَمِيعِ الدَّهْرِ ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ . فَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ فَغَيْرُ سُنَّةٍ فِي شَيْءٍ مِنَ السَّنَةِ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْقُنُوتُ سُنَّةٌ فِي الْوِتْرِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيٍّ ، وَقَالَ : صَلِّ بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً ، وَلَا تَقْنُتْ بِهِمْ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ وَالْعَشْرِ الثَّانِي : وَتَخَلَّفَ فِي مَنْزِلِهِ فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ ، فَقَالُوا : ابْقَ أُبَيُّ ، وَقَدَّمُوا مُعَاذًا ، فَصَلَّى بِهِمْ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ وَقَنَتَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ عَلَى أَنَّ الْقُنُوتَ سُنَّةٌ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لَا غَيْرَ . فَأَمَّا رِوَايَتُهُمْ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ فِي الْوِتْرِ ، فَلَيْسَ بِثَابِتٍ لِأَنَّ أُبَيًّا لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ . قَالَ الْمُزَنِيُّ : سَأَلْنَا الشَّافِعِيَّ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ فَقَالَ : لَا يُحْفَظُ عَنْهُ قَطُّ ، وَحَسْبُكَ بِالشَّافِعِيِّ ، يَقُولُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ رُوِيَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةِ الشَّهْرِ حِينَ كَانَ يَقْنُتُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، ثُمَّ تَرَكَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَآخِرُ اللَّيْلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَإِنْ جَزَّأَ اللَّيْلَ أَثْلَاثًا فَالْأَوْسَطُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقُومَهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَحَبَّ الْمُصَلِّي أَنْ يُجَزِّئَ لَيْلَهُ جُزْأَيْنِ أَحَدُهُمَا : لِنَوْمِهِ ، أَوْ لِشُغْلِهِ وَالْآخَرُ لِصَلَاتِهِ ، فَالْجُزْءُ الْأَخِيرُ أَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يَجْعَلَهُ لِصَلَاتِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [ آلِ عِمْرَانَ : ] . وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَامَ بَعْدَ الْعِشَاءِ إِلَى أَنِ انْتَصَفَ اللَّيْلُ ، وَقَامَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى أَنْ جَاءَ بِلَالٌ وَلِأَنَّهُ إِذَا قَدَّمَ نَوْمَهُ كَانَ ذَلِكَ أَسْكَنَ لِجَسَدِهِ ، وَأَخْلَى لِقَلْبِهِ ، وَأَنْقَى لِرُوعِهِ ، وَأَمْكَنَ لَهُ فِي عَادَتِهِ ، وَأَمَّا إِنِ اخْتَارَ أَنْ يُجَزِّئَ لَيْلَهُ أَثْلَاثًا ، فَيَجْعَلُ ثُلُثًا لِنَوْمِهِ ، وَثُلُثًا لِصَلَاتِهِ ، وَثُلُثًا لِنَظَرِهِ فِي أَمْرِهِ ، فَالثُّلُثُ الْأَوْسَطُ أَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يَجْعَلَهُ لِصَلَاتِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [ الْمُزَّمِّلِ : ] ، يَعْنِي : نَاشِئَةَ مَا تَنْشَأُ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ : الصَّلَاةُ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ يَعْنِي : الْأَسْوَدَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا ، وَيُفْطِرُ

يَوْمًا ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ أَخِي دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ الثُّلُثَ ، وَيَقُومُ النِّصْفَ ، وَيَنَامُ السُّدُسَ وَلِأَنَّ أَوْسَطَ اللَّيْلِ أَهْدَأَهُ ، وَأَخْلَاهُ فَلِذَلِكَ مَا اخْتَرْنَاهُ .

الْقَوْلُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ

مَسْأَلَةٌ : الْقَوْلُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " قُلْتُ أَنَا فِي كِتَابِ اخْتِلَافِهِ وَمَالِكٍ : قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ : يَجُوزُ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَالَّذِي أَخْتَارُهُ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ ، وَالْحُجَّةُ فِي الْوِتْرِ بِوَاحِدَةٍ السُّنَّةُ وَالْآثَارُ . رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ ، وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الْوِتْرِ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ ، وَأَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ بِرَكْعَةٍ هِيَ وِتْرُهُ ، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ ، وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَصَابَ ، ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قُلْتُ أَنَا : فَهَذَا بِهِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ ، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَالِكٍ قَوْلَهُ : لَا يُحِبُّ أَنْ يُوتِرَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، وَيُسَلِّمَ بَيْنَ الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الْوِتْرِ . وَاحْتَجَّ بِأَنَّ مَنْ سَلَّمَ مِنَ اثْنَتَيْنِ فَقَدْ فَصَلَهُمَا مِمَّا بَعْدَهُمَا ، وَأَنْكَرَ عَلَى الْكُوفِيِّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ كَالْمَغْرِبِ ، فَالْوِتْرُ بِوَاحِدَةٍ أَوْلَى بِهِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَلَا أَعْلَمُ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ مَوْضِعَ الْقُنُوتِ مِنَ الْوِتْرِ وَيُشْبِهُ قَوْلُهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ كَمَا قَالَ فِي قُنُوتِ الصُّبْحِ ، وَلَمَّا كَانَ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَقُولُ : " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " . وَهُوَ دُعَاءٌ كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ بِالْقُنُوتِ الَّذِي هُوَ دُعَاءٌ أَشْبَهَ ، وَلِأَنَّ مَنْ قَالَ : يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُكَبِّرَ قَائِمًا ثُمَّ يَدْعُو ، وَإِنَّمَا حُكْمُ مَنْ كَبَّرَ بَعْدَ الْقِيَامِ إِنَّمَا هُوَ لِلرُّكُوعِ فَهَذِهِ تَكْبِيرَةٌ زَائِدَةٌ فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَثْبُتْ بِأَصْلٍ وَلَا قِيَاسٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . أَقَلُّ الْوِتْرِ عِنْدَنَا رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَكْثَرُهُ أَحَدَ عَشَرَ رَكْعَةً ، فَإِنْ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ ، أَوْ ثَلَاثٍ ، أَوْ خَمْسٍ ، أَوْ سَبْعٍ ، أَوْ تِسْعٍ ، أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ مَوْصُولَةٍ بِتَسْلِيمَةٍ أَجَزَأَهُ ، أَوْ مَفْصُولَةٍ بِتَسْلِيمَتَيْنِ جَازَ ، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً مَفْصُولَةً بِتَسْلِيمَتَيْنِ ، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ اثْنَتَيْنِ ، وَيُوتِرُ بِالْأَخِيرَةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ . وَقَالَ مَالِكٌ : أَقَلُّ الْوِتْرِ ثَلَاثَةٌ لَكِنْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهَا ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ فَصَلُّوا وِتْرَ اللَّيْلِ فَأَمَرَ أَنْ يَكُونَ الْوِتْرَ عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ ، وَبِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ الْبَتْرَاءِ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ : وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَرُبَّمَا وَصَلُوهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ " . قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا قِيَاسًا عَلَى بَعْضِ رَكْعَةٍ . وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بِرَكْعَةٍ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَقُولُ هَذَا وِتْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيُوتِرْ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيُوتِرْ فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ ، وَعَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ تُجْزِئُ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ سَائِغٌ . وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ اثْنَتَيْنِ ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ فَدَلَّ مَا رَوَيْنَاهُ قَوْلًا ، وَفِعْلًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ كَانَ صَلَاةً جَازَ أَنْ يَكُونَ شَطْرُهُ صَلَاةً كَالْأَرْبَعِ ، وَلِأَنَّ أَقَلَّ نَوْعَيِ الْعَدَدِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ صَلَاةً ، كَالشَّفْعِ الَّذِي أَقَلُّهُ رَكْعَتَانِ ، وَلِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يُفْعَلَ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ صَلَاةً كَالرَّكْعَتَيْنِ . فَمَا تَعَلُّقُهُمْ بِمَا رَوَوْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ فَصَلُّوا وِتْرَ اللَّيْلِ فَحَدِيثُ مَجْهُولٍ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ ، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، فَإِنْ سَلِمَ لَهُمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْأَفْرَادِ دُونَ الْأَزْوَاجِ ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَسَاوِيَهُمَا فِي الْعَدَدِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ افْتِرَاقُهُمَا فِي غَيْرِ الْعَدَدِ إِذَا صَحَّ التَّشْرِيكُ بَيْنَهُمَا ، وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُعَارِضُهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثَةٍ ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْمَغْرِبِ وَأَوْتِرُوا بِخَمْسٍ ، أَوْ تِسْعٍ وَأَمَّا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ الْبَتْرَاءِ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ " فَمَحْمُولٌ عَلَى الْفَرْضِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ فِعْلِهِ ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى بَعْضِ الرَّكْعَةِ ، فَالْوَصْفُ بِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُمْ ، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ قَدْ تَكُونُ فَرْضًا إِذَا نَذَرَهَا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الرَّكْعَةِ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً بِانْفِرَادِهِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ . فَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إِنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثٌ بِسَلَامَيْنِ فَلَا وَجْهَ لَهُ ، لِأَنَّا لَا نَجِدُ فِي الشَّرْعِ صَلَاةً لَا يَكُونُ السَّلَامُ فِيهَا قَطْعًا ، فَإِنْ كَانَ مَالِكٌ يَعْنِي بِقَوْلِهِ إِنَّهَا ثَلَاثٌ لَا يُجَزِئُ أَقَلُّ مِنْهَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ الْوِتْرَ هِيَ الْمُفْرَدَةُ فَهُوَ كَقَوْلِنَا ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ رَكَعَاتٍ يُجْهَرُ فِيهَا كُلِّهَا بِالْقِرَاءَةِ ، فَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لَكَانَ مِنْ حُكْمِهَا أَنْ لَيْسَ فِي الثَّلَاثَةِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ ، وَكَالْمَغْرِبِ ، فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الرَّكْعَةَ الْمُفْرَدَةَ لَهَا حُكْمُ نَفْسِهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَهَا ، وَإِنْ وَصَلَ ذَلِكَ بِهَا لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّتِهَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْوِتْرُ عِنْدَكُمْ رَكْعَةً فَلِمَ لَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ تُبْطِلُهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، قِيلَ : لِظُهُورِ الْخِلَافِ فِيهَا ، وَوُرُودِ السُّنَّةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا . وَرُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْهُنَّ بِخَمْسٍ لَا يَجْلِسُ إِلَّا فِي الْخَامِسَةِ . فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَظَرَ إِلَى الشَّافِعِيِّ قَدْ قَالَ فِي مَوَاضِعَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ ، وَحُكِيَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ ظَنَّ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَهُ ثَانٍ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ بَلْ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوِتْرَ وَاحِدَةٌ .

الْقَوْلُ فِي اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ الْوِتْرِ

فَصْلٌ : الْقَوْلُ فِي اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ الْوِتْرِ إِذَا أَرَادَ صَلَاةَ اللَّيْلِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْوِتْرَ لِيَخْتِمَ بِهِ صَلَاتَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بِرَكْعَةٍ ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ إِلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ بَعْدَ نَوْمِهِ ، وَعِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ فَالِاخْتِيَارُ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَ الْوِتْرَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَصَلَّى أَوْتَرَ حِينَئِذٍ ، فَإِنْ أَوْتَرَ ، ثُمَّ نَامَ ، وَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى صَلَاتِهِ جَازَ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُوتِرُ ، وَيَنَامُ ، ثُمَّ يَقُومُ ، فَيَتَهَجَّدُ . وَمِثْلُهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَنَامُ ، ثُمَّ يَقُومُ ، فَيَتَهَجَّدُ ، وَيُوتِرُ بَعْدَهُ . وَمِثْلُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ : أَمَّا أَنْتَ فَتَأْخُذُ بِالْحَزْمِ ، وَقَالَ لِعُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، : وَأَمَّا أَنْتَ فَتَعْمَلُ

عَمَلَ الْأَجْلَادِ ، فَلَوْ أَوْتَرَ ، وَنَامَ ، ثُمَّ قَامَ وَصَلَّى لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الْوِتْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ رَكْعَةَ وِتْرِهِ قَدِ انْتَقَضَتْ فَيَشْفَعُهَا بِرَكْعَةٍ ، ثُمَّ يَتَهَجَّدُ ، بِمَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ ، ثُمَّ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ وِتْرِهِ ، وَأَنَّ الْإِعَادَةَ لَا تَلْزَمُهُ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ فَلَوْ أَوْتَرَ قَبْلَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ لَمْ يُجْزِهِ لِتَقْدِيمِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا ، فَلَزِمَهُ إِعَادَتُهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ، فَأَمَّا مَوْضِعُ الْقُنُوتِ وَصِفَتُهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فَلَمْ نَحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ . وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الْوِتْرِ ، فَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ يَخْتَارَانِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ " سَبِّحْ " ، وَفِي الثَّانِيَةِ : قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ [ الْكَافِرُونَ : ] ، وَفِي الثَّالِثَةِ : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [ الْإِخْلَاصِ : ] ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بِـ " سَبِّحْ " وَفِي الثَّانِيَةِ : قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَفِي الثَّالِثَةِ : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ " ، وَقَدْ رَوَتْهُ عَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى لِزِيَادَتِهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - .

بَابُ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَالْعُذْرِ بِتَرْكِهَا

بَابُ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَالْعُذْرِ بِتَرْكِهَا مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فضلها تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَلَا أُرَخِّصُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي تَرْكِ إِتْيَانِهَا إِلَّا مِنْ عُذْرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لِلْجُمُعَةِ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ ، وَلَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَةُ لَهَا فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ ، فَأَمَّا الْجَمَاعَةُ لِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ حكمها فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : هَلْ هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، أَمْ سُنَّةٌ ؟ فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهَا فَرَضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ كَالْجُمُعَةِ ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ ، وَمِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَغَيْرُهُ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ [ النِّسَاءِ : ] الْآيَةَ . فَأَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ فِي حَالِ الْخَوْفِ ، وَالشِّدَّةِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي تَرْكِهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِهَا . وَبِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالْحَطَبِ فَيُحْطَبَ ، ثُمَّ آمُرُ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ، ثُمَّ آمُرُ رَجُلًا فَيَؤُمُّ النَّاسَ ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ لَمْ يَشْهَدُوا الصَّلَاةَ ، وَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ فَلَمَّا تَوَاعَدَ عَلَى التَّخَلُّفِ عَنْهَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا . وَبِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ .

وَرُوِيَ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الضَّرِيرَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرٌ شَاسِعُ الدَّارِ ، فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : أَتَجِدُ قَائِدًا ؟ قَالَ : لَا . فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ أَنْ لَا يَحْضُرُوا الْمَغْرِبَ ، وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ ، وَلَوْ عَلِمُوا مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ، وَلَوْ زَحْفًا . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَضَلَلْتُمْ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ . وَهَذَا الْخَبَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ مُسْنَدًا ، وَلَا صَحِيحًا ، وَلَا فَاسِدًا ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " لَقَدْ رَأَيْتُنَا إِذَا كُنَّا مَرْضَى وَنَحْنُ نُهَادِي إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ " ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَةُ لَهَا وَاجِبَةً كَالْجُمُعَةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ . وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ لَفْظَةَ " أَفْضَلَ " مَوْضُوعَةٌ لِلِاشْتِرَاكِ فِيمَا لِأَحَدِهِمَا

مَزِيَّةٌ فِيمَا شَارَكَهُ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمُرَادُ بِهِمَا الْمَعْذُورُ بِمَرَضٍ صَلَاتُهُ فِي الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ

صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا قِيلَ : حَمَلَهُ عَلَى الْمَرِيضِ ، لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَرِيضِ مُفْرَدًا كَصَلَاتِهِ الصُّبْحَ جَمَاعَةً فِي الْفَضْلِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَعْمَلُ عَمَلًا ثُمَّ مَرِضَ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَلَكَيْنِ أَنْ يَكْتُبَا لَهُ أَجْرَ عَمَلِهِ فِي صِحَّتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَيُحْمَلُ عَلَى صَلَاةِ النَّافِلَةِ هِيَ فِي الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْهَا مُنْفَرِدًا . قِيلَ : لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى النَّافِلَةِ ، لِأَنَّ صَلَاةَ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الْجَمَاعَةِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ . وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ رِوَايَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ ، وَكُلَّمَا كَثُرَتْ كَانَ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ مِنَ الصَّلَاةِ مِثْلَ مَا بَيْنَ كَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ وَقِلَّتِهِمْ مِنَ الْفَضْلِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ فَرْضٍ ، لِأَنَّ الْعُدُولَ مِنْ قَلِيلِ الْجَمَاعَةِ إِلَى كَثِيرِهَا غَيْرُ فَرْضٍ . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ لَمْ يُصَلِّ فِي عُمُرِهِ صَلَاةً وَاحِدَةً فِي جَمَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ، كَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ فَخَرَجَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ التَّرْغِيبِ فِيهَا لَا مَنْ زَعَمَ وُجُوبَهَا ، أَوْجَبَهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ ، وَيَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَرَاهَا سُنَّةً أَبَدًا . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ فَرَاغِ النَّاسِ مِنَ الصَّلَاةِ ،

فَقَالَ : مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ ؟ فَلَوْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةً لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ تَأَخُّرَهُ ، وَلَنَهَاهُ عَنْ مِثْلِهِ ، وَلَمَا أَخْبَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ مَعَهُ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُؤَدَّى جَمَاعَةً ، وَفُرَادَى ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ الْجَمَاعَةُ فِيهَا كَالنَّوَافِلِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ [ النِّسَاءِ : ] . فَالْمُرَادُ بِهَا تَعْلِيمُ صَلَاةِ الْخَوْفِ ، وَبَيَانُهَا عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ : لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي حِرَاسَتِهِمْ : لِأَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا مُنْفَرِدِينَ اشْتَغَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يُؤْمَنْ سَطْوَةُ الْعَدُوِّ بِهِمْ عِنْدَ انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ مِنْهُمْ لِشُغْلِهِمْ ، وَلَوْ أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا مَعًا لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ ، وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْتَرِقُوا فَرِيقَيْنِ ، فَيُصَلِّيَ بِفَرِيقٍ ، وَيَحْرُسَهُمْ فَرِيقٌ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ثُمَّ أُخَالِفَ عَلَى رِجَالٍ لَمْ يَشْهَدُوا الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ هُوَ أَنَّ تَحْرِيقَ بُيُوتِهِمْ لِنِفَاقِهِمْ لَا لِتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْجَمَاعَةِ غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِتَخَلُّفِهِمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ لِأَجْلِ النِّفَاقِ لَا لِأَجْلِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَرْقُ الدُّورِ ، وَنَهْبُ الْأَمْوَالِ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ بَالْإِجْمَاعِ . وَالثَّانِي : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَبَرِ : " ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَى رِجَالٍ لَمْ يَشْهَدُوا الصَّلَاةَ " . وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الصَّلَاةَ بِنَفْسِهِ وَأَدَّاهَا جَمَاعَةً فِي مَنْزِلِهِ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ مِنْ غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ . فَالْمُرَادُ بِهِ نِدَاءُ الْجُمُعَةِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [ الْجُمُعَةِ : ] . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ : فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا عَلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْأَفْضَلِ ، وَالْأَكْمَلِ بِدَلِيلِ إِجْمَاعِنَا أَنَّ الضَّرِيرَ مَعْذُورٌ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ أَنْ لَا يَحْضُرُوا الْمَغْرِبَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ فَجَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ طَائِفَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَعْرُوفِينَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ ، وَأَصْحَابِهِ لِتَخْصِيصِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مَعَ اسْتِوَاءِ حُكْمِ الْجَمَاعَةِ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْحَثِّ وَالتَّرْغِيبِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَضَلَلْتُمْ كَالْجَوَابِ عَنِ الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ " فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَا صَلَاةَ فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي مَسْجِدِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَمَقْصُودُهُ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى فَضْلِ الْجَمَاعَةِ ، وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لَهَا ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ فَالْمُخَالِفُ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجُمُعَةِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ لَهَا : لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الْجَمَاعَةُ مِنْ شَرْطِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لَمْ تَكُنِ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةً لَهَا . فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِمَا وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا سُنَّةٌ ، وَدَلِيلُنَا مَا تَقَدَّمَ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَطْبَقَ أَهْلُ بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ أَسَاءُوا بِتَرْكِهَا ، وَلَمْ يَأْثَمُوا ، وَيُؤْمَرُوا بِهَا ، وَيُؤَاخَذُوا عَلَى تَرْكِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لَمْ تُقَمْ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْخُذُ الْقَاصِيَةَ فَعَلَى هَذَا إِنْ أَجْمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا صلاة الجماعة فَقَدْ عَصَوْا ، وَأَثِمُوا بِقُعُودِهِمْ عَنْهَا ، وَوَجَبَ عَلَى السُّلْطَانِ قِتَالُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا ، وَإِنْ قَامَ بِفِعْلِهَا مَنْ تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ مِنْهُمْ ، وَانْتَشَرَ ظُهُورُهَا بَيْنَهُمْ سَقَطَ فَرْضُ الْجَمَاعَةِ عَنْهُمْ ، فَإِذَا كَانَتْ قَرْيَةً صَغِيرَةً ، وَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ ، فَانْتَشَرَتْ وَظَهَرَتْ سَقَطَ الْفَرْضُ ، وَكَانَ لِبَاقِي أَهْلِهَا أَنْ يُصَلُّوا مُنْفَرِدِينَ ، وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ بِإِقَامَتِهَا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ ، وَلَا بِإِقَامَتِهَا فِي الْمَنَازِلِ ، وَالْبُيُوتِ لِعَدَمِ ظُهُورِهَا ، وَانْتِشَارِهَا ، حَتَّى تُقَامَ فِي عِدَّةِ مَسَاجِدَ تَظْهَرُ بِهَا الْجَمَاعَةُ ، وَتَنْتَشِرُ فَيَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلُّوا مُنْفَرِدِينَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِنْ جَمَعَ فِي بَيْتِهِ ، أَوْ مَسْجِدٍ ، وَإِنْ صَغُرَ أَجْزَأَ عَنْهُ وَالْمَسْجِدُ الْأَعْظَمُ ، وَحَيْثُ كَثُرَتِ الْجَمَاعَاتُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا أَقَلُّ الْعَدَدِ الَّذِي يُدْرَكُ بِهِ الْجَمَاعَةُ فَهُوَ اثْنَانِ يَأْتَمُّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَيُدْرِكَانِ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ . وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَالْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ ، وَحَيْثُ كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْجَمْعِ الْيَسِيرِ ، وَالْجَمَاعَةُ الْيَسِيرَةُ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْمَنْزِلِ ، فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا فِي الْجَمْعِ الْكَثِيرِ أَفْضَلُ مَا رَوَاهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : صَلَاةُ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَوْلَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الْوَاحِدِ كُلَّمَا كَثُرَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْمَنْزِلِ مَا رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِنُورٍ تَامٍّ فِي الْقِيَامَةِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يُكْتَبُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ قَبِيلَتُهُ ، أَوْ مَحَلَّتُهُ مَنْ يُقِيمُ بِالْجَمَاعَةِ الْيَسِيرَةِ غَيْرُهُ وَكَانَ فِي ذَهَابِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ ، وَالْجَمْعِ الْأَكْبَرِ تَعْطِيلٌ لِجَمْعِ مَسْجِدِهِ الْيَسِيرِ ، فَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِهِ ، وَجَمْعِهِ الْيَسِيرِ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الْجَمْعِ الْكَثِيرِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ ظُهُورِهَا ، وَكَثْرَةِ انْتِشَارِهَا ، وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ بِإِقَامَتِهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً فِي مَسْجِدٍ ، ثُمَّ دَخَلَهُ قَوْمٌ لَمْ يُدْرِكُوا الْجَمَاعَةَ فَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ تِلْكَ الصَّلَاةَ جَمَاعَةً كَرِهْنَا ذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْمَسْجِدِ مُؤَذِّنٌ ثَابِتٌ وَإِمَامٌ مُنْتَدَبٌ قَدْ رَسَمَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافٍ ، وَتَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ ، وَتَشَتُّتِ الْكَلِمَةِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ بِظَهْرِ طَرِيقٍ تُصَلِّي فِيهِ الْمَارَّةُ ، وَالْمُجْتَازُونَ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مِرَارًا ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ ذَاتِ الرِّيحِ ، أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلْيَبْدَأْ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ قَالَ فِيهِ : أَقُولُ : لِأَنَّ الْغَائِطَ يَشْغَلُهُ عَنِ الْخُشُوعِ ، قَالَ : فَإِذَا حَضَرَ فِطْرُهُ ، أَوْ طَعَامُ مَطَرٍ وَبِهِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ ، وَكَانَتْ نَفْسُهُ شَدِيدَةَ التَّوَقَانِ إِلَيْهِ أَرْخَصْتُ لَهُ فِي تَرْكِ إِتْيَانِ الْجَمَاعَةِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَقَدِ احْتَجَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : فَتَأَوَّلَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِئَلَّا يَشْغَلَهُ مُنَازَعَةُ نَفْسِهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي فَضْلِ الْجَمَاعَةِ ، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا مَا فِيهِ مَقْنَعٌ وَغِنًى ، وَذَكَرْنَا

أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا كَانَ مُسِيئًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهَا سُنَّةٌ ، أَوْ عَاصِيًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهَا فَرْضٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا بِالتَّخَلُّفِ عَنْهَا ، فَلَا يَكُونُ مُسِيئًا ، وَلَا عَاصِيًا ، وَالْعُذْرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ . [ الْأَوَّلُ ] : خَاصٌّ . [ الثَّانِي ] : عَامٌّ ، فَالْعُذْرُ الْعَامُّ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ ، وَالرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الْبَارِدَةُ ، وَالْوَحْلُ الْمَانِعُ إِلَّا أَنَّ الْمَطَرَ عُذْرٌ فِي جَوَازِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ ، وَجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، وَالْوَحْلُ ، وَالرِّيحُ لَيْسَا بِعُذْرٍ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الزَّلْزَلَةُ ، وَالْخَوْفُ الْعَامُّ مِنْ مُتَغَلِّبٍ غَيْرِ مَأْمُونٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ . وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَعْذَارِ الْعَامَّةِ مَا رَوَاهُ نَافِعٌ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ ، وَاللَّيْلَةِ ذَاتِ الرِّيحِ : أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا ابْتَلَّتِ النِّعَالُ فَالصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ . وما ورد في هذا الحديث من تأويلات وَفِي النِّعَالِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ عَنَى بِهَا النِّعَالَ الْمَعْهُودَةَ فِي اللِّبَاسِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَنَى بِهَا الْأَرْجُلَ وَالْأَقْدَامَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ عَنَى بِهَا حِجَارَةً صِغَارًا : فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا ، أَوْ مَشْغُولًا بِتَمْرِيضِ قَرِيبٍ لَهُ أَوْ نَسِيبٍ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فِي مَرَضِهِ ، أَوْ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ أَيِ : الْغَائِطَ وَالْبَوْلَ ، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ زَنَاءٌ أَوْ يَكُونُ تَائِقَ النَّفْسِ إِلَى الطَّعَامِ عِنْدَ حَضُورِ الْجَمَاعَةِ شَدِيدَ الْقَوْمِ إِلَيْهِ لِغَلَبَةِ الْجُوعِ عَلَيْهِ ، فَيَبْدَأُ بِمَا يُطْفِي لَهَبَ جُوعِهِ ، وَيُسْكِنُ تَوَقَانَ نَفْسِهِ مِنْ أَكْلِ تَمْرَةٍ ، أَوْ تَمْرَتَيْنِ ، أَوْ لُقْمَةٍ ، أَوْ لُقْمَتَيْنِ ، فَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُدْرِكُ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ بَادَرَ إِلَيْهَا ، وَلَمْ يَسْتَوْفِ أَكْلَهُ ، فَإِنْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ ، وَكَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَكْلَهُ . وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ .

وَحُكْمُ الْعَشَاءِ وَالْغَدَاءِ فَيَ ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ، وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ ، فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَمِنَ الْعُذْرِ أَيْضًا : أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ ، أَوْ مَالِهِ مِنْ سُلْطَانٍ ، أَوْ ذَا جَرٍّ ، أَوْ يَكُونَ ذَا عُسْرَةٍ يَخَافُ مُلَازَمَةَ غَرِيمٍ شَحِيحٍ ، أَوْ يَكُونَ مُسَافِرًا ، وَيَخَافُ إِنْ صَلَّى جَمَاعَةً أَنْ يَرْحَلَ أَصْحَابُهُ ، وَيَنْقَطِعَ عَنْ صُحْبَتِهِمْ ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ خَوْفٌ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ ، فَقِيلَ : وَمَا الْعُذْرُ قَالَ : الْمَرَضُ وَالْخَوْفُ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ أَحْوَالٌ تَمْنَعُهُ وَتَبْعَثُهُ عَلَى الْعَجَلَةِ ، وَتَدْعُوهُ إِلَى السَّهْوِ فَعُذِرَ بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَجْلِهَا ، وَكَذَلِكَ نَظَائِرُهَا وَأَشْبَاهُهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -

بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَاعِدًا بِقِيَامٍ وَقَائِمًا بِقُعُودٍ

بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَاعِدًا بِقِيَامٍ وَقَائِمًا بِقُعُودٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأُحِبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ ، فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا ، وَصَلَّى الَّذِينَ خَلْفَهُ قِيَامًا أَجْزَأَتْهُ وَإِيَّاهُمْ ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ وَفِعْلُهُ الْآخِرُ نَاسِخٌ لِفِعْلِهِ الْأَوَّلِ وَفَرَضَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الْمَرِيضِ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ قَائِمًا ، وَعَلَى الصَّحِيحِ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا ، فَكُلٌّ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا لِمَرَضِهِ ، وَعَجْزِهِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ قَائِمًا لِأَمْرَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الصَّلَاةِ فِي مَرَضِهِ ، فَقَالَ : مُرُوا بِلَالًا فَلْيُؤَذِّنْ ، وَمُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ . وَالثَّانِي : أَنَّ صَلَاةَ الْقَائِمِ أَكْمَلُ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ مِنَ الْإِلْبَاسِ عَلَى الرَّاجِلِ فَلَا يَدْرِي إِذَا رَآهُ جَالِسًا أَهُوَ فِي مَكَانِ قِيَامٍ ، أَوْ جُلُوسٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ قَاعِدًا فِي مَوْضِعِهِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ أَكْثَرَ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا صَلَّى قَاعِدًا مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثًا فَكَانَ الِاقْتِدَاءُ بِأَكْثَرِ أَفْعَالِهِ الْأَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّ خُرُوجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ ، وَصَلَاتَهُ قَاعِدًا بِأَصْحَابِهِ إِنَّمَا كَانَ لِيَعْهَدَ إِلَيْهِمْ ، أَلَا تَرَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : احْمِلُونِي حَتَّى أَعْهَدَ إِلَى النَّاسِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَايِنٌ لِسَائِرِ أُمَّتِهِ فِي فَضِيلَةِ الِائْتِمَامِ بِهِ ، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ أَنْ يُقِرَّ عَلَى خَطَإٍ ، فَكَانَتِ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَ غَيْرِهِ وَهُوَ قَائِمٌ صلى الله عليه وسلم ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ الْأَوْلَى لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ ، وَعَلَى الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا قِيَامًا إِذَا قَدَرُوا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِمَامَةُ الْقَاعِدِ غَيْرُ جَائِزَةٍ ، وَعَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ الْإِعَادَةُ .

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : إِمَامَةُ الْقَاعِدِ جَائِزَةٌ ، وَيُصَلِّي مَنْ خَلْفَهُ قَاعِدًا ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ : جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، وَقَيْسُ بْنُ قَهْدٍ ، فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا أَكْمَلَ مَعَ إِمَامِهِ بِرُكْنٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ ، الْقَارِئَ بِالْأُمِّيِّ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا فَصُرِعَ مِنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ فَصَلَّى قَاعِدًا وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ قِيَامًا ، فَلَمَّا فَرَغَ ، قَالَ : إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ . وَبِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا فَصُرِعَ ، فَوَقَعَ عَلَى جِزْعِ نَخْلَةٍ ، فَانْفَكَّتْ قَدَمُهُ ، فَجِئْنَاهُ نَعُودُهُ وَهُوَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَصَلَّى التَّطَوُّعَ فَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ ، ثُمَّ جِئْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ، فَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ قِيَامًا ، فَأَشَارَ إِلَيْنَا أَنِ اقْعُدُوا ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا ، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ ، وَلَا تَفْعَلُوا كَمَا تَفْعَلُ الْفُرْسُ بِعُظَمَائِهَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مِنَ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ رِوَايَةً مُسْتَفِيضَةً ، وَنَقْلًا مُتَوَاتِرًا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ، ثُمَّ وَجَدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خِفَّةً فَخَرَجَ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَالْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَتَنَحْنَحَ النَّاسُ أَبَا بَكْرِ فَتَأَخَّرَ قَلِيلًا ، وَكَانَ هَذَا فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، بَلْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى وَمَاتَ فِي يَوْمِهِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ أَوْلَى ، وَذَلِكَ سُنَّةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَنْسُوخٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْقُعُودِ خَلْفَ الْقَاعِدِ ، ثُمَّ يُقِرُّهُمْ بِالْقِيَامِ خَلْفَهُ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ خَاصَّةً أَنْ يُقَالَ : كُلُّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الصَّلَاةُ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا كَالْقَائِمِ قِيَاسًا عَلَى الْقَائِمِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ ، فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ تَجُوزُ إِمَامَةُ الْقَاعِدِ ، وَلَيْسَ عَلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ مَانِعٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ فِي جَوَازِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَحْمَدَ خَاصَّةً ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ فَلَمْ يُجِزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا . أَصْلُهُ : إِذَا كَانَ إِمَامُهُ قَائِمًا ، أَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا ، وَلَا اتِّبَاعَ الْإِمَامُ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ رُكْنًا مُقَرَّرًا عَلَيْهِ ، وَلَا يُلْجِئُهُ إِلَى مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي حَالِ الْعَجْزِ كَالرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ ، وَلَا يُسْقِطْهُمَا اتِّبَاعُ الْإِمَامِ ، وَلَا يَحْمِلُهُمَا إِلَى الْإِيمَاءِ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدُكُمْ بَعْدِي جَالِسًا " فَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ رَوَاهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ ، وَكَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ ، وَالرَّجْعَةِ ، وَيَتَظَاهَرُ بِسَبِّ السَّلَفِ الصَّالِحِ ، فَلَمْ يَجِبْ قَبُولُ خَبَرِهِ ، وَلَوْ وَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهِ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِهِ ، لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ ، وَلَوْ سُلِّمَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، أَوْ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى صَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ . قُلْنَا : فِي الْأُمِّيِّ كَلَامٌ ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ ، لِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ تَحَمَّلَ الْقِرَاءَةَ مُؤَثِّرًا فِي إِمَامَتِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ الْقِيَامِ مُؤَثِّرًا فِيهَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُضْطَجِعُ إِذَا صَلَّى مُومِئًا بِقِيَامٍ ، وَقُعُودٍ ، فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْقِيَامِ جَائِزَةٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ لِلْقَائِمِ أَنْ يَأْتَمَّ بِالْمُومِئِ " . قَالَ : لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ ، فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهَا لَمْ يَصِحَّ الصَّلَاةُ دُونَ بَعْضٍ . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ هُوَ : أَنَّ عَجْزَ الْإِمَامِ عَنِ الْأَرْكَانِ الْكَامِلَةِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ جَوَازِ الْإِمَامَةِ ، وَلَا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ مِنَ الْأَرْكَانِ الْمَفْرُوضَةِ ، إِذَا عَجَزَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا انْتَقَلَ إِلَى بَدَلِهَا وَصَارَ الْبَدَلُ مَعَ الْعَجْزِ قَائِمًا مَقَامَ الرُّكْنِ الْمَفْرُوضِ ، فَجَازَتْ إِمَامَتُهُ ، وَصَلَاةُ مَنْ أَمَّهُ . فَإِنْ قِيلَ : الْإِيمَاءُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَا يَجُوزُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ كَالتُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ ، وَالْكَفَّارَاتِ ، فَلَمَّا كَانَ الْإِيمَاءُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهَا . وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِيمَاءَ هُوَ نَفْسُهُ رُكُوعٌ وَسُجُودٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُمَا وَلَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْحِنَاءِ فِي رُكُوعِهِ وَهُوَ رَاكِعٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ رُكُوعُهُ دُونَ رُكُوعِ الْقَادِرِ عَلَى الِانْحِنَاءِ ، وَلَا يُقَالُ إِنَّمَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الرُّجُوعِ هُوَ جُزْءٌ مِنْهُ كَذَا فِي الْإِيمَاءِ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مِنَ الشَّيْءِ بَدَلًا عَنْهُ كَالْقُعُودِ هُوَ جُزْءٌ مِنَ الْقِيَامِ ،

لِأَنَّ الْقِيَامَ هُوَ الِانْتِصَابُ بِأَعْلَى الْبَدَنِ ، ثُمَّ كَانَ الْقُعُودُ بَدَلًا عَنِ الْقِيَامِ كَذَلِكَ الْإِيمَاءُ بَدَلٌ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ لَيْسَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ائْتَمَّ بِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ ، أَوْ فِيمَا يَصِحُّ لَهُ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يُقَالَ بَلِ ائْتَمَّ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ ، أَوْ فِيمَا يَصِحُّ لَهُ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يُقَالَ : يَتَضَمَّنُهَا فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ أَتَى بِهِ ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ أَتَى بِبَدَلِهِ ، عَلَى أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ فِيهِ ، وَإِجْمَاعُنَا عَلَى صِحَّةِ ائْتِمَامِهِ بِهِ فَسَقَطَ عَنَّا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ لِنَفْسِهِ جَالِسًا رَكْعَةً ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ قَامَ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ ، فَإِنْ تَرَكَ الْقِيَامَ أَفْسَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَمَّتْ صَلَاتُهُمْ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوا بِصِحَّتِهِ ، وَتَرْكِهِ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ فَيَتَّبِعُوهُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ رَكْعَةً جَالِسًا لِمَرَضِهِ وَعَجْزِهِ ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا ، وَهَذَا غَلَطٌ ، لِأَنَّهُ بِقِيَامِهِ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ حَالَةِ النَّقْصِ إِلَى حَالَةِ التَّمَامِ ، وَانْتِقَالُ الْمُصَلِّي مِنْ أَنْقَصِ حَالَتِهِ إِلَى أَكْمَلِهَا لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ ، كَالْمُتَنَفِّلِ رَاكِبًا إِذَا نَزَلَ فَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : يَبْطُلُ هَذَا بِالْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فِي الصَّلَاةِ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ حَالَةِ النَّقْصِ إِلَى حَالَةِ الْكَمَالِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْبِنَاءُ ، وَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ . فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ : هَذَا السُّؤَالُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ بِانْقِطَاعِ دَمِهَا قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ حَالَةِ الْكَمَالِ إِلَى حَالَةِ النَّقْصِ ، لِأَنَّهَا وَدَمُهَا جَارِي أَحْسَنُ حَالًا مِنْهَا بَعْدَ انْقِطَاعِهِ أَلَا تَرَاهَا مَعَ جَرَيَانِ دَمِهَا لَا يَلْزَمُهَا إِزَالَةُ نَجَسِهِ عَنْهَا ، وَإِذَا انْقَطَعَ لَمْ يَجُزْ لَهَا الصَّلَاةُ إِلَّا بَعْدَ طَهَارَتِهَا ، وَإِزَالَةِ نَجَاسَتِهَا فَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، فَأَمَّا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ : تَبْنِي الْمُسْتَحَاضَةُ عَلَى صَلَاتِهَا فَإِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا ، فَسَقَطَ عَنْهُ الْجَوَابُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ جَازَ أَنْ يَبْنِ الْمُصَلِّي فِيهَا لِانْتِقَالِهِ مِنْ حَالِ الْكَمَالِ إِلَى حَالِ النَّقْصِ جَازَ أَنْ يَبْنِيَ مِنْ حَالَةِ الِانْتِقَاصِ إِلَى حَالَةِ الْكَمَالِ . أَصْلُهُ : الْمَسْتُورُ الْعَوْرَةِ إِذَا سُلِبَ فِي صَلَاتِهِ مَا كَانَ مَسْتُورًا بِهِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُصَلِّي مُضْطَجِعًا مُومِئًا إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْعُدَ وَيَبْنِيَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ لَزِمَهُ أَنْ يَقُومَ وَيَبْنِيَ عَلَى الْمَاضِي مِنْ صَلَاتِهِ وَقَدْ أَجْزَأَهُ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا قَدَرَ الْمُومِئُ عَلَى الْقِيَامِ ، أَوِ الْقُعُودِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا ، وَالْأُمِّيُّ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ قَالَ : لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ . . . عَجْزَهُ عَنْهُ ، فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ كَالْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ : وَهُوَ أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَصْلًا . أَصْلُهُ : إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ ، وَلِأَنَّ الْقُعُودَ بَدَلٌ عَنِ الْقِيَامِ ، وَالِاضْطِجَاعُ بَدَلٌ عَنِ الْقُعُودِ ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْقِيَامِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُبْدَلِ ، وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ كَذَلِكَ الْمُضْطَجِعُ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ يَنْتَقِلُ إِلَى مُبْدَلِهِ ، وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ فَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِالْقَاعِدِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ . وَالْمَعْنَى فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، كَوْنُهَا مُحْدِثَةً فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ فَخَالَفَتِ الْعَاجِزَ إِذَا صَحَّ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْعَاجِزِ الْمُضْطَجِعِ أَنْ يَقُومَ إِذَا قَدَرَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقُمْ ، فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الْجُلُوسَ فِي وَضْعِ الْقِيَامِ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَ صَلَاتَهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ قَائِمًا فَقَعَدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْقُعُودِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ لَكِنْ تَصِيرُ نَفْلًا ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ ، فَإِذَا بَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ بِتَرْكِ الْقِيَامِ وَلَا يَعْلَمُ الْمَأْمُومُ بِحَالِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ ، لِأَنَّ قُدْرَةَ الْإِمَامِ عَلَى الْقِيَامِ أَمْرٌ يَخْفَى عَلَيْهِمْ ، فَلَمْ يُكَلَّفُوا الْوُصُولَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ ، فَصَارُوا كَمَنْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِحَالِهِ ، وَإِنْ عَلِمُوا قُدْرَتَهُ عَلَى الْقِيَامِ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ إِمَامَتِهِ وَبَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ إِمَامَتِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ ، كَمَنْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ وَهُوَ يَعْلَمُ بِجَنَابَتِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَكَذَلِكَ إِنْ صَلَّى قَائِمًا رَكْعَةً ، ثُمَّ ضَعُفَ عَنِ الْقِيَامِ ، أَوْ أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ مَانِعَةٌ فَلَهُ أَنْ يَقْعُدَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا أَحْرَمَ الْإِمَامُ بِالصَّلَاةِ قَائِمًا لِصِحَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ ، ثُمَّ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ لِعِلَّةٍ أَصَابَتْهُ أَوْ لِضَعْفٍ غَلَبَ عَلَيْهِ ، فَلَهُ أَنْ يَقْعُدَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ جَالِسًا وَيُجْزِئُهُ ، لِأَنَّهُ لَوِ افْتَتَحَهَا جَالِسًا لِعَجْزِهِ كَانَ لَهُ إِتْمَامُهَا وَهُوَ جَالِسٌ فَكَانَ مَا افْتَتَحَهُ قَائِمًا ، ثُمَّ طَرَأَ الْعَجْزُ فِي بَعْضِهِ أَوْلَى بِإِتْمَامِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ لِغَلَبَةٍ عَلَيْهِ وَهِيَ قُوَاهُ اضْطَجَعَ ، وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ مُومِيًا وَأَجْزَأَهُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : " وَإِنْ صَلَّتْ أَمَةٌ رَكْعَةً مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ وَرَكَعَتْ ، ثُمَّ أُعْتِقَتْ ، فَعَلَيْهَا أَنْ

تَسْتَتِرَ إِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَرِيبًا مِنْهَا ، وَتَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهَا ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ ، أَوْ كَانَ الثَّوْبُ بَعِيدًا مِنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ حُكْمَ الْعَوْرَاتِ ، وَتَفْصِيلَهَا وَدَلَّلْنَا عَلَى إِيجَابِ سَتْرِهَا ، وَذَكَرْنَا عَوْرَةَ الرَّجُلِ ، وَعَوْرَةَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ ، وَعَوْرَةَ الْأَمَةِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ رَأْسَ الْأَمَةِ وَشَعْرَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ ، وَأَنَّ صَلَاتَهَا مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ جَائِزَةٌ ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَلْزَمُهُ سَتْرُ عَوْرَتِهِ ، وَرَأْسُ الْأَمَةِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا سَتْرُهُ ، فَإِذَا صَلَّتِ الْأَمَةُ بَعْضَ الصَّلَاةِ وَرَأْسُهَا مَكْشُوفٌ ، ثُمَّ أُعْتِقَتْ قَبْلَ تَمَامِهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا تَغْطِيَةُ رَأْسِهَا لِكَوْنِهَا حُرَّةً ، فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهَا إِلَّا مَسْتُورَةً . وَإِذَا تَقَرَّرَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِدَةً لِمَا تَسْتُرُ رَأْسَهَا أَوْ عَادِمَةً ، فَإِنْ عَدِمَتْ مَا تَسْتُرُ بِهِ بَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا ، وَأَجْزَأَتْهَا سَوَاءٌ عَلِمَتْ بِعِتْقِهَا أَمْ لَا ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْعُرْيَانِ الَّذِي لَا يَجِدُ ثَوْبًا فَيُصَلِّيَ عُرْيَانًا ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِدَةً لِمَا تَسْتَتِرُ بِهِ فَلَهَا حَالَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ تَعْلَمَ عِتْقَهَا فِي الصَّلَاةِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا تَعْلَمَ بِهِ إِلَّا بَعْدَ تَقْضِي تِلْكَ الصَّلَاةَ ، فَإِنْ عَلِمَتْ بِعِتْقِهَا فِي الصَّلَاةِ فَلَيْسَ يَخْلُو الثَّوْبُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا ، فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَرِيبًا وَجَبَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ ، وَالِاسْتِتَارُ بِهِ ، فَإِذَا اسْتَتَرَتْ بِهِ فِي الْحَالِ بَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ اسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ ، لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ ، فَأَمَّا إِنِ اسْتَدْبَرَتِ الْقِبْلَةَ فِي أَخْذِهَا فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّ الِاسْتِدْبَارَ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ بَعِيدًا ، أَوْ كَانَ قَرِيبًا فَلَمْ تَأْخُذْهُ مُضِيَّ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا بَطَلَتْ صَلَاتُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ . إِنَّمَا بَطَلَتْ صَلَاتُهَا بِرُؤْيَةِ الثَّوْبِ كَمَا يَبْطُلُ تَيَمُّمٌ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رُؤْيَةُ الثَّوْبِ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَالْمُتَيَمِّمِ لَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهَا وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَرِيبًا كَالْمُتَيَمِّمِ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ صَلَاتِهَا ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَرِيبًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الثَّوْبِ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ صَلَاتَهَا إِنَّمَا بَطَلَتْ بِالْمُضِيِّ لِأَخْذِ الثَّوْبِ وَتَطَاوُلِ الْعَمَلِ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنَّهَا مَا لَمْ تَمْضِ فَهِيَ عَلَى صَلَاتِهَا حَتَّى تَمْضِيَ ، وَإِنْ دُفِعَ الثَّوْبُ إِلَيْهَا فَاسْتَتَرَتْ بِهِ بَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهَا وَأَجْزَأَهَا .

وَالْجَوَابُ : أَنَّهَا تَمْضِي لِأَخْذِ الثَّوْبِ وَلَا انْتَظَرَتْ مَنْ تُنَاوِلُهَا إِيَّاهُ ، فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَمْضِ فَهُوَ فِي حُكْمِ مَنْ مَضَى ، لَكِنْ إِنِ انْتَظَرَتْ مَنْ تُنَاوِلُهَا الثَّوْبَ فَنَاوَلَهَا إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ شَيْءٍ فِي الصَّلَاةِ وَلَا إِحْدَاثِ عَمَلٍ فِيهَا طَوِيلٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهَا ، وَلِأَنَّ الِانْتِظَارَ عَمَلٌ طَوِيلٌ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ صَلَاتَهَا لَا تَبْطُلُ ، وَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى وَيُجْزِئُهَا ، لِأَنَّ الِانْتِظَارَ لَيْسَ بِفِعْلٍ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَالرَّاكِعِ إِذَا أَحَسَّ بِالدَّاخِلِ فَانْتَظَرَهُ جَازَ ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ فَإِنْ قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّوْبِ فِي وُجُوبِ أَخْذِهِ ، وَبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ ، وَبَيْنَ الْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ ، وَلَا بَطَلَتْ بِرُؤْيَتِهِ صَلَاتُهُ ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ فِعْلَ الطَّهَارَةِ يَجِبُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا سَقَطَ فَرْضُهَا ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي وَقْتٍ سَقَطَ عَنْهُ فِعْلُ الطَّهَارَةِ فِيهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ يَجِبُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ ، فَإِذَا وَجَدَ الثَّوْبَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ ؟ لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي زَمَانٍ يَجِبُ عَلَيْهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِيهِ ، فَإِنْ قِيلَ : لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ؟ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ اسْتِصْحَابُ الطَّهَارَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ كَمَا يَلْزَمُهُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا . قِيلَ : إِنَّمَا يَسْتَصْحِبُ حُكْمَ الطَّهَارَةِ مَعَ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا الطَّهَارَةَ ، وَهُوَ فِي الثَّوْبِ يَسْتَعْمِلُ السِّتْرَ مَعَ أَفْعَالِهَا ، لَا حُكْمَ السِّتْرِ فَافْتَرَقَا . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : هُوَ أَنَّ اسْتِدَامَةَ الثَّوْبِ كَابْتِدَائِهِ فِي الْحُكْمِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ ، وَهُوَ لَابِسُهُ حَنِثَ وَاسْتِدَامَةُ الطَّهَارَةِ مُخَالِفَةٌ لِابْتِدَائِهَا فِي الْحُكْمِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَتَطَهَّرُ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُجُودُ الثَّوْبِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ كَوُجُودِهِ فِي ابْتِدَائِهَا ، فَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ وَلَمْ يَكُنْ وُجُودُ الْمَاءِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ كَوُجُودِهِ فِي ابْتِدَائِهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ . وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ : هُوَ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ قَدْ أَتَى بِبَدَلِ الْمَاءِ فَجَازَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ اسْتِعْمَالُهُ ، وَالْعُرْيَانُ لَمْ يَأْتِ بِالسِّتْرِ ، وَلَا بِبَدَلِهِ ، لِأَنَّ الْعُرْيَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنِ السِّتْرِ فَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِعَدَمِ الْبَدَلِ ، كَالْمُسْتَحَاضَةِ ، إِذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا لَمَّا لَمْ تَأْتِ بِالطَّهَارَةِ عَنِ النَّجَاسَةِ ، وَلَا بِبَدَلِ الطَّهَارَةِ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ . وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا تَعْلَمَ الْأَمَةُ بِعِتْقِهَا إِلَّا بَعْدَ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَنْصُوصُهُ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ ، كَمَنْ صَلَّى وَهُوَ جُنُبٌ ، أَوْ مُحْدِثٌ ، فَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مِنْ أَيْنَ خَرَجَ هَذَا الْقَوْلُ .

فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُتَيَمِّمِ إِذَا صَلَّى بَعْدَ طَلَبِ الْمَاءِ ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ أَنَّهُ فِي رَحْلِهِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ : فِي الْمُسَافِرِينَ إِذَا رَأَوْا سَوَادًا وَظَنُّوهُمْ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِبِلٌ ، أَوْ وَحْشٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : " وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي عُرْيَانًا لَا يَجِدُ ثَوْبًا ، ثُمَّ يَجِدُهُ ، وَالْمُصَلِّي خَائِفًا ثُمَّ يَأْمَنُ ، وَالْمُصَلِّي مَرِيضًا يُومِئُ ثُمَّ يَصِحُّ أَوْ يُصَلِّي وَلَا يُحْسِنُ أُمَّ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ يُحْسِنُ ، إِنَّ مَا مَضَى جَائِزٌ عَلَى مَا كُلِّفَ وَقَابِضٌ عَلَى مَا كُلِّفَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذِهِ مَسَائِلُ قَصَدَ الْمُزَنِيُّ بِإِيرَادِهَا نَصَّ قَوْلِهِ فِي الْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهَا تَبْطُلُ ، وَالْجَوَابُ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ لَا يَصِحُّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَدْ مَضَى ، فَإِذَا وَجَدَ الْمُصَلِّي عُرْيَانًا فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ ثَوْبًا فَعَلَيْهِ أَخْذُهُ ، كَالْأَمَةِ سَوَاءً عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ ، وَكَذَلِكَ الْخَائِفُ إِذَا صَلَّى مُومِيًا ثُمَّ أَمِنَ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ أَمِنًا ، وَأَجْزَأَهُ : فَأَمَّا الْأُمِّيُّ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ فِيمَا مَضَى مِنْهَا فَتُجْزِئُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا فِي بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ ، فَأَمَّا الرَّكْعَةُ الَّتِي تَعَلَّمَ فِيهَا الْفَاتِحَةَ فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : [ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ] إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَلَا يَلْزَمُهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا لِأَنَّهُ تَعَلَّمَهَا بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَلَّمَهَا بَعْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَتَعَلَّمَهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَقَبْلَ الْإِتْيَانِ بِبَدَلِهَا ، فَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا لِإِدْرَاكِ مَحَلَّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَتَعَلَّمَهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَ الْإِتْيَانِ بِبَدَلِهَا ، فَعَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتِ بِبَدَلِهَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي إِدْرَاكِ الْمَحَلِّ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبَدِّلِ " الْمُتَيَمِّمِ " إِذَا رَأَى الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ " .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَنْ يُؤَدِّبُوا أَوْلَادَهُمْ ، وَيُعَلِّمُوهُمُ الطَّهَارَةَ وَيَضْرِبُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذَا عَقَلُوا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ يَلْزَمُ الْآبَاءَ حَتْمًا وَاجِبًا أَنْ يُعَلِّمُوا صِبْيَانَهُمُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ إِذَا عَقَلُوا وَهُمْ إِذَا بَلَغُوا سَبْعَ سِنِينَ ، وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا حِينَ الْبُلُوغِ ، وَهُوَ فِي الْجَوَارِي لِتِسْعٍ وَالْغِلْمَانِ لِعَشْرٍ . وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا

[ التَّحْرِيمِ : ] . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مُرُوهُمْ بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ وَلِأَنَّ فِي تَعْلِيمِهِمْ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ إِلْفًا لَهَا ، وَاعْتِيَادًا لِفِعْلِهَا ، وَفِي إِهْمَالِهِمْ وَتَرْكِ تَعْلِيمِهِمْ مَا لَيْسَ يَخْفَى ضَرَرُهُ مِنَ التَّكَاسُلِ عَنْهَا عِنْدَ وُجُوبِهَا ، وَالِاسْتِيحَاشِ مِنْ فِعْلِهَا وَقْتَ لُزُومِهَا ، فَأَمَّا تَعْلِيمُهُمْ ذَلِكَ لِدُونِ سَبْعِ سِنِينَ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي الْغَالِبِ لَا يَضْبِطُونَ تَعْلِيمَ مَا يَعْلَمُونَ ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى فِعْلِ مَا يُؤْمَرُونَ ، فَإِذَا بَلَغُوا سَبْعًا مَيَّزُوا وَضَبَطُوا مَا عَلِمُوا ، وَتَوَجَّهَ فَرْضُ التَّعْلِيمِ عَلَى آبَائِهِمْ ، لَكِنْ لَا يَجِبُ ضَرْبُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا ، وَإِذَا بَلَغُوا عَشْرًا وَجَبَ ضَرْبُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، وَلَا مُمْرِضٍ ، فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُؤْمَنُ عَلَيْهِمُ التَّلَفُ مِنْ ضَرْبِهَا ، فَإِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ صَارُوا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ وَتَوَجَّهَ نَحْوَهُمُ الْخِطَابُ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ فِعْلُ الطَّهَارَةِ ، وَالصَّلَاةِ ، وَجَمِيعِ الْعَادَاتِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَمَنِ احْتَلَمَ ، أَوْ حَاضَ ، أَوِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَزِمَهُ الْفَرْضُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ : أَمَّا الْبُلُوغُ فِي الْغِلْمَانِ ، فَقَدْ يَكُونُ بِالسِّنِّ ، وَالِاحْتِلَامِ ، فَأَمَّا الِاحْتِلَامُ فَهُوَ الْإِنْزَالُ ، وَهُوَ الْبُلُوغُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا [ النُّورِ : ] . وَأَمَّا السِّنُّ فَإِذَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً صَارَ بَالِغًا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَخَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي سِنِّ الْبُلُوغِ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " الْحَجِّ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَأَمَّا غِلَظُ الصَّوْتِ ، وَاخْضِرَارُ الشَّارِبِ ، وَنُزُولُ الْعَارِضَيْنِ فَلَيْسَ بِبُلُوغٍ لَا يَخْتَلِفُ ، فَأَمَّا إِنْبَاتُ الشَّعْرِ فِي الْعَانَةِ فَإِنْ كَانَ زَغَبًا لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا ، وَإِنْ كَانَ شَعْرًا قَوِيًّا كَانَ بُلُوغًا فِي الْمُشْرِكِينَ ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَحَكَمَ بِقَتْلِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي ، وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ، وَقَالَ : " لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ أَرْقِعَةٍ ، يَعْنِي : سَبْعَ سَمَاوَاتٍ . قَالَ : وَكُنَّا نَكْشِفُ مُؤْتَزَرَهُمْ فَمَنْ أَنْبَتَ قَتَلْنَاهُ ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ جَعَلْنَاهُ فِي الذَّرَارِيِّ ، فَأَمَّا حُكْمُنَا فِي بُلُوغِ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِنْبَاتِ فَهَلْ هُوَ بُلُوغٌ فِيهِمْ حَقِيقَةً ، أَوْ دَلَالَةٌ عَلَى بُلُوغِهِمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بُلُوغٌ فِيهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى بُلُوغِهِمْ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ بُلُوغٌ فِيهِمْ كَانَ بُلُوغًا فِي الْمُسْلِمِينَ كَالِاحْتِلَامِ ، وَإِذَا قُلْنَا : دَلَالَةٌ فِيهِمْ ، فَهَلْ يَكُونُ دَلَالَةً فِي الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : يَكُونُ دَلَالَةً فِيهِمْ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ ، لَا يَكُونُ دَلَالَةً ، وَلَا يَحْكُمُ فِي بُلُوغِهِمْ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التُّهْمَةَ تَلْحَقُ الْمُسْلِمَ فِي الْإِنْبَاتِ إِذَا جُعِلَ بُلُوغًا ، لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ فِيهِ تَخْفِيفَ أَحْكَامِهِ ، فَلَهُ حَجْرُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ ، وَقَبُولُ شَهَادَتِهِ ، وَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ ، وَالْكَافِرُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ تُغَلَّظُ ، فَيُقْتَلُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا ، وَلَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ إِنْ كَانَ وَثَنِيًّا ، وَتُؤْخَذُ جِزْيَتُهُ إِنْ كَانَ كِتَابِيًّا . وَالثَّانِي : أَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى جَعْلِ الْإِنْبَاتِ بُلُوغًا فِي الْمُشْرِكِينَ ، لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْسَابِهِمُ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى جَعْلِ الْإِنْبَاتِ بُلُوغًا فِيهِمْ ، فَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَتَبْلُغُ بِجَمِيعِ مَا يَبْلُغُ بِهِ الْغُلَامُ وَتَبْلُغُ أَيْضًا بِشَيْئَيْنِ آخَرَيْنِ : وَهُمَا الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ . فَأَمَّا الْحَيْضُ فَبُلُوغٌ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا . وَأَمَّا الْحَمْلُ فَيُعْلَمُ بِهِ سِنُّ الْبُلُوغِ إِلَّا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ بُلُوغٌ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [ الطَّارِقِ : ، ] . فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْحَمْلَ يُخْلَقُ مِنْ مَاءٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَتَرَائِبِ النِّسَاءِ ، فَعُلِمَ بِالْحَمْلِ وُجُودُ الْإِنْزَالِ مِنْهَا . فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَيَكُونُ بَالِغًا بِالسِّنِّ ، فَأَمَّا الْحَيْضُ ، وَالْإِنْزَالُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحِيضَ . وَالثَّانِي : أَنْ يُنْزِلَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَجْمَعَ الْأَمْرَيْنِ الْحَيْضَ وَالْإِنْزَالَ . فَأَمَّا الْحَيْضُ وَحْدَهُ فَلَا يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِ بِحَالٍ ، سَوَاءٌ خَرَجَ دَمُ الْحَيْضِ مِنْ فَرْجِهِ ، أَوْ ذَكَرِهِ أَوْ مِنْهُمَا ، وَأَمَّا الْإِنْزَالُ وَحْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَكَرِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا لِجَوَازِ كَوْنِهِ امْرَأَةً ، وَإِنْ كَانَ مِنْ فَرْجِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا لِجَوَازِ كَوْنِهِ رَجُلًا : وَإِنْ كَانَ مِنْ فَرْجِهِ وَذَكَرِهِ مَعًا كَانَ بُلُوغًا يَقِينًا : لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ بَلَغَ بِالْإِنْزَالِ مِنْ ذَكَرِهِ ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَقَدْ بَلَغَتْ بِالْإِنْزَالِ مِنْ فَرْجِهَا ، وَأَمَّا الْإِنْزَالُ وَالْحَيْضُ إِذَا اجْتَمَعَا فَإِنْ كَانَا مَعًا مِنْ فَرْجِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا ، وَإِنْ كَانَا مَعًا مِنْ ذَكَرِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا ، وَإِنْ كَانَ الْإِنْزَالُ مِنْ ذَكَرِهِ ، وَدَمُ الْحَيْضِ مِنْ فَرْجِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ بُلُوغٌ لِجَمْعٍ بَيْنَ بُلُوغِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " : " إِنْ أَنْزَلَ وَحَاضَ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا " . وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا ثَانِيًا ، وَإِنَّمَا لَهُ أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ : أَنْزَلَ أَوْ حَاضَ ، فَأَسْقَطَ الْكَاتِبُ أَلِفًا وَإِنْ كَانَا مَعًا مِنْ أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ .

بَابُ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

بَابُ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِقَوْمٍ الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَجَاءَ قَوْمٌ فَصَلَّوْا خَلْفَهُ يَنْوُونَ الْعَصْرَ أَجْزَأَتْهُمُ الصَّلَاةُ جَمِيعًا ، وَقَدْ أَدَّى كُلٌّ فَرْضَهُ ، وَقَدْ أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ الْمَكْتُوبَةَ ، ثُمَّ يُصَلِّيَ بِقَوْمِهِ هِيَ لَهُ نَافِلَةٌ وَلَهُمْ مَكْتُوبَةٌ ، وَقَدْ كَانَ عَطَاءٌ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ الْقُنُوتَ ، ثُمَّ يَعْتَدُّ بِهَا مِنَ الْعَتَمَةِ ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ فَبَنَى رَكْعَتَيْنِ مِنَ الْعَتَمَةِ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : وَإِذَا جَازَ أَنْ يَأْتَمَ الْمُصَلِّي نَافِلَةً خَلْفَ الْمُصَلِّي فَرِيضَةً فَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي فَرِيضَةً خَلْفَ الْمُصَلِّي نَافِلَةً وَفَرِيضَةً ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ومذاهب العلماء فيها عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ لِلْمُتَنَفِّلِ أَنْ يَأْتَمَّ بِالْمُفْتَرِضِ ، وَالْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ ، وَالْمُفْتَرِضِ بِالْمُفْتَرِضِ ، فِي فَرْضَيْنِ مِثْلَيْنِ ، أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ ، مِثْلَ الظُّهْرِ خَلْفَ الْعَصْرِ ، أَوِ الْعَصْرِ خَلْفَ الظُّهْرِ ، وَهَذَا أَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَشُعْبَةَ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ نِيَّةُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بِحَالٍ لَا فِي فَرْضٍ وَلَا فِي نَفْلٍ ، فَلَا يَأْتَمُّ الْمُفْتَرِضُ بِالْمُتَنَفِّلِ ، وَلَا الْمُتَنَفِّلُ بِالْمُفْتَرِضِ ، وَلَا الْمُفْتَرِضُ بِالْمُفْتَرِضِ فِي فَرْضَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، حَتَّى يَكُونَا مِثْلَيْنِ فِي فَرْضٍ ، أَوْ نَفْلٍ ، وَهَذَا أَضْيَقُ الْمَذَاهِبِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ الْمُفْتَرِضُ بِالْمُتَنَفِّلِ ، وَلَا الْمُفْتَرِضُ بِالْمُفْتَرِضِ فِي فَرْضَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، إِلَّا أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ مُفْتَرِضٍ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنَ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَلَى تَبَايُنِ مَذَاهِبِهِمْ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَكَانَ أَمْرُهُ بِالِائْتِمَامِ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ أَفْعَالِهِ أَوْ خَفِيَ مِنْ نِيَّتِهِ ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى أَئِمَّتِكُمْ فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ وَفِي اخْتِلَافِ النِّيَّةِ اخْتِلَافُ الْقُلُوبِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِنِيَّةِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الِاقْتِدَاءُ فِيهَا بِالْإِمَامِ كَالْمُصَلِّي الْجُمُعَةَ خَلْفَ الْمُصَلِّي الظُّهْرَ .

قَالُوا : وَلِأَنَّهُ قَدْ خَالَفَ إِمَامَهُ فِي مَفْرُوضِ صَلَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَادِحًا فِيهَا ، قِيَاسًا عَلَى مُخَالِفِيهِ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى بَطْنِ النَّخْلِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ بَنِي سُلَيْمٍ ، فَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ فَرِيقَيْنِ ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ ، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ : إِنَّهَا كَانَتْ صَلَاةَ الظُّهْرِ ، وَقِيلَ صَلَاةُ الْعَصْرِ . وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِطَائِفَةٍ الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَسَلَّمَ ، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ ، وَسَلَّمَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فَرْضَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ وَالْأُخْرَى نَافِلَةً ، وَكِلَاهُمَا لِلْمَأْمُومِينَ فَرِيضَةٌ ، فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي كَانُوا يُصَلُّونَ الْفَرْضَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ . قُلْنَا : إِعَادَةُ الْفَرْضِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ ، وَلَا مَرْوِيٍّ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى خَلْقِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً ، أَمَرَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ رَدَّهَا بِشَفَاعَتِهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى خَمْسٍ ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَفْرِضْهَا عَشْرًا ، وَلَا أَمَرَ بِإِعَادَةِ فَرْضٍ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ أَدَائِهَا ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْوَادِي وَصَلَّى الصُّبْحَ قِيلَ لَهُ : أَتَقْضِي الصُّبْحَ فِي وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ ؟ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا ، ثُمَّ يَأْمُرُكُمْ بِهِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَنِي سَلَمَةَ فَيُصَلِّيهَا بِقَوْمِهِ ، فَأَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَصَلَّى مَعَهُ ، وَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ ، فَصَلَّاهَا بِهِمْ ، وَاسْتَفْتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ صَلَاتِهِ ، فَأَتَمَّ لِنَفْسِهِ ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ : نَافَقْتَ ؟ فَقَالَ : آتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلُهُ . فَأَتَاهُ ، فَقَالَ : إِنَّ مُعَاذًا يُصَلِّي مَعَكَ ، ثُمَّ يُصَلِّي بِنَا ، وَإِنَّكَ أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ ، فَصَلَّى مَعَكَ ثُمَّ صَلَّى بِنَا ، وَاسْتَفْتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ وَنَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ سُورَةِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى : وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى . فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُؤَدِّي فَرْضَهُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ يُصَلِّيهَا بِقَوْمِهِ ، فَتَكُونُ لَهُمْ فَرِيضَةً ، وَلَهُ نَافِلَةً . فَإِنْ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : كَانَتْ صَلَاتُهُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَافِلَةً ، وَبِقَوْمِهِ فَرِيضَةً ؟ قِيلَ : هَذَا لَا يَصِحُّ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ :

أَحَدُهَا : أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ يَقُولُ : كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيُصَلِّي بِقَوْمِهِ ، هِيَ لَهُمْ فَرِيضَةٌ وَلَهُ نَافِلَةٌ " وَجَابِرٌ لَا يَقُولُ هَذَا إِلَّا عَنْ عِلْمٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمُعَاذٍ مَعَ سَمَاعِ هَذَا أَنْ يُصَلِّيَ النَّافِلَةَ عِنْدَ قِيَامِ الْمَكْتُوبَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فَرْضَهُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِهِ إِمَامًا بِقَوْمِهِ ، وَهُوَ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَفْضَلَ الْحَالَيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ اخْتِيَارُ أَنْقَصِهِمَا . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ : يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَتْ بَنُو سَلَمَةَ : هَذَا أَقْرَؤُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ يَعْنُونَ عَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ ، وَكَانَ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ . فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَؤُمُّكُمْ مُعَاذٌ ، إِنَّ صَلَاةَ غَيْرِ الْبَالِغِ نَافِلَةٌ لَهُ فَقَدْ جَوَّزَ لِلْمُفْتَرِضِينَ أَنْ يُصَلُّوا خَلْفَهُ ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، صَلَّى بِالنَّاسِ ، فَسَمِعَ مِنْ خَلْفِهِ صَوْتًا ، فَقَالَ : عَزَمْتُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْهُ هَذَا إِلَّا قَامَ فَتَوَضَّأَ ، وَأَعَادَ صَلَاتَهُ ، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ ، ثُمَّ أَعَادَ الثَّانِيَةَ فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ ، فَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَقِيلَ : بَلْ قَالَ لَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : لَوْ عَزَمْتَ عَلَيْنَا كُلِّنَا فَقُمْنَا ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَقَدْ كُنْتُ سَيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسَيِّدًا فِي الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ كُلِّكُمْ وَأَنَا مَعَكُمْ ، ثُمَّ مَضَوْا فَتَوَضَّئُوا ، وَعَادُوا فَصَلَّى بِهِمْ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَكَانَتْ صَلَاةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَافِلَةً ، وَصَلَاةُ مَنْ خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ فَرِيضَةً ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ ، وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُتَّفِقَتَانِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ تُؤَدَّى جَمَاعَةً ، وَفُرَادَى ، فَجَازَ أَنْ تُؤَدَّى إِحْدَاهُمَا خَلْفَ الْأُخْرَى . أَصْلُهُ : مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ صَلَاةُ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ . وَقَوْلُنَا : مُتَّفِقَتَانِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ ، احْتِرَازًا مِنَ الْمُفْتَرِضِ يُصَلِّي خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي " الْكُسُوفَ " ، وَقَوْلُنَا : فُرَادَى ، احْتِرَازًا مِنَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ الظُّهْرِ ، وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَمَّا اشْتُرِطَتْ لِلْفَضِيلَةِ لَا لِلْفَرِيضَةِ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي النِّيَّةِ ، كَالنَّوَافِلِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمُسَاوَاةُ فِي النِّيَّةِ شَرْطًا مُعْتَبَرًا لَمَنَعَ الْمُتَنَفِّلَ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي النِّيَّةِ ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي النِّيَّةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ .

قُلْنَا : الْمُرَادُ بِهِ الِاقْتِدَاءُ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ أَفْعَالِهِ دُونَ نِيَّتِهِ ، وَمَا خَفِيَ مِنْ أَفْعَالِهِ لِأَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ بِهَا تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ ، فَلَمْ يَصْرِفِ الْخَبَرَ إِلَّا إِلَى أَمْكَنِ تَكْلِيفِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ الظَّاهِرَةِ ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ : فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا . وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى أَئِمَّتِكُمْ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْجُمُعَةِ : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِهَا الْإِمَامُ كَانَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ يُوَافِقَ نِيَّةَ الْإِمَامِ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ شَرْطًا فِي سَائِرِ الْفَرَائِضِ لَمْ تَكُنْ مُوَافَقَةُ الْإِمَامِ فِي النِّيَّةِ شَرْطًا فِيهَا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ حَنَفِيًّا : انْتَقَضَ عَلَيْهِ بِالْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ ، وَإِنْ كَانَ مَالِكِيًّا : قِيلَ قِيَاسُكَ هَذَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ الثَّانِيَةِ وَالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ ، وَيَنْكَسِرُ بِصَلَاةِ الْمُقِيمِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ قَدِ اخْتَلَفَتْ نِيَّاتُهُمَا ، وَتَفَاضَلَتْ أَفْعَالُهُمَا . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَأَنْتَ مَعَهُمْ عَلَى جَوَازِهَا . ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ قَدْ نَاقَضْتَ أَصْلَكَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ . أَحَدُهَا : أَنَّكَ مَنَعْتَ مِنَ اخْتِلَافِ الْفَرْضَيْنِ وَأَجَزْتَ النَّذْرَ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ . وَإِنْ قَالَ : صَلَاةُ النَّذْرِ وَاجِبَةٌ لَيْسَتْ فَرْضًا قِيلَ : لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا ، ثُمَّ فِي الْمَنْعِ مِنَ اخْتِلَافِ الْفَرْضَيْنِ هُوَ أَنَّ نِيَّةَ الْمَأْمُومِ تَضَمَّنَتْ زِيَادَةً لَمْ تَتَضَمَّنْهَا نِيَّةُ إِمَامِهِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْمَنْذُورَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّكَ قُلْتَ إِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ لِسَهْوٍ وَقَعَ فِيهَا ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ مُؤْتَمٌّ ، فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَلَيْسَ سُجُودُ السَّهْوِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَفِي هَذَا نَقْضٌ لِأَصْلِكَ ، فَإِنْ قَالَ : سُجُودُ السَّهْوِ عِنْدِي وَاجِبٌ ، فَقَدْ صَلَّى مُفْتَرِضٌ خَلْفَ مُفْتَرِضٍ .

قِيلَ : لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عِنْدِي فَلَا نَقُولُ : إِنَّهُ فَرْضٌ ، وَلَوْ جَعَلْتَهُ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ ظُهْرًا ، وَأَنْتَ تَمْنَعُ مِنَ اخْتِلَافِ الْفَرْضَيْنِ . وَالثَّالِثُ : إِنْ قُلْتَ لَوْ صَلَّى بِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ظُهْرًا صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ فَلَوْ سَهَا الْإِمَامُ فَصَلَّاهَا كَانَتْ فَرْضَهُ ، وَكَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْجَمَاعَةِ نَافِلَةً ، فَأَجَزْتَ صَلَاةَ الْفَرِيضَةِ خَلْفَ النَّافِلَةِ . فَإِنْ قِيلَ : كَانَتْ لَهُمْ فَرْضًا حِينَ أَمَّهُمْ ، وَإِنَّمَا صَارَتْ نَافِلَةً لِفِعْلِهِ الْجُمُعَةَ فَقَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ بِالْفَرْضِ . قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ ، لِأَنَّ الْفَرْضَ إِذَا صَحَّ لَمْ يَنْقَلِبْ نَفْلًا ، وَلَوْ جَازَ لَكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا جَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ : إِنَّ فَرْضَهُمْ سَقَطَ حِينَ صَارَتْ صَلَاتُهُمْ نَافِلَةً ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أَحَسَّ الْإِمَامُ بِرَجُلٍ وَهُوَ رَاكِعٌ لَمْ يَنْتَظِرْهُ ، وَلْتَكُنْ صَلَاتُهُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَرَأَيْتُ فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ بِانْتِظَارِهِ ، وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَوْلَى بِالصَّوَابِ : لِتَقْدِيمِهَا عَلَى مَنْ قَصَّرَ فِي إِتْيَانِهَا ، وَهَذَا كَمَا قَالَ انْتِظَارُ الْإِمَامِ فِي صَلَاتِهِ قَوْمًا يُدْرِكُونَ الْجَمَاعَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبَانِ يُكْرَهَانِ وَضَرْبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . فَأَمَّا الضَّرْبَانِ الْمَكْرُوهَانِ : فَأَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْتَظِرَ فِي صَلَاتِهِ اجْتِمَاعَ النَّاسِ وَتَكَاثُرَهُمْ ، فَيُبْطِلُ رُكُوعَهُ ، وَسُجُودَهُ ، وَقِرَاءَتَهُ ، وَتَسْبِيحَهُ لِيَكْثُرَ جَمْعُهُمْ ، وَيَتَلَاحَقَ آخِرُهُمْ بِأَوَّلِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ انْتِظَارُهُ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ يَخُصُّهُ بِهِ ، إِمَّا إِكْرَامًا لِذِي مَوَدَّةٍ ، أَوْ قَرَابَةٍ ، أَوْ إِعْظَامًا لِذِي رِيَاسَةٍ ، أَوْ مَهَابَةٍ ، فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنَ الِانْتِظَارِ مَكْرُوهَانِ لِأَنَّ فِيهِ إِسْقَاطَ حَقِّ السَّابِقِ الْحَاضِرِ بِانْتِظَارِ مَنْ لَيْسَ بِحَاضِرٍ ، وَتَرْكَ الْخُشُوعِ بِقَضَاءِ الْحُقُوقِ . وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ : فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ . وَصُورَتُهُ : أَنْ يُحِسَّ الْإِمَامُ وَهُوَ رَاكِعٌ بِرَجُلٍ يُرِيدُ الدُّخُولَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَظِرْهُ ، وَمَضَى فِي صَلَاتِهِ ، كَانَ أَوْلَى وَأَفْضَلَ . وَإِنِ انْتَظَرَهُ لِيُدْرِكَ الرَّكْعَةَ مَعَهُ جَازَ ، وَهَلْ يُكْرَهُ لَهُ وَيَكُونُ مُسِيئًا بِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ : لَا يُكْرَهُ لَهُ وَلَا يَكُونُ مُسِيئًا بَلْ هُوَ مُبَاحٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، فَقَدْ أَشْرَكَ بَيْنَ الْعَمَلِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

وَبَيْنَ الْعَمَلِ لِلْمَخْلُوقِينَ ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِشْرَاكَ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ ، كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَأَفْتَى بِشِرْكِهِ ، وَإِبَاحَةِ دَمِهِ ، فَأَخْرَجَهُ عَنِ الْمِلَّةِ بِوَهْمِهِ ، وَلَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكَيْفَ يَكُونُ مُشْرِكًا بِالِانْتِظَارِ وَقَدِ اسْتَحَبَّهُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ ، وَكَانَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ يُخَرِّجُونَ الْقَوْلَيْنِ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي الْكَرَاهَةِ ، فَإِذَا قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : فَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى ، وَأَجْلَسَ الْحَسَنَ عِنْدَ قَدَمَيْهِ ، فَلَمَّا سَجَدَ رَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَأَطَالَ السُّجُودَ ، فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ : أَطَلْتَ السُّجُودَ . فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ ابْنِي رَكِبَنِي ، فَأَطَلْتُ السُّجُودَ لِيَقْضِيَ وَطَرَهُ فَلَمَّا اسْتَجَازَ بِطَوِيلِهِ لِيَقْضِيَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَطَرَهُ جَازَ انْتِظَارُ الدَّاخِلِ لِيُدْرِكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِـ " ذَاتِ الرِّقَاعِ " ، وَانْتَظَرَ الطَّائِفَةَ الْأُولَى قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ صَلَاتِهِ لِيُتِمَّ صَلَاتَهَا ، ثُمَّ انْتَظَرَ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ جَالِسًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ، لِيُتِمَّ صَلَاتَهَا ، ثُمَّ يُسَلِّمَ بِهَا ، فَلَمَّا انْتَظَرَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الِانْتِظَارِ لِإِدْرَاكِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ . وَإِذَا قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَوَجَّهَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ ، فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ ، وَذَا الْحَاجَةِ وَفِي انْتِظَارِهِ تَطْوِيلٌ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ ، وَتَثْقِيلٌ ، وَلِأَنَّهُ يَسْقُطُ خُشُوعُهُ بِانْتِظَارِهِ ، وَتَوَقُّعِ مَجِيئِهِ ، وَإِتْيَانُ مَا يُسْقِطُ الْخُشُوعَ مَكْرُوهٌ : وَلِأَنَّ انْتِظَارَهُ لِيُدْرِكَ الصَّلَاةَ مَعَهُ يَدْعُوهُ إِلَى تَرْكِ الْمُبَادَرَةِ وَالتَّوَانِي عَنِ الْإِسْرَاعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَنْتَظِرْهُ تَخَوَّفَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ ، فَارْتَدَعَ عَنِ الْإِبْطَاءِ ، وَالزَّجْرِ عَنِ التَّوَانِي ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ أَتَمَّ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لَمْ يَحِلَّ لِلْإِمَامِ انْتِظَارُ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الِانْتِظَارُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ أَوْلَى :

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَيُؤْتَمُّ بِالْأَعْمَى وَالْعَبْدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا تُكْرَهُ إِمَامَتُهُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا أُوثِرُهَا وَلَا أَكْرَهُهَا ، وَلَا أُوثِرُ إِمَامَتَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا أَكْرَهُ إِمَامَتَهُ وَأُوثِرُ غَيْرَهُ عَلَيْهِ . يُرِيدُ أَنَّ إِمَامَةَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ فِي عَدَمِ الْكَرَاهَةِ سَوَاءٌ ، غَيْرَ أَنَّ إِمَامَةَ الْبَصِيرِ أَفْضَلُ ، وَلَوْ كَانَتْ إِمَامَةُ الْأَعْمَى لَا تُكْرَهُ ، وَحَكَى عَنْ قَوْمٍ مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ وَرُبَّمَا أُضِيفَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُمْ كَرِهُوا إِمَامَةَ الْأَعْمَى ، لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَتَوَقَّى الْأَنْجَاسَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَقُومُ عَلَى صَوَابِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهَا ، وَيُصَوَّبَ نَحْوَهَا ، فَاعْتَوَرَهُ النَّقْصُ بِهَذَيْنِ .

وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ مِرَارًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَكَانَ ضَرِيرًا . وَكَانَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ يُصَلِّي بِقَوْمِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعَلِّمُهُمْ وَكَانَ ضَرِيرًا ، لَا يَنْهَاهُ وَلَا يَأْمُرُ قَوْمَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلُوا بِغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَنْكَفَّ بَصَرُهُ عَنِ الْمَحَارِمِ ، فَيَكْثُرُ خُشُوعُهُ وَيُخْلِصُ قَلْبُهُ ، وَلِأَنَّ الْعَمَى فَقْدُ عُضْوٍ وَفَقْدُ الْأَعْضَاءِ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْإِمَامَةِ كَالْأَقْطَعِ . فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَا يَتَوَقَّى الْأَنْجَاسَ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ طَهَارَتُهُ ، وَالشَّيْءَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ ، وَظَاهِرِهِ ، وَلَوِ اعْتَبَرْنَا هَذَا لَرَأَيْنَا كَثِيرًا مِنَ الْبُصَرَاءِ بِهَذَا الْوَصْفِ ، فَلَمْ يَكُنِ الْأَعْمَى مُخْتَصًّا ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ يُرْشَدُ إِلَى الْقِبْلَةِ وَيُوَجَّهُ نَحْوَهَا ، فَذَاكَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ ، فَأَمَّا فِي وَقْتِ ائْتِمَامِهِمْ بِهِ فَإِنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنَ الْقِبْلَةِ ، وَيَقِينٍ كَالْبَصِيرِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِمَامَتُهُ جَائِزَةٌ وَلَا تُكْرَهُ ، وَإِمَامَةُ الْحُرِّ أَفْضَلُ مِنْهُ ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مِجْلَزٍ أَنَّهُ كَرِهَ إِمَامَتَهُ ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ إِمَامَتَهُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ لِنَقْصِهِ بِالرِّقِّ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ إِمَامَتِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لِمَنْ وُلِّيَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ وُلِّيَ عَلَيْكُمْ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ مَا أَقَامَ بِكُمُ الصَّلَاةَ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى خَلْفَ مَوْلًى لَهُ ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ صُهَيْبَ بْنَ سِنَانٍ الرُّومِيَّ فَصَلَّى بِالْمُهَاجِرِينَ ، وَالْأَنْصَارِ ، وَكَانَ عَبْدًا لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ . فَلَمْ يَكْرَهْ إِمَامَتَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَرَوَى الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ قَالَ : كُنَّا نَخْتَلِفُ إِلَى عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ، وَجَمَاعَةٌ : فَتَأْمُرُ عَبْدًا لَهَا يُقَالُ لَهُ : أَبُو عَمْرٍو ، فَيُصَلِّي بِنَا عِنْدَ وَقْتِ الصَّلَاةِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِمَامَتَهُ جَائِزَةٌ ، وَغَيْرُ مَكْرُوهَةٍ ، فَإِمَامَةُ الْحُرِّ أَفْضَلُ مِنْهُ ، لِنَقْصِهِ بِرِقِّهِ وَكَمَالِ الْحُرِّ بَحُرِّيَّتِهِ ، وَثُبُوتِ وِلَايَتِهِ ، وَجَوَازِ شَهَادَتِهِ ، وَإِمَامَةُ الْحُرِّ الضَّرِيرِ أَفْضَلُ مِنْ إِمَامَةِ الْعَبْدِ الْبَصِيرِ ، لِأَنَّ الرِّقَّ نَقْصٌ ، فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ الْعَبْدَ اسْتِئْذَانُ سَيِّدِهِ فِي الْإِمَامَةِ ، قِيلَ : إِنْ كَانَتْ إِمَامَتُهُ بِقَدْرِ صَلَاتِهِ فِي الِانْفِرَادِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُهُ ، وَإِنْ تَطَاوَلَ عَنْ حَدِّ الِانْفِرَادِ كَالْجُمُعَةِ لَزِمَهُ اسْتِئْذَانُهُ لِمَا فِيهَا مِنْ تَفْوِيتِ خِدْمَتِهِ .

فَصْلٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَكْرَهُ إِمَامَةَ وَلَدِ الزِّنَا ، وَإِمَامَةَ مَنْ لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ : لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَهَى رَجُلًا كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ . فَإِنْ أَمَّ

قَوْمًا صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ ، لِرِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ ، وَإِنْ كَانَ وَلَدَ زِنًا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ التَّابِعِينَ الْفُضَلَاءَ صَلَّوْا خَلْفَ زِيَادٍ بِالْبَصْرَةِ ، وَخُرَاسَانَ ، وَهُوَ مِمَّنْ فِي نَسَبِهِ نَظَرٌ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِجَمَاعَةٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ : لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّ أَحَدُكُمْ بِقَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ وَرُوِيَ مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ صَلَّى بِقَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ فَإِنْ أَمَّهُمْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَإِيَّاهُمْ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَكْرَهُ إِمَامَةَ مَنْ يُلْحِنُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُحِيلُ الْمَعْنَى ، فَإِنْ لَحَنَ أَوْ لَفَظَ بِالْعَجَمِيَّةِ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْهُ دُونَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا أَجْزَأَتْهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . أَمَّا اللُّحَنَةُ فِي الْقُرْآنِ فَإِمَامَتُهُ مَكْرُوهَةٌ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ وَاللُّحَنَةُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الصِّفَةَ ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا سَمِعَهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ وَمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ وَتُشْرَعُ الْقِرَاءَةُ بِهِ ، فَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَتِهِ . فَإِنْ أَمَّ مَنْ يَلْحَنُ ، وَصَلَّى النَّاسُ خَلْفَهُ جَمَاعَةٌ لَمْ يَخْلُ لَحْنُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْفَاتِحَةِ ، أَوْ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ . فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ : فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُحِيلَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُحِيلَهُ فَإِنْ لَمْ يُحِلِ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ كَانَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ جَائِزَةً ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَوِّمَ لِسَانَهُ بِقَصْدِ الصَّوَابِ ، وَمُعَاطَاةِ الْإِعْرَابِ . وَإِنْ أَحَالَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْبِقَ بِهِ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا تَعَهُّدٍ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا ، فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ جَائِزَةٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا وَجَبَ مِنَ الْقُرْآنِ سَلِيمًا ، وَكَانَ النَّقْصُ فِيمَا لَا يَضُرُّ تَرْكُهُ ، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ وَلَا أَثَّرَ فِي صِحَّتِهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَقْصِدَ إِحَالَةَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِالصَّوَابِ فِيهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ مَعَ إِسَاءَتِهِ وَإِثْمِهِ ، لِأَنَّ إِحَالَةَ الْمَعْنَى تُزِيلُ إِعْجَازَ اللَّفْظِ ، وَتُبْطِلُ حُكْمَهُ ، وَتُخْرِجُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ إِلَى جِنْسِ الْكَلَامِ ، فَيَصِيرُ كَالْمُتَكَلِّمِ عَامِدًا فِي صَلَاتِهِ ، فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ ، فَأَمَّا مَنْ خَلْفَهُ مِنَ

الْمَأْمُومِينَ فَإِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ كَالْمُصَلِّي خَلْفَ جُنُبٍ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ : أَنْ يَكُونَ لَحْنُهُ فِي الْفَاتِحَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُحِيلَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُحِيلَهُ ، فَإِنْ لَمْ يُحِلِ الْمَعْنَى فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ كَقَوْلِهِ : إِيَّاكَ نَعْبُدُ [ الْفَاتِحَةِ : ] . بِفَتْحِ الدَّالِّ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ [ الْفَاتِحَةِ : ، ] بِكَسْرِ النُّونِ مِنْ " نَسْتَعِينُ " ، وَفَتْحِ الْأَلِفِ مِنَ " اهْدِنَا " ، فَهَذَا اللَّحْنُ وَأَشْبَاهُهُ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَبْطُلِ الصَّلَاةُ : لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِلَفْظِهِ ، وَإِنْ أَسَاءَ فِي الْعِبَارَةِ بِلَحْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ سُوءُ عِبَارَتِهِ مَعَ اسْتِيفَاءِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مُؤَثِّرًا فِي صَلَاتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُحِيلَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ ، كَقَوْلِهِ " أَنْعَمْتُ " عَلَيْهِمْ ، بِضَمِّ التَّاءِ ، وَلَا " الظَّالِّينَ " بِالظَّاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ عَلَى الشَّيْءِ ، لَا مِنَ الضَّلَالِ إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ اللَّحْنِ الْمُحِيلِ لِلْمَعْنَى ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِإِحَالَةِ الْمَعْنَى مَعَ مَعْرِفَةِ الصَّوَابِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ ، فَهَذَا فَاسِقٌ ، بَلْ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنَادًا كَانَ كَافِرًا ، وَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهُ مُسْتَهْزِئٌ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَلَاتِهِ ، عَادِلٌ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ ، إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِكُفْرِهِ الْإِمَامُ لِاسْتِهْزَائِهِ فَلَزِمَهُمُ الْإِعَادَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ كَالْمُؤْتَمِّ بِكَافِرٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِإِحَالَةِ الْمَعْنَى ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الصَّوَابِ ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهَا سَاهِيًا ، أَوْ نَاسِيًا ، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ قِرَاءَةَ بَعْضِ الْفَاتِحَةِ نَاسِيًا ، وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ سَلَامِهِ أَعَادَ قِرَاءَةَ مَا أَحَالَ مَعْنَاهُ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهَا عَرِيَتْ عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ سَلَامِهِ وَقَدْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ . فَفِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ مَضَيَا . أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ . وَالثَّانِي : جَائِزَةٌ . وَأَمَّا مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ ، فَإِنْ جَوَّزْنَا صَلَاتَهُ فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ ، وَإِنْ أَبْطَلْنَا صَلَاتَهُ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ ، وَجَائِزَةٌ إِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يِقْدِرَ عَلَى الصَّوَابِ إِمَّا لِبُطْءِ ذِهْنِهِ ، وَقِلَّةِ ضَبْطِهِ ، أَوْ لِاضْطِرَابِ لِسَانِهِ وَتَعَذُّرِ اسْتِقَامَتِهِ ، فَصَلَاتَهُ فِي نَفْسِهِ جَائِزَةٌ : لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا لَا يُمْكِنُهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ . فَأَمَّا

صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ حَالِهِ بِإِحَالَةِ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ ، فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَلِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّقْصِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَادِرًا عَلَى إِتْمَامِ الْقِرَاءَةِ بِإِصَابَةِ الْمَعَانِي وَاجْتِنَابِ اللَّحْنِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْقَارِئِ إِذَا صَلَّى خَلْفَ الْأُمِّيِّ فَيَكُونُ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، فَلَوِ اخْتَلَفَ لَحْنُ الْإِمَامِ ، وَالْمَأْمُومِ فَأَحَالَ الْإِمَامُ بِلَحْنِهِ مَعْنَى كَلِمَةٍ أَصَابَ الْمَأْمُومُ مَعْنَاهَا ، وَأَحَالَ مَعْنَى كَلِمَةٍ سِوَاهَا . فَفِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزَةٌ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اللَّحْنِ وَإِنِ اخْتَلَفَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : بَاطِلَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّهُ يَفْضُلُ عَلَى إِمَامِهِ فِيمَا قَصَّرَ عَنْهُ ، وَإِنِ اعْتَوَرَهُ النَّقْصُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ وَيُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ لَا يَلْحَنُ فِيهِنَّ أَوْ لَا يُحْسِنُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا ، وَلَكِنَّهُ يُسَبِّحُ وَلَا يَلْحَنُ ، فَفِي إِيجَابِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مَنْ يُحِيلُ بِلَحْنِهِ مَعْنَى الْفَاتِحَةِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَعْجَمِيُّ إِذَا لَفَظَ بِأَعْجَمِيَّةٍ فَأَحَالَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ بِعَجَمِيَّتِهِ كَأَنَّهُ قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ " بِالْهَاءِ ، أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالْحَاءِ مُعْجَمَةً ، فَهَذَا مُحِيلٌ لِلْمَعْنَى بِكُلِّ حَالٍ ، وَهِيَ اللُّكْنَةُ ، لِأَنَّ اللُّكْنَةَ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى الْكَلَامِ اللُّغَةُ الْأَعْجَمِيَّةُ ، وَالطَّمْطَمَةُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُشَبَّهًا بِكَلَامِ الْعَجَمِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِيمَنْ أَحَالَ الْمَعْنَى عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْجَوَابِ سِوَاهُ ، وَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ آلِ السَّائِبِ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمَكَّةَ ، وَكَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ ، فَأَخَّرَهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ ، وَقَدَّمَ غَيْرَهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَهَمَّ بِالْمِسْوَرِ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ فَكَانَ فِي الْحَجِّ ، فَخَشِيتُ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ الْحَاجِّ فَيَأْخُذُ بِعَجَمِيَّتِهِ . فَقَالَ لَهُ : أَصَبْتَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَكْرَهُ إِمَامَةَ مَنْ بِهِ تَمْتَمَةٌ ، أَوْ فَأْفَأَةٌ ، فَإِنْ أَمَّ أَجْزَأَ إِذَا قَرَأَ مَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ . أَمَّا التَّمْتَمَةُ : فَهِيَ التَّرَدُّدُ فِي التَّاءِ ، وَأَمَّا الْفَأْفَأَةُ فَهِيَ التَّرَدُّدُ فِي الْفَاءِ ، فَتُكْرَهُ إِمَامَةُ التَّمْتَامِ ، وَالْفَأْفَاءِ لِزِيَادَتِهِمْ عَلَى الْكَلِمَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا ، فَإِنْ أَمُّوا جَازَ ، وَصَحَّتْ صَلَاةُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِمْ ، لِإِتْيَانِهِمْ بِالْوَاجِبِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَمَا أَتَوْهُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ ، كَمَنْ كَرَّرَ الْفَاتِحَةَ نَاسِيًا . وَأَمَّا الْعُقْلَةُ فَهِيَ : الْتِقَاءُ اللِّسَانِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْكَلِمَةِ ، ثُمَّ تَأْتِي الْكَلِمَةُ سَلِيمَةً بَعْدَ جُهْدٍ فَهَذَا كَالتِّمْتَامِ تَجُوزُ إِمَامَتُهُ وَإِنْ كُرِهَتْ : وَكَذَلِكَ الرَّدَّةُ وَهِيَ : تَكَرُّرُ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ إِرَادَتِهَا مِنْ غَيْرِ تَمَالُكٍ لِلْإِمْسَاكِ عَنْهَا ، فَأَمَّا الْغُنَّةُ فَهِيَ : أَنْ يَشْرَبَ صَوْتُ الْخَيْشُومِ ، وَالْخُنَّةُ أَشَدُّ مِنَ الْغُنَّةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْإِمَامَةِ ، لِأَنَّ الْكَلِمَةَ تَأْتِي سَلِيمَةً .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَؤُمُّ الْأَرَتُّ ، وَلَا الْأَلْتَغُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْأَرَتُّ فَهُوَ : الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلِمَةِ إِلَّا بِإِسْقَاطِ بَعْضِهَا ، وَأَمَّا الْأَلْتَغُ فَهُوَ : الَّذِي يَعْدِلُ بِحَرْفٍ إِلَى حَرْفٍ فَيَجْعَلُ الرَّاءَ غَيْنًا ، وَاللَّامَ يَاءً ، وَالسِّينَ شِينًا ، فَإِمَامَةُ هَذَيْنِ غَيْرُ جَائِزَةٍ إِلَّا لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِمَا : وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ إِمَامَتُهُمَا ، لِأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ بِجَمِيعِ حُرُوفِهَا ، فَإِذَا عَدَلَ بِحَرْفٍ مِنْهَا أَوْ تَرَكَهُ كَانَ كَمَنْ تَرَكَ جَمِيعَهَا ، فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِمَا قَارِئٌ سَلِيمُ اللِّسَانِ كَانَ كَالْقَارِئِ الْمُصَلِّي خَلْفَ أُمِّيٍّ ، فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ ، فَلَوِ اخْتَلَفَتْ لُغَةُ رَجُلَيْنِ فَقَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَرْفًا أَتَى بِهِ الْآخَرُ سَلِيمًا لَمْ يَجُزْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْجِزُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْحَرْفِ الَّذِي أَتَى بِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِيهِ ، وَيَجُوزُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّقْصِ ، فَأَمَّا الْحُبْسَةُ فِي اللِّسَانِ فَهُوَ تَعَذُّرُ الْكَلَامِ عِنْدَ إِرَادَتِهِ . وَأَمَّا اللَّفَفُ فَهُوَ : إِدْخَالُ حَرْفٍ فِي حَرْفٍ . وَالْعَمْعَمَةُ : أَنْ يُسْمِعَ الصَّوْتَ وَلَا يُبَيِّنَ لَكَ تَقْطِيعَ الْحُرُوفِ : وَالْكَلَامُ فِي إِمَامَتِهِ هُوَ كَالْكَلَامِ فِي الْأَرَتِّ ، وَالْأَلْتَغِ سَوَاءٌ ، فَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحَرِّكَ لِسَانَهُ بِالْقِرَاءَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ نَاطِقًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ مِثْلَهُ أَخَرَسَ .

الْقَوْلُ فِي إِمَامَةِ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ

الْقَوْلُ فِي إِمَامَةِ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَأْتَمُّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ وَلَا بِخُنْثَى ، فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتَمَّ بِالْمَرْأَةِ بِحَالٍ ، فَإِنْ فِعَلَ أَعَادَ صَلَاتَهُ ، وَهَذَا قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ فَإِنَّهُ شَذَّ عَنِ الْجَمَاعَةِ فَجَوَّزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتَمَّ بِالْمَرْأَةِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ قَالَ : وَلِأَنَّ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِالرِّجَالِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لِلرِّجَالِ كَالرِّجَالِ . قَالَ : وَلِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ أَشَدُّ مِنْ نَقْصِ الْأُنُوثِيَّةِ ، بِدَلَالَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقْتَلَ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ بِالْعَبْدِ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ إِمَامًا لِلْأَحْرَارِ كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِإِمَامَتِهِمْ أَوْلَى وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ النِّسَاءِ : ] . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَقَصَرَتْ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُنَّ وِلَايَةٌ وَقِيَامٌ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، فَإِذَا وَجَبَ تَأْخِيرُهُنَّ حَرُمَ تَقْدِيمُهُنَّ : وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إِلَى امْرَأَةٍ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ ، وَفِي إِمَامَتِهَا افْتِتَانٌ بِهَا : وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّصْفِيقَ لَهَا بَدَلًا مِنَ التَّسْبِيحِ لِلرَّجُلِ فِي نَوَائِبِ الصَّلَاةِ

خَوْفًا مِنَ الِافْتِتَانِ بِصَوْتِهَا ، وَكَذَلِكَ فِي الِائْتِمَامِ بِهَا ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ وِلَايَةٌ وَمَوْضِعُ فَضِيلَةٍ وَلَيْسَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ إمامة المرأة ، أَلَا تَرَاهَا لَا تَلِي الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى ، وَلَا الْقَضَاءَ ، وَلَا عَقْدَ النِّكَاحِ ، فَكَذَلِكَ إِمَامَةُ الصَّلَاةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ فَالْقَوْمُ يَنْطَلِقُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [ الْحُجُرَاتِ : ] ، . فَلَوْ دَخَلَ النِّسَاءُ فِي الْقَوْمِ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَهُنَّ فِيمَا بَعْدُ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ فَأَمَّا الرَّجُلُ : فَالْمَعْنَى فِيهِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ ، وَمِمَّنْ لَا يُخْشَى الِافْتِتَانُ بِصَوْتِهِ : وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ دُونَ نَقْصِ الْأُنُوثِيَّةِ ، لِأَنَّهُ عَارِضٌ يَزُولُ وَالْأُنُوثِيَّةُ نَقْصٌ ذَاتِيٌّ لَا يَزُولُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْعَبْدِ أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُخْشَى الِافْتِتَانُ بِهِ .

الْقَوْلُ فِي إِمَامَةِ الْخُنْثَى

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي إِمَامَةِ الْخُنْثَى ] لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتَمَّ بِالْخُنْثَى ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً ، وَلَا لِلْخُنْثَى أَنْ يَأْتَمَّ بِالْمَرْأَةِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا ، لَكِنْ يَجُوزُ لِلْخُنْثَى أَنْ يَأْتَمَّ بِالرَّجُلِ ، وَالْمَرْأَةِ بِالْخُنْثَى ، فَلَوِ ائْتَمَّ رَجُلٌ بِخُنْثَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِحَالِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، ثُمَّ عَلِمَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، لِأَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ ، فَلَوْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى بَانَ أَنَّ الْخُنْثَى رَجُلٌ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ ، لِأَنَّهُ لَوِ ائْتَمَّ بِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ خُنْثَى فَلَمْ يُعِدْ حَتَّى بَانَ أَنَّهُ رَجُلٌ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَ بِحَالِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ . وَقَدْ خُرِّجَ فِيهَا قَوْلٌ آخَرُ : لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ رَأَى سَوَادًا فَظَنَّ أَنَّهُمْ عَدْوٌ فَصَلَّى صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُمْ غَيْرُ عَدُوٍّ ، وَلَكِنْ لَوِ ائْتَمَّ خُنْثَى بِامْرَأَةٍ فَلَمْ يُعِدْ حَتَّى بَانَ أَنَّ الْخُنْثَى امْرَأَةٌ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ : لِأَنَّ إِحْرَامَهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ إِمَامَهُ امْرَأَةٌ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، ثُمَّ عَلِمَ فَلَمْ يُعِدْ حَتَّى بَانَ امْرَأَةً ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ ، كَمَا إِذَا عَلِمَ بِحَالِهَا عِنْدَ إِحْرَامِهِ ، وَيَجِيءُ تَخْرِيجُ قَوْلٍ آخَرَ : أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، فَلَوْ أَنَّ خُنْثَى مُشْكِلًا زَالَ عَنْهُ الْإِشْكَالُ وَبَانَ امْرَأَةً كَرِهْنَا لَهُ أَنْ يَأْتَمَّ بِامْرَأَةٍ فَإِنِ ائْتَمَّ بِهَا جَازَ ، لِأَنَّا قَدْ حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ امْرَأَةً ، وَلَوْ بَانَ رَجُلًا كَرِهْنَا لِغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِ رَجُلٌ لَمْ يُعِدْ لِأَنَّا قَدْ حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ رَجُلًا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَتَصِحُّ صَلَاتُهُ ، وَيَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ فِي الْفَرَائِضِ كُلِّهَا إِذَا كَانَ مُرَاهِقًا ، إِلَّا الْجُمُعَةَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَلَا تَجُوزُ إِمَامَتُهُ . وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ حَمَّادٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ : كُنْتُ بِالْحَاضِرَةِ ، وَكَانَ مَنْ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِنَا ، فَإِذَا رَجَعَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَذَا وَكَذَا ، فَأَحْفَظُ ، وَكُنْتُ عَاقِلًا حَافِظًا ، فَحَفِظْتُ أَكْثَرَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي قَوْمِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدًا ، فَعَلَّمَهُمُ الصَّلَاةَ ، وَقَالَ : يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ . فَقَالُوا : هَذَا أَقْرَؤُنَا . يَعْنُونَنِي فَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ وَعَلَى جَنَائِزِهِمْ ، وَأَنَا ابْنُ تِسْعٍ ، أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ وَرَوَتْ عَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : كُنَّا نَأْخُذُ الصِّبْيَانَ مِنَ الْكُتَّابِ لِيُصَلُّوا بِنَّا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَنَعْمَلُ لَهُمُ الْقَبَلِيَّةَ وَالْحَسَكَاتِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَكْرَهُ إِمَامَةَ الْفَاسِقِ ، وَالْمُظْهِرِ لِلْبِدَعِ ، وَلَا يُعِيدُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِمَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ ، أَصْلُ الْفِسْقِ الْخُرُوجُ مِنَ الشَّيْءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [ الْكَهْفِ : ] . أَيْ خَرَجَ مِنْ طَاعَتِهِ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ : فُلَانٌ فَاسِقٌ . إِذَا كَانَ عُرْيَانًا قَدْ تَجَرَّدَ مِنْ أَثْوَابِهِ ، وَتَقُولُ : فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ . إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا : فَالْفَاسِقُ فِي دِينِهِ : هُوَ الْخَارِجُ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فِكُرِهَ إِمَامَتُهُ ، وَيُمْنَعُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ فَأَجْهَرَ بِالْفَضْلِ فِي الذِّكْرِ وَنَبَّهَ عَلَى الْفَضْلِ فِي غَيْرِ الذِّكْرِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَصْلَحُكُمْ ، وَأَوْدَعُكُمْ ، وَأَرْشَدُكُمْ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لِيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : انْتَقِدُوا أَئِمَّتَكُمُ انْتِقَادَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِمَامَةَ الْفَاسِقِ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فَالْفِسْقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْمِلَّةِ وَيُبَايِنَ بِهِ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ ، وَيَصِيرَ بِهِ كَافِرًا ، كَشَارِبِ الْخَمْرِ بِعَيْنِهَا ، وَيَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهَا ، وَتَحْلِيلَهَا ، أَوْ مَنْ زَنَى ، أَوْ لَاطَ مُصِرًّا لَا يَرَى ذَلِكَ حَرَامًا ، وَلَا أَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ، وَإِذَا اسْتَحَلَّ الْأَمْوَالَ الْمَحْظُورَةَ اسْتِخْفَافًا بِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، أَوِ اسْتَبَاحَ سَفْكَ الدِّمَاءِ الْمَحْقُونَةِ اجْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنَ الْفِسْقِ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَإِمَامَتُهُ غَيْرُ جَائِزَةٍ ، فَمَنِ ائْتَمَّ بِهِ كَانَ كَمَنِ ائْتَمَّ بِكَافِرٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ الْحُكْمَ فِيهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مِنَ الْفِسْقِ مَا لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ ، وَلَا يُبَايِنُ بِهِ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي الِاعْتِقَادِ . فَالْفَاسِقُ بِفِعْلِهِ كَشَارِبِ الْخَمْرِ نَادِمًا ، وَالْمُقْدِمِ عَلَى

الْمَحْظُورَاتِ خَائِفًا مُسْتَنْفِرًا ، وَالْفَاسِقُ بِاعْتِقَادِهِ كَمَنْ يَرَى سَبَّ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَتَكْفِيرَهُمْ كَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ . فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنَ الْفِسْقِ لَا يَكُونُ بِهِمَا كَافِرًا ، وَإِمَامَةُ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ مَكْرُوهَةٌ وَلَا إِعَادَةَ عَلَى مَنِ ائْتَمَّ بِهِ . قَالَ مَالِكٌ : الْفَاسِقُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ ، وَفِي الْمُتَأَوِّلِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ .

وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ مَحْكُولٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ أَمِيرٍ بَرٍّ ، أَوْ فَاجِرٍ ، وَالصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَأَنَسًا ، صَلَّوْا خَلْفَ الْحَجَّاجِ ، وَكَفَى بِهِ فَاسِقًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا صَحَّ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا كَالْعَدْلِ .

الْقَوْلُ فِي صَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ

[ الْقَوْلُ فِي صَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنْ أَمَّ أُمِّيٌّ بِمَنْ يَقْرَأُ أَعَادَ الْقَارِئُ وَإِنِ ائْتَمَّ بِهِ مِثْلُهُ أَجْزَأَهُ . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قَدْ أَجَازَ صَلَاةَ مَنِ ائْتَمَّ بِجُنُبٍ ، وَالْجُنُبُ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ ، فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ مَنِ ائْتَمَ بِأُمِّيٍّ وَالْأُمِّيُّ فِي صَلَاةٍ وَقَدْ وُضِعَتِ الْقِرَاءَةُ عَنِ الْأُمِّيِّ ، وَلَمْ يُوضَعِ الطُّهْرُ عَنِ الْمُصَلِّي ؟ وَأَصْلُهُ أَنَّ كُلًّا مُصَلٍّ عَنْ نَفْسِهِ ، فَكَيْفَ يُجْزِئُهُ خَلْفَ الْعَاصِي بِتَرْكِ الْغُسْلِ وَلَا يُجْزِئُهُ خَلْفَ الْمُطِيعِ الَّذِي لَمْ يُقَصِّرْ وَقَدِ احْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى قَاعِدًا بِقِيَامٍ ، وَفَقْدُ الْقِيَامِ أَشَدُّ مِنْ فَقْدِ الْقِرَاءَةِ فَتَفَهَّمْ ؟ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : الْقِيَاسُ أَنَّ كُلَّ مُصَلٍّ خَلْفَ جُنُبٍ ، وَامْرَأَةٍ ، وَمَجْنُونٍ ، وَكَافِرٍ يُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِمْ : لِأَنَّ كُلَّ مُصَلٍّ لِنَفْسِهِ لَا تَفْسُدُ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ بِفَسَادِهَا عَلَى غَيْرِهِ قِيَاسًا عَلَى أَصْلِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَتُهَا مَعَ الْإِمَامِ إِذَا نَسِيَ سَجْدَةً مِنَ الْأُولَى ، وَقَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْإِمَامِ وَأَجْزَأَتْهُمْ عِنْدَهُ ( قَالَ ) : وَلَا يَكُونُ هَذَا أَكْثَرَ مِمَّنْ تَرَكَ أُمَّ الْقُرْآنِ ، فَقَدْ أَجَازَ لِمَنْ صَلَّى رَكْعَةً يَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا إِمَامُهُ وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا وَصَفْتُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْأُمِّيُّ فِي اللِّسَانِ فَهُوَ : الْبَاقِي عَلَى أُمِّيَّتِهِ يَعْنِي : عَلَى خِلْقَتِهِ الْأُولَى لَا يَعْلَمُ شَيْئًا ، وَكُلُّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا وَلَا يَعْلَمُهُ جَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُ : أُمِّيٌّ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ . لَكِنَّ الَّذِي أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ : أُمِّيٌّ ، هُوَ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ قَارِئٌ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ ، فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِ ، وَكَانَ عَالِمًا بِحَالِهِ عِنْدَ إِحْرَامِهِ فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، لِفَسَادِ إِحْرَامِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَعَلَيْهِ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ : أَنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ مَعًا .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَعَلَيْهِ نَصٌّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ : لِأَنَّهُ أَسْقَطَ فِي الْقَدِيمِ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ ، وَأَوْجَبَهَا فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مُخَرَّجٌ عَلَى الْجَدِيدِ تَعْلِيلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ مَعًا : لِأَنَّهُ عَلَّلَ فِي الْقَدِيمِ ، فَقَالَ : لِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَأْتِي بِفَرْضِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةٍ يُسِرُّ فِيهَا وَلَا تَلْزَمُهُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا ، وَهُوَ فِي الْجَدِيدِ يَرَى وُجُوبَ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ مَعًا . فَإِنْ قِيلَ : بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَسُقُوطِ الْإِعَادَةِ فِيهِ : فَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا صَحَّتْ خَلْفَ الْجُنُبِ وَالْجُنُبُ عَاصٍ لَا طَهَارَةَ لَهُ ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ ، فَالْأُمِّيُّ الَّذِي لَيْسَ بِعَاصٍ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ يَصِحُّ مِنْهُ جَمِيعُ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ ، إِلَّا الْقِرَاءَةَ الَّتِي قَدِ انْتَقَلَ إِلَى بَدَلِهَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ ، وَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لِمَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ الرُّكْنِ . أَصْلُهُ : ائْتِمَامِ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ وَهَذَا نُكْتَةُ هَذَا الْقَوْلِ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لَوْ نَسِيَ سَجْدَةً مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى حَتَّى قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ ، ثُمَّ أَحْرَمَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ خَلْفَهُ كَانَ عَمَلُهُ فِي الثَّانِيَةِ كَلَا عَمَلٍ ، إِلَّا السَّجْدَةَ يَجْهَرُ بِهَا الْأُولَى ، وَصَحَّتْ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَتُهَا ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَدَّ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا ، فَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي خَلْفَ أُمِّيٍّ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ، لِأَنَّ فَقْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ لَا تُؤَثِّرُ فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ . وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ وَوُجُوبِ الْإِعَادَةِ هُوَ أَظْهَرُ الْأَقَاوِيلِ ، وَأَصَحُّهَا رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ " فَكَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهَا ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنِ الْمَأْمُومِ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا ، وَقِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَإِذَا كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحَمُّلِ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ لَمْ تَصِحَّ إِمَامَتُهُ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ الْأُمِّيِّ وَالْجُنُبِ ، وَالْقَاعِدَةِ : لِأَنَّ الطَّهَارَةَ وَالْقِيَامَ لَا يَتَحَمَّلُهَا الْإِمَامُ فَلَمْ يَكُنْ فَقْدُهُمَا قَادِحًا فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ ، وَأَمَّا إِذَا نَسِيَ سَجْدَةً مِنَ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ ، ثُمَّ ذَكَرَهَا فِي الثَّانِيَةِ قَائِمًا اعْتَدَّ بِهَا لِلْمَأْمُومِ لِأَنَّ الْإِمَامَ مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ ، وَالْأُمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَةِ ، وَلَيْسَ الْعِلَّةُ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ عَدَمُ الْقِرَاءَةِ ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِيهَا أَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، أَلَا تَرَى لَوْ كَانَ الْإِمَامُ قَارِئًا فَنَسِيَ الْقِرَاءَةَ جَازَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ ، لِأَنَّ إِمَامَهُ مِنْ أَهْلِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْإِمَامُ الْأُمِّيُّ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : صَلَاتُهُ ، وَصَلَاةُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ بَاطِلَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ

عَنِ الْمَأْمُومِ ، وَإِذَا تَضَمَّنَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهَا ، وَالْأُمِّيُّ عَاجِزٌ عَنْهَا ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَمْ يَأْتِ بِهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنِ ائْتَمَّ بِغَيْرِهِ فِي صَلَاةٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَجَبَ إِذَا أَمَّهُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ . أَصْلُهُ : الْإِمَامُ الْأُمِّيُّ بَدَلًا مِنَ الْقَارِئِ بِالْقَارِئِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ إِذَا ائْتَمَّ بِمَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لَهُ . أَصْلُهُ : إِمَامَةُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ وَلِأَنَّ الْأُصُولَ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ تَتَعَدَّى إِلَى صَلَاةِ الْمَأْمُومِ ، وَلَا يَتَعَدَّى فَسَادُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ ، أَلَا تَرَى لَوْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا إِذَا عَلِمَ بِحَالِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ مُتَطَهِّرًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا عَلِمَ بِجَنَابَتِهِ ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فَسَادَ صَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ لَا تُبْطِلُ صَلَاةَ الْأُمِّيِّ ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِوُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ تَحَمُّلَهَا بِالْإِمَامَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ إِذَا سَلَّمَ لَهُمْ ضَمَانَ تَحَمُّلِهَا أَنْ يُقَالَ : إِنَّمَا وَجَبَ تَحَمُّلًا عَنْ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ لَا رُكْنًا مَفْرُوضًا مِنْ صَلَاتِهِ ، فَوَجَبَ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا أَنْ تَبْطُلَ الصَّلَاةُ الَّتِي وَجَبَتْ فِيهَا الصَّلَاةُ مُتَحَمِّلُهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ضَمِنَ شَيْئًا ضَمَانًا فَاسِدًا أَنَّ الْحَقَّ لَازِمٌ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ دُونَ الضَّامِنِ فَلِذَلِكَ هَذَا .

فَصْلٌ : إِذَا صَلَّى مَنْ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ خَلْفَ مَنْ لَا يُحْسِنُهَا وَيُحْسِنُ مَا عَدَاهَا مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ كَصَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ : لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، وَالْعَاجِزُ عَنْهَا ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى غَيْرِهَا مَعَ مَنْ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ كَالْأُمِّيِّ مَعَ الْقَارِئِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا فَقَرَأَ غَيْرَهَا لَمْ تُجْزِهِ ، وَلَوْ كَانَا مَعًا لَا يُحْسِنَانِ الْفَاتِحَةَ . إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ ، وَالْآخَرَ أَكْثَرُ مِنْهَا ، فَأَوْلَاهُمَا بِالْإِمَامَةِ أَكْثَرُهُمَا قِرَاءَةً لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ فَإِنْ أَمَّ مَنْ يُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُمَا : لِأَنَّهُمَا قَدْ تَسَاوَيَا فِي فَقْدِ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ ، وَانْفِرَادِ أَحَدِهِمَا بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، فَصَارَتْ مَنْزِلَتُهُ مَنْزِلَةَ مَنْ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ وَحْدَهَا إِذَا أَمَّ مَنْ يُحْسِنُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ : فَلَوْ صَلَّى قَارِئٌ خَلْفَ رَجُلٍ لَا يَعْلَمُ أَقَارِئٌ هُوَ أَمْ أُمِّيٌّ ؟ فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ إِسْرَارٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ : لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَدْ قَرَأَ ، وَتُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أُمِّيًّا ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ جَهْرٍ وَلَمْ يَسْمَعْهُ قَرَأَ فِيهَا وَلَا عَلِمَهُ قَارِئًا ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهَا ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُسِرًّا بِقِرَاءَتِهَا ، أَوْ نَاسِيًا لَهَا ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ بِغَلَبَةِ الْحُكْمِ الظَّاهِرِ . فَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ : قَدْ قَرَأْتُ سِرًّا فِي نَفْسِي وَصَدَّقَهُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ كَانَ أَوْلَى . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالِاخْتِيَارُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ فَصِيحَ اللِّسَانِ ، حَسَنَ الْبَيَانِ ، مُرَتِّلًا لِلْقُرْآنِ .

الْقَوْلُ فِي إِمَامَةِ الْكَافِرِ

[ الْقَوْلُ فِي إِمَامَةِ الْكَافِرِ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنِ ائْتَمَّ بِكَافِرٍ ، ثُمَّ عَلِمَ أَعَادَ ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا إِسْلَامًا مِنْهُ وَعُزِّرَ ، وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَكُونُ إِمَامًا بِحَالٍ ، وَالْمُؤْمِنُ يَكُونُ إِمَامًا فِي الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ . إِذَا صَلَّى الْكَافِرُ إِمَامًا ، أَوْ مَأْمُومًا ، أَوْ مُنْفَرِدًا فِي مَسْجِدٍ ، أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ صَلَّى جَمَاعَةً كَانَ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا ، وَإِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ كَانَ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فَجَعَلَ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ دَلَالَةً عَلَى الْإِيمَانِ ، وَلَيْسَتْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ بُنْيَانَهُ ، وَإِنَّمَا عِمَارَتُهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ . وَبِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنِ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا ، وَصَلَّى صَلَاتَنَا ، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَلَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا وَرُوِيَ " فَهُوَ مُسْلِمٌ لَهُ مَا لَنَا ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا " ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ رَأَيْتُمُوهُ مُلَازِمَ الْمَسْجِدِ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ فَلَمَّا حَقَنَ دَمَهُ بِالصَّلَاةِ فَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِسْلَامِهِ ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ قَالُوا : وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَخْتَصُّ بِهَا الْبَيْتُ أَتَى بِهَا عَلَى كَمَالِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِإِسْلَامِهِ قِيَاسًا عَلَى الْأَذَانِ لِأَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ ، وَقَوْلُهُمْ أَتَى بِهَا عَلَى كَمَالِهَا احْتِرَازًا مِنْ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ كَمَالِ الصَّلَاةِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى قِيَاسِهِمُ الْحَجُّ : لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَيَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ ، وَكَذَا الصَّلَاةُ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [ التَّوْبَةِ : ] . فَرَفَعَ حُكْمَ الشِّرْكِ وَاسْتِبَاحَةَ الْقَتْلِ بِالتَّوْبَةِ ، وَالصَّلَاةِ مَعًا ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الصَّلَاةِ وَحْدَهَا بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الشِّرْكِ حَتَّى تُوجَدَ التَّوْبَةُ ، وَهِيَ الشَّهَادَتَيْنِ .

وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِنْ قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَجَعَلَ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَمًا فِي تَحْرِيمِ قِتَالِهِمْ وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ دُونَ الصَّلَاةِ ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ ، فَقَالَ : " إِذَا لَمْ أَعْدِلْ أَنَا فَمَنْ يَعْدِلُ ؟ وَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَرَاءَهُ لِيَقْتُلَهُ ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّي فَرَجَعَ ، وَقَالَ : مَا قَتَلْتُهُ لِأَنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي وَقَدْ نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ ، فَبَعَثَ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَرَاءَهُ لِيَقْتُلَهُ ، فَرَجَعَ كَذَلِكَ ، فَبَعَثَ بِعَلِيٍّ وَرَاءَهُ وَقَالَ : إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَهُ . فَذَهَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَلَمْ يَجِدْهُ . فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا بِالصَّلَاةِ ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ أَبُو بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بِصَلَاتِهِ لَمْ يَأْمُرْ عُمَرَ ، وَعَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، بِقَتْلِهِ . فَإِنْ قِيلَ : لَعَلَّهُ صَلَّى مُنْفَرِدًا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ . قِيلَ : تَرْكُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّؤَالَ عَنْ كَيْفِيَّةِ صَلَاتِهِ دَلِيلٌ عَلَى اتِّفَاقِ الْحُكْمِ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِفِعْلِهِ مُنْفَرِدًا لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِفِعْلِهِ جَامِعًا كَالْمُصَلِّي فِي السَّفَرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا يَكُونُ كَافِرًا بِتَرْكِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَ فِعْلِهِ ، أَصْلُهُ إِذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَوْ فَعَلَهُ مُنْفَرِدًا لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ يَجِبُ إِذَا فَعَلَهُ فِي جَمَاعَةٍ أَلَّا يُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ كَالْجِهَادِ ، وَلِأَنَّهُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إِسْلَامِهِ كَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِمْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [ التَّوْبَةِ : ] فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِمَارَةِ الْبِنَاءُ دُونَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ الِاسْمِ وَعُرْفِهِ ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهَا : وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [ التَّوْبَةِ : ] . فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعِمَارَةِ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَ الْإِقَامَةِ ثَانِيَةً . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنْ لَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مَنْ عَمَّرَ مَسَاجِدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ : الْمُؤْمِنُ مَنْ يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ ، فَجَعَلَ الْإِيمَانَ دَلَالَةً عَلَى الْعِمَارَةِ وَدَلَالَةً عَلَى الْإِيمَانِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنِ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا . . . الْحَدِيثَ " فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ ، وَإِنْ صَلَّى صَلَاتَنَا كَانَ لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا ، غَيْرَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا صَلَاةَ لَهُ : لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَا إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ " .

وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يُلَازِمُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ فَمَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِاتِّفَاقٍ ، لِأَنَّهُ بِمُلَازَمَةِ الْمَسْجِدِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا . فَإِنْ قَالُوا : أَرَادَ بِهِ إِذَا لَازَمَ الْمَسْجِدَ مُصَلِّيًا . قِيلَ لَهُمْ : إِنْ أَرَادَ بِهِ إِذَا لَازَمَ الْمَسْجِدَ مُتَشَهِّدًا بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ فَالْمُرَادُ بِهِ تَثْبِيتُ حُكْمِ تَارِكِهَا دُونَ فَاعِلِهَا ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : " فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ " عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَذَانِ فَنُبَيِّنُ أَوَّلًا مَذْهَبَنَا فِيهِ ، ثُمَّ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا أَتَى الْكَافِرُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنْ قَالَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ قَالُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، أَوْ قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِنْ قَالَ ابْتِدَاءً لَا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا : فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ رَجُلًا مُسْلِمًا بِنِيَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَيَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ قَاصِدًا بِإِتْيَانِهِ إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ كَمَا لَوْ قَالَ حَاكِيًا . قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ فِي الْمَذْهَبِ : أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ ، إِمَّا فِي صَلَاةٍ أَوْ أَذَانٍ ، بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَصِيرُ الْأَذَانُ أَصْلًا لَهُمْ ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَالَ : قَوْلُهُ : عِبَادَةٌ يَخْتَصُّ بِالْبَيْتِ أَنْ لَا يُسْلِمَ فِي الْأَذَانِ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِالشَّهَادَتَيْنِ فَيَ الْأَذَانِ لَا بِالْأَذَانِ ، وَالْإِتْيَانُ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَيْتِ ، بَلْ يَجُوزُ مُسْتَقْبِلًا لِلْبَيْتِ وَمُسْتَدْبِرًا ، وَقَوْلُهُمْ : " أَتَى بِكَمَالِهِ " ، لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَصْلِ ، وَهُوَ الْأَذَانُ ، لِأَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فِي الْأَذَانِ صَارَ مُسْلِمًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلِ الْأَذَانَ ، وَإِذَا سَقَطَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا انْتَقَضَتِ الْعِلَّةُ بِالْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا ، عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ لَا يُمْكِنُ . لِأَنَّهُمْ إِنْ قَالُوا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا لَمْ يَصِحَّ فِي الصَّلَاةِ : لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى إِسْلَامِهِ عِنْدَهُمْ . وَإِنْ قَالُوا فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى إِسْلَامِهِ لَمْ يَصِحَّ فِي الْأَصْلِ ، لِأَنَّهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فِي الْأَذَانِ يَصِيرُ مُسْلِمًا ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الشَّهَادَتَيْنِ إِنَّمَا صَارَ بِهَا مُسْلِمًا : لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ مُنْفَرِدًا كَانَ مُسْلِمًا ، وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا أَتَى بِهَا مُنْفَرِدًا لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ ، عَلَى أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى إِسْلَامِهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا صَلَاةُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِكُفْرِهِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ إِمَامِهِ الْكَافِرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ :

إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُظْهِرًا لِكُفْرِهِ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُعَاهَدِينَ ، فَصَلَاةُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ بَاطِلَةٌ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ : صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ كَالْمُصَلِّي خَلْفَ جُنُبٍ ، وَهَذَا غَلَطٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكَافِرَ مَعَهُ عِلْمٌ ظَاهِرٌ يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ ، لِأَنَّهُ يُوجَدُ لَا يَدِينُ بِلُبْسِ الْغِيَارِ ، وَشَدِّ الزُّنَّارِ ، وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ ، فَإِذَا خَفِيَ عَلَيْهِ فَلِتَفْرِيطِهِ وَقِلَّةِ تَأَمُّلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ إِمَامَةَ الْكَافِرِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ ، وَإِمَامَةُ الْجُنُبِ قَدْ تَجُوزُ بِحَالٍ ، وَهُوَ الْمُتَيَمِّمُ إِذَا صَلَّى بِالْمُتَطَهِّرِ ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَجْنَبَ جَمَاعَةٌ وَلَا يَجِدُونَ مَاءً وَلَا تُرَابًا وَخَافُوا فَوَاتَ الْوَقْتِ جَازَ أَنْ يَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ مَعَ الْعِلْمِ بِجَنَابَتِهِ ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَجَبَ اخْتِلَافُ حُكْمِهِمَا فِي الِائْتِمَامِ بِهِمَا ، وَبَطَلَتْ صَلَاةُ مَنِ ائْتَمَّ بِالْكَافِرِ مِنْهُمَا . وَإِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِكُفْرِهِ كَالزَّنَادِقَةِ ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَعَامَّةِ أَصْحَابِنَا وُجُوبُ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنِ ائْتَمَّ بِهِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِزَوَالِ الْعِلْمِ الدَّالِّ عَلَى كُفْرِهِ ، وَهَذَا غَلَطٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ بُطْلَانِ إِمَامَةِ الْكَافِرِ بِكُلِّ حَالٍ ، فَلَوِ ائْتَمَّ بِمَنْ لَا يُعْرَفُ بِالْكُفْرِ وَلَا بِالْإِسْلَامِ ، فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الدَّارِ إِسْلَامُ أَهْلِهَا إِلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ بِكُفْرِهِ مَنْ يَسْكُنُ إِلَيْهِ ، وَيَثِقُ بِهِ فَيُعِيدُ صَلَاتَهُ ، فَلَوِ ائْتَمَّ بِمُرْتَدٍّ يَظُنُّهُ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، فَلَوْ شَكَّ فِي إِسْلَامِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ رِدَّتِهِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ ، فَلَوِ ائْتَمَّ بِرَجُلٍ كَانَتْ لَهُ حَالَانِ : حَالُ رِدَّةٍ وَحَالُ إِسْلَامٍ ، وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ فِي أَيِّ الْحَالَيْنِ أَمَّهُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " أُحِبُّ أَنْ يُعِيدَ " . وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْإِسْلَامِ لَهُ فِي الْحَالِ يَرْفَعُ حُكْمَ رِدَّتِهِ ، وَيَدُلُّ فِي الظَّاهِرِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِ ، وَلَوْ أَنَّ كَافِرًا أَسْلَمَ ثُمَّ جَحَدَ إِسْلَامَهُ وَقَدِ ائْتَمَّ بِهِ مُسْلِمُونَ . فَمَنِ ائْتَمَّ بِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَقَبْلَ جُحُودِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ : لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فِي الظَّاهِرِ ، وَمَنِ ائْتَمَّ بِهِ بَعْدَ جُحُودِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ بِالْجُحُودِ مُرْتَدٌّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَمَنْ أَحْرَمَ فِي مَسْجِدٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، ثُمَّ جَاءَ الْإِمَامُ فَتَقَدَّمَ بِجَمَاعَةٍ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُكْمِلَ رَكْعَتَيْنِ ، وَيُسَلِّمَ يَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً ، وَيَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ مَعَهُ ، وَكَرِهْتُ لَهُ أَنْ يَفْتَتِحَهَا صَلَاةَ انْفِرَادٍ ، ثُمَّ يَجْعَلَهَا صَلَاةَ جَمَاعَةٍ ، وَهَذَا يُخَالِفُ صَلَاةَ الَّذِينَ افْتَتَحَ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ ، ثُمَّ ذَكَرَ ، فَانْصَرَفَ ، فَاغْتَسَلَ ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَأَمَّهُمْ لِأَنَّهُمُ افْتَتَحُوا الصَّلَاةَ جَمَاعَةً ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : قَالَ قَائِلٌ : يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ وَيَعْتَدُّ بِمَا مَضَى . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : هَذَا عِنْدِي عَلَى أَصْلِهِ أَقْيَسُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ فَلَمْ يَضُرَّهُمْ وَصَحَّ إِحْرَامُهُمْ وَلَا إِمَامَ لَهُمْ ، ثَمَّ ابْتَدَأَ بِهِمْ وَقَدْ سَبَقُوهُ بِالْإِحْرَامِ وَكَذَلِكَ سَبَقَهُ أَبُو بَكْرٍ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ ، ثُمَّ جَاءَ فَأَحْرَمَ ، وَائْتَمَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدِي عَلَى فَعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ مُنْفَرِدًا بِفَرْضِ وَقْتِهِ مِنْ ظُهْرٍ ، أَوْ عَصْرٍ ثم دخل الامام فأنشأ الجماعة لتلك الصلاة فِي مَسْجِدٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، ثُمَّ دَخَلَ الْإِمَامُ فَأَنْشَأَ الْإِحْرَامَ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً ، فَيُخْتَارُ لِهَذَا الْمُنْفَرِدِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمَ ، يَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً ، وَيَبْتَدِئُ الْإِحْرَامَ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ لِيُؤَدِّيَ فَرْضَهُ فِي جَمَاعَةٍ ، وَإِنْ قَطَعَ صَلَاتَهُ ، وَابْتَدَأَ الْإِحْرَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ جَازَ ، وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ مَا ابْتَدَأَهُ مُنْفَرِدًا ، وَإِنْ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا ، وَلَمْ يَتْبَعِ الْإِمَامَ جَازَ ، وَإِنْ تَبِعَ الْإِمَامَ بِإِحْرَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَعَلَّقَ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ فَقَدْ أَسَاءَ ، وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ ، وَالْإِمَامُ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَيَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ لِمَا عَلَّلَ بِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : وَمَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ بِإِمَامَيْنِ أَجَازَ هَذَا ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ جَوَازُ الصَّلَاةِ بِإِمَامَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِي صَلَاتِهِ قَوْلًا ثَالِثًا ، إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهُ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهُ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ ، وَجَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ ، فَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا فَأَمَرَ أَنْ يَكُونَ تَكْبِيرُ الْمَأْمُومِ عُقَيْبَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ ، فَوَجَبَ إِذَا سَبَقَهُ بِالتَّكْبِيرِ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِأَنَّهُ عَقَدَ صَلَاتَهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الِائْتِمَامُ فِيهَا بِالْإِمَامِ . أَصْلُهُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ لِيُحْرِمَ مَعَهُ فَسَبَقَ إِمَامَهُ بِالْإِحْرَامِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى بُطْلَانِهِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا لِعِلَّةِ مَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ فِي مَوْقِفِهِ وَأَفْعَالِهِ ، ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّهُ إِنْ تَقَدَّمَ إِمَامَهُ فِي مَوْقِفِ الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزْ ، فَكَذَلِكَ إِذَا تَقَدَّمَهُ فِي أَفْعَالِهَا . وَإِذَا قِيلَ بِصِحَّةِ صَلَاتِهِ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي ، فَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِأَصْحَابِهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ ، فَقَالَ لَهُمْ : " كُونُوا كَمَا أَنْتُمْ " وَدَخَلَ ، وَاغْتَسَلَ ، وَخَرَجَ ، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً ، وَاسْتَأْنَفَ الْإِحْرَامَ وَبَنَى الْقَوْمُ عَلَى إِحْرَامِهِمْ ، فَلَمَّا سَبَقُوهُ بِالْإِحْرَامِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِاسْتِئْنَافِهِ ، وَقَدْ خَرَجُوا بِالْجَنَابَةِ مِنْ إِمَامَتِهِ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِذَا سَبَقَ الْإِمَامَ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَلَى الصَّلَاةِ ، فَأَحْرَمَ بِهِمْ ، ثُمَّ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِفَّةً فَتَقَدَّمَ ، وَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَصَلَّى النَّاسُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ سَبَقُوهُ بِالْإِحْرَامِ ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ فَلَمَّا جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْتَتِحَ صَلَاةَ انْفِرَادٍ ثُمَّ يَأْتَمَّ

بِهِ رَجُلٌ فَتَصِيرُ جَمَاعَةً ، جَازَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ مُنْفَرِدًا ، ثُمَّ يَأْتَمُّ بِرَجُلٍ فَتَصِيرُ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ نَقُولَ : إِنَّهَا صَلَاةٌ افْتَتَحَهَا مُنْفَرِدًا فَجَازَ أَنْ تَصِيرَ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ كَالْإِمَامِ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ طَرَفَانِ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهَا جَامِعًا ، وَفِي انْتِهَائِهَا مُنْفَرِدًا إِذَا أَحْدَثَ إِمَامُهُ أَوْ مَاتَ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهَا مُنْفَرِدًا وَفِي انْتِهَائِهَا جَامِعًا ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الِانْفِرَادِ أَنْقَصُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ ، وَبِنَاءَ الْأَفْضَلِ عَلَى الْأَنْقَصِ جَائِزٌ فِيمَا يَصِحُّ إِتْيَانُهُ مُنْفَرِدًا ، كَبِنَاءِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ عَلَى صَلَاةِ الْمُقِيمِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : " وَأُحِبُّ أَنْ يُكْمِلَهَا رَكْعَتَيْنِ ، وَيُسَلِّمَ يَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً " فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ نَقْلِ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْلِ ، وَتَفْصِيلُ مَذْهَبِهِ فِي نَقْلِ صَلَاةٍ إِلَى صَلَاةٍ مَا أَنَا ذَاكِرُهُ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ ، كَظُهْرٍ إِلَى عَصْرٍ ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ الْأَوَّلِ ، لِتَغْيِيرِ النِّيَّةِ ، وَلَا عَنِ الثَّانِي لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِئْهُ بِالنِّيَّةِ ، وَلَا يَجُوزُ نَفْلٌ إِلَى نَفْلٍ ، لِأَنَّهُمَا إِنْ كَانَا مِثْلَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِتَغْيِيرِ النِّيَّةِ ، وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ كَانْتِقَالٍ مِنْ وِتْرٍ إِلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لَمْ يَجِبْ ، لِأَنَّ افْتِتَاحَهُمَا بِالنِّيَّةِ وَاجِبٌ ، وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ نَفْلٍ إِلَى فَرْضٍ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِي ابْتِدَائِهَا . فَأَمَّا نَقْلُ فَرْضٍ إِلَى نَفْلٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : انْتِقَالُ حُكْمٍ ، وَالثَّانِي : انْتِقَالُ فِعْلٍ ، فَأَمَّا انْتِقَالُ الْحُكْمِ فَجَائِزٌ ، كَمَنْ أَحْرَمَ بِفَرْضِ الْوَقْتِ قَبْلَ دُخُولِهِ ، فَهِيَ لَهُ نَافِلَةٌ وَإِنْ نَوَاهَا فَرْضًا ، فَأَمَّا انْتِقَالُ الْفِعْلِ فَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ إِحْرَامُهُ بِفَرْضٍ ، ثُمَّ يُغَيِّرُ النِّيَّةَ وَبِنَقْلِ صَلَاتِهِ مِنَ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْلِ . فَفِيهِ قَوْلَانِ ، مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمَا بُطْلَانُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ فَرْضٍ ، وَلَا نَفْلٍ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ قَوْلِهِ : وَأُحِبُّ أَنْ يُكْمِلَ رَكْعَتَيْنِ ، وَيُسَلِّمُ تَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً ، فَيَجُوزُ نَقْلُ الْفَرْضِ إِلَى النَّافِلَةِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنِ امْتَنَعَ مِنْ تَخْرِيجِ هَذَا الْقَوْلِ وَحَمَلَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُ انْتَقَلَتْ فِي الْحُكْمِ نَافِلَةً ، لَا أَنَّهَا انْتَقَلَتْ بِتَغْيِيرِ النِّيَّةِ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ .

بَابُ مَوْقِفِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ مَعَ الْإِمَامِ

[ بَابُ مَوْقِفِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ مَعَ الْإِمَامِ ] قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أَمَّ رَجُلٌ رَجُلًا قَامَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِهِ ، وَإِنْ كَانَ خُنْثَى مُشْكِلًا أَوِ امْرَأَةً قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَلْفَهُ وَحْدَهُ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ أَنَسًا ، وَعَجُوزًا مُنْفَرِدَةً خَلْفَ أَنَسٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَمَّ رَجُلٌ رَجُلًا فَالسُّنَّةُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقِفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : يَقِفُ الْمَأْمُومُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ : يَقِفُ خَلْفَهُ إِلَى أَنْ يَرْكَعَ ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ آخَرُ وَقَفَا خَلْفَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ تَقَدَّمَ وَوَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ رِوَايَةُ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّهُ ، وَامْرَأَةً ، فَأَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ ، وَالْمَرْأَةَ وَرَاءَهُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَجَدَ خِفَّةً مِنْ مَرَضِهِ خَرَجَ ، وَوَقَفَ عَلَى يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِرِوَايَةِ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلِ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَضَّأَ ، وَقَامَ لِيُصَلِّيَ ، فَقُمْتُ ، وَتَوَضَّأْتُ مِثْلَ وُضُوئِهِ ، وَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ ، فَأَخَذَنِي بِيَمِينِهِ ، وَأَدَارَنِي مِنْ وَرَائِهِ وَأَقَامَنِي عَلَى يَمِينِهِ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ عَنْ يَمِينِهِ وَيَنْوِي بِهِ التَّحِيَّةَ لِلْمَأْمُومِينَ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُحَيِّي فِيهَا ، فَلَوْ خَالَفَ الْمَأْمُومُ ذَلِكَ فَوَقَفَ خَلْفَهُ ، أَوْ عَنْ يَسَارِهِ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً : لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ فَنَقَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَمِينِهِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْشَأَ الصَّلَاةَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ . فَأَمَّا إِنْ أَمَّ رَجُلَيْنِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَا صَفًّا خَلْفَهُ ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّهُ وَيَتِيمًا فَوَقَفَا خَلْفَهُ ، وَوَقَفَتْ جَدَّةُ أَنَسٍ خَلْفَهُمَا ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَخَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ فَأَقَامَهُمَا خَلْفَهُ صَفًّا ، فَلَوْ وَقَفَا عَلَى يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ ، أَوْ وَقَفَ أَحَدُهُمَا عَنْ

يَمِينِهِ ، وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ فَصَلَاةُ جَمَاعَتِهِمْ جَائِزَةٌ ، فَلَوْ أَمَّ رَجُلًا فَوَقَفَ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ لِيَأْتَمَّ بِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَأَخَّرَ الْمَأْمُومُ لِيَقِفَ هُوَ وَالْجَائِي صَفًّا ، وَلَا يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ عَنْ مَوْقِفِهِ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ يَسَارِهِ إِلَى يَمِينِهِ ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ هُوَ بِنَفْسِهِ ، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي وَحْدَهُ فَقُمْتُ عَنْ يَمِينِهِ ، فَدَخَلَ أَبُو صَخْرٍ ، وَوَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ ، فَأَخَّرَنَا بِيَدَيْهِ حَتَّى صِرْنَا خَلْفَهُ ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ تَابِعٌ وَالْإِمَامَ مَتْبُوعٌ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ انْتِقَالِ أَحَدِهِمَا فَالتَّابِعُ أَوْلَى .

فَصْلٌ : فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَّ امْرَأَةً وَحْدَهَا موقف المرأة مع الامام وَقَفَتْ خَلْفَهُ وَلَمْ تَقِفْ إِلَى جَنْبِهِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا ، وَشَرُّهَا آخِرُهَا ، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَّ خُنْثَى مُشْكِلًا وَقَفَ خَلْفَهُ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً وَقَفَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الرَّجُلِ الْمَأْمُومِ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ أَنَسًا وَعَجُوزًا مُفْرَدَةً خَلَفَ أَنَسٍ ، فَلَوْ أَمَّ رَجُلًا ، وَخُنْثَى ، وَامْرَأَةً ، وَقَفَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ ، وَالْخُنْثَى خَلْفَ الرَّجُلِ ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الْخُنْثَى فَلَوْ أَمَّ رِجَالًا ، وَصِبْيَانًا ، فَأَصَحُّ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الرِّجَالَ يَكُونُونَ أَمَامَ الصِّبْيَانِ ، ثُمَّ يَقِفُ الصِّبْيَانُ خَلْفَ الرِّجَالِ ، لِمَا رَوَى عَلْقَمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ قَالَ : لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أَهْلُ الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْأَوْلَى أَنْ يَقِفَ كُلُّ صَبِيٍّ بَيْنَ رَجُلَيْنِ : لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى تَعْلِيمِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ، فَلَوْ أَمَّ رِجَالًا ، وَصِبْيَانًا وَخَنَاثَى ، وَنِسَاءً تَقَدَّمَ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، ثُمَّ بَعْدَهُمُ الصِّبْيَانُ ، ثُمَّ بَعْدَ الصِّبْيَانِ الْخَنَاثَى ، ثُمَّ بَعْدَهُمُ النِّسَاءُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَرَكَعَ أَبُو بَكْرَةَ وَحْدَهُ وَخَافَ أَنْ تَفُوتَهُ الرَّكْعَةُ ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اصْطَفَّ النَّاسُ خَلْفَ إِمَامِهِمْ فِي الصَّلَاةِ ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ الدُّخُولَ مَعَهُمْ ، فَالْمُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَقِفَ فِي صَفِّهِمْ ، وَيَجْذِبَ إِلَيْهِ فَيَقِفَانِ جَمِيعًا خَلْفَهُ ، فَإِنْ أَبَى وَوَقَفَ وَحْدَهُ مُنْفَرِدًا فَقَدْ أَسَاءَ وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ : لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ إِذَا انْفَرَدَ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ أَبِي سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ

عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فَأَبْصَرَ رَجُلًا صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ ، فَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَبْصَرَ رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ النَّاسِ ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : " أَعِدْ صَلَاتَكَ ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِفَذٍّ خَلْفَ الصَّفِّ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ يَلْهَثُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الَّذِي رَكَعَ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ ؟ فَقُلْتُ : أَنَا ، قَالَ : " زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا ، وَلَا تُعِدْ فَلَوْ كَانَ انْفِرَادُهُ قَادِحًا فِي صَلَاتِهِ لَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ نَهَاهُ ، وَقَالَ : لَا تَعُدْ ، قُلْنَا : فِي مَعْنَى نَهْيِهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَهَاهُ عَنِ السَّعْيِ وَاللَّهْثِ ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُعِدْ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ خَلْفَ الصَّفِّ مَعَ غَيْرِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا كَالْمَرْأَةِ خَلْفَ الرِّجَالِ . فَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَدَلَالَةٌ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُ وَقَفَ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً لَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ قَبْلَ إِتْمَامِهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ فَغَيْرُ كَامِلَةٍ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ عَلَى إِمَامِهِ فِي الْمَوْقِفِ فَوَقَفَ قُدَّامَ إِمَامِهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : بِغَيْرِهَا ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى إِمَامِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ : صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ أَكْثَرُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْمَوْقِفِ الْمَسْنُونِ ، وَمُخَالَفَةُ الْمَوْقِفِ الْمَسْنُونِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، كَالْمَأْمُومِ الْوَاحِدِ إِذَا وَقَفَ عَلَى يَسَارِ إِمَامِهِ ، أَوِ الْجَمَاعَةُ إِذَا وَقَفُوا عَلَى يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ : صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، وَالِائْتِمَامُ الِاتِّبَاعُ ، وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى إِمَامِهِ لَا يَكُونُ تَابِعًا بَلْ يَكُونُ مَتْبُوعًا ، وَلِأَنَّ عَلَى الْمَأْمُومِ اتِّبَاعَ إِمَامِهِ فِي مَوْقِفِهِ ، وَأَفْعَالِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ فِي إِحْرَامِهِ وَأَفْعَالِ صَلَاتِهِ لَمْ يَجُزْ لْهُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ فِي مَوْقِفِ صَلَاتِهِ . وَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهَا . وَالثَّانِي : فِي غَيْرِ مَسْجِدِهَا فِي مَنَازِلِهَا ، فَإِنْ صَلَّى فِي غَيْرِ مَسْجِدِهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُصَلِّي فِي غَيْرِهَا ، وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى إِمَامِهِ قَوْلَانِ كَمَا مَضَى ، وَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْتَدِيرَ النَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَرَاءَ الْإِمَامِ وَتُجَاهَهُ ، وَيَكُونُ مَوْقِفُ الْإِمَامِ عِنْدَ الْمَقَامِ مُسْتَقْبِلًا لِبَابِ الْكَعْبَةِ ، مُسْتَدْبِرًا لِبَابِ بَنِي شَيْبَةَ ، وَإِنْ وَقَفَ مُسْتَقْبِلًا لِلْكَعْبَةِ أَجْزَأَهُ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَقْرَبَ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنَ الْمَأْمُومِينَ ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مِنْهَا عَلَى نَحْوِ الذِّرَاعِ تَأَخَّرَ الْمَأْمُومِينَ نَحْوَ الذِّرَاعَيْنِ ، فَإِنْ فَعَلَ هَذَا الَّذِينَ هُمْ وَرَاءَ الْإِمَامِ كَانَ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ قَوْلَانِ كَمَا مَضَى ، وَإِنْ فَعَلَهُ الَّذِينَ هُمْ فِي مُقَابَلَتِهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " إِنَّ صَلَاتَهُمْ جَائِزَةٌ ، وَقَالَ فِي " الْجَامِعِ " : إِذَا تَوَجَّهَ الْإِمَامُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَائْتَمَّ بِهِ قَوْمٌ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ أَجْزَأَتْهُمْ صَلَاتُهُمْ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ أَقْرَبُ إِلَيْهَا مِنَ الْإِمَامِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ فِي صَلَاتِهِمْ قَوْلَيْنِ كَمَا مَضَى ، وَحُمِلَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَحَدِهِمَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ أَنَّ صَلَاتَهُمْ جَائِزَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا اسْتِعْمَالًا لِظَاهِرِ نَصِّهِ : وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا إِلَى الْبَيْتِ أَقْرَبُ مِنَ الْإِمَامِ ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَوْصُوفِينَ بِالتَّقَدُّمِ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُمْ فِي مُقَابَلَتِهِ وَمُحَاذَاتِهِ ، وَغَيْرُهُمْ إِذَا كَانَ إِلَى الْقِبْلَةِ أَقْرَبَ صَارَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ ، فَخَرَجَ بِالتَّقَدُّمِ مِنَ اتِّبَاعِهِ ، وَسَرَى ذَلِكَ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : إِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الْبَيْتِ مِنَ الْإِمَامِ فَيُمْكِنُهُمْ مُشَاهَدَةُ أَفْعَالِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ ، وَغَيْرُهُمْ إِذَا تَقَدَّمَ إِمَامَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اتِّبَاعِهِ ، وَلَا عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ بِفِعْلِهِ ، فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، وَبُطْلَانِهَا .

فَصْلٌ : وَإِذَا سَبَقَ الْمَأْمُومُ إِمَامَهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَرَكَعَ قَبْلَ رُكُوعِهِ وَسَجَدَ قَبْلَ سُجُودِهِ . فَإِنْ سَبَقَهُ قَاصِدًا لِمُخَالَفَتِهِ مُعْتَقِدًا إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ إِمَامَتِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّهُ

غَيْرُ مُؤْتَمٍّ بِهِ لِمُخَالَفَةِ أَفْعَالِهِ ، وَلَا مُنْفَرِدًا عَنْهُ لِاعْتِقَادِ إِمَامَتِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْتَمًّا وَلَا مُنْفَرِدًا كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً . وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ مُخَالَفَةَ إِمَامِهِ فَإِنْ سَبَقَهُ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ كَأَنْ رَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ الْإِمَامُ وَاسْتَدَامَ الرُّكُوعَ مَعَهُ فَقَدْ أَسَاءَ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ رَأْسِ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوَّلَ رَأْسُهُ رَأْسَ حِمَارٍ وَتُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مُقْتَدِيًا بِإِمَامِهِ فِي الرُّكْنِ الَّذِي سَبَقَهُ فِيهِ فَاقْتَضَى أَنْ يُجْزِئَهُ ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ مَعَهُ ، وَإِنْ سَبَقَهُ بِرُكْنَيْنِ مِنَ الرَّكْعَةِ كَأَنْ رَكَعَ وَرَفَعَ ، ثُمَّ رَكَعَ الْإِمَامُ ، أَوْ رَفَعَ وَسَجَدَ ، ثُمَّ رَفَعَ الْإِمَامُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ تَصِحَّ لَهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ إِمَامَهُ فِي مُعْظَمِ فِعْلِهِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : إِذَا أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ ، ثُمَّ سَبَقَهُ بِالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ أَنْ تُجْزِئَهُ ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ بِإِجْمَاعٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ صَلَّتْ بَيْنَ يَدَيْهِ امْرَأَةٌ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا ، وَدَلَّلْنَا لَهُ ، وَعَلَيْهِ بِمَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ صَلَّى رَجُلٌ فِي طَرَفِ الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ فِي طَرَفِهِ ، وَلَمْ تَتَّصِلِ الصُّفُوفُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، أَوْ فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةٍ أَجْزَأْهُ ، كَذَلِكَ صَلَّى أَبُو هُرَيْرَةَ فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صَلَّى الْمَأْمُومُ فِي طَرَفِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي طَرَفِهِ الْآخَرِ فَالِاعْتِبَارُ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِصَلَاةِ إِمَامِهِ ، وَطَرِيقِ الْعِلْمِ بِهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ . إِمَّا بِمُشَاهَدَةٍ ، وَبِسَمَاعِ تَكْبِيرِهِ ، أَوْ بِمُشَاهَدَةِ مَنْ خَلْفَهُ ، أَوْ بِسَمَاعِ تَكْبِيرِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ بِصَلَاتِهِ عَالِمًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا ، أَوْ كَبِيرًا ، قَرُبَ مَا بَيْنَهُمَا أَوْ بَعُدَ ، حَالَ مَا بَيْنَهُمَا حَائِلٌ ، أَوْ لَمْ يَحُلْ ، اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ إِلَيْهِ أَوْ لَمْ تَتَّصِلْ ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْوَاحِدَ إِنَّمَا يُبْنَى لِجَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ : وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ صَغِيرًا ، أَوْ كَبِيرًا لِقِلَّةِ جَمَاعَتِهِمْ ، وَكَثْرَتِهَا ، فَصَغُرَتْ مَسَاجِدُ الْمَحَالِّ لِقِلَّةِ جَمَاعَتِهَا ، وَكُلُّ مَنْ أَحَاطَ بِهِ الْمَسْجِدُ فَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ

وَاحِدَةٍ ، وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مَعَ إِمَامِهِ فِي جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ وَرَاءَهُ ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِصَلَاةِ إِمَامِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّ عَلَيْهِ اتِّبَاعَهُ فِي أَفْعَالِهِ ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِهَا يَمْنَعُ مِنَ اتِّبَاعِهِ فِيهَا ، فَلَوْ صَلَّى الْمَأْمُومُ فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ ، أَوْ مُصْطَفًّا بِهِ ، أَوْ عَلَى سَطْحِهِ ، وَكَانَ عَالِمًا بِصَلَاةِ إِمَامِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ : لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ وَرِحَابَهُ كَالْمَسْجِدِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْجُنُبَ مَمْنُوعٌ مِنَ اللُّبْثِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ .

فَصْلٌ : وَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَالْمَأْمُومُ فِي أَرْضِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عُلُوٍّ مِنَ الْأَرْضِ لِيَعْلَمَ الْمَأْمُومِينَ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ كَانَ جَائِزًا مُسْتَحَبًّا ، وَصَلَاةُ جَمَاعَتِهِمْ جَائِزَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ تَعْلِيمَهُمْ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَإِيَّاهُمْ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ سَوَاءً . وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْلُوَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ تَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ هَمَّامٍ ، قَالَ : صَلَّى بِنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَصَعِدَ دِكَّةً ، فَجَذَبَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَنْزَلَهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ : لَوْ أَعْلَمُ مَا قَبِلْتُ مِنْكَ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَرَكَعَ ، وَرَفَعَ ، وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى حَتَّى نَزَلَ فَسَجَدَ ، ثُمَّ رَقَا ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ : إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي وَيُحْمَلُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَعْلِيمَ مَنْ خَلْفَهُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُمْ صَحَابَةٌ وَقَدْ عَلِمُوا الصَّلَاةَ مِثْلَ عِلْمِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنْ صَلَّى قُرْبَ الْمَسْجِدِ ، وَقُرْبُهُ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ مِنْ أَنْ يَتَّصِلَ بِشَيْءٍ بِالْمَسْجِدِ ، لَا حَائِلَ دُونَهُ فَيُصَلِّي مُنْقَطِعًا عَنِ الْمَسْجِدِ ، أَوْ فِنَائِهِ عَلَى قَدْرِ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ ، أَوْ ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمَأْمُومِ إِذَا صَلَّى مَعَ إِمَامِهِ فِي الْمَسْجِدِ شروط صحة صلاة المأموم خلف الامام ، فَالِاعْتِبَارُ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ : أَحَدُهَا : الْعِلْمُ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ مَضَتْ . وَالثَّانِي : الْقُرْبُ وَأَبْعَدُهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ بِثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ ، أَوْ نَحْوِهَا ، وَذَلِكَ أَبْعَدُ رَمْيَةِ سَهْمٍ ، وَغَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَجَعَلَ الثَّلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ حَدًّا ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، بَلْ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ

وَأَصْلُهُ حِرَاسَةُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَصْحَابِهِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لِيَدْفَعُوا عَنْهُمْ أَذَى عَدُوِّهِمْ ، وَأَبْعَدُ أَذَاهُمْ رَمْيُ السِّهَامِ ، وَغَايَتُهُ فِي الْغَالِبِ مَا ذَكَرْنَا . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ ، فَإِنْ حَالَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ سُورِ الْمَسْجِدِ مِنْ جِدَارٍ ، أَوْ غَيْرِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ حَالَ بَيْنَهُمَا سُورُ الْمَسْجِدِ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى جَوَازِ صَلَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ حَائِلٍ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا ، لِأَنَّ سُورَ الْمَسْجِدِ مِنْ مَصَالِحِهِ وَبَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِهِ فَصَارَ كَالسَّوَارِي الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ وَبَيْنَ الْإِمَامِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، وَقَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ : إِنَّ ذَلِكَ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ أَبْوَابُهُ الْمُغْلَقَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مُصْمَتَةً أَوْ مُشَبَّكَةً ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، لِنِسْوَةٍ صَلَّينَ فِي سُتْرَةٍ لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَنْزِلِهَا ، وَالْمَسْجِدِ إِلَّا سُورُ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ بَابَ مَنْزِلِهَا كَانَ يَنْفُذُ إِلَيْهِ ، فَإِذَا كَمُلَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الثَّلَاثَةُ صَحَّتْ صَلَاةُ مَنْ خَارِجُ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا بَيَّنْتُهُ ، وَإِنْ عُدِمَ شَرْطٌ مِنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَنَسٍ ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : يُصَلِّي بِصَلَاةِ الْإِمَامِ مَنْ عَلِمَهَا ، قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا ، حَالَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ أَمْ لَا ، وَهَذَا غَلَطٌ ، وَبِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَالَ بِهِ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [ الْجُمُعَةِ : ] . وَمَا قَالَهُ مِنْ إِيجَابِ السَّعْيِ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ لَهُمْ سَبِيلُ الْعِلْمِ بِهَا ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ مَعْنَاهُ : وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا صَلَاةَ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَإِلَّا فَصَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا فِي مَنْزِلِهِ جَائِزَةٌ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَضَلَلْتُمْ يَعْنِي : بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، لِلنِّسْوَةِ اللَّاتِي صَلَّيْنَ فِي مَنْزِلِهَا : " لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ " .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّرَائِطِ فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الْمَأْمُومِ الْوَاقِفِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ الْإِمَامُ أَوْ عَلَى يَسَارِهِ ، أَوْ وَرَاءَهُ فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ ذَيْلِ الْبَابِ مَفْتُوحًا يُشَاهَدُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةُ مَنْ فِيهِ ، وَيَكُونُ عَلَى قُرْبٍ ، وَاعْتِبَارُ الْقُرْبِ مِنْ سُورِ الْمَسْجِدِ لَا مِنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ ، وَلَا مِنَ انْتِهَاءِ الصُّفُوفِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ ، فَإِذَا كَانَ مُحَاذِيًا لِبَابِ الْمَسْجِدِ مُشَاهِدًا لَهُ ، وَلِأَصْلِهِ ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُورِهِ دُونَ الثَّلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنِ اتَّصَلَ بِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَوَرَاءً وَلَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ مَنْ يُقَدِّمُهُ إِمَامُهُ : لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ إِذَا لَمْ يُشَاهِدِ الْمَسْجِدَ صَارَ تَابِعًا لِمَنْ شَاهَدَهُ ، فَإِذَا تَقَدَّمَ عَلَى مَتْبُوعِهِ كَانَ كَالْمُتَقَدِّمِ عَلَى إِمَامِهِ ، فَلَوِ اتَّصَلَ الصَّفُّ عَنْ يَمِينِهِ أَمْيَالًا ، وَيَسَارِهِ أَمْيَالًا ، وَوَرَاءَهُ أَمْيَالًا صَحَّتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ مَا لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ حَائِلٌ مِنْ سُتْرَةٍ ، أَوْ جِدَارٍ ، وَلَا يَبْعُدُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ إِنْ حَالَ بَيْنَهُمْ حَائِلٌ فَصَلَاةُ مَنْ وَرَاءَ الْحَائِلِ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ بَعُدَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ فَصَلَاةُ الْمُنْقَطِعِ الْبَعِيدِ بَاطِلَةٌ ، وَاعْتِبَارُ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنْ أَوَاخِرِ الصُّفُوفِ

الْخَارِجَةِ ، وَلَيْسَ الطُّرُقُ النَّافِذَةُ حَائِلًا بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ بَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ غَيْرِهَا مِنَ الْمَرْفُوعِ سَوَاءً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الطُّرُقُ النَّافِذَةُ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَنَسًا صَلَّى فِي بُيُوتِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَالْمَسْجِدُ طَرِيقٌ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ حَائِلًا يَمْنَعُ الِائْتِمَامَ لَمْ تَصِحَّ الْجُمَعُ فِي الصَّحْرَاءِ ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا طُرُقٌ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ لَوِ اتَّصَلَتْ فِي الصَّحْرَاءِ أَمْيَالًا جَازَ ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ مَنْ قَالَ إِنَّ الطَّرِيقَ حَائِلٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَكَذَلِكَ الصَّحْرَاءُ ، وَالسَّفِينَةُ ، وَالْإِمَامُ فِي أُخْرَى وَلَوْ أَجَزْتُ أَبْعَدَ مِنْ هَذَا أَجَزْتُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مِيلٍ ، وَمَذْهَبُ عَطَاءٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ مَنْ عَلِمَهَا ، وَلَا أَقُولُ بِهَذَا . ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) : قَدْ أَجَازَ الْقُرْبَ فِي الْإِبِلِ بِلَا تَأْقِيتٍ وَهُوَ عِنْدِي أَوْلَى لِأَنَّ التَّأْقِيتَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِخَبَرٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي أُخْرَى : أَمَّا الْمُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ وَجَوَازَ صَلَاتِهِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِصَلَاةِ إِمَامِهِ ، أَوْ بِصَلَاةِ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ ، وَكَانَ عَلَى قُرْبٍ وَاعْتِبَارُ الْقُرْبِ فِي أَوَاخِرِ الصُّفُوفِ . فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ فَاعْتِبَارُ ذَلِكَ مِنْ مَوْقِفِهِ ، فَأَمَّا الْمُصَلِّي فِي سَفِينَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ قَائِمًا ، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ ، أَوْ صِغَرِ السَّفِينَةِ صَلَّى كَيْفَ أَمْكَنَهُ ، وَأَعَادَ إِذَا قَدَرَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ ، كَالْمَرْبُوطِ عَلَى خَشَبَةٍ قَالَ : فَلَوْ غَرِقَتِ السَّفِينَةُ ، وَتَعَلَّقَ رَجُلٌ بِلَوْحٍ ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ صَلَّى مُومِيًا ، فَإِنِ اسْتَقْبَلَ بِهَا الْقِبْلَةَ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ صَلَّاهَا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَعَادَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ مُومِيًا إِلَى الْقِبْلَةِ وَلَا يُعِيدَ ، وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ مُومِيًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، وَيُعِيدَ وَهُوَ مُضْطَرٌّ إِلَى تَرْكِ الْقِبْلَةِ كَمَا هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَى الْإِيمَاءِ ، أَنَّ غَيْرَ الْخَائِفِ قَدْ سَقَطَ فَرْضُهُ بِالْإِيمَاءِ ، وَهُوَ الْمَرِيضُ ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ هَا هُنَا غَيْرُ الْخَائِفِ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ مَعَ تَرْكِ الْقِبْلَةِ فَلَمْ تَصِحَّ هَا هُنَا .

فَصْلٌ : فَلَوْ أَرَادَ أَهْلُ السَّفِينَةِ أَنْ يَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ وَيُصَلُّوا جَمَاعَةً جَازَ ، لِأَنَّ كُلَّ مَكَانٍ جَازَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ جَازَتْ فِيهِ الْجَمَاعَةُ كَالْأَرْضِ ، وَلَوْ كَانَتِ السَّفِينَةُ ذَاتَ طَبَقَتَيْنِ عُلُوٍّ وَسُفْلٍ ، فَإِنْ صَلَّوْا جَمِيعًا فِي إِحْدَى الطَّبَقَتَيْنِ عُلُوٍّ أَوْ سُفْلٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ جَمِيعِهِمْ ، وَإِنْ صَلَّى بَعْضُهُمْ فِي سُفْلِهَا وَإِمَامُ جَمِيعِهِمْ وَاحِدٌ : فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ مَنْفَذٌ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَيَعْلَمُ بَعْضُهُمْ بِصَلَاةِ بَعْضٍ ، صَحَّتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ مَنْفَذٌ يُشَاهِدُ الْأَسْفَلُونَ مِنْهُ الْأَعْلَيْنَ ، أَوْ بَعْضَهُمْ ، وَالْأَعْلَوْنَ مِنْهُ الْأَسْفَلِينَ أَوْ بَعْضَهُمْ ، فَصَلَاةُ مَنْ فِي طَبَقَةِ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ دُونَ غَيْرِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي عُلُوِّهَا صَحَّتْ صَلَاةُ أَهْلِ الْعُلُوِّ ، وَبَطَلَتْ صَلَاةُ

أَهْلِ السُّفْلِ ، وَإِنْ كَانَ فِي سُفْلِهَا صَحَّتْ صَلَاةُ أَهْلِ السُّفْلِ وَبَطَلَتْ صَلَاةُ أَهْلِ الْعُلُوِّ ، لِأَنَّ الْحَائِلَ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِائْتِمَامِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ فِي سَفِينَةٍ وَالْمَأْمُومُ فِي أُخْرَى وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّفِينَتَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُغَطَّاتَيْنِ ، أَوْ مَكْشُوفَتَيْنِ ، أَوْ إِحْدَاهُمَا مُغَطَّاةً وَالْأُخْرَى مَكْشُوفَةً ، فَإِنْ كَانَتَا مُغَطَّاتَيْنِ ، أَوْ إِحْدَاهُمَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ فِي السَّفِينَةِ الْأُخْرَى ، كَمَا لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي دَارٍ وَالْمَأْمُومُ فِي أُخْرَى ، وَإِنْ كَانَتَا مَكْشُوفَتَيْنِ أَوْ كَانَا عَلَى ظَهْرِ سَفِينَتَيْنِ مُغَطَّاتَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَشْدُودَتَيْنِ ، أَوْ مُرْسَلَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّفِينَتَيْنِ مَشْدُودَةً بِالْأُخْرَى صَارَتَا كَالسَّفِينَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَصَحَّتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ ، وَإِنْ كَانَتَا مُرْسَلَتَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا رَبْطٌ ، وَلَا شِدَادٌ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ فِي السَّفِينَةِ الْأُخْرَى جَائِزَةٌ إِذَا عَلِمَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ قُرْبٌ ، وَكَانَ اعْتِبَارُ الْقُرْبِ مِنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ إِنْ كَانَ وَحْدَهُ أَوْ مِنْ آخَرِ صَفٍّ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى فِي سَفِينَةٍ وَالْمَأْمُومُ عَلَى الشَّطِّ ، أَوِ الْإِمَامُ عَلَى الشَّطِّ وَالْمَأْمُومُ فِي سَفِينَةٍ ، أَوِ الْإِمَامُ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ نَهْرٍ وَالْمَأْمُومُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ ، فَصَلَاةُ الْمَأْمُومِ جَائِزَةٌ إِذَا عَلِمَ بِصَلَاةِ إِمَامِهِ وَكَانَ بَيْنَهُمَا قُرْبٌ ، وَلَيْسَ الْمَاءُ حَائِلًا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ : سَوَاءٌ كَانَ رَاكِدًا أَوْ جَارِيًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا : إِنَّ الْمَاءَ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ فِيهِ كَانَ حَائِلًا كَالْحَائِطِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْحَائِلَ مَا اتُّخِذَ حَائِلًا وَمَنَعَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ ، وَالْمَاءُ لَيْسَ بِحَائِلٍ ، وَإِنَّمَا لَا يُقْدَمُ عَلَيْهِ خَوْفًا مِنَ الْهَلَاكِ ، فَصَارَ كَالنَّارِ وَالْحَسَكِ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِائْتِمَامِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ حَائِلًا : لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ لَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ السَّابِحِ وَغَيْرِهِ ، فَلَا يَكُونُ حَائِلًا لِلسَّابِحِ : لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ حَائِلًا لِغَيْرِ السَّابِحِ : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ حَائِلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : " فَإِنْ صَلَّى فِي دَارٍ قُرْبَ الْمَسْجِدِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا بِأَنْ تَتَّصِلَ الصُّفُوفُ وَلَا حَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، فَأَمَّا فِي عُلُوِّهَا فَلَا يُجْزِئُ بِحَالٍ لِأَنَّهَا بَائِنَةٌ مِنَ الْمَسْجِدِ ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ نِسْوَةً صَلَّيْنَ فِي حُجْرَتِهَا ، فَقَالَتْ : لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، إِذَا صَلَّى رَجُلٌ فِي دَارٍ تُجَاوِرُ الْمَسْجِدَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ

فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ تَتَّصِلَ الصُّفُوفُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى الطَّرِيقِ ، وَمِنَ الطَّرِيقِ إِلَى الدِّهْلِيزِ ، وَمِنَ الدِّهْلِيزِ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ فَتَكُونُ حِينَئِذٍ صَلَاةُ مَنْ فِي الصَّحْنِ وَصَلَاةُ مَنْ وَرَاءَهُمْ جَائِزَةً ، وَصَلَاةُ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ وَوَقَفَ أَمَامَهُمْ بَاطِلَةً : لِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُمْ ، فَأَمَّا صَلَاةُ مَنْ فِي عُلُوِّ الدَّارِ وَسُورِهَا فَبَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ ، لِتَعَذُّرِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا صَلَاةَ مَنْ فِي الدَّارِ إِذَا اتَّصَلَتْ بِهِ الصُّفُوفُ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي حُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَتِهِ ، فَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ تُلَاصِقُ الْمَسْجِدَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا سُورٌ فَصَلَّى بِهَا قَوْمٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَالصُّفُوفُ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ صَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ ، لِأَنَّهُ يَقُولُ : إِنَّ سُورَ الْمَسْجِدِ لَيْسَ بِحَائِلٍ . وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ : صَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ لِلنِّسْوَةِ اللَّاتِي صَلَّيْنَ فِي حُجْرَتِهَا لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ حُجْرَتِهَا وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ إِلَّا سُورُهُ ، فَلَوِ اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ مِنْ سَطْحِ الْمَسْجِدِ إِلَى سَطْحِ الدَّارِ الْمُلَاصِقَةِ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ أَبْطَلَهَا : لِأَنَّ اتِّصَالَ الصُّفُوفِ مَعَ الْعِلْمِ بِالصَّلَاةِ يُوجِبُ صِحَّةَ الِائْتِمَامِ ، كَمَا لَوِ اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ إِلَى مَنْ فِي الدَّارِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَوْ صَلَّى رَجُلٌ عَلَى جَبَلِ الصَّفَا ، أَوْ جَبَلِ الْمَرْوَةِ ، أَوْ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَازَ : لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُتَّصِلٌ ، وَهُوَ فِي الْعُرْفِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَمَنْ خَرَجَ مِنْ إِمَامَةِ الْإِمَامِ ، فَأْتَمَّ لِنَفْسِهِ لَمْ يَبِنْ أَنْ يُعِيدَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الرَّجُلَ خَرَجَ مِنْ صَلَاةِ مُعَاذٍ بَعْدَمَا افْتَتَحَ مَعَهُ فَصَلَّى لِنَفْسِهِ ، وَأَعْلَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَلَمْ نَعْلَمْهُ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ ، وَأَتَمَّ مُنْفَرِدًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا ، أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا جَازَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ وَيُجْزِئَهُ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلَّى بِذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَرَّقَ أَصْحَابَهُ فَرِيقَيْنِ ، فَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً ، ثُمَّ خَرَجَتْ فَبَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا فَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا فَدَلَّتْ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِذَا أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ ، وَأَتَمَّ مُنْفَرِدًا لِنَفْسِهِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَقَدْ أَسَاءَ ، فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّ صَلَاةَ الِانْفِرَادِ تُخَالِفُ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فِي الْأَحْكَامِ ، لِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ

يَلْزَمُهُ سَهْوُ نَفْسِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ سَهْوُ غَيْرِهِ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُمَا جَرَيَا مَجْرَى الصَّلَاتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الِانْتِقَالُ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى الِانْفِرَادِ كَمَا لَمْ يَجُزْ نَقْلُ ظُهْرٍ إِلَى عَصْرٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ ، صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ : لِأَنَّ الرَّجُلَ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ إِمَامَةِ مُعَاذٍ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَلَمْ يَأْمُرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعَادَةِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَقْضِي بِالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، أَصْلُهُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ ، وَصَوْمُ النَّافِلَةِ ، وَعَكْسُهُ صَلَاةُ الْفَرْضِ وَصَوْمُ الْفَرْضِ ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَعْدَمَ بِمُفَارَقَةِ إِمَامِهِ مَا اسْتَفَادَهُ مِنَ الِائْتِمَامِ وَهُوَ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ لَا جَوَازُ الصَّلَاةِ .

فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا لَا يَنْوِي إِمَامَةَ أَحَدٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ يَنْوِي الِائْتِمَامَ بِهِ ، أَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ امْرَأَةٌ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : صَلَاةُ الْمُؤْتَمِّ بَاطِلَةٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الْمُؤْتَمُّ رَجُلًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً بَطَلَتْ صَلَاتُهَا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَضَّأَ وَقَامَ لِيُصَلِّيَ فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ فَأَخَذَنِي بِيَمِينِهِ وَأَدَارَنِي مِنْ وَرَائِهِ ، وَأَقَامَنِي عَلَى يَمِينِهِ ، فَصَحَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ وَلَمْ يَنْوِ إِمَامَتَهُ ، وَرَوَى ثَابِتٌ ، عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُصَلِّي فَقُمْتُ بِجَنْبِهِ فَجَاءَ آخَرُ وَقَامَ بِجَنْبِي حَتَّى صِرْنَا وَسَطًا ، فَلَمَّا أَحَسَّ تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى سَلَّمَ ثَمَّ دَخَلَ رَحْلَهُ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قُلْتُ : فَطِنْتَ بِنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، مَا صَنَعْتُ الَّذِي صَنَعْتُهُ إِلَّا لِأَجْلِكُمْ وَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِعَشْرِ أَنْفُسٍ ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ ، فَأْتَمَّ بِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إِمَامَتَهُ كَذَلِكَ الْمُنْفَرِدُ .

فَصْلٌ : إِذَا ائْتَمَّ بِرَجُلَيْنِ في صلاته لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِمَا إِذْ قَدْ يَرْكَعُ أَحَدُهُمَا وَسَجَدَ الْآخَرُ فَإِنْ تَبِعَ السَّاجِدَ خَالَفَ الرَّاكِعَ ، وَإِنَّ تَبِعَ الرَّاكِعَ خَالَفَ السَّاجِدَ ، وَالْمَأْمُومُ إِذَا اعْتَمَدَ خِلَافَ إِمَامِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، فَلَوِ ائْتَمَّ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ إِمَامَهُ لَمْ يُمْكِنْهُ الِائْتِمَامُ بِهِ .

فَصْلٌ : لَوِ ائْتَمَّ بِرَجُلٍ هُوَ مُؤْتَمٌّ بِآخَرَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، لِأَنَّ الْإِمَامَ مَنْ كَانَ مَتْبُوعًا وَلَمْ يَكُنْ تَابِعًا ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَجَدَ الْخِفَّةَ فِي مَرَضِهِ خَرَجَ وَأَبُو بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، فَتَقَدَّمَ فَأَمَّ أَبَا بَكْرٍ ، وَأَمَّ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ ، قِيلَ لَهُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَامًا لِأَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَجَمِيعِ النَّاسِ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعَرِّفُهُمْ أَفْعَالَ صَلَاتِهِ ، وَيُبَلِّغُهُمْ تَكْبِيرَهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ ، لِأَنَّهُ كَانَ إِمَامًا مُؤْتَمًّا .

فَصْلٌ : فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ، ثُمَّ شَكَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ هَلْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا ؟ فَعَلَيْهِمَا الْإِعَادَةُ : لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ، وَشَكَّ كُلُّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فِعْلِ مَا لَزِمَهُ مِنْ حُكْمِ صَلَاتِهِ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَنَا الْإِمَامُ . كَانَتْ صَلَاتُهُمَا جَمِيعًا جَائِزَةً ، وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ كَنْتَ أَنْتَ إِمَامِي ، وَأَنَا الْمُؤْتَمُّ بِكَ فَصَلَاتُهُمَا جَمِيعًا بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَابِعًا لِتَابِعِهِ وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ .

بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَصِفَةِ الْأَئِمَّةِ

بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَصِفَةِ الْأَئِمَّةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَصَلَاةُ الْأَئِمَّةِ مَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ قَطُّ أَخَفَّ وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ عَنْهُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنَّهُ قَالَ : " فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، يَحْتَاجُ الْإِمَامُ أَنْ يُخَفِّفَ الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِوَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَمَسْنُونَاتِهَا وَهَيْئَاتِهَا ، لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ قَطُّ أَخَفَّ وَلَا أَتَمَّ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ خَلْفَهُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ ، فَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطِلْ كَيْفَ شَاءَ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَخَفَّ النَّاسِ صَلَاةً فِي تَمَامٍ ، وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنِّي لَأَهُمُّ أَنْ أُطِيلَ الْقِرَاءَةَ ، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مِنْ آخِرِ الْمَسْجِدِ فَأُخَفِّفُ رَحْمَةً لَهُ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ عَلَى مُعَاذٍ حِينَ قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَقَالَ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ سُورَةِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ؟ فَأَمَّا إِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فَالْخِيَارُ إِلَيْهِ وَالْإِطَالَةُ بِهِ أَوْلَى ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطِلْ كَيْفَ شَاءَ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ إِمَامًا يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ فِي مَسْجِدٍ ، أَوْ رِبَاطٍ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ حكم إطالته الصلاة ، وَلَا يَسْتَطْرِقُهُمُ الْمَارَّةُ ، جَازَ أَنْ يُطِيلَ الصَّلَاةَ بِهِمْ إِذَا اخْتَارُوا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَيَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ ، وَأَفْقَهُهُمْ الترتيب فى الامامة ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ ذَلِكَ فِي وَاحِدٍ فَإِنْ قُدِّمَ أَفْقَهُهُمْ إِذَا كَانَ يَقْرَأُ مَا يُكْتَفَى بِهِ فِي الصَّلَاةِ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ قُدِّمَ أَقْرَؤُهُمْ إِذَا عَلِمَ مَا يَلْزَمُهُ فَحَسَنٌ ، وَيُقَدَّمُ هَذَا عَلَى أَسَنَّ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا قِيلَ : يِؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ أَنَّ مَنْ مَضَى كَانُوا يُسْلِمُونَ كِبَارًا فَيَتَفَقَّهُونَ قَبْلَ أَنْ يَقْرَءُوا ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ صِغَارًا قَبْلَ أَنْ يَتَفَقَّهُوا ، فَإِنِ اسْتَوَوْا أَمَّهُمْ أَسَنُّهُمْ ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فَقُدِّمَ ذُو النَّسَبِ فَحَسَنٌ ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : فَإِنِ اسْتَوَوْا فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ، وَقَالَ فِيهِ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْإِمَامَةِ مَنْ جَمَعَ أَوْصَافَهَا ، وَهِيَ خَمْسَةٌ : الْقِرَاءَةُ ، وَالْفِقْهُ ، وَالنَّسَبُ ، وَالسِّنُّ ، وَالْهِجْرَةُ بَعْدَ صِحَّةِ الدِّينِ ، وَحُسْنِ الِاعْتِقَادِ ، فَمَنْ جَمَعَهَا ، وَكَمُلَتْ فِيهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ مِمَّنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهَا : لِأَنَّ الْإِمَامَةَ مَنْزِلَةُ اتِّبَاعِ وَاقْتِدَاءٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُتَحَمِّلُهَا كَامِلَ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا ، فَإِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ فِي وَاحِدٍ فَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ مَنِ اخْتَصَّ بِأَفْضَلِهَا ، وَأَوَّلُهَا الْفِقْهُ وَالْقِرَاءَةُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ ، وَأَحَقُّ بِالتَّقَدُّمِ مِنَ الشَّرَفِ ، وَالسِّنِّ ، وَالْهِجْرَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَقْرَأُ ، وَالْأَفْقَهُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنَ الشَّرَفِ وَالسِّنِّ وَقَدِيمِ الْهِجْرَةِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا فُقَهَاءَ وَلَا قُرَّاءَ ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِمَا رَوَى أَبُو مَسْعُودِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْبَدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءٌ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ، وَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً وَإِنَّ الْفِقْهَ وَالْقِرَاءَةَ يَخْتَصَّانِ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنْ شَرَائِطِهَا ، وَالْفِقْهَ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا وَالنَّسَبَ وَالسِّنَّ لَا تَخْتَصُّ بِهِ الصَّلَاةُ ، فَكَانَ تَقْدِيمُ مَا اخْتَصَّ بِالصَّلَاةِ أَوْلَى ، فَإِذَا ثَبَتَ صَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا تَقْدِيمُ الْأَقْرَأِ ، أَوِ الْأَفْقَهِ ، فَالْفَقِيهُ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنَ الْقَارِئِ : لِأَنَّ مَا يَجِبُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَحْصُورٌ ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْفِقْهِ غَيْرُ مَحْصُورٍ : لِكَثْرَةِ أَحْكَامِهَا ، وَوُقُوعِ حَوَادِثِهَا . وَإِنْ قِيلَ هَذَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ " ، قُلْنَا : هَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُ : لِأَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَهُوَ خَارِجٌ عَلَى حَسَبِ حَالِهِمْ ، وَكَانَ أَقْرَؤُهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَفْقَهَهُمْ ، بِخِلَافِ هَذَا الزَّمَانِ ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَقَّهُونَ ، ثُمَّ يَقْرَءُونَ وَمَنْ فِي زَمَانِنَا يَقْرَءُونَ ، ثُمَّ يَتَفَقَّهُونَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : مَا كَانَتْ تَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَنَعْلَمُ أَمْرَهَا وَزَجْرَهَا وَنَهْيَهَا ، وَالرَّجُلُ الْيَوْمَ يَقْرَأُ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا وَلَا يَعْرِفُ مِنْ أَحْكَامِهَا شَيْئًا ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا كُنَّا نَجُوزُ عَلَى عَشْرِ آيَاتٍ حَتَّى نَعْرِفَ حَلَالَهَا ، وَحَرَامَهَا ، وَأَمْرَهَا ، وَنَهْيَهَا ، فَإِذَا تَقَرَّرَ تَقْدِيمُ الْأَفْقَهِ ، ثُمَّ الْأَقْرَأُ فَاسْتَوَوْا فِي الْفِقْهِ ، وَالْقِرَاءَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ ذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ أَوْلَى مِنْ ذِي الْهِجْرَةِ إمامة الصلاة الْقَدِيمَةِ . وَهَلْ يَكُونُ أَوْلَى مِنْ ذِي النَّسَبِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ : إِنَّ ذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ أَوْلَى مِنَ الْمُسِنِّ إمامة الصلاة لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْأَئِمَّةُ مِنْ

قُرَيْشٍ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدِّمُوا قُرَيْشًا ، وَلَا تَتَقَدَّمُوهَا ، وَتَعَلَّمُوا مِنْهَا وَلَا تُعَلِّمُوهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ : إِنَّ الْمُسِنَّ أَوْلَى مِنْ ذِي النَّسَبِ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ ، عَنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَتَيَاهُ : أَذِّنَا ، وَأَقِيمَا ، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الشَّيْبُ وَقَارٌ وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ : إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ عَبْدِي ، وَأَمَتِي يَشِيبَانِ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ أُعَذِّبَهُمَا بِالنَّارِ وَلِأَنَّ الْمُسِنَّ أَسْكَنُ نَفْسًا ، وَأَكْثَرُ خُشُوعًا لِكَثْرَةِ صَلَاتِهِ ، وَقِلَّةِ شَهَوَاتِهِ ، فَإِنِ اسْتَوَتْ أَحْوَالُهُمْ ، وَاتَّفَقَتْ أَصْوَاتُهُمْ فَهُمْ فِي الْإِمَامَةِ سَوَاءٌ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يُقَدَّمُ أَحْسَنُهُمْ وَجْهًا : لِرِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَؤُمُّكُمْ أَحْسَنُكُمْ وَجْهًا ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَكُمْ خُلُقًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ أَمَّ مَنْ بَلَغَ غَايَةً فِي خِلَافِ الْحَمْدِ مِنَ الدِّينِ أَجْزَأَ ، صَلَّى ابْنُ عُمَرَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَقَدْ نَصَّ الْكَلَامُ ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنِ ائْتَمَّ بِفَاسِقٍ لَمْ يُعِدْ وَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ، إِذَا لَمْ يُخْرِجْ نَفْسَهُ مِنَ الْمِلَّةِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَيَأْتِي مِنْ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ أَوْقَاتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُنَّةً فَلَمَّا جَوَّزَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ ، وَمُؤَخِّرُ الصَّلَاةِ عَمْدًا فَاسِقٌ ، دَلَّ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِ وَجَوَازِ الِائْتِمَامِ بِهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ إِمَامَتُهُ فِي النَّافِلَةِ صَحَّتْ فِي الْفَرِيضَةِ كَالْعَدْلِ . وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، إِذَا صَلَّيَا خَلْفَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ يُعِيدَانِ الصَّلَاةَ فَقَالَ : لَا مَا كَانَا يَزِيدَانِ عَلَى الصَّلَاةِ مَعَهُ غَيْرَ النَّوَافِلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ فِي بَيْتِ رَجُلٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَا فِي وِلَايَةِ سُلْطَانٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَلَا فِي بَيْتِ رَجُلٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَأَذِّيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهُوَ كَمَا قَالَ .

إِذَا حَضَرَ جَمَاعَةٌ بَيْتَ رَجُلٍ فَلَيْسَ لَهُمُ الصَّلَاةُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَنْزِلِهِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ أَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ وَالسِّنِّ ، وَالشَّرَفِ ، إِذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا تَصِحُّ بِهِ إِمَامَتُهُ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَإِنْ أَمَّهُمْ ، أَوْ أَذِنَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمَعُوا ، وَإِلَّا صَلَّوْا فُرَادَى وَلَمْ يَجْمَعُوا . وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَحَقُّ النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً ، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا ، وَلَا يَؤُمُّ رَجُلٌ رَجُلًا فِي بَيْتِهِ ، وَلَا فِي وِلَايَةِ سُلْطَانِهِ ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَرَوَى قَتَادَةُ ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أَسَدٍ أَنَّهُ قَالَ : جَاءَنِي أَبُو ذَرٍّ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَلَمَّا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ تَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ : وَذَا كَرَبِّ الْبَيْتِ ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ ، فَقَالَ : كَذَلِكَ يَا ابْنَ مَسْعُودٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ رَبُّ الْبَيْتِ . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : صَاحِبُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ .

فَصْلٌ : فَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ أُمِّيًّا إمامة الصلاة فى دار الأمي اعْتُبِرَتْ حَالُهُمْ ، فَإِنْ كَانُوا مِثْلَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِإِمَامَتِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَأَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْإِمَامَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَإِنْ أَذِنَ لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِإِمَامَتِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ صَلَّوْا فُرَادَى ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ امْرَأَةً إمامة الصلاة فَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْإِمَامَةِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا نِسَاءً لَيْسَ لَهُنَّ أَنْ يَؤُمُّوا بِإِحْدَاهُنَّ إِلَّا بِإِذْنِهَا ، وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا ، أَوْ مَجْنُونًا حكم إمامته اسْتُؤْذِنَ وَلِيُّهُ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمْ جَمَعُوا ، وَإِلَّا صَلَّوْا فُرَادَى ، فَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ عَبْدًا إمامة الصلاة فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ حَاضِرًا فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ : لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْعَبْدُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ سَيِّدِهِ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ مِنْهُ ، فَلَوْ حَضَرَ رَبُّ الدَّارِ وَمُسْتَأْجِرُهَا إمامة الصلاة فى الدار فَمُسْتَأْجِرُهَا أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ رَبِّهَا ، لِأَنَّهُ أَمْلَكُ مِنْهُ لِمَنَافِعِهَا ، فَلَوْ حَضَرَ إِمَامُ الْوَقْتِ ، أَوْ سُلْطَانُ الْبَلَدِ مَنْزِلَ رَجُلٍ إمامة الصلاة فى الدار فَفِي أَحَقِّهِمْ بِالْإِمَامَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : رَبُّ الدَّارِ أَحَقُّ بِهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رَبُّ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ ، لِأَنَّهُ مَالِكُهَا ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِمَنَافِعِهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ فِيهَا لِكَوْنِ الْإِمَامَةِ تَصَرُّفًا فِيهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ ، وَعَلَيْهِ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ : أَنَّ الْإِمَامَ وَالسُّلْطَانَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ رَبِّ الدَّارِ : لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامَةِ عَامَّةٌ ، وَوِلَايَةَ رَبِّ الدَّارِ خَاصَّةٌ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ رَاعِي الْجَمَاعَةِ ، وَوَالٍ عَلَى الْكَافَّةِ ، وَرَبَّ الدَّارِ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ ، وَدَاخِلٌ تَحْتَ وِلَايَتِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي الْإِمَامَةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الْوِلَايَةِ .



فَصْلٌ : فَأَمَّا إِمَامُ الْعَصْرِ إمامة الصلاة فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ فِي أَعْمَالِهِ مِنْ سَائِرِ رَعِيَّتِهِ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، وَكَذَلِكَ وَالِي الْبَلَدِ وَسُلْطَانُهُ أَحَقُّ بِإِمَامَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلَا فِي سُلْطَانِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُمُومِ وِلَايَتِهِ وَكَوْنِ الْجَمَاعَةِ مِنْ رَعِيَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ إِمَامًا لِجَامِعِ الْبَلَدِ إِلَّا بِإِذْنِ سُلْطَانِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِهَانَةِ بِهِ ، وَإِلَّا فِتْيَانٌ عَلَيْهِ فِي وِلَايَتِهِ ، وَإِنْ عُدِمَ السُّلْطَانُ ، فَارْتَضَى أَهْلُ الْبَلَدِ بِتَقْدِيمِ أَحَدِهِمْ إمامة الصلاة جَازَ ، فَأَمَّا مَسَاجِدُ الْعَشَائِرِ ، وَالْأَسْوَاقِ الإمامة فيها فَيَجُوزُ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَنْدُبَ نَفْسَهُ لِلْإِمَامَةِ فِيهَا ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنِ السُّلْطَانَ ، لِمَا فِي اسْتِئْذَانِهِ مِنَ التَّعَذُّرِ الْمُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ ، فَإِذَا انْتُدِبَ أَحَدُهُمْ لِإِمَامَةِ مَسْجِدِهِ وَعُرِفَ بِهِ ، وَرَضِيَتِ الْجَمَاعَةُ بِإِمَامَتِهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَضَرَ مَسْجِدَ مَوْلًى لَهُ فَقِيلَ لَهُ : تَقَدَّمْ ، فَقَالَ لِمَوْلَاهُ : تَقَدَّمْ فَإِنَّكَ إِمَامُ الْمَسْجِدِ .

بَابُ إِمَامَةِ الْمَرْأَةِ

بَابُ إِمَامَةِ الْمَرْأَةِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا صَلَّتْ بِنِسْوَةٍ الْعَصْرَ ، فَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ ، وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا أَمَّتْهُنَّ ، فَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ جَارِيَةً لَهُ تَقُومُ بِأَهْلِهِ فِي رَمَضَانَ ، وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ : مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تُصَلِّيَ الْمَرْأَةُ بِنِسَاءٍ تَقُومُ وَسَطَهُنَّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صَلَاةِ الْمَرْأَةِ بِالنِّسَاءِ جَمَاعَةً عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ النِّسَاءَ فَرْضًا وَنَفْلًا . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُكْرَهُ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ : يُكْرَهُ لَهَا الْإِمَامَةُ فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أُمَّ وَرَقَةَ بِنْتَ نَوْفَلٍ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ غَزَاةَ بَدْرٍ قَالَتْ : أَخْرُجُ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَأُمَرِّضُ الْمَرْضَى ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي الشَّهَادَةَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَرِّي فِي بَيْتِكِ ، وَأَنْتِ شَهِيدَةٌ " . قَالَ : فَسُمِّيَتِ الشَّهِيدَةَ ، وَكَانَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا فِي وَقْتٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ بِمَنْ فِي مَنْزِلِهَا ، وَجَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : وَرَأَيْتُ مُؤَذِّنَهَا شَيْخًا كَبِيرًا ، وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَمَّتِ النِّسَاءَ ، وَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ ، وَكَذَلِكَ أَمُّ سَلَمَةَ ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْحُسَيْنِ ، وَصَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ ، يُرِيدُ بِهِ التَّأْخِيرَ عَنْ إِمَامَةِ الرِّجَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ جَمَاعَتَهُمْ مُسْتَحَبَّةٌ ، فَالْأَوْلَى لِمَنْ أَمَّ مِنْهُنَّ أَنْ تَقِفَ وَسَطَهُنَّ ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا ، وَهَلْ جَمَاعَتُهُنَّ فِي الْفَضْلِ وَالِاسْتِحْبَابِ جماعة النساء كَجَمَاعَةِ الرِّجَالِ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُنَّ كَالرِّجَالِ ، بِفَضْلِ جَمَاعَتِهِنَّ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ، لِعُمُومِ الْخَبَرِ . وَالثَّانِي وَهُوَ أَظْهَرُ : أَنَّ جَمَاعَةَ الرِّجَالِ أَفْضَلُ مِنْ جَمَاعَتِهِنَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [ الْبَقَرَةِ : ] .

بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ وَالْجَمْعِ فِي السَّفَرِ

بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ ، وَالْجَمْعِ فِي السَّفَرِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا سَافَرَ الرَّجُلُ سَفَرًا يَكُونُ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ ، فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ بِالصَّلَاةِ . سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْيَالًا فَقَصَرَ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَقْصُرُ إِلَى جُدَّةَ وَإِلَى الطَّائِفِ ، وَعُسْفَانَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَقْرَبُ ذَلِكَ إِلَى مَكَّةَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ ، وَسَافَرَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى رِيمَ فَقَصَرَ ، قَالَ مَالِكٌ : وَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، جُمْلَةُ الْأَسْفَارِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ ، وَاجِبٌ ، وَطَاعَةٌ ، وَمُبَاحٌ ، وَمَعْصِيَةٌ . فَالسَّفَرُ الْوَاجِبُ كَالْحَجِّ ، وَالْعُمْرَةِ ، وَالْجِهَادِ ، وَالطَّاعَةِ ، وَالسَّفَرِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ، وَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ . وَالْمُبَاحُ سَفَرُ التِّجَارَةِ . وَالْمَعْصِيَةُ السَّفَرُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَإِخَافَةِ السُّبُلِ . فَأَمَّا سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ قصر الصلاة فيه فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ وَلَا يُفْطِرَ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي فِيمَا بَعْدُ . وَأَمَّا السَّفَرُ الْوَاجِبُ ، وَالطَّاعَةُ ، وَالْمُبَاحُ فَيَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ ، وَالْفِطْرُ إِلَّا فِي السَّفَرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْحَجُّ ، وَالْعُمْرَةُ ، وَالْجِهَادُ ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ النِّسَاءِ : ] . فَوَرَدَتِ الْآيَةُ بِإِبَاحَةِ الْقَصْرِ بِشَرْطِ الْخَوْفِ مِنَ الْكُفَّارِ ، وَقَصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ ، فَلَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ فِي غَيْرِهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الصَّوْمَ وَالْإِتْمَامَ وَاجِبٌ ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إِلَى وَاجِبٍ كَتَرْكِ التَّسَتُّرِ لِلْخِتَانِ ، وَهَذَا غَلَطٌ . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ : سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقُلْتُ : أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ فِي الْخَوْفِ ، فَمَا بَالُنَا نَقْصُرُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ ؟ فَقَالَ : قَدْ عَجِبْتُ مِمَّا قَدْ عَجِبْتَ

مِنْهُ ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " الْقَصْرُ رُخْصَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَصْرَ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَافَرَ أَيْنًا فَقَصَرَ الصَّلَاةَ . فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالْآيَةِ فَهِيَ وَإِنِ اقْتَضَتْ جَوَازَ الْقَصْرِ فِي الْجِهَادِ فَالسُّنَّةُ تَقْتَضِي جَوَازَهُ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ ، فَاسْتَعْمَلْنَاهُمَا مَعًا ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : " لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ " فَمُنْتَقَضٌ بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْفِطْرُ ، لِأَنَّ دَاوُدَ يُجَوِّزُهُ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ ، وَهُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ ، وَالثَّانِي الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَطَرِ جَائِزٌ وَهُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَجَوَازِ قَصْرِهِ فِي الْوَاجِبِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ : لِأَنَّ الرُّخَصَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالسَّفَرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِسَفَرٍ مَحْدُودٍ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ ، الْقَصْرُ ، وَالْفِطْرُ ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا ، وَضَرْبٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِطَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ ، وَهُوَ شَيْئَانِ التَّيَمُّمُ ، وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ ، وَضَرْبٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ في السفر ، وَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ . قَالَ فِي الْقَدِيمِ : يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ إِلْحَاقًا بِالتَّيَمُّمِ ، وَصَلَاةِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ إِلْحَاقًا بِالْقَصْرِ ، وَالْفِطْرِ . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ : يَجُوزُ الْقَصْرُ ، وَالْفِطْرُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ ، وَقَصِيرِهِ ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [ النِّسَاءِ : ] . فَأَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَلَمْ يُقَدِّرْهُ بِحَدٍّ ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَرِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَافَرَ فَرْسَخًا فَقَصَرَ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْحَلْبَةِ فَرَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ وَقَصَرَ ، وَقَالَ : إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِأُعْلِّمَكُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الطَّائِفِ وَعُسْفَانَ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، قِيلَ قَدْ رَوَيْنَاهُ مُسْنَدًا عَنْهُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا رُوِيَ مَوْقُوفًا ، وَمُسْنَدًا حُمِلَ الْمَوْقُوفُ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الرَّاوِي ، وَالْمُسْنَدُ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، اخْتَلَفُوا فِي الْقَصْرِ المدة التي يجوز فيها القصر عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَا يَجُوزُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ : لَا يَجُوزُ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمَيْنِ ، فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَحْدُودٌ ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ حَدِّهِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ الْقَصْرَ بِالسَّفَرِ ، وَمَنَعَ مِنْهُ فِي الْحَضَرِ ، فَكَانَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لُحُوقُ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ ، وَعَدَمُهَا فِي الْحَضَرِ ، وَالسَّفَرُ الْقَصِيرُ لَا تَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ فِيهِ غَالِبًا ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْرُ ، فَأَمَّا عُمُومُ الْآيَةِ فَمَحْمُولٌ عَلَى السَّفَرِ الْمَحْدُودِ بِدَلِيلِنَا . وَأَمَّا الْخَبَرُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا ، وَإِنَّمَا قَصَرَ فِي الْفَرْسَخِ الْأَوَّلِ لِيُعْلَمَ جَوَازُهُ قَبْلَ قَطْعِ الْمَسَافَةِ الْمَحْدُودَةِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ غَيْرُهُ ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِلرِّوَايَتَيْنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ سَفَرَ الْقَصْرِ مَحْدُودٌ مدة السفر الذي تقصر فيه الصلاة فَحَدُّهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا ، لِأَنَّ الْبَرِيدَ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا : لِأَنَّ الْفَرْسَخَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ ، وَالْمِيلُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ ، وَذَلِكَ عَلَى سَيْرِ النَّقْلِ ، وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ مَسَافَةُ يَوْمٍ ، وَلَيْلَةٍ سَيْرًا مُتَّصِلًا ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَعَانٍ مُتَّفِقَةٍ ، فَقَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ ، يُرِيدُ إِذَا لَمْ يُعَدَّ الْمِيلُ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَالْمِيلُ فِي الِانْتِهَاءِ . وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : أَرْبَعِينَ مِيلًا يُرِيدُ أَمْيَالَ بَنِي أُمَيَّةَ ، وَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " لَيْلَتَيْنِ قَاصِدَتَيْنِ يُرِيدُ سِوَى اللَّيْلَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا ، فَهَذَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ فَمَعَانِيهِ مُتَّفِقَةٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَقَاوِيلَ مُخْتَلِفَةٍ ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ مَرْحَلَتَانِ كُلُّ مَرْحَلَةٍ ثَمَانِيَةُ فَرَاسِخَ عَلَى غَالِبِ الْعَادَةِ فِي سَيْرِ النَّقْلِ وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَإِسْحَاقَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ : لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ وَهِيَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَأَحْمَدُ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَلَمَّا جَعَلَ الْمَحْرَمَ شَرْطًا فِي الثَّلَاثَةِ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيمَا دُونَهَا عُلِمَ

أَنَّ الثَّلَاثَةَ حَدُّ السَّفَرِ ، وَمَا دُونَهَا لَيْسَ بِسَفَرٍ ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ فَقَصَدَ بِإِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ جِنْسَ الْمُسَافِرِ ، فَأَبَاحَهُمُ الْمَسْحَ ثَلَاثًا ، فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَا يُكَرِّرُ الْمَسْحَ ثَلَاثًا لَيْسَ بِمُسَافِرٍ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ الْكَثِيرِ وَأَكْثَرُ الْقَلِيلِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ فِي قَلِيلِ السَّفَرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الْكَثِيرِ وَهُوَ الثَّلَاثُ حَدًّا لَهُ . وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [ النِّسَاءِ : ] فَاقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرُ جَوَازَ الْقَصْرِ فِي جَمِيعِ السَّفَرِ إِلَّا مَا خَصَّهُ " الدَّلِيلُ مِنْ مُسَافِرِهِ دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ . وَرَوَى عَطَاءٌ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ . وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ تُلْحِقُ الْمَشَقَّةَ فِي قَطْعِهَا غَالِبًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ الْقَصْرُ فِيهَا كَالثَّلَاثِ ، وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ تُسْتَوْفَى فِيهَا أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ فِي الْعَادَةِ ، فَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِيهَا كَالثَّلَاثِ ، وَلِأَنَّهُ زَمَانُ مَضْرُوبِ الْمَسْحِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ حَدَّ السَّفَرِ لِلْقَصْرِ كَالثَّلَاثِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ تَكَرَّرَتْ فِيهِ الْفَرِيضَةُ الْوَاحِدَةُ لَمْ يَكُنْ حَدُّ السَّفَرِ الْقَصْرَ كَالْأُسْبُوعَيْنِ فِي تَكْرَارِ الْجُمُعَتَيْنِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافَرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ . فَقَدْ رُوِيَ : مَسَافَةَ يَوْمٍ ، وَرُوِيَ : مَسَافَةَ يَوْمَيْنِ ، فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَسْحِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى مَسْحِ الثَّلَاثِ فِي مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا سَارَ مَا فِي ثَلَاثٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : الثَّلَاثُ أَقَلُّ حَدِّ الْكَثِيرِ ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الثَّلَاثَ فِي الشَّرْعِ مُعْتَبَرَةٌ بِحُكْمِ مَا دُونَهَا لَا بِحُكْمِ مَا زَادَ عَلَيْهَا كَشَرْطِ الْخِيَارِ ، وَحَدِّ الْمُقَامِ ، وَاسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ ، فَاقْتَضَى أَنْ يُعْتَبَرَ بِهَا فِي السَّفَرِ حُكْمُ مَا دُونَهَا ، وَنَحْنُ كَذَا نَقُولُ . وَالثَّانِي : أَنَّ اعْتِبَارَ الثَّلَاثِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ ، وَالِاعْتِبَارُ فِي السَّفَرِ بِالسَّيْرِ لَا بِالزَّمَانِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِاعْتِبَارِهِ فِي الثَّلَاثِ وَجْهٌ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَصْرَ يَجُوزُ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا ، وَهُوَ : ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا ، فَلَا اعْتِبَارَ بِالزَّمَانِ مَعَهَا إِذَا كَانَ قَدْرُ الْمَسَافَةِ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ الزَّمَانَ قَدْ يُوجَدُ خَالِيًا

مِنَ السَّيْرِ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ ، فَلَوْ أَسْرَعَ فِي سَيْرِهِ ، وَسَارَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ فِي يَوْمٍ ، أَوْ بَعْضِهِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُبِيحِ وَهُوَ الْمَسَافَةُ الْمَحْدُودَةُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأَكْرَهُ تَرْكَ الْقَصْرِ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ ، فَأَمَّا أَنَا فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي ، وَإِنَّ تَرْكَ الْقَصْرِ مُبَاحٌ لَوْ قَصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَمَّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَالْمُسَافِرُ عِنْدَنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ ، وَبَيْنَ إِتْمَامِهَا أَرْبَعًا كَالْحَضَرِ فَيَكُونُ مَا أَتَمَّهُ مِنْ سَفَرِهِ صَلَاةُ حَضَرٍ لَا صَلَاةَ سَفَرٍ هَذَا مَذْهَبُنَا ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ أَبُو قِلَابَةَ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو ثَوْرٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ وَاجِبٌ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ أَفْسَدَهَا وَأَجْمَعُوا : أَنَّهُ لَوْ صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ أَتَمَّ ، وَلَمْ يَقْصُرْ ، وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا ، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ ، فَأَخْبَرَ أَنَّ فَرْضَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرَ . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ : فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ رَكْعَتَانِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ ، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةَ رَكْعَتَانِ ، وَصَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِلظَّاعِنِ رَكْعَتَانِ وَلِلْمُقِيمِ أَرْبَعٌ . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ سَافَرُوا قَصَرُوا الصَّلَاةَ وَأَفْطَرُوا .

فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ شَرُّهُمْ مَنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُفْطِرْ . وَهَذَا وَصْفٌ لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ الْمُبَاحَ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنًى فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالصَّحَابَةُ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ ، وَقَالَ : قَدْ تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ . فَلَمَّا تَبَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي أَتَمَّ لِأَجْلِهِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا عُلِمَ أَنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ لِاعْتِذَارِهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ رُدَّتْ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا كَالْجُمُعَةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ وَاجِبَةً ، أَوْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ : فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا جَازَ وَالْوَاجِبُ لَا يَسْقُطُ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ ، وَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا كَالْمُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا وَهَذَا خَطَأٌ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [ النِّسَاءِ : ] فَأَخْبَرَ تَعَالَى بِوَضْعِ الْجُنَاحِ عَنَّا فِي الْقَصْرِ ، وَالْجُنَاحُ الْإِثْمُ ، وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُبَاحِ لَا الْوَاجِبِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [ الْبَقَرَةِ : ] وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ . قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ لَهَا عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ اسْمُهُ أَسَافُ ، وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ اسْمُهُ نَائِلَةُ ، فَكَانَتْ تَطَّوَّفُ حَوْلَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَقَرُّبًا إِلَى الصَّنَمَيْنِ ، فَظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ السَّعْيَ حَوْلَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ غَيْرَ جَائِزٍ ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِإِبَاحَتِهِ ، وَأَنَّهُ وَإِنْ شَابَهَ أَفْعَالَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ : لِأَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَانَ السَّعْيُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ الْآيَةُ مُبَاحًا ، وَغَيْرَ وَاجِبٍ لِأَنَّ السَّعْيَ الْوَاجِبَ بَيْنَهُمَا ، وَالْآيَةُ وَارِدَةٌ بِالسَّعْيِ بِهِمَا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ تَضَمَّنَتِ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَالْمُرَادُ بِهَا الْمُبَاحُ لَا الْوَاجِبُ : لِأَنَّهَا نَزَلَتْ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَإِنَّ مَا كَانَ مُبَاحًا أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ : إِنِّي لَا أَرَى أَنْ لَا جُنَاحَ عَلَيَّ إِذَا لَمْ أَطُفْ بِهِمَا ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : بِئْسَ مَا قُلْتَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ سَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ . فَإِنْ أَرَادَ بِهِ قَصْرَ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ وَتَحْقِيقَ أَفْعَالِهَا لَا تَقْصِيرَ أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا قِيلَ هَذَا

تَأْوِيلٌ قَبِيحٌ يَدْفَعُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ ، وَيُبْطِلُهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ فِي الْخَوْفِ ، فَمَا بَالُنَا نَقْصُرُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " الْقَصْرُ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ فَقَدْ فَهِمَتِ الصَّحَابَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْآيَةِ مَعَ ظُهُورِهِ عَلَى أَنَّ قَصْرَ الْهَيْئَاتِ لَا تَخْتَصُّ بِالْخَوْفِ ، أَوِ السَّفَرِ الْمَشْرُوطِ فِي الْآيَةِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَصْرُ الْأَعْدَادِ ، وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا رَوَاهُ عَطَاءٌ ، عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ فِي سَفَرِهِ يُتِمُّ ، وَيَقْصُرُ ، وَيَصُومُ ، وَيُفْطِرُ . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا قَالَ لِي : يَا عَائِشَةُ ، مَاذَا صَنَعْتِ فِي سَفَرِكِ ؟ قُلْتُ : أَتْمَمْتُ مَا قَصَرْتُ ، وَصُمْتُ مَا أَفْطَرْتُ فَقَالَ : أَحْسَنْتِ . فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ ، وَالْفِطْرَ رُخْصَةٌ . وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمِنَّا الْمُتِمُّ ، وَمِنَّا الْمُقْصِرُ ، وَمِنَّا الصَّائِمُ ، وَمِنَّا الْمُفْطِرُ ، فَلَمْ يَعِبِ الْمُتِمُّ عَلَى الْمُقْصِرُ ، وَلَا الْمُقْصِرُ عَلَى الْمُتِمِّ ، وَلَا الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِغَرَضِ الْإِقَامَةِ فِيمَا يَصِحُّ فِعْلُهُ مُنْفَرِدًا فَوَجَبَ أَنْ يُجْزَى بِهِ . أَصْلُهُ : التَّمَامُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُقِيمِ . وَلِأَنَّهُ عُذْرٌ بِغَيْرِ فَرْضِ الصَّلَاةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِغَرَضِ الرَّفَاهِيَةِ كَالْمَرَضِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَصَحَّ أَنْ تُؤَدَّى فِي السَّفَرِ فَرْضَ الْحَضَرِ . أَصْلُهُ : الصَّلَوَاتُ الَّتِي لَا تُقْصَرُ وَهِيَ الْمَغْرِبُ ، وَالصُّبْحُ . وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ صَلَّاهَا فِي سَفَرٍ لَمْ تُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ ، وَلِأَنَّ الْأَعْذَارَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الصَّلَاةِ تَخْفِيفًا إِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِيهَا رُخْصَةً لَا وُجُوبًا كَالْمَرَضِ ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ إِذَا اقْتَضَى رِفْقًا فِي الصَّلَاةِ كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً لَا عَزِيمَةً كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ : وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ مِنْهُ الْقَصْرُ صَحَّ مِنْهُ الْإِتْمَامُ كَالْمُسَافِرِ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ ، وَلِأَنَّ كُلَّ رَكَعَاتٍ اسْتَوْفَاهَا فِي فَرْضِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَجَبَ إِذَا انْفَرَدَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الرَّكَعَاتُ فَرْضَهُ كَالْمُقِيمِ .

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَفِيهِ جَوَابَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي جَوَازَ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ بِإِجْمَاعٍ ، وَإِنَّمَا تَقُولُ : إِنَّ الْمُسَافِرَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِصَلَاةِ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ ، أَوْ بِصَلَاةِ الْحَضَرِ أَرْبَعًا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا : مَا لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ مِنْهُ ، وَهُوَ رَكْعَتَانِ فِي السَّفَرِ ، وَأَرْبَعٌ فِي الْحَضَرِ . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِمَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِهِ : خَيْرُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا سَافَرُوا أَفْطَرُوا وَقَصَرُوا . فَهَذَا حَدِيثٌ مَوْقُوفٌ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَلَمْ يَلْزَمْ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْفِطْرِ ، وَالْقَصْرِ ، ثُمَّ لَوْ صَامَ جَازَ ، كَذَلِكَ إِذَا أَتَمَّ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ فَخَطَأٌ كَيْفَ يَكُونُ إِجْمَاعًا وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَأَنَسٌ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خَالَفُوا . أَمَّا عَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَإِنَّهَا أَتَمَّتْ ، وَأَمَّا أَنَسٌ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ قَصَرَ لَمْ يَعِبْ عَلَى مَنْ أَتَمَّ . وَأَمَّا سَعْدٌ فَلَمْ يَكُنْ يَقْصُرُ فِي سَفَرِهِ . وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ عَابَ عَلَى عُثْمَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِتْمَامَ بِمِنًى ثُمَّ صَلَّى فَأَتَمَّ . فَقِيلَ لَهُ : إِنَّكَ تَعِيبُ عَلَى عُثْمَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِتْمَامَ ، وَتُتِمُّ ، فَقَالَ : الْخِلَافُ شَرٌّ ، فَعُلِمَ أَنَّ إِنْكَارَهُمْ عَلَيْهِ تُرِكَ لِلْأَفْضَلِ لَا الْوَاجِبِ . لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَتْبَعُ إِمَامَهُ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ . فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَجُزِ الزِّيَادَةُ فِيهَا بِالْإِتْمَامِ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ ، وَلَمَّا جَازَ لِلْمُسَافِرِ الزِّيَادَةُ فِيهَا بِالْإِتْمَامِ لَمْ يَجِبِ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَاقْتَضَى بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِهَا . فَالْجَوَابُ : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ لَمْ تُجِبْ عَلَيْهِ الْإِتْمَامَ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ الصُّبْحَ خَلْفَ الْمُصَلِّي الظُّهْرِ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ سَلَّمَ ، وَلَمْ يَتْبَعْ إِمَامَهُ فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ . وَلَمَّا كَانَ الْمُسَافِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ الْمُقِيمِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ ، عُلِمَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ .

فَإِنْ قِيلَ : إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةً فَلِمَ جَوَّزْتُمْ تَرْكَهَا إِذَا قَصَرَ . قُلْنَا : نَحْنُ عَلَى مَا جَوَّزْنَا لَهُ تَرْكَ وَاجِبٍ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَأْتِيَ بِصَلَاةِ حَضَرٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، وَبَيْنَ أَنْ تَأْتِيَ بِصَلَاةِ سَفَرٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَأَيَّهُمَا فَعَلَ فَقَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ ، وَأَجْزَاهُ عَنِ الْآخَرِ ، كَمَا تَقُولُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى عَلَى مَذْهَبَيْنِ . أَحَدُهُمَا : الْقَصْرُ أَفْضَلُ في السفر أم الإتمام اقْتِدَاءً بِأَكْثَرِ أَفْعَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَكْثَرُ أَفْعَالِهِ الْقَصْرُ ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْخِلَافِ خَارِجًا ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ : أَنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ : لِأَنَّ الْإِتْمَامَ عَزِيمَةٌ ، وَالْقَصْرَ رُخْصَةٌ ، وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ ، وَغَسْلَ الرِّجْلَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ . فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَأَكْرَهُ تَرْكَ الْقَصْرِ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ ، وَالرَّاغِبُ عَنْهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : رَاغِبٌ بِتَأْوِيلٍ : وَهَذَا غَيْرُ كَافِرٍ ، وَلَا فَاسِقٍ ، كَمَنْ لَا يَقُولُ بِأَخْبَارِ الْأَحَادِ ، وَلَهُ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ ، وَرَغِبَ عَنْهَا زَاهِدًا فِيهَا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ بِعِلْمِ وُرُودِ السَّنَّةِ بِالْقَصْرِ ، وَلَا يَقُولُ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : فَأَمَّا أَنَا فَأُحِبُّ أَنْ لَا أَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي ، وَإِنَّ تَرْكَ الْقَصْرِ مُبَاحٌ لِي . فَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِمَا قَامَتْ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ عِنْدَهُ ، ثُمَّ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ احْتِيَاطًا لَهَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ أَنْ لَا يَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيَكُونَ مِنَ الْخِلَافِ خَارِجًا وَبِالِاسْتِظْهَارِ آخِذًا .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " وَلَا يُقْصَرُ إِلَّا فِي الظُّهْرِ ، وَالْعَصْرِ ، وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ، فَأَمَّا الصُّبْحُ ، وَالْمَغْرِبُ فَلَا يُقْصَرَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : هَذَا صَحِيحٌ ، وَهُوَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَصْرَ فِي الصَّلَوَاتِ الرُّبَاعِيَّاتِ ، وَهِيَ ثَلَاثٌ : الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ ، وَعِشَاءُ الْآخِرَةِ ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ فَلَا يُقْصَرَانِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى مَسْرُوقٌ ، عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إِلَيَّ كُلَّ صَلَاةٍ مِثْلَهَا إِلَّا الْمَغْرِبَ ، فَإِنَّهَا وِتْرٌ ، وَالصُّبْحَ لِطُولِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا ، وَكَانَ إِذَا سَافَرَ رَدَّهَا إِلَى أَصْلِهَا . وَلِأَنَّ الْقَصْرَ تَنْصِيفُ الصَّلَاةِ ، وَالْإِتْيَانُ بِشَطْرِهَا . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : " وَضَعْتُ عَنْ عِبَادِي شَطْرَ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِمْ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110