كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوِ اشْتَرَطَ فِي بَيْعِ السَّمْنِ أَنْ يَزِنَهُ بِظُرُوفِهِ مَا جَازَ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ عَنْهُ وَزْنَ الظُّرُوفِ جَازَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَفِي هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلٌ ؛ مِنْهَا : أَنَّهُ إِذَا ابْتَاعَ سَمْنًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الزَّائِبَاتِ جُزَافًا فِي ظُرُوفِهِ جَازَ الْبَيْعُ إِذَا فَتَحَ الظُّرُوفَ وَشَاهَدَ مَا فِيهَا أَوْ بَعْضَهُ ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الصُّبْرَةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ قَدْرُ كَيْلِهَا ، وَكَذَا لَوِ ابْتَاعَ نِصْفَ مَا فِي الظُّرُوفِ جُزَافًا أَوْ بَعْضَهُ جَازَ أَيْضًا كَالصُّبْرَةِ . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَبْتَاعَ السَّمْنَ مَعَ ظُرُوفِهِ مُوَازَنَةً ، كُلُّ مَنٍّ بِدِرْهَمٍ ، فَإِنْ كَانَا قَدْ عَلِمَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَزْنَ السَّمْنِ وَوَزْنَ الظَّرْفِ جَازَ : لِأَنَّهُمَا إِذَا عَلِمَا أَنَّ وَزْنَهُ مِائَةَ مَنٍّ ، وَإِنْ وَزَنَ الظَّرْفَ مِنْهَا عَشَرَةُ أَمْنَاءٍ فَقَدْ تَبَايَعَا تِسْعِينَ مَنًّا سَمْنًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ مَنٍّ إِلَّا عَشَرَةً بِدِرْهَمٍ ، فَإِنْ جَهِلَا ذَلِكَ وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ جَهِلَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ عَلِمَا وَزْنَ السَّمْنِ دُونَ الظُّرُوفِ أَوْ وَزْنَ الظُّرُوفِ دُونَ السَّمْنِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ بِثَمَنِ مَا تَبَايَعَاهُ مِنَ السَّمْنِ . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَتَبَايَعَا السَّمْنَ مُوَازَنَةً فِي ظَرْفِهِ ، وَيَشْتَرِطَا إِنْزَالَ الظَّرْفِ بَعْدَ وَزْنِهِ ، فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ : لِأَنَّ الزَّائِبَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ظَرْفٍ وَلَيْسَ يُمْكِنُ بَيْعُهُ مُوَازَنَةً إِلَّا هَكَذَا . فَأَمَّا إِذَا ابْتَاعَ مِنْهُ جَامِدًا فِي ظَرْفِهِ مُوَازَنَةً بِشَرْطِ إِنْزَالِ الظُّرُوفِ كَالدَّقِيقِ وَالطَّعَامِ وَنَحْوِهِمَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ : لِاسْتِغْنَاءِ الْجَامِدِ عَنْ ظَرْفٍ يُوزَنُ مَعَهُ ، وَهَذَا مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ : لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ بَعْدَ إِنْزَالِ ظَرْفِهِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ كَالسَّمْنِ ، وَهَذَا مُقْتَضَى تَعْلِيلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لَوِ اشْتُرِطَ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَسَدَ الْبَيْعُ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوِ اشْتُرِطَ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَسَدَ الْبَيْعُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِمَا فِيهِ مُقْنِعٌ . فَإِذَا شُرِطَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فِي الْعَقْدِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا ، وَفِي ابْتِدَاءِ زَمَانِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ شَرَطَاهُ مِنْ بَعْدِ التَّفَرُّقِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْخِيَارُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ أَوَّلَ زَمَانِ خِيَارِ الثَّلَاثِ مِنْ بَعْدِ الِافْتِرَاقِ : لِأَنَّهُمَا خِيَارَانِ ثَبَتَ أَحَدُهُمَا شَرْعًا وَثَبَتَ الْآخَرُ شَرْطًا فَلَمْ يَتَدَاخَلَا لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهُمَا ، فَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَا خِيَارَ الثَّلَاثِ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ خَرَّجَهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْبَيْعِ إِذَا شَرَطَا فِيهِ إِسْقَاطَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ .

بَابُ بَيْعُ الْغَرَر

بَابُ بَيْعُ الْغَرَرِ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ قَالَ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ عَسْبِ الْفَحْلِ وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ ، أَمَّا بَيْعُ الْفَرْدِ فَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْد . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا عَسْبُ الْفَحْلِ الَّذِي تَوَجَّهَ النَّهْيُ إِلَيْهِ : هُوَ أُجْرَةُ طَرْقِ الْفَحْلِ وَنَزْوِهِ ، فَجَعَلُوا الْأُجْرَةَ هِيَ الْعَسْبُ ، وَقَالَ آخَرُونَ : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ عَسْبَ الْفَحْلِ هُوَ مَاؤُهُ الَّذِي يَطْرُقُ بِهِ الْإِنَاثَ وَيَنْزُو عَلَيْهَا . فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَسْبُ هُوَ الْأُجْرَةُ فَلَا يُوَضَّحُ ذَلِكَ : لِأَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَجَّهَ إِلَى ثَمَنِ عَسْبِ الْفَحْلِ . فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَعُودَ النَّهْيُ إِلَى الْأُجْرَةِ : لِأَنَّ الْأُجْرَةَ هِيَ ثَمَنٌ أَيْضًا . وَقَدْ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى فِي شِعْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَلَوْلَا عَسْبُهُ لَرَدَدْتُمُوهُ وَشَرُّ مَنِيحَةٍ أَيْرٌ مُعَارُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُمَا جَوَّزَا أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَى ضِرَابِ الْفَحْلِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ ، بَلْ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ ، وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ بَنِي كِلَابٍ أَتَوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُمْ عَنْ كِرَاءِ عَسْبِ الْفَحْلِ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَطْرُقُ إِكْرَامًا . فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ . وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ طَرْقِ الْفَحْلِ إِنْزَالُ مَائِهِ ، وَإِنْزَالُ الْمَاءِ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ ، وَالْعَلُوقُ مِنْهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ ، وَلَيْسَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِالضَّرُورَةِ وَجْهٌ : لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تُبِيحُ مَحْظُورًا وَارْتِفَاعُهَا لَا يَحْظُرُ مُبَاحًا ، عَلَى أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ بِهِمْ إِلَى الْكِرَاءِ : لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِالْعَارِيَةِ ، وَإِنَّمَا يَتَكَسَّبُ بِهَذَا دُنَاةُ النَّاسِ وَأَرْذَالُهُمْ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدَ حَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ : لِدَنَاءَتِهِ ، وَاتِّبَاعِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي فِعْلِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ : لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ مِمَّا تَحْرُمُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَصِحُّ أَخْذُ الْبَدَلِ عَنْهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَمِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ أمثلة لها عِنْدَنَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ وَبَيْعُ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ، وَالْعَبْدِ الْآبِقِ ، وَالطَّيْرِ وَالْحُوتِ قَبْلَ أَنْ يُصْطَادَا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . أَمَّا بَيْعُ الْغَرَرِ حكمه فَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ ، فَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ عَقْدِ الْغَرَرِ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْغَرَرِ . رَوَاهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ تَارَةً مُرْسَلًا ، وَتَارَةً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا . وَقَدْ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا . وَحَقِيقَةُ الْغَرَرِ : مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ جَوَازَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ الْأَغْلَبُ مِنْهُمَا أَخْوَفْهُمَا ، فَمِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ الَّتِي يَبْطُلُ فِيهَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ : وَهُوَ بَيْعٌ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ ، وَبَيْعُ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ، وَالْعَبْدِ الْآبِقِ ، وَالطَّيْرِ وَالْحُوتِ قَبْلَ أَنْ يُصْطَادَا . فَذَكَرَ هَذِهِ الْخَمْسَةَ مِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ وَأَبْطَلَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا . وَنَحْنُ نَشْرَحُ الْقَوْلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا . أَمَّا قَوْلُهُ : وَمِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ عِنْدَنَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَرَادَ بِهِ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ سِلْعَةً لَا يَمْلِكُهَا بَيْعًا عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ مَالِكِهَا ، ثُمَّ يَمْضِي فَيَبْتَاعُهَا وَيَدْفَعُهَا إِلَى مُشْتَرِيهَا ، وَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ ، لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا : لِوُرُودِ النَّهْيِ نَصًّا فِيهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ بَعْدَ قُدُومِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ مُسْلِمًا : " لَمْ يَبْلُغْنِي يَا حَكِيمُ أَنَّكَ تَبِيعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ . لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ " . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا ، حَتَّى يُجَوِّزَ قَوْمٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلُوهُ دَلِيلًا فِي إِبْطَالِ السَّلَمِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، بَلِ الْمَقْصُودُ بِهِ مَا ذَكَرْنَا . وَقَدْ رُوِيَ تَفْسِيرُهُ بِمِثْلِ مَا قُلْنَا عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَيْضًا . وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مَاهَك ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّي بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدِي أَفَأَبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ ، فَقَالَ : " لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ " . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ : وَمِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ عِنْدَنَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ ، بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، فَإِنَّ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ مَنْ مَذْهَبُهُ بُطْلَانُ أَصْلِ الْبَيْعِ فِيهَا : لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ، وَبَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ غَرَرٌ . وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُرِدْ بِهَذَا الْقَوْلِ بَيْعَ مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى إِجَازَتِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ ، وَاحْتَجَّ عَلَى مُخَالِفِيهِ فِيهِ " . فَصْلٌ : وَأَمَّا بَيْعُ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَبَاطِلٌ : لِأَنَّهُ غَرَرٌ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ . وَلِمَا رُوِيَ

عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّجْرِ ، وَهُوَ بَيْعُ الْحَمْلِ عَلَى أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَإِذَا بَطَلَ بَيْعُ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُنْفَرِدًا بَطَلَ بَيْعُ الْأُمِّ دُونَ حَمْلِهَا : لِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنَ الْعَقْدِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً حَامِلًا بِحُرٍّ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا : لِأَنَّ بَيْعَ حَمْلِهَا لَا يَصِحُّ ، فَصَارَ مُسْتَثْنَى مِنَ الْعَقْدِ ، وَاسْتِثْنَاءُ الْحَمْلِ مِنَ الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ ، وَلَوِ ابْتَاعَ أَمَةً أَوْ شَاةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ كَانَ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ : لِأَنَّ لِلْحَمْلِ أَمَارَاتٍ دَالَّةً عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ شَرْطُ مَا لَا يَتَيَقَّنُهُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا بَيْعُ الْعَبْدِ الْآبِقِ فَبَاطِلٌ . وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَوَّزَ بَيْعَ الْآبِقِ مَا لَمْ يَتَقَادَمْ عَهْدُهُ . وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ جَوَّزَ بَيْعَهُ إِذَا عُرِفَ مَكَانُهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِهِ ، نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ، وَبَيْعُ الْآبِقِ مِنْ أَعْظَمِ الْغَرَرِ . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْآبِقِ وَهَذَا نَصٌّ ، وَلِأَنَّ مَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، وَالْآبِقُ مُتَعَذَّرُ التَّسْلِيمِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ الْآبِقِ لَا يَجُوزُ ، فَكَذَلِكَ الْجَمَلُ الشَّارِدُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ ضَالٍّ أَوْ ضَائِعٍ ، فَلَوْ بَاعَ آبِقًا ثُمَّ وَجَدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي : لِفَسَادِ بَيْعِهِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَا بَيْعَهُ بَعْدَ وُجُودِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : بَيْعُ الْآبِقِ فَاسِدٌ ، فَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ بَيْعِهِ صَحَّ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ فِيهِ وَلَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ . لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا ، وَقِسْمٌ يَنْعَقِدُ بَاطِلًا لَا يَصِحُّ مِنْ بَعْد ، وَقِسْمٌ يَقَعُ فَاسِدًا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ الصِّحَّةُ مِنْ بَعْد ، كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ ، فَإِنَّهُ فَاسِدٌ ، فَإِنْ وُجِدَ صَحَّ ، وَكَالْبَيْعِ إِذَا اشْتُرِطَ فِيهِ خِيَارٌ أَكْثَرُ مِنَ الثَّلَاثِ فَاسِدٌ إِلَّا أَنْ يَبْطُلَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ قَبْلَ تَقَضِّي الثَّلَاثُ ، فَيَصِحُّ . وَهَذَا مَذْهَبٌ يُغْنِي ظُهُورُ فَسَادِهِ عَنْ تَكَلُّفِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ لَوْ جَازَ أَنْ يَصِحَّ لِحَادِثٍ مِنْ بَعْد لَجَازَ أَنْ يَكُونَ كُلَّ عَقْدٍ ، وَلَجَازَ أَنْ تَكُونَ شُرُوطَ صِحَّتِهِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ بَعْد ، وَفِي هَذَا مُخَالَفَةُ الْأُصُولِ فِيمَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْعُقُودِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَمْ يَجُزْ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَدَمُ مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : تَعَذُّرُ تَسْلِيمِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهُوَ تَعَذُّرُ تَسْلِيمِهِ ، فَلَوْ كَانَ الطَّيْرُ حَمَامًا قَدْ يَرْجِعُ بَعْدَ الطَّيَرَانِ إِلَى بُرْجِهِ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ أَيْضًا ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا

يَعُودُ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ بَاعَ عَبْدًا قَدْ أَرْسَلَهُ فِي حَاجَةٍ جَازَ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعُودَ ، فَهَلَّا كَانَ الطَّيْرُ الْأَلِفُ مِثْلَهُ . قُلْنَا : لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ يَعْجِزُ النَّاسُ عَنْ أَخْذِهِ ، وَإِنْ بَعُدَ عَنْ سَيِّدِهِ ، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ، لَيْسَ كَذَلِكَ الطَّيْرُ : لِأَنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ النَّاسُ عَنْ أَخْذِهِ ، وَكَانَ خُرُوجُهُ عَنِ الْيَدَيْنِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ . فَأَمَّا إِنْ كَانَ الطَّيْرُ فِي بُرْجِ مَالِكِهِ : فَإِنْ كَانَ بَابُ الْبُرْجِ مَفْتُوحًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ : لِأَنَّه قَدْ يَقْدِرُ عَلَى الطَّيَرَانِ فَصَارَ فِي حُكْمِ مَا طَارَ ، وَإِنْ كَانَ بَابُ الْبُرْجِ مُغْلَقًا جَازَ بَيْعُهُ لِظُهُورِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَتَسْلِيمِهِ بِالتَّمْكِينِ مِنْهُ فِي بُرْجِهِ ، وَتَمَامِ قَبْضِهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ بُرْجِهِ . أَمَّا إِذَا فَرَّخَ الطَّائِرُ فِي دَارِ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ فَرْخَهُ ، وَكَذَا مَا وَلَدَهُ الصَّيْدُ فِي أَرْضِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ أَوْلَى بِصَيْدِهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ ، وَإِنَّ لَهُ مَنْعَ النَّاسِ عَنْهُ مِنْ دُخُولِ أَرْضِهِ وَدَارِهِ . فَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ بَاعَ فَرْخَ الطَّائِرِ أَوْ وَلَدَ الصَّيْدِ قَبْلَ أَخْذِهِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَلَمْ يَثْبُتْ مِلْكُهُ عَلَيْهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ غَيْرَ صَاحِبِ الدَّارِ لَوْ أَخَذَ الْفَرْخَ مَلَكَهُ . فَأَمَّا بَيْعُ نَحْلِ الْعَسَلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَائِرًا لِصِغَرِهِ أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ فِي كَنْدُوجِهِ جَازَ بَيْعُهُ بَعْدَ مُشَاهَدَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ كَنْدُوجِهِ طَائِرًا لِرَعْيِهِ ثُمَّ يَعُودُ لَيْلًا إِلَى كَنْدُوجِهِ عَلَى عَادَةٍ جَارِيَةٍ ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَة : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ كَالطَّيْرِ الْأَلِفِ إِذَا طَارَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ طَائِرًا بِخِلَافِ الطَّيْرِ الطَّائِرِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّحْلَ إِنْ حُبِسَ عَنِ الطَّيَرَانِ تَلِفَ : لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِالرَّعْيِ وَلَا يَقَعُ فِيهِ إِلَّا عِنْدَ طَيَرَانِهِ لِيَرْعَى مَا يَسْتَخْلِفُ عَسَلًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا سِوَاهُ مِنَ الطَّيْرِ ؛ لِأَنَّ حَبْسَهُ مُمْكِنٌ وَمَنْفَعَتَهُ مَعَ الْحَبْسِ حَاصِلَةٌ . فَصْلٌ : وَأَمَّا بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ : فَإِنْ كَانَ فِي بَحْرٍ أَوْ بِئْرٍ وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّزًا فِي بِرْكَةٍ أَوْ حَوْضٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي بَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ . وَإِنْ كَانَ فِي بِرْكَةٍ أَوْ حَوْضٍ وَحُظِّرَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الْخُرُوجِ لَمْ يَخْلُ حَالُ السَّمَكِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشَاهَدًا أَوْ غَيْرَ مُشَاهَدٍ : فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُشَاهَدٍ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا ، وَغَلُطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَجَعَلَهُ كَالْعَيْنِ الْغَائِبَةِ إِذَا بِيعَتْ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَهَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ الْعَيْنَ الْغَائِبَةَ قَدْ يُمْكِنُ صِفَتُهَا لِتَقَدُّمِ مُشَاهَدَةِ الْبَائِعِ لَهَا ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ مُشَاهَدَتُهُ ، وَلَا يُمْكِنُ صِفَتُهُ ، وَلَا تُعْلَمُ قِلَّتُهُ وَلَا كَثْرَتُهُ ، وَلَا جَوْدَتُهُ وَلَا رَدَاءَتُهُ . فَإِنْ كَانَ السَّمَكُ مُشَاهَدًا لِقِلَّةِ الْمَاءِ وَصَفَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ السَّمَكُ كَثِيرًا يُمْكِنُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ آلَةٍ جَازَ بَيْعُهُ لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَخَالَفَ فَرْخُ الطَّائِرِ الَّذِي لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ : لِأَنَّ حُصُولَ

الْفَرْخِ فِي أَرْضِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَحُصُولَ السَّمَكِ بِفِعْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إِلَّا بِآلَةٍ وَلَا يُقْدَرُ عَلَى صَيْدِهِ إِلَّا بِشَبَكَةٍ ، فَبَيْعُهُ لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بَعْدَ فَوْتِ الْقُدْرَةِ . وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا آخَرَ : أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ . وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَبْدًا لِرَجُلٍ وَلَمْ يُوَكِّلُهُ ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ أَجَازَهُ السَّيِّدُ أَوْ لَمْ يُجِزْهُ ، كَمَا اشْتَرَى آبِقًا فَوَجَدَهُ لَمْ يَجُزِ الْبَيْعُ : لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى فَسَادٍ إِذْ لَمْ يَدْرِ أَيَجِدُهُ أَوْ لَا يَجِدُهُ ، وَكَذَلِكَ مُشْتَرِي الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَا يَدْرِي أَيُجِيزُهُ الْمَالِكُ أَوْ لَا يُجِيزُهُ " . وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهِ ، وَلَا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِيَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَجَازَ مَالِكٌ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ جَمِيعًا عَلَى الْإِجَازَةِ . وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الْبَيْعَ عَلَى الْإِجَازَةِ دُونَ الشِّرَاءِ : اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ فَرَقْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَيَّ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ شَاةً أَوْ أُضْحِيَةً ، فَاشْتَرَى لَهُ شَاتَيْنِ ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْعِهِ بِالْبَرَكَةِ ، فَكَانَ لَوِ اشْتَرَى تُرَابًا لَرَبِحَ فِيهِ وَبِمَا رُوِيَ أَنَّهُ أَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ أُضْحِيَةً فَاشْتَرَى أُضْحِيَتَيْنِ بِدِينَارٍ وَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُضْحِيَةٍ وَدِينَارٍ . قَالَ : هَذَانِ الْخَبَرَانِ عَلَى جَوَازٍ لَهُ وُقُوفُ الْبَيْعِ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ عَقَدَ لَهُ لَمْ يَجُزْ فِي الْحَالِ فَجَازَ أَنْ يَقِفَ عَلَى الْإِجَازَةِ كَالْوَصِيَّةِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّهُ بَيْعُ مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَجَازَ أَنْ يَقِفَ عَلَى إِجَازَتِهِ كَالْمَرِيضِ إِذَا حَابَى فِي بَيْعِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ جَمِيعَ الْعَقْدِ أَكْمَلُ مِنْ شَطَرِهِ ، فَلَمَّا وَقَفَ شَطَرَهُ وَهُوَ الْبَدَلُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبُولِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ وَقْفُ جَمِيعِهِ عَلَى الْإِجَازَةِ بَعْدَ الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْفَسْخِ إِذَا ثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِمْضَاءِ إِنَّمَا لَمْ يُوجَدْ مَعَهُ الْإِذْنُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَهَذَا دَاخِلٌ فِيهِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ جَوَازَيْنِ . وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مَاهَك ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ . يَعْنِي مَا لَيْسَ فِي مِلْكِكِ .

وَرَوَى وَائِلَةُ بْنُ عَامِرٍ ، أَوْ عَامِرُ بْنُ وَائِلَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَبِعْ مَا لَا تَمْلِكُ " . وَهَذَا نَصٌّ . وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَنْقُلُ مِلْكًا عَنِ الْبَائِعِ إِلَى مَالِكٍ هُوَ الْمُشْتَرِي ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُشْتَرِي مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَجْدِيدِ مِلْكِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْبَائِعِ لِمَا فِيهِ مِنِ انْتِزَاعِ مِلْكِهِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقِفَ عَلَى الْإِجَازَةِ كَالْمُشْتَرِي ، فَإِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّمَا لَمْ يَجُزْ وُقُوفُ الشِّرَاءِ : لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْعَاقِدُ فَلَمْ يُوقِفْ عَلَى غَيْرِهِ ، وَجَازَ وُقُوفُ الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْعَاقِدُ فَوَقَفَ عَلَى غَيْرِهِ . فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ الْعَاقِدَ لَمْ يَتَوَلَّ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا تَوَلَّاهُ لِغَيْرِهِ . وَأَقْوَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ كَالْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ ، وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ مَا اشْتَرَاهُ لِمُوَكِّلِهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ : لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْعَبْدِ فِي الشِّرَاءِ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ ، وَتَوْكِيلُ الرَّجُلِ فِي شِرَاءِ أَبِيهِ يَجُوزُ وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَلَوْ مَلَكَهُ لَعُتِقَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُلَ مِلْكَهُ إِلَى مُوَكِّلِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فِيمَنْ صَحَّتْ وَكَالَتُهُ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ، فَمَنْ لَمْ تَصِحَّ وَكَالَتُهُ . وَيَدُلُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا أَنَّهُ بِيعَ بِغَيْرِ رِضَى مَنْ يَلْزَمُ الْعَقْدُ رِضَاهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ . وَلِأَنَّهُ بِيعَ عَنْ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى إِيقَاعِ قَبْضٍ فِيهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالْحُوتِ فِي الْمَاءِ . وَلِأَنَّ نُفُوذَ الْبَيْعِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مِلْكٍ ، وَعَنْ إِذْنِ مَنْ لَهُ الْمِلْكُ ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ عَقَدَ عَلَى غَيْرِ مِلْكٍ كَالْخَمْرِ ثُمَّ صَارَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مِلْكًا بِأَنْ صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ ، وَجَبَ إِذَا عَقَدَ عَنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ فَلَمْ يَنْفُذِ الْعَقْدُ ، ثُمَّ أَذِنَ الْمَالِكُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْعَقْدُ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدُ بَيْعٍ لَمْ يَنْفُذْ عِنْدَ عَقْدِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْفُذَ مِنْ بَعْدِهِ أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَا فِي بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ إِذَا صَارَ مِلْكًا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ ، فَهُوَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ لَا يَلْزَمُنَا الْقَوْلُ بِهِ ، وَلَوْ صِرْنَا إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ ، لِمَا فِيهِ مِنَ الشِّرَاءِ الَّذِي لَا يَصِحُّ وُقُوفُهُ عِنْدَهُمْ ، وَالْبَيْعُ الَّذِي لَا يَصِحُّ وُقُوفُهُ عِنْدَنَا ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالثَّنَاءُ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِمُخَالَفَتِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَنْ إِذْنِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَيَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى رَأْيِهِ فَرَأَى مَا فَعَلَهُ فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ اشْتَرَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَاعَهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ اشْتَرَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً عَنْ إِذْنِهِ الْمُتَقَدَّمِ . أَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَصَايَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ حُكْمَ الْوَصَايَا أَوْسَعُ وَحُكْمَ الْعُقُودِ أَضْيَقُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبُولَ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى التَّرَاخِي فَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجَازَةِ ، وَالْقَبُولُ فِي الْبُيُوعِ عَلَى الْفَوْرِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجَازَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مُحَابَاةِ الْمَرِيضِ فَلَا يَصِحُّ . لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَعْنَى فِي جَوَازِ وَقْفِ الْوَصَايَا عَلَى الْإِجَازَةِ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ .

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ وُقُوفُ الْبَدَلِ عَلَى قَبُولِ الْمُشْتَرِي جَازَ وُقُوفُ الْعَقْدِ كُلِّهِ عَلَى إِذْنِ الْمَالِكِ ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ يُوقِفُ الْبَدَلَ عَلَى إِجَازَتِهِ بِالْقَبُولِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ فِيهِ حَقًّا ، وَإِنَّمَا تَمَامُ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَسْلَمِ الِاسْتِدْلَالُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ وُقُوفُ الْعَقْدِ عَلَى الْفَسْخِ جَازَ وُقُوفُهُ عَلَى الْإِجَازَةِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْفَسْخِ أَنَّهُ دَفَعَ لِلْعَقْدِ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَجَازَ وُقُوفُهُ ، وَالْإِجَازَةُ إِنَّمَا هِيَ وُقُوفُ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ صِحَّتُهُ ، فَجَازَ وُقُوفُ مَا صَحَّ ، وَلَمْ يَجُزْ وُقُوفُ مَا لَمْ يَصِحَّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

مَسْأَلَةٌ لَوِ اشْتَرَى مَائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ لَمْ يَجُزْ لِجَهْلِهِ بِالْأَذْرُعِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوِ اشْتَرَى مَائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ لَمْ يَجُزْ لِجَهْلِهِ بِالْأَذْرُعِ ، وَلَوْ عَلِمَا ذِرَاعَهَا فَاشْتَرَى مِنْهَا أَذْرُعًا مُشَاعَةً جَازَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَلَوِ اشْتَرَى دَارًا أَوْ أَرْضًا بِحُدُودِهَا وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ مَبْلَغِ ذَرْعِهَا ، كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا كَالصُّبْرَةِ : لِأَنَّ الْجُمْلَةَ بِالْمُشَاهَدَةِ مَعْلُومَةٌ . وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى نِصْفَ جَمِيعِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ الَّتِي يُعْرَفُ مَبْلَغُ ذَرْعِهَا مَشَاعًا جَازَ ، وَلَوِ اشْتَرَى أَرْضًا مُذَارَعَةً كُلُّ جَرِيبٍ بِدِينَارٍ ، فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ مَبْلَغَ ذَرْعِهَا جَازَ ، وَإِنْ كَانَا لَا يَعْلَمَانِ مَبْلَغِ ذَرْعِهَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ ، أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْجَهْلِ بِمَبْلَغِ الثَّمَنِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِعَقْدِهِ بِمَا يَصِيرُ الثَّمَنُ مَعْلُومًا بِهِ كَالصُّبْرَةِ إِذَا بَاعَهَا كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ مَبْلَغِ كَيْلِهَا . فَلَوْ بَاعَهُ الْأَرْضُ مُذَارَعَةً كُلُّ جَرِيبٍ بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّهَا عَشَرَةُ أَجْرِبَةٍ فَخَرَجَتْ مِنَ الذَّرْعِ تِسْعَةَ أَجْرِبَةٍ ، وَنَقَصَتْ جَرِيبًا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَنُقْصَانُهَا عَيْبٌ يُوجِبُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي فِي الْفَسْخِ أَوِ الْمَقَامِ عَلَى التِّسْعَةِ بِالْحِسَابِ مِنَ الثَّمَنِ . وَلَوْ خَرَجَتْ فِي الذَّرْعِ تَزِيدُ جَرِيبًا يَعْنِي خَرَجَ أَحَدَ عَشَرَ جَرِيبًا ، فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ : لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْأَرْضِ بِحُدُودِهَا مَعَ الزِّيَادَةِ الَّتِي لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْعَقْدُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ : لِأَنَّ قَدْرَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ مِنْ عَدَدِ الْجُرْبَانِ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، وَيَكُونُ الْبَائِعُ شَرِيكًا بِالْجَرِيبِ الزَّائِدِ ، إِلَّا أَنَّ هَذَا عَيْبٌ لِأَنَّ دُخُولَ الْيَدِ بِالشَّرِكَةِ نَقْصٌ ، فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْفَسْخِ أَوِ الْمَقَامِ عَلَى الذَّرْعِ الْمَشْرُوطِ دُونَ الْقَدْرِ الزَّائِدِ . فَلَوِ اشْتَرَى مِنَ الْأَرْضِ كُلَّ جَرِيبٍ بِدِينَارٍ وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا اشْتَرَاهُ مِنَ الْجُرْبَانِ ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ اشْتَرَى بَعْضًا مَجْهُولًا .

فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَصُورَتُهَا : فِي رَجُلٍ اشْتَرَى مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ ، أَوْ جَرِيبًا مِنْ أَرْضٍ ، فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ ذَرْعَ الدَّارِ وَأَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ صَحَّ الْبَيْعُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إِلَّا أَنْ يَعْقِدَ عَلَى سَهْمٍ مِنْهَا كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ عُشْرٍ . وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ : لِأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ قَدِ اشْتَرَيْتُ عُشْرَهَا ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ قَدِ اشْتَرَيْتُ مِائَةَ ذِرَاعٍ وَهِيَ أَلْفُ ذِرَاعٍ فِي أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عُشْرُهَا . فَأَمَّا إِنْ جَهِلَا مَبْلَغَ ذَرْعِهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ : لِأَنَّ الْمَبِيعَ مِنْهَا يَصِيرُ مَجْهُولَ الْقَدْرِ ، إِذْ لَيْسَ يَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ نِصْفًا أَوْ عُشْرًا . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارُ إِلَّا مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْهَا ، لَمْ يَجُزْ إِنْ جَهِلَا مَبْلَغَ ذَرْعِهَا ، وَجَازَ إِنْ عَلِمَاهُ . وَلَوْ قَالَ : قَدِ ابْتَعْتُ مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ هَذِهِ مَحُوزَةً عَلَى أَنْ تُذْرِعَ لِي مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شِئْتَ مِنْهَا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا : لِاخْتِلَافِ قِيَمِ أَمَاكِنِهَا ، بِخِلَافِ الصُّبْرَةِ الَّتِي تُسْتَثْنَى ، وَأُقِيمَ جَمِيعُهَا ، وَجَرَى مَجْرَى مَنِ ابْتَاعَ بِطِّيخًا أَوْ رُمَّانًا عَدَدًا قَبْلَ أَنْ يُجَوِّزَهُ ، فَبَطَلَ بَيْعُهُ لِاخْتِلَافِ قِيمَةِ ذَلِكَ بِالصِّغَرِ وَالْكِبْرِ ، وَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : قَدِ ابْتَعْتُ مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ عَلَى أَنْ تُذْرِعَ لِي مِنْ مُقَدَّمِهَا ، أَوْ قَالَ مِنْ مُؤَخَّرِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يُذْرِعُ ذَلِكَ لَهُ فِي عَرْضِ الدَّارِ كُلِّهِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْتَمِسَ مِنْ مُقَدَّمِهَا طُولًا مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْعَرْضِ . وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مُسْتَوْفِي الْمِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ مُقَدَّمِهَا فِي جَمِيعِ الْعَرْضِ : فَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَا الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الذَّرْعُ صَحَّ الْبَيْعُ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحُوزًا . وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا مَوْضِعَ الِانْتِهَاءِ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : صَحِيحٌ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّ تَعْيِينَ الِابْتِدَاءِ يُفْضِي إِلَى مَعْرِفَةِ الِانْتِهَاءِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ ، وَهُوَ عِنْدِي أَصَحُّ : لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَكُونُ مَشَاعًا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا مَحْدُودًا بِالْإِجَازَةِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ الثِّيَابِ عَدَدًا وَذَرْعًا فَيُنْظَرُ : فَإِنَّ بِيعَ الثَّوْبِ مُذَارَعَةً كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ ، فَبَيْعُهُ جَائِزٌ ، سَوَاءً عَلِمَا مَبْلَغَ ذَرْعِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ جَهِلَاهُ وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْبَغْدَادِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مُذَارَعَةً وَهُوَ حُجَّةُ الْبَصْرِيِّينَ عَلَيْهِمْ . فَلَوْ تَبَايَعَا الثَّوْبَ مُذَارَعَةً ، كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فَنَقَصَ ذِرَاعٌ ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي أَخْذِهِ نَاقِصًا بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ فَسْخِهِ ، وَلَوْ زَادَ ذِرَاعًا كَانَ فِي بَيْعِهِ قَوْلَانِ : كَالْأَرْضِ فَلَوْ بَاعَهُ ذِرَاعًا مِنَ الثَّوْبِ بِدِرْهَمٍ فَإِنْ عَلِمَا ذَرْعَ جَمِيعِهَ صَحَّ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا ذَرْعَ جَمِيعِهِ فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنَا مَوْضِعَ الذِّرَاعِ الْمَبِيعِ مِنَ الثَّوْبِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا . فَإِنْ عَيَّنَاهُ فَإِنْ قَدَّرَاهُ وَعَلِمَا انْتِهَاءَهُ جَازَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَجُوزُ لِمَا فِي قَطْعِهِ مِنْ إِدْخَالِ النَّقْصِ فِي الذِّرَاعِ الْمَبِيعِ وَالثَّوْبِ الْبَاقِي وَهَذَا تَعْلِيلٌ يُفْضِي إِلَى نَقْصٍ فِي جَمِيعِ الْمُبَاعَاتِ لِمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ قِسْمَتِهَا الْمُفْضِي إِلَى نَقْصِ الْحِصَصِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَطْرُوحًا .

وَإِنْ عَيَّنَا ابْتِدَاءَهُ وَلَمْ يُعَيِّنَا انْتِهَاءَهُ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْأَرْضِ . فَأَمَّا بَيْعُ الثَّوْبِ عَدَدًا وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ رِزْمَةَ ثِيَابٍ عَدَدًا كُلَّ ثَوْبٍ بِدِينَارٍ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ كُلِّ ثَوْبٍ مِنْهَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، فَلَوْ بَاعَهُ الرِّزْمَةَ كُلَّ ثَوْبٍ بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ فِيهَا عَشَرَةَ أَثْوَابٍ وَكَانَ فِيهَا تِسْعَةُ أَثْوَابٍ ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْقِسْطِ مِنَ الثَّمَنِ . وَلَوْ زَادَتْ ثَوْبًا فَالْبَيْعُ فِي جَمِيعِهَا بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ الْأَرْضِ وَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ إِذَا بِيعَا مُذَارَعَةً : لِأَنَّ الثِّيَابَ قَدْ يَخْتَلِفُ ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ الزَّائِدُ مَشَاعًا فِي جَمِيعِهَا وَمُسَاوِيًا لِبَاقِيهَا ، وَمَا زَادَ عَلَى الثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَالْأَرْضِ فَمُتَقَارِبٌ لِبَاقِيهِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَشَاعًا فِي جَمِيعِهِ . وَلَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا وَاحِدًا مِنَ الرِّزْمَةِ بِدِينَارٍ فَإِنْ عَيَّنَهُ عَلَيْهِ صَحَّ الْبَيْعُ فِيهِ ، وإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ عَلَيْهِ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا لِاخْتِلَافِ الْأَثْوَابِ ، وَلَوِ ابْتَاعَ رِزْمَةَ ثِيَابٍ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَدَدَهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ جَازَ إِذَا شَاهَدَ كُلَّ ثَوْبٍ مِنْهَا كَالصُّبْرَةِ وَالْأَرْضِ ، وَكَذَلِكَ لَوِ ابْتَاعَ نِصْفَهَا أَوْ رُبْعَهَا مَشَاعًا صَحَّ الْبَيْعُ .

مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضُّرُوعِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضُّرُوعِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ لَا يَجُوزُ لَا كَيْلًا وَلَا جُزَافًا . وَأَجَازَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بَيْعَهُ فِي الزَّمَانِ الْقَرِيبِ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُهُ مَعَ الشَّاةِ جَازَ بَيْعُهُ مُفْرَدًا عَنْهَا . وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْلَبَنِ فِي الضِّرْعِ وَالُصُوفِ عَلَى الظَّهْرِ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ . وَلِأَنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ غَيْرُ مُشَاهَدٍ وَلَا مَعْلُومٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُحْلَبُ فِي زَمَانٍ يَخْتَلِطُ بِهِ لَبَنٌ حَادِثٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ ، فَيَصِيرُ تَسْلِيمُهُ مُتَعَذَّرًا وَمَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ بَطَلَ بَيْعُهُ . فَأَمَّا بَيْعُهُ فِي الشَّاةِ تَبَعًا لَهَا فَيَجُوزُ : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَهُوَ تَبَعٌ لِمَعْلُومٍ ، وَالْجَهَالَةُ فِي الْبَيْعِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ كَالْجَهْلِ بِأَسَاسِ الْبِنَاءِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا يَحِلُّ شُرْبُهُ وَبَيْعُهُ مِنَ الْأَلْبَانِ وَيُحَرَّمُ : فَجُمْلَةُ الْأَلْبَانِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَحِلُّ شُرْبُهُ وَبَيْعُهُ ، وَهُوَ لَبَنُ كُلِّ حَيَوَانٍ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ ، وَقِسْمٌ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَهُوَ لَبَنُ كُلِّ حَيَوَانٍ كَانَ نَجِسًا فِي حَيَّاتِهِ ، وَقِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ ، وَهُوَ لَبَنُ كُلِّ حَيَوَانٍ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَهُوَ طَاهِرٌ فِي حَيَاتِهِ فَلَا يَحِلُّ شُرْبُهُ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَتِهِ وَتَحْرِيمِ بَيْعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَجِسٌ كَلَحْمِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ طَاهِرٌ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ إِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ : لِأَنَّ طَهَارَةَ لَبَنِ الْحَيَوَانِ مُعْتَبَرٌ بِطَهَارَتِهِ فِي حَيَاتِهِ كَلَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ . فَصْلٌ : وَلَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ بيعه وشربه وطهارته عِنْدَنَا طَاهِرٌ ، وَشُرْبُهُ حَلَالٌ ، وَبَيْعُهُ جَائِزٌ . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ يَسَّارٍ الْأَنْمَاطِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا ، هُوَ نَجِسٌ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ الصِّغَارِ شُرْبُهُ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ . وَهُوَ مَذْهَبٌ تَفَرَّدَ بِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : هُوَ طَاهِرٌ وَشُرْبُهُ جَائِزٌ ، غَيْرَ أَنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ غَيْرُ مَبِيعٍ فِي الْعَادَةِ ، فَلَوْ جَازَ فِي الشَّرْعِ لَاخْتَلَفَتْ فِيهِ الْعَادَةُ ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا يُسْتَبَاحُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْمَنَافِعِ ، وَلِأَنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّاتِ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فَهُوَ كَالدُّمُوِعِ وَالْعَرَقِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدُّمُوعِ وَالْعَرَقِ : وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ اللَّبَنِ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا . وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ . وَرُوِيَ إِذَا حَرَّمَ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ ثَمَنَهُ " . فَكَانَ دَلِيلُهُ أَنَّ مَا لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ لَمْ يَحْرُمْ ثَمَنُهُ . وَلِأَنَّهُ لَبَنٌ يَحِلُّ شُرْبُهُ فَجَازَ بَيْعُهُ كَلَبَنِ النَّعَمِ طَرْدًا وَالْكِلَابِ عَكْسًا . وَلِأَنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّاتِ مُعَدٌّ لِلشُّرْبِ عُرْفًا وَشَرْعًا فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْمَاءِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّهُ غَيْرُ مَبِيعٍ فِي الْعَادَةِ ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَادَةَ الْجَارِيَةَ حَالَةً عَلَى شَرْعٍ سَالِفٍ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى بَيْعِ الْمَنَافِعِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، فَعِنْدَنَا أَنَّ بَيْعَ الْمَنَافِعِ جَائِزٌ إِذَا تَقَدَّرَتْ بِمُدَّةٍ ، وَإِنْ خَالَفُونَا فِيهِ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي لَبَنِ الْحَاضِنَةِ هَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَإِنَّمَا الْكَفَالَةُ مَقْصُودَةٌ ، وَاللَّبَنُ تَبَعٌ ، فَعَلَى هَذَا لَا نُسَلِّمُ بالتَّعْلِيلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّبَنَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْكَفَالَةُ تَبَعٌ ، فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يُسْتَبَاحُ هَذَا اللَّبَنُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَتِلْكَ حَالٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِيهَا . وَبَعْدَ الظُّهُورِ لَا يَجُوزُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَتِلْكَ هِيَ لِلْحَالَةِ الَّتِي يَجُوزُ بَيْعُهُ فِيهَا ، وَأَمَّا الدُّمُوعُ وَالْعَرَقُ فَلَمَّا كَانَ مُحَرَّمًا الشُّرْبُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، وَلَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ لَمَّا جَازَ شُرْبُهُ وَانْتُفِعَ بِهِ ، جَازَ بَيْعُهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لا يجوز بَيْعَ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَاللَّبَنِ فِي ضُرُوعِهَا إِلَّا بِكَيْلٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْرَهُ بَيْعَ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَاللَّبَنِ فِي ضُرُوعِهَا إِلَّا بِكَيْلٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . لَا يَجُوزُ بَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظُهُورِ الْغَنَمِ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا كَالْبَقْلِ وَالْقَصِيلِ ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالُصُوفِ عَلَى الظَّهْرِ . وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ جُزْءًا لِمَا يَبْقَى مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ

مِنْهُ حَلْقًا لِمَا يَضْرِبُهُ ، وَمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، أَمَّا الْقَصِيلُ وَالْبَقْلُ بيعهما فَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُهُ بِشَرْطِ الْجُزْءِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ بِالِاسْتِقْصَاءِ عَلَيْهِ ، وَفِي الصُّوفِ لَا يُمْكِنُ . وَالثَّانِي : أَنَّ بَيْعَهُ بَعْدَ الْجَزَازِ مُوكِسٌ لِثَمَنِهِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ بَيْعُهُ هَلَكَ ، وَالصُّوفُ مُخَالِفٌ لَهُ .

فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْمِسْكِ فِي فَأْرَةٍ

فَصْلٌ : [ الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الْمِسْكِ فِي فَأْرَةٍ ] مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمِسْكِ فِي فَأْرَةٍ : لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى كَمْ وَزْنُهُ مِنْ جُلُودِهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ إِذَا رَآهُ بِعَيْنِهِ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا جُزَافًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمِسْكُ فَطَاهِرٌ وَاسْتِعْمَالُهُ حَلَالٌ وَبَيْعُهُ جَائِزٌ . وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الشِّيعَةِ أَنَّهُ نَجِسٌ لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ : لِأَنَّهُ دَمٌ جَامِدٌ فِي جِلْدِ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ . وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ . وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ ، وَأَهْدَاهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ ، وَقَبِلَهُ فِي هَدِيَّةِ الْمُقَوْقَسِ الْعِجْلِيِّ . قَالَتْ عَائِشَةُ : رَأَيْتُ وَبِيصَ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ثَلَاثٍ . وَكُلُّ هَذَا يَنْفِي عَنِ الْمِسْكِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ وَالتَّحْرِيمِ ، مَعَ الْإِجْمَاعِ الظَّاهِرِ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَتَرْكِ النَّكِيرِ فِيهِ . فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ دَمٌ جَامِدٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا كَانَ دَمًا فَاسْتَحَالَ وَصَارَ مِسْكًا ، فَلَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَصِيرَ بَعْدَ الِاسْتِحَالَةِ طَاهِرًا كَاللَّبَنِ الَّذِي أَخْبَرُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَإِنْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ نَجِسٍ . وَقَوْلُهُمْ : إِنَّهُ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَأْكُولٌ : لِأَنَّهُ مِنْ غَزَالٍ وَقَدِ اسْتَفَاضَ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ فِيهِ الْمُتَنَبِّي : فَإِنْ تَفِقِ الْأَنَامُ وَأَنْتَ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولٍ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا : لِأَنَّ الْعَسَلَ طَاهِرٌ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنَ النَّحْلِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ طَاهِرٌ وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ حَلَالٌ ، وَأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ بَيْعِهِ مِنْ أَنْ

يَكُونَ فِي فَأْرَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَفْتُوحًا مُشَاهَدًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِحَالٍ ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا مُشَاهَدًا : فَإِنْ بَاعَهُ جُزَافًا جَازَ ، وَإِنْ بَاعَهُ وَزْنًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِطَ إِنْذَارُ ظُرُوفِهِ مِنَ الْوَزْنِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَالسَّمْنِ فِي ظُرُوفِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَبِيعَهُ مَعَ ظُرُوفِهِ ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ : لِلْجَهَالَةِ بِثَمَنِ الْمِسْكِ الْمَقْصُودِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الزَّبَادُ وَهُوَ لَبَنُ سِنَّوزٍ ، يَكُونُ فِي الْبَحْرِ يَحْلِبُ لَبَنًا كَالْمِسْكِ رِيحًا ، وَاللَّبَنُ بَيَاضًا يَسْتَعْمِلُهُ أَهْلُ الْبَحْرِ طِيبًا ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طِهَارَتِهِ إِذَا قِيلَ بِنَجَاسَةِ لَبَنِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَجِسٌ اعْتِبَارًا بِجِنْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ طَاهِرٌ كَالْمِسْكِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ [ الْأَعْرَافِ : ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَشِرَاءِ الْأَعْمَى

مَسْأَلَةٌ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ

بَابُ بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَشِرَاءِ الْأَعْمَى قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ، كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتِجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتِجَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَإِذَا عَقَدَا الْبَيْعَ عَلَى هَذَا فَمَفْسُوخٌ لِلْجَهْلِ بِوَقْتِهِ وَقَدْ لَا تُنْتِجُ أَبَدًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ الَّذِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِهِ : فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هُوَ بَيْعُ نِتَاجِ النِّتَاجِ ، فَيَقُولُ : إِذَا نَتَجَتْ نَاقَتِي هَذِهِ وَنَتَجَ نِتَاجُهَا فَقَدْ بِعْتُكَهُ بِدِينَارٍ ، فَنَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِي النِّتَاجِ الْأَوَّلِ وَالثَانِي : لِأَنَّهَا قَدْ تُنْتِجُ وَقَدْ لَا تُنْتِجُ ، فَإِذَا أَنْتَجَتْ فَقَدْ يَتَقَدَّمُ نِتَاجُهَا وَيَتَأَخَّرُ ، وَيَكُونُ تَارَةً ذَكَرًا وَتَارَةً أُنْثَى ، فَكَانَ بَيْعُهُ مَعَ هَذَا الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ بَاطِلًا . وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : حَبَلُ الْحَبَلَةِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ فِي الْبَيْعِ مُقَدَّرًا بِهِ ، وَلَا يَكُونُ هُوَ الْمَبِيعُ بِنَفْسِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ بِدِينَارٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى نِتَاجِ هَذِهِ النَّاقَةِ ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِمُدَّةِ الْأَجَلِ ، وَأَنَّ تِلْكَ النَّاقَةَ قَدْ تُنْتِجُ وَقَدْ لَا تُنْتِجُ ، وَقَدْ يَقْرُبُ نِتَاجُهَا وَيَبْعُدُ . وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ أَشْبَهَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ ، فَهَذَا التَّأْوِيلُ الثَّانِي أَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ : لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ فَسَّرَهُ بِهِ ، وَلِأَنَّ بَيْعَ النِّتَاجِ قَدْ تَضْمَنَّهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ فَكَانَ حَمْلُ هَذَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَوْلَى . وَأَيُّ التَّأْوِيلَيْنِ كَانَ فَالْبَيْعُ فِيهِ بَاطِلٌ ، لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي التَّأْوِيلَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ . فَصْلٌ : وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ .

وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَأْتِيَ وَبِيَدِهِ حَصَاةٌ إِلَى بَزَّازٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ ثِيَابٌ فَيَشْتَرِي مِنْهُ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يُلْقِيَ هَذِهِ الْحَصَاةَ فَعَلَى أَيِّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ فَهُوَ الْمَبِيعُ . فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ : لِلْجَهْلِ بِعَيْنِ مَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : هُوَ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى أَنْ يُلْقِيَ هَذِهِ الْحَصَاةَ مِنْ يَدِهِ ، وَهَذَا أَيْضًا بَيْعٌ بَاطِلٌ : لِلْجَهْلِ بِمُدَّةِ الْأَجَلِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ : هُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ أَرْضٍ إِلَى حَيْثُ انْتِهَاءِ إِلْقَاءِ الْحَصَاةِ ، ثُمَّ يَرْمِي الْحَصَاةَ فَإِلَى أَيْنَ انْتَهَتْ مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ الْقَدْرُ الْمَبِيعُ ، وَهَذَا أَيْضًا بَيْعٌ بَاطِلٌ : لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ مَا يَتَنَاوَلُ الْعَقْدُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةُ عِنْدَنَا أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ بِثَوْبِهِ مَطْوِيًا فَيَلْمِسَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ فِي ظُلْمَةٍ ، فَيَقُولَ رَبُّ الثَّوْبِ : أَبِيعُكَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْبَيْعُ فَنَظَرُكَ إِلَيْهِ اللَّمْسُ لَا خِيَارَ لَكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ طُولِهِ وَعَرْضِهِ . وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ أَنْبِذَ إِلَيْكَ ثَوْبِي وَتَنْبِذُ إِلَيَّ ثَوْبَكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَلَا خِيَارَ إِذَا عَرَفْنَا الطُّولَ وَالْعَرْضَ ، وَكَذَلِكَ أَنْبِذُهُ إِلَيْكَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَصْلُ هَذَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ وَعَنْ لِبْسَتَيْنِ ، أَمَّا الْبَيْعَتَانِ فَالْمُلَامَسَةُ وَالْمُنَابَذَةُ ، وَأَمَّا اللِّبْسَتَانِ فَاشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ وَالِاحْتِبَاءُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ . فَأَمَّا بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ معناه وحكمه فَهُوَ مَا فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ بِثَوْبِهِ مَطْوِيًّا ، أَوْ فِي سَفَطٍ ، أَوْ تَكُونُ ظُلْمَةٌ ، فَيَقُولُ : أَبِيعُكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنْ تَلْمِسَهُ بِيَدِكَ ، وَلَا خِيَارَ لَكَ إِذَا أَبْصَرْتَهُ ، وَعَرَفْتَ طُولَهُ وَعَرْضَهُ ، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ لِعَدَمِ النَّظَرِ ، وَلِمَا تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ مِنْ إِسْقَاطِ الْخِيَارِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ . ( فَأَمَّا ) بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ معناه : وَالنَّبْذُ فِي كَلَامِهِمُ الْإِلْقَاءُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [ الْأَنْفَالِ : ] وَقَالَ تَعَالَى : فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [ آلِ عِمْرَانَ : ] أَيْ : أَلْقَوْهُ . وَصُورَةُ الْمُنَابَذَةِ : أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ هُوَ ذَا أَنْبِذُ إِلَيْكَ ثَوْبِي ، أَوْ مَا فِي كُمِّي عَلَى أَنْ تَنْبِذَ إِلَيَّ ثَوْبَكَ أَوْ مَا فِي كُمِّكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ ، وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنَّا بَعْدَ

النَّظَرِ فَهُنَا بَيْعٌ بَاطِلٌ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : هُوَ ذَا أَنْبِذُ إِلَيْكَ مَا فِي كُمِّي بِدِينَارٍ وَلَا خِيَارَ لَكَ بَعْدَ نَظَرِكَ إِلَيْهِ ، وَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ ، وَإِنَّمَا بَطَلَ بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الْغَرَرَ كَثِيرٌ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ مَسْلُوبٌ مِنْهُ . فَصْلٌ : وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ ، وَرُوِيَ عَنْ بَيْعِ الْأُرْبُونِ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُسْكَانِ . وَهُوَ بَيْعٌ قَالَ مَالِكٌ : وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الْعَبْدَ ، أَوْ يَتَكَارَى الدَّابَّةَ ، ثُمَّ يَقُولُ : أَعْطَيْتُكَ دِينَارًا عَلَى أَنِّي إِنْ رَجَعْتُ عَنِ الْبَيْعِ وَالْكِرَاءِ فَمَا أَعْطَيْتُكَ . وَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ : لِلنَّهْيِ عَنْهُ ، وَلِحُدُوثِ الشَّرْطِ فِيهِ ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْقِمَارِ قَدْ تَضَمَّنَهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِينَةِ . وَرَوَى عَطَاءٌ الْخُرَسَانِيُّ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِذَا تَبَايَعْتُمُ الْعِينَةَ ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْتَزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ " . وَصُورَةُ بَيْعِ الْعِينَةِ هُوَ : أَخْذُ الْعَيْنِ بِالرِّبْحِ ، يُشْتَقُّ الِاسْمُ مِنَ الْمَعْنَى . وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَأَنْشَدَنِيهِ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ : أَيُدَانُ أَمْ يُعْتَانُ أَمْ يَنْبَرِي لَنَا فَتًى مِثْلُ نَصْلِ السَّيْفِ هُزَّتْ مَضَارِبُهُ قَوْلُهُ : يُدَانُ : مِنَ الدَّيْنِ ، وَيُعْتَانُ : مِنَ الْعِينَةِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ الْأَعْمَى ، وَإِنْ ذَاقَ مَا لَهُ طَعْمٌ : لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ فِي الثَّمَنِ بِاللَّوْنِ إِلَّا فِي السَّلَمِ بِالصِّفَةِ ، وَإِذَا وَكَّلَ بَصِيرًا يَقْبِضُ لَهُ عَلَى الصِّفَةِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِلَفْظَةِ الْأَعْمَى الَّذِي عَرَفَ الْأَلْوَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَى ، فَأَمَّا مَنْ خُلِقَ أَعْمَى فَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْأَلْوَانِ ، فَهُوَ فِي مَعْنَى مَنِ اشْتَرَى مَا يَعْرِفُ طَعْمَهُ وَيَجْهَلُ لَوْنَهُ ، وَهُوَ يُفْسِدُهُ فَتَفُهِّمَهُ وَلَا تُغْلِظْ عَلَيْهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْبُيُوعُ ضَرْبَانِ : بَيْعُ عَيْنٍ ، وَبَيْعُ صِفَةٍ ، فَأَمَّا بَيْعُ الْعَيْنِ فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا قَدْ شَاهَدَ مَا ابْتَاعَهُ قَبْلَ الْعَمَى فَيَصِحُّ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : يَجُوزُ بَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ : اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَبِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ : وَهُوَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ ، وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ، كَانُوا يَتَبَايَعُونَ وَيَشْتَرُونَ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَيْهِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ التَّوْكِيلُ فِي الْبَيْعِ صَحَّ مِنْهُ عَقْدُ الْبَيْعِ كَالْبَصِيرِ . وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَقْبَلَهُ الْبَصِيرُ جَازَ أَنْ يَقْبَلَهُ الضَّرِيرُ كَالنِّكَاحِ . وَدَلِيلُنَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْغَرَرِ ، وَعَقْدُ الضَّرِيرِ مِنْ أَعْظَمِ الْغَرَرِ . وَلِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ ، وَبَيْعُ الضَّرِيرِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُ . وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ مَجْهُولُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْعَاقِدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْتُكَ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا . وَلِأَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِفَقْدِ الرُّؤْيَةِ تَأْثِيرٌ فِيهِ كَالْبَصِيرِ فِيمَا لَمْ يَرَهُ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعُمُومِ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا نَقْلُهُمُ الْإِجْمَاعَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّهُ لَا نَقْلَ مَعَهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ بَاشَرُوا عَقْدَ الْبَيْعِ بَعْدَ الْعَمَى ، وَلَوْ نَقَلُوهُ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ لَا يَكُونُ رِضًا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَصِيرِ ، فَالْمَعْنَى فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ حُصُولُ مُشَاهَدَتِهِ ، وَالْأَعْمَى مَفْقُودُ الْمُشَاهَدَةِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النِّكَاحِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلرُّؤْيَةِ تَأْثِيرٌ فِيهِ صَحَّ مِنَ الْأَعْمَى ، وَلَمَّا كَانَ لِلرُّؤْيَةِ تَأْثِيرٌ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْأَعْمَى . فَصْلٌ : وَأَمَّا بَيْعُ الصِّفَةِ فَهُوَ السَّلَمُ ، وَيَصِحُّ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَى بَيْعًا وَشِرَاءً : لِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ عَلَى صِفَةٍ يَفْتَقِرُ إِلَى الْخَبَرِ دُونَ النَّظَرِ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ : لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمُخْبِرَاتِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمُشَاهَدَاتِ . فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ ، فَكَأَنَّ الْمُزَنِيُّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ السَّلَمِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا قَدْ عَرَفَ الْأَلْوَانَ ثُمَّ عَمِيَ . فَأَمَّا الْأَكْمَهُ الَّذِي خُلِقَ أَعْمَى ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ السَّلَمُ لِجَهْلِهِ بِالْأَلْوَانِ . وَخَرَّجَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَذَلِكَ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَحْمِلُ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ . وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى مَنْ عَقَدَ السَّلَمَ فِي عَقْدِ السَّلَمِ بَيْنَ الْأَعْمَى الَّذِي كَانَ بَصِيرًا ، وَبَيْنَ مَنْ خُلِقَ أَعْمَى لَمْ يُبْصِرْ : لِأَنَّ مِنْ خُلِقَ أَعْمَى وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْأَلْوَانَ فَهُوَ يَعْرِفُ أَحْكَامَهَا ، وَيَعْلَمُ اخْتِلَافَ قِيَمِ الْأَمْتِعَةِ بِاخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا ، وَأَنَّ الْحِنْطَةَ الْبَيْضَاءَ أَجْوَدُ مِنَ الْحِنْطَةِ

السَّمْرَاءِ ، فَصَارَ فِيهَا كَالْبَصِيرِ وَكَالْأَعْمَى الَّذِي كَانَ بَصِيرًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَصِيرَ لَوْ وُصِفَ لَهُ مَتَاعٌ لَمْ يَرَهُ ، وَلَا عَرَفَهُ فِي بَلَدٍ تَبْعُدُ عَنْهُ ، جَازَ أَنْ يُسَلَمَ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الصِّفَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إِذَا عَلِمَ تَفَاصِيلَهَا بِاخْتِلَافِهَا ، فَكَذَلِكَ سَلَمُ الْأَعْمَى . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ يَصِحُّ مِنْهُ فَقَبَضَهُ عِنْدَ حُلُولِهِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ ، لِأَنَّ الْقَبْضَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِيفَاءِ الصِّفَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْعَقْدِ ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالنَّظَرِ ، فَجَرَى مَجْرَى عَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى عَيْنٍ لَا تَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى حَتَّى يُوَكِّلَ فِيهِ بَصِيرًا يَعْقِدُ عَنْهُ أَوَّلَهُ . كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى قَبْضُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ وَلَا إِقْبَاضُهُ حَتَّى يُوكِّلَ مَنْ يَقْبِضُ لَهُ إِنْ كَانَ مُشْتَرِيًا أَوْ يَقْبِضُ عَنْهُ إِنْ كَانَ بَائِعًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَالْمَضَامِينُ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ ، وَالْمَلَاقِيحُ مَا فِي بُطُونِ الِإِنَاثِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ معناهما . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَضَامِينَ مَا فِي بُطُونِ الْإِنَاثِ ، وَالْمَلَاقِيحِ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ . وَالثَّانِي : مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَأَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ لِصِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَ الشَّاعِرِ : إِنَّ الْمَضَامِينَ الَّتِي فِي الصُلْبِ مَاءُ الْفُحُولِ فِي الظُهُورِ الْحُدْبِ لَيْسَ بِمُغْنٍ عَنْكَ جُهْدُ الْكَرْبِ وَأَنْشَدَ أَيْضًا : مَنَّيْتَنِي مَلَاقِحًا فِي الْأَبْطُنِ تُنْتَجُ مَا يَلْقَحُ بَعْدَ أَزْمُنِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا . فَبَيْعُ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ حكمه بَاطِلٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ . وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الْمَجْرِ معناه وحكمه وَهُوَ الْحَمْلُ ، وَلِنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ، وَفِيهِ غَرَرٌ ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْبِيَاعَاتُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا غَرَرًا دَخَلَتْ فِي نَهْيِهِ عَنِ بَيْعِ الْغَرَرِ ، فَهَلَّا اكْتَفَى بِذَلِكَ النَّهْيِ عَنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ بِالنَّهْيِ ؟ قُلْنَا : إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا ، وَلِأَنَّ هَذِهِ بِيَاعَاتٌ قَدْ كَانَتْ مَأْلُوفَةً لَهُمْ فَخَصَّهَا بِالنَّهْيِ ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي جُمْلَةِ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ : لِأَنْ لَا يَجْعَلُوا الْعَادَةَ الْمَأْلُوفَةَ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْبُيُوعِ مُخَصَّصَةً لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ، فَكَانَ تَخْصِيصُهَا بِالنَّهْيِ أَوْكَدَ .

بَابُ الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الْمَجْهُولِ وَبَيْعِ النجَشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ

بَابُ الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الْمَجْهُولِ وَبَيْعِ النجَشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ صورتهما وحكمهما ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَهُمَا وَجْهَانِ ، أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ نَقْدًا أَوْ بِأَلْفَيْنِ إِلَى سَنَةٍ ، قَدْ وَجَبَ لَكَ بِأَيِّهِمَا شِئْتُ أَنَا وَشِئْتَ أَنْتَ ، فَهَذَا بَيْعُ الثَّمَنِ ، فَهُوَ مَجْهُولٌ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي دَارَكَ بِأَلْفٍ فَإِذَا وَجَبَ لَكَ عَبْدِي ، وَجَبَتْ لِي دَارُكَ : لِأَنَّ مَا نَقَصَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا بَاعَ ازْدَادَهُ فِيمَا اشْتَرَى فَالْبَيْعُ فِي ذَلِكَ مَفْسُوخٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا " . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ ، فَفِي بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ حَكَاهُمَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي عَبْدَكَ هَذَا بِأَلْفٍ ، إِذَا وَجَبَتْ لَكَ دَارِي وَجَبَ لِي عَبْدُكَ ، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ فِي الْعَقْدَيْنِ مَعًا لِلنَّهْيِ عَنْهُ . وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ وَشَرْطٌ وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ . وَلِأَنَّهُ أَلْزَمَهُ مَعَ الثَّمَنِ بَيْعُ مَا لَا يَلْزَمُ ، فَصَارَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا بِبَعْضِ الشَّرْطِ ، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تُبْطِلُ الْبَيْعَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : قَدْ بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ بِأَلْفٍ صِحَاحًا ، أَوْ بِأَلْفَيْنِ غَلَّةً تَأْخُذُهَا بِأَيِّهِمَا شِئْتَ أَنْتَ أَوْ شِئْتُ أَنَا ، وَيَفْتَرِقَانِ عَلَى هَذَا ، أَوْ يَقُولُ : بِأَلْفٍ عَاجِلَةٍ وَبِأَلْفَيْنِ آجِلَةٍ . فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ . وَقَالَ مَالِكٌ : الْبَيْعُ صَحِيحٌ .

وَهَذَا خَطَأٌ : لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ نَصًّا ، وَمَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ خُصُوصًا . وَلِأَنَّ الثَّمَنَ فِيهِ مَجْهُولٌ لِجَهْلِهِمَا بِاسْتِقْرَارِهِ عَلَى الْأَلْفِ الْعَاجِلَةِ ، أَوِ الْأَلْفَيْنِ الْآجِلَةِ وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْبَيْعِ مَعَ جَهَالَةِ الثَّمَنِ فِيهِ . وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، أَنْ يَقُولَ : قَدْ بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ بِأَلْفٍ ، عَلَى أَنْ تُؤَاجِرَنِي عَبْدَكَ هَذَا بِمِائَةٍ ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، لِاشْتِرَاطِ الْإِجَارَةِ فِيهِ ، وَتَكُونُ الْإِجَارَةُ بَاطِلَةً لِاشْتِرَاطِ الْبَيْعِ فِيهَا : لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ فِي عَقْدٍ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : قَدْ أَجَّرْتُكَ دَارِي هَذِهِ عَلَى أَنْ تُؤَاجِرَنِي عَبْدَكَ هَذَا ، كَانَ عَقْدَا الْإِجَارَةِ بَاطِلَيْنِ كَالْبَيْعَتَيْنِ . وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ عَقْدٍ شُرِطَ فِيهِ عِنْدَ عَقْدِهِ عَقْدًا آخَرَ ، فَإِنَّهُمَا يَبْطُلَانِ مَعًا ، سَوَاءً كَانَ الْعَقْدَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوَ مِنْ جِنْسَيْنِ . فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ شَرْطًا فِي الْآخَرِ ، بَلْ قَالَ : قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا فَبِعْنِي دَارَكَ هَذِهِ ، صَحَّ الْعَقْدُ الَّذِي عَقَدَاهُ فِي الْحَالِ ، وَكَانَ الثَّانِي طَلَبًا إِنْ قَابَلَهُ بِالْإِجَازَةِ فِيهِ صَحَّ أَيْضًا . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ : قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا إِنْ بِعْتَنِي دَارَكَ هَذِهِ ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ : لِأَنَّهُ عَقْدٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ : قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّجْشِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَالنَّجْشُ خَدِيعَةٌ ، وَلَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدِّينِ ، وَهُوَ أَنْ يَحْضُرَ السِّلْعَةَ تُبَاعُ فَيُعْطِي بِهَا الشَّيْءَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا : لِيَقْتَدِيَ بِهَا السَّوَامُّ ، فَيُعْطِي بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانُوا يُعْطُونَ لَوْ لَمْ يَعْلَمُوا سَوْمَهُ ، فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَقْدُ الشِّرَاءِ نَافِذٌ : لِأَنَّهُ غَيْرُ النَّجْشِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . رَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَنَاجَشُوا . فَأَصْلُ النَّجْشِ : هُوَ الْإِثَارَةُ لِلشَّيْءِ ، وَلِهَذَا قِيلَ لِلصَّيَّادِ : النَّجَّاشُ ، وَالنَّاجِشُ لِإِثَارَتِهِ لِلصَّيْدِ ، وَكَذَا قِيلَ لِطَالِبِ الشَّيْءِ نَجَّاشٌ ، فَالطَّلَبُ نَجْشٌ . وَقَالَ الشَّاعِرُ : فَمَا لَهَا اللَّيْلَةَ مِنْ إِنْفَاشِ غَيْرِ السُّرَى وَسَائِقٍ نَجَّاشِ

وَحَقِيقَةُ النَّجْشِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَحْضُرَ الرَّجُلُ السُّوقَ فَيَرَى السِّلْعَةَ تُبَاعُ لِمَنْ يَزِيدُ ، فَيَزِيدُ فِي ثَمَنِهَا وَهُوَ لَا يَرْغَبُ فِي ابْتِيَاعِهَا : لِيَقْتَدِيَ بِهِ الرَّاغِبُ فَيَزِيدُ لِزِيَادَتِهِ ظَنًا مِنْهُ أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لِرُخْصِ السِّلْعَةِ اغْتِرَارًا بِهِ . فَهَذَا خَدِيعَةٌ مُحَرَّمَةٌ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَصَاحِبُهُمَا فِي النَّارِ " . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا خِلَابَةَ فِي الْإِسْلَامِ " أَيْ : لَا خَدِيعَةَ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّجْشَ حكمه حَرَامٌ فَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ : لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنِ اقْتَدَى بِهِ فَقَدْ زَادَ بِاخْتِيَارِهِ ، فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِحَالِ النَّاجِشِ مِنْ غُرُورِهِ ، وَأَرَادَ فَسْخَ الْبَيْعِ بِهِ ، نُظِرَ فِي حَالِ النَّاجِشِ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَجَشَ وَزَادَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدْ نَصَّبَهُ لِلزِّيَادَةِ ، كَانَ النَّاجِشُ هُوَ الْعَاصِي وَالْبَيْعُ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْبَائِعِ تَدْلِيسٌ فِي بَيْعِهِ . وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ نَصَّبَ النَّاجِشَ لِلزِّيَادَةِ ، فَفِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الْخِيَارُ : لِأَنَّ ذَلِكَ تَدْلِيسٌ مِنَ الْبَائِعِ . وَالثَّانِي : لَا خِيَارَ لَهُ : لِأَنَّ الزِّيَادَةَ زَادَهَا عَنِ اخْتِيَارِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا بَيْعَ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَبَيَّنَ فِي مَعْنَى نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَنْ يَتَوَاجَبَا السِّلْعَةَ ، فَيَكُونَ الْمُشْتَرِي مُغْتَبِطًا أَوْ غَيْرَ نَادِمٍ ، فَيَأْتِيَهُ رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَيَعْرِضَ عَلَيْهِ مِثْلَ سِلْعَتِهِ أَوْ خَيْرًا مِنْهَا بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ ، فَيَفْسَخَ بَيْعَ صَاحِبِهِ بِأَنَّ لَهُ الْخِيَارَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، فَيَكُونَ هَذَا إِفْسَادًا ، وَقَدْ عَصَى اللَّهَ إِذَا كَانَ بِالْحَدِيثِ عَالِمًا ، وَالْبَيْعُ فِيهِ لَازِمٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ " . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ " . وَالْمُرَادُ بِهَذَا النَّهْيِ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ : وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ السِّلْعَةَ ، وَلَا يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَأْتِيَ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْرِضَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِثْلَ تِلْكَ السِّلْعَةِ بِأَرْخَصَ مِنْ ثَمَنِهَا ، أَوْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ

خَيْرًا مِنْهَا بِمِثْلِ ثَمَنِهَا لِيَفْسَخَ عَلَى الْأَوَّلِ بَيْعَهُ . فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ ، وَهُوَ حَرَامٌ : لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالْإِضْرَارِ ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ عَصَى إِنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ ، وَبَيْعُهُ مَاضٍ سَوَاءً فَسَخَ الْمُشْتَرِي بَيْعَ الْأَوَّلِ ، أَوْ لَمْ يَفْسَخْ . هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ . رُويَ - وَإِنْ لَمْ أَجِدْهُ مُسْنَدًا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ . وَصُورَةُ ذَلِكَ : أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ سِلْعَةً وَلَا يُفَارِقُ بَائِعَهَا حَتَّى يَأْتِيَ رَجُلٌ وَيَشْتَرِيَهَا مِنْ بَائِعِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ ، فَهُوَ أَيْضًا حَرَامٌ : لِأَجْلِ النَّهْيِ عَنْهُ إِنْ كَانَ صَحِيحًا ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا صَحَّ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ . فَإِنْ فَعَلَ وَاشْتَرَى فَقَدْ أَثِمَ وَعَصَى ، وَالشِّرَاءُ جَائِزٌ : لِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فِي الْمَجْلِسِ جَائِزٌ . وَفِي مَعْنَى هَذَيْنِ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ سِلْعَةً ، وَلَا يُفَارِقُ بَائِعَهَا حَتَّى يَأْتِيَ رَجُلٌ يُرْبِحُ الْمُشْتَرِيَ فِي ثَمَنِهَا ، فَهُوَ أَيْضًا مَكْرُوهٌ : لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَفْسَخَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بَيْعَهُ طَمَعًا فِيمَا بُذِلَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ ، فَصَارَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ، وَشِرَاءِ الرَّجُلِ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ . وَلَكِنْ لَا بَأْسَ أَنْ يُرْبِحَهُ فِي ثَمَنِهَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ : لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ لَزِمَ فَلَا يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا خِيَارَ الثَّلَاثِ فَيَمْنَعُ هَذَا الرَّاغِبُ مِنْ بَذْلِ الزِّيَادَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْخِيَارِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فيما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَسُومَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ

فَصْلٌ : وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَسُومَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ " . وَصُورَةُ سَوْمِ الرَّجُلِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ أَنْ يَبْذُلَ الرَّجُلُ فِي السِّلْعَةِ ثَمَنًا ، فَيَأْتِي آخَرُ فَيَزِيدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يَتَوَاجَبَا الْبَيْعَ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ جَازَ : لِأَنَّ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ مَوْضُوعٌ لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ ، وَأَنَّ السَّوْمَ لَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الطَّلَبِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا فِيمَنْ يَزِيدُ ، وَابْتَاعَ ثَوْبًا مُزَايَدَةً " . فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ وَكَانَ بَيْعَ الْمُنَاجَزَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ بَائِعِ السِّلْعَةِ حِينَ بَذَلَ لَهُ الطَّالِبُ الْأَوَّلُ ذَلِكَ الثَّمَنَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : إِمَّا أَنْ يَقُولَ : قَدْ رَضِيتُ بِهَذَا الثَّمَنِ ، أَوْ يَقُولَ : لَا أَبِيعُ بِهَذَا الثَّمَنِ ، أَوْ يُمْسِكُ . فَإِنْ قَالَ : قَدْ رَضِيتُ بِهَذَا الثَّمَنِ حَرُمَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَسُومَ عَلَيْهِ

وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مَعَ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْهُ نَصًّا . وَخَالَفَ بَيْعُ الْمُزَايَدَةِ : لِأَنَّ الْمُسَاوِمَ فِيهِ لَا يَتَعَيَّنُ . وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا : لَوْ أَنَّ رَجُلًا وُكِّلَ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ فِي مَكَانٍ ، فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ صَحَّ الْبَيْعُ ، وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهِ رَجُلاً ، وَبَاعَهُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الرَّجُلِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ بِبَيْعِهِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ مُسَامَحَتَهُ فِيهِ ، أَوْ تَمْلِيكَهُ إِيَّاهُ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ تَمْلِيكُ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ فِي مَكَانٍ فَبَاعَهُ فِي غَيْرِهِ : لِأَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ غَيْرَ وُفُورِ ثَمَنِهِ ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ فِي غَيْرِهِ صَحَّ الْبَيْعُ . كَذَلِكَ فِي السَّوْمِ إِنْ كَانَ فِي الْمُزَايَدَةِ لَمْ يَحْرُمْ : لِأَنَّ الْغَرَضَ وُفُورُ الثَّمَنِ دُونَ تَعْيِينِ الْمُلَّاكِ ، وَفِي بَيْعِ الْمُنَاجَزَةِ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَعْيِينِ الْمُلَّاكِ . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ قَالَ : لَسْتُ أَرْضَى بِمَا بَذَلْتُهُ مِنَ الثَّمَنِ ، فَهَا هُنَا لَا يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ الطَّالِبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَسُومَ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يُسَاوِمَ فِي السِّلْعَةِ بِمِثْلِ ثَمَنِهَا أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهَا : لِأَنَّ عَدَمَ الرِّضَا لَوْ مَنَعَ الْغَيْرَ مِنْ طَلَبِهَا أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَائِعِهَا . وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ الْمَالِكُ فَلَا يُجِيبُ بِرِضًا وَلَا بِكَرَاهَةٍ ، فَإِنْ كَانَ الْإِمْسَاكُ دَالًّا عَلَى الْكَرَاهَةِ بِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْأَمَارَةِ لَمْ يَحْرُمِ السَّوْمُ ، وَإِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى الرِّضَا فَفِي تَحْرِيمِ السَّوْمِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ حَرُمَ سَوْمُ تِلْكَ السِّلْعَةِ عَلَى غَيْرِ الْأَوَّلِ : لِأَنَّ سُكُوتَ الرَّاضِي كَنُطْقِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ سَوْمَهَا جَائِزٌ مَا لَمْ يُصَرِّحِ الْمَالِكُ بِالرِّضَا وَالْإِجَابَةِ : لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ كِنَايَةٌ ، فَلَمْ تَقُمْ مَقَامَ اللَّفْظِ الصَّرِيحِ إِلَّا فِيمَا خَصَّهُ الشَّرْعُ مِنْ إِذْنِ الْبِكْرِ . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخْرِجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي خِطْبَةِ الزَّوْجِ إِذَا أَمْسَكَ الْوَلِيُّ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالْإِجَابَةِ وَالرَّدِّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَكَذَلِكَ الْمُدَلِّسُ عَصَى اللَّهَ بِهِ ، وَالْبَيْعُ فِيهِ لَازِمٌ ، وَكَذَلِكَ الثَّمَنُ حَلَالٌ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) الثَّمَنُ حَرَامٌ عَلَى الْمُدَلِّسِ . يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ التَّدْلِيسَ حَرَامٌ ، وَالثَّمَنَ حَلَالٌ : لِأَنَّ الْبَيْعَ فِيهِ لَازِمٌ ، كَمَا أَنَّ بَيْعَ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ حكمه حَرَامٌ وَالثَّمَنَ فِيهِ حَلَالٌ ، فَيُقَالُ لَهُ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْمُرَابَحَةِ أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ مَا ذَكَرْتُهُ وَإِنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ . وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ : إِنَّ ثَمَنَ التَّدْلِيسِ حَرَامٌ لَا ثَمَنَ الْبَيْعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا فَاتَ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِأَرْشِ عَيْبِ التَّدْلِيسِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أُخِذَ مِنْهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ .

بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ حَاضِرٍ لِبَادٍ وَالنَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي السِّلَعِ

بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ حَاضِرٍ لِبَادٍ وَالنَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي السِّلَعِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ " وَزَادَ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ " ( قَالَ ) فَإِنْ بَاعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ فَهُوَ عَاصٍ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ وَلَمْ يَفْسَخْ : لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ " يَتَبَيَّنُ أَنَّ عُقْدَةَ الْبَيْعِ جَائِزَةٌ وَلَوْ كَانَتْ مَفْسُوخَةً لَمْ يَكُنْ بَيْعُ حَاضِرٍ لِبَادٍ يَمْنَعُ الْمُشْتَرِيَ شَيْئًا مِنْ فَضْلِ الْبَيْعِ ، وَإِنَمَا كَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي إِذَا قَدِمُوا بِسِلَعِهِمْ يَبِيعُونَهَا بِسُوقِ يَوْمِهِمْ لِلْمُؤْنَةِ عَلَيْهِمْ فِي حَبْسِهَا وَاحْتِبَاسِهِمْ عَلَيْهَا ، وَلَا يَعْرِفُ مِنْ قِلَّةِ سِلْعَتِهِ وَحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا مَا يَعْلَمُ الْحَاضِرُ ، فَيُصِيبُ النَّاسُ مِنْ بُيُوعِهِمْ رِزْقًا ، وَإِذَا تَوَكَّلَ لَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ الْمُقِيمُونَ تَرَبَّصُوا بِهَا : لِأَنَّهُ لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ فِي الْمُقَامِ بِهَا فَلَمْ يُصِبِ النَّاسُ مَا يَكُونُ فِي بَيْعِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ " . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ . فَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ يَحْمِلُونَ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَيَمْنَعُونَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لَبَادٍ بِكُلِّ حَالٍ ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ . وَمَنَعَ آخَرُونَ مِنَ الْبَيْعِ دُونَ الشِّرَاءِ ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَتْرُوكٌ ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مَنْسُوخٌ ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَبِيعَ لِلْبَادِي بِكُلِّ حَالٍ . وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ ،

وَلِلْحَدِيثِ سَبَبٌ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَبَيَّنَهُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ كَانُوا يَجْلِبُونَ السِّلَعَ فَيَبِيعُونَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهِمْ ، لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَؤُونَةِ فِي حَبْسِهَا وَالْمُقَامِ عَلَيْهَا ، فَيَشْتَرِيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَيُصِيبُونَ مِنْ أَثْمَانِهَا فَضْلًا إِذَا أَمْسَكُوهَا ، فَعَمَدَ قَوْمٌ مِنْ سَمَاسِرَةِ الْأَسْوَاقِ فَتَرَبَّصُوا لِلْبَادِيَةِ بِأَمْتِعَتِهِمْ حَتَّى إِذَا انْقَطَعَ الْجَلَبُ بَاعُوهَا لَهُمْ بِأَوْفَرِ الْأَثْمَانِ فَشَكَى ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَلَّغَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَكْوَى ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : " لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ " . فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا قَالَ أَنَسٌ وَمَنْ تَابَعَهُ فَلَا ، لِمَا فِي اسْتِعْمَالِ النَّهْيِ لَوْ عَمَّ مِنَ الْإِضْرَارِ بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ ، إِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الْحَضَرِ مِنْ بَيْعِ أَمْتِعَتِهِمْ ، وَإِضْرَارِ الْحَاضِرِ مِنِ انْقِطَاعِ الْجَلَبِ مِنَ الْبَادِيَةِ ، فَيُفْضِي إِلَى الْإِضْرَارِ بِالْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رَوَى سَالِمٌ الْمَكِّيُّ ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَقْدَمَ بِجَارِيَةٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَزَلَ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ ، وَلَكِنِ اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ فَانْظُرْ مَنَ يُبَايِعُكَ فَشَاوِرْنِي حَتَى آمُرَكَ وَأَنْهَاكَ . قَالُوا : فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ طَلْحَةَ عَلَى عُمُومِ النَّهْيِ . قِيلَ : قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ طَلْحَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى السَّبَبِ الْمَنْقُولِ وَسَمِعَ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، أَوْ يَكُونَ أَحَبَّ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، فَوَكَلَهُ إِلَى غَيْرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَرْشَدَهُ إِلَى السُّوقِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهَا لَهُ فِي السُّوقِ حَاضِرٌ أَيْضًا . وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الْحَدِيثَ وَجَعَلَهُ مَنْسُوخًا فَهُوَ تَارِكٌ لِسُنَةٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّبَبِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِأَرْبَعَةِ شَرَائِطَ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَكُونَ لِلْبَدَوِيِّ عَزْمٌ عَلَى الْمُقَامِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بَيْعَهَا فِي الْحَالِ ، وَلَا يُرِيدُ التَّأْخِيرَ وَالِانْتِظَارَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَبْدَأَهُ الْحَضَرِيُّ فَيُشِيرُ عَلَيْهِ بِتَرْكِ السِّلْعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْبَدَوِيِّ فِي ذَلِكَ رَأْيٌ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ لَطِيفًا يُضَرُّ بِأَهْلِهِ حَبْسُ ذَلِكَ الْمَتَاعِ عَنْهُمْ . فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ تَعَيَّنَ النَّهْيُ وَحَرُمَ الْبَيْعُ . فَإِذَا خَالَفَ الْحَضَرِيُّ النَّهْيَ وَبَاعَ الْمَتَاعَ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا ، وَهُوَ بِالنَّهْيِ عَاصٍ إِنْ كَانَ بِالْحَدِيثِ عَالِمًا . وَإِنَّمَا صَحَّ الْبَيْعُ : لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي الْعَاقِدِ دُونَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

" دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ " وَلَوْ بَطَلَ الْبَيْعُ لَامْتَنَعَ الرِّزْقُ ، فَأَمَّا إِنْ عَدِمَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ أَوْ بَعْضُهَا : فَإِنْ عَدِمَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : فَإِنْ كَانَ لِلْبَدَوِيِّ عَزْمٌ عَلَى الْمُقَامِ ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْحَضَرِيِّ أَنْ يَبِيعَ لَهُ : لِأَنَّ الْبَدَوِيَّ قَدْ كَانَ يَحْبِسُ مَتَاعَهُ بِمُقَامِهِ لَوْ لَمْ يَحْبِسْهُ الْحَاضِرُ لَهُ . وَإِنْ عَدِمَ الشَّرْطُ الثَّانِي ، وَأَرَادَ الْبَدَوِيُّ تَأْخِيرَ مَتَاعِهِ وَالِانْتِظَارَ بِهِ ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْحَاضِرِ أَنْ يَبِيعَ لَهُ : لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْحَبْسِ ، وَلِأَنَّ الْبَدَوِيَّ لَوْ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ لَقُطِعَ الْجَلَبُ . وَإِنْ عَدِمَ الشَّرْطُ الثَّالِثُ فَكَانَ الْبَدَوِيُّ هُوَ الَّذِي سَأَلَ الْحَاضِرَ فِعْلَ ذَلِكَ ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْحَاضِرِ مَتَاعُهُ لِمَا ذَكَرْنَا . وَإِنْ عَدِمَ الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَكَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَحْرُمُ بَيْعُهُ عَلَى الْحَاضِرِ : لِعُمُومِ النَّهْيِ . وَالثَّانِي : لَا يَحْرُمُ : لِأَنَّ حَبْسَ الْحَاضِرِ لَهُ وَتَأْخِيرَ بَيْعِهِ لَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ ، وَلَا يَمْنَعُهُمُ الرِّزْقَ . وَلَا فَرْقَ فِي النَّهْيِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ الْبَادِيَةِ وَبَيْنَ الْأَكْرَادِ فِي جَلَبِ الْأَمْتِعَةِ ، وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ السَّوَادِ وَالرُّسْتَاقِ وَأَهْلِ الْبَحَارِ فِي أَنَّ النَّهْيَ يَعُمُّ جَمِيعَهُمْ فِي تَرَبُّصِ أَهْلِ الْحَضَرِ بِأَمْتِعَتِهِمْ . ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ) .

مَسْأَلَةٌ : وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تَتَلَقَّوا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ " ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَسَمِعْتُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : " فَمَنْ تَلَقَّاهَا فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ بَعْدَ أَنْ يَقْدُمَ السُّوقَ " ( قَالَ ) وَبِهَذَا نَأْخُذُ إِنْ حَطَّ كَانَ ثَابِتًا ، وَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ غَيْرَ أَنَّ لِصَاحِبِهَا الْخِيَارَ بَعْدَ قُدُومِ السُّوقِ : لِأَنَّ شِرَاءَهَا مِنَ الْبَدَوِيِّ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ إِلَى مَوْضِعِ الْمُتَسَاوِمَيْنِ مِنَ الْغَرَرِ بِوَجْهِ النَّقْصِ مِنَ الثَّمَنِ فَلَهُ الْخِيَارُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَالْأَصْلُ فِيهِ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَلَقَّوا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : رَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " لَا تَلَقَّوا الْجَلَبَ فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا فَإِذَا أَتَى بَائِعُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ " . فَعَلَى هَذَانِ الْخَبَرَانِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِابْتِيَاعِ أَمْتِعَتِهِمْ قَبْلَ قُدُومِ الْبَلَدِ .

فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَمَنَعَ مِنْهُ أي الركبان . فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ : إِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قَوْمًا بِالْمَدِينَةِ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الرُّكْبَانَ إِذَا وَرَدَتْ بِالْأَمْتِعَةِ فَيُخْبِرُونَهُمْ بِرُخْصِ الْأَمْتِعَةِ وَكَسَادِهَا وَيَبْتَاعُونَهَا مِنْهُمْ بِتِلْكَ الْأَسْعَارِ ، فَإِذَا وَرَدَ أَرْبَابُ الْأَمْتِعَةِ الْمَدِينَةَ شَاهَدُوا زِيَادَةَ الْأَسْعَارِ وَكَذِبِ مَنْ تَلَقَّاهُمْ بِالْأَخْبَارِ ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى انْقِطَاعِ الرُّكْبَانِ وَعُدُولِهِمْ بِالْأَمْتِعَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْبُلْدَانِ ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَلَقِّيهِمْ نَظَرًا لَهُمْ ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْخَدِيعَةِ الْمُجَانِبَةِ لِلدِّينِ ، كَمَا نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لَبَادٍ نَظَرًا لِأَهْلِ الْبَلَدِ : لِتَعُمَّ الْمَصْلَحَةُ بِالْفَرِيقَيْنِ بِالنَّظَرِ لَهُمَا . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلِ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّيهِمْ أَنَّ مَنْ كَانَ يَبْتَاعُهَا مِنْهُمْ يَحْمِلُهَا إِلَى مَنْزِلِهِ وَيَتَرَبَّصُ بِهَا زِيَادَةَ السِّعْرِ ، فَلَا يَتَّسِعُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَا يَنَالُونَ نَقْصًا مِنْ رُخْصِهَا ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِلْبَيْعِ حَتَّى تَرِدَ أَمْتِعَتُهُمُ السُّوقَ فَتَجْتَمِعَ فِيهِ وَتَرْخُصَ الْأَسْعَارُ بِكَثْرَتِهَا فَيَنَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ نَفْعًا بِرُخْصِهَا ، فَيَكُونُ هَذَا النَّهْيُ نَظَرًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَيْضًا كَمَا نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لَبَادٍ نَظَرًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى النَّهْيِ ، فَتَلَقَّى قَوْمٌ الرُّكْبَانَ قَبْلَ وُرُودِ الْبَلَدِ فَابْتَاعُوا أَمْتِعَتَهُمْ ، ثُمَّ وَرَدَ أَرْبَابُ الْأَمْتِعَةِ وَبَاعَتْهَا الْبَلَدُ فَإِذَا أَغْبَنَهُمْ فَلَهُمُ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ بَيْعِهِمِ الْمَاضِي ، أَوْ فَسْخِهِ لِقَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِذَا أَتَى بَائِعُهُ الَّسَّوْقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ . وَاسْتَدْرَكَ بِالْفَسْخِ إِزَالَةَ مَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْخِيَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّيهِمْ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْغَبْنِ بِاسْتِرْخَاصِ أَمْتَعَتِهِمْ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يُغْبَنُوا فِي بَيْعِهَا ، وَأُخْبِرُوا بِالْأَسْعَارِ عَلَى صِدْقِهَا ، وَكَانَ سِعْرُ الْعَسَلِ بِالْبَلَدِ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ بِدِينَارٍ ، فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ سِعْرَهُ كَذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُمْ : لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْحَقْهُمْ غَبْنٌ فِي بَيْعِهِمْ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُمُ الْخِيَارُ إِذَا أَخْبَرُوهُمْ وَالسِّعْرُ عَشْرَةُ أَمْنَاءٍ بِدِينَارٍ ، وَأَنَّهُ يُسَاوِي أَحَدَ عَشَرَ مَنًّا بِدِينَارٍ فَيَكُونُوا بِالْخِيَارِ لِأَجْلِ الْغَبْنِ . وَالثَّانِي : لَهُمُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ . ثُمَّ يَكُونُ هَذَا الْخِيَارُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْفَوْرِ : لِأَنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ ، فَمَتَى أَمْكَنَهُمُ الْفَسْخُ بَعْدَ قُدُومِ الْبَلَدِ فَلَمْ يَفْسَخُوا سَقَطَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِي الْأَصْلِ أَنَّ هَذَا الْخِيَارَ خِيَارُ شَرْعٍ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأَمْتِعَةُ فِي الْبَلَدِ فَتَرْخُصُ عَلَى أَهْلِهِ ، فَعَلَى هَذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِأَرْبَابِ الْأَمْتِعَةِ ، سَوَاءً غُبِنُوا فِي بَيْعِهَا أَمْ لَا ، صَدَقُوهُمْ فِي الْأَسْعَارِ أَمْ كَذَبُوهُمْ . وَفِي زَمَانِ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ كَالْعَيْبِ فَإِنْ تَرَكَ الْفَسْخَ مَعَ الْإِمْكَانِ سَقَطَ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُمْتَدٌّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَالْمُصَرَّاةِ . فَلَوْ وَرَدَ أَرْبَابُ الْأَمْتِعَةِ الْبَلَدَ فَتَلَقَّاهُمْ قَوْمٌ قَبْلَ حُصُولِهِمْ فِي السُّوقِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَسْعَارِ ، فَابْتَاعُوا أَمْتِعَتَهُمْ وَكَذَبُوهُمْ فِي أَسْعَارِهَا ، فَلَا خِيَارَ لِأَرْبَابِ الْأَمْتِعَةِ فِي الْفَسْخِ : لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى تَعَرُّفِ الْأَسْعَارِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ قَدْ شَاهَدُوا حُصُولَ أَمْتِعَتِهِمْ ، فَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ عَنِ الْبَلَدِ لِحَاجَةٍ لَهُمْ وَلَمْ يَقْصِدُوا تَلَقِّي الرُّكْبَانِ ، فَوَجَدُوا الرُّكْبَانَ قَدْ أَقْبَلَتْ بِالْأَمْتِعَةِ فَأَرَادُوا أَنْ يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْهَا مِنْ غَيْرِ كَذِبٍ فِي إِخْبَارِهِمْ بِأَسْعَارِهَا فَفِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ لَهُمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُمْ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ مَا يَلْحَقُ أَرْبَابُ الْأَمْتِعَةِ مِنَ الِاسْتِرْخَاصِ مِنْ أَصْحَابِ الرُّكْبَانِ مِنَ الْغَبْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُمْ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ حُصُولُ الْأَمْتِعَةِ أَنَّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّيهِمْ كَثْرَةَ الْأَمْتِعَةِ فِي الْبَلَدِ لِيَرْخُصَ عَلَى أَهْلِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ وَعَنْ سَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً وَتَأْخِيرِ الْحَقِّ

بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ ، وَعَنْ سَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً ، وَتَأْخِيرِ الْحَقِّ . مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ ، ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَكُونَ الْأَثْمَانُ مَعْلُومَةً ، وَالْبَيْعُ مَعْلُومًا ، فَلَمَّا كُنْتُ إِذَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ دَارًا بِمِائَةٍ عَلَى أَنْ أُسَلِّفَكَ مِائَةً كُنْتُ لَمْ أَشْتَرِهَا بِمَائَةٍ مُفْرَدَةٍ ، وَلَا بِمِائَتَيْنِ ، وَالْمِائَةُ السَّلَفُ عَارِيَّةٌ لَهُ ، بِهَا مَنْفَعَةٌ مَجْهُولَةٌ ، وَصَارَ الثَّمَنُ غَيْرَ مَعْلُومٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، رَوَى الْحِجَازِيُّونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ ، وَرَوَى الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَقَرْضٍ ، وَالسَّلَفُ هُوَ الْقَرْضُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ . فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ قَالَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُغَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَاحِدًا رَوَاهُ الْحِجَازِيُّونَ بِلُغَتِهِمْ ، وَرَوَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ بِلُغَتِهِمْ ، وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ الرِّوَايَةُ إِذَا كَانَ مَعْنَى اللَّفْظِ جَلِيًّا وَالِاحْتِمَالُ عَنْهُ مُنْتَفِيًا . وَلَيْسَ هَذَا الْخَبَرُ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ : لِأَنَّ الْبَيْعَ بِانْفِرَادِهِ جَائِزٌ ، وَالْقَرْضَ بِانْفِرَادِهِ جَائِزٌ ، وَاجْتِمَاعَهُمَا مَعًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَائِزٌ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ بَيْعٌ شُرِطَ فِيهِ قَرْضٌ حكمه . وَصُورَتُهُ : بيع وشرط أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُقْرِضَنِي مِائَةً ، وَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ ، وَقَرْضٌ بَاطِلٌ : لِأُمُورٍ مِنْهَا : نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ . وَمِنْهَا نَهْيُهُ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ . وَمِنْهَا نَهْيُهُ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً . وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَعْنِيِّ الْمُفْضِي إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ ، وَذَاكَ أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ قَرْضًا صَارَ بَائِعًا سِلْعَتَهُ بِالثَّمَنِ الْمَذْكُورِ وَبِمَنْفَعَةِ الْقَرْضِ الْمَشْرُوطِ ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الشَّرْطَ سَقَطَتْ مَنْفَعَتُهُ مِنَ الثَّمَنِ ، وَالْمَنْفَعَةُ مَجْهُولَةٌ ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنَ الثَّمَنِ أَفْضَتْ إِلَى جَهَالَةٍ نَافِيَةٍ ، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ مُبْطِلَةٌ لِلْعَقْدِ .

وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ شِرَاءٌ وَقَرْضٌ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدِ اشْتَرَيْتُ عَبْدَكَ هَذَا بِمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُقْرِضَنِي مِائَةً ، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ وَقَرْضٌ بَاطِلٌ : لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى . وَكَذَا لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ بِشَرْطِ الْقَرْضِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يُسَلِّفَهُ مَائَةً عَلَى أَنْ يَقْضِيَهُ خَيْرًا مِنْهَا ، حكمه وَلَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا فِي بَلَدِ كَذَا ، وَلَوْ أَسْلَفَهُ إِيَّاهَا بِلَا شَرْطٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْكُرَهُ فَيَقْضِيَهُ خَيْرًا مِنْهَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . أَمَّا الْقَرْضُ فَإِنَّمَا سُمِّيَ قَرْضًا : لِأَنَّ الْمُقْرِضَ يَقْطَعُ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ فَيَدْفَعُهَا إِلَى الْمُقْتَرِضِ . وَالْقَطْعُ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الْقَرْضُ ، فَلِذَلِكَ قِيلَ : ثَوْبٌ مَقْرُوضٌ ؛ أَيْ : مَقْطُوعٌ ، وَسُمِّيَ الْمِقْرَاضُ مِقْرَاضًا ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ . وَالْقَرْضُ مَعُونَةٌ وَإِرْفَاقٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ وَإِبَاحَتِهِ القرض : مَا رَوَى عَطَاءٌ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَرَدَّ رَبَاعِيًّا ، وَقَالَ : خِيَارُ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً . وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ : اسْتَقْرَضَ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا ، ثُمَّ أَتَى بِمَالٍ فَقَالَ : ادْعُوا لِيَ ابْنَ أَبِي رَبِيعَةَ فَقَالَ : هَذَا مَالُكَ فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي مَالِكَ وَوَلَدِكَ ، إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْحَمْدُ وَالْوَفَاءُ . وِرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ صَاعًا فَرَدَّ عَلَيْهِ صَاعَيْنِ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً . فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ إِذَا لَمْ يَجُرَّ مَنْفَعَةً . فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقَرْضِ وصوره فَهُوَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الْأَمْوَالِ الْمَنْقُولَةِ ، فَأَمَّا مَا لَا يُنْقَلُ مِنَ الدُّورِ وَالْعَقَارِ وَالضِّيَاعِ فَلَا يَجُوزُ قَرْضُهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهَا ، وَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِإِعَارَتِهَا ، وَإِنَّ ثُبُوتَهَا فِي الذِّمَمِ لَا يَصِحُّ . فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْمَنْقُولَةُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ ، كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ ، فَقَرْضُ هَذَا يَصِحُّ وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مُقْتَرِضِهِ بِمِثْلِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَا مِثْلَ لَهُ ، وَلَكِنْ يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ ، كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ ، فَقَرْضُ ذَلِكَ جَائِزٌ إِلَّا الْجَوَارِي فَإِنَّ قَرْضَهُنَّ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَبِمَاذَا يَصِيرُ هَذَا الضَّرْبُ مَضْمُونًا عَلَى مُقْتَرِضِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ كَالْمَغْصُوبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ : لِأَنَّهُ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ إِذَا وُصِفَ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَرَضَ حَيَوَانًا فَرَدَّ حَيَوَانًا . وَلِأَنَّ الْقَرْضَ إِرْفَاقٌ وَمَعُونَةٌ فَبَايَنَ حُكْمُ الْمَغْصُوبِ بِالْمُفَاضَلَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا لَا مِثْلَ لَهُ ، وَلَا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ ، كَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ وَالْمَعْجُونَاتِ مِنْ طِيبٍ أَوْ دَوَاءٍ وَالْخُبْزِ وَالْبُرِّ الْمُخْتَلِطِ بِالشَّعِيرِ ، فَهَذَا وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فِي جَوَازِ قَرْضِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ ، أَنَّ قَرْضَهُ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ لَا يُضْبَطُ بِمِثْلٍ وَلَا صِفَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِقْرَارُهُ فِي الذِّمَّةِ كَالسَّلَمِ . فَتَكُونُ الْعِلَّةُ فِيمَا يَصِحُّ قَرْضُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ ، وَمَا لَا يَصِحُّ قَرْضُهُ هُوَ مَا لَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ ، أَنَّ قَرْضَهُ جَائِزٌ : لِأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ ، وَجَعَلُوا الْعِلَّةَ فِيمَا يَجُوزُ قَرْضُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى مُقْتَرِضِهِ بِالْقِيمَةِ وَجْهًا وَاحِدًا . وَفِي اعْتِبَارِ زَمَانِ مَا ضُمِنَ مِنَ الْقَرْضِ بِالْقِيمَةِ ؛ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قِيمَتَهُ مُعْتَبَرَةٌ وَقْتَ قَبْضِهِ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَةً مِنْ حِينِ قَبْضٍ إِلَى حِينِ تَصَرُّفٍ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَنَعَ مِنْ جَوَازِ قَرْضِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ السَّلَفَ فِيهِ لَا يَجُوزُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ قَرْضِهِ مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جَوَازِ السَّلَمِ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا وَرَدَّ عَلَيْهِ جَمَلًا رَبَاعِيًّا . وَلِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ صَحَّ أَنْ تَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ صَدَاقًا صَحَّ أَنْ تَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ قَرْضًا وَسَلَمًا كَالثِّيَابِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتَرِضَهُ لِلْمَسَاكِينِ ، جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْتَرِضَهُ لِنَفْسِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ لِلْوَالِي أَنْ يُقْرِضَ الْحَيَوَانَ لِلْمَسَاكِينِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْجَوَارِي ، فَإِنَّ الْمُزَنِيَّ وَدَاوُدَ وَابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ يُجِيزُونَ قَرْضَهُنَّ كَمَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِنَّ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ مِلْكَ الْقَرْضِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ : لِأَنَّ لِلْمُقْرِضِ اسْتِرْجَاعَهُ وَلِلْمُقْتَرِضِ رَدَّهُ ، وَالْوَطْءُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي مِلْكٍ تَامٍّ ، لِأَنْ لَا يَصِيرَ الْإِنْسَانُ مُسْتَبِيحًا لِلْوَطْءِ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْأَبِ إِذَا وَهَبَ جَارِيَةً لِوَلَدِهِ فِي جَوَازِ الْهِبَةِ مَعَ جَوَازِ اسْتِرْجَاعِ الْأَبِ لَهَا : لِأَنَّ مِلْكَ الْأَبِ قَدِ انْقَطَعَ بِالْهِبَةِ وَإِنَّمَا يُسْتَحْدَثُ مِلْكُهَا بِالِاسْتِرْجَاعِ .

وَلِأَنَّ الْوَطْءَ مَنْفَعَةٌ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْعَارِيَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تُسْتَبَاحَ بِالْقَرْضِ كَالْحُرَّةِ . فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجَارِيَةِ حال الجارية عند الإقراض مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُ الْمُقْتَرِضُ وَطْأَهَا ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا فِي الْحَالِ أَوْ فِي ثَانِي الْحَالِ عِنْدَ إِحْلَالٍ مِنْ إِحْرَامٍ ، أَوْ إِسْلَامٍ مِنْ رِدَّةٍ ، أَوْ خُرُوجٍ مِنْ عِدَّةٍ لَمْ يَجُزْ قَرْضُهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى . وَلَا يَصِحُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ تَأْوِيلِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ قَرْضِهِنَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا ثَانِيًا كَمَا وَهَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا . بَلْ مَنْصُوصَاتُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ قَرْضِهِنَّ . وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَسْتَبِيحُ الْمُقْتَرِضُ وَطْأَهَا إِمَّا لِكَوْنِهَا ذَاتَ مَحْرَمٍ ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ امْرَأَةٌ فَفِي جَوَازِ قَرْضِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ ، أَنَّ قَرْضَهَا إِذَا حَرُمَ وَطْؤُهَا جَائِزٌ اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى ، وَأَنَّهُ قَرْضٌ لَا يُفْضِي إِلَى اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ فَجَرَى مَجْرَى قَرْضِ الْعَبِيدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ ، أَنَّ قَرْضَ مَنْ حَرُمَ وَطْؤُهَا لَا يَجُوزُ كَمَا أَنَّ قَرْضَ مَنْ حَلَّ وَطْؤُهَا لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهُنَّ يَصِرْنَ جِنْسًا لَا يَجُوزُ قَرْضُهُ ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ قَرْضُهُ مِنْ شَخْصٍ لَا يَجُوزُ قَرْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْمُبَاحَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ قَرْضِ مَا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا يُمْلَكُ الْقَرْضُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ كَالْهِبَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْمُقْتَرِضِ بِالْقَبْضِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ دَلَّ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ بَعْدَ الْقَبْضِ : لِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ لِلْمُقْرِضِ بَعْدَ الْقَبْضِ اسْتِرْجَاعُهُ ، وَلِلْمُقْتَرِضِ رَدُّهُ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِلْكُهُ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَلِلْمُقْرِضِ مَعَ بَقَاءِ الْقَرْضِ فِي يَدِ الْمُقْتَرِضِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ سَوَاءً تَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ ، وَلَيْسَ لِلْمُقْتَرِضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنِ اسْتِرْجَاعِ عَيْنِهِ بِإِعْطَاءِ بَدَلِهِ : لِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ اسْتُحِقَّتْ فَاسْتِرْجَاعُهَا مَعَ بَقَائِهَا أَوْلَى مِنِ اسْتِرْجَاعِ بَدَلِهَا . فَلَوْ كَانَ الْقَرْضُ قَدْ خَرَجَ عَنْ يَدِ الْمُقْتَرِضِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ حكمه كَانَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِبَدَلِهِ فَإِنْ كَانَ ذَا مِثْلٍ فَمِثْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذِي مِثْلٍ فَفِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بِقِيمَتِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ الْعَيْنَ الَّتِي مُلِّكَتْ عَلَيْهِ لِيَرُدَّهَا عَلَى الْمُقْرِضِ بِعَيْنِهَا ، لِأَنَّ مَنْ صَارَتْ إِلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ رَفْعُ يَدِهِ عَنْهَا وَلَا إِزَالَةُ مِلْكِهِ . فَلَوْ عَادَتْ إِلَى مِلْكِ الْمُقْتَرِضِ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْهُ بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَهَلْ لِلْمُقْرِضِ رُجُوعٌ بِعَيْنِهَا أَوْ بِبَدَلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ بِعَيْنِهَا ؛ لِأَنَّهَا عَيْنُ مَا اقْتَرَضَ فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى الْبَدَلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ عَيْنِهَا إِلَّا بِرِضَا الْمُقْتَرِضِ ، وَيَرْجِعُ إِلَى بَدَلِهَا لِسُقُوطِ ذَلِكَ بِخُرُوجِهَا عَنْ يَدِهِ وَعَوْدِهَا بِاسْتِحْدَاثِ مِلْكٍ آخَرَ . فَلَوْ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ رَهَنَ مَا اقْتَرَضَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ وَيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِبَدَلِهِ . فَلَوْ فَكَّهُ مِنَ الرَّهْنِ قَبْلَ الرُّجُوعِ بِبَدَلِهِ كَانَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِهِ دُونَ بَدَلِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى مِلْكِ الْمُقْتَرِضِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ بِالرَّهْنِ . فَلَوْ كَانَ الْمُقْتَرِضُ قَدْ أَجَّرَهُ كَانَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْإِجَارَةِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ ، وَالْإِجَارَةُ عَلَى حَالِهَا لَا تَبْطُلُ بِرُجُوعِ الْمُقْرِضِ ، وَالْأُجْرَةِ لِلْمُقْتَرِضِ : لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ فِي مِلْكِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُقْرِضُ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ : لِأَنَّ إِجَارَتَهُ بَعْضٌ لَا يَلْزَمُهُ الرِّضَا بِهِ . فَلَوْ كَانَ الْقَرْضُ فِي يَدِ الْمُقْتَرِضِ فَحَدَثَ بِهِ عَيْبٌ عِنْدَهُ : فَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمِثْلِهِ كَانَ الْمُقْرِضُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَا أَقْرَضَ مَعِيبًا وَلَا أَرْشَ لَهُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِمِثْلِهِ سَلِيمًا ، وَخَالَفَ الْمَغْصُوبُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ عَنْ عَيْنِهِ مَعَ وُجُودِهِ : لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ وَالْقَرْضُ يُزِيلُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِقِيمَتِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْقَرْضِ مَعِيبًا وَبِأَرْشِ عَيْبِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ مَا لَهُ مِثْلٌ ، فَلَيْسَ لِلْقِيمَةِ فِيهِ مَدْخَلٌ فَكَذَلِكَ الْأَرْشُ ، وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ لِمَا وَجَبَتْ قِيمَتُهُ دَخَلَهُ الْأَرْشُ . فَصْلٌ : وَلِصِحَّةِ الْقَرْضِ شروط صحة القرض فِيمَا يَجُوزُ قَرْضُهُ ، ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٌ : فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : فَهُوَ إِطْلَاقُ الْقَرْضِ حَالًا مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ مَشْرُوطٍ فِيهِ ، فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ أَجَلًا القرض وَقَالَ : قَدْ أَقْرَضْتُكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ إِلَى شَهْرٍ لَمْ يَجُزْ . وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ الْقَرْضُ مُؤَجَّلًا ، وَيُلْزَمُ فِيهِ الْأَجَلُ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُقْرِضِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ . وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَغْلَطُ فَيَذْهَبُ إِلَى جَوَازِهِ ، وَيَتَنَاوَلُ كَلَامًا لِلشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ : وَإِنْ وَجَدَ الْحَاكِمُ مَنْ يُسَلِّفُهُ الْمَالَ حَالًا لَمْ يَجْعَلْهُ أَمَانَةً . وَإِنَّ دَلِيلَ هَذَا الْكَلَامِ جَوَازُ الْقَرْضِ مُؤَجَّلًا حكمه . وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ : لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَازَ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ ، وَإِنْ كَانَ يَرَى تَأْجِيلَ الْقَرْضِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُهُ : لِأَنَّ أَمْوَالَ الْيَتَامَى لَا يَجْرِي نَظَرُ الْحَاكِمِ فِيهَا مَجْرَى نَظَرِ الْمَالِكِينَ . وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي حَظْرِ تَأْجِيلِ الْقَرْضِ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ تَأْجِيلِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ . وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْمُرَاضَاةِ إِذَا صَحَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ مُعَجَّلًا صَحَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا كَالْأَثْمَانِ .

وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ . فَأَثْبَتُ أَحْكَامِ الشُّرُوطِ إِذَا جَاءَ النَّصُّ بِهَا وَدَلَّ الْكِتَابُ عَلَيْهَا . وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنَ التَّفَاضُلِ مِنْهُ مُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْأَجَلِ فِيهِ كَالصَّرْفِ . وَلِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْقَرْضِ أَنْ يُمَلَّكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ مِثْلَ مِلْكِ صَاحِبِهِ ، فَلَمَّا كَانَ الْمُقْتَرِضُ قَدْ مَلَكَ الْقَرْضَ مُعَجَّلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ قَدْ مَلَكَ بَدَلَهُ مُعَجَّلًا . وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ فَمَخْصُوصٌ بِخَبَرِنَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَثْمَانِ فَمُنْتَقِضٌ بِالصَّرْفِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَثْمَانِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ الزِّيَادَةُ فِيهَا صَحَّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهَا ، وَالْقَرْضُ لَمَّا لَمْ تَجُزِ الزِّيَادَةُ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِ . فَإِذَا صَحَّ أَنَّ تَأْجِيلَ الْقَرْضِ لَا يَجُوزُ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُبْطَلُ الْقَرْضُ بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ فِيهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَ الْقَرْضُ : لِاشْتِرَاطِ مَا يُنَافِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ الْقَرْضَ صَحِيحٌ : لِأَنَّ الْأَجَلَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ فَتَأْخِيرُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَائِزٌ فَلَمْ يَتَنَافَيَا ؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنْ لَا يَشْتَرِطَ الْمُقْرِضُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ نَفْعًا زَائِدًا عَلَى مَا اقْتَرَضَ : لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً . فَإِنْ شَرَطَ زِيَادَةً عَلَى الْقَرْضِ حكمه فَذَلِكَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْقَرْضُ مِمَّا يَدْخُلُهُ الرِّبَا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ ، فَمَتَى شَرَطَ فِيهِ زِيَادَةً لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ الْقَرْضُ بَاطِلًا ، سَوَاءً كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ ، كَقَوْلِهِ : قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الْمِائَةَ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ ، أَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ : قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الْمِائَةَ الْعِلَّةَ بِمِائَةٍ صِحَاحٍ ، أَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ كَقَوْلِهِ : قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الْمِائَةَ عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي شَهْرًا أَوْ عَلَى أَنْ تَكْتُبَ لِي بِهَا سَفْتَجَةً إِلَى بَلَدِ كَذَا : لِأَنَّ هَذَا نَفْعٌ يَعُودُ عَلَيْهِ لِمَا سَقَطَ عَنْهُ مِنْ خَطَرِ الطَّرِيقِ ، فَالْقَرْضُ فِي هَذَا كُلِّهِ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ ثُبُوتَ الرِّبَا فِيهِ بِهَذَا الْوَجْهِ يُمْنَعُ مِنْهُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْقَرْضُ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ ، كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ ، فَإِنْ كَانَ مَا شَرَطَ مِنَ الزِّيَادَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْقَرْضِ كَقَوْلِهِ : عَلَى أَنْ تَخْدِمَنِي شَهْرًا لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ قَرْضًا بَاطِلًا : لِأَنَّ الْقَرْضَ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، وَالِاسْتِخْدَامُ لِوَضْعِ شَرْطٍ لَازِمٌ فَتَنَافِيَا . وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْقَرْضِ ، إِمَّا فِي قَدْرِهِ كَقَوْلِهِ : قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِثَوْبَيْنِ أَوْ هَذَا الْعَبْدَ بِعَبْدَيْنِ ، أَوْ فِي صِفَةٍ كَقَوْلِهِ : قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ بِثَوْبٍ مَرْوِيٍّ ؛ فَفِي صِحَّةِ الْقَرْضِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَرْضٌ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرُّوذِيِّ أَنَّهُ جَائِزٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ مِثْلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْقَرْضِ انْصَرَفَ عَنْ حُكْمِ الْقَرْضِ إِلَى الْمَبِيعِ ، فَصَارَ بَيْعًا بِلَفْظِ الْقَرْضِ . وَهَذَا الْقَوْلُ وَاضِحُ الْفَسَادِ : لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نَقْلَ الْقَرْضِ الْمَقْصُودِ إِلَى بَيْعٍ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ ، وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ رَدَّ زِيَادَةً عَلَى الْمُقْرِضِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ حكمه جَازَ ، وَكَانَ مُحْسِنًا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ مَكَانَ بَكْرٍ رَبَاعِيًّا ، وَقَالَ : خِيَارُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً . وَرَدَّ مَكَانَ صَاعٍ صَاعَيْنِ . لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الصِّفَةِ كَالصِّحَاحِ مَكَانَ الْغَلَّةِ أَوِ الطَّعَامِ الْحَدِيثِ مَكَانَ الْعَتِيقِ لَزِمَ الْمُقْرِضَ قَبُولُهَا . وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ كَالصَّاعَيْنِ مَكَانَ الصَّاعِ وَالدِّرْهَمَيْنِ مَكَانَ الدِّرْهَمِ فَهِيَ هِبَةٌ لَا يَلْزَمُ الْمُقْرِضَ قَبُولُهَا إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الشَّرْطِ إِذَا كَانَ زَائِدًا . فَأَمَّا الشُّرُوطُ النَّاقِصَةُ في القروض كَأَنْ أَقْرَضَهُ صِحَاحًا لِيَرُدَّ مَكَانَهَا غَلَّةً ، أَوْ طَعَامًا حَدِيثًا لِيَرُدَّ مَكَانَهُ عَتِيقًا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ . وَفِي بُطْلَانِ الْقَرْضِ بِهِ وَجْهَانِ كَالْأَجَلِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ شَرْطٍ نَاقِصٍ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي بُطْلَانِ الْقَرْضِ بِهَا ، وَبَيْنَ الشُّرُوطِ النَّاقِصَةِ فِي صِحَّةِ الْقَرْضِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَعَ مَا نَذْكُرُ مِنَ الْفَرْقِ فِي الرَّهْنِ وَبَيْنَ الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِيهِ ، وَالشُّرُوطِ النَّاقِصَةِ مِنْهُ ، فَأَمَّا شَرْطُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي الْقَرْضِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَيْسَ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِيثَاقٌ فِيهِ . ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْقَرْضِ الَّذِي شُرِطَ فِيهِ الضَّمِينُ وَالرَّهْنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ الْمِثْلَ أَوِ الْقِيمَةَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ الْمِثْلَ جَازَ شَرْطُ الرَّهْنِ فِيهِ وَالضَّمِينِ . وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ الْقِيمَةَ فَفِي صِحَّةِ شَرْطِ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ ؛ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ شَرْطُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قِيمَةَ الْقَرْضِ مُعْتَبَرَةٌ بِأَكْثَرِ أَحْوَالِهِ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّصَرُّفِ ، فَلَا يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ لِلْجَهَالَةِ بِقِيمَتِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قِيمَتَهُ مُعْتَبَرَةٌ وَقْتَ الْقَبْضِ . فَعَلَى هَذَا إِنْ عَلِمَا قَدْرَ قِيمَتِهِ عِنْدَ شَرْطِهِ وَوَقْتَ قَبْضِهِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَالضَّمِينِ ، وَإِنْ جَهِلَا أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَرْضُ مَعْلُومًا ، وَالْعِلْمُ بِهِ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِقِيمَتِهِ ، فَالْعِلْمُ بِهِ يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ قِيمَتِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَعْرِفَةِ قَدْرِهِ وَلَا صِفَتِهِ إِذَا صَارَتِ الْقِيمَةُ مَعْلُومَةً لِاسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمِثْلِهِ ، فَالْعِلْمُ بِهِ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ . وَالثَّانِي : مَعْرِفَةُ صِفَتِهِ . فَتَنْتَفِي الْجَهَالَةُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ . فَأَمَّا الصِّفَةُ فَمُعْتَبِرَةٌ بِحَسَبِ اعْتِبَارِهَا فِي السَّلَمِ . وَأَمَّا الْقَدْرُ فَيَكُونُ بِالْوَزْنِ إِنْ كَانَ مَوْزُونًا ، وَبِالْكَيْلِ إِنْ كَانَ مَكِيلًا ، وَالذَّرْعِ وَالْعَدَدِ إِنْ كَانَ مَذْرُوعًا أَوْ مَعْدُودًا . فَلَو كَانَ الْقَرْضُ مَكِيلًا فَأَقْرَضَهُ إِيَّاهُ وَزْنًا جَازَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الرِّبَا : لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مَعْلُومًا . وَإِنْ كَانَ فِيهِ الرِّبَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ خَوْفَ الرِّبَا كَالْبَيْعِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرُّوذِيُّ : لِأَنَّ الْقَرْضَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَتَوْسِعَةٍ لَا يُرَاعَى فِيهِ مَا يُرَاعَى فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ . أَلَا تَرَى لَوْ رَدَّ زِيَادَةً عَلَى مَا اقْتَرَضَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِبًا مُحَرَّمًا . وَلَوْ كَانَ الْقَرْضُ مَوْزُونًا فَأَقْرَضَهُ إِيَّاهُ كَيْلًا ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ بِالْكَيْلِ كَالْقُطْنِ ، وَالْكَتَّانِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ لَمْ يَجُزْ : لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَمْ تَنْتِفِ عَنْهُ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْحَصِرُ بِالْكَيْلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الرِّبَا جَازَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الرِّبَا فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ : وَلَكِنْ لَوْ أَقْرَضَهُ جُزَافًا فَلَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِهِ .

فَصْلٌ يَشْتَمِلُ عَلَى فُرُوعٍ فِي الْقَرْضِ

فَصْلٌ آخَرُ يَشْتَمِلُ عَلَى فُرُوعٍ فِي الْقَرْضِ . وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ : أَقْرِضْ لِي مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَكَ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، فَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ إِسْحَاقُ ، وَأَجَازَهُ أَحْمَدُ ، وَهُوَ عِنْدَنَا يَجْرِي مَجْرَى الْجَعَالَةِ وَلَا بَأْسَ بِهِ . فَلَوْ أَنَّ الْمَأْمُورَ أَقْرَضَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَشَرَةَ الْأُجْرَةَ : لِأَنَّهَا بُذِلَتْ لَهُ عَلَى قَرْضٍ مِنْ غَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ رَدِّ الْقَرْضِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَجَازَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ عِنْدَنَا جَائِزٌ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ أَوْلَى ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَقْرَضَ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالًا وَكَانَ يُهَادِيهِ فَامْتَنَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَبُولِ هَدِيَّتِهِ ، فَرَدَّ زَيْدٌ الْقَرْضَ وَقَالَ : لَا حَاجَةَ لِي فِيمَا يَقْطَعُ الْوَصْلَةَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ حَالَ ، فَأَخَّرَهُ بِهِ مُدَّةً حكمه كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَتَى شَاءَ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ وَلَا أَخَذَ مِنْهُ عِوَضًا فَيَلْزَمُهُ وَهَذَا مَعْرُوفٌ لَا يَجِبُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ دَيْنٌ حَالَ فَسَأَلَ تَأْجِيلَهُ فَأَجَّلَهُ ، لَمْ يَلْزَمِ الْأَجَلُ وَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ حَالًا . وَلَوْ وَفَّى بِوَعْدِهِ وَأَجَّلَهُ بِهِ كَانَ حَسَنًا . وَقَالَ مَالِكٌ : مَتَى أَنْظَرَهُ بِالدَّيْنِ وَأَجَّلَهُ لَهُ مُدَّةً لَزِمَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْمُطَالَبَةَ بِهِ ، سَوَاءً كَانَ مِنْ ثَمَنٍ مَبِيعٍ أَوْ قِيِمَةَ مُتْلَفٍ أَوْ غَيْرَهُ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ بِالْعَقْدِ دُونَ الْقَبْضِ ، فَكَذَلِكَ هُنَا الْأَجَلُ يَلْزَمُ بِالْوَعْدِ وَيَصِيرُ كَالْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الدَّيْنُ قِيمَةَ مُتْلَفٍ لَا مَدْخَلَ لِلْأَجَلٍ فِي أَصْلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَجَلُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ثَمَنٍ مَبِيعٍ قَدْ يَصِحُّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِي أَصْلِهِ لَزِمَهُ تَأْجِيلُهُ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ مِنْ خِيَارٍ أَوْ أَجَلٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ فِي الثَّمَنِ ، فَهُوَ لَاحِقٌ بِالْعَقْدِ كَمَا لَوْ كَانَ ذَكَرَاهُ حِينَ الْبَيْعِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ بِالِافْتِرَاقِ لَا يَلْحَقُ الْعَقْدَ أَجَلٌ وَلَا خِيَارٌ وَلَا زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ وَلَا نُقْصَانٌ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَلْحَقَ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ . فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ مَا شَرَطَا مِنَ الْأَجَلِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَزِمَ بِمُقَارَنَةِ الْعَقْدِ لَزِمَ إِذَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ كَالرَّهْنِ . وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ يَمْلِكَانِ فِيهَا الْفَسْخَ يَمْلِكَانِ فِيهَا شَرْطَ الْأَجَلِ أَصْلُهُ مَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ التَّفَرُّقِ . وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [ الْمَائِدَةِ : ] . فَلَوْ صَحَّ أَنْ يُغَيِّرَ حُكْمَ الْعَقْدِ لَمَا لَزِمَ الْوَفَاءُ بِمَا يُقَدِّمُ مِنَ الْعَقْدِ . وَلِأَنَّهُ حَقٌّ اسْتَقَرَّ مُعَجَّلًا فَلَمْ يَعُدْ بِالتَّأْخِيرِ مُؤَجَّلًا قِيَاسًا عَلَى قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ . وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ قَدِ اسْتَقَرَّ لُزُومَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ مَا يُغَيِّرُ أَصْلَهُ إِذَا كَانَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ بَعْدَ تَلَفِ الْعَيْنِ أَوْ مَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ . وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا زِيدَ فِي الثَّمَنِ لَاحِقًا بِالْعَقْدِ لَكَانَ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ رَافِعًا لِجَمِيعِ الْعَقْدِ ، وَجَازَ إِذَا زَادَ الْمُشْتَرِي فِي ثَمَنِ مَا قَدِ اسْتَحَقَّ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الشَّفِيعِ . وَفِي إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي هَذَيْنِ إِلَّا عَلَى مَا اتَّفَقْنَا ؛ دَلِيلٌ عَلَى الْقَوْلِ بِمِثْلِهِ فِيمَا اخْتَلَفْنَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " فَمُعَارِضٌ أَوْ مَخْصُوصٌ أَوْ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرَّهْنِ والأجل والفرق بينهما فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ يَسْتَقِرُّ بِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ كَالْأَجَلِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّهْنَ بَعْدَ الْبَيْعِ لَيْسَ بِلَازِمٍ إِلَّا بِالْقَبْضِ ، وَكَذَا الْأَجَلُ لَيْسَ بِلَازِمٍ إِلَّا بِالْقَبْضِ ، لَكِنَّ قَبْضَ الْأَجَلِ يَقْضِي زَمَانَهُ ، فَمَا لَمْ يَمْضِ الزَّمَانُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ مَا لَمْ يُقْبَضْ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَسْتَقِرَّ لُزُومُهُ ، وَهُوَ بَعْدَ الْخِيَارِ مُسْتَقِرٌّ فَثَبَتَ مَا ذَكَرَنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ فِي مَالِ مُوَلِّيه

يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَتَّجِرَ لَهُ بِمَالِهِ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ

بَابُ تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ فِي مَالِ مُوَلِّيهِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَأُحِبُّ أَنْ يَتَّجِرَ الْوَصِيُّ بِأَمْوَالِ مَنْ يَلِي وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : قَدِ اتَّجَرَ عُمَرُ بِمَالِ يَتِيمٍ ، وَأَبْضَعَتْ عَائِشَةُ بِأَمْوَالِ بَنِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْبَحْرِ ، وَهُمْ أَيْتَامٌ تَلِيهِمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَتَّجِرَ لَهُ بِمَالِهِ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ في تصرف الولي في مال مواليه فِيهِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ الْأَنْعَامِ : ] فَكَانَ النَّهْيُ عُمُومًا وَالِاسْتِثْنَاءُ بِالْأَحْسَنِ فِي حِفْظِهِ خُصُوصًا . وَلِأَنَّ التِّجَارَةَ بِالْمَالِ خَطَرٌ وَطَلَبُ الرِّبْحِ بِهِ مُتَوَهَّمٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَجَّلَ خَطَرًا مُتَيَقَّنًا لِأَجْلِ رِبْحٍ مُتَوَهَّمٍ . وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْدُوبٌ لِحِفْظِ مَالِهِ كَالْمُودِعِ الْمَنْدُوبِ لِحِفْظِ مَا أَوْدَعَ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْمُودِعِ أَنْ يَتَّجِرَ بِالْوَدِيعَةِ طَلَبًا لِرِبْحٍ يَعُودُ عَلَى مَالِكِهَا فَلَمْ يَجُزْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِ الْيَتِيمِ طَلَبًا لِرِبْحٍ يَعُودُ عَلَيْهِ . وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالْوَلِيُّ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُمْلِيَ مَا حَدَثَ مِنْ دَيْنٍ ، وَذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ بَيْعٍ ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَيَتَوَلَّاهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي تَوَلَّاهُ . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى : لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ " . وَرُوِيَ : " اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ " . وَرَوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اتَّجَرَ بِمَالِ يَتِيمٍ كَانَ يَلِي عَلَيْهِ . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَبْضَعَتْ بِأَمْوَالِ بَنِي أَخِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْبَحْرِ وَهُمْ أَيْتَامٌ تَلِيهِمْ .

وَلَيْسَ لِهَذَيْنِ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إِجْمَاعًا . وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَقَامَ الْبَالِغِ الرَّشِيدِ فِي مَالِ نَفْسِهِ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الرَّشِيدِ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِهِ ، كَانَ الْوَلِيُّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَنْدُوبًا إِلَى أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِهِ . وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْدُوبٌ إِلَى أَنْ يُثْمِرَ مَالُهُ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ ، وَالتِّجَارَةُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي تَثْمِيرِ الْمَالِ فَكَانَ الْوَلِيُّ بِهَا أَوْلَى . فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ تفسير الآية [ الْأَنْعَامِ : ] فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ : فَمَذْهَبُ ابْن أَبِي لَيْلَى خَارِجٌ مِنْهَا ، وَمَذْهَبُنَا دَاخِلٌ فِيهَا . أَحَدُهَا : أَنَّ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ التِّجَارَةُ ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَّجِرَ لَهُ وَلَا يَأْخُذَ مِنَ الرِّبْحِ شَيْئًا ، وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ إِنِ افْتَقَرَ ، وَيُمْسِكَ عَنِ الْأَكْلِ إِنِ اسْتَغْنَى ، وَهَذَا قَوْلُ ابْن زَيْدٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إِنِ التِّجَارَةَ خَطَرٌ وَالرِّبْحَ مُتَوَهَّمٌ ، فَهُوَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ سَلَامَةَ الْمَالِ فِي أَحْوَالِ السَّلَامَةِ أَغْلَبُ ، وَظُهُورُ الرِّبْحِ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْأُمُورِ أَظْهَرُ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي هَذَيْنِ غَالِبًا جَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْيَقِينِ فِيهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ كَالْمُودِعِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْحِفْظِ ، فَخَطَأٌ : لِأَنَّ الْمُودِعَ نَائِبٌ عَنْ جَائِزِ الْأَمْرِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِذْنِهِ ، وَالْوَلِيُّ نَائِبٌ عَامُّ التَّصَرُّفِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ وَشِرَاءَ الْعَقَارِ لَهُ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التِّجَارَةِ بِمَالِهِ فَإِنَّمَا يَتَّجِرُ بِمَا كَانَ نَاضًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبِيعَ عَقَارًا وَلَا أَرْضًا ، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ بِالنَّاضِّ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ كُسْوَتِهِ وَنَفَقَتِهِ أَنْ يُعَمِّرَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعِمَارَةِ مِنْ عَقَارِهِ أَوْ ضِيَاعِهِ إِذَا كَانَ فِي عِمَارَتِهَا حِفْظُ الْأَصْلِ . وَلَيْسَ لِمَا يَبْنِي بِهِ الْعَقَارَ مِنَ الْآلَةِ صِفَةٌ مُحَدَّدَةٌ ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ يَحُدُّ ذَلِكَ فَيَقُولُ : يَجِبُ أَنْ يَبْنِيَ بِالْآجُرِّ وَالطِّينِ ، وَلَا يَبْنِيَهُ بِالْآجُرِّ وَالْجِصِّ وَلَا بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ . قَالَ : لِأَنَّ لِلْآجُرِّ وَالطِّينِ مَرْجُوعًا إِنْ هُدِمَ وَبَقَاءٌ إِنْ تُرِكَ ، وَالْجِصُّ فِي الْآجُرِّ لَا مَرْجُوعَ لَهُ ، وَإِذَا انْهَدَمَ بَعْضُهُ خَرِبَ جَمِيعُهُ ، وَاللَّبِنُ وَالطِّينُ قَلِيلُ الْبَقَاءِ . وَلَيْسَ لِهَذَا التَّحْدِيدِ وَجْهٌ صَحِيحٌ : لِأَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عُرْفًا وَلِكُلِّ بَلَدٍ عَادَةً ، فَمِنَ الْبِلَادِ مَا لَا يَسْتَحْكِمُ الْبِنَاءُ فِيهِ إِلَّا بِالْحِجَارَةِ وَالنَّوْرَةِ ، وَمِنْهَا بِالْآجُرِّ وَالْجِصِّ ، وَمِنْهَا بِالْآجُرِّ وَالطِّينِ ، وَمِنْهَا بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ ، وَمِنْهَا بِالْخَشَبِ الْوَثِيقِ .

فَإِذَا بَنَاهُ الْوَلِيُّ عَلَى أَحْكَمِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ ذَلِكَ الْبَلَدِ ؛ أَجْزَأَهُ . ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْبَاقِي مِنْ مَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَوِ ابْتَاعَ لَهُ عَقَارًا أَوْ أَرْضًا عَادَ عَلَيْهِ مِنْ فَاضِلِ غَلَّتِهِ قَدْرُ كِفَايَتَهُ فَابْتَاعَ الْعَقَارَ وَالْأَرَضِينَ بِالْمَالِ أَوْلَى مِنَ التِّجَارَةِ بِهِ ، لِأَنَّهُ أَحْفَظُ أَصْلًا وَأَقَلَّ خَطَرًا مَعَ اسْتِوَاءِ الْعَادَةِ فِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَ لَوِ ابْتَاعَ بِهِ عَقَارًا لَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ مِنْ فَاضِلِ غَلَّتِهِ قَدْرُ كِفَايَتِهِ جَازَ أَنْ يَتَّجِرَ لَهُ بِالْمَالِ عَلَى شُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ : وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ أَمِينًا ، وَالسُّلْطَانُ عَادِلًا ، وَالتِّجَارَةُ مُرْبِحَةً . فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ مُخَوِّفًا لَمْ يَتَّجِرْ بِالْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّغْرِيرِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ جَائِرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ : لِأَنَّهُ رُبَّمَا طَمِعَ فِيهِ بِجُورِهِ ، وَإِنْ كَانَتِ التِّجَارَةُ غَيْرَ مُرْبِحَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّجِرَ بِالْمَالِ لِعَدَمِ الْفَضْلِ الْمَقْصُودِ بِالتِّجَارَةِ . فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ أَمْنِ الزَّمَانِ وَعَدْلِ السُّلْطَانِ وَأَرْبَاحِ الْمُتَاجِرِ ، جَازَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ لَهُ بِمَالِهِ عَلَى شُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي الشِّرَاءِ وَشُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْبَيْعِ . فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الشِّرَاءِ في تجارة اليتيم فَأَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِيَ مَا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ وَإِنْ بَقِيَ : لِأَنَّ مَا يُسْرِعُ فَسَادُهُ لَا يَتَحَفَّظُ ثَمَنُهُ وَأَنْ يَقَعَ عِنْدَ خَوْفِ فَسَادِهِ وَكْسٌ . وَأَمْوَالُ الْيَتَامَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحْفُوظَةَ الْأَصْلِ مَوْجُودَةَ النَّمَاءِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ فِيهِ غَالِبًا ، إِمَّا بِظُهُورِهِ فِي الْحَالِ وَإِمَّا لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِهِ فِي ثَانِي حَالٍ ، فَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ فِي الظَّنِّ ظُهُورُ الرِّبْحِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِلْيَتِيمِ حَظٌّ فِي صَرْفِ مَالِهِ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ بِالنَّقْدِ لَا بِالنِّسَاءِ : لِأَنَّ شِرَاءَ النَّقْدِ أَرْخَصُ وَالرِّبْحَ فِيهِ أَظْهَرُ ، لِأَنَّ فِي النِّسَاءِ إِلْزَامَ دَيْنٍ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ تَلَفُ الْمَالِ وَبَقَاءُ الدَّيْنِ . فَهَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ هِيَ مِنْ حَقِّ الْوِلَايَةِ وَصِحَّةِ الْعَقْدِ جَمِيعًا . فَإِنْ أَخَلَّ الْوَلِيُّ بِهَا أَوْ بِأَحَدِهَا لَمْ يَلْزَمِ الشِّرَاءَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ ، وَكَانَ بَاطِلًا إِنْ عَقَدَ بِعَيْنِ الْمَالِ وَيُلْزَمُ الْوَلِيُّ إِنْ لَمْ يَعْقِدْ بِعَيْنِ الْمَالِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يَدْفَعَ الثَّمَنَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ مَا اشْتَرَى مَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِدَفْعِ الثَّمَنِ نَاضًّا : لِأَنَّ فِي دَفْعِ الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ تَغْرِيرًا ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي حَقِّ الْوِلَايَةِ لَا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، فَإِنْ أَخَلَّ بِهِ الْوَلِيُّ صَحَّ الْعَقْدُ وَكَانَ ضَامِنًا لِمَا عَجَّلَ مِنَ الثَّمَنِ حَتَّى يَقْبِضَ الْمَبِيعَ فَيَسْقُطُ عَنْهُ بِقَبْضِهِ ضَمَانُ الثَّمَنِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْبَيْعِ في تجارة اليتيم فَأَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الثَّمَنِ وَكَمَالِ الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْلِبَ فِي الظَّنِّ حُدُوثُ زِيَادَةٍ فِيهِ لِمَا فِي بَيْعِهِ قَبْلَ كَمَالِ الرِّبْحِ مِنْ تَفْوِيتِ بَاقِيهِ . فَإِنْ بَاعَهُ مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ فِي حُدُوثِ الزِّيَادَةِ فِي ثَمَنِهِ لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الْحَظِّ لِلْيَتِيمِ فِي بَيْعِهِ . وَالثَّانِي : الِاجْتِهَادُ فِي تَوْفِيرِ الثَّمَنِ حَسَبَ الْإِمْكَانِ . فَإِنْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الزِّيَادَةِ

فِيهِ لَمْ يَجُزْ ، سَوَاءً كَانَ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ : لِأَنَّ تَرْكَ الزِّيَادَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا عُدُولٌ عَنِ الْحَظِّ لِلْيَتِيمِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بِالنَّقْدِ دُونَ النِّسَاءِ : لِأَنَّ بَيْعَ النَّقْدِ أَحْفَظُ لِلْمَالِ مَعَ اتِّصَالِ التِّجَارَةِ بِهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ أَحَظَّ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : زِيَادَةُ الثَّمَنِ عَلَى سِعْرِ النَّقْدِ . وَالثَّانِي : قُرْبُ الْأَجَلِ . وَالثَّالِثُ : ثِقَةُ الْمُشْتَرِي وَيَسَارِهِ . وَالرَّابِعُ : الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ . وَالْخَامِسُ : الرَّهْنُ فِيهِ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُ مِنْ أَحْكَامِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ . وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يَدْفَعَ مَا بَاعَهُ نَقْدًا إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ ثَمَنِهِ مَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِدَفْعِهِ نَاضًّا . وَهَذَا شَرْطٌ فِي حَقِّ الْوِلَايَةِ لَا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، فَإِنْ أَقْبَضَ الْمَبِيعَ كَانَ ضَامِنًا لِثَمَنِهِ لَا لِلْمَبِيعِ فِي نَفْسِهِ : لِأَنَّ الْمَبِيعَ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، وَقَدْ سَقَطَ ضَمَانُهُ عَنِ الْيَتِيمِ بِالْقَبْضِ ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ ، فَيَصِيرُ الْوَلِيُّ بِدَفْعِ ذَلِكَ ضَامِنًا لِمَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي حَصَلَ التَّفْرِيطُ بِتَأْخِيرِ قَبْضِهِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَالِهِ بَرًّا في تجارة اليتيم وَلَا بَحْرًا لِمَا فِي السَّفَرِ مِنَ التَّغْرِيرِ بِالْمَالِ . رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ الْمُسَافِرَ وَمَالَهُ عَلَى قَلْتٍ إِلَّا مَا وَقَى اللَّهُ " أَيْ : عَلَى خَطَرٍ . فَإِنْ سَافَرَ بِمَالِهِ ضَمِنَ أَلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسَافَةُ قَرِيبَةً وَالطَّرِيقُ آمِنًا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَبْضَعَتْ بِأَمْوَالِ بَنِي أَخِيهَا فِي الْبَحْرِ ، فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ فِي سَاحِلِ بَحْرِ الْجَارِ بِحَيْثُ يَقْرُبُ مِنَ الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ غَالِبُ ذَلِكَ السَّلَامَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ ضَمِنَتِ الْمَالَ بِالْغَرَرِ إِنْ تَلِفَ مُبَالَغَةً فِي طَلَبِ الرِّبْحِ لِبَنِي أَخِيهَا . فَإِذَا اتَّجَرَ الْوَلِيُّ بِمَالِ الْيَتِيمِ عَلَى الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فَهَلْ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ بِحَقِّ عَمَلِهِ أَمْ لَا ؟ يُنْظَرُ فِيهِ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَاطِعًا لَهُ عَنْ عَمَلِهِ وَلَا مَانِعًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي شُغْلِهِ وَكَانَ وَاجِدًا مُكْتَفِيًا فَلَا أُجْرَةَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ يَقْطَعُهُ ذَلِكَ عَنْ عَمَلِهِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ كَسْبِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا أُجْرَةَ لَهُ : لِأَنَّهُ عَمِلَ ذَلِكَ مُخْتَارًا عَنْ غَيْرِ عَقْدٍ لَازِمٍ وَلَا عَنْ عِوَضٍ مَبْذُولٍ فَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَهُ الْأُجْرَةُ : لِأَنَّ فِي الْمَنْعِ مِنْهَا ذَرِيعَةً إِلَى إِهْمَالِ الْأَيْتَامِ ، وَتَرْكِ مُرَاعَاتِهِمْ وَالتِّجَارَةِ بِأَمْوَالِهِمْ . وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى : وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [ النِّسَاءِ : ] أَنَّ السَّرْفَ هُوَ أَخْذُهَا عَلَى غَيْرِ مَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَوْلُهُ : وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ أَنْ يَأْكُلَ مَالَ الْيَتِيمِ بِبَادِرٍ أَنْ يَبْلُغَ فَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ ، وَقَوْلُهُ : وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ يَعْنِي بِمَالِ نَفْسِهِ عَنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَوْلُهُ : وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ : أَحُدُّهَا : أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ مَالِهِ إِذَا احْتَاجَ ثُمَّ يَقْضِي إِذَا وَجَدَ ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَأْخُذُ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أُجْرَةً مَعْلُومَةً عَلَى قَدْرِ خِدْمَتِهِ . وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَأْكُلُ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَيَلْبَسُ مَا وَارَى الْعَوْرَةَ وَلَا قَضَاءَ ، وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ ، وَمَكْحُولٍ ، وَقَتَادَةَ . وَرَوَى سَعْدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ، أَنَّ عَمَّ ثَابِتِ بْنِ رِفَاعَةَ ، وَثَابِتٌ يَوْمَئِذٍ يَتِيمٌ فِي حِجْرِهِ ، أَتَى نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ : إِنَّ ابْنَ أَخِي يَتِيمٌ فِي حِجْرِي ، فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْ مَالِهِ ؟ قَالَ : أَنْ تَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ وَلَا تَتَّخِذَ مِنْ مَالِهِ وَفْرًا . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهِ وَيَشْرَبَ مِنْ لَبَنِ مَاشِيَتِهِ مَا يَقِيَانِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيِّ . رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ : إِنَ فِي حِجْرِي أَيْتَامًا ، وَإِنَّ لَهُمْ إِبِلًا فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْ أَلْبَانِهَا ؟ فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ تَبْغِي ضَالَّتَهَا وَتَهْنَأُ جَرْبَاهَا وَتَلُوطُ حَوْضَهَا وَتَفْرُطُ عَلَيْهَا يَوْمَ وِرْدِهَا ، فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَلَا نَاهِكٍ فِي الْحَلْبِ .

لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ عَقَارًا أَوْ أَرْضًا إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ غِبْطَةٍ أَوْ حَاجَةٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا كُنَّا نَأْمُرُ الْوَصِيَّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِ الْيَتِيمِ عَقَارًا : لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ لَهُ عَقَارًا إِلَّا لِغِبْطَةٍ أَوْ حَاجَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ عَقَارًا أَوْ أَرْضًا إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ : غِبْطَةٍ أَوْ حَاجَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِيمَا سِوَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ بَاعَ عَقَارًا وَلَمْ يَرُدَّ ثَمَنَهُ فِيِ مِثْلِهِ فَذَلِكَ مَالٌ قَمِنٌ أَنْ لَا يُبَارَكَ فِيهِ " أَيْ : حَقِيقٌ أَنْ لَا يُبَارَكَ فِيهِ . وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ مَأْمُورٌ أَنْ يَبْتَاعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ عَقَارًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ عَلَيْهِ عَقَارًا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِبَيْعِ عَقَارِهِ اليتيم إِلَّا فِي حَالَتَيِ الْغِبْطَةِ وَالْحَاجَةِ ، فَالْغِبْطَةُ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَهْمٌ مُشَاعٌ مِنْ عَقَارٍ يَرْغَبُ فِيهِ الشَّرِيكُ لِيَعْمَلَ لَهُ الْمِلْكَ فَيَبْذُلُ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ، أَوْ يَكُونُ لَهُ عَقَارٌ مَحُوزٌ يَرْغَبُ فِيهِ الْجَارُ أَوْ غَيْرُهُ لِعَرْضِ حِصَّتِهِ ، فَيَزِيدُ فِي ثَمَنِهِ زِيَادَةً ظَاهِرَةً لَا يَجِدُهَا الْوَلِيُّ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا فِيمَا بَعْدَ وَقْتِهِ . فَهَذِهِ غِبْطَةٌ يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يَظْفَرَ بِهَا وَيَأْخُذَهَا لِلْيَتِيمِ ، فَيَبِيعُ لِأَجْلِهَا الْعَقَارَ وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ ، فَيَبْتَاعُ لَهُ بِهِ عَقَارًا مُسْتَرْخِصًا مُغِلًّا فِي مَوْضِعِ حَيٍّ كَامِلِ الْعِمَارَةِ أَوْ مُتَوَجِّهٍ إِلَى كَمَالِ الْعِمَارَةِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَهُ فِي مَوْضِعٍ قَدْ خَرِبَ أَوْ هُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْخَرَابِ : لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ مَالِهِ . أَمَّا بَيْعُهُ فِي الْحَاجَةِ ، فَالْحَاجَةُ مِنْ وُجُوهٍ : مِنْهَا : أَنْ تَكُونَ غَلَّةُ عَقَارِهِ لَا تَكْفِيهِ وَيَحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عَقَارِهِ قَدْرَ مَا يَصْرِفُهُ فِي نَفَقَتِهِ وَكُسْوَتِهِ . وَمِنْهَا : أَنْ تَكُونَ لَهُ ضَيْعَةٌ قَدْ خَرِبَتْ أَوْ عَقَارٌ قَدِ انْهَدَمَ وَلَيْسَ لَهُ مَا يُعَمِّرُهُ بِهِ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عَقَارِهِ قَدْرَ مَا يَعْمُرُ بِهِ مَا خَرَبَ مِنْ ضِيَاعِهِ أَوِ انْهَدَمَ مِنْ عَقَارِهِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْعَقَارُ فِي مَوْضِعٍ قَدْ كَثُرَ خَرَابُهُ وَخِيفَ ذَهَابُهُ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَهُ لِيُبَاعَ بِثَمَنِهِ فِي مَوْضِعٍ عَامِرٍ . وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْعَقَارُ فِي بَلَدٍ يَبْعُدُ عَنِ الْيَتِيمِ وَالْوَلِيِّ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى مُرَاعَاتِهِ وَيَلْزَمُهُ مِنْ أُجْرَةِ الْقَيِّمِ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ غَلَّتِهِ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ لِيَبْتَاعَ بِثَمَنِهِ عَقَارًا فِي بَلَدِ الْيَتِيمِ وَالْوَلِيِّ ، لِيَقْرُبَ عَلَى الْوَلِيِّ مُرَاعَاتِهِ وَيَتَوَفَّرَ عَلَى الْيَتِيمِ غَلَّتُهُ . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَشْبَاهِ مَا ذَكَرْنَا . فَأَمَّا بَيْعُ عَقَارِهِ فِي التِّجَارَةِ بِهِ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ لِمَا قَدَّمْنَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ مِنْ بَيْعِ الْمَتَاعِ وَشِرَائِهِ لِلتِّجَارَةِ ، وَمِنْ بَيْعِ الْعَقَارِ فِي الْغِبْطَةِ وَالْحَاجَةِ وَشِرَائِهِ لِلْقِنْيَةِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَلِيِّ الْمُتَوَلِّي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُهُ بِأُبُوَّةٍ ، أصناف الولي في الولاية على اليتيم وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِوَصِيَّةٍ ، أصناف الولي في الولاية على اليتيم وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِتَوْلِيَةِ حَاكِمٍ عَنْ أَمَانَةٍ أصناف الولي في الولاية على اليتيم . فَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ بِالْأُبُوَّةِ : كَالْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ الَّذِينَ يَلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَعُقُودُهُمْ فِي أَمْوَالِ أَوْلَادِهِمْ مَاضِيَةٌ ، وَعَلَى الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ إِنْفَاذُهَا مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفِهِمْ بَيِّنَةً لِحُصُولِ الْحَظِّ فِيمَا عَقَدُوهُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ ، إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ مَا عَقَدَهُ الْأَبُ فِي مَالِ ابْنِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ لَمْ يَكُنْ حَظًّا فَيُبْطِلُهُ حِينَئِذٍ ، فَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ فَفِعْلُهُ مَاضٍ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ ، وَقَوْلُهُ فِيمَا أَنْفَقَ مَقْبُولٌ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ ، مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْحَدَّ : لِانْتِفَاءِ التُّهَمِ عَنِ الْآبَاءِ لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى أَوْلَادِهِمْ وَطَلَبِ الْحَظِّ الْأَوْفَى فِي تَثْمِيرِ أَمْوَالِهِمْ . فَأَمَّا الْأَوْصِيَاءُ تصرفاتهم فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَأُمَنَاءُ الْحُكَّامِ تصرفاتهم فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ فَمَا فَعَلُوهُ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ تُقْبَلُ فِيهِ أَقْوَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ بِأَنَّ فِيهِ حَظًّا لَهُمْ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ ، وَهُوَ التِّجَارَةُ لَهُمْ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فَلَا يُكَلَّفُوا فِيمَا بَاعُوهُ وَاشْتَرَوْهُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْعَرُوضِ إِثْبَاتُ الْبَيِّنَةِ لِحُصُولِ الْحَظِّ فِيهِ ، بَلْ عَلَى الْحُكَّامِ إِمْضَاؤُهُ بِقَوْلِهِمْ إِنَّهُ حَظٌّ ، مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ : لِأَنَّهَا عُقُودٌ يَعْسُرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِحُصُولِ الْحَظِّ فِي كُلِّ عَقْدٍ مِنْهَا اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ فِي قَبُولِ قَوْلِ الْعَامِلِ فِي صِحَّةِ مَا عَقَدَهُ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ يُكَلَّفُهَا . فَهَذَا أَحَدُ الْأَقْسَامِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقْوَالُهُمْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَهُوَ مَا بَاعُوهُ عَلَى الْأَيْتَامِ مِنْ أَرْضٍ أَوْ عَقَارٍ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْحُكَّامِ إِمْضَاءُ الْعَقْدِ فِيهِ إِلَّا بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ حَظٌّ لِوُجُودِ الْغِبْطَةِ أَوْ حُدُوثِ الْحَاجَةِ : لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَيْعِ ذَلِكَ عَلَى الْأَيْتَامِ الْحَظْرُ وَالْمَنْعُ إِلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ الْمُبِيحِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اخْتُلِفَ فِيهِ ، وَهُوَ مَا ابْتَاعُوهُ لِلْأَيْتَامِ مِنْ عَقَارٍ فَبَنُوهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُمْ مَقْبُولٌ فِيهِ ، وَعَلَى الْحُكَّامِ إِمْضَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفِ بَيِّنَةٍ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُمْ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَاتِ ، وَكَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْآبَاءِ فِي الْبِيَاعَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ بِأَنَّ مَا ابْتَاعُوهُ لِلْأَيْتَامِ حَظٌّ ، فَإِذَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عِنْدَ الْحُكَّامِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ إِمْضَاؤُهُ ، وَمَا لَمْ تَقُمْ بِهِ الْبَيِّنَةُ لَمْ يُمْضُوهُ ، كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي الْبَيْعِ ، وَإِنْ قُبِلَ فِيهِ قَوْلُ الْآبَاءِ ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تَلْحَقُهُمْ دُونَ الْآبَاءِ ، وَلِأَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ بِذَلِكَ لَا تَشُقُّ عَلَيْهِمْ ؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ تَصَرُّفِ الرَّقِيقِ

مَسْأَلَةٌ إِذَا ادَّانَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا كَانَ عَبْدًا وَمَتَى عُتِقَ اتَّبَعَ بِهِ

بَابُ تَصَرُّفِ الرَّقِيقِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا ادَّانَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا كَانَ عَبْدًا وَمَتَى عُتِقَ اتَّبَعَ بِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : حَجْرُ الرِّقِّ يَمْنَعُ مِنْ عُقُودِ الْبَيْعِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَإِنْ صَحَّ تَأَدِّيهِ . وَجُمْلَةُ أَحْوَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ فِي أَشْرِبَتِهِمْ أَنَّهَا تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَصِحُّ مِنْهُمُ الشِّرَاءُ مَعَ الْحَجْرِ بِإِذْنٍ وَبِغَيْرِ إِذْنٍ ، وَقِسْمٌ لَا يَصِحُّ مِنْهُمُ الشِّرَاءُ مَعَ الْحَجْرِ لَا بِإِذْنٍ وَلَا بِغَيْرِ إِذْنٍ ، وَقِسْمٌ لَا يَصِحُّ مِنْهُمُ الشِّرَاءُ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ بِإِذْنٍ ، وَقِسْمٌ يَصِحُّ مِنْهُمُ الشِّرَاءُ بِإِذْنٍ ، وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الشِّرَاءُ مَعَ الْحَجْرِ بِإِذْنٍ وَغَيْرِ إِذْنٍ ، فَهُوَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ يَصِحُّ شِرَاؤُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ غُرَمَائِهِ : لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ مُسْتَحَقٌّ فِي مَالِهِ لِأَجْلِ غُرَمَائِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ مِنْهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ غُرَمَائِهِ بِهِ ، وَلَا يُفْسَخُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ : لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ لِلْغُرَمَاءِ حَقٌّ ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ فَكِّ حَجْرِهِ دَفَعَ مِنْهُ . وَكَذَا الْمُكَاتِبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ ، فَإِنَّ عُقُودَهُ مَاضِيَةٌ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُحَابَاةٌ ، وَلَهُ دَفْعُ الثَّمَنِ مِمَّا فِي يَدِهِ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ ، وَيَكُونُ مِنْ عَقْدِ الْمُفْلِسِ وَالْمُكَاتِبِ مَعَ صِحَّتِهِمَا : قَدْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَقْدَ الْمُفْلِسِ مَاضٍ مَعَ الْمُحَابَاةِ ، وَعَقْدَ الْمُكَاتِبِ مَرْدُودٌ فِي الْمُحَابَاةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُفْلِسَ يُمْنَعُ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ مِمَّا فِي يَدِهِ ، وَالْمُكَاتِبَ لَا يُمْنَعُ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ فِي يَدِهِ . فَهَذَا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الشِّرَاءُ بِإِذْنٍ وَلَا بِغَيْرِ إِذْنٍ فَهُوَ الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ ، أَمَّا الْمَجْنُونُ فَشِرَاؤُهُ بَاطِلٌ وَلَا يَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ إِجْمَاعًا ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَشِرَاؤُهُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا وَلَا يَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : عُقُودُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ عَاقِلٌ مُمَيِّزٌ ، فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ عَقْدُهُ مَعَ بَقَاءِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ وَهَذَا غَلَطٌ .

وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ ؛ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ " . وَرَفْعُ الْقَلَمِ عَنْهُ يَمْنَعُ مِنْ إِجَازَةِ عَقْدِهِ ؛ لِمَا فِي إِجَازَتِهِ مِنْ إِجْرَاءِ الْقَلَمِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ عَقْدُهُ كَالْمَجْنُونِ ، وَلِأَنَّ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّبِيِّ حَقَّيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَوَلِّي عُقُودِهِ . وَالثَّانِي : حِفْظُ مَالِهِ . فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ حِفْظَ مَالِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَدَّ إِلَيْهِ تَوَلِّي عُقُودِهِ . فَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْعَبْدِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا كَانَ مُكَلَّفًا صَحَّ عَقْدُهُ ، وَالصَّبِيُّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا لَمْ يَصِحَّ عَقْدُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْعَبْدِ حَقٌّ لِسَيِّدِهِ فَجَازَ لِلسَّيِّدِ إِسْقَاطُ حَقِّهِ بِالْإِذْنِ لَهُ ، وَالْحَجْرُ عَلَى الصَّبِيِّ حَقٌّ لِلْوَلِيِّ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهُ بِالْإِذْنِ لَهُ . فَثَبَتَ أَنَّ عُقُودَ الصَّبِيِّ بَاطِلَةٌ بِإِذْنِ وَلَيِّهِ وَغَيْرِ إِذْنِهِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الشِّرَاءُ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّتِهِ بِإِذْنٍ وَهُوَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ حكمه إِنْ عَقَدَ بَيْعًا أَوْ شِرَاءً بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهِ ؛ كَانَ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ مَمْنُوعُ التَّصَرُّفِ مَنْعًا عَامًّا ، وَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ مِنْهُ رَفْعُ الْحَجْرِ عَنْهُ ، فَإِنِ اشْتَرَى بِإِذْنِ وَلَيِّهِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ كَالصَّبِيِّ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ كَالْعَبْدِ ، وَلَكِنْ لَوْ عَيَّنَ لَهُ الْوَلِيُّ مَا يَشْتَرِيهِ وَقَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ ، فَعَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى ذَلِكَ بِالثَّمَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ؛ صَحَّ عَقْدُهُ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ التَّفْوِيضِ : لِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ مُكَلَّفٍ قَدْ صُرِفَ عَنِ الِاجْتِهَادِ بِالتَّقْدِيرِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلسَّفَهِ فِيهِ تَأْثِيرٌ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الشِّرَاءُ بِإِذْنٍ ، وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، فَهُوَ الْعَبْدُ يَصِحُّ شِرَاؤُهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ : لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي حَقِّهِ ، فَإِنِ اشْتَرَى بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ شِرَاءَهُ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ عَقْدِ الْبَيْعِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ، كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ نِكَاحًا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ بَاطِلًا ، وَجَبَ إِذَا عَقَدَ بَيْعًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشِّرَاءَ جَائِزٌ : لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ ،

وَأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا بِيَدِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُفْلِسِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ ، ثُمَّ كَانَ عَقْدُ الْمُفْلِسِ جَائِزًا ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ ، وَخَالَفَ النِّكَاحُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النِّكَاحَ مُوكِسٌ لِثَمَنِهِ فَمُنِعَ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ : لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشِّرَاءُ . ( وَكَذَا ) الْحُكْمُ فِي ضَمَانِهِ وَاقْتِرَاضِهِ إِذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ وَيُؤْمَرُ بِرَدِّ الْقَرْضِ . وَالثَّانِي : جَائِزٌ فَيَصِحُّ الضَّمَانُ وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْقَرْضِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ عُقُودِهِ كَانَ ضَمَانُهُ لَازِمًا فِي ذِمَّتِهِ يُوَجَّهُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ ، وَقَدِ اسْتَفَادَ مَا ابْتَاعَهُ وَاقْتَرَضَهُ ، وَكَانَ ضَامِنًا لِثَمَنِ مَا ابْتَاعَ ، وَمِثْلُ مَا اقْتَرَضَ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ ، وَلِلسَّيِّدِ أَخْذُ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ : لِأَنَّ مَا اسْتَفَادَهُ الْعَبْدُ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ . فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ بِرِقِّ الْعَبْدِ فَأَرَادَ الْفَسْخَ حِينَ عَلِمَ بِرِقِّهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ تَأْخِيرِ الثَّمَنِ إِلَى حِينِ عِتْقِهِ ؛ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الْفَسْخُ : لِأَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُفْلِسِ . وَالثَّانِي : لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ : لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ بِرِقِّهِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ . فَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ عُقُودِهِ كَانَ ضَمَانُهُ بَاطِلًا وَابْتِيَاعُهُ فَاسِدًا وَاقْتِرَاضُهُ مَرْدُودًا ، وَعَلَى الْعَبْدِ رَدُّ مَا ابْتَاعَهُ وَاقْتَرَضَهُ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ يَدِهِ ، وَإِنْ تَلِفَ مِنْ يَدِ الْعَبْدِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ لَا بِالثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ لَا فِي رَقَبَتِهِ ، يُؤَدِّيهِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ عِتْقِهِ : لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَاسْتَدَانَ الْعَبْدُ دَيْنًا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ . فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَتِ الدُّيُونُ الْحَادِثَةُ عَنْ مُعَامَلَاتِهِ ثَابِتَةً فِي ذِمَّتِهِ لَا فِي رَقَبَتِهِ وَلَا فِيمَا بِيَدِهِ ، وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا بِيَدِهِ مِنْ مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْضِيَ دُيُونَهُ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا فِي يَدِهِ ، فَإِنْ فَعَلَ وَقَدَرَ السَّيِّدُ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ مِمَّنْ صَارَ إِلَيْهِ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ مِنْ غُرْمِ مَا اسْتَهْلَكَ مِنْ مَالِهِ : لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ وَلَا فِي رَقَبَتِهِ مَالٌ . وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ قَضَى دُيُونَ مُعَامَلَاتِهِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ : لِأَنَّ إِذْنَهُ لِلتِّجَارَةِ إِذْنٌ بِهِ وَبِمَوْجِبِهِ ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مَا بِيَدِهِ قَبْلَ قَضَاءِ دُيُونِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَضْمَنَ السَّيِّدُ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ ، فَيَجُوزُ لَهُ بَعْدَ الضَّمَانِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ . فَلَوْ كَانَتْ دُيُونُهُ أَلْفًا وَبِيَدِهِ أَلْفَانِ فَأَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَلْفَ الْفَاضِلَةَ مِنْ دَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَمْرَيْنِ .

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَالْمَرْهُونِ بِدَيْنِهِ ، وَلَيْسَ مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا فَضُلَ عَنِ الدَّيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَيُلْزَمُ قَضَاؤُهُ مِنَ الْأَلْفِ الْأُخْرَى . فَأَمَّا إِنْ عَجَزَ مَا بِيَدِ الْعَبْدِ عَنْ دُيُونِهِ ، إِمَّا لِوَضِيعَةٍ أَوْ جَائِحَةٍ كَانَ مَا فِي ذِمَّتِهِ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَلَا بِذِمَّةِ سَيِّدِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَكُونُ دُيُونُهُ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا العبد المأذون فيه : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ دَيْنٌ تَعَلَّقَ بِعَبْدِهِ عَنْ إِذْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ كَالرَّهْنِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ رَقَبَةَ عَبْدِهِ وَكَسْبِهِ ، فَلَمَّا كَانَ إِذْنُهُ بِالتِّجَارَةِ ، فَوَجَبَ تَعَلُّقُ دَيْنِهِ بِكَسْبِ التِّجَارَةِ ؛ جَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ إِذَا عَدِمَ كَسْبَ التِّجَارَةِ : لِأَنَّ الْإِذْنَ لَمَّا أَوْجَبَ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِأَحَدِ الْمِلْكَيْنِ أَوْجَبَ تَعَلُّقَهُ بِالْمِلْكِ الْآخَرِ . وَهَذَا غَلَطٌ . وَدَلِيلُنَا : أَنَّ كُلَّ حَقٍّ لَزِمَ بِرِضَى مُسْتَحِقِّهِ أَوْجَبَ تَعَلُّقَهُ بِالذِّمَّةِ دُونَ الرَّقَبَةِ ، كَمَا لَوْ أَدَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ ، وَلِأَنَّ مَا يَلْزَمُ الْعَبْدُ مِنَ الدُّيُونِ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ لَزِمَ بِرِضَى مُسْتَحِقِّهِ كَأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ ، وَضَرْبٌ لَزِمَ بِغَيْرِ رِضَى مُسْتَحِقِّهِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ . فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ مَا لَزِمَ بِغَيْرِ رِضَى مُسْتَحِقِّهِ كَانَ مَحَلُّهُ مِنَ الْمَأْذُونِ وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ وَاحِدًا وَهُوَ الرَّقَبَةُ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا لَزِمَهُ بِرِضَى مُسْتَحِقِّهِ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ مِنَ الْمَأْذُونِ وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ وَاحِدًا وَهُوَ الذِّمَّةُ ، وَلِأَنَّ إِذْنَ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ بِالتِّجَارَةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ مِنْ مَالٍ ، أَوْ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ جَاهٍ ، وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ فَالرَّقَبَةُ خَارِجَةٌ عَنْ إِذْنِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِدَيْنِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّهْنِ فَلَا يَصِحُّ : لِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ عَلَى الرَّقَبَةِ ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْكَسْبِ فَالْكَسْبُ لَمْ يَمْلِكْهُ السَّيِّدُ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ دُيُونِهِ ، وَقَبْلَ قَضَائِهَا لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ ، فَجَازَ أَنْ تَتَعَلَّقَ دُيُونُهُ بِكَسْبِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّقَبَةُ : لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ فِي الْحَالَيْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهَا دُيُونُهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَكَذَلِكَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ جِنَايَةٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا يُوجِبُ الْمَالُ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ أَوْ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ ، فَإِقْرَارُهُ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقَ السَّيِّدُ أَوْ تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ فَيُلْزَمُ فِي رَقَبَتِهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ إِقْرَارُهُ بِرَقَبَتِهِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّقَبَةَ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنَفِّذَ إِقْرَارَهُ مِنْ غَيْرِ مِلْكِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِقْرَارَ السَّيِّدِ بِهَا لَازِمٌ فِي رَقَبَتِهِ ؛ لِأَنَّهَا فِي مِلْكِهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَبْدَ مُتَوَهِمٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ إِضْرَارًا بِسَيِّدِهِ لِيَخْرُجَ مِنْ مِلْكِهِ ، فَصَارَ كَإِقْرَارِ الْجَانِي بِالْخَطَأِ لَا يُقْبَلُ عَلَى عَاقِلَتِهِ . فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَيْنِ عَلَى أَنَّ الْأَرْشَ لَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ ، كَالْمُقِرِّ بِقَتْلِ الْخَطَأِ لَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الْعَاقِلَةَ لَزِمَتْهُ فِي ذِمَّتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةٌ لِلْقَوَدِ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ ، فَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بِهَا مَقْبُولٌ عَلَى السَّيِّدِ وَيَسْتَوْفِي مِنْهُ الْقَوَدَ . وَقَالَ الْمُزَنِيُّ ، وَزُفَرُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَدَاوُدُ : إِنَّ إِقْرَارَهُ بِهَا مَرْدُودٌ كَالْمَالِ : لِأَنَّهُ مُقِرٌ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ لَوْ أَقَرَّ بِهِ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ لَمْ يُقْبَلْ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ قُبِلَ ، كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ . أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يُوجِبُ الْمَالَ لَمَّا كَانَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ قُبِلَ ، كَانَ إِقْرَارُ الْعَبْدِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَلِأَنَّهُ إِقْرَارٌ يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ فِيهِ ، وَلَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَ نَفْسِهِ إِضْرَارًا لِغَيْرِهِ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ الْمَالُ حَيْثُ لَمْ يَمْضِ إِقْرَارُهُ فِيهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ مِنْ حِرْزِهَا يُقْطَعُ فِي مِثْلِهَا قَطَعْنَاهُ ، وَإِذَا صَارَ حُرًّا أَغْرَمْنَاهُ : لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا لِلَّهِ فِي يَدَيْهِ فَأَخَذْنَاهُ ، وَالْآخَرُ لِلْنَاسِ فِي مَالِهِ ، وَلَا مَالَ لَهُ فَأَخَّرْنَاهُ بِهِ كَالْمُعْسِرِ نُؤَخِّرُهُ بِمَا عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَفَادَ أَغْرَمْنَاهُ وَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ " . قَالَ الْمُزَنِيُّ : هَذَا غَلَطٌ : لِأَنَّ هَذَا إِنْ كَانَ صَادِقًا فَإِنْ يَغْرَمْ عَلَى مَوْلَاهُ فَيَقْطَعْ وَيَغْرَمْ مَوْلَاهُ ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَذَلِكَ أَبْعَدُ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ مَالٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَطْعُ فِيهَا أَوْ لَا يَلْزَمُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَطْعُ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ عَلَى سَيِّدِهِ وَكَانَ كَالْمَالِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ عَنْ إِتْلَافٍ أَوْ جِنَايَةٍ ، وَيَكُونُ فِي ذِمَّةٍ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ . فَإِنْ لَزِمَهُ الْقَطْعُ قُطِعَ فِي الْحَالِ ، لَا يُخْتَلَفُ : لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقٌّ فِي يَدِهِ يُنَفِّذُ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُ السَّيِّدِ لَهُ . فَأَمَّا الْغُرْمَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا أَقَرَّ بِسَرِقَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتُهْلِكَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَيْنًا فِي يَدِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ عَيْنًا فِي يَدِ سَيِّدِهِ . فَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَفِيهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِقْرَارَهُ يُنَفَّذُ فِيهِ عَلَى سَيِّدِهِ ، وَيَتَعَلَّقُ الْغُرْمُ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ بَعْدَ قَطْعِهِ فَيُؤَدِّي فِي سَرِقَتِهِ إِلَّا أَنْ يَخْتَارَ السَّيِّدُ أَنْ يَفْدِيَهُ . وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ التُّهْمَةَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ تَنْتَفِي عَنْهُ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ ، وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ إِذَا انْتَفَتْ عَنْهُ التُّهْمَةُ لَزِمَ وَإِنْ أَوْجَبَ مَالًا ، كَجِنَايَةِ الْعَبْدِ يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ فِيهَا لِاسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ بِهَا ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَالِ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ عَنِ الْقَوَدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ إِقْرَارَهُ بِالْغُرْمِ لَا يُقْبَلُ عَلَى سَيِّدِهِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ : لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ يَضْمَنُ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَطْعًا وَغُرْمًا ، وَقَدْ يَصِحُّ انْفِرَادُ الْغُرْمِ عَنِ الْقَطْعِ ، فَلَمَّا لَمْ يُتَّهَمْ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْقَطْعُ قَطَعْنَاهُ ، وَلَمَّا اتُّهِمَ فِي الْآخَرِ وَهُوَ الْغُرْمُ رَدَدْنَاهُ . وَلَيْسَ كَجِنَايَةِ الْعَبْدِ الَّتِي لَا يَنْفَكُّ أَحَدُ مُوجِبِهَا عَنْهَا . فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِسَرِقَتِهِ عَيْنًا فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِإِقْرَارِهِ . وَأَمَّا نُفُوذُ إِقْرَارِهِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ : فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا أَقَرَّ بِاسْتِهْلَاكِهِ لَا يُنَفِّذُ إِقْرَارَهُ فِيهِ ؛ فَالْعَيْنُ الَّتِي بِيَدِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يُنَفِّذَ إِقْرَارَهُ فِيهَا عَلَى سَيِّدِهِ . فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ إِقْرَارَهُ فِي غُرْمِ الْمُسْتَهْلِكِ نَافِذٌ عَلَى سَيِّدِهِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ هَلْ يُنَفَّذُ إِقْرَارُهُ فِيهَا عَلَى سَيِّدِهِ العين المسروقة التي بيد العبد عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ إِقْرَارَهُ فِيهَا نَافِذٌ ، وَقَوْلُهُ فِي سَرِقَتِهَا مَقْبُولٌ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : لِأَنَّهُ لَمَّا قَبِلَ إِقْرَارَهُ فِي الْعُمُومِ الْمُتَعَلِّقِ بِرَقَبَتِهِ وَإِنْ كَانَتِ الرَّقَبَةُ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ ، قَبِلَ إِقْرَارَهُ فِي الْعَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ يَدًا لِسَيِّدِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ إِقْرَارَهُ بِهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ : لِأَنَّ يَدَهُ يَدٌ لِسَيِّدِهِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ بِهَا كَإِقْرَارِهِ بِمَا فِي يَدِ سَيِّدِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ نُفُوذِ إِقْرَارِهِ فِي الْغُرْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِرَقَبَتِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُنَفِّذَ فِي الْعَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ أَنَّ الْعَيْنَ رُبَّمَا زَادَتْ قِيمَتُهَا عَلَى قِيمَةِ الرَّقَبَةِ أَضْعَافًا فَيُفْضِي إِقْرَارُهُ إِلَى أَنْ يَسْتَوْعِبَ بِهِ مِلْكَ سَيِّدِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغُرْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالرَّقَبَةِ : لِأَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُهَا وَهُوَ مَحْدُودٌ بِهَا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْعَيْنَ تُرَدُّ عَلَى السَّيِّدِ إِذَا ادَّعَاهَا وَيَتَعَلَّقُ غُرْمُ قِيمَتِهَا فِي رَقَبَتِهِ اسْتِدْرَارًا لِمَا يُخَافُ مِنْ وُفُورِ قِيمَةِ الْعَيْنِ وَاسْتِيعَابِ مَالِ السَّيِّدِ ، فَيَتَعَلَّقُ غُرْمُهَا بِرَقَبَتِهِ حَتَّى لَا يَتَجَاوَزَهَا . وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِسَرِقَتِهِ عَيْنًا فِي يَدِ سَيِّدِهِ ؛ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فِيمَا بِيَدِ سَيِّدِهِ ، بَلْ يَجِبُ غُرْمُ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُسْتَرَدُّ الْعَيْنُ مِنْ يَدِ سَيِّدِهِ لِوُجُوبِ قَطْعِهِ وَأَنَّ الْقَطْعَ إِنَّمَا يَجِبُ لِثُبُوتِ سَرِقَتِهِ .

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : أُسْقِطَ الْقَطْعُ عَنْهُ : لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ مِنْ يَدِ سَيِّدِهِ . وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ مَدْخُولٌ ، وَتَعْلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِرَدِّ الْعَيْنِ بِوُجُوبِ قَطْعِهِ لَا يَصِحُّ : لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي وُجُوبِ قَطْعِهِ . وَتَعْلِيلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ لِإِسْقَاطِ قَطْعِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ مِنْ يَدِ سَيِّدِهِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا : لِأَنَّ بَدَلَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَ الْبَدَلُ مُوجِبًا لِقَطْعِهِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ ، إِذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ ، فَسَوَاءً كَانَ إِقْرَارُهُ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ فِي يَدِهِ ، أَوْ بِمُسْتَهْلَكٍ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَصْدِيقُ وَلَيِّهِ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْعَبْدِ تَصْدِيقُ سَيِّدِهِ : لِأَنَّ السَّيِّدَ مَالِكٌ فَجَازَ أَنْ يُلْزَمَ تَصْدِيقُهُ ، وَالْوَلِيُّ غَيْرُ مَالِكٍ فَلَمْ يُلْزَمْ تَصْدِيقُهُ . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ إِقْرَارَ الْعَبْدِ مَقْبُولٌ عَلَى سَيِّدِهِ كَانَ إِقْرَارُ السَّفِيهِ مَقْبُولًا فِي مَالِهِ فَيُقْطَعُ وَيُغَرَّمُ ، وَإِنْ قِيلَ : إِنْ إِقْرَارَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى سَيِّدِهِ ، وَأَنَّهُ لَازِمٌ فِي ذِمَّتِهِ ، فَفِي إِقْرَارِ السَّفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ إِقْرَارَهُ مَقْبُولٌ بِخِلَافِ الْعَبْدِ : لِأَنَّ الْعَبْدَ مُقِرٌّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ ، فَلَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ مِنْهُ ، وَالسَّفِيهُ مُقْرِضُ مِلْكٍ ، فَيُنَفَّذُ إِقْرَارُهُ فِيهِ . فَعَلَى هَذَا يُقْطَعُ وَيُغَرَّمُ السَّرِقَةَ فِي مَالِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ إِقْرَارَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا فَالْحَجْرُ قَدْ مُنِعَ مِنْ نُفُوذِ إِقْرَارِهِ فِيهِ ، فَصَارَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْعَبْدِ : لِأَنَّ لِلْعَبْدِ ذِمَّةً يَثْبُتُ الْغُرْمُ فِيهَا إِذَا أُعْتِقَ ، وَلَيْسَ لِلسَّفِيهِ ذِمَّةٌ يَثْبُتُ فِيهَا الْغُرْمُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سَقَطَ الْغُرْمُ عَنْهُ فِي حَالِ الْحَجْرِ وَبَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ . وَفِي وُجُوبِ قَطْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا قَطْعَ لِسُقُوطِ الْغُرْمِ . وَالثَّانِي : يُقْطَعُ ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الْغُرْمَ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْوُجُوبِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ بَيْعِ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ
بيع الكلب باطل وثمنه حرام ولا قيمة على متلفه بمال

بَابُ بَيْعِ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ حكمه ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيًا نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ " . قَالَ : وَلَا يَحِلُّ لِلْكَلْبِ ثَمَنٌ بِحَالٍ وَلَوْ جَازَ ثَمَنُهُ جَازَ حُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . بَيْعُ الْكَلْبِ حكمه بَاطِلٌ وَثَمَنُهُ حَرَامٌ ، وَلَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ بِحَالٍ ، سَوَاءً كَانَ مُنْتَفِعًا بِهِ ، أَوْ غَيْرَ مُنْتَفِعٍ بِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : بَيْعُ الْكَلْبِ جَائِزٌ وَثَمَنُهُ حَلَالٌ ، وَالْقِيمَةُ عَلَى مُتْلِفِهِ وَاجِبَةٌ ، سَوَاءً كَانَ مُنْتَفِعًا بِهِ أَوْ غَيْرَ مُنْتَفِعٍ بِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ وَثَمَنُهُ لَا يَحِلُّ ، لَكِنْ عَلَى قَاتِلِهِ الْقِيمَةُ الكلب . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِرَاوِيَةِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالْهِرِّ إِلَّا الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ " . فَجَوَّزَ ثَمَنَ الْكَلْبِ إِذَا كَانَ مُعَلَّمًا ، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا وَاحِدٌ . وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جِسْتَاس ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، وَفِي كَلْبِ الْغَنَمِ بِشَاةٍ مِنَ الْغَنَمِ ، وَفِي كَلْبِ الزَّرْعِ بِفَرْقٍ مِنْ زَرْعٍ ، وَفِي كَلْبِ الدَّارِ بِفَرْقٍ مِنْ تُرَابٍ ، حَقٌّ عَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ ، وَحَقٌّ عَلَى صَاحِبِ الْكَلْبِ أَنْ يَأْخُذَ . فَأَثْبَتَ لَهُ قِيمَةً . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْمَاشِيَةِ .

وَدَلِيلُنَا : مَا أَسْنَدَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ . وَرَوَى مَعْرُوفُ بْنُ سُوَيْدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ ، وَلَا حُلْوَانُ الْكَاهِنِ ، وَلَا مَهْرُ الْبَغِيِّ " . وَرَوَى عَبْدُ الْكَرِيمِ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ حَبْتَرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَإِنْ جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ فَامْلَأْ كَفَّهُ تُرَابًا . وَرَوَى خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا عَنْدَ الرُّكْنِ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَضَحِكَ فَقَالَ : " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ ثَلَاثًا : إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ " . فَدَلَّتْ نُصُوصُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجِبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ ثَمَنُهُ وَقِيمَتُهُ كَالْخِنْزِيرِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَمِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : ضَعْفُ إِسْنَادِهِ : لِأَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ مُطَّرَحُ الْحَدِيثِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : " إِلَّا الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ " رَاجِعٌ إِلَى مُضْمَرٍ مَحْذُوفٍ ، وَتَقْدِيرُهُ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَاقْتِنَائِهِ إِلَّا الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ فَيَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : إِلَا الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ . يَعْنِي : وَالْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ ، فَتَكُونُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْوَاوِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [ الْبَقَرَةِ ] يَعْنِي : وَالَّذِينَ ظَلَمُوا . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَأَضْعَفُ إِسْنَادًا : لِأَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عُمَارَةَ مَرْدُودُ الْقَوْلِ ، ثُمَّ الْمَتْنُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ، وَيَكُونُ الْحَدِيثُ خَارِجًا مَخْرَجَ الزَّجْرِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْكِلَابِ الْمُعَلَّمَةِ عَلَى أَرْبَابِهَا حَتَّى لَا يُسْرِعَ النَّاسُ إِلَى قَتْلِهَا ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ عَلَى الزَّجْرِ عَنْ قَتْلِ الْعَبِيدِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْفَهْدِ بِعِلَّةِ جَوَازِ الِاصْطِيَادِ : فَهُوَ أَنَّهُ يَرْفَعُ النَّصَّ فَكَانَ مُطْرَحًا ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْفَهْدِ طَهَارَتُهُ حَيًّا .

وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَوَاشِي بِعِلَّةِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهِ ؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ لا يجوز اقتناء الكلب إِلَا لِصَاحِبِ صَيْدٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ إِلَا لِصَاحِبِ صَيْدٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . لَا يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ حكمه إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فَيَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ جَازَ اقْتِنَاؤُهُ إِذَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ جَازَ اقْتِنَاءُ جَمِيعِ جِنْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ طَرْدًا وَالْخَنَازِيرِ عَكْسًا . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيًا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ " . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ ذَكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ الزَّرْعَ فِي حَدِيثِهِ : إِنَّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا . فَجَعَلَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ هَذَا الْقَوْلَ مِنِ ابْنِ عُمَرَ قَدْ حَافَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَعْنًا عَلَيْهِ . وَذَكَرَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ - تَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ - يَرْوِي عَامَّةَ نَهَارِهِ وَلَقَدْ كَانَ السَّامِعُ يَسْمَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامًا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَعُدَّهُ لَعَدَّهُ وَأَحْصَاهُ . وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ كَانَ يُؤْخَذُ بِرِوَايَاتِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيُتْرَكُ ، فَأَوْهَى بِهَذِهِ الْحِكَايَاتِ أَحَادِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَمُنِعَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ بِهَا ، وَرَامَ لِنُصْرَةِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَكُونَ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ مَخْصُوصًا . وَهَذَا فِعْلُ مَنْ عَانَدَ صَحَابَةَ نَبِيِّهِ حَتَّى سَبَّهُمْ ظَنًّا وَجَعَلَ لَدَيْهِمْ غَدْرًا ، وَلَوْ سَلِمَ مِنْ زَلَلِ الْهَوَى ، وَمَيْلِ الْعِبَادِ ، وَسَمِعِ فِيهِمْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ آلِ عِمْرَانَ ] لَوَضَحَ لَهُ مَا لَا يَجِدُ عُذْرًا مَعَهُ ، وَلَعَلِمَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ سَمَاعًا وَحِفْظًا ، وَالْمَقْبُولِينَ رِوَايَةً وَنَقْلًا ، لِقِلَّةِ شُغْلِهِ وَكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ : لَمْ يَكُنْ يَشْغَلْنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرْقٌ بِالْأَسْوَاقِ وَلَا غَرْسُ وَدِيٍّ ، وَكُنْتُ امْرَأً فَقِيرًا أَلْزَمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْفَظُ عَنْهُ مَا لَا يَحْفَظُونَهُ . وَلِكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهِ ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا " . وَرُوِيَ أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ بَسَطَ ثَوْبَاهُ فَأُحَدِّثُهُ بِأَحَادِيثَ لَا يَنْسَاهَا " فَبَسَطْتُ ثَوْبِي فَحَدَّثَنِي بِأَحَادِيثَ فَهِمْتُ أَطْرَافَهَا فَمَا نَسِيتُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلَّمَا سَمِعْتُ مِنْهُ . وِقِدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَثْنَى عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ : حَفِظَ اللَّهُ عَلَيْكَ كَمَا حَفِظْتَ عَلَيْنَا سُنَنَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ : إِنَّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ قَدْحًا ، وَإِنَّمَا لَهُ أَحَدُ جَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَهُ زَرْعًا فَحَفِظَ ذِكْرَ الزَّرْعِ ، وَلَيْسَ لِابْنِ عُمَرَ زَرْعٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ لَهُ زَرْعًا ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِذْنِ فِي كَلْبِ الزَّرْعِ . وَأَمَّا إِنْكَارُ عَائِشَةَ عَلَيْهِ الْكَثْرَةَ فَمَعْنَاهُ : أَنَّهَا أَنْكَرَتْ كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ لَا أَنَّهَا نَسَبَتْهُ إِلَى التَّخَوُّضِ وَالْكَذِبِ . كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : أَقِلَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ يَتَقَدَّمُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ لَهُمْ : أَقِلُّوا وَأَنَا شَرِيكُكُمْ . وَأَمَّا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ لَقَدْ كَانَ يُؤْخَذُ بِرِوَايَاتِ أَبِي هُرَيْرَةَ . فَنَقُولُ : لَيْسَ لَهُ مَحْصُولٌ : لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إِنْ كَانَ مَوْثُوقًا بِهِ وَجَبَ قَبُولُ جَمِيعِ رِوَايَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْثُوقٍ بِهِ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِهِ ، فَأَمَّا قَبُولُ بَعْضِهَا وَتَرْكُ بَعْضِهَا فَلَا وَجْهَ لَهُ . ثُمَّ لَيْسَ هَذَا بِمَانِعٍ مِنْ ظُهُورِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي مَسْأَلَتِنَا : لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَوْ عَدَلْنَا عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ لَكَانَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ كَافِيًا فِي تَحْرِيمِ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ . فَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ " فِيهِمَا عِبَارَةٌ عَنْ جُزْأَيْنِ مِنْ عَمَلِهِ . وَاخْتَلَفُوا : هَلِ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ عَمَلِهِ الْمَاضِي أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مِنْ مَاضِي عَمَلِهِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : مِنْ مُسْتَقْبَلِ عَمَلِهِ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيِّ عَمَلٍ يَذْهَبُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ جُزْءًا مِنْ عَمَلِ اللَّيْلِ ، وَجُزْءًا مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ . وَالثَّانِي : أَنَّ جُزْءًا مِنْ عَمَلِ الْفَرْضِ ، وَجُزْءًا مِنْ عَمَلِ النَّفْلِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْكِلَابُ ضَرْبَانِ : مُنْتَفَعٌ بِهِ ، وَغَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ ، فَمَا كَانَ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ حَرُمَ اقْتِنَاؤُهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ " .

ثُمَّ إِنْ كَانَ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ عَقُورًا مُؤْذِيًا قُتِلَ ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " الْكِلَابُ أُمَّةٌ فَاقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بِهِيمٍ " . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ أَمْرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ . قَالَ : فَكَانَ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ يَطُوفُ عَلَيْهَا وَبِيَدِهِ الْحَرْبَةُ فَيَقْتُلُهَا . فَأَمَّا مَا كَانَ غَيْرُ عَقُورٍ وَلَا مُؤْذٍ فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِي كُلِّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ " . وَأَمَّا الْمُنْتَفَعُ بِهِ فَقَدْ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءٍ : فِي الصَّيْدِ وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ . فَأَمَّا كَلْبُ الصَّيْدِ : فَهُوَ مَا كَانَ مُعَلَّمًا يُصَادُ بِهِ ، فَاقْتِنَاؤُهُ لِمَنْ يَصِيدُ بِهِ مُبَاحٌ : لِأَنَّ مِنَ الصَّيْدِ مَا لَا يَصِيدُهُ جَارِحٌ غَيْرَ الْكَلْبِ ، كَالثَّعَالِبِ وَالْأَرَانِبِ فَكَانَتِ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إِلَى اقْتِنَائِهِ . فَأَمَّا كَلْبُ الْحَرْثِ : فَهُوَ كَلْبُ أَصْحَابِ الزُّرُوعِ : لِأَنَّهُ يَحْفَظُ زُرُوعَهُمْ مِنَ الْوَحْشِ لَا سِيَّمَا فِي اللَّيْلِ ، مَعَ قِلَّةِ نَوْمِ الْكَلْبِ وَسُرْعَةِ تَيَقُّظِهِ . وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ ، فَدَعَتْ حَاجَةُ أَصْحَابِ الزُّرُوعِ إِلَى اقْتِنَائِهِ ، وَفِي مَعْنَى أَصْحَابِ الزُّرُوعِ أَصْحَابِ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَالْكَرْمِ . وَأَمَّا كَلْبُ الْمَاشِيَةِ : فَهُوَ الْكَلْبُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى الْمَاشِيَةِ إِذَا رَعَتْ فَيَحْفَظُهَا مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ ، فَدَعَتْ حَاجَةُ الرُّعَاةِ إِلَيْهِ فَجَازَ لَهُمُ اقْتِنَاؤُهُ ، وَفِي مَعْنَى أَصْحَابِ الْمَوَاشِي أَصْحَابُ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ . فَأَمَّا الْبَوَادِي وَسُكَّانُ الْخِيَامِ فِي الْفَلَوَاتِ فَيَجُوزُ لَهُمُ اقْتِنَاءُ الْكِلَابِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ لِتَحْرُسَهُمْ مِنَ الطُّرَّاقِ وَالْوَحْشِ ، فَإِنَّ لِلْكِلَابِ عُوَاءً عِنْدَ رُؤْيَةِ مَنْ لَمْ يَأْلَفُوهُ يَنْتَبِهُ بِهِ أَرْبَابُهَا عَلَى الِاسْتِيقَاظِ وَحِرَاسَةِ الْبُيُوتِ . وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيًا أَوْ أَهْلَ بَيْتٍ مُفْرَدٍ ، يَعْنِي الْبُيُوتَ الْمُفَرَّقَةَ فِي الصَّحَارِي . وَفِي مَعْنَى أَصْحَابِ الْخِيَامِ مِنَ الْبَوَادِي أَهْلُ الْحُصُونِ وَالْبُيُوتِ الْمُفْرَدَةِ فِي أَطْرَافِ الرَّسَاتِيقِ ، وَهَكَذَا أَهْلُ الْقَوَافِلِ وَالرِّفَاقُ . وَرُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَجَّ وَمَعَهُ كَلْبٌ ، فَقِيلَ لَهُ : تَحُجُّ وَمَعَكَ كَلْبٌ . فَقَالَ : يَحْفَظُ عَلَيْنَا ثِيَابَنَا . فَأَمَّا اتِّخَاذُ الْكِلَابِ لِحِرَاسَةِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ فِي الْمُدُنِ وَالْقُرَى حكمه فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ ، جَوَازُ اتِّخَاذِهِ لِحِرَاسَةِ الْبُيُوتِ الكلب لِمَا فِيهِ مِنَ التَّيَقُّظِ وَالْعُوَاءِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ، فَصَارَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ لِحِرَاسَةِ الدُّورِ وَالْبُيُوتِ فِي الْمُدُنِ : لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَغْنَى بِالدُّرُوبِ وَالْحُرَّاسِ فِيهَا عَنِ الْكِلَابِ : وَلِأَنَّ الْكِلَابَ لَا تُغْنِي فِي الْمَنَازِلِ مَا تُغْنِي فِي الزَّرْعِ وَالْمَوَاشِي ، لِأَنَّ حِفْظَ الْمَنَازِلِ مِنَ النَّاسِ ، وَالْكَلْبُ رُبَّمَا احْتَالَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ بِلُقْمَةٍ يُطْعِمُهُ حَتَّى يَأْلَفَهُ فَلَا يُنْكِرُهُ إِذَا وَرَدَ لِلسَّرِقَةِ وَالتَّلَصُّصِ ، وَالزُّرُوعُ وَالْمَوَاشِي تُحْفَظُ مِنَ الْوَحْشِ وَالسِّبَاعِ فَلَا يَتِمُّ فِيهَا حِيلَةً فِي أَلِفِ الْكَلْبِ لَهَا فَافْتَرَقَ الْمَعْنَى فِيهِمَا . وَأَمَّا اقْتِنَاءُ جَرْوِ الْكِلَابِ وَصِغَارِهَا لِتَعَلُّمِ الصَّيْدِ أَوْ حِفْظِ الزُّرُوعِ وَالْمَوَاشِي فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا . وَالثَّانِي : يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا لِلتَّعْلِيمِ : لِأَنَّ تَعْلِيمَهَا مَنْفَعَةٌ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاصْطِيَادُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ التَّعْلِيمِ ، فَلَوْ مُنِعَ مِنْ تَعْلِيمِهَا لَمُنِعَ مِنَ الصَّيْدِ بِهَا . وَأَمَّا مَا انْتُفِعَ بِهِ مِنْ كِلَابِ الصَّيْدِ وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ إِذَا اقْتَنَاهَا مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ صَيْدٌ وَلَا حَرْثٌ وَلَا مَاشِيَةٌ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ اعْتِبَارًا لَهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِأَرْبَابِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ . وَهَكَذَا لَوِ اتَّخَذَ صَاحِبُ الْحَرْثِ كَلْبَ مَاشِيَةٍ ، أَوِ اتَّخَذَ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ كَلْبَ حَرْثٍ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ حُكْمُ إِجَارَةِ الْكِلَابِ مُبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ

فَصْلٌ : حُكْمُ إِجَارَةِ الْكِلَابِ حكمها مُبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِيمَا ذَكَرْنَا وَاقْتِنَاؤُهَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِمَا وَصَفْنَا ، فَفِي جَوَازِ إِجَارَتِهَا لِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ : لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ مِنْ عَيْنٍ مَعْرُوفَةٍ ، وَلَيْسَ الْمَانِعُ مِنْ بَيْعِ الْأَصْلِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ إِجَارَتِهِ كَالْوَقْفِ وَأُمِّ الْوَلَدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ إِجَارَتَهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ : لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مِنْهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ وَإِنْ أُبِيحَتْ ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ وَأُمِّ الْوَلَدِ . أَلَا تَرَى أَنَّ غَاصِبًا لَوْ غَصَبَ كَلْبًا مُنْتَفَعًا بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ وَيَلْزَمْهُ فِي الْوَقْفِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ .

مَسْأَلَةٌ أَقْسَامُ الْحَيَوَانِ وَحُكْمُ كُلِّ قِسْمٍ

أَقْسَامُ الْحَيَوَانِ وَحُكْمُ كُلِّ قِسْمٍ مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي حَيَاتِهِ بِيعَ

وَحَلَّ ثَمَنُهُ وَقِيمَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُؤْكَلُ ، مِنْ ذَلِكَ : الْفَهْدُ يُعَلَّمُ لِلْصَيْدِ ، وَالْبَازِيُّ ، وَالشَّاهِينُ ، وَالصَّقْرُ مِنَ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ ، وَمِثْلُ الْهِرِّ ، وَالْحِمَارِ الْإِنْسِيِّ ، وَالْبَغْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ حَيًّا ، وَكُلُّ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ مِنْ وَحْشٍ ، وغيره ( حكم بيعه ) مِثْلَ الْحِدَأَةِ ، وَالرَّخَمَةِ ، وَالْبُغَاثَةِ ، وَالْفَأْرَةِ ، وَالْجُرْذَانِ ، وَالْوِزْغَانِ ، وَالْخَنَافِسِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَأَرَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ لَا يَجُوزَ شِرَاؤُهُ ، وَلَا بَيْعُهُ ، وَلَا قِيمَةَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ : لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْمَنْفَعَةِ فِيهِ حَيًّا وَلَا مَذْبُوحًا ، فَثَمَنُهُ كَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَجُمْلَةُ الْحَيَوَانِ ضَرْبَانِ : آدَمِيٌّ وَغَيْرُ آدَمِيٍّ ، فَالْآدَمِيُّ ضَرْبَانِ : حُرٌّ وَمَمْلُوكٌ ، فَالْحُرُّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ جَازَتْ إِجَازَتُهُ . وَالْمَمْلُوكُ ضَرْبَانِ : مُسْلِمٌ وَغَيْرُ مُسْلِمٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا جَازَ بَيْعُهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَمُشْرِكٍ صَغِيرًا كَانَ الْعَبْدُ أَوْ كَبِيرًا . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل : لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِإِسْلَامِهِ مِنَ الْمَمَالِيكِ الصِّغَارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَيُبَاعُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ : لِأَنَّهُمْ فِي الْعُرْفِ يَثْبُتُونَ عَلَى دِينِ سَادَتِهِمْ فَيُشْرِكُونَ إِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُشْرِكًا وَمُسْلِمُونَ إِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُسْلِمًا . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ : لِأَنَّ مَنْ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الشِّرْكِ فَإِسْلَامُهُ مَظْنُونٌ . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ إِنْ كَانَ سَيِّدُهُ مُشْرِكًا وَبِيعَ عَلَى الشِّرْكِ . وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ مُسْلِمًا فَلَمْ يَكُنْ مَا اعْتَبَرَهُ صَحِيحًا إِلَّا أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى فَيَصِحُّ . وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إِلَّا عَلَى مُسْلِمٍ : لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لِعُلُوِّهِ لَا تَعْلُوهُ يَدُ مُشْرِكٍ . فَإِنْ بِيعَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ عَلَى مُشْرِكٍ فَفِي الْبَيْعِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ . وَبِهِ قَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [ النِّسَاءِ : ] . وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ مُنِعَ الْكَافِرُ مِنَ اسْتَدَامَتِهِ كَحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ مُنِعَ مِنِ ابْتِدَائِهِ كَالنِّكَاحِ . وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ الْبَيْعِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إِمَّا الْقُرْبَةُ بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْعِتْقِ كَابْتِيَاعِ الْوَلَدِ وَهُوَ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، أَوْ حُصُولِ الرِّبْحِ بِطَلَبِ الْفَضْلِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيَحْصُلُ لَهُ الرِّبْحُ ، وَإِذَا زَالَ عَنْ مَقْصُودِ الْبَيْعِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ جَرَى مَجْرَى بَيْعِ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فَكَانَ بَاطِلًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَهُ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : إِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ : لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَشْتَرِيَ كَافِرًا صَحَّ أَنْ يَشْتَرِيَ مُسْلِمًا كَالْمُسْلِمِ . وَلِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُمْنَعُ مِنْ مِلْكِ الْمُسْلِمِ كَمَا لَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ .

وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُمْلَكُ بِهِ كَالْإِرْثِ ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَرِثَ الْكَافِرُ عَبْدًا مُسْلِمًا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا مُسْلِمًا . فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ صَحَّ الْبَيْعُ . وَيُؤْخَذُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ . فَإِنْ دَبَّرَهُ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ ، وَإِنْ كَاتَبَهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقِرُّ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُقِرُّ عَلَى الْكِتَابَةِ لِيُنْظَرَ مَا يَكُونُ فِي حَالِهِ : لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُفْضِي إِلَى عِتْقِهِ وَزَوَالِ رِقِّهِ .

فَصْلٌ حُكْمُ غَيْرُ الْآدَمِيِّ مِنَ الْحَيَوَانِ

فَصْلٌ : حُكْمُ غَيْرُ الْآدَمِيِّ مِنَ الْحَيَوَانِ وَأَمَّا غَيْرُ الْآدَمِيِّ مِنَ الْحَيَوَانِ فَضَرْبَانِ : طَاهِرٌ وَنَجِسٌ . فَأَمَّا النَّجِسُ فَالْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ بيعهما وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا . وَحَيَوَانٌ طَاهِرٌ . فَهَذَا نَجِسٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ . قَالَ أَصْحَابُنَا : لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ خِلَافٌ قَبْلَ عَطَاءٍ فِي أَنْ لَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِ الْكَلْبِ ، هل يلزمه الضمان ؟ حَتَّى ذَهَبَ إِلَيْهِ عَطَاءٌ وَتَابَعَهُ مَالِكٌ . وَلَا يُعْرَفُ خِلَافٌ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاءُ شَيْءٍ مِنْهُ بِحَالٍ : قَالَ إِلَّا الْكَلْبَ إِذَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ عَلَى مَا مَضَى . وَأَمَّا الطَّاهِرُ فَضَرْبَانِ : مَأْكُولٌ ، وَغَيْرُ مَأْكُولٍ . فَأَمَّا الْمَأْكُولُ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ حَيًّا وَمَذْبُوحًا ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَيِّتًا إِلَّا الْحُوتَ وَالْجَرَادَ . وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ : فَضَرْبَانِ : مُنْتَفَعٌ بِهِ ، وَغَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ . فَمَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ فَبَيْعُهُ حَيًّا جَائِزٌ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ غَيْرَ حَيٍّ . وَأَمَّا غَيْرُ الْمُنْتَفَعِ بِهِ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا يُرْجَى نَفْعُهُ أَبَدًا كَالسَّبْعِ وَالذِّئْبِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَسَائِرِ الْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ : فَبِيعُهُ بَاطِلٌ : لِأَنَّ بَيْعَهُ مَعَ عَدَمِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُرْجَى نَفْعُهُ فِي ثَانِي حَالٍ ، كَالْفَهْدِ الَّذِي إِذَا عُلِّمَ نَفَعَ ، وَالْفِيلِ الَّذِي إِذَا تَأَنَّسَ قَاتَلَ أَوْ حُمِّلَ ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ : لِمَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ : لِمَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ فِي ثَانِي حَالٍ . وَكُلُّ مَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فَلَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ ، وَكُلُّ مَا جَازَ بَيْعُهُ وَجَبَتِ الْقِيمَةُ عَلَى مُتْلِفِهِ .

فَصْلٌ : حُكْمُ بَيْعِ النَّبَاتِ

فَصْلٌ : حُكْمُ بَيْعِ النَّبَاتِ فَأَمَّا النَّبَاتُ فَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ سُمًّا قَاتِلًا فَبِيعُهُ جَائِزٌ : لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ مَنْفَعَةٍ إِمَّا بِأَكْلٍ أَوْ عُلُوفَةٍ أَوْ وَقُودٍ . وَأَمَّا السُّمُّ فَإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ تَدَاوِيًا كَالسَّقَمُونِيَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ جَازَ بَيْعُهُ . وَأَمَّا مَا لَا يُسْتَعْمَلُ تَدَاوِيًا بِحَالٍ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْتُلَ يَسِيرُهُ وَكَثِيرُهُ مُنْفَرِدًا وَمَعَ غَيْرِهِ ، فَبَيْعُهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ ، فَيَصِيرُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَقْتُلَ كَثِيرُهُ وَلَا يَقْتُلُ قَلِيلُهُ ، أَوْ يَقْتُلَ مَعَ غَيْرِهِ وَلَا يَقْتُلُ بِانْفِرَادِهِ ، فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِي بَيْعِهِ فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَيْعُهُ بَاطِلٌ كَالَّذِي قَبْلَهُ . وَالثَّانِي : بَيْعُهُ جَائِزٌ لِقُصُورِهِ عَنْ حَالِ الْأَوَّلِ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ قَلِيلِهِ الَّذِي لَا يَقْتُلُ وَمَنَعَ مِنْ بَيْعِ كَثِيرِهِ الَّذِي يَقْتُلُ . وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ : لِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ لَمْ يَكُنْ جَوَازَ بَيْعِهِ مَوْقُوفًا عَلَى قَدْرٍ مِنْهُ كَالْمَأْكُولَاتِ ، وَكُلُّ جِنْسٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَمْ يَكُنْ بُطْلَانُ بَيْعِهِ مَوْقُوفًا عَلَى قَدْرٍ مِنْهُ كَالنَّجَاسَاتِ ؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ حُكْمُ بَيْعِ النَّجَاسَاتِ

فَصْلٌ : حُكْمُ بَيْعِ النَّجَاسَاتِ فَأَمَّا النَّجَاسَاتُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَتْ عَيْنُهُ نَجِسَةٌ . وَالثَّانِي : مَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ وَجَاوَرَتْهُ . فَأَمَّا مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهَا . وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْعَ جِلْدِ الْمَيْتَةِ ، حكمه وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ ، وَجَوَّزَ أَيْضًا بَيْعَ السِّرْجِينِ وَرَوْثِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ فِعْلُ الْأَمْصَارِ فِي سَالِفِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ ، فَلَوْلَا إِبَاحَتُهُ بِاتِّفَاقِهِمْ لَأَنْكَرُوهُ أَوْ بَعْضُهُمْ . وَلِأَنَّ مَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ جَازَ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ ثَلَاثًا ، إِنَ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُحُومَ فَبَاعُوهَا فَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ شَيْئًا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ " . وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ كَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ : وَلِأَنَّهُ رَجِيعُ نَجِسٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ كَالْعَذَرَةِ .

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ وَلَا إِنْكَارٍ ، فَهَذَا إِنَّمَا يَفْعَلُهُ جُهَّالُ النَّاسِ وَأَرْذَالُهُمْ ، فَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ . عَلَى أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنَ الْأَفْعَالِ لَا يَدُلُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى الِاعْتِقَادِ : لِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ يُعْطَونَ أُجْرَةَ الْمُعَلِّمِ ، يَفْعَلُهُ الْعَالِمُ الْفَاضِلُ ، وَيَأْخُذُهُ الْعَالِمُ الْفَاضِلُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَهُ حُجَّةٌ فِي جَوَازِ أَخْذِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ هَاهُنَا فِعْلُ جُهَّالِ النَّاسِ حُجَّةً عَلَيْنَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُ بِعِلَّةٍ أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَمُنْتَقِضٌ بِالْحُرِّ ، وَالْوَقْفِ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ . وَأَمَّا مَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ وَجَاوَرَتْهُ فَنَجِسَ بِهَا ؛ حكم طهارته فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : ضَرْبٌ يَصِحُّ غَسْلُهُ ، وَضَرْبٌ لَا يَصِحُّ غَسْلُهُ ، وَضَرْبٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّةِ غَسْلِهِ . فَأَمَّا مَا يَصِحُّ غَسْلُهُ كَالثِّيَابِ وَالْأَوَانِي وَالْحُبُوبِ وَجَمِيعِ النَّجَاسَاتِ الَّتِي لَا تَذُوبُ بِمُلَاقَاةِ الْمَاءِ فَغَسْلُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ مُمْكِنٌ ، وَبَيْعُهُ قَبْلَ غَسْلِهِ جَائِزٌ : لِأَنَّ الْعَيْنَ طَاهِرَةٌ ، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا مُمْكِنٌ ، وَإِزَالَةُ مَا جَاوَرَهَا مِنَ النَّجَاسَةِ مُتَأَتٍّ . وَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ غَسْلُهُ كَالسُّكَّرِ وَالْعَسَلِ وَالدُّهْنِ وَسَائِرِ مَا إِذَا لَاقَاهُ الْمَاءُ ذَابَ فِيهِ ، وَالْخَلُّ ، فَغَسْلُهُ لَا يُمْكِنُ وَبَيْعُهُ مَعَ نَجَاسَتِهِ بَاطِلٌ ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ حُكْمُ مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ . وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِي صِحَّةِ غَسْلِهِ : فَالْأَدْهَانُ كُلُّهَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ غَسْلِهَا . فَمَذْهَبَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ غَسْلَهَا لَا يَجُوزُ وَلَا يُمْكِنُ ، وَبَيْعُهَا إِذَا نَجِسَتْ بَاطِلٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : غَسْلُهَا مُمْكِنٌ ، وَبَيْعُهَا قَبْلَ الْغَسْلِ جَائِزٌ : اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ مُجَاوِرَةٌ يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا فَجَازَ بَيْعُهَا مَعَهَا كَالثَّوْبِ . وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ فَجَازَ بَيْعُهُ كَالدُّهْنِ الطَّاهِرِ . وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْفَأرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ ، فَقَالَ : إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَرِيقُوهُ . فَلَوْ جَازَ بَيْعُهُ لَمَنَعَ مِنْ إِرَاقَتِهِ فَصَارَ كَالْخَمْرِ الْمَأْمُورِ بِإِرَاقَتِهِ . وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّهُ مَائِعٌ نَجِسٌ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّاهِرِ فَلَا يَصِحُّ : لِاخْتِلَافِهِمَا فِيمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا . فَأَمَّا ادِّعَاؤُهُمْ إِمْكَانَ الْغُسْلِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ لِتَعَذُّرِ

اخْتِلَاطِهِ بِالْمَاءِ ، وَالْغُسْلُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَخْتَلِطُ بِالْمَاءِ فَيَصِلُ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ ، أَوْ يُجَاوِزُ الْمَاءُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ ، وَهَذَا مُتَعَذِّرٌ فِي الدُّهْنِ : لِأَنَّهُ يَطْفُو عَلَى رَأْسِ الْمَاءِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْن سُرَيْجٍ : غَسْلُ الزَّيْتِ مُمْكِنٌ ، وَهُوَ أَنْ يُرَاقَ فِي قُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ بِأَشَدِّ تَحْرِيكٍ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ ، فَعَلَى هَذَا خَرَجَ جَوَازُ بَيْعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَيْعُهُ جَائِزٌ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ . وَالثَّانِي : بَاطِلٌ بِخِلَافِ الثَّوْبِ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا أَفْضَى إِلَى الطَّهَارَةِ فِي الْحَالِ الثَّانِيَةِ جَازَ بَيْعُهُ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ . وَهَكَذَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ حَرَّمَ بَيْعَ الْمَاءِ النَّجِسِ الَّذِي يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ ؛ عَلَى وَجْهَيْنِ .

فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْجَلَّالَةِ وَحُكْمِهَا

فَصْلٌ : فِي بَيَانِ الْجَلَّالَةِ وَحُكْمِهَا وَأَمَّا الْجَلَّالَةُ مِنَ الْبَهَائِمِ الْمَأْكُولَةِ وَهِيَ الَّتِي تَرْعَى الْأَقْذَارَ وَالزِّبْلِ فَبَيْعُهَا جَائِزٌ : لِطَهَارَتِهَا . وَإِنَّ مَا رَعَتْهُ مِنَ الْأَقْذَارِ صَارَ فِي مَحَلِّ الْأَنْجَاسِ ، وَأَكْلُهَا جَائِزٌ لِهَذَا الْمَعْنَى . لَكِنِ جَاءَ الْأَثَرُ بِالتَّوَقُّفِ عَنْ ذَبْحِهَا تطهير الجلالة بَعْدَ رَعْيِ الْأَقْذَارِ ، فِي الْبَعِيرِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَالْبَقَرَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَالشَّاةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، وَالدَّجَاجَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ . فَيَخْتَارُ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلْأَثَرِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ .

فَصْلٌ فِي بَيَانِ آلَاتِ الْمَلَاهِي وَحُكْمُ بَيْعِهَا

فَصْلٌ : فِي بَيَانِ آلَاتِ الْمَلَاهِي وَحُكْمُ بَيْعِهَا . فَأَمَّا الْمَلَاهِي كَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالدُّفِّ وَالْمِزْمَارِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا إِذَا فُصِلَتْ جَازَ بَيْعُهَا ، وَكَذَلِكَ اللَّعِبُ . لَكِنْ يُكْرَهُ بَيْعُ ذَلِكَ قَبْلَ تَفْصِيلِهِ لِبَقَاءِ الْمَعْصِيَةِ فِيهِ . فَإِنْ بِيعَ عَلَى حَالِهِ جَازَ . وَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ إِذَا فُصِلَ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ بِحَالٍ ، وَهَذَا نَادِرٌ : لِأَنَّهُ قَدْ يَصْلُحُ لِلْحَطَبِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ ، فَبِيعَهُ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ . فَأَمَّا عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى عَمَلِ ذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ : لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى إِحْدَاثِ مَعْصِيَةٍ .

فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ وَإِجَارَتِهَا

فَصْلٌ : فِي بَيَانِ حُكْمِ بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ وَإِجَارَتِهَا فَأَمَّا بَيْعُ دُورِ مَكَّةَ وَعَقَارِهَا ، فَلَا بَأْسَ بِهِ وَبِإِجَارَتِهَا أَرْضِهَا وَبِنَائِهَا . وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا إِجَارَتُهَا مِنَ الْوَارِدِينَ إِلَيْهَا . وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [ الْحَجِّ : ] فَسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ فِيهِ

وَأَرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَمِيعَ الْحَرَمِ . وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [ النَّمْلِ : ] . فَجَعَلَهَا حَرَامًا ، وَالْحَرَامُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : رِبَاعُ مَكَّةَ لَا تُبَاعُ وَلَا تُؤَاجَرُ . ( وَرَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ الْكِنَانِيُّ ) قَالَ : تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَكَانَتْ بُيُوتُ مَكَّةَ تُدْعَى بِالسَّوَائِبِ . وَمَعْنَاهُ طَلْقٌ ، تَشْبِيهًا بِالسَّوَائِبِ . وَلِأَنَّهَا بُقْعَةٌ يُضْمَنُ صَيْدُهَا بِالْجَزَاءِ ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [ الْحَشْرِ : ] فَأَضَافَ الدِّيَارَ إِلَيْهِمْ كَإِضَافَةِ الْأَمْوَالِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ كَسَائِرِ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي تَمْلِيكِهَا وَجَوَازِ بَيْعِهَا فَكَذَلِكَ الدِّيَارُ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " فَأَضَافَ الدَّارَ إِلَيْهِ . وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ : قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَةِ الْوَدَاعِ أَيْنَ تَنْزِلُ أَفِي دُورِ عَمَّاتِكَ أَوْ خَالَاتِكَ ؟ فَقَالَ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِيعٍ ، نَحْنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ نَازِلُونَ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ مِنْ مِنًى . فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَرِثَ أَبَاهُ مَعَ أَخِيهِ طَالِبٌ دُونَ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ : لِأَنَّ أَبَا طَالِبٍ مَاتَ كَافِرًا ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ مُسْلِمَيْنِ ، فَبَاعَ عَقِيلٌ دُورَ أَبِيهِ الَّتِي وَرِثَهَا ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً وَكَانَ بَيْعُهَا بَاطِلًا لَمَا أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَأَقَرَّ مِلْكَ الدُّورِ عَلَى حُكْمِهَا الْأَوَّلِ . وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ السَّلَفِ وَأَهْلُ الْأَعْصَارِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى وَقْتِنَا يَتَبَايَعُونَ مَنَازِلَ مَكَّةَ وَيُشَاهِدُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بَاعَ دَارَ بَنِي جَحْشٍ بِمَكَّةَ فَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَلَا

تَرْضَى يَا عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ تَعَالَى دَارًا هِيَ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : بَلَى . قَالَ : فَذَلِكَ لَكَ . فَلَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ كَلَّمَهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ فِي دَارِهِمُ فَأَمْسَكَ عَنْهُ كَرَاهَةَ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ : أَلَا بَلِّغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ أَمْرٍ عَوَاقِبُهُ نَدَامَةْ دَارَ ابْنِ عَمِّكَ بِعْتَهَا تَقْضِي بِهَا عَنْكَ الْغَرَامَةْ اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا طَوَّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَةْ فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا هُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَيْعِ تَأْثِيرٌ مَا جَعَلَ الْمُشْتَرِيَ أَحَقَّ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْحَرَمَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ بَيْعُ مَنَازِلِهِ وَعَقَارِهِ كَالْمَدِينَةِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً [ الْحَجِّ : ] ، فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مُوجَبِ اللَّفْظِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَكَّةَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [ النَّمْلِ : ] يَعْنِي حَرَّمَ صَيْدَهَا وَشَجَرَهَا . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِالْخَبَرِ فَمُنْقَطِعٌ : لِأَنَّ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ لَمْ يَلْقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ، وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ . وَأَمَّا قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنَ نَضْلَةَ أَنَّ بُيُوتَ مَكَّةَ كَانَتْ تُدْعَى السَّوَائِبَ ، فَالسَّائِبَةُ لَا حُكْمَ لَهَا عِنْدَهَا ، وَقَدْ أَبْطَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ . عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْوُقُوفِ بِهَا . فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمْتُ مَكَّةَ وَمَعِيَ مَالٌ ، فَقِيلَ لِي لَوِ اشْتَرَيْتَ بِهَا دَارًا تَكُونُ لَأَهْلِكَ فَلَمْ أَفْعَلْ لِعِلْمِي بِكَثْرَةِ الْوُقُوفِ بِهَا . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمُمْتَنِعٌ : لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا الْمَنَازِلُ الْمَسْكُونَةُ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ . أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ مَسَاجِدِ الْبِلَادِ لَا يَدُلُّ تَحْرِيمُ بَيْعِهَا عَلَى تَحْرِيمِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ بِهَا ؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ السَّلَمِ

السَّلَفُ وَالسَّلَمُ عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنَى وَاحِدٍ

بَابُ السَّلَمِ مشروعيته قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، - أَوِ ابْنِ كَثِيرٍ ، الشَّكُّ مِنَ الْمُزَنِيِّ - عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَةَ وَرُبَّمَا قَالَ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ ، وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . أَمَّا السَّلَفُ وَالسَّلَمُ فَهُمَا عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنَى وَاحِدٍ ، فَالسَّلَفُ لُغَةٌ عِرَاقِيَّةٌ ، وَالسَّلَمُ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ ؛ الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَأَذِنَ اللَّهُ فِيهِ ثُمَّ قَرَأَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [ الْبَقَرَةِ : ] . فَدَلَّ هَذَا النَّقْلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي إِبَاحَةِ السَّلَمِ ، ثُمَّ دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي إِثْبَاتِهَا : إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [ النِّسَاءِ : ] فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا [ الْبَقَرَةِ : ] وَهَذَا فِي الْبَيْعِ النَّاجِزِ ، فَدَلَّ أَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَوْصُوفِ غَيْرِ النَّاجِزِ . ثُمَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَةِ مَا قَدَّمَهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ ، وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ " . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : وَإِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ :

وَأَخْبَرَنِي مَنْ أُصَدِّقُهُ ، عَنْ سُفْيَانَ ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَجَلِ : وَإِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ . وَقَدْ حَفِظْتُهُ عَنْ سُفْيَانَ مِرَارًا كَمَا وَصَفْتُهُ . وَرَوَى شُعْبَةُ ، عَنْ أَبِي الْمُجَالِدِ قَالَ : اخْتَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ وَأَبُو بُرْدَةَ فِي السَّلَفِ ، فَبَعَثُونِي إِلَى ابْنِ أَبِي أَوْفَى فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ : كُنَّا نُسْلِفُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ إِلَى قَوْمٍ مَا هُوَ عِنْدَهُمْ . وَرَوَى عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ . وَرَوَى جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ ، عَنْ طَارِقٍ الْمَجَازِيِّ قَالَ : كُنْتُ فِي رُفْقَةٍ فَنَزَلْنَا قُرْبَ الْمَدِينَةِ ، فَكَانَ مَعَنَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ فَقَالَ : تَبِيعُونَ النَّاقَةَ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ . قَالَ : بِكَمْ ؟ فَقُلْنَا : بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ . فَأَخَذَ النَّاقَةَ وَلَمْ يَتَرَبَّصْ ، فَلَمَّا أَخَذَهَا وَتَوَارَى بَيْنَ جُدْرَانِ الْمَدِينَةِ ، قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ : أَتَعْرِفُونَ الرَّجُلَ ؟ فَقَالَ بَعْضُنَا : أَمَّا وَجْهُهُ بِوَجْهِ غَدَّارٍ ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ جَاءَنَا رَجُلٌ ، فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا حَتَى تَشْبَعُوا ، وَأَنْ تَكْتَالُوا حَتَى تَسْتَوْفُوا ، قَالَ : فَأَكَلْنَا حَتَى شَبِعْنَا ، وَاكْتَلْنَا حَتَّى اسْتَوْفَيْنَا . فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ ابْتَاعَ النَّاقَةَ بِثَمَنٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ . فَدَلَّ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْأَصْلِ . وَالثَّانِي : جَوَازُهُ حَالًا . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَقْدِ السَّلَمِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ كَقَوْلِ : بِعْتُكَ هَذَا الدِّينَارَ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ ، هَلْ يَكُونُ بَيْعًا أَوْ سَلَمًا ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَكُونُ سَلَمًا بِلَفْظِ الْبَيْعِ : لِأَنَّ السَّلَمَ صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَفْتَرِقَا قَبْلَ قَبْضِ الدِّينَارِ ، وَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : يَكُونُ بَيْعًا : لِأَنَّ السَّلَمَ اسْمٌ هُوَ أَخَصُّ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَفْتَرِقَا قَبْلَ قَبْضِ الدِّينَارِ ، وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ . ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُجْمَعُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا ، فَلَمَّا تَنَوَّعَ الثَّمَنُ نَوْعَيْنِ مُعَيَّنًا وَمَوْصُوفًا وَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ الْمُثَمَّنُ نَوْعَيْنِ مُعَيَّنًا وَمَوْصُوفًا ، فَالْمُعَيَّنُ الْبُيُوعُ

النَّاجِزَةُ ، وَالْمَوْصُوفُ السَّلَمُ فِي الذِّمَّةِ ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْمَعْنَى عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ . فَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدِ انْعَقَدَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى ، وَلَمْ يُخَالِفْ بَعْدَهُمْ إِلَّا ابْنُ الْمُسَيَّبِ ، فَقَدْ حُكِيَتْ عَنْهُ حِكَايَةٌ شَاذَّةٌ أَنَّهُ أَبْطَلَ السَّلَمَ ، وَمَنَعَ مِنْهُ وَهُوَ إِنْ صَحَّتِ الْحِكَايَةُ عَنْهُ فَمَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمُوا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ وَالْمَعْنَى الْمُوجِبِ .

يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " قَدْ أَذِنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِي الرَّهْنِ وَالسَّلَمِ فَلَا بَأْسَ بِالرَّهْنِ ، وَالْحَمِيلِ فِيهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ حكمه . وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، أَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي السَّلَمِ لَا يَجُوزُ : لِأَنَّ ذَلِكَ وَثِيقَةٌ فِي الثَّمَنِ دُونَ الْمُثَمَّنِ فَأَشْبَهَ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهَا ، وَهَذَا خَطَأٌ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [ الْبَقَرَةِ : ] . وَرَدَ هَذَا فِي آيَةِ الدَّيْنِ ، فَكَانَ إِبَاحَةُ الرَّهْنِ وَالسَّلَمِ نَصًّا وَفِي غَيْرِهِ اسْتِدْلَالًا : لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَصِحُّ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهِ بِالشَّهَادَةِ ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهِ بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِي الْمُثَمَّنِ وَجَازَ فِي الثَّمَنِ وَجَبَ إِذَا لَمْ يَجُزْ فِي السَّلَمِ أَخْذُ الرَّهْنِ فِي الثَّمَنِ أَنْ يَجُوزَ فِي الْمُثَمَّنِ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَقَطَ اسْتِدْلَالُهُمْ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي السَّلَمِ ، حكمه فَإِنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ فِيهِ رَهْنًا كَانَ لِلْمُسَلِّمِ مُطَالَبَةُ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِحَقِّهِ عِنْدَ مَحَلِّهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ حُصُولِ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ بِيعَ الرَّهْنُ بِجِنْسِ الْأَثْمَانِ ، ثُمَّ اشْتَرَى بِمَا حَصَلَ مِنْ ثَمَنِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسَلِّمُ فِي سِلْمِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ الرَّهْنُ بِالسَّلَمِ الْمُسْتَحَقِّ إِلَّا عَنْ رِضَا الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ وَإِذْنِهِ : لِأَنَّ الرُّهُونَ الْمَبِيعَةَ عَلَى أَرْبَابِهَا إِنَّمَا تُبَاعُ بِغَالِبِ أَثْمَانِهَا ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَثِيقَةُ فِي السَّلَمِ ضَمَانًا ضَمِنَهُ ، فَالْمُسَلِّمُ إِذَا حَصَّلَ حَقَّهُ الْخِيَارُ فِي مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ بِهِ ، أَوِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ ، فَإِنْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنَ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بَرِئَ وَبَرِئَ الضَّامِنُ مَعَهُ ، وَلَوْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنَ الضَّامِنِ كَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِهَا إِذَا كَانَ ضَمَانُهُ بِأَمْرِهِ دُونَ قِيمَتِهِ ، وَلَوْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنَ الضَّامِنِ كَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِهَا إِذَا كَانَ ضَمَانُهُ بِأَمْرِهِ دُونَ قِيمَتِهِ ، سَوَاءً كَانَ الْمُسَلِّمُ مِمَّا يَضْمَنُ فِي الْمَغْصُوبِ بِالْمِثْلِ كَالْحِنْطَةِ أَوْ بِالْقِيمَةِ كَالثِّيَابِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلضَّامِنِ مُطَالَبَةُ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ مَا ضَمِنَ عَنْهُ قَبْلَ أَدَائِهِ عَنْهُ وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِخِلَافِهِ ، فَلَوْ أَنَّ الْمُسَلَّمَ إِلَيْهِ دَفَعَ السَّلَمَ إِلَى الضَّامِنِ : فَإِنْ جَعَلَهُ رَسُولًا فِي دَفْعِهِ إِلَى الْمُسَلِّمِ جَازَ ، فَلَوْ تَلِفَ فِي يَدِ الضَّامِنِ لَمْ يُلْزِمْهُ ضَمَانُهُ : لِأَنَّهُ أَمِينٌ ، وَإِنْ دَفْعَهُ إِلَيْهِ قَضَى مِنْ ضَمَانِهِ : لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّ الضَّامِنَ يَسْتَحِقُّ الْقَضَاءَ بَعْدَ الْأَدَاءِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَهُ مَا لَيْسَ لَهُ فَلَوْ تَلِفَ

ذَلِكَ مِنْ يَدِ الضَّامِنِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى الْبَدَلِ ، وَلَوْ كَانَ الضَّامِنُ بَاعَهُ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ فِي الْحَالَتَيْنِ مَعًا : لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ بِغَيْرِ أَمْرِ مَالِكِهِ .

السَّلَمُ يَجُوزُ فِيمَا كَانَ مَوْجُودًا أَوْ وَقْتَ الْمَحَلِّ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا مِنْ قَبْلِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِذَا جَازَ السَّلَمُ فِي التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ ، وَالتَّمْرُ قَدْ يَكُونُ رُطَبًا ، فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَجَازَ الرُّطَبَ سَلَفًا مَضْمُونًا فِي غَيْرِ حِينِهِ الَذِي يَطِيبُ فِيهِ : لِأَنَّهُ إِذَا أَسْلَفَ سَنَتَيْنِ كَانَ فِي بَعْضِهَا فِي غَيْرِ حِينِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . السَّلَمُ يَجُوزُ فِيمَا كَانَ مَوْجُودًا ، أَوْ وَقْتَ الْمَحَلِّ ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا مِنْ قَبْلِ حكم السلم . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إِلَّا فِيمَا يَكُونُ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْمَحَلِّ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَوَقْتَ الْمَحَلِّ ، جَازَ السَّلَمُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَيْنَهُمَا مَعْدُومًا فَاعْتَبَرَ طَرَفَي الْعَقْدِ لَا غَيْرَ . وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ إِسْحَاقَ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ نَجْرَانَ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تُسْلِفُوا فِي النَّخِيلِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا " . يَعْنِي فِي تَمْرِ النَّخْلِ . وَبِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمًا عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَلِأَنَّ مَوْتَ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْمَحَلِّ يَجُوزُ ، وَحُلُولُ مَا عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ وَاجِبٌ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إِلَى أَنْ يُقَدِّرَ السَّلَمَ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ كَتَأْخِيرِ الْقَبْضِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ مَا أَوْجَبَ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ فِي الْأَعْيَانِ الْمَبِيعَةِ ثَبَتَ الْخِيَارُ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا اقْتَضَى تَأْخِيرُ الْقَبْضِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَوْصُوفَةِ قَدْ ثَبَتَ الْخِيَارُ ، وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدِمَ الْمُثَمَّنُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ يُوجِبُ الْخِيَارُ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ وَقْتَ الْمَحَلِّ شَرْطًا لِجَوَازِ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ ، كَمَا كَانَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْمَحَلِّ شَرْطًا لِاسْتِحْقَاقِهِ فِيهِ ، وَهُوَ عُمْدَتُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ . وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ قِيَاسًا ، فَقَالُوا : كُلُّ وَقْتٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ السَّلَمُ فِيهِ مُسْتَحَقًا كَانَ وُجُودُهُ فِيهِ شَرْطًا قِيَاسًا عَلَى وَقْتِ الْمَحَلِّ . وَقَالَ مَالِكٌ : لِلْعَقْدِ طَرَفَانِ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ ، فَلَمَّا كَانَ وَجُودُهُ فِي انْتِهَائِهِ وَقْتَ الْمَحَلِّ شَرْطًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَجُوُدُهُ فِي ابْتِدَائِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطًا ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ شَرْطًا كَالطَّرَفِ الثَّانِي . وَاسْتَدَلَّا جَمِيعًا بِأَنْ قَالَا : ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ أَغْلَظُ حُكْمًا مِنِ انْتِهَائِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ بَيْعَ الْآبِقِ وَقْتَ الْعَقْدِ بَاطِلٌ ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْ بَعْدُ ، فَلَمَّا كَانَ وُجُودُ ذَلِكَ فِي انْتِهَاءِ الْعَقْدِ شَرْطًا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ

وُجُودُهُ فِي ابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ شَرْطًا ؟ وَلِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ غَرَرٌ ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يُحْرَسَ مِمَّا يُخَافُ حُدُوثُهُ مِنَ الْغَرَرِ حَتَّى لَا يَكْثُرَ فِيهِ فَيَبْطُلُ ذَلِكَ ، وَعَدَمُ ذَلِكَ وَقْتَ الْعَقْدِ وَإِثْبَاتِهِ غَرَرٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْرَسَ مِنَ الْعَقْدِ ، وَلِأَنَّ جَهَالَةَ الشَّيْءِ أَيْسَرُ مِنْ عَدَمِهِ ، فَلَمَّا بَطَلَ السَّلَمُ بِجَهَالَتِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَأَوْلَى أَنْ يُبْطَلَ بِعَدَمِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثِّمَارَ إِنَّمَا تُوجَدُ فِي وَقْتٍ مِنَ السَّنَةِ ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَازَ السَّلَمَ فِيهِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثًا ، وَهَذِهِ مُدَّةٌ يَعْدَمُ الرُّطَبُ فِي أَكْثَرِهَا فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ ، وَإِنْ عَدِمَ قَبْلَ أَجْلِهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلسَّلَمِ عَقْدًا لَمْ يَكُنْ وَجُودُهُ فِيهِ شَرْطًا ، قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الْأَجَلِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ فِي مِلْكِ الْعَاقِدِ مُعْتَبَرًا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ مُعْتَبَرًا كَالْوَصِيَّةِ ، وَلِأَنَّ قَبْضَ السَّلَمِ يَفْتَقِرُ إِلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ فِي غَيْرِ مَكَانِ الْقَبْضِ مُعْتَبَرًا وَجَبَ أَلَّا يَكُونَ وُجُودُهُ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْقَبْضِ مُعْتَبَرًا ، وَلِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُثَمَّنِ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ ، فَلَمَّا صَحَّ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَحَلِّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلُ صَحَّ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ ، أَنْ يَكُونَ الْمُثَمَّنُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَحَلِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تُسْلِفُوا فِي النَّخْلِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ " فَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مَجْهُولٍ لَا يُعَوَّلُ عَلَى حَدِيثِهِ ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى بُيُوعِ الْأَعْيَانِ . وَأَمَّا نَهْيُ حَكِيمٍ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ مِنَ الْأَعْيَانِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ السَّلَمَ قَدْ حَلَّ بِمَوْتِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ ، فَهَذَا اعْتِبَارٌ سَاقِطٌ : لِأَنَّ الْعُقُودَ تُحْمَلُ عَلَى السَّلَامَةِ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا مُعْتَبَرًا لَبَطَلَتْ أَكْثَرُ الْعُقُودِ لِجَوَازِ تَلَفِهَا وَحُدُوثِ مِنْ صِحَّتِهَا ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلُ الْمَحَلِّ أَجَلًا مُسْتَحَقًّا لَكَانَ مَجْهُولًا ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَاطِلًا : لِأَنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ بِالْأَجَلِ الْمَجْهُولِ ، وَفِي تَرْكِ اعْتِبَارِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَرْكِ اعْتِبَارِ مَا قَالُوا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ بِالطَّرَفِ الثَّانِي فَإِنَّمَا كَانَ وُجُودُهُ فِيهِ مُعْتَبَرًا لِاسْتِحْقَاقِ قَبْضِهِ فِيهِ ، وَلَمْ يَكُنْ وَجُودُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ مُعْتَبَرًا : لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِيهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْعَقْدَ أَقْوَى مِنْ حَالِ الْقَبْضِ ، فَهَذَا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ ، فَأَمَّا فِي السَّلَمِ فَحَالُ الْقَبْضِ وَالْمَحَلِّ أَقْوَى مِنْ حَالِ الْعَقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَمَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ مَعْدُومًا وَقْتَ الْمَحَلِّ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ عَقْدَ السَّلَمِ غَرَرٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْرُوسًا مِنَ الْغَرَرِ الْمَظْنُونِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ بِغَرَرٍ كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ ، فَعَلَى هَذَا سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ غَرَرٌ جَوَّزَهُ الشَّرْعُ ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْرُوسًا مِنَ الْغَرَرِ فِي حَالَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : فِي حَالِ السَّلَامَةِ ، وَهَذَا غَرَرٌ فِي غَيْرِ حَالِ السَّلَامَةِ . وَالثَّانِيَةُ : مِنَ الْغَرَرِ وَقَبْلَ الْمَحَلِّ ، وَهَذَا غَرَرٌ قَبْلَ الْمَحَلِّ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ بِجَهَالَتِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَأَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِعَدَمِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّ جَهَالَتَهُ وَقْتَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ مَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ وَعَدَمِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ مَا اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ فَقَدَ الرُّطَبَ أَوِ الْعِنَبَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْبَلَدِ الَّذِي أَسْلَفَهُ فِيهِ ، حكمه قِيلَ : الْمُسْلِفُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا بَقِيَ مِنْ سَلَفِهِ بِحِصَّتِهِ ، أَوْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ إِلَى رُطَبٍ قَابِلٍ ، وَقِيلَ : يَنْفَسِخُ بِحِصَّتِهِ ، وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكِيمًا عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَأَجَازَ السَّلَفَ ، فَدَّلَ أَنَّهُ نَهَى حَكِيمًا عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا ، وَذَلِكَ بَيْعُ الْأَعْيَانِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا بَاطِلٌ إِذَا أَسْلَمَ فِي ثَمَرَةٍ إِلَى أَجَلٍ يُوجَدُ غَالِبًا فِيهِ فَحَلَّ الْأَجَلُ ، وَقَدْ أُعْدِمَتِ الثَّمَرَةُ لِحَاجَةٍ حَدَثَتْ أَوْ لِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ حَتَّى فُقِدَتْ ، فَفِي عَقْدِ السَّلَمِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : قَدْ بَطَلَ بِعَدَمِهِ عِنْدَ الْأَجَلِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَلَمٌ فِي مَعْدُومٍ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ عَلِمَا عِنْدَ الْعَقْدِ مَعْدُومٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَلَفُ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَصَحُّ : أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ ، وَلِلْمُسَلِّمِ الْخِيَارُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَعَذُّرَ السَّلَمُ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ كَتَأْخِيرِ الْقَبْضِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ مَا أَوْجَبَ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ فِي الْأَعْيَانِ الْمَبِيعَةِ يُثْبِتُ الْخِيَارَ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا اقْتَضَى تَأْخِيرُ الْقَبْضِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَوْصُوفَةِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدَ ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدِمَ الْمُثَمَّنُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ يُوجِبُ الْخِيَارَ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدَ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا : بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ . فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ حكم البيع بالسلم فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْبَائِعِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ : لِأَنَّهُ غَارِمٌ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الثَّمَنَ مُسَلَّمًا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِهِ : لِأَنْ لَا يَكُونَ دَيْنًا بِدَيْنٍ ، وَلَوْ كَانَ الْمُسَلِّمُ قَدْ أَخَذَ بِالسَّلَمِ رَهْنًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ الرَّهْنِ عَلَى الثَّمَنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ ذَلِكَ : لِقِيَامِ الثَّمَنِ بَعْدَ الْفَسْخِ مَقَامَ الْأَجَلِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ الْأَجَلَ قَدْ يَبْطُلُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْقِيَ مَا كَانَ مَعْقُودًا بِهِ ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِبُطْلَانِ الثَّمَنِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْعَقْدَ لَا يَبْطُلُ ، فَالْمُسَلِّمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ ، وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْعَقْدِ إِلَى وُجُودِ ذَلِكَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَإِنَّمَا يُثْبِتُ

لَهُ الْخِيَارُ : لِأَنَّ التَّأْخِيرَ نَقْصٌ . فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ وَفِي هَذَا الْخِيَارِ وَجْهَانِ كَمَا قُلْنَا فِي الْخِيَارِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُمْتَدٌّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَإِنْ فَسَخَ اسْتَرْجَعَ الثَّمَنَ وَإِنْ أَقَامَ لَزِمَهُ الصَّبْرُ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ قَبْلَهُ . فَإِنْ جَاءَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ وَالثَّمَرَةُ أَيْضًا مَعْدُومَةٌ فَلَهُ الْخِيَارُ أَيْضًا بِعَدَمِ الثَّمَرَةِ فِي الْعَامِ الثَّانِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ ، أَوِ الْمَقَامِ إِلَى الْعَامِ الثَّالِثِ ، ثُمَّ هَكَذَا فِي كُلِّ عَامٍ ثَانٍ ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الثَّمَرَةُ مَعْدُومَةً وَلَكِنْ عَزَّتْ وَغَلَتْ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ قَوْلاً وَاحِدًا ، يُؤْخَذُ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ بِدَفْعٍ ذَلِكَ مَعَ عِزَّتِهِ وَغُلُوِّ سِعْرِهِ ، فَإِنْ ضَاقَ بِهِ أَوْ أَعْسَرَ عَنْهُ صَارَ كَالْمُفْلِسِ فَيَكُونُ لِلْمُسَلِّمِ الْخِيَارُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا إِنْ وُجِدَ بَعْضُ الثَّمَرَةِ الَّتِي أَسْلَمَ فِيهَا وَعَدِمَ بَاقِيهَا لِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ حَتَّى نَفَذَتْ ، أَوْ لِجَائِحَةٍ حَدَثَتْ فَالْمُسَلِّمُ فِي الْمَعْدُومِ الْبَاقِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزٌ ، فَعَلَى هَذَا هُوَ فِي الْمَوْجُودِ أَجْوَزُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فِي الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ كَانَ السَّلَمُ فِي الْمَوْجُودِ ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ فَهَذَا فَسَادٌ طَرَأَ عَلَى بَعْضِ الصَّفْقَةِ مَعَ تَقَدُّمِهِ صِحَّتُهَا ، فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، أَنَّ مَا طَرَأَ عَلَى الصَّفْقَةِ مِنَ الْفَسَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ كَانَ لِفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ ، فَيُجْعَلُ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ بَاطِلًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا ، الْفَسَادُ الطَّارِئُ عَلَى الصَّفْقَةِ لِمَعْنَى حَادِثٍ لَمْ يَبْطُلِ الْبَاقِي مِنْهَا ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ فِي الْمَوْجُودِ جَائِزًا وَفِي الْمَعْدُومِ بَاطِلًا ، فَيَخْرُجُ السَّلَمُ فِي الْجَمِيعِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ وَيَسْتَرْجِعُ الْمُسَلِّمُ الثَّمَنَ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : السَّلَمُ فِي الْمَوْجُودِ جَائِزٌ وَفِي الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ ، وَلِلْمُسَلِّمِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ ، أَوِ الْمَقَامِ عَلَى الْمَوْجُودِ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا . وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّ السَّلَمَ فِي الْكُلِّ جَائِزٌ ، فَيَكُونُ الْمُسَلَّمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي الْجَمِيعِ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ ، وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ إِذَا مَنَعَ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .

وَالثَّانِي : يَجُوزُ إِذَا أُجِيزَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ ، فَعَلَى هَذَا بِمَا يُقِيمُ عَلَى الْمَوْجُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقِيمُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فَسَخَ . وَالثَّانِي : بِالْحِسَابِ وَالْقِسْطِ ، وَهُوَ أَصَحُّ ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ الْخِيَارُ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِذَا أَجَازَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَةٍ مَضْمُونًا إِلَى أَجَلٍ كَانَ حَالًا أَجْوَزُ ، وَمِنَ الْغَرَرِ أَبْعَدَ فَأَجَازَهُ عَطَاءٌ حَالًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . يَجُوزُ عَقْدُ السَّلَمِ حَالًا وَمُؤَجَّلًا حكمه . وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ السَّلَمُ حَالًا حَتَّى يَكُونَ مُؤَجَّلًا ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : يَجُوزُ إِلَى كُلِّ أَجَلٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ الْأَجَلُ فِيهِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَاسْتَدَلَّا عَلَى أَنَّ الْأَجَلَ مِنْ شَرْطِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ ، وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ " . فَجَعَلَ الْأَجَلَ فِيهِ شَرْطًا ، وَلِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ يَجْمَعُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا ، فَلَمَّا كَانَ الثَّمَنُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ التَّعْجِيلُ ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُثَمَّنُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّأْجِيلُ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيِ الْمُسَلِّمِ فَوَجَبَ أَلَّا يَقَعَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ كَالثَّمَنِ : وَلِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقَدٌ عَلَى مَا لَا يَمْلُكُهُ الْعَاقِدُ فِي الْحَالِ ، ثُمَّ أَثْبَتَ أَنَّ الْأَجَلَ شَرْطٌ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَقْدِ السَّلَمِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ وُجُودُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ عَاقِدِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مِنْ شَرْطِهِ كَالْإِجَارَةِ ، وَلِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ مَوْضُوعٌ عَلَى ارْتِفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ بِهِ ، وَارْتِفَاقِ الْمُشْتَرِي بِاسْتِرْخَاصِهِ ، وَارْتِفَاقِ الْبَائِعِ بِتَأْخِيرِهِ ، فَإِذَا عَقَدَ حَالًا زَالَ وَضْعُ حَقِّ حَمْلِ الْبَائِعِ بِهِ ، فَبَطَلَ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ ، وَلِأَنَّ السَّلَمَ إِنَّمَا سُمِّيَ سَلَمًا لِاخْتِصَاصِهِ بِتَأْجِيلِ الْمُثَمَّنِ ، وَتَسْلِيمِ الثَّمَنِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ عَمَّا وُضِعَ الِاسْمُ لَهُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ حَالًا قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [ الْبَقَرَةِ : ] وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ ، فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ : بَيْعُ عَيْنٍ ، وَبَيْعُ صِفَةٍ ، فَلَمَّا صَحَّتْ بُيُوعُ الْأَعْيَانِ حَالَّةً ، وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ بُيُوعُ الصِّفَاتِ حَالَّةً . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ حَالًا كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ : وَلِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُثَمَّنُ فِي بَيْعِ الصِّفَاتِ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ مِنْ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ دَخَلَهُ التَّعْجِيلُ وَالتَّأْجِيلُ كَالثَّمَنِ ، وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بَعْدَ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ ، فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ شَرْطًا فِيهِ كَالْخِيَارِ وَكَالْأَجَلِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مَعْلُومٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ التَّنْجِيمُ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ التَّأْجِيلُ

كَالنِّكَاحِ ، وَلِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَنَّ الْأَجَلَ غَرَرٌ ، فَلَمَّا جَازَ السَّلَمُ مُؤَجَّلًا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ ، كَانَ حَالًا أَجْوَزُ : لِأَنَّهُ مِنَ الْغَرَرِ أَبْعَدُ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى سَبَبِهِ الْمَنْقُولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِمُونَ فِي الثَّمَرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ ، فَقَالَ : مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ ، وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ . فَيَكُونُ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فَمَنْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ فَلْيَكُنِ الْكَيْلُ مَعْلُومًا ، وَمَنْ أَسْلَمَ فِي مَوْزُونٍ فَلْيَكُنِ الْوَزْنُ مَعْلُومًا ، وَمَنْ أَسْلَمَ فِي مُؤَجَّلٍ فَلْيَكُنِ الْأَجَلُ مَعْلُومًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُ السَّلَمِ فِيمَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا بِمَوْزُونٍ فِي الْعَدَدِ الْمَزْرُوعِ ، حكمه وَلَمْ يَكُنِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ شَرْطًا فِي كُلِّ سَلَمٍ ، كَذَلِكَ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمُؤَجَّلِ ، وَلَا يَكُونُ الْأَجَلُ شَرْطًا فِي كُلِّ سَلَمٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ، وَاجْتِمَاعُهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، كَذَلِكَ ضَمُّ الْأَجَلِ إِلَيْهِمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيِ السَّلَمِ فَكَانَ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ كَالثَّمَنِ ، فَلَا يَصِحُّ : لِأَنَّهُ رَدَّ الْفَرْعَ إِلَى الْأَصْلِ ، لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَدْخُلُهُ الْأَصْلُ . وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْقِيَاسِ أَنْ يُلْزِمَ فِي الْمُثَمَّنِ الْأَجَلَ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ، ثُمَّ يَقُولُ : الثَّمَنُ فِي السَّلَمِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُثَمَّنِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ لِاسْتِحْقَاقِ تَعْجِيلِهَا وَسُقُوطِ الْأَجَلِ فِيهَا ثُمَّ كَانَ مَا فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ مِنَ الْمُثَمَّنِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا فِي مُقَابَلَةِ الثَّمَنِ فِي السَّلَمِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِجَارَةِ ، فَالْإِجَارَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا مُقَدَّرَةً بِغَيْرِ مُدَّةٍ فَهَذِهِ الْإِجَارَةُ تَجُوزُ حَالًا وَمُؤَجَّلَةً ، فَإِنْ رَدُّوهُ إِلَيْهَا لَمْ يَصِحَّ ، وَضَرْبٌ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا لَا تَتَقَدَّرُ إِلَّا بِالْمُدَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْمُدَّةِ فِيهَا لِتَصِيرَ الْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةٌ فِيهَا ، وَلَا يَصِحُّ رَدُّ السَّلَمِ إِلَيْهَا : لِأَنَّ السَّلَمَ لَمَّا تَقَدَّرَ بِغَيْرِ مُدَّةٍ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ اشْتِرَاطُ الْمُدَّةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ مَوْضُوعَ السَّلَمِ ارْتِفَاقُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِهِ فِي إِسْقَاطِ الْأَجَلِ إِبْطَالُ مَوْضُوعِهِ فَهَذِهِ حُجَّةُ تُقْلَبُ عَلَيْهِمْ ، فَيُقَالُ : لَمَّا كَانَ مَا وُضِعَ لَهُ السَّلَمُ مِنْ رِفْقِ الْمُشْتَرِي بِالِاسْتِرْخَاصِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ دِينَارًا فِيمَا يُسَاوِي دِرْهَمًا جَازَ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا وَضَعَ لَهُ مِنْ رِفْقِ الْبَائِعِ بِالْأَجَلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ ، وَلَوْ أَسْلَمَ حَالًا جَازَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهُ إِنَّمَا اخْتَصَّ بِاسْمِ السَّلَمِ لِاسْتِحْقَاقِ الْأَجَلِ فَدَعْوَى غَيْرِ مُسَلَّمٍ ، بَلْ سُمِّي سَلَمًا لِاسْتِحْقَاقِ تَسْلِيمِ جَمِيعِ الثَّمَنِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ السَّلَمِ حَالًا وَمُؤَجَّلًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْأَصْلُ فِيهِ وقت السَّلَم التَّأْجِيلُ وَالْحُلُولُ رُخْصَةٌ ، أَوِ الْأَصْلُ فِيهِ الْحُلُولُ وَالتَّأْجِيلُ رُخْصَةٌ ؛ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّأْجِيلُ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهِ ، وَالْحُلُولُ رُخْصَةٌ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحُلُولُ لِانْتِفَاءِ الْغَرَرِ فِيهِ ، وَالتَّأْجِيلُ رُخْصَةٌ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا ، وَجَوَازِ السَّلَمِ مَعَهُمَا ، وَلِهَذَا الْخِلَافُ تَأْثِيرٌ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى :

مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : وَالَّذِي اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنْ لَا يُسَلِّفَ جُزَافًا حكم السلف جزافا مِنْ ثِيَابٍ ، وَلَا غَيْرِهَا وَلَوْ كَانَ دِرْهَمًا حَتَّى يَصِفَهُ بِوَزْنِهِ وَسَكَّتِهِ ، وَبِأَنَّهُ وَضَحٌ أَوْ أَسْوَدُ ، كَمَا يَصِفُ مَا أَسْلَمَ فِيهِ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : فَقَدْ أَجَازَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ يَدْفَعَ سِلْعَتَهُ غَيْرَ مَكِيلَةٍ وَلَا مَوْزُونَةٍ فِي سَلَمٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَهَذَا أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . إِذَا كَانَ الثَّمَنُ فِي السَّلَمِ مُشَاهَدًا ، فَهَلْ يَلْزَمُ صِفَتُهُ جِنْسًا وَقَدْرًا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ السَّلَمِ صِفَةُ الثَّمَنِ ، كَمَا أَنَّ صِحَّتَهُ صِفَةُ الْمُثَمَّنِ : وَلِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ : لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ وُجُودِ السَّلَمِ فَيَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ، وَبَيْنَ عَدَمِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةُ بِثَمَنِهِ ، وَمَا اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِبَدَلِهِ لَمْ تُغْنِ مُشَاهَدَتُهُ عَنْ صِفَتِهِ كَالْقَرْضِ وَمَالِ الْقِرَاضِ لَمَّا اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِبَدَلِهِ ، افْتَقَرَ إِلَى صِفَةِ جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ ، وَلَمْ تُغْنِ الْمُشَاهَدَةُ عَنْ صِفَتِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ ، أَنَّ مُشَاهَدَةَ الثَّمَنِ فِي السَّلَمِ تُغْنِي عَنْ صِفَتِهِ . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ ، وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ " فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ يَحْتَاجُ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ لَبَيَّنَهَا لَهُمْ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا كَمَا بَيَّنَ صِفَةَ السَّلَمِ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا : وَلِأَنَّ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ قَدْ يَكُونُ الثَّمَنُ فِيهَا مُعَيَّنًا تَارَةً فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الصِّفَةِ ، وَفِي الذِّمَّةِ تَارَةً فَيَفْتَقِرُ إِلَى الصِّفَةِ ، كَذَلِكَ السَّلَمُ لَمَّا تَعَيَّنَ فِيهِ الثَّمَنُ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الصِّفَةِ وَلَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ الثَّمَنُ افْتَقَرَ إِلَى الصِّفَةِ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا افْتَقَرَ إِلَى الصِّفَةِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الصِّفَةِ . وَلَوْ قَلَبَ هَذَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ لَكَانَ أَوْلَى : لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِبَدَلِ مَالِهِ مِثْلٌ أَسْهَلُ مِنَ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ صِفَةَ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلُ مُسْتَحِقِّهِ لِيَعْلَمَ بِهَا الْقِيمَةَ ، وَصِفَةَ مَالِهِ مِثْلَ غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقِيمَةِ ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا بَطَلَ مَا قَالَهُ ، وَلَيْسَ إِلَّا وَاحِدٌ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِمَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ الصِّفَةَ فِي كُلِّ الثَّمَنِ أَوْ لَا يَسْتَحِقُّ فِي كُلِّ الثَّمَنِ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَنِ فِي السَّلَمِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مُشَاهَدًا مَوْصُوفًا ، الثَّمَنِ فِي السَّلَمِ فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِانْتِفَاءِ الْجَهَالَةِ عَنْهُ بِمُشَاهَدَتِهِ وَانْتِفَاءِ الْغَرَرِ عَنْهُ بِصِفَتِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُشَاهَدٍ وَلَا مَوْصُوفٍ ، فَهَذَا بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِلْجَهَالَةِ بِهِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا غَيْرَ مُشَاهَدٍ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ يَصِفُهَا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ يَصِفُهَا ، ثُمَّ يَتَقَابَضَا الدَّنَانِيرَ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ . فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ رَجَاءٍ الْبَصْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ سَلَمٌ بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ كِلَا الْبَدَلَيْنِ مَوْصُوفًا ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ لَمَّا كَانَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ فِيهِ مَوْصُوفًا وَهُوَ الثَّمَنُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ الْآخَرُ مَوْصُوفًا وَهُوَ الْمُثَمَّنُ . وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ : إِنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ : لِأَنَّ مَا كَانَ مَوْصُوفًا وَأُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى صِفَتِهِ اسْتُغْنِيَ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ كَالثَّمَنِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ . وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُشَاهَدًا غَيْرَ مَوْصُوفٍ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدْ أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ الَّتِي قَدْ شَاهَدْتَهَا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ مِنْ حَالِهَا وَصِفَتِهَا ، فَهَذَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ : إِنَّ صِفَةَ الثَّمَنِ شَرْطٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَائِزٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ صِفَةَ الثَّمَنِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ . ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ : إِحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَ فِي السَّلَمِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ وَلَا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ ، حكمه فَيَكُونُ جَوَازُ السَّلَمِ إِذَا كَانَ هَذَا ثَمَنًا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ صِفَةَ الثَّمَنِ الْمُشَاهَدِ شَرْطٌ : لِأَنَّ صِفَتَهُ مُقَدَّرَةٌ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُسْلِمَ شَيْئًا وَاحِدًا فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ حكمه كَمَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ ، أَوْ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابِ قُطْنٍ وَخَمْسَةِ أَثْوَابِ كَتَّانٍ فَيَكُونُ السَّلَمُ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ قِسْطَ كُلِّ جِنْسٍ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ فِيهِ الْوَصْفَ الثَّمَنُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَصِحُّ السَّلَمُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قِسْطَ كُلِّ جِنْسٍ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي

لَا يُوجِبُ فِيهِ وَصْفَ الثَّمَنِ ، فَأَمَّا إِنِ اسْتَلَمَ مِائَةَ دِينَارٍ فِي عَشَرَةِ أَكَرَارٍ حِنْطَةً لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَذْكُرَ قِسْطَ كُلِّ كُرٍّ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا : لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَالثَّمَنَ عَلَى أَجْزَائِهِ مُتَقَسَّطٌ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُسْلِمَ ثَمَنًا وَاحِدًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إِلَى أَجَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ حكمه كَأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي كُرَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ : أَحَدُهُمَا : إِلَى أَجَلِ شَهْرٍ ، وَالْآخَرُ إِلَى أَجَلِ شَهْرَيْنِ ، أَوْ أَحَدُهُمَا حَالٌ وَالْآخَرُ مُؤَجَّلٌ ، فَيَكُونُ السَّلَمُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ فِيهِ وَصْفَ الثَّمَنِ حَتَّى يُمَيِّزَ ثَمَنَ الْحَالِ مِنْ ثَمَنِ الْمُؤَجَّلِ : لِأَنَّ ثَمَنَهُمَا مُخْتَلِفٌ فَلَا يَصِيرُ مَعْلُومَا الْقَدْرِ إِلَّا بِالْوَصْفِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُوجِبُ فِيهِ وَصْفَ الثَّمَنِ . وَلَكِنْ لَوْ أَسْلَمَ فِي كُرَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بِأَحَدِهِمَا رَهْنًا وَضَمِينًا جَازَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قِسْطَ مَا يَأْخُذُ فِيهِ الرَّهْنَ مِنْ غَيْرِهِ : لِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِالثَّمَنِ .

مَسْأَلَةٌ : ( وَقَالَ الْمُزَنِيُّ ) وَالَذِي أَحْتَجُّ بِهِ فِي تَجْوِيزِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ حكمه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسَلَّفَ بَكْرًا فَصَارَ بِهِ عَلَيْهِ حَيَوَانًا مَضْمُونًا ، وَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَاعَ جَمَلًا بِعِشْرِينَ جَمَلًا إِلَى أَجَلٍ ، وَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ اشْتَرَى رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ إِلَى أَجَلٍ ( قَالَ الْمُزَنِيُّ ) قُلْتُ أَنَا : وَهَذَا مِنَ الْجُزَافِ الْعَاجِلِ فِي الْمَوْصُوفِ الْآجِلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا الْفَصْلُ حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَرَادَ بِهِ الشَّافِعِيُّ شَيْئًا ، وَأَرَادَ بِهِ الْمُزَنِيُّ غَيْرَهُ ، فَأَمَّا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِهِ ؛ فَهُوَ جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ . احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ ، وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ " فَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا يُقَدَّرُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ شَرْطًا فِي جَوَازِ السَّلَمِ ، وَبِمَا رَوَى قَتَادَةُ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ سَمُرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً ، فَمَنَعَ مِنَ النِّسَاءِ فِيهِ : لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، وَمَا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ . وَرَوَى جَابِرٌ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ وَاحِدٍ بِاثْنَيْنِ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِيهِ نِسَاءٌ .

قَالُوا : وَلِأَنَّ الْجُلُودَ وَالْأَكَارِعَ وَالرُّءُوسَ بَعْضُ الْحَيَوَانِ ، وَالسَّلَمُ فِيهَا لَا يَجُوزُ ، فَلِأَنْ لَا يَجُوزَ السَّلَمُ فِي جَمِيعِهِ أَوْلَى ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ فِي بَعْضِهِ لَمْ يَجُزِ السَّلَمُ فِي كُلِّهِ كَالْجَوَاهِرِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَجْمَعُ أَشْيَاءً مُتَغَايِرَةً : لِأَنَّهُ يَجْمَعُ لَحْمًا وَشَحْمًا وَجِلْدًا وَعَظْمًا . وَمَا اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ وَتَغَايَرَتْ أَخْلَاطُهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ كَالْمَعْجُونَاتِ وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ . قَالُوا : وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ : لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْإِبِلِ الْعَوَامِلِ ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قُوَّتُهُ وَصَبْرُهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّوَائِمِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ كَثْرَةُ الدَّرِّ وَصِحَّةِ النِّتَاجِ ، وَإِنْ كَانَ لِلرُّكُوبِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ سُرْعَةُ الْمَشْيِ وَوَطْءُ الظَّهْرِ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ثِقَتُهُ وَخِدْمَتُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا جَمَالُ مَحَاسِنِهَا ، وَحَلَاوَةُ شَمَائِلِهَا ، وَعِفَّةُ فَرْجِهَا ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَوْصَافِ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ ، بَلْ هِيَ بِغَيْرِ الْمُشَاهَدَةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ إِلَّا بِالتَّجْرِبَةِ وَالْخِبْرَةِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فِي جَوَازِ السَّلَمِ فِيهِ ؛ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَّزَ جَيْشًا فَعَزَّتِ الِإِبِلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ . فَلَمَّا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَرْضًا لِظُهُورِ الْفَضْلِ فِيهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سَلَمٌ ، وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ عَبْدًا بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْهِجْرَةِ فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِعْنِيهِ . فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ . وَلِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ صَحَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ مَهْرًا صَحَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا ، كَالثِّيَابِ طَرْدًا وَالْجَوْهَرِ عَكْسًا ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا كَالْحِنْطَةِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا فِيهِ كَالنِّكَاحِ وَالْكِتَابَةِ ، وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ يَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ فَجَازَ فِيهِ السَّلَمُ كَالْحُبُوبِ . وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ مَضْبُوطُ الصِّفَةِ شَرْعًا وَعُرْفًا ، أَمَّا الشَّرْعُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ الْآيَةَ ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [ الْبَقَرَةِ : : ] . قَالَ قَتَادَةُ : مَعْنَاهُ الْآنَ ثَبَتَ الْحَقُّ . فَلَوْلَا أَنَّ الصِّفَةَ مَضْبُوطَةٌ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَيَانٌ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا تَصِفُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا " .

لَوْلَا أَنَّ الْوَصْفَ لَهَا يَقُومُ مَقَامَ النَّظَرِ إِلَيْهَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ . وَأَمَّا الْعُرْفُ فَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ كَانَتْ تَكْتَفِي بِالصِّفَةِ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ ، حَتَّى وَصَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَاتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ ، وَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَعْرِضُوا فَرَسًا لِلْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ وَصَفُوهُ صِفَةً تُغْنِي عَنِ الْمُشَاهَدَةِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : " مِنْ وَصْفِكَ فَقَدْ سَمَّاكَ الْعَرَبُ " وَإِذَا ضَبَطَ صِفَةَ الْحَيَوَانِ بِأَيِّ صِفَةٍ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ ؛ صَحَّ فِيهِ السَّلَمُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوْصُوفَاتِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ النَّهْيِ بِدَلَالَةِ جَوَازِ السَّلَمِ فِيمَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ مِنَ الْمَزْرُوعِ وَالْمَعْدُودِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرَي سَمُرَةَ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ لِأَجْلِ النِّسَاءِ ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ مِنْهُ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بِالصِّفَةِ فَلَمْ يَسْلَمِ الدَّلِيلُ مِنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النِّسَاءِ إِذَا كَانَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا . فَصْلٌ : فَأَمَّا قَصْدُ الْمُزَنِيُّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مُشَاهَدَةَ الثَّمَنِ تُغْنِي عَنِ الصِّفَةِ : لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ فِيهَا أَنَّهُمْ وَصَفُوا مَا دَفَعُوهُ مِنَ الْحَيَوَانِ سَلَفًا ، فَاقْتَصَرُوا عَلَى الْمُشَاهَدَةِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ لَيْسَ بِدَلِيلٍ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ ، فَاقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى ذِكْرِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ شَرْطَهُ بِالصِّفَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ لَا بُدَّ مِنْ صِفَتِهِ ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ ذِكْرُهَا ، فَكَذَلِكَ الثَّمَنُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَلْزَمَ وَصْفَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ ذِكْرُهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْجِلْدَ لَمَّا لَمْ يَجُزِ السَّلَمُ فِيهِ ، وَهُوَ بَعْضُ الْحَيَوَانِ كَانَ جَمِيعُ الْحَيَوَانِ أَوْلَى فَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ ، وَالْأُصُولُ تَدْفَعُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَيَصِحُّ بَيْعُ الْأُمِّ مَعَ حَمْلِهَا ، فَكَذَا الْجِلْدُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ مِنَ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْحَيَوَانَ يَجْمَعُ أَشْيَاءً مُخْتَلِفَةً فَلَمْ يَجُزِ السَّلَمُ فِيهِ كَالْمَعْجُونَاتِ ، فَهُوَ أَنَّ جُمْلَةَ الْحَيَوَانِ مَقْصُودٌ ، وَلَيْسَ تَقْدِيرُ مَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِهِ مَقْصُودٌ ، وَهُوَ مُتَشَاغِلُ الْخِلْقَةِ وَكُلُّ مَا فِيهِ مُقَدَّرٌ ، وَلَيْسَ كَالْمَعْجُونَاتِ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا تَقْدِيرُ أَنْوَاعِهَا وَإِذَا صَبَغَهَا الْآدَمِيُّونَ أَمْكَنَهُمْ زِيَادَةُ جِنْسٍ وَنُقْصَانُ غَيْرِهِ فَاخْتَلَفَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطِ الصِّفَةِ ، فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ مَضْبُوطُ الصِّفَةِ بِالشَّرْعِ وَالْعُرْفِ ، فَدَلَّ بِمَا ذَكَرْنَا عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ ، وَهُوَ مَا قَصَدَهُ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْفَصْلِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ ، فَكَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي السَّلَمِ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ ، سَوَاءً كَانَ مِنْ جِنْسِهِ كَالْإِبِلِ سَلَمًا فِي الْإِبِلِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا كَالْإِبِلِ سَلَمًا فِي الْبَقَرِ ، إِلَّا الْجَوَارِي سَلَمًا فِي الْجَوَارِي فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110