كتاب : الحاوي في فقه الشافعي
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

فَنَوَّعَ الْبَيْعَ نَوْعَيْنِ : نَوْعًا أَثْبَتَ فِيهِ الْخِيَارَ بِالشَّرْطِ ، وَنَوْعًا نَفَى عَنْهُ الْخِيَارَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ كَالنِّكَاحِ . وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ فِيهِ خِيَارُ مَجْلِسٍ كَالنِّكَاحِ . وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ كَالْكِتَابَةِ . وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ مَجْهُولٌ ، لَمْ يُوجِبْهُ نَقْصٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ فِي الْبَيْعِ كَالْمَشْرُوطِ مِنَ الْخِيَارِ الْمَجْهُولِ . وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ التَّفَرُّقِ إِنَّمَا هُوَ الْفَسْخُ لَا اللُّزُومُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا إِذَا تَصَارَفَا ، ثُمَّ افْتَرَقَا ، مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ، بَطَلَ الصَّرْفُ ، وَإِذَا كَانَ تَأْثِيرُ التَّفَرُّقِ هُوَ الْفَسْخَ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْزَمَ بِهِ الْعَقْدُ : لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مُؤَثِّرًا فِي فَسْخِ الْعَقْدِ وَفِي إِلْزَامِهِمَا مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ : وَلِأَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا لَزِمَ بِتَرَاضِيهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : اخْتَرِ الْبَيْعَ ، فَيَخْتَارُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْزَمَ بِتَرَاضِيهِمَا حَالَ الْعَقْدَ ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، لِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ ، إِنَّمَا هُوَ رِضًا مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا عِنْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مُكْرَهَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ . فَصْلٌ : وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ : ثُبُوتُ السُّنَّةِ بِهِ مِنْ خَمْسَةِ طُرُقٍ : فَأَحَدُهَا : حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ ، وَهُوَ وَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ . وَالثَّانِي : مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ . فَأَمَّا نَافِعٌ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا " . وَالثَّانِي : رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِذَا تَبَايَعَ الْمُتَبَايِعَانِ الْبَيْعَ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مِنْ بَيْعِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ ، فَإِنْ كَانَ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ " . قَالَ نَافِعٌ : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا ابْتَاعَ الْبَيْعَ ، فَأَرَادَ أَنْ يُوجِبَ الْبَيْعَ مَشَى قَلِيلًا ثُمَّ رَجَعَ . وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " الْبَيِّعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ ، فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ " .

وَالثَّانِي : رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ وَكِيعٍ عِنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " كُلُّ بَيِّعَيْنِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا ، أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : اخْتَرْ " . وَالثَّانِي : حَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ جَمِيلِ بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ أَبِي الْوَضِيءِ قَالَ : كُنَّا فِي غَزَاةٍ ، فَبَاعَ صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ ، فَلَمَّا أَرَدْنَا الرَّحِيلَ خَاصَمَهُ فِيهِ إِلَى أَبِي بَرْزَةَ ، فَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا " . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُبَيِّنُ هَذَا ، لَمْ يَحْضُرْ يَحْيَى بْنَ حَسَّانَ حِفْظُهُ ، وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ : أَنَّهُمَا بَاتَا لَيْلَةً ، ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا أَرَاكُمَا تَفَرَّقْتُمَا ، وَجَعَلَ لَهُمَا الْخِيَارَ إِذَا بَاتَا مَكَانًا وَاحِدًا بَعْدَ الْبَيْعِ . وَالثَّالِثُ : حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا وَجَبَتِ الْبَرَكَةُ فِي بَيْعِهِمَا ، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتِ الْبَرَكَةُ مِنْ بَيْعِهِمَا " . وَالرَّابِعُ : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ . رَوَاهُ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ ثَلَاثًا " لَا يَفْتَرِقَنَّ بَيِّعَانِ إِلَّا عَنْ تَرَاضٍ " . وَالْخَامِسُ : حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ : وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي دَلِيلِ الْمُخَالِفِ . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا بِصَرِيحِ الْقَوْلِ وَدَلِيلِهِ عَلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أمده لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعًا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِالْأَبْدَانِ ، أَوْ يَجْعَلَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ الْخِيَارَ ، فَيَخْتَارُ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخِيَارَ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِالْكَلَامِ : فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالِافْتِرَاقِ افْتِرَاقُ الْكَلَامِ دُونَ افْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَعْدَ بَذْلِ الْبَائِعِ فِي أَنْ يَقْبَلَ أَوْ لَا يَقْبَلَ ، وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي فِي أَنْ يَرْجِعَ فِي الْبَذْلِ أَوْ لَا يَرْجِعَ ، فَإِذَا قَبِلَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَكُنْ قَدْ رَجَعَ الْبَائِعُ ، فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ ، وَانْقَطَعَ الْخِيَارُ سَوَاءٌ افْتَرَقَا بِالْأَبْدَانِ أَوْ لَمْ يَفْتَرِقَا .

قَالُوا : وَهَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى افْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَعْهُودُ الِافْتِرَاقِ فِي الشَّرْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [ النِّسَاءِ : ] يَعْنِي : بِالطَّلَاقِ وَالطَّلَاقُ كَلَامٌ . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً " يَعْنِي : فِي الْمَذَاهِبِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْكَلَامِ حَقِيقَةٌ ، وَعَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ مَجَازٌ : لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخِيَارَ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ ، وَهُمَا يُسَمَّيَانِ فِي حَالِ الْعَقْدِ مُتَبَايِعَيْنِ حَقِيقَةً ، وَبَعْدَ الْعَقْدِ مَجَازًا ، كَمَا يُقَالُ : ضَارِبٌ ، فَيُسَمَّى بِذَلِكَ فِي حَالِ الضَّرْبِ حَقِيقَةً ، وَبَعْدَ الضَّرْبِ مَجَازًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَرُّقُ بِالْكَلَامِ دُونَ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ : دَلِيلٌ ، وَانْفِصَالٌ . فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ دُونَ الْكَلَامِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ التَّفَرُّقَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنِ اجْتِمَاعٍ ، فَإِذَا تَفَرَّقَا بِالْأَبْدَانِ بَعْدَ الْبَيْعِ ، كَانَ تَفَرُّقًا عَنِ اجْتِمَاعٍ فِي الْقَوْلِ حِينَ الْعَقْدِ وَعَنِ اجْتِمَاعٍ بِالْأَبْدَانِ . وَلَا يَصِحُّ تَفَرُّقُهُمَا بِالْكَلَامِ ، لِأَنَّهُمَا حَالَ التَّسَاوُمِ مُفْتَرِقَانِ ، لِأَنَّ الْبَائِعَ يَقُولُ : لَا أَبِيعُ إِلَّا بِكَذَا ، وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ : لَا أَشْتَرِي إِلَّا بِكَذَا . فَإِذَا تَبَايَعَا فَقَدِ اجْتَمَعَا فِي الْقَوْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَا مُفْتَرِقَيْنِ فِيهِ . وَهَذِهِ دَلَالَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ بَذْلِ الْبَائِعِ وَقَبْلَ قَبُولِهِ مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ ، إِذْ لَوْ سَقَطَ خِيَارُهُ بِبَذْلِ الْبَائِعِ لَوَجَبَتِ الْبِيَاعَاتُ جَبْرًا بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ بَعْدَ اخْتِيَارٍ ، وَلَأَفْضَى الْأَمْرُ فِيهَا إِلَى ضَرَرٍ وَفَسَادٍ ، وَالْخِيَارُ بَعْدَ الْبَيْعِ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ إِلَّا بِالْخَبَرِ ، فَكَانَ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى مَا لَمْ يُسْتَفَدْ إِلَّا مِنْهُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا اسْتُفِيدَ بِالْإِجْمَاعِ ، لِأَنْ لَا يَعْرَى الْخَبَرُ مِنْ فَائِدَةٍ . وَهَذِهِ دَلَالَةُ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا وَرَدَ ، وَكَانَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ ، وَكَانَ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا بِالْإِجْمَاعِ لَا هُمَا مَعًا ، وَلَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ تَمْيِيزُ الْمُرَادِ مِنْهُمَا ، كَانَ مَا صَارَ إِلَيْهِ الرَّاوِي هُوَ الْمُرَادَ بِهِ دُونَ الْآخَرِ ، فَلَمَّا كَانَ الِافْتِرَاقُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الِافْتِرَاقُ بِالْكَلَامِ مَعَ بُعْدِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِافْتِرَاقَ بِالْأَبْدَانِ مَعَ ظُهُورِهِ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ ، وَأَبُو بَرْزَةَ ، وَهُمَا مِنْ رُوَاةِ الْخَبَرِ

يَذْهَبَانِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوجِبَ الْبَيْعَ مَشَى قَلِيلًا ثُمَّ رَجَعَ ، وَأَبُو بَرْزَةَ قَالَ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ حِينَ بَاتَا لَيْلَةً ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهِ قَالَ : مَا أَرَاكُمَا تَفَرَّقْتُمَا عَنْ رِضًا مِنْكُمَا بِبَيْعٍ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ دُونَ الْمَعْنَى الْآخَرِ . وَهَذِهِ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَأَرِيقُوهُ ، وَاغْسِلُوهُ سَبْعًا " ثُمَّ أَفْتَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالثَّلَاثِ ، فَلَمْ تَصِيرُوا إِلَى قَوْلِهِ ، وَاسْتَعْمَلْتُمُ الْخَبَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ . قِيلَ : نَحْنُ لَا نَقْبَلُ قَوْلَ الرَّاوِي فِي التَّخْصِيصِ ، وَلَا فِي النَّسْخِ ، وَلَا فِي الْإِسْقَاطِ ، وَإِنَّمَا نَقْبَلُهُ فِي تَفْسِيرِ أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا . وَقَوْلُهُ : " اغْسِلُوهُ سَبْعًا " يَقْتَضِي وُجُوبَ الْغَسْلِ سَبْعًا ، وَفَتْوَى أَبِي هُرَيْرَةَ بِالثَّلَاثِ إِسْقَاطٌ لِبَاقِي السَّبْعِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، وَكَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ . فَلَمْ نَقْضِ بِمَذْهَبِهِ عَلَى رِوَايَتِهِ : لِأَنَّ فِيهِ تَخْصِيصًا ، وَقَوْلُ الرَّاوِي لَا يُقْبَلُ فِي التَّخْصِيصِ . عَلَى أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أَحْمِلُهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا ، فَأَحْمِلُهُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْكَلَامِ ، وَعَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ ، فَأَجْعَلُ لَهُمَا فِي الْحَالَيْنِ الْخِيَارَ بِالْخَبَرِ . وَهَذَا صَحِيحٌ لَوْلَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُهُمَا . فَأَمَّا الِانْفِصَالُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ مَعْهُودَ الِافْتِرَاقِ إِنَّمَا هُوَ بِالْكَلَامِ دُونَ الْأَبْدَانِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا تَأْوِيلٌ مُسْتَحْدَثٌ يَدْفَعُهُ إِجْمَاعُ مَنْ سَلَفَ : لِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ السِّلْفِ حَمَلَهُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ ، حَتَّى أَنَّ مَالِكًا رَوَى الْخَبَرَ ، فَقِيلَ لَهُ : فَلِمَ خَالَفْتَهُ ؟ قَالَ : وَجَدْتُ عَمَلَ بَلَدِنَا بِخِلَافِهِ . وَرُوِيَ لِأَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ : أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ فَحَصَلَ التَّسْلِيمُ مِنْهُمَا ، إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ ، وَلَمْ يَتَنَازَعَا فِي تَأْوِيلِهِ ، وإنَّمَا ذَكَرَا شُبْهَةً وَاهِيَةً فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ يَجْتَمِعُ السَّلَفُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ لَكَانَ هُوَ حَقِيقَةَ التَّفَرُّقِ فِي اللِّسَانِ ، وَالشَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَ رُبَّمَا اسْتُعْمِلَ فِي التَّفَرُّقِ بِالْكَلَامِ اسْتِعَارَةً وَمَجَازًا ، وَقَدْ حَكَى الرِّيَاشِيُّ ذَلِكَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَشَاهِدُ ذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ .

عَلَى أَنَّ هَذَا وَإِنْ سَاغَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى وَهَنٍ وَضَعْفٍ ، فَلَيْسَ يَسُوغُ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ : لِأَنَّ النَّصَّ يَدْفَعُهُ مِنْ قَوْلِهِ : أَوْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ : اخْتَرْ ، فَإِنَّ مَا بَعْدَ ذَلِكَ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهُ . وَأَمَّا الِانْفِصَالُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْخِيَارِ حِينَ التَّسَاوُمِ حَقِيقَةٌ ، وَبَعْدَ الْعَقْدِ مَجَازٌ : فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَمْلَهُ عَلَيْهَا وَقْتَ التَّسَاوُمِ مَجَازٌ : وَبَعْدَ الْعَقْدِ حَقِيقَةٌ لُغَةً وَشَرْعًا : فَأَمَّا اللُّغَةُ : فَلِأَنَّ الْبَيْعَ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلٍ ، وَالْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ مِنَ الْأَفْعَالِ لَا تَنْطَلِقُ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْأَفْعَالِ ، كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ : لَا يَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّى بِهِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ ، كَذَلِكَ الْبَائِعُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْعِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْبَيْعِ مِنْهُ ، وَالْبَيْعُ إِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ الْعَقْدِ ، فَأَمَّا حِينَ التَّسَاوُمِ فَلَا . فَأَمَّا الشَّرْعُ ، فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إِذَا بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ حكم العتق في هذه الحالة لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ بِالْمُسَاوَمَةِ ، فَإِذَا تَمَّ الْعَقْدُ عَتَقَ عَلَيْهِ ، فَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا بَاعَهُ بَيْعًا لَا خِيَارَ فِيهِ ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْعَقْدِ ، وَانْقَطَعَ خِيَارُهُ ، فَلَمْ يُعْتِقْ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَسْمِيَتَنَا لَهُ بَائِعًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْبَيْعِ ، إِنْ كَانَ مَجَازًا مِنْ حَيْثُ يُقَالُ : كَانَا مُتَبَايِعَيْنِ ، فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ وَقْتَ التَّسَاوُمِ مَجَازٌ أَيْضًا حَتَّى يُوجَدَ الْقَبُولُ ، وَإِلَّا فَيُقَالُ : سَيَكُونَانِ مُتَبَايِعَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا فِيهِمَا جَمِيعًا ، كَانَ مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِاسْمَ وَإِنِ انْطَلَقَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ مَجَازًا ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ بِوُجُودِ الْبَيْعِ ، وَهُوَ قَبْلَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ ، لِجَوَازِ أَنْ لَا يَتِمَّ الْبَيْعُ . وَالثَّانِي : أَنَّ اسْمَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ ، كَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ ، فَلَا يُوجَدُ الْمُشْتَرِي إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ الْبَائِعِ ، وَلَا يُوجَدُ الْبَائِعُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ الْمُشْتَرِي ، فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ بَعْدَ الْبَذْلِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ يُسَمَّى بَائِعًا ، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ قَبْلَ الْقَبُولِ يُسَمَّى مُشْتَرِيًا ، فَلَمَّا لَمَّ يُسَمَّ الطَّالِبُ مُشْتَرِيًا إِلَّا بَعْدَ الْقَبُولِ ، لَمْ يُسَمَّ الْبَاذِلُ بَائِعًا إِلَّا بَعْدَ الْقَبُولِ . عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ إِنَّمَا يُسَوَّغُ مَعَ وِهَايَةٍ فِي قَوْلِهِ : " الْمُتَبَايِعَانِ " فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ " الْبَيِّعَانِ " فَلَا يُسَوَّغُ فِيهِ . فَنَسْتَعْمِلُ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَنَحْمِلُهُ عَلَى اخْتِلَافِ مَعْنَيَيْنِ ، فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا . فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ وَالِانْفِصَالِ ، وَاسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوُجُوهِ فِي أَدِلَّةِ الْأَخْبَارِ . فَأَمَّا الْمَعْنَى النَّظَرِيُّ فَهُوَ أَنَّهُ خِيَارٌ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ حُكْمُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ ، أَصْلُهُ خِيَارُ الثَّلَاثِ .

وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلتَّفَرُّقِ تَأْثِيرٌ فِيهِ ، كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ . وَلِأَنَّ الْخِيَارَ أنواعه ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ ، وَضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ . ثُمَّ كَانَ الْخِيَارُ الْمُتَعَلِّقُ بِالصِّفَاتِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ وَجَبَ بِالشَّرْطِ وَقِسْمٌ وَجَبَ بِالشَّرْعِ . فَالْقِسْمُ الْوَاجِبُ بِالشَّرْطِ : أَنْ يَبْتَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ صَانِعٌ ، فَيَجِدُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، فَيَجِبُ لَهُ الْخِيَارُ لِعَدَمِ الْفَضِيلَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالشَّرْطِ . وَالْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ : هُوَ خِيَارُ الْعَيْبِ لِنَقْصٍ وَجَدَهُ عَنْ حَالِ السَّلَامَةِ ، فَيَجِبُ لَهُ الْخِيَارُ بِالشَّرْعِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ الْمُتَعَلِّقُ بِالزَّمَانِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ وَجَبَ بِالشَّرْطِ : وَهُوَ خِيَارُ الثَّلَاثِ . وَقِسْمٌ وَجَبَ بِالشَّرْعِ : وَهُوَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ جِنْسَيِ الْخِيَارِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ نَوْعَيْنِ : شَرْطًا وَشَرْعًا : قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الصِّفَاتِ : وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ بِهِ تَمْلِيكُ الْمَالِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ كَالْهِبَةِ . وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ بَذْلٌ وَقَبُولٌ ، فَلَمَّا ثَبَتَ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبَذْلِ ، وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بَعْدَ الْقَبُولِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ قَوْلُ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ ، فَوَجَبَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ بَعْدَهُ كَالْبَذْلِ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِشْهَادُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فِي الْحَالِ الَّتِي يَلْزَمُ فِيهَا الْعَقْدُ . وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشْهَادًا عَلَى الْعَقْدِ وَوَثِيقَةً فِيهِ [ كَمَا أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ ، يَكُونُ بَعْدَ تَقَضِّي الثَّلَاثِ ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشْهَادًا عَلَى الْعَقْدِ وَوَثِيقَةً فِيهِ ] . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، وَقَوْلِهِ " وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ " فَهُوَ أَنَّ لِهَذَا اللَّفْظِ ظَاهِرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ . وَالثَّانِي : حُجَّةٌ لَهُمْ . فَقَوْلُهُ " وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ " حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَقَعْ لَازِمًا ، وَأَنَّ فِيهِ خِيَارًا يَسْقُطُ بِالتَّفَرُّقِ . وَقَوْلُهُ " خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ " حُجَّةٌ لَهُمْ ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِالْإِقَالَةِ . فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِ الظَّاهِرَيْنِ لِتَعَارُضِهِمَا ، فَكَانَ تَغْلِيبُ الظَّاهِرِ فِي إِثْبَاتِ الْخِيَارِ أَحَقَّ لِأَمْرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَوَّلَ الْخَبَرِ يَقْتَضِيهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ " الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ " . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ التَّبَايُعِ وَتَبْطُلُ بِالتَّفَرُّقِ : لِجَوَازِهَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ كَجَوَازِهَا قَبْلَهُ . وَإِنَّمَا الْخِيَارُ يَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ وَيَبْطُلُ بِالتَّفَرُّقِ ، فَصَحَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ " الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ " فَهُوَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ : لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ ، وَلَوْ صَحَّ لَاحْتَمَلَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ عَنْ صَفْقَةٍ وَخِيَارٍ : لِأَنَّهُ قَسَّمَ الْبَيْعَ إِلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : صَفْقَةٌ ، وَالثَّانِي : خِيَارٌ . وَالْخِيَارُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ بَيْعًا إِلَّا مَعَ الصَّفْقَةِ ، فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَاهُ عَنْ صَفْقَةٍ وَخِيَارٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْبَيْعَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : ضَرْبٌ : فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ . وَضَرْبٌ : لَيْسَ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى مُطَرِّفٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّكَاحِ : فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ عَقْدٌ تُبْتَغَى بِهِ الْوَصْلَةُ دُونَ الْمُعَاوَضَةِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الْخِيَارُ الْمَوْضُوعُ : لِارْتِيَادِ أَوْفَرِ الْأَعْوَاضِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَكُنِ الرُّؤْيَةُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ ، وَخَالَفَ سَائِرَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنَ الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ خِيَارَ الثَّلَاثِ لَا يَصِحُّ فِيهِ وَإِنْ صَحَّ فِي غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْكِتَابَةِ : فَهُوَ أَنَّ الْخِيَارَ مَوْضُوعٌ فِي الْعَقْدِ ، لِارْتِيَادِ الْحَظِّ فِيهِ ، وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الْخِيَارُ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ : لِأَنَّهُ قُصِدَ بِهِ إِرْفَاقُ عَبْدِهِ ، لَا طَلَبُ الْحَظِّ لِنَفْسِهِ : إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي بَيْعِ مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ ، فَسَقَطَ خِيَارُهُ . وَلِأَنَّهُ لَيْسَ يُسْتَدْرَكُ بِهِ مَا خَفِيَ عَنْهُ ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَخِيَارُهُ مَمْدُودٌ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْخِيَارِ الْمَجْهُولِ : فَهُوَ أَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ ، وَالْخِيَارُ الْمَجْهُولُ مِنْ مُوجِبَاتِ الشَّرْطِ .

وَفَرْقٌ فِي الْأُصُولِ بَيْنَ مَا ثَبَتَ بِالْعَقْدِ . فَيَصِحُّ فِيهِ الْجَهَالَةُ ، وَمَا ثَبَتَ بِالشَّرْطِ ، فَلَا يَصِحُّ فِيهِ الْجَهَالَةُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ إذا كان مجهولا لَمَّا ثَبَتَ بِالْعَقْدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا ، وَخِيَارُ الْمُدَّةِ لَمَّا ثَبَتَ بِالشَّرْطِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا ، وَكَذَا الْقَبْضُ إِذَا اسْتُحِقَّ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْوَقْتِ وَإِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْوَقْتِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الِافْتِرَاقَ يُؤَثِّرُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لَا فِي لُزُومِهِ كَالصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ : فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ ، لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ فِي الصَّرْفِ مُؤَثِّرٌ فِي لُزُومِهِ كَالْبَيْعِ ، وَلَيْسَ يَقَعُ الْفَسْخُ فِي الصَّرْفِ بِالِافْتِرَاقِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بِعَدَمِ الْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، فَإِذَا تَقَابَضَا ، صَحَّ ، وَلَمْ يَلْزَمْ إِلَّا بِالِافْتِرَاقِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : لَمَّا لَزِمَ الْبَيْعُ بِتَرَاضِيهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ ، فَلِأَنْ يَكُونَ لَازِمًا بِتَرَاضِيهِمَا حِينَ الْعَقْدِ أَوْلَى : فَهُوَ أَنَّ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بَعْدَ الْعَقْدِ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ يَكُونُ بِالصَّمْتِ ، وَنَوْعٌ يَكُونُ بِالنُّطْقِ : فَأَمَّا الرِّضَا بِالصَّمْتِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ ، فَكَذَا الرِّضَا بِالصَّمْتِ حِينَ الْعَقْدِ لَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ . وَأَمَّا الرِّضَا بِالنُّطْقِ بَعْدَ الْبَيْعِ ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : قَدِ اخْتَرْتُ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ ، فَهَذَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ . وَمِثْلُهُ بِالنُّطْقِ فِي حَالِ الْبَيْعِ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ سُقُوطُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ ، فَهَذَا قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ وَيَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : يَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ : لِأَنَّ غَرَرَ الْخِيَارِ يَرْتَفِعُ بِهِ ، وَيَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ : لِأَنَّهُ مُوجِبٌ شَرْطِهِ ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ . وَقَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا تَأَوَّلَهُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ . فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَى حُكْمُ هَذَا الرِّضَا فِي لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ ، وَلَا يَسْقُطُ مَعَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا : لِأَنَّهُ مِنْ مُوجَبِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالشَّرْطِ ، كَالْوَلَاءِ فِي الْعِتْقِ وَالرَّجْعَةِ فِي الطَّلَاقِ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الرِّضَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ إِذَا كَانَ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَلَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ إِذَا كَانَ مَعَ الْعَقْدِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ بَعْدَ الْعَقْدِ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ خِيَارٍ ثَابِتٍ ، فَصَحَّ إِبْطَالُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ . وَحِينَ الْعَقْدِ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ خِيَارٍ غَيْرِ ثَابِتٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ إِبْطَالُهُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ ، كَاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لَمَّا بَطَلَ بَعْدَ الْبَيْعِ لِلرِّضَا بِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ، لَمْ يَبْطُلْ حَالَ الْبَيْعِ مَعَ الرِّضَا بِهِ ، لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ بِهَذَا الشَّرْطِ ، لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِمُوجَبِهِ ، إِذْ مُوجَبُ الْعَقْدِ ثُبُوتُ الْخِيَارِ بِهِ ، وَالشَّرْطُ إِذَا نَافَى مُوجَبَ الْعَقْدِ أَبْطَلَهُ ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، والْبُوَيْطِيِّ وَالْأُمِّ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الرِّضَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَيَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ إِنْ كَانَ مَعَ الْعَقْدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
شروط صحة العقد مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " فَكَلُّ مُتَبَايِعَيْنِ فِي سِلْعَةٍ وَعَيْنٍ وَصَرْفٍ وَغَيْرِهِ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُ الْبَيْعِ حَتَى يَتَفَرَّقَا تَفَرُّقَ الْأَبْدَانِ عَلَى ذَلِكَ ، أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ ، وَإِذَا كَانَ يَجِبُ التَّفرُّقُ بَعْدَ الْبَيْعِ ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ إِذَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ طَاوُسٌ : خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا بَعْدَ الْبَيْعِ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : عَمَّرَكَ اللَّهُ مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " امْرُؤٌ مِنْ قُرَيْشٍ " . ( قَالَ ) فَكَانَ طَاوسٌ يَحْلِفُ مَا الْخِيَارُ إِلَّا بَعْدَ الْبَيْعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ثَبَتَ بِمَا مَضَى خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي الْبُيُوعِ كُلِّهَا ، وَفِي الصَّرْفِ ، وَالسَّلَمِ : لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّ خِيَارَ الثَّلَاثِ وَإِنْ دَخَلَ فِي الْبُيُوعِ ، فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ : لِأَنَّ الْقَبْضَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِمَا ، مَنَعَ مِنْ بَقَاءِ عُلْقِ الْعَقْدِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ، وَخِيَارُ الثَّلَاثِ يُبْقِي عُلْقَ الْعَقْدِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَمُنِعَ مِنْهُ . فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَعَقْدُ الْبَيْعِ يَلْزَمُ بِشَيْئَيْنِ : هُمَا : - الْعَقْدُ . - وَالِافْتِرَاقُ . وَإِذَا كَانَ لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِهِمَا وَجَبَ بَيَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . فَنَبْدَأُ بِبَيَانِ الْعَقْدِ وَحُكْمِهِ ، ثُمَّ بِالِافْتِرَاقِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ بِهِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَقْدُ فَيَصِحُّ بِاعْتِبَارِ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ صحة عقد البيع : أَحَدُهَا : اللَّفْظُ الَّذِي يُعَقَدُ بِهِ . وَالثَّانِي : كَيْفِيَّةُ الْعَقْدِ بِهِ . وَالثَّالِثُ : بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْعَقْدُ تَابِعًا بِهِ . فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يُعَقَدُ بِهِ عقد البيع . فَأَلْفَاظُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ : يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ : وَضَرْبٌ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ : وَضَرْبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ : هَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ أَمْ لَا ؟ فَأَمَّا مَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ ، فَلَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : قَدْ بِعْتُكَ ، وَإِحْدَى لَفْظَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي ، هُمَا : قَوْلُهُ : قَدِ اشْتَرَيْتُ ، أَوْ قَدِ ابْتَعْتُ : لِأَنَّ مَعْنَى الشِّرَاءِ وَالِابْتِيَاعِ سَوَاءٌ .

وَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ : فَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ كَانَ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ، كَقَوْلِهِ : قَدْ أَبَحْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ ، أَوْ قَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَيْهِ ، أَوْ قَدْ أَوْجَبْتُهُ لَكَ ، أَوْ جَعَلْتُهُ لَكَ . كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْبَيْعِ بِهَا : لِاحْتِمَالِهَا ، وَأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهَا . وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ : فَهُوَ قَوْلُهُ : قَدْ مَلَّكْتُكَ . فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ : لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ : تَمْلِيكُ الْمَبِيعِ بِالْعِوَضِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ : بِعْتُكَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ ، لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّ لَفْظَ التَّمْلِيكِ يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ وَيَحْتَمِلُ الْهِبَةَ عَلَى الْعِوَضِ ، فَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ . وَالْأُخْرَى : أَنَّ التَّمْلِيكَ هُوَ حُكْمُ الْبَيْعِ وَمُوجَبُهُ ، فَاحْتَاجَ إِلَى تَقْدِيمِ الْعَقْدِ ، لِيَكُونَ التَّمْلِيكُ يَتَعَقَّبُهُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْعَقْدِ بِأَلْفَاظِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْبَائِعِ خَارِجًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : إِمَّا مَخْرَجَ الْبَذْلِ ، أَوْ مَخْرَجَ الْإِيجَابِ . وَلَفْظُ الْمُشْتَرِي خَارِجًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَيْضًا : إِمَّا مَخْرَجَ الْقَبُولِ ، أَوْ مَخْرَجَ الطَّلَبِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ لَهُمَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بِلَفْظِهِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ : إِحْدَاهُنَّ : أَنْ يَعْقِدَاهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي . وَالثَّانِيَةُ : بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ . وَالثَّالِثَةُ : بِلَفْظِ الْأَمْرِ . فَأَمَّا عَقْدُهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي : فَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ الْبَائِعُ ، فَيَقُولُ : قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي قَدِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ بِهَا ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ : لِأَنَّ قَوْلَ الْبَائِعِ : قَدْ بِعْتُكَ ، يَكُونُ بَذْلًا ، وَقَوْلُ الْمُشْتَرِي : قَدِ اشْتَرَيْتُ ، يَكُونُ قَبُولًا ، وَالْبَيْعُ يَصِحُّ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ . وَكَذَا لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِيَ مُبْتَدِئًا : قَدِ اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ ، فَيَقُولُ الْبَائِعُ : قَدْ بِعْتُكَ بِهَا ، صَحَّ الْبَيْعُ ، وَلَمْ يَحْتَجِ الْمُشْتَرِي إِلَى إِعَادَةِ الْقَبُولِ بَعْدَ بَذْلِ الْبَائِعِ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ : لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ الْمُشْتَرِي إِذَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْقَبُولِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الطَّلَبِ ، وَقَوْلُ الْبَائِعِ إِذَا تَأَخَّرَ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَذْلِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْإِيجَابِ ، وَالْبَيْعُ يَصِحُّ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ ، كَمَا يَصِحُّ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ . فَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ الْبَائِعُ ، فَقَالَ : قَدِ اشْتَرَيْتَ مِنِّي عَبْدِي بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : قَدِ اشْتَرَيْتُهُ ، لَمْ

يَصِحَّ الْبَيْعُ بِهَذَا اللَّفْظِ ، حَتَّى يَقُولَ الْبَائِعُ بَعْدَ ذَلِكَ : قَدْ بِعْتُكَ : لِأَنَّ قَوْلَ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي : قَدِ اشْتَرَيْتَ مِنِّي ، هُوَ اسْتِخْبَارٌ ، وَلَيْسَ بِبَذْلٍ مِنْهُ وَلَا إِيجَابٍ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ بَذْلًا وَلَا إِيجَابًا ، لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الْبَيْعِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ . وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ الْمُشْتَرِي فَقَالَ لِلْبَائِعِ : قَدْ بِعْتَنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : قَدْ بِعْتُكَ ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ ، حَتَّى يَقُولَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ : قَدِ اشْتَرَيْتُ : لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ الْمُشْتَرِي ، لَيْسَ بِقَبُولٍ وَلَا طَلَبٍ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ قَبُولًا وَلَا طَلَبًا ، لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الْبَيْعِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي . وَأَمَّا عَقْدُهُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ : فَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ الْبَائِعُ فَيَقُولُ : سَأَبِيعُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ ، أَوْ يَقُولُ : أَبِيعُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي : اشْتَرَيْتُهُ بِهَا أَوْ سَأَشْتَرِيهِ . أَوْ يَقُولُ الْمُشْتَرِي : تَبِيعُنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ ، فَيَقُولُ : أَبِيعُكَ ، أَوْ يَقُولُ الْبَائِعُ : تَشْتَرِي عَبْدِي بِأَلْفٍ ، فَيَقُولُ : اشْتَرَيْتُهُ ، فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْبَيْعِ بِذَلِكَ : لِأَنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْوَعْدِ . وَهَكَذَا جَمِيعُ مَا تَلَفَّظَا بِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ، لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْبَيْعِ بِهَا لِمَا ذَكَرْنَا . وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ خَارِجًا مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ كَقَوْلِهِ : أَتَشْتَرِي عَبْدِي بِأَلْفٍ ؟ فَيَقُولُ : قَدِ اشْتَرَيْتُهُ ، أَوْ يَقُولُ الْمُشْتَرِي : أَتَبِيعُ عَبْدَكَ بِأَلْفٍ ؟ فَيَقُولُ : قَدْ بِعْتُهُ ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا عَقْدُهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ . فَإِنِ ابْتَدَأَ الْبَائِعُ فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي : اشْتَرِ عَبْدِي بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : قَدِ اشْتَرَيْتُ ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ ، إِلَّا أَنْ يَعُودَ الْبَائِعُ فَيَقُولُ : قَدْ بِعْتُ ، وَلَوِ ابْتَدَأَ الْمُشْتَرِي فَقَالَ لِلْبَائِعِ : بِعْنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : قَدْ بِعْتُكَ بِهَا ، صَحَّ الْبَيْعُ ، وَلَمْ يَحْتَجِ الْمُشْتَرِي إِلَى إِعَادَةِ الْقَبُولِ عِنْدَنَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ مُبْتَدِيًا لِلْمُشْتَرِي : اشْتَرِ عَبْدِي بِأَلْفٍ ، فَيَقُولُ : قَدِ اشْتَرَيْتُ ، فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ لِلْبَائِعِ : بِعْنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ ، فَيَقُولُ : قَدْ بِعْتُكَ بِهَا ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ ، وَإِنْ كَانَ كِلَا اللَّفْظَيْنِ أَمْرًا : أَنَّ الْبَائِعَ إِنَّمَا يُرَادُ مِنْ جِهَتِهِ الْبَذْلُ مُبْتَدِيًا أَوِ الْإِيجَابُ مُجِيبًا ، وَلَفْظُ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ : اشْتَرِ ، لَمْ يُوضَعْ لِلْبَذْلِ وَلَا لِلْإِيجَابِ . وَالْمُشْتَرِي إِنَّمَا يُرَادُ مِنْ جِهَتِهِ الْقَبُولُ مُجِيبًا أَوِ الطَّلَبُ مُبْتَدِيًا ، وَلَفْظُ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ : بِعْنِي ، مَوْضُوعٌ لِلطَّلَبِ وَإِنْ لَمْ يُوضَعْ لِلْقَبُولِ . فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ لَفْظَيِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الِابْتِدَاءِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ عَنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَمَعَانِي الْأَلْفَاظِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُمَا سَوَاءٌ ، إِذَا ابْتَدَأَ الْمُشْتَرِي فَقَالَ : بِعْنِي عَبْدَكَ بِأَلْفٍ ، فَقَالَ الْبَائِعُ :

قَدْ بِعْتُكَ بِهَا ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ ، حَتَّى يَعُودَ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ : قَدِ اشْتَرَيْتُهُ ، فَيَكُونُ هَذَا قَبُولًا ، كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ الْبَائِعُ فَقَالَ : اشْتَرِ عَبْدِي بِأَلْفٍ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَعْنَى اللَّفْظَتَيْنِ كَافٍ . ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ أَنَّ كُلَّ مَا لَزِمَ اعْتِبَارُهُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ مِنْ صِفَاتِ لَفْظِهِ ، لَزِمَ اعْتِبَارُهُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ صِفَاتِ لَفْظِهِ . فَلَمَّا لَوْ كَانَ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ فَقَالَ لِلْوَلِيِّ : زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ ، فَقَالَ : قَدْ زَوَّجْتُكَ ، صَحَّ النِّكَاحُ ، وَلَمْ يَحْتَجِ الزَّوْجُ إِلَى الْقَبُولِ بَعْدَ إِجَابَةِ الْوَلْيِّ ، وَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْوَلِيُّ فَيَقُولُ لِلزَّوْجِ : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ : قَدْ تَزَوَّجْتُ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْبَيْعِ بِمَثَابَتِهِ . وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَقْدٌ لَوْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْبَذْلُ كَفَاهُ الْقَبُولُ ، فَإِذَا تَقَدَّمَ فِيهِ الطَّلَبُ كَفَاهُ الْإِيجَابُ كَالنِّكَاحِ . وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ مَا لَوْ كَانَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ كَانَ نِكَاحًا ، فَإِذَا كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ كَانَ بَيْعًا ، كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ الْبَذْلُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا بِعَبْدٍ ، وَعَقَدَاهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ ، وَالْمُتَبَايِعَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِيهِ ، فَأَيُّهُمَا جَعَلَ نَفْسَهُ بِاللَّفْظِ بَائِعًا أَوْ مُشْتَرِيًا ، لَزِمَهُ حُكْمُهُ . فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا : بِعْنِي عَبْدَكَ هَذَا بِعَبْدِي ، فَقَالَ الْآخَرُ : قَدْ بِعْتُكَ بِهِ البائع والمشتري ، صَحَّ بِهِ الْبَيْعُ ، لِأَنَّ الْمُبْتَدِئَ أَنْزَلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُشْتَرِي ، فَلَزِمَهُ حُكْمُهُ . وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَالَ : اشْتَرِ مِنِّي عَبْدِي هَذَا بِعَبْدِكَ ، فَقَالَ : قَدِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ البائع والمشتري ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ : لِأَنَّهُ أَنْزَلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ ، فَلَزِمَهُ حُكْمُهُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا يَصِيرُ الْعَقْدُ تَامًّا بِهِ في البيع ، فَشَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : تَعْجِيلُ الْقَبُولِ عَلَى الْفَوْرِ إِنْ تَقَدَّمَ الْبَذْلُ ، أَوْ تَعْجِيلُ الْإِيجَابِ عَلَى الْفَوْرِ إِنْ تَقَدَّمَ الطَّلَبُ ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَلَا بُعْدٍ ، فَإِنْ فُصِلَ بَيْنَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ بِكَلَامٍ لَيْسَ مِنْهُ ، أَوْ تَطَاوَلَ مَا بَيْنَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ بِالْإِمْسَاكِ حَتَّى بَعُدَ مِنْهُ . لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَبُولِ تَأْثِيرٌ ، إِلَّا أَنْ يَعْقُبَهُ الْبَائِعُ بِالْإِيجَابِ ، فَيَصِيرُ الْقَبُولُ طَلَبًا وَالْإِيجَابُ جَوَابًا ، وَيَتِمُّ الْبَيْعُ ، وَلَكِنْ لَوْ حَصَلَ بَيْنَ الْقَبُولِ وَالْبَذْلِ إِمْسَاكٌ لِبَلْعِ الرِّيقِ وَقَطْعِ النَّفَسِ ، تَمَّ الْعَقْدُ ، وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِمْسَاكِ تَأْثِيرٌ فِي فَسَادِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَبُولُ الْمُشْتَرِي يَقْتَضِي مَا تَضْمَّنَهُ بَذْلُ الْبَائِعِ مِنَ الثَّمَنِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ : قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ ، فَيَقُولُ الْمُشْتَرِي : قَدِ اشْتَرَيْتُهُ بِالْأَلْفِ ، أَوْ يَقُولُ : قَدِ

اشْتَرَيْتُهُ بِهَا ، فَيَصِحُّ الشِّرَاءُ : لِأَنَّ الْقَبُولَ قَدْ تَضَمَّنَ مَا تَنَاوَلَهُ الْبَذْلُ مِنَ الثَّمَنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي - حِينَ قَالَ الْبَائِعُ - : قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ - : قَدْ قَبِلْتُ هَذَا الْبَيْعَ ، صَحَّ الْبَيْعُ ، وَلَزِمَ فِيهِ الْأَلْفُ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحِ الْمُشْتَرِي بِهَا فِي قَبُولِهِ : لِأَنَّ بَذْلَ الْبَائِعِ قَدْ تَنَاوَلَهَا ، وَقَبُولُ الْمُشْتَرِي تَوَجَّهَ إِلَيْهَا . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ : قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ ، فَقَالَ الزَّوْجُ : قَدْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا ؟ أَوْ قَالَ : قَدْ تَزَوَّجْتُهَا ، وَلَمْ يَقُلْ : عَلَى هَذَا الصَّدَاقِ ، صَحَّ النِّكَاحُ ، وَلَمْ يَلْزَمِ الصَّدَاقُ حَتَّى يُصَرِّحَ بِهِ . فِي قَبُولِهِ : فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ ؟ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَمَنٍ ، فَإِذَا حَصَلَ فِيهِ الْقَبُولُ تَضَمَّنَ مَا يَتَنَاوَلَهُ الْبَذْلُ مِنَ الثَّمَنِ ، وَالنِّكَاحُ قَدْ يَصِحُّ مَعَ خُلُوِّهِ مِنَ الصَّدَاقِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ الصَّدَاقُ إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِهِ فِي قَبُولِهِ . وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ : قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي بِأَلْفٍ إِنْ قَبِلْتَ الشِّرَاءَ مِنِّي ، فَقَالَ : نَعَمْ ، صَحَّ الْبَيْعُ وَتَمَّ . وَكَذَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُتَوَسِّطٌ فِي الْعَقْدِ ، فَقَالَ لِلْبَائِعِ : بِعْتَهُ عَبْدَكَ بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، وَقَالَ لِلْمُشْتَرِي : اشْتَرَيْتَهُ بِهَا ، فَقَالَ نَعَمْ بين البائع والمشتري ، صَحَّ الْبَيْعُ وَتَمَّ . وَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ الْمُتَوَسِّطُ بِالْمُشْتَرِي فَقَالَ : اشْتَرَيْتَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفٍ ؟ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، وَقَالَ لِلْبَائِعِ : بِعَتَهُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ ؟ ، فَقَالَ : نَعَمْ بين البائع والمشتري ، صَحَّ الْبَيْعُ وَتَمَّ . وَيُفَارِقُ النِّكَاحُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بِمَا نَذْكُرُهُ هُنَاكَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا . وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْبَائِعُ : قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي : قَدِ ابْتَعْتُهُ بِخَمْسمِائَةٍ ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ . وَهَكَذَا لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي : قَدْ قَبِلْتُهُ بِأَلْفَيْنِ ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ أَيْضًا : لِأَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ عَلَى ثَمَنٍ وَاحِدٍ ، وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ ، حَتَّى يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ الْبَيْعُ بِالْأَلْفِ : لِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهَا ، وَالْأَلْفُ الْأُخْرَى زِيَادَةٌ ، إِنْ شَاءَ الْبَائِعُ قَبِلَهَا ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا . قَالَ : وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي : بِعْنِي هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ ، فَقَالَ الْبَائِعُ : قَدْ بِعْتُكَ بِخَمْسمِائَةٍ ، صَحَّ الْبَيْعُ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَقَدْ حَطَّهُ خَمْسَمِائَةٍ ، وَحَلَّ ذَلِكَ حَطًّا : لِأَنَّ الثَّمَنَ مُخْتَلِفٌ فِي حَالِ الْعَقْدِ لَمْ يُجْتَمَعْ عَلَيْهِ فِي الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ سَوَاءٌ عَادَ الْبَائِعُ ، فَقَبِلَ الزِّيَادَةَ ، أَوِ الْمُشْتَرِي فَقَبِلَ الْحَطِيطَةَ أَمْ لَا ؟ وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ . فَهَذَا حُكْمُ الْعَقْدِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الِافْتِرَاقُ : فَهُوَ مَوْضُوعٌ لِقَطْعِ الْخِيَارِ ، وَلُزُومِ الْبَيْعِ ، لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَابِتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ فِي الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ ، وَقَطْعُ هَذَا الْخِيَارِ يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا بِالِافْتِرَاقِ . وَإِمَّا بِالتَّخْيِيرِ الْقَائِمِ فِي قَطْعِ الْخِيَارِ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ . فَأَمَّا حَدُّ الِافْتِرَاقِ ، فَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ مُطْلَقًا ، وَمَا أَطْلَقَهُ الشَّرْعُ وَلَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا فِي اللُّغَةِ كَانَ الرُّجُوعُ فِي حَدِّهِ إِلَى الْعُرْفِ كَالْقَبْضِ فِي الْمَبِيعَاتِ ، وَالْإِحْرَازِ فِي الْمَسْرُوقَاتِ ، فَإِذَا فَارَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ إِلَى حَيْثُ يُنْسَبُ فِي الْعُرْفِ أَنَّهُ مُفَارِقٌ لَهُ ، انْقَطَعَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ ، مِثَالُ ذَلِكَ إِنْ تَبَايَعَا فِي دَارٍ فَيَخْرُجُ أَحَدُهُمَا مِنْهَا ، فَيَكُونُ هَذَا افْتِرَاقًا سَوَاءٌ صَغُرَتِ الدَّارُ أَوْ كَبُرَتْ ، بَعُدَ الْخَارِجُ مِنْهَا أَمْ قَرُبَ . فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا ، وَلَكِنْ قَامَ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ ، نُظِرَ : فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ وَاسِعَةً ، كَانَ ذَلِكَ تَفَرُّقًا ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ صَغِيرَةً ، لَمْ يَقَعِ التَّفَرُّقُ إِلَّا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا أَوِ الصُّعُودِ إِلَى عُلُوِّهَا . وَكَذَا السَّفِينَةُ إِذَا تَبَايَعَا فِيهَا وقوع التفرق في هذه الحالة ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً ، لَمْ يَقَعِ التَّفَرُّقُ إِلَّا بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ ، أَوْ إِلَى سَفِينَةٍ غَيْرِهَا ، أَوْ إِلَى الْمَاءِ . وَإِنْ كَانَتِ السَّفِينَةُ كَبِيرَةً وَقَعَ الِافْتِرَاقُ بِقِيَامِ أَحَدِهِمَا مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ ، كَأَنَّهُمَا تَبَايَعَا فِي الصَّدْرِ ، ثُمَّ قَامَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْمُؤَخَّرِ ، أَوْ تَبَايَعَا فِي الْمُؤَخَّرِ ثُمَّ قَامَ أَحَدُهُمَا إِلَى الصَّدْرِ . فَأَمَّا إِنْ تَبَايَعَا فِي سُوقٍ كَبِيرَةٍ ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَالتَّفَرُّقُ : أَنْ يُوَلِّيَ أَحَدُهُمَا ظَهْرَهُ ، قَالَ أَصْحَابُنَا : أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يُوَلِّيَ ظَهْرَهُ وَيَمْشِيَ قَلِيلًا حَتَّى يُزَايِلَ مَوْضِعَ الْعَقْدِ فِي الْعُرْفِ ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي بُيُوعِهِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَا فِي مَوْضِعِ تَبَايُعِهِمَا وَمَجْلِسِ عَقْدِهِمَا ، فَبُنِيَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَفَرُّقًا : لِأَنَّ الْحَائِطَ الْمَبْنِيَّ حَائِلٌ ، وَالْحَائِلُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا ، كَمَا لَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ بِوُقُوفِهِ . فَأَمَّا إِذَا قَامَا جَمِيعًا عَنْ مَجْلِسِ تَبَايُعِهِمَا ، وَمَشَيَا مُجْتَمِعَيْنِ ، وَلَمْ يَفْتَرِقَا بِأَبْدَانِهِمَا البائع والمشتري ، فَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ وَبَعُدَ ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ : أَنَّ خِيَارَهُمَا قَدِ انْقَطَعَ بِمُفَارَقَةِ مَجْلِسِهِمَا . وَحَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ حَيْثُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ وَقَدْ غَدَوْا عَلَيْهِ ، وَقَوْلُهُ لَهُمَا : مَا أَرَاكُمَا تَفَرَّقْتُمَا عَنْ رِضًا مِنْكُمَا بِبَيْعٍ . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ عَقَلَ مَعْنَى الِافْتِرَاقِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . فَهَذَا الْكَلَامُ فِي افْتِرَاقِ الْمُتَبَايِعَيْنِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا حُكْمُ الِافْتِرَاقِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بين البائع والمشتري إِذَا تَمَّ بِوَاحِدٍ ، وَهُوَ الْأَبُ إِذَا ابْتَاعَ مِنِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ ، أَوْ بَاعَ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : وَهُوَ يُحْكَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِيمَا عُلِّقَ عَنْهُ : أَنَّ حَدَّ الِافْتِرَاقِ فِي بَيْعِهِ أَنْ يُفَارِقَ مَجْلِسَ بَيْعِهِ الَّذِي ابْتَاعَ فِيهِ مِنِ ابْنِهِ إِلَى حَيْثُ لَا يُنْسَبُ فِي الْعُرْفِ إِلَيْهِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَفَرُّقًا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : أَنَّ الْخِيَارَ بَاقٍ وَإِنْ فَارَقَ مَجْلِسَهُ : لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُفَارِقًا لِنَفْسِهِ ، وَيَكُونُ الْخِيَارُ بَاقِيًا إِلَى بُلُوغِ ابْنِهِ ، أَوْ يُخَيِّرُ الْأَبُ نَفْسَهُ عَنِ ابْنِهِ ، فَيَخْتَارُ لِنَفْسِهِ وَعَنِ ابْنِهِ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ وَقَطْعَ الْخِيَارِ ، فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ الْبَيْعُ . فَأَمَّا إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، فَانْتَقَلَ الْخِيَارُ إِلَى وَارِثِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي بَلَغَهُ حَيْثُ كَانَ ، فَإِنْ زَالَ عَنِ الْمَوْضِعِ ، سَقَطَ خِيَارُهُ . وَإِنِ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ وَالْآخَرُ الْإِمْضَاءَ ، غَلَبَ الْفَسْخُ عَلَى الْإِمْضَاءِ : لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْخِيَارِ الْفَسْخُ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَفْتَرِقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَنْ قَصْدٍ لِقَطْعِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ ، أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ نَاسِيَيْنِ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِي حَدِّ الِافْتِرَاقِ وَحُكْمِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ فُرُوعِهِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا التَّخْيِيرُ الْقَائِمُ فِي قَطْعِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ : فَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيَخْتَارُ الْإِمْضَاءَ : فَيَنْقَطِعُ بِذَلِكَ الْخِيَارُ ، وَيَلْزَمُ مَعَهُ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَا فِي مَجْلِسِ بَيْعِهِمَا لَمْ يَتَفَرَّقَا . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا حُكْمَ لِلتَّخْيِيرِ فِي لُزُومِ الْبَيْعِ ، وَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا " . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ : الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ فِي كِتَابِنَا رَابِعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " كُلُّ بَيِّعَيْنِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَفْتَرِقَا أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : اخْتَرْ " . وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَاعَ مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا ، فَقَالَ لَهُ " اخْتَرْ " . فَقَالَ : عَمْرَكَ اللَّهَ مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " امْرُؤٌ مِنْ قُرَيْشٍ " . وَلِأَنَّ الْخِيَارَ خِيَارَانِ : خِيَارُ شَرْطٍ ، وَخِيَارُ عَقْدٍ . ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَنْقَطِعُ بِالتَّخْيِيرِ ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْعَقْدِ يَجِبُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِالتَّخْيِيرِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّخْيِيرَ يَقُومُ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ فِي قَطْعِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ ، فَخَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ : فَإِنِ اخْتَارَا جَمِيعًا الْإِمْضَاءَ ، انْقَطَعَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ . وَإِنِ اخْتَارَا جَمِيعًا الْفَسْخَ ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَإِنِ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ وَالْآخَرُ الْإِمْضَاءَ غَلَّبَا الْفَسْخَ عَلَى الْإِمْضَاءِ ، وَفُسِخَ الْبَيْعُ : لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْخِيَارِ الْفَسْخُ .

فَصْلٌ : وَقَدْ يَكُونُ صَرِيحًا : بِأَنْ يَقُولَ : فَسَخْتُ . وَقَدْ يَكُونُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ : قَدْ فَسَخْتُ . وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ فِي الْمَجْلِسِ وَالثَّمَنُ مُؤَجَّلٌ : لَسْتُ أُمْضِي الْبَيْعَ إِلَّا بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي : لَسْتُ أُعَجِّلُ الثَّمَنَ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْعَقْدِ ، وَيَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ : قَدْ فَسَخْتُ ، وَكَذَلِكَ نَظَائِرُ ذَلِكَ وَأَشْبَاهُهُ . فَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ أَلْفُ دِرْهَمٍ صِحَاحٍ : لَسْتُ أَخْتَارُهُ إِلَّا بِأَلْفِ غُلَّةٍ ، فَقَالَ الْبَائِعُ : لَسْتُ أُمْضِيهِ بِالْغُلَّةِ ، كَانَ فَسْخًا ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِقَا وَأَمْضَاهُ الْبَائِعُ بِالْأَلْفِ الْغُلَّةِ كَانَ ذَلِكَ اسْتِئْنَافَ عَقْدٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ وَكَانَ لَهُمَا الْخِيَارُ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا ، أَوْ يَخْتَارَا الْإِمْضَاءَ . وَمِمَّا يَكُونُ لِلْبَيْعِ وَيَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ : قَدْ فَسَخْتُ ، أَنْ يَتْلَفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، فَيَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ لِتَلَفِهِ قَبْلَ انْبِرَامِ الْعَقْدِ . فَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ ، ثُمَّ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، بَطَلَ الْعَقْدُ ، وَكَانَتِ السِّلْعَةُ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ ، لِفَسَادِ الْعَقْدِ بِالتَّلَفِ ، وَوُجُوبِ الضَّمَانِ بِالْيَدِ . وَلَوْ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ أَوْدَعَهَا الْبَائِعَ فِي الْمَجْلِسِ ، ثُمَّ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ السلعة ، بَطَلَ الْبَيْعُ ، وَكَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ ، وَلَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ : لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً لِلْمُشْتَرِي . وَمِمَّا يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ أَوْ يُوصِيَ بِهِ ، أَوْ يَعْرِضَهُ عَلَى الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ يَقِفَهُ ، أَوْ يَكُونُ عَبْدًا فَيَعْتِقُهُ ، أَوْ ثَوْبًا فَيَلْبَسُهُ ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ . فَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : افْتَرَقْنَا عَنْ فَسْخٍ ، وَقَالَ الْآخَرُ : افْتَرَقْنَا عَنْ تَرَاضٍ : فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى الِافْتِرَاقَ عَنْ تَرَاضٍ : لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَتَضَمَّنُ إِنْفَاذَ الْبَيْعِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مَنْ حَالِ الْعَقْدِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى الِافْتِرَاقَ عَنْ فَسْخٍ : لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَتَضَمَّنُ فَسْخَ الْبَيْعِ . وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي إِثْبَاتِ الْعَقْدِ وَإِنْكَارِهِ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مُنْكِرِهِ دُونَ مُثْبِتِهِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي إِنْفَاذِهِ وَفَسْخِهِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنِ اشْتَرَى جَارِيَةً ، فَأَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوِ الْخِيَارِ ، وَاخْتَارَ الْبَائِعُ نَقْضَ الْبَيْعِ ، كَانَ لَهُ ، وَكَانَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي بَاطِلًا ، لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مَا لَمْ يَتَمَّ مِلْكُهُ ، فَإِنْ أَعْتَقَهَا الْبَائِعُ كَانَ جَائِزًا " .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَوَابُ وَهِيَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَتَى يَمْلِكُ الْمَبِيعَ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الثَّلَاثِ ؟ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ : أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَيَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ بِقَطْعِ الْخِيَارِ ، فَيَكُونُ الْمِلْكُ حَاصِلًا بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ ، وَاسْتِقْرَارُ الْمِلْكِ يَكُونُ بِقَطْعِ الْخِيَارِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ : أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ الْمَبِيعَ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ ، فَلَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ مُسْتَقِرًّا ، إِلَّا بِالْعَقْدِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ جَمِيعًا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى ، فَإِنِ انْقَطَعَ الْخِيَارُ بَعْدَ الْعَقْدِ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا بِهِ ، بَانَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ مَالِكًا لِلْمَبِيعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ نَقَضَ الْخِيَارَ عَنْ فَسْخٍ ، بَانَ أَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ ، كَانَ الْمَبِيعُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ ، مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدَّمِ ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ ، فَالْمَبِيعُ قَدْ زَالَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِالْعَقْدِ ، وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي إِلَّا بَعْدَ تَقَضِّي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَإِذَا انْقَضَتْ مَلَكَهُ حِينَئِذٍ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ . وَهَذَا الْمَذْهَبُ مُخَالِفٌ لِمَذَاهِبِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَفِي تَوْجِيهِهَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ . فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ - وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ - فَوَجْهُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : حَدِيثُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا " . فَسَمَّاهُمَا مُتَبَايِعَيْنِ ، فَدَلَّ عَلَى حُصُولِ الْبَيْعِ ، وَمُوجَبُ الْبَيْعِ حُصُولُ الْمِلْكِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْخِيَارَ أنواعه نَوْعَانِ : خِيَارُ عَقْدٍ ، وَخِيَارُ عَيْبٍ . فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ خِيَارُ الْعَيْبِ مَانِعًا مِنْ حُصُولِ الْمِلْكِ ، لَمْ يَكُنْ خِيَارُ الْعَقْدِ مَانِعًا مِنْ حُصُولِ الْمِلْكِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْأَمْلَاكَ تُسْتَفَادُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : بِقَوْلٍ ، وَبِفِعْلٍ . فَلَمَّا كَانَ مَا يُمْلَكُ بِالْفِعْلِ كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ ، لَا يَكُونُ مُرُورُ الزَّمَانِ مُؤَثِّرًا فِي تَمَلُّكِهِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يُمْلَكُ بِالْقَوْلِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لَا يَكُونُ مُرُورُ الزَّمَانِ أَيْضًا مُؤَثِّرًا فِي تَمَلُّكِهِ .

وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ الْمَبِيعَ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ ، فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " كُلُّ بَيِّعَيْنِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا ، حَتَى يَتَفَرَّقَا أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : اخْتَرْ " . فَنَفَى الْبَيْعَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ يَحْصُلُ بِالِافْتِرَاقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ حُصُولَ الْمِلْكِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ مُوجَبِهِ ، وَمُوجَبُ الْمِلْكِ جَوَازُ التَّصَرُّفِ ، فَلَمَّا كَانَ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ مُنْتَقَلٍ . وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى ، فَوَجْهُهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ : وَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ ، وَالْخِيَارَ يَنْفِي الْمِلْكَ ، وَأَمْرُهَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي إِثْبَاتِ الْمِلْكِ بِقَطْعِ الْخِيَارِ عَنْ تَرَاضٍ ، وَبَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْخِيَارِ فِي نَفْيِ الْمِلْكِ بِالْفَسْخِ قَبْلَ تَقَضِّي الْخِيَارِ ، فَصَارَ كَالْقَبْضِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ ، وَيَقِفُ تَصْحِيحُهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَقْبَضَهُ بَانَ صِحَّةُ الْعَقْدِ ، وَإِنْ تَلِفَ بَانَ فَسَادُ الْعَقْدِ ، فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْخِيَارِ ، فَإِنْ تَقَضَّى عَنْ تَرَاضٍ ، بَانَ صِحَّةُ الْعَقْدِ وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ ، وَإِنْ تَقَضَّى عَنْ فَسْخٍ بَانَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ ، وَأَنَّ الْمِلْكَ لِمَ يَنْتَقِلْ بِهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْأَقْوَالِ : فَالْجَوَابُ عَنْ عِتْقِ الْمُشْتَرِي فِي زَمَانِ الْخِيَارِ ، مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ : وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ بَعْدَ عِتْقِ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يُمْضِيَ الْبَيْعَ ، أَوْ يَفْسَخَهُ . فَإِنْ أَمْضَى الْبَائِعُ الْبَيْعَ نَفَذَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَهُوَ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى : لِأَنَّ عِتْقَ الْمُشْتَرِي صَادَفَ مِلْكًا تَامًّا . فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ ، إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالتَّفَرُّقِ ، فَعِتْقُ الْمُشْتَرِي بَاطِلٌ غَيْرُ نَافِذٍ : لِأَنَّهُ قَدْ تَلَفَّظَ بِالْعِتْقِ قَبْلَ مِلْكِهِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ " . ثُمَّ الْمُشْتَرِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عِتْقَهُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَدِيمَ رِقَّهُ . وَإِنْ فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ ، بَطَلَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ :

وَهُوَ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ ، أَوْ أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى : لِأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِعِتْقِ مَا لَا يَمْلِكُ . فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ : وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُشْتَرِي الْمُعْتِقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا ، أَوْ مُعْسِرًا : فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُعْسِرًا ، فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ بِوِفَاقِ أَصْحَابِنَا كَافَّةً : لِأَنَّ لِلْبَائِعِ فَسْخَ الْبَيْعِ : لِحِفْظِ الرَّقَبَةِ ، وَطَلَبِ الْحَظِّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْطِلَ الْمُشْتَرِي بِعِتْقِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْبَائِعُ بِالْفَسْخِ . وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُوسِرًا ، فَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُخَرِّجُ نُفُوذَ عِتْقِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي عِتْقِ الرَّاهِنِ لِعَبْدِهِ الْمَرْهُونِ : أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ عِتْقَهُ بَاطِلٌ : لِحَجْرِ الْبَائِعِ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ عِتْقَهُ جَائِزٌ : لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمَّا سَرَى إِلَى غَيْرِ الْمِلْكِ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ ، كَانَ وُقُوعُهُ فِي الْمِلْكِ وَرَفْعُهُ لِحَجْرِ الْبَائِعِ أَوْلَى . وَكَانَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، يُنْكِرُونَ تَخْرِيجَ أَبِي الْعَبَّاسِ ، وَيُبْطِلُونَ الْعِتْقَ وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالِكًا ، فَخِيَارُ الْبَائِعِ يُوَقِعُ عَلَيْهِ حَجْرًا ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ كَالسَّفِيهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الرَّاهِنِ حَيْثُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجْرٌ لِلْمُرْتَهِنِ ، أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنَ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّةِ الرَّاهِنِ ، وَالرَّهْنُ وَثِيقَةٌ فِيهِ ، فَضَعُفَ حَجْرُهُ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَائِعُ . فَإِنْ قِيلَ : بِبُطْلَانِ عِتْقِ الْمُشْتَرِي - وَهُوَ الصَّحِيحُ - اسْتَرْجَعَ الْبَائِعُ عَبْدَهُ بِالْفَسْخِ ، وَلَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةٌ وَلَا ثَمَنٌ ، لِبُطْلَانِ الْعِتْقِ . وَإِنْ قِيلَ : بِنُفُوذِ عِتْقِ الْمُشْتَرِي ، فَلَا بُدَّ لِلْبَائِعِ عَلَى الْعَبْدِ ، لِنُفُوذِ عِتْقِهِ ، وَصِحَّةِ حُرِّيَّتِهِ . وَعَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُهُ لِلْبَائِعِ ، وَفِيمَا يُضَمِّنُهُ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى ، وَيَصِيرُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي مُبْطِلًا لِفَسْخِ الْبَائِعِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : - وَهُوَ أَصَحُّ - يُضَمِّنُهُ بِالْقِيمَةِ : لِأَنَّ بَقَاءَ الْخِيَارِ ، يُثْبِتُ فَسْخَ الْبَائِعِ ، وَفَسْخَ الْبَائِعِ يُوجِبُ رَفْعَ الْعَقْدِ وَالثَّمَنِ الْمُسَمَّى فِيهِ ، وَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ ، صَارَ الْمُشْتَرِي مُسْتَهْلِكًا لِلْعَبْدِ بِغَيْرِ عَقْدٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِقِيمَتِهِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ . فَهَذَا حُكْمُ عِتْقِ الْمُشْتَرِي . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا فَعَلَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ تَصَرُّفًا غَيْرَ الْعِتْقِ ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ :

أَحَدُهَا : مَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعِتْقِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ إِمْضَاءِ الْبَائِعِ دُونَ فَسْخِهِ ، وَذَلِكَ : الْوَقْفُ ، وَالتَّدْبِيرُ ، وَالْوَصِيَّةُ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ مَرْدُودًا بَاطِلًا عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، سَوَاءٌ انْفَسَخَ الْبَيْعُ أَوْ تَمَّ ، وَذَلِكَ : الْبَيْعُ ، وَالْإِجَارَةُ ، وَالرَّهْنُ ، وَالْهِبَةُ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، وَذَلِكَ : الْكِتَابَةُ ، فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ ، فَتَكُونُ كَالْعِتْقِ : لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَيْهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَالضَّرْبِ الثَّانِي ، فَيَكُونُ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ . وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ بِعِتْقٍ كَانَ أَوْ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْبَائِعِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ بِأَمْرِ الْبَائِعِ وَعَنْ إِذْنِهِ ، فَجَمِيعُهُ نَافِذٌ مَاضٍ ، وَبِكَوْنِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ عَنْ إِذْنِ الْبَائِعِ اخْتِيَارًا مِنْهُمَا لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ . فَإِنْ قِيلَ : أَفَيَكُونُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِتْقِ وَغَيْرِهِ عَنْ غَيْرِ أَمْرِ الْبَائِعِ رِضًا مِنْهُ لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ مِنْ جِهَتِهِ ؟ قِيلَ : لَا يَخْلُو حَالُ تَصَرُّفِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ . أَوْ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ . فَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ بِمَا ذَكَرْنَا فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ ، كَانَ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ ، وَيَكُونُ خِيَارُ الْبَائِعِ بَاقِيًا : لِأَنَّ خِيَارَ الثَّلَاثِ لَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ لِأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، وَكَذَا لَوِ اخْتَارَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ ، فَقَالَ : قَدِ اخْتَرْتُ الْإِمْضَاءَ ، انْقَطَعَ خِيَارُهُ ، وَيَكُونُ خِيَارُ الْبَائِعِ بَاقِيًا لَهُ بِحَالِهِ . وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ بِمَا ذَكَرْنَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ ، أَوْ قَالَ : قَدِ اخْتَرْتُ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ : فَإِنْ قَابَلَهُ الْبَائِعُ بِالْإِمْضَاءِ عَلَى الْفَوْرِ كَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِخِيَارِهِمَا : أَمَّا الْأَوَّلُ : فَبِالتَّصَرُّفِ الدَّالِّ عَلَى الرِّضَا مِنْ جِهَتِهِ ، أَوْ بِصَرِيحِ اخْتِيَارِهِ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَبِمُقَابَلَتِهِ لَهُ عَلَى إِجَازَةِ تَصَرُّفِهِ . وَإِنْ لَمْ يُقَابِلْهُ الْبَائِعُ بِالْإِمْضَاءِ عَلَى الْفَوْرِ ، بَلْ أَمْسَكَ عَنِ الرِّضَا ، وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي تَصَرُّفِهِ بِالِاخْتِيَارِ . فَلَا يَخْلُو تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَلْزَمُهُ حُكْمُهُ فِي الْحَالِ كَالْعِتْقِ ، وَالْوَقْفِ وَالتَّدْبِيرِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَطْعًا لِخِيَارِهِ وَرِضًا لِلْإِمْضَاءِ مِنْ جِهَتِهِ وَيَكُونُ خِيَارُ الْبَائِعِ بَاقِيًا . وَإِنَّمَا بَطَلَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي : لِأَنَّ بَقَاءَ خِيَارِهِ يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِ حُكْمِ تَصَرُّفِهِ ، فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ

تَصَرُّفِهِ لَازِمًا لَهُ ، أَوْجَبَ سُقُوطَ خِيَارِهِ . وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ مِمَّا لَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ فِي الْحَالِ كَالْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ لِافْتِقَارِهِمَا إِلَى صَرِيحِ الِاخْتِيَارِ . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ : أَنَّهُ يَكُونُ قَطْعًا لِخِيَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ خِيَارُ الْبَائِعِ بَاقِيًا ، كَمَا لَوِ اخْتَارَ قَطْعَ ذَلِكَ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ وَهُوَ الصَّحِيحُ : أَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ قَطْعًا لِخِيَارِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ مَعًا ، وَلَا يَثْبُتُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَلَمَّا كَانَ الْخِيَارُ بَاقِيًا لِلْبَائِعِ وَإِنْ حَدَثَ مِنْ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي ، وَقَوْلُهُ مَا حَدَثَ ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ بَاقِيًا لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ حَدَثَ مِنْ تَصَرُّفِهِ وَقَوْلِهِ مَا حَدَثَ : لِيَكُونَا سَوَاءً فِيمَا أَوْجَبَ الْعَقْدُ تَسَاوِيَهُمَا فِيهِ . وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ خِيَارَ الثَّلَاثِ حَيْثُ كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنَ الْمُشْتَرِي قَاطِعًا لِخِيَارِهِ وَإِنْ بَقِيَ خِيَارُ الْبَائِعِ : لِأَنَّ خِيَارَ الثَّلَاثِ يَجُوزُ ثُبُوتُهُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ . فَهَذَا الْكَلَامُ فِي عِتْقِ الْمُشْتَرِي وَتَصَرُّفِهِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا عِتْقُ الْبَائِعِ لِلْعَبْدِ الْمَبِيعِ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ ، فَنَافِذٌ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي اعْتِرَاضٌ وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ عِتْقِ الْبَائِعِ - حَيْثُ نَفَذَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا - وَبَيْنَ عِتْقِ الْمُشْتَرِي : أَنَّ عِتْقَ الْبَائِعِ فَسْخٌ ، وَعِتْقَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءٌ . وَفَسَخُ الْبَائِعِ مُقَدَّمٌ عَلَى إِمْضَاءِ الْمُشْتَرِي ، فَلِذَلِكَ نَفَذَ عِتْقُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي . وَكَذَلِكَ تَصَرَّفُ الْبَائِعِ بِغَيْرِ الْعِتْقِ مَاضٍ ، وَيَكُونُ فَسْخًا ، كَمَا لَوْ آجَرَ ، أَوْ رَهَنَ ، أَوْ وَهَبَ ، أَوْ وَصَّى ، أَوْ وَقَفَ ، أَوْ دَبَّرَ ، كَانَ جَمِيعُهُ مَاضِيًا ، وَكَانَ لِلْعَقْدِ فَاسِخًا . وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ أَقْبَضَ الْمَبِيعَ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ ، أَوْ لَمْ يَحْصُلِ الْقَبْضُ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ بَعْدَ أَنْ تَقَابَضَا الْعَبْدَ الْمَبِيعَ ، وَهَبَهُ لِلْمُشْتَرِي فِي زَمَانِ الْخِيَارِ ، جَازَتِ الْهِبَةُ ، وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ ، وَاحْتَاجَ الْمُشْتَرِي إِلَى تَجْدِيدِ قَبْضِ الْهِبَةِ : لِأَنَّهُ كَانَ مَقْبُوضًا فِي يَدِهِ بِالْبَيْعِ لَا بِالْهِبَةِ . فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ تَجْدِيدِ الْقَبْضِ ، مَاتَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ الْوَاهِبِ ، لِأَنَّ الْهِبَةَ لَمْ تَتِمَّ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَكَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْفَسْخِ ، وَالْهِبَةُ لَمْ تَتِمَّ بِالْقَبْضِ ، فَلَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَانٍ ، لَمْ يَحْكِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ : أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ فِي قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ هل يحتاج إلى تجديد القبض ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَجْدِيدِ قَبْضٍ ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ الْهِبَةُ بِالْعَقْدِ وَأَنْ يَمْضِيَ بَعْدَهُ زَمَانُ الْقَبْضِ .

فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْعَبْدُ تَالِفًا مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، لِصِحَّةِ الْهِبَةِ . فَصْلٌ : إِذَا قَالَ الْمُشْتَرِي فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِلْعَبْدِ الْمَبِيعِ : إِنْ تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَنَا وَانْبَرَمَ فَأَنْتَ حُرٌّ . فَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَمْنَعُهُ مِنِ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ ، بِخِلَافِ مَا مَضَى مِنْ تَعْجِيلِ عِتْقِهِ . ثُمَّ يَنْظُرُ : فَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِفَسْخِ الْبَائِعِ ، أَوْ بِفَسْخِ الْمُشْتَرِي ، رَجَعَ الْعَبْدُ إِلَى الْبَائِعِ ، وَلَمْ يُعْتَقْ ، فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ وَصَحَّ ، عُتِقَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، أَوْ قِيلَ : إِنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى ، لِوُجُودِ الصِّفَةِ ، وَتَقَدُّمِ الْقَوْلِ فِي مِلْكِهِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ الْعَبْدُ ، وَإِنْ وُجِدَتْ صِفَةُ عِتْقِهِ بِتَمَامِ الْبَيْعِ : لِأَنَّهُ عَلَّقَ قَوْلَهُ بِالْعِتْقِ فِي زَمَانٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكٌ ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ لَعَبْدِ غَيْرِهِ : إِنْ مَلَكْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَمَلَكَهُ ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ " . فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَالَ : إِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَنَا فَأَنْتَ حُرٌّ ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَصَلَ الْفَسْخُ : لِأَنَّهُ بِالْفَسْخِ قَدْ صَارَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ فَأَحْرَى أَنْ لَا يُعْتَقَ : لِأَنَّ تَمَامَ الْبَيْعِ لَيْسَ صِفَةً لِعِتْقِهِ . فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ ، قَدْ قَالَ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ لِلْعَبْدِ الْمَبِيعِ : إِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ ، فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ إِمَّا بِفَسْخِهِ أَوْ بِفَسْخِ الْمُشْتَرِي ، عُتِقَ عَلَى الْبَائِعِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ عَقْدِ الصَّفْقَةِ بِعِتْقِهِ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ تَعْجِيلُ عِتْقِهِ ، وَقَدْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ فِي مِلْكِهِ . فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ قَالَ : إِنْ تَمَّ الْبَيْعُ فَأَنْتَ حُرٌّ ، فَتَمَّ الْبَيْعُ ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ ، لِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ . فَصْلٌ : إِذَا اشْتَرَى مَنْ يُعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ مِنْ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ ، الخيار الذي يثبت فيه في هذه الحالة جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ خِيَارٍ ، فَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالْعَقْدِ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ لِفَقْدِ الشَّرْطِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ خِيَارِ الثَّلَاثِ ، فَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالْعَقْدِ ، وَخِيَارُ الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْبَائِعُ فَسْخَ الْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَذَلِكَ لَهُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الثَّلَاثِ . وَيُفَارِقُ اسْتِئْنَافُ الْمُشْتَرِي عِتْقَ الْأَمَةِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، حَيْثُ كَانَ مَانِعًا مِنْ فَسْخِ الْبَائعِ فِي تَخْرِيجِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَلَى أَحَدِ الْأَقَاوِيلِ : لِأَنَّ الْعِتْقَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حُكْمًا لِمُوجَبِ الْبَيْعِ وَيَثْبُتُ بِالْعَقْدِ الَّذِي يَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ ، وَعِتْقُ الْمُشْتَرِي إِذَا انْفَرَدَ بِهِ جَرَى مَجْرَى الْإِتْلَافِ . فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي فَسْخَ الْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ : فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا جَمِيعًا ، جَازَ لِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ ، وَهُوَ أَنَّهُ يُعْتَقُ حُكْمًا بِالْعَقْدِ الَّذِي يَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ .

وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ ، جَازَ أَنْ يَفْسَخَ إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ ، أَوْ إِنَّهُ مُرَاعًى : لِأَنَّهُ يَفْسَخُ قَبْلَ تَمَامِ مِلْكِهِ . فَأَمَّا إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَهُ الْفَسْخُ ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَمْضِ زَمَانُ خِيَارِهِ : لِأَنَّ خِيَارَ الْفَسْخِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ الْعَقْدُ مَعَ انْتِفَاءِ مُوجِبِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ ، وَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ وَسَقَطَ حُكْمُ خِيَارِهِ : لِأَنَّ الْخِيَارَ مَوْضُوعٌ لِطَلَبِ الْحَظِّ ، وَتَوْفِيرِ الرِّبْحِ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِيمَنْ يُعْتَقُ بِالْمِلْكِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي ابْتِيَاعِهِ وَجْهٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ عَجَّلَ الْمُشْتَرِي فَوَطِئَهَا فَأَحْبَلَهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ فِي غَفْلَةٍ مِنَ الْبَائِعِ ، وَاخْتَارَ الْبَائِعُ فَسْخَ الْبَيْعِ ، كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَقِيمَةُ وَلَدِهِ مِنْهَا يَوْمَ تَلِدُهُ ، وَلَحِقَهُ بِالشُّبْهَةِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : إِذَا وَطِئَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ وَطْؤُهُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ، فَلَا مَهْرَ فِيهِ سَوَاءٌ تَمَّ الْبَيْعُ أَوِ انْفَسَخَ . وَهَلْ يُوجِبُ ذَلِكَ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَطَأَ فِي الْفَرْجِ ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَحْبَلَ بِوَطْئِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا تَحْبَلَ . فَإِنْ لَمْ تَحْبَلْ بِوَطْئِهِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِيهِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا ، لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ . فَأَمَّا الْمَهْرُ ، فَمُعْتَبَرٌ بِتَمَامِ الْبَيْعِ وَفَسْخِهِ : فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ، فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، أَوْ قِيلَ : إِنَّهُ مُرَاعًى ، لِأَنَّ وَطْأَهُ : صَادَفَ مِلْكَهُ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ ، فَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْعَيْبِ أَوْ مَجْرَى خِيَارِ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ؟ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْعَيْبِ فَعَلَى هَذَا لَا مَهْرَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ . وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ، فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ إِنْ قِيلَ : لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ ، أَوْ قِيلَ : إِنَّهُ مُرَاعًى .

فَأَمَّا إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، فَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى . فَصْلٌ : وَإِنْ أَحْبَلَهَا بِوَطْئِهِ ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ يُلْحَقُ بِهِ : وَيَتَعَلَّقُ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ : أَحَدُهَا : فِي الْمَهْرِ ، وَهُوَ عَلَى مَا مَضَى سَوَاءٌ . وَالثَّانِي : فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ ، وَهُوَ كَالْمَهْرِ . إِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ، فَلَا قِيمَةَ لِلْوَلَدِ عَلَيْهِ ، إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، أَوْ قِيلَ : إِنَّهُ مُرَاعًى . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ ، فَفِي وُجُوبِ قِيمَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَيْهِ الْقِيمَةُ ، لِأَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : لَا قِيمَةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهَا تَضَعُهُ فِي مِلْكِهِ . وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ إِنْ قِيلَ : لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ ، أَوْ قِيلَ : إِنَّهُ مُرَاعًى . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، فَفِي وُجُوبِ قِيمَتِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ قِيمَتُهُ : لِأَنَّهَا تَضَعُهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ . وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ : فِي كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا ؟ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ نَذْكُرُهُ ، ثُمَّ نَبْنِي جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو وَلَدُ الْأَمَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : إِنْ تَعَلَّقَ بِمَمْلُوكٍ ، إِمَّا مِنْ زَوَاجٍ أَوْ زِنًا ، فَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لِلْوَاطِئِ فِي الْحَالِ وَلَا فِي ثَانِي حَالٍ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : إِنْ تَعَلَّقَ بِحُرٍّ فِي مِلْكٍ كَالسَّيِّدِ يَطَأُ أَمَتَهُ ، فَتَعَلَّقَ مِنْهُ ، فَقَدْ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالِ . فَلَوْ كَانَ قَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهَا حَقُّ الْغَيْرِ فَبِيعَتْ فِيهِ كَالْمُرْتَهِنِ إِذَا بِيعَتْ فِي حَقِّهِ ، ثُمَّ مَلَكَهَا مِنْ بَعْدُ ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ قَوْلًا وَاحِدًا . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : إِنْ تَعَلَّقَ بِحُرٍّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ ، فَلَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالِ . وَهَلْ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ إِذَا مَلَكَهَا فِي ثَانِي حَالٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَتِمَّ بَيْنَهُمَا ، أَوْ يَنْفَسِخَ . فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ قِيلَ : إِنَّهُ مُرَاعًى : لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكٍ .

فَأَمَّا إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ ، فَهَلْ تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : لِأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ . وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ، صَحَّ الْفَسْخُ وَكَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بَعْدَ الْفَسْخِ كَيْفَ شَاءَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ : لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّهِ بِرَقَبَتِهَا مُقَدَّمٌ عَلَى حُرِّيَّةِ وَلَدِهَا ، كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، إِذَا صَارَتِ الْأَمَةُ الْمَرْهُونَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلرَّاهِنِ . وَإِنْ مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي فِيمَا بَعْدُ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ كَانَ مَلَكَهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، صَارَتْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ ، لِأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا إِلَّا بِالْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ ، أَوْ قِيلَ : إِنَّ الْمِلْكَ مُرَاعًى ، فَهَلْ تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، لِأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ . فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَلَوْ عَجَّلَ الْمُشْتَرِي ، فَوَطِئَهَا ، فَأَحْبَلَهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ . فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ قَوْمٌ ، وَقَالُوا : إِحْبَالُهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ مُسْتَحِيلٌ . وَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : وَلَوْ عَجَّلَ الْمُشْتَرِي فَوَطِئَهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ فِي غَفْلَةٍ مِنَ الْبَائِعِ فَأَحْبَلَهَا ، وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ ، فَقَدَّمَ لَفْظَ الْإِحْبَالِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى مُؤَخَّرًا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَالِهِ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ ، وَمَعْنَاهُ مُسْتَقِيمٌ : لِأَنَّ الْإِحْبَالَ يَقَعُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ : لِأَنَّهُ حَادِثٌ عَنِ الْوَطْءِ ، وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ ظُهُورُهُ ، وَلَيْسَ تَأَخُّرُ ظُهُورِهِ بِمَانِعٍ مِنْ حُصُولِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : فِي غَفْلَةٍ مِنَ الْبَائِعِ : فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ شَرْطٌ فِي بَقَاءِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ ، وَلَوْ رَآهُ الْبَائِعُ يَطَأُ كَانَ رِضًا مِنْهُ لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَقَطْعًا لِخِيَارِهِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : لِأَنَّ الْبَائِعَ يَسْتَحِقُّ بِخِيَارِهِ مَنْعَ الْمُشْتَرِي مِنَ التَّصَرُّفِ ، فَإِذَا رَآهُ يَتَصَرَّفُ ، فَأَمْسَكَ عَنْ مَنْعِهِ ، كَانَ رَاضِيًا بِهِ ، فَبَطَلَ خِيَارُهُ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِتَحْقِيقِ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ ، إِذْ بَعِيدٌ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَطَأَ النَّاسُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ ، فَأَحَبَّ أَنْ يُصَوِّرَهَا عَلَى مَا يَصِحُّ وُجُودُهَا فِي الْعُرْفِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ شَرْطًا فِي خِيَارِ الْبَائِعِ ، وَلَا تَكُونُ رُؤْيَةُ الْبَائِعِ وَعَدَمُ إِنْكَارِهِ قَطْعًا لِخِيَارِهِ : لِأَنَّ الرِّضَا لَا يَكُونُ مَأْخُوذًا مِنْ فِعْلِ الْغَيْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا وَطْءُ الْمُشْتَرِي ، فَهَلْ يَكُونُ قَاطِعًا لِخِيَارِهِ وَرِضًا مِنْهُ لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : يَكُونُ قَاطِعًا لِخِيَارِهِ كَوَطْءِ الْبَائِعِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ وَطْءَ الْمُشْتَرِي لَا يَكُونُ رِضًا لِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ وَطْءُ الْبَائِعِ رِضًا لِلْفَسْخِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِالْقَوْلِ ، لَمْ يَصِحَّ إِمْسَاكُهُ وَالرِّضَا بِهِ إِلَّا بِالْقَوْلِ . وَلَمَّا كَانَ الْمِلْكُ قَدْ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ إِلَى الْمِلْكِ بِالْفِعْلِ يَفْسَخُ الْبَيْعَ فَيَصِحُّ بِالْفِعْلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِنْ وَطِئَهَا الْبَائِعُ ، فَهِيَ أَمَتُهُ وَالْوَطْءُ اخْتِيَارٌ لِفَسْخِ الْبَيْعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَإِذَا وَطِئَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا ، لِمَا ذَكَرْنَا : مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ لَمَّا حَصَلَ بِالْفِعْلِ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ إِلَيْهِ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ حَيْثُ كَانَ بِالْوَطْءِ ، وَبَيْنَ رَجْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ ، حَيْثُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِالْوَطْءِ : لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِالْقَوْلِ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْقَوْلِ ، وَالْمِلْكَ لَمَّا حَصَلَ بِالْفِعْلِ جَازَ أَنْ يَصِحَّ الرَّدُّ إِلَيْهِ بِالْفِعْلِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الْمُزَنِيُّ : وَهَذَا عِنْدِي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ : إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ ، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ ، فَإِنْ وَطِئَ إِحْدَاهُمَا أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ قَدِ اخْتَارَهَا ، وَقَدْ طُلِّقَتِ الْأُخْرَى ، كَمَا جُعِلَ الْوَطْءُ اخْتِيَارًا لِفَسْخِ الْبَيْعِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَالَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ يَقُولَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ : إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ أَوْ لِأَمَتَيْهِ : إِحْدَاكُمَا حُرَّةٌ ، وَيُعَيِّنُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ وَالْعِتْقَ فِي إِحْدَى أَمَتَيْهِ : فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَطْءُ إِحْدَاهُمَا بَيَانًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ لِغَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مُعَيَّنًا بِاللَّفْظِ قَبْلَ الْوَطْءِ . وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ قَدْ أَبْهَمَ الطَّلَاقَ فِي زَوْجَتَيْهِ وَالْعِتْقَ فِي أَمَتَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَيَّنَهُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : الْوَطْءُ يَكُونُ اخْتِيَارًا لِإِمْسَاكِ الْمَوْطُوءَةِ وَطَلَاقِ الْأُخْرَى إِنْ كَانَتْ زَوْجَةً ، وَعِتْقِهَا إِنْ كَانَتْ أَمَةً ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ : إِنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ بَيَانًا فِي الْمَوْضُوعِ وَإِنْ كَانَ بَيَانًا فِي فَسْخِ الْبَيْعِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ إِزَالَةٌ لِلْمِلْكِ ، وَإِزَالَةُ الْأَمْلَاكِ لَا تَقَعُ إِلَّا بِالْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ . وَفَسْخُ الْبَيْعِ اسْتِرْجَاعٌ لِلْمِلْكِ ، وَالْأَمْلَاكُ قَدْ تَحْصُلُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَالْخِيَارُ لِوَارِثِهِ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَيَكُونُ مَوْرُوثًا . وَقَالَ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ : إِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَقَدْ بَاعَ أَوِ اشْتَرَى قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ . زَادَ أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ : وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ الْخِيَارُ . فَظَاهِرُ قَوْلِهِ : فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ : يُوجِبُ قَطْعَ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مَوْرُوثًا لِسَيِّدِهِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ أَبُو حَامِدٍ فِي الزِّيَادَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي بَيْعِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِ الْحُرِّ وَلَا إِلَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ : لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْخِيَارُ بِمُفَارَقَةِ الْأَبْدَانِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَنْقَطِعَ بِالْمَوْتِ الْمُفَرِّقِ بَيْنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَبْدَانِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْخِيَارَ لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِ الْحُرِّ وَسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ - وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ - لِأَنَّ الْخِيَارَ قَدْ ثَبَتَ فِي الْمَجْلِسِ بِالْعَقْدِ وَفِي الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُ الثَّلَاثِ بِالْمَوْتِ وَكَانَ مَوْرُوثًا ، وَجَبَ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالْمَوْتِ وَيَكُونَ مَوْرُوثًا . وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالتَّفَرُّقِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَبْطُلَ بِالْمَوْتِ ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ إِكْرَاهًا . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَأَنَّ الْخِيَارَ لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ ، لِمَا ذَكَرْنَا ، وَيَكُونُ مُتَنَقِّلًا إِلَى وَارِثِ الْحُرِّ وَسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ . وَقَوْلُهُ فِي الْمُكَاتَبِ : فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ : قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا مَاتَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ بَطَلَ الْبَيْعُ : لِأَنَّهُ يَمُوتُ عَبْدًا .

وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْجَوَابَ مُخْتَلِفٌ عَلَى اخْتِلَافِ نَصَّيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، فَيَكُونُ الْخِيَارُ مُنْتَقِلًا عَنِ الْحُرِّ إِلَى وَارِثِهِ ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ ، وَلَا يَنْتَقِلُ عَنِ الْمُكَاتَبِ إِلَى سَيِّدِهِ ، وَيَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْحُرَّ يَنْتَقِلُ مَالُهُ إِلَى وَارِثِهِ بِالْإِرْثِ وَحُدُوثِ الْفَوْتِ ، فَقَامَ فِي الْخِيَارِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ ، كَمَا قَامَ مَقَامَهُ فِي غَيْرِهِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ : لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مَالُهُ إِلَى سَيِّدِهِ بِالْمِلْكِ الْمُتَقَدِّمِ ، لَا بِالْإِرْثِ ، فَلَمَّا بَطَلَ خِيَارُ الْمُكَاتَبِ بِالْمَوْتِ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى سَيِّدِهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ ، كَالْوَكِيلِ إِذَا مَاتَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْتَقِلِ الْخِيَارُ إِلَى مُوَكِّلِهِ ، لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ لَا بِالْإِرْثِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا إِذَا جُنَّ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ ، فَالْخِيَارُ ثَابِتٌ لَا يَنْقَطِعُ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْجُنُونِ : لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَبْطُلُ بِحُدُوثِهِ ، وَسَوَاءٌ فَارَقَ الْمَجْنُونُ الْمَجْلِسَ أَوْ قَامَ فِيهِ : لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجْنُونِ لَا حُكْمَ لَهُ ، فَلَمْ يَنْقَطِعِ الْخِيَارُ بِفِرَاقِهِ . وَيَنْتَقِلُ الْخِيَارُ عَنْهُ إِلَى وَلِيِّهِ ، كَمَا يَنْتَقِلُ خِيَارُ الْمَيِّتِ إِلَى وَارِثِهِ . وَيَكُونُ الْخِيَارُ بَاقِيًا لِوَلِيِّ الْمَجْنُونِ وَوَارِثِ الْمَيِّتِ مَا لَمْ يَعْلَمَا بِالْحَالِ وَلَمْ يُفَارِقِ الْعَاقِدُ الْآخَرُ الْمَكَانَ . فَإِذَا عَلِمَ وَلِيُّ الْمَجْنُونِ وَوَارِثُ الْمَيِّتِ ، فَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِهِمَا الَّذِي عَلِمَا فِيهِ مَا لَمْ يُفَارِقَاهُ . فَإِنْ فَارَقَا الْمَجْلِسَ الَّذِي عَلِمَا فِيهِ ، أَوْ فَارَقَ الْعَاقِدُ الْآخَرُ الْمَكَانَ الَّذِي عُقِدَ الْبَيْعُ فِيهِ ، فَقَدِ انْقَطَعَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا خِيَارُ الثَّلَاثِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَوْرُوثٌ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : خِيَارُ الثَّلَاثِ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَلَا يُورَثُ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ خِيَارٌ يَمْنَعُ مِنَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْمَوْتِ كَخِيَارِ الْقَبُولِ . قَالَ : وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِي الْمَبِيعِ يَنْفِي مُوجَبَ الْعَقْدِ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، كَمَا أَنَّ الْأَجَلَ فِي الثَّمَنِ يَنْفِي مُوجَبَ الْعَقْدِ فَمُنِعَ مِنْ جَوَازِ تَصَرُّفِ الْبَائِعِ فِيهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْأَجَلَ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ بَاطِلًا بِالْمَوْتِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا : أَنَّهُ مَعْنًى يَنْفِي مُوجَبَ الْعَقْدِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْمَوْتِ كَالْأَجَلِ . قَالَ : وَلِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، لَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ ، وَالْوَرَثَةُ إِنَّمَا يَخْلُفُونَ الْمَيِّتَ فِي الْمِلْكِ لَا فِي الْعَقْدِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ فِي الْخِيَارِ حَقٌّ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوَكَّلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ مَا ثَبَتَ لِوَكِيلِهِ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ : لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، وَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْعَيْبِ : لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ .

وَلِأَنَّ هَذَا الْخِيَارَ مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْطِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ شُرِطَ لَهُ ، وَالْوَارِثُ لَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الْخِيَارُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّهُ خِيَارٌ ثَابِتٌ فِي بَيْعٍ ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ الْوَارِثُ فِيهِ مَقَامَ مُورِثِهِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ : وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقْطَعَ الْخِيَارَ الْمُسْتَحَقَّ كَالْجُنُونِ : وَلِأَنَّ كُلَّ خِيَارٍ لَا يَنْقَطِعُ بِالْجُنُونِ لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ : وَلِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ لَا مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، بِدَلِيلِ ثُبُوتِهِ بَعْدَ تَقَضِّي الْعَقْدِ ، فَوَجَبَ إِذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَى الْوَارِثِ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِ بِحُقُوقِهِ كَالرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِي حَقِّهِ . وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ انْفِصَالٌ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى خِيَارِ الْقَبُولِ : فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي خِيَارِ الْقَبُولِ أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ بِالْجُنُونِ ، بَطَلَ بِالْمَوْتِ ، عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ : لَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ ، وَإِنَّمَا بَطَلَ بِالتَّرَاخِي وَمِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ . حَتَّى قَالَ : لَوْ كَانَ الْمَوْتُ عُقَيْبَ الْبَذْلِ ، فَقَالَ الْوَارِثُ فِي الْحَالِ : قَدْ قَبِلْتُ ، صَحَّ الْعَقْدُ ، إِذَا لَمْ يَقَعِ التَّرَاخِي بَيْنَ بَذْلِ الْبَائِعِ وَقَبُولِ الْوَارِثِ . وَهَذَا قَوْلٌ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ . وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ : هُوَ الصَّحِيحُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَجَلِ : فَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا أَتْلَفَ الذِّمَّةَ الَّتِي أُثْبِتَ فِيهَا الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ ، أَبْطَلَ الْأَجْلَ ، لِتَلِفِ مَحَلِّهِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ الدَّيْنُ بِأَجَلِهِ إِلَى ذِمَّةِ الْوَارِثِ ، لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّتِهِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخِيَارُ : لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ فِي الْمَبِيعِ الْمَوْجُودِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، كَوُجُودِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، فَجَازَ أَنْ لَا يَبْطُلَ بِالْمَوْتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْتَ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتْلِفًا لِلذِّمَّةِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا الْأَجَلُ لَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ مُبْطِلًا لِلْأَجْلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْطِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ لَهُ الشَّرْطُ : فَهُوَ أَنَّهُ بَاطِلٌ بِالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْمَبِيعِ ، وَهُوَ أَنْ يَبْتَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ صَانِعٌ فَيُوجَدُ غَيْرَ صَانِعٍ ، فَلِلْوَارِثِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ : لِعَدَمِ الصِّفَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ لِغَيْرِهِ ، عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ حَقٌّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ إِعْرَاضُهُ فِي اخْتِلَافِ مُسْتَحِقِّيهِ كَالدَّيْنِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خِيَارَ الثَّلَاثِ مَوْرُوثٌ : فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا ، كَانَ بِالْخِيَارِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِي الْمَبِيعِ كُلِّهِ أَوْ فَسْخِ جَمِيعِهِ . وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً : فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى إِمْسَاكِ الْمَبِيعِ كُلِّهِ أَوْ رَدِّ جَمِيعِهِ ، فَذَاكَ لَهُمْ . وَإِنْ أَرَادَ بَعْضُهُمُ الرَّدَّ وَبَعْضُهُمُ الْإِمْسَاكَ ؟

فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ ، وَقِيلَ لِمَنْ أَرَادَ الرَّدَّ : لَا حَقَّ لَكَ فِي الرَّدِّ إِلَّا أَنْ يَرُدَّ الْبَاقُونَ مَعَكَ ، لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ ، فَلَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُهَا عَلَى الْبَائِعِ . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِرَدِّ حِصَّتِهِ دُونَ شُرَكَائِهِ : لِأَنَّهُ يَرُدُّ جَمِيعَ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ ، فَصَارَ فِي حُكْمِ الْمُشْتَرِينَ صَفْقَةً . هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُشْتَرِي . أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْبَائِعُ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ أَنْ يَنْفَرِدَ ، فَيَفْسَخُ لِلْبَيْعِ فِي حِصَّتِهِ ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ . بِخِلَافِ وَرَثَةِ الْمُشْتَرِي ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّهُ إِذَا فَسَخَ بَعْضُ وَرَثَةِ الْبَائِعِ فِي حِصَّتِهِ ، ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ فِي الْبَاقِي ، لِتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ ، فَأَمْكَنَهُ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي فَأَمْسَكَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ وَرَدَّ بَعْضُهُمْ ، لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يُثْبَتُ لَهُ بِذَلِكَ خِيَارٌ يُمُكِّنُهُ أَنْ يَدْفَعَ بِهِ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ . فَصْلٌ : إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الثَّلَاثِ ، فَلَمْ يَعْلَمِ الْوَارِثُ حَتَّى مَضَتِ الثَّلَاثُ ، سَقَطَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ ، لِأَنَّ تَحْدِيدَ الْخِيَارِ بِالثَّلَاثِ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنْ كَانَتْ بَهِيمَةً فَنُتِجَتْ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ثُمَّ تَفَرَّقَا ، فَوَلَدُهَا لِلْمُشْتَرِي : لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ وَهُوَ حَمْلٌ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِلْكُ الْمَبِيعِ بِمَاذَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي : وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ مَضَتْ . وَالثَّانِي : فِي الْحَمْلِ ، هَلْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ أَوْ يَكُونُ تَبَعًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَكُونُ تَبَعًا ، وَلَا يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا كَالسَّمْنِ وَالْأَعْضَاءِ : لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ الْأُمَّ سَرَى الْعِتْقُ إِلَى حَمْلِهَا كَسِرَايَتِهِ إِلَى أَعْضَائِهَا التَّابِعَةِ لَهَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ كَاللَّبَنِ : لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ الْحَمْلَ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ إِلَى أُمِّهِ ، وَلَوْ كَانَ تَبَعًا لَهَا كَأَعْضَائِهَا لَسَرَى عِتْقُهُ إِلَيْهَا كَمَا يَسْرِي عِتْقُ أَعْضَائِهَا إِلَيْهَا . فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ : فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ بَهِيمَةً حَامِلًا ، فَوَضَعَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الِافْتِرَاقِ . فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ ، صَارَ الْعَقْدُ كَأَنَّهُ قَدْ تَنَاوَلَهُمَا مَعًا . فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ كَانَ الْوَلَدُ لِلْمُشْتَرِي مَعَ الْأُمِّ .

وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ كَانَ الْوَلَدُ لِلْبَائِعِ - وَهَذَا عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا - وَيَكُونُ الْوَلَدُ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ ، حَتَّى يُسَلِّمَهُ ، وَمَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي إِذَا تَسَلَّمَهُ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ : فَلَا . يَخْلُو حَالُ الْبَيْعِ مِنْ أَنْ يَتِمَّ ، أَوْ يَنْفَسِخَ : فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ : فَحُكْمُ الْوَلَدِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ . فَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، أَوْ قُلْنَا : إِنَّهُ مُرَاعًى ، فَالْوَلَدُ لِلْمُشْتَرِي ، لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهِ . وَهَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ ، حَتَّى يُسَلِّمَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي نَمَاءِ الصَّدَاقِ . هَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجِ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ ، فَفِي الْوَلَدِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْعَيْبِ أَوْ مَجْرَى خِيَارِ الْقَبُولِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْعَيْبِ . فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ إِذَا كَانَتِ الْوِلَادَةُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَكُونُ لِلْبَائِعِ ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ : إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْقَبُولِ . فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْوِلَادَةُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ ، لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ رَدُّهُ ، وَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّعَدِّي وَجْهًا وَاحِدًا : لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ الْمَبِيعَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ النَّمَاءِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَلَمَّا كَانَ الْبَائِعُ يَضْمَنُ الْمَبِيعَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، جَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُ النَّمَاءِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ . فَصْلٌ : وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا : فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَقَطْعِ الْخِيَارِ ، أَوْ قُلْنَا : إِنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى ، فَالْوَلَدُ لِلْبَائِعِ ، وَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَا يَضْمَنُهُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَلَدَ لِلْبَائِعِ إِذَا قِيلَ : إِنَّ هَذَا الْخِيَارَ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْقَبُولِ ، وَيَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : الْوَلَدُ لِلْمُشْتَرِي إِذَا قِيلَ : إِنَّ هَذَا الْخِيَارَ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْعَيْبِ . وَهَلْ يَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ ضَمَانَةٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ نَمَاءٍ حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ قَطْعِ الْخِيَارِ مِنْ ثَمَرَةٍ ، وَكَسْبٍ ، كَالْوَلَدِ سَوَاءٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَكَذَلِكَ كُلُّ خِيَارٍ بِشَرْطٍ جَائِزٍ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَيُرِيدُ بِهِ أَنَّ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَسَائِلِ فِي عِتْقِ الْمُشْتَرِي ، وَعِتْقِ الْبَائِعِ ، وَوَطْءِ الْمُشْتَرِي ، وَوَطْءِ الْبَائِعِ ، وَنِتَاجِ الْبَهِيمَةِ ، إِذَا حَدَثَ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ ، فَحُكْمُهَا عَلَى مَا مَضَى فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ سَوَاءٌ . وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ فِي خِيَارِ الثَّلَاثِ كَانْتِقَالِهِ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ . نَحْنُ نُوَضِّحُ مَعَانِيَهَا بِالتَّفْرِيعِ عَلَيْهَا ، فَمِنْ ذَلِكَ : أَنْ يَشْتَرِيَ أَمَةً ، فَتَحِيضُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ تَقَضِّي الْخِيَارِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ ، لَمْ تَعْتَدَّ بِهَذِهِ الْحَيْضَةِ عَنِ الِاسْتِبْرَاءِ . وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِالْعَقْدِ أَوْ إِنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَعْتَدَّ بِهَذِهِ الْحَيْضَةِ عَنِ الِاسْتِبْرَاءِ : لِحُدُوثِهَا فِي مِلْكِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي كِتَابِ الِاسْتِبْرَاءِ : أَنَّهُ لَا تَعْتَدَّ بِهَذِهِ الْحَيْضَةِ عَنِ الِاسْتِبْرَاءِ : لِأَنَّ الْفَرْجَ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي زَمَانِ الْإِبَاحَةِ . وَكَذَا لَوْ وَلَدَتْ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ مِنْ زِنًا ، كَانَ وُقُوعُ الِاسْتِبْرَاءِ بِهِ كَالْحَيْضِ سَوَاءٌ . فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ ، فَفِي جَوَازِ وَطْئِهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا : لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ أَمَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ ، وَأَيَّهُمَا كَانَتْ ، حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ : لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَطَأُ بِالْمِلْكِ أَمْ بِالزَّوْجِيَّةِ ؟ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ، بَطَلَ نِكَاحُهَا ، وَصَارَتْ أَمَةً يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا قَبْلَ وَطْئِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، هَلْ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ مُضِيِّ الْخِيَارِ أَمْ لَا ؟ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا ، وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ ، لِحُدُوثِ الْمِلْكِ . وَإِنْ قِيلَ : لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ . وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا : فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ ، أَوْ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى ، فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ ، وَهُمَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ .

وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، فَفِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَنْفَسِخُ لِوُقُوعِ مِلْكِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ : أَنَّ النِّكَاحَ بِحَالِهِ لَا يَنْفَسِخُ ، : لِأَنَّ مِلْكَهُ وَإِنْ تَمَّ فَهُوَ مِلْكٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ . فَصْلٌ : إِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ؟ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ، لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ ، إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، أَوْ هُوَ مَوْقُوفٌ ، وَإِنْ قِيلَ : لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَقَعُ ، لِمَا ذَكَرْنَا ، وَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا . وَالثَّانِي : قَدْ وَقَعَ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ . وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ، وَقْعَ الطَّلَاقُ ، إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ ، أَوْ هُوَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ ، وَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْعَقْدِ فَرَاجَعَهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ : فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ ، لَمْ يَكُنْ لِلرَّجْعَةِ تَأْثِيرٌ : لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدِ انْفَسَخَ . وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ، صَحَّتِ الرَّجْعَةُ ، إِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ ، أَوْ هُوَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، فَفِي صِحَّةِ الرَّجْعَةِ وَجْهَانِ .

لَا بَأْسَ بِنَقْدِ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا بَأْسَ بِنَقْدِ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إِلَى الْبَائِعِ ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَبِيعَ فِيهَا إِلَى الْمُشْتَرِي . وَكَرِهَ مَالِكٌ دَفْعَ الثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، وَلَمْ يَكْرَهْ دَفْعَ الْمَبِيعِ ، لِأَنَّ بِالْمُشْتَرِي حَاجَةً إِلَى تَقْلِيبِ الْمَبِيعِ وَنَظَرِ عَيْنَيْهِ . وَهَذَا خَطَأٌ : لِأَنَّ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ وَقَبْضِ الْمَبِيعِ مِنْ مُوجَبِ الْعَقْدِ ، وَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ بَعْدَ الْعَقْدِ . وَإِذَا صَحَّ جَوَازُ ذَلِكَ ، وَقَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَطْعًا لِخِيَارِ الْبَائِعِ ، وَلَا يَكُونُ قَبْضُ الْبَائِعِ قَطْعًا لِخِيَارِ الْمُشْتَرِي . وَيُمْنَعُ الْبَائِعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فَيَ الثَّمَنِ ، وَالْمُشْتَرِي مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْخِيَارِ : لِأَنَّ الْخِيَارَ يُوقِعُ حَجْرًا فِي التَّصَرُّفِ . فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ ، اسْتَقَرَّ وَجَازَ التَّصَرُّفُ . وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ ، اسْتَرْجَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ ، وَاسْتَرْجَعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ مِنَ الْمُشْتَرِي .

فَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي : لَسْتُ أَرُدُّ الْمَبِيعَ إِلَّا بَعْدَ اسْتِرْجَاعِ الثَّمَنَ ، وَقَالَ الْبَائِعُ : لَسْتُ أَرُدُّ الثَّمَنَ إِلَّا بَعْدَ اسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعَ ، لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَبْسَ شَيْءٍ مِمَّا بِيَدِهِ ، وَوَجَبَ لِمَنْ بَدَأَ بِالْمُطَالَبَةِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مَا بِيَدِ صَاحِبِهِ ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا بِيَدِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَبْسُ مَا بِيَدِهِ عَلَى اسْتِرْجَاعِ مَا بِيَدِ صَاحِبِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَمَانَعَا الْقَبْضَ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، فَيَقُولُ الْبَائِعُ : لَا أُسَلِّمُ الْمَبِيعَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي : لَا أَدْفَعُ الثَّمَنَ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعَ ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَبْسُ مَا بِيَدِهِ عَلَى قَبْضِ مَا بِيَدِ صَاحِبِهِ : إِنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ قَدْ رَفَعَ حُكْمَ الْعَقْدِ ، فَكَانَ التَّسْلِيمُ لِأَجْلِ الْيَدِ ، لَا بِالْعَقْدِ ، وَالْيَدُ تُوجِبُ الرَّدَّ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا تَمَانَعَا مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ : لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ وَإِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمَ مَا بِيَدِهِ ، فَقَدْ أَوْجَبَ لَهُ قَبْضَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَحْبُوسًا عَلَى قَبْضِ الْآخَرِ لَهُ كَمَا فِي الْمُوجَبَيْنِ . فَصْلٌ : فَلَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ رَدِّهِ عَلَى الْبَائِعِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ قَبْلَ الْفَسْخِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْفَسْخِ . فَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ قَبْلَ الْفَسْخِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخِيَارِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ ، أَوْ خِيَارَ الشَّرْطِ . وَإِنْ كَانَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ، أَوْ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ ، لِأَنَّ مَا لَهُ مِثْلٌ ، إِنَّمَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ دُونَ الْقِيمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ كَالْغَصْبِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ كَالْمَقْبُوضِ لِلسَّوْمِ أَوْ بِعَقْدِ بَيْعٍ فَاسِدٍ ، أَوْ مَفْسُوخٍ ، فَإِنَّهُ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ . وَإِنْ كَانَ خِيَارَ شَرْطٍ نُظِرَ . فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ ، لَا يَخْتَلِفُ . وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ دُونَ الْبَائِعِ ، فَإِنْ قِيلَ : لَا يَمْلِكُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ ، أَوْ هُوَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ . وَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْبُيُوعِ - أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الثَّمَنِ : لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَتِمَّ .

وَالثَّانِي : - وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ - أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى دُونَ الْقِيمَةِ : لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهُ وَحْدَهُ يَجْرِي مَجْرَى خِيَارِ الْعَيْبِ ، وَإِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِيهِ خِيَارُ الْعَيْبِ كَانَ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ دُونَ الْقِيمَةِ ، فَكَذَلِكَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ . فَأَمَّا إِذَا كَانَ تَلَفُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْفَسْخِ ، فَلَا يَضْمَنُهُ بِالثَّمَنِ ، لَا يَخْتَلِفُ ، لِاسْتِقْرَارِ الْفَسْخِ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ بِالْقِيمَةِ . فَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ الطَّلَبِ ، كَانَ الْمُشْتَرِي ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ أَمْ لَا ، لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ . وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَ طَلَبِ الْبَائِعِ وَبَيْعِ الْمُشْتَرِي : فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ ، ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَضْمَنُهُ بِالْقِيِمَةِ أَيْضًا : لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ . وَالثَّانِي : يَضْمَنُهُ بِالْمِثْلِ : لِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ مِنَ الرَّدِّ بَعْدَ الْفَسْخِ وَالطَّلَبِ ، صَارَ غَاصِبًا ، وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعَاوِضًا .
خيار الشرط لا يجوز أكثر من ثلاث مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ خِيَارٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ ، وَلَوْلَا الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فِي الْمُصَرَّاةِ وَلِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ فِيمَا اشْتَرَى ثَلَاثًا ، لَمَا جَازَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ سَاعَةً ، وَلَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ الِانْتِفَاعُ بِالثَّمَنِ ، وَلَا لِلْمُشْتَرِي الِانْتِفَاعُ بِالْجَارِيَةِ ، فَلَمَّا أَجَازَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ ثَلَاثًا اتَّبَعْنَاهُ ، وَلَمْ نُجَاوِزْهُ وَذَلِكَ أَنَّ أَمْرَهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا حَدًّا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ ، خِيَارُ الشَّرْطِ ، لَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : خِيَارُ الشَّرْطِ يَجُوزُ مُؤَبَّدًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : يَجُوزُ مُؤَبَّدًا إِذَا كَانَ مَحْدُودًا بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ فِي الْمَبِيعَاتِ عَلَى قَدْرِهَا وَبِحَسْبِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي تَعَرُّفِ أَحْوَالِهَا ، فَمَا أَمْكَنَ تَعَرُّفُ حَالِهِ فِي يَوْمٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ ثَلَاثًا ، وَمَا لَمْ يُمْكِنْ تَعَرُّفُ حَالَهُ إِلَّا فِي شَهْرٍ ، جَازَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ شَهْرًا . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فَوْقَ ثَلَاثٍ :

بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ " . وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ مَعْلُومٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْبَيْعِ ، أَصْلُهُ خِيَارُ الثَّلَاثِ : وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ مُلْحَقٌ بِالْبَيْعِ يَجُوزُ ثَلَاثًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ كَالْأَجَلِ : وَلِأَنَّ الْخِيَارَ ضَرْبَانِ : خِيَارُ مَجْلِسٍ ، وَخِيَارُ شَرْطٍ . فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَمْتَدَّ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فَوْقَ ثَلَاثٍ . وَدَلِيلُنَا : رِوَايَةُ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ " فَأُجِيزَ بِالدَّلَالَةِ خِيَارُ الثَّلَاثِ ، وَبَقِيَ مَا سِوَاهُ عَلَى حُكْمِ الْمَنْعِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ كَانَ شُجَّ فِي رَأْسِهِ مَأْمُومَةٌ ، فَثَقُلَ لِسَانُهُ ، وَكَانَ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ ، فَجَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُبَايَعُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " قُلْ لَا خِلَابَةَ " قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : " لَا خِذَابَةَ " . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَخْلُبُوا ، وَالْخِلَابَةُ : الْخَدِيعَةُ . وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُصَرَّاةِ . الْخِيَارَ ثَلَاثًا : فَكَانَتِ الدَّلَالَةُ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حِبَّانَ كَانَ أَحْوَجَ النَّاسِ إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْخِيَارِ : لِمَكَانِهِ مِنْ ضَعْفِ النَّظَرِ وَحَاجَتِهِ إِلَى اسْتِدْرَاكِ الْخَدِيعَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَزِدْ بِالشَّرْطِ عَلَى الثَّلَاثِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَايَةُ الْحَدِّ فِي الْعَقْدِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَدَّهُ بِالثَّلَاثِ ، وَالْحَدُّ يُفِيدُ الْمَنْعَ إِمَّا مِنَ الْمُجَاوَزَةِ أَوْ مِنَ النُّقْصَانِ ، فَلَمَّا جَازَ النُّقْصَانُ مِنَ الثَّلَاثِ ، عُلِمَ أَنَّهُ حَدٌّ لِلْمَنْعِ مِنْ مُجَاوَزَةِ الثَّلَاثِ . وَلِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ وَمُوجَبُ الْعَقْدِ جَوَازُ التَّصَرُّفِ ، وَالشَّرْطُ إِذَا كَانَ مُنَافِيًا لِمُوجَبِ الْعَقْدِ أَبْطَلَهُ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْسُدَ بِهِ الْعَقْدُ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ ، أَصْلُهُ إِذَا بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ خِيَارُ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ .

وَلِأَنَّ الْخِيَارَ غَرَرٌ ، وَالْعَقْدُ يُمْنَعُ مِنْ كَثِيرِ الْغَرَرِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ قَلِيلِهِ ، كَعَقْدِ الرُّؤْيَةِ لَمَّا كَانَ غَرَرًا جُوِّزَ فِي تَوَابِعِ الْبَيْعِ وَلَمْ يُجَوَّزْ فِي جَمِيعِهِ ، وَالثَّلَاثُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ ثَمُودَ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ [ هُودٍ : ] ثُمَّ بَيَّنَ الْقَرِيبُ فَقَالَ تَعَالَى : تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [ هُودٍ : ] فَثَبَتَ أَنَّ الثَّلَاثَ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ ، فَجَازَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ بِهَا فِي الْعَقْدِ لِقِلَّةِ غَرَرِهَا ، وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا لِكَثْرَةِ غَرَرِهَا . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ " فَقَدِ اسْتَثْنَى مِنْهُ " إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا " . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى خِيَارِ الثَّلَاثِ ، فَالْمَعْنَى فِيهَا قِلَّةُ الْغَرَرِ بِهَا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ رُخْصَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْظُورَةٍ ، فَلَمْ يَجُزِ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَجَلِ : فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ تَأْجِيلَ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ : لِأَنَّ مَقْصُودَهُ طَلَبُ الْفَضْلِ فِيهِ بِتَوْفِيرِ الثَّمَنِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي زِيَادَةِ الْأَجَلِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخِيَارُ : لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِاهِمْ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ ، فَجَازَتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ ، وَخِيَارُ الثَّلَاثِ مِنْ مُوجِبَاتِ الشَّرْطِ فَلَمْ تَجُزْ فِيهِ الْجَهَالَةُ ، كَالْقَبْضِ إِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْوَقْتِ ، وَإِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْوَقْتِ . فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ خِيَارَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ لَا يَصِحُّ ، فَمَتَى عُقِدَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ خِيَارٍ يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ أَوْ خِيَارٍ مَجْهُولٍ ، كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا ، سَوَاءٌ أَبْطَلَا الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ فِي مُدَّةِ الثَّلَاثِ أَمْ لَا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِنِ اتَّفَقَا عَلَى إِبْطَالِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ قَبْلَ تَقَضِّي الثَّلَاثِ ، صَحَّ الْبَيْعُ . وَإِنْ لَمْ يُبْطِلَاهُ حَتَّى مَضَتِ الثَّلَاثُ ، فَسَدَ حِينَئِذٍ الْبَيْعُ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الشَّرْطَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ حَالَ الْعَقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ زَادَا فِي الثَّمَنِ أَوْ نَقَصَا مِنْهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، أَوْ زَادَا فِي الْأَجَلِ أَوْ نَقَصَا مِنْهُ ، لَزِمَ مَا اشْتَرَطَاهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بَعْدَ الْعَقْدِ ، كَمَا يَلْزَمُ لَوْ شَرَطَاهُ حَالَ الْعَقْدِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا حَالَ الْعَقْدِ إِبْطَالَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ ، صَحَّ الْعَقْدُ ، وَجَبَ إِذَا اشْتَرَطَا بَعْدَ الْعَقْدِ إِبْطَالَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ أَنْ يَصِحَّ الْعَقْدُ . وَدَلِيلُنَا : نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ : وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ الصِّحَّةُ قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ : وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ شُرِطَ فِيهِ خِيَارٌ فَاسِدٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْسِدَهُ ، أَصْلُهُ إِذَا لَمْ يُبْطِلَاهُ حَتَّى مَضَتِ الثَّلَاثُ : وَلِأَنَّ كُلَّمَا أُبْطِلَ الْعَقْدُ

إِذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى تَصْحِيحِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ أَبْطَلَهُ ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى تَصْحِيحِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالثَّمَنِ الْمَجْهُولِ . وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي صِحَّةَ الْعَقْدِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ الْعَقْدُ كَالْأَجْلِ الْمَجْهُولِ . وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ فِي الْعُرْفِ يَزِيدُ بِزِيَادَتِهِ وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ ، فَإِذَا بَطَلَ خِيَارُ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ ، سَقَطَ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَهُ ، فَصَارَ بَاقِي الثَّمَنِ مَجْهُولًا ، وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِالثَّمَنِ الْمَجْهُولِ فَكَذَلِكَ بِمَا أَوْجَبَهُ مِنَ الْخِيَارِ الْفَاسِدِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَفْسَدُ بِخِيَارِ الثَّلَاثِ إِذَا شَرَطَا إِسْقَاطَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ : لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ مِنَ الثَّمَنِ مَا قَابَلَهُ ، فَأَفْضَى إِلَى جَهَالَةٍ فِي بَاقِيهِ وَلَمْ يَفْسُدِ الْبَيْعُ : قِيلَ : هَذَا لَا يَلْزَمُ ، لِأَنَّ الْجَهَالَةَ صَارَتْ فِي الثَّمَنِ لِمَعْنًى حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَهُنَاكَ لِمَعْنًى قَارَنَ الْعَقْدَ ، فَقَدَحَ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَأَخَذَ أَرْشَهُ صَارَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا وَلَمْ يَفْسُدِ الْعَقْدُ : لِأَنَّهُ لِمَعْنًى حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَلَوْ قَالَ : قَدْ بِعْتُكَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَّا أَرْشَ عَيْبِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ ، لِأَنَّهَا جَهَالَةٌ بِمَعْنًى قَارَنَ الْعَقْدَ . فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بَعْدَ فَسَادِهِ بِالْأَجَلِ الْمَجْهُولِ : فَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا زِيدَ فِي ثَمَنِهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ فَقَدْ كَانَ وَقَعَ صَحِيحًا وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَعَ فَاسِدًا ، فَلَمْ يَصِحَّ بَعْدَ فَسَادِهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خِيَارَ الثَّلَاثِ جَائِزٌ ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ فَاسِدَةٌ ، وَالْبَيْعُ مَعَهَا فَاسِدٌ . فَلَا بَأْسَ بِاشْتِرَاطِ الثَّلَاثِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، فَلَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ التَّصَرُّفُ فِيمَا قَبَضَهُ مِنَ الثَّمَنِ ، لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيمَا قَبَضَهُ مِنَ الْمَبِيعِ ، لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِيَارُ الثَّلَاثِ مَشْرُوطًا لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي ، فَلَا يَتَصَرَّفُ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ ، لِثُبُوتِ الْخِيَارِ ، وَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الثَّمَنِ ، لِأَنَّهُ لَا خِيَارَ عَلَيْهِ لِلْمُشْتَرِي ، وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ فِي الثَّمَنِ اخْتِيَارًا لِلْإِمْضَاءِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِيَارُ الثَّلَاثِ مَشْرُوطًا لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ ، فَلَا يَتَصَرَّفُ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ ، لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي ، وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ : لِأَنَّهُ لَا خِيَارَ عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ . وَهَلْ يَكُونُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَبِيعِ اخْتِيَارًا لِلْإِمْضَاءِ ؟ . عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي وَقْتِهِ ، وَفَرَّقْنَا بَيْنَ تَصَرُّفِ الْبَائِعِ وَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِمَا مَضَى . فَصْلٌ : وَإِذَا جَازَ اشْتِرَاطُ خِيَارِ الثَّلَاثِ ، جَازَ اشْتِرَاطُ خِيَارِ مَا دُونَ الثَّلَاثِ ، فَيَجُوزُ أَنْ

يَشْتَرِطَا خِيَارَ يَوْمٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَا خِيَارَ يَوْمَيْنِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا خِيَارَ يَوْمٍ وَالْآخَرِ خِيَارَ يَوْمَيْنِ ، أَوْ أَحَدُهُمَا خِيَارَ ثَلَاثٍ وَالْآخَرِ خِيَارَ يَوْمٍ . فَلَوْ تَبَايَعَا بِغَيْرِ خِيَارٍ ، فَقَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا شَرَطَا فِي الْعَقْدِ خِيَارَ يَوْمٍ ، ثَبَتَ لَهُمَا خِيَارُ الْيَوْمِ ، فَلَوِ افْتَرَقَا ثُمَّ اجْتَمَعَا قَبْلَ تَقَضِّيهِ ، فَزَادَا فِي الْخِيَارِ يَوْمًا آخَرَ ، ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، فَإِنِ اجْتَمَعَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، فَزَادَ فِيهِ يَوْمًا ثَالِثًا ، ثَبَتَ الْخِيَارُ لَهُمَا فِيهِ ، فَإِنِ اجْتَمَعَا قَبْلَ تَقَضِّي الثَّالِثِ ، فَزَادَ فِيهِ يَوْمًا رَابِعًا ، بَطَلَ الْبَيْعُ : لِأَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ ، بَطَلَ ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَلْحَقَاهُ بِالْعَقْدِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ يَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ . فَلَوْ أَنَّهُمَا أَسْقَطَا الْيَوْمَ الرَّابِعَ ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ ، لِفَسَادِهِ بِاشْتِرَاطِهِ . فَصْلٌ : وَإِذَا تَبَايَعَا نَهَارًا وَشَرَطَا الْخِيَارَ إِلَى اللَّيْلِ ، يَنْقَضِي الْخِيَارُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ . وَلَوْ تَبَايَعَا لَيْلًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، يَنْقَضِي الْخِيَارُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَلَا تَكُونُ الْغَايَةُ دَاخِلَةً فِي شَرْطِ الْخِيَارِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَدْخُلُ الْغَايَةُ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ ، فَإِذَا شَرَطَا فِي بَيْعِ النَّهَارِ الْخِيَارَ إِلَى اللَّيْلِ ، دَخَلَ اللَّيْلُ فِي الْخِيَارِ . وَإِذَا تَبَايَعَا لَيْلًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ إِلَى النَّهَارِ ، دَخَلَ النَّهَارُ فِي الْخِيَارِ . وَدَلِيلُنَا : هُوَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ " مِنْ " لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، وَ " إِلَى " لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا : سَافَرْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ : دَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبَصْرَةَ ابْتِدَاءُ سَفَرِهِمْ وَالْكُوفَةَ غَايَةُ سَفَرِهِمْ ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ خَارِجَةً مِنَ الْحُكْمِ ، لِأَنَّهَا حَدٌّ ، وَالْحَدُّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى عَشْرَةٍ كَانَ مُقِرًّا بِتِسْعَةٍ ، لِأَنَّ الْعَاشِرَ غَايَةٌ . وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى ثَلَاثٍ ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّالِثَةَ غَايَةً . فَصْلٌ : فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْعَقْدِ خِيَارَانِ : خِيَارُ شَرْعٍ ، وَخِيَارُ شَرْطٍ . فَخِيَارُ الشَّرْعِ ، مُقَدَّرٌ بِاجْتِمَاعِ الْأَبْدَانِ ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ ، مُقَدَّرٌ بِمَا شَرَطَا مِنَ الزَّمَانِ . فَلَوْ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ ثَلَاثًا ، فَلِأَصْحَابِنَا فِي ابْتِدَائِهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ بَعْدِ انْقِطَاعِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ ، إِمَّا بِالتَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُ الْخِيَارَيْنِ فِي الْآخَرِ ، لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مُسْتَفَادٌ بِالشَّرْعِ ، وَخِيَارُ الثَّلَاثِ مُسْتَفَادٌ بِالشَّرْطِ ، وَإِذَا كَانَ مُوجَبُهُمَا مُخْتَلِفًا ، تَمَيَّزَا وَلَمْ يَتَدَاخَلَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ : أَنَّ ابْتِدَاءَ خِيَارِ الثَّلَاثِ مِنْ

وَقْتِ الْعَقْدِ ، وَيَكُونُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ دَاخِلًا فِيهِ : لِأَنَّهُ لَوِ اعْتُبِرَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ بَعْدِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ ، لَأَفْضَى إِلَى الْجَهَالَةِ فِي ابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ بِجَهَالَةِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ ، وَإِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ مَجْهُولًا لَمْ يَجُزْ ، فَاعْتُبِرَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ مَعْلُومًا ، فَيَجُوزُ . فَعَلَى هَذَا إِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ ثَبَتَ خِيَارُ الثَّلَاثِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ تَأْثِيرٌ ، وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى مَضَتِ الثَّلَاثُ ، ثَبَتَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِخِيَارِ الثَّلَاثِ تَأْثِيرٌ . فَصْلٌ : فَإِذَا كَانَ زَمَانُ الْخِيَارِ بَاقِيًا ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ صَاحِبِهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُ الْبَيْعِ إِلَّا بِحُضُورِ صَاحِبِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ فَسْخُ عَقْدٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِحُضُورِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ كَالْإِقَالَةِ . وَلِأَنَّ الْفَسْخَ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ ، كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ ، فَلَمَّا كَانَ الْعَقْدُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِمَا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِحُضُورِهِمَا . وَدَلِيلُنَا : مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ لِحِبَّانَ الْخِيَارَ ثَلَاثًا ، وَقَالَ : " قُلْ : لَا خِلَابَةَ فِي الْإِسْلَامِ " وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي خِيَارِهِ حُضُورُ صَاحِبِهِ ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِهِ . وَلِأَنَّهُ اخْتِيَارُ فَسْخِ الْبَيْعِ فِي مُدَّةِ خِيَارِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَسِخَ أَصْلُهُ إِذَا كَانَ بِحُضُورِ صَاحِبِهِ : وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَقْطَعُ الْخِيَارَ ، فَوَجَبَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِهِ رِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ إِلَى حُضُورِهِمَا . أَصْلُهُ إِجَازَةُ الْبَيْعِ . وَلِأَنَّ كُلَّمَا كَانَ فَسْخًا بِحُضُورِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، كَانَ فَسْخًا بِغَيْبَةِ أَحَدِهِمَا كَوَطْءِ الْبَائِعِ ، وَقُبْلَتِهِ لِلْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ . وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَفْتَقِرْ رَفْعُ الْعَقْدِ إِلَى رِضَاهُ ، لَمْ يَفْتَقِرْ رَفْعُ الْعَقْدِ إِلَى حُضُورِهِ ، كَالزَّوْجِ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ طَرْدًا وَالْإِقَالَةِ عَكْسًا . وَفِيهِ انْفِصَالٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالَيْنِ : لِأَنَّهُ لَمَّا افْتَقَرَ الْعَقْدُ وَالْإِقَالَةُ إِلَى رِضَاهُمَا ، افْتَقَرَ إِلَى حُضُورِهِمَا ، وَلَمَّا لَمْ يَفْتَقِرِ الْفَسْخُ إِلَى رِضَاهُمَا ، لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حُضُورِهِمَا . فَصْلٌ : إِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا فِي بَيْعِ شَيْءٍ أَوِ ابْتِيَاعِ شَيْءٍ ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ خِيَارَ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ خِيَارُ الثَّلَاثِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الْمُوَكِّلِ صَرِيحٍ : لِأَنَّ الْخِيَارَ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ إِلَّا بِشَرْطٍ ، فَلَمْ تَتَضَمَّنْهُ الْوِكَالَةُ إِلَّا بِإِذْنٍ كَالْأَجْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ لَهُ اشْتِرَاطُ خِيَارِ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ : لِأَنَّ الْخِيَارَ زِيَادَةُ نَظَرٍ وَطَلَبُ حَظٍّ بِخِلَافِ الْأَجَلِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، وَشَرَطَ الْوَكِيلُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ خِيَارَ الثَّلَاثِ ، فَهُوَ ثَابِتٌ لِلْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ ، أَمَّا الْوَكِيلُ ، فَلِأَجْلِ عَقْدِهِ ، وَأَمَّا الْمُوَكِّلُ ، فَلِحَقِّ مِلْكِهِ . وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ صَاحِبَهُ إِلَى قَطْعِ الْخِيَارِ بِفَسْخٍ أَوْ إِجَازَةٍ ، صَحَّ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ ، فَإِنْ سَبَقَ الْوَكِيلُ إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُوَكِّلُ لَزِمَهُ ، وَكَذَا لَوْ سَبَقَ الْمُوَكِّلُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْوَكِيلِ صَحَّ . واللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : إِذَا بَاعَ سِلْعَةً عَلَى أَنْ يَكُونَ خِيَارُ الثَّلَاثِ فِيهَا لِزَيْدٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ : جَازَ ، وَكَانَ الْخِيَارُ لِزَيْدٍ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ فِيهِ خِيَارٌ ، وَمَنَعَ مِنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الشَّرْطِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ الْأَوَّلِ ، وَيَصِحُّ الشَّرْطُ ، وَيَكُونُ الْخِيَارُ لِزَيْدٍ الْمُسَمَّى دُونَ الْبَائِعِ : لِأَنَّ الْعَقْدَ يَمْنَعُ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ ، وَمُسْتَحِقُّ الْخِيَارِ مَوْقُوفٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ شَرَطَ الْخِيَارَ . وَالثَّانِي : أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ فَاسِدٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْخِيَارَ فَيَ الْبَيْعِ إِلَّا مَنْ عَقَدَهُ أَوْ عُقِدَ لَهُ ، وَلَيْسَ زَيْدٌ الْمُسَمَّى فِي اسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ لَهُ عَاقِدًا وَلَا مَعْقُودًا لَهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ فِي الْعَقْدِ خِيَارٌ . وَالثَّالِثُ : إِنْ جُعِلَ الْخِيَارُ لِزَيْدٍ عَلَى طَرِيقِ التَّوْكِيلِ لَهُ فِي النَّظَرِ عَنِ الْبَائِعِ ، صَحَّ ، وَثَبَتَ الْخِيَارُ لِزَيْدٍ الْمُسَمَّى وَلِلْبَائِعِ مَعًا ، وَكَانَ زَيْدٌ وَكِيلًا لِلْبَائِعِ ، فَأَيُّهُمَا اخْتَارَ الْفَسْخَ أَوِ الْإِمْضَاءَ لَزِمَ : الْوَكِيلَ أَوِ الْمُوَكِّلَ . فَإِنَّ جُعِلَ لَهُ الْخِيَارُ مِلْكًا لَهُ دُونَ الْبَائِعِ ، أَوْ أُطْلِقَ الشَّرْطُ ، لَمْ يَجُزْ وَكَانَ بَاطِلًا . وَتَعْلِيلُ هَذَا الْمَذْهَبِ مُشْتَرَكٌ مِنْ تَعْلِيلِ الْمَذْهَبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَهُوَ أَظْهَرُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ : [ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ الْخِيَارَ لِوَكِيلِهِ دُونَهُ ] . فَإِذَا قِيلَ : بِصِحَّةِ هَذَا الشَّرْطِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ ، صَحَّ الْبَيْعُ وَثَبَتَ فِيهِ الشَّرْطُ . فَإِذَا قِيلَ : بِفَسَادِ هَذَا الشَّرْطِ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِفَسَادِهِ ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ

بَاطِلًا لِمُنَافَاتِهِ . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّ الشَّرْطَ فَاسِدٌ وَالْبَيْعَ صَحِيحٌ . وَفِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الْفَسَادُ مِنَ الشَّرْطِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جُمْلَةُ الْخِيَارِ ، فَيَصِيرُ الْبَيْعُ لَازِمًا وَلَا خِيَارَ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْفَسَادَ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِزَيْدٍ الْمُسَمَّى ، وَيَكُوْنُ الْخِيَارُ ثَابِتًا لِلْبَائِعِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : فَإِذَا قَالَ : بِعْتُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ عَلَى اسْتِئْمَارِ زِيدٍ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ : لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَدِ اسْتَأْمَرْتُ زَيْدًا فَأَذِنَ لِي فِي الرَّدِّ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَازِمٌ . وَالْجَوَابُ فِيهِ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْمَارِ زَيْدٍ وَإِذْنِهِ لِأَجْلِ شَرْطِهِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَكَافَّةِ الْبَصْرِيِّينَ : أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، وَلَهُ الرَّدُّ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، سَوَاءٌ اسْتَأْمَرَ زَيْدًا أَمْ لَمْ يَسْتَأْمِرْهُ ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنَ الْخِيَارِ . فَمَنْ قَالَ بِهَذَا لَهُمْ عَنْ جَوَابِ الشَّافِعِيِّ : لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْمَارِهِ ، تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُرِيدُ بِهِ لَيْسَ لَهُ إِذَا رَدَّ أَنْ يَقُولَ : قَدْ أَذِنَ لِي فِي الرَّدِّ ، إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْمَارِهِ : لِئَلَّا يَكُونَ كَذِبًا ، فَكَانَ هَذَا النَّهْيُ مِنْهُ عَنِ الْكَذِبِ لَا عَنِ الرَّدِّ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ عَنَى الِاحْتِيَاطَ إِذَا كَانَ زَيْدٌ أَعْرَفَ ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ : لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْمَارِهِ : أَيْ لَمْ يَكُنِ الْحَظُّ فِي الرَّدِّ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْمَارِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنِ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الرِّبَا وَمَا لَا يَجُوزُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَلَا مُؤَجَّلًا وَالصَّرْفِ

بَابُ الرِّبَا وَمَا لَا يَجُوزُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَلَا مُؤَجَّلًا وَالصَّرْفِ سَمِعْتُ الْمُزَنِيَّ يَقُولُ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَرَجُلٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ ، وَلَا الْبُرَّ بِالْبُرِّ ، وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ ، وَلَا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ ، وَلَا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، عَيْنًا بِعَيْنٍ ، يَدًا بِيَدٍ ، وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ ، وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ ، وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ ، وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ ، وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ ، يَدًا بِيَدٍ ، كَيْفَ شِئْتُمْ " ( قَالَ ) وَنَقَضَ أَحَدُهُمَا التَّمْرَ وَالْمِلْحَ ، وَزَادَ الْآخَرُ : فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْأَحَادِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّرْفِ وَبِهِ قُلْنَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ثُمَّ الْإِجْمَاعُ . فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [ آلِ عِمْرَانَ : ] . مَعْنَى قَوْلِهِ : " أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً " ، أَيْ : أَضْعَافَ الْحَقِّ الَّذِي دَفَعْتُمْ : لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا حَلَّ دَيْنُهُ ، قَالَ لِغَرِيمِهِ : إِمَّا أَنْ تُعْطِيَ أَوْ تُرْبِيَ ، فَإِنْ أَعْطَاهُ وَإِلَّا أَضْعَفَ عَلَيْهِ الْحَقَّ وَأَضْعَفُ لَهُ الْأَجَلَ ، ثُمَّ يَفْعَلُ كَذَلِكَ إِذَا حَلَّ حَتَّى يَصِيرَ الْحَقُّ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ، فَحَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ ، ثُمَّ أَكَّدَ الزَّجْرَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [ آلِ عِمْرَانَ : ] : فَأَخْبَرَ أَنَّ نَارَ آكِلِ الرِّبَا كَنَارِ الْكَافِرِ . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [ الْبَقَرَةِ : ] . يَعْنِي لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَسِّ . يَعْنِي : الْجُنُونَ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي ثَقِيفَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ الْعَرَبِ رِبًا ، فَلَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الرِّبَا ، قَالُوا كَيْفَ يُحَرَّمُ الرِّبَا وَإِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَأَبْطَلَ جَمْعَهُمْ . ثُمَّ قَالَ :

فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ يَعْنِي مَا أَكَلَ مِنَ الرِّبَا . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ الْبَقَرَةِ : ] يَعْنِي مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنَ الرِّبَا إِذَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ تَرَكُوهُ ، وَمَا قَبَضُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ . ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ لِتَوْكِيدِ الزَّجْرِ ، فَقَالَ : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ يَعْنِي مَا دَفَعْتُمُوهُ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ : ] بِأَنْ تَمْنَعُوا رُءُوسَ أَمْوَالِكُمْ ثُمَّ قَالَ تَيْسِيرًا عَلَى خَلْقِهِ : وَإِنْ كَانَ - مَنْ قَدْ أَرْبَيْتُمُوهُ - ذُو عُسْرَةٍ بِرَأْسِ الْمَالِ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [ الْبَقَرَةِ : ] يَعْنِي إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ . وَهَذِهِ آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةُ الرِّبَا فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَهَا فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ : أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ، فَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا عَمِّي الْعَبَّاسِ ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ مِنْ دَمِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ . ثُمَّ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي فُرُوعِهِ وَكَيْفِيَّةِ تَحْرِيمِهِ ، حَتَّى قِيلَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَحَلَّ الزِّنَا وَلَا الرِّبَا فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [ النِّسَاءِ : ] يَعْنِي : فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الرِّبَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُجْمَلٌ فَسَّرَتْهُ السُّنَّةُ . وَإِنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مُجْمَلُ كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ الرِّبَا نَقْدًا أَوْ نَسَاءً . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَعْهُودَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الرِّبَا فِي النَّسَاءِ وَطَلَبِ الْفَضْلِ بِزِيَادَةِ الْأَجَلِ ، ثُمَّ وَرَدَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِزِيَادَةِ الرِّبَا فِي النَّقْدِ فَاقْتَرَنَتْ بِمَا تَضَمَّنَهُ التَّنْزِيلُ ، وَإِلَى هَذَا كَانَ يَذْهَبُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ .

فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ ، فَلَا فَرْقَ فِي تَحْرِيمِهِ بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ . فَكُلُّ عَقْدٍ كَانَ رِبًا حَرَامًا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، كَانَ رِبًا حَرَامًا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ دَخَلَ الْمُسْلِمُ إِلَيْهَا بِأَمَانٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحْرُمُ الرِّبَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنَ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِأَمَانٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ . احْتِجَاجًا بِحَدِيثِ مَكْحُولٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَا رِبَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ " : وَلِأَنَّ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُبَاحَةٌ لِلْمُسْلِمِ بِغَيْرِ عَقْدٍ ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بِعَقْدٍ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ حَرَامٌ كَتَحْرِيمِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، عُمُومُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْعِبْرَةِ : أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الشِّرْكِ ، كَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ وَالْمَعَاصِي : وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ حُرِّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ، حُرِّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ كَدَارِ الْإِسْلَامِ : وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَوَجَبَ أَلَّا يُسْتَبَاحَ بِهِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ . فَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِحَدِيثِ مَكْحُولٍ فَهُوَ مُرْسَلٌ ، وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ حُجَّةً . فَلَوْ سَلِمَ لَهُمْ لَكَانَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا رِبًا " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِتَحْرِيمِ الرِّبَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِجَوَازِ الرِّبَا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ التَّحْرِيمِ إِلَّا وَلَنَا حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ ، ثُمَّ حَمْلُنَا أَوْلَى لِمُعَاضَدَةِ الْعُمُومِ لَهُ ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهَا بِغَيْرِ عَقْدٍ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ تُسْتَبَاحَ بِعَقْدٍ ، فَلَا نُسَلِّمُ إِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةً فِي دُخُولِهِ إِلَيْهِمْ بِأَمَانٍ : لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ لَا تُسْتَبَاحُ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَكَذَا لَا يَسْتَبِيحُهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ . وَلَوْ فُرِضَتِ الْمَسْأَلَةُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَمَانِ لَمَا صَحَّ الِاسْتِدْلَالُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ جَازَ اسْتِبَاحَةُ مَالِهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ . ثُمَّ نَقُولُ : لَيْسَ كُلُّ مَا اسْتُبِيحَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يُسْتَبَاحَ مِنْهُمْ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُرُوجَ يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهَا مِنْهُمْ بِالْفَيْءِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، فَكَذَا الْأَمْوَالُ وَإِنْ جَازَ أَنْ تُسْتَبَاحَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عَقْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُسْتَبَاحَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَبِهَا تَرَكْنَا قَوْلَ مَنْ رَوَى عَنْ أُسَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مُفَسَّرٌ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ الرِّبَا : أَفِي صِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ذَهَبٍ بِوَرِقٍ أَمْ تَمْرٍ بِحِنْطَةٍ ؟ فَقَالَ " الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " . فَحَفِظَهُ فَأَدَّى قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلَمْ يُؤَدِّ الْمَسْأَلَةَ " .

الرِّبَا ضَرْبَانِ نَقْدٌ وَنَسَاء

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَالرِّبَا ضَرْبَانِ : نَقْدٌ ، وَنَسَاءٌ . وَأَمَّا النَّسَاءُ : فَهُوَ بَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ إِلَى أَجَلٍ ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ وَالَّذِي قَدْ أَجْمَعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ . وَأَمَّا النَّقْدُ : فَهُوَ بَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ ، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَكَافَّةِ الْفُقَهَاءِ تَحْرِيمُ ذَلِكَ كَالنَّسَاءِ ، وَذَهَبَ خَمْسَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى إِحْلَالِهِ وَإِبَاحَتِهِ وَهُمْ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ تَعَلُّقًا بِخَبَرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " إنَمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " . فَلَمَّا أَثْبَتَ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الرِّبَا فِي النَّقْدِ . وَالثَّانِي : مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ : بَاعَ شَرِيكٌ لِي دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بِالْكُوفَةِ وَبَيْنَهُمَا فَضْلٌ . فَقُلْتُ : مَا أَرَاهُ يَصْلُحُ هَذَا . فَقَالَ : لَقَدْ بِعْتُهَا فِي السُّوقِ فَمَا عَابَ عَلَيَّ ذَلِكَ أَحَدٌ ، فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ ، فَسَأَلْتُهُ ، فَقَالَ : قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَتِجَارَتُنَا كَذَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَلَا خَيْرَ فِيهِ " . وَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْظَمَ تِجَارَةً مِنَّا ، فَأَتَيْتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ . وَهَذَا نَصٌّ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ : أَحَدُهَا : حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ فِي صَدْرِ الْبَابِ . وَقَوْلُهُ : " إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ " . وَالثَّانِي : حَدِيثُ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى ، الْآخِذُ وَالْمُعْطِي سَوَاءٌ " . وَالثَّالِثُ : حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ " .

وَالرَّابِعُ : حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " الدَّينَارُ بِالدَّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنِهِمَا " . وَأَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ وَقَوْلُهُ " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ جَوَابٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَائِلٍ سَأَلَهُ عَنِ التَّفَاضُلِ فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، فَقَالَ : " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " ، فَنَقَلَ أُسَامَةُ جَوَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَغْفَلَ سُؤَالَ السَّائِلِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسِ الْوَاحِدِ يَجُوزُ التَّمَاثُلُ فِيهِ نَقْدًا وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً . عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ الْمُسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِهِ حِينَ لَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَقَالَ لَهُ : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، إِلَى مَتَى تَأْكُلُ الرِّبَا وَتُطْعِمُهُ النَّاسَ . وَرَوَى لَهُ حَدِيثَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ هَذَا رِبًا كَانَ مِنِّي ، وَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَمَنْسُوخٌ : لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَوَّلِ الْهِجْرَةِ وَتَحْرِيمِ الرِّبَا مُتَأَخِّرٌ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَيَحْتَمِلُ قَوْلَ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً " يُعْطِي بِيَدٍ وَيَأْخُذُ بِأُخْرَى فَيَكُونُ الْأَخْذُ مَعَ الِإعْطَاءِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَتَفَرَّقَ الْمُتَبَايِعَانِ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى يَتَقَابَضَا ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ لِمَالِكِ بْنِ أَوْسٍ لَا تُفَارِقْهُ حَتَى تُعْطِيَهُ وَرِقَهُ أَوْ تَرُدَّ إِلَيْهِ ذَهَبَهُ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى أنَّ مَخْرَجَ " هَاءً وَهَاءً " تَقَابُضُهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . كُلُّ شَيْئَيْنِ ثَبَتَ فِيهِمَا الرِّبَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَصِحَّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا ، وَلَا الِافْتِرَاقُ قَبْلَ تَقَابُضِهِمَا ، سَوَاءً كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْبُرِّ بِالْبُرِّ ، أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ كَالشَّعِيرِ بِالْبُرِّ ، حَتَّى يَتَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فِي الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ كَقَوْلِنَا لَا يَصِحُّ فِيهِمَا الْعَقْدُ إِلَّا بِالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهِمَا الْأَجَلُ وَلَا خِيَارُ الشَّرْطِ . وَأَجَازَ فِيمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْأَجَلُ . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يَتَضَمَّنْ صَرْفًا فَلَمْ يَكُنِ التَّقَابُضُ فِيهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ شَرْطًا كَالثِّيَابِ بِالثِّيَابِ .

قَالَ : وَلِأَنَّ الْقَبْضَ يُرَادُ لِتَعْيِينِ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ ، فَلَمَّا كَانَ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ لَزِمَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ : لِيَصِيرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا ، وَلَمَّا كَانَ مَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ مِنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ : لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ صَارَ مُعَيَّنًا . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ : حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ ، وَلَا الْبُرَّ بِالْبُرِّ ، وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ ، وَلَا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ ، وَلَا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، عَيْنًا بِعَيْنٍ ، يَدًا بِيَدٍ ، وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ ، وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ ، وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ ، وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ ، وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ " . فَشَرَطَ فِي بَيْعِ ذَلِكَ كُلِّهِ تَعْجِيلَ الْقَبْضِ بِقَوْلِهِ : " إِلَّا يَدًا بِيَدٍ " . فَإِنْ قِيلَ : فَقَوْلُهُ يَدًا بِيَدٍ نَفْيًا لِدُخُولِ الْأَجَلِ فِيهِ وَأَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بِالنَّقْدِ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي تَعْجِيلِ الْقَبْضِ . قِيلَ يَبْطُلُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْخَبَرِ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، وَبَيْنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ ، فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ " إِلَّا يَدًا بِيَدٍ " مَحْمُولًا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ عَلَى تَعْجِيلِ الْقَبْضِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ مِثْلُهُ : لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا حُكْمٌ . وَالثَّانِي : أَنَّ نَفْيَ الْأَجَلِ مُسْتَفَادٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ : إِلَّا عَيْنًا بِعَيْنٍ : لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَكُونُ عَيْنًا إِذِ الْعَيْنُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الْأَجَلُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَيْنًا بِدَيْنٍ . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِلَّا يَدًا بِيَدٍ مَحْمُولًا عَلَى غَيْرِ نَفْيِ الْأَجَلِ ، وَهُوَ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ لِيَكُونَ الْخَبَرُ مُقَيِّدًا لِحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ ، وَاخْتِلَافُ اللَّفْظَيْنِ مَحْمُولًا عَلَى اخْتِلَافِ مَعْنَيَيْنِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ : " إِلَّا يَدًا بِيَدٍ " مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ عَلَى تَعْجِيلِ الْقَبْضِ لِأَجْلِ أَنَّ الْقَبْضَ يَكُونُ بِالْيَدِ ، وَلَيْسَ بِمُسْتَعْمَلٍ فِي نَفْيِ الْأَجَلِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ ، فَكَانَ حَمْلُ الْكَلِمَةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا فِي اللُّغَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْمَجَازِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَفْيِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا : مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً ، وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَا هَاءً وَهَاءً ، وَالشَّعِيرُ بَالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً " . قَالَ الشَّافِعِيُّ فَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ : " إِلَّا هَاءً وَهَاءً " مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعْطِيَ بِيَدٍ وَيَأْخُذَ بِأُخْرًى فَيَكُونُ الْأَخْذُ مَعَ الْإِعْطَاءِ ، وَاحْتَمَلَ أَلَّا يَتَفَرَّقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى يَتَقَابَضَا ، فَلَمَّا رُوِيَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَوْسِ بْنِ الْحَدْثَانِ صَارَفَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بمَائَةِ دِينَارٍ بَاعَهَا عَلَيْهِ بِدَرَاهِمَ فَقَالَ طَلْحَةُ لِمَالِكٍ : حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنَ الْغَابَةِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْمَعُ ، فَقَالَ عُمَرُ لِمَالِكٍ : لَا وَاللَّهِ لَا تُفَارِقْهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ وَرِقَكَ أَوْ يَرُدَّ عَلَيْكَ ذَهَبَكَ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً " .

دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُحْتَمَلَيْنِ التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ إِذَا فَسَّرَهُ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي تَكْلِيفِ النَّاسِ الْإِعْطَاءَ بِيَدٍ وَالْأَخْذَ بِأُخْرَى مَشَقَّةً غَالِبَةً ، وَالشَّرِيعَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَالسَّمَاحَةِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا . ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى : أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَجَلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ التَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالصَّرْفِ : وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِي عَقْدِ الصَّرْفِ كَانَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِيمَا دَخَلَهُ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ الصَّرْفِ كَالْأَجَلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى بَيْعِ الثِّيَابِ بِالثِّيَابِ فَمُنْتَقِضٌ بِالسَّلَمِ : حَيْثُ لَزِمَ فِيهِ الْقَبْضُ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي بَيْعِ الثِّيَابِ بِالثِّيَابِ عَدَمُ الرِّبَا فِيهَا فَجَازَ تَأْخِيرُ قَبْضِهِمَا ، وَمَا ثَبَتَ الرِّبَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ قَبْضِهِ كَالصَّرْفِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْقَبْضَ إِنَّمَا يُرَادُ لِتَعْيِينِ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ ، وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْقَبْضِ ، فَهُوَ أَنَّ هَذَا يَفْسَدُ بِبَيْعِ الْحُلِيِّ بِالْحُلِيِّ يَلْزَمُ فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَيَّنًا بِالْعَقْدِ . ثُمَّ لَوْ سَلِمَ مِنْ هَذَا الْكَسْرِ لَكَانَ عَكْسُ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَشْبَهَ بِالْأُصُولِ : لِأَنَّ السَّلَمَ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الثَّمَنُ وَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمُثَمَّنُ ، ثُمَّ يَلْزَمُ فِيهِ تَعْجِيلُ قَبْضِ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ تَعْجِيلُ قَبْضِ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا ، فَكَانَ اعْتِبَارُ هَذَا يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْقَبْضِ فِيمَا كَانَ مُعَيَّنًا ، وَلَا يُوجِبُهُ فِيمَا لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ ، وَلَمَّا انْعَكَسَ هَذَا الِاعْتِبَارُ عَلَيْهِ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ فِيهِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَبْضَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَدْخُلُهَا الْآجَالُ وَيَلْحَقُهَا الرِّبَا مِنْ صَرْفٍ وَغَيْرِهِ ، وَأَنَّ حُكْمَ مَا فِيهِ الرِّبَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَرْفًا ، كَحُكْمِ مَا فِيهِ الرِّبَا إِذَا كَانَ صَرْفًا ، فَتَصَارَفَ الرَّجُلَانِ مِائَةَ دِينَارٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا الدَّرَاهِمَ وَلَمْ يَتَقَابَضَا الدَّنَانِيرَ أَوْ تَقَابَضَا الدَّنَانِيرَ وَلَمْ يَتَقَابَضَا الدَّرَاهِمَ حَتَّى تَفَارَقَا ، فَلَا صَرْفَ بَيْنَهُمَا وَلَزِمَ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْهُمَا سَوَاءً عَلِمَا فَسَادَ الْعَقْدِ بِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ أَوْ جَهِلَا . فَلَوْ لَمْ يَتَفَرَّقَا وَلَكِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَاخْتَارَ الْإِمْضَاءَ الْقَائِمَ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضَا كَانَ هَذَا التَّخَيُّرُ بَاطِلًا ، وَلَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ : لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْإِمْضَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَقَضِّي عُلْقِ الْعَقْدِ ، وَبَقَاءُ الْقَبْضِ يَمْنَعُ مِنْ نَقْضِ عُلْقِهِ ، فَمَنَعَ مِنِ اخْتِيَارِ إِمْضَائِهِ ، فَإِنْ تَقَابَضَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ الْعَقْدُ وَاسْتَقَرَّ وَكَانَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَتَخَايَرَا . فَلَوْ وُكِّلَ أَحَدُهُمَا فِي الْقَبْضِ لَهُ وَالْإِقْبَاضِ عَنْهُ ، فَإِنْ قَبَضَ الْوَكِيلُ وَأَقْبَضَ قَبْلَ افْتِرَاقِ مُوَكِّلِهِ وَالْعَاقِدِ الْآخَرِ صَحَّ الْعَقْدُ ، وَإِنْ أَقْبَضَ بَعْدَ افْتِرَاقِهِمَا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا : لِافْتِرَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ،

فَلَوْ تَقَابَضَ الْمُتَصَارِفَانِ مَا تَصَارَفَا عَلَيْهِ فِي مِدَادٍ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ جَازَ ، وَلَمْ يَلْزَمْ دَفْعُ جَمِيعِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ قَبْضُ جَمِيعِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَسَوَاءٌ طَالَتْ مُدَّةُ اجْتِمَاعِهِمَا أَوْ قَصَرَتْ . فَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا تَفَارَقْنَا عَنْ قَبْضٍ ، وَقَالَ الْآخَرُ بِخِلَافِهِ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ وَيَكُونُ الصَّرْفُ بَاطِلًا . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فِي الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا افْتَرَقْنَا عَنْ فَسْخٍ ، وَقَالَ الْآخَرُ عَنْ إِمْضَاءٍ ، كَانَ الْقَوْلُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ قَوْلَ مَنِ ادَّعَى الْإِمْضَاءَ وَالْبَيْعُ لَازِمٌ ، فَهَلَّا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقَبْضِ مِثْلَهُ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مُدَّعِيَ الْفَسْخِ يُنَافِي بِدَعْوَاهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ : لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ اللُّزُومُ وَالصِّحَّةُ إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الْفَسْخِ فَكَانَ الظَّاهِرُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ مَنِ ادَّعَى الْإِمْضَاءَ دُونَ الْفَسْخِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى الْقَبْضَ : لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ ، عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الْوَجْهَيْنِ هُنَاكَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الْفَسْخِ إِذَا تَصَارَفَا مِائَةَ دِينَارٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَقَابَضَا مِنَ الْمِائَةِ خَمْسِينَ دِينَارًا ، ثُمَّ افْتَرَقَا وَقَدْ بَقِيَ خَمْسُونَ دِينَارًا كَانَ الصَّرْفُ فِي الْخَمْسِينِ الْبَاقِيَةِ بَاطِلًا . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ فِي الْخَمْسِينِ الْمَقْبُوضَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لِسَلَامَةِ الْعَقْدِ وَحُدُوثِ الْفَسَادِ فِيمَا بَعْدُ ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخْرِجُ الصَّرْفَ فِي الْخَمْسِينِ الْمَقْبُوضَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ . وَلَيْسَ هَذَا التَّخْرِيجُ صَحِيحًا : لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ إِذَا جَمَعَ جَائِزًا وَغَيْرَ جَائِزٍ فِي حَالِ الْعَقْدِ . وَإِذَا صَحَّ الصَّرْفُ فِي الْخَمْسِينِ الْمَقْبُوضَةِ ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَازِمَةٌ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ وَلَا لِلْمُشْتَرِي خِيَارٌ فِي الْفَسْخِ لِأَجْلِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ : لِأَنَّ افْتِرَاقَهُمَا عَنْ قَبْضِ الْبَعْضِ رِضًا مِنْهُمَا بِإِمْضَاءِ الصَّرْفِ فِيهِ وَفَسْخِهِ فِي بَاقِيهِ . وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ قَوْلًا ثَانِيًا أَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ . وَكِلَا التَّخْرِيجَيْنِ فَاسِدٌ وَالتَّعْلِيلُ فِي فَسَادِهِمَا وَاحِدٌ .

مَسْأَلَةٌ الرِّبَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي النَّقْدِ وَالْآخَرُ فِي الدَّيْنِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَالرِّبَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي النَّقْدِ بِالزِّيَادَةِ وَفِي الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ ، وَالْآخَرُ يَكُونُ فِي الدَّيْنِ بِزِيَادَةِ الْأَجَلِ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لِأَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْكَلَامِ تَأْوِيلَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ الرِّبَا فِي النَّسَاءِ ، وَأَبَاهُ فِي النَّقْدِ ، وَقَالَ : وَالرِّبَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : النَّسَاءُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ . وَهُوَ بَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ إِلَى أَجَلٍ . وَالثَّانِي : مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَهُوَ بَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا ، فَجُعِلَ كِلَا الْوَجْهَيْنِ رَبًّا ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ فَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ . وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّبَا مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : التَّفَاضُلُ سَوَاءٌ كَانَ نَقْدًا أَوْ نَسَاءً ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ عَاجِلًا وَلَا آجِلًا . وَالثَّانِي : الْآجِلُ سَوَاءٌ كَانَ مُتَفَاضِلًا أَوْ مُتَمَاثِلًا ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ نَسَاءً مُتَفَاضِلًا ، وَلَا مُتَمَاثِلًا . فَأَمَّا الْجِنْسَانِ الْمُخْتَلِفَانِ فَلَا يَدْخُلُهُمَا الرِّبَا إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَجَلُ . فَأَمَّا التَّفَاضُلُ أَوِ التَّمَاثُلُ فَيَجُوزُ فِيهِمَا : فَإِذَا بَاعَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ أَوِ الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ نَقْدًا جَازَ سَوَاءٌ كَانَ مُتَفَاضِلًا أَوْ مُتَمَاثِلًا ، وَإِنْ بَاعَهُ إِلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ ، سَوَاءٌ كَانَ مُتَمَاثِلًا أَوْ مُتَفَاضِلًا .
المنصوص عليه في الربا ستة أشياء وردت بها السنة مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَإِنَّمَا حَرَّمْنَا غَيْرَ مَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَأْكُولِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا سَمَّى " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الرِّبَا فَسِتَّةُ أَشْيَاءَ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِهَا ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا وَهِيَ : الذَّهَبُ ، وَالْفِضَّةُ ، وَالْبُرُّ ، وَالشَّعِيرُ ، وَالتَّمْرُ ، وَالْمِلْحُ . وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِيمَا عَدَاهَا . فَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَمَسْرُوقٍ ، وَالشَّعْبِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ ، وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ ، وَنُفَاةِ الْقِيَاسِ بِأَسْرِهِمْ ، أَنَّهُ لَا رِبَا فِيمَا عَدَا السِّتَّةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا ، فَلَا يَجُوزُ التَّخَطِّي عَنْهَا إِلَى مَا سِوَاهَا تَمَسُّكًا بِالنَّصِّ ، وَنَفْيًا لِلْقِيَاسِ ، وَاطِّرَاحًا لِلْمَعَانِي . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمُثْبِتُو الْقِيَاسِ إِلَى أَنَّ الرِّبَا يَتَجَاوَزُ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ إِلَى مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالْكَلَامُ فِيهَا يَلْزَمُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ ، فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حُجَّةً ، ثَبَتَ أَنَّ الرِّبَا يَتَجَاوَزُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ النَّصُّ مِنَ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ ، وَهَذَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَالثَّانِي : مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ الظَّاهِرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [ الْبَقَرَةِ : ] . وَالرِّبَا اسْمٌ لِلزِّيَادَةِ وَالْفَضْلِ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ . أَمَّا اللُّغَةُ فَكَقَوْلِهِمْ قَدْ رَبَا السَّوِيقُ إِذَا زَادَ ، وَقَدْ أَرْبَى عَلَيَّ فِي الْكَلَامِ إِذَا زَادَ فِي السَّبِّ ، وَهَذِهِ رَبْوَةٌ مِنَ الْأَرْضِ إِذَا زَادَتْ عَلَى مَا جَاوَرَهَا . وَأَمَّا الشَّرْعُ : فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [ الْبَقَرَةِ : ] . أَيْ يُضَاعِفُهَا وَيَزِيدُ فِيهَا ، وَقَوْلُهُ : فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [ الْحَجِّ : ] أَيْ زَادَتْ وَنَمَتْ . وَإِذَا كَانَ الرِّبَا مَا ذَكَرْنَا اسْمًا لِلزِّيَادَةِ لُغَةً وَشَرْعًا دَلَّ عُمُومُ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْفَضْلِ وَالزِّيَادَةِ إِلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ .

وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ : مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ . وَالطَّعَامُ اسْمٌ لِكُلِّ مَطْعُومٍ مِنْ بُرٍّ وَغَيْرِهِ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ . أَمَّا اللُّغَةُ فَكَقَوْلِهِمْ طَعِمْتُ الشَّيْءَ أَطْعَمُهُ وَأَطْعَمْتُ فُلَانًا كَذَا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مَطْعُومًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُرًّا . وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [ آلِ عِمْرَانَ : ] يَعْنِي كُلَّ مَطْعُومٍ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الطَّعَامِ . وَقَوْلُهُ : فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [ الْبَقَرَةِ : ] فَسَمَّى الْمَاءَ مَطْعُومًا لِأَنَّهُ مِمَّا يُطْعَمُ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ : عِشْنَا دَهْرًا وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ . وَإِذَا كَانَ اسْمُ الطَّعَامِ بِمَا وَصَفْنَا مِنْ شَوَاهِدِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَطْعُومٍ مِنْ بُرٍّ وَغَيْرِهِ . كَانَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ مَطْعُومٍ إِلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَمَخْصُوصٌ بِبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرِّبَا فِي الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ . قِيلَ : بَيَانُ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا : لِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ ، وَإِنْ شَذَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَجَعَلَهُ تَخْصِيصًا . وَالدَّلَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى الْبُرِّ وَهُوَ أَعْلَى الْمَطْعُومَاتِ ، وَعَلَى الْمِلْحِ وَهُوَ أَدْنَى الْمَطْعُومَاتِ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا لَاحِقٌ بِأَحَدِهِمَا . لِأَنَّهُ يَنُصُّ تَارَةً عَلَى الْأَعْلَى لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى الْأَدْنَى ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فَنَبَّهَ بِهِ عَلَى الْأَدْنَى . وَيَنُصُّ تَارَةً عَلَى الْأَدْنَى لِيُنَبِّهَ عَلَى الْأَعْلَى كَمَا قَالَ : وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فَنَبَّهَ بِهِ عَلَى الْأَعْلَى ، فَإِذَا وَرَدَ النَّصُّ عَلَى الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى كَانَ أَوْكَدَ تَنْبِيهًا عَلَى مَا بَيْنَهُمَا ، وَأَقْوَى شَاهِدًا فِي لُحُوقِهِ بِأَحَدِهِمَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَقِيسَ الْوَزْنَ عَلَى الْوَزْنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ : لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مأكُولَيْنِ وَمُبَايِنَانِ لِمَا سِوَاهُمَا ، وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ : لَا رِبَا إِلَّا فِي ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِمَّا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ ( قَالَ ) وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَلَوْ قِسْنَا عَلَيْهِمَا الْوَزْنَ لَزِمَنَا أَنْ لَا نُسَلِّمَ دِينَارًا فِي مَوْزُونٍ مِنْ طَعَامٍ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ نُسْلِّمَ دِينَارًا فِي مَوْزُونٍ مِنْ وَرِقٍ ، وَلَا أَعَلَمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ اخْتِلَافًا أنَ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ يُسَلَّمَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يُسَلَّمُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ غَيْرَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَرِهَ أَنْ يُسَلَّمَ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ فِي فُلُوسٍ ، وَهُوَ عِنْدَنَا جَائِزٌ : لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا وَلَا فِي تِبْرِهَا ، وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِثَمِنٍ لِلْأَشْيَاءِ الْمُتْلَفَةِ وَإِنَّمَا أَنْظُرُ فِي التِّبْرِ إِلَى أَصْلِهِ وَالنُّحَاسِ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ وَقَدْ أَجَازَ عَدَدٌ مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ السَّلَفَ فِي الْفُلُوسِ

وَكَيْفَ يَكُونُ مَضْرُوبُ الذَّهَبِ دَنَانِيرَ وَمَضْرُوبُ الْوَرِقِ دَرَاهِمَ فِي مَعْنَى الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ غَيْرَ مَضْرُوبَيْنِ ، وَلَا يَكُونُ مَضْرُوبُ النُّحَاسِ فُلُوسًا فِي مَعْنَى النُّحَاسِ غَيْرَ مَضْرُوبٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرِّبَا يَتَجَاوَزُ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ لِمَعْنًى فِيهِ ، وَعِلَّتُهُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ . فَالْعِلَّةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ غَيْرُ الْعِلَّةِ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ . فَأَمَّا الْعِلَّةُ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي فِيهَا عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى : أَحَدُهُمَا : مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْجِنْسُ فَأَجْرَى الرِّبَا فِي جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ وَمَنَعَ التَّفَاضُلَ فِيهِ حَتَّى التُّرَابِ بِالتُّرَابِ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْمَنْفَعَةُ فِي الْجِنْسِ ، فَيَجُوزُ بَيْعُ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ دِينَارٌ بِثَوْبَيْنِ قِيمَتُهُمَا دِينَارٌ ، وَمَنَعَ مِنْ بَيْعِ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ دِينَارٌ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ دِينَارَانِ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا تَقَارُبُ الْمَنَافِعِ فِي الْأَجْنَاسِ ، فَمَنَعَ مِنَ التَّفَاضُلِ فِي الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ لِتَقَارُبِ مَنَافِعِهِمَا ، وَمِنَ التَّفَاضُلِ فِي الْبَاقِلَاءِ بِالْحُمُّصِ ، وَفِي الدُّخْنِ بِالذُّرَةِ : لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِيهِمَا مُتَقَارِبَةٌ . وَالرَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ رَبِيعَةَ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا جِنْسٌ يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، فَأَثْبَتَ الرِّبَا فِي كُلِّ جِنْسٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ وَنَفَاهُ عَمًّا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ . وَالْخَامِسُ : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ مُقْتَاتٌ مُدَّخَرُ جِنْسٍ فَأَثْبَتَ الرِّبَا فِيمَا كَانَ قُوتًا مُدَّخَرًا ، وَنَفَاهُ عَمَّا لَمْ يَكُنْ مُقْتَاتًا كَالْفَوَاكِهِ ، وَعَمَّا كَانَ مُقْتَاتًا وَلَمْ يَكُنْ مُدَّخَرًا كَاللَّحْمِ . وَالسَّادِسُ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ أَنَّهُ مَكِيلُ جِنْسٍ ، فَأَثْبَتَ الرِّبَا فِي كُلِّ مَا كَانَ مَكِيلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا كَالْجَصِّ ، وَالنَّوْرَةِ ، وَنَفَاهُ عَمَّا كَانَ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ . وَالسَّابِعُ : وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ ، أَنَّهُ مَأْكُولٌ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونُ جِنْسٍ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ بِأَخْصَرَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فَقَالَ : مَطْعُومٌ مُقَدَّرُ جِنْسٍ . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ثَبَتَ الرِّبَا فِيمَا كَانَ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ، وَيَنْتَفِي عَمَّا كَانَ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ، وَعَمَّا كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ وَلَا مَشْرُوبٍ وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا . وَالثَّامِنُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا أَنَّهُ مَأْكُولُ جِنْسٍ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مَطْعُومُ جِنْسٍ ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَعَمُّ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَ فِي الْمَاءِ الرِّبَا . فَهَذَا جُمْلَةُ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا . وَسَنَذْكُرُ حُجَّةَ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْهَا وَنَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ . فَصْلٌ : أَمَّا الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْجِنْسُ ، فَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ

النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ أَجْنَاسًا مَنَعَ مِنَ التَّفَاضُلِ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : " فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ " . فَشَرَطَ فِي جَوَازِ التَّفَاضُلِ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ فَثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْجِنْسُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ شَيْءٌ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا أَبَدًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَهَّزَ جَيْشًا فَنَفِدَتْ إِبِلُهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَلَمَّا ابْتَاعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْجِنْسُ عِلَّةً لِوُجُودِ التَّفَاضُلِ فِيهِ ، وَأَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ . وَقَدْ فَعَلَتِ الصَّحَابَةُ مِثْلَ فِعْلِهِ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ بَاعَ جَمَلًا لَهُ بِعِشْرِينَ جَمَلًا إِلَى أَجَلٍ . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ بَاعَ رَاحِلَةً لَهُ بِأَرْبَعَةِ رَوَاحِلَ إِلَى أَجَلٍ ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا . فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ . فَعَطَفَ عَلَى مَا قَدَّمَ ذِكْرَهُ مِنَ الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ الَّتِي أَثْبَتَ فِيهَا الرِّبَا بِالنَّصِّ ، فَجَوَّزَ فِيهَا التَّفَاضُلَ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ مَعَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَذْهَبُ الثَّانِي ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْمَنْفَعَةُ فِي الْجِنْسِ ، فَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ ثُبُوتَ الرِّبَا مَقْصُودٌ بِهِ تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ ، وَفَضْلُ الْقِيمَةِ يَقَعُ ظَاهِرًا كَفَضْلِ الْقَدْرِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الرِّبَا يَمْنَعُ مِنَ التَّفَاضُلِ فِي الْقَدْرِ وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ التَّفَاضُلَ فِي الْقِيمَةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنِ ابْتِيَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ ، وَفَضْلُ الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا كَفَضْلِ الْقَدْرِ ، وَأَنَّ مَقْصُودَ الْبِيَاعَاتِ طَلَبُ النَّفْعِ وَالْتِمَاسُ الْفَضْلِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ مَقْصُودُ الْبِيَاعَاتِ عِلَّةً فِي تَحْرِيمِ الْبِيَاعَاتِ ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ تُفَاضِلِ الْقِيمَةِ فِي الْجِنْسِ مَعَ تَسَاوِي الْقَدْرِ يَقْتَضِي تَحْلِيلَ تَسَاوِي الْقِيمَةِ فِي الْجِنْسِ مَعَ تَفَاضُلِ الْقَدْرِ وَهَذَا مَحْظُورٌ بِالنَّصِّ ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا تَقَارُبُ الْمَنَافِعِ فِي الْأَجْنَاسِ ، فَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ الْجِنْسَيْنِ إِذَا تَقَارَبَا فِي الْمَنْفَعَةِ تَقَارَبَا فِي الْحُكْمِ وَالْمُتَقَارِبَانِ فِي الْحُكْمِ مُشْتَرِكَانِ فِيهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ وُرُودُ النَّصِّ بِجَوَازِ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ مَعَ تَقَارُبِ مَنَافِعِهِمَا ، وَمَا دَفَعَهُ النَّصُّ كَانَ مُطَّرَحًا .

فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ ، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ ، إِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ الرِّبَا تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ حَثًّا عَلَى الْمُوَاسَاةِ بِالتَّمَاثُلِ ، وَأَمْوَالُ الْمُوَاسَاةِ مَا ثَبَتَ فِيهَا الزَّكَاةُ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ هِيَ الْأَمْوَالَ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا الرِّبَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ : ابْتِيَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ ، وَالْإِبِلُ جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَأُثْبِتَ الرِّبَا فِي الْمِلْحِ وَهُوَ جِنْسٌ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ فَسَادُ مَذْهَبِهِ . فَصْلٌ ، : فَأَمَّا الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، إِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا أَنَّهُ مُقْتَاتٌ مُدَّخَرُ جِنْسٍ ، فَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهُ اعْتِلَالٌ يُشَابِهُ الْأَصْلَ بِأَوْصَافٍ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ شَبَهًا بِالْأَصْلِ كَانَ أَوْلَى . وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ عَدَمُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي الْأَصْلِ : لِأَنَّ الْمِلْحَ لَيْسَ بِقُوتٍ ، وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِثُبُوتِ الرِّبَا فِيهِ ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الْقُوتِ ، وَالرُّطَبُ فِيهِ الرِّبَا وَلَيْسَ بِمُدَّخَرٍ ، وَقَدْ وَافَقَ أَنَّ فِيهِ الرِّبَا . فَإِنْ قَالَ : إِنَّ الرُّطَبَ يَئُولُ إِلَى حَالِ الِادِّخَارِ فِي ثَانِي حَالٍ ، قِيلَ : فَالرُّطَبُ الَّذِي لَا يَصِيرُ تَمْرًا لَيْسَ يَئُولُ إِلَى حَالِ الِادِّخَارِ وَفِيهِ الرِّبَا ، عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يُخْرِجُ الرُّطَبَ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُدَّخَرٍ فِي الْحَالِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى حَالَةِ الِادِّخَارِ كَاللَّحْمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُدَّخَرٍ فِي الْحَالِ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُدَّخَرَ فِي ثَانِي حَالٍ ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الِادِّخَارِ ، فَصَارَ كِلَا الْوَصْفَيْنِ بَاطِلًا . فَإِنْ عَدَلَ عَنْ هَذَا التَّعْلِيلِ ، وَعَلَّلَ بِمَا كَانَ يُعَلِّلُ بِهِ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ قُوتٌ أَوْ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ ، قِيلَ : هَذَا الْقَوْلُ أَفْسَدُ مِنَ الْأَوَّلِ : لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ اجْتِمَاعَ ذَلِكَ فِي الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَصِحَّ : لِأَنَّ الْمِلْحَ لَيْسَ بِقُوتٍ ، وَلَيْسَ التَّمْرُ مِمَّا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْقُوتَ فِي الثَّلَاثَةِ عِلَّةٌ وَمَا يَصْلُحُ الْقُوتُ فِي الْمِلْحِ عِلَّةٌ ، قِيلَ : قَدْ فَرَّقْتَ الْأَصْلَ وَعِلَّتَهُ بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، وَقَدِ اتَّفَقُوا أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَوْ جَازَ تَعْلِيلُ الْأَصْلِ بِعِلَّتَيْنِ لَجَازَ إِسْلَافُ الْمِلْحِ فِي الثَّلَاثَةِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعِلَّةِ ، كَمَا يَجُوزُ إِسْلَافُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْأَرْبَعَةِ لِاخْتِلَافِ الْعِلَّةِ ، وَقَدْ جَاءَتِ السَّنَةُ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ هَذَا . ثُمَّ يُقَالَ لَهُ : إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِقَوْلِكَ وَمَا يَصْلُحُ الْقُوتُ جَمِيعَ الْأَقْوَاتِ فَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ قُوتَانِ وَلَا يَصْلُحَانِ بِالْمِلْحِ ، وَإِنْ أَرَدْتَ بِهِ بَعْضَ الْأَقْوَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الرِّبَا فِي النَّارِ وَالْحَطَبِ : لِأَنَّهُ يَصْلُحُ بِهِ بَعْضُ الْأَقْوَاتِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّعْلِيلِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الْمَذْهَبُ السَّادِسُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَكِيلُ جِنْسٍ علة الربا في غير النقدين . فَالِاحْتِجَاجُ لَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِثْبَاتُ الْكَيْلِ عِلَّةٌ . وَالثَّانِي : إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ الطَّعْمُ عِلَّةً .

فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَكَذَلِكَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ " فَنَهَى عَنِ الْكَيْلِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الْحُكْمِ . وَلِأَنَّ التَّسَاوِيَ فِي بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ مُبَاحٌ ، وَالتَّفَاضُلُ فِيهِ مَحْظُورٌ ، وَلَيْسَ يُعْلَمُ التَّسَاوِي الْمُبَاحُ مِنَ التَّفَاضُلِ الْمَحْظُورِ إِلَّا بِالْكَيْلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّتَهُ لِلْحُكْمِ : لِأَنَّهُ بِهِ يَمْتَازُ الْمُبَاحُ مِنَ الْمَحْظُورِ : وَلِأَنَّ الْجِنْسَ صِفَةٌ وَالْكَيْلَ مِقْدَارٌ ، وَالتَّعْلِيلُ بِكَوْنِهِ مَكِيلًا جِنْسًا يَجْمَعُ حَالَتَيِ الْبُرِّ صِفَةً وَقَدْرًا ، وَهُمَا الْمَقْصُودُ فِي الرِّبَا فَثَبَتَ أَنَّهَا عِلَّةُ الرِّبَا . فَهَذِهِ ثَلَاثُ دَلَائِلَ احْتَجَّ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ . فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ فِي إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَطْعُومُ عِلَّةً فَأُمُورٌ مِنْهَا : أَنَّ الطَّعْمَ فِي الْمَطْعُومَاتِ مُخْتَلِفٌ ، وَالْكَيْلُ فِي الْمَكِيلَاتِ مُؤْتَلِفٌ : لِأَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا يُؤْكَلُ قُوتًا وَمِنْهُ مَا يُؤْكَلُ إِدَمًا ، وَمِنْهُ مَا يُؤْكَلُ تَفَكُّهًا ، وَالْكَيْلُ لَا يَخْتَلِفُ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مِنَ الْمَطْعُومِ الَّذِي يَخْتَلِفُ ، وَلِأَنَّ الْمَطْعُومَ صِفَةٌ آجِلَةٌ لِأَنَّ الْبُرَّ لَا يُطْعَمُ إِلَّا بَعْدَ عِلَاجٍ وَصَنْعَةٍ ، وَالْكَيْلُ صِفَةٌ عَاجِلَةٌ لِأَنَّهُ يُكَالُ مِنْ غَيْرِ عِلَاجٍ وَلَا صَنْعَةٍ ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مِنْهُ مُتَعَلِّقًا بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ كَانَ تَعْلِيقُهُ بِالصِّفَةِ الْعَاجِلَةِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالصِّفَةِ الْآجِلَةِ . وَلِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ هِيَ مَا مَنَعَتْ مِنَ التَّفَاضُلِ وَأَوْجَبَتِ التَّسَاوِيَ ، وَقَدْ يُوجَدُ زِيَادَةُ الطَّعْمِ وَلَا رِبَا وَلَا يُوجَدُ زِيَادَةُ الْكَيْلِ إِلَّا مَعَ حُصُولِ الرِّبَا وَبَيَانُهُ : لَوْ بَاعَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ثَقِيلٍ لَهُ رُبْعٌ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ خَفِيفٍ لَيْسَ لَهُ رُبْعٌ جَازَ ، وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْكَيْلِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الطَّعْمُ عِلَّةً لِوُجُودِ التَّفَاضُلِ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الرِّبَا ، وَوُجُودِ التَّسَاوِي فِيهِ مَعَ حُصُولِ الرِّبَا ، وَثَبَتَ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ : لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِيهِ مُثْبِتٌ لِلرِّبَا وَالتَّسَاوِي فِيهِ كَافٌّ لِلرِّبَا ، فَهَذَا أَقْوَى تَرْجِيحَاتِهِمُ الثَّلَاثَةِ . فَصْلٌ : وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِثْبَاتُ أَنَّ الْمَطْعُومَ عِلَّةٌ . وَالثَّانِي : إِبْطَالُ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ . فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَطْعُومَ عِلَّةٌ : فَمَا رَوَى بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ . وَاسْمُ الطَّعَامِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَطْعُومٍ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ بِمَا بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ ، فَكَانَ عُمُومُ هَذَا الْخَبَرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الطَّعْمُ : لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ كَحَدِّ الزَّانِي : لِأَنَّ اسْمَهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الزِّنَا ، وَقَطْعُ يَدِ السَّارِقِ لِأَنَّ اسْمَهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّرِقَةِ .

وَلِأَنَّ عِلَّةَ الشَّيْءِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ مَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ أَوْصَافِهِ ، وَمَقْصُودُ الْبُرِّ هُوَ الْأَكْلُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الْحُكْمِ . وَلِأَنَّ الْأَكْلَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِ الْمَعْلُولِ وَالْكَيْلَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَنِ الْمَعْلُولِ وَالصِّفَةُ اللَّازِمَةُ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ عِلَّةً مِنَ الصِّفَةِ الزَّائِدَةِ . وَلِأَنَّ الْأَكْلَ عِلَّةٌ يُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَيُعْدَمُ بِعَدَمِهَا ، وَالْكَيْلُ عِلَّةٌ يُوجَدُ الْحُكْمُ مَعَ عَدَمِهَا وَيُعْدَمُ الْحُكْمُ مَعَ وُجُودِهَا ، وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ إِذَا كَانَ حَشِيشًا أَوْ قَصِيلًا لَا رِبَا فِيهِ لِعَدَمِ الْأَكْلِ عِنْدَنَا ، وَعَدَمِ الْكَيْلِ عِنْدَهُمْ ، فَإِذَا صَارَ سُنْبُلًا ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عِنْدَنَا : لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ وَثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عِنْدَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مَكِيلٍ . فَإِنْ قِيلَ يَصِيرُ مَكِيلًا . قِيلَ : وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ حَشِيشًا . فَإِذَا صَارَ السُّنْبُلُ خُبْزًا ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عِنْدَنَا : لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ ، وَثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عِنْدَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مَكِيلٍ ، فَإِنْ قِيلَ : يَحْصُلُ فِيهِ الرُّبْعُ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ . قِيلَ : مَا ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا لَا تَخْتَلِفُ عِلَّتُهُ بِاخْتِلَافِ أَوْصَافِهِ ، فَإِذَا صَارَ الْخُبْزُ رَمَادًا فَلَا رِبَا فِيهِ عِنْدَنَا : لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ ، وَلَا رِبَا فِيهِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ مَكِيلٌ ، فَثَبَتَ أَنَّ عِلَّتَنَا يُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَيُعْدَمُ بِعَدَمِهَا ، وَعِلَّتُهُمْ يُوجَدُ الْحُكْمُ مَعَ عَدَمِهَا فِي السُّنْبُلِ وَيُعْدَمُ الْحُكْمُ مَعَ وُجُودِهَا فِي الرَّمَادِ ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَكْلِ أَصَحُّ لِهَذِهِ الدَّلَائِلِ الْأَرْبَعَةِ . وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى إِبْطَالِ الْكَيْلِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فَمِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ كُلُّهَا مَكِيلَةٌ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى الْكَيْلِ لَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْكُمْ فِي الْأَكْلِ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ كُلَّهَا مَأْكُولَةٌ ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَكْلَ لَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهَا قِيلَ : لَيْسَ يَلْزَمُنَا هَذَا : لِأَنَّ الْكَيْلَ فِي الْأَرْبَعَةِ لَا يَخْتَلِفُ وَالْأَكْلَ فِيهَا مُخْتَلِفٌ ، فَالْبُرُّ يُؤْكَلُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ ، وَالشَّعِيرُ يُؤْكَلُ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ ، وَالتَّمْرُ يُؤْكَلُ حُلْوًا وَالْمِلْحُ اسْتِطَابَةً ، فَلَمْ يَقْتَنِعْ بِذِكْرِ إِحْدَى الْمَأْكُولَاتِ لِتَفَرُّدِهِ بِإِحْدَى الصِّفَاتِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْكَيْلَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي الْمَكِيلَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ ، وَتَقَلُّبِ الْأَزْمَانِ ، فَالتَّمْرُ يُكَالُ بِالْحِجَازِ وَيُوزَنُ بِالْبَصْرَةِ وَالْعِرَاقِ ، وَالْبُرُّ يُكَالُ تَارَةً فِي زَمَانٍ وَيُوزَنُ أُخْرَى ، وَالْفَوَاكِهُ قَدْ تُعَدُّ فِي زَمَانٍ وَتُوزَنُ فِي زَمَانٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّةً : لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ فِيهِ الرِّبَا فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَلَا رِبَا فِيهِ فِي بَعْضِهَا ، وَفِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَلَا رِبَا فِي غَيْرِهَا ، وَعِلَّةُ الْحُكْمِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لَازِمَةً فِي الْبُلْدَانِ وَسَائِرِ الْأَزْمَانِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْأَكْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْكَيْلَ عَلَمًا عَلَى الِإبَاحَةِ لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْكَيْلُ عَلَمًا عَلَى الْحَظْرِ . أَلَا تَرَاهُ لَمَّا جَعَلَ الْقَبْضَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَلَمًا عَلَى الْإِبَاحَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ عِلَّةً فِي الْحَظْرِ .

وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا سُلِّمَ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلرِّبَا كَالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ . فَإِنْ قِيلَ : عِلَّةُ الْحَظْرِ هِيَ زِيَادَةُ الْكَيْلِ قِيلَ : هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّةً فِي الْحَظْرِ : لِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ صِفَةً فِي الْحَظْرِ ، لِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَيْضًا . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْكَيْلَ مَوْضُوعٌ لِمَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ الْأَشْيَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الرِّبَا كَالزَّرْعِ وَالْعَدَدِ . وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْكَيْلَ عِلَّةً أَخْرَجَ مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مَا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ لِقِلَّتِهِ ، فَجَوَّزَ بَيْعَ تَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ وَكَفِّ طَعَامٍ بِكَفَّيْنِ . وَكُلُّ عِلَّةٍ أَوْجَبَتِ النُّقْصَانَ مِنْ حُكْمِ النَّصِّ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا عَدَاهُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَعْنَى مَعْقُولُ الِاسْمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا عُقِلَ عَنِ الِاسْمِ رَافِعًا لِمُوجَبِ الِاسْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِيمَا عَدَا الْمَذْكُورِ يُوجِبُ زِيَادَةَ حُكْمٍ ، وَمُحَالٌ أَنْ تَكُونَ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ تُوجِبُ نُقْصَانَ الْحُكْمِ مِنَ الْمَذْكُورِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ لِتَضَادِّ الْمُوجَبَيْنِ : لِأَنَّ أَحَدَهُمَا إِسْقَاطُ حُكْمٍ وَنَفْيُهُ ، وَالْآخَرُ إِيجَابُ حُكْمٍ وَإِثْبَاتُهُ . فَإِنْ قِيلَ : مَا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ . فَلَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مَكِيلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَكِيلًا : لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ فَصَارَ تَقْدِيرُ ذَلِكَ ، لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ الْمَكِيلَ بِالْبُرِّ الْمَكِيلِ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِالنَّصِّ . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلَا يَكُونُ كُلَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : جَاءَنِي النَّاسُ إِلَّا بَنِي تَمِيمٍ لَمْ يَقْتَضِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ النَّاسِ بَنِي تَمِيمٍ ، فَكَذَا إِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ كَيْلًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَكِيلًا . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ عَامٌّ فِي الْحَظْرِ ، وَقَوْلُهُ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ خَاصٌّ فِي الْإِبَاحَةِ ، وَعِلَّةُ الرِّبَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْحَظْرِ لَا مِنَ الْإِبَاحَةِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا أَوْجَبَتْهُ مِنْ حُكْمِ الْحَظْرِ عَامًّا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ . وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ : أَنَّ قَلِيلَ التَّمْرِ وَالْبُرِّ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مَكِيلٌ : لِأَنَّ لَهُ حَظًّا فِي الْمِكْيَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ احْتَاجَ وَفَاءُ الْمِكْيَالِ إِلَى تَمْرَةٍ فَتَمَّ بِهَا تَمَّ الْكَيْلُ وَحَلَّ الْبَيْعُ . فَلَوْلَا أَنَّ التَّمْرَةَ مَكِيلَةٌ

مَا تَمَّ الْمِكْيَالُ بِهَا وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهَذَا الْقَوْلِ : لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الْقَدَحَ الْعَاشِرَ بِانْفِرَادِهِ هُوَ الْمُسْكِرُ ، فَكَذَلِكَ التَّمْرَةُ الْوَاحِدَةُ بِانْفِرَادِهَا هِيَ الَّتِي تَمَّ الْمِكْيَالُ بِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَيَخْتَصُّ عُمُومُ الظَّاهِرِ بِالْقِيَاسِ ، فَنَقُولُ : لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَوَجَبَ أَلَّا يَثْبُتَ فِيهِ الرِّبَا كَالثِّيَابِ . قُلْنَا : نَحْنُ نُعَارِضُكُمْ بِقِيَاسٍ مِثْلِهِ فَنَقُولُ : مَا ثَبَتَ الرِّبَا فِي كَثِيرِهِ ثَبَتَ فِي قَلِيلِهِ كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ . ثُمَّ نَقُولُ : قِيَاسُكُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ الظَّاهِرُ : لِأَنَّ أَصْلَهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ ، وَالظَّاهِرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْهُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ " ، وَكَذَلِكَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ فَهُوَ أَنَّهَا زِيَادَةٌ مَجْهُولَةٌ ، لَمْ تَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ ، وَعَلَى أَنَّهَا زِيَادَةٌ مُتَأَوَّلَةٌ إِذَا كَانَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا بِدَلِيلِ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا أُبِيحَ مِنَ التَّسَاوِي لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْكَيْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّةَ الْحُكْمِ . فَهُوَ أَنَّ الْكَيْلَ عَلَمُ الْإِبَاحَةِ وَعِلَّةُ الرِّبَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْحَظْرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّةَ الْحُكْمِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَعْلِيلَهُمْ بِكَوْنِهِ مَكِيلًا جِنْسًا يَجْمَعُ حَالَتَيِ الْبُرِّ صِفَةً وَقَدْرًا ، فَهُوَ إِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا : لِأَنَّهُ يَجْمَعُ حَالَتَيِ الْبُرِّ صِفَةً وَقَدْرًا ، قَابَلْنَاكُمْ بِمِثْلِهِ فَقُلْنَا : تَعْلِيلُنَا بِكَوْنِهِ مَطْعُومًا جِنْسًا يَجْمَعُ حَالَتَيِ الْبُرِّ صِفَةً وَجِنْسًا . ثُمَّ يَكُونُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ أَوْلَى لِأَنَّ الطَّعْمَ أَلْزَمُ صِفَةً مِنَ الْكَيْلِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِالْحُكْمِ أَخَصَّ . وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الْجِنْسَ صِفَةٌ لِأَنَّ الصِّفَةَ مَا اخْتَصَّتْ بِالْمَوْصُوفِ ، وَالْجِنْسُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذِي جِنْسٍ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْكَيْلَ مُتَّفِقٌ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْأَكْلُ مُخْتَلِفٌ فِي الْمَأْكُولَاتِ فَكَانَ التَّعْلِيلُ بِالْمُتَّفِقِ أَوْلَى مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْمُخْتَلِفِ . فَهُوَ أَنَّ الْأَكْلَ مُتَّفِقٌ وَإِنَّمَا صِفَةُ الْأَكْلِ تَخْتَلِفُ ، كَمَا أَنَّ الْكَيْلَ وَإِنْ كَانَ مُتَّفِقًا وَصِفَتُهُ قَدْ تَخْتَلِفُ فَبَعْضُهُ قَدْ يُكَالُ بِالصَّاعِ ، وَبَعْضُهُ بِالْمُدِّ ، وَبَعْضُهُ بِالْقَفِيزِ ، وَبَعْضُهُ بِالْمَكُّوكِ ثُمَّ يُقَالُ : الْكَيْلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ ، وَالْأَكْلُ لَا يَخْتَلِفُ فَكَانَ الْأَكْلُ لِاتِّفَاقِ الْبُلْدَانِ ، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مِنَ الْكَيْلِ الْمُخْتَلِفِ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الطَّعْمَ صِفَةٌ آجِلَةٌ وَالْكَيْلُ صِفَةٌ عَاجِلَةٌ ، فَهُوَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ : لِأَنَّ الْبُرَّ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ بَعْدَ عِلَاجٍ وَصَنْعَةٍ ، كَمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُشْبِعٌ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ بِالْأَكْلِ ، كَمَا يُوصَفُ الْمَاءُ بِأَنَّهُ مُرْوٍ وَإِنْ كَانَتْ

صِفَتُهُ تُوجَدُ بَعْدَ الشُّرْبِ ، ثُمَّ لَوْ قِيلَ إِنَّ الْأَكْلَ أَعْجَلُ صِفَةً مِنَ الْكَيْلِ لَكَانَ أَوْلَى ، لِأَنَّ الْأَكْلَ مُمْكِنٌ مَعَ فَقْدِ الْآلَةِ وَالْكَيْلُ مُتَعَذَّرٌ إِلَّا بِوُجُودِ الْآلَةِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ زِيَادَةَ الطَّعْمِ قَدْ تُوجَدُ مَعَ تَسَاوِي الْكَيْلِ وَلَا تَحْرِيمَ ، وَلَا تُوجَدُ زِيَادَةُ الْكَيْلِ مَعَ تَسَاوِي الطَّعْمِ إِلَّا مَعَ وُجُودِ التَّحْرِيمِ ، فَهُوَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا إِذَا وَقَعَ التَّسْلِيمُ بِأَنَّ التَّسَاوِيَ يُعْتَبَرُ بِالْوَزْنِ تَامًّا ، وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّ التَّسَاوِيَ يُعْتَبَرُ بِالْكَيْلِ . فَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الطَّعْمَ مُتَسَاوٍ فِيهِمَا وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْوَزْنِ . كَمَا لَوْ تَسَاوَيَا فِي الْوَزْنِ وَتَفَاضَلَا فِي الْكَيْلِ كَانَا مُتَفَاضِلَيْنِ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْوَزْنِ ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا زِيَادَةُ الْكَيْلِ ، لِأَنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا صُبْرَةَ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ طَعَامٍ كَانَ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِالتَّسَاوِي وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ زِيَادَةُ الْكَيْلِ ، فَلَمَّا كَانَ الْجَهْلُ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةُ الْكَيْلِ عِلَّةً . فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَذْهَبُ السَّابِعُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا مَأْكُولُ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونُ جِنْسٍ : احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ يَخْتَصُّ بِصِفَتَيْنِ : الْأَكْلُ وَالْكَيْلُ ، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ أَوْلَى فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَا مَعًا عِلَّةَ الْحُكْمِ ، وَلِأَنَّ الرِّبَا إِنَّمَا جُعِلَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُمْكِنُ اسْتِبَاحَةُ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَكَانَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ عِلَّةَ الْحُكْمِ . وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ : لِأَنَّنَا قَدْ أَبْطَلْنَا فِيمَا مَضَى أَنْ يَكْوِنَ الْكَيْلُ عِلَّةً ، وَسَنُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ عِلَّةً ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَا عِلَّةً : لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَا وَصْفًا فِي الْعِلَّةِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَكْلَ وَحْدَهُ عِلَّةٌ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ فِيهِ الرِّبَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، وَهُوَ مَا أُكِلَ أَوْ شُرِبَ مِمَّا كِيلَ أَوْ وُزِنَ . وَقِسْمٌ لَا رِبَا فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا ، وَهُوَ مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ وَلَا مَشْرُوبٍ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ . وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ مَا أُكِلَ أَوْ شُرِبَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ كَالرُّمَّانِ ، وَالسَّفَرْجَلِ ، وَالْبُقُولِ وَالْخُضَرِ ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ لَا رِبَا فِيهِ : لِأَنَّهُ عَلَّلَ مَا فِيهِ الرِّبَا بِأَنَّهُ مَأْكُولٌ أَوْ مَشْرُوبٌ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ . وَعَلَّلَ قَوْلَهُ فِي الْجَدِيدِ فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ مَطْعُومُ جِنْسٍ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَثْبُتُ فِيهِ الرِّبَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ أَوْ بِعِلَّةِ الْأَشْبَاهِ . فَمِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنَّمَا جَعَلَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ الرِّبَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ بِعِلَّةِ الْأَشْبَاهِ : لِأَنَّهُ قَالَ : وَإِنَّمَا حَرَّمْنَا غَيْرَ مَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَأْكُولِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ : لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا سَمَّى . فَجَعَلَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الْأَصْلِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا : وَمَا

خَرَجَ مِنَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فَقِيَاسُهُ عَلَى مَا يُؤْكَلُ وَيُكَالُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُؤْكَلُ ، فَجُعِلَ مُلْحَقًا بِالْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ الشَّبَهِ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : بَلْ فِيهِ الرِّبَا عَلَى الْجَدِيدِ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ لَا مِنْ حَيْثُ الشَّبَهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا احْتَجَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ تَرْجِيحًا لِلْعِلَّةِ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا عِلَّةُ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا جِنْسُ الْأَثْمَانِ غَالِبًا ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ غَالِبًا . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَهُمَا وَكُلُّ ذَلِكَ قَرِيبٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْعِلَّةُ فِيهِمَا أَنَّهُ مَوْزُونُ جِنْسٍ فَجَعَلَ عِلَّةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْوَزْنَ كَمَا جَعَلَ عِلَّةَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ الْكَيْلَ ، وَدَلَائِلُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مُشْتَرَكَةٌ ، ثُمَّ خَصَّ الِاحْتِجَاجَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِتَرْجِيحِ عِلَّتِهِ وَإِفْسَادِ عِلَّتِنَا . وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ثُبُوتَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُسْتَفَادٌ بِالنَّصِّ ، وَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِنْبَاطِ عِلَّةٍ يُسْتَفَادُ مِنْهَا حُكْمُ أَصْلِهَا حَتَّى لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا . وَالتَّعْلِيلُ بِالْوَزْنِ مُتَّعَدٍ وَبِالْأَثْمَانِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ جَازَ تَعْلِيلُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِكَوْنِهِمَا ثَمَنًا وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ . لَجَازَ تَعْلِيلُهُمَا بِكَوْنِهِمَا فِضَّةً وَذَهَبًا ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّلَ الذَّهَبُ بِكَوْنِهِ ذَهَبًا ، وَلَا فِضَّةٌ بِكَوْنِهَا فِضَّةً : لِعَدَمِ التَّعَدِّي لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّلَا بِكَوْنِهِمَا ثَمَنًا لِعَدَمِ التَّعَدِّي . وَالثَّالِثُ : أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَثْمَانِ مُنْتَقَضٌ فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ فَنَقْضُ طَرْدِهِ بِالْفُلُوسِ ، هِيَ أَثْمَانٌ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَلَا رِبَا فِيهَا عِنْدَكُمْ . وَنَقْضُهُ عَكْسًا بِأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَيْسَتْ أَثْمَانًا وَفِيهَا الرِّبَا ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْوَزْنِ مُسْتَمِرٌّ لَا يُعَارِضُهُ نَقْضٌ فِي طَرْدٍ وَلَا عَكْسٍ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِنَا وَفَسَادِ عِلَّتِهِ مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ مِنْ قَبْلِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْوَزْنِ يُثْبِتُ الرِّبَا فِي الْمَوْزُونِ مِنَ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالْقُطْنِ وَالْكِتَّانِ ، وَلَوْ ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الْوَزْنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ مَعْمُولِهِ وَمَكْسُورِهِ فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ كَمَا اسْتَوَى حُكْمُ مَعْمُولِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَكْسُورُهُ فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ . فَلَمَّا جَوَّزُوا التَّفَاضُلَ فِي مَعْمُولِ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ دُونَ مَكْسُورِهِ وَتِبْرِهِ حَتَّى أَبَاحُوا بَيْعَ طَشْتٍ بِطَشْتَيْنِ وَسَيْفٍ بِسَيْفَيْنِ ، وَلَمْ يُجَوِّزُوا التَّفَاضُلَ فِي مَعْمُولِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، وَمَنَعُوا مِنْ بَيْعِ خَاتَمٍ بِخَاتَمَيْنِ وَسُوَارٍ بِسُوَارَيْنِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي الْعِلَّةِ ، وَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ ، وَلَوِ اتَّفَقَا فِي الْعِلَّةِ لَاسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ عِلَّةَ الْحُكْمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَزْنُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عِلَّةً يَثْبُتُ بِهَا الرِّبَا فِي مَوْزُونِ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ لَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ إِسْلَامِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ : لِاتِّفَاقِهِمَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا كَمَا مَنَعَ مِنْ إِسْلَامِ الْفِضَّةِ فِي الذَّهَبِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا .

فَلَمَّا جَازَ إِسْلَامُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَلَمْ يَجُزْ إِسْلَامُ الْفِضَّةِ فِي الذَّهَبِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقٍ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَبَيْنَ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ عِلَّةَ الرِّبَا . وَهَذَانِ الدَّلِيلَانِ احْتَجَّ بِهِمَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إِبْطَالِ الْوَزْنِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الرِّبَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْأُصُولَ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ اخْتَصَّ بِهِمَا ، وَلَمْ يُقَسْ غَيْرُهُمَا عَلَيْهِمَا . أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِمَا لَمْ يَتَعَدَّ إِلَى غَيْرِهِمَا مِنْ صُفْرٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ ، وَلَمَّا حُرِّمَ الشُّرْبُ فِي أَوَانِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ اخْتُصَّ النَّهْيُ بِهِمَا دُونَ سَائِرِ الْأَوَانِي مِنْ غَيْرِهِمَا . كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرِّبَا الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِمَا مُخْتَصًّا بِهِمَا ، وَأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى غَيْرِهِمَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اسْتِنْبَاطِ عِلَّةٍ ثَبَتَ حُكْمُهَا بِالنَّصِّ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ يَخْلُو هَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا لِغَيْرِ الْمُتَعَدِّيَةِ ، أَوْ يَكُونَ عِلَّةً لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ ، أَوْ يَكُونَ إِثْبَاتًا لَهَا عِلَّةً وَجَعْلَ غَيْرِهَا إِذَا تَعَدَّتْ أَوْلَى مِنْهَا . فَإِنْ كَانَ هَذَا إِبْطَالًا لِغَيْرِ الْمُتَعَدِّيَةِ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً خَالَفْنَاكُمْ : لِأَنَّ غَيْرَ الْمُتَعَدِّيَةِ قَدْ تَكُونُ عِنْدَنَا عِلَّةً فَإِنْ دَعَوْا إِلَى الْكَلَامِ فِيهَا انْتَقَلْنَا عَنِ الْمَسْأَلَةِ ، ثُمَّ نَقُولُ : الْعِلَلُ أَعْلَامٌ نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَحْكَامِ ، فَرُبَّمَا أَرَادَ بِبَعْضِهَا التَّعَدِّيَ فَجَعَلَهَا عَلَمًا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا أَرَادَ بِبَعْضِهَا الْوُقُوفَ عَلَى حُكْمِ النَّصِّ فَجَعَلَهَا عَلَمًا عَلَيْهِ . كَمَا أَنَّهُ جَعَلَ الْمُتَعَدِّيَةَ تَارَةً عَامَّةً ، وَتَارَةً خَاصَّةً . كَذَلِكَ جَعَلَهَا تَارَةً وَاقِفَةً وَتَارَةً مُتَعَدِّيَةً . فَإِنْ قِيلَ : فَالْوَاقِفَةُ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ فَيُجْعَلُ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِالنَّصِّ دُونَ الْمَعْنَى كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُتَعَدِّيَةَ الْمَعْنَى لَمْ يُسْتَنْبَطْ لَهَا مَعْنًى لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ . فَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَاقِفَةَ مُفِيدَةٌ ، وَالَّذِي يُسْتَفَادُ بِهَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : الْعِلْمُ بِأَنَّ حُكْمَهَا مَقْصُورٌ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا لَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا وَهَذِهِ فَائِدَةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ رُبَّمَا حَدَثَ مَا يُشَارِكُهُ فِي الْمَعْنَى فَيَتَعَدَّى حُكْمُهُ إِلَيْهِ . فَأَمَّا أَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ فَغَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلِذَلِكَ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِنْبَاطُ عِلَّةٍ مِنْهَا . فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ إِنْ أَبْطَلُوا الْعِلَّةَ الْوَاقِفَةَ . وَإِنْ أَثْبَتُوهَا وَجَعَلُوا الْمُتَعَدِّيَةَ أَوْلَى مِنْهَا كَانَ هَذَا مُسَلَّمًا مَا لَمْ تَبْطُلِ الْمُتَعَدِّيَةُ بِنَقْضٍ أَوْ مُعَارَضَةٍ ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا تَعْلِيلَهُمْ بِالْوَزْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ ، وَلَوْلَاهُمَا لَكَانَ التَّعْلِيلُ بِالْوَزْنِ أَوْلَى . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الِاسْمَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ ، فَهُوَ أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ إِلَى الْكَلَامِ فِي إِبْطَالِ الْعِلَّةِ الْوَاقِفَةِ ، وَقَدْ مَضَى عَلَى أَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً : لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ قَبْلَ الِاسْتِنْبَاطِ لَا لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ التَّعَدِّي .

وَالْعِلَّةُ الْوَاقِفَةُ مُسْتَفَادَةٌ بَعْدَ الِاسْتِنْبَاطِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ التَّعَدِّي . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مَنْ نَقْضِ عِلَّتِنَا فِي الطَّرْدِ بِالْفُلُوسِ وَفِي الْعَكْسِ بِالْأَوَانِي ، فَهُوَ أَنَّ عِلَّتَنَا سَلِيمَةٌ مِنَ النَّقْضِ فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ : لِأَنَّهَا جِنْسُ الْأَثْمَانِ غَالِبًا ، وَالْفُلُوسُ وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَنَادِرٌ ؛ فَسَلِمَ الطَّرْدُ ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَلَا يَنْتَقِضُ أَيْضًا بِالْأَوَانِي : لِأَنَّنَا قُلْنَا : جِنْسُ الْأَثْمَانِ وَالْأَوَانِي مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا فَسَلِمَتِ الْعِلَّةُ مِنَ النَّقْصِ فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ . وَإِذْ قَدِ انْتَهَى الْكَلَامُ بِنَا إِلَى هَذَا فَسَنَذْكُرُ فَصْلًا مِنَ الْعِلَلِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا وَيَصِحُّ بِهَا الْقِيَاسُ الَّذِي يَتَضَمَّنُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ قِيَاسَانِ ، قِيَاسُ طَرْدٍ وَقِيَاسُ عَكْسٍ . فَأَمَّا قِيَاسُ الطَّرْدِ : فَهُوَ إِثْبَاتُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ . وَهَذَا أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ حُكْمًا ، وَلَيْسَ يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْقِيَاسِ فِي الْقَوْلِ بِهِ . وَأَمَّا قِيَاسُ الْعَكْسِ : فَهُوَ إِثْبَاتُ حُكْمٍ نَقِيضِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ بِاعْتِبَارِ عِلَّتِهِ . وَهَذَا قَدْ أَثْبَتَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ قِيَاسًا وَإِنْ خَالَفَهُمْ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ . وَقِيَاسُ الطَّرْدِ ، لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : مَنْ أَصْلٍ ، وَفَرْعٍ ، وَعِلَّةٍ ، وَحُكْمٍ . فَأَمَّا الْأَصْلُ فَهُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَأَمَّا الْفَرْعُ فَهُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى إِلَيْهِ حُكْمُ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الَّتِي لِأَجْلِهَا ثَبَتَ الْحُكْمُ . وَقِيلَ الصِّفَةُ الْحَالِيَّةُ لِلْحُكْمِ ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَهُوَ الْمُنْقَسِمُ إِلَى : الْإِبَاحَةِ ، وَالْحَظْرِ ، وَالْوُجُوبِ ، وَالنَّدْبِ ، وَالْكَرَاهَةِ ، وَالِاسْتِحْبَابِ فَالْبُرُّ فِي الرِّبَا أَصْلٌ ، وَالْأُرْزُ فَرْعٌ ، وَالْأَكْلُ عِلَّةٌ ، وَالرِّبَا حُكْمٌ . ثُمَّ الْعِلَّةُ وَالْحُكْمُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَعًا غَيْرَ أَنَّ الْعِلْمَ بِوُجُودِهِمَا فِي الْأَصْلِ أَسْبَقُ مِنَ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِمَا فِي الْفَرْعِ ، وَالْعِلْمُ بِالْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالْأَصْلِ أَسْبَقُ مِنَ الْعِلْمِ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ : لِأَنَّ الْعِلَّةَ تُعْلَمُ بَعْدَ الِاسْتِنْبَاطِ لَهَا وَالْحُكْمُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ . وَالْعِلْمُ بِالْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ أَسْبَقُ مِنَ الْعِلْمِ بِحُكْمِ الْفَرْعِ بِخِلَافِ الْأَصْلِ . لِأَنَّ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ يُعْلَمُ حُكْمُ الْفَرْعِ ، وَبِوُجُودِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ يُعْرَفُ عِلَّةُ الْأَصْلِ . ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفَادًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ . فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَفَادًا مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ ، كَانَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَصْلًا بِذَاتِهِ فَيَجِبُ حِينَئِذٍ اسْتِنْبَاطُ عِلَّتِهِ وَتَعْلِيقُ حُكْمِهِ عَلَى فُرُوعِهِ . وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَفَادًا مِنْ قِيَاسٍ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ بِمِثْلِ الْعِلَّةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ فِي هَذَا

الْفَرْعِ ، أَوْ يَكُونُ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا بِعِلَّةٍ أُخْرَى . فَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ بِمِثْلِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ فِي هَذَا الْفَرْعِ . مِثَالُهُ : أَنْ تَقِيسَ الذُّرَةَ عَلَى الْأُرْزِ بِعِلَّةِ الْأَكْلِ ، وَالْأُرْزُ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا فَهَذِهِ الْعِلَّةُ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ ، فَإِنَّ كَانَ هَكَذَا لَمْ يَجُزْ جَعْلُ هَذَا أَصْلًا وَكَانَ هَذَا الْأَصْلُ مَعَ مَا أُلْحِقَ بِهِ فَرْعَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ . فَجَعَلَ الذُّرَةَ وَالْأُرْزَ فَرْعَيْنِ عَلَى الْبُرِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِوُجُودِ عِلَّةِ الْبُرِّ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ ، وَلَيْسَ جَعْلُ الْأُرْزِ الْمَقِيسِ عَلَى الْبُرِّ أَصْلًا لِلذُّرَةِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الذُّرَةِ أَصْلًا لِلْأُرْزِ لِاسْتِوَائِهِمَا فَرْعًا لِلْآخَرِ . وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ بِعِلَّةٍ وَرُدَّ الْفَرْعُ إِلَيْهِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْهُ غَيْرِ تِلْكَ الْعِلَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لَا يَجُوزُ وَمَنَعُوا مِنْهُ : لِأَنَّ الْفَرْعَ إِنَّمَا يُرَدُّ إِلَى الْأَصْلِ إِذَا شَارَكَهُ فِي عِلَّةِ حُكْمِهِ ، وَعِلَّةُ هَذَا الْأَصْلِ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا حُكْمُهُ هِيَ عِلَّةٌ أُخْرَى لَا تُوجَدُ فِي الْفَرْعِ الثَّانِي ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ مَنَعَ مِنَ الْقَوْلِ بِالْعِلَّتَيْنِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى بِجَوَازِ ذَلِكَ : لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ هِيَ كَالنَّصِّ فِي أَنَّهَا طَرِيقُ الْحُكْمِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْلَمَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ لِعِلَّةٍ أُخْرَى تَأْثِيرًا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَيَرُدُّ بِهَا بَعْضُ الْفُرُوعِ إِلَيْهِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ أَجَازَ الْقَوْلَ بِالْعِلَّتَيْنِ . فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْأَصْلِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ وَجَبَ عَلَى الْقِيَاسِ اعْتِبَارُ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ لِتَحَرِّيَهَا فِي الْفَرْعِ . وَقَدْ يُعْلَمُ عِلَّةُ الْأَصْلِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَيْضًا : أَحَدُهَا : النَّصُّ الصَّرِيحُ . وَالثَّانِي : التَّنْبِيهُ . وَالثَّالِثُ : الِاسْتِنْبَاطُ . وَأَمَّا النَّصُّ الصَّرِيحُ فَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [ النُّورِ ] . وَنَحْوُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجَلِ الدَّافَّةِ " . فَنَصَّ عَلَى الْعِلَّةِ كَمَا نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ . وَأَمَّا التَّنْبِيهُ فَمِثْلُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى قَوْمٍ عِنْدَهُمْ كَلْبٌ وَدَخَلَ عَلَى آخَرِينَ وَعِنْدَهُمْ هِرَّةٌ ، وَقَالَ : إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ . فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ . وَفِي مَعْنَى التَّنْبِيهِ لِجَوَابٍ بِالْفَاءِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ الْمَائِدَةِ ] . فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْقَطْعِ السَّرِقَةُ .

وَأَمَّا الِاسْتِنْبَاطُ فَهُوَ مَا وَرَدَ النَّصُّ بِإِطْلَاقِ حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ إِشَارَةٍ إِلَى عِلَّتِهِ ، وَوَكَّلَ الْعُلَمَاءَ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ فِي اسْتِنْبَاطِ عِلَّتِهِ كَالسِّتَّةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا . فَاجْتَهَدَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِنْبَاطِ مَعْنَاهَا . وَهَذَا النَّوْعُ إِنَّمَا يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُ عِلَّتِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ لِيُعْلَمَ بِهِ الْعِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهَا مِنَ الْعِلَّةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهَا . وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الشُّرُوطِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ أَرْبَعٌ : وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا ، وَارْتِفَاعُهُ بِارْتِفَاعِهَا ، وَسَلَامَتُهَا عَلَى الْأُصُولِ ، وَعَدَمُ مَا يُعَارِضُهَا مِمَّا هُوَ أَوْلَى مِنْهَا ، فَجَعَلَ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ شَرْطَيْنِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا . وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا ، وَسَلَامَتُهَا عَلَى الْأُصُولِ ، وَعَدَمُ مَا يُعَارِضُهَا مِمَّا هُوَ أَوْلَى مِنْهَا . فَجَعَلَ هَذَا الْقَائِلُ الطَّرْدَ شَرْطًا وَلَمْ يَجْعَلِ الْعَكْسَ شَرْطًا . وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَزَعَمَ أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يَسْتَمِرُّ فِي جَمِيعِهَا الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ ، وَإِنَّمَا يَسْتَمِرُّ فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّاتِ . وَقَالَ الْأَوَّلُونَ : بَلْ هَذَا الشَّرْطُ مُسْتَمِرٌّ فِي الشَّرْعِيَّاتِ أَيْضًا مَا لَمْ يَخْلُفْ تِلْكَ الْعِلَّةَ عِلَّةٌ أُخْرَى تُوجِبُ مِثْلَ حُكْمِهَا . وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدِي : لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِذَا كَانَتْ مُوجِبَةً بِحُكْمٍ ، وَاقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا مَوْجُودًا ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِعَدَمِهَا مَعْدُومًا لَيَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ وُجُودِهَا وَعَدَمِهَا . واللَّهُ أَعْلَمُ . فَصْلٌ : فَأَمَّا فَسَادُ الْعِلَّةِ فَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ : بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ . فَأَحَدُهَا : التَّعْلِيلُ بِالِاسْمِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنْ فِعْلٍ ، كَعَاقِدٍ ، وَقَاتِلٍ ، وَوَارِثٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اسْمَ لَقَبٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُعَلَّلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ : لِأَنَّ الْعَرَبَ سَمَّتْهُ خَمْرًا . فَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِتَسْمِيَةِ الْعَرَبِ مَعَ تَقَدُّمِهِ عَلَى الشَّرْعِ تَأْثِيرٌ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُعَلَّلَ تَحْرِيمُهُ بِجِنْسِهِ وَيُعَبَّرَ عَنِ الْجِنْسِ بِاسْمِهِ ، فَيُعَلَّلُ تَحْرِيمُهُ بِكَوْنِهِ خَمْرًا فَهَذَا جَائِزٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ التَّعْلِيلُ بِالصِّفَةِ جَازَ التَّعْلِيلُ بِالْجِنْسِ ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ فِي نَجَاسَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ : لِأَنَّهُ بَوْلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى بَوْلِ الْآدَمِيِّ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : اخْتِلَافُ الْمَوْضُوعِ . وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مَبْنِيًّا عَلَى التَّخْفِيفِ ، وَالْحُكْمُ الْآخَرُ مَبْنِيًّا عَلَى التَّغْلِيظِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِعِلَّةٍ تُوجِبُ حُكْمًا آخَرَ . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ اخْتِلَافُ مَوْضُوعِهِمَا مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَكُونُ هَذَا

مُفْسِدًا لِلْعِلَّةِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ : لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُوجِبُ تَسَاوِيَ حُكْمِهِمَا ، وَاخْتِلَافُ مَوْضُوعِهِمَا يُوجِبُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ ، وَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعِلَّةِ : لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ مُسَاوِيًا لِأَصْلِهِ فِي حُكْمٍ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي غَيْرِهِ : لِأَنَّ أَحْكَامَهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذَّرٌ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ عَدَمُ التَّأْثِيرِ من قوادح العلة : وَهُوَ أَنْ يَضُمَّ الْمُعَلِّلُ إِلَى أَوْصَافِ عِلَّتِهِ وَصْفًا لَوْ عُدِمَتْهُ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ لَمْ يُعْدَمِ الْحُكْمُ . فَفَسَدَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عِلَّةً وَوَجَبَ إِسْقَاطُ الْوَصْفِ الَّذِي لَا تُؤْثِرُ عِلَّتُهُ فِي الْأَصْلِ . لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ مَا لَا يَضُرُّ فَقْدُهُ فِي الْحُكْمِ أثْبَتَ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ . وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : الْكَسْرُ من القوادح في العلة . وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمَزِيدُ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ احْتِرَازًا مِنِ انْتِقَاضِهَا بِفَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ ، فَلَا يَجُوزُ ضَمُّ هَذَا الْوَصْفِ إِلَيْهَا ، وَتَصِيرُ الْعِلَّةُ مُنْتَقَضَةً عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا : لِأَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهَا ثُمَّ يَجْرِي فِي فُرُوعِهَا . فَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ وَصْفٌ مِنْهَا فِي فَسَادِ الْعِلَّةِ وَهَذَا الْوَجْهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالنَّقْضِ . وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ : الْقَلْبُ من قوادح العلة . وَهُوَ أَنْ يُعَلَّقَ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ نَقِيضُ حُكْمِهَا ، مِثَالُهُ : أَنْ يُعَلِّلَ الْحَنَفِيُّ وُجُوبَ الصِّيَامِ فِي الِاعْتِكَافِ بِأَنَّهُ لُبْثٌ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ اقْتِرَانُ مَعْنًى آخَرَ إِلَيْهِ . أَصْلُهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ : فَنَقْلِبُ هَذَا الْقِيَاسَ عَلَيْهِ وَنَقُولُ لِأَنَّهُ لُبْثٌ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ الصَّوْمُ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَيَكُونُ هَذَا فَسَادًا لِلْعِلَّةِ . وَلَكَ فِي هَذَا الْمِثَالِ أَنْ تَمْنَعَ الْعِلَّةَ بِوَجْهٍ سَادِسٍ ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ ، وَهُوَ أَنْ تَقُولَ أَنَا أُضُمُّ إِلَيْهِ مَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ النِّيَّةُ فَيَكُونُ هَذَا قَوْلًا بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ . وَهَذَا إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْحُكْمِ إِذَا كَانَ مُجْمَلًا ، وَيَصِيرُ النِّزَاعُ فِي الْحُكْمِ مَانِعًا مِنَ الْعِلَّةِ أَنْ تَكُونَ مُوَجَّهَةً لِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْحُكْمِ . وَالْوَجْهُ السَّابِعُ : النَّقْضُ من قوادح العلة وَيَكُونُ بِحَسْبَ الْعِلَّةِ . وَالْعِلَلُ ضَرْبَانِ : عِلَّةُ نَوْعٍ ، وَعِلَّةُ جِنْسٍ . فَأَمَّا عِلَّةُ النَّوْعِ فَمِثْلُ تَعْلِيلِ الْبُرِّ لِثُبُوتِ الرِّبَا فِيهِ بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ . وَأَمَّا عِلَّةُ الْجِنْسِ فَمِثْلُ تَعْلِيلِ جِنْسِ الرِّبَا بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ . فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ لِنَوْعٍ ، كَانَ نَقْضُ الْعِلَّةِ فِيهِ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ ، فَإِذَا وُجِدَ مَطْعُومٌ لَيْسَ فِيهِ رِبًا كَانَ نَقْضًا . وَلَا يَنْتَقِضُ بِوُجُودِ الرِّبَا فِيمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ لِلْجِنْسِ كَتَعْلِيلِ جِنْسِ الرِّبَا بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ انْتَقَضَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وُجُودُ الْعِلَّةِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ حَتَّى إِنْ كَانَ مَطْعُومًا لَا رِبَا فِيهِ كَانَ نَقْضًا .

وَالثَّانِي : وُجُودُ الْحُكْمِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْعِلَّةِ حَتَّى إِذَا ثَبَتَ الرِّبَا فِيمَا لَيْسَ بِمَطْعُومٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ كَانَ نَقْضًا ، وَمَتَى كَانَ الْحُكْمُ جُمْلَةً لَمْ يَنْتَقِضْ بِالتَّفْصِيلِ ، وَمَتَى كَانَ مُفَصَّلًا انْتَقَضَ بِالْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ . وَقَدْ يُحْتَرَزُ مِنَ النَّقْضِ إِذَا كَانَ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَارْتِفَاعِ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إِمَّا احْتِرَازٌ بِحُكْمٍ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ ، وَإِمَّا احْتِرَازٌ بِشَرْطٍ مُقَيَّدٍ بِالْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ الِاحْتِرَازُ بِحُكْمٍ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ ، مِثَالُهُ : تَعْلِيلُ الْحَنَفِيِّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِأَنَّهُمَا حُرَّانِ مُكَلَّفَانِ مَحْقُونَا الدَّمِ كَالْمُسْلِمَيْنِ . فَإِذَا نُوقِضَ بِقَتْلِ الْخَطَأِ وَعَدَمِ الْقَوْدِ فِيهِ قَالَ : قَدِ احْتَرَزْتُ مِنْ هَذَا النَّقْضِ بِالرَّدِّ إِلَى الْمُسْلِمَيْنِ ، فَإِنَّ الْقَوْدَ بَيْنَهُمَا يَجْرِي فِي الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ فَكَذَا فِي الْفَرْعِ . وَهَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَالنَّقْضُ لَازِمٌ : لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمَنْطُوقُ بِهَا ، وَالْحُكْمُ مَا صَرَّحَ بِهِ ، وَالنَّقْضُ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُظْهَرِ دُونَ الْمُضْمَرِ . وَإِنْ كَانَ الِاحْتِرَازُ بِشَرْطٍ فَقَيْدٌ بِالْحُكْمِ . فَمِثَالُهُ : إِذَا عَلَّلَ الْحَنَفِيُّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِأَنَّهُمَا حُرَّانِ مُكَلَّفَانِ مَحْقُونَا الدَّمِ ، أَنْ يَقُولَ : فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ . فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا ، هَلْ يَكُونُ هَذَا الِاحْتِرَازُ مَانِعًا مِنَ النَّقْضِ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَمْنَعُ هَذَا الِاحْتِرَازُ مِنَ النَّقْضِ ، وَيَكُونُ هَذَا اعْتِرَافًا يَنْقُضُ الْعِلَّةَ : لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِالذِّكْرِ وَكَانَتْ هِيَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْحُكْمِ ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَا تُؤَثِّرُ إِلَّا بِشَرْطٍ يَقْتَرِنُ بِالْحُكْمِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ هَذَا الِاحْتِرَازُ مَانِعٌ مِنَ النَّقْضِ وَالْعِلَّةُ صَحِيحَةٌ : لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مُتَقَدِّمٌ فِي الْمَعْنَى . وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ : الْمُعَارَضَةُ من قوادح العلة . وَقَدْ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِالنَّصِّ . وَالثَّانِي : بِعِلَّةٍ . فَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ بِالنَّصِّ فَيُنْظَرُ حَالُ النَّصِّ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُجْمَلٍ كَانَتِ الْعِلَّةُ الَّتِي عَارَضَتْهُ فَاسِدَةٌ : لِأَنَّ النَّصَّ أَصْلٌ مُقَدَّمٌ وَالْقِيَاسَ فَرْعٌ مُؤَخِّرٌ . وَإِنْ كَانَ النَّصُّ مُجْمَلًا جَازَ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ إِنْ كَانَ جَلِيًّا ، وَفِي جَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ إِنْ كَانَ خَفِيًّا . وَجْهَانِ . وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ بِعِلَّةٍ فَضَرْبَانِ :

أَحَدُهُمَا : الْمُعَارَضَةُ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ . وَالثَّانِي : الْمُعَارَضَةُ بِقِيَاسٍ آخَرَ مَعَ تَسْلِيمِ عِلَّةِ الْأَصْلِ . فَإِنْ كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ نُظِرَ فِي الْمُعَلِّلِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ ، لَمْ تَسْلَمْ لَهُ الْعِلَّةُ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّتِهَا أَوْ عَلَى فَسَادِهَا مَا عَارَضَهَا ، مِثْلُ تَعْلِيلِ الْحَنَفِيِّ الْبُرَّ بِأَنَّهُ مَكِيلٌ فَيُعَارِضُ الشَّافِعِيُّ فِي عِلَّةِ الْبُرِّ بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ ، فَلَا نُسَلِّمُ التَّعْلِيلَ بِالْكَيْلِ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّتِهِ وَفَسَادِ مَا عَارَضَهُ . وَإِنْ كَانَ الْمُعَلِّلُ مِمَّنْ يَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ نُظِرَ فِي الْحُكْمَيْنِ فَإِنْ كَانَا مُتَنَافِيَيْنِ لَمْ تَسْلَمِ الْعِلَّةُ بِالْمُعَارَضَةِ إِلَّا بِالدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهَا أَوْ فَسَادِ مَا عَارَضَهَا . وَإِنْ لَمْ يَتَنَافَ الْحُكْمَانِ فَقَدْ قِيلَ لَا تَمْنَعُ الْمُعَارَضَةُ مِنْ صِحَّةِ الْعِلَّةِ . وَلِلْمُعَلِّلِ أَنْ يَقُولَ : أَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ مَعًا . وَقِيلَ . بَلْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ مَانِعَةٌ مِنْ صِحَّةِ الْعِلَّةِ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى أَنَّ عِلَّتَهُ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتِ الْحُكْمَ الَّذِي ادَّعَاهُ ثُمَّ يَصِحُّ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ بِالْعِلَّتَيْنِ . وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ آخَرَ فَمَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الْقِيَاسِ أَيْضًا ، سَوَاءٌ قَالَ الْمُعَلِّلُ بِالْعِلَّتَيْنِ أَوْ لَمْ يَقُلْ : لِأَنَّهُ لَيْسَ رَدُّ الْفَرْعِ إِلَى أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ إِلَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إِمَّا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِهِ ، وَإِمَّا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى حُكْمِهِ ، وَإِمَّا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى عِلَّتِهِ ، فَيَكُونُ الْقِيَاسُ الْمُتَرَجِّحُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَوْلَى . فَصْلٌ : وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صِحَّةَ الْعِلَّةِ وَفَسَادَهَا يَعْتَبِرُ بِمَا وَصَفْنَا ، فَيَنْبَغِي لِلْمُعَلِّلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْبِطَ عِلَّةَ الْأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَى حُكْمِهِ أَنْ يَعْتَبِرَ أَوْصَافَ الْأَصْلِ وَصْفًا بَعْدَ وَصْفٍ ، فَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي بَدَأَ بِاعْتِبَارِهِ مُطَّرِدًا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ عَلِمَ أَنَّهُ الْعِلْمُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلَّةَ الْحُكْمِ . وَإِنْ لَمْ يَطَّرِدْ وَاعْتَرَضَهُ أَحَدُ وُجُوهِ الْفَسَادِ انْتَقَلَ إِلَى وَصْفٍ ثَانٍ ، فَإِنْ وَجَدَهُ مُطَّرِدًا عَلِمَ أَنَّهُ عِلَّةُ الْأَصْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَطَّرِدِ انْتَقَلَ إِلَى وَصْفٍ ثَالِثٍ فَاعْتَبَرَهُ كَذَلِكَ ، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ الْأَوْصَافِ فَإِذَا سَلِمَ لَهُ أَحَدُهَا جَعَلَهُ عِلَّةَ الْحُكْمِ . فَلَوْ سَلِمَ لَهُ وَصْفَانِ وَصَحَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِاطِّرَادِهِ عَلَى الْأُصُولِ ، لَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِمَا ، لَكِنْ يَقَعُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ بِعُمُومِهِ وَكَثْرَةِ فُرُوعِهِ أَوْ بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا تَرْجِيحُ الْعِلَلِ ، عُلِمَ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي تَرَجَّحَ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ أَوْصَافُ الْأَصْلِ حِينَ اعْتُبِرَ بِهَا لَا يَطَّرِدُ وَاحِدٌ مِنْهَا عَلَى الْأُصُولِ ضَمَمْتَ أَحَدَ الْأَوْصَافِ إِلَى الْآخَرِ ، فَإِذَا صَلُحَ لَكَ اجْتِمَاعُ وَصْفَيْنِ مُطَّرِدَيْنِ جَعَلْتَهُمَا مَعًا عِلَّةَ الْحُكْمِ . وَإِنْ لَمْ يَطَّرِدِ الْوَصْفَانِ بِاجْتِمَاعِهِمَا ضَمَمْتَ إِلَيْهِمَا وَصْفًا ثَالِثًا ، فَإِذَا وَجَدْتَهَا مُطَّرِدَةً

جَعَلْتَهَا مَجْمُوعَهَا عِلَّةَ الْأَصْلِ ، وَإِنْ لَمْ تَطَّرِدْ بِاجْتِمَاعِهَا ضَمَمْتَ إِلَيْهَا رَابِعًا ، ثُمَّ خَامِسًا ، ثُمَّ سَادِسًا ، وَلَا يَنْحَصِرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ أَوْصَافَ الْأَصْلِ كُلِّهِ وَيَقْتَصِرَ بِالْعِلَّةِ عَلَى نَفْسِ الْأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَى حُكْمِهِ ، كَمَا قُلْنَا فِي عِلَّةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى أَحَدِ أَوْصَافِهَا انْتَهَى بِنَا التَّعْلِيلُ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى نَفْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَقُلْنَا : إِنَّ عِلَّتَهُمَا كَوْنُهُمَا أَثْمَانًا وَقِيَمًا . وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ هَذَا بِمَنْعِهِ مِنَ الْعِلَّةِ الْوَاقِعَةِ ، وَمَنَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْصَافٍ وَهَذَا فَاسِدٌ : لِأَنَّهُ لَا نَجِدُ فَرْقًا بَيْنَ الْخَمْسَةِ وَبَيْنَ مَا زَادَ عَلَيْهَا أَوْ نَقَصَ مِنْهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِفَ شَيْئًا بِمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ جَازَا مُتَفَاضِلَيْنِ يَدًا بِيَدٍ ، قِيَاسًا عَلَى الذَّهَبِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلَفَ فِي الْفِضَّةِ ، وَالْفِضَّةِ الَتِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْلَفَ فِي الذَّهَبِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا صَحِيحٌ . وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إِذَا تَبَايَعَا لَمْ يَخْلُ مَا يَضْمَنُهُ عَقْدُ بَيْعِهِمَا عِوَضًا وَمُعَوَّضًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْعِوَضَانِ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ ، فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ نَقْدًا وَنَسَاءً مُتَفَاضِلًا وَمُتَمَاثِلًا ، سَوَاءٌ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَبَيْعِ ثَوْبٍ بِعَبْدٍ ، أَوْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَبَيْعِ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ ، وَعَبْدٍ بِعَبْدَيْنِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ الرِّبَا دُونَ الْآخَرِ كَبَيْعِ عَبْدٍ بِدَرَاهِمَ ، أَوْ ثَوْبٍ بِطَعَامٍ فَهَذَا كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا نَقْدًا وَنَسَاءً ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الْعِوَضَانِ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَالْبُرِّ بِالذَّهَبِ أَوِ الشَّعِيرِ بِالْفِضَّةِ فَهَذَا كَالْقِسْمَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا نَقْدًا وَنَسَاءً وَإِسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الْعِوَضَانِ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ كَالْبُرِّ بِالشَّعِيرِ أَوْ بِالْبُرِّ ، وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ أَوْ بِالذَّهَبِ ، فَلَا يَجُوزُ إِسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِلَّةِ . ثُمَّ يُنْظَرُ فِي حَالِ الْعِوَضَيْنِ فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْبُرِّ بِالْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُمَا إِلَّا بِشَرْطَيْنِ : التَّسَاوِي ، وَالتَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ .

وَإِنْ كَانَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ كَالْبُرِّ بِالشَّعِيرِ ، أَوِ التَّمْرِ بِالزَّبِيبِ فَبَيْعُهُ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، وَالتَّفَاضُلُ فِيهِ يَجُوزُ ، وَقَدْ مَضَى فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يُغْنِي . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَكُلُّ مَا خَرَجَ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بيع بَعْضِهِ بِبَعْضٍ تَفَاضُلًا إِلَى أَجَلٍ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ تَفَاضُلًا إِلَى أَجَلٍ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ تَقَرَّرَ بِمَا تَمَهَّدَ مِنْ عِلَّتَيِ الرِّبَا أَنَّ مَا عَدَا الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا رِبَا فِيهِ كَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَاعَ الْجِنْسُ مِنْهُ بِغَيْرِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ عَاجِلًا وَآجِلًا ، وَمُتَفَاضِلًا ، فَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَوْبًا بِثَوْبَيْنِ ، وَعَبْدًا بِعَبْدَيْنِ ، وَبَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ نَقْدًا وَنَسَاءً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْجِنْسُ يَمْنَعُ مِنَ النَّسَاءِ مُتَفَاضِلًا وَمُتَمَاثِلًا ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الثِّيَابِ بِالثِّيَابِ نَسَاءً ، وَلَا بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسَاءً : اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً . وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " الْحَيَوَانُ وَاحِدٌ بِاثْنَيْنِ لَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِيهِ إِنْسَاءً " . وَلِأَنَّهُ بَيْعُ جِنْسٍ فَلَمْ يَجُزْ دُخُولُ النَّسَاءِ فِيهِ كَالْبُرِّ : وَلِأَنَّ الْجِنْسَ أَحَدُ صِفَتَيْ عِلَّةِ الرِّبَا : لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَطْعُومُ جِنْسٍ : وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَكِيلُ جِنْسٍ ، وَإِذَا كَانَ الْجِنْسُ أَحَدَ صِفَتَيْ عِلَّةِ الرِّبَا لَمْ يَجُزْ دُخُولُ النَّسَاءِ فِيهِ كَالطَّعْمِ أَوِ الْكَيْلِ . وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا كَانَ وَصْفًا فِي عِلَّةِ الرِّبَا كَانَ مَانِعًا مِنْ دُخُولِ النَّسَاءِ كَالْكَيْلِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى خَطَأِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا فَفَرَّتِ الِإبْلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ قِلَاصِ الصَّدَقَةِ . فَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ . وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : جَاءَ عَبْدٌ فَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْهِجْرَةِ ، وَلَا يَشْعُرُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَهُ عَبْدٌ ، فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعْنِيهِ ، فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ

أَسْوَدَيْنِ ، ثُمَّ لَمْ يُبَايِعْ أَحَدًا بَعْدُ حَتَّى يَسْأَلَهُ أَعَبْدٌ هُوَ ؟ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ . وَقَدْ رُوِيَ جَوَازُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - . فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ بَاعَ جَمَلًا لَهُ يُقَالَ لَهُ الْعُصَيْفِيرُ بِعِشْرِينَ جَمَلًا إِلَى أَجَلٍ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ بَاعَ بَعِيرًا بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ بِالرَّبَذَةِ . وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا . وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ ، صَحَّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِ ، كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ حَيَوَانٍ وَثِيَابٍ . وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ جَازَ دُخُولُ التَّفَاضُلِ فِيهِ جَازَ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِ كَالثِّيَابِ الْمَرْوِيَّةِ بِالْهَرَوِيَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : " الْهَرَوِيُّ وَالْمَرْوِيُّ " جِنْسَانِ فَلِذَلِكَ جَازَ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِمَا قِيلَ : جِنْسُهُمَا وَاحِدٌ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ هَرَوِيٌّ فَبَانَ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ ، كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَلَهُ الْخِيَارُ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لَبَطَلَ الْبَيْعُ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ قُطْنٌ فَبَانَ أَنَّهُ كِتَّانٌ ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ . وَلِأَنَّ الرِّبَا قَدْ يَثْبُتُ فِي الْجِنْسِ مِنْ وَجْهَيْنِ : التَّفَاضُلُ ، وَالْأَجْلُ . فَلَمَّا كَانَ التَّفَاضُلُ فِي جِنْسِ مَا لَا رِبَا فِيهِ جَائِزًا ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ فِي جِنْسِ مَا لَا رِبَا فِيهِ جَائِزًا . وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا : أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الرِّبَا فَوَجَبَ أَلَّا يُحَرَّمَ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ رِبًا كَالتَّفَاضُلِ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرَيْ سَمُرَةَ ، وَجَابِرٍ ، فَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى دُخُولِ الْأَجَلِ فِي كِلَا الْعِوَضَيْنَ ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا غَيْرُ جَائِزٍ . وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبُرِّ بِالْبُرِّ فَالْمَعْنَى تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِيهِ ، فَذَلِكَ حُرِّمَ الْأَجَلُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ أَحَدُ صِفَتَيِ الرِّبَا كَالْكَيْلِ ، فَالْمَعْنَى فِي الْكَيْلِ أَنَّهُ إِذَا عُلِّقَ بِهِ تَحْرِيمُ الْأَجَلِ ، اخْتَصَّ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ الرِّبَا ، وَإِذَا عُلِّقَ بِالْجِنْسِ عَمَّ مَا فِيهِ الرِّبَا وَمَا لَا رِبَا فِيهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ مَا فِيهِ الرِّبَا ، وَبَيْنَ مَا لَا رِبَا فِيهِ فِي أَحَدِ نَوْعَيِ الرِّبَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَلِّفَ بَعِيرًا فِي بَعِيرَيْنِ أُرِيدَ

بِهِمَا الذَّبْحُ أَوْ لَمْ يُرَدْ وَرِطْلُ نُحَاسٍ بِرِطْلَيْنِ وَعَرْضٌ بِعَرْضَيْنِ إِذَا دَفَعَ الْعَاجِلَ وَوَصَفَ الْآجِلَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِ بِيعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسَاءً ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَ بَعِيرًا فِي بَعِيرَيْنِ وَأَكْثَرَ . وَقَوْلُهُ : أُرِيدَ بِهِمَا الذَّبْحُ أَوْ لَمْ يُرَدْ ، إِنَّمَا عَنَى بِهِ مَالِكًا ، حَيْثُ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ بِعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ أَوْ بِعِيرٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِمَا الذَّبْحُ أَوْ بِأَحَدِهِمَا ، وَالْمُرَادُ لِلذَّبْحِ أَنْ يَكُونَ كَسِيرًا أَوْ حَطِيمًا . اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلذَّبْحِ يَجْرِي فِي الْحُكْمِ مَجْرَى اللَّحْمِ ، وَبَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى خَطَأِ هَذَا الْقَوْلِ وَجَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عُمُومِ الظَّوَاهِرِ الدَّالَّةِ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ صَحِيحًا ، جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَسْرًا ، كَالْعَبْدِ الصَّحِيحِ بِالْعَبْدِ الزَّمِنِ : وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ فَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَالصَّحِيحِ : وَلِأَنَّ كَسِيرَ الْحَيَوَانِ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ حَتَّى يُسْتَبَاحَ بِالزَّكَاةِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالصَّحِيحِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ . وَبِهَذَا يَنْكَسِرُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَرِطْلُ نُحَاسٍ بِرِطْلَيْنِ وَعَرْضٌ بِعَرْضَيْنِ : فَلِأَنَّ مَا لَا رِبَا فِيهِ يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ مَعًا . وَقَوْلُهُ : إِذَا دَفَعَ الْعَاجِلَ وَوَصَفَ الْآجِلَ : فَلِأَنَّ السَّلَمَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ .

مَسْأَلَةٌ الْمَأْكُولَاتِ كُلَّهَا ضَرْبَانِ

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمَا أُكِلَ أَوْ شُرِبَ ممَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا يُبَاعُ مِنْهُ يَابِسٌ بِرَطْبٍ ، قِيَاسًا عِنْدِي عَلَى مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ ، وَمَا يَبْقَى وَيُدَّخَرُ أَوْ لَا يَبْقَى وَلَا يُدَّخَرُ ، وَكَانَ أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْ نَقِيسَهُ بِمَا يُبَاعُ عَدًّا مِنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ مِنَ الثِّيَابِ وَالْخَشَبِ وَغَيْرِهَا ، وَلَا يَصْلُحُ عَلَى قِيَاسِ هَذَا الْقَوْلِ رُمَّانَةٌ بِرُمَّانَتَيْنِ عَدَدًا وَلَا وَزْنًا وَلَا سَفَرْجَلَةٌ بِسَفَرْجَلَتَيْنِ ، وَلَا بَطيخَةٌ بِبَطيخَتَيْنِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَيُبَاعُ جِنْسٌ مِنْهُ بِجِنْسٍ مِنْ غَيْرِهِ مُتَفَاضِلًا وَجُزَافًا يَدًا بِيَدٍ ، وَلَا بَأْسَ بِرُمَّانةٍ بِسَفَرْجَلَتَيْنِ ، كَمَا لَا بَأْسَ بِمُدِّ حِنْطَةٍ بِمُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ الْمَأْكُولَاتِ كُلَّهَا ضَرْبَانِ من حيث الربا : ضَرْبٌ اسْتَقَرَّ فِي الْعُرْفِ كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ ، فَهَذَا فِيهِ الرِّبَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ مَعًا . وَضَرْبٌ اسْتَقَرَّ فِي الْعُرْفِ أَنَّهُ غَيْرُ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ ، وَالْبَطِّيخِ ، وَالْقِثَّاءِ وَالْبُقُولِ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَمُتَمَاثِلًا ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ : لَا رِبَا فِيهِ وَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَمُتَمَاثِلًا ، رَطْبًا وَيَابِسًا ، عَاجِلًا وَآجِلًا ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ : فِيهِ الرِّبَا ، فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُ مِنَ التَّفَاضُلِ وَالنَّسَاءِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ . ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ مَا كَانَ رَطْبًا مِنَ الْمَأْكُولَاتِ مِنَ الْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ :

إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَغْلَبُ مَنَافِعِهَا فِي حَالِ يَبْسِهَا وَادِّخَارِهَا كَالرُّطَبِ الَّذِي يَصِيرُ تَمْرًا ، وَالْعِنَبِ الَّذِي يَصِيرُ زَبِيبًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ مِنْهُ رَطْبُهُ بِيَابِسِهِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ حَتَّى إِذَا صَارَ يَابِسًا مُدَّخَرًا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ يَدًا بِيَدٍ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَغْلَبُ مَنَافِعِهِ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْبِطِّيخِ وَالْبُقُولِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ بِيعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رَطْبًا . فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى جَوَازِ بِيعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رَطْبًا إِذَا اعْتُبِرَ فِيهِ التَّمَاثُلُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ إِلْحَاقًا بِاللَّبَنِ الَّذِي يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ قَبْلَ الِادِّخَارِ وَالْيُبْسِ : لِأَنَّ أَغْلَبَ مَنَافِعِهِ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ رَطْبًا بِرَطْبٍ ، وَلَا يَابِسًا بِرَطْبٍ ، حَتَّى يَصِيرَ يَابِسًا مُدَّخَرًا : لِأَنَّ بَعْضَهُ إِذَا يَبِسَ مُخْتَلِفٌ ، وَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالْمَنْفَعَةِ وَخَالَفَ الْأَلْبَانَ وَالْمَائِعَاتِ مِنَ الْأَدْهَانِ : لِأَنَّهَا لَا تَيْبَسُ بِأَنْفُسِهَا . وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْعَلُ مَذْهَبَ أَبِي الْعَبَّاسِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَيُخْرِجُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُ ذَلِكَ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ : وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَقْلِ الْمَأْكُولِ مِنْ صِنْفِهِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ : فَإِنْ كَانَ مَا يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ كَالْبَطِّيخِ وَالرُّمَّانِ اعْتُبِرَتْ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بِالْوَزْنِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ كَالنَّبْقِ وَالْعُنَّابِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بِالْوَزْنِ : لِأَنَّهُ أَحْصَرُ مِنَ الْكَيْلِ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بِالْكَيْلِ : لِأَنَّهُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَصْلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : إِنَّ بَيْعَ ذَلِكَ رَطْبًا لَا يَجُوزُ بِجِنْسِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ رُمَّانَةٌ بِرُمَّانَتَيْنِ لِظُهُورِ التَّفَاضُلِ ، وَلَا رُمَّانَةٌ بِرُمَّانَةٍ لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ ، لَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُ رُمَّانَةٍ بِسَفَرْجَلَتَيْنِ يَدًا بِيَدٍ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ . فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا يَكُونُ مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ عَدَدًا أو وزنا أو كيلا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ عَدَدًا ، وَلَا كَيْلًا ، وَلَا وَزْنًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ اللُّبُّ ، وَالْقِشْرُ يَخْتَلِفُ . فَإِذَا خَرَجَ عَنْ قِشْرِهِ حَتَّى صَارَ لُبًّا فَرْدًا جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَيْلًا إِنْ كَانَ مَكِيلًا وَوَزْنًا إِنْ كَانَ مَوْزُونًا ، فَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ كَانَ فِي قِشْرِهِ . وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَمَا كَانَ مِنَ الأدْوَيةِ هُلَيْلِجِهَا وَبُلَيْلِجِهَا وَإِنْ كَانَتْ لَا تُقْتَاتُ فَقَدْ تُعَدُّ مَأْكُولَةً وَمَشْرُوبَةً فَهِيَ بِأَنْ تُقَاسَ عَلَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لِلْقُوتِ

لِأَنَّ جَمِيعَهَا فِي مَعْنَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لِمَنْفَعَةِ الْبَدَنِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تُقَاسَ عَلَى مَا خَرَجَ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ وَالْخَشَبِ وَغَيْرِهَا " .

الْمَأْكُولَاتِ قَدْ تَخْتَلِفُ جِهَاتُ أَكْلِهَا عَلَى أَنْوَاعٍ سِتَّةٍ

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَأْكُولَاتِ قَدْ تَخْتَلِفُ جِهَاتُ أَكْلِهَا عَلَى أَنْوَاعٍ سِتَّةٍ : أَحَدُهَا : مَا يُؤْكَلُ قُوتًا كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ الربا فيه ، وَيَتْبَعُ هَذَا النَّوْعَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ . وَالثَّانِي : مَا يُؤْكَلُ أُدْمًا كَالزَّيْتُونِ وَالْبَصَلِ الربا فيه وَقَدْ يَلْحَقُ بِهَذَا النَّوْعِ الْأَلْبَانُ وَالْأَدْهَانُ . وَالثَّالِثُ : مَا يُؤْكَلُ إِبْزَارًا كَالْكَمُّونِ وَالْفِلْفِلِ الربا فيه ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ الْمِلْحُ . وَالرَّابِعُ : مَا يُؤْكَلُ تَفَكُّهًا كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ الربا فيه . وَقَدْ يُضَافُ إِلَى هَذَا النَّوْعِ الْخُضَرُ . وَالْخَامِسُ : مَا يُؤْكَلُ حُلْوًا كَالسُّكَّرِ وَالْعَسَلِ الربا فيه . وَالسَّادِسُ : مَا يُؤْكَلُ دَوَاءً كَالْإِهْلِيلَجِ وَالْبِلِيلَجِ الربا فيه فَيَجْرِي الرِّبَا فِي جَمِيعِهَا حَتَّى يُجْمَعَ بَيْنَ السَّقَمُونْيَا وَالْبُرِّ فِي حُصُولِ الرِّبَا فِيهِمَا . وَإِنْ كَانَ الْبُرُّ يُؤْكَلُ قُوتًا عَامًّا ، وَالسَّقَمُونِيَا تُؤْكَلُ دَوَاءً نَادِرًا لِوُجُودِ عِلَّةِ الرِّبَا فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ ، فَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْمَأْكُولَاتِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عَلَى الْعِلَّتَيْنِ مَعًا ، وَمَا كَانَ مِنْهُ غَيْرُ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عَلَى عِلَّتِهِ فِي الْجَدِيدِ دُونَ الْقَدِيمِ ، وَعَلَيْهِ يَقَعُ التَّفْرِيعُ ، وَأَمَّا مَا كَانَ مَأْكُولَ الْبَهَائِمِ كَالْحَشِيشِ وَالْعَلَفِ الربا فيه فَلَا رِبَا فِيهِ : لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَكْلِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى أَكْلِ الْآدَمِيِّينَ دُونَ الْبَهَائِمِ . فَأَمَّا مَا يَشْتَرِكُ فِي أَكْلِهِ الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ الربا فيه فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَغْلَبُ حَالَتَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْهُمَا أَكْلَ الْآدَمِيِّينَ فَفِيهِ الرِّبَا اعْتِبَارًا بِأَغْلَبِ حَالَتَيْهِ كَالشَّعِيرِ الَّذِي قَدْ يَشْتَرِكُ فِي أَكْلِهِ الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ ، وَأَكْلُ الْآدَمِيِّينَ لَهُ أَغْلَبُ ، فَثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا ، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالَتَيْهِ أَكْلَ الْبَهَائِمِ فَلَا رِبَا فِيهِ كَالْعَلَفِ الرَّطْبِ الَّذِي قَدْ رُبَّمَا أَكَلَهُ الْآدَمِيُّونَ عِنْدَ تَقْدِيمِهِ . وَإِنِ اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ فَكَانَ أَكْلُ الْبَهَائِمِ لَهُ كَأَكْلِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَغْلَبَ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا رِبَا فِيهِ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تَخْلُصْ . وَالثَّانِي : فِيهِ الرِّبَا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِ الصِّفَةِ وَحُصُولِ الزِّيَادَةِ . فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ فَسَنُوَضِّحُهُ بِالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ وَذِكْرِ مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ . اعْلَمْ أَنَّ الرَّيْحَانَ ، وَالنَّيْلُوفَرَ ، وَالنَّرْجِسَ ، وَالْوَرْدَ ، وَالْبَنَفْسِجَ ، لَا رِبَا فِيهَا : لِأَنَّهَا قَدْ تُتَّخَدُ مَشْمُومَةً إِلَّا أَنْ يُرِيبَ شَيْءٌ مِنْهَا بِالسُّكَّرِ أَوْ بِالْعَسَلِ كَالْوَرْدِ الْمَعْمُولِ جَلْجَبِينَ فَيَصِيرُ فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ صَارَ مَأْكُولًا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَاءِ الْوَرْدِ ، هَلْ فِيهِ الرِّبَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا رِبَا فِيهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ .

وَالثَّانِي : فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّعَامِ مَأْكُولًا . فَأَمَّا الْعُودُ ، وَالصَّنْدَلُ ، وَالْكَافُورُ ، وَالْمِسْكُ ، وَالْعَنْبَرُ ، فَلَا رِبَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا : لِأَنَّهَا طِيبٌ غَيْرُ مَأْكُولٍ . وَأَمَّا الزَّعْفَرَانُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا رِبَا فِيهِ : لِأَنَّ الْمُبْتَغَى مِنْهُ لَوْنُهُ كَالْعُصْفُرِ . وَالثَّانِي : فِيهِ الرِّبَا : لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ وَطَعْمُهُ مَقْصُودٌ . فَأَمَّا الْأُتْرُجُّ وَاللَّيْمُونُ وَالنَّارِنْجُ فَفِيهِ الرِّبَا : لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ طِيبًا ذَكِيًّا فَهُوَ مَأْكُولٌ وَالْأَكْلُ أَغْلَبُ حَالَتَيْهِ . فَأَمَّا الْعِشَارُ وَالْأَشَجُّ فَلَا رِبَا فِيهِمَا وَكَذَلِكَ الشِّيحُ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ بُخُورًا . وَأَمَّا اللُّبَانُ وَالْعِلْكُ فَفِيهِمَا الرِّبَا ، لِأَنَّ الْأَكْلَ أَغْلَبُ حَالَتَيْهِمَا ، وَكَذَلِكَ الْمِصْطِكَى . وَأَمَّا اللَّوْزُ الْمُرُّ وَالْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ وَالْبَلُّوطُ فَفِيهَا الرِّبَا : لِأَنَّهَا مَأْكُولَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةَ النَّبْتِ ، وَكَذَلِكَ الْقِثَّاءُ وَحَبُّ الْحَنْظَلِ . فَأَمَّا الْقُرْطُمُ وَحَبُّ الْكِتَّانِ فَفِيهِمَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِيهِمَا الرِّبَا : لِأَنَّهُمَا قَدْ يُؤْكَلَانِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيهِمَا : لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِهِمَا عَدَمُ الْأَكْلِ وَإِنْ أُكِلَا نَادِرًا . وَأَمَّا الطِّينُ فَإِنْ كَانَ أَرْمَنِيًّا فَفِيهِ الرِّبَا : لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ دَوَاءً ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَخْتُومًا . وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْأَدْوِيَةِ كَالطِّينِ الَّذِي قَدْ رُبَّمَا أَكَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ شَهْوَةً ، فَلَا رِبَا فِيهِ : لِأَنَّ أَكْلَهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فَصَارَ أَكْلُهُ كَأَكْلِ التُّرَابِ . فَأَمَّا الْأَدْوِيَةُ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ مِنْ خَارِجِ الْبَدَنِ طِلَاءً أَوْ ضِمَادًا ، فَلَا رِبَا فِيهَا لِفَقْدِ الصِّفَةِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الصَّمْغِ فَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الرِّبَا ، وَنَفَى عَنْهُ بَعْضُهُمُ الرِّبَا لِأَنَّهُ طِلَاءٌ . وَأَمَّا الْبُذُورُ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ إِلَّا بَعْدَ نَبْتِهَا ، كَبِذْرِ الْجَزَرِ وَالْبَصَلِ وَالْفُجْلِ وَالسَّلْجَمِ ، فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : فِيهَا الرِّبَا : لِأَنَّهَا فَرْعٌ لِمَأْكُولٍ وَأَصْلٌ لِمَأْكُولٍ . وَالثَّانِي : لَا رِبَا فِيهَا : لِأَنَّهَا غَيْرُ مَأْكُولَةٍ فِي أَنْفُسِهَا فَجَرَتْ مَجْرَى الْعَجَمِ وَالنَّوَى الَّذِي لَا رِبَا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ فَرْعًا لِمَأْكُولٍ وَأَصْلًا لِمَأْكُولٍ .

وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ، بِخِلَافِ النَّوَى : لِأَنَّ النَّوَى لَا يُؤْكَلُ بِحَالٍ ، وَهَذِهِ الْبُذُورُ تُؤْكَلُ ، وَإِنَّمَا يُؤَخَّرُ أَكْلُهَا طَلَبًا لِإِكْمَالِ أَحْوَالِهَا كَالطَّلْعِ وَالْبَلَحِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَأَصْلُ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ الْكَيْلُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ بِمِثْلِهِ وَزْنًا بِوَزْنٍ ، وَلَا وَزْنًا بِكَيْلٍ : لِأَنَّ الصَّاعَ يَكُونُ وَزْنُهُ أَرْطَالًا وَصَاعٌ دُونَهُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ ، فَلَوْ كِيلَا كَانَ صَاعٌ بِأَكْثَرَ مِنْ صَاعٍ كَيْلًا " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ . كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ الرِّبَا إِذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ فَالِاعْتِبَارُ فِي تَمَاثُلِهِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ عَادَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَإِنْ كَانَ بِالْحِجَازِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَصْلُهُ الْكَيْلَ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إِلَّا كَيْلًا . وَمَا كَانَ مَوْزُونًا كَانَ أَصْلُهُ الْوَزْنَ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إِلَّا وَزْنًا ، وَلَا اعْتِبَارَ بِعَادَةِ غَيْرِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلَا بِمَا أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْحِجَازِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَا كَانَ مَكِيلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزْنًا بِوَزْنٍ ، كَالتَّمْرِ الَّذِي قَدْ جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِبَيْعِهِ وَزْنًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَا كَانَ مَوْزُونًا كَيْلًا بِكَيْلٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ . وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا أَحْدَّثَهُ النَّاسُ مِنْ بَعْدُ ، وَأَمَّا مَا سِوَى الْأَرْبَعَةِ فَالِاعْتِبَارُ فِيهَا بِعَادَةِ النَّاسِ فِي بُلْدَانِهِمْ وَأَزْمَانِهِمْ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْحِجَازِ وَلَا بِمَا كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ " نَهَى عَنْ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ " . وَالتَّمَاثُلُ مَعْلُومٌ بِالْوَزْنِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْكَيْلِ . قَالَ : وَلِأَنَّ الْوَزْنَ أَخَصُّ مِنَ الْكَيْلِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ الْمَكِيلِ وَزْنًا ، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمَوْزُونِ كَيْلًا . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ مَنْصُوصٌ عَلَى الْكَيْلِ فِيهَا فَلَمْ يُجِزْ مُخَالَفَةَ النَّصِّ ، وَمَا سِوَى الْأَرْبَعَةِ فَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالْعَادَةِ . وَعَادَةُ أَهْلِ الْوَقْتِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً مِنْ أَوْقَاتٍ سَالِفَةٍ وَبِلَا مُخَالَفَةٍ : لِأَنَّ التَّفَاضُلَ مَوْجُودٌ بِمَقَادِيرِ الْوَقْتِ . وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ يَدًا بِيَدٍ " . فَنَصَّ عَلَى التَّسَاوِي بِالْكَيْلِ فَاقْتَضَى أَلَّا يُعْتَبَرَ فِيهِ التَّسَاوِي بِالْوَزْنِ : لِأَنَّهُ قَدْ يُخَالِفُ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْكَيْلِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَسَاوَى الْبُرُّ بِالْبُرِّ كَيْلًا وَيَتَفَاضَلَانِ وَزْنًا ، كَمَا أَنَّهُمَا قَدْ يَتَسَاوَيَانِ وَزْنًا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110