كتاب : المعتمد في أصول الفقه
المؤلف : محمد بن علي بن الطيب البصري

الكلام في المفتي والمستفتي
اعلم أن الكلام في ذلك إما أن يرجع إلى المفتي أو إلى المستفتي أو إلى المستفتي فيه أما الراجع إلي المفتي ففصلان أحدهما ان نذكر الصفة التي معها يجوز للمفتي أن يفتي والآخر أن نذكر كيفية فتوى المفتي أما الراجع إلى المستفتي ففصول منها من الذي يجوز له أن أن يستفتي ومنها شرط استفتائه ومنها ما ينبغي أن يفعله إذا أفتاه المفتي وأما الراجع إلى ما يستفتى فيه فهو الذي يجوز له أن يقع الاستفتاء فيه هل هو الفروع فقط أم الفروع والاصول
باب في الصفة التي معها يجوز للإنسان ان يفتي نفسه ويفتي غيره ويحكم عليه
اعلم أن هذه الصفة هي أن يكون الانسان من أهل الاجتهاد وإنما يكون من أهله إذا عرف الأدلة السمعية وأمكنه الاستدلال بها والدلالة السمعية ظاهر واستنباط والظاهر منه خطاب ومنه أفعال وهي أفعال النبي صلى الله عليه و سلم والاستنباط ضربان قياس واستدلال والاستدلال بالقياس يفتقر إلى الاستدلال بالظواهر فاذا ذكرنا الاستدلال بالقياس دخل فيه الاستدلال بالظواهر ونحن نبتدىء بذكر ذلك فنقول
يجب أن يكون المستدل بالقياس غير عارف بحكم الفروع ويكون عارفا بالأصل وبحكمه وظانا بعلته وعالما بثبوتها في الفرع أو ظانا لذلك عالما بأنه قد تعبد بالقياس عارفا بشروط القياس وإنما وجب اشتراط جميع ذلك لأن القياس هو إثات حكم الأصل في الفرع لاجتماعهما في علة الحكم فيجب أن

يكون المستدل غير عالم بحكم الفرع ليصح أن يطلبه بقياسه ويجب أن يكون عارفا بالأصل ليصح أن يعرف حكمه وعلة حكمه ويعرف أن يظن أنها موجودة في الفرع وأنه قد تعبد بتعليق الحكم بها في الفرع ليجوز له أن يعدى الحكم من الأصل إلى الفرع لأجل وجود العلة في الفرع ويجب أن يعرف الفرع بعينه ليصح أن يعرف ثبوت العلة وحكمها فيه ويجب أن يعرف شروط القياس ليستعمل من القياس ما اختص بتلك الشروط ويتوقى ما لم يختص بها وقد علمنا أن المستدل إنما يعلم حكم الأصل استدلالا بخطاب الله تعالى وبخطاب نبيه وافعاله وما علم من قصده وخطاب الأمة وإنما يصح أن يستدل بالخطاب إذا علم أن المتكلم به يجب إذا تكلم بكلام وقد وضع لإفادة شيء فقد علم أن ذلك الشيء على ما أفاده الخطاب وإذا اقترنت به قرينة فقد علم أن ذلك الشيء على ما يدل عليه الخطاب مع القرينة وهذه الجملة تقتضي أن يعلم المستدل ما وضع له الخطاب في اللغة وفي العرف وفي الشرع ليحمله عليه ويعرف مجازه فيعدل بالقرائن إليه ويعرف من حال المتكلم ما يثق به من حصول مدلول خطابه ويعرف القرائن وهي ضربان عقلية وشرعية والشرعية هي بيان نسخ أو بيان تخصيص أو غيرهما من وجوه المجاز وأما القرائن العقلية فهي الأدلة العقلية إذا دلت على خلاف ظاهر الكلام وأما حال المتكلم فهي حكمته والحكمة إما أن تثبت لأن الحكيم عالم غني وإما لأنه معصوم من الخطأ كالنبي والأمة ويجب أن نعرف حكمه المتكلم ليصح أن نعلم ما يجوز أن يقوله ويريده وما لا يجوز أن يريده ويقوله ولا يصح المعرفة بحكمة الله إلا مع المعرفة بذاته وصفاته ولا يصح المعرفة بحكمة النبي إلا مع المعرفة بكونه نبيا وإنما يعلم عصمة الأمة إذا عرف أن الله ورسوله قد شهد بعصمتها والقرائن الناسخة والمخصصة يفتقر العلم بها إلى العلم بجملة الناسخ والمنسوخ والخاص والعام وشروط ذلك وأما الأفعال فان الاستدلال بها يفتقر إلى العلم بأنها حجة وإلى العلم بالوجه الذي وقع الفعل عليه والخطاب المنقول إما منقول بالتواتر ولا حاجة عن عدالة الرواة وضبطهم وإما ظن

المستدل لعلة حكم الأصل فانه لا يتوصل إليه إلا استدلالا بالأمارات ويجب أن يعلم أن الغرض أن يظنها علة لأن يعلمها حتى يطلب العلم ولا يدركه
وأما الاستدلال الذي ليس بقياس فانه إن كان استدلالا بعلة وأمارة فلا بد من الاستدلال عليها وإن كان استدلالا بشهادة الأصول من غير اعتبار علة وصح ذلك فانه يفتقر فيه إلى مثل ما ذكرناه في القياس إلا الاستدلال على العلة
فاذا اختص الإنسان بما ذكرناه جاز له أن يجتهد في المسائل فيفتي نفسه وغيره ويحكم على غيره ويجوز أن يجتهد في مسألة من الفرائض إذا كان عالما بالفرائض وإن لم يعلم ما عداه من ابواب الفقه لأن الظاهر من أحكام الفرائض أنها لا تستنبط من غيرها إلا نادرا والذهاب عن النادر لا يقدح في الاجتهاد ألا ترى أن المجتهد قد يخفي عليه من النصوص اليسير ولا يقدح ذلك في كونه من أهل الاجتهاد

باب في كيفية فتوى المفتي
اعلم أنه لا يجوز للمفتي أن يفتي بالحكاية عن غيره بل إنما يفتي باجتهاده لأنه إنما يسأل عما عنده ولا يسأل عن قول غيره وإن سئل أن يحكي قول غيره جاز له حكايته ولو جاز أن يفتي بالحكاية جاز للعامي أن يفتي بما يجده في كتب الفقهاء ومتى لم يتقدم من المفتي اجتهاد في المسألة وجب عليه الاجتهاد فيها قبل الفتوى فان تقدم منه اجتهاد وقول في المسألة وكان ذاكرا لذلك القول وطريقة الاجتهاد لم يجب عليه تجديد الاجتهاد لأنه كالمجتهد في الحال وإن لم يذكر طريقة الاجتهاد فهو في حكم من لا اجتهاد له فالواجب عليه تجديد الاجتهاد

وإذا لم يجز له أن يفتي ويؤخذ بفتواه فأحرى أن لا يجوز أن يأخذ الإنسان بفتوى من مات لأنه لا يدري أنه لو كان حيا لكان ذاكرا لطريقة الاجتهاد وراضيا بذلك القول ويمكن أن يقال إن الظاهر من ذلك القول أنه قول ذلك الفقيه إلى أن مات وموته قد أزال عنه التكليف ولا يمكن أن يقال إنه يلزمه إعادة اجتهاده فاذا أفتى المجتهد باجتهاده ثم تغير اجتهاده لم يلزم تعريف المستفتي تغير اجتهاده إذا كان قد عمل به وإن لم يكن قد عمل به فينبغي أن يعرفه إن تمكن منه لأن العامي إنما يعمل به لأنه قول المفتي ومعلوم أنه ليس هو قوله في تلك الحال وإذا أفتاه بقول مجمع عليه لم يخيره في القبول منه وإن كان مختلفا فيه خيره بين أن يقبل منه ومن غيره لا شبهة في ذلك على قول من قال كل مجتهد مصيب وعلى قول من قال إن الحق في واحد أيضا هكذا يجيء لأنه ليس بأن يجب عليه الأخذ بقول أحد المفتيين بغير حجة أولى من الآخر فان كان هذا التخيير معلوما من قصد المفتي لم يجب عليه أن يخيره لفظا بل يذكر قوله فقط وليس كذلك الحكم لأن الحاكم وضع لرفع الخصومات فلو كان الخصم مخيرا بين الدخول تحت حكمه وترك الدخول لم تنقطع الخصومة وإذا اعتدل القولان عند المفتي فقد ذكر قاضي القضاة في الشرح أن له أن يفتي بأيهما شاء وقال أيضا له أن يخير المستفتي بين القولين والوجه أن يقال ينبغي أن يخير المستفتي أنه إنما يفتيه بما يراه والذي يراه هو التخيير على قول من قال بالتخيير في الأحكام ووجه القول الآخر هو أنه كما يجوز أن يعمل المفتي باي القولين شاء كذلك يجوز له أن يفتي بأيهما شاء

باب في جواز استفتاء العامي للعلماء في فروع الشريعة وتقليده إياهم فيها
منع قوم من شيوخنا البغداديين من تقليد العامي للعالم في فروع الشريعة وقالوا لا يجوز أن يأخذ بقوله إلا بعد أن يبين له حجته وأجاز تقليده إياه

في ذلك أكثر المتكلمين والفقهاء وحكى قاضي القضاة في الشرح عن أبي علي أنه أباح للعامي تقليد العالم في مسائل الاجتهاد من الفروع دون ما ليس من مسائل الاجتهاد والصحيح جواز تقليده فيهما والدليل على ذلك إجماع الأمة قبل حدوث المخالف فان الصحابة ومن بعدهم كانوا يفتون العامة في غامض الفقه ولا يعرفونهم أدلتهم ولا ينبهونهم على ذلك ويلزمونهم سؤالهم إياهم ولا ينكرون عليهم اقتصارهم على مجرد أقاويلهم وأيضا فليس يخلو العامي إذا حدثت به حادثة من الفروع إما أن يكون متعبدا فيها بشيء أو لا يكون متعبدا فيها بشيء والإجماع يمنع من أن لا يكون متعبدا فيها بشيء لأن الأمة مجمعة على أنه يلزمه الرجوع إلى العلماء فبعضهم يقول يقلدهم والمخالف يقول يسألهم عن الأدلة الشرعية ليعمل عليها ولأنه إذا طلق طلاقا مختلفا فيه فإما أن يكون مباحا له المقام على الزوجة أو محظورا عليه وليس بينهما واسطة وأيهما كان فهو تعبد وإن كان متعبدا فاما أن يكون حكم العقل أو حكم الشرع والإجماع يمنع من الأول لأن المخالف يلزمه سؤال العالم عن الأدلة الشرعية ليعلمه إياها ولأن كثيرا من العامة لا يعرف حكم العقل في كثير من المسائل وإنما يعلم ذلك أهل الاجتهاد وإن لزمه حكم شرعي فإما أن يلزمه الوصول إليه بالتقليد أو بالاستدلال فان لزمه بالاستدلال فإما أن يلزمه ذلك بأن يتعلمه عند كمال العقل ليصير من أهل الاجتهاد وإما أن يسأل العالم عن أدلة المسألة فيجتهد فيها فان لزمه التعليم عند كمال العقل فالإجماع يمنع من وجوب التعلم على كل أحد عند كمال عقله ولأن انصراف الناس إلى التعلم المفضي إلى أن يكون الإنسان من أهل الاجتهاد إهمال لأمر الدنيا وإفساد حالها وما أحد أوجب على الناس إهمال الدنيا وأيضا فما الجواب الذي يثبت به الحادثة في حال تعلمه قبل أن ينتهي إلى حال الاجتهاد وما الجواب إن فرط فلم يتعلم ثم نزلت به حادثة في صلاته وصيامه أو طلاقه وإن ابتدأ في الحال بالتفقه فاتته الحادثة وايضا فليس كل من تفقه صار من أهل الاجتهاد حسبما نجد عليه كثيرا ممن تفقه وإن لزمه أن يسأل العالم عن الأدلة استدل بها

فمعلوم أنه لايمكنه أن يستدل بالدليل الذي يذكره له إلا بعد أن يعرف طرفا من اللغة وكيفية الاستدلال بالخطاب وأنه ليس في الأدلة ما يعدل به عن ظاهرة من نسخ أو تخصيص أو غير ذلك فان رجع إلى قول العالم في ذلك فقد قلده وإن فحص عن الأخبار ووجه المقاييس لم يتمكن من ذلك إلا في الزمان الطويل وزمان الحادثة يضيق عن ذلك وقد لا يمكنه إذا عرف وفحص عن ذلك أن يجتهد فكثير من أصحاب الحديث يعرفون ما روي من الحديث وليسوا من أهل الاجتهاد فاذا أبطلنا هذه الأقسام لم يبق للعامي طريق إلا التقليد وقد استدل على تقليد العامي العالم بأن قيس على رجوع العالم إلى رواية المخبر الواحد
واحتج من منع من تقليد العامي في الفروع بأن العامي لا يأمن أن يكون من قلده لم ينصح في الاجتهاد فيكون فاعلا لمفسدة وهذا منتقض برجوع العالم إلى المخبر الواحد لأنه لا يأمن أن يكون قد كذبه في خبره فيكون بامتثاله للخبر فاعلا للمفسدة
فان قالوا مصلحة العالم أن يعمل بخبر من ظن صدقه من العامة وإن كان كاذبا قلنا وكذلك مصلحة العامي أن يعمل بحسب فتوى المفتي وإن كان غاشا وقاسوا التقليد في الفروع على التقليد في التوحيد والعدل بغير علة وكل قياس لا علة فيه فباطل ويعارضون بالرجوع إلى خبر الواحد والفرق بينهما أن الحق في التوحيد والعدل وغيرهما يحصل لا بحسب حال الإنسان وظنه بل الحق فيه واحد فاذا قلد فيه المقلد لم يأمن أن يكون من قلده لم يصب ذلك الحق وأما الشرعيات فالحق فيها كونها مصلحة وفعل الإنسان قد يكون مصلحة له إذا كان على حال مخصوصة فلا يمتنع أن يكون مصلحته مع أنه ليس من أهل الاجتهاد أن يعمل بحسب فتوى المفتي فيأمن أن يكون مقدما على جهل وخطأ كما أن مصلحة العالم أن يعمل بحسب ما أخبر به الواحد عن النبي صلى الله عليه و سلم وايضا فالعامي إنما يلزمه النظر في مسائل مخصوصة في العدل

والتوحيد وأدلتها عقلية يحتاج الإنسان إلى تنبيه يسير لا يقطع عمره والحوادث الطارئة في الفروع كثيرة بغير إحصاء والاجتهاد فيها لا يتم إلا بأمور شرعية لا يمكن ضبطها والاستدلال بها في الزمان الطويل على ما قدمناه
فان قيل قد يجوز أن يطرأ على صاحب الجملة شبهة لا يمكنه حلها إلا بأن يكون من المبرزين في العلم فأوجبوا عليه إذن أن يكون من المتناهين في العلم قيل إن النظر على سبيل الجملة لا يحدث معه مثل هذه الشبهة إلا نادرا ومثل ذلك إذا رجع فيه إلى تنبيه العالم على ما في العقل من الجواب لم يستغرق الزمان أما حدوث الفروع بالإنسان فليس بموقوف على أن يكون من أهل الاجتهاد ولا الاستدلال عليها مركز في العقول
والدليل على أن للعامي أن يقلد في مسائل الاجتهاد من الفروع وفيما ليس من مسائل الاجتهاد من الفروع هو أنا لو ألزمناه تمييز مسائل الاجتهاد مما ليس من مسائل الاجتهاد لكنا قد ألزمناه أن يكون من أهل الاجتهاد لأنه لا يميز ذلك إلا أهل الاجتهاد وفي ذلك من الفساد ما تقدم
واحتجوا بأن ما ليس من مسائل الاجتهاد الحق في واحد منه فلا يأمن العامي إذا قلده فيه أن يقلد في خلاف الحق وليس كذلك مسائل الاجتهاد لأن الحق فيها في جميع الأقاويل فأيها قدمته فهو الحق والجواب إن تقليده في مسائل الاجتهاد أيضا لا يأمن معه أن يقلد من لم ينصحه في الاجتهاد وأفتاه بخلاف ما أداه إليه اجتهاده فان قالوا مصلحة العامي أن يعمل بما يفتي به المفتي وإن غشه قيل ومصلحته أن يعمل بما يفتيه به العالم وإن كان العالم غير مصيب فيه

باب في شرائط الاستفتاء وما يجب على المستفتي إذا أفتاه أهل الاجتهاد
أما شرط الاستفتاء فهو أن يغلب على ظن المستفتي أن من يستفتيه من أهل الاجتهاد بما يراه من انتصابه للفتوى بمشهد من أعيان الناس وأخذ الناس عنه

وأن يظنه من أهل الدين بما يراه من اجتماع الجماعات على سؤاله واستفتائه وبما يراه من سمات الستر والدين ولا شبهة في أنه ليس للعامي أن يستفتي من يظنه غير عالم ولا متدين بل يجوز له أن يستفتي كل من يرى ممن لا يظنه عالما وإنما أخذ عليه هذا القدر من الظن لأنه ممكن له كما أن الاجتهاد في الأدلة ممكن للعالم
فأما ما يجب على العامي إذا أفتاه أهل الاجتهاد فهو أنهم إن اتفقوا وجب على المستفتي المصير إلى الفتوى التي اتفقوا عليها وإن اختلفوا وجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأدينهم لأن ذلك طريق قوة ظنه وهم ممكن له فجرى مجرى قوة ظن المجتهد في المسائل
وقد حكي عن قوم أنهم أسقطوا عنه الاجتهاد وهو ظاهر لأن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العامة ترك النظر في أحوال العلماء فان اجتهد في أحدهم فاستوى عنده علمهم ودينهم كان مخيرا في الأخذ بأي أقاويلهم شاء فأيها اختاره وجب عليه لأنه ليس بعضهم بقبول قوله أولى من بعض ولقائل أن يقول إنه إذا جاز له أن يختار الإباحة متى شاء وأنه إن اختار الأخذ بالحظر كان له العدول عنه إلى الإباحة فقد صار الفعل مباحا لأنه لو تركه متى شاء وليس له والحال هذه أن يعتقد حظره
وقال قاضي القضاة إنهما إذا تساويا لم يكن له الأخذ بالأخف من الأقاويل طلبا منه للتخفيف ولقائل أن يقول له ذلك لأن المفتيين إذا استويا صار الأخف رخصة واحتج من أوجب الأخذ بأثقل القولين بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال الحق ثقيل مريء والباطل خفيف وبيء والجواب إن هذا الخبر من أخبار الآحاد وليس فيه ايضا إن الحق أثقل من كل ثقيل وإنما يدل على أن الحق ثقيل ولأنا نحن نقول بذلك لأنه مخالف للشهوة على أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما عنى أن الباطل في الغالب خفيف لأن العبادات من النصارى والهند باطلة

أكثرها وهي ثقيلة جدا فان غلب على ظنه أنهما وإن كانا من أهل الدين متساويان في العلم وأحدهما أدين فالواجب عليه اتباع الأدين لأن الثقة به اقوى وإن تساويا في الدين وتفاضلا في العلم فذكر في العمد أن قوما جوزوا له تقليد الأنقص في العلم وهذا القول يسقط عنه الاجتهاد في أعلمهما إذ كان لو تبين له أعلمهما كان له العدول عنه وقال في شرحه ليس له الأخذ إلا بقول الأعلم لأن النفس إليه أسكن وجرى التفاضل في العلم مجرى التفاضل في الدين فأما إن كانا عالمين دينين وكان أدينهما أنقصهما علما يحتمل أن يقال إنهما سواء والأولى أن يرجح قول الأعلم لزيادته فيما يعين على الاجتهاد والوقوف على الصواب ومثل هذا النصر لا يخفى على العوام لأنه كتدبير الدنيا فلم يسقط عنهم

باب في أنه ليس للعامي أن يقلد في أصول الدين
منع أكثر المتكلمين والفقهاء من التقليد في التوحيد والعدل والنبوات واباح قوم من اصحاب الشافعي أن يقلد في ذلك ولم يختلفوا في انه ليس له أن يقلد في أصول الشريعة كوجوب الصلاة وأعداد ركعاتها
والدلالة على المنع من ذلك هي أن المكلف مأخوذ عليه العلم بهذه الأمور والمقلد ليس بعالم لأنه يجوز خطأ من يقلده ولأن من أباحه ذلك وأوجب عليه المعرفة بأصول الدين والشريعة فقد ناقض لأن المعرفة بوجوب الصلاة والصيام لا تصح إلا مع المعرفة بصدق من جاء بهما فان قلد في صدقه فقد قلد في وجوب كل ما أخبر بوجوبه وإن جاز أن يعلم صدقه بالتقليد جاز أن يعلم أصول الشريعة بالتقليد

باب في المجتهد هل له أن يقلد غيره من المجتهدين كالصحابي وغيره
قال أبو علي له أن يأخذ بقول الواحد من الصحابة وإن كان في الصحابة من يخالفه فان حصل لقول بعضهم مزية أخذ به وإن تساووا كان المجتهد مخيرا وحكى قاضي القضاة أن الأولى أن يجتهد المجتهد ويعمل على اجتهاده فان خالف الصحابي جاز وحكي عن محمد بن الحسن أنه جعل الأصول أربعة ذكر منها إجماع الصحابة واختلافها فجعل الاختلاف من الأصول تقتضي جواز الأخذ بالقول المختلف فيه وذكر الشافعي في رسالته القديمة جواز تقليد الصحابة ورجح قول الأئمة منهم ومنع أكثر الفقهاء المجتهدين من ذلك واختلفوا في جواز تقليد العالم من هو أعلم منه من الصحابة وغيرهم فجوز ذلك محمد بن الحسن وعن أبي حنيفة روايتان إحداهما جوازه والأخرى المنع منه وأجاز ابن سريج تقليد العالم من هو أعلم منه إذا تعذر عليه وجه الاجتهاد وأكثر الفقهاء يمنعون من تقليد العالم من هو أعلم منه
وقد احتج للمنع من ذلك بأشياء
منها أنه لو جاز لغير الصحابة من المجتهدين تقليد الصحابة جاز لبعضهم تقليد بعض ولو جاز ذلك لم يكن لمناظرتهم في المسائل فائدة والجواب إن من الناس من يجوز لغير الصحابة من المجتهدين أن يقلد بعضهم بعضا ويقول الفائدة في اجتهادهم في المسألة أن الاجتهاد والعمل بحسبه أولى من التقليد ولا يمتنع أيضا أن يجوز لغيرهم تقليدهم ويجب عليهم الفحص والنظر مع ذلك
ومنها أن الصحابة كانت تترك آراءها لخبر تسمعه عن النبي صلى الله عليه و سلم فبأن يجب على غيرهم العمل بالخبر وبترك رأي الصحابي أولى ولقائل أن يقول إن الصحابة كانت تترك آراءها للخبر إذا كان صريحه بخلاف رأيها وإذا تغير اجتهادها بسماعها والنظر فيه وهكذا يلزم غيرها لأنه لا يجوز مع أن رأي

المجتهدين بخلاف قول الواحد من الصحابة أن يترك اجتهاده ويصير إلى قول الواحد وإنما يجوز له الأخذ بقول الواحد من الصحابة مع الخبر إذا احتمل الخبر الاجتهاد ولم يجتهد فيه فلا يمتنع أن يصير إلى قول الواحد من الصحابة ويجب على ذلك الواحد أن يجتهد كما نقوله في التابعين مع إجماع الصحابة
ومنها أن المجتهد متمكن من الاجتهاد لتكامل الآية فلم يجز مع تمكنه من العمل باجتهاده أن يصير إلى قول غيره كما لم يجز أن يصير إلى قول غيره في العقليات لما تمكن من النظر والاستدلال عليها ولقائل أن يقول إنما لم يجز التقليد في العقليات لأن المطلوب منها العلم والعلم لا يحصل بالتقليد لتجويزنا خطأ من يقلده والغرض بمسائل الاجتهاد العمل التابع للظن وقد يحصل الظن بتقليد العالم فلا يمتنع أن يرد التعبد به وعلى أن إحالتهم ذلك إما أن يكون بالسمع وليس في السمع ما يحيل ذلك وإن كان فيه ما يحيل ذلك فهو الدليل لا ما ذكروه الآن أو بالعقل ومعلوم أن العقل لا يجوز التعبد بذلك لأن العمل بحسب الاجتهاد مصلحة لغيره من المجتهدين كما هو مصلحة للعامي وكما أن تقليد المجتهدين مصلحة لغيرهم
ومنها أن المجتهد لو أداه اجتهاده إلى خلاف قول من هو أعلم منه صحابي أو غيره لما جاز ترك رأيه والأخذ برأي الأعلم فيجب أن لا يجوز له ذلك وإن لم يجتهد لأنه لا يأمن لو اجتهد أن يؤديه اجتهاده إلى خلاف ذلك القول ولقائل أن يقول لا يمتنه أن تكون مصلحته إذا اجتهد العمل على ما يؤديه إليه اجتهاده وإن لم يجتهد كان الأخذ بما يختاره من أقاويل السلف مصلحة ألا ترى أنه يجوز ورود التعبد بذلك وعلى أن هذا يمنع من تقليد العامي لأنه لا يأمن لو فعل ما يتمكن به من التفقه ثم اجتهد أن يؤديه اجتهاده إلى خلاف قول من قلده
ومنها أن المجتهد يتمكن من الوقوف على الحكم باجتهاده فلم يجز له العدول عن ذلك إلى ما هو أنقص منه كما لا يجوز للمتمكن من العلم العدول

عنه إلى الظن ولقائل أن يقول إن العقل لا يمنع من أن تكون مصلحة المتمكن من العلم العمل على ظنه فالأصل غير مسلم ويبطل ما ذكروه بالعامي إذا تمكن من التفقه حتى يصير من أهل الاجتهاد وكل هذه الوجوه يحيل ورود التعبد بتقليد المجتهدين وقد بينا أن العقل لا يحيل ذلك
والوجه الصحيح في المسألة هو أن يقال إن اجتهاد المجتهد وعمله بحسب اجتهاده متعبد به لأنه بذلك يكون مطيعا لله تعالى لأن الله تعالى ما نصب الأمارة إلا وقد أراد من المجتهد أن يجتهد فيها وليس بعض المجتهدين بذلك أولى من بعض وليس يجوز إثبات بدل لهذا المراد المتعبد به إلا لدلالة عقليه أو سمعية ولا دليل يدل عليه فوجب نفيه وهذا إنما يصح إذا أجيب عن شبه المخالفين
وقد احتجوا بوجوه
منها قول النبي صلى الله عليه و سلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقوله عليك بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي وقوله اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وقوله ضرب الله بالحق على لسان عمر وقلبه وقوله الحق بعدي مع عمر وقوله اللهم أدر الحق مع علي حيث ما دار فالجواب إن هذه أخبار آحاد لا يستدل بها على العلم على أن قوله بأيهم اقتديتم اهتديتم وقوله عليكم بسنتي وقوله اقتدوا باللذين من بعدي خطاب مواجهة لمن في ذلك العصر ممن ليس بصحابي أن يتبع الصحابة ومن لم يكن صحابيا في ذلك العصر فليس من أهل الاجتهاد فجاز له أن يقلد وقد نبه بذلك على أن غيرهم من أهل الأعصار من العامة يجوز أن يقلد علماءه على أن قوله بأيهم اقتديتم وقوله اقتدوا باللذين ليس بعموم في وجوه الاقتداء فيحتمل أن يكون المراد به الاقتداء بهم في روايتهم لأنه يقال لمن اتبع رواية غيره إنه قد اقتدى به إي اقتدى بروايته وصدق حديثه على أن قوله صلى الله عليه و سلم عليك بسنتي وسنة الخلفاء يفيد

وجوب الأخذ بسنة الخلفاء وليس أحد يوجب ذلك إلا على العامي إذا لم يجد غيرهم ممن يفتيه فعلمنا أن ليس المراد به الفتوى وقوله الحق بعدي مع عمر وقوله اللهم أدر الحق مع علي يدل على أن قولهما حق وصواب والقائلون بأن كل مجتهد مصيب لا يأبون ذلك وكثير منهم يمنع العالم من تقليدهما
ومنها أن بعض الصحابة كان يرجع إلى قول بعض عند سماعه من غير أن يسأله عن دليله نحو ما روي أن عمر رجع إلى قول علي ومعاذ ولم ينكر عليه أحد من السلف وبايع عبد الرحمن عثمان على اتباع سنة ابي بكر وعمر والجواب أنه يجوز أن يكون تنبه عمر على وجه قول علي ومعاذ عند سماعه أو خطر به وجه قولهما من غير أن ينبهه قولهما على ذلك وقد يفهم الحاضرون ذلك فلحسن ظن الصحابة بعمر صرفوا أمره إلى ذلك فلم ينكروا عليه يبين ذلك أن الإنسان إذا تردد بين رأيين في الحرب ثم صمم على أحدهما فقال له قائل ليس هذا بصواب بل الصواب كذا وكذا فقال له صدقت فهم الحاضرون أنه إنما صدقه لأنه إنما تنبه على وجه الرأي إما من ذلك الكلام أو من غيره وليس كذلك إذا عملت الصحابة بخبر مروي عن النبي صلى الله عليه و سلم لأن العادة تقتضي أنهم إنما عملوا لأجل الخبر لا أنهم تنبهوا على وجه الاجتهاد لأنهم إنما يسألون عن الأخبار ليعملوا بها والعادة في العلماء أن يسأل بعضهم بعضا لا ليعمل على قوله لكن ليتنبه على وجه القول يبين ذلك أن وكيلا في ضيعة إذا اشتبهت عليه أمورها فقال أيكم سمع من موكلي في هذا شيئا فقال قائل سمعه يقول كذا وكذا فعمل الوكيل على ذلك علم الحاضرون أنه إنما عمل على ما حكي له لا على الاجتهاد وليس كذلك لو ترك برأيه وصوب رأي غيره مع أنه من أهل الرأي والحزم
ومنها أن قول المجتهد صواب وكل صواب جائز اتباعه والجواب إن القائلين بأن الحق في واحد لا يسلمون أن كل مجتهد محق والقائلون بأن

كل مجتهد مصيب يقولون كل قول كان حقا وصوابا من قائل فليس يجب أن يكون حقا وصوابا من غيره ألا ترى أنه ليس بصواب ممن أداه اجتهاده إلى خلافه
فاذا ثبت ذلك فمن قال أنه لا يجوز للمجتهد أن يقلد الصحابي فانه لا يجوز تخصيص عموم القرآن والسنة بذلك إذ ليس هو حجة ومن أجاز للمجتهد تقليده فذكر قاضي القضاة أنه يلزمه جواز تخصيص العموم به لأنه قد جعله حجة وليس يظهر ذلك لأن لهم أن يقولوا إنما نجوز للمجتهد تقليد الواحد من السلف إذا لم يظهر عموم بخلافه فان ظهر ذلك لم يجز تخصيصه بقول واحد من السلف

باب القول في إصابة المجتهدين
اعلم أنا لما تكلمنا في حمل الأدلة الشرعية وفي كيفية الاستدلال بها واجتهاد المجتهدين فيها وجب أن نتكلم في إصابتهم واجتهادهم وذلك يتضمن أبوابا منها ذكر اختلاف الناس في أن كل مجتهد مصيب وما الذي كلف الله المجتهد ومنها هل دل الدليل على ذلك أم لا ومنها الأشبه والقول فيه ومنها الفرق بين مسائل الاجتهاد وما ليس من مسائل الاجتهاد ومنها أنه لا يجوز أن يكون المجتهدون في الأصول على اختلافهم مصيبين ونحن نأتي على هذه الأبواب على هذا الترتيب بعون الله وحسن توفيقه إن شاء الله تعالى
باب في ذكر اختلاف الناس في أن كل مجتهد في الفروع مصيب
اختلف الناس في ذلك فقال أبو الهذيل وابو علي وابو هاشم إن كل مجتهد في الفروع مصيب في اجتهاده وفي حكمه الذي اداه إليه اجتهاده وقد

حكي ذلك عن أبي حنيفة وحكاه عن الشافعي بعض أصحابه وهو ظاهر قوله في بعض المواضع لأنه قال إن كل مجتهد قد أدى ما كلف وقال الأصم وابن عليه وبشر المريسي إن المحق من المجتهدين واحد ومن عداه مخطىءفي اجتهاده وفيما أداه إليه اجتهاده وقالوا إن على الحق دليلا يعلم به المستدل أنه قد وصل إلى الحق ويجب نقض الحكم بما خالف الحق وقال غيرهم ممن قال بهذه المقالة على الحق دليل وإن المجتهد يعتقد أنه قد أصابه في الظاهر دون الباطن وقد حكى بعض أصحاب الشافعي ذلك عن الشافعي وحكى بعضهم عن أبي حنيفة أيضا أنه قال الحق في الواحد ومن الناس من قال إن ما عدا المحق من المجتهدين مصيب في اجتهاده مخطىء في الحكم وهم القائلون بالأشبه لأنهم جعلوا أشبه عند الله قالوا وهو مطلوب المجتهد قالوا وهذا هو الذي لو نص الله على الحكم لنص عليه ولا شبهة في أن ذلك الأشبه هو واحد ما عداه خطأ وقالوا ما كلف الإنسان أصابه الأشبه وحكي عن محمد القول بالأشبه وحكاه سفيان بن سحبان عن ابي حنيفة وحكى قوم عنه أن المجتهد مخطىء خطأ موضوعا عنه وقد حكي القول بالأشبه عن ابي علي لأنه قال لا يمتنع أن يكون الفرع ببعض الأصول اشبه عنه الله ويمر في كلامه مثل قول ابي هاشم وعن الشافعي أن في كل مسألة ظاهرا وإحاطة وكلف المجتهد الظاهر ولم يكلف الإحاطة وعنه إن في كل حادثة مطلوبا معينا ولم يكلف المرء إصابته
ولم يختلف القائلون بأن كل مجتهد مصيب ممن قال بالأشبه أنه ما كلف المرء إصابة الأشبه وإنما كلف الاجتهاد والعمل عليه ولم يقل أحد أن المجتهد مخطىء في اجتهاده مصيب في الحكم لأن من أخطأ في الاجتهاد وقصر فيه لو قال بالحق اتفاقا من غير طريقة كان قوله خطأ لأنه كمن قال تنحيتا من غير نظر أصلا

فصار محصول هذا الاختلاف هو أن من الناس من قال كل اجتهاد المجتهدين صواب ومنهم من قال إن الصواب منه واحد وما عداه خطأ واختلف من قال كل واحد صواب فمنهم من قال احكام تلك الاجتهادات كلها صواب أيضا ومنهم من قال إن الواحد منه صواب وهو الأشبه والباقي خطأ واختلف من قال إن الواحد منها صواب هل على ذلك الحق دليل أم لا فقال قوم عليه دليل يعلم أنه وصل إليه في الظاهر والباطن وقال قوم عليه دليل يعلم أنه موصل إليه في الظاهر دون الباطن
ولك أيضا أن تقول اختلف الناس في أحكام المجتهدين في الفروع فقال قوم جميع ما حكم به على اختلافه صواب وقال آخرون الواحد مما يحكم به صواب دون ما عداه ولم يختلف من قال كل أحكامهم صواب في أن اجتهادهم كله صواب واختلف من قال إن الواحد من أحكامهم صواب في أن اجتهادهم كله صواب واختلف من قال إن الواحد من أحكامهم صواب والباقي خطأ هل اجتهادهم كله صواب أو الواحد منه صواب فقط
فهذه جملة اختلاف الناس في هذه المسألة واعلم أنه ينبغي أن يعلم ما الذي كلف المجتهد حتى يصح أن ينظر هل جميع المجتهدين قد أصابوا أم لا

باب فيما كلف المجتهد فعله
اعلم أن الناس اختلفوا في ذلك فقالت طائفة كلف المجتهد في الفروع إصابة دليل قاطع وأن يعمل بحسبه وقال آخرون إنما كلف العمل بحسب الأمارة لا بحسب الدلالة وليس على أعيان الفروع أدلة واختلف هؤلاء فقال بعضهم كل اقاويل المجتهدين في الفروع صواب وقال آخرون ليس كل اقاويلهم صوابا واختلف من قال كل أقاويلهم صواب فقال بعضهم في

المسألة أشبه مطلوب وهو حكم لو نص الله تعالى في المسألة لنص عليه ونفى الباقون هذا الأشبه وقالوا ليس مطلوب المجتهد إلا الظن للأمارة ليعمل على حسب ظنه ونحن نبين أنه يلزم المجتهد أن يجتهد لظن أقوى الأمارات أو لظن تعارض الأمارات إن جاز أن تتعارض ثم نبين أنه إذا ظن قوة إحدى الأمارات لا يجوز له في تلك الحال أن يعمل على أضعف الأمارات في نفسه فالدلالة على أنه يلزمه الاجتهاد ليظن الأمارة الأقوى أو يظن تعارض الأمارات هي أن المجتهد طالب فإما أن يطلب باجتهاده الظفر بدليل أو أمارة فليس يجوز أن يكون طلبه الظفر بدليل لأن من يقول على الفروع أدلة لا يخلو إما أن يعني بذلك أن أعيان الفروع تتناولها أدلة وإما أن يعني به أن الأمارات وإن تناولت الفروع فالأدلة دالة على وجوب العمل على تلك الأمارات فان عنى الثاني فهو قولنا وإن عنى الأول فهو فاسد لأن أكثر الفروع ليس عليها نصوص قرآن ولا أخبار متواترة ولا إجماع وإنما تتناولها أخبار آحاد ومقاييس مظنونة العلل وكثير من الفروع وإن تناولتها الايات فانه لما كانت تلك الآيات تعارضها أخبار آحاد ومقاييس تخصصها صارت تلك الفروع من مسائل الاجتهاد وصار طريقها الظن فصح أنه ليس يطلب المجتهد في الفروع الظفر بالأدلة وليس بعد ذلك إلا أنه يطلب الظفر بالأمارة ولا يخلو إما أن يجب عليه أن يجتهد ويبذل مجهوده ليغلب على ظنه الأمارة الأقوى أو لا يجب عليه ذلك بل يجوز له أن يقتصر على أول خاطر وقد أجمع أهل الاجتهاد أنه ليس له ذلك بل ينبغي أن يستفرغ جهده ليغلب على ظنه أن الأمارة أقوى من غيرها أو أن الأمارات متعارضة إن جاز ذلك وأجمعوا على أنه لا يجوز إذا غلب على ظنه أن الأمارة أقوى من غيرها أن لا يعمل عليها وأن يعمل على الأمارات الأضعف في ظنه ولأن أضعف الأمارتين تجري مع أقواهما مجرى الأمارة مع الدلالة وإن غلب على ظنه تعارض الأمارات وجاز ذلك كان مخيرا لأنه ليس بأن يحكم باحداهما أولى من الأخرى

فان قيل فما معنى قولكم إن الأمارة اقوى من غيرها وأشبه بأن يعلق الحكم عليها قيل قولنا أشبه قد يراد به كثرة الشبه ويراد به معنى الأولى مثال الأول قولنا زيد أشبه بعمرو منه بخالد ومثال الثاني قولنا هذا الحكم أشبه ان يكون مرادا لله تعالى أي هو الأولى والأقوى ومثاله في الأمارات قولنا هذه العلة اشبه أن يعلق بها الحكم وأن تكون علة الحكم أي كونها علة أولى من كون غيرها علة لقوتها في نفسها
فان قيل لم قلتم في الأمارات ما هو أشبه بأن يتعلق به الحكم من غيره قيل لهم لأن في العلل ما يختص بنوع من الترجيح لا يختص به غيره من العلل وما يترجح على غيره فانه يكون أولى وأشبه بأن يكون علة الحكم فان قيل كون العلة أشبه يرجع إلى ظننا أنها أولى بأن يتعلق الحكم بها أو إلى قوة الأمارة الدالة على أن الحكم يتعلق بها قيل إن أريد أن المجتهد يظن أن الأمارة في نفسها أقوى فكذلك نقول وإن أريد أن كون الأمارة أولى هو ظننا فذلك باطل لأن كونها أولى راجع إليها وهو مظنون الظن ومدلول الأمارة ألا ترى أنهم يقولون ظننا العلة أولى والأمارة دلت على أن العلة أولى ولا يجوز أن يكون مظنون الظن هو الظن ولا مدلول الأمارة هو الأمارة وأيضا فان الظن لكون الوصف علة إنما يقوى لقوة أمارته وقد أقر السائل أن الأمارة الدالة على صحة العلة تكون أقوى والأمارة إذا كانت أقوى اقتضت كون مدلولها أقوى وأولى بالثبوت فإن قالوا قوة الأمارة للأمارة الاخرى ترجع إلى قوة أمارة أخرى يقال لهم لو دلت على هذه الأمارة أمارة أخرى أدى ذلك إلى أمارات لا نهاية لها وأيضا فان الأمارة الدالة على صحة العلة راجع إليها نحو وجود الحكم عند وجودها وارتفاعه عند ارتفاعها ونحو كون الوصف مؤثرا في جنس ذلك الحكم في الاصول كالبلوغ المؤثر في رفع الحجر عن المال وجميع ما يرجح به العلة يرجع إليها ويتعلق بها من نحو كونها مستنبطة من أصل معلوم الحكم أو كونها ثابتة بتنبيه

النص إلى غير ذلك وكذلك ترجيح خبر ثقة على خبر ثقة بكونه أضبط وأعرف بالقصد وأشد تدينا وتوقيا ترجيح لا يرجع إلى الظن بل يرجع إلى الأمارة ويتعلق بها فان قيل أليس قد تتساوى العلتان في وجوه الترجيح فلا تفضل إحداهما على الأخرى قيل إن صح ذلك كان العبد فيها مخيرا ولم يمنع ذلك كون بعض العلل أوضح وأقوى من غيرها
وإذ قد بينا أن المجتهد قد كلف أن يظن الأمارة الأقوى ويعمل عليها فلننظر هل يجوز أن يكون الظن الذي كلفه المجتهدون أكثر من واحد فيجوز أن يكون الحق أكثر من واحد وكل مجتهد مصيب أم لا يجوز أن يكون الظن الذي كلفوه إلا واحدا فيمتنع أن يكون كل مجتهد مصيبا بل يكون الحق واحدا فقط

باب في أن إصابة المجتهدين في الفروع على اختلافهم جائز غير ممتنع
اعلم أن المجتهدين إذا اختلفوا في الأحكام التابعة للأمارات كان يجوز أن تدل دلالة على أن جميعهم مصيبون لما كلفوه عند كثير من الناس ومنع آخرون من جواز ذلك
واستدل مانعو ذلك بأشياء
منها أنه لو جاز أن يكون المجتهدون في الفروع مصيبين جاز مثله في المجتهدين في الأصول على اختلافهم وهذا باطل لأنهم جمعوا بينهما بغير علة والفرق بينهما هو أن معنى الإصابة يمكن في الفروع ولا يمكن في الأصول لأن اعتقادي النفي والإثبات المتنافيين لا يكونان علمين بل يكون أحدهما جهل وذلك يمنع من اجتماعهما في الحسن والتكليف وأما الأفعال المتضادة فيصح أن يجب على شخصين أو على شخص واحد في وقتين أو على

شرطين في وقت واحد فاذا صح ذلك صح أن يكون الاعتقادان لوجوبها علمين وحسنين داخلين تحت التكليف لأن متعلقهما غير متناف
ومنها قولهم لو جاز أن يكون كل مجتهد مصيبا لجاز أن يكون الفعل الواحد حلالا حراما والمرأة محللة محرمة بأن يؤدي اجتهاد أحدهما إلى هذا واجتهاد الآخر إلى ذلك فالجواب أن الاجتهاد إنما يؤدي المجتهد إلى أن الفعل حرام عليه لا على غيره ممن لم يؤده اجتهاده إلى ذلك ولا اختار تقليده ويؤدي اجتهاد الآخر إلى أن الفعل حلال له دون من لم يؤده اجتهاده إليه ولا اختار تقليده وليس ذلك بمتناف ولا يتنافى كون الاستمتاع بالمرأة حلالا لأحد المجتهدين ولمن أراد تقليده حراما على المجتهد الآخر ولمن أراد تقليده كما أن المرأة حرام على من طلقها حلال لمن تزوجها فما المانع من أن يكون الاجتهاد يحرم عنده الفعل ويحل كما يحرم ويحل عند العقد والطلاق
ومنها قولهم إن القول باصابة المجتهدين على اختلافهم يؤدي إلى التهارج بأن يؤدي اجتهاد أحدهم إلى ضد ما أدى إليه اجتهاد الآخر فلا يكون الأخذ بأحدهما أولى من الآخر وليس كذلك إذا كان الحق في واحد لأن الأخذ به أولى ويمكن الأخذ به لأجل ما نصبه الله من الدليل عليه فالجواب انه ليس يجب فساد ما حصل فيه ضرب من التعارض إذا أمكن تأويله على وجه صحيح ألا ترى أن الواجدين للميتة ما لا يمسك إلا رمق أحدهما ليس بأن يأخذه أحدهما أولى من الآخر ولا يكفيهما جميعا فيقال يمسك كل واحد منهما رمق نفسه ببعضه ومع هذا لم يؤد إلى التهارج لأنه يمكن تخريجه على وجه صحيح بأن يقال يكون لمن سبق أو يأكل كل واحد منهما بعضه فيمسك به رمقه ويبقى بعض المدة رجاء أن يأتي كل واحد منهما الفرج في تلك المدة اليسيرة فان ماتا أو أحدهما فالله المعوض لهما وكذلك المجتهدان إذا اختلفا يمكن أن لا يتهارجا ثم إنا نقسم الحوادث النازلة بالمكلفين لنرى أنه لا تهارج فما ذكروه فنقول

الحوادث إما أن تنزل بمقلد أو مجتهد فان نزلت بمقلد فإما أن تخصه أو تتعلق بغيره فان خصته رجع فيها إلى الفقهاء فقلدهم فان اختلفوا عليه قلد أعلمهم وأدينهم عنده وإن تكافئوا عنده كان مخيرا ولا بد للمخالف أن يقول بذلك إذا كان ممن يسوغ للعامي التقليد وإن تعلقت الحادثة به وبغيره نحو أن تكون مخاصمة في مال جاز أن يصطلحا فيه فان لم يصطلحا أو كانت المنازعة في غير مال فصل القاضي بينهما إن كان أو رضيا بمن يقضي بينهما ولا بد لخصمنا من أن يجيب بذلك ايضا وإن كانت الحادثة نازلة بمجتهد فإما أن تخصه وإما أن تتعلق بغيره فان خصته عمل على اجتهاده وإن تكافأ عنده الاجتهادان كان مخيرا عند الشيخين وعند أبي الحسن يراجع اجتهاده إلى أن يترجح عنده أحدهما فان تعلقت الحادثة به وبغيره بأن تكون منازعة في مال أو في استمتاع كمنازعة الرجل مع زوجته في استباحتها وهما من أهل الاجتهاد فانهما إن لم يصطلحا في الحال رجعا فيه وفيما لا يجوز الصلح فيه إلى قاض إن كان أو رضيا بمن يقضي بينهما وسواء كان صاحب الحادثة حاكما أو غير حاكم لأنه لا يجوز أن يقضي لنفسه على خصمه لأنه متهم لخصمه فان اشتبه الحكم على القاضي كان مخيرا بين الحكمين إذا تكافأت عنده الأمارات أو راجع الاجتهاد أو نصب من يقضي بين الخصمين وهذه المسألة تلزم ايضا خصومنا لأنهم يوجبون الرجوع إلى الحكم عند التنازع سواء قالوا بالأمارات أو بالأدلة لأنهما جميعا قد تشتبهان فان حكم القاضي بالتحريم أو بالتحليل على ما يؤديه اجتهاده إلى ما حكم به كان له الأخذ به وإن حكم بتحريم الزوجة على الزوج وهو يرى إباحتها أو بالإباحة وهو يرى تحريمها فقد قيل يجب عليه المصير إلى ذلك وتصير الزوجة مباحة له إذا حكم الحاكم بإباحتها وإن كان قد رأى هو حظرها لأن اجتهاده شرط في إباحتها ما لم يحكم بخلافه عليه حاكم وقيل إذا حكم عليه باباحة المرأة حاكم وهي عنده حرام استأنف طلاقها وازال الإشكال وإن كان أحد الخصمين جدا وهو يرى المقاسمة والآخر أخا وهو يرى أن المال

كله للجد أمكن أن يصطلحا أو يحتكما إلى من يقضي بينهما ويمكن إيقاف ما فيه الاختلاف حتى يسبق اجتهاد أحدهما إليه فان أدى اجتهاد الجد إلىأن المال له في حال ما أدى اجتهاد الأخ إلى المقاسمة فصل الحاكم بينهما ولا تهارج في ذلك
فأما الدلالة على أنه لا يمتنع العقل أن يكون المجتهدون في الفروع على اختلافهم مصيبين فهي أنا قد بينا أن المجتهد إنما كلف أن يعمل بحسب ظنه للأمارة الأقوى وليس بممتنع في العقل أن يظن المجتهد قوة بعض الأمارات ويظن غيره قوة من غيرها من الأمارات فيلزم كل واحد منهما أن يعمل بحسب ما ظنه وإن اختلف الفعلان فيكون كل واحد منهما في فعله لما يفعله مصيبا لما كلف وليس بممتنع في العقل أن يكون الفعل واجبا على زيد وضده ونقيضه على غيره في ذلك الوقت ويجوز أن يجب عليه ضده أو نفيه في ذلك الوقت على غير ذلك الشرط فيكون الفعل مصلحة على شرط وضده ونفيه مصلحة على شرط آخر وقد جاء التعبد العقلي بذلك والشرعي ألا ترى أنه يجب على زيد الأكل إذا خاف التلف في تركه ويجب عليه وعلى غيره تركه إذا خاف التف في فعله ومباح للزوج الاستمتاع بزوجته ومحرم ذلك على غيره وعليه أيضا إذا طلقها وتجب على الطاهر الصلاة وتحرم على الحائض فاذا جاز تناول التكليف للامور المتنافية على هذه الوجوه لم يمتنع أن يكون الفعل مصلحة إذا أدى الاجتهاد إليه ومفسدة إذا أدى الاجتهاد إلى غيره فيكون التكليف تناوله وتناول ضده بهذين الشرطين فمن أداه اجتهاده إلى وجوب الفعل كان مكلفا فعله ومن أداه إلى تحريمه كان مكلفا تركه فيكونان بفعلهما مصيبين لما كلفا ويكون اعتقاد وجوبه على من أداه اجتهاده إلى وجوبه عليه علما والخبر عن وجوبه عليه صدقا وكذلك اعتقاد نفي وجوبه والخبر عن نفي وجوبه على من أداه اجتهاده إلى نفي وجوبه كما أن اعتقاد الطاهر وجوب الصلاة عليها علم وخبرها عن ذلك صدق وكذلك اعتقاد الحائض نفي

وجوب الصلاة عليها علم وإخبارها عن ذلك صدق وكذلك القول في المقلدين إذا اختار أحدهما تقليد مثبت الوجوب واختار الآخر تقليد نافي الوجوب
فان قيل إنا لا نمنع أن يجب الضدان على شخصين وعلى شخص واحد وعلى شرطين ولكن ليس يحصل هذان الشرطان في الاجتهاد لأن المجتهد إنما يجوز له العمل على اجتهاده إذا استقصى الاجتهاد في الأمارات ومتى استقصاها وكانت الأمارات متكافئة فانه يقف على ذلك ويكون فرضه التخيير وإن كان فيها ما هو أقوى من غيره فانه يقف على ذلك ويلزمه العمل عليه فقط ولا يجوز أن لا يقف عليه إلا إذا قصر في الاجتهاد ومتى قصر فيه لم يجز له العمل عليه وليس يجوز أن يمنع بطء فهم بعض المجتهدين من الوصول إلى أقوى الأمارات لأن الإنسان لا يجوز أن يكون من أهل الاجتهاد إلا وهو من ذوي الفهم ويكون عارفا بوجوه الترجيح وطرق الاجتهاد وإن جاز أن ينحصر فهم غيره وذلك يقتضي أن يكون ظفره بالحق ابطأ من ظفر غيره ولا يقتضي امتناع وصوله إليه ولو جاز أن يقال إن من المجتهدين من يمتنع عليه ما ذكرنا جاز أن يقال إن من المستدلين بالأدلة من يمتنع عليه الوصول إلى الحق مع كونه مكلفا له غزير العلم الجواب أنه لا يمتنع أن تكون المصلحة لبعض المكلفين العمل على اقوى الأمارات ومصلحة الآخرين العمل على الأمارة التي هي دونها في القوة كما لا يمتنع أن تكون مصلحة بعضهم العمل على النص والعلم ومصلحة البعض الآخر العمل على الظن والأمارة وإذا جاز ذلك أخطر الله سبحانه ما به تقوى الأمارة التي هي أقوى على قلب من مصلحته العمل على اقوى الأمارات وأخطر الأمارة الأضعف على قلب من مصلحته العمل عليها ولم يخطر بباله ما يقوي به الأمارة الأخرى بل يشغله عن ذلك أو عن فهمه ولا يلزم مثل ذلك في الأدلة والشبه لأن الله تعالى لو أخطر ببال المكلف الشبهة وشغله عن الجواب عنها كان قد أغراه بالجهل وأباحه له وذلك قبيح وليس كذلك العمل على اضعف

الأمارات والظن لكونها أقوى الأمارات لأن الظن لأضعف الأمارات أنها أقواها غير قبيح لأنه إنما يظن المجتهد ذك بشرط أن لا يكون في وجوه الترجيح إلا ما خطر له كما أن الظن لكون زيد في الدار غير قبيح وإن لم يكن زيد فيها
وإذ قد بينا أنه ما كان يمتنع أن يكون المجتهدون في الفروع على اختلافهم مصيبين فلننظر هل دل الدليل على أنهم مصيبون أو على أن المصيب منهم واحد فقط وإن دل الدليل على أنهم مصيبون فذلك لا يكون إلا بأن يكون الله عز و جل لا يخطر ببال بعضهم الأمارة الأقوى ولا ما ترجح به ويتعبده بما يخطر بباله من الأمارة الضعيفة وإن دل الدليل على أن المحق واحد فقط فذلك لا يكون إلا مع القول بأن الأمارة الأقوى وما ترجح به لم يذهل عنها وعن النظر فيها أحد من المجتهدين بل جوزها وأضرب المخطئون عن النظر فيها مع تجويزهم أنهم لو نظروا زيادة نظر لظفروا بما يقتضي غالب الظن بأن الأمارة الأقوى غير ما عندهم فيكونون بذلك مخطئين في ترك النظر الزائد وفي الحكم بما اختاروه من الأمارات

باب في ذكر ما يحتج به للقول بأن الحق في واحد وما يحتج به القول بأن كل
مجتهد مصيب
أما من قال إن الحق في واحد فله أن يقول إن الله عز و جل إنما كلف الظن لأقوى الأمارات والعمل على ذلك فمتى عدل عن ذلك فقد أخطأ ويحتج لقوله إن الحق في واحد بأشياء
منها قول الله عز و جل وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان قالوا فلو كانا

مصيبين لما خص سليمان بأنه قد فهمه الحكم إذ كان داود قد فهمه من الصواب مثل ما فهم سليمان ولقائل أن يقول ما قال الله عز و جل أنه قد فهمه الصواب فيحتمل أنه فهمه الناسخ ولم يفهم ذلك داود لأنه لم يبلغه وكل واحد منهما مصيب فيما حكم به على أن أكثر ما في الآية أنها دالة على أن داود وسليمان كان مصيبين وليس ذلك بموجب كون المجتهدين في مسألتنا مصيبين
ومنها إجماع السلف فروي عن أبي بكر الصديق أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي فان يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان وقال عبد الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان وقال عمر بن الخطاب لكاتبه اكتب هذا ما رآه عمر فان يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر وقال علي عليه السلام في مسألتنا أفتي جماعة من الصحابة بحضرة عمر إن كانوا قد اجتهدوا فقد أخطأوا وقال ابن عباس رضي الله عنه أما يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا وهذا محمول على المبالغة في التخطئة وليس يعرف لهم مخالف في السلف ولا يجوز تأويلكم ذلك وحمله على المجاز لغير دلالة وليس للمخالف أن يقول إن الحق في هذه المسائل في واحد لأن من يقول كل مجتهد مصيب يجعل هذه المسائل من مسائل الاجتهاد وليس لهم أن يقولوا إن الصحابة جوزت أن تكون قصرت في النظر ولم تبالغ فيه ولهذا جوزوا على الواحد منهم أن يكون مخطئا لأن المخالف يقول في هذه المسائل إن المخالفين فيها مصيبون ولا فصل بينها وبين غيرها من مسائل الاجتهاد ولا يجوز أن يقال في مثل هذه المسألة إنهم لم ينظروا في هذه المسائل وأنهم حكموا فيها بالتنحيت لأنهم كانوا يؤمون إلى أماراتهم ولأنهم كانوا يجوزون التخطئة في هذه المسائل مع علمهم أنها متقولة بالرأي والاجتهاد فدل إطلاق ذلك على أن ما قيل من جهة الرأي قد يدخله الخطأ لأنهم لم يفصلوا بين أن يكون قد قيل بأول خاطر أو قيل

باجتهاد وبحث طويل ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه و سلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله اجر فحكم صلى الله عليه و سلم على بعض المجتهدين بالخطأ
فان قيل المراد بهذه الأخبار خطأ الأشبه قيل لا معنى للأشبه إلا ما ذكرنا في الأمارة الأقوى وما عداه سنبطله فان قالوا المراد به أخطأ نصا لو ظفر به لوجب عليه نقض حكمه قيل إن كان المجتهد قد استقصى طلب النص فلم يمكنه الظفر فهو مصيب عندكم وعند غيركم في الحكم وفي الاجتهاد لأنه لا يلزمه أن يحكم بما لم يبلغه من النصوص ولا سبيل له إلى الوصول إليه وإن لم يستقص النظر فهو مخطيء في الحكم وفي الاجتهاد ولا يستحق عندكم الأجر بل يستحق الذم ولا يسمى من لم يبلغه النص ولم يتمكن منه بأنه مخطيء للنص كما لا يوصف من لم تبلغه شريعة النبي صلى الله عليه و سلم بأنه قد أخطأها فان قالوا معناه أخطأ حكما لو حكم به كان ثوابه أكثر قيل لا يجوز أن يكون عدوله عما ثوابه أكثر إلى ما ثوابه أقل من الشيطان وقد أضاف الصحابة الخطأ في ذلك إلى الشيطان وأيضا فان إطلاق قولنا أخطأ فلان يقتضي العدول عما كلف ومتى لم يرد ذلك فانه يستعمل مقيدا فيقال أخطأ كذا وكذا
فان قالوا كيف يستحق الأجر وقد أخطأ عندكم في الاجتهاد وفي الحكم قيل إنه مصيب فيما فعله من الاجتهاد مخطىء في تركه الزيادة على ما فعله فهو مأجور على ما فعله مغفور له تركه ما ترك من الاجتهاد فان قيل قد أغري إذا بالترك لأنه قد أعلم أنه لا مضرة عليه قيل إنا نذهب إلى أن كل من علم أنه لا مضرة عليه في الفعل فقد أغري به ألا ترى أن من بشره النبي صلى الله عليه و سلم بالجنة لا يخشى ضرر النار فيما يفعله لأنه أعلم أنه إما أن يسقط عنه العقاب بالتوبة وإما بالمغفرة ومع ذلك ليس هو مغرى على أن المجتهد لا يكون مغرى لأنه لا يعرف المرتبة التي إذا انتهى إليها من النظر غفر له

تركه للنظر فيما بعد وإنما ذلك شيء يعرفه الله تعالى وحده فجرى ذلك مجرى صغائرنا التي لا يعرفها إلا الله وحده
ولقائل أن يقول إن كل واحد من هذه الأخبار خبر واحد ولم تبلغ من الكثرة إلى حد تصير معه متواترة في المعنى فلم يصح التوصل بها إلى العلم
ومما يمكن أن يحتج به في المسألة هو أن كل مسألة من مسائل الاجتهاد إما أن تكون فيها أمارة هي أقوى من غيرها وإما أن تكون فيها أمارتان متكافئتان فان كان فيها أمارة هي أقوى من غيرها فقد كلف المجتهد الظن لها والحكم بها فمتى عدل عنها فقد أخطأ وإن كان فيها أمارتان متكافئتان فقد كلف الظن لتكافئهما والحكم بالتخيير بين حكميهما فمتى عدل عنهما فقد أخطأ وإنما قلنا أنه قد كلف الظن لقوة الأمارة القوية أو الظن لتساوي الأمارتين إن جاز تساويهما لأن المجتهد طالب وقد بطل أن يكون طالبا لدلالة فثبت أنه طالب لأمارة إما الأقوى وإما الأضعف ومعلوم أن المجتهد ليس يقصد باجتهاده الظفر بأضعف الأمارات ولا كلف ذلك فصح أنه كلف الظفر بأقواها وهو الذي يقصده
ولقائل أن يقول إنه يقصد الأمارة الأقوى في ظنه ولا يمتنع أن يظن أن هذه الأمارة أقوى من غيرها ليرجحها على غيرها بكثرة وجوه الترجيح ويكون غيرها أرجح من هذه الأمارة بوجوه من الترجيح لم يخطرها الله بباله بل شغله عنها أو شغله عن فهمها إذا سمعها من خصمه فكلف العمل بما ظنه لأنه مصلحته فكان مصيبا في ذلك وأخطر ببال غيره تلك الوجوه وفهمه إياها لأن المصلحة العمل بذلك فكان كل واحد منهما مصيبا فيما صار إليه
ومما احتجوا به قولهم لو كان المجتهدون على اختلافهم مصيبين لم يكن في مناظرة بعضهم لبعض معنى لأن كل واحد منهم يعتقد أن الآخر قد أدى ما كلف وأصاب في فعله فما وجه مناظرته له ونحن نعلم أن كل واحد منهم

يناظر صاحبه ليرده عما هو عليه فلو كان مصيبا لما كان له أن يقصد رده عن الصواب يقال لهم إن المجتهدين لا يخلوان إذا تناظرا إما أن يكون أحدهما لم يغلب على ظنه الأمارة الأقوى فهو يريد بمناظرته أن يحصل له بذلك لأنه لم يحكم بشيء فيقال إنه مصيب فيه أو مخطىء وإما أن يكون كل واحد منهما يظن أن أمارته هي أقوى من أمارة غيره فهو يناظر غيره ليريه ذلك لأنه إن كان فرضه غير ما هو عليه فانه إذا بان له أن أمارة من ناظره أقوى من أمارته تغير فرضه وصارت مصلحته بأن يحكم بالأمارة التي بان له قوتها
فان قيل وما فائدة من ناظره في أن يغير فرضه قيل الفائدة أن لا يمتنع أن يكون إذا تغير فرضه ولزمه أن يحكم بالأمارة التي بان له قوتها كان ثوابه على ذكر أكثر فلهذه الفائدة ما تناظر المجتهدان ولأجل أن هذه الفائدة راجعة إلى زيادة المنافع لم يجب على هذين المجتهدين المناظرة وإنما هما مندوبان إليها
ويمكن أن يحتج في المسألة أيضا فيقال إنه إذا كان في المسألة أمارة هي اقوى من غيرها جرت مع غيرها مجرى الدلالة مع الأمارة فكان العادل عن الأمارة غالطا والجواب إن العدول عن الأمارة القوية خطأ إذا ظفر بها كما أن العدول عن الدلالة إلى الأمارة خطأ إذا ظفر بالدلالة فأما إذا لم يظفر بها ولا بالأمارة القوية فانه لا يكون العدول عنها خطأ
واحتج الذاهبون إلى أن كل مجتهد مصيب بأشياء
منها قول الله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فلو كان أحدهما مخطئا لم يكن الذي قاله عن علم الجواب إنه

سبحانه لم يقل إن كلا آتيناه حكما وعلما بما حكم به ويجوز أن يكون آتاه حكما وعلما لوجوه الاجتهاد بطرق الاحكام على أنه ليس يجب إذا كانا قد أصابا أن يكون كل مجتهد مصيبا في هذه الشريعة
ومنها أن الصحابة تصوب بعضها بعضا فيما اختلفت فيه فلو كان بعضهم مخطئا لكان تصويبه كذبا والأمة لا تجتمع على الكذب قالوا تصويب بعضهم بعضا ظاهر كظهور تصويب بعضهم بعضا في الآراء والحروب وكثير من القراآت والجواب إنا لا نسلم لهم ادعاءهم تصويب بعضهم بعضا لا في الفروع ولا في الآراء والحروب وأما القراآت المروية عن النبي صلى الله عليه و سلم فليس يجب من تصويب بعضهم بعضا فيها أن يكون بعضهم قد صوب بعضا في غيرها وليس معكم أن كل واحد منهم قال لصاحبه اصبت في قولك وقالوا أيضا قد كان بعضهم يعظم بعضا ولو لم يصوبه لما عظمه فيقال لهم لم زعمتم ان ذلك دليل على التصويب مع جواز أن يكونوا إنما عظم بعضهم بعضا لأن الخطأ في ذلك مغفور أو صغير أو جوزوا كونه صغيرا فلم يتركوا التعظيم مع التجويز فليس يجب إذا تعلق كثير من الفروع بالفروج والدماء أن يكون كثيرا متى كان خطأ لأنه إذا لم يمتنع أن يكون صوابا مع تعلقه بالفروج فأحرى أن يكون تجويز كونه خطأ مغفورا وليس أن يكون خطأ ولتعلقه بالأمارات يخفف عقابه فيكون صغيرا وإن صدر عن صاحب كبيرة كان متفاضلا بغفرانه فان قيل فان لم يقدموا على التبرىء لتجويزهم كونه صغيرا فقد جوزوا كونه كبيرا وفي ذلك تجويز بعضهم كون بعض صاحب كبيرة قيل ما المانع من تجويزهم ذلك في غير معصوم أليس كان بعضهم يجوز في باطن بعض أن يكون بخلاف ظاهره ما لا يضطر أنه متدين به وليس إذا أجمعت الأمة على أن قتل الخوارج مخالفيهم إما طاعة أو كبيرة يجب أن يجمعوا على أن مسائل الاجتهاد إما طاعة وإما كبيرة
ومنها قولهم لو لم يصوب الصحابة كل المجتهدين لأنكروا قول المخطىء

لأنه لا يجوز أن يتركوا إنكار المنكر والجواب إنه إن أريد بالإنكار الذم والتبريء فقد تقدم القول فيه وإن أريد به المنع والتخطئة والمناظرة فكل ذلك قد جرى لأن المنع من الاعتقادات إنما يكون بالمناظرة وقد تناظروا وشهدوا بالتخطئة على ما ذكرنا وقال ابن عباس أما يتقي الله زيد بن ثابت وقال من شاء باهلته وهذا إما أن يكون ذما أو مبالغة في الإنكار وعلمنا باعظامه لزيد يصرف ذلك عن الذم إلى المبالغة في الإنكار وليس لهم حمل ذلك على خطأ نص إن كان أو على تقصير في الاجتهاد لما ذكرناه ولأن أكثر ما في هذا التأويل أن يحتمله الكلام ويحتمل ما قلناه فليس لهم صرفه إلى ما ذكروه إلا لدلالة حتى يتم أنه لم ينكر بعضهم على بعض وقولهم إن ابن عباس إنما قال لزيد ما قال لأن تسمية الجد أبا ليس من مسائل الاجتهاد فباطل لأن ابن عباس لم يخف عليه أن الجد لا يسمى ابا في حقيقة اللغة ولا خفي على زيد أن تسميته ابا مجاز وإنما ألحقه ابن عباس بابن الابن قياسا وذلك في مسائل الاجتهاد وقد أنكره على مخالفه
ومنها قولهم لو كان الحق واحدا من الأقاويل وما عداه خطأ لكان الله قد كلفنا العدول عن الخطأ إلى ذلك القول الصواب ولوجب أن ينصب لنا دليلا قاطعا عليه لنثق بعدولنا عن الخطأ إلى الصواب ولو كان على الحق دليل قاطع لفسق مخالفه ومنع من أن يفتي به ويحكم به ولمنع العامي من استفتائه ولنقض حكمه به والجواب يقال لهم قد دلنا الله على الحكم الذي كلفناه بدلالة قاطعة وإن لم يدلنا بدلالة قاطعة على أن العلة هي علة الأصل وذلك لأنه عز و جل إنما كلفنا العمل على أولى العلل وأقواها وقد جعل لنا طريقا نقطع معه بأن إحدى العلتين أولى أن يتعلق الحكم بها وأنها موجودة في الأصل والفرع وأنه يلزم العمل بها في الفرع فان قيل ما طريقكم إلى أن الوصف أولى بأن يكون علة من وصف آخر قيل الطريق إلى ذلك هو وجوه الترجيح وذلك أن وجوه الترجيح معقولة محصورة فاذا وجدناها أو أكثرها تختص إحدى العلتين قطعنا على أنها أولى بأن تكون علة الحكم في الأصل من غيرها

كما إذا رأينا أمارت الغيم الممطر في بعض الغيوم نحو كونه في الشتاء وكونه كثيفا أغبر قطعنا على أنه أولى بأن يكون ممطرا من غيم ليس هذه سبيله وظننا أن المطر يحصل عنه وليس يبعد أن يكون ظننا بأنه ممطر هو علم بأنه أولى أن يكون ممطرا وكذلك ظننا أن الوصف علة الحكم في الأصل هو علم بأنه أولى أن يكون علة الأصل ولهذا صح أن تدل عليه دلالة قاطعة فان قيل فما مثال ذلك في العلل ووجوه الترجيح التي تقطعون بها على أن الوصف أولى بأن يكون علة قيل مثال ذلك أن يعلم أن أحد الوصفين يثبت الحكم بثبوته في الأصل وينتفي بانتفائه فيه وليس كذلك الآخر أو أن أحدهما له تأثير في الأصول دون الآخر نحو كون البلوغ مؤثرا في رفع الحجر عن المال ويعلم أن أحد الوصفين مستنبط من أصل مجمع على حكمه والآخر مستنبط من أصل غير مجمع على حكمه والآخر مستنبط من أصل غير مجمع على حكمه أو أن أحدهما طريقة تنبيه النص والآخر مستنبط كل هذه الأشياء معلوم أنها وجوه مقوية ومعلوم ثبوتها في إحدى العلتين فصح أن يكون طريقا إلى القطع بأن الوصف أولى بأن يكون علة وقد يظن حصول بعض وجوه الترجيح في الأمارة فيعلم أنها أولى من غيرها نحو أن نظن أن بعض المخبرين أدين واشد تحرجا بأن يخبرنا غيره بذلك فنظن أنه أحق بأن يكون صادقا ممن لا نظن أنه دين ونظن أن بعض الغيوم على صفة تقتضي المطر كالغبرة والكثافة بخبر رجل ظاهره الصدق فنعلم أنه أولى بأن يكون ممطرا من غيم لا نظن فيه هذه الصفة وهذه الصفات المظنونة لا بد من أن تكون طرقها معلومة أو تستند إلى طرق معلومة وإلا أدى إلى ما لا نهاية له ألا ترى أن الطريق إلى حصول صفة الغيم إذا كان الخبر فالخبر معلوم لنا بالادراك فان قيل فاذا علمتم أن الوصف أولى بأن يكون علة الحكم في الأصل من غيره من الأوصاف فقد علمتم أنه علة لحكم الأصل قيل لا يجب ذلك كما لا يجب ذلك إذا علمنا أن هذا الغيم الكثيف الأغبر أولى بالمطر من غيم رقيق غير أغبر أن نقطع على أنه ممطر بل قد يجوز أن يكون ذلك هو الممطر وهذا غير ممطر فلو قطعنا على أن الغيم الكثيف هو الممطر لنقض

ذلك قولنا إنا نعلم أن الأولى أن يكون ممطرا وكما أن الرجل المتين الدين الشديد التحرج أولى بالصدق فيما يخبر به رجل هو دونه في الدين والتحرج ولا يجب من ذلك أن يكون الذي هو أشد تحرجا أصدق لا محالة بل قد يتفق أن يكذب في بعض أخباره ويصدق الذي هو دونه في التحرج وكذلك القول في جميع الأمارات فان قيل أفتقطعون على أن تلك العلة هي علة الحكم في الفرع قيل نعم لأن معنى قولنا إنها علة حكم الفرع هو أن عند علمنا بوجودها في الفرع يجب علينا أن نحرم الفرع إن كانت علة التحريم أو نبيحه إن كانت علة الإباحة وليس يلزم على هذا أن نعلم أنها علة حكم الأصل لأن عند علمنا بوجودها في الأصل ليس يصير الأصل محرما علينا ولا مباحا لنا بل تحريمه وإباحته يسبقان العلم بوجودها في الأصل ولا يتبعان علمنا بوجودها فيه وليس يمتنع أن يكون علمنا بكونها علة حكم الفرع يستند إلى ظننا أنها علة حكم الأصل لأنه لا يمتنع أن يقف العلم على شرط مظنون كما يقف علمنا بوجوب التحرز من مضرة مخصومة على الظن لنزولها بنا
ويلزم المستدل بهذه الشبهة مثل الذي ألزمنا لأنه يقول إن الأمة إذا اختلفت على قولين فكل فرقة منها مصيبة من حيث نظرت في أمارة صحيحة ولو نظرت في غير أمارة لم تكن مصيبة ولا كان لظنها حكم ولم يدل الله قبل اجتهادها على صحة كل واحدة من الأمارتين وفساد ما عداهما بل ليس على ذلك إلا أمارات فقد اقروا بصحة علتين وفساد ما عداهما ولم تدل دلالة قاطعة على أن كل واحدة منها علة وأن ما عداهما ليس بعلة فان جاز ذلك مع أنه مع فقد الدلالة لا يثق المكلف بالوصول إلى العلة الصحيحة دون الفاسدة فلم لا يجوز ذلك في الأمارة الواحدة فان قالوا قد دلنا الله تعالى على صحة الأمارتين وعلى صحة الحكم بما دلنا به على أن كل مجتهد مصيب قيل الدليل ينبغي أن يتقدم العلم بالمدلول عليه والمجتهدون إنما يعلمون صحة كل واحد من القولين بعد أن يقول بعضهم بأحد القولين ويقول البعض الآخر بالقول الآخر وعلى أنه يلزم أن يعلموا صحة العلتين بعد استقرار الخلاف

وفي ذلك كونهما دليلين وخروجهما من كونهما أمارتين فان قالوا ما عدا الأمارتين لو قال به قائل لكان حقا أيضا وليس يجب نصب دلالة على فساده قيل كلامه فيه وليس بحق أليس لم ينصب الله دلالة على إبطاله ليفصل بينه وبين ما هو أمارة وايضا فقولكم إن ما عدا الأمارتين لو قال به قائل لكان حقا يقتضي أن يقف كونه حقا على قول المجتهد ومعلوم أن قول المجتهد يتبع صحة العلل والأمارات وهي كالطرق إلى كون أقاويلهم حقا ولأجلها حكموا بما حكموا به وقولهم كان على الصواب دلالة قاطعة من القولين لنقض الحكم بما عداه فلم يسوغ الفتوى والحكم به بل كان الإمام لا يولي من يخالفه في الحكم ولمنع العامي من استفتاء من يخالفه ولفسق قائله لا يصح لأنا قد بينا أنه ليس يجب أن يكون هناك دلالة قاطعة إلا على الوجه الذي ذكرنا ولو لزم أن تكون على نفس الحكم دلالة قاطعة تتناوله لما لزم ما ذكروه وأيضا ألا ترى أن كثيرا من المسائل يستدل عليها بالقرآن نحو الترتيب في الوضوء ونفي وجوبه لأن كل فريق يستدل بالآية ففريق يقول إن الفاء للتعقيب وفريق يقول إن الواو لا توجب الترتيب وذلك طريقة العلم ولم يفسق قائله وقد ساغ الفتوى بكل واحد من القولين على أنه ليس كل خطأ دل الدليل عليه فهو فسق بل قد يكون فسقا وقد لا يكون فسقا ولا يمتنع أن يكون القول خطأ من المجتهد صوابا من المقلد بأن يكون مصلحته الأخذ عن المجتهد مخطئا كان أو مصيبا ألا ترى أن المجتهد لو لم يستقص الاجتهاد وأفتاه بأول خاطر أو استقصى الاجتهاد وأفتاه بخلاف ما أدى اجتهاده إليه لكان المجتهد مخطئا والمقلد مصيبا ولم يجب على الله أن يظهر خيانة المجتهد حتى لا يقع المقلد في المفسدة بل قلنا بأجمعنا إن ذلك مفسدة من المفتي وأخذ العامي بما أفتاه غير مفسدة له وكذلك في مسألتنا إذا لم يمتنع أن يكون القول خطأ من المفتي والعمل به غير خطأ من المستفتي لم يجب أن يمنع المفتي من الفتوى لأنه لو وجب أن يمنع

منه لم يخل إما أن يجب ذلك لأن قبول المستفتي له مفسدة أو لأن فتوى المفتي له خطأ والأول باطل لأنا قد بينا أن قبول المستفتي له غير ممتنع أن يكون مصلحة منه والثاني لا يوجب أن يمنع من الفتوى إلا بالمناظرة والإيضاح وأهل الاجتهاد يناظر بعضهم بعضا على أن أحد المجتهدين لو منع العامي من أن يستفتي خصمه لكان خصمه يمنع العامي أن يستفتي غيره ولا يكون العامي بأن يقبل من أحدهما أولى من الآخر فيمتنع عليه أن يستفتي أحدا
فان قيل أجمع المسلمون على أن المخطىء لا يمكن من الدعاء إلى خطابه قيل ليس في هذا إجماع لأن من يقول إن الحق في واحد من الأقاويل لا يمنع مخالفة من الفتوى فان قيل فماذا تعلمون أن العامي لا ينبغي له أن يمتنع من تقليد كل واحد من القولين قيل نعم ذلك بالإجماع لأن الصحابة وأهل الأعصار لا يمنعون العامة من ذلك وأما تولية الإمام مخالفيه فليس فيها إباحة له الحكم بالخطأ لأنه إنما ولاه ليحكم بالحق لأن الطريق إلى الحق ممكن وليس الظاهر من مخالفة أن يحكم بما يخالفه لأنه يجب على الحاكم والمفتي أن يجدد الاجتهاد في كل وقت إذا لم يذكر طريقة الاجتهاد فكيف يظن بمن يجدد الاجتهاد عند حكمه وفتواه أن لا يظفر بالحق مع إمكان طريقة ولا يجب إذا حكم الحاكم بخلاف رأي الإمام أن ينقضه عليه لأنه لا يمتنع أن يكون التزام الخصوم لذلك الحكم ليس بخطأ كما قلناه في التزام العامي لفتوى المفتي وأن يكون نقصه بعد إمضائه مفسدة ولا يجب نقضه كما لا يجب إذا علم الله أن الحاكم حكم بغير اجتهاد أو حكم بخلاف اجتهاده أن يطلعنا الله على ذلك حتى ننقضه أو يبعث الله عز و جل لأنه لا يمتنع أن يكون إمضاؤه وإمضاء الفتوى به للعامي مصلحة وكذلك في مسألتنا والداخل في زرع غيره يقبح منه الدخول فيه ويحسن منه التصرف فيه بالخروج منه فلا يمتنع أن يكون القول خطأ من المجتهد ونقض الحكم به خطأ وإذا لم يمتنع أن يكون التزام الخصوم للحكم مصلحة لهم وإن كان القول به خطأ لم يجب على الإمام أن يمنع الحاكم من ذلك

الحكم لأنه مفسدة للخصوم لأنا قد بينا أن لا يمتنع أن لا يكون مفسدة لهم وإنما يمنع من ذلك الحكم لما يرجع إلى الحاكم وذلك يكون بالمناظرة والتبين
فان قيل ومن أين قلتم أن القول خطأ من المجتهد والعمل به غير خطأ من الخصوم والمستفتي قيل يكفينا أن نعلم أنه لا يجب إذا كان خطأ من المجتهد أن يكون خطأ من الخصوم والمستفتي وأن كونه خطأ من هؤلاء يحتاج إلى دلالة فلا نبينه خطأ منهم إلا لدلالة وعلى المستدل أن يبين أنه خطأ من هؤلاء حتى يتم دلالته وإلا فالذي معه هو أن الصحابة سوغت الفتوى والحكم ولم يمنع بعضها العامي قبول فتوى البعض الآخر ويحتمل أن تكون فعلت ذلك لأنها اعتقدت أن كل مجتهد مصيب ويحتمل أن تكون فعلت ذلك لأن كون القول خطأ من قائله لا يقتضي أن يكون العمل به خطأ ممن قلده فيه فقد سقط أن يكون للخصم فيه دلالة على أنهم اعتقدوا أن كل مجتهد مصيب
فان قالوا فلو كانوا اعتقدوا ما ذكرتم لكانوا قد اعتقدوه عن دلالة فأي دلالة دلت على أن القول خطأ من قائله دون من قلد فيه قيل ليس يجب مطالبتهم بالدلالة وعلى أن ذلك لازم للسائل لأنه يقال لهم وإي دلالة دلتهم على أن كل مجتهد مصيب على أنا نحن قد بينا أنه يحتاج في كون العمل بالقول خطأ من جهة المقلد إلى دلالة وأنه متى لم يجد دلالة على ذلك وجب نفيه كما أنا إذا لم نجد دلالة على قضاء العبادة الفاسدة وجب نفي وجوبه
ويمكن أن يستدل في المسألة فيقال لو كان المجتهد في الفروع مخطئا لأدى إلى أقسام كلها فاسدة وذلك أنه ما كان يخلو إما أن يقطعوا في الجملة على أن المخطىء من المجتهدين مغفور له تقصيره في النظر وإما أن لا يقطعوا على ذلك فان لم يقطعوا على ذلك فإجماع المجتهدين القائلين بأن على الفروع أمارات يمنع من ذلك لأنهم مجمعون على أن المخطىء من المجتهدين مغفور له ولأن الصحابة ما كان ينكر بعضهم على بعض أقاويلهم في مسائل الاجتهاد

إنكار من يجوز أنه من اهل النار وإن كان غفرانه في الجملة مقطوعا لم يخل إما أن يكون المجتهد إذا أخطأ يجوز كونه مخطئا ومخلا بنظر يلزمه فعله أو لا يجوز ذلك فان لم يجوز ذلك لم يصح تكليفه النظر الذي فرط فيه لأنه قاطع على أنه ما فرط في النظر فهو كالعالم ولأنه في حكم الذاهل والذاهل والساهي لا يكلف في حال سهوه وذهوله ولا يستحق عقابا فيقال أنه قد غفر له وإن كان يجوز كونه مخطئا ومخلا النظر فلا يخلو إما أن يعلم أنه في تلك الحال مغفور إخلاله بما أخل به من النظر أو لا يعلم ذلك ومحال أن يعلم ذلك لأن المجتهد لا يميز المرتبة التي إذا انتهى إليها غفر له إخلاله بما بعدها من النظر من المرتبة التي إذا انتهى إليها لم يغفر له إخلاله بما بعدها من النظر وذلك أنه يعلم أنه إن اقتصر على أول النظر لم يغفر له ما بعده وليس مرتبة أولى بذلك من مرتبة ولا يمكن الاشارة إلى ما يتميز به بعض المراتب من بعض مع كونه مجوزا في جميعها كونه مخلا بنظر يلزمه فعله وبعد فلو علم المجتهد أنه مغفور له إخلاله بالنظر لكان ذلك إغراء له بالمعصية لأنه قد أعلم أنه لا ضرر عليه في تركه النظر الزائد مع كونه شاقا عليه فاذا كان تعريف الصغائر عند شيوخكم إغراء بها فكذلك تعريف هذا المجتهد أنه مغفور له وإن كان المجتهد المخطىء إنما يعلم في الجملة ان المخطىء من المجتهدين مغفور له إذا انتهى إلى مرتبة ما من مراتب النظر وأخل بما بعدها ولم يتعين له تلك المرتبة وجوز أن يكون حين أخل بالنظر الزائد ما انتهى إلى المرتبة التي يغفر له إخلاله بما بعدها من النظر لزم أن يجوزوا كون المجتهدين المخطئين ما انتهوا إلى هذه المرتبة وفي ذلك تجويز كونهم غير مغفور لهم وأنهم من اهل العقاب وإجماع المجتهدين بخلاف ذلك لأنهم يقضون بأن الخطأ في المسائل الواقعة من لدن الصحابة إلى يومنا هذا مغفور عند من قال إن فيها أقاويل خطأ مع معرفة كل فريق ما انتهى إليه مخالفة من المرتبة في النظر وكل مجتهد يعلم من نفسه أنه إن كان مخطئا فهذه حاله وكذلك قولكم فيما يحدث من

مسائل الاجتهاد فقد بان أن القول بخطأ المجتهدين يؤدي إلى أقسام كلها فاسدة وفي القول باصابتهم أجمعين خلاص من هذه الوجوه أجمع

باب القول في الأشبه
اعلم أن ممن قال إن كل مجتهد مصيب لما كلف من قال إن في كل مسألة أشبه مطلوبا لو نص الله سبحانه على حكم المسألة لنص عليه فيقال لهم أتريدون بالأشبه الحكم بأقوى الأمارات أو تريدون حكما معينا يجوز أن يكون غير الحكم بالأقوى من الأمارات فان قالوا بالثاني قيل لهم أتقولون إن ذلك الحكم هو مصلحة المجتهد وما عداه مفسدته أو تقولون ليس هو مصلحته أو تقولون هو وغيره مصلحته على البدل فان قالوا ليس هو مصلحته قيل لهم فما وجه طلبه لما ليس هو مصلحته وأيضا فاذا لم يكن مصلحته فكيف قلتم لو نص الله تعالى على الحكم في هذه الحال لنص عليه أيجوز أن ينص على ما ليس بمصلحة وأيضا إذا لم يكن ذلك مصلحة فما مصلحته فان قالوا هو الحكم بأشبه الأمارات صاروا إلى أن الحق هو وإن أرادوا الإشارة إلى حكم آخر لم يمكنهم فان قالوا هو مصلحته قيل لهم أكلفه الله الوصول إليه أو لم يكلفه ذلك فان قالوا ما كلفه الوصول إليه قيل لهم فإذن قد أباحه العدول عن مصلحته إلى المفسدة وذلك لا يجوز في حكمته وإن قالوا قد كلفه الله إصابته قيل لهم فمن لم يصبه إذن فقد أخطأ ما كلف فكيف تقولون إنه مصيب ما كلف ويجب إذا كلفه الله الوصول إلى ذلك أن يجعل له إليه طريقا إما دلالة وإما أمارة وقد قلنا إنه ليس على اعيان الفروع أدلة لأنها تستند إلى ظنون فبقي أن يكون طريق ذلك هو الأمارة والأمارة ضربان قوية وضعيفة وليس يجوز أن الطريق إلى ذلك هو الأمارة الأضعف لأن المكلف لا يجوز له إذا عرضت له أمارتان إحداهما أقوى من الأخرى أن يعدل عن الأفوى إلى الأضعف فثبت

أنه كلف المجتهد الحكم بأقوى الأمارات وجعل الله لنا طريقا إلى أن الأمارة أقوى الأمارات بما نصبه من وجوه الترجيح ولا بد من استناد ذلك إلى علم على ما بينا من قبل فان قالوا مصلحة المجتهد في كل مسألة من مسائل الاجتهاد هو ذلك الحكم وغيره على البدل قيل لهم فاذن الحكم المطلوب في كل مسألة هو التخيير ويجب أن يكون هو المتعبد به وأحد لم يقل بذلك ويجب أن يكون على الحكمين أمارتان مختلفتان وأحد لم يقل بذلك في كل المسائل
فان قالوا نريد بالأشبه الحكم بأشبه الأمارات وأقواها فقد قالوا بالحق ثم يقال لهم فهل كلف الله سبحانه كل مجتهد إصابة ذلك الأشبه أم لم يكلفه ذلك فان قالوا لم يكلفه قيل لهم فلا وجه لطلبه لما لم يكلفه الله إصابته وإن قالوا قد كلفه الله عز و جل ذلك قيل لهم فمن لم يصل إليه فقد أخطأ ما كلف فكيف قلتم كل مجتهد مصيب لما كلف فان قالوا كل أمارات المجتهدين تتساوى في القوة قيل فالحكم فيها إذن هو التخيير فمن قال ليس الحكم هو التخيير فقد أخطأ وأيضا فالأمة مجمعة على انه ليس كل الأمارات متساوية في القوة وذلك أن منهم من يمنع من تساوي الأمارات ومنهم من يجيز ذلك ويقول إن اليسير منها متساوية وباقيها غير متساوية ويدعى أن الأمارات التي صار إليها أقوى من أمارات خصمه وخصمه يقول بل اماراتي أقوى من أمارات من خالفني ولم يقل أحد من المجتهدين أن كل المسائل فأماراتها متكافئة
واحتج المخالف بأشياء
منها قول النبي صلى الله عليه و سلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر قالوا فتبين أن في المسائل حكما يجوز أن يصيبه ويخطئه فالجواب إن من الحوادث ما هذه سبيله وهو الحكم بأشبه الأمارات وأقواها فان احتجوا بهذه الأشبه فصحيح وإن احتجوا بغيره

قيل لهم ما تنكرون أن يكون ما يجوز أن يصيبه المجتهد ويخطئه هو ما ذكرناه ويقال لهم إن كان الأشبه حكما معينا عند الله سوى الحكم بأشبه الأمارات فذلك لم يكلف الإنسان إصابته عندكم فكيف يكون مخطئا بالعدول عنه ولم ينقص ثوابه إذا لم يظفر بما لم يكلف الظفر به
ومنها قولهم إن المجتهد طالب والطالب لا بد له من مطلوب والجواب أن مطلوبه هو الحكم بأقوى الأمارات فلا يجوز أن يطلب الأشبه الذي لم يجعل له إليه طريق وسبيل على قولكم
ومنها قولهم لو نص الله تعالى على الحكم في المسألة لنص على حكم معين وذلك دليل على ان ذلك الحكم هو الصواب عند الله تعالى والجواب يقال لهم لو نص الله تعالى على الحكم لنص على حكم أشبه الأمارات فيجب أن يكون هو الأشبه فان قالوا لو كانت مصلحتنا حكما معينا ليس هو حكم أشبه الأمارات ثم أراد النص في المسألة أليس ينص عليه قيل بلى فان قالوا فيجب أن يكون الحكم المطلوب الآن هو ذلك الحكم قيل لهم لو كانت مصلحتنا حكما آخر لكلفناه الله ونص عليه وذلك يقتضي إذا لم ينص عليه ولم يكلفنا إياه أن لا يكون هو مصلحتنا وإذا لم يكن الآن مصلحتنا لم يجب أن نطلبه وأيضا كيف تقولون إنه الآن مصلحتنا وأنتم تقولون ما كلفنا إصابته
ومنها قولهم إذا كان المجتهد في القبلة مطلوبة القبلة بعينها وكذلك الطالب لعبده الآبق مطلوبة العبد بعينه فكذلك يجب أن يكون مطلوب المجتهد في الحوادث حكما معينا عند الله والجواب أن ليس مطلوب المجتهد في القبلة القبلة بعينها ولا الجهة التي القبلة فيها قطعا وكيف يطلب القطع على ذلك من يعلم أنه لا طريق له إلى القطع وإنما مطلوبه الأول أن يظن جهة القبلة بأقوى الأمارات وأشبهها ويتبع هذا المطلوب مطلوب آخر وهو العلم بوجوب الصلاة إلى تلك الجهة ويتبع ذلك فعل الصلاة إلى تلك الجهة وكذلك

نقول في الحوادث إن مطلوب المجتهد أن يظن علة الأصل بأقوى الأمارات ويتبع ذلك أن يعلم وجوب إلحاق الفرع بالأصل ويتبع هذا العلم أن يعمل بذلك فان قالوا أليس المجتهد في القبلة يعلم أن القبلة عين من الأعيان يجوز أن تكون في الجهة التي يظن باقوى الأمارات أن القبلة فيها ويجوز أن لا يكون فيها فقولوا إن حكم المسألة هو حكم معين عند الله يجوز أن يكون هو حكم أقوى الأمارات ويجوز أن يكون غيره قيل لهم ولم إذا جاز أن تكون القبلة في غير الجهة التي يطلبها المجتهد فيها جاز أن يكون حكم المسألة غير حكم أشبه الأمارات ويقال لهم الفرق بينهما أن القبلة نفسها ليس هي مطلوب المجتهد الذي كلف الصلاة إليه بعينه فلم يمتنع أن تكون في غير الجهة التي يطلبها فيها بل مطلوبة الذي كلف هو الصلاة إلى الجهة التي يظن القبلة فيها لا إلى القبلة بنفسها ولسنا نمنع أن يكون ما لم يكلف المرء إصابته غير موجود بحيث نظنه وأما حكم الحادثة الذي هو مصلحة المكلف فقد كلف الوصول إليه فلا بد أن يكون ذلك الحكم إما مقتضى دلالة أو مقتضى امارة قوية أو ضعيفة فاذا لم يكن دلالة ولا أمارة ضعيفة مع تمكن المجتهد من القوية فلا بد من كونه مقتضى أمارة قوية والقول بعد ذلك بانه يجوز أن لا يكون ذلك الحكم مقتضى الأمارة القوية مناقضة ظاهرة فان قالوا ذلك الحكم أيضا ما كلف المرء إصابته كما لم يكلف إصابة القبلة قيل قد أفسد ذلك فيما تقدم

باب الفرق بين مسائل الاجتهاد وما ليس من مسائل الاجتهاد
اعلم أن قاضي القضاة ذكر في العمد أن ما عليه دلالة قاطعة فليس هو من مسائل الاجتهاد والحق في واحد منه لا يحل خلافه سواء كانت تلك الدلالة خفية او جلية ولم يفصل بين الإجماع المبتدأ وبين الإجماع بعد

الخلاف والإجماع الصادر عن اجتهاد وحكي عن محمد بن الحسن أنه نقض حكم الحاكم في بيع امهات الأولاد لوقوع الإجماع على ذلك وإن كان بعد الخلاف وعن أبي حنيفة أنه لا ينقض به حكم الحاكم وحكي عن أبي الحسن أن أبا حنيفة لم يخرج هذا الإجماع من كونه حجة ولكنه لا ينقض به حكم الحاكم وكذلك القول في العموم إذا خص بعضه أن ما دخل تحت العموم بعد التخصيص لا يسوغ خلافه
وقال قاضي القضاة إن ما ليس عليه دلالة قاطعة بل عليه أمارة فقط كخبر الواحد والقياس فالواجب على المجتهد أن يعمل بما يؤديه إليه اجتهاده فكل مجتهد فيه مصيب ويحل خلاف بعض المجتهدين لبعض وسواء كان خبر الواحد والقياس مخصصين لعموم الكتاب أو لم يكونا مخصصين له
واعلم أن الفقهاء يعدون من مسائل الاجتهاد ما يستدل عليه بالكتاب كالنية في الوضوء والترتيب وأن الواو للترتيب أو للجمع وأن الفاء للتعقيب وهذه أدلة معلومة وليس فيهم من يسلم أن ظاهر الآية مع مخالفة وأنه عدل عن ذلك لخبر واحد أو قياس فيكون طريق المسألة الأمارات فقط بل كل منهم يقول إن الآية تفيد ما أقوله اللهم إلا ان يقال إن كون الواو للجميع أن للترتيب وأن الفاء للتعقيب في اللغة طريقة الأمارات دون الأدلة وهذا بعيد وإذا ثبت ذلك لم يكن الفرق بين مسائل الاجتهاد وما ليس من مسائل الاجتهاد ما ذكره وينبغي أن يقال إن مسائل الاجتهاد التي لا لوم على المخطىء فيها هي ما اختلف فيه أهل الاجتهاد من الأحكام الشرعية ولا يدخل في ذلك ما ليس من الأحكام الشرعية ولا ما اتفق عليه المسلمون ولا ما خالف فيه من ليس من أهل الاجتهاد وليس يمتنع أن يكون الخطأ في الفروع التي عليها أمارات إن كان له ثواب أو يتفضل الله بغفرانه وهذا الفصل يصح على قول من قال إن الحق في واحد فأما من قال كل

مجتهد مصيب فأنما يفصل بين مسائل الاجتهاد وبين غيرها في إصابة المجتهدين وليس يجوز ان يصيبوا عنده كلهم إذا كان في المسألة دلالة لأن خلاف الدلالة خطأ ويجوز لمن قال إن الحق في واحد أن يقول خلاف الدلالة خطأ وأنه مغفور
وإذ قد ذكرنا أحكام المجتهدين في الفروع فلنذكر أحكام المجتهدين في الاصول وعند الفراغ منه يقع الفراغ من الكتاب إن شاء الله

باب في أن المجتهدين في الأصول لا يجوز أن يكونوا على تباينهم مصيبين
اعلم أن المعتقدين للشيء باعتقادات متنافية لا يجوز كونهم بأجمعهم مصيبين كالمعتقدين أن الله سبحانه يرى في بعض الحالات والمعتقدين أنه لا يرى بحال وقال عبيدالله بن الحسن العنبري إن المجتهدين في الاصول من أهل القبلة كالموحدة والمشبهة وأهل العدل والقدرية مصيبون وينبغي أن نبين معنى قولنا صواب ثم نبين أنه لا يمكن اجتماع الاعتقادات المتنافية فيه فنقول
إن كان الفعل الموصوف بأنه صوب خارجا عن الاعتقادات والظنون والأخبار وكان من أفعال الجوارح وغيرها كالارادات والكراهات فالمراد بذلك أن فاعلة قد أصاب به ما كلف مأخوذ من إصابة الرامي بسهمه الغرض وقال قاضي القضاة المراد بذلك أنه أصاب به فاعله الحسن وإن كان الفعل من حيز الاعتقالات فقد يوصف بأنه صواب ويراد به هذا المعنى ويراد به أيضا أنه أصيب به الحق وأنها تعلقت بالمعتقد والمخبر عنه على ما هما به وإن كان الفعل ظنا فقد يوصف بأنه صواب ويراد به الوجه الأول وقد يراد به أن مظنونه على ما ظنه أي أن الأقرب في مظنونه أنه يكون على ما تناوله

الظن سواء وجد مظنونه أو لم يوجد وقد يقال أيضا أخطأ ظن فلان إذا ظن وجود الشيء فلم يوجد ويقال أصاب ظنه إذا وجد مظنونه على حد ما ظنه فالظن يوصف بأنه صواب على أحد هذه الوجوه الثلاثة
فاذا ثبت ذلك لم يجز كون اعتقاد الرؤية واعتقاد نفيها صوابين على كل هذه الوجوه لأنه إن أراد المخالف بكونهما صوابين أنهما يتناولان الشيء على ما هو به فذلك يقتضي أن يكون البارىء سبحانه يرى في الحالات ولا يرى في شيء من الحالات وذلك يتنافى وكذلك القول في كل اعتقادين ضدين لأنهما إنما يكونان ضدين إذا تعلقا باثبات ونفي يستحيل اجتماعهما وكذلك الخبران عن نفي وإثبات يستحيل اجتماعهما لا يجوز كونهما متناولين للشيء على ما هو به لاستحالة اجتماع الإثبات والنفي المتنافيين وكذلك الخبر بأن العالم قديم والخبر بأنه محدث وغن أراد أن هذين الاعتقادين صوابان على معنى أنهما حسنان أو قد اصيب بهما التكليف لم يجز لأنه إذا كان أحدهما متناولا للشيء لا على ما هو به فهو جهل والجهل قبيح لا يتناوله التكليف والخبر المتناول للشيء لا على ما هو به كذب وقبيح لا يتناوله التكليف واما الظن الصادر عن أمارة مجتهد فهو أبدا صواب لأنه متناول لما الأغلب كونه فهو كذلك كان مظنونه أو لم يكن وأما أنه صواب بمعنى أن فاعله قد أصاب ما كلف فانه إن كان ما قد كلف فعله فهو صواب على هذا المعنى وإن لم يكلف فعله فليس بصواب على هذا المعنى
فان قال المخالف إن الله تعالى كلف أهل القبلة الظن لكونه يرى أو لا يرى واماراتهم هذه الآيات المتشابهة فالظانون لكلا الأمرين مصيبون لما كلفوه من الظن قيل إن المرء إنما كلف الظن إذا تعذر عليه العلم والعلم ها هنا غير متعذر وأيضا فالمخالفون في الرؤية وفي الجبر وفي العدل يدعي كل فريق منهم أنه عالم غير ظان فالقول بأنهم كلفوا الظن خارج عن الإجماع

ويلزم السائل تكليف اليهود والنصارى والملحدة الظن وأماراتهم الشبه التي يتعلقون بها ويكونوا مصيبين في ظن النفي والإثبات وهذا محال

زيادات المعتمد لأبي الحسين البصري أيضا عن النسخة الوحيدة في مكتبة لاله
لي بإستانبول

بسم الله الرحمن الرحيم
فصل
إن قيل إذا قلتم إن الأحكام المعلومة بنص الشريعة أو بالاستنباط أحكام شرعية وقلتم أيضا إن الأحكام العقلية إذا لم تنقلها الشرعية هي شرعية ايضا فقد قلتم إن الأحكام كلها شرعية وإذا قلتم ذلك فكيف تقولون إن الأحكام منها عقلية ومنها شرعية الجواب إن وصف الحكم بأنه شرعي يكون على وجهين أحدهما يراد به أنه حصل بنص الشريعة أو بأفعال حاصلة فيها أو باستنباط من ذلك فقط والآخر أنه حصل بذلك أو بإمساك الشريعة عن نقله عن مقتضى العقل فاذا قلنا الأحكام منها عقلية ومنها شرعية فإنا نريد الوجه الأول أي أن منها عقلي وإما مركوز في العقل أو حاصل بدليل عقلي ومنها ما حصل بنص الشريعة أو بفعل أو باستنباط وكل واحد من هذين القسمين مقابل للآخر وإذا قلنا إن أصول الفقه هي طرق الأحكام الشرعية فإنا نريد الوجه الثاني وهو أنها طرق إلى الأحكام الحاصلة بنص الشريعة أو بأفعال أو باستنباط منها أو بإمساك الشريعة عن نقله عن مقتضى العقل فلذلك يجعل الحظر والإباحة إذا لم ينقلنا عنهما الشريعة من أبواب أصول الفقه وطرقه ولولا أن ذلك موصوف بأنه من الأحكام الشرعية ما جاز أن يجعل الطريق إليه من طرق الأحكام الشرعية
والذي يبين ما ذكرناه أن أحدا من الفقهاء لا يمنع من ان نصف أحكام الفروع التي يستدل عليها بالبقاء على حكم العقل بأنها من الأحكام الشرعية وقد يوصف أيضا بأنها عقلية على معنى أنها ثابتة بالعقل فبان أن وصف الحكم بأنه شرعي جاز على الوجهين اللذين ذكرناهما

فصل
إن قيل إذا قلتم إن الأحكام الشرعية هي المعلومة بأدلة شرعية من خطاب أو فعل أو استنباط أو المعلومة بإمساك الشريعة عن نقلها عن حكم الأصل فيجب أن يكون وجوب المعرفة شرعيا وطريقة إمساك الشريعة عن نقل وجوبها الثابت بالعقل قيل لا يلزم ذلك لأنا إذا قلنا الحكم الشرعي هو المعلوم بإمساك الشريعة عن نقل حكم العقل لم يلزم عليه وجوب المعرفة لأنه غير معلوم وجوبها بالشريعة بل لا يصح أن يعلم ذلك بالشرع لأن صحة الشرع مبنية على المعرفة فاذا لم يصح أن نعرف وجوبها بدليل مبتدأ شرعي فأحرى أن لا نعرف ذلك بإمساك الشريعة عن نقله وأيضا فانا لم نذكر ذلك على أنه حد للحكم الشرعي وإنما ذكرناه لنبين أنا أشرنا بقولنا حكم شرعي إلى ذلك ومتى أردنا أن نحد ذلك قلنا الحكم الشرعي هو ما رجع أهل الشريعة في العلم به إلى الشريعة إما بأن يستدلوا عليه بأدلة شرعية مبتدأة أو بإمساك الشريعة عن نقله فكل ما سلك الفقهاء فيه هذا المسلك فهو حكم شرعي وما لم يسلكوا فيه هذا المسلك لا يسمى حكما شرعيا وإن صح أن يستدل بإمساك الشريعة عن نقله وأما وجوب المعرفة فغير لازم لما قلناه أولا
فصل
إن قيل إذا حددتم الظن بأنه تغليب بالقلب لأحد مجوزين ظاهري التجويز والتجويز هو الشك والشك هو خلو الحي من اعتقاد النقيضين والظن لهما مع خطورة بالبال فيجب أن يكون الظان شاكا والشاك غير ظان فالظان إذا غير ظان فان أجبتم عن ذلك فقلتم نريد بالتجويز ههنا اعتقاد إمكان كل واحد من النقيضين قيل لكم فما قولكم فيمن غلب على ظنه أن أحد النقيضين ممكن يجوز أن يغلب على ظنه أن الله لا يستحيل أن يرى أليس

هذا ظان وليس هو معتقدا صحة رؤيته ولا أنها غير صحيحة الجواب إن قولنا فلان شاك في النقيضين أو مجوز لكل واحد منهما قد يراد به أنه غير معتقد ولا لواحد منهما ولا ظان وقد يراد بذلك أنه غير قاطع على واحد منهما ولا في حكم القاطع كالجاهل فعلى هذا نصف الظان بأنه شاك وبأنه مجوز لما ظنه ولغيره بمعنى أنه مجوز لكل واحد منهما غير قاطع فصح أن نقول إنه قد غلب بقلبه أحد المجوزين إذ هو مجوز لكل واحد منهما غير قاطع ولا في حكم القاطع ولا فرق بين أن نقول تغليب بالقلب لأحد المجوزين ظاهري التجويز وبين أن نقول تغليب الحي بالقلب لأحد أمرين غير قاطع على واحد منهما ولا في حكم القاطع

باب إثبات الحقيقة والمجاز وحدهما
الأولى أن نقسم الحقيقة إلى اللغوية والعرفية والشرعية ثم نحد كل واحدة منها وهو أولى من أن نحد الكل بحد عام لأنه يقتضي اضطرابا في الحد فنقول
الحقيقة اللغوية هي ما أفيد به ما وضع له في أصل اللغة والحقيقة العرفية ما أفيد به ما وضع له في أصل العرف والحقيقة الشرعية هي ما أفيد به ما وضع له في أصل الشرع واعلم أنه إذا حد المجاز بأنه ما أفيد به معنى مصطلحا عليه غير المعنى المصطلح عليه في الأصل بطل إذا وضع أهل اللغة إسما لشيء ثم تواضعوا على أن يجعلوه إسما لشيء آخر ولم ينقلوه عن الأول لأنه قد أفيد به غير ما وضع له في الأصل وهو مع ذلك حقيقة فيه من جهة اللغة كما أنه حقيقة في الأول وإنما ينفصل من المجاز بالسبق إلى الأفهام فينبغي أن نحد الحقيقة بذلك ومتى حددناها بذلك على الإطلاق لم يصح أيضا لأجل الحقيقة المشتركة لأنه إذا أفيد باللفظ أحد حقيقتيه لم يسبق إلى الفهم دون

الحقيقة الأخرى فينبغي أن نقسم الحقيقة إلى المفردة والمشتركة
فالمفردة هي ما أفيد بها ما هو الأسبق إلى فهم العارفين بالاصطلاح عند سماعها ولا يبطل ذلك باللفظة إذا علم أنه ما عني به الحقيقة وكان لها وجهان في المجاز أحدهما أسبق إلى الفهم من الآخر وأشبه بالحقيقة منه لأنه وجه المجاز الأسبق ليس يسبق إلى الفهم عند سماع اللفظة إلا بعد أن يخرج الحقيقة من ان تكون مرادة فلذلك لم يكن اللفظ حقيقة فيه
وأما الحقيقة المشتركة فهي ما أفيد بها معنى يساويه غيره في السبق إلى الفهم عند سماع أهل الاصطلاح لها وقد دخل في ذلك الحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية ولا ينبغي أن نحد الحقيقة المشتركة بأنها ما سبق إلى الفهم معناها أو ما يقوم مقامه لأن للسائل أن يقول يقوم مقامها في ماذا فان قلنا في كونها حقيقة كنا قد فسرنا اللفظة بنفسها
وأما المجاز فهو ما أفيد به معنى مصطلحا عليه والأسبق إلى الفهم في تلك المواضعة غيره

فصل
إن قيل إذا كانت الحقيقة المفردة هي ما أفيد بها معنى لا يسبق إلى الفهم غيره لم يدخل فيه الأمر لأنه لم يوضع ليفيد غيره عندكم كما يقوله أصحابكم بل هو نفسه الطلب قيل بل يدخل فيه الأمر لأن صيغته جعلها أهل اللغة طلبا ووضعوها له لا على أن يكون إسما له بل على أن يكون نفسها طلبا وإنما يكون الصيغة قد أفيد بها الطلب إذا قارنها من النفس ما يطابقها وهو الارادة وما يجري مجراها كما يكون اللفظة مفادا بها ما وضعت له إذا قارنها من المتكلم بها إرادة ما وضعت له وما يجري مجراها نحو المبتدأ والخبر فقد أمكن ذلك في الأمر كما أمكن في الخبر

فصل
إن قيل إذا قلتم إن موافقة الأمر هي فعل مأموره ومخالفته هي الإخلال بمأموره لزمكم إذا كانت موافقة الأمر بالنوافل هي فعل مأمورة أن تكون مخالفته هي الإخلال بمامورة فيكون التارك للنافلة مخالفا لأمر الله بها فيكون داخلا تحت الوعيد في قوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره فالجواب إن الأمر بالنوافل هو في تقدير قول القائل لغيره الأولى أن تفعل ولك أن لا تفعل وهذا يتضمن معنيين فموافقته هي شيئان لا شيء واحد فاذا ليس موافقته هي أن تفعل فقط بل موافقته هي أن تفعل ويجوز أن تفعل فينبغي أن يكون مخالفته هي أن لا تفعل مع أنه لا يجوز أن تفعل أو أن تفعل مع أنه لا يجوز أن لا تفعل وأما قول القائل افعل إذا لم تدل دلالة على جواز ترك الفعل فليس في ظاهره إلا أن تفعل وإذا كان ظاهره استدعاء الفعل فقط ولا يتضمن لفظه شيئا آخر فموافقته هو أن تفعل لا غير فكانت مخالفته نقيض أن تفعل وهو الإخلال بالفعل
فصل
ليس يمتنع أن يقال إن المخل بالكفارات الثلاث إذا استحق العقاب على الإخلال بأجمعها فانه لا يكون ذلك العقاب هو عقاب واحد منها بل عقاب يعلم الله قدره لا ينسب إلى واحد منها ولا يمتنع أن يقال هو عقاب أقلها عقابا بأن يكون بعضها أكثر مشقة فيستحق على الإخلال به عقابا لو انفرد وجوبه على ما ذكرناه في المعتمد
فصل
إذا ناب أحد الفعلين منا الآخر في المصلحة لم يجز أن يوجب الحكيم

أحدهما بعينه لأنه يكون قد فصل بينهما في الوجوب مع اشتراكهما في وجهه ولا أن يوجبهما على الجمع لأنه ليس في الجمع وجه وجوب لا يحصل بأحدهما ولا أن لا يوجب ولا واحدا منهما لأن في ذلك تفويت المصلحة فلم يبق إلا أن يوجبها على البدل

فصل في الفور
إذا استدل أصحاب الفور بالقسمة فقالوا إن جاز تأخير المأمور به عن الزمان الثاني لم يخل إما أن يجوز تأخيره إلى غاية أو لا إلى غاية وجواز ذلك لا إلى غاية بلا بدل يلحفه بالنوافل وجواز ذلك إلى بدل لا يصح لأنه لا دليل على إثبات بدل ونفي البدل يقتضي وجوب الفور وتعيين الوجوب بالثاني قيل لهم ولا دليل على تعيين الوجوب بالثاني ونفي ذلك يقتضي إثبات بدل على ما قد ذكر في ذلك فان قالوا تعيين الوجوب بالثاني لازم لنفي البدل قيل لهم وإثبات البدل لازم لنفي تعيين الوجوب بالثاني فلستم بأن تنفوا البدل لفقد الدليل عليه وتعينوا الوجوب بالثاني تبعا لذلك بأولى من أن ننفي تعيين الوجوب بالثاني لفقد الدليل على ذلك ونثبت البدل تبعا لذلك فان قالوا تعيين الوجوب بالثاني واجب لأن صيغة الأمر تقتضيه كما يقتضي الإيقاعات الحكام في الثاني قيل لهم هذا عدول عن دليل القسمة إلى دليل آخر وأنتم في دليل القسمة إنما عنيتم الوجوب بالثاني بعد إبطال البدل واقتصرتم في إبطال البدل على انه لا دليل عليه فعارضناكم بما ذكرناه فان قالوا إنما نفينا البدل لأنه لا ذكر له في لفظ الأمر قيل لهم ولا ذكر لتعيين الوقت في لفظ الأمر فلستم بنفي أحدهما لأنه ليس في لفظ الأمر ذكر له بأولى من أن ننفي ما أبيتموه من تعيين الوجوب بالثاني لأنه لا ذكر له في لفظ الأمر لنثبت ما نفيتموه من البدل

فصل في الفور ايضا
إن قيل هلا جاز أن يقوم العزم مقام المعزوم عليه في إسقاط الفرض في وقت دون وقت كما قام المسح على الخفين مقام غسل الرجلين في المصلحة وفي استباحة الصلاة يوما وليلة دون ما زاد على ذلك للمقيم قيل إن مسح الخفين عبادة مبتدأة وليس بدلا من غسل الرجلين كما يكون أحد الواجبين بدلا من الواجب الآخر لأن اللابس للخفين لا يلزمه غسل الرجلين في تلك الحال وإنما يلزم ذلك إذا تغيرت الحال بقلع الخف وإذا لم يمتنع ذلك فما ينكر السائل أن يكون المسح على الخفين عبادة مبتدأة يستباح بها الصلاة ومن المصلحة أن يستباح بها يوما وليلة فقط فلم يقل إن كل واحد منهما قد قام مقام الآخر في الوجوب ووجه المصلحة ومع ذلك لم يجز المسح على الخفين مجرى غسل الرجلين في استباحة الصلاة به استباحة غير مقدرة
فصل في النهي
إذا أمكن المنهي أن لا يفعل المنهى عنه من غير أن يفعل ضدا من أضداده لم يكن النهي إيجابا لشيء من أضداد المنهى عنه نحو أن ينهى المستلقي على ظهره عن القيام فانه يمكنه أن لا يفعل القيام ولا يفعل ضدا من أضداده
فصل في النهي عن البدل
إذا أمكن المكلف الانفكاك من فعلين وتوجه النهي إليهما وكان نهيا عن البدل فذلك بأن يقال له لا تفعل هذا بدلا من ذلك ولا ذاك بدلا من هذا أي لا تكون فاعلا لأحدهما تاركا للآخر وقد قلنا في المعتمد إن هذا هو إيجاب للجمع بينهما فيحسن ذلك إذا أمكن الجمع ولم يكن الإنسان ملجأ إليه وينبغي أن يقال إنه قد يقتضي ذلك ويقتضي أن لا يفعل ولا واحدا منهما لأنه إذا تركهما فما فعل أحدهما وترك الآخر كما لو فعلهما جميعا

فصل في دلالة النهي على الفساد
قالوا النهي نقيض الأمر والأمر يدل على إجزاء المأمور بع فيجب أن يدل النهي على نفي إجزاء المنهى عنه ونفي إجزاء الفعل هو فساده أجاب قاضي القضاة بأن الأمر لا يدل على الإجزاء لأنه يفسر الإجزاء بنفي وجوب القضاء وقد تقدم القول في ذلك ونحن نفسر الإجزاء بغير ذلك ونقول إن الأمر يدل على إجزاء المأمور به على التفسير الذي ذكرناه وقد أجبنا في المعتمد عن الدلالة فقلنا إذا كان النهي هو نقيض الأمر فيجب أن لا يدل على ما يدل عليه الأمر من الإجزاء والمخالف لا يقول إن النهي يدل على إجزاء المنهى عنه وإن قال إن المجزىء عنه قد يكون مجزئا
ولمعترض أن يعترض ذلك فيقول ليس يكفي أن لا يدل نقيض الشيء على ما يدل عليه الشيء بل يجب أن يدل على نقيض ما دل عليه الشيء ألا ترى أن قولنا زيد ليس بأبيض لما كان نقيض قولنا زيد أبيض دل على نقيض ما يدل عليه قولنا زيد ابيض فقد دل على نفي مدلول قولنا زيد أبيض والجواب عن الدلالة أن الأمر هو استدعاء إلى الفعل ويقتضي أن يفعل لا محالة فاذا كان النهي نقيضه فيجب أن يكون استدعاء إلى الإخلال بالفعل ويقتضي أن لا يفعل لا محالة فقد قلنا إن مدلول أحدهما هو نقيض مدلول آخر وأما إجزاء المأمور به فانه يعلم بنظر آخر على ما ذكر
فان قيل فاذا تبع مدلول الأمر الإجزاء فيجب أن يتبع مدلول نقيض الأمر نقيض ما يتبع مدلول الأمر وهو نفي الإجزاء وهذا هو الفساد قيل لا يجب ذلك لأن التابع لاقتضاء الأمر لإيقاع الفعل لا محالة وهو إجزاؤه وهو سقوط التعبد به وهذا بعينه هو تابع لاقتضاء النهي للإخلال بالفعل لا نقيضه وذلك لأن النهي إما أن يكون نهيا عن مجرد الفعل أو يكون نهيا عن إيقاع عبادة على وجه فالأول هو أن يقال للمكلف لا تدخل الدار فمتى لم يدخلها فقد أجزأه ذلك في سقوط التعبد بالإخلال بذلك في ذلك الوقت

وفعل الدخول يكون فاسدا ولا معنى لفساده إلا أنه قبيح محرم وأما الثاني فهو أن يقال للمكلف لا تصل عريانا فاذا لم يصل عريانا أجزأه في إسقاط التعبد به في ذلك الوقت كما قيل له صل على طهارة فصلى على طهارة فانه يجزئه ما فعله في إسقاط التعبد به فقد تبع مدلول كل واحد منهما ما تبع مدلول الآخر قيل أليس إذا قيل للمكلف صل بطهارة مع أن الأمر على الوجوب فانه يتبع مدلول هذا الأمر أنه إذا خالف فصلى على غير طهارة كان ما فعله فاسدا غير مجزىء فيجب إذا قيل له لا تصل عريانا فخالف وصلى عريانا أن يكون ذلك فاسدا غير مجزىء قيل فقد أوجبتم أن يتبع مدلول النهي ما يتبع مدلول الآخر وهو الفساد ونفي الإجزاء وأنتم أوجبتم أن يكون التابع لأحدهما نقيض ما تبع الآخر ولم توجبوا أن يكون أحد التابعين هو التابع للآخر فما ذكرتموه الآن غير داخل في العقد الذي ذكرتموه بل هو ضده فإن تركوا ما قالوه وقالوا إذا كان النهي نقيض الأمر فيجب أن يكون ما يتبع مدلول أحدهما هو ما يتبع مدلول الآخر قيل لهم هذه دعوى منكم تخالفون فيها ونحن وإن لم نوجب أن يكون التابع لأحدهما هو نقيض ما يتبع الاخر فإنا لا نوجب أن يكون مثله بل ذلك موقوف على الدلالة وليس يجوز أن يكون كون النهي والأمر نقيضين يقتضي تساوي ما يتبع مدلولهما

فصل في العموم
إن قيل ما تنكرون أن يكون قبيلة من العرب وضعوا للاستغراق وحده لفظ كل أو غيره ثم وضعته قبيلة أخرى للبعض فلم تترك العرب أن تضع للاستغراق لفظا يخصه ومع ذلك فالإشراك حاصل قيل لو كان كذلك لكان حقيقة قولنا كل عند تلك القبيلة للبعض لا غير وأن يسبق إلى إفهامنا عند سماع قولنا كل البعض ومعلوم أن ذلك لا يحصل في قبيلة من القبائل كما لا يسبق إلى فهم أحد عند سماع اسم الأسد الرجل الشجاع إذا

تجرد اللفظ وأيضا فكيف اتفق في ألفاظ العموم كلها على كثرتها أن يحصل في كل واحد منها الإشراك ولا يخلص واحد منها للاستغراق ويضعون لكل معنى اسما يخصه ولا يضعون إسما للاستغراق إلا ويضعونه لنقيض الاستغراق وأيضا فكان يجب في القبيلة التي وضعت قولها كل للبعض أن يضعوا للاستغراق لفظا آخر ليعبروا به عن الاستغراق فان قالوا قد وضعوا له لفظة جميع ووضعته القبيلة الأخرى للبعض قيل كيف اتفق في جميع ألفاظ العموم أن بعضهم وضعها للعموم وبعضها للخصوص ولم يخلص للاستغراق واحد منها وايضا فما ذكرناه من شدة الحاجة إلى وضع اسم للاستغراق يقتضي إذا وقع الاشتراك في ألفاظ العموم لأجل وضع قبيلتين أن يضعوا للاستغراق لفظا آخر يخصه لشدة حاجتهم إلى ذلك

فصل في الاستثناء من الاستثناء
قد قيل لو رجع الاستثناء الثاني إلى الاستثناء الأول وإلى المستثنى منه لكان إيجابا وسلبا واعترض ذلك بأنه لا يمتنع ذلك إذا تعلق بكلامين وإنما يمتنع إذا تعلق بكلام واحد والجواب إنه لو رجع الاستثناء الثاني إليهما لكان إيجابا وسلبا من المستثنى منه لأنه إذا قال القائل لزيد عندي عشرة دراهم إلا درهمين إلا درهم ورجع قوله إلا درهم إلى العشرة وهي إيجاب لنفى منها درهما آخر ورجع مع ذلك إلى الدرهمين وهي نفي لكان قد أوجب الدرهم كأنه قال إلا درهمين إلا درهم من الدرهمين فانه علي فيكون قد أثبت الدرهم في العشرة وقد نفاه حين رجع إلى العشرة فيكون قد نفى عن العشرة درهما سوى الدرهمين واثبته فيها معا فقد بان أنه يلزم أن يكون الاستثناء الثاني نفيا وإثباتا من العشرة فهو إذا نفي وإثبات من كلام واحد

الأفعال من باب قسمة الأفعال
قد حد القبيح بأنه فعل على صفة لها تأثير في استحقاق الذم فان قيل الصغيرة قبيحة وليست على صفة لها تأثير في استحقاق الذم قيل بل لها صفة لها تأثير في استحقاق الذم ألا ترى أنه لو لم يكن فاعلها يستحق من المدح أكثر من ذمها لأثرت الصفة في استحقاق الذم فان قيل أليس مع استحقاقه لمدح أكثر من ذمها لا يؤثر في استحقاق الذم فقد انتقض الحد قيل قولنا لها تأثير في استحقاق الذم لا يقتضي أن يؤثر في ذلك في كل حال وعلى كل وجه وسيما في عرف الفقهاء والمتكلمين في أصول الفقه لأنهم يتعارضون من قولهم لكذا تأثير في كذا أنه يؤثر فيه وإن كان يؤثر في بعض الحالات وإذا قلنا لليسار تأثير في إزالة الهم لم ينتقض ذلك في عرف كل الناس بأن يؤخذ اليسار في بعض الحالات ولا يزول الهم لما كان في بعض الحالات مؤثرا في إزالة الهم فما ذكرناه جار في عرف الفقهاء وغيرهم
وإذا أردنا حسم هذا السؤال قلنا في الحد القبيح فعل على صفة لكونه عليها تأثير في استحقاق الذم على بعض الوجوه أو ما لم يمنع من ذمه مانع أو قلنا فعل له تأثير في استحقاق الذم على بعض الوجوه أو ما لم يمنع من ذمه مانع ولا نذكر الصفة وإذا قيدنا الحد بذلك قلنا في حد الحسن إنه فعل لا تأثير له في استحقاق فاعله الذم على وجه من الوجوه أو من غير مانع وكذلك نريد في حد الواجب إذا حددناه باستحقاق الذم على الإخلال به فنقول هو الفعل الذي للإخلال به تأثير في استحقاق الذم على بعض الوجوه أو ما لم يمنع من ذمه مانع
فصل
الأولى في قسمة الأسباب ان يقال الأسباب الشرعية ضربان احدهما يعلم ثبوته وكونه سببا بالشرع وذلك كفساد الصلاة فانا بالشرع نعلم ثبوته ونعلم

بالشرع كونه سببا لوجوب القضاء والآخر يعلم ثبوته لا بالشرع ويعلم بالشرع كونه سببا وذلك حؤول الحول فانا نعلم بغير الشرع وجوده ونعلم بالشرع كونه سببا لوجوب إخراج الزكاة وغذا ذكرنا القسمة كذلك كنا قد جعلنا العلم في مقابلة العلم وهذا مرادنا في الكتاب

من باب التأسي
اتباع النبي صلى الله عليه و سلم في فعله يستفاد من مطلق المشاركة في صورة الفعل على الوجه الذي فعله وان التبع له فعله لأنه فعله فان قيدت المتابعة بصورة الفعل فقيل اتبع زيد عمرا في صورة الفعل لم يفد إلا المشاركة في الصورة
باب في أن السمع لا يقتضي على الإطلاق وجوب مثل فعل النبي صلى الله عليه
و سلم
اعلم أنا ذكرنا في الباب فقلنا أما من قال بأن أفعاله أدلة باعتبار الوجه فانه إن علم الطريقة التي اتبعها النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك الفعل عقلية كانت أو سمعية فهو يرجع إليها في الاستدلال وإن لم يعرف الطريقة فضربان أحدهما يكون فعله بيانا لمجمل والآخر لا يكون بيانا لمجمل فان كان بيانا لمجمل فذلك المجمل هو دال على الوجوب أو الندب أو الإباحة
ولمعترض أن يعترض هذه القسمة فيقول إذا علم المكلف أن فعل النبي بيان لمجمل واستدل بالمجمل على الوجوب فقد عرف الطريقة التي رجع إليها النبي صلى الله عليه و سلم في الوجوب فهو داخل في القسم الأول والجواب أنا لم نقل فان علم المكلف أن فعل النبي بيان لمجمل وإنما قلنا فان كان فعله بيانا لمجمل وقد يكون فعله بيانا لمجمل ولا يكون العلم بذلك قد تقدم للمكلف فيحتاج أن ينظر ويتأمل ليعرف الوجه الذي أوقع النبي صلى الله عليه و سلم الفعل عليه ومن جملة ما يتأمله أن ينظر هل في الشرع مجمل هذا بيانه ليعرف

بالمجمل الوجه الذي أوقع النبي صلى الله عليه و سلم الفعل عليه فاذا عرف ذلك اكتفي بالمجمل في الاستدلال على الوجوب في الجملة وعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم أوقع الفعل عليه
وإذا أردنا حسم هذا السؤال فالأولى أن نقول في القسمة إما أن يعلم المكلف قبل أن فعل النبي صلى الله عليه و سلم الفعل أو معه أو بعده الطريقة التي صار إليها في العلم بالحكم عقلية كانت أو سمعية مجملة كانت أو مفصلة فرجع إليها في العلم بالحكم وإما أن لا يعلم المكلف ذلك فيجب أن يستدل بوجه آخر على الوجه الذي أوقع النبي صلى الله عليه و سلم الفعل عليه فان علم أنه أوقعه على الوجوب دل ذلك على وجوب مثله عليه وإن علم أنه أوقعه على الندب دل على أنه مندوب إلى مثله وإن علم أنه أوقعه مستبيحا له دل على أنه مباح منه
استدل على أن فعل النبي صلى الله عليه و سلم على الوجوب بقول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر قالوا وقوله يرجوا الله واليوم الآخر تهديدا واجيب عن ذلك بأن قوله عز و جل لكم ليس من ألفاظ الوجوب ولو أراد الوجوب لقال عليكم واعترضنا ذلك بانه لا يصح الاستدلال بذلك على نفي الوجوب لأن معنى قول القائل لنا أن نفعل كذا هو أنه لا حظر علينا في فعله والواجب لا حظر علينا في فعله
فان قيل إن المجيب لم يستدل بالآية على نفي وجوب أفعال النبي صلى الله عليه و سلم بقوله إن لفظة لكم ليس من ألفاظ الوجوب وإنما دفع الاستدلال بالآية على وجوب أفعاله فقال لفظة لكم ليست من ألفاظ الوجوب فلا يجوز أن يقال له إن الواجب لنا فعله لأنه لم يقل إن

الواجب لا يكون لنا فعله وإنما قال إن لفظة لكم لا يختص الوجوب بل يستعمل في الواجب وفي غيره فليس في ذكرها إثبات للوجوب قيل بل إنما أورد المجيب هذا الكلام على جهة الاستدلال منه على نفي الوجوب لا على أن يدفع استدلال خصمه لأن خصمه لم يستدل على وجوب أفعال النبي صلى الله عليه و سلم بقول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فيقال له لفظة لكك لا يختص الوجوب وإنما استدل بقوله لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر قال وهذا تهديد فما أورده المجيب إن لم يكن ابتداء استدلال منه بالآية من حيث أنه لا يقال لكم فيما هو واجب فليس هو يدفع لاستدلال المستدل بالآية وينبغي أن يقول لمن تكلم على الآية بقوله إن لفظة لكم ليس من ألفاظ الوجوب إن أوردت ذلك دفعا لاستدلال المستدل بالآية فالمستدل بالآية لم يقل إن قول الله عز و جل لكم من ألفاظ الوجوب وإن أوردت ذلك استدلالا منك على أن أفعال النبي صلى الله عليه و سلم ليست على الوجوب لم يصح ذلك لما بيناه في الكتاب باب فيما تدل عليه أفعال النبي صلى الله عليه و سلم وتروكه المتعلقة بغيره
قد قلنا أما أفعاله المتعلقة بغيره فهي الحدود والقضاء على الغير ثم قلنا وقضاؤه على الغير وإن كان من قبيل الأقوال فانه يقتضي لزوم ما قضي به
ولقائل أن يقول لم أدخلتم القضاء في جملة الأفعال مع أنه قول وأنتم إنما تتكلمون في أبواب الأفعال في الأفعال التي هي أفعال الجوارح والجواب إنما تكلمنا في القضاء ههنا لأنه كأفعال الجوارح بالغير ولم يجز ذكره فيما قبل فذكرناه ههنا لمشابهته للأفعال المتعلقة بالغير

وإذا أردنا حسم هذا الاعتراض قلنا في القسمة إن ما يسند إلى النبي صلى الله عليه و سلم مما يتعلق بغيره أفعال وتروك والأفعال ضربان أفعال هي أقوال وأفعال ليست أقوالا والأفعال المتعدية إلى الغير منها قضاء على غير ومنها ما ليس بقضاء على غير والأفعال التي ليست أقوالا هي الحدود والتعزيز وإنما قسمنا الأفعال إلى أقوال وإلى غير أقوال لأن الفعل إذا أطلق أو جعل في مقابلة الترك أفاد كل ما يفعله الفاعل من قول وغير قول وإذا جعل في مقابلة الفعل قول لم يدخل القول تحت الفعل

الكلام في الناسخ والمنسوخ
باب في حقيقة الناسخ
قد حد أصحابنا الطريق الناسخ بأنه ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص غير ثابت على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه وقلنا يلزم على هذا أن يكون العجز المزيل لمثل الحكم الذي كان ثابتا على المكلف ناسخا لأنه قد دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص غير ثابت على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه فان قيل إن الدال على أن مثل الحكم غير ثابت هو دليل العقل الدال على أنه لا تكليف مع العجز وهذا الدليل متقدم على الدليل الدال على وجوب العبادة غير متراخ عنه قلنا هذا يوجب أن لا يوصف فعل النبي صلى الله عليه و سلم بضد ما أمرنا به بأنه دليل ما نسخ عنا العبادة المأمور بها لأنه إنما يكون ناسخا عنا لأجل ما تقدم من الدليل على أنا إذا علمنا الوجه الذي أوقع النبي صلى الله عليه و سلم فعله عليه كان حكمنا فيه حكمه من وجوب أو نفل أو إباحة وقد قال أصحابنا بأن فعله يكون دليلا ناسخا عنا العبادة وإن كان دليل اتباعنا أياه فيه متقدما فكذلك يلزم أن يقال في العجز الطاريء على المكلف وعلى أن الدليل العقلي الدال على أن العبادة ترتفع بالعجز وهو كالدليل العقلي الدال على وجوب المصير إلى قول النبي صلى الله عليه و سلم فكما لم يمنع أن يكون قول النبي صلى الله عليه و سلم هو الناسخ إذا ورد برفع العبادة فكذلك لا يمتنع أن يكون العجز هو الناسخ وإن كنا علمنا بالعقل أن العجز ترتفع معه العبادة

فان قيل قول الله عز و جل فاتقوا الله ما اساتطعتم وقوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها يجري مجرى أن يأمرنا بعبادة عبادة ويشرطها بالاستطاعة ولو فعل ذلك لم يكن وجود العجز نسخا لأنه قد علق العبادة بشرط معلوم مفصل والخطاب المقيد بهذا الشرط غير متأخر فلم يكن نسخا كتعليق العبادة بغاية مفصلة مثل قوله ثم اتموا الصيام إلى الليل انه لا يكون وجود الليل ناسخا ولا قوله إلى الليل ناسخا للصوم في الليل قيل أليس لو لم يقل الله عز و جل فاتقوا الله ما استطعتم ولا قال لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لكان وجود العجز دالا على أن مثل حكم العبادة غير ثابت في ذلك الوقت ولا يكون ذلك ناسخا لأن النسخ لا يثبت بعد انقطاع الوحي والعجز قد يطرأ على المكلفين بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم فقد وجد الحد في هذا الموضع والمحدود ليس بحاصل ولا شبهة في أن العجز والموت قد طرءا على بعض المكلفين قبل نزول هاتين الآيتين فزال مثل الحكم الثابت بالنص ولم يكن ذلك ناسخا وقد قلنا في الكتاب إنه يلزم على الحد المذكور أن تكون الأمة إذا اختلفت في المسألة على قولين وسوغت للعامي الأخذ بايهما شاء وأجازت للمجتهد أن يقول بأيهما شاء إذا أدى اجتهاده إليه أو قالت إن أخذ بالخطأ منهما لم يكن ملوما على قول من قال إن الحق في واحد ثم اجمعت على أحد القولين فلم يسع للعامي الأخذ بما كان يسوغ له الأخذ به وهو القول الآخر ولا كان للمجتهد أن يصير إليه ان يكون إجماعهم ناسخا لأنه دال على أن مثل الثابت بنصهم غير ثابت على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه
إن قيل أهل الاجتهاد من الأمة إذا اختلفت على قولين فانها لم تنص على جواز الأخذ بكل واحد منهما للعامي وللمجتهد قيل كيف لم تنص على ذلك

وقد صرحت به في كتبها واستدلت عليه فان قيل ليس معكم أن كل واحد من أهل الاجتهاد قد قال بذلك نصا وأنه لم ينص عليه بعضهم ولم ينكره الباقون قيل قد صار الحكم ثابتا بالنص من بعضهم مع علم الباقين وذلك لا يمنع من كونه ثابتا بالنص وإن كان ثابتا مع غيره ثم يقال للسائل اليس لو نص كل واحد من الأمة على جواز تقليد العامي لكل واحد من القولين ثم أجمعوا على أحدهما فحرم الأخذ بالقول الآخر لم يكن ذاك نسخا لأن النسخ لا يكون بعد انقطاع الوحي فبطل أن يقتصر في الحد على ما ذكر لأنه لو اقتصر عليه لوجب لو وجد أن يكون المحدود قد وجد كما أن من حد الجهل بأنه اعتقاد الشيء لا على ما هو به وفرضنا أنه لا وجود للجهل فانه يلزمه لو وجد ما هو اعتقاد الشيء لا على ما هو به أن يكون قد وجد الجهل ولو قال لا يكون الجهل موجودا وإن وجد الاعتقاد للشيء لا على ما هو به لزمه أن لا يكون هذا حد للجهل فكذلك إذا قال الدليل الناسخ هو ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص غير ثابت على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه فانه وإن لم تنص الامة على جواز تقليد العامي لكل واحد من القولين يلزمه لو نصت على ذلك ثم أجمعت على أحد القولين فحرم الأخذ بالقول الآخر أن يكون إجماعها ناسخا فان لم يكن ناسخا فقد فسد الحد
فان قيل أنتم اعترضتم الحد باعتراض غير مقدر وما تذكرونه الآن هو مقدر فهو غير ما ذكرتموه في الكتاب قيل إنما اعترضنا باختلاف الامة على قولين في المسألة وتسويغهم بكل واحد منهما ولم نقل إن ذلك محقق أو مقدر
فإن قيل المجتهدون من الامة وإن قالوا يجوز للعامي الأخذ بكل واحد من القولين فان قولهم لا يسمى نصا في العرف بل قولنا نص في عرف الفقهاء يقع على نص الله عز و جل ونص رسوله فقولنا في الحد إن الدليل الناسخ هو ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص لا يتناول نص الامة لأنه لا

يسمى نصا في العرف قيل ليس كذلك لأن الفقهاء يقولون قد نصت الأمة على كذا وكذا كما يقولون نص النبي صلى الله عليه و سلم على كذا وكذا وإن كانوا لا يتعارفون من إطلاق اسم النص على نص الأمة فأولى أن لا يتعارفوا من إطلاقه نص موسى وعيسى فيجب أن لا يتناول الحد المذكور ما دل على نسخ الشرائع لأن الأمة إذا أطلقت اسم النص لا تعني به نص غير النبي من الأنبياء ومعلوم ان قول النبي صلى الله عليه و سلم إذا رفع عبادة لبعض الأنبياء المتقدمين يكون نسخا ولا يلزمنا مثل ذلك على ما حددنا الناسخ بقولنا إنه قول صادر عن الله أو عن رسوله لأنا لم نقصر النص على كلام نبينا صلى الله عليه و سلم دون كلام غيره
فان قالوا الامة إنما سوغت للعامي أن يقبل ممن يفتيه بكل واحد من القولين فاذا أجمعوا على أحد القولين لم يجد العامي من يفتيه بالقول الآخر فيقال قد حرم عليه الأخذ به قيل لهم قد يجد من يفتيه بأن يصير بعض المجتهدين إلى القول الآخر بعد إجماعهم ومن حد الدليل الناسخ بما ذكرناه يحرم الأخذ بالقول الآخر ولا يجيز التقليد فيه وأيضا فانه يحرم على المجتهد بعد الإجماع على أحد القولين أن يصير إلى القول الآخر ويكون مأثوما بعدما كان من أهل الاجتهاد سوغوا له ذلك أو قالوا لا تكون مأثوما فقد حصل معنى النسخ في المجتهد وأيضا فلو أجمعوا على أحد القولين إلا مجتهد واحد وأفتى العامي بقوله ثم وافق من عداه على قولهم قبل أن يعمل العامي بذلك ثم عرف موافقته لهم فانه لا يجوز له العمل على ذلك بعد ما جاز له العمل عليه فقد صار اتفاقهم دالا على أن مثل الحكم الثابت بنصهم غير ثابت
فان قيل الامة إذا اختلفت على قولين فانما سوغت للعامي وللمجتهد الأخذ بكل واحد من القولين بشرط أن لا يتفق على أحدهما وهذا شرط مفصل فوجوده لا يكون ناسخا وليس كذلك قول الله سبحانه أو

يجعل الله لهن سبيلا لأن السبيل ههنا مجمل غير مفصل فما ورد بتفصيله يكون ناسخا لإمساك في البيوت وهو قول النبي صلى الله عليه و سلم وخذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا قيل ينبغي أن يقع الانفصال بما هو مذكور في الحد وهذا الذي ذكرتموه من تفصيل الشرط ليس بمذكور في حد الدليل الناسخ على أن ما ذكرتموه من الحد يقتضي أن الأمة لو اختلفت فسوغت للعامي الأخذ بكل واحد من القولين ولم يشرط ما ذكرتموه في الحال فلما اجمعت على أحد القولين حرمت الأخذ بالآخر أن يكون ناسخا على أنه ليس معكم أن الأمة لما اختلفت في المسألة على قولين سوغت الأخذ بكل واحد منهما على هذا الشرط وكيف يمكنكم ادعاء ذلك والمخالف يقول إن الأمة ما منعت من الأخذ بكل واحد من القولين وإن اتفقت على أحدهما وكيف يمكنكم على أصولكم أن تقولوا إن الأمة قد قالت ذلك حين اختلفت وأنتم تجوزون أن يأمر الله بتكرار العبادة وهو يريد نسخها فلا يبين ذلك في الحال لا مجملا ولا مفصلا ويبينه عند وقت النسخ فما تنكرون ان تكون الأمة لم تبين تحريم الأخذ بالقول الذي أجمعت على خلافه إلا حين أجمعت على خلافه فلم تكن إباحتها الأخذ بكل واحد من القولين مشروطة
فان قالوا نحن وإن جوزنا ذلك فانا نجوز أن تكون شرطية عند اختلافها قيل إذا جوزتم كلا الأمرين فجوزوا كون اتفاقهما ناسخا لجواز الأخذ بالقول الآخر لأنكم لا تأمنون أن يكونوا ما شرطوا إباحة الأخذ بكل واحد من القولين عند اختلافهم بالشرط الذي ذكرتموه وقد حددنا نحن الطريق الناسخ بأنه قول صادر عن الله أو قول أو فعل أو ترك منقولين عن رسوله يفيد إزالة مثل الحكم الثابت بنص من الله أو بنص أو فعل منقولين عن رسوله مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا
ولقائل أن يقول قولكم يفيد إزالة مثل الحكم يقتضي أن مثل الحكم

كان ثابتا فأزيل لأنه لا يقال أزلت هذا الشيء إلا وقد كان ذلك الشيء ثابتا وإزالة الحكم بعد ثبوته هو بداء وليس هو نسخا قيل قد يقال في الشيء إنه أزيل إذا كان ثابتا فازيل وقد يقال قد أزيل الشيء بكذا إذا كان فلولا ذلك المزيل لثبت ذلك الشيء سيما إذا كان ذلك الشيء يتوهم ثبوته ويتوقع فانه لا يمتنع احد إذا كان يتوقع استمرار توجهه إلى بيت المقدس ثم نهي عن ذلك أن يقول قد أزيل عنا التوجه إلى بيت المقدس وإنما يراد إزالة ما يستأنف ويصح إطلاق ذلك فيه لما بيناه وقد دللنا في الحد على أنا أردنا هذا الوجه بقولنا مفيد لإزالة مثل الحكم الثابت بنص أو فعل لأنه لو كان الحكم المزال قد كان ثبت ثم أزيل لكان هو حكم النص لا مثله ودللنا على أنه إنما أزاله بأن دل على أنه غير ثابت وبأنه منع من ثبوته بقولنا على وجه لولاه لكان ثابتا فبان بذلك أنه مفيد لإزالة الحكم على هذا الوجه ولنا أن نعتاض من قولنا مفيد لإزالة مثل الحكم بقولنا يفيد أن مثل الحكم الثابت بالنص أو بالفعل غير ثابت على وجه لولاه لكان ثابتا وكل واحد من هذين الكلامين يترجح على الآخر من وجه أما قولنا يفيد أن مثل الحكم الثابت بالنص أو بالفعل غير ثابت فانه يترجح على العبارة الثانية لأن فيها تصريح بالإزالة وهي معنى النسخ في الأصل والحد المفيد من جهة الصريح لمعنى المحدود وفائدته أولى
واعلم أن الغرض بهذا الحد هو حصر ما وقع الاصطلاح على تسميته طريقا ناسخا وهو بتفسير الاسم أشبه منه بالحد فقولنا قول أو فعل منقولين عن رسول الله قد حصرنا به ما نقل عنه من قول أو فعل وتناولهما قبل أن ينقلا وبعدما نقلا فأشرنا بهذا القول إلى كل ما وقع الاصطلاح بعد وفاته على أنه طريق ناسخ ولك أن تعتاض من ذلك فنقول قول أو فعل معلوم ورودهما من النبي صلى الله عليه و سلم أو مظنون وليس يلزم على ذلك أن يقال النسخ يقع بالترك ايضا وذلك لأن الله أو رسوله إذا أوجبا صلاة متكررة فان نسخها

بعد أن فعلها فلا بد من أن يفعل فعلا يدل به عن الصلاة إما بفعله في وقت الصلاة أو بفعله قبل الوقت ويستديمه إلى دخول الوقت وخروجه نحو أن يستلقي وإذا فعل ذلك كان الناسخ هو ما فعله أو ما تجدد فعله في الوقت فالناسخ هو الفعل في الحالين وايضا فالترك يسمى فعلا فانك تقول بئس ما فعل فلان فيقال لك ما فعل فنقول لم يخرج من دار غيره بعدما نهاه مالكها عن الكون فيها واسم الفعل يقع على الترك في العرف ولك أن تزيد في الحد الترك فتقول قول أو فعل أو ترك ومعلوم وروده عن النبي صلى الله عليه و سلم أو مظنون يفيد أن مثل الحكم الثابت بمثل هذه الامور غير ثابت في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه وأما المنسوخ فهو الحكم المزال إذا اختص بالشرائط التي ذكرناها ولك أن تقول هو الحكم الذي تناول الطريق الناسخ والطريق الناسخ هو المختص بالشرائط التي ذكرناها أو تقول هو الحكم الذي اقتضى الطريق الناسخ أنه غير ثابت مع أنه مثل الحكم الذي كان ثابتا وأما حد النسخ فهو إزالة مثل الحكم المختص بالشرائط التي ذكرناها أو تقول هو تبيين كون مثل الحكم الثابت غير ثابت إذا اختص الحكم ومثله بالشرائط التي ذكرناها ومن حد النسخ بأنه إزالة الحكم بعد استقراره فانه إن أراد بذلك استقرار نفس الحكم فذلك بداء وإن أراد استقرار جنس الحكم فذلك يقتضي كون إزالة العبادة بالعجز أو إزالة حكم العقل بحكم الشرع نسخا

باب الدلالة على جواز نسخ الشرائع
اعلم أنه لا يجوز أن يحمل جواز بيان انقطاع العبادة بالنسخ على جواز تأخير بيان وقت انقطاعهما بالموت والعجز لأنا قد أشعرنا بجواز انقطاعها بالموت والعجز في كل وقت الا ترى أن الإنسان قبل التكليف يجوز أن يعجز ويموت

في كل وقت ويمنعه الموانع وإذا ورد عليه الأمر يفعل العبادة على التكرار لم يجوز دوام حياته وقدرته بل يجوز ارتفاعها في كل وقت للعادة التي جرت في الناس وإذا اقترن بذلك أن يعتقد أنه لا يجوز أن يعرف وقت موته لأن ذلك إغراء بالمعاصي تأكد تجويزه للموت والعجز في كل وقت وإذا اقترن بذلك قول الله عز و جل فاتقوا الله ما استطعتم يؤكد هذا التجويز فبان أن المكلف قد أشعر إشعارا يجوز معه أن يتعذر عليه الفعل في كل وقت إما بموت أو بغيره فنظير ذلك أن يؤمر بالعبادة ويقال له جوز ورود النسخ عليها في المستقبل أو يقال له جوز في كل ما يتعبدك به أن يتغير كونه مصلحة في وقت من الأوقات المستقبلة
فان قيل فيجب إذا جرت العادة بنسخ العبادة المقيدة بالتأييد أو بالتكرار أن يكون ذلك إشعارا بجواز النسخ فيجوز معه أن تنسخ العبادة وإن لم يتبين ذلك عند ورود الأمر بها قيل العادة إنما تجري عن أول الأمر فأول ما يرد بالعبادات مقيدا بالتكرار ينبغي أن لا يحسن نسخها إلا أن يشعر بذلك عند الأمر لأنه ما تقدم هذا الأمر عادة في نسخ عبادة من دون إشعار وكذلك في أمر آخر بعبادة أخرى وفي أمر آخر وإذا توالى التعبد مع الإشعار صارت العادة جارية بتأخر بيان النسخ إذا تقدمه الإشعار فلا يجوز من دون إشعار

باب الدلالة على جواز نسخ الكتاب بالسنة
إذا كان قول القائل ما آخذ منك ثوبا آتيك بما هو خير منه أو قال بشيء هو خير منه لا يقتضي أنه يأتيه بثوب آخر بل يجوز أن يأتيه بثوب آخر ويجوز أن يأتيه بغير ثوب وهو خير من الثوب الذي أخذه لأن

قوله ما ههنا بمعنى شيء وقولنا شيء يقع على ثوب وعلى غيره فكذلك إذا قال أتيتك بخير منه ولا يقتضي أن يأتيه بثوب لا محالة لأن قولنا خير يقع على كل خير ثوبا كان أو غير ثوب فهو عام فيهما كما أن قولنا شيء وقولنا ما يعم الثوب وغيره فكما لا يقتض الكلام الأول أنه يأتيه بثوب لا محالة فكذلك في الكلام الثاني

باب الزيادة على النص هل هي نسخ أم لا
قد قلنا في هذا الباب أن قاضي القضاة قال لو خير الله بين شيئين واجبين ثم أثبت لهما ثالثا لكان ذلك نسخا لقبح تركهما جميعا وقلنا نحن إن هذا رافع لحكم عقلي فلا يجوز أن يسمى نسخا
ولقائل أن يقول قبح الإخلال بهما ليس بحكم عقلي وإنما علم بالشرع وهو إيجابه عز و جل فعل الشيئين على البدل فوجب أن يكون إيجاب الثالث ناسخا لقبح تركهما والجواب أن قبح تركهما والإخلال بهما يتبع إيجاب الله الفعلين على البدل ويتبع أنه ما كان يجب فعل ثالث معهما ألا ترى أنا لو لم نعلم إلا وجوب الشيئين على البدل ولم نعلم أن الثالث لا يجب بل جوزنا وجوبه لم نعلم قبح تركهما لتجويزنا وجوب ثالث إذا تركناهما إليه لم يقبح منا تركهما كما أنا لو علمنا أن الثالث لا يجب ولم نعلم وجوب الفعلين لم نعلم قبح تركهما ومعلوم أن إيجاب الفعلين على البدل يقتضي أن للإخلال بكل واحد منهما تأثيرا في استحقاق الذم ولا يتعرض للثالث بايجاب ولا بنفي إيجاب وإنما نعلم أنه غير واجب بقاء على حكم العقل فاذا كان قبح تركهما يتفرع على أمر شرعي وعلى أمر عقلي لم يتخلص كونه معلوما بالشرع فلم يصح القول بأن رفعه نسخ

باب النقصان من العبادة هل هو نسخ لغير ما نقص منها أم لا
اعلم أن الصلاة لما كانت واجبة إلى بيت المقدس كانت واجبة في كل مكان على البدل وكان يجب على المصلي أن يتوجه في المكان الذي يصلي فيه إلى بيت المقدس فالتوجه في المكان إلى بيت المقدس هو هيئة من هيآت الصلاة في المكان فنسخ التوجه إلى بيت المقدس إنما يتناول هذه الهيئة فلم يكن نسخا للصلاة في المكان كما أنا لو أمرنا بصوم يوم عاشوراء على صفة وهي أن نكون في ذلك اليوم متوجهين إلى بيت المقدس ثم نسخ عنا التوجه فقيل لا تتوجهوا إلى بيت المقدس فإن ذلك لا يكون نسخا للصوم في ذلك اليوم على أن النسخ للتوجه ورد على وجه فيه تثبيت لجملة الصلاة لأن المروي في ذلك هو ألا إن القبلة قد حولت وفي ذلك تثبيت للصلاة وكذلك ما في القرأن من ذلك وهو قوله فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وهذا هو النسخ للتوجه إلى بيت المقدس لأن ذلك يقتضي وجوب التوجه إلى الكعبة ولا يصح الجمع بين التوجه إلى بيت المقدس وإلى الكعبة معا فوجوب أحدهما في كل صلاة يصليها ينفي وجوب الآخر فأما صوم عاشوراء فانه ما وجب إلا في ذلك اليوم فنظيره أن لا تجب الصلاة إلا في مكان مخصوص فلو قيل لا تصلوا في ذلك المكان لكان قد انتفت جملة الصلاة لأنها لم تجب إلا في ذلك المكان ألا ترى أنا نحتاج في وجوبها في مكان آخر إلى دليل آخر وكذلك إذا قيل لنا صوموا يوم عاشوراء ثم قيل لنا بعد حين لا تصوموا في يوم عاشوراء فان ذلك ينفي جملة الصوم لأنه لم يجب في زمان آخر وإنما وجب في هذا الزمان فقط فنفيه فيه نفي لجملته
فان قيل كون ذلك نسخا لجملة الصلاة لا يمنع مما نريده وهو أنه إذا كان يجوز صوم عاشوراء بنية بعد الفجر جاز في الصوم الواجب فيما بعد وهو صوم شهر رمضان أن يجب بنية بعد الفجر لأنه قد ثبت أن الشرع قد صحح

الصوم بنية بعد الفجر فاذا لم تغير الشريعة ذلك وجب أن يبقى على ما كان عليه قيل إنما كان يجب ذلك لو ورد في ذلك لفظ عموم نحو أن يقال كل صوم شرعي فانه يصح بنية بعد الفجر وقبل الزوال فأما إذا قيل هذا الصوم الواقع في صوم عاشوراء يصح بنية بعد الفجر فانه لا يجب مثله في صوم زمان آخر لأن ذلك عبادة أخرى ولا يجب أن تتفق العبادات في شرائط صحتها بل ذلك موقوف على دليل زائد على ما دل على أن النية بعد الفجر لا تمنع من صحة صوم عاشوراء
فان قالوا فما يؤمنكم أن يكون ما دل على صحة صوم عاشوراء بنية بعد الفجر هو لفظ عموم يشمل كل صوم شرعي في الحال وفيما يتعبد به فيما بعد قيل إذا كان ذلك غير مأمون وكذلك خلافه وجب على من أثبت أحدهما ليدل به على أن النية بعد الفجر يصح بها صوم شهر رمضان أن يدل على ما يبنى ذلك عليه ومتى لم يبين ذلك لم يصح دليله ويكفي من قصد الطعن علة أن يشكله فيما بنى عليه دليله

باب في العمومين إذا تعارضا
إذا تعارض العمومان من وجه دون وجه بأن يكون كل واحد منهما عاما فيما الآخر خاص فيه فقد ذكرنا في الكتاب أنه إن علم تقدم أحدهما على صاحبه وكانا معلومين أو مظنونين أو كان المتقدم منهم مظنونا والمتأخر معلوما فانه يجيء على قول من جعل العام المتأخر ناسخا للخاص المتقدم أن يكون المتأخر من هذين العمومين ناسخا للمتقدم لأنه إذا كان عندهم أن العام متأخر ينسخ الخاص المتقدم فيما لم يثبت كونه أعم من اللفظ المتقدم أولى بأن يكون ناسخا وهذا صحيح لأن هذا العموم المتأخر إن كان أعم من المتقدم فقد أطلقوا القول بأن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم ولم يبنوا العام المتأخر على الخاص المتقدم وإن كان هذا العموم المتأخر هو أخص من العام المتقدم فمن قولهم إنه يخرج ماتناوله من العموم المتقدم على جهة النسخ لا على جهة التخصيص لأن بيان التخصيص لا يتأخر عندهم أو عند

أكثرهم وليس ههنا ما يقتضي أن يحكم بأنه قد كان قارن العام ما دل على تخصيصه فلذلك جعلوا المتأخر ناسخا للمتقدم
ثم قلنا وإن كان المتقدم معلوما والمتأخر مظنونا لم يجز عندهم أن ينسخ الثاني الأول ووجب الرجوع فيهما إلى الترجيح لأن المظنون لا ينسخ المعلوم وإذا لم يكن الثاني منهما ناسخا وأمكن استعماله مع الترجيح وجب الرجوع إلى الترجيح وهذا صحيح وذلك أنه لا يمكن بمجرد هذا التعارض النسخ لأن النسخ إنما يكون بالشيء المتأخر والمتأخر من هذين العمومين مظنون والمتقدم منها معلوم والمظنون لا ينسخ المعلوم ولا يمكن أيضا لمجرد هذا التعارض أن نخرج من أحدهما ما تناوله الآخر لأجل أن الآخر أخص لأنه ليس يتخلص كون أحدهما أخص من الآخر فقد بان أنه لا يمكن بمجرد هذا التعارض لا نسخ ولا تخصيص فوجب الترجيح فان رجحنا المعلوم منهما بكونه معلوما ولم يثبت في المظنون وجه ترجيح استعملنا المعلوم وأخرجنا ما تناوله من المظنون لا لمجرد التعارض وأن لمعلوم أخص بل لأجل الترجيح وإن رجحنا المظنون منهما بكونه معلوما ولم يثبت في المظنون وجه ترجيح استعملنا المعلوم وأخرجنا ما تناوله من المظنون لا لمجرد التعارض وأن المعلوم أخص بل لأجل الترجيح وإن رجحنا المظنون لأن حكمه حظر أو إيجاب أخرجنا ما تناوله من المعلوم لأجل الترجيح أيضا واستدللنا بذلك على أنه قد كان قارب العموم المتقدم ما دل على تخصيصه وإخراج ذلك القدر منه لأنه إن لم يمكن كذلك كان الثاني ناسخا ولا يجوز نسخ المعلوم بالمظنون
ثم قلنا فأما من يقول إن العام المتأخر يبنى على الخاص المتقدم وأن الخاص المتأخر يخرج بعض ما دخل تحت العام المتقدم فالذي يجيء على مذهبه أن لا يفرق بين أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا في استعمال الترجيح وترك النسخ بأحدهما لأنه ليس يتخلص كون المتأخر أخص من المتقدم فيخرج من المتقدم ما دخل تحت المتأخر وهذا صحيح لأنا اردنا أنه لا يثبت عندهم بمجرد هذا التعارض إخراج ما تناوله أحدهما من الآخر لا على جهة النسخ ولا على جهة التخصيص والبناء اما النسخ فلأن عندهم أن العام المتأخر لا ينسخ الخاص المتقدم بل يبنى على

الخاص المتقدم فلو كان المتأخر أعم لم يجب فيه النسخ وليس يتخلص أن أحد هذين العمومين أخص من الآخر فيقال إن المتأخر منها أخص من المتقدم فيخرج ما تناوله من المتقدم إما بنسخ أو بأن يدل على مقارنة المخصص له فبان أن مجرد هذا التعارض لا يقتضي على قولهم لا نسخا ولا تخصيصا وأنه يجب الرجوع إلى الترجيح فان رجحنا المعلوم منهما بكونه معلوما أو المظنون بما يرجع إلى حكمه فلا بد من أن يخرج ما تناوله من الآخر إما على جهة نسخ أو تخصيص وليس ينقض ذلك قولنا إنه يجيء على مذهبهم أن لا ينسخوا ولا يخرجوا من أحدهما بعضه على جهة التخصيص لأنا قلنا لا يجب ذلك لمجرد التعارض قبل الترجيح ولم نقل إنهم بعد الترجيح لا يخرجون من أحد العمومين بعض ما تناوله بل قد دللنا بقوله إنه يرجع إلى التراجيح على أنه إذا ترجح أحدهما على الآخر فحكم بظاهره أنه يخرج ما تناوله من العموم الآخر ألا ترى أنا إذا رجحنا قول النبي صلى الله عليه و سلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وقلنا لا يصليها عند قيام الظهيرة فقد أخرجنا الصلاة المقتضية من مطلق نهيه صلى الله عليه و سلم عن الصلاة في هذا الوقت ولكن لم نفعل ذلك لمطلق التعارض فقد بان أن ما حكمنا به إنما حكمنا به على مطلق التعارض قبل الترجيح لأن الكلام إنما هو مفروض على مجرد التعارض

باب الدلالة على صحة القول بالإجماع
قول الله عز و جل كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر خرج مخرج المدح وتمييز هذه الأمة من سائر الامم فلا يجوز أن يراد بذلك أنهم يأمرون ببعض المعروف وينهون عن بعض المنكر لأن كل أمة قد نهم عن بعض المنكر وأمرت ببعض المعروف ولا يجوز أن يكون المراد أكثر ما ينهون عنه منكر لأن الخيار من الأمم السالفة الأكثر مما نهوا عنه منكر ولأن قولنا المنكر إما أن يكون لاستغراق

المنكر أو للجنس دون الاستغراق وليس لام الجنس موضوعة للأكثر ولا يجوز أن يراد بذلك الوصف لهم بأنهم فيما مضى كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لأن الكلام مدح لهم في الحال فلا يجوز أن يفيد تقدم كونهم على خصال المدح ولا يفيد حصولهم الآن على خصال المدح لأن الإنسان لا يكون مستحقا للمدح بما فعله من قبل إذا عدل عنه إلى ضده وخلافه حتى يكون ناهيا عن المنكر ثم يصير آمرا بالمنكرات فاذا ثبت أنهم ينهون عن كل منكر في كل حال إلا ما خرج بدليل فلو أجمعوا على خطأ لكانوا قد أجمعوا على منكر ولو أجمعوا عليه لكانوا غير ناهين عنه
دليل آخر قول الله عز و جل ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى يقتضي اتباع سبيلهم على ما بيناه في الكتاب فان قيل الاية تقتضي اتباع سبيلهم في الاستدلال على الحكم الذي قالوا به بدليل ولا يأخذوا به بغير دليل قيل كذلك نقول لأنا إذا أخذنا بذلك القول كنا قد أخذناه بدليل وهو إجماعهم وقد دل الدليل على صحته فليس في قولنا إنه يجب علينا الرجوع إلى قولهم تسليم للخصم أنا أخذنا بقولهم بلا دليل فتكون الآية حجة علينا
فان قيل يجب أن يستدل بما استدلوا به يعينه قيل لا يجب ذلك لأن أهل كل عصر لا يوجبون على المكلف الاستدلال على الحكم بدليل معين إذا أمكنه أن يستدل عليه بدليل آخر فلم يكن وجوب الاستدلال بدليلهم المعين سبيلا لهم فلم يدخل تحت الظاهر
إن قيل قول الله عز و جل ويتبع غير سبيل المؤمنين يقتضي ظاهره مؤمنين معينين وأن نصير إليهم لأنهم قالوا على ما قدرتموه في الكتاب ويقتضي ظاهر الآية ايضا أن يكونوا مؤمنين على الحقيقة بحسب ظننا إما الإيمان اللغوي أو العرفي أو الديني ولا سبيل لنا إلى العلم بذلك فليس لكم أن تتركوا هذا الظاهر بأولى من أن نترك الظاهر الأول ونقول المراد بذلك مؤمنين موصوفين كأنه قال ويتبع غير سبيل من حقها أن تكون سبيل

المؤمنين قيل إذا فعلتم ذلك تركتم الظاهر من وجهين
أحدهما أنكم تحملون الكلام على التكرار ونحن نحمله على فائدة محدودة وذلك أن سبيل المؤمنين في الجملة قد دخل في ترك مشاقة الرسول فزجره عز و جل عن مشاقة الرسول هو زجر عن اتباع سبيل المؤمنين لأنا قد علمنا أن مشاقته ليست سبيل المؤمنين
والآخر انكم إذا حملتم الاية على مؤمنين موصوفين احتجتم إلىإضمار حتى يكون تقدير الكلام ويتبع سبيلا من حقها أن تكون غير سبيل المؤمنين أو من حق المؤمنين أن لا يسلكوها وإذا حملنا نحن الإيمان على الإيمان اللغوي كنا تاركين للظاهر من وجه واحد وقول الخصم إنكم لا تحملون الآية على مؤمنين على الحقيقة بل على مؤمنين بحسب ظنكم لا يصح لأنا إذا حملنا ذلك على التصديق فنحن نعلم أنه لا يجوز أن يكون أهل كل عصر على كثرتهم يخبرون أنهم يؤمنون بما جاء به الإسلام وليس فيهم من يصدق بذلك أصلا أو ليس فيهم من يصدق بذلك إلا الواحد والاثنان بل نعلم أن الكثير منهم كذلك ونظن أن الكل كذلك
دليل آخر قول الله عز و جل فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فاقتضى هذا الشرط أنهم إن لم يتنازعوا لا يجب الرد إلى كتاب الله وسنة نبيه ولقائل أن يقول إن اراد الله بقوله فان تنازعتم في شيء أهل عصر واحد فليس يخلو إذا لم يتنازعوا إما أن يكونوا لم يردوا إلى الله والرسول فلا يجب اتباعهم ولا يكون قولهم صحيحا وإما أن يكونوا ردوا إلى الله والرسول فلا يصح أن يبيحهم ترك الرد إلى كتاب الله وسنة نبيه لأن ردهم الشيء إلى الله ورسوله هو طلب حكمه في الكتاب والسنة فاذا طلبوه فيهما فوجدوه فيهما لم يصح طلبه من بعد لأن طلب الإنسان لما هو واجد له محال وإباحة ترك المحال عبث وإن كان المراد بالآية أهل العصر الثاني مع أهل العصر الأول لم يصح القول بذلك لأن قوله فإن تنازعتم مواجهة لمن ترك القرآن وهو حاضر فعلمنا أن المراد بذلك تنازع

بعضهم مع بعض وأيضا فقد بخالف أهل العصر الثاني بعد انقراض الأول فلا يكون أهل العصرين متنازعين لأن التنازع بين اثنين هو أن ينازع كل واحد منهما الآخر وليس يمكن أن ينازع أهل العصر الأول لأهل العصر الثاني إن نازعوا أهل العصر الأول وجب عليهم الرجوع إلى قولهم إلى طلب الحكم في الكتاب والسنة والرجوع إلى الإجماع عند المستدل ليس هو رد إلى الكتاب والسنة لأنه لو كان ردا إليهما بطل قولهم إذا لم يتنازعوا لم يجب الرد إلى الكتاب والسنة ولا يجب عند المستدل ايضا إذا تنازع أهل العصرين أن يطلب أهل العصر الأول الحكم في الكتاب والسنة لأنهم قد طلبوا قولهم من قبل في الكتاب والسنة فوجدوه وطلب ما هم واجدين له محال فعند التنازع لا يجب على قولهم الطلب في الكتاب والسنة لا على أهل العصر الأول ولا على أهل العصر الثاني على قول المستدل فأما إذا لم ينازع أهل الثاني أهل العصر الأول فعلى موضوع الاستدلال مباح أن لا يردوا بأجمعهم إلى الكتاب والسنة ولا يصح هذه الإباحة لجميعهم لأن بعضهم وهم أهل العصر الأول قد رد ذلك القول إلى الكتاب والسنة وإباحة ترك طلب ما قد طلب ووجد عبث

باب الإجماع بعد الخلاف
إذا اختلفت الأمة في المسألة على قولين فقد سوغوا الأخذ بكل واحد منهما على قول من قال كل مجتهد مصيب بشرط بقاء الخلاف وكون المسألة من مسائل الاجتهاد لأنهم لو سئلوا عن علة جواز الأخذ بكل واحد منهما لعللوا بما ذكرنا فاذا أجمعوا على أحد القولين فقد زال الشرط وتناولتهم أدلة الإجماع ولا دليل يدل على اشتراط هذا الإجماع بشرط فلم يجز خلافه
باب الطريق إلى معرفة الإجماع
إذا لم تكن المسألة من مسائل الاجتهاد وقال فيها بعض أهل العلم قولا

وانتشر في أهل العصر وكان على أهل العلم فيها تكليف فان سكوتهم على النكير يدل على أنه صواب وأن خلافه خطأ لأنه لو كان منكرا لكانوا قد تطابقوا على ترك إنكار المنكر مع وجوب ذلك عليهم هذا إذا مر من الزمان ما ينقضي معه زمان المهلة لأنه مع ذلك يلزمهم أن يعتقدوا في المسألة حكما من الأحكام فيلزمهم إظهار الخلاف إذا كانوا مخالفين فأما أول ما ينتشر المسألة في أهل العصر قبل استيفاء النظر فانه لا يدل سكوتهم على رضاهم بذلك القول المنتشر والقسم الأول هو الذي اردناه في الكتاب والتعليل الذي ذكرناه في الكتاب يدل عليه

باب في قول الصحابة إذا لم ينتشر
إذا لم ينتشر القول في جميع أهل العصر وكانت البلوى بتلك المسألة عامة فقد ذكرنا في الكتاب أنه لا بد من أن يكون لغير من قال بالقول الذي لم ينتشر قول لأنه مكلف للنظر فيها فاذا كان له فيها قول وجب أن يكون موافقا لهذا القول لأنه لو كان مخالفا له لنقلته النقلة لعلمنا باهتمامهم بالنقل ولقائل أن يقول لا يتم ذلك في مسائل الاجتهاد على قول من قال كل مجتهد مصيب لأنه لا يمتنع أن يكون بعض المجتهدين لم يجتهد في الحادثة وإن لزمهم أن يجتهدوا فيها ليعلموا بها في أنفسهم ويكونوا قد أخطأوا في ذلك
فإن قلتم لو كان كذلك لأنكر عليهم الباقون فاذا لم ينكروا عليهم ولا هم أنكروا على أنفسهم فقد تطابقوا على أن لم ينكروا تركهم الاجتهاد قيل لكم لم يلزمهم أن ينكروا عليهم ذلك لأنهم لا يعلمون أنهم قد تركوا الاجتهاد في المسألة بل يجوزون أنهم إنما سكتوا لأنهم قد اجتهدوا فان قلتم إذا كان الأمر كذلك فقد تطابقوا على العدول عن الصواب قيل لا يصح ذلك على قول من قال كل مجتهد مصيب لأن القول الذي قاله من لم ينتشر قوله فهو صواب فما عدلوا بأجمعهم عن الصواب وإنما يتم ذلك على قول من قال إن الحق واحد بل يقال إن الصواب هو قول واحد فان لم يكن

ذلك القول الذي لم ينتشر هو الصواب كانوا قد عدلوا بأجمعهم عن الصواب

باب في اسم الخبر وحده
قد حد الخبر بأنه الذي يدخله الصدق والكذب واعترض ذلك بأن قول القائل محمد ومسيلمة صادقان خبر وليس بصدق ولا كذب واجاب قاضي القضاة عن ذلك بأنا أردنا بدخول الصدق والكذب أن الإنسان إذا صدق المخبر أو كذبه لم يحظر اللغة ذلك وهذه صورة هذا الخبر وهذا يقتضي أنه قد سلم أن هذا الخبر ليس بصدق ولا كذب وهذا يعترض ما يقوله من أن كل خبر فانه لا يخلو من أن يكون إما صادقا وإما كاذبا لأن هذا الخبر قد خلا منهما وإذا حددنا الخبر بأنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الامور نفيا أو إثباتا لم يلزم إذا قلنا زيد الظريف في الدار أن يكون قولنا زيد الظريف من جملة هذا الكلام خبرا لأن ذلك لا يفيد أنه ظريف كما أنا إذا قلنا الظريف في الدار لا يفيد أنا حكمنا بأن من أشرنا إليه بهذا الكلام هو ظريف وإنما أشرنا إليه بقولنا هو ظريف ثم أفدنا أنه في الدار كما نشير بقولنا زيد في الدار إلى أنه في الدار ولم نفد أنه يسمى زيدا ولنا أن نحترس من ذلك ونقول الخبر كلام تام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفيا أو إثباتا ونعني بقولنا كلام تام أنه لا يقتضي بوقع كلام آخر بل تقع به الفائدة بنفسه وليس كذلك إذا قلنا زيد الظريف لأن ذلك ليس بكلام تام
فان قيل قول القائل لا ثاني لله عز و جل هو خبر وليس يفيد إضافة أمر إلى أمر لأن الوجود ليس بصفة عندكم ولا الثاني ذاتا فتكونوا قد أضفتم نفي الصفة إلى الذات الجواب إنا نعني بقولنا إنه لا ثاني للقديم هو أن ما نعقله من ذات لها صفة القديم ليس لها وجود من خارج عقلنا سوى القديم عز و جل فقد نفينا عن عقلنا لما عقلناه من ذلك أن يتعلق بذات من خارج ليست بذات القديم عز و جل

باب في بيان وقوع العلم بالأخبار
قد قلنا فيه إنه لو كان كل ما أجمعوا على مقتضاه من أخبار الآحاد قد قامت الحجة به لم يصح الاستدلال باجماع الصحابة على العلم بأخبار الآحاد على جواز العمل على خبر مظنون غير مقطوع به إن قيل يصح الاستدلال على ذلك بأخبار آحاد لم يجمع الصحابة على العمل بها لكن عمل بعضهم بها ولم يعمل الباقون بها ولم ينكروا على العامل بها قيل أنتم استدللتم على العلم بخبر الواحد باجماعهم على العمل بخبر عبد الرحمن في المجوس وخبر حمل بن مالك في الجنين والخبر المروي في دية الأصابع كل ذلك قد أجمعوا على العمل به ولعله لا يوجد خبر عمل به بعضهم ولم ينكر من لم يعمل به على العامل به إلا خبر أو خبران أو ثلاثة مما لم يبلغ كثرة فيكون قد علم في الجملة أن الصحابة لم ينكر بعضها على بعض العمل بها
باب في شروط وقوع العلم بالخبر المتواتر
إذا قال قائل جوزوا أن يخبر المتواترون بالكذب لأن السلطان حملهم على ذلك بالرهبة لم يجز إبطال ذلك بأنه كان يجب أن يظهر رهبة السلطان لأن للسائل أن يقول حملهم على الكذب وعلى كتمان الرهبة وإنما كان للسائل أن يقول ذلك لأن المجيب لما تعاطى الجواب عن السؤال سلم صحة الشك في الاجتماع على الكذب للرهبة وإنه إنما يزول هذا الشك بالجواب فلزمه كما سوغ الشك في ذلك قبل النظر أن يسوغ الشك في الحمل على كتمان الرهبة قبل النظر وينبغي أن يقال إنه لا يمكن أن يضبط السلطان الكثرة العظيمة حتى يرهبها فلا تتحدث بالكذب عن كل إنسان وفي كل حال بل كثير منهم لا يتحدث به وكثير منهم يظهر خلاف الكذب عند خاصته وثقاته ثم لا يلبث الصدق أن يشيع

باب التعبد بالخبر الواحد
إن قيل لا يمتنع أن يكون بعض الصحابة عمل على الخبر الواحد ولم ينكر عليه غيره لأن غيره كان ناظرا متوقفا في وجوب العمل به فلذلك لم ينكره وليس في ذلك اتفاق منهم على ترك الواجب لأنهم وإن اتفقوا على ترك إنكار العمل بذلك مع أن العمل به منكر في نفسه فانهم لم يتفقوا على ترك الواجب لأن هؤلاء الناظرين لا يجب عليهم الإنكار لأنهم ناظرون الجواب إن الله عز و جل إذا كلف المجتهدين أن يعرفوا هل تعبدهم بالعمل بأخبار الآحاد أم لا فلا بد من أن يمضي عليهم من الزمان ما يتمكنون فيه من الوصول إلى ما كلفهم فاذا مضى هذا الزمان ولم ينكروا العمل بأخبار الآحاد فلو كان العمل بها منكرا لكانوا قد أجمعوا على ترك الواجب إذ الإنكار واجب
دليل ورود التعبد بخبر الواحد هو أنه لا يجوز أن يكون ما روي من أخبار الآحاد على كثرتها لم يقل النبي صلى الله عليه و سلم شيئا منها بل ينبغي أن يكون جميعها أو كثير منها قد قاله النبي صلى الله عليه و سلم وليس يجوز أن يكون ما قاله صلى الله عليه و سلم من ذلك تعبدا لمن شافهه النبي صلى الله عليه و سلم دون من لم يشافهه لأن الإجماع بخلاف ذلك ولأنه لو كان كذلك لبين النبي صلى الله عليه و سلم أن التعبد بذلك مقصور على من شافهه دون من لم يشافهه ولم بين ذلك في هذه الأخبار مع كثرتها ومع إشاعته لهذا البيان لما جاز أن ينكتم ذلك ولا ينقل فثبت أن التعبد بذلك يتوجه إلى من شافهه النبي صلى الله عليه و سلم ومن لم يشافهه ممن يأتي بعده ولا يخلو إما أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قد شافه بها من يكون نقله متواترا وإما أن يكون شافه بذلك الآحاد والأول يقتضي أن ينقل عنه متواترا لأنه لا يجوز أن يشيع النبي صلى الله عليه و سلم حكما عاما فلا ينقل متواترا فثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم شافه بهذه الأخبار الآحاد فلو كان العمل بها لا يلزمنا إلا بنقل متواتر لكان النبي صلى الله عليه و سلم قد تعبدنا بما لم يجعل لنا طريقا إلى أن تعبدنا به فان قيل ليس يجب إذا أشاع النبي صلى الله عليه و سلم الخبر بحضرة من يكون نقله

متواترا أن ينقلوه متواترا لأن الإنسان قد يتكلم بأنواع كثيرة من الكلام بحضرة الجماعات الكثيرة فلا تنقل جماعتهم عنه كل ما تكلم به بل قد يروي الواحد عنه شيئا والآخر عنه شيئا آخر فلم زعمتم أنه يجب ما ذكرتم قيل لو لم ينقلوه متواترا مع وجوب ذلك عليهم لكانوا قد أجمعوا على ترك النكير مع وجوب النكير عليهم لأن الناقل لم ينكر على من لم ينقل ومن لم ينقل فمعلوم أنه لم ينكر ترك النقل ولقائل أن يقول جوزوا أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قد شافه بالحكم من يحج نقله وهم بعض الامة وليس خطأهم هو خطأ جميع الأمة جواب آخر عن السؤال وهو أن النبي صلى الله عليه و سلم لو كان شافه بهذه الأخبار من يتواتر الخبر بنقله وكان من دينه العمل بالمتواتر من الأخبار دون الآحاد لكان قد أوجب عليهم التواتر وأعلمهم بذلك ولا يجوز في العادة أن يتدين الجماعة العظيمة بوجوب نقل كلام رجل ويكونوا على غاية الحرص على نقل كلامه وأحواله ويوجب عليهم ذلك ولا ينقل الجماعة كلامه الذي شاع فيهم واعتقدوا وجوب نقله عليهم لأن ما هم عليه من شدة الحرص على نقل كلامه يمنع من ذلك ويفارق ذلك سماع الجماعات الكثيرة أنواع الكلام من الواحد منا لأنها غير حريصة على نقل كلام الواحد منا فان كان لها في ذلك غرض واشتد حرصها عليه وجب أن تنقله فأما كلام النبي صلى الله عليه و سلم وأحواله فقد علمنا من حال الصدر الأول شدة الحرص على نقله حتى نقلوا منه ما لا يتعلق به حكم
فان قيل أليس قد روي عنه بالآحاد أخبار كثيرة في التوحيد والعدل والوعيد والشفاعة وغير ذلك مما يتضمن علما لا عملا ولا يجوز أن يكون صلى الله عليه و سلم ما قال شيئا من ذلك لكثرته فيجب أن يكون قد قاله أو بعضه فان كان قد قاله عن الجماعة العظيمة ولم تنقله متواترا فقد انتقض قولكم إن ما يشيعه النبي صلى الله عليه و سلم يجب أن ينقل عنه متواترا وإن لم يشعه كان قد اقتصر على الواحد فيما لا يكون خبر الواحد حجة فيه قيل إن ما روي عنه من ذلك لا يداني ما روي عنه صلى الله عليه و سلم من الأحكام الشرعية وأيضا فما

روي عنه من ذلك إن كان موافقا لدليل العقل فليس يمتنع أن يشافه النبي صلى الله عليه و سلم به بعض الناس ولا يجعل نقل ذلك البعض حجة على من ينقله إليه لأنه لا يلزم من ذلك أن لا يكون لنا طريق إلى العلم بما كلفنا لأن العقل طريقنا إلى العلم بما تضمنه الخبر وإن كان ظاهر الخبر بخلاف مقتضى العقل فمراد النبي صلى الله عليه و سلم به خلاف ظاهره فاذا شافه به الواحد فقد تعبده أن يناوله ويحمله على المجاز حتى يوافق دليل العقل وليس يجب أن يتعبد غيره بذلك الخبر إلا أن يروى له فيلزمه أن يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم إن كان قاله فمراده المجاز الموافق لدليل العقل وأنه لم يرد ظاهره وهذا ليس بموقوف على أن يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله فيلزم أن يجعل له طريق إلى العلم بان النبي صلى الله عليه و سلم قاله تمت الزيادات بحمد الله واهب العطيات

-

كتاب القياس الشرعي لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري رحمه الله
وقد صنفه قبل كتاب المعتمد كما يظهر من الإشارات العديدة إليه في كتاب المعتمد من المخطوطة الوحيدة في لاله لي باستانبول

بسم الله البرحمن الرحيم
كتاب القياس الشرعي
اعلم أن الغرض بهذه المسألة أن نورد الوجوه التي يتكلم بها في القياس الشرعي على قسمة ملخصة ونذكر ما يدور بين الفقهاء في مناظرة الفقه دون ما يختص أصول الفقه نحو الدلالة على المنع من تخصيص العلة وما أشبه ذلك ونحن أولا نجد القياس لنستخرج من حده القسمة التي يترتب الكلام في القياس عليها
فصل في حد القياس
القياس هو إثبات حكم الأصل في الفرع لاجتماعهما في علة الحكم وهذا الحد لا يشمل أنواع القياس كلها وإنما يشمل قياس الطرد فقط والفقهاء يسمون قياس العكس قياسا وليس هو إثبات حكم الأصل في الفرع لاجتماعهما في علة الحكم وإنما هو إثبات يقتضي حكم الشيء في غيره فينبغي إذا أردنا أن نحد القياس بحد يشمل قياس العكس وقياس الطرد أن نقول القياس هو إثبات الحكم في الشيء بالرد إلى غيره لأجل علة وذلك أن قياس العكس هو رد الفرع إلى أصل لكنه رد إليه ليثبت في الفرع نقيض حكمه ولا بد من اعتبار علة في الأصل أيضا واعتبار نقيضها في الفرع مثال ذلك أن نستدل على أن الصوم من شرط الاعتكاف بأن نقول لو لم يكن من شرطه لم يلزم أن يعتكلف بالصوم إذا نذر أن يعتكف بالصوم كما أن الصلاة لما لم تكن من شرط الاعتكاف لم تكن من شرطه وإن نذر أن يعتكف بالصلاة فالأصل ههنا هو الصلاة وحكمه أنه ليس من شرط الاعتكاف ونحن نريد أن نثبت نقيض هذا الحكم في الصوم والعلة في الصلاة هي أنه لا يلزمه بالنذر

ونقيضها ثابت في الصوم
فاذا قد حددنا القياس فينبغي أن نقسمه فنقول القياس الشرعي ضربان قياس طرد وقياس عكس أما قياس العكس فهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع باعتبار علة وإن شئت قلت لتباينهما في العلة وأما قياس الطرد فهو إثبات حكم الأصل في الفرع لاجتماعهما في علة الحكم فقد ظهر من هذا الحد أن قياس الطرد لا يخلو من أصل وفرع وعلة وحكم فالحكم هو المنقسم إلى الوجوب والندب والمباح وكون الفعل مكروها ومحظورا والأصل ما سبق العلم بحكمه وإن شئت قلت هو الذي يتعدى حكمه إلى غيره والفرع هو الذي يتأخر العلم بحكمه وإن شئت قلت هو الذي يتعدى إليه حكم غيره والمتكلمون يذهبون في الأصل إلى أنه دليل الحكم نحو الخبر الدال على إثبات الربا في البر ويذهبون في الفرع إلى أنه الحكم المستفاد بالقياس نحو تحريم الارز وعرف الفقهاء جاز على خلاف ذلك والعلة هي التي لأجلها يثبت الحكم
ولما كان قياس الطرد لا يشتمل إلا على هذه الأشياء الأربعة الأصل والفرع والحكم والعلة وجب أن يكون الكلام في القياس لا يتعداها وأن يكون إما كلاما متعلقا بالأصل أو الفرع أو بالحكم أو بالعلة ولتعلق الفرع والأصل والحكم والعلة بعضها ببعض ما يتعلق الكلام في بعضها بالكلام في بعض وإذا أمعنا النظر في ذلك علمنا أن الكلام في القياس إما أن يكون كلاما في العلة أو في الحكم والكلام في الحكم إما أن يكون كلاما فيه نفسه أو يكون كلاما فيه بحسب تعلقه بالأصل أو بحسب تعلقه بالفرع أو بحسب تعلقه بالفرع والأصل جميعا والكلام في العلة إما أن يكون كلاما في وجودها وإما أن يكون كلاما في غير وجودها والعلة يجب أن تكون موجودة في الأصل وفي الفرع فيجب أن تنظر في كلا الأمرين أعني أنك تنظر في وجودها في الأصل وفي وجودها في الفرع وأما نظرك في العلة لا من قبل

وجودها فضربان أحدهما أن تنظر في تصحيحها والثاني أن تنظر في إفسادها ونحن نفصل ذلك فصولا إن شاء الله

فصل في الكلام في الحكم
أعلم أن الحكم لما وجب أن يكون موجودا في أصل القياس وفرعه جاز أن يكون نظرك فيه له تعلق بالأصل وحده أو بالفرع وحده أو بالأصل والفرع معا وجاز أن يكون نظرك في الحكم يختصه ولا يتعلق بالأصل ولا بالفرع فأول ما يرد عليك القياس فينبغي أن تعمد إلى أصله فتنظر هل الحكم موجود فيه أم لا فانه ريما قاس على أصل اجتمعت الأمة على أن حكم القياس منتف عنه وربما كنت أنت تخالفه في وجود الحكم في الأصل فتمنع القائس من القياس إن كنت سائلا أو تنقل الكلام إلى الأصل إن كنت مسئولا وإذا وجدت الحكم في الأصل فانظر هل هو موجود في جميع الأصل أم ليس بموجود في جميعه فانه إن كان موجودا في بعضه وكان القائس قد ظهر في كلامه أنه قصد أن يرد الفرع إلى جميع الأصل أعلمته أنه لم يأت بما قصد إلى إيراده وكان لك أن تأخذه بذلك وأيضا فانظر هل الحكم ثابت في الأصل بقياس على أصل آخر أم لا فانه ربما رد القائس فرعا إلى أصل بعلة من العلل ويكون الحكم إنما يثبت في ذلك الأصل بعلة أخرى مثال ذلك أن يرد من طلعت عليه الشمس وهو يتشهد في صلاة الصبح إلى من خرج وقت المسح على خفيه وهو جالس في التشهد الذي بعلة أنه خارج من الصلاة بغير فعله فيجب أن تبطل صلاته ويرد هذا الأصل إلى المسافر إذا نوى الإقامة وهو جالس للتشهد بعلة أنه معني لو طرى في أول الصلاة لغير الفرض فوجب إذا طرى في آخرها أن يكون كطرئه في أولها ومعلوم أن علة الفرع الثاني وهي الخروج من الصلاة بغير فعله ولا يوجد في الأصل الأول
واختلف الناس في ذلك فمنع منه قوم قالوا لأن الفرع إنما يرد إلى الأصل إذا شاركه في علة حكمه قالوا وعلة هذا الأصل هي علة أخرى لا

يوجد في الفرع الثاني وقد أجاز ذلك قوم وقالوا العلة التي يثبت الحكم بها في الأصل هي كالنص في أنها طريق الحكم وليس يمتنع أن يعلم بالدليل أن يكون لعلة أخرى تأثير في ذلك الحكم فترد بها بعض الفروع إليه فهذا هو نظرك في الحكم بحسب تعلقه بالأصل
وأما إذا نظرت فيه بحسب تعلقه بالفرع فقط فهو أن تنظر هل الحكم يمكن وجوده في الفرع أم لا فانه ربما منع نص أو إجماع من وجوده في الفرع فان لم يمنع نص أو إجماع من ذلك فانظر هل يمكن أن تثبت الحكم في الفرع بقياس أم لا فانه ربما كان الحكم كفارة أو حدا أو تقديرا أو حكما مخصوصا من جملة القياس وهذا لا يجوز إثباته بالقياس عند بعض الفقهاء فان كنت ممن يأبى ذللك وكنت سائلا أمكنك إيقاف وإن كان الحكم يمكن وجوده في الفرع بقياس فانظر هل هو موجود في جميع الفرع أو في بعضه فان كان موجودا في بعضه وكان القائس قد شرط على نفسه أن يرد الفرع كله إلى الأصل ثم لم يفعل كان لك أن تأخذه بما شرط على نفسه وما قصده بالقياس فهذا هو نظرك في الحكم بحسب تعلقه بالفرع
وأما نظرك في الحكم بحسب تعلقه بالأصل والفرع جميعا فهو أن تنظر هل يمكن أن يستفاد حكم ذلك الفرع من ذلك الأصل أم لا فانه قد يكون موضوع الأصل على التغليظ وموضوع الفرع على التخفيف ويكون الحكم تخفيفا وهذا هو اختلاف موضوع الأصل والفرع فلك أن تمنع من هذا القياس وتقول إن اختلاف موضوع الأصل والفرع كالأمارة على أن حكم أحدهما مباين لحكم الآخر وللقائس أن يقول إنه لا يمتنع أن يكون الأصل والفرع متباينين في بعض الأحكام ومتفقين في بعض آخر فاذا دللت على صحة العلة وجب أن يشركا في الحكم الذي تقتضيه تلك العلة
وأما نظرك في الحكم من غير أن يكون له تعلق بالأصل والفرع فهو أن تنظر هل يمكنك أن تقول بالحكم الذي علقه القائس على العلة فانه ربما علق

القائس على علته حكما مجملا يمكنك أن تقول به وهذا هو القول بموجب العلة وإذا أمكنك ذلك بان أن القائس لم يدل على موضع الخلاف مثال ذلك أن يعلل معلل كون الصوم شرطا في الاعتكاف بأنه لبث في مكان مخصوص فوجب أن يكون من شرطه معنى يقارنه قياسا على الوقوف بعرفة فان لك أن تلتزم هذا الحكم وهو إشراط معنى إذا كان القائس لم يفصل المعنى فهذا هو الكلام في حكم العلة لا بحسب تعلقه بغيره ولك أن تقول إن القول بموجب العلة هو الكلام في الحكم بحسب تعلقه بالفرع

فصل في الكلام في العلة
اعلم أنا قد قلنا إن الكلام في العلة إما أن يكون كلاما في وجودها أو في غير وجودها وإن الكلام في غير وجودها ينقسم إلى الكلام في تصحيحها وإلى الكلام في إفسادها فاذا نظرت في وجودها فانظر هل هي موجودة في جميع الأصل أو في بعضه فانه قد يجوز أن تكون العلة موجودة في بعض الأصل ويكون المعلل قد رام أن يرد الفرع إلى جميع الأصل فاذا لم تكن العلة شائعة في جميع الأصل بطل ما رامه فان رد الفرع إلى الموضوع الذي وجدت فيه العلة من الأصل نظرت فان جاز أن يكون بعض الأصل معللا دون بعض أجزت للقائس ما فعله وإن لم تجز أن يكون بعض الأصل معللا دون بعض ولم تجز مع ذلك أن يكون علة جميع الأصل إلا علة واحدة بطل قياسه ومثال ذلك منع أصحاب الشافعي من قياس الجص على البر بعلة أنه مكيل بقولهم إن علة تحريم البر هي علة واحدة شائعة في جميع البر والكيل ليس بشائع في جميع البر لأن الحبة والحبتين لا يتأتى فيهما الكيل وأصحابنا يجيبون عن ذلك بأن المحرم من البر ليس له علة واحدة وهي الكيل لأن المحرم ليس هو إلا ما يتأتى فيه الكيل من البر لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع البر بالبر إلا كيلا بكيل فأجاز بالكيل ما منع منه بغير كيل والذي يجوز بيعه إذا تساوى في الكيل هو ما يتأتى فيه الكيل فيجب أن يكون ما يتأتى فيه الكيل هو ما

يحرم بيعه إذا تفاضل فهذا هو الكلام في وجود العلة في الأصل
فأما نظرك في وجود العلة في الفرع فهو أن تنظر هل العلة موجودة في الفرع عندك وإن كانت موجودة فيه فهل هي موجودة في جميعه أو في بعضه فانه ربما وصف القائس الفرع بصفة لا يجوز عند خصمه أن يكون موصوفا بها وقد يجمع المسلمون في ذلك الفرع على أنه لا يجوز أن يثبت حكمه إلا بعلة واحدة فيكون ذلك مبطلا لتعليل من علله بعلة واحدة لا توجد في جميعه

فصل فيما يدل على صحة العلة
يدل على صحتها النص والاستنباط أما النص فإما أن يدل على صحتها بصريحه وإما أن يدل على صحتها بضرب من التنبيه أما صريح النص فهو أن يقول الله عز و جل أو نبيه أو الأمة أو القائسون من الأمة إن هذا محرم لعلة كذا أو لأجل كذا أو لأنه كذا أو لكيلا يكون كذا وأما تنبيه النص فنحو أن يفرق النبي صلى الله عليه و سلم بين شيئين ويذكر علة أحدهما فنعلم أن عكس تلك العلة قائم في الشيء الآخر وأنه علة في نقيض حكم الشيء الأول مثاله امتناع النبي صلى الله عليه و سلم من الدخول على قوم عندهم كلب ودخوله على قوم عندهم هر وقوله إنها ليست بنجس فدل ذلك على نجاسة الكلب وأنه هو العلة في امتناع دخوله على أربابه ودل قوله في الهر إنها من الطوافين عليكم والطوافات على أن ذلك هو علة طهارة الهر وأن كون الكلب ليس من الطوافين علينا مما يجوز أن يؤثر في نجاسته وما يجري مجرى التنبيه الجواب بالفا نحو قول الله سبحانه والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما فان ذلك يدل على أن سبب القطع وعلته هو السرقة
فأما ما يدل على صحة العلة من جهة الاستنباط فانه يكون من وجوه

منها أن يجمع القائسون على أن الأصل معلل بعلل محصورة لا يجوز الزيادة عليها وتفسد جميعها إلا واحدة منها فنعلم أنها هي العلة لأنها لو لم تكن هي العلة انتقض القول بأن العلة لا تخرج عن تلك الأوصاف المذكورة
ومنها أن يكون الحكم يوجد بوجودها في الأصل ويرتفع بارتفاعها إلا أن يخلفها على أخرى وقد شرط في ذلك أن لا يكون هناك وصف آخر له تأثير في الأصل هو منها بأن يكون علة والذي يبين أن هذا الوجه يدل على صحة العلة أن الحكم إذا وجد بوجود العلة في الأصل وارتفع بارتفاعها غلب على الظن أنها مؤثرة فيها ولم يجز أن يكون تجويزها تأثيرها فيه وتجويز كونها غير مؤثرة فيه على سواء لا مزية لأحدهما على الآخر لأن وجود الحكم بوجودها وارتفاعه بارتفاعها يقتضي لا محالة أن يكون الحكم بتلك العلة أخص
ومنها أن يكون العلة لها تاثير في قبيل ذلك الحكم وجنسه فيغلب على الظن أن كونها علة فيه أولى من غيرها مثال ذلك كون البلوغ علة في رفع الحجر في النكاح لأن للبلوغ تأثيرا في رفع جنس الحجر وقبيله فكان أولى من الثيوبة في رفع حجر النكاح يبين ما ذكرنا أن الحجر إنما يثبت لغرض قد علمناه وهو نقصان العقل المخل بمعرفة مصالح الإنسان في تصرفه المقتضي لقلة الخبرة بالامور فاذا كان هذا هو المثبت للحجر وكان هذا المعنى منفيا بالبلوغ ظهر أن البلوغ يجب أن يكون علة زوال ذلك إلا أن يثبت أن النكاح يختص بمعنى آخر يحصل به الخبرة نحو الثيوبة التي يذكرها الشافعي فينظر في ذلك فكل حكم يثبت لغرض من الأغراض فإنا نعلم أن زوال ذلك الغرض إلى خلافه يقتضي زوال ذلك الحكم إلا أن يخلف ذلك الغرض غرض آخر سيما إن شهدت الاصول بذلك كما ذكرناه من زوال الحجر عن المال بالبلوغ
وقد استدل قوم على صحة العلة بوجوه أخر
منها قولهم إنها قد سلمت من وجوه الفساد ويقال على ذلك إن عددتم

في وجوه الفساد التي قد سلمت العلة منها عدم الدلالة على صحتها فأقيموا الدلالة على صحتها لنسلم قولكم إنها قد سلمت من عدم الدلالة على صحتها وإن لم تعدوا عدم الدلالة على صحة العلة من وجوه الفساد وقلتم إن العلة إذا سلمت من النقض والقلب والعكس وما جرى مجراها فهي صحيحة لم نسلم لكم أن ما سلم من هذه الوجوه فهي علة صحيحة
ومنها قولهم إن عجز الخصم عن إفسادها يدل على صحتها وهذا لا يدل لأن الخصم قد يعجز عن إفساد الفاسد لأن أكثر ما في عجز الخصم عن إفسادها كونها سليمة من وجوه الفساد وهذا هو الرجوع إلى الوجه الأول وقد تكلمنا عليه فان قيل أليس عجز العرب عن معارضة القرآن دليلا على إعجازه فهلا عجز الخصم عن إفساد العلة ومعارضتها على صحتها الجواب إن القرآن إنما كان معجزا لنقضه لعادة الفصحاء ومباينته لما تقدرون علته فاذا عجزوا عن الإتيان بمثله وبما يقارنه علم أنه مباين لما تقدرون علته فثبت أنه ناقض للعادة وأما العلة فليس وجه صحتها كونها ناقضة للعادة حتى يدل عجز الخصم عن الإتيان بمثلها على إعجازها ولو كان كذلك لكان عجز الناس عن معارضتها يدل على نقضها للعادة وليس هذا من الكلام في صحة العلة بسبيل
ومنها قولهم إن جريان العلة في معلولها دليل على صحتها وهذا لا يصح لأن جريان العلة في معلولها معناه هو أن المعلل علق بها الحكم في كل موضع وجدت فيه وهذا هو فعله وليس يدل فعله على صحتها ولأنه قد كان ينبغي أن يدل المعلل على صحتها في الأصل أولا حتي يحسن منه أن يعلق الحكم بها في الفروع فقد علم أن جريان العلة في معلولها فرع على إقامة الدلالة على صحتها فلا يجوز أن يجعل دليلا على صحتها يبين ذلك أن محصول هذا الدليل هو انا لما منعنا المعلل من تعليق الحكم بالعلة وذممناه على ذلك اعتذر من ذلك بأن قال إني اعلق الحكم بها في مواضع أخر ونحن إذا منعناه من الأول وخالفنا فيه فأولى أن نخالفه ونمنعه مما جعله عذرا لنفسه

فصل فيما يختص العلة من الوجوه المفسدة لها
اعلم أن العلة قد يدل على فسادها قول الأمة وقد يدل على فسادها الاستنباط مثال الأول أن يقيس الإنسان قليل البر في ثبوت الربا فيه على قليل الذهب والفضة بعلة أن كل واحد منهما يثبت الربا في كثيره وذلك أن القائسين أجمعوا على أن المحرم من البر محرم لعلة واحدة وهي إما كيل أو غيره ولم يقل أحد إن المحرم من البر له علتان ولا قال إن البر فرع على غيره فتعليل قليل البر بأنه يثبت الربا في كثيره مجمع على فساده
وأما ما يدل على فسادها من جهة الاستنباط فوجوه منها أن يكون تعليلا بالاسم ومنها اختلاف موضوعها مع الحكم ومنها عدم التأثير ومنها القلب ومنها النقض ومنها الكسر ومنها أن تعارض العلة بعلة في الأصل أو تعارض جملة القياس بقياس أما التعليل بالاسم فضربان احدهما أن يعلل معلل تحريم الخمر لأن العرب تسمية خمرا وهذا تعليل فاسد لأنه يبعد أن يكون لتسمية العرب إياه بذلك تأثير في تحريمه والآخر أن يعلل تحريمه بجنسه نحو أن يعلل تحريمه بكونه خمرا وهذا غير فاسد لأنه لا يمتنع أن يكون لكونه خمرا تأثير في التحريم وكما يجوز التعليل بذلك كذلك يجوز التعليل بصفة من الصفات أو بحكم من الأحكام الشرعية فيجعل الحكم الشرعي علة في ثبوت حكم آخر شرعي لأنه لا يمتنع أن يكون بعض الاحكام أمارة في ثبوت بعض آخر بأن يكون بينهم تعلق يقتضي ذلك وأما اختلاف الوضع فنحو أن يعلل الإنسان حكما من الأحكام بحكم آخر شرعي ويكون أحد الحكمين مبينا على التخفيف والآخر مبنيا على التغليظ فيجوز أن يجعل ذلك أمارة تقتضي أن لا يعتبر أحدهما بالاخر ولقائل أن يقول إنه لا يمتنع أن يكون أحدهما معتبرا بالآخر إذا دل الدليل على ذلك وكذلك لا يمتنع أن يقاس الفرع على الأصل

وإن أحدهما مبنيا على التخفيف والآخر على التغليظ إذا كان الجامع بينهما علة مدلولا على صحتها فان قيل إنه لا يجوز أن تدل الدلالة على صحة علة مثل هذه العلل انتقل الكلام مع الخصم إلى إقامة الدلالة على صحة العلة فاما عدم التأثير فهو أن يذكر المعلل في جملة أوصاف العلة وصفا لو عدم من الأصل لم يعدم الحكم عنه فنعلم بذلك أنه لا يجوز أن تكون العلة مجموع تلك الأوصاف بل ينبغي أن نرفض منها ذلك الوصف لأنه لو جاز أن يجعل في جملة العلة ما يضر فقده في ثبوت الحكم في الأصل وجب إثبات ما لا نهاية له من الأوصاف التي لا يضر فقدها في ثبوت الحكم في الأصل فان كنا متى رفضنا ذلك الوصف عن تلك العلة التي انتقضت بفرع من الفروع وجب أن يدل انتقاضها على فسادها ولا يجوز ضم الوصف إليها لتسلم العلة من النقض لأن العلة يجب أن نعلم أولا أن حكم الأصل يعلق بها ثم يجري في الفروع فاذا لم يؤثر وصف منها في حكمه لم يجز أن يكون من جملة علته وإذا وجب إسقاطه من العلة وكان ما عداه من الأوصاف منتقضا علم فساد العلة وأما قلب القياس فهو أن يعلق بالعلة نقيض الحكم المذكور في القياس ويرد الفرع بتلك العلة إلى الأصل الذي يرد إليه فرع القياس مثاله أن يعلل معلل كون الصوم شرطا في الاعتكاف فيقول لأنه لبث في مكان مخصوص فوجب أن يكون من شرطه اقتران معنى آخر إليه أصله الوقوف بعرفة وللخصم أن يقلب القياس فيقول لأنه لبث في مكان مخصوص فوجب أن يكون لا من شرطه الصوم قياسا على الوقوف بعرفة فاذا كانت العلة تتعلق بها الحكم ونقيضه لم يكن بأن يكون علة في أحد الحكمين أولى من ان يكون علة في الآخر والقلب يكون على ضربين أحدهما أن يكون أحد الحكمين اللذين علقا بالعلة مجملا والاخر مفصلا مثاله ما ذكرنا من القياس في الاعتكاف وذلك أن من قال فوجب أن يكون من شرطه معنى آخر قد أجمل الحكم ومن قال فوجب أن لا يكون الصوم من شرطه قد فصل والصحيح أن تكون مثل هذه العلة يدل على الحكم المفصل ولا يبطل إذا أمكن أن يعلق بها الحكم

المجمل لأن المجمل ليس ينافي المفصل وذلك لأن النية هي معنى ما ولا يمتنع أن لا يكون الصيام شرطا في العبادة وإن كان من شرطها معنى هو النية وإنما يجب أن تبطل العلة إذا تعلق بها حكمان يمتنع اجتماعهما لأنه لا يكون ثبوت أحدهما لأجلها أولى من ثبوت الآخر وليس يمكن أن يتعلق بالعلة الواحدة حكمان مفصلان يتناقضان لأن الحكمين متى تناقضا وجب أن يكون أحدهما كذبا والآخر صدقا ومن حق القياس إذا قلب أن يكون الذي يقلبه والذي قلب عليه صادقين في الحكم والضرب الآخر في القلب هو قلب التسوية وهو أن يقول القالب فوجب أن يستوي كذا مع كذا فاذا ثبت وجوب استوائهما في الحكم وكان أحدهما محظورا وجب أن يكون الآخر مثله فان كان القلب ينتقض أو يلحقه وجه آخر من وجوه الفساد لم تبطل العلة لأن العلة إنما تبطل إذا أمكن أن يعلق بها حكمان نقيضان ولا يكون تعلق أحدهما اولى من الآخر فاذا انتقضت العلة مع احد الحكمين كان تعليق الحكم الآخر بها أولى وأما النقض فهو وجود العلة في موضع قد عدم حكمها عنه ولهذا متى علل المعلل للجملة ثم نوقض بالتفضيل لم يكن ذلك نقضا لأن حكم العلة هو الجملة ولم يعدم هذا عن الموضع الذي وجدت فيه العلة وإنما عدم الحكم المفصل والحكم المفصل لم يكن حكمها الذي علق بها فأما إن علل معلل للتفصيل فنوقض بالجملة فانه يكون نقضا صحيحا لأن الجملة يدخل فيها التفصيل ألا ترى أن من علل وجوب القياس في قتل الذمي عمدا بانه حر مكلف فنوقض بالحربي لأنه حر مكلف ولا يثبت بيننا وبينه قصاص أصلا لا عمدا ولا خطأ فقد نوقض بنفي الحكمين في الجملة والتفصيل داخل فيه وهو وجوب القصاص في قتل العمد ومثال النقض بالتفصيل إذا ورد على الجملة أن يعلل معلل قتل المسلم بالذمي لأنهما حران مكلفان محقونا الدم فوجب أن يثبت بينهما قصاص فتناقض بالمسلم إذا قتل ذميا خطأ وهذا ليس بنقض صحيح لأن المعلل إنما أثبت بينهما قصاصا على بعض الوجوه وليس ينتقض هذا إلا بأن يؤخذ حران مكلفان

محقونا الدم ولا يثبت بينهما قصاص بوجه وقد يحترس من النقض بوجوه منها الاحتراس بالأصل ومنها الاحتراس بشرط يذكر في حكم العلة ومنها الاحتراس بحذف الحكم والاقتصار على التشبيه بالأصل مثال الاحتراس بالأصل أن يعلل معلل قتل المسلم بالذمي بأنهما حران مكلفان محقونا الدم كالمسلمين فاذا نوقض بقتل الخطأ قال إني إنما رددت الفرع إلى المسلم وأنا أقول في الفرع مثل ما قلته في الأصل فأنا أوجب القصاص في العمد دون الخطأ وهذا الاحتراس لا يصح لأن النقض هو عدم الحكم عن الموضوع الذي وجدت فيه العلة الملفوظ بها لأن العلة الملفوظ بها هي المؤثرة في الحكم لا غيره والحكم هو المنطوق به لا غير فاذا فعل ذلك تم النقض وقول المعلل إني أوجب في الفرع مثل ما يجب في الأصل لا يصح لأنه إنما اقتضى لفظه أن يسوي بين الفرع والأصل فيما صرح به من ثبوت القياس وما عدا ذلك لم يدل عليه لفظة وإنما أضمره والنقض إنما يتوجه نحو المظهر دون المضمر وأما الاحتراس بحذف الحكم فهو أن يذكر المعلل العلة ولا يذكر الحكم ولكنه يقول عقيب العلة فأشبه الفرع كيت وكيت وقد يفعل ذلك إذا لم يمكن التصريح بالحكم وهذا الحذف لا يصح لأنه قوله فأشبه كيت وكيت هو حكم بان الفرع يشبه كيت وكيت وإذا كان ذلك حكما احتاج إلى أصل يرد إليه الفرع وأما الاحتراس بشرط مذكور في الحكم فمثاله إن يقول المعلل لأنهما حران مكلفان محقونا الدم فوجب أن يكون بينهما قصاص إذا قتل أحدهما صاحبه عمدا فاذا نوقض بقتل الخطأ قال قد احترست في الحكم بقولي قتله عمدا ولقائل أن يقول إن الاحتراس في الحكم هو إقرار بانتقاض العلة وذلك أن المعلل قد حكم بأن العلة هي كونهما حرين مكلفين محقوني الدم فقط وأنه لا يدخل في العلة غير ذلك فاذا قال إن هذا يوجب القصاص في قتل العمد دون الخطأ مع وجود هذه الأوصاف فقد أقر بان العلة توجد في موضعين ويتبعها حكمها في أحدهما دون الآخر فان قيل لإنه لا يمتنع أن تكون هذه

الأوصاف أعني الحرية والتكليف وحقن الدم إنما تؤثر في إيجاب القصاص في قتل العمد دون الخطأ قيل إن كانت هذه الأوصاف تؤثر في أحد الموضعين دون الآخر لمعنى اختص يه أحدهما أعني قتل العمد فينبغي أن يذكر ذلك في جملة العلة إذا كان له تأثير في إيجاب القصاص وإن كانت الأوصاف تؤثر في الحكمين ويقتضي أحدهما في أحد الموضعين دون الآخر لا لأمر افترق فيه الموضعان فكأنكم قلتم إن العلة تقتضي الحكم في موضع ولا تقتضيه في موضع آخر وإن كان وجودها فيهما على حد سواء وهذا هو حقيقة النقض ولمجيب أن يجيب عن هذا فيقول إن الشرط المذكور في الحكم هو متأخر في اللفظ ومتقدم في المعنى لأن قولنا إنهما حران مكلفان فوجب أن يجب القصاص بينهما على القاتل عمدا معناه لأنهما حران مكلفان محقونا الدم قتل أحدهما صاحبه عمدا وذلك لأنا قد علمنا أن قتل العمد مما له تأثير في القصاص وهذا يقتضي أنه وإن ذكر في الحكم فهو مذكور على أنه من جملة العلة وأما الكسر فهو نقض العلة على معناها دون لفظها وذلك بأن يرفض وصفا من أوصاف العلة ظنا منه أنه غير مؤثر وأن الذي يجوز أن يتعلق به الحكم هو ما عدا ذلك الوصف وتبدل من الوصف الذي رفضته وصفا هو أعم منه ثم تنقض ما عدا ذلك الوصف ومتى رام المعلل أن يجيب عن الكسر وجب عليه أن يبين أن للوصف الذي رفضه خصمه تأثيرا في الحكم حتى يجب إضافته إلى غيره من الأوصاف فيمتنع في البعض مثال ذلك أن يعلل معلل وجوب صلاة الخوف بأنها صلاة يجب قضاؤها كصلاة الأمن فيظن المعرض أنه لا تأثير لكون العبادة صلاة في هذا الحكم وأن الذي يظن أنه مؤثر في الوجوب هو وجوب القضاء ثم ينقض ذلك بصوم الحائض في شهر رمضان أنه ليس بواجب مع أن قضاؤه واجب ومتى رام المعلل أن يجيب عن ذلك وجب عليه أن يبين أن لكون العبادة صلاة تأثيرا في كون وجوب القضاء مؤثرا في وجوب العبادة وأن الصلاة تخالف الصيام في هذا الباب وقد سمي الكسر عكسا وهذا العكس هو مخالف لعكس العلة المقابل للطرد لأن

ذلك العكس هو عدم الحكم في كل المسائل مع عدم العلة وهذا ليس بشرط في صحة العلة لأن العلة الشرعية دلالة وأمارة على الحكم وليس يمتنع أن يوجد المدلول عليه في بعض المواضع مع فقد بعض أدلته إذا دل عليه دليل آخر وهذا العكس مفارق لعدم التأثير لأن عدم التأثير هو أن يكون العلة ذات وصفين أو أكثر فيوجد الحكم في الأصل بوجود وصف من الأوصاف وإن عدم الوصف الآخر وبعدم الحكم إذا عدم الوصف الذي قلنا إن الحكم يوجد بوجوده وإن وجد الوصف الآخر فيعلم بذلك أن الوصف الذي يوجد الحكم مع عدمه ويعدم مع وجوده ليس من العلة فلا يجوز أن يضم إليها وأما عكس العلة فهو أن يعدم الحكم في غير الأصل والعلة منتفية وأما المعارضة بعلة فضربان أحدهما أن تقع المعارضة في علة الأصل بأن يعلل المعترض الأصل بعلة أخرى والثاني أن يعارض القياس بقياس آخر فان عارض القياس بقياس آخر فالكلام عليه ما تقدم وإن عارض علة الأصل ولم يكن القائس ممن يقول بالعلتين لم يكن له أن يقول بهما وإن كان من مذهبه القول بالعلتين لم يكن له أن يقول بهما في هذا الموضع إلا بعد أن يصحح علته لأن المعارض لم يسلم عليه وإنما نازعه فيها وقال له ليس العلة في الأصل ما ذكرت وإنما العلة ما أذكره أنا وليس يمكن القائس إذا عورض في علة الأصل إلا وجوه ثلاثة أحدها أن يصحح علته ويبين أنها أولى من علة خصمه أو يصحح علته ويقول بها وبعلة خصمه إن كانت علة خصمه عنده صحيحة أو يفسد علة خصمه بالوجوه التي ذكرناها ويختص هذا الموضع بوجه آخر من وجوه الفساد وهو أن تكون العلة التي وقعت المعارضة بها غير متعدية وهذا الوجه يفسد العلة على قول بعض الناس وأحد الوجوه التي تقدم ذكرها مما يفسد العلة النقض فان نقض القائس العلة التي عورض بها في الأصل فقد أفسدها وإن نقض عكسها الموجود في الفرع جاز له ذلك إن كان المنازع له في علة الأصل قد علل بعلة الأصل وعلل الفرع بعكسها وإن كان إنما علل الأصل بعلة ولم يعلل الفرع أصلا وإنما ادعي أنه لا علة

للأصل سوى ما ذكره ليمنع من أن يقاس ذلك الفرع على ذلك الأصل لم يكن للقائس والحال هذه أن ينقض عكس علته مثال ذلك أن يقيس قائس الكلب على الهر في الطهارة فيقول خصمه المعنى في الأصل وهو الهر أنها من الطوافين علينا والطوافات فلهذا كانت طاهرة وهذه العلة ليست في الكلب فلا ينبغي أن يقاس على الهر فمتى قال ذلك لم يكن للقائس أن ينقض علته إلا تعليله الهر أنها من الطوافين علينا فقط فأما إن قال الهر من الطوافين علينا فكانت طاهرة والكلب ليس من الطوافين علينا فلهذا كان نجسا جاز أن ينقض علته في الكلب وإذا نقضها بطل تعليله الهر بانها من الطوافين لأنه لما علل الأصل وعكس علته في الفرع أعلمنا بذلك أنه ليس يفرق بينهما في النجاسة والطهارة إلا من هذه الجهة وأن طهارة الحيوان موقوفة على أن يكون من الطوافين علينا فقط وأن ما وجد هذا فيه يكون طاهرا فقط فاذا رأيناه شيئا طاهرا وإن لم يكن من الطوافين فقد بطل قوله إن طهارة الحيوان موقوفة على هذا المعنى إلا أن هذا ليس ينقض لعلة الأصل وإنما هو إبطال لقوله إنه لا علة لطهارة الحيوان إلا ما ذكروه فان ادعي المعلل أو أجمع المسلمون على أن العلة في طهارة السنور هي المفرقة بين ما طهر من الحيوان وبين ما لا يطهر وأن طهارة الحيوان موقوفة عليها ثم علمنا أن طهارة الحيوان غير موقوفة على ما ذكره المعلل علمنا أن ما ذكره المعلل ليس بعلة والوجه الثالث من الكلام على العلة التي وقعت المعارضة بها هو الترجيح ونحن نفرد لذلك باب ولترجيح القياس على القياس فصلا

فصل في ترجيح علة الأصل على علة أخرى وفي ترجيح قياس على قياس
اعلم أنه إذا وقعت المعارضة في علة الأصل واستوى العلتان فلا بد من ترجيح أحدهما على الأخرى وذلك يكون بوجهين أحدهما يرجع إلى قوة طريق صحة العلة والثاني إلى تعدي العلة أما قوة طريق صحة العلة فبأن تكون إحدى العلتين مجمع عليها دون الأخرى أو تكون إحداهما منصوصا

عليها والاخرى معلومة بمفهوم النص أو إحداهما طريقها مفهوم النص وطريق الاخرى الاستنباط أما الترجيح بالتعدي فبأن تكون إحداهما متعدية دون الاخرى أو بأن تكون إحداهما أكثر فروعا من الاخرى هذا على قول الأكثر لا يفسد العلة إذا لم تكن متعدية وأما إذا عورض القياس بقياس فانه يتجه علته من الكلام في إفساده وتصحيح علته ما قد سلف فاذا استويا رجح أحدهما على الآخر
وترجيح القياس يكون بما يرجع إلى أصله أو إلى حكمه أو إلى علته أما الترجيح بما يرجع إلى العلة فقد سلف القول فيه إلا أن الترجيح بالتعدي لا يمكن ههنا لأن هذه العلة متعدية إذ كان قد جمع بها بين أصل وفرع وأما الترجيح بما يرجع إلى الأصل فبأن يكون طريق ثبوت الحكم في أحدهما أقوى من طريق ثبوته في الآخر بأن يكون طريق تعليل أحد الأصلين أقوى من طريق تعليل الآخر فاذا كان حكم الأصل منه يستفاد حكم الفرع وكان في أحدهما أقوى وجب أن يكون أحد القياسين أقوى وكذلك إذا كان طريق صحة علة أحدهما أقوى وأما الترجيح بما يرجع إلى الحكم فبأن يكون أحد الحكمين أحوط نحو أن يكون احدهما وجوبا والآخر ندبا أو بأن يكون أحدهما حظرا والآخر مباحا فيكون الحظر أولى لأنه أحوط أو بأن يكون أحد الحكمين قد ندبنا إلى إسقاطه بالشبهة كالحدود وقد ذهب إلى الترجيح بذلك بعض الناس دون بعض
وقد ترجح العلة بأن يعضدها ظاهر لأن ذلك يقتضي أنها أولى من علة لم يعضدها ظاهر
قد أتينا على الكلام في تصحيح العلة وفي إفسادها وترجيحها وإفسادها لا يخرج عن الأقسام التي ذكرناها وذلك لأن الطعن على العلة نفسها إما أن يكون بوجه منفصل عنها أو بوجه يرجع إليها أما الوجه المنفصل عنها فهو معارضة العلة بعلة وأما المتصل بها فضربان أحدهما أن يكون له تعلق

بغيرها والثاني أن لا يكون له تعلق بغيرها والذي ليس له تعلق بغيرها هو التعليل بالاسم وأما ما يكون له تعلق بغيرها فضربان احدهما أن يكون ذلك الغير هو مكان وجودها وهذا بأن لا يكون له فرع يتعدى غليه والثاني أن يكون ذلك الغير هو حكمها

فصل في ترجيح القياس على القياس
أحدهما أن يكون الوجه الطاعن عليها المتعلق بحكمها يرجع إلى جملة العلة والثاني يرجع إلى جزء من أجزائها أما الراجع إلى جزء من أجزائها فهو أن يكون وصف من أوصافها لا يؤثر في الحكم وأما الراجع إلى جملتها فهو ما يعلق بدلالتها على الحكم وهذا بأن تكون العلة لا تليق بأن تدل على الحكم وهذا هو اختلاف الوضع أو بأن لا يشافه الحكم في الدلالة وهذا هو الذي يمكن معه القول بموجب العلة وأما بأن تكون العلة تدل على الحكم وعلى نقيضه فيكون القلب وأما إن تدل علته في موضع ولا تدل عليه في موضع آخر وقد وجدت فيه وهذا هو النقض وأما الكسر فليس هو بقسم آخر لأن الكسر هو مؤلف من عدم وتأثر ونقض على ما تقدم بيانه
ضميمة في القلب
واعلم أنني نظرت في هذا الكتاب بعد سنين منذ ألفته فأردت أن أضم إليه كلاما في القلب أكثر مما ذكرته في الكتاب أولا
اعلم أن قلب القياس هو أن يعلق القالب للقياس على العلة نقيض الحكم المذكور في القياس ويرد الفرع إلى ذلك الأصل بعينه فلا يكون أحد الحكمين بأن يعلق بالعلة أولى من أن يعلق به الآخر ولا يصح أن يعلقا جميعا بها لتنافيهما ولقائل أن يقول إن وجود القلب لا يصح لأن القالب إما أن يعلق على العلة مثل الحكم الذي علقه القائس أو خلافه أو نقيضه فان

علق عليها مثل الحكم فليس ذلك بقلب بل هو تكرير القياس مثال ذلك أن يقول القائس الاعتكاف لبث في مكان مخصوص فكان من شرطه اقتران معنى إليه اصله الوقوف بعرفة فيقلبه القالب فيقول فوجب أن يكون من شرطه اقتران معنى إليه ولا يكون ذلك قلبا ولكنه كرر القياس وإن علق على العلة حكما مخالفا لحكم القياس لم يكن ايضا قالبا ولم يمكن أن يقال ليس بأن تعلق بها هذا الحكم أولى من الآخر لأن الحكمين المختلفين غير الضدين يصح اجتماعهما مثال ذلك أن يقول القائل في الاعتكاف إنه لبث في كان مخصوص فكان من شرطه اقتران معنى آخر إليه اصله الوقوف بعرفة فيقول القالب لأنه لبث في مكان مخصوص فجاز أن يكون طاعة وعبادة أصله الوقوف بعرفة فلا يكون قد قلب القياس لأنه يصح اجتماع الحكمين أعني أن يكون اللبث طاعة وأن يكون من شرطه اقتران معنى آخر إليه إذ هذان الحكمان لا يتنافيان فلم يجز أن يكون القلب بذكر حكم مخالف لحكم القياس غير مضاد له ولا متناقض وإن كان الحكم في القلب نقيض حكم القياس لم يصح ايضا لأن من شرط القلب أن يرد الفرع إلى أصل القياس ويكون القائس والقالب قد صدقا في إثبات حكميهما في الأصل والنقيضان لا يجوز أن يجتمعا في شيء واحد على حد واحد مثال ذلك أن يقول قائل في الاعتكاف إنه لبث في مكان مخصوص فكان من شرطه اقتران معنى إليه فيقول القالب فلم يكن من شرطه اقتران معنى لأن هذين القولين لا يصدقان في الوقوف بعرفة وهو الأصل لأنهما نقيضان الا ترى أنه لا يجوز أن يكون من شرط الوقوف اقتران معنى إليه وليس من شرطه اقتران معنى إليه أصلا فلم يصح القلب بذكر نقيض حكم القياس فبان أنه لا وجوب للقلب والجواب أنه قد يجوز أن يعلق القالب على العلة حكما غير حكم القياس مما يجوز أن يجتمع معه في الأصل ولا يجوز أن يجتمع في الفرع لأجل إجماع من الامة أو من القائس والقالب فيتنافى الحكمان في الفرع بواسطة الإجماع مثال ذلك أن يقول قائل في الاعتكاف لأنه لبث في مكان

مخصوص فكان من شرطه اقتران معنى إليه اصله الوقوف ونفرض أن الأمة أجمعت على أنه ليس من شرط الاعتكاف النية وأنه لو ثبت أن من شرطه اقتران معنى إليه لم يكن إلا الصوم فثبوت هذا القياس مع هذا الإجماع يقتضي كون الصوم من شرط الاعتكاف فاذا قال القالب لأنه لبث في مكان مخصوص فلم يكن من شرطه الصوم اقتضي نفي كون الصوم شرطا في الاعتكاف والقياس الأول في الإجماع اقتضى كون الصوم شرطا في الاعتكاف فيتنافى الحكمان في الفرع لأجل هذا الإجماع ولم يتناف الحكمان بأنفسهما في الأصل أعني أن يكون من شرطه اقتران معنى إليه وأن لا يكون الصوم من شرطه ولم نفرض أن الأمة أجمعت على أنه لو كان من شرط الوقوف اقتران معنى إليه لما كان إلا الصوم فصح أن للقلب وجودا
وقد يكون الحكم في الفرع ذا جهتين لا تتنافيان في الأصل بل توجدان فيه وتتنافيان في الفرع لأجل إجماع من الامة أو من الخصم مثال ذلك أن يقول قائل الرأس عضو من أعضاء الطهارة فلم يتقدر الغرض فيه بأقل ما يقع عليه الاسم أصله الوجه فيقلب الخصم ذلك فيقول فوجب أن لا يتقدر فيه بالربع أصله الوجه وهذان الحكمان لا يتنافيان في الوجه ويتنافيان في الفرع على قول الخصمين لأنهما قد اتفقا على أنه إذا لم يتقدر الفرض في الرأس بالربع فالواجب تعليقه بأول ما يقع عليه اسم المسح لبطلان وجوب مسح جميعه عند الخصمين فمتى ثبت ان الفرض لا يتعلق بأول الاسم صح قول الحنفي لاتفاق منه ومن الشافعي ومتى ثبت أن الفرض لا يتقدر بالربع ثبت أنه يتعلق بأول ما يقع الاسم عليه لأجل اتفاقهما على ذلك فتنافى الحكمان في الفرع فلم يكن بأن يعلق أحدهما بالعلة أولى من أن يعلق بها الآخر وهذا الحكمان هما منفصلان وإن لم يتنافيا بأنفسهما
ويدخل في القلب قلب التسوية مثاله أن يقول قائل في طلاق المكره لأنه مكلف مالك للطلاق فوقع طلاقه أصله المختار فيقول القالب فوجب

أن يستوي حكم إيقاعه للطلاق وحكم إقراره به كالمختار وهذا الحكمان لا يتنافيان في الأصل لأن طلاق المختار يقع ومع ذلك فحكم إيقاعه للطلاق كحكم إقراره به في اللزوم والثبوت ويتنافى هذان الحكمان في الفرع لأنه إذا كان طلاق المكره كاقراره بالطلاق وكان إقراره بالطلاق لا يثبت حكمه وجب أن يكون طلاقه لا يثبت حكمه وذلك مناف للقول بأن طلاقه يثبت حكمه فهذا وجه من وجوه القلب صحيح لأن الحكمين قد تنافيا في الفرع لأجل الإجماع فلم يكن بأن يعلق أحدهما بالعلة أولى من الآخر فبان أن للقلب وجودا من وجوه ثلاثة أحدهما أن يكون أحد الحكمين مجملا من غير ذكر تسوية والآخر مفصلا كما ذكرناه في الاعتكاف والآخر أن يكون الحكمان مفصلين غير متنافيين بأن يكون الحكم في الفرع ذا جهتين فيقصد كل واحد من القائس والقالب إحدى الجهتين ولا تتنافيان في الأصل وتتنافيان في الفرع لأجل الإجماع والآخر أن يكون أحد الحكمين مفصلا والآخر مجملا وإجماله من جهة التسوية كما ذكرناه آخرا
تم والحمد لله على ذلك

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6