كتاب : المعتمد في أصول الفقه
المؤلف : محمد بن علي بن الطيب البصري

جمعتم بين الأمرين بغير علة وأيضا فإن أوحى الله تعالى إلى نبيه بأحد الدليلين فيسن الحكم عقيبه ثم أوحى إليه بالدليل الثاني فإنه إنما يسن الحكم لمكان الدليل الأول لأنه لم يكن سواه حين سن الحكم ويكون الدليل الثاني تأكيدا وإن كان قد أوحى إليه بهما معا فلا بد من أن يكلفه فهم المراد بهما ولا بد من أن يفهم المراد بهما فلا يجوز أن يدعوه أحدهما إلى أن يسن الحكم دون الآخر لأن في ذلك رفضا للآخر وإنما قلنا لا بد من أن يكلفه أن يفهم المراد بهما لأنه لا يجوز أن يخاطبه بما لا يفهم المراد منه ولأنه إن كلفه أن يبلغ كلا الدليلين إلى أمته وجب أن يفهم المراد به لأنه لا يؤمن أن يسأل عنه وإذا لم يعرف المراد به نفر عنه
ومنها أنه لو كان الدليل الثاني صحيحا لما جاز أن يذهب عن الصحابة مع تقدمها في العلم والجواب أنه يجوز أن يذهب عنهم إذا لم يطلبوه استغناء بما ظفروا به من الدليل وأهل العصر الثاني إنما ظفروا به لأنهم تنبهوا بما ذكره الأولون واستغنوا عن طلب الدليل الأول فشغلوا أفكارهم وزمانهم في طلب غيره
فإن قيل أفكلف الأولون طلب الدليل الثاني قيل كلفوا ذلك على سبيل التطوع وترك ذلك جائز والقول في العلة كالقول في الدلالة لأن العلة دلالة على الحكم في الفرع إلا أن تعود العلة بالنقض على ما اجتمعوا عليه بأن يوجد في موضع أجمعت الأمة فيه على نقيض حكمها نحو أن يعلل معلل تحريم البر بأنه جسم لأن ذلك موجود فيما أجمعوا على إباحته فمن لم يقل بتخصيص العلة لا يجيز ذلك
وأما إذا تأولت الأمة الآية بتأويل فإنهم إن نصوا على فساد ما عداه لم يجز إحداث تأويل سواه وإن لم ينصوا على ذلك فمن الناس من منع من تاويل زائد وأجراه مجرى المذهب الزائد ومنهم من أجازه وهو الصحيح لأن التابعين ومن بعدهم قد أحدثوا تأويلات لم يكن ذكرها السلف ولم ينكر عليهم ولأنه ليس في إحداث تأويل آخر مخالفة لإجماعهم لأنهم لم ينصوا على إبطاله وليس في

إجماعهم على التأويل الأول إبطال الثاني لأنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد أراد كلا التأويلين وأراد أن يفهم بالخطاب شيئا ما إما هذا وإما هذا وإما كلاهما وكل ذلك مخير فيه فإذا فهمت الأمة أحدهما فقد خرجت عما كلفته لأنهم كلفوا فهم كلا التأويلين بشرط أن يطلبوه

باب في أهل العصر إذا اختلفوا في المسألة على قولين هل يجوز وقوع الاتفاق
على أحدهما أم لا
حكى قاضي القضاة عن الصيرفي أنه منع من اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول وأجازه أكثر الناس ولم يجعلوا الاختلاف المتقدم متضمنا على جواز الأخذ بكل واحد من القولين على كل حال ووجهه انه إن أريد بجواز انعقاد الإجماع إمكانه فلا شبهة في أن الجماعة الكثيرة يمكنها أن تتفق على موجب الدلالة ولهذا جاز انعقاد الإجماع المبتدأ وإن أريد به الحسن فلا شبهة أيضا في حسن إجماع الجماعة على مقتضى الدلالة وإن أريد بالجواز الشك فمعلوم أنه لا دليل يدل على القطع على نفي إجماعهم على حكم من الأحكام حتى لا يشك في ذلك ومما يدل على إمكان ذلك وحسنه أن الصحابة توقفت في الامامة ثم أطبقت على إمامة أبي بكر رضي الله عنه واتفق التابعون على المنع من بيع أمهات الأولاد بعد اختلاف الصحابة فيه
والمخالف يحتج بأن اختلاف أهل العصر الأول في ضمنه اتفاق منهم على جواز تقليد العامي لكل واحد من القولين وجواز أخذ المجتهد بكل واحد منهما إذا أداه اجتهاده إليه فلو أجمع أهل العصر الثاني على أحد القولين لكان لا يخلو إما أن يصح الإجماعان أو يفسدا أو يصح احدهما ويفسد الآخر وليس يجوز أن يفسد أولا أحدهما لأن الأمة لا تجتمع على خطأ ولو كانا صحيحين لكان الثاني منهما ناسخا للأول والنسخ بعد ارتفاع الوحي محال ولو جاز ذلك لجاز أن يتفق أهل العصر على قول ويتفق أهل العصر الثاني على

خلافه وفساد هذه الأقسام يمنع من اتفاقهم على أحد القولين والجواب أن القائلين بأن الحق في واحد لا يجوز لهم أن يحتجوا بهذا الكلام لأن عندهم أن المجتهد لا يجوز أن يأخذ إلا بالحق من القولين وإنما يجوز للعامي أن يقلد من يفتيه فإذا اتفقوا على أحدهما لم يجد العامي من يفتيه بالآخر فلا يمكن أن يقال قد حرم عليه الأخذ به إذا أفتي به بعد أن كان حلالا وأما القائلون بأن كل مجتهد مصيب فجوابهم إن احتجوا بذلك هو أن المختلفين في المسألة إنما سوغوا الأخذ بكل واحد من القولين لأن المسألة مختلف فيها وهي من مسائل الإجتهاد لأنهم لو سئلوا عن جواز الأخذ بكل واحد منهما لعللوا بذلك فعلى هذا المحتج أن يبين أن المسألة من مسائل الاجتهاد وإن وقع الاتفاق عليها حتى يصح دليله وقد سلف استقصاء هذا الجواب من قبل في باب متقدم
وأما قولهم لو جاز أن يجتمع أهل العصر الثاني على خلاف ما اجتمع عليه الأولون من جواز الأخذ بكل واحد من القولين لجاز اتفاق أهل العصر الأول على قول واتفاق أهل العصر الثاني على قول خلافه فلا يستقر إجماع فباطل لأنا قد بينا أن المختلفين قد سوغوا الأخذ بكل واحد من القولين بشرط قد زال وأهل العصر الثاني قد اجمعوا على المنع من ذلك مع زوال الشرط فلم يجمع الآخرون على خلاف ما أجمع عليه الأولون وليس كذلك إذا أجمع الأولون على قول وأجمع الآخرون على خلافه

باب في الإجماع إذا عارضته الأدلة
اعلم أنهم قد يجمعون على القول وعلى الفعل وعلى الرضا واتفاقهم على الفعل لا يقتضي أن غيرهم مثلهم فيه إلا لدلالة وإذا رضوا بكون القول قولا لهم ولغيرهم كان صوابا منهم ومن غيرهم فأما إذا قالوا قولا وعارضه قول

النبي صلى الله عليه و سلم فلا يجوز أن نعلم أن قصد النبي صلى الله عليه و سلم بكلامه هو ظاهره ونعلم أن قصدهم بكلامهم ظاهره مع تعارض الكلامين لأن الأدلة لا تتناقض ثم لا يخلو إما أن نعلم أن قصد النبي صلى الله عليه و سلم ظاهره أو نعلم أن قصد الامة بكلامهم هو ظاهره أو لا نعلم قصد النبي صلى الله عليه و سلم ولا قصد الامة فان علمنا قصد النبي صلى الله عليه و سلم وجب تأويل كلام الامة على موافقة كلام النبي صلى الله عليه و سلم وإن علمنا قصد الامة بكلامهم وجب تأويل قوله صلى الله عليه و سلم وإن لم نعلم قصد أحدهما فان كان أحدهما أخص من الآخر خصصنا الأعم بالأخص وإن لم يكن أحدهما أخص من الآخر فانهما يتعارضان لأنه يحتمل أن تكون الامة قد عرفت أن النبي صلى الله عليه و سلم قصد بكلامه غير ظاهره ويحتمل أن تكون عرفت أنه قصد ظاهر كلامه وأرادت هي بكلامها غير ظاهره ويحتمل أو يقال لو علمت أن النبي أراد بكلامه ظاهره لما أطلقت كلاما يفيد ظاهره مخالفته فلا بد والحال هذه من أن تكون قد علمت أنه أراد بكلامه غير ظاهره
وأما نسخ أحدهما بالآخر فلا يصح وقد تكلمنا في ذلك في باب الناسخ والمنسوخ

باب في أن الأمة لا تجتمع إلا عن طريق
اعلم أن الأمة لا تجتمع إلا عن دلالة أو أمارة ولا تجتمع عبثا ذكر قاضي القضاة في الشرح أن قوما أجازوا انعقاد الإجماع عن توفيق لا توفيق بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب وإن لم يكن لهم دلالة ولا أمارة والدليل على المنع من ذلك أن مع فقد هذه الدلالة والأمارة لا يجب الوصول إلى الحق ولأنهم ليسوا بآكد حالا من النبي صلى الله عليه و سلم ومعلوم أن النبي صلى الله عليه و سلم لا يقول الا عن وحي فالامة أولى أن لا تقول إلا أن عن دليل ولأنه لو جاز لهم ذلك لكان قد جاز لكل واحد منهم أن يقول بغير دلالة لأنهم إنما يجتمعون على القول بأن

يقول كل واحد منهم به وإذ جاز ذلك لآحادهم لم يكن للمجمعين مزية في ذلك
فان قيل مزية الإجماع في ذلك أنه يكون حجة وكل واحد منهم له أن يقول عن غير دلالة ولا يكون قوله حجة فاذا أجتمعوا كان حجة قيل إنما أردنا أن لا يكون للإجماع مزية في جواز القول بغير دلالة والخلاف في ذلك يرجع إلى قول مويس بن عمران من أنه يجوز للعالم أن يقول بغير دلالة بأن يعلم الله تعالى أنه لا يقول إلا بالصواب
واحتج المخالف بأشياء
منها أن الإجماع حجة فلو لم ينعقد إلا عن دلالة لكانت الدلالة هي الحجة ولم يكن في كون الإجماع حجة فائدة والجواب أن هذا يبطل بقول النبي صلى الله عليه و سلم فانه حجة ولا يقول إلا عن دلالة ولا يلزم إذا صدر الإجماع عن حجة أن لا يكون في كونه حجة فائدة وعلى أنه لا يمتنع أن يكون قولها حجة وما صدر قولها عنه حجة فيكون في المسألة حجتان وأيضا فالفائدة في ذلك أن يسقط عنا البحث عن الحجة ويسقط عنها نقلها ويحرم علينا الخلاف الذي كان سائغا في مسائل الاجتهاد على قول من قال كل مجتهد مصيب
ومنها أن الإجماع قد انعقد من غير دليل نحو إجماعهم على بيع المراضاة من غير عقد والاستصناع واجرة الحمام وغير ذلك وأخذ الخراج وأخذ الزكاة من الخيل والجواب أن كل ذلك ما وقع إلا عن دليل وإن جاز أن لا ينقل لما ذكرناه من أن الإجماع لا ينعقد إلا عن دليل وأما الاستصناع وعقد المراضاة فقد كانا على عهد النبي صلى الله عليه و سلم ولم ينكره فدل على جوازه على أن بيع المراضاة لما جرت العادة به جرى الأخذ والإعطاء في الدلالة على الرضا مجرى القول وكذلك اجرة الحمام وأما قسمة أرض العدو فللإمام أن يقسمها وأن لا يقسمها ويعمل فيها بحسب المصلحة ولهذا لم يقسم النبي صلى الله عليه و سلم

منازل مكة ولا آبار هوازن ومياههم وأما أخذ الزكاة من الخيل فليس باجماع ولولا أنه قد علم من أوجبها من النبي صلى الله عليه و سلم مما دل على أخذ الزكاة منها إذا كثرت لكان إيجابه لها نسخا للشريعة ولما ترك النكير عليه

باب في الأمة إذا أجمعت على موجب الخير هل يكون الخبر طريقا إلى ما أجمعت
عليه الأمة أم لا
اعلم أن الأمة إذا أجمعت على حكم كان في الأخبار ما يدل عليه فاما أن يكون خبر واحد أو متواترا فان كان متواترا فاما أن يكون نصا لا يحتاج معه إلى استدلال طويل واجتهاد أو يحتاج معه إلى ذلك فان كان نصا علمنا أنهم أجمعوا لأجله لأنه لا يجوز مع تواتره أن لا يقفوا عليه مع طلبهم لما يدل على الحكم ولا يجوز مع ظهوره أن لا يدعوهم إلى الحكم فيكون طريقهم إليه سواء ظهر فيهم خبر مثله أو لم يظهر وإن كان يحتاج في الاستدلال به إلى اجتهاد طويل وبحث لم يمتنع أن يكونوا اجمعوا لأجله ولم يمتنع أجمعوا لأجل خبر متواتر هو أجلى منه لم ينقل اكتفاء بالإجماع إذا استدل به بعضهم واستدل الباقون بخبر آخر أو بقياس
وإن كان الخبر منقولا بالآحاد لم يخل إما أن يروي لنا أنه ظهر فيهم أو لا يروي ذلك فان لم يرو ذلك جوزنا أن يكون ظهر فيهم فلم ينقل إلينا ظهوره فأجمعوا لأجله وجوزنا أن يكون ظهر فيهم خبر آخر أجمعوا أو بعضهم لأجله ولم ينقل إلينا اكتفاء بالإجماع لأنه إذا جاز أن يكون ذلك الخبر كان ظاهرا فيهم فلم ينقل ظهوره إلينا جاز أن يظهر فيهم خبرا آخر فلا ينقل إلينا أصلا وإن كان قد روى أن ذلك الخبر قد كان ظهر فيهم فإما أن يروي بالتواتر أو بالآحاد فان كان قد روى بالآحاد وجوزنا صدق الراوي وأن يكونوا أجمعوا لأجله وجوزنا كذبه فلا يقطع على أنهم أجمعوا لأجله

ولكن يغلب صدقه على الظن
وإن نقل ظهور الخبر فيهم بالتواتر جاز أن يكونوا أجمعوا لأجله ويقطع على ذلك من حاله إن قالوا أجمعنا لأجله أو كانوا متوقفين عن الحكم بأجمعهم أو كان بعضهم قد حكم بخلافه فلما سمعوا الخبر قالوا به وإنما قلنا إنه يجوز أن يجمعوا لأجل خبر الواحد لأن خبر الواحد طريق إلى الحكم وليس يمتنع في الجماعة الكثيرة أن يجمعا على الحكم طريق من طرقه وإن لم يقولوا أجمعنا لأجله ولا نقل رجوعهم إليه بعد توقفهم جوزنا أن يكونوا حكموا بغيره ولم ينقل اكتفاء بالإجماع وبالجملة متى جوزنا أن لا ينقل الخبر المتواتر اكتفاء بالإجماع على موجبه لم يجز القطع على أن السلف أجمعوا لأجل خبر الواحد ولا خبر متواتر محتمل إلا أن يقولوا إنا حكمنا لأجله أو يجمعوا على موجبه عند سماعهم له
فان قيل فاذا أجمعوا على مقتضى خبر الواحد أيقطعون على صدق المخبر قيل لا لأنه يجوز أن تكون المصلحة أن نحكم بما ظننا صدقه من الأخبار سواء كانت صادقة في أنفسها أو كاذبة

باب في جواز وقوع الإجماع عن اجتهاد
اعلم أن القائلين بأن الإجماع لا ينعقد إلا عن طريق اتفقوا على جواز انعقاده عن دلالة لأنه لو لم يجز انعقاده عن دلالة لم يجز عن أمارة وفي ذلك تعذر انعقاده وأن يكون الله تعالى قد أمرنا باتباع ما يتعذر وقوعه واختلفوا في انعقاده عن أمارة فمنع قوم من أهل الظاهر من ذلك خفيت الدلالة أم ظهرت وأجاز أكثر الفقهاء انعقاده عن الجلي والخفي من الأمارات وأجاز قوم انعقاده عن الجلي دون الخفي

ودليلنا أن الأمارة طريق إلى الحكم كما أن الدلالة طريق إلى الحكم ولا مانع من انعقاد الإجماع عنها كما لا مانع من انعقاد الإجماع عن الأدلة خفيها وجليها فكما جاز ما أمكن انعقاده عن جلي الأدلة وخفيها جاز مثله في الأمارات
فان قيل لم قلتم لا مانع من ذلك قيل لأنه لو منع مانع من ذلك كان معقولا وكان له تعلق معقول وما يعقل من ذلك إما أن يرجع إلى الدواعي والصوارف وإما أن يرجع إلى أحكام متنافية وما يرجع إلى الدواعي شيئان أحدهما أن يقال إن الأمة على كثرتها واختلاف همها وأغراضها لا يجوز أن يجمعها الأمارة مع خفائها ولأن أمارة الحكم الواحد قد تكون متغائرة فتكون أمارة بعضهم غير أمارة الآخرين فلا تكون الأمارة الواحدة داعية لهم إلى ذلك ولو جاز مع تعذر كون الأمارة داعية لجميعهم إلى الحكم أن يجمعوا عليه جاز أن يجتمعوا على مأكل واحد وعلى الكذب في شيء واحد
ويفارق ذلك اجتماعهم عن دلالة أو شبهة لأن الأدلة ظاهرة والشبه تتقدر بتقدير الأدلة عند من صار إليها ويفارق إجماع الخلق العظيم لحضور الأعياد لأن الداعي إلى ذلك ظاهر فيهم الجواب أن قولهم إن كثرة عدد الامة واختلاف اغراضها يمنع من اجتماعها على حكم الأمارة مع خفائها دعوى وليس يمتنع أن تجمعهم الأمارة الواحدة أو الأمارات على الحكم الواحد وإن اختلفت الأغراض وكثر العدد لأنهم قد اتفقوا على وجوب المصير إلى الأمارة فاذا ظهرت الأمارة لجميعهم دخلت في الجملة التي اعتقدوها ولذلك اتفق اصحاب أبي حنيفة في كثير من المسائل وهم خلق عظيم ويتفق كثير من أهل الحروب في كثير من الحالات في الآراء واتفق الخلق العظيم على المصير إلى موضع الأعياد لما تقدم منهم اعتقاد المصير إلى ذلك
ويفارق ذلك اتفاقهم على الكذب في شيء معين لأنه لا داعي لهم إلى ذلك

وقد بينا أن لما ذكرناه داعيا ولأنه لا يخطر ببالهم كلهم الشيء الذي يكذبون فيه إلا بأن يتراسلوا فأما استنباط الحكم بالأمارة فلا يحتاج إلى تراسل لأن الأمارات سائغة في المجتهدين لا يحتاجون فيها إلى تراسل
وأما اتفاق جميعهم على مأكل واحد فانما لم يجز لأن ذلك تابع لتساوي شهواتهم وتساوي إمكانهم وقد علمنا أنهم مختلفون في الشهوات وإمكان نيل مشتهاها فمنهم من يشتهي ما ينفر طبع الآخر عنه ومنهم من تقوى شهوته لما تنقص شهوة الآخر له فتدعوه قوة شهوته إلى تناوله دون الآخر وقد يتفق الاثنان في شهوة الشيء ويتعذر على أحدهما تحصيله أو يشق عليه ذلك ولا يتعذر على الآخر ولا يشق فلهذه الامور لم يتفقوا على مأكل واحد
وقولهم إن الحكم الواحد لا يكون له إلا أمارة باطل لأنه قد يجوز أن تكون له أمارة واحدة فتكون داعية لجميعهم إلى حكمها وقد تكون له أمارتان إحداهما أظهر من الأخرى فتدعو أظهرهما جميعهم إلى حكمها وقد تتساويان فيستدل بعضهم باحداهما ويستدل الباقون بالاخرى أو يستدل كل واحد منهم بكلتيهما فيتفقون في الحكم وإن تغايرت الأمارات وتفرقتهم بين الأمارات والشبهة لا تصح لأن الشبهة لا تعلق لها والأمارات لها تعلق فاذا جاز أن يجتمع الخلق العظيم على الخطأ لما لا تعلق به فبأن يجوز أن يجتمعوا لما له تعلق أولي
والوجه الآخر من الدواعي هو قولهم إن من الامة من يعتقد بطلان الحكم بالأمارة وذلك يصرفه عن الحكم بها وليس في مقابلة ذلك داع فيدعوه إلى حكمها وذلك يمنع من اجتماع كل الامة على حكمها والجواب أن هذا الخلاف حادث عندنا والصحابة كانت مجمعة على صحة الاجتهاد فهذه الشبهة لا تتناول عصر الصحابة وقد أجيب عن ذلك بأنه لا يمتنع فيمن اعتقد بطلان الحكم بالأمارة أن يصير إلى حكمها إذا كانت ظاهرة لاعتقاده كونها دلالة فيؤدي ذلك إلى اتفاق الكل على حكمها وهذا الجواب لا يتوجه إلى من منع

من اجتماعهم على الأمارة الخفية لهذه الشبهة وأيضا فان من اعتقد قبح الحكم بالأمارة ثم حكم بها لاعتقاده فيها أنها دلالة فقد أقدم على اعتقاد لا يأمن كونه قبيحا وذلك قبيح وغذا كان كذلك لم تكن كل الأمة قد أصابوا في ذلك الحكم ولا يجوز أن تجمع الامة فلا يكون كل واحد منهم مصيبا فيما أجمعوا عليه
وبهذا يجاب من انفصل عن الشبهة بأن قال لا يمتنع فيمن اعتقد قبح الحكم بالأمارة أن يحكم بها وإن علم أنها أمارة إذا لم يجد سواها إذ لا يمتنع في بعض الامة أن يناقض
وأما المنع من انعقاد الإجماع عن اجتهاد لأنه يؤدي إلى اجتماع أحكام متنافية فهو أن يقال إن الحكم الصادر عن اجتهاد لا يفسق مخالفة ويجوز مخالفته فلا يجعل أصلا ولا يقطع عليه ولا على تعلقه بالأمارة والحكم المجمع عليه لا يجوز مخالفته ويفسق مخالفه ويجعل أصلا ويقطع عليه وعلى تعلقه بطريقه فلو صدر الإجماع عن اجتهاد لأجتمعت فيه هذه الأحكام على تنافيها والجواب أما قولهم إن الحكم المجتهد فيه يجوز مخالفته فان القائلين بأن الحق في واحد لا يجوزون لأحد مخالفة الحق في مسائل الاجتهاد ألا تراهم يخطئون من خالفهم وإن أسقطوا عنه المأثم وكثير منهم يجوز للمقلد أن يقلد من يفتيه بخلاف الحق ولا يجوز ذلك فيما اتفق عليه ويقول إن ذلك من حق الاجتهاد إلا أن يصدر عنه الإجماع فان صدر عنه الإجماع لم يجز التقليد في خلافه فأما القائلون بأن كل مجتهد مصيب فانهم يجوزون لغيرهم من المجتهدين أن يخالفوهم في الحكم الذي قالوه عن اجتهاد ولا يجوزون مثله فيما اتفق عليه ويقولون إن جواز المخالفة من حكم الاجتهاد إذا لم يقترن به إجماع وليس هو من حكمه على الإطلاق فيلزم التنافي كما أن ذلك من حكم الاجتهاد إذا لم يقترن به تصويب النبي صلى الله عليه و سلم لأن المجتهد لو اجتهد مع غيبة النبي صلى الله عليه و سلم فبلغه ذلك فصوبه وحكم به فانه لا يجوز مخالفته فبان أن جواز

المخالفة ليس بحكم الاجتهاد على الإطلاق فاذا صوب النبي صلى الله عليه و سلم المجمعين كان كتصويبه المجتهد في المنع من مخالفة ذلك الحكم والعامي لا يجوز له مخالفة الحكم المجتهد فيه إذا لم يجد من يفتيه بغيره ولا يجوز للمجتهد أن يخالف ما حكم به عليه القاضي ولا يخرج منه فبان أن جواز المخالفة ليس من حق الاجتهاد على الإطلاق وأيضا فالمخالف يجوز أن ينعقد الإجماع عن خبر الواحد مع أن الإجماع لا يجوز مخالفته ويجوز مخالفة الحكم الذي رواه الواحد إذا أدى الاجتهاد في حالة إلى ترك حديثه وترجيح غيره عليه ولم يؤد انعقاد الإجماع عنه إلى التنافي فكذلك انعقاده عن اجتهاد
وأما قولهم إنه لا يفسق من خالف حكم الاجتهاد ويفسق من خالف الإجماع فجواب الفريقين عنه أن ذلك ليس من حكم الاجتهاد على الإطلاق بل هو من حكمه إذا لم يقترن به إجماع كما أنه من حكمه إذا لم يقترن به تصويب من النبي صلى الله عليه و سلم
وأما قولهم إن حكم الاجتهاد لا يجوز أن يجعل أصلا يجوز ذلك في حكم الإجماع فان من قال كل مجتهد مصيب لا يجوز لمن لم يؤده اجتهاده إلى الحكم أن يجعله اصلا لأن الواجب عليه غير ذلك الحكم فأما إذا أداه اجتهاده إليه فان منهم من يجعله أصلا ويقيس عليه فرعا آخر بعلة سوى العلة التي ثبت بها الحكم في المسألة المجتهد فيها ومنهم من لا يجعله أصلا لا لأنه مجتهد فيه لكن لأنه لا يجوز أن يقاس عليه إلا بعلة وتلك العلة يمكن أن يقاس الفرع بها على الأصل الأول فلا يكون لجعل ذلك الفرع أصلا معنى فأما الحكم المجمع عليه من جهة الاجتهاد فانه قد صار مقطوعا به كالمنصوص عليه فجاز أن يقاس عليه فرع من الفروع بالعلة التي ثبت بها الحكم فيه ويكون قياس الفرع عليه بتلك العلة كقياسه على الأصل الأول لأن كل واحد منهما طريقه مقطوع به وأما القائلون بأن الحق في واحد فانهم لا يجوزون القياس على ما هو خطأ وما ليس بخطأ فان قولهم في جعله أصلا ينبغي أن

يكون على ما ذكرناه الآن
وأما قولهم إن الحكم الصادر عن اجتهاد غير مقطوع به وعلى تعلقه بالأمارة فجواب أكثر من يقول بأن الحق في واحد أن ذلك هو من حق الاجتهاد إذا انفرد عن إجماع أو تصويب من النبي صلى الله عليه و سلم فاذا اقترن به أحدهما قطع به وعلى تعلقه بالأمارة وإنما يعلم تعلقه بالأمارة بما اقترن به ويجري مجرى أن يكون وقوف غلام زيد على باب الأمير أمارة على كون زيد في الدار فاذا شاهدناه فيها أو أخبرنا نبي قطعنا على كونه فيها وأن حكم الأمارة متعلق بها وكذلك إذا علمنا صحة الإجماع ثم أجمعوا عن أمارة وأما القائلون إن كل مجتهد مصيب فانهم يقولون إن المجتهدين يقطعون على لزوم الحكم لمن أداه اجتهاده إليه كما يقطعون على لزوم الحكم المجمع عليه ويقطعون على أنه غير لازم لمن لم يؤده اجتهاده إليه ويقولون هذا حكم الاجتهاد ما لم يقترن به إجماع ولا تصويب من النبي صلى الله عليه و سلم
وذكر في الشرح أن الأمة إذا أجمعت على حكم الأمارة لم يقطع على تعلق الحكم بها إلا أن تكون أمارة واحدة وتجمع الامة على تعلق الحكم بها ومتى لم يجتمع كلا الشرطين لم يقطع على ذلك والأولى أن يقال يقطع على تعلق الحكم بها لأنه ليس لذلك معنى أكثر من ثبوت حكمها كما ذكرناه في علمنا بأن زيدا في دار الأمير إذا شاهدناه فيها بعد مشاهدتنا لوقوف غلامه على الباب ويدل على جواز وقوع الإجماع عن اجتهاد أنه قد وقع ذلك ولم يكن ليقع إلا ووقوعه جائز ويدل على وقوعه إجماع الصحابة من جهة الاجتهاد على مبلغ حد الشرب وإجماعهم على قتال أهل الردة وإمامة أبي بكر وذكرهم وجه اجتهادهم فان أبا بكر قال لا أفرق بين ما جمع الله تعالى فقاس الزكاة على الصلاة في وجوب قتال المخل بها ولو كان معهم في قتال ما نعي الزكاة نص لنقلوه وقد ذكروا في إمامة أبي بكر تقديم النبي صلى الله عليه و سلم إياه في الصلاة ولقائل أن يقول إنما احتج أبو بكر بالآية على وجوب الزكاة ثم استفاد

وجوب قتالهم من أجل أن إنكار المنكر يكون بالقول فان نفع وإلا فبالقتال

باب في الطريق إلى معرفة الإجماع
اعلم أنه إذا لزمنا المصير إلى الإجماع فلا بد من أن يكون لنا طريق إلى العلم به ولا يخلو إما أن يكون الإجماع معلوما بالعقل ضرورة أو استدلالا وإما معلوما بالإدراك ومعلوم أنا لا نعلم بأول العقل أن الأمة مجمعة على حكم من الأحكام ولا باستدلال عقلي فبقي أن الإدراك هو الطريق إلى ذلك إما أن ندرك قولهم بالسماع أو نشاهدهم يفعلون فعلا وإما أن نسمع الخبر عنهم وإذا لم يجز أن يكون المخبر عنهم هو الله ورسوله لأن الوحي مرتفع كان المخبر عن الأمة غيرهما فثبت أن طريق الإجماع هو سماعنا اقاويلهم ومشاهدهم فاعلين أو النقل عنهم والسماع إما أن يتناول قول كل واحد منهم أو يتناول قول بعضهم فان تناول قول كل واحد منهم كان طريقا كافيا وإن تناول قول بعضهم لم يكن طريقا إلى إجماعهم إلا بأحد أمرين إما أن ينقل لنا ذلك القول عن الباقين وإما أن ينقل سكوت الباقين عن النكير مع انتشار القول فيهم وارتفاع التقية والنقل عنهم إما أن يكون نقلا عن جميعهم فيكتفى به وإما أن يكون نقلا عن بعضهم فلا يكون طريقا إلا بأن نسمع من الباقين مثل ذلك القول وإما بأن نعلم سكوت الباقين عن النكير مع انتشار القول فيهم
والخبر عن المجمعين ضربان تواتر وآحاد وكل واحد منهما طريق إلى الإجماع ونحن نذكر القول المنتشر في الصحابة لدخوله في الجملة التي ذكرناها ولتعلق شبهة المخالف به فنقول إن قول بعض أهل العصر إذا انتشر في جميعهم وسكت الباقون فلم يظهروا خلافا فأما أن يعلم أن سكوتهم سكوت راض يكون ذلك القول قولا له أو لا يعلم ذلك من حالهم فان علم ذلك كان إجماعا لأنهم لو قالوا قد رضينا بهذا القول ونحن معتقدون له كان

إجماعا فاذا علمنا ذلك ضرورة فيهم على قول من يجوز وقوع العلم بالمذاهب باضطرار كان آكد وإن لم نعلم باضطرار أنهم رضوا بذلك القول قولا لهم فلا يخلو إما أن يكون من مسائل الاجتهاد أو لا يكون من مسائل الاجتهاد فان لم يكن من مسائل الاجتهاد فإما أن يكون على الناس فيه تكليف أو لا يكون عليهم فيه تكليف فإن لم يكن عليهم فيه تكليف كالقول بأن عمارا أفضل من حذيفة رضي الله عنهما جاز أن يكون خطأ لا يلزم الباقين إنكاره لأنه إنما يلزمهم إنكاره إذا علموا أنه منكر فاذا لم يلزمهم النظر في كونه منكرا جاز أن لا ينظروا فيه فلا يعلمون أنه منكر فلا يلزمهم إنكاره وليس بممتنع أن يتطابقوا على ترك إنكار ما لا يجب إنكاره ألا ترى أنهم لو سمعوا من يخبر بأن زيدا في الدار لم يلزمهم أن ينظروا هل أخبر عن ثقة أو على حسب ظنه أو أخبر قطعا وهو لا يأمن كونه كاذبا وإذا لم يلزمهم ذلك لم يجب الإنكار عليهم وإن كان على الناس في المسألة تكليف فانه إذا لم ينكر الباقون ذلك القول يكون صوابا لأنه لو كان خطأ لكانوا قد تطابقوا على ترك ما يجب عليهم من إنكار المنكر وإذا كان ذلك القول صوابا فخلافه خطأ لأن المسألة مما ألحق في واحد منه
فإن قيل أيجوز مع كون ذلك القول صوابا أن يكون من سكت يتوقف فيه غير قائل به قيل لا يجوز ذلك لأن إطباقهم على ترك الإنكار يجري مجرى قولهم إنه ليس بمنكر في الدلالة على أن ذلك القول غير منكر ولا يجوز أن يقولوا ذلك فيكون القول غير منكر إلا لأنهم بأجمعهم قالوه
وأما إذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد فالقائلون بأن الحق في واحد وما عداه يجب تركه يقولون في ذلك ما قلناه الآن فيما ليس من مسائل الاجتهاد والقائلون بأن كل مجتهد مصيب اختلفوا فقال أبو علي يكون ذلك إجماعا إذا انتشر القول فيهم ثم انقرض العصر وقال أبو هاشم لا يكون إجماعا ولكنه يكون حجة وقال أبو عبد الله لا يكون إجماعا ولا حجة

وحجة أبي علي أن المتعالم من أهل الاجتهاد إذا سمعوا الحادثة وطال بهم الزمان أن يفكروا فيها فان اعتقدوا خلاف ما انتشر من القول فيها أظهروه إذا لم تكن تقية ولا بد إذا كانت تقية أن يظهر سببها وأيضا فانه إن مات قبل من يتقيه صارت المسألة إجماعا وإن مات من يتقيه قبله وجب أن يظهر قوله فبان أنه لا يجوز أن ينقرض العصر من غير ظهور خلاف لما انتشر إلا وهو متفقون عليه وأيضا فان المتقي قد يظهر قوله عند ثقاته وخاصته فلا يلبث القول أن يظهر
وحجة من قال إنه لا يكون حجة أنه لا يمتنع أن يكون من سكت لم يفكر في المسألة لتشاغله بغيرها من الأشغال كالجهاد وسياسة الناس أو الفكر في غيرها من المسائل فلا يكون القول المنتشر إلا قول بعضهم وليس يؤدي ذلك إلا أن تذهب الأمة كلها عن الحق لأن ذلك القول المنتشر هو حق لأن المسألة من مسائل الاجتهاد وكل مجتهد فيها مصيب
وحجة أبي هاشم في أن ذلك حجة هي أن الناس في كل عصر يحتجون بالقول المنتشر في الصحابة إذا لم يعرف له مخالف
وأبو عبد الله لا يسلم هذا الإجماع على أن من يحتج بذلك يجعله إجماعا لأنه يقول قد انتشر هذا القول ولا يعرف له مخالف فكان إجماعا
وأما نقل الإجماع بخبر الواحد فمن الناس من لم يعمل به ومنهم من عمل به وهو الصحيح لأن قولهم حجة كما أن كلام النبي صلى الله عليه و سلم حجة فاذا لزمتنا الأحكام بنقل كلام النبي صلى الله عليه و سلم من جهة الآحاد فكذلك يلزمنا أن ينقل كلام الامة من جهة الآحاد فأما من قال إنه لا طريق إلى معرفة الإجماع فله أن يحتج فيقول إن المجمعين إما أن يكونوا هم الصحابة أو غيرهم من أهل الأعصار أما غيرهم فان كثرتهم وتباعد ديارهم يمنع أن نعرف في الحوادث قولهم بأجمعهم ألا ترى أن أهل بغداد لا يعرفون أهل العلم بالمغرب فضلا أن

يعرفوا أقاويلهم في الحوادث وأما الصحابة فانا لم نشاهدهم فيشافهونا بالحكم ولم ينقل عن كل واحد منهم قول في الحوادث لا بالتواتر ولا بالآحاد وليس معنى إلا أن بعضهم يقول وينتشر قوله في الباقين ولا يظهر له مخالف وليس هذا باجماع على الصحيح من قول من قال إن كل مجتهد مصيب وليس لكم أن تقولوا إنما تحصل المسألة إجماعا عند سكوت الباقين إذا علمنا أنهم سكتوا سكوت من يرضى أن يكون ذلك القول قولا له لأن الساكت قد يسكت لهذا الغرض ولأنه لا قول له في المسألة وإذا جاز كلا الأمرين خرج السكوت من أن يكون طريقا إلى أن الساكت قد رضي أن يكون القول قولا له وليس يجوز أن يعلم باضطرار أنهم يعتقدون صحة ذلك القول لأنكم لا تضطرون من كل واحد منهم أنه معتقد لما يظهره من الإسلام فكيف تكونون مضطرين إلى أنهم يعتقدون فرعا من فروعه والجواب أن هذه الشبهة لا تمنع من العلم بالإجماع أصلا لأن من عاصر الصحابة يمكنه أن يلتقي بكل واحد من المجتهدين أو ببعضهم ويروى له عن الباقين لأن أهل الاجتهاد كانوا في ذلك الوقت محصورين وكذلك التابعون وانتشار القول في هذا العصر من غير مخالف دليل على الإجماع فيما ليس من مسائل الاجتهاد وفي مسائل الاجتهاد أيضا على قول من قال إن الحق في واحد منها وعلى قول أبي علي أيضا وإن كان يقول إن كل مجتهد مصيب فأما غيره فذكر قاضي القضاة أن ما دل على الإجماع يقتضي أن يكون الله تعالى عنى بالإجماع القول المنتشر لأنه لا يجوز أن يوجب علينا اتباع ما لا سبيل لنا إليه فاذا لم يمكن إلا هذا القدر علمنا أن الله تعالى قد عناه
ولقائل أن يقول إنما أوجب الله تعالى علينا اتباع الإجماع إذا تمكنا منه وذلك يمكن لمن عاصر الصحابة وأمكن أن يسألهم ويمكن أيضا في القول المنتشر فيما ليس من مسائل الاجتهاد وهذا يكفي في حسن إيجاب الله تعالى اتباع الإجماع إذ قد أمكن من بعض الناس وعلى بعض الوجوه

وقد اجيب عن الشبهة أيضا بأنه لا يمتنع أن نعلم باضطرار شيئا طريقه الخبر وإن لم نعلم طريقه مفصلا ألا ترى أنا نعلم باضطرار اعتقاد أهل بلاد الروم النصرانية وأن الغالب على كثير من البلاد الجبر والتشبيه وإن لم نعلم طريق ذلك مفصلا وكذلك نحن نعلم ضرورة أنه ليس في الصحابة رضي الله عنهم من جعل الأخ أولى بالمال كله من الجد ولا يمتنع ذلك وإن لم يعلم طريقه مفصلا
ولقائل أن يقول إنا لا نعلم أن أهل بلاد الروم نصارى كلهم لأنا نجوز أن يكون فيهم المتظاهر بالاسلام واليهودية بل يقطع على ذلك وأن يكون فيهم من يظهر النصرانية ويعتقد غيرها وإنما نعلم أن الغالب عليهم إظهار النصرانية وذلك قد أخبرنا به جماعة نعلم صدقهم ولو كان الغالب عليهم إظهار دين الاسلام لما حاربونا ولما انكتم ذلك
وأما تشبيه مسألة الجد بما نعلمه من أن الغالب على كثير من البلاد الجبر والتشبيه فانه يقتضي أن نعلم أن الغالب على الصحابة أن الأخ لا يرث جميع المال مع الجد على أنا نعلم أنه لم يكن في الصحابة من يظهر ذلك لأنه لو أظهره مظهر لنقل ولكن للمحتج بهذه الشبهة أن يقول لعل من سكت عن القول في مسألة الجد والأخ لم يجتهد في المسألة وليس له فيها قول
وقد اجيب عن الشبهة بجواب آخر وهو انه لا يمتنع أن يضطر إلى أن الساكت عن الإنكار راض بكون ما سكت عن إنكاره قولا له فان لم يكن لنا إلى ذلك طريق معين كما نعلم قصد المتكلم عند كلامه وإن لم يكن لنا طريق معين إلى ذلك وليس لأحد ان يقول قد لا يكون الساكت راضيا بذلك القول لنفسه فلا يجوز أن يحصل العلم بأنه قد رضي بالقول لنفسه كما ليس له أن يقول لا أعلم قصد المتكلم لأن مثل كلامه قد يوجد ولا أعرف قصده ألا ترى أنه قد تجتمع الجماعة للرأي فيشير بعضهم ويسكت الباقون ويفترقون فيعلم أنه رأي جميعهم فاذا علمنا باضطرار أن مذهب جميع السلف أن الأخ ليس أولى بجميع المال من الجد علمنا أنه من هذا القبيل

ولقائل أن يقول ليس يجب إذا علمنا قصد بعض المتكلمين في بعض الأحوال أن نعلم قصد بعض الساكتين ولا يجب ولو علمنا ذلك في بعض الأحوال أن نعلم قصد من سكت في مسألة الجد وغيرها بل لا يمتنع أن يكون من سكت عن النكير إنما سكت لأنه لم يجتهد في المسألة لأن الفرض قد قام به غيره ولا يكون له في ذلك قول
فاذا ثبت أن النقل طريق إلى الإجماع وجب على الامة إظهار قولها ووجب على من سمعه ان ينقله كما يجب إظهار الفرائض على الرسول عليه السلام ويجب على من سمعها منه نقلها عنه وإذا كان من انتشر من الأقاويل في الأمة ولم يظهر له مخالف حجة جاز تخصيص العموم به وإن لم يكن حجة لم يجز ذلك

باب في انقراض العصر هل هو طريق إلى معرفة الإجماع أم لا
عند الشيخ أبي علي أن أنقراض العصر طريق إلى معرفة الإجماع لأن العصر لا ينقرض إلا وقد شاع القول في جميع أهله فلو كان فيهم مخالف لأظهر خلافه وعند غيره أنه لا اعتبار بانقراض العصر في ذلك لأنه ليس يخلو أبو علي إما أن يقول لا طريق إلى الإجماع سواه أو يقول هو طريق وغيره طريق والأول لا يصح لأن المعاصر للصحابة لو سمع القول من كل واحد من المجتهدين أو سمع من بعضهم وأخبر عن الباقين لعلم إجماعهم والثاني أيضا لا يصح لأن ما ذكروه من انتشار القول ووجوب إظهار الخلاف موقوف على تمادي الزمان انقرض العصر أو لم ينقرض ولو كان انتشار القول في جميع أهل العصر موقوفا على انقراض العصر لكان في كونه طريقا إلى الإجماع ما ذكرناه من الخلاف في الباب المتقدم

باب في قول بعض الصحابة إذا لم ينتشر ولم يعرف له مخالف
اعلم أن القول إذا لم ينتشر فيهم فإما أن يكون البلوى به عاما أو غير عام فان لم يكن عاما لم يكن إجماعا ولا حجة ولا كان مقطوعا على انه صواب وعند بعض الناس أنه إجماع يحتج به وإنما قلنا إنه ليس بإجماع لأن القول إنما يكون مجمعا عليه إذا اعتقده كل أهل العصر وليس يجوز أن يعتقده من لم يسمع به ولم يخطر بباله وإنما قلنا إنه ليس بحجة لأنه لو كان حجة لكان حجة لأنه إجماع وقد بينا إنه ليس بإجماع أو لأنه قول بعض السلف وسيجيء القول في ذلك أو لأن الامة أجمعت على الاحتجاج به وليس في ذلك إجماع لأن كثيرا من الناس ينكر على من يحتج بذلك وإنما لم يقطع على أنه صواب لأن من يقول إن الحق في واحد يجوز أن يكون خطأ ومن يقول إن كل مجتهد مصيب يجوز خطأ غيره إذا لم تكن المسألة من مسائل الاجتهاد وإن كانت من مسائل الاجتهاد فانما يحكم بأنه مصيب إذا استوفى الاجتهاد ولم يقل بأول خاطر وليس يعلم أحد من غيره أنه لم يضجع في اجتهاده فلذلك لم يقطع على أن القول صواب على الإطلاق
فان قيل لو لم يكن القول صوابا لكان الصواب قد خرج عن اقاويل الامة والجواب أن هذا الكلام يفيد أن للأمة كلها في الحادثة أقاويل وأن الصواب سواها وليس الأمر كذلك لأن المسألة مفروضة في قول لم يظهر في الأمة خلافه وأيضا فانه يجوز أن لا يكون للأمة في المسألة قول هو حق إذا لم يكن عليهم في ذلك تكليف ألا ترى أنه ليس لهم قول مما لم يحدث في عصرهم وجاز ذلك لما لم يكن عليهم في ذلك تكليف فكذلك لا تكليف عليهم فيما لم يبلغهم
وأما إذا كان البلوى بذلك القول عاما فان لم ينتشر فيهم ذلك القول فلا بد من أن يكون لهم في تلك المسألة قول إما موافق لما نقل إلينا أو مخالف

ولا يجوز مع اهتمام النقلة بالنقل أن يستفيض ذلك فلا ينقل وإذا ثبت أن قول بعض الصحابة إذا لم ينتشر لا يكون حجة فجرى مجرى قول الواحد منهم إذا خالف فيه غيره في أنه لا يخص به العموم

الكلام في الأخبار
أبواب الأخبار
باب في اسم الخبر وحده وما به يكون الخبر خبرا وأقسامه الصدق والكذب
باب في الاخبار التي يعلم صدقها والتي يعلم كذبها والتي لا يعلم كلا الأمرين من حالها باب في بيان وقوع العلم بالأخبار وصفة العلم الواقع بالتواتر باب في شرط وقوع العلم بالأخبار باب في أن خبر الواحد لا يقتضي العلم باب فيما يقبل فيه ما ليس بمتواتر من الأخبار وما لا يقبل فيه ذلك باب في جواز التعبد بأخبار الآحاد باب في ورود التعبد بأخبار الآحاد باب فيما يرد له الخبر وما لا يرد له ويدخل في ذلك المراسيل وغيرها باب في كيف ينبغي للراوي أن يروي وفي المفهوم من روايته باب في الأخبار المتعارضة باب فيما يرجح به الخبر على غيره فالأول باب في اسم الخبر وحده وما به يكون الخبر خبرا وأقسامه الصدق والكذب
أما قوله خبر فواقع على قول مخصوص وليس بواقع على سبيل الحقيقة على الإشارة والدلالة لأن من وصف غيره بأنه مخبر وبأنه فاعل للخبر لم يسبق إلى فهم السامع له إلا أنه متكلم بصيغة مخصوصة
فأما ما معه تكون الصيغة خبرا مستعملة في فائدتها فينبغي أن يشترط فيه الإرادة والأغراض لأن صيغة الخبر قد ترد ولا تكون خبرا بل تكون أمرا ولا تشترط الإرادة والأغراض في كون الخبر على صيغة الخبر

وأما حد الخبر فقد قيل إن أهل اللغة حدوه بأنه كلام يدخله الصدق والكذب فان قيل أليس قول القائل محمد ومسيلمة صادقان خبر وليس بصدق ولا كذب قيل قد أجاب الشيخ أبو علي بان هذا الخطاب يفيد صدق أحدهما في حال صدق الآخر فكأنه قال أحدهما صادق في حال صدق الآخر ولو قال ذلك كان قوله كذبا فكذلك إذا قال هما صادقان ولقائل أن يقول إنه ليس ينبىء هذا الكلام عن أن صدق أحدهما حاصل في حال صدق الآخر ولا أنه قبله ولا بعده فلا يكون ذلك معنى الكلام
وأجاب الشيخ أبو هاشم بأن هذا الكلام يجري مجرى خبرين أحدهما خبر بصدق النبي صلى الله عليه و سلم والآخر خبر بصدق مسيلمة فكما لا يجوز أن يقال في مجموع خبرين متميزين إنهما صدق أو كذب فكذلك في هذا الكلام ولقائل أن يقول بأن هذا الكلام لا يجري مجرى خبرين إلا من حيث أفاد حكما لشخصين وذلك لا يمنع من وصفه بالصدق والكذب ألا ترى أن قول القائل كل شيء قديم كذب وإن أفاد حكما لذوات كثيرة
وأجاب قاضي القضاة رحمه الله بأن مرادنا بقولنا ما دخله الصدق والكذب هو ما إذا قيل للمتكلم به صدقت أو كذبت لم يحظره اللغة وهذه صورة هذا الكلام فكان داخلا في حد الخبر
وأجاب الشيخ أبو عبد الله بأن هذا الكلام كذب فانه يفيد الإخبار عن شيء على خلاف ما هو به لأنه يفيد إضافة الصدق إليهما وليس هو مضافا إليهما وإن كان مضافا إلى أحدهما كان أن قول القائل كل إنسان أسود كذب لأنه يفيد إضافة السواد إلى جميعهم وليس هو مضافا إلى جميعهم
إن قيل إذا حددتم الخبر بأنه ما دخله الصدق والكذب وحددتم الصدق بأنه الإخبار على الشيء على ما هو به وحددتم الكذب بأنه الإخبار عن الشيء لا على ما هو به كنتم قد عرفتم المجهول بالمجهول قيل قد أجاب قاضي القضاة رحمه الله بأن الخبر قد عرفناه ولسنا نريد بتحديده أن نعرفه

وإنما نريد أن نفصله عن غيره فلم يكن فيما فعلنا تعريف المجهول بالمجهول وهذا لا يصح لأنه إن كان الغرض بالحد التمييز فنحن إذا ميزنا وفصلنا الخبر بالصدق والكذب وميزنا الصدق والكذب بالخبر كنا قد ميزنا وفصلنا كل واحد منهما بصاحبه وكأنا قلنا الخبر يتميز بأنه خبر فان صح ذلك فيجب الاقتصار على القول بأن الخبر هو خبر ولا يتكلف هذا التطويل وعلى أنا إن كنا قد عرفنا الخبر وعقلناه فمن سألنا عن حده فانما سألنا عن عبارة تنبىء عن هذا المعقول المعروف لنا فيجب أن نأتي بها والا لم نكن قد حددناه وأيضا فان كنا قد عقلنا جميع معنى الخبر فقد تميز لنا أيضا فيجب أن نستغني عن حده
جواب آخر وهو أن قولنا ما دخله الصدق والكذب أردنا به ما لا يحظر أهل اللغة أن يقال للمتكلم به صدقت أو كذبت وليس يقف حظر ذلك على معرفة الصدق والكذب بل ذلك يرجع فيه إلى اللغة وهذا لا يصح أيضا لأنه إنما يسوغ أهل اللغة أن يقال للمتكلم صدقت أو كذبت إذا عرفونا الصيغة وميزوها مما لا يصح أن يقال لمن تكلم به صدقت أو كذبت فالخبر هو ما اختص بتلك الصيغة فيجب أن يكون حد الخبر هو ما أنبأ عنها
والأولى أن نحد الخبر بأنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الامور إلى أمر من الامور نفيا أو إثباتا وإنما قلنا بنفسه لأن الأمر يفيد وجوب الفعل لا بنفسه وإن ما يفيد هو استدعاء للفعل لا محالة لا يفيد إلا ذلك بنفسه وإن ما يفيد كون الفعل واجبا تبعا لذلك ولصدوره عن حكيم وكذلك دلالة النهي على قبح الفعل فأما قول القائل هذا الفعل واجب او قبيح فانه يفيد تصريحه تعليق الوجوب والقبح بالفعل
فأما أقسام الخبر الصدق والكذب فعند أبي عثمان الجاحظ أن الخبر المتناول للشيء على ما هو به من شرط كونه صدقا أن يعتقد فاعله أو يظن أنه كذلك والمتناول للشيء لا على ما هو به من شرط كونه كذبا أن يعتقده فاعله أو

يظنه كذلك ومتى لم يعتقده كذلك ولم يظنه لم يكن صدقا ولا كذبا وأجراه مجرى الاعتقاد في خلوه من كونه علما أو جهلا إذا تناول الشيء على ما هو به ولم يقتض سكون النفس وحجة أبي عثمان هي أن زيدا إذا كان في الدار فظن ظان أنه ليس فيها فقال زيد في الدار لم يصفه أحد بأنه صادق فبطل أن يكون الخبر إذا تناول الشيء على ما هو به كان صدقا على كل حال ولو قال زيد ليس في الدار لم يصفه أحد بأنه كاذب فبطل ان يكون الخبر متى تناول الشيء لا على ما هو كان كذبا على كل حال ولو أخبر بأن زيدا في الدار وكان فيها وهو يعتقده أو يظنه فيها وصف بأنه صادق ويكون كاذبا إذا أخبر بانه ليس فيها وهو يظنه أو يعتقده فيها
وعند جماعة شيوخنا أن الخبر إما أن يكون صدقا أو كذبا لأن اليهودي إذا قال محمد صلى الله عليه و سلم ليس بنبي لم يمتنع أحد من وصفه بأنه كاذب ووصف خبره بأنه كذب وإن جاز أن لا يكون معتقدا ولا ظانا لنبوته صلى الله عليه و سلم وإذا قال قائل إنه نبي لم يمتنع أحد من وصفه بأنه صادق وأن خبره صدق فعلم أنه لا ينبغي أن يشترط الظن والاعتقاد في كون الخبر صدقا أو كذبا
وقد أفسد قاضي القضاة قول ابي عثمان بأن ظن المخبر واعتقاده يرجع إليه لا إلى الخبر فلم يكن شرطا في كونه كذبا وهذا لا يصح لأنه لا يمتنع ذلك كما أن إرادة المخبر راجعة إليه وهي شرط عنده في كون الخبر خبرا والكلام في ذلك في عبارة والأولى أن نفصل القول فيه فمتى سأل سائل عن رجل قال زيد في الدار وهو يظنه فيها ولم يكن فيها هل هو كاذب وكلامه كذب أو لا فانا نقول هو كاذب وكلامه كذب على معنى أن مخبره على خلاف ما تناوله ونوصف بأنه ليس بكاذب وكلامه ليس بكذب لمعنى أنه لم يقصد به الإخبار عن الشيء لا على ما هو به وإذا اختلف القصد بوصفنا لهذا الخبر بأنه كذب وجب أن لا يطلق الوصف عليه بذلك وأن يقيد وكذلك القول فيمن أخبر بالشيء على ما هو به وهو يظن أنه كاذب أن خبره يوصف بأنه صدق وأنه صادق على هذا التقييد فأما وصف اليهودي بأنه كاذب في

قوله إن محمدا صلى الله عليه و سلم ليس بنبي فمعناه أنه فاعل لخبر مخبره على خلاف ما هو به وأيضا فظاهر من اليهود العناد والتقصير في النظر فهم مقدمون على هذا الخبر مع خوفهم أن يكونوا كاذبين فوصفوا بأنهم كاذبون على طريق الذم

باب في الأخبار التي يعلم صدقها والتي يعلم كذبها والتي لا يعلم كلا
الأمرين من حالها
الأخبار منها ما يعلم سامعها صدقها ومنها ما لا يعلم صدقها أما التي لا يعلم صدقها إما أن يعلم كذبها أو لا يعلم كذبها ولا صدقها والتي يعلم صدقها إما أن يعلمه بأمر منفصل عنها أو غير منفصل عنها فالأول إما أن يكون إخبارا عما يعلم صحته ضرورة بالإدراك أو غيره كالإخبار بعلو السماء على الأرض وبأن العشرة أكثر من الخمسة وإما أن يكون إخبارا عما يعلم صحته بالاستدلال بالعقل وبالسمع كالخبر عن حكمة الله سبحانه وهو وجوب الصلاة وغير ذلك وأما التي يعلم صدقها بما يتصل بالخبر ويتعلق به فإما أن يرجع إلى أحوال المخبر أو إلى أحوال السامع
فالاول ضربان أحدهما أن يكون المخبر لا يجوز عليه الكذب أصلا والآخر لا يجوز كونه كاذبا في ذلك الخبر وإن جاز ان يكذب في غيره فالأول أن يكون المخبر حكيما إما لعلمه وغناه وإما لأنه عصم من الكذب إما لدلالة المعجزات وإما لشهادة الله ورسوله بذلك كالامة وأما المخبر الذي يجوز عليه الكذب في غير ذلك الخبر فانما نعلم صدقه في الخبر إذا لم يكن له داع إلى الكذب ولا يجوز أن يشتبه عليه المخبر عنه وإنما نعلم أنه لا داعي له إلى الكذب إذا كان المخبرون كثرة يمتنع معها أن ينظمهم داع واحد إلى الكذب اتفاقا أو تواطؤا
وأما الراجع إلى السامع فإما أن يرجع إلى إمساكه عن النكير أو إلى مصيره إلى الخبر أما الأول فبأن يخبر المخبر بحضرة من يدعي عليه العلم بصدقه فلا

ينكره مع علمنا بأنه لو كان كاذبا لأنكره إما من جهة الحكمة وإما من جهة العادة فالأول أن يكون من ادعي عليه العلم بصدق الخبر نبيا وأما الثاني فبأن يكون من ادعى عليه العلم جماعة كثيرين ولا داعي لهم إلى الإمساك من رغبة ولا رهبة
فأما الراجع إلى مصيره إلى الخبر فهو أن لا يدعي على السامعين العلم به لكنهم يصيرون إليه عملا أو تقبلا أو تركا لرده على خلاف في ذلك
فاما الأخبار التي يعلم السامع كذبها فمنها ما يعلم ذلك من حالها لأمر منفصل عنها كالأخبار عما يعلم باضطرار كذبها أو بدليل سمعي أو عقلي ومنها ما يعلم ذلك من حالها بأمر متصل به وذلك راجع إلى كيفية نقل الخبر بأن ينقل خفيا ومن حقه أن ينقل ظاهرا وإنما يكون ذلك من حقه إذا كان المخبر عنه ظاهرا وقويت دواعي الدين أو العادة أو كليهما إلى نقله فالأول اصول الشريعة والثاني أن يثبت الناس على رجل بينة في مسجد الجامع يوم الجمعة فلا ينقله إلا واحد أو اثنان والثالث المعجزات فانه قد اجتمع فيها أنها غريبة بديعة وأن الدين يتعلق بها
فأما النص الذي تدعيه الإمامية وتدعي لزوم المعرفة به لأهل كل عصر فانه إذا لم ينقل نقلا يحج وأجمعت الامة على أنه لو كان صحيحا للزم العلم به أهل الأعصار فانا نعلم بطلانه لأن الله عز و جل لو كلفهم العلم به لجعل لهم إليه سبيلا فان لم يجمع الأمة على ذلك لم يعلم بطلانه إلى بطريق آخر لأنه لا يمتنع أن يكون صحيحا ويلزم العلم به من عاصر الإمام ويكون قول من قال إن فرض العلم به لازم لأهل الأعصار كلها باطلا
فأما ظهور مخبر الخبر فليس بموجب بانفراده شياع نقله لأن طلوع الشمس ظاهر ولم يجب نقله فأما أن لا ينقل الشيء نقل نظيره فليس بموجب كذب الخبر إلا أن تكون الدواعي قوية إلى نقله فأما إذا لم يكن كذلك فليس بممتنع إذا لم تقو الدواعي إلى نقله أن يتفق نقل نظيره نقلا شائعا ولا

ينقل هو هذا النقل فأما جهر النبي صلى الله عليه و سلم بسم الله الرحمن الرحيم فلو كان على حد جهره بالفاتحة كلها لنقل كنقل الفاتحة لأن الداعي إليهما واحد لكنه لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم كان يجهر بالفاتحة في جميع صلوات الجهر وكان يجهر بسم الله الرحمن الرحيم تارة دون تارة أو كان يجهر بها جهرا خفيا يسمعها من قوى سمعه ممن قرب منه دون من بعد أو من ضعف سمعه حسب عادة كثير ممن يبتدىء بالقراءة يجهر بها جهرا قريبا ثم يشتد صوته فلذلك اختلف النقل للجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
فأما الخبر الذي إذا فتش عنه أهل العلم ولم يظفروا به في جملة الأخبار بعد استقرار السنن فانه يعلم كذبه لعلمنا أن الأخبار قد دونت ورواية الخبر بعدما دونت الأخبار هي رواية لما دون وننظر فاذا لم يوجد ذلك علمنا كذبه لأنا لم نشاهده كما لو قال الراوي هذا الخبر في الكتاب الفلاني فلا نشاهده فيه
فأما ما يعم البلوى به إذا لم يشتهر نقله فان كان متضمنا للعلم فقد تقدم ذكره وإن كان متضمنا للعمل فسيأتي الخلاف فيه إن شاء الله
وأما الأخبار التي لا يعلم صدقها ولا كذبها فهي أخبار الآحاد التي لا يقترن بها ما يمنع من صحتها وهي ضربان منها ما تتضمن عملا ومنها ما تتضمن علما أما الأول فإما أن لا يجب العمل بها بان لا تتكامل فيها الشروط التي معها يجب العمل بها وإما أن يجب العمل بها إما عقلا كأخبار المعاملات وإما أن يجب سمعا كأخبار الشريعة وكالشهادات عند من لم يوجب العمل بها عقلا وأما المتضمنة للعلم فمنها ما يوافق مقتضى العقل ومنها ما لا يوافقه فالأول يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قاله والثاني إن أمكن تأويله من غير تعسف يجوز أن يكون قاله وإن لم يمكن تأويله إلا بتعسف لم يجز أن يكون قاله على ذلك الحد وإنما يجوز أن يكون قاله مع زيادة أو نقصان أو حكاية عن الغير
واعلم أنه لا يجوز كون أخبار الآحاد المروية عن النبي صلى الله عليه و سلم كلها كذبا لأن

العادة تمنع في الأخبار الكثيرة أن يكذب رواتها على كثرتها واختلافهم وكثرتهم وليس جميع ما يروي عنه صلوات الله عليه صدقا لما روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال سيكذب علي فان كان هذا الخبر صدقا فقد كذب عليه وإن كان كذبا فقد كذب عليه فيه صلى الله عليه و سلم
وقد كان السلف ينكرون كثرة الرواية وحكي عن شعبة أنه قال ثلث الحديث كذب وكثير مما يتضمن الجبر والتشبيه ما لا يمكن تأويله إلا بتعسف شديد لا يتعذر مثله في كل كلام متناقض وذلك يمنع أن يقوله النبي صلى الله عليه و سلم ولا يمنع أن يكون من روى ذلك من المتأخرين فقد تعمد الكذب ولا يمتنع أن يثبت أن بعض الصحابة الذي رواها أن يكون لحقه سهو وغلط وأن يكون النبي صلى الله عليه و سلم حكاه عن غيره وظن الراوي أنه حكاه عن نفسه أوخرج عن سبب بغير فائدته أو تقدمه ما يعين حكمه ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا دخل عليه داخل وهو في حديث ابتدا أوله لأن معنى الحديث يتغير بحسب أوله ولما ذكرنا قالت عائشة فيما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ولد الزنا شر الثلاثة والتاجر فاجر إنما عني صلى الله عليه و سلم تاجرا دلس وولد زنا سب أمه وقالت فيما روي عنه الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس أنه صلى الله عليه و سلم حكاه عن غيره وأنكرت ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الميت يتعذب ببكاء أهله عليه وينبغي أن يواصل رواية هذه الأخبار وأمثالها لتكون مضبوطة فيمتنع الزيادة فيها ولو أهملت روايتها لأمكن أن يزداد فيها فاذا أنكرها منكر قال الراوي إنما لم يعرف ما رويته لأنه مما أهملت روايته وينبغي لراويها أن يتأولها لمن يرويها له إن كان يضعف عن تأويلها أو يبين له بطلانها إن لم يمكن تأويلها

باب في بيان وقوع العلم بالأخبار وبيان صفة العلم الواقع بالتواتر
أما خبر الله عز و جل وخبر رسوله وأخبار الأمة فانما وقع العلم لمخبرها لأن حكمة الله تقتضي صدقه في إخباره وصدق من أظهر عليه المعجز وأخبر

بعدالته وأما الأخبار المتواترة كالإخبار عن وجود مكة وغيرها فقد حكي عن قوم أنه لا علم إلا بالحواس دون الإخبار والذي يبطل قولهم وجد اننا أنفسنا معتقدة وجود مصر وخراسان ساكنة إلى غير ذلك عند تواتر الأخبار علينا بها فجرى مجرى المعرفة بالمشاهدات ويفارق ما يرويه الواحد والاثنان ومن خالف في أنا معتقدون لذلك واثقون به فقد دفع ما نجده فلا وجه لمكالمته وليس لهم أن يقولوا لو وقع العلم بالأخبار المتواترة لوقع عند الخبر الأول والثاني لأن من يقول وإن العلم لمخبر هذه الأخبار مكتسب يقول إن شرط اكتسابه حاصل في التواتر دون الآحاد ومن يقول إنه ضروري يقول إن الله سبحانه اختار فعله عند التواتر دون الآحاد وله أن يقول ما ذكره السائل يجري مجرى الشبه والعلم الضروري لا ينتفي بما يجري مجرى الشبه ألا ترى أن العلم بالمدركات لا ينتفي باختلاف المناظر
واختلف الناس في العلم الواقع عند التواتر فقال شيخانا أبو علي وأبو هاشم إنه ضروري غير مكتسب وقال أبو القاسم البلخي إنه مكتسب وليس ذلك مما يحتاج إليه في أصول الفقه ونحن نؤمن إلى القول فيه لأن الناس قد ذكروه في أصول الفقه ونحيل باستيفائه على ما ذكرناه في شرح العمد فنقول إن الاستدلال هو ترتيب علوم يتوصل به إلى علم آخر فكل ما وقف وجوده على ترتيب علوم فهو مستدل عليه والعلم الواقع بالتواتر هذه سبيله لأنا إنما نعلم ما أخبرنا به إذا علمنا أن المخبر لم يخبر عن رأيه بل أخبر عما لا لبس فيه وأنه لا داعي له إلى الكذب فنعلم أنه لم يتعمد الكذب لعلمنا أنه لا داعي له إلى الكذب ونعلم أنه لا يجوز كونه كذبا وإن لم يتعمده لعلمنا بظهوره وارتفاع اللبس فيه فإذا فسد كونه كذبا ثبت كونه صدقا ومتى اختل شرط من هذه الشروط لم نعلم صحة الخبر
والقول بعد هذا إن ذلك طريق يمكن مثله في كل العلوم وأقوى ما يذكره الذاهبون إلى القول الأول محتجين ومعترضين على ما ذكرنا هو أن الواحد منا

يعلم وجود الصين ولا يعلم أنه اخبره بذلك كثرة وذلك باطل لأن الإنسان يعلم في الجملة أنه قد أخبره بذلك من لا داعي له إلى الكذب وإن لم يعلم أعيانهم ويعلم أن كل من يسأله عن الصين إما أن يخبره عن مشاهدة أو عن خبر من شاهده ويعلم أنه لا يجوز أن لا يكون لوجود الصين أصل ويتصل الأخبار عنها للأزمان الطويلة ولا يظهر كذبها لأحد من الناس ولا يجوز أن يظهر كذبها ولا يتحدث به ويظهر الخلاف فيه والإنكار له فينتشر
واحتجوا أيضا بأن العلم الواقع بالتواتر لا ينتفي بالشبه وهذه علامة الضروري وهذا غير مسلم لأن العلوم المجاورة للضرورية لا تنتفي بالشبه وهي مكتسبة
واحتجوا بان من ليس من أهل النظر كالمراهقين والعوام يعرفون البلدان فعلم أن ذلك غير واقع عن نظر والجواب أن النظر في ذلك ليس هو إلا ترتيب العلوم بأحوال المخبرين وهذا القدر يحصل للعامة والمراهقين لأن هؤلاء لا يمتنع أن يترتب في أنفسهم كثير من العلوم ويحصل لهم عن ذلك علوم أخر
واحتجوا بأن اعتقادنا للاستغناء عن النظر في العلم بالبلدان يصرفنا عن النظر فيه فيجب أن لا يقع منا وذلك يختل كوننا عالمين بها والمعلوم خلافه والجواب أن الاستدلال على ذلك ليس هو أكثر من ترتيب علوم بأحوال المخبرين على ما ذكرنا وذلك يحصل عند سماع المخبر المتواتر لأنا نعلم كثرتهم وامتناع تواطئهم واتفاق الكذب منهم ويعلم ظهور المخبر وارتفاع اللبس فيه والعلم بصحة المخبر عنه يقع عند ذلك من غير استيناف نظر بعد ما ذكرناه فهذا هو القول في الخبر المتواتر
فأما إذا أخبر الواحد بشيء لا لبس فيه بحضرة جماعة لا يتعمد مثلها الكذب فادعى مشاهدتها لذلك ولم يصرفها عن تكذيبه صارف بدين ولا رهبة ولا رغبة فسكتت عن تكذيبه فانه يعلم صدقه لأن استشهاده بها إنما هو طلب

لإخبارها بمثل ما أخبر به أو طلب لسكوتها عن تكذيبه فسكوتها عن تكذيبه كالإخبار عن تصديقه فاذا لم يجز أن يخبر بصدقه وهي عالمة أنه كاذب فكذلك إذا سكتت وأيضا فان نفوس الناس مؤثرة لتكذيب الكذاب سيما إذا استشهدها ومتى كفت عن ذلك وجدت في أنفسها ضررا فاذا لم يكن في مقابلة هذا صارف وجب أن تكذبه بأجمعها أو بعضها إن كان كاذبا فاما أن دعاها التدين أو رغبة إلى السكوت فان ذلك لا يستوي للجماعات في إيثارهما على الإخبار بكذب المخبر إذا علموه كذابا وأما هيبة السلطان فانها إن منعت في الحال عن تكذيبه فانها لا تمنع في المستقبل في غير ذلك المجلس ولا تمنع من إظهار ذلك إلى الإخوان والأصدقاء فلا يلبث ذلك أن يشيع ويظهر ولهذا لا يطمع السلطان في أهل بغداد أن يشتهر بهم الحال في ترك تكذيب المدعي أن بين البصرة وبغداد بلدا أكبر منهما
فاما خبر المخبر بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم فانه إما أن يدعي عليه مشاهدته أو لا يدعي ذلك فان ادعاها فسكوت النبي صلى الله عليه و سلم عن الرد عليه مع كونه كاذبا موهم صدقه فاذا سكوته دليل على صدقه وإن لم يدع مشاهدته فإما أن يكون ما أخبر به من أمور الدين أو الدنيا فان كان من الدين فإما أن يكون قد علم خلاف ذلك من شرعه أو لم يعلم ذلك فان لم يعلم ذلك فسكوته دليل على صدقه لأنه لو كان كاذبا لأوهم صدقه وإن كان قد علم خلاف ذلك من شرعه فاما أن يكون ذلك مما يجوز أن يتغير شرعه فيه أو لا يجوز فان جاز تغيره كان سكوته دليلا على صدقه لأنه لو كان كاذبا لأوهم تغيره مع أنه ما تغير ولأن بسكوته قد ترك أن ينكر عليه فعلا قبيحا وهو كذبه وإن كان مما لا يجوز أن يتغير شرعه فيه لم يجب إنكاره إذا لم يؤثر إنكاره لأنه لا ايهام في سكوته ولا هو ترك لما يؤثر في إزالة المنكر ولهذا لا يجب عليه مواصلة الإنكار على اليهود والنصارى الذين كان يشاهدهم يتظاهرون بانحرافهم إلى الإسلام وإن كان يؤثر إنكاره فلا بد من إنكاره لوجوب إنكار المنكر إذا أثر وذلك نحو إنكار المعاصي على بعض أمته لأنه لا

بد من أن يكون لإنكاره على من يعتقد نبوته تأثير وإن كان ما أخبر عنه المخبر من أمور الدنيا فسكوته عن تكذيبه يقتضي كونه عالما بصدقه أو غير عالم بصدقه ولا بكذبه ولا يجوز كونه عالما بكذبه ولا ينكر ذلك عليه فان علمنا أنه لا يخفي عليه صدقه من كذبه فسكوته دليل على صدقه لأنه لو كان كاذبا لكان ما أتاه قبيحا يلزم إنكاره كسائر المنكر
فأما خبر الواحد إذا أجمعت الامة على مقتضاه وحكمت بصحته فانه يقطع على صحته لأنها لا تجمع على خطأ وإن لم تحكم بصحته فعند الشيخ أبي هاشم وأبي الحسن وأبي عبد الله رحمهم الله أن الأمة لا تجمع على مقتضى خبر الواحد إلا وقد قامت به الحجة وعند غيرهم أنه لا تكون الحجة قد قامت به ولا مقطوعا على معينه لأن الامة إذا اعتقدت وجوب العمل بالخبر المظنون لم يستحل أن يروي لها خبر واحد قد تكاملت فيه شرائط العمل فتعمل به لأن العمل يتبع الاعتقادات ولهذا جاز أن يجمعوا على الحكم بالاجتهاد لما كانوا قد اتفقوا على وجوب العمل به وجواز ذلك في خبر الواحد أولى لأنه أظهر
فان قالوا إذا أجمعنا على وجوب الاجتهاد قطعنا على الاجتهاد قيل إن أردتم أنكم تقطعون على أن الأمارة كانت مقطوعا بحكمها قبل الإجماع لم يصح لأن الأمارة لم تكن دلالة وإن أردتم أن الأمارة بعد الإجماع يقطع على تعلق الحكم بها فليس لذلك معنى إلا أن الحكم مقطوع به لا يجوز خلافه وهكذا نقول في حكم الخبر المجمع عليه وذلك غير القول بأن الخبر قد قاله النبي صلى الله عليه و سلم وحجة الأولين هي أن العادة جارية في أمتنا أنها لا تجمع على مقتضى خبر واحد إلا وقد قامت الحجة به ألا ترى أن ما لم تقم الحجة به لم يتفقوا على مقتضاه كحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم تطيب لحرمة قبل إحرامه وحديث بروع بنت واشق وأما الأخبار عن أصول الصلوات والزكوات فانه لما قامت الحجة بها أجمعوا على حكمها والجواب يقال لهم

إن أردتم أن أكثر أخبار الآحاد لم يتفقوا على موجبها قيل لكم قد جوزتم كون بعضها لم تقم الحجة به وقد وقع الإجماع على حكمه فان قالوا نقيس الأول على الأكثر الذي اختبرناه فعرفنا أن الإجماع لم يقع على حكمه إلا بعد قيام الحجة به بعلة أنها أخبار آحاد قيل لهم لم زعمتم صحة هذه العلة وأيضا فان من يعتقد وجوب العمل بخبر الواحد إذا روى له خبر واحد ولم يعمل به لا يقول إنما لم أعمل به لأنه خبر واحد بل يقول إنما لم أعمل به لأنه لم تتكامل فيه شرائط العمل أو يتاوله ويصير إلى غيره فبان أنه ليس العلة في أن لا يعمل به كونه خبر واحد ثم ينقض عليهم بخبر عبد الرحمن في جزية المجوس وخبر حمل بن مالك في الجنين لأن الصحابة أجمعت على مقتضى ذلك لأجل الخير من غير ان قامت الحجة به لأنهم أجمعوا عند سماع الخبر من غير تجدد شيء آخر ولهذا صح أن يستدل باجماعهم على ذلك على أنهم أجمعوا على العمل بأخبار غير مقطوع بها وإن أردتم أنكم عرفتم أن كل خبر واحد لم تقم الحجة به لم يجمعوا على حكمه قيل لم زعمتم ذلك وما أنكرتم أن يكون كثيرا مما أجمعوا على حكمه من أخبار الآحاد لم تقم به الحجة به ولو كان كل ما اجمعوا على مقتضاه قد قامت الحجة به لم يصح الاستدلال باجماع الصحابة على العمل بأخبار الآحاد
ويمكن أن يحتجوا فيقولوا إذا أجمعوا على موجب الخبر وجب كون الخبر حقا لأنهم لا يجمعون على خطأ ولا يجوز أن يقال إذا أجمعوا على حكمه قطعنا على أن الخبر حق وإن لم تكن الحجة قد قامت به لأن ذلك يقتضي أنهم لا يتفق منهم الإجماع على خبر إلا وقد قاله النبي صلى الله عليه و سلم من غير حجة دلتهم على ذلك ومثل ذلك لا يحصل بالاتفاق كما لا يجوز أن يتفق منهم الصواب من غير دلالة والجواب إنهم لم يجمعوا على صحة الخبر فيكون صحيحا وإنما أجمعوا على حكمه وذلك يدل على أن حكمه حق وصواب ولا يمتنع أن يقطع على صحة الحكم وإن كان الخبر مظنونا غير مقطوع بأن النبي صلى الله عليه و سلم قاله

فاما خبر الواحد إذا عمل عليه أكثر الصحابة وعابوا على من لم يعمل به فحكي عن عيسى بن أبان أنه يقطع به والصحيح أنه لا يقطع به لأن قول أكثر أهل العصر من المجتهدين ليس بحجة والأولى أن يستدل في تحريم بيع درهم بدرهمين نقدا بحديث أبي سعيد رضي الله عنه لا بإجماع الصحابة لأن ابن عباس يخالفهم
فأما إذا عمل بعض الصحابة بخبر واحد وتأوله الباقون فلا يجب القطع به لأنه ليس باتفاق منهم على أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله لأن الواجب على المجتهد أن يعمل به أو يتأوله
وأما إذا تضمن خبر الواحد علما وجاز أن يقوله النبي صلى الله عليه و سلم فان إمساك الصحابة عن إنكاره لا يدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله لجواز أن يكونوا إنما أمسكوا عن ردة لتجويزهم أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قد قاله

باب في شروط وقوع العلم بالخبر المتواتر
اعلم أن من جعل العلم الواقع بالتواتر مكتسبا يشرط في وقوع العلم به أن يكون المخبرون كثرة يمتنع معها اتفاق الكذب منهم والتواطؤ عليه وأن يكونوا إنما أخبروا به مضطرين وإنما شرطنا ذلك لأنا لو جوزنا أن يشتركوا في الكذب اتفاقا أو بتواطؤ أو تراسل لم نأمن أن يكونوا كذبوا لهذين الوجهين ولو جوزنا أن يكونوا قد التبس عليهم ما أخبروا به فظنوا أنهم محقون فيه وهم غير محقين لم نثق بصحة ما اخبروا به وإنما قلنا إن ما تكاملت فيه هذه الشرائط من الأخبار يعلم صحتها لأن ما أخبر به المتواترون لو كان كذبا لم يخل إما أن يكونوا قد اعتقدوا كونه كذبا وتعمدوه أو يكونوا لم يعتقدوا ذلك بل ظنوه صدقا وهذا الاخير غير حاصل فيما هو معلوم باضطرار لأنه لا لبس في ذلك ولا اشتباه وإن كانوا تعمدوا الكذب فأما

أن يكونوا تعمدوه لغير داع أو لداع والاول باطل لأن المميز لا يفعل إلا لداع سيما ما له عنه صارف وإن كانوا تعمدوه لداع فإما أن يرجع الداعي إلى الخبر أو إلى غيره والأول باطل لأن الراجع إلى الخبر هو كونه كذبا وذلك يصرف عن فعله ويفارق إخبارهم بالصدق عما فيه فائدة لأن الفائدة تدعو إلى ذلك وكون الخبر صدقا لا يصرف وما يرجع إلى غير الخبر فهو إما الدين أو الدنيا من رغبة أو رهبة ولا يخلو إما أن يفعلوا ذلك لداع واحد من هذه الدواعي وإما أن يفعله بعضهم لبعض هذه الدواعي وبعضهم يفعل للبعض الآخر ولا يخلو إما أن تحصل لهم هذه الدواعي بتراسل أو تحصل لهم من غير تراسل ولا تشاعر أما التدين المؤدي إلى الإخبار بخلاف ما يعلم باضطرار فتدين ظاهر البطلان وليس يجوز أن يشترك الخلق العظيم في ترجيح ما قد ظهر فساده من التدين على ما في عقولهم من تجنب الكذب والنفور منه سيما إذا علم الكذاب أن غيره يعلم أنه كاذب بل لا بد أن يختلف أحوال الجماعات الكثيرة في ذلك إن لم يتفقوا على تجنب الكذب والعدول عن ذلك التدين الظاهر البطلان ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون قد دخلت عليهم شبهة في ذلك التدين أو لم تكن دخلت عليهم شبهة لأن الجماعة الكثيرة لا يتساوون في ترجيح الشبهة على ما في عقولهم من استقباح الكذب كما لا يجوز أن يتساووا في مأكل واحد وسلوك طريق واحد وأما الرغبة واعتقاد المنفعة فقد تكون رجاء عوض عن الكذب وقد تكون إيثار إطراف الناس فكثير من الناس يحبون أن يخبروا غيرهم بما لا أصل له ليطرفوهم ويقربوا بذلك من قلوبهم والجماعات لا يتساوون في إيثار ذلك على إطراح الكذب ولا يتساوون في الافتقار إلى ما وقعت الرغبة به بل كثير منهم لا يحتاج إليه وكثير منهم يحتاج إليه ولا يؤثره على الصدق فأما رغبة السلطان ورهبته فانهما لا تجمعان الجمع العظيم على الإخبار بما يعلمونه باطلا ألا ترى أن السلطان لا يمكنه ذلك في جميع أهل بغداد لأنه لا يحيط بهم إحصاؤه حتى يصير كل واحد منهم مضطرا إلى الخبر وقد تغري رهبة السلطان كثيرا من الناس بالتحدث بالشيء

على حقيقته عند الإخوان والثقات ولا يلبث بذلك أن يشيع الخبر الصحيح في الناس وربما علمنا في كثير من الأشياء أنه لا غرض للسلطان في أن نخبر عنها بالكذب وأنه لا غرض للمخبرين في ذلك ولا يجوز إبطال هذا القسم بأنه لو كان السلطان أرهبهم لظهر لأنه يقال في ذلك ما أنكرتم أن يكون السلطان دعاهم بالرهبة إلى كتمان الرهبة ولا يجوز أن تكون الجماعة العظيمة بعضها يخبر بما يعلم كذبا بالرغبة وبعضها لرهبة وبعضها للتدين لأن كلامنا في جماعة عظيمة أبعاضها جماعة عظيمة يمتنع تساوي أحوالها في قوة هذه الدواعي وإيثارها على استقباح الكذب والنفور عنه مع ما في طباع الناس من محبة التحدث بما كان وليس يجوز أن يقال إن الجماعة العظيمة قد يكون أن تخبر بما تعلمه كذبا أو تكتم ذلك إلا الواحد والإثنين لأنه إن جاز ذلك في الجماعة العظيمة إلا الواحد جاز مع ذلك الواحد ووجب لو لم يكن فيها ذلك الواحد أن يجوز أن يجتمعوا على الكذب وفي ذلك جواز الكذب على المتواترين
فهذه الشرائط يعتبرها من يقول إن العلم بالتواتر مكتسب ومن يقول إنه ضروري لا يعتبرها ويقول إن العلم لا يحصل بتأمل أحوال المخبرين وإنما يحصل من فعل الله سبحانه فان فعله الله سبحانه علمنا تكامل شروط التواتر في الخبر وإن لم يفعله علمنا أنه لم تتكامل الشرائط فيه ونقول إن العلم الضروري لو لم يحصل بالتواتر لكان يستدل به ويشرط في صحة الاستدلال به ما ذكرناه من الشرائط ونقول أيضا يجوز أن لا يقع العلم الضروري بخبر العشرين والثلاثين فان لم يقع العلم بخبرهم الضروري أمكن أن يستدل به إن حصلت فيه الشرائط التي ذكرناها
ويشرطون في حصول العلم الضروري بالتواتر أشياء
منها أن لا يكون السامعون عالمين بما أخبروا به باضطرار وليس يليق الكلام في ذلك بأصول الفقه وقد ذكرناه في الشرح للعمد

ومنها أن يكون المخبرون أكثر من أربعة
ومنها أن يكونوا مضطرين إلى ما أخبروا عنه ومن حكمه أنه إذا وقع العلم بخبر عدد أن يقع بخبر من ساواه في ذلك العدد فاذا وقع العلم لعاقل أن يقع لكل عاقل
أما وقوع العلم بخبر أربعة فمن قال إن العلم بالأخبار مكتسب فانه يقول إنما يقع العلم بالتواتر لأنه قد علم أن المخبرين لا داعي لهم إلى الكذب وإنما يعلم ذلك إذا علم استحالة اشتراكهم في داع واحد اتفاقا أو تواطؤا والأربعة لا يعلم استحالة كلا الأمرين عليهم فلم يقع العلم بخبرهم وأما من يقول العلم الواقع بالتواتر ضروري فانه يقول لو وقع العلم بخبر أربعة عن مشاهدة لوقع بخبر كل أربعة اضطروا إلى ما أخبروا عنه فكان يجب إذا شهد أربعة أنهم شاهدوا فلانا يزني أن يستغنى القاضي عن السؤال عنهم لأنه إن علم صدقهم فلا حاجة به إلى السؤال عنهم وإن لم يعلم صدقهم علم أنهم كذبة أو بعضهم فيستغني أيضا عن السؤال ولا يقيم الحد وفي الإجماع على وجوب إقامة الحد وإن لم يضطر إلى صدقهم على أن العلم لا يقع بخبر أربعة
ولا يقدح في ذلك كون الشهود مخبرين بلفظ الشهادة لا بلفظ الخبر لأن اختلاف الألفاظ لا يؤثر في ذلك ألا ترى أن الأخبار المتواترة بالفارسية والعربية سواء في وقوع العلم ولا يقدح في ذلك أن يقال إن من شرط الشهادة أن يجتمعوا في الشهادة وذلك يجوز وقوع التواطؤ منهم لأن اجتماع الأربعة عند الخبر وافتراقهم سواء في تجويز كونهم متواطئين فان جاز في إحدى الحالتين وقوع العلم بخبرهم جاز مثله في الحالة الأخرى
إن قيل فيجب إذا وجب على الحاكم أن يقيم الحد بشهادة خمسة وإن لم يضطر إلى العلم بصدقهم أن يدل ذلك على أن العلم الضروري لا يقع بخبر خمسة قيل لا يجب ذلك لأنه لا يمتنع أن يقع العلم بخبر خمسة وأن يكون

الحاكم إنما لم يعلم ضرورة صدق هؤلاء الخمسة وإن وجب عليه إقامة الحد لجواز أن يكون أربعة منهم شهدوا عن مشاهدة والخامس لم يشاهد فلزمه إقامة الحد بشهادة أربعة منهم وإن لم يعرفهم بأعيانهم ولا يمتنع أن يكون إنما لم يعلم صدقهم لأن الخمسة لا يقع العلم بخبرهم وإذا لم يمتنع كلا الأمرين لم يكن في ذلك دليل على أن الخمسة لا يجوز وقوع العلم بخبرهم ووجب كون ذلك مشكوكا فيه ولا يلزم على ذلك أن لا يقع العلم بعدد القاسمة من حيث لم يعتبر الحاكم وقوع العلم بخبرهم لأن أهل العراق يقولون يحلف خمسون من المدعى عليهم كل واحد منهم أنه ما قتل ولا عرف قاتلا فليس يخبرون عن مخبر واحد بل كل واحد منهم يخبر عن غير ما يخبر عنه الآخر وعند الشافعي يحلف خمسون من المدعين كل واحد منهم بحسب ظنه فمخبر كل واحد منهم غير مخبر الآخر
فان قيل ولو قالوا لو وقع العلم بخبر أربعة لوقع بخبر كل أربعة قيل لأنه لو وقع العلم بخبر قوم ولم يقع بخبر مثلهم مع تساويهم في الشروط لم يمتنع أن يخبرنا قافلة الحاج عن مكة فنعرفها وأن يخبرنا عن المدينة فلا نعرفها وفي ذلك جواز الشك في البلدان مع تواتر الأخبار عنها وهذا لا يصح لأن العلم بمخبر الأخبار من فعل الله عز و جل عندهم فما يؤمنهم أن يفعل العلم عند خبر اربعة دون أربعة ولا يجري العادة في ذلك على طريقة واحدة ويجري العادة على طريقة واحدة في فعل العلم عند إخبار الجماعات الكثيرة فلا يلزم الشك إذا أخبر بها الجماعات
فأما اشتراط كون المخبرين عالمين بما أخبروا عنه ضرورة فان من يقول إن العلم بالتواتر مكتسب يجعل من شرط الاستدلال به أنه لا يشتبه على المخبرين ما أخبروا عنه فيظنوه حقا فيخبروا عنه وأن لم يقصدوا الكذب وهذا يقتضي أن لا يكونوا عالمين باستدلال لأن ما يعلم باستدلال يجوز دخول الشبهة فيه على الخلق العظيم يبين ذلك أن المسلمين على كثرتهم يخبرون

اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم فلا يعلم اليهود ذلك ولو أخبرهم بعض المسلمين بما شاهدوه لعلمه اليهود ولا فرق بينهما وهذا الوجه يحتج به من قال إن العلم بمخبر الإخبار ضروري ويحتج أيضا بأن علم السامع فرع على علم المخبر ولم يجز كونه ضرورة مع كون الأصل مكتسبا وهذا لا يصح لأن علم السامع ليس بصادر عن علم المخبر وإنما هو فعل الله سبحانه مبتدأ إخبار إيجاده عن الخبر فلم يمتنع أن يفعله عند خبر من تعلم ما أخبر عنه باستدلال
فأما ان كل عدد وقع العلم بخبرهم لجماعة فانه يقع العلم بخبرهم لغير تلك الجماعة ويقع العلم بخبر مثل هؤلاء المخبرين فالدليل عليه عندنا هو أن العلم إنما يقع بخبرهم لأنهم اختصوا بشروط معلومة تؤدي إلى العلم بصدقهم وهي متقررة عند كل من عرف العادات وإن لم يعتبر عنها كثير منهم فاذا حصلت هذه الشروط في عدد آخر وجب أن يؤدي خبره إلى مثل ما أدى إليه خبر الأولين
وأما من قال إن العلم بالمخبر عنه ضرورة فانه يقول لو جاز خلاف ذلك لم يمتنع أن يكون في العقلاء من يخبرهم المتواترون بما شاهدوه فلا يعلم صدقهم وفي ذلك تجويز كون بعض العقلاء غير عالمين بأن في الدنيا مكة مع سماعه الأخبار عنها كسماعنا ولقائل أن يقول إن هذا الكلام يقتضي إحالة انتفاء العلم بمكة وأنتم لا تحيلون ذلك لأن وقوع العلم بذلك مبتدأ من فعل الله عز و جل
فان قالوا ليس ذلك بمحال ولكنا قد علمنا أنه لن تختلف فيه السامعون قيل لهم وكيف علمتم ذلك ولعل العادة قد جرت بخلاف ذلك في كثير من العقلاء وليس من شرط وقوع العلم أن يكون المخبرون أو بعضهم مؤمنين أما على قولنا فلأن الخبر طريق إلى العلم من حيث لم يكن للمخبرين داع إلى تعمد الكذب ولا كان الحق فيه ملتبسا ومجموع ذلك يمكن حصوله مع الكافرين ولأن أهل بلاد الكفر يعملون بتواتر أهل مقالاتهم من أحوال البلاد مثل ما

نعلمه نحن وهذا الوجه يحتج به من قال إن العلم بالتواتر ضروري وليس من شروط وقوع العلم بالخبر المتواتر أن يكون المخبرون عشرين لأنه لا دليل على اشتراط ذلك والأظهر أن شرط الاستدلال لا يحصل فيهم ومن يشرط هذا العدد يتعلق بقول الله سبحانه إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين قالوا فأوجب على العشرين الجهاد وإنما خصهم بالوجوب لأنهم إذا أخبروا علم صدقهم وهذا لا يدل لأنه الآية إنما تقتضي وجوب صبرهم لمائتين وليس فيها قصر الوجوب عليهم والأمة أيضا مجمعة على وجوب الجهاد على العشرة إذا كان فيهم غنى ولو أوجب الله على العشرين الجهاد دون من نقص منهم لم يكن في ذلك دلالة على أنه إنما خصهم بالوجوب لما ذكروه دون غيره من وجوه المصالح التي يختص الله تعالى بالعلم بها ولا دليل على اشتراط كون المخبرين سبعين ولا ثلاث مائة على ما يحكى عن بعضهم في السبعين تعلقا باختيار موسى سبعين رجلا من قومه ليصيروا معه إلى مناجاة ربه ولا فائدة في ذلك إلا ليخبروا قومهم فلو وقع العلم بخبر من دونهم لم يكن لاختيارهم فائدة وهذا لا يصح لأنه ليس في الآية أنه اختارهم لهذا الغرض ويجوز أن يكون اختارهم لهذا الغرض ولغيره ولم يكن مجموع الغرضين حاصلا فيمن دونهم وتعلق من اشتراط ثلاث مائة بأنهم عدة أهل بدر فتعلق بما لا علقة له بالمسألة فان قالوا إنما اختارهم النبي صلى الله عليه و سلم ليخبر المشركين بشرعه قيل لهم فقد كانوا أكثر من ثلاث مائة وايضا فمن أين أنه اختارهم لهذا الغرض وما تنكرون أنه اتفق اختيار ذلك العدد لا لما قالوه

باب في أن خبر الواحد لا يقتضي العلم
قال أكثر الناس إنه لا يقتضي العلم وقال آخرون يقتضيه واختلف هؤلاء فلم يشرط قوم من أهل الظاهر اقتران قرينة بالخبر وشرط أبو إسحاق النظام في اقتضاء الخبر العلم اقتران قرائن به وقيل إنه شرط ذلك في التواتر

أيضا ومثل ذلك بأن نخبر بموت زيد ونسمع في داره الواعية ونرى الجنازة على بابه مع علمنا بأنه ليس في داره مريض سواه وحكي عن قوم أن يقتضي العلم الظاهر وعنوا بذلك الظن
واحتج الأولون بأشياء
منها أن خبر الواحد لو اقتضى العلم لاقتضاه كل خبر واحد كما أن الخبر المتواتر لما اقتضاه اقتضاه كل خبر متواتر وهذا اقتصار على الدعوى فان قالوا إنما اقتضى كل خبر متواتر العلم لأنه من قبيل ما يقع العلم عنده وهذا قائم في خبر الواحد لو كان فيه ما يقتضي العلم قيل لم زعمتم أن هذه هي العلة وما انكرتم أن العلم الواقع بالتواتر إن كان ضروريا فهو من فعل الله سبحانه فما يؤمنكم أن يختار فعله عند كل خبر متواتر لاقتضاء المصلحة لذلك ولم يقتض المصلحة فعله عند كل خبر واحد فلم يفعله عند كل أخبار الآحاد وإن كان العلم بالتواتر مكتسبا فما يؤمنكم أن تكون شروط الاستدلال به تتساوى فيها الأخبار المتواترة ولا يسمع فيه أخبار الآحاد
ومنها قولهم إن العلم لا يقع لشيء من الأخبار التي يرويها أربعة فقط فلم يقع لشيء من الأخبار التي يرويها واحد لأن الأربعة واحد وزيادة وهذا لا يصح لأنا قد بينا انه لا طريق لهم إلى العلم بأن العلم لا يقع لشيء من الأخبار التي يرويها أربعة
ومنها إبطالهم مذهب النظام لأنه لو وقف حصول العلم بالمخبر عنه على قرائن لم يمتنع أن يخبر المتواترون رجلا عاقلا بمكة ولا يقترن بخبرهم هذه القرائن فلا نعرفها وهذا إنما يفيد مذهب أبي إسحاق في اشتراط القرائن في وقوع العلم بالأخبار المتواترة ولعل أبا إسحاق عنى بالقرائن بالأخبار المتواترة ما لا ينفك منها الأخبار المتواترة نحو امتناع اتفاق الكذب منهم وأن لا يصح فيهم التواطؤ فلا يلزمه أن لا يعلم بعض العقلاء أن في الدنيا مكة
ومنها أنه ليس يخلو العلم الواقع عند الخبر إما أن يكون سببه القرينة

وحدها أو القرينة بشرط الخبر أو الخبر وحده أو الخبر بشرط القرينة والقسمان الأولان باطلان لأن القرينة لا تتناول المخبر عنه وإنما المتناول له هو الخبر فلم يجز أن لا يكون هو سبب العلم أو يكون سببه غيره ولو كان الخبر وحده يقتضي العلم لاقتضاه إذا تجرد والمعلوم خلافه ولا يجوز أن يقتضيه لشرط القرينة كسماع الواعية من دار المريض مع تقدم العلم بأنه لا مريض في الدار سواه لعلمنا أنه لو تجردت هذه القرينة عن الخبر لكان اعتقادنا موت ذلك المريض كاعتقادنا موته مع الخبر وهذا لا يصح لأنه يجوز أن يكون سبب الصراخ في داره موت غيره فجأة فاذا سمعنا الخبر بموت ذلك المريض مع الواعية كان اعتقادنا لموته آكد من اعتقادنا لموته عند سماع الواعية فقط فلا يمتنع أن تكون هذه القوة هي العلم على أن ما أبطلوا به أن تكون القرينة وحدها مقتضية للعلم لا يصح لأنها وإن لم يكن لفظا متناولا للمخبر عنه فهي فعل لا داعي إليه إلا الموت أعني الصراخ وحضور الجنازة وهذا وجه صحيح في التعلق بالمخبر عنه
وينبغي أن نقسم الكلام على المخالف فنقول به أتزعم أن كل خبر واحد يقتضي العلم فان قال نعم فنحن نعلم أن كثيرا من الناس يخبروننا بما لا نظنه فضلا أن نعلمه وكان يجب فيما لا نعلم صدقه من الأخبار أن نعلم كذبه وإن قالوا إنما نعلم صدق بعض أخبار الآحاد دون بعض قيل أتعلمون ذلك ضرورة أو اكتسابا فان قالوا ضرورة قيل هذا باطل لأنه ليس يكفي مجرد الخبر في وقوفنا على مخبره من دون أن نلحظ أمورا أخر فان كنا عالمين بالمخبر عنه فانما يقتضي علمنا به اكتسابا وتلك الامور إما أن ترجع إلى احوال المخبر وإما أن ترجع إلى غير احواله ومثال الثاني اقتران الواعية وحضور الجنازة بالخبر عن الموت وأما أحوال المخبر فنحو أن يكون له صارف عن الكذب في ذلك الخبر ولا يكون له داع إليه نحو أن يكون متحفظا من الكذب نافرا عنه في الجملة ونحو أن يكون رسولا من سلطان يذكر أن السطان يأمر الجيش بالخروج إليه فعقوبة السلطان تصرفه عن

الكذب ونحو أن يخبر الإنسان بأسعار بلده وهو ذو مروءة تصرفه عن الكذب ولا يكون له إلى الكذب في ذلك داع ونحو أن يكون الإنسان مهتما بأمر من الامور متشاغلا به فيسأل عن غيره فيخبر عنه في الحال فيعلم أنه لم يفكر فيه فيدعوه إلى الكذب داع مع علمنا بأن كونه كذبا يصرف عنه وهذه الأمور تقتضي أن لا غرض للمخبر في الكذب فيبطل بذلك أن يتعمد الكذب فيعلم أنه إنما تعمد الصدق وهذا استدلال على الشيء بابطال ضده
وإن قالوا إنما نعلم صدق خبر الواحد استدلالا بما ذكرتموه الآن قيل ليس فيما ذكرنا ما يؤدي إلى العلم لأنه قد يخبرنا الإنسان بموت المريض ويكون غرض أهله بالصراخ عليه وإحضار الجنازة إيهام السلطان موته ليسلم منه أو يكون قد أغمي عليه أو يكون غيره قد مات فجأة وقد يكون الإنسان شديد التحفظ من الكذب في الظاهر دون الباطن وقد يعدل عنه في بعض الأشياء دون البعض وقد يكون الإنسان مهتما بما يسأل عنه ويظهر أنه مهتم لغيره فاذا سئل عنه أظهر أنه قد نبه عليه وقد كان ساهيا عنه ثم أجاب عنه ليوهم أنه لم يتعمد الكذب فيه وقد يسبق من الإنسان يمين في أن يكذب في سعر الأشياء أو يكون غرضه أن يعجب الناس بغلاء الأسعار أو رخصها وإن كان كاذبا أو يكون له غرض في نفاق سلعته أو سلعة صديقه وقد يشتبه عليه الحال في ذلك فيخبر بالكذب وإن لم يتعمده وقد يرغب رسول السلطان بالمال الجزيل في أن يخبر رعية السلطان وجيشه بأمر السلطان إياهم بالخروج إليه وربما أمرع السلطان بالكذب في ذلك إما استهزاء وإما اختبارا لطاعة جنده وإذا أمكنت هذه الوجوه لم يعلم أنه لا غرض للمخبر إلا الصدق فلم يعلم صدقه وإن غلب الظن
وأما خط الإنسان فانه قد يتميز من غيره صورة كما يتميز صور الناس بعضها من بعض فاشتباه خط زيد بخط عمرو في بعض الحالات لا يقدح فيما

قلناه كما لا يقدح في تمييز الصور حصول الاشتباه بين بعض الصور في بعض الحالات
واحتج أهل الظاهر بأن الله عز و جل منعنا أن نقول عليه ما لا نعلم وتعبدنا بخبر الواحد فعلمنا أن خبر الواحد يقتضي العلم لا الظن والجواب إن التعبد بخبر الواحد لا يقتضي جواز القول علىالله بما لا يعلم لأنا وإن ظننا صدق الراوي فانا نعلم بدليل قاطع وجوب العمل به وإذا قلنا إن الله تعبدنا بذلك العمل فقد قلنا على الله بما لا نعلم

باب فيما يقبل فيه خبر الواحد وما لا يقبل فيه
اعلم أن الرواية إما تتضمن شرعا عن النبي صلى الله عليه و سلم أو لا تتضمن ذلك والأول إما أن نكون تعبدنا فيه بالعلم فلا نقبل فيه خبر الواحد أو لم نتعبد فيه بالعلم بل بالعمل فنقبل فيه خبر الواحد إذا تكاملت شرائطه وسواء كان عبادة مبتدأة أو ركنا من اركانها أو حدا أو ابتداء نصاب أو تقديرا
وحكي قاضي القضاة رحمه الله عن الشيخ أبي عبد الله رحمه الله أنه كان يمنع من قبول خبر الواحد فيما ينتفي بالشبه وحكي عن أبي يوسف خلاف ذلك من قال ثم سمعته يقول بالقول الثاني وكان يمنع من قبوله في ابتداء الحدود وابتداء النصب وأركان الصلوات ويفرق بين ابتداء النصب وبين توافي النصب فقبل خبر الواحد في النصاب الزائد على خمسة أواق لأنه فرع ولا يقبله في ابتداء الفصيلات والعجاجيل لأنه أصل عنده ويقبل خبر الواحد في إسقاط الحدود ولا يقبله في إثباتها وقاضي القضاة يقبله في كل ذلك لأنه لا وجه يفصل به بينها وبين غيرها
وانتفاء الشيء بالشبه لا يمنع من قبول الخبر فيه كما لا يمنع من قبول الشهادة فيه غير أنا لا نقبل خبر الواحد في الحدود على وجه العقوبة وإنما

نقبله في الحدود على وجه الامتحان إلا على قول من أجاز العقوبة مع الظن وظاهر آية السرقة إنما يقتضي قطع السراق عقوبة وإنما علمنا بالسنة أن من قطع امتحانا مراد بالآية
وإن كان ما يرويه الراوي ليس يتضمن إضافة شرع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فإما أن يجري مجراه كاضافة الفتوى إلى المفتي فيقبل فيه خبر الواحد وإما أن لا يجري مجرى إضافة الشرع وهذا إما أن يتضمن ما يفتقر إلى حكم الحاكم أو يتضمن ما لا يفتقر إلى ذلك فان تضمن ما لا يفتقر إلى حكم الحاكم فاما أن يتعلق به حكم شرعي أو لا يتعلق به ذلك فان لم يتعلق به ذلك كالهدايا والمعاملات وذلك يقبل فيه خبر الواحد إذا غلب على الظن صدقة بالغا كان المخبر أو غير بالغ فاسقا كان أو عادلا ويقبل أيضا في أمور الدنيا ما يجري مجرى الخبر في اقتضاء غالب الظن ولهذا قلنا إن وضع الماء في الطريق على بعض الوجوه يبيح شربه كما يبيحه الخبر بإباحته ووضع الصدقة في يد السائل يبيحه أخذها
فأما ما يتضمن ما يتعلق به حكم شرعي فالإخبار عن نجاسة الماء وكون الشاة ميتة يقبل خبر الواحد فيه ولتعلقه بالشرع لا يقبل فيه خبر المشرك واختلفوا في قبول خبر الفاسق لأن له شبها بأمور الدنيا وبأمور الدين فلذلك وقع الخلاف
وأما ما يفتقر إلى حكم الحاكم فمنه ما ليس هو حكما على معين ولا يتعلق به المخاصمة ومنه ما يكون حكما على معين ويتعلق به المخاصمة أما الأول فنحو رؤية هلال شوال ورمضان واختلف الفقهاء في هلال شوال فقبل بعضهم فيه خبر الواحد ولم يقبل بعضهم فيه إلا خبر اثنين وإنما وقع الخلاف فيه لأن له شبها بالأمور الدينية وله شبها بما يتعلق بالخصومات لأنه قد يحكم به الحاكم

وأما القسم الثاني فضربان أحدهما لا يمكن أن يقف عليه أكثر من واحد والآخر يمكن ذلك فيه فالأول يقبل فيه خبر الواحد وذلك دعوى المرأة انقضاء عدتها في زمان يجوز انقضاؤها فيه وأما الذي يمكن أن يقف عليه أكثر من واحد فمنه ما يشق ومنه ما لا يشق في الغالب والأول يقبل فيه خبر الواحد كشهادة القابلة في الولادة والثاني لا يقبل فيه خبر الواحد كالحقوق والحدود فصار خبر الواحد إنما يقبل في إثبات شرع ليس له طريق معلوم ولا يقبل في كثير مما يتعلق بالحكومات على الآخر ويقبل خبر الواحد في إثبات شرع ثم يتبع ذلك تعليق الحكم على الأعيان ولهذا قبلت الصحابة وضي الله عنها خبر الواحد في الجدة وتبع ذلك تعليق حكم على العين ولم يقبلوا خبر الواحد في رد الحكم لما تعلق بعين

باب في جواز ورود التعبد بأخبار الآحاد
ذهب أكثر الناس إلى جواز التعبد بالعمل به ومنع آخرون من ذلك والدليل على جوازه أنه يجوز التعبد بالأخبار المتواترة فلو امتنع التعبد بأخبار الآحاد لامتنع ذلك لما به يفارق أخبار الآحاد أخبار التواتر والذي يمكن أن يقال إنهما يفترقان فيه شيئان أحدهما أن يقال إن العمل بأخبار الآحاد غير معلوم والآخر أن العمل بها وإن كان معلوما فانه موقوف على ظن صدق المخبر ووجوب العمل وقبحه لا يقفان على الظن
والذي يفسد الوجه الأول هو أنا نجيز العمل بخبر الواحد بأن يدل دليل قاطع على وجوب العمل به إذا تكاملت شروطه فنكون عند تكامل الشروط عالمين بوجوب العمل لمكان الدليل إذ لا فرق بين أن يقول الله عز و جل إذا غلب على ظنكم صدق الراوي فاعملوا بخبره وبين أن يقول إذا أخبركم فلان فاعملوا بخبره وبين أن يقول افعلوا كذا وكذا في أنا نعلم وجوب

الفعل في هذه الأحوال كلها
وأما الوجه الثاني وهو وقوف العمل على الظن فليس يمتنع لأن الفعل الشرعي إنما يجب لكونه مصلحة ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة وكوننا ظانين لصدق الراوي صفة من صفاتنا فدخلت في جملة أحوالنا التي يجوز كون الفعل عندها مصلحة واجبا أو محظورا ولهذا يلزم المسافر سلوك طريق وتجنب آخر إذا أخبر بسلامة ذلك واختلال هذا من يغلب على ظنه صدقه ووجب على الإمام القطع والجلد والقتل إذا شهد بالزنا والقتل والسرق شاهدان أو أربعة ظاهرهم العدالة
وقد فرقوا بين خبر الواحد وبين الشهادة بأشياء
منها أن الشهادة تقبل فيما يجوز فيه الصلح وفيما يتعلق بالدنيا وليس كذلك خبر الواحد الجواب إن الشهادة مقبولة فيما لا يجوز فيه الصلح كالفروج وإراقة الدماء ويلزمهم جواز التعبد بخبر الواحد في احكام البياعات وغير ذلك وهم يأبون ذلك وأما أمور الدنيا فهي كأمور الدين فيما نحن بسبيله لأن الوجوب والقبح يدخل كل واحد منهما فيها والعبادات الشرعية إنما وجبت وقبحت لكونها مصالح فيما يتعلق بالدنيا من القتل وغيره فاذا جاز أن يجب علينا ما ذكرناه من أمور الدنيا بحسب الظن جاز ذلك في الشرعيات على أنا نقبل الشهادة في أمور شرعية كرؤية الأهلة على ان الحد أمر شرعي وقد قبلوا فيه شهادة الاثنين
ومنها قولهم أنتم تقبلون أخبار الآحاد في إثبات شرع والشهادة بأن زيدا قتل أو سرق ليس يثبت بها شرع والجواب إنه لا فرق بينهما لأنا عند الشهادة نعلم أن قتل المشهود عليه شرع ودليلنا على ذلك ما دلنا على وجوب العمل بالشهادات وعند خبر الواحد نعلم أن الحكم به شرع ودليلنا على ذلك ما دلنا على وجوب العمل بخبر الواحد فلا فصل بينهما إلا أن الحكم يثبت بالخبر في الجملة وبالشهادة يثبت على عين وهذا غير قادح في تعلق الحكم

الشرعي بالظن على أن الغرض باثبات الحكم في الجملة بخبر الواحد تعلق على الأعيان فاذا جاز إثباته في الأعيان بخبر مظنون جاز إثباته في الجملة لأن الغرض بالجملة الأعيان على انا إذا قبلنا شهادة شاهدين على زيد وشهادة غيرهما أو شهادتهما على عمرو وعلى خالد فقد علقنا الحكم على أعيان كثيرة بخبر مظنون على انه يلزمهم أن يقبلوا خبر الواحد في إثبات حكم على شخص واحد وهم يابون ذلك
ومنها قولهم إنه إنما وجب الحكم عند الشهادة بدليل قاطع والشهادة شرط وأنتم تجعلون الدليل على الحكم هو خبر الواحد ولا تجعلونه شرطا والجواب أنه لا بد في الحكم بخبر الواحد من خبر الواحد ومن الدليل الدال على وجوب العمل به وتسمية الخبر دليلا أو شرطا كلام في عبارة فلا يضرنا الامتناع من تسمية الخبر دليلا إذا كان الغرض ما ذكرناه
واحتج المخالف بأشياء
منها أنه لو جاز أن يكون علمنا بما أخبرنا به الواحد عن النبي صلى الله عليه و سلم مصلحة ونعلم ذلك إذا ظننا صدقه جاز أن يكون الفعل مصلحة إذا أخبرنا بوجوبه على الله سبحانه من يغلب على ظننا صدقه في أن الله تعالى أرسله ونعلم وجوب ذلك علينا وما الفرق بين أن يكون المخبر بالمصلحة عن الله عز و جل بلا واسطة أو بواسطة نبي والجواب أن من يجيز ورود التعبد الشرعي بالرجوع إلى خبر الواحد يقطع على وجوب العمل به لأن دليلا قاطعا دل على وجوب العمل به وهو قول الله عز و جل وقول رسوله أو قول الأمة وقول الأمة لا بد من أن يستند إلى قول الله وقول رسوله وإنما تكون الأدلة الشرعية قاطعة إذا علمنا صدق الرسول بمعجز حتى إذا أخبرنا بوجوب العمل بالخبر الواحد علمنا وجوب العمل به وهذا لا يتم إذا كان صدق المدعين للنبوة مظنونا غير مقطوع به فان قالوا إنما أنتم ما ذكرتم إذا ألزمناكم أن يكون صدق جميع الأنبياء مظنونا ونحن إنما نلزمكم أن تعلموا صدق بعض الأنبياء بمعجز

ونقول لكم ذلك النبي إذا أخبركم إنسان ان الله أرسله بشرائع وظننتم صدقه فاعملوا بها واعملوا أنها مصلحة الجواب أن تجويز كذب من أكرمه الله عز و جل بالرسالة من أقوى ما ينفر عنه وليس يجوز على الأنبياء ما ينفر عنهم لأن ذلك مفسدة وليس يجب في غيرهم من التنزيه عن التنفير ما يحب فيهم ألا ترى أنه لا يلزم على ذلك كون الأمراء والقضاة والشهود مجنبين ما ينفر عنهم حتى لا يجوز عليهم الكذب وإن كانوا ينفذون أحكاما شرعية ويحكمون بها وأيضا فانه إنما جاز العمل بخبر الواحد إذا غلب على ظننا صدق المخبر وليس يمتنع أن يغلب على ظننا صدق من اخبر أنه شاهد النبي عليه السلام وسمع منه كلاما كثيرا إذا مثل ذلك كثير قد جرت به العادات ولم تجر العادات بسماع كلام الله عز و جل من غير واسطة وما يحصل للنبي عليه السلام من الرئاسة العظيمة التي لا تدانيها رئاسة ويدعو الإنسان إلى ادعائها فاذا اجتمع للعاقل تجويزه كذب المدعي للنبوة من غير معجزة طلبا للرئاسة العظيمة مع أنه مخبر بما لم تجر به العادات لم يجر أن يغلب على ظنه صدقه وأيضا ففي الاقتصار على ظن صدق المدعي للنبوة أعظم مفسدة لما في النبوة من الرئاسة العظيمة التي يطلبها كل أحد فلو تعبدنا بالأخذ في ذلك بالظن لتعمد أكثر الناس التظاهر بالصدق والستر لتتم له هذه الرئاسة فيكثر المدعون للنبوة الواردون بالشرائع المختلفة وليس للمخبر مثل هذه الرئاسة ولا يجب تصديقه بغير الشرائع في كل حال لأن السنن تنحصر في حياة النبي وبعد وفاته بزمان يسير فما يرد بعد ذلك نعلم أنه كذب وأيضا فإن لزمنا ما ذكروه على قولنا في المخبرين لزمهم ذلك على قولهم وقولنا في الشهود لأنهم ينقلون ما إذا حكم به كان الحكم به شرعيا
ومنها قولهم لو جاز التعبد بأخبار الآحاد في فروع الشريعة جاز التعبد بها في الأصول وفي الأدلة والأخبار حتى إذا روى لنا الواحد أن أهل اللغة وضعوا اللفظ للعموم قبلناه وإذا أخبرنا الواحد أن زيدا في الدار جاز أن نخبر نحن أنه في الدار قطعا كما نخبر قطعا بوجوب ما أخبرنا الواحد بوجوبه

عن النبي صلى الله عليه و سلم الجواب يقال لهم ما تريدون بالاصول فان قالوا الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان قيل قد كان يجوز ورود التعبد باخبار الآحاد فيها ولا يكون حينئذ من الاصول لأن اصول الشريعة هي ما لا يكون العلم بوجوبها متعلقا بظن وإن قالوا نريد بالاصول توحيد الله وعدله قيل لو قبلنا أخبار الآحاد في ذلك لقبلناها في الاعتقادات وذلك لا يجوز لأن الواحد إذا أخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم ان الله لا يرى لم يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذلك فلا يعلم أن الله لا يرى لأنا غير عالمين بدليله وإذا لم نكن عالمين بأنه لا يرى واعتقدنا ذلك لم نأمن كون اعتقادنا جهلا وكل اعتقاد لا يؤمن كونه جهلا فهو قبيح وأما فروع الشريعة فليست اعتقادات فيكون المقدم عليها مقدما على اعتقاد لا يامن كونه جهلا بل هي أعمال فان قيل ألستم عند خبر الواحد تعلمون وجوب الفعل عليكم فقد أقدمتم على اعتقاد أيضا قيل إنا نأمن كون ذلك الاعتقاد جهلا لأنه قد دل عليه دليل قاطع وهو ما دل على وجوب المصير إلى أخبار الآحاد فان قيل فهلا جاز أن يدل دليل قاطع على قبول خبر الآحاد في الرؤية وغيرها فتعتقدون ذلك وتأمنون كون اعتقادكم جهلا قيل إنا لا نجوز ذلك لأن كون البارىء تعالى غير مرئي امر حاصل في نفسه لا يحصل بحسب ظننا فلم يجب إذا ظننا صدق الراوي أن يكون تعالى غير مرئي وإذا لم يجب ذلك لم يجز أن يدل دليل قاطع على كونه كذلك إذا ظننا صدق الراوي أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول إن الله سبحانه لا يرى وكون العمل مصلحة يجوز أن يقف على أن نفعله ونحن على صفة وهو كوننا ظانين صدق الراوي وإذا جاز ان تكون مصلحتنا ان نفعل الفعل ونحن نظن صدق الراوي لوجوب الفعل جاز أن تدل دلالة قاطعة على وجوب ذلك علينا عند ظننا فاذا دلت على ذلك علمنا وجوب ذلك الفعل علينا واخبرنا قطعا عن وجوبه علينا فان قيل فيجب إذا أخبركم عن النبي صلى الله عليه و سلم بأن الله لا يرى من يغلب على ظنكم صدقه أن تظنوا أن الله لا يرى وتقتصروا على ذلك قيل لئن جاز الاقتصار على الظن في التوحيد والعدل والصفات لجوزنا

ورود التعبد بالاقتصار على الظن في ذلك ولكن لا نجوز الاقتصار على الظن في ذلك وهذا السؤال إنما يلزم على القول بأن خبر الثقة غير الظن وهذا يوافقنا عليه خصومنا فان كان السؤال لازما لنا فهو لازم لهم أيضا ولا جواب عنه إلا ما ذكرناه من أنه لا يجوز الاقتصار في التوحيد والعدل على الظن دون العلم وما ذكرناه هو الجواب عن الأخبار لأن زيدا إذا أخبرنا بأن عمرا في الدار وظننا صدقه لم نأمن أن لا يكون في الدار لأنه كونه في الدار ليس مما يحصل بحسب ظننا بل هو أمر في نفسه كذلك ظنناه أم لم نظنه فخبرنا قطعا عن أنه في الدار خبر لا نأمن من كونه كذبا فقبح فان أخبرنا بحسب ظننا جاز لأنا نأمن كونه كذبا فان قيل ايجوز أن يقول لكم النبي صلى الله عليه و سلم إذا ظننتم صدق من أخبركم بشيء فهو كما أخبركم قيل لا يجوز ذلك لأنه لا يجوز اتفاق الصدق في خبر كل من ظننا صدقه ولا يجوز أيضا أن يقول إذا أخبركم زيد بشيء وظننتم صدقه فهو صادق لأنه لا يجوز أن يتفق الصدق والصواب في كل ما ظنناه ويجوز أن يقول إذا أخبركم زيد بأمور يسيرة وعينها وظننتم صدقه فهو كما أخبركم لأنه يجوز أن يتفق الصدق والصواب فيما نظنه إذا كانت أشياء يسيرة نحو أن يقول إذا أخبركم زيد عن النبي صلى الله عليه و سلم بأن الله لا يرى أو قال إذا أخبركم مخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم بأن الله لا يرى وظننتم صدقه عن النبي عليه السلام فهو كما أخبركم أو يقول إذا أخبركم زيد بأن النبي عليه السلام قال إن الله لا يرى فهو صادق وإذا قال ذلك انتقلنا عن ظننا إلى القطع وجاز أن نخبر عن ذلك قطعا فأما إذا أخبرنا الواحد عن أهل اللغة أنهم وضعوا لفظا للعموم فانا لا نقطع على ذلك لأن كونهم واضعين له ليس مما يحصل بحسب الظن فهو بخلاف كون الفعل مصلحة ويجوز أن نظن أنهم وضعوا ذلك للعموم وأن يتعبدنا الله سبحانه بالاستدلال بذلك اللفظ على الشمول في الفروع الشرعية
ومنها قولهم لو جاز التعبد بخبر الواحد في الفروع جاز التعبد به في نقل

القرآن الجواب أنهم جمعوا بين الموضعين بغير علة ثم إن القرآن المنقول بالآحاد إما أن يظهر فيه الإعجاز وإما أن لا يظهر فيه الإعجاز فان لم يظهر فيه الإعجاز جاز أن نعمل بما تضمنه من عمل إذا نقل إلينا بالآحاد ولهذا نعمل بمثل ما ينقل من قراءة عبد الله بن مسعود رحمه الله وما يظهر فيه الإعجاز فهو حجة للنبوة ولا يكون حجة إلا وقد علم أنه لم يعارض في عصر النبي عليه السلام مع سماع أهل العصر له ولا يعلم ذلك إلا وقد تواتر نقل ظهوره في ذلك العصر
ومنها قولهم إن الشرعيات مصالح والواحد يجوز أن يكذب فيما يخبر به من فعل أو ترك ولا نأمن أن يكون ما تضمنه خبره مفسدة وقد أجاب قاضي القضاة رحمه الله عن ذلك في الشرح والدرس فقال إن الذي لا بد منه في الواجب الشرعي كونه مصلحة مدلولا عليه إما بعينه وإما بصفته فاذا قامت الدلالة على وجوب العمل عند خبر الواحد وظننا صدقه علمنا أن العمل صلاح لنا كما نعلم أن قطع اليد صلاح عند البينة وهذا لا يعترض قول المخالف إن الراوي إذا جاز عليه الكذب لم نأمن أن يخبر بالمفسدة ومتى ثبت للمخالف هذا كان له أن يقول لا يجوز أن تدل دلالة على ما ذكرتم فان قلتم قيام الدلالة على العمل بما ظنناه يدل على صدق المخبر قيل لكم فيجب أن تقطعوا على صدقه ولئن جاز ذلك ليجوزن أن تدل دلالة على أن نحكم ما نريده فنعلم أن كل ما نريد الحكم به فهو صواب فان قلتم لا يجوز أن يتفق ذلك في كل ما نريده قيل لك ولا يجوز أن يتفق الصواب في كل ما نظن صدق الراوي فيه فأما ما ذكره من الحكم عند البينة فهو نقض لما اعتلوا به لأنه يجوز أن يكذب الشهود فنقطع يدا لا يستحق قطعها والجواب عن الشبهة هو أن الفعل قد يكون صلاحا إذا فعلناه ونحن على حالة مخصوصة ولا يمتنع أن يكون متى ظننا صدق الراوي أو كنا ممن يجوز أن يظن صدقه لأمارة صحيحة فمصلحتنا أن نفعل ما اقتضاه الخبر صدق الراوي أو كذب كما نقوله في الحكم عند البينة وإذا لم يمتنع ذلك لم يجب ما قالوه من أن تجويز

كذب الراوي يلزمه تجويز كون الفعل الذي رواه مفسدة كما لا يلزمه مثله في البينة فان قالوا ليس يخلوا ظنكم صدق الراوي إما أن يكون طريقا إلى المصلحة أو شرطا في كون فعلكم مصلحة فان كان طريقا وقلتم لا يجوز أن يخطىء فقد جعلتم الظن علما ولزمكم قبول خبر الواحد في الاعتقادات وإن جوزتم أن يخطىء الظن لم يجز كونه طريقا إلى القطع على أن ما فعلتموه مصلحة ولئن جاز أن يكون طريقا إلى ذلك مع جواز كونه خطأ جاز أن يكون طريقا إلى الاعتقادات وجاز ورود التعبد به فيها وإن جعلتموه شرطا يصير الفعل عنده مصلحة فلم لا يجوز كون الفعل مصلحة إذا ظننا كذب الراوي له وإذا اشتهينا فعله وإذا اخترناه وأن يرد التعبد بذلك قيل قد أجاب قاضي القضاة رحمه الله فقال يجوز كون هذه الأشياء أسبابا يجب عندها الفعل على ما ذكروه ونحن نجيب عن ذلك بأنا إنما جوزنا أن يكون الفعل مصلحة عند حالة من حالاتنا ثم بينا إن ظننا صدق الراوي مما يشهد العقل بجواز كونه شرطا في المصلحة بما ذكرناه من التصرف في الأسفار والحكم بالبينات وكما أن العقل بذلك شاهد فهو شاهد بأن ما ذكرتموه لا يكون شرطا في وجوب الفعل ألا ترى أن المسافر إذا خاف في سفره فخبره بعض من يظن صدقه بسلامة بعض الطرق وفساد غيره فانه يجب عليه أن يعمل على ما ظنه صلاحا دون ما ظن فيه الفساد ولو ظن كذب المخبر بأمارة لم يجز أن يعمل على خبره ولا يجوز له مع اشتباه الطرق عليه وخوفه أن يعمل على شهوته واختياره من غير أمارة على أن القول بأنه ينبغي أن يعمل الإنسان بما يشتهيه ويختاره إسقاط للتكليف لأنه كأنه قيل له افعل ما تختاره دون ما لا تختاره ونحن إنما نتكلم في تكليف على صفة هل يحسن أم لا وقصد السائل أن يلزمنا على هذا التكليف تكليفا آخر على صفة أخرى وليس غرضه إلزامنا إسقاط التكليف فقد بان أنه لم يلزمنا ما قصد إلزامنا فان قالوا يجوز أن يقال للإنسان إذا اخترت الفعل أو اشتهيته فلم يصرفك صارف فقد وجب عليك فعله ما دمت مريدا له وإن لم تكن مختارا

له قاصدا إليه لم يجب عليك فعله قيل لا يجوز ذلك لأنه والحال هذه لا بد من كونه فاعلا فايجاب ذلك لا يصح
ومنها قولهم إن أخبار الآحاد قد تتعارض ولا يمكن العمل بها فلو جاز التعبد بها لجاز التعبد بما لا يمكن العمل به الجواب أنه ليس كل تعارض يمنع من العمل بالخبر بل قد يعمل مع التعارض على ما يترجح من أحد الخبرين على الآخر كما يعمل المسافر في طريقه على ما يترجح من إحدى الأمارتين ويمكن أن يعمل بالخبرين إما على الجمع وإما على التخيير فان لم يمكن ذلك ففقد إمكانه يمنع من التعبد بها فيه هذا التعارض المانع من العمل غير مانع من التعبد بما يمكن العمل به مما لا تعارض فيه وما ذكروه منتقض بالعمل بالبينات والأمارات للمسافر لأنها قد تتعارض

باب في التعبد بخبر الواحد
اختلف مجيزو ورود التعبد بأخبار الآحاد في الشرعيات فمنهم من قال قد ورد التعبد بها ومنهم من قال لم يرد بها واختلف هؤلاء فمنهم من قرن إلى قوله لم يرد التعبد بها أن قال قد ورد التعبد بأن لا يعمل بها ومنهم من اقتصر على أن التعبد لم يرد بها واختلف من قال بورود التعبد بها فقال قوم العقل يدل على التعبد بها ومنهم من قال العقل لا يدل على ذلك
والدليل على وجوب العمل بأخبار الآحاد هو أن العقلاء يعملون بعقولهم وجوب العمل على خبر الواحد في العقليات ولا يجوز أن يعلموا وجوب ذلك أو حسنه بعقولهم إلا وقد علموا العلة التي لها وجب ذلك أو حسن ولا علة لذلك إلا أنهم قد ظنوا بخبر الواحد تفصيل جملة معلومة بالعقل وهذا موجود في خبر الواحد الوارد في الشرعيات فوجب العمل به يبين ما ذكرناه أنه معلوم بالعقل وجوب التحرز من المضار وحسن اجتلاب المنافع فاذا ظننا

صدق من أخبرنا بمضرة إن لم نفصد أو لم نشرب الدواء أو إن سلكنا في سفرنا طريقا مخصوصا أو لم نقم من تحت الحائط فقد ظننا تفصيلا لما علمناه في الجملة من وجوب التحرز من المضار وقد علمنا في الجملة وجوب الانقياد للنبي صلى الله عليه و سلم فيما يخبرنا به من مصالحنا ووجوب التحرز من المضرة في تجنب المصالح فاذا ظننا بخبر الواحد أن النبي عليه السلام قد دعانا إلى الانقياد له في فعل أخبر أنه مصلحة وخلافه مفسدة مضرة فقد ظننا تفصيلا لما علمناه في الجملة وإنما قلنا إن العلة ما ذكرناه لأن الحكم يحصل عنده وينتفي عند انتفائه لأنا إذا علمناه في الجملة وجوب التحرز من المضرة وظننا بالخبر أن علينا في الفعل مضرة ولم يمكن العلم وجب علينا تجنبه وإن ازلنا عن أنفسنا اعتقاد ما عدا ذلك وإذا رجعنا إلى عقولنا وجدناها تتبع تجنب هذا الفعل لهذه الجملة التي ذكرناها ولو لم يحصل لنا العلم بوجوب دفع المضار في الجملة أو حصل ذلك ولم نظن أن علينا في الفعل مضرة لم يجب علينا تجنبه وكذلك لو ظننا ذلك وأمكننا تحصيل العلم فعلمنا أن العلة ما ذكرناه
إن قيل بل العلة في الأصل ظننا المضرة في امور الدنيا وليس كذلك خبر الواحد في الشرعيات قيل إن ما ذكرتموه وإن كان من أمور الدنيا فهو من امور الدين لأن التحرز من المضار واجب في العقل وما وجب في العقل فهو من الدين فان قالوا إن خبر الواحد في أمور الدنيا وارد فيما نعلم جملته عقلا وليس كذلك خبر الواحد في الشرعيات قيل لا فرق بينهما لأن خبر الواحد في الشرعيات وارد بتفصيل الانقياد للنبي صلى الله عليه و سلم والتزام أمره والتحرز من مضار المخالفة وهذا معلوم بالعقل والشرع كما يعلم التحرز من مضار الدنيا بالعقل والشرع وأيضا فلو ثبت أن وجوب التحرز من مضار الدنيا معلوم بالعقل فقط والتحرز من مضار الشرعيات معلوم بالشرع فقط لكان ذلك اختلافا في طريق العلم بالوجوب وذلك غير مؤثر فيما يقبل من أخبار الآحاد وإنما الذي يجوز أن يؤثر في ذلك هو أن يقال إن الشرعيات مصالح والمخبر الواحد يجوز أن يكون كذابا فلا نأمن أن يكون ما نقله

مفسدة وسنتكلم في ذلك إن شاء الله
إن قيل إنما وجب قبول خبر الواحد في العقليات لأنه لا يغلب على الظن وصول المضرة إذا قبلناه بل يغلب على الظن وصولها إذا لم نقبله وليس كذلك الشرعيات لأنه ليس يغلب على ظننا وصول المضرة إذا لم نقبل خبر الواحد بل لا نأمن أن يؤاخذنا المتعبد لنا إذا قبلنا خبر الواحد والجواب ان كلامنا في خبر من نظن صدقه لدينه وأمانته وقد بينا أن خبر من هذه سبيله في الشرعيات يساوي خبره في العقليات وذلك يقتضي أن يغلب على ظننا وصول المضرة إلينا إن لم نقبل خبره ويؤمننا من مؤاخذة المتعبد إذا قبلناه ويقضينا القطع على مؤاخذته إذا لم نقبله
إن قيل إنما قبلنا خبر الواحد في العقليات لأن العادة قد جرت بنزول المضار والمنافع فاذا غلب على الظن وصول المضرة لزمنا التحرز منها قيل وقد جرت عادة الشرع بالزام العبادات ولا يمتنع في العقل إيداع ذلك الواحد وأن تكون المصلحة أن يرد التعبد به كما لا يمتنع أن يرد التحرز من المضرة من جهة واحد فاذا لم يمتنع ذلك جرى خبر الواحد في الشرعيات مجراه في العقليات
فان قيل الفرق بين الشرعيات والعقليات أن الشرعيات يمكن فيها طريقة تقتضي العلم نحو الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام والإجماع والبقاء على حكم العقل فلم يجز الرجوع إلى الظن وليس كذلك الامور العقلية من أمور الدنيا لأنه يتعذر فيها طريقة معلومة فجاز الرجوع إلى الظن قيل إنه إذا كان في المسألة كتاب أو سنة مقطوع بها أو إجماع بخلاف خبر الواحد ولم يكن الخبر مخصصا فانا لا نعدل إليه عن هذه الأدلة ومسألتنا مفروضة في خبر واحد تخالف ما ذكرتموه وأما البقاء فممكن في العقليات وفي الشرعيات لأن الأصل في العقل أن لا يجب علينا إيلام أنفسنا بفصد وشرب دواء ومسير في طريق مخصوص فاذا لم يجز البقاء على حكم العقل في هذه

الأشياء إذا أخبرنا بالمضرة في تركها من نظن صدقه علمنا أن البقاء على حكم العقل ليس بدليل قاطع مع الظن لصدق المخبر فبطل قول المخالف إن ذلك دليل قاطع مع خبر الواحد
وقد أجاب قاضي القضاة رحمه الله عن قياس خبر الواحد في الشرعيات على قبوله في العقليات والمعاملات بأن المعاملات مبنية على غالب الظن والشرعيات مبنية على المصالح فاذا لم نأمن كذب المخبر لم نأمن أن يكون فعلنا ما أخبرنا به مفسدة والجواب أن قوله إن المعاملات مبنية على غالب الظن هو الحكم الذي طلبنا علته وقسنا بها خبر الواحد في الشرعيات على المعاملات فلا ينبغي أن يفرق بينهما بذلك لأنا نكون قد فرقنا بين المسألتين بنفس الحكم والمصالح وإن كانت معتبرة في الشرعيات فالمضار والمنافع هما المعتبران في العقليات والمعاملات لأنا إنما ننحو بما نفعله نحو المنافع والخلاص من المضار كما أنا ننحو بالشرائع تحصيل المصالح ولأجلها وجبت فاذا قام غالب الظن في المنافع والمضار العقلية مقام العلم مع تجويز كذب المخبر فكذلك غالب الظن بصدق المخبر في الشرعيات ولو جاز أن لا يقبل خبر الواحد في الشرعيات لجواز كذب المخبر فيكون ما أخبر به مفسدة جاز أن لا يقبل خبر الواحد في العقليات لجواز كذب المخبر فيلحقنا المضرة في اتباعه ونخلص منها بمخالفته على أن قوله لا نأمن أن يكون المخبر كاذبا فنكون باتباعه فاعلين للمفسدة يبيح المنع من ورود التعبد بقبول خبره لأن فعل ما لا نؤمن من كونه مفسدة قبيح فان قال قيام الدلالة على التعبد به دلالة على أن المصلحة هي اتباع ما ظنناه من صدقه لا غير قيل فاذن يجوز أن تكون المصلحة هي فعلنا ما ظنناه من صدق المخبر فلم قطعتم على أن المصلحة قد تكون غير ما فعلناه فان قالوا نحن وإن جوزنا أن نكون علمنا بحسب ما ظننا من صدق الراوي هو المصلحة فانا لا نعلم ذلك إلا بتعبد شرعي قيل فكأنكم فصلتم بين خبر الواحد في الشرعيات وبينه في العقليات بأن العقليات يعمل فيها على الظن من غير تعبد شرعي والشرعيات لا يعمل فيها على الظن

إلا بتعبد وهذا هو نفس المسألة فقد فصلتم بين المسالتين بنفس الحكم لا بالعلة المفرقة بينهما على انه جاز أن يقال إن قيام الدلالة الشرعية على قبول خبر الواحد يدلنا على ان المصلحة ليست إلا العمل بما ظنناه من صدق الراوي جاز أن يقال قياس الذي ذكرنا هو دليلنا على أن المصلحة ليست إلا العمل بما ظنناه من صدق الراوي
وأجاب أيضا بأن العمل على غالب الظن في دفع المضار في الدنيا هو الأصل للعمل على العلم بدفع المضار لأن امور الدنيا المستقبلة غير معلومة وإنما هي مظنونة وليس يمكن أن يقال إن أمور الدين المظنونة هي الأصل لامور الدين المعلومة وهذا لا يصح لأنه فرق لا يؤثر في وجه الجمع الذي ذكرناه لأنه ليس يجب إذا أشبه الظن لامور الدين الظن لامور الدنيا في وجوب العمل عليها أن يشتبها في كل وجه بل لا يمتنع أن يجب العمل عليهما ويكون العمل على غالب الظن أصلا للعمل على العلم في امور الدنيا وللعمل على الظن في أمور الدين أصلا بنفسه
دليل قال الله سبحانه فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فتعبدنا بقبول خبر كل طائفة خرجت للتفقه ثم أنذرت قومها وهذه صفة خبر الواحد يبين ذلك أنه سبحانه أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة والثلاثة فرقة فوجب أن تخرج منها طائفة والطائفة من الثلاثة واحد أو اثنان فاذا خرجا لسماع الأخبار وتدبرها فقد خرجا للتفقه في الدين فاذا رجع من هذه سبيله فأخبر قومه بوجوب عبادة وحذرهم من تركها فقد أنذر قومه فاذا كنا متعبدين بالرجوع إلى قوله كنا متعبدين بذلك وإن لم نخرج لهذا الغرض لأن أحدا لم يفصل بين الموضعين

إن قيل لم قلتم إن الآية تدل على التعبد بالرجوع إلى قول الطائفة قيل إنما تعبدها بانذار قومها لكي يحذر فتعبد قومها بالحذر وليس يخلو إذا أخبرتم الطائفة بوجوب فعل أو تحريمه إما أن يلزمها المصير إلى قول الطائفة أو يلزمها الإمساك عما كانت عليه من فعل أو ترك أو أن يخرج جماعتها أو من يقوم بالحجة بنقله إلى الآفاق لاستبانة الخبر والقسم الأول هو قولنا والثاني يرجع إليه لأنا إن كنا نشرب النبيذ فخبرنا الطائفة بتحريمه فإيجاب إمساكنا عن شربه هو تحريم شربه وإن كنا تاركين لبعض الصلوات فأخبرونا بوجوبها فوجوب إمساكنا عن الإخلال بها هو إيجاب فعلنا فبان رجوع هذا القسم إلى القسم الأول بخلاف ما ظنه بعضهم وإن وجب على جماعتنا أو على أكثرنا الخروج من الأوطان إلى الآفاق ليعلموا صحيح الحديث من باطله لم يصح بالإجماع لأن أحدا من الأمة لم يوجب على اهل القرى في عصر النبي صلى الله عليه و سلم وعصر من بعده أن يخرجوا أو أكثرهم إذا لم تقم الحجة بنقل الطائفة إليهم ويتركوا بلادهم كلما سمعوا بخبر يتضمن فعلا شرعيا وذلك يؤدي إلى أن لا يستقروا في بلادهم قبل استقرار السنن
إن قيل قولكم إن المذكور في الآية هو خبر الواحد باطل من وجوه
منها أنه عز و جل تعبد من كل فرقة طائفة بالتفقه والإنذار لقومهم وهم مجموع الفرق لأن مجموع الطوائف هم قوم الفرق فلا يمتنع أن يكون مجموع الطوائف من يتواتر الخبر بنقلهم الجواب أنه لا يجوز أن يكون أراد مجموع الطوائف ينذر كل فرقة لأنها لم يكن عند كل طائفة فرقة فتكون راجعة إليها وقوله ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم يدل على أنهم كانوا عندهم وهذا إنما يتم في كل فرقة مع طائفتها
ومنها أن قوله ليتفقهوا في الدين ولينذروا يدل على أنه أراد

الإنذار بالفتوى دون الخبر الجواب إن كثيرا ممن يمنع من العمل بخبر الواحد يمنع العامي من الأخذ بالفتوى وأيضا فان التفقه يكون بسماع الأخبار والتدبر لها وقد كان التفقه هكذا في الزمن الأول وهذه الحال يتم معها الإنذار بالفتوى وبالإخبار فاذا لم يفصل الله سبحانه الإنذارين كان محمولا على كل واحد منهما كما أنه لو قال ولتضربوا كان شائعا في الضرب بكل خشبة وعلى كل وجه من الشدة واللين على أنه لم يفصل بين أن يكون قومهم مجتهدين أو غير مجتهدين والإنذار بالفتوى إنما يلزم قبوله غير المجتهد فوجب صرف الكلام إلى الإخبار لأنه الذي لا يختلف فيه المجتهد وغير المجتهد إن قيل قوله ليتفقهوا في الدين يدل على انه ليس في الطائفة مجتهد إذ لو كان فيها مجتهد لما كان ليجب على بعضها أن ينفر للتفقه الجواب إن العبادات في عصر النبي عليه السلام كانت تتجدد حالا فحالا ويرد نسخها بعد ثبوتها فحصول المجتهد في الطائفة لا يغني عن أن ينفر منها من يسمع ما يتجدد من السنن المبتدأة والناسخة وكذلك الأعصار المقاربة لعصر النبي عليه السلام قبل استقرار السنن وانتشارها لجواز أن تكون في غيرها من الطوائف من السنن ما لم تبلغها
ومنها أن قوله ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم يحتمل التفقه في الأصول وإنذار قومهم ليحذروا وليس هذا من خبر الواحد في الشرعيات بسبيل الجواب إن المستفاد من التفقه في العادة التفقه في الفروع على أنه إن كان المراد بالأصول ها هنا التوحيد والعدل فالخاطر يجوز من ترك النظر فيهما وليس يحتاج في الحذر من تركهما إلى السفر وإن كان المراد بها أصول الشريعة كالصلوات الخمس فذلك عندنا لازم بالآحاد في ابتداء الشريعة لأن الواحد إذا أخبر أهل اليمن بأن الصلوات قد أوجبها النبي عليه السلام لزمتهم

وتكون من الفروع حتى يتواتر نقلها وعلى هذا جرى الأمر في تحول أهل قبا عن القبلة
إن قيل لو كان المراد بالآية خبر الواحد لما دلت على وجوب العمل به من وجهين
أحدهما أنه لا يمتنع أن يجب الإنذار على من خرج للتفقه ولا يجب على المنذر القبول كما يجب على الشاهد أن يشهد ولا يجب على الحاكم أن يحكم بشهادته ويجب على كل واحد من المتواترين أن يخبره ولا يجب على السامع أن يقول على خبره وحده فيما طريقة العلم ويجب على من خوف بالقتل إن لم يدفع ماله أن يدفعه ويقبح من المخوف أخذه قيل إنا لم نستدل على وجوب المصير إلى الإنذار بوجوب الإنذار وإنما استدللنا يقوله عز و جل لعلهم يحذرون وذلك إما أن يكون تعبدا بالحذر أو إباحة له وأي الأمرين كان فقد بطل مذهب الخصم إذ قد بينا أن الحذر لا يكون إلا بالرجوع إلى موجب الخبر
والوجه الآخر قولهم يجوز أن يكون أوجب على من نفر الإنذار لكي يحذر من سمعه إذا انضاف إلى المنذر غيره حتى يتواتر إنذارهم وإخبارهم قيل فاذن إنما يحذرون عند تواتر الخبر لا عند إنذار من نفر منهم للتفقه والآية تقتضي أن يحذروا عند إنذاره ولأجله كما أن الإنسان إذا قال لغيره جالس الصالحين لعلك تصلح أفاد ذلك كون مجالستهم سببا لصلاحه لا غير لأنه ما علق صلاحه إلا به فكذلك قوله ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون
دليل أجمعت الصحابة على العمل بخبر لا يقطع على مغيبه لأنه لما اشتبه

عليهم الغسل من التقاء الختانين رجعوا إلى أزواج النبي عليه السلام وطلب أبو بكر عليه السلام الحكم في الجدة ورجع في توريثها إلى خبر المغيرة ونقض قضية قضاها بخبر رواه بلال وقال عمر وما أدري ما القول في أمر المجوس وكثرت مسألته عن ذلك فلما روى له عبدالرحمن بن عوف عن النبي عليه السلام سنوا بهم سنة أهل الكتاب صار إلى ذلك وكان يرى أن لا شيء في الجنين إذا خرج ميتا وفيه الدية إذا خرج حيا ثم ترك ذلك لخبر حمل بن مالك بعد أن ناشد الصحابة وكان لا يؤرث الإمرأة من دية زوجها ثم ترك ذلك لخبر الضحاك بن سفيان وكان يجعل في الأصابع نصف الدية ويفصل بينها فيجعل في الابهام خمس عشرة من الإبل وفي البنصر تسعة وفي الخنصر ستة ثم يجعل في الباقية عشرا عشرا فلما روي له من كتاب النبي عليه السلام إلى عمرو بن حزم أن في كل إصبع عشرا من الإبل رجع عن رأيه وترك رأيه في بلاد الطاعون لخبر عبد الرحمن بن عوف وقال علي عليه السلام كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا نفعني الله به بما شاء أن ينفعني فاذا حدثني به غيره استحلفته فاذا حلف صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر ورجع في خطأ الإمام إلى ما رواه عمر وسأل المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن المذى ثم أخبره عن النبي عليه السلام بالجواب فعمل عليه ورجعوا في الربا إلى خبر أبي سعيد الخدري وكل واحد من هذه الأخبار وإن كان خبر واحد فجملتهما متواترة لا يجوز مع كثرتها أن تكون كذبا كما أن الأخبار عن سخاء حاتم متواترة في الجملة وإن كان كل واحد منها خبر واحد وإنما قلنا إنهم عملوا على هذه الأخبار لأجلها لأنهم لو لم يكونوا عملوا لأجلها بل لأمر آخر إما لاجتهاد تجدد لهم أو ذكروا شيئا سمعوه من النبي عليه السلام لوجب من جهة العادة والدين أن ينقلوا ذلك أما العادة فلأن الجماعة إذا اشتد اهتمامها بامر قد التبس عليها ثم زال اللبس عنها لشيء سمعته أو رأي حدث لها فانه لا بد من إظهارها الاستبشار والسرور بما ظفرت به والتعجب من ذهاب ذلك عليها فان جاز أن لا يظهر ذلك الواحد

لم يجز في كل واحد وأما الدين فلأن سكوتهم عن ذلك وعملهم عند الخبر بموجبه يوهم أنهم عملوا لأجله كما يدل عملهم بموجب آية عند سماعها على أنهم عملوا لأجلها والإيهام لذلك قبيح كما أنه لو قال لهم قائل احكموا في هذه الحوادث لشهوتي فذكروا عند هذا القول شيئا سمعوه من رسول الله صلى الله عليه و سلم فانه لا يحسن من جهة الدين أن لا تبين أنها حكمت لما ذكرته لا للشهوة وأيضا فبعيد في العادة مع كثرة هذه الأخبار أن يتفق ذكرهم لشيء سمعوه من النبي عليه السلام وآله أو يتجدد لهم اجتهاد وأيضا فطلب أبي بكر عليه السلام من المغيرة شاهدا معه في إرث الجدة دليل على أنه كان يرى أن الحكم يتعلق بهما لأنه لم يكن يعلم أنه سيذكر عند الشاهد الآخر شيئا سمعه من النبي عليه السلام وأيضا فقد كانوا يتركون آرائهم عند سماع الخبر كما روي عن عمر أنه قال في الخبر كدنا نقضي فيه بآرائنا فدل على أنه لم يعمل برأيه عند سماع الخبر
إن قيل ومن أين أنهم بأجمعهم عملوا بأخبار الآحادإنهم كانوا بين عامل بها وساكت عن النكير فدل على رضاهم بالعمل بها فان قيل فلعل بعضهم كان ناظرا متوقفا عن العمل فلا يكونون متفقين على ذلك قيل لو كان كذلك وكان العمل بها منكرا لكان إنكاره واجبا فيكونوا قد اتفقوا على ترك الواجب لأنهم بأجمعهم قد تركوا إنكاره إن قيل أليس قد رد أبو بكر خبر الواحد ولم يعمل إلا على خبر اثنين قيل هذا لا ينقض ما قصدناه من العمل بخبر من لا يقطع على مغيبة والكلام في اشتراط اثنين سيأتي
إن قيل فقد ردوا في بعض الحوادث خبر الواحد كقول عمر في خبر فاطمة بنت قيس لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ولستم بأن تقولوا إنما ردوه لعلة لا نعرفها لا لأنه خبر واحد بأولى من أن تقولوا بل قبلوا ما قبلوه لعلة لا نعرفها لا لأنه خبر واحد والجواب أن عمر رد خبر فاطمة بنت قيس في نسخ الآية أو في

تخصيصها وكثير ممن يقبل خبر الواحد لا يقبله في التخصيص فليس ينقص ذلك العمل بخبر الواحد في الجملة على أن قوله لا ندع كتاب ربنا يقتضي ترك الكتاب أصلا وذلك نسخ ونحن نمنع نسخ الكتاب بخبر الواحد على أن قوله لقول امرأة لعلها صدقت أم كذبت يفيد أنه اعتقد فيها أنها غير ضابطة لما تسمعه وهذه العلة غير موجودة فيمن يضبط وبهذا يبطل قول من يقول إن عمر رضي الله عنه علل رد حديثها لعلة موجودة في كل مخبر
إن قيل فقد قبلوا خبر الواحد في نسخ حكم معلوم نحو قبول أهل قبا نسخ القبلة قيل ذلك جائز في العقل وفي صدر الإسلام قال اصحابنا ولولا إجماع الصحابة على المنع من ذلك لجوزناه وقد قال أبو علي إن النبي صلى الله عليه و سلم قد كان أخبرهم بنسخ القبلة وأنه ينفذ إليهم بنسخها فلانا وأعلمهم صدقه فكانوا قاطعين على صدقه فلم ينسخوا القبلة إلا بخبر معلوم
وقد استدل في المسألة بأشياء لا تدل
منها قول الله عز و جل يآيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين قالوا فعلق وجوب التبين على مجيء الفاسق فكان مجيء غير الفاسق بخلافه وهذا لا يصح إلا مع القول بدليل الخطاب وقالوا أيضا قوله إن جاءكم فاسق شرط في إيجاب التثبيت فوجب إن لم يجيء فاسق أن لا يجب التثبت وأن يكون التسرع مباحا سواء جاءنا عدل أو لم يجئنا أحد لأنه في كلا الحالين لم يجيء الفاسق وقد وقع الاتفاق على المنع من التسرع إذا لم يجيء أحد أصلا فبقي القسم الآخر وهو أن يجيء مخبر غير فاسق ولقائل أن يقول إن الشرط في هذه الآية يقتضي نفي وجوب التثبت على نفي مجيء الفاسق وأحد لا يقول بذلك والمستدل يجعل نفي وجوب التثبت وإباحة التسرع واقفا على مجيء

عدل ويمكن أن يستدل بالآية من وجه آخر وهو أن سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ساعيا فعاد فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الذين بعثه إليهم أرادوا قتله فأجمع النبي صلى الله عليه و سلم على غزوهم وقتلهم وهذا حكم شرعي قد كان النبي صلى الله عليه و سلم أراد العمل فيه على خبر الواحد فلو كان ذلك محظورا لأنكره الله تعالى ولما علق حظره بالفسق لأن ذلك يوهم أنه إنما لم يجز ذلك التسرع لأجل فسق المخبر لا غير يبين ذلك أن النبي عليه السلام إنما عمل على غزوهم لأجل خبر الوليد مع ظنه أنه عدل ولهذه الآية ولاه الصدقة ولقائل أن يقول نزول هذه الآية في الوليد بن عقبة منقول بالآحاد فلم يجز بنا الاحتجاج عليه وقد روى عمر بن شبة في كتاب الكوفة في أخبار الوليد باسناده عن قتادة في قول الله سبحانه يآيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ قال هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه النبي عليه السلام إلى بني المصطلق مصدقا فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم فرجع إلى النبي عليه السلام فأخبر أنهم ارتدوا عن الإسلام فبعث نبي الله خالد بن الوليد وأمره أن يثبت ولا يعجل فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فلما جاءوه خبروه أنهم متمسكون بالإسلام وسمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى ما يعجبه فرجع إلى النبي عليه السلام فأخبره الخبر وذكر رواية أخرى أنه رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قد منعوا فأنزل الله سبحانه الآية وليس في ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم هم بقتالهم من غير تثبت وتبين
ومنها قول الله عز و جل وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس والمخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم بلزوم العبادة علينا شاهد على الناس وليس يجوز أن يجعله الله عدلا ليشهد إلا وقد تعبد بالرجوع إلى خبره الجواب إن قوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا خطاب لكافة الأمة دون آحادها فان أريد به شهادة جميعهم علينا من جهة الخبر فذلك تواتر ولا

يكون في اشتراط كونهم وسطا فائدة لأن المتواترين نعلم صدقهم وإن لم يكونوا مؤمنين وإن أريد به شهادتهم علينا من جهة الرأي فذلك هو الإجماع وعلى كلا القسمين يخرج منه خبر الواحد وليس المراد بالآية كل واحد منهم لأنه ليس كل واحد منهم مقطوعا على عدالته فلهذا لا يقطع على موجب خبر الواحد
ومنها قول الله عز و جل إن الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى الآية فحظر كتمان الهدى وأوجب إظهاره وما سمعه الإنسان من النبي عليه السلام فهو من الهدى فيجب على سامعه إظهاره وإن لم يسمعه غيره ممن يتواتر الخبر بنقله ولو لم يجب علينا قبول خبر الواحد لم يجب على المخبر إظهاره لأنه يكون وجود الإظهار كعدمه والجواب إن قول الله عز و جل إن الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب يدل على أنه أراد ما أنزله الله في الكتاب وأخبار الآحاد عن النبي صلى الله عليه و سلم بمعزل عن ذلك وقد أجيب عن ذلك بأن الشيء إنما يوصف بأنه مكتوم إذا لم يظهر وكانت العادة أو التعبد يدعوان إلى إظهاره فيجب أن يبين المستدل أن التعبد قد ورد بأخبار الآحاد حتى يتم له هذا الاستدلال وإذا بين ذلك فقد بين ما رام أن يبينه بهذه الآية ولقائل أن يقول إن العادة تدعو إلى إظهار ما سمعه الإنسان من النبي عليه السلام فيما يرجع إلى الشريعة
ومنها قول الله عز و جل فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ولم يفرق بين أن يكون من هو من أهل الذكر مجتهدا أو غير مجتهد ومعلوم أن غير المجتهد إنما يسأل ليخبر لا ليفتي عن نفسه وليس يجوز أن يجب السؤال

ولا يجب القبول الجواب إنه ليس في الاية أنه يجب سؤالهم ليعلم ما أخبروا به ليعمل ما أخبروا به وإذا لم يمتنع أن يكون اراد سؤالهم ليعلم السائل لم يكن المراد إلا سؤال من يتواتر الخبر بنقله وقوله عز و جل وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون يدل على أنه عز و جل أراد سؤالهم ليعلم ما يخبرون به من أنه أرسل الله عز و جل إلا رجالا يوحي إليهم وهذا علم دون عمل
ومنها قوله عز و جل يآيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله فأوجب الشهادة لله والقيام بالقسط ولا يوجب ذلك إلا وقد ألزم قبول شهادتهم ومن أخبر بما سمعه من النبي عليه السلام فقد قام بالقسط وشهد لله والجواب إنما يكون شاهدا لله تعالى وقائما بالقسط إذا شهد بما يلزم قبوله دون ما لا يحل قبوله كالشهادة بأمور الدنيا ويحتمل أن يكون سبحانه أوجب الشهادة بما سمع من النبي صلى الله عليه و سلم ليرويه غيره فيتواتر نقله فان قيل الاية لا تفرق بين أن يكون الخبر قد سمعته جماعة من النبي عليه السلام وبين أن يكون قد سمعه واحد في وجوب الشهادة به قيل إن من ينكر العمل بأخبار الآحاد يمتنع من أن يخص النبي عليه السلام بالعبادة من لا يتواتر الخبر بنقله إلا أن يكون التعبد يخصه وحده
ومنها قوله عز و جل يآيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وقوله لتبين للناس ما نزل إليهم وظاهره يقتضي بيان جميع ما أنزل إليه لجميع من عاصره ولمن يأتي بعده فلو وجب عليه أن يبين كل ذلك لمن يتواتر الخبر بنقله لكانت الأخبار كلها منقولة عنه بالتواتر إلا أن يقال إن بعض السامعين للخبر نقله دون بعض وذلك يوجب تهمة السلف وجواز

كون شرائع معهم لم ينقلوها ولا يجوز أن يكون كل ما نقل بأخبار الآحاد لم يقله النبي صلى الله عليه و سلم لأنه يستحيل في العادة أن تكون هذه الأخبار على كثرتها كاذبة ولا يجوز أن تتضمن عبادات تختص من عاصر النبي عليه السلام لأن أكثرها خطاب لأهل عصره ولمن يأتي بعده فثبت أنه إنما وجب عليه أن يبين بعض شرعه لمن لا يتواتر الخبر بنقله وإن كان بيانا لمن بعده وفي ذلك وجوب العمل به على من بعدهم الجواب إن المخالف يقول إنه لا يمتنع أن يكون بعض أخبار الآحاد كذبا وبعضها عبادات تختص أهل ذلك العصر وبعضها قد أداها النبي صلى الله عليه و سلم إلى من يتواتر الخبر بنقله لكن بعضهم نقله دون بعض وأخطأ بعضهم وذلك غير ممتنع ويكون لزوم ذلك لنا مشروطا بتواتر الخبر إلينا وقولهم إن جواز ذلك يقتضي جواز كتمانهم شرائع كثيرة فذلك لا يلزم من لم يقل بأخبار الآحاد لأن عندهم أن النبي صلى الله عليه و سلم قد بين العبادات للجماعة الكثيرة والعادة تمنع من كتمان أجمعهم مع ما علمناه من توفر دواعي الأمة إلى نقل السنن والأخبار على أنه لا بد من أن يبلغ ذلك جميع أهل العصر فاجتماعهم على كتمانه اجتماع من الأمة على الخطأ وذلك لا يجوز
ومنها أنه قد تواتر النقل بانفاذ رسول الله صلى الله عليه و سلم سعاته إلى القبائل والمدن لأخذ الزكوات وتعليم الأحكام كإنقاذه ! معاذا إلى اليمن ليفقههم في دينهم ويقبض زكواتهم وقد وجب عليهم المصير إلى روايته في نصب الزكاة وفي فروعها وقد كان يرد على رسول الله الواحد والاثنان يخبران باسلامهما وإسلام قومهما ويسألان أن ينفذ من يعلمهم شرائع الإسلام وكان ينفذ النبي صلى الله عليه و سلم معهم الرجل الواحد كانفاذه أبا عبيدة وغيره والعلم بذلك ظاهر لمن قرأ الأخبار والسير ولا يمكن دفعه ولم يكن النبي عليه السلام ينفذ إليهم الجماعات الكثيرة ولو فعل ذلك لم يكن أهل المدينة ليفوا بمن أسلم من القبائل ولا أوجب النبي صلى الله عليه و سلم على أهل القبلة أن تصير بأجمعها إليه أو أكثرها لتعرف شرعه بل أوجب عليهم المصير إلى ما يؤديه رسوله فان قيل أليس كانوا يعرفون التوحيد والنبوة وذلك لا يعمل فيه بأخبار الآحاد قيل أما التوحيد فالمرجع

فيه إلى أدلة العقول فمن أظهره وجب علينا إحسان الظن به وأنه قد اعتقده من وجهه ومن رام أن يعرف التوحيد أمكنه ذلك بالاستدلال بأدلته العقلية وليس طريقة الاخبار فيقال إنهم اقتصروا فيه على الآحاد أو التواتر وأما النبوة فطريقها المعجز والتحدي بالقرآن وغيره من المعجزات وقد كان اشتهر ذلك في القبائل ولم يكن نقله بالآحاد فان قيل أليس لم يجز لهم أن يعملوا بأخبار الآحاد إلا وقد دلت الدلالة عندهم على ذلك فان كان قد تواتر عندهم التعبد بذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فما يؤمنكم أن شرعه قد كان تواتر إليهم عنه صلى الله عليه قيل إن كان وجوب العمل بأخبار الآحاد معلوما بالعقل فلا يمتنع أن يكونوا عملوا على ذلك وإلا فانهم عملوا على ما تواتر عندهم من أن النبي عليه السلام كان ينفذ آحاد الناس إلى القبائل يعلمونهم الشرع لأنه إذا تواتر ذلك عندنا كان تواتره عندهم أولى وليس كذلك جميع شرعه لأنهم لو علموا جميعه لما احتاجوا إلى إنفاذ من يعلمهم فان قيل فأول من أنفذ النبي صلى الله عليه و سلم إليهم من اين علموا أن ذلك من دينهم قيل لا يمتنع أن يكون أول من أنفذ النبي صلى الله عليه و سلم إليهم علموا ذلك باخبار قومهم الذين نفذوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فلا يمتنع أن يكون أولئك كانوا أكثر من أربعة فوقع لقومهم العلم باخبارهم ان النبي صلى الله عليه و سلم تعبدهم بالرجوع إلى إخبار من أنفذه إليهم ليعلمهم شرعه فان قيل أليس قد كان رسل النبي صلى الله عليه و سلم يعلمون الناس القرآن الذي يتلونه في الصلاة وأعداد ركعات الصلوات وطريق ذلك يجب كونه معلوما دون أخبار الآحاد قيل إنما كان يجب أن يكون طريق ذلك معلوما بعد انتشار الشريعة وتواتر نقلها فأما في ابتداء الشريعة فطريق ذلك لمن بعد عن النبي صلى الله عليه و سلم أخبار الآحاد وهي في تلك الحال من الفروع لا من الاصول وللمخالف أن يقول إني إنما أمنع المجتهد من أن يعدل عن حكم العقل إلى خبر الواحد ولا أمنع من رجوع العامي إلى المفتي في فروع الشرع فهل تواتر عندكم النقل بأن الذين ارسل إليهم النبي صلى الله عليه و سلم كانوا من أهل الاجتهاد وأن الرسل كانوا يخبرونهم عن رسول الله ويكلونهم فيما أخبروهم إلى الاجتهاد

ليس معكم ذلك بل الظاهر ممن تجدد إسلامه أنه لم يكن من أهل الاجتهاد وأن رسل النبي عليه السلام إنما كانوا يعلمونهم كما يعلم الفقيه العامي والأب ولده كيفية الصلاة فان قلتم فبماذا علموا وجوب قبول فتوى ذلك الرسول قيل لكم بما تواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم من إنفاذ رسله ليعلمهم الأحكام كما ذكرتموه أنتم حين قيل لكم بماذا علموا وجوب المصير إلى أخبار الآحاد فان قلتم إذا لزم المصير إلى قول المفتي لزم المصير إلى خبر الواحد إذ لا فرق بينهما كنتم قائسين بخبر الواحد على الفتوى وذلك انتقال من هذه الدلالة إلى دلالة أخرى لأن هذه الدلالة غير مبنية على القياس بل على أن النبي صلى الله عليه و سلم قد أنفذ المخبرين بالآحاد وأوجب على غير من ذكرتم فهذه الدلالة تلزم من منع من قبل خبر الواحد ومنع العامي من قبول الفتوى
ومنها قولهم إذا وجب على العامي الرجوع إلى العالم المخبر عن اجتهاده مع إمكان بقاء العامي على حكم العقل فبأن يجب على العالم أن يرجع إلى الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم أولى ومنها قولهم إذا وجب على العامي الرجوع إلى فتوى العالم وإن حكاه عن أبي حنيفة لما غلب على الظن صدقه فبأن يجب على المجتهد الرجوع إلى الحكاية عن النبي عليه السلام أولى ومنها قولهم إذا وجب على العامي الرجوع إلى رسول المفتي فبأن يجب على المجتهد الرجوع إلى الحكاية عن النبي عليه السلام أولى ومنها قولهم إذا وجب على العامي الرجوع إلى رسول المفتي فبأن يجب على المجتهد الرجوع إلى المخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم أولى ومنها قولهم قد وجب الحكم بما شهد به الشاهدان لما كانا عدلين وكان ما شهدا به مما لو علم لوجب الحكم به وهذا موجود في المخبر العدل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الجواب انهم إن حمعوا هذه المسائل وردوها إلى العمل على الأخبار عن المعاملات والمنافع والمضار في الدنيا فهو الدليل المذكور في أول الباب وإن جعلوا هذه الأصول اصولا شرعية وردوا إليها هذه الفروع وجب أن يعللوها بعلل معلومة حتى يردوا بها هذه الفروع إليها ولم يفعلوا ذلك ولا

يمتنع أن يكون إنما وجب على العامي الرجوع إلى الفتوى وإلى من يخبر عن أبي حنيفة وإلى رسول المفتي لكونه غير مجتهد ألا ترى أنه يجب عليه الرجوع إلى الفتوى ولا يجب ذلك على العالم ألا ترى أنه لا يمتنع أن تكون مصلحة العامي الرجوع إلى إخبار المجتهد عن نفسه وإلى إخبار من يخبر عنه ويكون رجوع المجتهد إلى المخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا لم يعلم صدقه مفسدة وكثير من الناس يمنع من الفتوى على سبيل الحكاية عن الغير فلا يلزم قياس المسألة على هذا الأصل وأما العمل على الشهادة فانهم إن جعلوه أصلا شرعيا فيجب أن يعللوا ذلك بعلة شرعية معلومة ولم يفعلوا ذلك فمن أين أن العلة ما ذكروه مع أنه ليس يمتنع أن تكون مصلحتنا أن لا تثبت حكما شرعيا في الجملة بطريق غير معلوم ويجوز أن تكون مصلحتنا إذا ثبت الحكم في جملة الشريعة بطريقة معلومة أن تثبت ذلك الحكم في الأعيان بطريق مظنونة وإذا جاز ذلك فمن أين أن العلة ما ذكروه ألا ترى أن شهادة الواحد وخبر الواحد وإن اشتركا في العلة التي ذكروها فقد افترقا في وجوب القبول فقد بطل أن تكون العلة ماذكروه
ومنها لا بد للاحكام الشرعية من طريق وقد يحدث من المسائل ما ليس في الكتاب والسنة المتواترة والإجماع والقياس دليل عليه فلم يبق إلا خبر الواحد الجواب انه إن لم يوجد في شيء مما ذكروه حكم الحادثة كان للمخالف أن يوجب البقاء على حكم العقل فلا تكون الضرورة داعية إلى أخبار الآحاد
واحتج المخالف بأشياء
منها أن العقل يمنع من قبول خبر الواحد من حيث لم يؤمن كونه كاذبا فنكون عاملين بالمفسدة والجواب أنه لا يمتنع أن تكون المصلحة العمل بما ظننا صدقه من الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم إذا اختص بشرائط صدق الراوي أم كذب على ما بيناه من قبل وبينا أن العقل يجوز ويوجب العمل بخبر الواحد

وما ذكروه منتقض بالشهادات على أحكام الفروج والدماء لأنا لا نأمن كذبها ويلزمنا العمل بها ولا يلزم من ذلك جواز عملنا بالمفسدة والظلم
ومنها أن التعبد السمعي لم يرد بقبول خبر الواحد والجواب أنا قد بينا أنه قد ورد بذلك ولو لم يرد به لكفى دليل العقل في التعبد به
ومنها قول الله عز و جل وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقوله ولا تقف ما ليس لك به علم وقوله إلا من شهد بالحق وهم يعلمون والعمل بخبر الواحد اقتفاء لما ليس لنا به علم وشهادة وقول بما لا نعلم لأن العمل به موقوف على الظن الجواب أنه ليس في العمل بخبر الواحد شيء مما ذكروه لأن عند خبر الواحد نعمل بموجبه ونخبر بوجوب ذلك علينا ونعلمه ونخبر بأن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذلك إن لم يكن الراوي تعمد الكذب ولا سها ولا غلط أما العمل بموجبه فليس نقول فيقال إنه قول ما ظنناه أو بما علمناه وهو اقتفاء لما كنا به عالمين وهو الدليل القاطع الدال على وجوب العمل بخبر الواحد وهذا الدليل هو الذي اتبعناه في العمل وفي الإخبار بوجوب العمل علينا فلم نقل على الله عز و جل ما لا نعلمه واعتقادنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذلك إن لم يكن الراوي غلط أو تعمد الكذب وهو علم وإخبارنا بذلك شهادة بما نعلمه لأن كل مخبر إذا لم يتعمد الكذب و لم يفعله سهوا أو غلطا فهو صادق
ومنها قول الله عز و جل إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا قدم من اتبع الظن وبين أنه لا غناء له في الحق فكان على عمومه الجواب انا بعلمنا على خبر الواحد متبعون الدليل القاطع الدال على اتباع خبر الواحد إن قيل أليس لا بد أن تظنوا صدق الراوي حتى تعلموا

بالخبر قيل بلى ولكن الاتباع هو الدليل فان قيل فقد جعلتم للظن حظا في الاتباع لأنكم لو لم تظنوا صدق الراوي لم تعلموا بالخبر الجواب ان الله تعالى إنما ذم من لم يتبع إلا الظن بقوله إن يتبعون إلا الظن فلم يدخل في ذلك من اتبع الدليل عند الظن وقوله عقيب ذلك إن الظن لا يغني من الحق شيئا يفيد أن ما فعلوه من أنهم ما يتبعون إلا الظن لا يغني من الحق شيئا فكأن الظن وحده لا يغني من الحق شيئا ويفيد أيضا أن الظن للشيء لا يفيد أن المظنون حق لا محالة وكذلك نقول لأنا إذا ظننا صدق الراوي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال كذا وكذا لم يجب أن يكون ذلك حقا لأنا ظنناه على أنا إذا علمنا وجوب العمل بخبر الواحد عند ظننا صدقه فالذي أغنى في الحق هو إما الدليل الدال على موجب خبر الواحد وإما مجموع الدليل مع الظن ومجموع الأمرين ليس هو الظن
ومنها قول الله تعالى يآيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين قالوا والحكم بخبر العدل عمل على جهالة لتجويزنا كذبه فقد تساوى من هذه الجهة العمل بخبر الفاسق فحرم العمل به الجواب ان العمل بالجهالة عمل بالشيء من غير طريق يسوغ العمل به ولهذا لم يكن المسافر عاملا بجهالة إذا سافر بعد الفحص والمساءلة وإن جوز أن يكون الأمر بخلاف ما أخبر به فان ادعى المستدل أن العمل بخبر الواحد عمل بغير طريق يسوغ ذلك فقد بني أحكامه على نفس المسألة
ومنها قوله عز و جل ثم يحكم الله آياته فلو كان خبر الواحد دلالة وكان من آيات الله لكان الله قد أحكمه ولو أحكمه لم يجز كونه كذبا الجواب ان ذلك وارد عقيب قول الله عز و جل وما أرسلنا من

قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته فبين أنه يحكم آياته بعد نسخ ما يلقيه الشيطان لأن ثم للترتيب والذي يقف أحكامه على نسخ ما القاه الشيطان هو القرآن لأنه هو الذي له تعلق بما ألقاه الشيطان وأيضا فخبر الواحد امارة وليس بدلالة فلم يطلق عليه القول بأنه من آيات الله عز و جل وإن كان العمل يجب عنده لأن الآية دلالة كما لا تكون الشهادات من آيات الله عز و جل حتى يقطع على صدقها وإن وجب العمل عندها
ومنها قول الله عز و جل وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا فأخبر أنه مرسل إلى كافة الناس فوجب عليه أن يخاطب بشرعه جميعهم وذلك يقتضي نقل جميعهم أو من يتواتر الخبر بنقله فما روي بالآحاد ليس من شرعه الجواب يقال لهم ولم لا يكون مرسلا إلى كافة الناس وإن بين شرعه لبعضها بالآحاد فان قالوا لجواز أن لا يصل إليهم شرعه إذا أودعه آحاد الناس قيل ولم لا يجوز أن يلزمهم شرعه بشرط أن يبلغهم كما يلزم شرعه من بعد عنه من أهل عصره إذا بلغهم ولا يلزمهم قبل أن يبلغهم

باب فيما يرد له الخبر وما لا يرد له مما فيه اشتباه
اعلم أو ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال سيكذب علي يدل على أنه قد كذب عليه أو سيكذب فيما بعد عليه لأنه إن كان هذا الخبر كذبا عليه فقد كذب عليه وإن لم يكن كذبا عليه فقد كذب عليه أو سيكذب عليه بعد هذا الوقت وإذا جوزنا أن يكون قد تقدم الكذب عليه فلا بد من اعتبار الأخبار المروية ولو لم يرو هذا الخبر لكان تجويز الكذب عليه يقتضي اعتبار الأخبار فكيف وقد روي هذا الخبر

والأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه و سلم ضربان أحدهما يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قالها والآخر لا يعلم أنه قالها فالمعلوم أنه قاله إما أن لا تتعارض وإما أن تتعارض فان لم تتعارض وجب العمل بها إن تضمنت عملا وإن تعارضت وأمكن تأويل بعضها على موافقة بعض فعل ذلك بأن يحمل أحدهما على المجاز إما بنسخ أو تخصيص أو غير ذلك وإن لم يمكن تأويل بعضها على موافقة بعض حملا على التخيير إذ ليس العمل على أحدهما أولى من الآخر ووقوع العلم بالخبر يمنع من رده من غير تأويل
وأما الأخبار التي لا يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قالها فضربان أحدهما يتضمن عملا والآخر لا يتضمن عملا فما لا يتضمن عملا لا يجوز الاحتجاج به وما يتضمن عملا فقد يجب العمل به على شرائط وقد يرد لفقد تلك الشرائط وقد يحصل في بعض ذلك اشتباه وقد لا يحصل فيه اشتباه فكل ذلك يجب رجوعه إما إلى الخبر أو إلى ما للخبر به تعلق وهو الراوي وكيفية نقله والمخبر عنه أما الراجع إلى الخبر فبأن يكون فيه زيادة لم تذكر في رواية اخرى فان ذلك قد يقدح في الحديث في بعض الحالات ومما يشتبه الحال فيه أن يخالف حفاظ أهل النقل في ألفاظ الحديث وأما ما يرجع إلى الراوي فضربان أحدهما يرجع إلى العدد والآخر يرجع إلى الأحوال أما الراجع إلى الأحوال فهو كل ما قدح في الظن لصدقه أن لا يكون عدلا ويدخل في ذلك الكذب والتساهل وقله التحفظ فيما يسمعه ويرويه ووجوه الفسق كلها ونحو ما سخف من المعاصي والمباحات ونحو أن لا يكون ضابطا ونحو أن يعتريه السهو بعد ضبط الحديث على تفصيل سنذكره ونحو أن يكون مجهولا غير معروف العدالة ولا يرد حديثه إذا كان له اسم يعرف به واسم لا يعرف به وإذا لم يكثر من رواية الحديث ولا كاثر مجالسة أهل العلم أو رواه ثم ذكر به فلم يذكره او كان واحدا لم يروه معه غيره وهذا القسم يرجع إلى العدد واما كيفية النقل فأشياء منها رواية الحديث على المعنى ومنها روايته من كتاب وهو لا يذكره ومنها التدليس ومنها الإرسال ومنها إرسال الحديث تارة

وإسناده اخرى وروايته تارة موقوفا وتارة موصولا وأما حال المخبر عنه فبأن يثبت بالدليل القاطع خلاف ما اقتضاه الخبر كدليل العقل والكتاب والسنة المعلومة ولا فرق بين أن يكون الخبر دافعا للكتاب والسنة المعلومة على كل حال أو على وجه النسخ واختلفوا إذا كان الخبر مخصصا لهما واختلفوا إذا كان المخبر عنه يعم البلوى به هل يرد له خبر الواحد أم لا ولا يرد إذا عمل النبي صلى الله عليه و سلم بخلافه أو عمل أكثر الصحابة بخلافه وكذلك إذا عاب أكثرهم على الراوي على اختلاف فيه ولا يرد إذا خالف قياس الأصول
ونحن نذكر أولا ما يرجع إلى الخبر ثم ما يرجع إلى المخبر ثم ما يرجع إلى كيفية نقله ثم ما يرجع إلى المخبر عنه إن شاء الله

باب في الخبر إذا تضمن زيادة لم تذكر في رواية أخرى
اعلم أنه إذا روي الراوي زيادة فاما أن يكون لم يروها غيره أو لم يروها هو مرة أخرى والأول ضربان احدهما أن يكون من لم يروها لا يقبل حديثه والآخر أن يقبل حديثه فالأول لا يمنع من قبول الزيادة لأن راويها ممن يقبل روايته ولم يعارضها رواية مثلها يبين ذلك أن الذي لا يقبل روايته لو روى نفي تلك الزيادة لم يمنع ذلك من قبول الزيادة فبأن لا يمنع تركه لذكرها أولى وإن كان الذي لم يروها يقبل روايته فأما أن يعلم انهما أسندا الخبرين إلى مجلسين أو إلى مجلس واحد أو لا يعلم ذلك من حالهما فان علمنا أنهما أسنداه إلى مجلسين قبلت الزيادة لأنه لا معارض لها لجواز أن يقيد النبي عليه السلام كلامه في بعض الحالات دون بعض ثم هل تلك الزيادة نسخ أو تخصيص قد بين فيما سلف وإن علمنا أنهما أسنداه إلى مجلس واحد فاما أن يكون الذي لم يرو الزيادة عددا لا يجوز أن يغفلوا عن تلك الزيادة التي رواها الواحد وإما أن يكون الراوي لها عددا لا يجوز عليهم توهم ما لم يكن وإما أن يجوز على كلا

الفريقين ذلك ويجوز خلافه فالأول يمنع من قبول الزيادة لأن من لم يروها إنما لم يروها لأنها لم تكن ويكون الراوي لها قد سمعها من غير النبي صلى الله عليه و سلم فظن أنه سمعها منه عليه السلام وإن كان الراوي للزيادة عددا كثيرا لا يجوز عليهم توهم ما لم يكن قبلت الزيادة لأنهم ما رووها إلا لأنها كانت وإن لم يكن الراوي لها ولا التارك لها عددا كثيرا فإما أن تكون الزيادة مغيرة الإعراب وبناء الكلام أو غير مغيرة لذلك بل منفصلة فالأول كقوله أو نصف صاع من بر وكقوله أو صاعا من بر فكل واحد من الراويين قد روى ما ينفي رواية الآخر لأن أحدهما روى النصب والآخر روى الجر فروايتهما متناقضة فان تفاضلا في الضبط عمل على رواية الأضبط لأن مع تعارض الروايتين وكون كل واحد من الراويين يقبل حديثه يجب الترجيح وقوة الضبط والعدالة مما يرجح به الخبر وإن تساويا في الضبط واشتبه علينا الأمر في تفاضلهما فيه لم تكن رواية أحدهما بالقبول أولى من الأخرى فيجب الرجوع إلى ترجيح آخر وإن كانت الزيادة لا تغير بناء لفظ الحديث وإعرابه كما روي من قوله أو صاعا من بر وما روي من قوله أو صاعا من بر بين اثنين فكل واحد منهما قد روى أو صاعا من بر على صورة واحدة وزاد أحدهما بين اثنين فهذه الزيادة تقبل
فصارت الزيادة إنما تقبل على شروط منها أن لا يكثر عدد من لم يروها ومنها أن لاتكون مؤثرة في لفظ المزيد عليه وإعرابه أو اثرت كان راويها أضبط والشيخ أبو عبد الله يقبل الزيادة سواء أثرت في اللفظ أو لم تؤثر إذا أثرت في المعنى وقبلها قاضي القضاة إذا أثرت في المعنى دون اللفظ ولم يقبلها إذا اثرت في إعراب اللغظ وحكى أن اصحاب الحديث لا يقبلون الزيادة
والدلالة على قبولها إذا اختصت بالشرائط المذكورة أن الراوي للزيادة ممن يجب قبول خبره ولا معارض لروايته فوجب قبولها كما لو انفرد برواية

الحديث ولم يروه غيره وإنما قلنا إنه ممن يقبل لأنه مختص بالعدالة والضبط وجميع الصفات المطلوبة وإنما قلنا إنه لا معارض لروايته لأن التارك لرواية الزيادة لم ينفها لفظا ولا معنى أما أنه لم ينفها لفظا فبين واما أنه لم ينفها في المعنى فلأنه لا يمكن أن يقال إنه نفاها في المعنى إلا من حيث كان الراوي الآخر لما ساق الحديث وكان قصد استيفاؤه ثم لم يذكر الزيادة علم أنه قد نفاها وجرى مجرى أن ينفيها لفظا ويمكن أن يكون هذا الكلام دليلا له مبتدأ والجواب إنه ليس يجب أن يكون إنما لم يروها التارك لها لأنه نفاها لكن يجوز أن يكون إنما لم يروها لأنه لم يسمعها لسهو اعتراه حين تكلم بها النبي صلى الله عليه و سلم أو لشغل قلب اعتراه أو تشاغل بعطاس أو إصغاء إلى كلام آخر فاذا جاز كل ذلك بطل القول بأن التارك للزيادة قد نفاها في المعنى
فان قيل فلم ما حملتم ترك الرواية للزيادة على أحد هذه الوجوه بأولى من أن يحملوا رواية من رواها على أنه تصور أنه سمع تلك الزيادة من النبي عليه السلام ولم يكن سمعها منه قيل لأن سهو الإنسان عما سمعه وتشاغله عن سماع ما جرى بمشهد منه يكثر ولا يكثر توهم الإنسان أنه سمع ما لم يسمع ولأنه لا سبب لذلك إلا أنه سمع الزيادة من الغير فظن أنه سمعها من النبي صلى الله عليه و سلم أو سمع من النبي عليه السلام شيئا فظن أنه سمع منه ايضا ما له به ولترك رواية ما جرى اسباب كثيرة قد ذكرناها فلذلك كان ترك الإنسان رواية ما جرى أكثر من روايته ما لم يجر إذا لم يتعمد الكذب
فان قيل فيجب أن يكون رواية من روى أو نصف صاع من بر أولى من رواية من روى أو صاعا من بر لأن فيها زيادة نصف يجوز أن يكون التارك لها لم يسمعها قيل لو لم يكن إلا هذا لكانت الزيادة أولى لكن لما تعارضا في رواية إعرابين متنافيين لم تكن إحدى الروايتين أولى من الأخرى يبين ذلك أنه لا يمكن أن يقال لعل الذي روى أو صاع من بر لم يسمع لفظه نصف وسمع لفظ صاع لأنه لو كان كذلك لسمعها مجرورة

إن قيل فيلزم على ما ذكرتم أن الذي لم يرو الزيادة لو نفاها لم يعارض نفيه رواية من رواها قيل إن قال أعلم أنه لم تكن هذه الزيادة وأنني ما سمعتها ولم يقطعني قاطع عن سماعها فانه يكون ناقلا للنفي ولارتفاع الموانع كما نقل الآخر الزيادة فتتعارض الروايتان وإن قال لم تكن هذه الزيادة فانه يحتمل أن يكون ذلك موضع اجتهاد ويحتمل أن يقال رواية المثبت أولى لأنه يحتمل أن يكون النافي إنما نفى الزيادة بحسب ظنه ويحتمل أن يقال يرجع إلى رواية النافي إذا كان أضبط
واحتج الدافعون للزيادة بأشياء
منها أن ضبط الراوي إنما يعرف بموافقة المعروفين بالضبط فاذا لم يوافقه في الرواية لم يعرف ضبطه والجواب إنه لو لم يثبت ضبط الإنسان إلا بموافقة ضابط آخر له أدى إلى ما لا نهاية له ولم يعرف ضبط أحد فعلمنا قد يعرف ضبط الإنسان لغير ذلك مما هو موجود فيمن روى الزيادة وأيضا فانما يعرف اختلال ضبط الانسان إذا خالفه من يضبط مرارا كثيرة فأما المرة والمرتان فلا يمتنع أن يضبط هو فيها ويسهو من هو أضبط منه
ومنها قولهم إن جماعة لو كانوا في مجلس فنقلوا عن صاحبه كلاما وانفرد واحد منهم بزيادة غير الباقين مع كثرتهم وشدة عنايتهم بما سمعوه ورووه لأطرح السامعون تلك الزيادة الجواب إن ذلك ليس مما نحن بسبيله لأنا قد قلنا إن الجماعة إذا تركت الزيادة كانت روايتها أولى وكذلك إذا كان التارك للزيادة أضبط إذا غيرت الزيادة اللفظ
ومنها قولهم إذا كان الضابط لو وافق هذا الراوي للزيادة لقوي بموافقته خبره فيجب إذا خالفه أن يضعف والجواب إنه بامساكه عن الزيادة غير مخالف له كما أنه بامساكه عن رواية خبر آخر لا يكون مخالفا له وأيضا فانه إذا وجب قول الزيادة بمشاركة غيره من الرواة له وجب إذا لم

يشاركوه أن تنقص تلك القوة وليس إذا نقصت يجب أن تبلغ حدا في الضعف لا يقبل الخبر معه ألا ترى أنه لو شارك الراوي جماعة في خبر فقوي الخبر بذلك فانه إذا لم يشاركوه في الرواية بل رواه وحده لا يجب أن ينتهي في الضعف إلى حد لا يجوز أن يقبل معه
فأما إذا لم يعلم هل اسند المخبران الخبرين إلى مجلس واحد أو مجلسين وكانت الزيادة تغير إعراب المزيد عليه ولم يكن الراوي له ولا التارك لها كثرة فانه يقتضي التوقف والرجوع إلى الترجيح لأنا لا نأمن أن يكونا قد اسنداه إلى مجلس واحد فيتمانعا والصحيح أن يقال يجب حمل الخبرين على أنهما جريا في مجلسين لأنهما لو كانا في مجلس واحد لجرى على لفظ واحد ولو كان اللفظ واحدا لكان الظاهر من عدالتهما وضبطهما أن لا يختلف روايتهما
فأما إذا روى الراوي زيادة لم يروها هو مرة أخرى متقدمة أو متأخرة وأنه إن أسند الروايتين إلى مجلسين قبل ذلك وكذلك إذا لم يعلم أنه اسندهما إلى مجلسين حمل أنهما كانا في مجلسين وإن علمنا أنه لم يسندهما إلى مجلسين وكان قد روى الخبر دفعات كثيرة من غير زيادة ورواه مرة واحدة بالزيادة فالأغلب انه سها في إثبات الزيادة لأن سهو الإنسان مرة واحدة أغلب وأكثر من سهوه مرارا كثيرة فان قال قد كنت أنسيت هذه الزيادة والآن ذكرتها قبلت الزيادة وحمل أمره على الأقل النادر لمكان قوله وكذلك إن كان له كتاب يرجع إليه وإن كان إنما رواها مرة وأخل بروايتها مرة وكانت الزيادة تغير إعراب الكلام تعارضت الروايتان وإن كانت الزيادة لا تغير اللفظ احتمل أن يتعارضا لأنه على كل حال قد وهم وهما باطلا إما زيادة لا اصل لها وإما نسيانا لما كان له اصل فليس بأن يقال ضبطه يمنع من أن يكون قد وهم عند سماعه للحديث زيادة لا اصل لها وأنه نسي فلم يروها في بعض الحالات وذكرها مرة أخرى بأولى من ان يقال إن ضبطه

يمنع من نسيانه لها والأولى أن يقال أظنه من روايته لما لم يسمعه توهما منه أنه سمعه الأقرب أن يكون نسيها حين لم يروها لأن نسيان الضابط لما سمع عند تطاول الزمان أكثر وأغلب من ذهابه عن سماع ما حضره فوجب لذلك قبول الزيادة
وإذا روى الراوي الحديث تارة مع زيادة وتارة بغير زيادة استهانة وقلة تحفظ سقطت عدالته ولم يقبل حديثه وإذا كان في الخبر لفظ لا يفيد إلا التأكيد لم يجز إسقاطه لأن النبي صلى الله عليه و سلم ما ذكره إلا لفائدة
فأما إذا خالف في لفظ الحديث حفاظ أهل النقل فقد ذكر ذلك في جملة ما يرد له الحديث وهو داخل في الزيادة وقد ذكرناه الآن لأن الخلاف ليس يقع بينهم إلا بأن يزيد أحدهم في الحديث ما لا يرويه الآخر او يروي أحدهما اللفظ على إعراب يروي الآخر خلافه وقد تقدم بيان ذلك كله

باب في ذكر فصول أحوال الراوي
فصل
اعلم أنه لما وجب رد الخبر إذا كان الراوي غير عدل وجب أن نذكر ما العدل وما العدالة ثم نذكر الدلالة على اشتراط العدالة في الأخبار
أما العدل والعدلة فهما في اللغة مصدر مقابل الجور وهو إيضاف الغير بفعل ما يجب له ويستحق عليه وترك ما لا يجب عليه ولهذا وصف العقاب بأنه عدل لما كان مستحقا على المعاقب ويوصف ترك الزيادة عليه بأنه عدل ويوصف الثواب بأنه عدل لما كان واجبا للمثاب فان قيل فيجب إذا لم يجب على الإنسان حق لغيره وكان ما يستحقه على غيره لا يستوفيه أن يوصف بأنه غير عدل قيل لا يجوز ذلك لأن قولنا غير عدل يطلق على الجائر وإطلاق هذا الوصف على ما ذكره السائل يوهم أنه جائر

وذكر قاضي القضاة أن العدل هو فعل حسن يتعدى الفاعل إلى غيره بنفعه أو بضرره وقد التزم على ذلك أن يكون الابتداء بالتفضل عدلا قال ولذلك يقال إن الله سبحانه عدل بابتداء الخلق في الدنيا وقد تعورف استعمال العدل في المستكثر من فعل العدل ولذلك يوصف الله سبحانه بأنه عدل وتعورف استعماله أيضا فيمن أهل لقبول شهادته ويدخل في ذلك الحرية وغيرها وتعورف أيضا فيما تقبل روايته عن النبي عليه السلام وهو من اجتنب الكبائر والكذب والمسخفات من المعاصي والمباحات ولا خلاف في اعتبار هذه الأمور فيمن يروي الخبر لأن خلاف ذلك يقدح في الثقة لقوله لأن من تقدم على الكذب لا يؤمن منه الكذب في كل ما يخبر به ومن تقدم على الفسق وهو يعتقد انه فسق لا يؤمن منه الإقدام على الكذب في حديثه ومن تقدم على المسخفات كالتطفيف وكالأكل على الطريق وإن اثمر النقص لا يؤمن منه الكذب وإن أثمر عنده النقص والمشارطة على أخذ الاجرة على الحديث فهو ابلغ في الدناءة من الأكل على الطريق وهو جار مجرى اشتراط الاجرة على صلاة النافلة
وأما الفسق في الاعتقادات إذا كان صاحبه متحرجا في افعاله فعند الشيخين ابي على وابي هاشم أنه يمنع من قبول الحديث لأن الفسق في أفعال الجوارح يمنع من قبول الحديث لكونه فسقا لا لأنه من افعال الجوارح لأن المباحات من أفعال الجوارح لا تمنع من قبول الحديث وهذه العلة قائمة في الاعتقالات إذا كانت فسقا والجواب إن الفسق من أفعال الجوارح إنما منع من قبول الحديث لأن فاعله فعله وهو يعلم أنه فسق فقدح ذلك في الظن لصدقه ولم يؤمن أن يقدم على الكذب وإن علم أنه محظور وليس كذلك إذا اعتقد اعتقادا هو فسق وقد اشتبه عليه وهو متحرج في أفعاله
إن قيل أليس لو فسق وهو يعلم أنه فسق لم يقبل حديثه فكيف يقبل إذا ضم إلى فسقه خطيئة أخرى وهي اعتقاده أن ذلك غير فسق قيل إنه إذا

لم يعتقد أنه فسق لم يقدح ذلك تحريجه وتنزهه عن الكذب وليس كذلك إذا اعتقد أنه فسق
وعند جل الفقهاء أن الفسق في الاعتقاد لا يمنع من قبول الحديث لأن من تقدم قد قبل بعضهم حديث بعض بعد الفرقة وقبل التابعون رواية الفريقين من السلف ولأن الظن يقوى بصدق من هذه سبيله إذا كان متحرجا فأما الكفر الذي يخرج به الإسلام من جملة الإسلام وأهل القبلة كاليهودية والنصرانية فانه يمنع من قبول الخبر للاجماع على ذلك ولأن الخارج من الإسلام يدعوه اعتقاده فيه إلى التحريف فيه ولا يقوى الظن لصدقه وأما الكفر بتأويل فذكر قاضي القضاة أنه يمنع من قبول الحديث قال لاتفاق الأمة على المنع من قبول خبر الكافر قال والفقهاء إنما قبلوا أخبار من هو كافر عندنا لأنهم لم يعتقدوا فيه أنه كافر والأولى أن يقبل خبر من فسق أو كفر بتأويل إذا لم يخرج من أهل القبلة وكان متحرجا لأن الظن لصدقه غير زائل وادعاؤه الإجماع على نفي قبول خبر الكافر على الإطلاق لا يصح لأن كثيرا من أصحاب الحديث يقبلون كثيرا من أخبار سلفنا رحمهم الله كالحسن وقتادة وعمرو مع علمهم بمذهبهم وإكفارهم من يقول بقولهم وقد نصوا على ذلك فأما من يظهر منه العناد في مذهبه مع ظهوره عنده فانه لا يقبل حديثه كما لا يقبل حديث الفاسق بأفعال الجوارح لما كان يعلمها فسقا فأما من تدين بالكذب لينصر مقالته فالظن لا يحصل بصدقه وكذلك التساهل في الحديث وترك التحفظ من الزيادة فيه والنقصان منه
وأما كون الراوي غير ضابط لما يسمعه أو يعتريه السهو فيما يسمعه بعد سماعه له فله أحوال ثلاثة
أحدها أن يكون سهوه واختلال ضبطه أكثر فيقدح ذلك في الظن لما نقله إلا أن يكون ما نقله مما يبعد أن لا يضبطه الإنسان وليس لأحد أن يقول الظاهر من العقل الضبط وقلة السهو لأن العقلاء يختلفون في الضبط

وليس له أن يقول الظاهر من العدل أنه لا يروي الحديث وهو يتهم ضبط نفسه وحفظه لأن من لا يضبط يظن أنه قد ضبط ومن سها يظن أنه ما سها فيروي حسب ظنه
والثاني أن يتساوى ضبطه واختلاله فلا يحصل الظن أيضا لصحة ما رواه لتعادل الأمرين فلا يقبل حديثه إن قيل أليس قد أنكرت الصحابة رضي الله عنها على أبي هريرة رحمه الله كثرة الرواية ثم قبلت أخباره قيل إنها لم تنكر عليه لقلة ضبطه لكن لأن الكثرة يعرض فيها الاختلال والسهو فاحتاطت بالإنكار عليه وإن كان أهلا لقبول أخباره وذكر قاضي القضاة في الشرح أنه إذا تساوى غفلته وذكره قبل خبره لأن الخبر أمارة فالأصل فيه الصحة ولقائل أن يقول إن الخبر أمارة إذا تكاملت شرائطه ولا تتكامل شرائطه إلا أن يترجح ذكر الراوي على سهوه
والثالث إن كان الأكثر منه الذكر وجودة الضبط قوي الظن لصحة روايته فقبل خبره فيما لا يعلم أنه سها فيه
واعلم أنه إذا ثبت اعتبار العدالة وغيرها من الشرائط التي ذكرناها وجب إن كان لها ظاهر أن يعتمد عليه وإلا لزم اختيارها ولا شبهة أن في بعض الأزمان كزمن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قد كانت العدالة منوطة بالإسلام فكان الظاهر من المسلم كونه عدلا ولهذا اقتصر النبي صلى الله عليه و سلم في قبول خبر الأعرابي عن رؤية الهلال على ظاهر الاسلام واقتصرت الصحابة على إسلام من كان يروي الأخبار من الأعراب فأما الأزمان التي كثرت فيها الجنايات ممن يعتقد الإسلام فليس الظاهر من إسلام الإنسان كونه عدلا فلا بد من اختباره وقد ذكر الفقهاء هذا التفصيل
ولا يرد حديث من لا يعرف معنى ما ينقله كالأعجمي لأن جهله بمعنى الكلام لا يمنع من ضبطه الحديث ولهذا يمكن للأعجمي ان يحفظ القرآن وإن لم يعرف معناه وقد قبلت الصحابة أخبار الأعراب وإن لم يعرفوا كثيرا من معاني

الكلام مما يفتقر إلى الاستدلال فأما الصبي فالأغلب أن النفس لا تثق بروايته فان جاز في بعض الحالات أن يغلب الظن لصدقه فالشرع منه من قبول خبره إذا رواه وهو صبي فان سمع الحديث وهو صبي ورواه وهو بالغ قبل خبره وقد قبلت الصحابة رضي الله عنها رواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم وإن كان حين سمعها من النبي صلى الله عليه و سلم غير بالغ لما كان حين رواها بالغا ويقبل رواية المرأة والعبد والأعمى من حفظه لأنه قد يظن صدقهم في روايتهم ولم تمنع الشريعة من قبولها بل قد قبلت الصحابة رواية ابن عباس وكان ضريرا ورواية النساء ويقبل رواية من لم يرو إلا خبرا واحدا ولم يكاثر أهل العلم ولا أطال مجالسة أهل النقل لأن كل خصلة لا تقدح في غالب الظن لصحة الرواية ولم يرد الشرع باعتبار نفيها فانها لا تمنع من قبول الحديث وكون الراوي غير مجالس لأهل العلم لا يقدح في ظننا صدقه
ويفارق ذلك استفتاء من لم يجالس أهل العلم لأن جواز الاستفتاء موقوف على كون المفتي من أهل الاجتهاد ولن يكون الإنسان كذلك إلا بالتعلم ومجالسة العلماء إلا أنه إذا تعارض خبران أحدهما يرويه من لم يجالس اهل النقل والآخر يرويه من جالسهم كانت رواية من جالسهم أولى لأن المكثر من مجالسة أهل الصنعة أخبر بها وأعرف بتفاصيلها
ويقبل حديث الإنسان وإن اختلف في اسمه متى عرفت عدالته إما بظاهر الإسلام وإما بطريقة زائدة وإذا روى زيد عن عمرو خبرا فقال عمرو لا أذكر أني رويت هذا الحديث فعند أبي الحسن رحمه الله لا يقبل الحديث لأنه الأصل في الرواية فاذا أنكرها لم يقبل وكذلك رد حديث ربيعة عن الزهري أيما امراة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل لأن الزهري أنكر أن يكون رواه وعند الشافعي وغيره أنه يقبل لأن ثقة الراوي تقتضي قبول حديثه ما أمكن ويمكن أن يكون صادقا وإن لم يذكر المروي عنه لأنه يجوز أن ينسى أنه رواه فقد يحدث الإنسان بحديث من أمر الدنيا ثم يسهو عنه ويذكر به فلا

يذكره إلا بعد زمان طويل وربما لم يذكره أصلا فاذا كان كذلك جاز للمروي عنه أن يرويه عن الراوي كما قال الزهري حدثني ربيعة عني فان قال المروي عنه ما رويت هذا الحديث جاز أن يكون قال ذلك بحسب ظنه فلا يرد الحديث فان قال أعلم أني ما رويته فانه تعارض ذلك رواية من روى عنه لأن كل واحد منهما ثقة فيحتمل أن يكون المروي عنه قد رواه ثم نسيه ويحتمل أن يكون الراوي سمعه من غيره ممن ليس بثقة وأسنده إلى من أسنده إليه سهوا

فصل في أن الخبر لا يرد إذا كان راويه واحدا
ذهب جل القائلين بأخبار الآحاد إلى قبول الخبر وإن رواه واحد وقال أبو علي إذا روى العدلان خبرا وجب العمل به وإن رواه واحد فقط لم يجز العمل به إلا بأحد شروط منها أن يعضده ظاهر أو عمل بعض الصحابة أو اجتهاد أو يكون منتشرا وحكى عنه قاضي القضاة في الشرح أنه لم يقبل في الزنا إلا خبر اربعة كالشهادة عليه ولم تقبل شهادة القابلة الواحدة
والدليل على القول الاول قياسه على أخبار المعاملات على ما ذكرناه في الباب المتقدم ويدل عليه إجماع السلف عمل أبو بكر رضي الله عنه على خبر رواه بلال وعمل عمر على خبر حمل بن مالك وعملت الصحابة على خبر أبي سعيد في الربا وعملت على خبر أبي رافع في المخابرة وكان علي عليه السلام يستحلف ويقبل خبر ابي بكر بغير استحلاف وليس يجوز أن يقال لعلهم قبلوا ما قبلوه لأن اجتهادا عضده لأنهم كانوا يتركون اجتهادهم لبعض هذه الأخبار وكانوا لا يرون بالمخابرة بأسا حتى روي لهم عن النبي صلى الله عليه و سلم النهي عنها
وحجة أبي علي رحمه الله هي المرجع في قبول خبر الواحد إلى الشرع وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعمل على خبر ذي اليدين حتى سأل ابا بكر وعمر وقد اعتبرت الصحابة العدد في الأخبار فان ابا بكر لم يقبل خبر المغيرة في الجدة حتى رواه معه محمد بن مسلمة ولم يعمل عمر على خبر أبي موسى في الاستئذان

حتى رواه معه غيره ولا عمل على خبر فاطمة بنت قيس ولم يقبلا خبر عثمان في رد الحكم وقالا إنك شاهد واحد قال فعلمت أن ذلك إجماع لأنه لم ينكر عليهم
الجواب أما رجوع النبي صلى الله عليه و سلم إلى خبر ابي بكر وعمر رضي الله عنهما في خبر ذي اليدين فان دل فانما يدل على اعتبار ثلاثة ابي بكر وعمر وذي اليدين على أن الإنسان قد يخبر عن أمور الدنيا بما يظن خلافه فيرجع في تحقيق ذلك إلى جماعة استظهارا وطلبا لقوة الظن فلا يدل على أنه لا يعول في أمور الدنيا إلا على خبر جماعة وأما طلب الصحابة لراو آخر فانه لا يدل على أنهم اعتقدوا أنه لا يعمل على الواحد لو انفرد لأن الحاكم قد يطلب شاهدا ثالثا ليقوي ظنه وإن كان لو لم يشهد الثالث عمل على شهادة الاثنين وقد يعمل الانسان في امور الدنيا على خبر الواحد ويطلب في بعض الأشياء مخبرا ثانيا ليقوي ظنه وقد يضعف الظن لصدق الراوي مرة ولا يضعف لصدقه أخرى وقد ينفرد العدل بالرواية لأمر مستبعد في العادة أو لأمر تقتضي العادة أن لا ينفرد بروايته الواحد ولا يظن تعمده به الكذب لكن يظن به السهو والغلط ولا يظن به ذلك مرة اخرى إذا انتفت هذه الأمور فاذا كان طريق قبول خبر الواحد والاجتهاد في عدالة الراوي وضبطه واختلفت الاحوال في ذلك ووجدنا الذين طلبوا راويا آخر هم الذين لم يطلبوه في حالة اخرى علمنا أنهم إنما طلبوا مخبرا ثانيا لتقوية الظن أو لأنه اعتراضهم بعض ما ذكرناه لا لأنهم اعتقدوا حظر العمل على خبر الواحد على أنه روي عن عمر أنه قال لأبي موسى ما اتهمتك ولكني خفت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد بينا أن ردة خبر فاطمة بنت قيس إنما كان لأنه نسخ لكتاب الله عز و جل وإنما لم يعمل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على خبر عثمان رضي الله عنه في رد الحكم لأن ذلك شهادة لأنه إثبات حكم في عين لا يتعداها ألا ترى أنهما سميا ذلك شهادة فدل ذلك على أنه كان شهادة عندهما

وقاس أبو علي رحمه الله الخبر على الشاهدة لعلة أن كل واحد منهما إخبار عن الغير يجب عنده العمل فكان من شرطه العدد وهذه علة غير معلومة فلا يجوز الاعتماد عليها فيما يجب فيه العلم وليس يمتنع أن تكون الشهادة إنما شرط فيها العدد لكونها شهادة ولهذا قبل فتوى الفقيه الواحد لما لم يكن شهادة ولهذا لم يعتبر في المخبر ما اعتبر في الشاهد من الحرية

فصل في الخبر إذا أسنده من أرسل غيره من الأحاديث هل يقبل أم لا
أما من يقبل المراسيل فلا شبهة في قبوله واما من لم يقبل المراسيل فكثير منهم قبله ايضا قال لأن إرساله يختص ذلك المرسل دون هذا المسند وليس إرساله لذلك الخبر بأكثر من تركه روايته فوجب قبول مسنده إلا أن يوهم فيما أرسله أنه سمعه ممن أسنده إليه وأتى بلفظ يوهم ذلك فجرى ذلك مجرى كذبه فيقدح في أمانته فأما إذا قال قال فلان فان ذلك لا يوهم أنه سمعه ممن أسنده إليه فلا يقدح في امانته
ومنهم من لم يقبل ما اسنده قال إن إرساله يدل على أنه إنما لم يذكر الراوي لضعفه في نفسه فستره له والحال هذه خيانة فلم يقبل حديثه
واختلف من قبل من حديث المرسل ما اسنده كيف يقبله فقال الشافعي لا يقبل من حديثه إلا ما قال فيه حدثني أو سمعت ولا يقبل إذا أتى بلفظ موهم وقال بعض أصحاب الحديث لا يقبل حتى يقول سمعت فلانا وأصحاب الحديث يفرقون بين أن يقول الإنسان حدثني فلان أو أخبرني فلان فيجعلون الأول دالا على أنه شافهه بالحديث ويجعلون الثاني مترددا بين المشافهة بالحديث وبين أن يكون قد أجازه أو كتب به إليه وهذه عادة لهم وإلا فظاهر قوله أخبرني يفيد أنه تولى إخباره بالحديث وذلك لا يكون إلا بالمشافهة

باب في فصول كيفية النقل
فصل في رواية الحديث بغير لفظ النبي صلى الله عليه و سلم هل يرد له الحديث أم لا
إذا روي الحديث بلفظ غير لفظ النبي صلى الله عليه و سلم فان لم يسند مسنده بل زاد أو نقص أو كان أوضح منه أو أخفي منه فانه لا يجوز ذلك لأن ما زاد على كلام النبي صلى الله عليه و سلم فهو كذب عليه لا يجوز قبوله وما نقص عنه فانه إما أن ينبىء عن أنه رفع حكما قد اثبته فلا يجوز قبوله أو يكون فيه كتمان لحكم قد أثبته والكذب والكتمان محظوران ولا يجوز العدول إلى لفظ أظهر من لفظ النبي صلى الله عليه و سلم ولا أخفى منه لأنه لا يمتنع ان يتعلق المصلحة باللفظ الذي ذكره النبي عليه السلام الخفي أو الظاهر ألا ترى أنه قد يجوز أن يكون من المصلحة أن يعرف الحكم باللفظ الجلي تارة وبالخفي أو بالقياس تارة وإن سد اللفظ مسد لفظ النبي صلى الله عليه و سلم فان اشتبهت الحال فيه حتى يكون موضع اجتهاد لم يجز ذلك لأنه لا يمتنع ان يكون لو نقل لفظ النبي عليه السلام إلى غيره أن يكون اجتهاد غيره فيه خلاف اجتهاده وإن لم تشتبه الحال فيه نحو قول القائل جلس وقعد فانه يجوز العدول عن أحدهما إلى الآخر ويقبل الخبر وهو مذهب الحسن البصري وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله لأنه إن وجب نقل الحديث لأجل اللفظ فقط دفعه الإجماع وإن وجب لأجل اللفظ والمعنى وجب تلاوة اللفظ ولا دليل في العقل ولا في الشرع يقتضي كوننا متعبدين بتلاوة لفظ النبي عليه السلام فبقي أنه يجب نقل حديثه لأجل المعنى وهذا الغرض حاصل وإن عدل الراوي إلى لفظ يقوم مقام لفظ النبي صلى الله عليه و سلم
وفارق الأذان والتشهد لأن الشرع اقتضى كوننا متعبدين بتلاوة ألفاظها فان قاسوا خطاب النبي صلى الله عليه و سلم على التشهد أعوزتهم على صحيحة تجمع بينهما ولم يكن ذلك بأولى من قياسه على الشهادة وقول النبي صلى الله عليه و سلم نصر الله امرء سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب

حامل فقه ليس بفقيه لا يمنع من نقل حديثه على المعنى لأن من نقل المعنى يقال إنه قد أدى كما سمع لأنه يقال للمترجم من لغة إلى لغة قد أدى كما سمع على أنه لو منع الخبر من نقل الحديث على المعنى لكان قد منع من ذلك فيما يشتبه ويجوز أن يختلف الاجتهاد فيه ولهذا قال ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه وما لا يشتبه من الألفاظ ولا يختلف اجتهاد الناس في قيام بعضه مقام بعض يستوي فيه الناقص الفقه والكامل الفقه والفقيه وغير الفقيه ولهذا يجب أن يكون الناقل للحديث على المعنى من أهل العلم ليعلم ما يشتبه الحال فيه مما لا يشتبه فيه

فصل في الرواية من كتاب
إذا روى الراوي الحديث من كتابه فله أحوال
منها أن يعلم أنه قرأه على شيخه أو حدثه به ويذكر ألفاظ قراءته ووقت ذلك فلا شبهة في جواز روايته والأخذ بها وكذلك إذا علم الراوي أنه قرأ جميع ما في الكتاب أو حدثه به الراوي ولم يذكر الفاظ القراءة ولا وقت القراءة لأنه عالم في الحال بأنه قرأ جميع ما في الكتاب أو سمعه ممن حدثه
ومنها أن يعلم أنه ما سمع ما في الكتاب أو يظن ذلك أو يجوز سماعه ويجوز نفيه على سواء وفي ذلك كله لا يجوز له أن يحدث به ولا يؤخذ بروايته لأنه ليس له أن يخبر بما يعلم أنه كاذب فيه أو ظان أو شاك
ومنها أن لا يذكر سماعه لما في الكتاب ولا قراءته له ولكنه يغلب على ظنه سماعه له أو قراءته لما يراه من خطه فهذا هو الذي ينبغي أن يكون الناس قد اختلفوا فيه فعند أبي حنيفه رحمه الله لا يجوز له أن يرويه ولا يجوز العمل على روايته لأنه لا يجوز أن يقول حدثني فلان وهو لا يعلم أنه حدثه إذا كان ذلك حكما عليه بأنه قد حدثه كما لا يجوز مثله في الشهادة وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي يجوز له الرواية ويجب العمل عليها لأن الصحابة

كانت تعمل على كتب النبي صلى الله عليه و سلم نحو عملها على كتابه إلى عمرو بن حزم من غير أن يرويه لها راو بل عملوا لأجل الخط وأنه منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فان ثبت أنها عملت عليه من غير رواية جاز أن يروي الإنسان من كتابه إذا غلب على ظنه سماعه ويكون إخباره إخبارا عن ظنه ويجوز العمل عليه

باب القول في المراسيل
الخبر المرسل هو أن يسمع الرجل الحديث من زيد عن عمرو فاذا رواه قال قال عمرو وأضرب عن ذكر زيد واختلف الناس في الراوي إذا فعل ذلك وكان ممن يقبل مسنده يقبل مرسله أبو حنيفة ومالك وابو هاشم على كل حال وقال قاضي القضاة في الشرح عنيت بالمتكلمين الذين قبلوا المراسيل ابا هاشم دون من لم يقبل إلا خبر اثنين وقال في الدرس إن أبا علي يقول إذا روى الحديث اثنان رواه أحدهما عن رجل بصري لم يسمه ورواه الآخر عن كوفي لم يسمه فانه يقبل ولم يقبل أهل الظاهر وطائفة من أصحاب الحديث المراسيل على كل حال وقبل قوم مراسيل من يقبل مسنده في حال دون حال وهي إذا اختص بشروط والشافعي اعتبر أحد شروط
منها أن يكون ذلك الخبر قد أسنده غير مرسله قال قاضي القضاة هذا إذا لم تقم الحجة باسناد ذلك من المسند فأما إن قامت الحجة باسناده فالمعتبر به دون المرسل
ومنها أن يكون قد أرسله راو آخر يروي عن غير شيوخ الأول
ومنها أن يعضده قول صحابي
ومنها أن يعضده قول أكثر أهل العلم

ومنها أن يكون المرسل ممن لا يرسل عمن فيه علة من جهالة وغيرها ثم قال ومن هذه حاله أحب أن يقبل مرسله ولا أستطيع أن اقول إن الحجة تثبت به كثبوتها بالمتصل وشرط عيسى بن ابان في قبول المراسيل أن يرسله صحابي أو تابعي أو تابعي التابعين أو من أئمة أهل النقل دون من سوى هؤلاء
واحتج من قبل المراسيل باشياء منها إرسال المرسل مع عدالته يجري مجرى ذكره من أرسل عنه وقوله هو عدل عندي في الدلالة على أنه قد عدله ولو قال ذلك لقبل حديثه فكذلك إذا أرسل وإنما قلنا إن إرساله يجري مجرى ذكره وتعديله لأنه مع عدالته لا يستجيز أن يخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا وله الإخبار عنه ولا يكون له الإخبار بذلك إلا وهو عالم أو ظان لأن الخبر بما يجوز كونه ونفيه على سواء قبيح ولأنه ليس له إلزام الناس عبادة أو إطراح عبادة عنهم من غير أن يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم أوجب ذلك أو يظنه فبان أن عدالته تقتضي ما ذكرنا وأما أن الراوي إذا ذكر من روي عنه وقال هو ثقة عندي لزم قبول خبره وإن لم يذكر أسباب ثقته فهو متفق عليه بين اصحاب أبي حنيفة والشافهي وإنما اختلفوا في الجرح فعند أصحاب ابي حنيفة لا يجب أن يذكر الإنسان سبب الجرح وقال الشافعي لا يصير المجروح مجروحا إلا بذكر اسباب الجرح والأمر في التزكية ظاهر فان اصحاب الحديث يزكون الرجل من غير أن يذكروا أسباب عدالته ولأن الإنسان إنما يكون ثقة زكيا إذا اجتنب الكبائر ولم يخل بالواجبات فلو وجب ذكر أعيان ذلك في طول الزمان مخافة أن يكون فيها ما لا تسلم معه عدالة الإنسان عند السامع وجب ما يشق احصاؤه بل يتعذر إن قيل إنما لم يجب على المزكي ذكر اسباب العدالة لهذه المشقة التي ذكرتموها وذلك غير قائم في ذكر المخبر قيل هذه المشقة إن ثبت معها الظن لعدالة من زكاه المزكي فهو غرضنا وليس سبب هذا الظن هذه المشقة وإنما سببه عدالة المزكي وهذا هو الذي قلناه ولو لم تثبت معها عدالته لم يجز الحكم بتزكيته لأجل المشقة إذ كان الظن لعدالته غير حاصل فان قيل إنما لم يجب على المزكي ذكر أسباب عدالة من زكاة

لأنه يخبر عن ظنه وأما المخبر فانما يخبر عن غيره فوجب ذكره قيل وقد يكون الإنسان عدلا عند المزكي بأن يخبره غيره عن عدالته فهو كالمخبر وأيضا فان هذا فرق لا يؤثر في موضع الجمع وذلك أن المخبر إنما أخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم وطريقه إلى ذلك غيره كما أن ظن المزكي لعدالة من زكاة طريقة معرفته بأسباب عدالته فكما لم يجب ذكر ذلك لم يجب ذكر المخبر فان قيل يلزمكم على ما ذكرتم أن يجري إضراب شهود الفرع مع عدالتهم عن ذكر شهود الاصل مجرى أن يذكروهم ويعدلوهم وأن يلزم الحاكم الحكم بشهادتهم وإن لم يذكروا شهود الأصل كما يلزمه إذا ذكروهم وعدلوهم الجواب إن إضرابهم عن ذكر شهود الأصل يجري مجرى ما ذكرتم ولو تركنا وهذا الأصل لحكمنا بشهادتهم وإن لم يذكروا شهود الأصل لكن الدلالة منعت من ذلك وليس يجب إذا منعت الدلالة من ذلك أن يمتنع أن يحكم بأخبار المراسيل كما أن الدلالة قد دلت على أن من شرط الحكم بشهادة شهود الفرع أن يحملهم شهود الأصل الشهادة فاعتبرنا قيام الدلالة على ذلك ولم نعتبره في غير هذا الموضع لأنه لو لم تقم الدلالة على ذلك لأجرينا الشهادة على الشهادة مجرى الشهادة على الإقرار ولا يشرط فيه أن يحملهم الشهود الشهادة كما لا يشرط أن يحملهم المقر الشهادة على إقراره إن قيل أليس لو ثبت عدالة الشهود عند الحاكم لم يسقط النظر في عدالتهم عن حاكم آخر فهلا كان ثبوت عدالة من أرسله المخبر عنده لا يسقط عن غيره النظر في عدالته قيل فيجب لو ذكر المخبر من أخبر عنه وعدله أن لا يسقط عن السامع للخبر النظر في عدالته كما لم يسقط عن القاضي الثاني النظر في عدالة الشهود وإن ذكروا عنده فلما لم يجز ذلك علمنا مفارقة الشهادة للخبر
ومنها إجماع الصحابة حكي عن البراء بن عازب أنه قال ليس كل ما حدثناكم به عن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعناه منه غير أنا لا نكذب وروي أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من أصبح جنبا فلا صوم له فلما سئل عن ذلك ذكر أن الفضل بن عباس أخبره بذلك وروي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم

أنه قال لا ربا إلا في النسيئة ثم أسنده إلى أسامة وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم ما زال يلبي حتى رمي جمرة العقبة ثم اسند ذلك إلى الفضل بن عباس فلو لم يجز العمل على المراسيل لكان المرسل إذا لم يبين أنه قد أرسل الحديث جرى مجرى أن يروي عن فاسق أو كافر على وجه يوهم أنه عدل ولا يبين أنه كافر في أن ذلك منكر ولو كان منكرا لأنكروه ولما اجتمعوا على ترك إنكاره ومعلوم أن من أرسل ومن لم يرسل لم ينكر ذلك إن قيل أليس قد كان علي ابن أبي طالب عليه السلام يستحلف من يخبره عن النبي صلى الله عليه و سلم أو سمعه من غيره عنه ويجوز أن يكون حلفه هل سمع الحديث في الجملة أم لا على أن استحلافه إنما كان استظهارا لأن أحدا لا يشرط ذلك في حديث الثقة ولهذا لم يستحلف أبا بكر عليه السلام على أن ذلك لا يعترض دليلنا لأن دليلنا هو أنهم لما عرفوا أن بعضهم أرسل لم ينكروا عليه ولم يرو أن عليا عليه السلام أنكر عليهم إن قيل ما ذكرتموه من الأخبار الدالة على أنهم أرسلوا هي أخبار آحاد غير مؤدية إلى العلم فالجواب ان كل واحد منها وإن كان خبر واحد فان مجموعها متواتر ولقائل أن يقول إن ما ذكرتموه أخبار يسيرة ولا يصير معناها متواتر بهذا القدر ألا ترى أن الخبر الواحد لو رواه ثلاثة أو أربعة لم يكن متواترا فالأخبار الثلاثة والأربعة أولى أن لا يكون معناها متواترا فلا يصح الاحتجاج بها إلا ان يقال إنه يجوز أن يحتج بأخبار الآحاد في إثبات ما يتوصل به إلى العمل دون العلم
ومنها أنه لو لم يقبل الخبر المرسل لما قبل إذا جوزنا كونه مرسلا حتى إذا قال الراوي عن فلان لم يقبل حديثه لجواز أن يكون ما سمع منه لكنه أخبر عنه ولقائل أن يقول لا يقبل الحديث إلا أن يظن أنه غير مرسل نحو أن يقول حدثنا فلان أو سمعت فلانا أو عن فلان ويكون قد أطال صحبته لأن ذلك أمارة تدل على أنه قد سمعه منه ومتى لم يعلم أنه صحبه لم يكن قوله عن فلان أمارة على أنه سمعه منه فلا يقبل حديثه
واحتج من لم يقبل أخبار المراسيل بأشياء

منها أن ترك الراوي لذكر من حدثه يتضمن جهالة عينه وصفته فاذا كان لو ذكر اسمه فعرف السامع عينه ولم يعرف عدالته لم يجز له العمل بحديثه فأولى أن لا يجوز له قبوله إذا لم يعرف عينه ولا عدالته والدليل على أن ترك ذكره للراوي يتضمن جهالة عدالته أن عدالته إن عرفناها بذكره فالمرسل ما ذكره وإن عرفناها بأن الثقة لا يرسل إلا عن ثقة فهذا لا يصح لأن كثيرا من الثقات قد أرسلوا عمن ليس بثقة ولأن الإنسان قد يكون ثقة عند إنسان ولا يكون ثقة عند إنسان آخر فلا يمتنع لو عرفنا من لم يذكره المرسل لما كان ثقة عندنا والجواب إن إرسال المرسل لا يتضمن جهالة صفة من لم يذكره لأن نفيه يشهد بعدالة من أرسل عنه وقولهم إن العدل قد يرسل عمن ليس بثقة لا يقدح فيما قلناه لأن من أرسل عمن ليس بثقة إن كان قد عرف أنه غير ثقة فذلك يقدح في عدالته كما أنه إذا ذكره وقال هو ثقة عندي وعلمنا أنه لم يكن عنده ثقة فانه يقدح في عدالته ولا يقدح ذلك في أن الظاهر والغالب ممن ظاهره العدالة أنه لا يزكى من يعتقد أنه غير زكي كذلك الغالب ممن هو ثقة في الظاهر أنه لا يرسل إلا عمن هو ثقة عنده والغالب لا يزول بالنادر وإن كان قد ارسل عنه وهو ثقة عنده وبان لنا انه ليس بثقة فذلك لا يقدح أيضا في أن الظاهر من كونه ثقة عنده أن يكون ثقة في نفسه وإن جاز خلافه لأن الغالب لا يبطل بتجويز خلافه كما أنه لو قال هو عدل عندي جاز لو فحصنا نحن عنه أن لا يكون عدلا عندنا ولا يمتنع ذلك من أن الظاهر من تزكيته أنه زكي في نفسه وأنه لا يجب علينا الفحس عنه وقولهم إذا لم يجز قبول الخبر إذا سمى المخبر من سمع منه متى لم يعرف عدالته فبأن لا يجوز ذلك إذا لم يعرف عينه ولا عدالته أولى فالجواب عنه أن ممن يقبل المراسيل من يقول إذا سمى الراوي من روى عنه ولم يقل هو عدل عندي فقد زكاه ويجب قبول حديثه وهذا يلزم عليه أن يسقط النظر في المحدثين مع كثرة الفساد في الناس إذا ذكر المحدث من روى عنه لأن عدالته تقتضي ثقة من سمع منه وثقة من سمع منه تقتضي عدالة من سمع

منه هكذا إلى النبي صلى الله عليه و سلم ومنهم من قال إنه إذا ذكر اسمه لم يسقط عنا النظر في عدالته وإذا لم يذكر اسمه سقط النظر في عدالته لأنه إذا لم يذكر عينه فقال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد حكم بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ذلك وألزمنا تلك العبادة وليس له أن يحكم على النبي صلى الله عليه و سلم بشيء إلا وهو عالم أو ظان له ولا يظن ذلك إلا والراوي ثقة عنده ولأنه لما لم يذكر الراوي لم يمكنا من النظر في عدالته وإذا ذكر الراوي الذي سمع منه الحديث فانه لم يحكم به على النبي صلى الله عليه و سلم ولا منعنا من النظر في عدالته بل قد مكننا من النظر في ذلك إذ كان قد ذكره
ومنها أن الشاهدين إذا كانا عدلين لم يجز أن يشهدا على شهادة شاهدين يخفيان ذكرهما وهما غير عدلين عندهما ومع ذلك لم يجر إضرابهما عن ذكر شهود الأصل مجرى ذكرهما وتزكيتهما والجواب إن عدالة الشاهدين تقتضي غلبة الظن بثقة من شهدا على شهادته إذا لم يذكراه فقد التزمنا في الشهادة مثل ما قلناه في الخبر ولو تركنا وهذا الأصل لحكمنا بالشهادة على الشهادة من غير أن نذكر شهود الأصل على ما تقدم بيانه فان قيل فيلزمكم أن لا تحكموا بالخبر المرسل وإن كان غلب على ظنكم عدالة من أخبر عنه المخبر كما لم تحكموا بشهادة شهود في الفرع وإن غلب على ظنكم عدالة شهود الأصل والعلة الجامعة بينهما أن كل واحد من الشهود والمخبرين يسندون إلى غيرهم ما يلزمون به حكما للغير فلم يلزم الحكم إلا بذكر من يسندون إليه قيل لسنا نعلم أن العلة ما ذكرتم وليس يجوز أن يتوصل إلى العلم بعلة غير معلومة ولا يمتنع أن يكون قد اعتبر في الشهادة ضرب من الاحتياط فلم يقنع فيها إلا بذكر شهود الأصل كما اعتبر فيها الحرية والعدد وأن يحمل شهود الأصل الشهادة شهود الفرع وقد قال الشيخ ابو عبد الله رحمه الله إن القياس يمنع من الحكم بالشهادة فلم يجز قياس المراسيل على ذلك لأنه لا يجوز القياس على المخصوص من جملة القياس والمخالف لا يسلم قوله إن الحكم بالشهادة على الشهادة بخلاف قياس الاصول ويسلم أنه لا يجوز القياس على المخصوص

من جملة القياس على أن من يقيس المراسيل على الشهادة على الشهادة إنما يقيس عليها في المنع لا في جواز الحكم فلم يكن قائسا عليها من الوجه الذي منع منه القياس وقد فرق بين المراسيل وبين الشهادة على الشهادة فقيل إن الحاكم إنما يحكم بشهادة شهود الأصل فلهذا وجب ذكرهم ولمخالفهم أن يقول والحكم بلزوم العبادة إنما يقع بخبر الأول فيجب ذكره فان قالوا كيف نقول ذلك وعندنا أنه لا يجب ذكر المخبر الأول قيل إنكم تعلقون لزوم العبادة بالمخبر الأول ولهذا تعتبرون عدالته وتستدلون عليهما بارسال المخبر الثاني مع عدالته على أنه إن كان لزوم العبادة لا يتعلق بالمخبر الأول لأنه لا يجب ذكره فقد صار ذلك تابعا لكونه غير واجب ذكره فقد فرقتم بين المسألتين بما هو مبني على موضع الخلاف لأن موضع الخلاف هو أنه لا يجب ذكر المخبر الأول وكون المخبر الأول لا يتعلق به الحكم والعبادة تابع لذلك وبه فرقتم بين الشهادة والخبر وقد فرق بين المسألتين أيضا بأن شهود الفرع وكلاء شهود الأصل لأنه لا يجوز لهم أن يشهدوا على شهادتهم إذا سمعوهم يشهدون حتى يحملوهم الشهادة كما لا يجوز للوكيل التصرف إلا بعد أن يؤكله المؤكل وهذا فرق غير مؤثر لأن المحتج جمع بين الشهادة والخبر بالعلة التي ذكرها خصمه في المراسيل وهي أن عدالة الراوي تقتضي أنه ما أرسل الحديث إلا وهو على غاية الثقة بعدالة من أخبر عنه وهذه العدالة قائمة في الشهود على ما بيناه
ومنها أنه لو جاز العمل على المراسيل لم يكن لذكر أسماء الرواة والفحص عن عدالتهم معنى والجواب أن له معنى من وجهين أحدهما أنه إذا ذكرهم الراوي أمكن السامع الفحص عن عدالتهم فيكون لظنه لعدالتهم آكد من ظنه لعدالتهم لأجل إرسال المرسل لأن طمأنينة الإنسان إلى فحصه وخبرته أقوى من طمأنينته إلى خبر غيره وهذا الجواب يقتضي ترجيح المسند على المرسل والآخر أن الراوي للحديث قد يشتبه عليه حال من أخبره فلا يقدم على تزكيته ولا على جرحه فيذكر ليفحص غيره عنه

ومنها قولهم لو وجب العمل بالمراسيل للزمنا في عصرنا هذا أن نعمل على قول الإنسان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا وكذا وإن لم يذكر الرواة الجواب إن ذكر الخبر إن كان معروفا في جملة الأحاديث فقد عرفت رواته وإن لم يكن معروفا لم يقبل لا لأنه مرسل بل لأن الأحاديث قد ضبطت وجمعت فما لا يعرفه أصحاب الحديث منها في وقتنا هو كذب فان كان العصر الذي أرسل فيه الراوي عصرا لم يضبط فيه السنن قبل مرسله
فأما قول الشافعي رحمه الله إن المرسل يقبل إذا أسنده المرسل أو أسنده غيره فان أراد أنه يقبل والحجة هو الخبر المسند فصحيح على أصله ولا تأثير للمرسل وإن أراد أنه يصير المرسل حجة فليس بصحيح لأن ما ليس بحجة لا يصير حجة إذا اقترنت به حجة كما أن خبر الواحد لا يصير طريقا إلى العلم وإن عضدته آية أو خبر متواتر وأما قوله إنه يعمل على خبر المرسل إذا أرسله غيره ممن يروي عن غير مشائخه فغير صحيح لأنه ليس يجوز أن ينضم ما ليس بحجة إلى ما ليس بحجة فيصير حجة إذ كل واحدة من الروايتين مرسلة وكذلك قوله إذا عضد المرسل قول بعض الصحابة أو فتوى أكثر أهل العلم لأن ذلك غير حجة ولا يصير المرسل به حجة فان جعل قول بعض الصحابة حجة فالكلام عليه ما تقدم
وقد حكى بعض أصحاب الشافعي عنه أنه خص مراسيل الصحابة بالقبول وحكى قاضي القضاة عنه أنه قال إذا قال الصحابي قال النبي صلى الله عليه و سلم كذا وكذا قبلت ذلك إلا أن أعلم أنه أرسله والدليل على بطلان تخصيص الصحابة بذلك أن ما دل على قبول المراسيل يشتمل من كان عدلا من الرواة صحابيا كان أو غيره وقول النبي صلى الله عليه و سلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم لا يدل على أن غيرهم لا يقبل مرسله كما لا يدل على أن غيرهم لا يقبل مسنده وقولهم إن الصحابي لا يطلق القول بأن النبي صلى الله عليه و سلم قال كذا وكذا إلا وقد سمعه أو حدثه عنه الثقة فانه يقال لهم ولم وجب ذلك فيهم

فان قالوا لعدالتهم قيل فهذه العلة حاصلة في غيرهم من العدول فان قال الظاهر من قول الصحابي قال النبي صلى الله عليه و سلم كذا وكذا أنه سمعه منه قيل فقد قبلتموه على أنه مسند لا على أنه مرسل على أنه يمكن أن يقول الصحابي بلغني أن النبي صلى الله عليه و سلم قال كذا وكذا أو سمعت أنه قال كذا فيتصور المسألة في هذا الموضع

فصل في الحديث إذا أرسل مرة وأسند مرة اخرى أو ألحق بالنبي مرة وجعل
موقوفا على صحابي مرة
إذا أسند الراوي الحديث وأرسله غيره فلا شبهة في قبول من يقبل المراسيل له ومن لا يقبلها أيضا بجعله مسندا لأن عدالة المسند تقتضي ذلك إذا لم يعارضها معارض وليس في إرسال المرسل ما يعارض إسناده لأنه يجوز أن يكون إنما أرسل غيره الخبر لأنه سمعه مرسلا وسمعه هذا مسندا أو لأنه سمعه المرسل مسندا ثم نسي راويه بعينه وعلم ثقته في الجملة فأرسله لهذا الوجه أو أرسله لمعرفته بثقة من رواه بعينه وأما إذا أرسله هو في وقت آخر فان ذلك لا يمنع من جعله مسندا أيضا لأنه يجوز أن يرسله في وقت آخر لهذه الأمور
وأما إذا وصل الراوي الحديث بالنبي صلى الله عليه و سلم ووقفه الآخر على صحابي فانه يجعل متصلا بالنبي صلى الله عليه و سلم لجواز أن يكون بعض الصحابة سمع ذلك الخبر من النبي صلى الله عليه و سلم فرواه مرة عنه وذكره مرة اخرى عن نفسه على سبيل الفتوى فسمعه بعض الناس يسنده إلى النبي صلى الله عليه و سلم وسمعه الآخر يفتي به عن نفسه فرواه كل واحد منهما على ما سمع ويجوز أن يكون أحد الراويين سمع الصحابي يسند الخبر إلى النبي صلى الله عليه و سلم ثم نسي أنه أسنده إليه وتوهم أنه ذكره عن نفسه فجعله موقوفا عليه
فأما إذا وصل الراوي الحديث بالنبي مرة وجعله هو موقوفا على بعض

الصحابة مرة فانه يجعل أيضا متصلا بالنبي صلى الله عليه و سلم لجواز أن يكون سمعه من الصحابي تارة عن نفسه وتارة عن النبي صلى الله عليه و سلم ويجوز أن يكون سمعه متصلا بالنبي صلى الله عليه و سلم ثم نسي أنه سمعه متصلا فرواه موقوفا فان كان الراوي وقفه وأرسله زمانا طويلا ثم أسنده أو وصله بالنبي صلى الله عليه و سلم فانه يبعد أن ينساه هذا الزمان الطويل ثم يذكره إلا أن يكون عنده كتاب يرجع إليه فيذكر به ما ينسيه الزمان الطويل

فصل في التدليس
إذا روى الراوي الخبر عن رجل يعرف باسم فلم يذكره بذلك الاسم وذكره باسم لا يعرف به فان كان فعل ذلك لضعفه ولأنه ليس بأهل أن يقبل حديثه فقد غش الناس وخانهم وذلك قادح في الظن لأمانته فيما يرويه ولا يقبل حديثه وإن كان فعل ذلك لصغر سن من روى عنه لا لأنه غير ثقة فان من يقول ظاهر الإسلام العدالة يقبل هذا الحديث ومن يقول لا بد من فحص عن العدالة بعد المعرفة باسلام الراوي فمن لم يقبل المراسيل من هؤلاء يجب أن لا يقبل ذلك لأنه لا يتمكن من جهله بعينه أن يفحص عن عدالته كما لا يتمكن ذلك في المرسل ومن يقبل المراسيل يلزمه قبوله لأن عدالة الراوي تقتضي أنه ما ترك ذكره بالاسم المعروف ومنع بذلك من الفحص عن عدالته إلا وهو عدل ثقة فجرى مجرى تعديله بالتصريح
باب في فصول ما يرجع إلى المخبر عنه مما يؤثر في الخبر
فصل في الخبر إذا كان مقتضاه بخلاف مقتضى العقل
اعلم أن العقل إذا منع من الشيء فإما أن يمنع منه بشرط أو بغير شرط فان منع منه بشرط نحو إيلام الحيوان إذا كان محضا لا نفع فيه فانه يقبل

خبر الواحد باباحته ويعلم أنه غير محض وأنه فيه منفعة وإن منع العقل من الشيء بغير شرط نحو منعه من حسن تكليف ما لا يطاق فمتى ورد خبر بخلاف ذلك فإن أمكن تأويله من غير تعسف جوزنا أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قاله وعنى التأويل الصحيح وإن لم يمكن تأويله إلا بتعسف لم يجز أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قاله على ذلك الوجه لأنه لو جاز التأويل مع التعسف بطل التناقض من الكلام كله ويجب فيما لا يمكن تأويله القطع على ان النبي صلى الله عليه و سلم لم يقله وإن كان قاله فإنما قال حكاية عن الغير أو مع زيادة أو نقصان يخرج بهما من الإحالة
وإنما لم يقبل ظاهر الخبر في مخالفة مقتضى العقل لأنا قد علمنا بالعقل على الإطلاق أن الله عز و جل لا يكلف ما لا يطاق وأن ذلك قبيح فلو قبلنا الخبر في خلافه لم يخل إما أن نعتقد صدق النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك فيجتمع لنا صدق النقيضين أو لا نصدقه فنعدل عن مدلول المعجز وذلك محال

فصل في خبر الواحد إذا رفع مقتضى الكتاب أو سنة متواترة
اعلم أن خبر الواحد إنما يكون رافعا للكتاب إذا نفى أحدهما ما اثبته الآخر على الحد الذي أثبته أو أثبت أحدهما ضد ما أثبته الآخر على الحد الذي أثبته فالأول نحو أن يقول في أحدهما ليصل فلان في الوقت الفلاني في المكان الفلاني على الوجه الفلاني وينهى في الآخر عن هذه الصلاة على هذا الحد والثاني أن يامر بتلك الصلاة في مكان آخر في ذلك الوقت بعينه فان كان الخبر ينافي الكتاب من غير نسخ لم يجز قبوله لأنا قد علمنا أن الله تعالى قد تكلم بالآية وأن النبي صلى الله عليه و سلم قد تكلم بما تواتر من نقله عنه فلو أخذنا بخبر الواحد لكنا قد تركنا بالجملة ما قد علمنا أن الله عز و جل قاله وعدلنا إلى ما لا نعلم أنه صدق
إن قيل هلا قلتم إن الله سبحانه أراد بالآية مقتضاها بشرط أن لا يعارضها خبر واحد قيل فهو عالم بمعارضة خبر الواحد له فلا يجوز هذا

الإشراط لأنه لا يجوز أن يأمر بشرط ويجب القطع على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقل ذلك الخبر أو قاله على سبيل الحكاية عن الغير أو مع زيادة أو نقصان ينفيان المعارضة وكذلك إذا عارض الإجماع خبر واحد فان أمكن تأويل الخبر مع الآية على وجه النسخ فالعقل يجوز النسخ كالتخصيص وعند أصحابنا أن الشرع منع من النسخ به وذكر قاضي القضاة في الشرح أنه يظن أن بين عيسى بن أبان وبين الشافعي رحمهما الله خلافا في قبول أخبار الآحاد إذا خالفت ظاهر الكتاب وقال ويشبه أن يكون الخلاف بينهما في عرض خبر الواحد على الكتاب إذا تكاملت شرائطه فعند الشافعي أنه لا يعرض عليه لأنه لا يكمل شرائطه إلا وهو غير مخالف للكتاب وعند عيسى بن أبان أنه يجب عرضه عليه حتى يعمل عليه لأنه أمارة فيجوز أن يخطىء ويجوز أن يصيب فلا يمتنع أن يخالف الكتاب فلا يعلم إذن تكامله شرائطه إلا إذا علم أنه لا يعارض الكتاب والكلام فيما يكون نسخا وما لا يكون نسخا وفي الزيادة هل هي نسخ أم لا قد مضى في الناسخ والمنسوخ ولا شبهة في أن الناسخ من حقه أن يكون غير مقارن فان علم أن خبر الواحد الرافع لبعض حكم الآية إما بالزيادة أو بغيرها مقارن لم يكن نسخا وإن علم أنه غير مقارن لم يقبل وإن شك فيه قبل عند قاضي القضاة لأن الصحابة رضي الله عنها رفعت بعض أحكام القرآن لأخبار الآحاد ولم تسأل هل كانت مقارنة أم لا فأما معارضة أقاويل أكثر الصحابة فلا يمنع من قبوله لأن قول أكثرهم ليس بحجة

فصل في الحكم إذا اقتضى عموم الكتاب فيه خلاف ما يقتضيه خبر الواحد
اختلف مثبتو التعبد بخبر الواحد في جواز تخصيص القرآن والسنة المتواترة فمنع قوم من ذلك على كل حال وأجازه معظم الفقهاء على كل حال ومنع منه قوم في حال دون حال فقال عيسى بن أبان إذا دخلهما التخصيص من

وجه جاز تخصيصهما بخبر الواحد لأنهما يصيران مجملين ومجازين بالتخصيص الأول وإذا لم يدخلهما التخصيص من وجه آخر لم يجز تخصيصهما وشرط قوم في جواز تخصيصهما بأخبار الآحاد أن يكون التخصيص قد دخلهما بدليل منفصل
والدليل على تخصيص القرآن بذلك أن خبر الواحد يقتضي الظن والعقل يقتضي العمل على الظن في المنافع والمضار فوجب المصير إليه وإن خص العموم
إن قيل الظن لصدق الراوي لا يحصل مع عموم الكتاب قيل إذا كان الظن لصدقه يحصل إذا لم يعارضه عموم الكتاب وجب حصوله مع عموم الكتاب لأنه لا وجه يحيل وقوع الظن لصحة الخبر مع معارضة عموم الكتاب
فان قيل الوجه المحيل لذلك هو أن عموم الكتاب إذا انفرد اقتضى العلم بشموله وخبر الواحد إذا انفرد اقتضى الظن لصحته فلم يجز التعبد به إذا عارضه عموم الكتاب وإذا لم يجز ذلك لم يحصل الظن بأن النبي صلى الله عليه و سلم قاله الجواب إن خبر الواحد وإن اقتضى الظن إذا انفرد فان وجوب الحكم به معلوم غير مظنون والتعارض إنما وقع بين حكمه وبين حكم العموم فاذا كان كل واحد منهما معلوما لو انفرد لم يجز المنع من التعبد بالخبر مع عموم الكتاب فلم يمنع من وقوع الظن لصحته بل وجب التعبد به لأنه أخص
فان قيل الدليل الذي دل على وجوب العمل بخبر الواحد إنما دل بشرط أن يظن صدق الراوي ومع معارضة العموم لا يظن صدقه فالشرط لم يوجد والدليل لم يحصل فالجواب عنه أن عدالة الراوي لا ينفيها العموم فالظن لصدقه حاصل وقول النبي صلى الله عليه و سلم بيان فثبت به التخصيص في الأصل بياض مقدار أربع كلمات ووجوب العمل بمقتضى العموم معلوم فقد صار المصير إليه أولى لأن نقله معلوم ووجوب العمل به معلوم هذا الدليل

يعارضه أن العموم معلوم يتناوله الأشخاص والعقل يقتضي أن لا يترك العمل على ما يغلب الظن فوجب العمل عليه وإن عارضه خبر واحد لأنه من لم يترك ما يعلم لما يظن فقد تحرز من المضار ولأن العموم لو أفاد الظن لقائل خبر الواحد وتعارضا ووجب المصير إلى دليل العقل أو دليل غيرهما ولأن خبر الواحد لو قدح في العموم لوجب استعماله ولو رفع جميع ما يتناوله العموم وجوزنا في كل واحد من الأخبار المخصصة أنه صحيح والآخر فاسد فكان يبقى من العموم ثلاثة أشخاص لا بأعيانها أو شخص واحد لا بعينه لأن كل خبر يكسب الظن والظن يقتضي العقل والعمل عليه ويجوز في التناهي إلى الواحد من العموم أن يكون الخبر الوارد به مع ذلك الواحد صحيحا وغيره مما تقدم كذب فيجيء من ذلك أن يرفع جميع ما تناوله العموم بخبر الواحد وذلك محال فان قيل من العجب أن يجتمع علم وظن متعارضين فيقدح الظن في العلم ولا يبطل الظن بالعلم قيل قد كنا نجوز أن يكون هناك دليل يقتضي تخصيص العام قبل العلم بخبر الواحد ولو كان العموم مقطوعا أنه لا يجوز تخصيصه لم يخصه بخبر الواحد وكان العلم لا يرتفع بالظن
إن قيل العقل يمنع من العدول عن المعلوم إلى المظنون وعموم الكتاب معلوم شموله وخبر الواحد مظنون صحته فلم يجز العمل عليه مع عموم الكتاب قيل إن أريد أن خبر الواحد مظنون لو انفرد فقد تكلمنا في ذلك وإن أريد أن مظنون صحته مع معارضة العموم فذلك يمنع من العلم بشمول العموم لأنا إذا ظننا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما رواه الراوي فقد جوزنا ثبوت حكم الخبر ومع تجويز ذلك لا يحصل العلم بما اقتضاه العموم من الحكم المخالف لحكم الخبر ويدل عليه إجماع الصحابة لأنهم خصوا قول الله عز و جل يوصيكم الله في أولادكم بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا نورث ما تركنا فهو صدقة ولما روي أن القاتل لا يرث والصحيح أن

فاطمة عليها السلام طالبت بعد ذلك بالنحلة لا بالميراث وخصوا الآية أيضا بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه جعل للجدة السدس وهذا يغير فرض ما تضمنته الآية فكانت مخصصة لها وخصوا قول الله عز و جل وأحل لكم ما وراء ذلك بما روى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها وخصوا قوله سبحانه أحل الله البيع بخبر أبي سعيد في المنع من بيع درهم بدرهمين وخصوا قوله اقتلوا المشركين بما روي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب وكل هذه أخبار آحاد وتخصيص الصحابة رضي الله عنها ظواهر القرآن بها ظاهر لا يمكن دفعه ولا يمكن أن يقال خصوها بغير ذلك لأنه لا يجوز أن يروى ما خصوها به ويروى ما لم يجر له ذكر وما ذكرناه يقتضي أن يحمل قول عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أم كذبت على أنه لا يدعه نسخا ليجمع بين هذا الخبر وبين الأخبار التي ذكرناها ولأن قوله لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا يفيد النسخ دون التخصيص ولهذا لا يقال فيمن خص آية من القرآن قد ترك القرآن
فان قيل هلا قبلوا خبرها في نفسها خاصة وأخرجوها وحدها من الآية وهي قوله أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم قيل إن حكمها قد كان يقضي وإنما روت الخبر ليعمل به في غيرها فلو قبلوا خبرها لقبلوه في غيرها على أنهم لو قبلوا خبرها في نفسها لقبلوه فيمن هو بمثل صفتها على ما جرت به عادتهم في إجراء الخبر في كل من كانت صفته صفة من ورد فيه الخبر

وقد قال بعضهم إن قول عمر لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أم كذبت يدل على أنه ترك قولها لهذه العلة لا لما ذكرتموه في أنه لو قبل خبرها في نفسها لقبله في غيرها الجواب أنهم لو قبلوا خبرها لدل على إخراجها وإخراج غيرها وكانوا تاركين للكتاب لأنهم لا يكونون تاركين للكتاب إلا باخراجها وإخراج غيرها فصح أنهم إنما يتركون الكتاب لأجل قولها وروايتها هو الدال على تخصيصها وتخصيص غيرها
إن قيل قد قبل أهل قبا خبر الواحد في نسخ القبلة أفيتجوزون نسخ القرآن بأخبار الآحاد قيل ذلك جائز في العقل وقد كان معمولا في صدر الإسلام بدلالة حديث أهل قبا ثم نسخ ذلك ودل على نسخه خبر عمر رضي الله عنه وإجماع السلف عليه وقال الشيخ أبو على رحمه الله لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم إني أنفذ اليكم فلانا بنسخ القبلة فاقبلوا خبره فانه صادق وذلك دلالة قاطعة على صدقه
وحكى قاضي القضاة رحمه الله في الشرح عن الشافعي رضي الله عنه أنه منع من نسخ القرآن بأخبار الآحاد في الجملة دون التفصيل ومعنى ذلك أنه منع من نسخه بخبر غير مقطوع به وجوز أن يصل نسخه إلى بعض المكلفين بخبر واحد فيلزمه العمل به دليل العمل بخبر الواحد واجب إذا اختص بشرائط وهذه الشرائط حاصلة فيه إذا عارضه عموم الكتاب فوجب العمل به
فان قيل من شرط العمل بخبر الواحد أن لا يعارضه عموم الكتاب قيل قد أجيب عن ذلك بأن إجماع الصحابة على وجوب العمل بخبر الواحد يوجب العمل به ولا يجوز أن يشترط في العمل به شرط إلا بدليل وليس على ما اشترط السائل دليل ولقائل أن يقول إنما يجب ذلك لو أجمعوا على العمل بخبر الواحد بلفظ عام يتناول حال معارضة العموم حت لا يخرج منه حالة من الحالات إلا لدلالة وما اجمعوا كذا بل اجمعوا على العمل به في موضع

فينبغي أن ينظر في الموضع الذي أجمعوا عليه فيه فان تناول هذه المسألة قضى به ولا ينقل منه إلى موضع آخر إلا لدلالة فان قلتم قد عملوا به مع معارضة عموم الكتاب كان رجوعا إلى دليل آخر
فان قيل إجماع الصحابة على العمل به يكفي في وجوب العمل به في كل موضع من الدلالة ألا ترى أنهم لو أجمعوا على قبوله في الصلاة لدل ذلك على قبوله في فرع من فروع الصيام قيل إنما يدل قبولهم له في فرع من فروع الصلاة على قبوله في غير ذلك من الفروع لأنه لا فرق بين الموضعين وليس يمكن أن يقال لا فرق بين العمل به مع معارضة عموم الكتاب له ومع فقد ذلك وإن الحال في خبر الواحد مع معارضة دليل شرعي كالحال فيه إذا لم يعارضه ذلك ألا ترى أن كثيرا من العلماء قد فرق بينهما
فان قيل إنا نستدل باجماع الصحابة على ان العمل بخبر الواحد معلوم إذا انفرد كما أن العمل باستغراق العموم معلوم إذا انفرد ثم نقول فاذا اجتمعا لم يجز إطراح أحدهما والعمل بهما لا يمكن إلا مع التخصيص قيل إذا كان العمل بكل واحد منهما معلوما إذا انفرد جاز أن يكون العمل بكل واحد منهما معلوما مع التعارض وجاز أن يكون العمل بخبر الواحد معلوما بشرط أن لا يعارضه العموم وإذا جاز كلا الأمرين وجب التوقف فمن أين قطعتم على وجوب العمل بهما وأنتم المستدلون وأيضا فان عموم الكتاب معلوم وجوب الحكم باستغراقه إلا أن يعارضه ما يكون حكمه معلوما عند معارضة العموم فاذا لم يثبت لكم ذلك في خبر الواحد لأنكم لم تثبتوا أن الصحابة أجمعت على العمل في هذا الموضع وجب القضاء باستغراق العموم
واحتج المخالف فقال إن خبر الواحد يقتضي الظن وعموم الكتاب يقتضي القطع ولا يجوز العمل بما يقتضي الظن والعدول إليه عما يقتضي القطع الجواب يقال له أتريد أن عموم الكتاب يقتضي العلم بشمول حكمه وأن خبر الواحد يقتضي الظن بثبوت حكمه أو تريد أن عموم الكتاب معلوم

أنه كلام الله سبحانه وخبر الواحد يظن أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله فان قال بالأول قيل له أتعني ذلك لو انفرد كل واحد منهما عن صاحبه أو إذا اجتمعا فان قال إذا اجتمعا أو انفرد كل واحد منهما عن صاحبه قيل لا نسلم ذلك لأن عندنا أن العمل على خبر الواحد معلوم سواء عارضه عموم كتاب أو لم يعارضه فما ذكرته هو نفس المسألة وإن قال أريد الوجه الثاني قيل ولم إذا علمنا أن الله سبحانه تكلم بالعموم وغلب على ظننا أن النبي عليه السلام تكلم بالخبر ولم نعلمه لا يجوز أن نعلم عنده وجوب العمل فان قال لأن الخبر إذا كان مظنونا أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله لم يجز أن يعلم عنده وجوب العمل قيل فيجب أن لا نعلم عنده وجوب العمل مع فقد الكتاب لأن الظن لا يكون طريقا إلى العلم على كل حال وايضا فان طريقنا إلى العلم بوجوب العمل بخبر الواحد هو الإجماع وشرط ذلك ظننا صدق الراوي والإجماع معلوم وظننا صدق الراوي معلوم فان قال عموم الكتاب ليس يقف على شرط مظنون فالخبر مظنون صدقه فقد وقف العمل به على أمر مظنون فلم يجز العدول إليه عن عموم الكتاب قيل إنما كان يمنع ما ذكرت لو كان طريقنا إلى الحكم هو قول النبي صلى الله عليه و سلم فكنا إذا لم نأمن أن يكون لم يقل ذلك القول لا يجوز لنا الحكم به وليس الأمر كذلك لأنه لو كان الأمر كذلك لما جاز العمل على خبر الواحد وإن لم يعارضه عموم الكتاب وإنما طريقنا إلى ذلك هو ظننا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذلك القول مع قيام الدلالة على العمل بما يغلب على ظننا من ذلك وكلا هذين معلوم لأنا نعلم أنا ظانون صدق الراوي ونعلم الدلالة على وجوب العمل بما ظنناه فثبت مساواة طريقنا إلى العلم بحكم الخبر لطريقنا إلى العلم لشمول الآية في أن كل واحد منهما طريق معلوم وبطل إحالتهم قيام الدلالة على العمل بخبر الواحد مع عموم الكتاب
فان قيل العموم معلوم ومعلوم أنه قول الله سبحانه وقد دل على وجوب العمل به دليل قاطع وهذا لا يتغير وخبر الواحد قد يزول الظن فيه بالبحث عن الراوي والظن في حاله فيزول الذي دل على وجوب العمل به

فكيف يزول ما لا يتغير بحال ما يتغير وقد نقضت الشبهة بانتقالنا عن مقتضى العقل بخبر الواحد وهذا لا يلزم لأن عموم الكتاب دل لفظه على شمول الحكم على طريق القطع لو انفرد ألا ترى أنه يتناول لفظه كل واحد من أشخاص النوع والجنس فلو عدلنا عن بعضه بخبر الواحد كنا قد عدلنا عن موجب دليل قاطع وأما العقل فانه لا يقتضي قبح ذبح الحيوان إلا من حيث أنه ألم محض وليس يدل العقل على انه محض وإنما يعلم العاقل أنه محض لأنه ليس في العقل ولا في السمع ما يدل عليه فاذا ورد الخبر باباحته علمنا أن فيه منفعة موفية فزال الشرط الذي معه قضى العقل بقبحه ولم نكن تاركين لموجب العقل بخبر الواحد لأن العقل لم يدل على أنه ليس فيه نفع موف وخبر الواحد دل على ذلك فلم نكن بتاركين لدلالة معلومة إلى شيء مظنون
واجيب عن الشبهة أيضا بأن خبر الواحد وعموم الكتاب طريقهما الاجتهاد فهما يتساويان وهذا لا يصح لأنه إن أريد أن طريقهما الاجتهاد الذي هو بذل الجهد في الاستدلال فصحيح لأن أحدهما مظنون أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله والآخر معلوم أن الله عز و جل قاله وإن أريد أن كل واحد منهما مظنون فلا يصح
وقد قاس المخالف المنع من تخصيص الكتاب بخبر الواحد على المنع من نسخه بخبر الواحد بعلة أن كل واحد منهما عدول إلى مظنون عن معلوم الجواب إنهم إن قاسوا أحدهما على الآخر في المنع من التعبد بهما من جهة العقول لم نسلم الحكم في الأصل لأنا نجوز من جهة العقل نسخ القرآن بخبر الواحد وإن قاسوا أحدهما على الآخر في المنع من التعبد شرعا فما ذكروه من العلة غير معلومة فلم يجز القياس بها في هذا الموضع وأما من منع تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد إذا لم يتقدمه تخصيص فقد أبطل لأن العموم المخصوص كالذي ليس بمخصوص في أنه معلوم صدوره من حكيم وتناوله من جهة الحقيقة لما لم يتناوله التخصيص فاذا خصت الصحابة بخبر الواحد

العموم المخصوص دل ذلك على جواز تخصيصه عموما لم يدخله التخصيص إذ أحدهما في معنى الآخر كما أن إجماعها على تخصيص بعض الآيات بخبر الواحد دليل على تخصيص آية أخرى بخبر الواحد لأن أحدهما في معنى الآخر
وقلوهم ! إن العموم المخصوص قد صار مجازا أو مجملا فجاز تخصيصه وليس كذلك العموم إذا لم يخص فباطل لأن العموم المخصوص ليس بمجاز من حيث يتناول ما لم يدخله التخصيص فصار من هذه الجهة كالذي لم يتقدمه تخصيص وإنما هو مجاز من حيث لم يرد به بعض ما يتناوله وقولهم إنه مجمل لا نسلمه وقولهم إن عمر عليه السلام امتنع من تخصيص قوله عز و جل أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم بخبر فاطمة بنت قيس بقوله لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أم كذبت لا يصح لأنا قد بينا أن ذلك ينصرف إلى النسخ على أن هذه الآية مخصوصة بخروج المرتدة منها وقول من فرق بين العموم المخصوص بالاستثناء وبين المخصوص بالدلالة المنفصلة بأن العموم المخصوص بالاستثناء حقيقة فيما عدا المستثنى لأن العموم مع الاستثناء يجري مجرى لفظ العدد مع الاستثناء في أنه يتناول ما عدا المستثنى من الأعداد وأما العموم المخصوص بدليل منفصل فهو مجاز فباطل بما ذكرناه الآن

فصل في الحكم إذا اقتضى قياس الاصول فيه خلاف ما اقتضاه خبر الواحد
اعلم أن القياس على أصل من الاصول إذا عارض خبر واحد فانما يعارضه إذا اقتضى الخبر إيجاب أشياء واقتضى القياس حظر جميعها على الحد الذي اقتضى الخبر إيجابها أو بان يكون الخبر مخصصا لعلة القياس فان اقتضى تخصيصها فيمن يجيز تخصيص العلة يجمع بينهما ومن لا يرى تخصيص العلة

يجرى هذا القسم مجرى القسم الأول وليس تخلو علة القياس الذي هذه حاله إما أن تكون منصوصا عليها أو مستنبطة فان كانت منصوصة لم يخل النص عليها إما أن يكون مقطوعا به أو غير مقطوع به فان كان مقطوعا به وكان خبر الواحد ينفي موجبها ولم يكن إضمار زيادة فيها تخرج معه العلة من ان يعارضها خبر الواحد فانه يجب العدول إليها عن خبر الواحد لأن النص على العلة كالنص على حكمها فكما لا يجوز قبول خبر الواحد إذا رفع موجب النص المقطوع به فكذلك في هذا الموضع ولأن خبر الواحد في هذا المكان يخرج العلة المنصوصة من كونها علة والنص قد اقتضى كونها علة فصار خبر الواحد رافعا موجب النص المقطوع به وإن لم يكن النص على العلة مقطوعا به ولا كان حكمها في الأصل ثابتا بدليل مقطوع به فانه يكون معارضا لخبر الواحد لأنهما خبرا واحد ويكون الرجوع إلى الخبر في إثبات الحكم أولى من الخبر الدال على العلة لأن دال بصريحه على الحكم والخبر الدال على العلة ليس بدال على الحكم بصريحه ونفسه بل بواسطة وإن كان حكمها في الأصل ثابتا بدليل مقطوع به فهو موضع اجتهاد على ما سنبينه الآن في العلة المستنبطة
فأما إن كانت علة القياس مستنبطة فلا يخلو أصل القياس إما أن يكون حكمه ثابتا بخبر واحد أو بنص مقطوع به فاذا كان ثابتا بخبر واحد لم يكن القياس أولى من الخبر المعارض له بل الأخذ بالخبر أولى فأما إذا كان الحكم في أصل القياس ثابتا بدليل مقطوع به والخبر المعارض للقياس خبر واحد فينبغي أن يكون الناس إنما اختلفوا في هذا الموضع وإن كان الاصوليون ذكروا الخلاف فيه مطلقا فعند الشافعي رضي الله عنه أن الأخذ بالخبر أولى وهو قول أبي الحسن وقال عيسى بن أبان إن كان راوي الخبر ضابطا عالما غير متساهل فيما يرويه وجب قبول خبره وترك القياس وإن كان الراوي بخلاف ذلك كان موضع الاجتهاد وذكر أن في الصحابة عليهم السلام من رد حديث أبي هريرة بالاجتهاد وحكي عن مالك أنه رجح القياس على الخبر ومنهم من قال طريقه الاجتهاد

واحتج المرجحون للخبر بأشياء
منها إجماع الصحاب لأن أبا بكر رضي الله عنه نقض حكما حكم به برأيه لحديث سمعه من بلال وترك عمر رضي الله عنه رأيه في الجنين وفي التسوية بين الأصابع للحديث فان قيل إن ابن عباس قد خالف في ذلك لأنه لم يقبل خبر أبي هريرة إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا وقال ما نصنع بمهراسنا والمهراس حجر عظيم كانوا يجعلون فيه الماء ويتوضؤن منه فأشار بذلك إلى أنه لا يمكن غسل اليد منه قبل إدخالها فيه فقال له أبو هريرة يا بن أخي إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا فلا تضرب له الأمثال قيل إن ابن عباس ترك هذا الحديث لأنه لا يمكن الأخذ به إذ كان لا يمكن قلب المهراس على اليد وذلك خارج عن قياس علته مظنونة فان قيل ليس في ذك تكليف ما لا يطاق لأنه كان يمكنهم غسل أيديهم من إناء آخر غير المهراس ثم يدخلوا أيديهم في المهراس فعلمنا أنه رد الخبر لأنه مخالف لقياس الأصول لا لأنه لا يمكن الأخذ به قيل فاذا أمكن الأخذ به فمن أين أن قياس الاصول كان يبيح غسل اليد من ذلك الإناء حتى يكون قد رد الخبر لذلك القياس وإذا صح ذلك لم يثبت لهم أن ابن عباس رجح قياس الاصول على الخبر حتى يكون قادحا في الإجماع
ومنها أن خبرالواحد أصل للقياس ولا يجوز أن يترك الأصل بالفرع ولقائل أن يقول إن أردتم بقولكم إن خبر الواحد أصل للقياس أنه هو الدليل على صحة العمل بالقياس فليس كذلك لأن العمل بالقياس لا يصار إليه إلا بدليل مقطوع به وإن أردتم أن خبر الواحد هو أصل القياس الذي وقعت المعارضة به وأن القياس هو قياس على حكمه فليس كذلك لأن أصل القياس هو غير هذا الخبر فان قالوا نريد بذلك أن خبر الواحد في الجملة هو أصل القياس ألا ترى أن أصل القياس هو خبر واحد مثل هذا الخبر المعارض قيل إنما يلزم هذا من قال إن القياس على حكم خبر الواحد أولى

من خبر واحد يعارض القياس فأما من قال إن القياس أولى من خبر الواحد إذا كان القياس قياسا على دليل قاطع فلا يلزمه هذا الكلام
ومنها قولهم إن خبر الواحد يجري مجرى ما سمع من النبي صلى الله عليه و سلم فكان أولى من القياس ولقائل أن يقول إن خبر الواحد يجري مجرى ما سمع من النبي صلى الله عليه و سلم في وجوب العمل وهكذا القياس وأيضا فليس يجب إذا جرى خبر الواحد مجرى ما سمع من النبي صلى الله عليه و سلم في بعض الأمور أن يجري مجراه في أمور أخر ألا ترى انه لا يجري مجراه في نسخ القرآن
ومنها قولهم إن إثبات الحكم بخبر الواحد يستند إلى قول النبي صلى الله عليه و سلم بغير واسطة وإثباته بالقياس يستند إلى قوله بواسطة فكان إثباته بالخبر أولى ولقائل أن يقول إنه كان لإثبات الحكم بالخبر هذه المزية فان لإثبات الحكم بهذا القياس مزية أخرى وهي استناده إلى أصل معلوم وإن كان بواسطة الاجتهاد في الأمارة فكما أن العمل بخبر الواحد يستند إلى أصل معلوم وهو ما دل على وجوب العمل بخبر الواحد فكذلك الحكم بالقياس يستند إلى ما دل على العمل بالقياس وهو معلوم وكما أن العمل بالقياس يفتقر إلى الاجتهاد في الأمارة فالحكم بخبر الواحد يفتقر إلى الاجتهاد في أحوال المخبرين فهما يتساويان من هذه الوجوه وهذا من أقوى ما يحتج به من رد الأمر فيها إلى الاجتهاد
ومنها أن عموم الكتاب يدل تصريحه على ما تناوله لفظه ويدل على حكم الفروع بواسطة القياس ودلالته على ما تناوله لفظه أقوى لأنه يتناوله بنفسه من غير واسطة وليس كذلك دلالته على حكم الفروع فاذا جاز أن يخرج منه بعض ما تناوله لفظه بخبر الواحد مع قوة دلالته عليه كان بأن يخرج منه مدلوله الأخفى وهو ما دل عليه بواسطة القياس لأجل خبر الواحد أولى إذ كان إخراج ما دل عليه بواسطة القياس يجري مجرى التخصيص لأنه إخراج بعض ما دل عليه إذ كان يدل على أشياء بواسطة وبغير واسطة

وللخصم أن يقول إن عموم الكتاب لا يدل على حكم الفروع لأنه لا يتناولها فلا يدل على امارة القياس فصار حكم الفروع هو مدلول دليل آخر وهو القياس فليس بأن يتركوه بخبر الواحد لأن خبر الواحد يخص به عموم الكتاب مع قوة عموم الكتاب بأولى من أن يتركوا العمل بخبر الواحد لأجل القياس إذ كان القياس يخص به عموم الكتاب
واحتج من قدم القياس على الاصول على خبر الواحد بأن القياس لا يحتمل ولا يجوز تخصيصه وليس كذلك الخبر فكان القياس أولى الجواب أن ذلك يقتضي تقديمه على نص الكتاب والسنة المتواترة وأيضا فانه إن اختص القياس بهذه المزية فالخبر مختص بمزية اخرى وهي أن دلالة الألفاظ لا تستنبط من غيرها والقياس مستنبط من الألفاظ فكانت الألفاظ أقوى من الدلالة
واحتجوا أيضا بأن القياس أثبت من الخبر لتجويز الخطأ والكذب على المخبر والجواب أن جواز ذلك كجواز كون الحكم غير متعلق بالأمارة في القياس وإن كان الأغلب صدق الراوي وتعلق الحكم بالأمارة
ومنها قولهم إذا كان القياس يخص به عموم الكتاب فبأن يترك لأجله خبر الواحد أولى إذ هو أضعف من العموم الجواب أنا إذا خصصنا العموم بالقياس لم نكن تاركين له أصلا بالقياس وليس كذلك إذا تركنا الخبر أصلا بالقياس والأولى أن يكون طريق ترجيح أحدهما على الآخر الاجتهاد لتساويهما من الوجوه التي ذكرناها فان قوي عند المجتهد امارة القياس وكانت تزيد عنده في القوة على عدالة الراوي وضبطه وجب المصير إليه وإن كان ضبط الراوي وثقته يزيد عند المجتهد على أمارة القياس وجب عليه المصير إلى الخبر

فصل في فائدة خبر الواحد إذا كان البلوى به عاما هل يرد له خبر الواحد
الوارد فيه أم لا
الخبر المروي بالآحاد لا يخلو إما أن يتضمن إيجاب العلم أو يتضمن إيجاب العمل فقط والأول إما أن يكون في الأدلة القاطعة ما يدل على ذلك العلم وإما أن لا يكون فيها ما يدل على ذلك فان لم يكن فيها ما يدل على ذلك لم يقبل الخبر سواء تضمن مع العلم عملا أو لم يتضمن عملا لأنه لو كان صحيحا لأشاعه النبي صلى الله عليه و سلم على وجه يجب في العادة التواتر بنقله ولأوجب نقله على وجه تقوم الحجة به إذ كان لا يجوز أن يوجب علينا العلم ولا يجعل لنا طريقا إليه وخبر الواحد ليس بطريق إلى العلم
إن قيل هلا قبلتم الخبر وحكمتم بأن النبي صلى الله عليه و سلم أوجب العلم على ما شافهه بذلك قيل ليس يستحيل ذلك إذا كان الخبر خطابا لمن حضر النبي صلى الله عليه و سلم وإنما رددنا الخبر إذا كان إيجابا على من شافهه ومن لم يشافهه
إن قيل جوزوا أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم أظهر الخبر وأمر بتواتر نقله وألزم كل أحد العلم بشرط أن يبلغه الخبر على حد التواتر فيكون من شافهه به قد وجب عليه العلم ومن لم يشافهه لم يجب عليه إذا لم ينقل بالتواتر قيل لو كان النبي صلى الله عليه و سلم قد اشاع الحديث وأظهره على هذا الحد وأوجب تواتر نقله لقويت دواعي الدين والعادة إلى نقله متواترا ولما جاز أن يخفى لأن جواز خفاء ذلك يقتضي تجويز حدوث أمور في الدين والدنيا عظيمة لم يبلغنا خبرها ولذلك قلنا إن النبي صلى الله عليه و سلم لو كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم كما كان يجهر بالفاتحة لكان النقل لأحدهما كالنقل للآخر فلما اختلف النقل علمنا أنه كان يجهر مرة ببسم الله الرحمن الرحيم ويخفي أخرى فنقل بعض الناس أنه جهر ونقل غيره أنه أسر
فأما إن كان في الأدلة ما يدل على العلم لم يمنع أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قد

اقتصر بذلك الخبر على آحاد واقتصر بمن سواهم على الدليل الآخر في وجوب العلم فأما إن كان الخبر يتمضن العمل دون العلم فإما أن يعم البلوى بما تضمنه أو لا يعم البلوى به فان لم يعم البلوى به قبل وإن عم البلوى فقد اختلف القائلون بأخبار الآحاد في قبوله
فلم يقبله الشيخ أبو الحسن رحمه الله ويقول إن فروع الصلاة مخالفة لذلك فلا يمتنع أن يختص بها العلماء ويقول كل شرط يفسد الصلاة وهو ركن فيها إنه يجب ظهور نقله كالقبلة التي ظهر نقلها ظهور نقل الصلاة وما يعرض فيها وليس بشرط نحو تحريم الكلام في الصلاة لا يجب نقله عاما ويقول ليس يجب شياع نقل صفة المنقول كوجوب الوتر ولا يوجب شياع نقل الوضوء من الرعاف ولا التوضي من القهقهة لأن ذلك ليس يعم به البلوى
وعند الشيخ أبي علي أن الأخبار التي لا تتضمن العلم لا يجب شياع نقلها في الخاصة والعامة بل لا يمتنع أن لا يكون العامة مكلفة لما تضمنته كالحدود أو مكلفة بالرجوع إلى العلماء وهو مذهب قاضي القضاة والدليل على قوله إن إجماع الصحابة على العمل بأخبار الآحاد يقتضي العمل بها اجمع ما لم يمنع منه مانع ألا ترى أنه دل على جواز العمل بأخبار لم ترو فيهم لما كانت في معنى ما أجمعوا عليه ورجعت الصحابة رضي الله عنها إلى أزواج النبي صلى الله عليه و سلم في التقاء الختانين
وأيضا فمن لم يقبل خبر الواحد فيما يعم به البلوى فإما أن لا يقبله لأن الشريعة منعت من قبوله أو لأنه ليس في الشريعة ما يدل على قبوله أو لأنه لو كان صحيحا لأشاعه النبي صلى الله عليه و سلم وأمر بتواتر نقله ليصل إلى من بعد بفائدته فيتمكن مما كلف من العمل به ولو كان كذلك لقويت دواعي الدين والعادة إلى إشاعة نقله

وهذه الأقسام كلها باطلة لأنه لو كان في الشرع نص يمنع من قبوله لعرفناه مع الفحص الشديد إن قيل أليس قد رد عمر خبر أبي موسى في الاستئذان ورد أبو بكر خبر المغيرة في الجدة قيل إنما يدل هذا على ما ذكرتم لو لم يقبلوا في ذلك إلا خبرا قد تواتر نقله فأما وقد قبلوه إذا انضم إلى الراوي راو آخر فلا دليل لكم في ذلك وإجماع الصحابة على العمل بأخبار الآحاد يتضمن في المعنى هذه المسألة على ما سنبينه فبطل قولكم ليس في الشرع ما دل على قبوله وقولهم إذا عم البلوى بالحكم وجب في الحكمة إشاعته فباطل لأنه إنما يجب ذلك لو لزم المكلفين العلم مع العمل إو لزمهم العمل على كل حال فأما إذا لزم العمل به بشرط أن يبلغهم الخبر وإلا لم يلزمهم فليس في ذلك تكليف ما لا طريق إليه ولو وجب ما ذكروه فيما يعم البلوى به لوجب فيما لا يعم به البلوى لأن ما لا يعم به البلوى يعلم وقوعه وإن كان وقوعه نادرا وفي آحاد الناس كالرعاف في الصلاة فيجب في الحكمة إشاعة حكمه خوفا من أن لا يصل إلى من ابتلي به فيضيع الغرض
فان قالوا لا يلزم القول بوجوب إشاعته لأنه إنما يكلف المرء ذلك الحكم بشرط وصوله إليه وإن لم يصل إليه لم يكن مكلفا قيل إن جاز ذلك في آحاد من الناس جاز في جماعتهم على أن وجوب الوتر يعم البلوى به ولم يتواتر النقل بوجوبه وقولهم قد تواتر النقل بالوتر لا يعصمهم من التناقض لأن الوجوب يعم به البلوى والنقل له لم يتواتر فأما القي والرعاف في الصلاة فالبلوى بهما عام وليس يبطل عمومه كون مس الذكر أعم منه
فصل في خبر الواحد إذا فعل النبي صلى الله عليه و سلم خلاف مقتضاه
اعلم ان الراوي إذا روى شيئا فعل النبي صلى الله عليه و سلم خلافه فلا يخلو الخبر الذي رواه إما أن يتناول النبي صلى الله عليه و سلم وإما لا يتناوله فان لم يتناوله نحو أن يكون خبرا عن وجوب الفعل على غيره أو يكون أمرا أو نهيا لغيره عن فعل ويكون النبي صلى الله عليه و سلم قد فعل ما نهي عنه أو لم يفعل ما أمر به فانه إن لم تدل

دلالة من إجماع أو غيره على أن حكم النبي صلى الله عليه و سلم حكم غيره في ذلك الفعل فانه لا تعارض بين ذلك الخبر وبين فعله وإن دلت على ان حكم النبي صلى الله عليه و سلم حكم غيره في ذلك فالكلام فيه كالكلام في القسم الذي سنذكره الآن وإن كان الخبر يتناول النبي صلى الله عليه و سلم بأن يكون خبرا عن الوجوب عليه وعلى غيره أو حكاية عن الله تعالى يتناوله ويتناول غيره فانه يكون معرضا له فان أمكن أن يخص أحدهما بالآخر فعل ذلك وإن لم يمكن وكان أحد الخبرين متواترا دون الآخر قضي بالتواتر وإن كانا منقولين بالآحاد رجع فيهما إلى الترجيح وليس يجوز مع هذا التنافي أن يكونا منقولين بالتواتر

فصل في الرواية بحسب سماع الراوي
إذا قال الراوي حدثني فلان أو أخبرني فلان أو سمعت فلانا وقد حدث بذلك من سمعه يقول هذا القول فلمن سمعه أن يقول حدثني وأخبرني وسمعت منه وإذا قريء على الإنسان الأحاديث ثم قال عند الفراغ من القراءة الأمر كما قريء علي أو قال قد سمعت ما قريء علي فانه يكون بهذا القول محدثا على الجملة فلمن سمع القراءة عليه وسمع الشيخ يقول ذلك أن يقول حدثني وأخبرني وسمعت من فلان ألا ترى أنه لا فرق في جواز الشهادة على البيع بين أن يلفظ البائع عند الشاهد بلفظ البيع وبين أن يقرأ عليه كتاب البيع فيقول الأمر كما قريء علي فأما إذا قريء عليه فلم ينكر ولم يقل الأمر على ما قريء علي أو قد سمعت ما قريء فللسامعين أن يعملوا على تلك الأحاديث لأن ترك النكير يدل على سماعه الأحاديث وليس لمن سمع القراءة أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعت لأن الشيخ لم يلفظ بشيء سمعه منه ولا فصل بين التحدث والإخبار
فان قيل إمساكه عن النكير يجري مجرى إباحته أن يتحدث عنه قيل لو أباحهم أن يتحدثوا عنه لم يجز لهم التحدث عنه إذا لم يحدثهم لأن الكذب لا

يصير مباحا باباحته إن قيل العادة قد أجرت سكوت الشيخ عن الإنكار مجرى قوله قد سمعت ما قريء علي فكان لهم أن يتحدثوا عنه قيل إمساكه يجري مجرى قوله سمعت ذلك في الدلالة على انه قد سمعه وليس يخرج من ان يكون الشيخ لم يتلفظ بالأخبار والتحدث وله أن يقول قرأت على فلان أو قريء عليه وأنا أسمع
وأما المناولة فهي أن يشير الإنسان إلى كتاب يعرف ما فيه من الأحاديث فيقول لغيره قد سمعت ما في هذا الكتاب فيكون بذلك محدثا لأنه سمعه ويجوز لذلك الغير أن يرويه عنه فيقول حدثني فلان أو أخبرني فلان وسواء قال اروه عني أو لم يقل فأما إذا قال له حدث عني بما في هذا الجزء ولم يقل سمعته فانه لا يكون محدثا له به وإنما أجاز له التحدث به عنه فليس له أن يحدث عنه لأنه يكون بالتحدث عنه كاذبا وليس يصير ذلك مباحا باباحته له
وإذا سمع الشيخ نسخة من كتاب مشهور لم يجز له أن يشير إلى غير تلك النسخة من ذلك الكتاب فيقول قد سمعته لأن النسخ من الكتاب الواحد قد تختلف إلا أن يعلم أن النسختين تتفقان
وأما الكتابة فهي أن يكتب الشيخ إلى غيره أنه سمع الكتاب الفلاني أو النسخة الفلانية فان اضطر المكتوب إليه أنه خطه جاز أن يروي عنه وإن لم يضطر إلى ذلك لكنه ظنه جاز أن يروي بحسب ظنه
وأما الإجازة فهي أن يقول الإنسان لغيره قد أجزت لك أن تروي عني ما صح من أحاديثي وأصحاب الحديث يجيزون ذلك ويسوغون لمن اجيز له أن يقول أخبرني فلان ولا يجيزون له أن يقول حدثني قالوا لأن قوله قد أجزت لك أن تروي ما صح عني من أحاديثي يجري في العادة مجرى قوله ما صح عني من أحاديثي قد سمعته فاروه عني واعلم أن ظاهر الإجازة هي إباحة الشيخ التحديث عنه والإخبار عنه من غير أن يخبره ويحدثه وهذا

إباحة الكذب وليس له ذلك ولا لغيره أن يستبيح الكذب إذا أبيح فان ثبت أن قوله قد أجزت لك أن تروي عني إقرار من جهة العادة أنه سمع ما صح عنه فحكمه حكم المناولة والله أعلم

باب في قول الصحابي أمرنا بكذا ما حكمه
ينبغي أن نذكر من الصحابي وما طريق كونه صحابيا ثم نتكلم في قول الصحابي أمرنا أن نفعل كذا ما الذي يفيده
أما الصحابي فينبغي أن يجتمع فيه أمران حتى يكون صحابيا أحدهما أن يطيل مجالسة النبي صلى الله عليه و سلم لأن من رآه من الوافدين عليه وغيرهم ولكم يطل المكث لا يسمى صحابيا والآخر أن يطيل المكث معه على طريق التبع له والأخذ عنه والاتباع له ولهذا لا نصف من أطال مجالسة العالم ولم يقصد المتابعة له بأنه من أصحابه
وأما طريقنا إلى كون الصحابي صحابيا فطريقان أحدهما يقتضي العلم وهو الخبر المتواتر بأنه صحب النبي صلى الله عليه و سلم ليتبعه والآخر يقتضي الظن وهو إخبار الثقة بذلك إما هو وإما غيره
فاذا قد عرفنا من الصحابة فلنتكلم في مسائل
منها قول الصحابي امرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو أوجب علينا كذا أو أبيح لنا كذا أو حظر علينا كذا أو من السنة كذا
ومنها أن يقول الصحابي قلت هذا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
ومنها قول الصحابي كنا نفعل كذا وكذا

ومنها قول الصحابي كانوا يفعلون كذا وكذا
ومنها أن يقول الصحابي قولا لا مجال للاجتهاد فيه
أما قول الصحابي أمرنا أن نفعل كذا أو نهينا عن كذا فذهب الشافعي والشيخ أبو عبد الله وقاضي القضاة أنه يفيد أن الآمر هو رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الشيخ أبو الحسن ليس ذلك هو الظاهر بل يجوز أن يكون الآمر غيره وحمل على ذلك قول الراوي أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة والدليل على القول الأول أن من التزم طاعة رئيس فانه إذا قال أمرنا بكذا وكذا فانه يفهم منه ما يلتزم طاعته ويؤثر أمره ألا ترى أن الرجل من أولياء السلطان إذا قال في دار السلطان أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا فهم منه أن السلطان الذي يلتزم طاعته هو الذي أمر وأيضا فغرض الصحابي أن يعلمنا الشرع ويفيدنا الحكم فيجب حمل ذلك على من يصدر الشرع عنه دون الأئمة والولاة لأن امرهم لا يؤثر في الشرع ولا هم المتبعون فيه ولا يحمل هذا القول على أمر الله عز و جل لأن أمر الله عز و جل ظاهر للكل لا نستفيده من كلام الصحابي ولا نحمله على جماعة الأمة لأن قول الصحابي أمرنا إن أفاد ذلك أفاد أن جميع الامة أمرت بذلك وهي لا تأمر نفسها
فاما قول الصحابي أوجب علينا كذا أو حظر علينا كذا أو ابيح لنا كذا فانه يفهم منه أن الموجب المبيح الحاظر هو النبي صلى الله عليه و سلم لأن الإباحة والحظر والإيجاب على الحقيقة لا تحصل من بشر سواه
وإذا قال الإنسان من السنة كذا لم يعقل منه إلا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم كما أن قولنا هذا الفعل طاعة يفيد أنه طاعة لله تعالى ولرسوله
إن قيل يجوز أن يكون الصحابي إنما قال اوجب علينا كذا لأنه سمع من النبي صلى الله عليه و سلم الأمر بذلك الشيء فحمله على الإيجاب فلا يلزم ذلك من لم يقل إن الأمر ليس على الوجوب الجواب أن من يقول إن الأمر على

الوجوب يلزمه أن يأخذ بقول الصحابي أوجب علينا كذا ولا يسقط عنه الوجوب لما قاله السائل ومن لم يقل إن الأمر على الوجوب يلزمه ذلك أيضا لأن الظاهر من الصحابي أنه لم يقل ذلك إلا مع زول الإشكال والخلاف وذلك يقتضي أن يكون قد سمع من النبي صلى الله عليه و سلم لفظة الوجوب أو اضطر إلى ذلك من قصده
إن قيل أليس قد قال النبي صلى الله عليه و سلم من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها وعني بذلك سنة غيره قلنا لسنا نمنع من ذلك مع التقييد وإنما نمنع من أن يفهم من إطلاق السنة سنة غير النبي صلى الله عليه و سلم
وأما قول الصحابي عن النبي صلى الله عليه و سلم فقد قال قوم إنه يحتمل أن يكون أخبره غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم ولم يسمعه منه وقال قوم الظاهر أنه سمعه منه وهكذا ذكر قاضي القضاة في الشرح
فأما إذا قال الصحابي كنا نفعل كذا وكذا فالظاهر منه أنه قصد أن يعلمنا بهذا الكلام حكما ويفيدنا شرعا ولا يكون كذلك إلا وقد كانوا يفعلونه على عهد النبي صلى الله عليه و سلم على وجه يظهر له فلا ينكره ولهذا كان الظاهر من قول الراوي كانوا يفعلون كذا وكذا أن جماعة الامة كانوا يفعلون ذلك أو يفعل البعض فلا ينكر أو يفعل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيعلم به ولا ينكره وذلك كقول عائشة رضي الله عنها كانوا لا يقطعون اليد في الشيء التافه
فأما إذا قال الصحابي قولا لا مجال للاجتهاد فيه فحسن الظن به يقتضي أن يكون قاله عن طريق فاذا لم يكن الاجتهاد فليس إلا أنه سمعه عن النبي صلى الله عليه و سلم

باب في مذهب الراوي إذا كان بخلاف روايته ما المعقول منه وهل يختص به
روايته أم لا
حكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة وغيرهم أن الراوي للحديث العام إذا خصه أو تأوله وجب المصير إلى تأويله وتخصيصه لأن بمشاهدته النبي صلى الله عليه و سلم أعرف بمقاصده ولذلك حملوا رواية أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا على الندب لأن أبا هريرة كان يقتصر على الثلاث وقال أبو الحسن المصير إلى ظاهر الخبر أولى ومنهم من جعل التمسك بظاهر الخبر أولى من تأويل الراوي إذا كان تأويله بخلاف ظاهر الخبر قال فان كان تأويله هو أحد محتملي الظاهر حملت الرواية عليه وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه حمل ما رواه ابن عمر من حديث الافتراق على افتراق الأبدان لأنه مذهب ابن عمر رضي الله عنه وقال قاضي القضاة إن لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه إلا أنه علم قصد النبي صلى الله عليه و سلم إلى ذلك التأويل ضرورة وجب المصير إلى تأويله وإن لم يعلم ذلك بل جوز أن يكون صار إلى ذلك التأويل لنص أو قياس وجب النظر في ذلك الوجه فان اقتضى ذلك ما ذهب إليه الراوي وجب المصير إليه وإلا لم يصر إليه وهذا صحيح وكذلك إذا علم انه صار إلى ذلك التأويل لنص جلي لا مساغ للاجتهاد في خلافه وتأويله فأنه يلزم المصير إلى تأويله كما لو صرح بالرواية عن النبي صلى الله عليه و سلم لذلك التأويل قال قاضي القضاة فان كان الخبر الذي رواه مجملا وبينه الراوي فان بيانه اولى
ودليل الشيخ ابي الحسن رحمه الله هو أن مذهب الراوي ليس بحجة وقول النبي عليه السلام حجة فلم يجز العدول عنه إلى ما ليس بحجة ودليلنا أن نخص العموم لتخصيص النبي عليه السلام وإنما نستدل بمذهب الراوي على تخصيص النبي صلى الله عليه و سلم له ويجري مذهبهم مجرى روايتهم عن النبي صلى الله عليه و سلم ووجه الاستدلال بذلك هو انه إذا لم يكن فيما يعرفه من النصوص ووجوه الاجتهاد ما يقتضي

ذلك التخصيص فلا يخلو الراوي إما أن يكون قال ما قال لشهوة أو لأنه اضطر إلى قصد النبي صلى الله عليه و سلم إلى التخصيص أو لأنه سمع من النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك نصا جليا لا يسوغ الاجتهاد في خلافه او سمع نصا محتملا والظاهر من دينه يمنع من تخصيص العموم بالتشهي ويمنع من أن لا ينقل الحديث المحتمل لأنه لا يأمن أن يكون اجتهاد غيره فيه خلاف اجتهاده فيثبت القسمان الآخران وأيهما كان وجب التخصيص كما لو أظهر الرواية بذلك
فان قيل لم لم ينقل قصد النبي صلى الله عليه و سلم أو النص الجلي قيل لأن تخصيصه العموم مع دينه يجري مجرى نقله النص من الوجه الذي ذكرناه فان قيل أفما تجوزون أن يكون قد وهم فظن من قصد النبي صلى الله عليه و سلم ما لا أصل له وتوهم أنه عالم بذلك قيل الظاهر من دينه أنه ما خص العموم إلا وقد اضطر إلى قصد النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك كما أن الظاهر من رواية الضابط المتيقظ أنه لم يخطيء سمعه وإن جاز خلاف ذلك بأن يتوهم خلاف ما قاله النبي صلى الله عليه و سلم

باب في الاخبار المعارضة
اعلم أن الخبرين المتعارضين إما أن يكونا معلومين أو غير معلومين أو أحدهما معلوم والآخر غير معلوم فان كانا معلومين فإما ان يكونا خاصين او عامين او أحدهما خاص والآخر عام فان كانا عامين فاما أن يكونا عامين من كل وجه أو كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه فان كان احدهما عاما والآخر خاصا قضي بالخاص على العام وإن كانا خاصين على الإطلاق أو عامين على الإطلاق وعرف التأريخ فيهما قضينا بنسخ المتأخر منهما للمتقدم فان لم يعرف التأريخ فيهما فإن أمكن التخيير فيهما فعل ذلك وإن لم يمكن التخيير فيهما أو أمكن ذلك لكن الأمة منعت منه حكمنا بان التعبد فيهما بالنسخ عند من عرف التأريخ وأن التعبد علينا هو بالرجوع إلى

مقتضى العقل لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر ولا يجوز ترجيح أحدهما على الآخر بما يرجع إلى إسناده لأن الترجيح بذلك يقتضي قوة الظن لثبوت احدهما وليس واحد منهما مظنونا فيقوى ظننا له ويجوز ان يقال إن التعبد علينا بأحدهما يقوي بما يرجع إلى صفة الحكم نحو الحظر والوجوب لأن ذلك ليس يقتضي قوة الظن لثبوت الخبر وإنما يقتضي التعبد والتعبد عند التعارض قد يدخل الظن في شرائطه وإن كان كل واحد منهما خاصا من وجه عاما من وجه فليس تخصيص أحدهما بالآخر أولى من العكس فيجوز أن يرجح كون أحدهما مخصصا للآخر بما يرجع إلى الحكم من كونه محظورا أو غير ذلك ومثال ذلك من القرآن قوله تعالى وان تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف وقوله وأحل لكم ما وراء ذلكم وإن كان أحد الخبرين معلوما والآخر مظنونا وكان أحدهما خاصا فانه يقع التخصيص به معلوما كان الخاص أو مظنونا وإن لم يكن أحدهما خاصا حكم بالمعلوم لأنه لا يجوز إطراحه إلى المظنون وإن كانا مظنونين قضي بالخاص منهما إن كان فيهما خاص وإن لم يكن رجح أحدهما على الآخر وعمل على الأرجح
ويقال أيضا في قسمة الأخبار المتعارضة أن الخبرين إذا تعارضا فإما أن يمكن الجمع بينهما او لا يمكن فان أمكن فإما ان يمكن الجمع بينهما في وقت واحد أو في وقتين أما في وقت واحد فبأن يحمل أحدهما لمكان الآخر على مجاز إما بالتخصيص وإما بغيره وأما في وقتين فبأن يعلم تقدم أحدهما بعينه على الآخر فيكون منسوخا بما تاخر عنه وأما ما لا يمكن الجمع بينهما فإما أن لا يمكن لأنفسهما أو لأمر اقتران بهما فما لا يمكن لأمر اقترن بهما فهو أن يمكن تاويل أحدهما بالآخر لكن الأمة منعت من ذلك كرواية ابن عباس رضي الله عنه لا ربا إلا في النسيئة يمكن تخصيصه في الجنسين المختلفين بخبر أبي سعيد لكن السلف على قولين أكثرهم تركه وصار إلى رواية أبي

سعيد والأقل أخذ به وأما الذي لا يمكن ذلك فيه لأنفسهما فله شروط
منها أن يكون حكم أحدهما نفيا لحم الآخر أو حكم أحدهما ضدا لحكم الآخر
ومنها أن يتعلق كل واحد منهما بما تعلق به الآخر على الحد الذي تعلق به الآخر في الوقت الذي تعلق به الآخر ولا يكون أحدهما خاصا والآخر عاما بل يكونان خاصين أو عامين أو كل واحد منهما خاصا من وجه عاما من وجه فلا يكون أحدهما بأن يكون مخصوصا بالآخر بأولى من العكس
ومنها أن لا يعلم تقدم أحدهما على الآخر ومتى تعارضا هذا التعارض رجح بينهما وعمل على الترجيح وإن تساويا في الترجيح فسنذكر حكمه إن شاء الله
إن قيل كيف يثبت التنافي في الأخبار وليس في الألفلظ إلا ما يمكن تأويله على موافقة غيره قيل قد يكون في الألفاظ ما لا يمكن ذلك فيه إلا بالتعسف الشديد في التأويل ومثل ذلك لا يوجد في كلام حكيم

باب فيما يترجح به أحد الخبرين على الآخر
اعلم أن الخبر يرجح على الخبر بما يرجع إلى سنده وبما يرجع إلى متنه والراجع إلى سنده ضربان أحدهما كثرة الرواة والآخر أحوالهم وكثرة الرواة ضربان أحدهما تكون الكثرة مسماة والآخر لا تكون مسماة فالأول أن يروي أحد الخبرين صحابي مذكور والآخر يرويه صحابيان مذكوران والثاني أن يروي كل واحد من الخبرين صحابي مذكور ويروي أيضا أحدهما تابعي ثقة عن النبي صلى الله عليه و سلم والمعلوم أنه ما أخذ العلم ذلك عن الصحابي المذكور الذي رواه ولا عمن أخذ العلم عنه فيعلم أنه قد رواه صحابي آخر

وأما الترجيح بأحوال الرواة فانه يقع بقوة الأحوال المراعاة في قبول الخبر وهي ضربان أحدهما الدين والورع والتحري والآخر العلم والبصيرة بما يرويه أما الأول فبأن يكون راوي أحد الخبرين أشد تحريا وأكثر ورعا وأما الثاني فضربان أحدهما أن تكون قوة علم الراوي وشدة بصيرته لا تختص بذلك الخبر وما يتعلق به والآخر يختص بذلك الخبر وما يتعلق به أما الأول فبأن يكون أحدهما أضبط وقد يكون أضبط لأنه أشد تيقظا وأوفر عقلا وأغزر فقها وقد يستدل على أنه أضبط بكونه أكثر اشتغالا بالحديث وأشد انقطاعا إليه بقلة ما يقع في حديثه إليه من الخلل في المعنى واللفظ وأما ما يختص الخبر وما يتعلق به فراجع إلى قوة طريق الراوي نحو أن يروي زيد أنه شاهد عمرا ببغداد في اليوم الفلاني في وقت السحر ويروي الآخر أنه شاهده في ذلك اليوم بالبصرة الظهر فان طريق هذا أظهر ودخول اللبس على الراوي والآخر أكثر ونحو أن يرسل أحدهما الحديث ويسنده الآخر على قول بعضهم لأن الثقة لا يرسل الحديث فيقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا وقد اشتدت ثقته بقول النبي صلى الله عليه و سلم لذلك ونحو أن يكون أحد الراويين أشد ملابسة بما رواه فيكون طريقه إليه أظهر فكذلك رجعت الصحابة إلى أزواج النبي صلى الله عليه و سلم في أحكام الجنابة ورجح الشافعي رواية أبي رافع في تزويج ميمونة على رواية ابن عباس لأنا أبا رافع السفير في ذلك فكان أعرف بالقصة ونحن نذكر الآن الأدلة على ذلك إن شاء الله
أما كثرة الرواة فقد رجح بها الشافعي والشيخ أبو الحسن ولم يرجح بها قوم والدليل على الترجيح به أن أحد الخبرين إنما يرتجح على صاحبه بقوة يتميز بها وكثرة العدد قوة أما اعتبار القوة في الأخبار فقد رجع إليه القائلون بأخبار الآحاد وأجمعوا على الاحتياط في الإخبار وأما أن كثرة الرواة تحصل بها قوة الخبر فلأن الرواة إذا بلغوا حدا من الكثرة وقع العلم بخبرهم فكلما قاربوا تلك الكثرة قوي الظن لصدقهم ولأن السهو والغلط مع الكثرة أقل وكذلك الكذب لأن الإنسان يستحي أن يطلع غيره على كذبه ولا يستحي إذا

لم يشعر به غيره
وقاس المخالف الخبر على الشهادة بعلة أن كل واحد منهما خبر عما يتعلق به حكم فلم يترجح بكثرة المخبرين الجواب إن قاضي القضاة رحمه الله حكى في الدرس أن مالكا رحمه الله رجح إحدى الشهادتين بكثرة الشهود وغيره لم يرجحها بالكثرة قال لأن الشهادة أصل في نفسه ألا ترى أنه اعتبر فيها لفظ مخصوص وليس يجب إذا لم يجز الشهادة على موجب القياس في ذلك من الترجيح بقوة الظن أن لا يجري الخبر على ذلك لأن الأصل هو الترجيح بقوة الظن إذ الظن القوي مع ظن أضعف منه كالعلم مع الظن لأن في كل واحد منهما زيادة ليست في الآخر فاذا كان الأصل ثبوت الترجيح بذلك فما خرج عن هذا الأصل لا يجوز قياس ما عداه عليه بل يجب تبقيه ما عداه على حكم الأصل وقاس المخالف أيضا الخبر على الفتوى في أنه لا يترجح إحدى الفتويين على الأخرى بكثرة المفتين والجواب ما ذكرناه من أن خروج البعض من هذه المسائل عن موجب القياس لا يقتضي خروج البعض الآخر منه وقال قاضي القضاة في الشرح إنه لو رجح إحدى الفتويين بكثرة المفتين جاز
وأما الترجيح بزيادة الورع والتحري فانما وجب لأن الكذب والتساهل معها أبعد فالظن لصدق الراوي أقوى والخطأ مع قوة الضبط أبعد فالظن لصدق الخبر معه يكون أقوى والخطأ مع كون الراوي أفقه ابعد إذا كان يروي على المعنى فأما رواية اللفظ فانه يستوي فيه الفقيه وغيره والغلط مع الأشياء التي لا تلتبس الحال فيها أبعد وكون أحد الراويين أشد ملابسة لما ورد الخبر فيه يبعد معه الالتباس والاشتباه
وأما ترجيح المرسل على المسند فلم يذهب إليه أكثر الناس وذهب عيسى ابن ابان إلى الترجيح به لأن الثقة لا يرسل الحديث ويقول قال النبي صلى الله عليه و سلم إلا وقد وثق أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله قال قاضي القضاة هذا الكلام يتوجه إذا قال الراوي قال النبي فأما إذا قال عن النبي فانه لا يتوجه إليه هذا

الكلام وأيضا فان قول الراوي قال النبي عليه السلام يحسن معه الظن لكونه قائلا لذلك كما يحسن مع العلم فمن اين أنه لم يقل قال النبي إلا وظنه آكد من الظن الحاصل برواية المسند المعارض له فان قال المرسل للحديث إذا أرسلت فقد حدثت عن جماعة من الثقات فحينئذ يكون مرسله اقوى ممن أسند حديثه إلى واحد لأجل الكثرة
وقد رجح قوم الخبر بكون الراوي من أكابر السلف وكونه أقدم هجرة وهذا إنما يقع به الترجيح من حيث كان من هذه سبيله أعرف بأحوال النبي عليه السلام واشد خبرة به ورجح قوم الخبر بالحرية والذكورية أما الحرية فلا تأثير لها في قوة الظن وأما الذكورية فان كان الضبط معها أشد وقع بها الترجيح وكل ذلك قد دخل فيما تقدم
وأما الترجيح بما يرجع إلى متن الخبر فضربان أحدهما راجع إلى لفظ الخبر والآخر لا يرجع إلى لفظه اما الراجع إلى لفظه فبأن يكون في أحدهما اختلال في اللفظ أو في المعنى والآخر سليما من ذلك فيقوى الظن لبعده عن الخطأ والسهو فان قيل فما كان اضطراب لفظه بغير المعنى ينبغي أن لا يقبل فلا معنى للترجيح عليه قيل قد يقبل إذا أمكن تأويل ذلك الاضطراب على بعض الوجوه وأما ما لا يرجع إلى اللفظ فضربان أحدهما صفة حكمه والآخر طريق يشهد بحكمه فأما ما يشد بالحكم فضربان أحدهما يكفي نفسه في ثبوت الحكم والآخر لا يكفي وما يكفي نفسه في ذلك ضربان احدهما دليل والآخر أمارة فالدليل هو الكتاب والسنة المقطوع بها لأنه إذا وقع الترجيح بما لا يكفي نفسه في ثبوت الحكم فالترجيح بما لا يكفي نفسه أولى وهذا مفروض في كتاب يدل على الحكم على ضرب من الاشتباه ويكون خبر الواحد تدل عليه دلالة ظاهرة فحينئذ يرجح بالكتاب وإلا فإن دل الكتاب دلالة ظاهرة فلا معنى لأن يقع الترجيح به بل هو الأصل في الدلالة وعلى هذا قد يعضد الإجماع الخبر فيرجح به وإن انعقد الإجماع عن غيره ومن ذلك أن

يكون من عمل بأحد الخبرين قد عمل بالآخر وإن لم يعلم أي عمليه هو المتأخر فيكون الخبر الذي عمل به الفريقان أولى قال قاضي القضاة لأنا إذا لم نعلم أي العملين هو المتأخر كان إجماعا وليس لنا أن ندفعه بالمحتمل
ولقائل أن يقول سواء كان العمل بذلك الخبر متقدما أو متأخرا فانه يكون إجماعا لأنه إن كان متقدما فقد وافقوا رواية الخبر الآخر وكذلك إن كان متأخرا لأن رواة الخبر الآخر عاملون به على كل حال
وأما الأمارة المرجحة للخبر فقياس الأصول إذا شهد بما دل عليه الخبر
فأما ما لا يكفي في ثبوت الحكم فضربان
أحدهما أن يوافق أحد الخبرين حكم العقل الذي يجوز الانتقال عنه وذلك أن العقل ليس يكفي في قبح المضرة إلا بشرط أن لا يوجد دليل شرعي يدل على أن فيه مصلحة ومنفعة موفية فان وافق حكم العقل أحد الخبرين لم يرجح بذلك على الخبر الآخر فلذلك أخرنا الكلام في هذا القسم
والضرب الآخر أن يعمل أكثر السلف بأحد الخبرين ويعيبوا على من خالفه كخبر الربا وقد رجح بذلك عيس بن أبان لأن الأغلب أن الصواب يكون مع الأكثر ويمنع منه قاضي القضاة لأن عمل الأكثر ليس بحجة ويجوز الغلط عليهم كجوازه على الأقل
وأما الترجيح بصفة حكم الخبر فوجوه
منها أن يكون جكم أحد الخبرين مطابقا للأصل ويكون الآخر ناقلا عن الأصل نفيا كان أو إثباتا
ومنها أن يكون لأحد الخبرين حكم باق باتفاق وليس كذلك للخبر الآخر

ومنها أن يكون حكم أحدهما أحوط
ومنها أن يكون آكد
ومنها أن يكون حكم أحدهما قد ندبنا إلى إسقاطه
أما إذا كان حكم احدهما هو الأصل فضربان أحدهما أن يكون الأصل من حال المروي عنه والآخر أن يكون هو الأصل في العقل
فالأول نحو ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يصل في الكعبة وأنه لم يقبل وهو صائم وأنه تزوج ميمونة وهو حلال لأن الأصل هو عدم الصلاة في الكعبة وعدم القبلة وعدم التزويج فالخبر المروي أنه صلى في الكعبة أولى لأن ثقة من روى أنه صلى فيها تقتضي أن تحمل رواية من روى أنه لم يصل فيها على حسب اعتقاده وأنه خفي عليه بعض احوال النبي صلى الله عليه و سلم وأما رواية أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقبلها وهو صائم فانما هي رواية عن حالها معه لا تعارض رواية عائشة أنه قبلها وهو صائم فلا يمنع من الأخذ بها وعدالة راوي تزويج النبي صلى الله عليه و سلم ميمونة وهو حرام تقتضي أن ينسب راوي تزويجه إياها وهو حلال إلى أنه استدام الأصل فكانت أولى من هذه الرواية
والضرب الثاني كرواية من روى حكما يقتضيه العقل نحو إسقاط عبادة ويروي الآخر التعبد بها فرواية الإثبات أولى لأن الظاهر ان النبي صلى الله عليه و سلم إنما يعلمنا ما لا نعلمه من دونه وهذا الظاهر مطابق لرواية من روى الحكم الشرعي فكانت أولى ولأن الظاهر مما يطابق حكم العقل أنه هو الأصل المتقدم والرواية الأخرى متأخره فكانت أشبه بالناسخ والأخذ بالناسخ أولى والوجه الأول أقوى
إن قيل هلا عملتم بما يوافق أصل العقل لأنه قد عضده دليل وليس كذلك الحكم الناقل قيل إن العقل إنما لا يوجب العبادة بشرط أن لا ينقل

شرع فاذا روى شرع ناقل صار كأن العقل ما اقتضى نفي تلك العبادة لأن شرط اقتضائه لنفيها قد زال والترجيح واقع بهذا القبيل وإن كان الخبران معلومين إذا احتججنا بما ذكرناه أخيرا من أن الخبر الناقل كالناسخ لأن الناسخ يقدم على المنسوخ وإن كانا معلومين وذكر قاضي القضاة رحمه الله أن الخبرين إذا كان أحدهما نفيا والآخر إثباتا وكانا شرعيين فانهما سواء
ولقائل أن يقول لا بد أن يكون أحدهما مطابقا لحكم العقل لأنه لا فعل من الأفعال إلا وله في العقل حكم إما القبح أو الحسن أو ما زاد على الحسن وليس يكون أحد الخبرين نفيا والآخر إثباتا إلا والنفي منهما نفي لواحد من هذه الأحكام والإثبات منهما إثبات لبعضها فإذن أحد هذين الخبرين واجب أن يكون مطابقا لحكم العقل
وقد مثل قاضي القضاة ذلك بما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى في الكعبة وما روي أنه لم يصل فيها وبما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قبلها وهو صائم وما روت أم سلمة أنه ما كان يقبلها وهو صائم وليس هذا بمثال المسألة لأن القبلة ونفيها والصلاة ونفيها هي أفعال وليست بأحكام فيقال إنها عقلية او شرعية وإنما الأحكام جواز الصلاة ونفي جوازها والعقل لو تجرد لكان مطابقا لنفي جوازها وأنها غير مصلحة وكون القبلة غير مفسدة للصوم هو مقتضى العقل وكذلك تزويج النبي صلى الله عليه و سلم ميمونة وهو حلال أو حرام هو إيقاع فعل في أحوال وليس ذلك بحكم وإنما الحكم هو حسن ذلك مع الإحرام أو قبحه ومقتضى العقل هو حسنه فبان أن أحكام هذه الأفعال ليس يخلو أن تطابق العقل إما النفي منها وإما الإثبات فان مثل ذلك بأن يقتضي العقل قبح الفعل ويروي خبر في إباحته وخبر في وجوبه فيقال إن وجوبه وإباحته شرعيان والإباحة نفي الوجوب فالجواب إن ما تضمن الإباحة لا يتضمن نفي الوجوب فقط ولو تضمن ذلك كان قد تضمن حكما عقليا لأن القبح قد اقتضاه العقل والقبيح غير واجب فما اقتضى كونه غير واجب قد

طابق مقتضى العقل لكن ما تضمن الإباحة قد تضمن نفيا وإثباتا أما النفي فنفي الوجوب وأما الإثبات فهو كون الفعل حسنا وهو زيادة نفي الوجوب وهو حكم شرعي والخبر الدال على الوجوب أولى لأنه لا يعارض خبر الإباحة في اقتضائه نفي القبح لأن الواجب غير قبيح ولا يعارضه في اقتضائه الحسن لأن الواجب حسن وإنما يعارضه في نفي الإيجاب وهذا هو حكم العقل والإيجاب هو الحكم المنقول فكان أولى
فأما إذا كان أحد الخبرين يقتضي إثبات حد والآخر يقتضي نفيه فقوم رجحوا الخبر المسقط للحد لأن الحد يسقط بالشبه وبتعارض البينتين فوجب إسقاطه بتعارض الخبرين ويكون ذلك كالشبه في إسقاطه وقاضي القضاة يقول هما سواء لأن الحد إنما يسقط عن الأعيان بالشبه فأما إثباته في الجملة في الشريعة فمفارق لإثباته وإسقاطه في أعيان الأشخاص ولقائل أن يقول إن تعارض البينتين في الحد إذا كان شبهه في إسقاطه الأعيان مع ثبوته في أصل الشريعة فبأن يجب إسقاطه في الجملة إذا تعارض خبران ولم يقدم له حالة ثبوت أولى
وأما إذا تضمن أحد الخبرين الحرية وتضمن الآخر الرق فذكر قاضي القضاة في الشرح أنهما سيان وقال غيره المثبت للحرية أولى لأن الحرية لا يعترضها من الأسباب المبطلة لها ما يعترض الرق ولا يبطل الحرية بعد ثبوتها كما يبطل الرق بعد ثبوته فكانت الحرية آكد
فأما إذا اقتضى أحد الخبرين الحظر واقتضى الآخر الإباحة فان أحدهما لا بد من كونه مطابقا لمقتضى العقل فيكون الناقل عنه أولى ولكن لا يمتنع أن ينظر هل للحظر وجه ترجيح كما أن النقل عن أصل العقل وجه ترجيح فان قيل قد يكون الحظر والإباحة شرعيين إذا كان حكم العقل الوجوب قيل ليس كذلك لأن الخبر الحاظر هو الناقل عن موجب العقل الذي هو الوجوب والخبر المبيح لا يعارض حكم العقل من حيث اقتضى الحسن وإنما يعارضه من

حيث ينفي الوجوب ولا معارضة بينه وبين الخبر الحاظر من هذه الجهة والقول في الحظر هل هو وجه ترجيح يجري هكذا لا يخلوا الخبران اللذان أحدهما حاظر والآخر مبيح إما أن يكون لأحدهما حكم باق أو لا يكون لأحدهما حكم باق فان كان له ذلك فإما أن يكون ذلك الحكم يعلم بقاؤه بذلك الخبر أو بغيره فان لم يعلم إلا بذلك الخبر نحو أن يكون حكما شرعيا أجمع المسلمون عليه لأجل ذلك الخبر فانه يدل ذلك على ثبوت الخبر وبقائه لأنه لو لم يكن كذلك لم يثبت حكمه وإن كان ذلك الحكم الباقي يعلم بغير ذلك الخبر لم يثبت حكمه وإن كان ذلك الحكم الباقي يعلم بغير ذلك الخبر فانه لا يدل على ثبوت الحكم وصحته فلا يكون ذلك الخبر أولى من غيره نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن مس الذكر هل فيه وضوء فقال لا هل هو إلا بضعة منك فان كون الذكر بضعة من الإنسان وإن كان باقيا فليس بقاؤه لأجل هذا الخبر فيدل على بقاء الخبر فأما إن لم يكن لأحد الخبرين حكم باق فان الشيخ ابا الحسن قال الحاظر أولى وقال الشيخ ابو هاشم وعيسى ابن أبان رحمهما الله يطرحان ويرجع المجتهد إلى غيرهما من الأدلة الشرعية أو البقاء على حكم العقل ووجه قولهما هو أنا إذا علمنا تقدم أحد هذين الخبرين ولم يعلم ايهما هو المتقدم جاز كون كل واحد منهما هو المتأخر الذي يجب العمل به بدلا من صاحبه وليس يجوز استعمالهما لأنا فرضنا الكلام في خبرين متنافيين ولذلك احتجنا إلى الترجيح ولا يجوز العمل على أحدهما لأنه ليس العمل على أحدهما أولى من العمل على الآخر فلم يبق إلا إطراحهما وجريا مجرى عقدتي وليين على امرأة ولا يعلم تقدم أحدهما على الآخر فانهما تبطلان لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر وجرى مجرى الغرقى في أنه إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر بطل حكم الإرث بينهم
فان قيل فيجب أن لا يعملوا على حكم العقل لجواز أن يكون هو المفسدة قيل إنما يلزم ذلك بدليل شرعي ناقل ولا دليل في الشرع مع التعارض لأن التعارض والتمانع يصير الشرع كأنه لم يكن فينفرد حكم العقل

والجواب عن الشهبة هو أن قولهم إذا جاز أن يكون كل واحد من الخبرين هو المتأخر فلم يكن العمل بأحدهما أولى من الآخر هو نفس الخلاف لأن المخالف يقول بل العمل على الحاظر أولى وإن جوزنا تقدمه ولا يشبه ذلك عقدتي الوليين على المراة لأنه ليس أحد العقدين حاظرا والآخر مبيحا وكذلك الغرقى لما ترافع موتهم لأنه ليس فيهم جهة مختصة للحظر وجهة مختصة للاباحة
وقد نصر القول الأول بوجوه
منها أن الحظر أدخل في التعبد من الإباحة لأنه أشق فكان أولى والجواب إن الفعل قد يتعبدنا الله بحظره وقد يتعبدنا الله باعتقاد إباحته وقد يرد الشرع باباحته ما لم يكن في الفعل مباحا كما يرد بحظر ما لم يكن محظورا فليس أحدهما أدخل في التعبد من الآخر
ومنها أنه إذا تعارض خبرا حظر وإباحة فقد حصلت جهة حظر وجهة إباحة وهاتان الجهتان متى اجتمعتا كان الحظر أولى ألا ترى أن الأمة بين شريكين لما اجتمع فيها ملك هذا الشريك فهو مبيح له الوطيء وملك الآخر وهو حاظر كان الحظر أولى الجواب إن ملك أحد الشريكين لبعض الأمة ليس بجهة مبيحة للوطيء با الجهة المبيحة للوطيء ملك جميعها فلم يحصل في هذه الأمة جهتان إحداهما لو انفردت أباحت والأخرى لو انفردت حظرت والخبران كل واحد منهما لو انفرد لثبت حكمه
ومنها لو غرق جماعة من الأقارب وخفي علينا تقدم بعضهم على بعض جعلناهم كأنهم غرقوا معا ولم نؤرث بعضهم من بعض وغلبنا حظر التوارث بينهم الجواب إن ذلك حجة لمخالفهم لأنهم قد نزلوا منزلة من لم يموتوا وفرق بينهما قاضي القضاة بأن الغرقى يجوز أن يكونوا غرقوا معا فجاز أن نجريهم هذا المجرى أما الخبر الحاظر والمبيح فلا يجوز كونهما واردين معا فلم

يصح تقديرهما هذا التقدير
ومنها أن العمل على الحظر أحوط لأنه إن كان الفعل محظورا فقد تجنبه المكلف وإن كان مباحا لم يضره تركه وليس كذلك إذا استباحه وفعله لأنه لا يمتنع أن يكون محظورا فيكون بفعله له فاعلا لمحظور
إن قيل وهو معذر إذا عمله على الحظر لأنه قد اعتقد قبحه ولا يأمن كونه مسنا فيكون مقدما على اعتقاد لا يأمن كونه جهلا فالجواب إن الفعل إذا كان محظورا فاستباحه الإنسان كان بفعله وباعتقاد إباحته مقدما على قبيحين وإذا كان مباحا فتجنبه معتقدا لحظره كان مقبحا باعتقاد حظره فصار التعزير في ذلك أكثر وكان العدول إلى تجنبه أولى لأنه ليس الغرض إلا الترجيح بوجه له ضرب من القوة وأيضا فانه إذا ثبت أن تجنب الفعل أولى من الإقدام عليه وهو الذي تعارض فيه الخبران قطعنا على أن اعتقاد تجنبه وحظره ليس بجهل ولا قبيح ولا نكون مقدمين على اعتقاد لا يؤمن كونه جهلا فهذا الوجه أولى في الاحتجاج من كل ما سلف
فان قيل أليس إذا تعارضت البينتان في الملك لم تسقطا وعملا عليهما فهلا وجب مثله في الخبرين قيل أحد لم يقل في الخبرين المتنافيين كذلك فان قيل فهلا اطرحتم البينتين جميعا كما اطرحتم الخبرين قيل لأنه يمكن العمل عليهما بأن يجعل الدار ملكا بين المتداعيين وأجاب قاضي القضاة بأن البينتين يجوز صدقهما بأن يشهد كل واحد منهما بما شهد به لمكان اليد والتصرف ويجوز أن يكون المتداعيان متصرفين في الملك فيثبت لكل واحد منهما الملك بحكم اليد وليس يجوز ورود الإباحة والحظر معا فينقلا معا

الكلام في القياس والاجتهاد
فصل في ذكر أبواب القياس
اعلم أن الغرض بالكلام في القياس أن نبين أنه متعبد به ونبين شروطه والكلام في ورود التعبد به ينبغي أن يتقدمه جواز التعبد به وكلا الأمرين يبتنى على الكلام في ماهية القياس ولما كان القياس الشرعي أمارة وجب أن نبين أول ما الأمارات وما أقسامها ثم نذكر ما القياس وما يتصل به ثم نذكر جواز التعبد به ونفي جواز ذلك وذلك يتضمن أبوابا منها جواز التعبد به في الجملة ومنها جواز تعبد النبي صلى الله عليه و سلم به ومنها جواز تعبد من عاصره به ومنها أنه لا يجوز التعبد به في جميع الشرعيات وأما ورود التعبد فيتضمن أيضا أبوابا منها ورود التعبد به في الجملة ومنها هل النص على علة الحكم يكفي في التعبد بالقياس أم لا ومنها هل يفقتر التعبد بالقياس إلى أن ينص لنا على الأصل المقيس عليه وإلى إجماع الامة على تعليل الأصل أم لا ومنها هل تعبد النبي عليه السلام بالقياس ومنها هل تعبد به من عاصره ومنها هل يوصف القياس المتعبد به بأنه دين ومأمور به وبعد ذلك نتكلم في شروط القياس وذلك يشتمل على أبواب سنذكرها إن شاء الله
باب في الأمارات وأحكامها
اعلم أن الأمارة هي التي النظر الصحيح فيها يؤدي إلى الظن وبذلك نتميز من الدلالة والمتكلمون يسمون كل ما هذه سبيله أمارة عقليا كان أو

شرعيا والفقهاء يسمون الأمارات الشرعية كالقياس وخبر الواحد أدلة ولا يسمون الأمارات العقلية أدلة كالأمارة على القبلة وعلى قيم المتلفات والكلام في ذلك كلام في عبارة لا طائل في الإكثار منه
وأما قسمة الأمارات فقد ذكر فيها عدة وجوه منها المحكى عن الشيخ أبي الحسن رحمه الله وهي أن أدلة الشرع التي ليست بنص ولا ظاهر منها ما يسمى قياسا ومنها ما يسمى دليلا على صحة العلة ومنها ما يسمى دليلا على موضع الحكم ومنها ما يسمى دليلا على المراد بالعبارة المشتركة هذا ما له اصل معين فأما ما لا أصل له معين فنحو ما يتوصل به إلى قيم المتلفات وليس يعني بالأصل ها هنا ما يقع الرد إليه لأن كثيرا من هذه الأقسام لا يقع الرد إليه وإنما أراد بالأصل ها هنا طريقة يشار إليها
ونحن نقسم ما ذكره فنقول ادلة الشرع إما ظاهر ونص وإما غير ظاهر وغير نص وما ليس بظاهر منه ما لا يحصل فيه طريقة معينة مثل ما يتوصل به إلى قيم المتلفات ومنه ما له طريقة معينة يشار إليها ولما كان كل دليل فله مدلول وجب فيما له طريقة معينة أن يدل على مدلول ولا يخلو مدلوله إما أن يكون حكما وإما دليلا على حكم فما يدل على حكم مما له طريقة يشار إليها فهو القياس وما يدل على دليل حكم فمنه ما يدل على علة حكم لأن علة الحكم دليل على الحكم وذلك نحو ما كان يستدل به على أن الكيل أولى من الطعم في كونه علة الربا ومنه ما يدل على مراد الله سبحانه بخطابه المشترك نحو ما يدل على أن المراد بآية الأقراء الحيض ومنه ما يدل على أن الله سبحانه أراد بالكفارة المعلقة بالجماع في الصوم هو أن يعلقها بهتك صوم شهر رمضان مع ضرب من المأثم وهذا هو الاستدلال على موضع الحكم
قال قاضي القضاة كان ينبغي أن يذكر فيها الاستحسان وأجاب عن

ذلك بأن الاستحسان إما أن يكون عدولا إلى قياس أولى من قياس فقد ذكر الشيخ أبو الحسن القياس في جملة أقسامه وإما أن يكون عدولا إلى نص وليس غرضه قسمة النصوص فيدخله في جملته وقال أيضا كان ينبغي أن يذكر ما يحتج به أصحاب أبي حنيفة من قولهم إن العبادة إذا لم تفسد لعدم صفة من صفاتها فبأن لا تفسد بوقوع تلك الصفة على وجه الفساد أولى وللشيخ أبي الحسن أن يجيب على ذلك بأن هذا داخل في جملة القياس وذلك أن العبادة التي قد انتفت عنها الصفة والتي قد حصلت فيها الصفة على وجه الفساد قد اشتركا في أنهما لم يختصا بالصفة على وجه الصحة وقال أيضا كان ينبغي أن يذكر في ذلك استدلالهم على أن انكشاف ربع الساق في الصلاة يفسدها وهو قولهم إن انكشاف جميعه يفسدها لأن المواجه له يرى ربعه ولأبي الحسن ان يقول إن هذا داخل في جملة القياس لأني قد علمت أن العلة المفسدة للصلاة إذا انكشف جميعه هو إمكان رؤية ربعه وهذه العلة قائمة في انكشاف ربعه فالجمع بينهما قياس
وقسمة أخرى محكية عن الشافعي رحمه الله وهي أن أدلة الشرع مستنبطة وغير مستنبطة والتي ليست مستنبطة يدخل فيها خطاب الله عز و جل وخطاب رسوله وأفعاله وخطاب الامة وافعالها والمستنبطة ضربان احدهما تحقق فيه العلة والآخر لا تحقق فيه العلة أما الذي تحقق فيه العلة فضربان أحدهما لا يقوى شبه الفرع فيه إلا بأصل واحد ويسميه قياس علة وقياس معنى كرد العبد إلا الأمة في تنصيف الحد والآخر يقوي شبهة باصول مختلفة وأن يرجح شبهه بأحدهما نحو شبه العبد المتلف بالمملوكات وبالحر الذي ديته مقدرة ويسمى ذلك قياس غلبة الأشباه وما لا تحقق فيه العلة هو إيجابه على من هو خارج المصر حضور الجمعة ونحو اشتراك الأخ والجد في الميراث وهذا المثال خارج من هذا القسم لأن العلة فيه محققة وهو الإدلاء بالميت ويبعد أن يستدل على الأحكام بطريقة مستنبطة لا تحقق فيها العلة لأن العلة هي الطريق إلى الحكم فما لم تحقق لم يمكن التوصل إلى الحكم

وكان الشافعي يسمي القياس استدلالا لأنه فحص ونظر ويسمي الاستدلال قياسا لوجود التعليل فيه
وقسم قاضي القضاة رحمه الله في العمد الأمارات قسمة هذا معناها الأمارات التي ليست بأخبار آحاد إما أن يكون لها أصل يقع الرد إليه وهو القياس وإما أن لا يكون لها أصل يقع إليه الرد وهو ضربان
أحدهما لا يتلخص الامارة فيه كالأمارة التي يفصل بها بين العمل القليل والكثير في الصلاة إذ المرجع بذلك إلى ما يغلب في الظن من غير أمارة يمكن تعيينها ولا يمكن أن يجعل أمارة العمل القليل في الصلاة أن لا يغلب على ظن المشاهد لفاعله أنه ليس في الصلاة لأن من يشاهد غيره يقتل الحية والعقرب يظن أنه ليس في الصلاة ومع ذلك فهو من العمل القليل
والضرب الآخر يمكن تلخيص الأمارة فيه وهو ضربان أحدهما أمارة عقلية والآخر أمارة سمعية والأمارة العقلية هي التي لا يحتاج في كونها أمارة إلى سمع وهي ضربان احدهما الحكم المتعلق بها عقلي والآخر سمعي أما الأول فقيم المتلفات الحكم فيه عقلي وهو قدر القيمة والأمارة عقلية وهي اختبار عادات الناس في البيع ويمكن تلخيص الأمارة في ذلك لأن من قوم الثوب بعشرة دراهم لو قيل له لم قومته لقال إن عادة الناس أن يبيعوا مثله بعشرة دراهم
إن قيل هلا أوجبتم من جهة العقل إذا خرق زيد ثوب عمرو أن يخرق عمرو ثوب زيد قيل إن زيدا لو أمكنه أن لا يخرق ما خرقه من ثوب عمرو وجب عليه أن لا يخرقه ولم يوجد معنى لذلك فاذا لم يمكنه ذلك وجب عليه ما يجري هذا المجرى وهو سد الثلمة التي أحدثها بدفع المثل أو القيمة حتى يصير كأنه لم يحدث ما أحدث
فان قيل إنه إذا خرج من القيمة فقد نفى شفاء الغيظ قيل إن غيظ

المجني عليه يزول بخروج الجاني من القيمة أو المثل مع الاعتذار أو مع إلزام الحاكم إياه ذلك
وأجاب قاضي القضاة رحمه الله عن السؤال بأن زيدا إذا خرق ثوب من خرق ثوبه فقد أضر بنفسه حين لم يتعوض من ماله التالف بمال غيره والإضرار بالنفس من غير فائدة قبيح وسأل نفسه فقال هلا كانت الفائدة في ذلك التشفي فقال التشفي إنما يحسن تبعا لحسن تخريق ثوب الجاني فاذا لم يحسن ذلك لم يحسن التشفي ولقائل أن يقول إنما يقبح تخريق ثوب الجاني إذا بينتم أنه لا يحسن التشفي فقبحه تابع لبطلان كون التشفي وجها في حسنه بخلاف قولكم إن التشفي تابع لحسن التخريق
وأما الأمارة العقلية التي حكمها سمعي فنحو الأمارات العقلية التي يتوصل بها إلى جهة القبلة وحكمها السمعي وجوب التوجه في تلك الجهة وعلى التحقيق حكمها هو كون القبلة في تلك الجهة ووجوب التوجه إلى تلك الجهة هو تابع لحكمها إلا أن ذلك لا يخرج وجوب التوجه إلى تلك الجهة من أن يكون من أحكام هذه الأمارة على بعض الوجوه
وأما الأمارة السمعية فهي التي يفتقر في كونها أمارة إلى سمع ولا يخلو حكمها إما أن يكون سمعيا أو عقليا إلا أنه لا يجوز أن يكون حكمها عقليا لأن العقل أسبق من السمع وطريق الشيء لا يجوز أن يتأخر عنه وأما التي حكمها سمعي فنحو جعل المسجد أمارة فاصلة بين الحالة التي يجوز للامام إذا أحدث أن يستخلف فيها وبين الحالة التي لا يجوز له ذلك من حيث بني المسجد للصلاة الواحدة فكان كالصف الواحد فهذا الاعتبار بالشرع علم كونه أمارة والحكم المتعلق به سمعي وكذلك وجوب مصير أهل القرى إلى صلاة الجمعة إذا سمعو الأذان هو حكم سمعي وكون سماع الأذان أمارة لذلك معلوم بالسمع

فان قيل ولم قلتم إن ما لا يتلخص فيه طريقة معينة لا بد فيه من أمارة قيل لأن الله سبحانه كلفنا في ذلك الاجتهاد والنظر ولا بد من أن نجتهد في طريق إما دلالة وإما أمارة فإذا لم يكن دلالة فلا بد من أمارة وإن لم يتلخص العبارة عنها ولهذا يجد الإنسان في نفسه أمرا يتوصل به إلى الظن فان ما عمله في الصلاة عمل قليل وإن لم يتلخص العبارة عنه
واعلم أن الأمارة لا بد من أن يكون بينها وبين ما هي أمارة فيه تعلق لولا ذلك لم يكن بأن يكون أمارة عليه أولى من أن لا يكون أمارة عليه أو أمارة على غيره وذلك التعلق ضربان أحدهما أن تكون الأمارة كالمؤثرة في مدلولها على الأكثر والأغلب والآخر أن تكون لولا مدلولها لما كانت الأمارة على الأمر الأكثر ويكون مدلولها كالمؤثر فيها ويجوز حصول الأمارة على الندرة من دون مدلولها مثال الأول من العقليات الغيم الرطب في زمن الشتاء لأنه كالمؤثر في نزول المطر وهو أمارة عليه ومثاله أيضا دين الإنسان فانه مؤثر في تجنبه الكذب وهو أمارة عليه ومثاله في الشرعيات وجود علة الأصل في الفرع فانها أمارة لثبوت حكمه وهي طريقنا إلى ثبوت الحكم فيه إذا دل الدليل على وجوب القياس ومثال القسم الثاني من العقليات أن نعلم أن في بعض المنازل مريضا قد شفي ثم يسمع الصراخ من داره فذلك أمارة على موته وموته هو المؤثر في الصراخ ولولاه لم يكن الصراخ في الأكثر وإن جاز أن يكون سبب حدوثه غير موته ومثاله من الشرعيات ثبوت الحكم في الأصل مع وصف وانتفاؤه في الأصل عند انتفائه فذلك أمارة لكون ذلك الوصف علة للحكم في الأصل لأن حصول الحكم بحصول الوصف وانتفاؤه بانتفائه طريق إلى كون ذلك علة فاذا لم يكن دلالة فهو إذا أمارة على ذلك ولولا أن ذلك الوصف هو علة الحكم لم تحصل هذه الأمارة أعني ثبوت الحكم بثبوت الوصف وانتفاؤه بانتفائه وإذا ثبت أن ذلك الوصف هو علة الحكم في الأصل ثبت كونه أمارة على وجوب الحكم في الفرع وليس يمتنع كون الحكم على كيفية مخصوصة أمارة على أن بعض أوصاف الأصل هو علة حكمه

وتكون العلة أمارة على وجوب الحكم في الفرع

باب في القياس ما هو
اختلف الناس في حد القياس فحده بعضهم بأنه استخراج الحق وهذا يلزم عليه أن يكون استخراج الحق بالاستدلال بالنصوص والظواهر قياسا ويلزم ذلك أيضا من حده بأنه استدلال وحده بعضهم بأنه التشبيه وهذا يلزم عليه أن يكون من قال إن الارز يشبه البر في الصلابة قائسا وأن يوصف الله سبحانه بانه قائس إذا شبه بين الشيئين وحده الشيخ أبو هاشم بأنه حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه فان أراد إجراء حكمه عليه لأجل الشبه فصحيح وكان يجب التصريح بذلك وإن لم يرد ذلك لم يصح لأن إثبات الحكم في الشيء من غير تشبيه بينه وبين غيره يكون مبتدأ ومن ابتدأ فأثبت في الشيء حكما لا يكون قائسا وإن اتفق أن يكون ذلك الحكم ثابتا في غيره وحده قاضي القضاة رحمه الله بأنه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه لضرب من الشبه
وأبين من هذا أن يحد بأنه تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد وقد دخل في ذلك الجمع بين الشيئين في الإثبات وفي النفي وإنما قلنا الشبه عند المجتهد لأن المجتهد قد يظن أن بين الشيئين شبها وإن لم يكن بينهما شبه فيكون رده إليه قياسا وإنما حددنا القياس بما ذكرنا لأن المعقول من القياس أن يكون قياس شيء على شيء ألا ترى أن الإنسان إذا قال قست هذا الشيء قيل له على ماذا قسته ولو أثبت الإنسان حكم الشيء في غيره لا لشبه بينهما لكان مبتدئا بالحكم فيه غير مراع لحكم الأصل ولم يشرط اعتبار الشبه في الحد لأنه داخل في المعقول من القياس لا لأن القياس لا يصح من دونه

إن قيل أليس الفقهاء يسمون قياس العكس قياسا وليس هو تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم بل هو تحصيل نقيض حكم الأصل في الفرع لافتراقهما في علة الحكم مثاله قول القائل لو لم يكن الصوم من شرط الاعتكاف لما كان من شرطه وإن نذر أن يعتكف بالصوم كالصلاة لما لم تكن من شرط الاعتكاف لم تكن من شرطه وإن نذر أن يعتكف بالصلاة فالأصل هو الصلاة والحكم هو نفي كونها شرطا في الاعتكاف وليس يثبت هذا الحكم في الفرع الذي هو الصوم فإنما يثبت نقيضه ولم يجتمعا في العلة بل افترقا فيها لأن العلة التي لها لم تكن الصلاة شرطا في الاعتكاف هي كونها غير شرط فيه مع النذر وهذا المعنى غير موجود في الصوم لأنه شرط مع النذر الجواب انه إذا كان المعقول من القياس أن يكون قياس شيء على شيء ولا يكون قياسا عليه إلا وقد اعتبر حكمه ولا يكون القياس معتبرا بحكمه إلا وقد اعتبر الشبه بينهما إذا كان ذلك لا يتم في قياس العكس وجب تسميته قياسا مجازا من حيث كان الفرع معتبرا بغيره على بعض الوجوه فلا يجب إذن دخوله في الحد
ويجوز أن نحد القياس بحد يشتمل قياس الطرد والعكس فنقول القياس هو تحصيل الحكم في الشيء باعتبار تعليل غيره وهذا الحد يشتمل على كلا القياسين أما قياس الطرد فقد حصل الحكم في فرعه باعتبار تعليل الأصل وأما قياس العكس فانه قد اعتبر تعليل الأصل لنفي حكمه من الفرع لافتراقهما في العلة
وإذا حددنا القياس بذلك قسمناه إلى قياس الطرد والعكس وقياس الطرد هو ما ذكرناه أولا وقياس العكس هو تحصيل نقيض حكم الشيء في غيره لافتراقهما في علة الحكم
فأما حكم القياس الشرعي فهو المنقسم إلى كون الفعل قبيحا وحسنا ويكون فعله أولى من تركه أو يكون تركه أولى من فعله وكونه واجبا
وأما الأصل فقد ذكر قاضي القضاة أنه مستعمل في أربعة أشياء أحدها

الطريق إلى الشيء كالكتاب هو أصل الأحكام وأحدها الحكم المقيس عليه وهو أصل القياس واحدها الشيء الذي لا يصح العلم بغيره إلا مع العلم به كالموصوف والصفة وأحدها الحكم الذي لا يقاس عليه غيره كدخول الحمام بغير عوض مقدر فإنه يقال إن هذا أصل في نفسه ويمكن أن يقال إن قولنا أصل يستعمل على الحقيقة وعلى المجاز فالمستعمل على الحقيقة هو ما يتفرع عليه غيره ويستند إليه وهو ضربان أحدهما يتفرع عليه صحته كالعلم بصفة الشيء يتفرع على العلم بالشيء وقد يوصف الشيء أيضا بأنه أصل الصفة والضرب الآخر يتفرع عليه العلم بالشيء بأن يكون طريقا إليه وهو ضربان أحدهما يكون طريقا إليه بطريق التشبيه وهو أصل القياس والآخر بغير طريق التشبية وهو النصوص وغيرها وأما المسمى اصلا على المجاز فهو دخول الحمام باجرة غير مقدرة وإنما تجوزنا بتسميته ذلك اصلا لأنه أشبه الأصول المتقدم ذكرها من حيث لم يستفد حكمه من غيره
فاما أصل القياس فقد اختلف الناس فيه فقال المتكلمون الأصل الذي يقاس عليه الارز هو الخبر الدال على ثبوت الربا في البر وقال الفقهاء بل هو الشيء يثبت حكم القياس فيه بالنص كالبر أو يقول هو الشيء الذي يسبق العلم بحصول حكم القياس فيه وقال بعضهم بل هو حكم القياس من حيث هو ثابت بالنص نحو كون البر حراما والكلام في ذلك من وجهين أحدهما ما الذي يقع النظر فيه حتى يعلم حصول الحكم في الارز والآخر قولنا هل فائدة قولنا أصل ثابتة في كل واحد من هذه الأشياء أم لا وأنه أحرى أن يوصف بأنه أصل أما الكلام في الأول فهو أن القائس ينظر أي الأوصاف يؤثر في قبح بيع البر متفاضلا فنظره يتعلق بالحكم وبالعلة ثم ينظر هل العلة موجودة في الأرز أم لا فان كانت موجودة تبعها الحكم ولو علم قبح بيع البر متفاضلا ضرورة أمكنه قياس الارز عليه وإنما يحتج الارز إلى الاستدلال بالخبر على ثبوت الربا في البر لأنه ليس يعلم ذلك ضرورة ولا

بدليل عقل وهذه الجملة لا بد منها ولا خلاف فيها فان خالف فيها أحد فيما ذكرناه يفسد قوله والكلام في الوجه الثاني هو أن وصف الخبر الثاني على قبح بيع البر متفاضلا بأنه أصل لقبح بيع الأرز صحيح لأنه عليه يتفرع قبح بيع الارز متفاضلا من حيث كان الخبر دالا على ما إذا نظرنا فيه فعلمنا علة القبح أو ظنناها أثبتنا القبح في الارز وأما وصف البر بأنه أصل ففائدته أن العلم بحكمه بسبق العلم بحكم الارز وأن حكم الارز يتفرع على حكم البر والبر نفسه أصل لحكمه لأن الشيء اصل لصفته يبين أن حكم الارز يتفرع على حكم البر هو أنا إذا نظرنا في حكم البر وظننا علته أمكننا قياس الارز عليه فصار حكم الارز متفرعا على حكم البر من هذه الجهة وليس يلزم على هذا أن يوصف البر قبل الشرع بأنه اصل لأنه إنما كان اصلا إذا ثبت فيه الحكم الذي إذا نظرنا فيه وفي صفاته يوصلنا إلى حكم غيره ومعلوم أن الربا لم يكن ثابتا في البر قبل الشرع فلم يكن إذ ذاك اصلا وإذا كان لوصف البر بأنه أصل وجه صحيح لم نلم الفقهاء على الاصطلاح على وصف ذلك بأنه اصل فأما وصف حكم البر بأنه أصل لحكم الارز فله وجه صحيح ايضا لأن حكم الارز يتفرع على حكم البر من الوجه الذي ذكرناه
إن قيل ليس يخلو كون البر حراما إما أن يكون فعلنا أو اعتقادنا قبح بيع بعضه ببعض متفاضلا وإن كان هو فعلنا فكان ينبغي أن لا يصح القياس لو لم يوجد فعلنا لبيعه متفاضلا وإن كان هو اعتقادنا كون ذلك حراما فاعتقادنا لذلك ليس بحرام فيقاس عليه بيع الارز فإذن الأصل هو الخبر الجواب ان من جعل حكم البر هو الأصل يقول إن الحكم هو قبح بيعه متفاضلا وليس هو مجرد الفعل ولا اعتقادنا كما أنا نقيس الكذب الذي فيه نفع على الكذب العاري عن نفع ودفع ضرر ولا نقيسه على مجرد كونه فعلا ولا على علمنا بقبحه لأن علمنا ليس بقبح وليس قبحه معلوما بدليل فيقال إن القياس يقع على دليله وليس يقف صحة القياس على وجود بيع البر متفاضلا لانه لو لم يوجد ذلك أمكننا أن نقول لو وجد لكان قبيحا لأنه

مكيل جنس وهذا قائم في الارز فوجب قبح بيعه معه متفاضلا كما أنه لو لم يوجد كذب أمكننا أن نقول لو وجد الكذب العاري من دفع مضرة ونفع لكان قبيحا لأنه كذب وهذا حاصل في الكذب الذي فيه نفع على أن القائل إن كون بيع البر متفاضلا حراما إما أن يكون بيعنا له متفاضلا وإما أن يكون اعتقادنا كونه حراما قد جعل كونه حراما معتقدا لاعتقاد ومعتقد الاعتقاد غير الاعتقاد وهو أيضا أمر زائد على كون الفعل فعلا لأن كون الفعل حراما أمر زائد على كونه فعلا ولهذا كان اعتقاد أحدهما مفارقا لاعتقاد الآخر والفقهاء يقولون تحريم الفعل ويعنون بذلك كونه حراما فصح أن لكل واحد من الأقاويل المذكورة في معنى الأصل وجها صحيحا وإن كان الأول أن يكون الحكم هو الأصل
وأما الفرع في القياس فهو عند المتكلمين الحكم المطلوب إثباته بالتعليل كقبح بيع الارز متفاضلا لأنه هو المتفرع على غيره دون نفس الارز وعند الفقهاء ان الفرع هو الذي يطلب حكمه بالقياس وهو أيضا الذي يتعدى إليه حكم غيره أو الذي يتأخر العلم بحكمه كالارز وإنما سموا ذلك فرعا لأن حكمه يتفرع على غيره وما ذكره المتكلمون أولى لأن نفس الارز ليس يتفرع على غيره وإنما المتفرع حكمه
وأما الشبه فهو ما يشترك فيه الشيئان من الصفات سواء كانت صفة ذاتية أو غير ذاتية كاشتراك الجسمين في السواد وقد يكون صفة تفيد حكما عقليا أو سمعيا وغرض الفقهاء من ذلك ما اقتضى الحكم السمعي
وأما التشبيه فقد قيل هو في الأصل ما به يكون الشيء مشبها لغيره كالتحريك هو ما به يكون الشيء محركا لغيره فقد استعمل في الاعتقاد والظن والخبر فيقال لمن أخبر أو اعتقد أن الله عز و جل يشبه الأشياء إنه مشبه وان خبره تشبيه
فأما قولنا علة فمستعمل في عرف اللغة وفي عرف الفقهاء وفي عرف

المتكلمين أما في عرف اللغة فمستعمل فيما أثر في أمر من الامور سواء كان صفة أو كان ذاتا وسواء آثر في الفعل أو في الترك فيقال مجيء زيد علة في خروج عمرو وفي أن لا يخرج عمرو ويسمون المرض علة لأنه يؤثر في فقد التصرف وأما العلة في عرف الفقهاء فهي ما أثرث حكما شرعيا وإنما يكون الحكم شرعيا إذا كان مستفادا من الشرع وأما في عرف المتكلمين فتستعمل على المجاز وعلى الحقيقة أما على الحقيقة فتستعمل في كل ذات أوجبت حالا لغيرها كقول بعضهم إن الحركة علة موجبة كون المتحرك متحركا وأما استعماله على المجاز فمنه أن تكون العلة مؤثرة في الاسم كقولنا السواد علة في كون الأسود أسود أي هو علة في تسميته أسود ومنه ما يؤثر في المعنى وهذا منه ما يؤثر في النفي كتأثير البياض في انتفاء السواد ومنه ما يؤثر في الإثبات وهذا منه ذات كتأثير السبب في المسبب ومنه صفة تقتضي صفة كاقتضاء صفة الجوهر كونه متحيزا هذا على قول شيوخنا وإنما سموا كل واحد من ذلك علة لأن لها تأثيرا في الإيجاب إلا أنهم لا يسمون هذه الأقسام عللا إلا نادرا وسموا القسم الأول علة على الحقيقة لأنها موجبة على كل حال من غير شرط وليس كذلك الأقسام الأخر
وأما المعلل فهو ما طلبت علته فعلل بها وهذا هو الحكم الثابت في الأصل لأنه الذي يعلم أولا ثم يطلب علته فيعلل بها
وأما المعلول فهو الذي أثرته العلة وأنتجته وهذا هو الحكم من حيث هو ثابت في الفرع لا من حيث هو ثابت في الأصل

باب في أن العقل لا يقبح التعبد بالقياس الشرعي
اعلم أن من نفاة القياس من قال إن العقل يقبح التعبد بالعمل على القياس الشرعي ومنهم من قال إن العقل لا يقبح ذلك والدليل على ذلك أن العقل

يجوز تكامل شروط حسن التعبد بذلك ولا يجوز أن يقبحه مع تجويزه اختصاصه بما يوجب حسنه
وشرائط حسن التعبد بالفعل إما أن ترجع إلى الفعل نحو كونه ندبا وواجبا وإما أن ترجع إلى الفاعل نحو كونه مزاح العلة بالأقدار والآلات وإعلام وجوب الفعل وكونه ندبا أو التمكن من علم ذلك بنصب الدلالة وإما أن ترجع إلى التعبد نحو أن يكون الأمر مفسدة وإما أن ترجع إلى المكلف نحو علمه من حال الفعل والفاعل بما ذكرناه وأنه سيثيب المكلف إن أطاع وكل ذلك يجوز العقل حصوله في هذا التعبد
وأما ما يرجع إلى العمل بالقياس فهو أن العقل يجوز أن يكون فعلنا بحسب ما ظنناه من الأمارة لطفا وإذا لم نعمل بحسبها فاتنا اللطف وذلك إن ظننا الأمارة حالة نحن عليها وقد تختلف المصالح بحسب أحوالنا ألا ترى أن مصلحة المسافر في صلاته خلاف مصلحة المقيم وكذلك الطاهر والحائض ويختلف الواجب على الإنسان بحسب ظنه المخالفة في سفره وأما أن الإنسان قادر على الفعل حاضر الآلات فبين وأما أنه يجوز كون المكلف متمكنا من العلم بوجوب العمل على القياس فهو لأنه إذا قال الله عز و جل للمكلف إذا ظننت بأمارة أن علة تحريم الخمر هي الشدة فقد وجب عليك قياس النبيذ عليه ولزمك اجتناب شربه فقد تمكن من العلم بقبح شرب النبيذ لأنه قد وقف علمه بقبحه على ظنه الأمارة وهو يعرف هذا الظن من نفسه كما أنه يكون ممكنا له من العلم إذا قال له الخمر حرام لأنها شديدة وقس عليها النبيذ وكما لو قال له النبيذ حرام وإذا كان المكلف متمكنا من العلم فلو قال الله سبحانه له ذلك وجاز في العقل ان يقول له هذا القول فقد جاز في العقل أن يكون متمكنا من العلم بوجوب العمل على القياس
وأما أن العقل يجوز أن لا يكون التعبد بالقياس مفسدة فلانه إن جوز كونه مفسدة فانه يجوز غير مفسدة إذ ليس في العقل ما يوجب كونه مفسدة

وأيضا فاذا جاز أن يكون العمل بالقياس مصلحة جاز أن يكون التعبد بذلك مصلحة لأنه لا يجوز أن يكون العمل بالشيء مصلحة ويكون التعبد به مفسدة
وأما أن المكلف عالم من حال الفعل والفاعل بما ذكرناه وأنه سيثيب المكلف إن أطاع فلأنه عالم بكل ما يصح أن يعلم وهذه الأشياء يصح أن تعلم في نفسها فقد جاز تكامل الشرائط لحسن هذا التكليف
ويمكن اختصار هذه الدلالة ويقتصر على ما يخالف فيه الخصم فنقول إنه قد حسن في العقل تكليف العمل بموجب القياس المعلومة علته ولو قبح تكليف العمل إذا كان القياس مظنون العلة لكان إنما يقبح لأجل ما به افترق التكليفان والذي افترقا فيه هو بيان هذا التكليف للعمل بحسب الظن دون التكليف الآخر ولو كان هذا وجها بقبح التكليف لما ورد به التعبد العقلي والسمعي أما العقلي فوجوب القيام من تحت حائط مائل يخشى سقوطه لفرط ميله وإن جوز السلامة في القعود والهلاك في النهوض وقبح السفر للريح مع ظن الخسران وقبح سلوك طريق بظن الأمارة وجود اللصوص فيه وإن جوزنا خلاف ما ظننا وأما السمعي فالحكم بشهادة من يظن صدقه وتولية القضاة والأمراء عند ظن سدادهم والتوجه إلى جهة عند ظن كون القبلة فيها والحكم بقدر من النفقة بحسب الظن إلى غير ذلك وأيضا فالحكم بحسب الظن لا يمتنع أن يكون مصلحة من الوجه الذي ذكرناه فلم يمتنع ورود التعبد به
واحتج المخالف بأشياء
منها قوله لو جاز التعبد في الفروع بالقياس مع أنها مصالح جاز مثله في الأصول الشرعية مع أنها مصالح الجواب ان المستدل إن ألزمنا جواز التعبد بقياس البر في الربا على أصل قد نص على ثبوت الربا فيه فانا نلتزم ذلك ويكون قبح بيع البر متفاضلا فرعا والحال هذه لأنه لم ينص على ثبوت الربا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6